المقدمة
الحمدلله الذي خلق السموات ورفعها من غير عمد أو أركان، وأنعم على الإنسان بشذرات العلم والمعرفة , إذ ترتقي العلوم في هذه الأزمنة فترُى الذرة وما هو أقل منها، ولم ولن يتبين وجود أعمدة للسموات ليكون السلب أمراً وجودياً يدل على الإعجاز في سنخية الخلق .
الحمد لله الذي جعل الأرض محلاً منبسطاً لخلافة الإنسان، ليكون إنبساطها لطفاً ونوع تخفيف منه تعالى , ودعوة للناس للتفرغ إلى عبادته وذكره، وجعل فيها الجبال رواسي وأوتاداً، وآيات تدل على بديع صنعه، وتعدد أسباب إنتفاع الإنسان من الأرض وما عليها، وشق فيها أنهاراً لحاجة وشرب الإنسان والحيوان ونمو النبات .
وقد أبى الله سبحانه إلا أن يثني على نفسه على عظيم وبديع خلقه وحكمته , فقال[وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
الحمد لله في السراء والضراء، والشدة والرخاء ، الحمد لله على النعم الظاهرة والباطنة والتي تأتي على المصائب لتمحو أثرها وتجعلها مناسبة لينال فيها المؤمن الأجر والثواب , ويتدبر في الآيات الكونية، وتكون مجتمعة ومتفرقة وسيلة للتوبة، وباعثاً للإنابة.
وتترى مع الفيض والرزق الكريم لتكون مدداً وعوناً لتسخيرها في طاعة الله، قال تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
الحمد لله الذي سخر للناس البحار ليبتغوا من فضله وتجري فيها الفلك، وتتعاقب أجيال الناس في الأرض وهي قائمة بذاتها، والبحار بهيبتها وزينتها، تدعو الناس للنهل مما فيها من الخيرات وكأنها تحذر من ركوبها للقتل وسفك الدماء وبسفن الفناء ، قال تعالى[وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]( ).
الحمد لله على حلمه بعد علمه، وعفوه مع عظيم قدرته, الحمد لله على نعمة الأهل والمال , وتعاقب نعمة البنوة والأبوة، فيبدأ الإنسان حياته بالبنوة لتكون مقدمة وكنزاً للعلوم، وموعظة للرأفة والإحسان، ثم ما يلبث حتى يكون أباً وعماً وخالاً ثم جداً، وليكون في أسمى مراتب حياته عابداً لله شاكراً لأنعمه سبحانه , زاهداً في بهجة الدنيا، ومتخذاً إياها مزرعة للآخرة بالورع والتقوى.
الحمد لله الذي ليس له شبيه أو مثل في خلقه، ولا شريك له في أمره، ولا راد لقضائه.
الحمد لله الذي جعل كلامه باقياً في الأرض إلى يوم القيامة فتفضل وأنزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً جامعاً للأحكام الشرعية، ودستوراً لأهل الأرض ينير لهم دروب الهداية، ويدفعهم عن سبل الغواية.
الحمد لله الذي أنعم علينا بقوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، وتلاوته من قبل كل مسلم ومسلمة عدة مرات في كل يوم على نحو الوجوب العيني في حال خشوع وإمتثال.
الحمد لله الذي أنزل الأمن والنعاس على المؤمنين في ساحة معركة أحد نعمة منه تعالى على المسلمين والمسلمات وتفضل عز وجل وذكره في قوله تعالى[ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا]( )، ليكون عيداً لأجيال المسلمين، وعزاً وفخراً لكل مسلم ومسلمة عند تلاوة هذه الآية التي تضمن هذا الجزء المبارك شذرات من بيانها وهو القسم الثاني من تفسيرها وهو الثلاثون بعد المائة من(معالم الإيمان في تفسير القرآن) في آية علمية إعجازية لم تطرأ على عالم التصور إلا بفضل الله عز وجل.
الحمد لله الذي منّ على أهل الأرض المتقدم منهم والمتأخر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآله الطيبين الطاهرين وجعله رحمة للعالمين ورسالته سبيلاً لجذب الرزق الكريم والنماء في المال والولد، والمندوحة والسعة في صروف السراء والضراء كما في قوله تعالى[إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا]( )، وفي حال السلم والحرب، ومنه آية البحث التي تبين حال المؤمنين بعد أن صارت جولة القتال في معركة أحد إلى جانب الذين كفروا.
وهل إستمرت تلك الجولة بلحاظ أن وعد الله للمؤمنين خاص ببداية المعركة إذ قال تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]( )، قبل آيتين إذ أن ظهور الفشل والتنازع والمعصية بترك الرماة لمواضعهم على الجبل التي عينهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبب لصيرورة الرجحان بكثرة عدد جيش الذين كفروا وكثرة أسلحتهم ومناجاتهم بالباطل .
الجواب لا دليل على هذا المعنى ، وسبب الرجحان هذا , وذكر الآية أعلاه لتنجز الوعد الإلهي للمسلمين في بداية المعركة لا يفيد الحصر بموضوعه , وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره .
وتقدير الآية : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم يإذنه وصدقكم وعده مدة معركة أحد كلها ، ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : حتى إذا فشلتم فصدقكم الله وعده بدفع الفشل عنكم.
الثاني : حتى إذا تنازعتم في الأمر فصدقكم الله وعده , وصرف عنكم التنازع في الأمر .
وهل يختص هذا الصرف بذات التنازع , الجواب لا ،إذ يشمل وجوهاً :
أولاً : رفع أسباب التنازع .
ثانياً : محو موضوع التنازع .
ثالثاً : منع ترتب الأذى والضرر بسبب التنازع ، لذا تفضل الله عز وجل وأخبر في ذات الآية عن عفو الله عن المؤمنين .
الثالث : حتى إذا عصيتم في الأمر صدقكم الله وعده، وقد يقال القدر المتيقن من الآية هو التقدم الزماني لصدق الوعد من عند الله عز وجل للفشل والتنازع والمعصية، أما القول بصدق وعد الله عز وجل للمسلمين بعد الفشل والتنازع والمعصية فيحتاج إلى دليل آخر، والجواب هناك تفصيل بين كل من:
الأول : وعد الله.
الثاني : صدق وتنجز وعد الله.
الثالث : إتحاد أو تعدد صدق وعد الله، ولو دار الأمر بين إتحاد أو تعدد تحقق مصداق وعد الله للمؤمنين، فالصحيح هو الثاني , فيكون تقدير الآية على وجوه:
الأول : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه في معركة أحد.
الثاني : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه إن تجدد القتال في معركة أحد , وكأن الفترة في القتال أثناء يوم معركة أحد سبب لصيرورة العودة للقتال بداية له فيأتي معها صدق وعد الله للمؤمنين، وهو من الأسرار في ورود قوله تعالى (والرسول يدعوكم) في الآية السابقة .
ويكون تقديرها: والرسول يدعوكم في أخراكم ليصدقكم الله وعده فتحسونهم بإذنه.
الثالث : وسيصدقكم الله وعده فتمسونهم بإذنه في المعركة اللاحقة فإن قلت لم يحدث قتال كثير في معركة الخندق التي جاءت بعد معركة أحد، والجواب من جهات:
الأولى : لقد حصل قتال ومبارزة تتصف بصبغة نوعية حاسمة إذ عبر بعض أبطال قريش الخندق وسأل عمرو بن ود العامري المبارزة بلغة التحدي، فبرز له الإمام علي عليه السلام فقتله.
الثانية : نزول قوله تعالى[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( )، لبيان تعدد كيفية ومصاديق وعد الله عز وجل للمؤمنين.
الثالثة : رجوع الذين كفروا بهيئة الهروب بعد حصار للمدينة لم يجنوا منه إلا الخزي .
ثم أخبرت الآية التي بعدها عن دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين في أخراهم ليكون تقديرها بلحاظ الآية أعلاه على وجوه .
أولاً : والرسول يدعوكم للعودة إلى ميدان القتال وترك الفشل والجبن .
ثانياً : والرسول يدعوكم للتنزه عن التنازع في ميدان المعركة وفي حال السلم والمهادنة ، ومن الإعجاز الغيري لهذه الآيات إمتناع التنازع بين المسلمين بسبب ترك الرماة مواضعهم ومجئ خيل المشركين من خلف المسلمين بعد أن لاحت بشائر النصر .
ثالثاً : والرسول يدعوكم لعدم التنازع عندما سقط سبعون شهيداً ، نعم ليس كل هؤلاء الشهداء سقطوا بعد خطأ ومعصية الرماة بترك مواضعهم على الجبل ، فقد قتل حمزة بن عبد المطلب مثلاً وهو يهجم ويكر على جيش الذين كفروا .
(قَالَ وَحْشِيّ ، غُلَامُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ : وَاَللّهِ إنّي لَأَنْظُرُ إلَى حَمْزَةَ يَهُدّ بِسَيْفِهِ مَا يُلِيقُ بِهِ شَيْئًا ، مِثْلَ الْجَمَلِ الْأَوْرَقِ إذْ تَقَدّمَنِي إلَيْهِ سِبَاعُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى ، فَقَالَ لَهُ حَمْزَةُ هَلُمّ إلَيّ يَا ابن مُقَطّعَةِ الْبُظُورِ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً فَكَأَنّ مَا أَخْطَأَ رَأْسَهُ وَهَزَزْتُ حَرْبَتِي حَتّى إذَا رَضِيتُ مِنْهَا دَفَعْتُهَا عَلَيْهِ فَوَقَعَتْ فِي ثُنّتِهِ حَتّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنَ رِجْلَيْهِ فَأَقْبَلَ نَحْوِي ، فَغُلِبَ فَوَقَعَ وَأَمْهَلْتُهُ حَتّى إذَا مَاتَ جِئْت فَأَخَذْت حَرْبَتِي) ( ).
رابعاً : والرسول يدعوكم للعصمة من المعصية في حال الحرب والسلم ، إذ أن أوقات السلم أطول وأكثر من حالات الحرب ، كما أن الإبتلاء في السلم أكثر لأنه يشمل العبادات والمعاملات والأحكام .
وكل فرد من مصاديق هذه الدعوة له مصاديق من آيات القرآن.
والرسول يدعوكم لإرادة الآخرة ، فقد أخبرت الآية قبل السابقة بأن المسلمين في الميدان على قسمين :
الأول : الذين يريدون الحياة الدنيا ، من الغنائم ونحوها .
الثاني : الذين يريدون الآخرة ويسعون إليها .
ونزل القرآن ذكرى وموعظة وكذا وقائع معركة أحد فانها من الذكرى والموعظة بذاتها وبورودها بآيات متعددة من القرآن ،
وهل يدل هذا التعدد على إيلاء المسلمين وعلمائهم وأمراء السرايا والجيوش عناية خاصة لمعركة أحد والدروس المستنبطة منها ، الجواب نعم ، وفيه مسائل :
الأولى : دعوة ذوي الإختصاص في الأمور العسكرية لتأليف المجلدات بخصوص معركة أحد من وجوه :
أولاً : إحصاء وجمع الآيات التي تخص معركة أحد .
ثانياً : بيان مقدمات معركة أحد من طرف المسلمين ومن طرف الذين أشركوا .
وتبين هذه المقدمات ومنهج النبوة في الإعداد للمعركة على كراهية عسكرة البلد ، وإعطاء الأولوية للنفير من غير إجتماع شرائطه وأسبابه ، ولا يتعارض هذا المعنى مع قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( ).
إذ تبين الآية أعلاه جزء علة لإعداد القوة والسلاح وهو بعث الفزع والرهبة في قلوب الذين كفروا لتكون مقدمة وسبيلاً لكف أيديهم عن المسلمين وثغورهم .
ثالثاً : إقتباس الدروس والمواعظ من وقائع معركة أحد .
الثانية: إجتهاد المسلمين في تلاوة آيات معركة أحد .
الثالثة : تفقه المسلمين في مضامين آيات القرآن والتدبر في معاني ودلالة كل آية من آيات معركة أحد .
الرابعة : إستصحاب الآيات الخاصة بمعركة أحد عند طرو أمور:
الأول : تعدي الظالمين على ثغور الإسلام .
الثاني : صدور التخويف والتهديد من القوم الظالمين .
الثالث : ذكر المسلمين لجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه .
الخامسة : تلاوة المسلمين لآيات معركة أحد في الصلاة .
السادسة : إحتراز المسلمين في معركة الخندق من مخالفة ومعصية أوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سواء في حفر الخندق أو المرابطة وتفضل الله وذم بعض المنافقين الذين أرادوا الفرار يوم الخندق مثل أوس بن قيظي كما ورد في التنزيل [يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا] ( ) وقالها أوس نيابة عن بعض أفراد قومه من بني حارثة إذ أرادوا الرجوع إلى بيوتهم لأنها خارج المدينة ، وأدعوا أنه ليس بينهم وبين غطفان أحد فأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم ، وهموا بالرجوع ، فجاء سعد بن معاذ إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : يا رسول الله لا تأذن لهم ، إنا والله ما أصابنا من شدة قط إلا صنعوا هكذا .
ثم أقبل عليهم وأكد ذات القول عليهم تبكيتاً ، فردهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه درس وموعظة مما وقع في معركة أحد .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتولى بنفسه الحراسة ليلاً مع شدة البرد والجوع ، ولم يغادر الإجتهاد في الدعاء لصرف العدو .
وعن ابن حزام قال (قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ كُنْت مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي الْخَنْدَقِ فَلَمْ أُفَارِقْهُ مَقَامَهُ كُلّهُ وَكَانَ يَحْرُسُ بِنَفْسِهِ فِي الْخَنْدَقِ، وَكُنّا فِي قُرّ شَدِيدٍ فَإِنّي لَأَنْظُرُ إلَيْهِ قَامَ فَصَلّى مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يُصَلّيَ فِي قُبّتِهِ ثُمّ خَرَجَ فَنَظَرَ سَاعَةً فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: “هَذِهِ خَيْلُ الْمُشْرِكِينَ تُطِيفُ بِالْخَنْدَقِ مَنْ لَهُمْ ؟”. ثُمّ نَادَى: “يَا عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ”.
فَقَالَ عَبّادٌ: لَبّيْكَ قَالَ: “أَمَعَك أَحَدٌ ؟” قَالَ: نَعَمْ أَنَا فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِي كُنّا حَوْلَ قُبّتِك. قَالَ: “فَانْطَلِقْ فِي أَصْحَابِك فَأَطِفْ بِالْخَنْدَقِ فَهَذِهِ خَيْلٌ مِنْ خَيْلِهِمْ تُطِيفُ بِكُمْ يَطْمَعُونَ أَنْ يُصِيبُوا مِنْكُمْ غُرّةً. اللّهُمّ ادْفَعْ عَنّا شَرّهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ وَاغْلِبْهُمْ لَا يَغْلِبُهُمْ غَيْرُك.
فَخَرَجَ عَبّادُ بْنُ بِشْرٍ فِي أَصْحَابِهِ فَإِذَا بِأَبِي سُفْيَانَ فِي خَيْلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُطِيفُونَ بِمَضِيقِ الْخَنْدَقِ. وَقَدْ نَذَرَ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَرَمَوْهُمْ بِالْحِجَارَةِ وَالنّبْلِ. فَوَقَفْنَا مَعَهُمْ فَرَمَيْنَاهُمْ حَتّى أَذْلَقْنَاهُمْ بِالرّمْيِ فَانْكَشَفُوا رَاجِعِينَ إلَى مَنْزِلِهِمْ. وَرَجَعْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَأَجِدُهُ يُصَلّي فَأَخْبَرْته. قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ فَنَامَ حَتّى سَمِعْت غَطِيطَهُ فَمَا تَحَرّكَ حَتّى سَمِعْت بِلَالًا يُؤَذّنُ بِالصّبْحِ وَبَيَاضِ الْفَجْرِ فَخَرَجَ فَصَلّى بِالْمُسْلِمِينَ) ( ).
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتولى إعداد جيش المسلمين وتنظيم صفوفهم وتعيين مواضع كل طائفة منهم ، وهو فرع إمامته ، ومن أجل إنتفاع المسلمين الإنتفاع الأمثل من النبوة والوحي في ميدان القتال ، ومنه :
أولاً : تنجز وعد الله عز وجل للمؤمنين بالغلبة في ميدان المعركة، ويكون من مصاديق الآية قبل السابقة .
ثانياً : دفع الحوف عن المؤمنين بسبب ما أصابهم من الفشل والتنازع والمعصية باخبار القرآن عن العفو عنهم , بقوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ] ( ).
ثالثاً : من الإعجاز في نظم الآية القرآنية مجئ العفو عن المؤمنين في ذات الآية التي بينت فوات نعمة إستدامة حس وقتل المؤمنين للذين كفروا في معركة أحد وإلى حين إنقضاء أوان المعركة ، ولو أن الرماة لم يتركوا مواضعهم على الجبل فهل إستمرت المعركة إلى عصر ذات اليوم ، وهل سقط سبعون شهيداً من المسلمين ، الجواب لا .
فمع بدايات المعركة قُتل تباعاً حملة لواء المشركين وهم ستة من أبناء أبي طلحة وأبنائهم ثم حمله غلامهم صواب الذي أخذ اللواء (فقاتل به حتى قطعت يداه ثم برك عليه فأخذه بصدره وعنقه حتى قتل عليه) ( ).
لبيان درس للمسلمين فاذا كان عبد عند قريش يقاتل دون اللواء بالباطل حتى يقتل مع أن النار تنتظره فالأولى بالمسلمين أن يجتهدوا في طاعة الله ، وحملت اللواء بعده امرأة من المشركين هي عميرة بنت علقمة الحارثية فاجتمعوا حوله ، وهم يستعدون للإنسحاب والفرار ، ولم تغن عنهم كثرتهم من الله شيئاً ، وفي بيان حال الذين كفروا يوم أحد وتفانيهم في القتال مسائل :
الأولى : إقامة الحجة على الذين كفروا بأصرارهم على القتال على الباطل .
الثانية : حاجة المسلمين للنصر ، ونزول المدد الملكوتي من السماء .
الثالثة : لزوم مقابلة تفاني الذين كفروا بذات الصفة ، وبذل الوسع في الجهاد , خاصة وأن المسلمين يرجون الشهادة في سبيل الله , والفوز بالنعيم الأبدي ، قال تعالى [وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ] ( ).
الرابعة : أخذ المسلمين الحائطة وتهيئة مقدمات القتال وعدم الإستخفاف بالعدو ، فصحيح أن هناك ملازمة بين الكفر والجهالة، ولكن ليس من ملازمة بين الكفر والضعف والوهن في القتال ، نعم قد تفضل الله عز وجل وألقى الرعب في قلوبهم ، ليترشح عنه الضعف والوهن في المعركة وخارجها ، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : الذي يمتلأ قلبه بالرعب يصاب بالضعف والوهن .
الصغرى : الذين كفروا يملأ قلوبهم الرعب .
النتيجة : الذين كفروا يصابون بالضعف والوهن .
ويدل العطف في آية البحث على إتحاد موضوع هذه الآيات وتعلقها بخصوص معركة أحد ، مع إنبساط وحضور مضامين كل آية من هذه الآيات في حياة المسلمين العامة النوعية والخاصة ، ولم تذكر آية البحث في أولها اسم الجلالة بل جاءت الدلالة بالإضمار بقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ].
وتقدير الآية [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ]لبيان قانون مصاحب لأيام الحياة الدنيا من وجوه :
الأول : مصاحبة التنزيل للذين آمنوا في الحياة الدنيا .
الثاني : عدم حصر موضوع التنزيل .
الثالث : كل ما ينزل للمؤمنين من عند الله هو نعمة وخير محض.
الرابع : بقاء آيات القرآن في الأرض إلى يوم القيامة ، وكل آية نازلة من عند الله بكلماتها وألفاظها .
الخامس : لا يستطيع إنزال الأمن والنعاس من السماء على الناس إلا الله عز وجل ، وفيه دعوة للإقرار بالتوحيد والربوبية المطلقة لله عز وجل .
ومن الإعجاز في نظم هذه الآيات أن الفاعل مضمر في الآية السابقة أيضاً بقوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ].
لإرادة العطف على خاتمة الآية قبل السابقة [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ] لبيان أمور :
الأول : مجئ الغم ثواباً فضلاً من عند الله عز وجل على المؤمنين .
الثاني : نزول الأمنة النعاس فضلاً من الله عز وجل .
الثالث : التوالي والترتيب بين الغم والأمنة النعاس من فضل الله على المؤمنين .
وبين الذين ينتفعون من فضل الله عز وجل على المؤمنين خاصة وبينهم عموم وخصوص مطلق ، فيأتي الفضل للمؤمنين فينتفع منه غيرهم من عموم المسلمين المنافقين منه غيرهم من عموم المسلمين المنافقين والناس جميعاً .
إن الله عز وجل يعلم بما حلّ بالمسلمين عند إنتشار إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى جانب ما لحقهم من الخسائر فتفضل بنزول الغم بهم , وهو من مصاديق خاتمة الآية السابقة[وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
لقد ذكرت الآية السابقة أمرين كعلة للحزن الذي صرفه الله عز وجل عن المؤمنين وهما :
الأول : ما فات المسلمين من الغنائم .
الثاني : ما أصاب المسلمين من الخسائر والجراحات .
ويحتمل إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ الأمرين أعلاه وجوهاً :
الأول : إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما أصاب المسلمين والذي ورد بقوله تعالى [وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ].
الثاني : ذكرت الآية السابقة الأهم والأظهر مما يترتب عليه الأذى خاصة وأنه سرعان ما إنكشف كذب تلك الإشاعة .
الثالث: إن قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] دليل على بطلان إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا يضر ما ورد من بعض الصحابة أنه أول من عرف النبي بعد تلك الإشاعة (كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، قَالَ عَرَفْت عَيْنَيْهِ تَزْهَرَانِ مِنْ تَحْتِ الْمِغْفَرِ فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي : يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَبْشِرُوا ، هَذَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَأَشَارَ إلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَنْ أَنْصِتْ . قَالَ ابن إسْحَاقَ : فَلَمّا عَرَفَ الْمُسْلِمُونَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ نَهَضُوا بِهِ وَنَهَضَ مَعَهُمْ نَحْوَ الشّعْبِ) ( ).
والمختار هو الثالث أعلاه ، وقد صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صَلّى الظّهْرَ يَوْمَ أُحُدٍ قَاعِدًا مِنْ الْجِرَاحِ الّتِي أَصَابَتْهُ وَصَلّى الْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُ قُعُودًا ) ( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : هل كانت دعوة الرسول قبل مضمون هذا الخبر أم بعده الجواب لم تذكر أغلب كتب السيرة دعوة الرسول وموضعيتها وأوانها وكيفيتها وأثرها مع أنها وردت في آية قرآنية ليتلوها المسلمون كل يوم .
ويجب أن يقف علماء وكتّاب السيرة النبوية الوقوف عند قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]وبيان مصداقه وكيفيته وأوانه ، ومع أنه نداء فقد جاء بصيغة الدعوة وكأنه مناسبة لتجديد الإيمان ، وإمتحان وإختبار ، وهذه الدعوة من مصاديق خاتمة آية البحث [وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ] ( ).
فابن إسحاق ( 85 – 151 ) هجرية لم يذكر بالنص قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] في كتابه عن السيرة , وأكثر كتب السيرة أخذوا عنه , وكذا ابن هشام لم يذكره ، نعم ذكروا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( إلي عباد الله , إلي عباد الله ) وهو مصداق وبيان لدعوة الرسول .
ولو حصل تعارض أو تزاحم بين قوله تعالى أعلاه والخبر الذي يروى عن كعب بن مالك فتقدم الآية القرآنية ومضامينها القدسية .
وقد يقال أن المسلمين بلحاظ الخبر أعلاه كانوا ثلاث فرق :
الأولى : الذين بقوا يقاتلون في الميدان .
الثانية : الذي تنحوا وأخذوا يتجمعون قرب ميدان المعركة ومنهم كعب بن مالك .
الثالثة : الذين فروا وإنهزموا ومنهم من دخل المدينة وجاءت دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للفرقة الثانية والثالثة .
لقد كانت دعوة الرسول حقيقة وليست مجازاً أو كناية عن أمر وفعل مخصوص بل كان نداء وصوتاً مسموعاً .
وتبين مضامين آية البحث حقيقة وهي أن ذخائر الآية القرآنية كنوز لا تنفد وفي كل زمان تستقرأ وتستخرج منها العلوم والبراهين التي تنير دروب الهداية للناس .
وهذا الإستقراء والإنتفاع منه من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) الذي يتلوه كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم , لبيان درر آيات القرآن والإستفادة الخاصة والعامة منها ،
فجاءت بداية آية البحث بخصوص واقعة أحد ، وفي الساعة الأخيرة منها لتجعل المسلمين في كل زمان يستحضرون وقائعها ، ويستنبطون الدروس والمواعظ منها ، فلم يقم الإسلام بالسلام والدعوة بالحجة والبرهان , ولكنه قام بجهاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والمهاجرين والأنصار وتلقوا الأذى الشديد من الذين كفروا ومنع تجهيزهم الجيوش العظيمة لقتال المسلمين الذين كانوا فئة قليلة لا تمتلك المال أوالسلاح لمواجهة هذه الجيوش .
فاجتهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء ليكون مقدمة للنصر ، ومادة ووسيلة ملكوتية تجلب المدد من الملائكة فضلاً من عند الله وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
وبعد نزول الأمن والنعاس على المؤمنين في ساحة معركة أحد، توجهت الآية إلى بيان حال المنافقين والذين نكصوا على أعقابهم، ولم يواصلوا الجهاد والقتال ، وإقترن هذا البيان بالذم الذي يتجلى بكشف سرائرهم والإخبار عن قبح قولهم وفعلهم .
وقد يقال بتعلق إنحراف المنافقين بخصوص نبوة محمد ، وعدم تسليمهم بالمعجزات التي جرت على يديه ، فتفضل الله وأخبر بأنهم [يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ] وفيه حجة عليهم ومنع من القول بأولوية العناية بهم وتعدد المعجزات الخاصة التي تتوجه إليهم ليؤمنوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أن الكفر والجحود مستقران في نفوسهم ، فجاءت آية البحث لإستئصاله ومنع إنتقاله إلى جيل وطائفة أخرى من المسلمين .
وذكرت الآية الكريمة إدعائهم بالباطل وعلى نحو متكرر فورد قوله تعالى [يقولون] مرتين وكذا جاء الأمر من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتين [قل] لبيان إقامة الحجة والدليل القاطع على لزوم الجهاد في سبيل الله عندما تزحف جيوش المشركين لهدم صرح الإسلام .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يدع المسلمين إلى الجهاد الإبتدائي ، وغزو المشركين في قراهم ومحل سكناهم ولم يدع إلى الإستيلاء على الأموال الخاصة والإبل والشياء ، بل إجتهدوا في تبليغ الرسالة وبيان أحكام الحلال والحرام ، وتعاهد أداء الصلاة خمس مرات ، وتلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد الأذى في نفسه وأهل بيته فأظهر أسمى معاني الصبر ، ويبلغه أذى الكفار لأصحابه فيحث على الصبر وتنزل آيات القرآن بالصبر وبيان الأجر العظيم عليه .
لقد إنطوت معركة أحد بوقائعها وأحداثها التي لم تستمر أكثر من يوم واحد مع أن المشركين إستعدوا لها مدة عام كامل وطافوا على القبائل يحرضونهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وينفقون الأموال ويعطون الوعد ، ويتقبلون شروط الناس في القتال إلى جانبهم ، فأخبرت آية البحث عن إختتامها بأمور :
الأول : سلامة المسلمين من الحزن ، فان قلت لماذا عدم الحزن مع سقوط سبعين شهيداً منهم والجواب من جهات :
الأولى : فوز الشهداء بالخلود في النعيم .
الثانية : صرف الحزن عن المؤمنين نعمة من عند الله .
الثالثة : بيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أبدان ونفوس المؤمنين بدفع الحزن عنهم مع إجتماع أسبابه، فيكون هذا الإعجاز نوع مؤاساة لهم وسبب لإنصرافهم عن الحزن، أي يدفع الله عن المؤمنين الحزن وفي ذات الوقت يدفعه عنهم .
الرابعة : بعث المسلمين للتهيئ للمعارك القادمة ، خاصة وان المشركين لم ينصرفوا من معركة أحد إلا بعد أن توعدوا المسلمين بالعودة للقتال في العام القادم .
قال ابن إسحاق (وَلَمّا انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ نَادَى : إنّ مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ لِلْعَامِ الْقَابِلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِرَجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ قُلْ نَعَمْ هُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَوْعِدٌ) ( ).
الخامسة : بيان قانون كلي في الحياة الدنيا وهو أنه ليس من حزن على ما يترشح عن العمل والجهاد في سبيل الله ، وحينما أخبرت الآية السابقة عن رفع الحزن عن المؤمنين عما فاتهم وأصابهم فهل يضمن الله عز وجل لهم العوض والبدل ، الجواب نعم فلم تمر الأيام والليالي حتى توالت الغنائم وأسباب الرزق الكريم على المدينة المنورة ، وخرج الصحابة أمراء وحكاماً في الأمصار .
ليكون تقدير قوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ]( ) الوارد في الآية السابقة على وجوه عديدة منها :
أولاً : لكيلا تحزنوا فان الله عز وجل يرزقكم خيراً مما فاتكم .
ثانياً : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم فأجتهدوا في السعي في مرضاة الله وبناء دولة الحق والهدى .
ثالثاً : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم فتحلوا بالصبر ) قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ).
لقد صرف الله عز وجل الحزن عن المؤمنين قبل أن تأتيهم نعمة الأمنة والنعاس ،ليتدبروا في كل نعمة منها وفيه نكتة وهي أن الله عز وجل يحب أن يدرك الإنسان نعمة عليه، ويتوجه إليه بالشكر والثناء ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
لذا أخبرت آية البحث بأن الذين شغلتهم أنفسهم حجبوا عن أنفسهم هذه النعم .
لقد ورد في إبراهيم عليه السلام عندما ألقى في النار التي أعدها نمرود وقومه قوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ).
وتبين الآية أعلاه أن الخطاب توجه من عند الله عز وجل إلى النار من غير برزخ وواسطة بينهما وسرعان ما إستجابت النار لأمر الله عز وجل ، ولو كانت برداً وحده لجمد إبراهيم ولكنها صارت سلاماً عليه .
ومن مصاديق إستجابة الخلائق لأمر الله عز وجل قوله تعالى [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ]( ).
لتكون إستجابة النار لأمر الله من باب الأولوية القطعية لصغر حجمها ، ولإرادة الله عز وجل في تنجز نجاة إبراهيم عليه السلام من الموت ، وأذى القوم الكافرين معجزة جلية تدعوهم بذاتها للإيمان فعندما أصم المشركون آذانهم عن دعوة إبراهيم جعل الله عز وجل للنار لساناً حاكياً ليكون مقدمة وإنذاراً وتذكيراً بلسانها المحرق والمهلك يوم القيامة وأنعم الله عز وجل على المؤمنين بصرف الحزن عنهم فلا يدب إلى نفوس أجيال المسلمين والمسلمات بخصوص واقعة أحد ، وما جرى فيها من الأحداث والمصائب .
لقد أختتمت الآية السابقة بقانون وهو (وهو خبير بما تعملون ) لبيان حقيقة وهي علم الله بما يفعل المسلمون عند وبعد نزول نعمة الأمنة النعاس ، وعملهم فيما لو لم تنزل عليهم نعمة الأمن والنعاس وعملهم لو نزلت عليهم أحدى النعمتين دون الأخرى أو أن أحدهما تأخرت عن صحبتها ، إذ تبين آية البحث الملازمة بينهما في النزول من عند الله لبيان توالي النعم المتعددة في الزمان والمكان المتحدين ، وهو من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين ومقدمة لنصرهم في معارك الإسلام التالية ، ولبيان إنتفاء الخسارة عند المسلمين في لقائهم وقتالهم مع المشركين ، قال تعالى [إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ] ( ).
لقد بينت آية البحث حتمية ملاقاة الموت للإنسان وفيه ترغيب بالجهاد والفوز بثواب الشهادة ونيل مرضاة الله عز وجل وبين الجهاد والقتل عموم وخصوص مطلق فليس كل من يقاتل يقتل أو يستشهد ، لذا فان آية البحث تخاطب المسلمين الذين خرجوا أحياء من معركة أحد تتغشاهم دعوة الرسول بالرجوع إلى ميدان وإليه فقد كان ينادي (إلي عباد الله إلي عباد الله ) .
لقد ظن المنافقون أن الله عز وجل لن ينصر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأنه يخلي بينه وبين المشركين الذين جاءوا وهم ثلاثة آلاف رجل لقتال المسلمين مع قلتهم والنقص الظاهر في أسلحتهم فبينت آية البحث أن الأمر كله لله ، وهو سبحانه بيده النصر والفتح ويتفضل ويرزقهما لرسوله الكريم .
وبينت الآية حرص المنافقين على سلامة أنفسهم ونجاتهم من القتل ، ولم يكترثوا بالخسارة التي أصابت المسلمين فمنعت آية البحث من إظهارهم الشماته على فقدان المسلمين سبعين قتيلاً وجاء إحتجاج المنافقين بعدم إنصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالبقاء في المدينة لإيجاد العذر أمام أخوانهم من الأنصار.
وذكر الله عز وجل في آية البحث بواطن الصدور وخواطر النفوس وأنه يكشفها ويظهرها بالإبتلاء والإمتحان ، فان البلاء مناسبة للإختبار وطريق للجزاء في الآخرة .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم العلماء ، ثم الأمثل فالأمثل)( ).
وأختتمت آية البحث بقانون وهو ( والله عليم بذات الصدور ) لبيان علمه بما في صدر الإنسان من الخواطر والأوهام قبل أن يولد وبعد أن يولد وقبل ان يفكر بالأمور وبعد أن يموت لتبقى حاضرة عند الله عز وجل على نحو التأييد، قال سبحانه في الثناء على نفسه [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ).
وتنبسط مصاديق هذا القانون على مضامين آية البحث لـتأكيد منافع نزول الأمنة والنعاس على المؤمنين من عند الله وسلامة صدورهم من الحزن والغم.
وتأكيد الشهادة من عند الله لهم بالإيمان وحسن التوكل على الله .
وبفضل وفيض من عند الله عز وجل أقوم بمفردي بتأليف ومراجعة وتصحيح هذا السِفر الخالد , ومن أول جزء منها وكذا بالنسبة لكتبي الفقهية والأصولية والكلامية، في سياحة ملكوتية في رياض ناضرة مع مباشرتي إعطاء البحث الخارج على فضلاء الحوزة العلمية في النجف الأشرف منذ سبع عشرة سنة متوكلاً على الله تعالى، قال سبحانه [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ]( ).
حرر في العشرين من شهر صفر 1437هـ
قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] الآية 154
سياق الآيات
تقدير الجمع بين هذه الآية والآية السابقة إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ …. .
المسألة الأولى :فأثابكم الله غماً بغم وطائفة يقولون هل لنا من الأمر من شيء ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : إبتدء الشطر أعلاه من الآية السابقة [َأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ]بحرف العطف الفاء الذي يفيد التعقيب وإنعدام الفترة بين المعطوف والمعطوف عليه ، والعلة والمعلول ، وظاهر الآية الكريمة أن الثواب بالغم جاء متعقباً لدعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه الذين إنهزموا من معركة أحد , وصعد شطر منهم الجبل القريب من المعركة ، فبدل أن يثبت الرماة على الجبل كما وصاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تركوه ونزلوا طلباً للغنائم بعد أن لاحت بشارات النصر وظهر الإنكسار على الذين كفروا ، وأخذوا يستعدون للهروب مع كثرة جيوشهم وعدتهم ، ورأى جيش المسلمين كيف أن النساء اللاتي جاء بهن الذين كفروا من مكة لبعث الحماس في نفوسهم يتهيأن لركوب الإبل ، وذات البعير غنيمة والمرأة التي تركب عليه تصبح سبية تدفع قريش المال الجزيل عوضاً وبدلاً عنها .
لقد خرج نحو ألف رجل من قريش إلى معركة بدر ولم تكن معهم نساء ، فوقع سبعون منهم بالأسر ، وقتُل سبعون ، وفروا من ساحة المعركة ، فكيف جاءوا بالنساء في معركة أحد ولم يتعظوا مما جرى في معركة بدر ، فيه وجوه :
الأول :كانت قريش تسعى إلى تحقيق النصر والغلبة للتباين بين حالهم في معركة بدر وحالهم في معركة أحد ، إذ حضروا لمعركة بدر وعددهم ألف ، ومن غير إستعداد وتهيأ للقتال وأخذ الحائطة لملاقاة جيش ، فقد كانت قريش تظن أموراً :
الأول : المسلمون أفراد قلائل منشغلون بالعبادة .
الثاني : يقوم الأنصار بالكسب والزراعة .
الثالث : لا يخرج الأوس والخزرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقتال لأنهم تعهدوا له بايوائه والذب عنه بين ظهرانيهم في المدينة عندما حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيعة العقبة الثانية في السنة الثالثة عشرة للبعثة النبوية وكان عدد الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأوس والخزرج سبعين رجلاً وإمرأتين هما نسيبة بنت كعب ، وأسماء بنت عمرو .
قال ابن إسحاق بخصوص هذه البيعة ( فَتَكَلّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ . فَتَلَا الْقُرْآنَ وَدَعَا إلَى اللّهِ , وَرَغّبَ فِي الْإِسْلَامِ , ثُمّ قَال : أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ .
فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمّ قَالَ نَعَمْ وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ ( نَبِيّا) لَنَمْنَعَنّك مِمّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللّهِ فَنَحْنُ وَاَللّهِ أَبْنَاءُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ وَرِثْنَاهَا كَابِرًا ( عَنْ كَابِرٍ ) قَالَ فَاعْتَرَضَ الْقَوْلَ وَالْبَرَاءُ يُكَلّمُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيّهَانِ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرّجَالِ حِبَالًا ، وَإِنّا قَاطِعُوهَا – يَعْنِي الْيَهُودَ – فَهَلْ عَسَيْتَ إنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ ثُمّ أَظْهَرَك اللّهُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى قَوْمِك وَتَدَعَنَا ؟ .
فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ بَلْ الدّمَ الدّمَ وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنّي ، أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ) ( ).
الرابع : ما يتصف به كفار قريش من العتو والغرور والملازمة بين الإقامة على الكفر وبين عدم الإتعاظ من الوقائع والأحداث إلا بعد حين وعند التكرار .
الثاني : زحف كبار قريش بثلاثة آلاف رجل في معركة أحد بعد سنة من الإستعداد والتأهيل وحشر القبائل والتحريض والوعيد والمناجاة بينهم باستئصال جند الإسلام ، والوعد الزائف باحضار المسلمين أسرى إلى مكة ، وأبى الله إلا يدخلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فاتحين ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] ( ).
ومن مصاديق قوله تعالى أعلاه [َمَا يَشْعُرُونَ]أن وعيد قريش ومناجاتهم بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسر أصحابه صار وبالاً وخزياً على كفار قريش فحالما عادوا من معركة أحد إنتشرت أخبار هزيمتهم وعجزهم عن تحقيق الغايات الخبيثة التي خرجوا من أجلها ليكون من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) أموراً :
أولاً : صيرورة كفار قريش محط إستهزاء الناس .
ثانياً : قلة شأن كفار قريش بين القبائل .
ثالثاً : تعالي أصوات المسلمين في مكة بعد أن كانوا يخفون إسلامهم .
رابعاً : دخول أبناء ورجالات قريش في الإسلام ذكوراً وأناثاً .
خامساً : حصول النقص في تجارة قريش لأنهم ساقوا الخيل وإمتطوا إبل التجارة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
لقد أنعم الله عز وجل على قريش بالتجارة والكسب [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( )بذهابهم إلى الشام في أيام الصيف والتنعم بالطيبات وعذوبة الماء والنسيم فيها ، وجلب البضائع منه ، والذهاب إلى اليمن في الشتاء حيث برودة الطقس مع جلب البضائع القادمة من الصين والهند وبلاد فارس .
الثالث : كانت قريش تجتمع في دار الندوة ، فيذكرون وقائع العرب ويستحضرون الأشعار والقصائد التي توثق تلك الوقائع ويستعرضون أسباب النصر والهزيمة ، فجبلت أذهانهم على حصر الأمور بأسبابها المادية وقواعد العلة والمعلول الظاهرية ، وعميت قلوبهم عن إدراك خصائص المعجزة , وكيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقاتلهم بمدد ملكوتي من السماء .
الرابع : تماسك كبار رجالات قريش بمقامات الرياسة والرفعة بين المجتمعات ، ويشق عليهم التسليم بأن المهاجرين والأنصار من الفقراء والمستضعفين ند لهم ، ويلزم إجراء الصلح والجلوس معهم للتفاوض ، وقد أشار عليهم بعضهم بأن يتركوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشأنه وسيكفيهم غيرهم ، ولكنهم أبوا الهجوم على المدينة المنورة والقتال .
ومن الإعجاز أن آية البحث لم تذكر الذين كفروا بالذات ، ولكنها بينت الضرر الذي يأتي من طرفهم وكيف أنهم سبب لإبتلاء المؤمنين .
الوجه الثاني : ذكرت آية السياق مجئ الغم ثواباً من عند الله خص به المؤمنين في معركة أحد ، ولينسخ الغم الذي قد يأتي مما أصابهم من الخسارة يومئذ ، ثم ذكرت آية البحث طائفة من الذين همتهم أنفسهم ويريدون أن يكون لهم شأن في موضع وكيفية القتال ، وفي نزول الغم المذكور في آية السياق وجوه :
أولاً : شمول هؤلاء الذين همتهم أنفسهم بالغم الذي جاء من عند الله سبحانه .
ثانياً : عدم شمول المنافقين بهذا الغم لأنه نعمة وفضل من عند الله عز وجل .
ثالثاً : التفصيل فمن كان من المنافقين في ميدان المعركة ينزل عليه الغم كما ينال المؤمنين فيها ، لأن رحمة الله إذا جاءت تعم لإتصافها بالسعة والشمول .
والمختار هو ثالثاً أعلاه لتعلق الثواب بصفة الإيمان , ولأصالة الإطلاق .
الخامس : من خصائص الذين كفروا إتباع الهوى ، وغلبة النفس الغضبية , ولم يستطع كفار قريش تحمل وطأة وآثار هزيمتهم في معركة بدر إذ كانت مفاجئة للجميع .
وفي قارون حينما وعظه قومه ودعوه إلى تقوى الله وذكروه بنعمة الله عز وجل بكثرة أمواله أخذه الغرور وإتجه صوب المغالطة والعناد [قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي]( ).
وكذا كفار قريش فقد أنعم الله عز وجل عليهم بجوار البيت والجاه والمال والتجارة ، لأن المال إذا كان ثابتاً مستقراً ينفد ولكن أنعم الله عز وجل عليه بالتجارة بين بلاد الشام واليمن ليكون طريق القوافل الذي يتخذونه هو الطريق الوحيد بين الروم من جهة وبلاد فارس والهند والصين من جهة أخرى بعد ان إنقطع طريق التجارة عبر العراق بسبب وقوع الحروب بين الروم وبلاد فارس .
وحتى مع فتح وسلامة هذا الطريق فان تجارة قريش مستمرة بين الشام ومكة واليمن ، وللعرب أسواق عظيمة في موسم الحج فقدمت الإشارة إليها لبيان قانون وهو إستدامة النعمة التي يتفضل بها الله عز وجل وعدم إنحصارها بحال وزمان مخصوص .
وهل في قوله [إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( )بشارة إستدامة تجارة قريش بعد الإسلام ، الجواب نعم ، وهو الذي تجلى بعد الفتح ومجئ وفود الحاج من كل مكان لأداء فريضة الحج ورجوعهم محملين بالبضائع , ولو أجريت إحصائية وحساب خاص بالأسواق لتبين ان أسواق مكة هي أكبر الأسواق في العالم حتى يومنا هذا ، وهو من مصاديق [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] .
ومن الإعجاز في سورة قريش أعلاه بيان ماهية هذه التجارة وكيف انها وسيلة لعبادتهم لله والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلما أخل كفار قريش بهذا القانون توالت عليهم الخسائر والنكبات وباءوا بسخط من الله عز وجل .
لتكون التجارة والمكاسب في مكة من نصيب المسلمين وهو من مصاديق دعاء إبراهيم لأهل الحرم كما ورد في التنزيل [وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ] ( ).
الوجه الثاني : من خصائص الخلائق أن حجة الله عز وجل عليهم ملازمة لهم جميعاً ، ومنها حاجتهم في الوجود وإستدامته ، ومن الإعجاز في حياة الإنسان وخصال الخلافة في الأرض أن مغادرته للأرض ليس نهاية لحياته إنما هي بداية لحياته السرمدية ، قال تعالى [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ] ( ) أي الحياة الدائمة وتتعلق كيفية ومنزل الإنسان في الآخرة باعماله في الدنيا بلحاظ أن الدنيا دار إمتحان وإختبار , وأن الآخرة دار حساب وجزاء .
وحينما نزل الغم على المؤمنين يوم أحد ماذا كانت النتيجة ، فيه وجوه :
أولاً : وقاية المسلمين من الحزن وما يترتب عليه من الأذى الخاص والعام.
ثانياً : بقاء المسلمين في حال تهيئ وإستعداد للقتال , وهو المستقرأ من قوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( )، إذ تبين الآية أعلاه صدور أوامر النبي لأصحابه بالقيام في مواضعهم التي عينها لهم، ولم تقل الآية (تبوء مقاعد القتال للمؤمنين.
بل قدمت في اللفظ ونظم الآية المؤمنين لبيان حقيقة في الخطط العسكرية وقيادة الجيوش وهي أن الأهم هو أفراد الجيش وليس الموضع فيمكن أن يكون تغيير وتبادل مواضع بين أفراد الجيش، وهل فيه حجة بأن لا يتركوا المواضع التي جعلهم فيها الجواب نعم، وقد جاءت توصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرماة المسلمين بأن يحموا ظهور جيش الإسلام، ولا يخلوا مواضعهم على الجبل .
ثالثاً : ترشح الثواب عن ذات ثواب الغم، وهو من الآيات في النعم الإلهية بأن يتعقبها فضل وأجر من ذات جنسها أو من غيره.
رابعاً : مبادرة المسلمين بالشكر لله عز وجل على نعمة إزاحة غم الحزن والأسى ومجئ الغم ثواباً من عنده تعالى.
وقد يقال ما هو الفارق في المسمى بين الغمين بعد الإتحاد في الاسم والموضوع , والجواب تبين آية السياق أن الغم الذي يأتي من عند الله ثواب وجزاء ورحمة بدليل توجهه للمؤمنين في ساعة الشدة والضيق , وذكرت آية السياق علته وأثره ونفعه بأن يكون سبباً لزوال الحزن والأسى.
خامساً : توجه المسلمين بالشكر لله عز وجل على نعمة الغم ثواباً ورحمة من عند الله عز وجل ، وفيه مصداق لقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بلحاظ أنه بعد المصيبة والخسارة يأتيهم الثواب بذات سنخية الأذى مع الإختلاف عنه.
سادساً : تتصف معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنها على أقسام:
الأول : المعجزة العقلية.
الثاني : المعجزة الحسية.
الثالث : المعجزة العقلية الحسية.
وتفضل الله عز وجل وجعل الغم الذي يأتي من عنده للمؤمنين آية حسية في نفوسهم، كل واحد منهم يدرك المعجزة في ذاته وعند غيره , وفيه زجر للمسلمين عن القول[هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ]وتلك آية بان يكون حجب المسلمين عن أخلاق النفاق بآية عقلية وحسية من عند الله عز وجل.
ومن الإعجاز في المقام التعدد في كل من المعجزات العقلية والحسية.
ويبين نظم آيات القرآن أن قوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( )، مقدمة ونوع طريق لفوز المسلمين بالمراتب العالية ونيلهم الأجر والثواب , والآية أعلاه هي الحادية والعشرون بعد المائة من سورة آل عمران وآية البحث هي الرابعة والخمسون بعد المائة أي بينهما إثنتان وثلاثون آية .
وكل آية تبين وجوهاً من الفضل الإلهي المترشح عن تنزيل ووضع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في مواقف القتال، الأمر الذي يستلزم مجلدات خاصة، ولتكون بعنوان: رشحات ومنافع تعيين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين مقاعدهم في القتال.
ومن هذه الرشحات بلحاظ هذه المسألة من الصلة بين آية البحث والآية السابقة لها أمور :
الأول : دلالة إستجابة المؤمنين لأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تعيين مواضعهم على سلامتهم وتنزههم من قول [لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ].
الثاني : قرب الثواب من المؤمنين حينما أنزلهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مواقف القتال .
الثالث : دلالة إتصاف المسلمين بصفة الإيمان شاهد على عصمتهم من النفاق مجتمعين ومتفرقين .
الرابع : تبعث آية مقاعد القتال المسلمين على الترصد للمنافقين ومنعهم من صد الناس عن سبل الهداية .
الخامس : تتضمن آية السياق الإخبار عن سلامة المسلمين من الحزن , وجاءت آية البحث لمنع المنافقين من بث روح الشك والريب في نفوس المسلمين , وإيهما أكثر ضرراً على النفس تسرب الحزن أم الشك إليها .
الجواب كل من الحزن والشك من الكلي الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
السادس : بيان حقيقة تأريخية وهي أن المؤمنين لم تهمهم أنفسهم بل واجهوا القوم الكافرين في ميادين القتال .
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : فأثابكم الله غماً بغم قل إن الأمر كله لله ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : من إعجاز القرآن مجئ آية السياق وهي الآية السابقة بصيغة الخطاب للمسلمين بلحاظ موضوع وواقية معركة أحد ، أما آية البحث فجاء الخطاب فيها لوجوه مرتبة :
الأول : توجه الخطاب للمسلمين بذات موضوع ووقائع معركة أحد .
الثاني : نزول الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ (قل) وتقدير الآية : قل يا محمد ، وقل يا رسول الله .
الثالث : بيان الجهة التي يتوجه إليها قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم المنافقون الذين إنشغلوا بأنفسهم , وتقدير الآية : قل يا محمد للطائفة الذين همتهم أنفسهم .
الرابع : توجه صيغة الخطاب إلى عموم المسلمين بقوله تعالى [وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ].
وإبتدأت آية السياق بظرف الزمن الماضي (إذ) وإبتدأت آية البحث بحرف العطف (ثم) وكل فرد منهما يفيد العطف الموضوعي على الآية السابقة لبيان الترابط والتداخل الموضوعي بين هذه الآيات خاصة وأنها تتعلق بمعركة أحد ، لبيان حقيقة وهي لزوم إقتباس المسلمين المواعظ والدروس من هذه المعركة .
ومن إعجاز القرآن الغيري أن ذات تلاوة الآية القرآنية موعظة ومناسبة يستقرأ منها المسلم والمسلمة المسائل والسنن والأحكام وهو من أسرار تلاوة المسلم والمسلمة اليومية للقرآن وعلى نحو الوجوب العيني ، فلم تغن قراءة الرجل عن المرأة ولا العكس لبيان نكتة وهي أن الإعداد للقتال والتوقي من الخسارة وتبكيت المنافقين مسؤولية جميع المسلمين والمسلمات .
وإبتدأت آية السياق بالإخبار عن صعود طائفة من المؤمنين الجبل منهزمين في معركة أحد لتعقبها آية البحث بالإبتداء بنزول الأمنة النعاس من عند الله عز وجل عليهم .
وهو من اللطف الإلهي بأن تنزل على المسلمين النعم المتعددة بعد هزيمتهم من القتال لأنهم خرجوا له بصبغة الإيمان ، ولم يتخلوا عن هذه الصفة والصبغة حتى في حال الهزيمة والفرار ، بالإضافة إلى حقيقة من جهات :
الأولى : نزول النعم على المسلمين بعد دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمنهزمين بالعودة إلى ميدان القتال .
الثانية : نزول الأمنة والنعاس على المسلمين من عمومات التخفيف من عند الله عنهم ، قال تعالى في خطاب للمسلمين [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
الثالثة : إنتفاع المؤمنين جميعاً من نعمة الأمنة والنعاس ،إذ فاز بها الذين ثبتوا في الميدان ، وترشحت منافعها على عموم المجاهدين في ساحة معركة أحد .
الرابعة : في نعمة الأمنة والنعاس ترغيب للناس لدخول الإسلام ، ووعد من عند الله عز وجل لهم بأنه يرزقهم النعم في حال السراء والضراء .
الخامسة : زجر الذين كفروا عن محاربة المسلمين لأن المسلمين أمة تأتيهم النعم حتى في ميدان المعركة ، وهذه النعم من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الوجه الثاني : من معاني الجمع بين الآيتين خصوص الخطاب بعد عموم الخبر , فبعد أن جاء موضوع الخبر في آية السياق بخصوص المؤمنين في معركة أحد توجه الخطاب في آية البحث إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) وفي ذات موضوع آية السياق .
ليكون من إعجاز الخطاب القرآني مجئ الخطاب الخاص في طول الخطاب العام من غير ان ينفي ذات صبغة العموم , وتقدير لفظ (قل) الذي تكرر في آية البحث على وجوه :
الأول : توجه الأمر الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتقدير الآية (قل يا محمد ) .
ويحتمل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهة صفته التي يتكلم بها وجوهاً :
أولاً : صفة النبوة ، وتقدير الآية (يا أيها النبي قل) كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى…]( ).
ثانياً : إرادة الصفة الشخصية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إقامة للحجة على الناس ، وتقدير الآية : قل يا محمد .
ثالثاً : إحتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة التي رزقه الله وتقدير الآية : يا أيها الرسول قل ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من وجوه الحجة والبيان في المقام , وإقامة الحجة على الناس .
الثاني : توجه الخطاب إلى الصحابة الذين شاركوا في معركة أحد وتعليمهم كيفية الإحتجاج على المنافقين , ومن منافع هذا الإحتجاج بعث السكينة في نفوس المسلمين ، واليقين بأنهم على حق في إختيار الإيمان والجهاد في سبيل الله .
وهو من الإعجاز الغيري في باب الموضوع للآية القرآنية ، فتأتي آية البحث أمراً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) ويكون موضوع الخطاب إقامة الحجة على المنافقين ، وبيان خطأ المبنى الذي هم عليه ، لينتفع المسلمون منه بما يثبت أقدامهم في منازل الإيمان ، قال تعالى [وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا] ( ).
الثالث : توجه الأمر والخطاب إلى المؤمنين والمؤمنات بالإحتجاج على المنافقين والمنافقات ، ومن فضل عز وجل مجئ البرهان ومادة الإحتجاج منه سبحانه وفيه طرد للغفلة ، وهو من مصاديق قوله تعالى في الثناء على القرآن وبيان منافعه [وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ).
الرابع : لقد أمر الله عز وجل نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في آية البحث بلفظ (قل) مرتين ، والآية إنحلالية والمقصود عموم المسلمين ، وهو من أسرار بقاء سنن وأحكام القرآن وسلامته من التحريف إلى يوم القيامة .
وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا قولوا إن الأمر كله لله ) بلحاظ كبرى كلية وهي أن النبي يتوسط الأمر إلى جانب تلقيه، فقوله تعالى [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] تزكية لفعل النبي محمد صلى الله عليه إبتداء من خروجه من المدينة ودخوله القتال .
وهل تلاوة المسلم لآية البحث من مصاديق الإمتثال والتأكيد فاذا تلى في الصلاة آية البحث ومنها [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] إحتسبه الله عز وجل له قولاً وإحتجاجاً .
عن ابن عباس قال : « لما أسري بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم – جعل يمر بالنبي والنبيين معهم الرهط ، والنبيين معهم القوم والنبي والنبيين ليس معهم أحد ، حتى مر بسواد عظيم ، فقلت : من هؤلاء؟ فقيل موسى وقومه ، ولكن ارفع رأسك وانظر ، فإذا سواد عظيم! قد سد الأفق من ذا الجانب وذا الجانب ، فقيل لي : هؤلاء وسوى هؤلاء من أمتك ، سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب « قال : فدخل ولم يسألوه بأنفسهم ولم يفسر لهم . فقال قائلون : نحن هم . وقال قائلون هم أبناؤنا الذين ولدوا في الإسلام ، فخرج فقال : هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون « . فقام عكاشة بن محصن فقال : أنا منهم يا رسول الله؟ فقال : أنت منهم « ، فقام رجل آخر فقال : أنا منهم؟ قال : سبقك بها عكاشة).
الوجه الثالث : يفيد الجمع بين الآيتين أن مجئ الغم ثواباً من عند الله موضوع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومناسبة للجهاد في سبيل الله والإغلاظ على المنافقين , وإقامة الحجة عليهم.
ليستقرأ من الجمع بين الآيتين قوانين متعددة منها :
الأول : قانون وهو أن الكيفية النفسانية التي يجعل الله المسلمين يتحلون بها مدخل وسلاح في الصبر والجهاد في سبيل الله ، فلما جاءهم الغم لم يسكتوا ويكتفوا به بل توجهوا إلى المنافقين لتبكيتهم والإحتجاج عليهم .
الثاني : بيان قانون وهو أن المسلمين ينتفعون من النعمة في إصلاح نفوسهم والمجتمعات .
الثالث : قانون تسليم المسلمين بأن ما عندهم من النعم سبحانه ، وهو الذي تفضل عليهم بالغم ليزيح الغم ، ويبقى حصناً وواقية من الحزن والأسى بسبب ما أصابهم .
الرابع : قانون رضا وقبول المسلمين بأي فضل من الله عز وجل، فغزو الغم لنفوسهم رحمة ومناسبة للغبطة ، وهل فيه تبكيت وتعيير للمنافقين , الجواب نعم ، ليكون من معاني هذا التبكيت أمور :
الأول : بيان قبح النفاق .
الثاني : إخبار المنافقين بأن الله عز وجل كشف للمؤمنين أحوال وشأن وخبث المنافقين , قال تعالى [وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ] ( ).
الثالث : دعوة المنافقين للتوبة ونبذ النفاق والأخلاق المذمومة لأنهم بنفاقهم وجدالهم يضرون أنفسهم وأهليهم ، ويكونون كالعون للذين كفروا , فلذا ترى آية البحث تذكرهم بصيغة الذم وتدعو النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للقيام بنفسه بالإحتجاج وجدالهم مع إنشغاله والمسلمين بقتال الذين كفروا الذين يزحفون بالآلاف لحرب الإسلام .
فقد جاءوا للقتال في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة بألف رجل فكانت معركة بدر ، ثم عادوا ورجعوا في شهر شوال من السنة الثالثة بثلاثة آلاف رجل فوقعت معركة أحد , ليعودوا بعد أكثر من سنة بعشرة آلاف وهم يريدون الإجهاز على النبوة والتنزيل والإيمان عقيدة وسنناً وأحكاماً وحملة له , ويأبى الله إلا أن يبتلي الذين كفروا [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : فأثابكم غماً بغم يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لكم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : تتعدد لغة الكلام في الآيتين بين الخطاب والغائب, وفيه معجزة في البيان والوضوح وعدم اللبس في تعيين الجهة المخاطبة والمقصودة في الكلام .
إذ ورد الثواب بالغم لعموم المؤمنين في معركة أحد بينما ذكرت آية البحث حال المنافقين وما يتصفون به من التضاد الذاتي بين أمرين :
الأول : ما يخفون في أنفسهم من الكفر ، وما يبطنون من الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : ما يظهرون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من الإيمان بالله والتصديق بالنبوة ونزول القرآن من عند الله ، وما يقومون به من أداء الصلاة مع جماعة المسلمين .
لقد تجلت أحكام الإسلام في القرآن ، وهو المصدر الأول للتشريع , وجاءت السنة النبوية مصاحبة وملازمة له وتفسيراً له وهي المصدر الثاني للتشريع .
ومن مصاديق السنة تنزه وإمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل المنافقين مع شدة أذاهم للإسلام ، وإعانتهم بالقول والفعل للذين كفروا ولو ببث روح اليأس والقنوط ونحوه في نفوسهم وبين صفوفهم.
ولقد تلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه الأذى الشديد من كفار قريش عندما كانوا في مكة ، ولما أظهر الله الإسلام في المدينة , وقويت شوكة المسلمين لم ينتقم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المنافقين بلحاظ قانون : إذا تغير الموضوع تبدل الحكم , وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صبر على الأذى في مكة لأن المسلمين كانوا مستضعفين فيها .
أما في المدينة فقد ثنيت له الوسادة فهل عاقب الذين يؤذونه ممن يبطنون الكفر والضلالة .
الجواب لا، فقد منع من قتل المنافقين من أصحابه من غير أن يتعارض مع وعظهم والغلظة معهم, وكان يقول عندما يشار عليه بقتل أحد المنافقين (لَا يَبْلُغُ النّاسَ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَه) ( ).
وفيه مسائل :
الأولى : بيان المعنى الأعم لإصطلاح الصحابي ، وشموله للمنافقين بلحاظ صحبتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وسماعهم منه ، ورؤيتهم له .
الثانية : يحتمل المراد من الناس في الحديث أعلاه وجوهاً :
إولاً : إرادة أهل المدينة المنورة .
ثانياً : إرادة خصوص اليهود الذي في المدينة من بني النضير وبني قريظة وبني قينقاع .
ثالثاً : المقصود الذين كفروا ممن يسعون لإيجاد أسباب الجدال والمغالطة والشماتة بالإسلام ، قال تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا] ( ).
رابعاً : إرادة أهل القرى والأمصار .
خامساً : المقصود أجيال الناس المتعاقبة في كل ومان ، ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الحديث .
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وهو من أسرار ومعاني جوامع الكلم إحاطة كلمات القرآن المحدودة بالوقائع والأحداث غير المتناهية .
الثالثة : إقامة الحجة على الكفار والمنافقين , بلزوم التوبة والإنابة .
الرابعة : بيان مصداق لحقيقة , وهي عدم إنتشار الإسلام بالسيف .
الخامسة : فيه شاهد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منزه عن الغضب والإنتقام بسببه من الغير فهو لا يفعل إلا ما يأمره به الله عز وجل .
السادسة : تأديب أمراء وعلماء الإسلام بعدم إشاعة القتل بين المسلمين ، وإقامة الحدود بسبب تحدي السلطان والإختلاف معه وإثارة أسباب الشك والريب في حكمه وسلطانه .
السابعة : تأكيد قانون متجدد في كل زمان وهو أن من غايات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منع سفك الدماء ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ بما حوله بالتنزه عن القتل في الذين يبطنون الكفر من المنافقين ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) عندما إستفهموا عن خلافة الإنسان في الأرض مع إفساده فيها وإشاعة القتل وسفك الدماء , ومضمون الإحتجاج من وجوه :
أولاً : حضور أوامر ونواهي الله عز وجل بين الناس إلى يوم القيامة .
ثانياً : إستدامة عمل أمة من الناس بالتنزيل وأحكام النبوة .
ثالثاً : توالي بعث الأنبياء من عند الله ومجئ كل نبي بالمعجزة والبرهان على أنه رسول من عند الله ، قال تعالى [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ]( ).
رابعاً : نزول الكتب السماوية على الأنبياء ، وختمها بالقرآن ليبقى في الأرض دستوراً عاماً وشاملاً في أحكامه إلى يوم القيامة .
خامساً : تنزه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل المنافقين مع إبطانهم الكفر وإضرارهم بالإسلام ، وقد يقال إن قتل رؤساء النفاق سبب لتوبة إتباعهم من النفاق والرياء .
والجواب لقد جاءت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيت مكارم الأخلاق وجعل موضوعية للعفو ورجاء توبة عموم المنافقين بعد توالي الآيات والمعجزات ، وقد يتوب أحد رؤساء النفاق قبل أن يتوب أتباعه ، وهذه التوبة من مصاديق علم الله عز وجل بماهية الإنسان وعدم وجود برزخ بينه وبين التوبة .
الثامنة :قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لَا يَبْلُغُ النّاسَ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَه) ( ) من مصاديق رسالته في كل زمان ومن معانيه وضروب تقديره وجوه :
أولاً : لا يبلغ الناس أن حكام المسلمين يقتلون أصحابهم ويحتمل معنى الصحابة هنا وجوهاً :
الأول : إرادة الأمراء والبطانة الخاصة بالحاكم .
الثاني : إرادة الذين أعانوا الحاكم للوصول إلى كرسي الحكم .
الثالث : المقصود عموم المسلمين .
والمختار هو الأخير ، إذ كان أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث أعلاه عموم المسلمين .
ثانياً : يجب أن يبلغ الناس قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتل أصحابه على نحو الإطلاق ، فاذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتجنب قتل الذين يبطنون الكفر لأنهم ينطقون بالشهادتين فمن باب الأولوية القطعية أنه يمتنع عن قتل غيرهم من المؤمنين .
ثالثاً : بيان قانون وهو تنزه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الغل والبغضاء والتحريض الخفي على القتل .
فمثلاً كان عبد الله بن أبي سرح من أوائل الذين كتبوا الوحي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له أهل مكة (يا ابن أبي سرح كيف كتبت لابن أبي كبشة القرآن؟ قال : كنت أكتب كيف شئت ، فأنزل الله { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً })( ) .
ولم يكن ابن أبي سرح وحده يكتب الوحي فقد كان هناك كتّاب للوحي ، كما كان بعض المسلمين والمسلمات يكتبون القرآن لتدارسه حتى في مكة قبل الهجرة ، ثم أن جبرئيل عليه السلام كان يعارض ويدارس النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن كل سنة مرة , وعارضه في السنة الأخيرة من عمره مرتين .
وحينما كان ينزل بالآية القرآنية كان يقول له ضعها في السورة الفلانية بين الآية كذا والآية كذا ، وحينما انعم الله عز وجل على المسلمين بفتح مكة أمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلا بضعة أفراد منهم عبد الله بن أبي سرح هذا .
( وعن سعد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وإمرأتين ، وقال اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة ، عكرمة بن أبي جهل ، وعبد الله بن خطل ، ومقيس بن ضبابة ، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار ، فسبق سعيد عماراً وكان أشب الرجلين فقتله ، وأما مقيس بن ضبابة فأدركه الناس في السوق فقتلوه ، وأما عكرمة فركب البحر فاصابتهم عاصفة فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة : اخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً . فقال عكرمة : لئن لم ينجني في البحر إلا الاخلاص ما ينجني في البر غيره ، اللهم إن لك عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه إن آتي محمداً صلى الله عليه وسلم حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوّاً كريماً . قال : فجاء فأسلم .
وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فإنه اختبأ عند عثمان ، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للبيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله بايع عبد الله . قال : فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى فبايعه بعد الثلاث . ثم أقبل على أصحابه فقال : اما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله .
قالوا : وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك ، ألا أومأت إلينا بعينك؟ .
قال : إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة أعين) ( ).
وفي خبر آخر أن أحد الأنصار كان قد نذر أن يقتل عبد الله بن أبي سرح إذا رآه .
ولما أتى به عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة ليشفع له أشتمل الأنصاري على السيف (ثم أتاه فوجده في حلقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل يتردد ويكره أن يقدم عليه، فبسط النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبايعه، ثم قال للأنصاري: ” قد انتظرتك أن توفى بنذرك.
قال : يا رسول الله هبتك، أفلا أومضت إلي ؟ قال : ” إنه ليس للنبي أن يومض)( ).
رابعاً : من وجوه تقدير حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا أيها المسلمون لا يبلغ الناس أن بعضكم يقتل بعضاً) بلحاظ وجوب التأسي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
التاسعة : بيان حقيقة وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يولي عناية خاصة لما يبلغ الناس عنه وعن سيرته وسنته لما فيها من دعوتهم مجتمعين ومتفرقين إلى الإسلام .
العاشرة : تأكيد مصداق وتفسير عملي لقوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
الوجه الثاني : يبين الجمع بين آيتي البحث والسياق قانوناً من جهات :
الأولى : توالي النعم على المؤمنين .
الثانية : حرمان المنافقين أنفسهم من النعم مع قربها منهم وإحساسهم بنزولها على المؤمنين الذين يجمعهم معهم موضع ومحل واحد .
الثالثة : ترغيب المنافقين بصدق الإيمان ، وبعث النفرة في نفوسهم من النفاق وإبطان الكفر والضلالة .
ويمكن تأسيس قانون وهو : في كل نعمة تأتي للمؤمنين تبكيت للمنافقين ) فان قلت قد ينتفع المنافقون من النعم التي يتلقاها المؤمنون .
والجواب هذا صحيح ، فلابد من التفكيك بين التبكيت والإنتفاع فلا يحجب أحدهما الآخر .
فينتفع المؤمنون من النعم الإنتفاع الأمثل ، ويتوجهون إلى الله عز وجل بالشكر لله عز وجل على أمور :
الأول : النعم مجتمعة .
الثاني : كل نعمة على نحو الإستقلال .
الثالث : كل فرد من أفراد النعمة .
ليكون الشكر لله عز وجل مصاحباً لحياة المسلمين وأيام الحياة الدنيا بتقريب وهو بقاء الإسلام شريعة للناس إلى يوم القيامة وإستدامة وجود وتعاقب المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( ).
وتتضمن آية البحث النعم المتعددة من جهات :
الأولى : توثيق الكتاب السماوي النعم التي نزلت في معركة أحد.
الثانية : تلاوة المسلمين في كل زمان للآيات القرآنية التي تتضمن النعم التي نزلت في معركة أحد على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الثالثة : تقسيم المسلمين يوم أحد إلى قسمين :
الأول : الذين نزلت عليهم نعمة الأمنة النعاس .
الثاني : الذي إنشغلوا بأنفسهم ، ولم يلتفتوا إلى لزوم الدفاع عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل وإلى وجوب محاربة الذين كفروا ودفعهم عن المدينة المنورة ,وإنسحبوا وسط الطريق إلى جبل أحد .
ومن أسرار الأمنة النعاس بلحاظ هذا التقسيم أمور :
الأول : ثبات الذين آمنوا في منازل الإيمان .
الثاني : زيادة هدى المسلمين ، قال تعالى في أهل الكهف وتفضله بزيادة الهدى [إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى]( ).
الثالث : دعوة المنافقين للتوبة والإنابة .
فيكون التقسيم الأول أعلاه في إزدياد والقسم الثاني في نقصان ، وهو من الإعجاز الغيري لآيات القرآن وبرهان على النفع العام من النعمة الخاصة والتي ترد على طائفة من المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ترى لماذا لم تقل الآية (ثم أنزل الله عليكم) الجواب إرادة تأكيد العطف والربط بين هذه الآية والآية السابقة إذ أختتمت الآية السابقة بقانون وهو [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]ويحتمل هذا القانون في دلالته وجوهاً :
الأول : إرادة إنذار وتخويف المسلمين خاصة وأن هذا القانون ورد بذات الصيغة لتبكيت المنافقين بقوله تعالى [قُلْ لاَ تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ( ).
الثاني : الثناء على المسلمين والشهادة لهم بحسن السمت.
الثالث : إرادة البشارة للمؤمنين بالثواب العظيم يوم القيامة.
الرابع : المقصود المعنى الأعم، وتضمن الآية مفهوم الإنذار والبشارة في آن واحد.
الخامس : إستقراء معنى خاتمة الآية السابقة بلحاظ مضامين ذات الآية وإخبارها عن فرار طائفة من المسلمين ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم، وصرف الله الحزن عن المؤمنين يوم أحد.
وبإستثناء الوجه الأول أعلاه فإن الوجوه الأخرى كلها من مصاديق الآية أي حتى الإنذار للمنافقين يرد في طول الثناء على عموم المسلمين والشهاة لهم بحسن السمت وعمل الصالحات، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وفي الآية السابقة حذف، وتقدير خاتمتها على وجوه:
الوجه أولاً : دلالة خاتمة الآية السابقة بلحاظ مضامين ذات الآية وفيه مسائل.
الأولى : والله خبير بما تعملون إذ تصعدون.
الثانية : والله خبير بما تعملون إذ لا تلوون على أحد).
الثالثة : والله خبير بما تعملون لو إستمر صعودكم وفراركم.
الرابعة : والله خبير بما تعملون لو لم تصعدوا الجبل فراراً.
الخامسة : والله خبير با تعملون لو إلتفتم إلى ورائكم ورأيتم كيف أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونفراً من أهل بيته وأصحابه يزاولون القتال في مواجهة نحو ثلاثة آلاف من الذين كفروا جاءوا لإستئصالكم.
السادسة : والله خبير بما تعملون والرسول يدعوكم في أخراكم، لبيان أستجابة المؤمنين للدعوة والنداء، وفي التنزيل[قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ]( ).
السابعة : والله خبير بما تعملون قبل أن يدعوكم الرسول.
الثامنة : والله خبير بما تعملون لو لم يدعوكم الرسول.
التاسعة : إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والله خبير بما تعملون قبل أن تصعدوا الجبل وتفرقوا من ميدان المعركة لبيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين المدد الملكوتي والقرآني منه تعالى.
العاشرة : فأثابكم الله غماً بغم والله خبير بما تعملون قبل الغم وبعده.
الحادية عشرة : فأثابكم غماً بغم رحمة منه تعالى والله خبير بما تعملون لو لم يثيبكم بالغم.
الثانية عشرة : والله خبير بما تعملون أيها المسلمون والمسلمات إذ يخبركم عن صعود طائفة من المؤمنين الجبل يوم أحد.
إذ يحتمل الخطاب في قوله تعالى(بما تعملون) وجوهاً:
أولاً : إرادة المؤمنين الذين حضروا واقعة أحد.
ثانيا : إختصاص الذين فروا وتوجهت لهم دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع إلى ميدان المعركة لا سيما وأن الخطاب في بداية الآية يتوجه إليهم.
ثالثاً : شمول المسلمين الذين إنسحبوا من وسط الطريق إلى إستجابة لدعوة رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول.
رابعاً : توجه الخطاب في خاتمة الآية إلى عموم المسلمين والمسلمات أوان نزول الآية.
خامساً : المقصود عموم المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه إذ يكون بعضها في طول بعضها الآخر، وتحتمل خاتمة الآية وجوهاً:
أولاً : المراد كل وجه على نحو مستقل.
ثانياً : إفادة الجمع بين الوجوه أعلاه.
ثالثاً : إرادة المعنى الأعم للوجهين أعلاه مجتمعين وعلى نحو الإستقلال.
والصحيح هو الثالث، وهو من ذخائر المعنى وكنوز الدلالة في اللفظ القرآنية.
الثالثة عشرة : والله خبير بما تعملون يا أجيال المسلمين والرسول يدعوكم إلى الثبات على الإيمان، والسعي في سبل النجاة وفي التنزيل[وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ]( ).
الرابعة عشرة : والرسول يدعوكم والله خبير بما تعملون ) فمن علم الله عز وجل أنه يعلم ماهية الفعل وأثره قبل أن يفعل ، فتفضل فجعل دعوة الرسول فلاحاً للمسلمين ومواساة لهم ووقاية من الهزيمة لأنه سبحانه نجأهم من الذل والضعف والوهن من حيث معركة بدر ، لذا أختتمت آية (ببدر) بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ].
لبيان أن خروج المسلمين إلى معركة أحد من الشكر لله عز وجل على النصر في معركة بدر ، فتفضل ودفع عنهم الذل والهوان.
الخامسة عشرة : والله خبير بما تعملون في المعارك اللاحقة بعد دعوة الرسول لكم في معركة أحد) لبيان أن دعوة الرسول للمؤمنين في معركة أحد رحمة لهم في المعارك اللاحقة كما بيناه( ) .
السادسة عشرة : والله خبير بما تعملون فأثابكم غماً بغم ) ليكون من معاني الآية علم الله عز وجل بحال المسلمين عند لحوق الغم بهم بسبب ما فاتهم من الغنائم ، وسقوط الشهداء منهم ، وكثرت الجراحات التي نزلت بهم .
السابعة عشرة : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم والله خبير بما تعملون في كل من :
الأولى : حال دبيب الحزن إلى نفوسكم وإنشغالكم بالهم وإستيلاء الأسى على قلوبكم بسبب الحرمان من النصر ومن الغنائم .
الثانية : مجئ الثواب بالغم من عند الله وصرف الحزن عن قلوبكم .
الثالثة : الإنتفاع الأمثل بالغم من عند الله وصرف الحزن عن المؤمنين يوم أحد .
الرابعة : وقاية المسلمين من درن النفاق والإنصات إلى المنافقين بتفضل الله عز وجل بدفع الحزن عنهم فكل آية قرآنية نازلة من عند الله هي وقاية وحرز من النفاق , وتتضمن الآية السابقة التحدي بالإخبار عن إنتفاء الحزن عن المسلمين في معركة أحد .
وعن الواقدي قال (قالوا: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم من دفن أصحابه دعا بفرسه فركبه، وخرج المسلمون حوله عامتهم جرحى، ولا مثل لبني سلمة وبني عبد الأشهل، ومعه أربعة عشرة امرأة، فلما كانوا بأصل الحرة قال: اصطفوا فنثني على الله! فاصطف الناس صفين خلفهم النساء، ثم دعا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم:
اللهم، لك الحمد كله! اللهم، لا قابض لما بسطت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت .
اللهم إني أسألك من بركتك ورحمتك وفضلك وعافيتك! اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول .
اللهم إني أسألك الأمن يوم الخوف والغناء يوم الفاقة، عائذاً بك اللهم من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت منا .
اللهم توفنا مسلمين! اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين . اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسولك ويصدون عن سبيلك.
اللهم أنزل عليهم رجسك وعذابك! إله الحق! آمين! وأقبل حتى نزل ببني حارثة يميناً حتى طلع على بني عبد الأشهل وهم يبكون على قتلاهم، فقال: لكن حمزة لا بواكي له.
فخرج النساء ينظرون إلى سلامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فكانت أم عامر الأشهلية تقول: قيل لنا قد أقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ونحن في النوح على قتلانا، فخرجنا فنظرت إليه فإذا عليه الدرع كما هي، فنظرت إليه فقلت: كل مصيبة بعدك جللٌ.
وخرجت أم سعد بن معاذ وهي كبشة بنت عبيد بن معاوية بن بلحارث بن الخزرج تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم واقفٌ على فرسه، وسعد بن معاذ آخذٌ بعنان فرسه .
فقال سعد: يا رسول الله، أمي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: مرحباً بها! فدنت حتى تأملت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقالت: أما إذ رأيتك سالماً، فقد أشوت المصيبة.
فعزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بعمرو بن معاذ ابنها، ثم قال: يا أم سعد، أبشري وبشري أهليهم أن قتلاهم قد ترافقوا في الجنة جميعاً وهم اثنا عشر رجلاً وقد شفعوا في أهليهم. قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: ادع يا رسول الله لمن خلفوا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: اللهم أذهب حزن قلوبهم واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: خل أبا عمرو الدابة. فخلى الفرس وتبعه الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: يا أبا عمرو، إن الجراح في أهل دارك فاشيةٌ، وليس فيهم مجروحٌ إلا يأتي يوم القيامة جرحه كأغزر ما كان، اللون لون دمٍ والريح ريح مسك، فمن كان مجروحاً فليقر في داره وليداو جرحه، ولا يبلغ معي بيتي عزمةً مني.
فنادى فيهم سعدٌ: عزمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا يتبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم جريحٌ من بني عبد الأشهل، فتخلف كل مجروح، فباتوا يوقدون النيران ويداوون الجراح، وإن فيهم لثلاثين جريحاً. ومضى سعد بن معاذ معه صلى الله عليه وسلّم إلى بيته، ثم رجع إلى نسائه فساقهن، ولم تبق امرأة إلا جاء بها إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فبكين بين المغرب والعشاء.
وقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين فرغ من النوم لثلث الليل، فسمع البكاء , فقال: ما هذا؟ فقيل: نساء الأنصار يبكين على حمزة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: رضي الله عنكن وعن أولادكن! وأمرنا أن نرد إلى منازلنا. قالت: فرجعنا إلى بيوتنا بعد ليل، معنا رجالنا، فما بكت منا امرأة قط إلا بدأت بحمزة إلى يومنا هذا.
ويقال إن معاذ بن جبل جاء بنساء بني سلمة، وجاء عبد الله بن رواحة بنساء بلحارث بن الخزرج، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: ما أردت هذا! ونهاهن الغد عن النوح أشد النهي.) ( ).
ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة المغرب يوم معركة أحد في المدينة , وفيه نوع تخفيف من وقع المصيبة, وهو من مصاديق آية السياق بصرف الحزن عن المسلمين . ولكن المنافقين أظهروا الشماتة وتكلموا بأقبح القول , وهو من الأذى الذي صبر عليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامنة عشرة : تقدير الآية : والله خبير بما تعملون إذ أثابكم غماً بغم لكيلا تحزنوا على ما أصابكم ) لقد أراد الله عز وجل العز والأمن للمسلمين وأثابهم بالغم ليكونوا من ذات سنخية الحزن ولكن موضوعه مختلف من جهات :
الأولى : يبعث الغم في المقام على السعي والعمل .
الثانية : الغم ناسخ للحزن ومانع من دبيبه .
الثالثة : مجئ الغم ثواباً من عند الله عز وجل .
ومن مصاديق قوله تعالى (والله خبير ) أن الله عز وجل يعلم أن الغم ينفع المسلمين في هذه الحال , وأن عدم مجيئه يجعلهم في حال ضيق وحزن وحرج ، فتفضل الله عليهم بالغم وجعله ثواباً , ترى لماذا صار الغم ثواباً ، الجواب من جهات :
الأولى : صيرورة الغم ثواباً فضل من عند الله عز وجل .
الثانية : بيان قانون وهو أن الثواب من عند الله أحسن وأعظم من الغنائم والمكاسب ، قال تعالى (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ( ).
الثالثة : بيان عظيم قدرة الله وأن القلوب والجوانح والأركان بيده سبحانه إذ يصرف الله عز وجل الغم والحزن والأذى بغم يكون ثواباً وجزاءً .
الرابعة : مواساة المؤمنين على ما أصابهم .
الخامسة : صيرورة الغم مقدمة لنزول الأمنة والنعاس .
الوجه ثانياً : من معاني ودلالات قوله تعالى [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] لحاظ مضامين آية البحث والتدبر فيها وفي عطفها على الآية السابقة وخاتمتها .
وهل يدل نظم الآيتين على تعلق العطف بخصوص ما قبل قانون [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] وتقدير الجمع بين الآيتين : فأثابكم غماً بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً , الجواب نعم , وهو من ذخائر العلم في القرآن , وهو الذي نبينه في قانون ( التعدد في المعطوف والمعطوف عليه في القرآن) ( ).
الوجه ثالثاً : من معاني (الخبير) هو العالم بكنه الشئ وذاته، الذي لا تخفى عليه حقيقته، وما يلائمه وما يضره، وهو فاعل من (خبُر).
وجاء لفظ (والله خبير) لإفادة الإطلاق، فليس من شئ من الخلائق إلا والله عز وجل عالم بسنخيته وماهيته وتقدير خاتمة الآية السابقة على وجوه:
الأول : والله خبير بكل شئ ومنه ما تعلمون.
الثاني : والله خبير بما تعملون وما يعمله عدوكم، فيجعل الله عز وجل النصر لكم.
الثالث : والله خبير بما يحل بكم لولا دعاء الرسول لكم وإثابتكم بالغم.
الرابع : أشكروا الله عز وجل على ما جرى لكم في معركة أحد لأن الله خبير بما تعملون بعدها، وما تعملون لو لم تقع هذه المعركة.
وهل وقوع معركة أحد أنفع للمسلمين أم العكس هو الصحيح، فيه وجوه:
أولاً : وقوع معركة أحد هو الأصلح والأنفع لخصوص المهاجرين والأنصار , قال تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] ( ).
ثانياً : إنها نفع وخير للتابعين وتابعي التابعين إلى قيام يوم الدين.
ثالثاً : لقد نزلت مصيبة بالمسلمين بواقعة أحد، ففيها أذى وضرر.
رابعاً : وقوع معركة أحد خير محض ونفع للمهاجرين والأنصار وعموم المسلمين وإلى يوم القيامة.
والمختار هو الأخير أعلاه، وكل آية نزلت بخصوص معركة أحد هي موعظة ودرس.
فان قلت هناك تباين بين الذين خاضوا غمار معركة أحد من الصحابة وبين الذين جاءوا من بعدهم ويتزودون من جهادهم ويتعلمون من صبرهم، وينهلون من فيوضات الآيات التي نزلت بخصوص معركة أحد من غير أن يذوقوا حر السيوف أو يتعرضوا للحتوف، وهذا صحيح، ولكن النعم والثواب الذي ناله المجاهدون الذين خاضوا معركة أحد عديدة وكثيرة منها:
الأول : نيل شرف القتال تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآلله وسلم.
الثاني : الإرتقاء الى مرتبة صحبة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميادين القتال.
الثالث : تلقي دعوة الرسول بقوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ].
الرابع : الفوز بالعفو من عند الله، كما ورد قبل آيتين[وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ].
الخامس : إكرام أجيال المسلمين للمؤمنين الذين شاركوا وقاتلوا في معركة أحد.
السادس : الصبر والتحلي بالتقوى، والوقاية من الرجوع مع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول .
الوجه الثالث : يفيد الجمع بين الآيتين تجلي صفحة وباب للجهاد للمؤمنين بين صفوفهم، ووجود أعداء وحاسدين لهم بين ظهرانيهم يحرصون على إخفاء حسدهم وعداوتهم وإبطانهم الكفر والضلالة، إذ أنهم يخفونها ويسترونها لذا ذمهم وتوعدهم الله عز وجل وقال [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
ليدب الغم إلى نفوس المؤمنين بسبب الخسارة في معركة أحد، وبسبب إيذاء المنافقين لهم، وحرصهم على عدم كشف ما يخفون في أنفسهم من الكفر والعداوة والتربص بأهل الإيمان، فجاء الغم من عند الله مواساة وتخفيفاً وصرفاً لذات الغم الذي يأتي بسبب أذى المنافقين، وفيه نكتة وهي أن مجئ الغم من عند الله برزخ دون الحزن والأسى.
ويدل قوله تعالى[فَأَثَابَكُمْ] على قرب رحمة الله من المؤمنين، وأنه سبحانه معهم وناصر لهم، مما يدل بالدلالة الإلتزامية على سلامتهم ونجاتهم من مكر وكيد المنافقين .
إعجاز الآية الذاتي
لقد إبتدأت الآية بأمرين :
الأول : حرف العطف (ثم) .
الثاني : نزول نعمة مخصوصة لبيان قانون وهو كما تأتي الآية القرآنية معطوفة على الآية التي قبلها فانها تتضمن النعمة المتعقبة والتالية لنعمة أخرى تضمنت ذكرها الآية السابقة ، وتحتمل النعم في الآية القرآنية وجوهاً :
أولاً : تتضمن كل آية قرآنية نعمة على المسلمين .
ثانياً : عدم الملازمة بين الآية القرآنية ونزول النعمة فيها .
ثالثاً : التعدد والتفصيل في النعم التي تنزل مع الآية القرآنية ، فمنها ما تكون لأهل البيت والصحابة ، ومنها ما تكون لعموم المسلمين ، ومنها ما يكون للناس جميعاً .
رابعاً : تعدد النعم التي تتضمنها الآية القرآنية .
والصحيح هو الأخير ، فليس من حصر للنعم التي تأتي في الآية القرآنية ، ومنها آية البحث ومن النعم فيها :
الأولى : نزول نعمة الأمنة .
الثانية : نزول نعمة النعاس .
الثالثة : إجتماع نعمة الأمنة والنعاس .
الرابعة : إختصاص المؤمنين بنعمة الأمنة والنعاس .
الخامسة : بيان آية البحث لعلة وسبب حرمان المنافقين من نعمة الأمنة والنعاس .
السادسة : صدور الأمر من عند الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم للإحتجاج على المنافقين .
السابعة : تكرار الأمر من عند الله (قل) ويحتمل تقديره وجوهاً:
الأول : يا أيها الرسول قل .
الثاني : يا أيها المؤمنون الذين فازوا بنعمة الأمنة النعاس قولوا.
الثالث : يا أيها الذين آمنوا من عموم المسلمين والمسلمات قولوا.
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق آية البحث .
لقد أخبرت آية البحث عن نزول الأمنة والنعاس ، وفيه وجوه :
الأول : إتحاد موضوع النزول وأن ذات النعاس هو أمنة , وتقدير الآية :
أولاً : ثم أنزل عليكم من بعد الغم نعاساً يكون أمنة .
ثانياً : من معاني ومفاهيم الأمنة أنها نعاس وتتجلى بالنعاس .
ثالثاً : ترشح النعاس عن الأمنة ، وتقدير الآية : ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة يترشح ويتفرع عنها النعاس .
الثاني : تعدد موضوع النزول ، بأن يكون الأمنة أمراً مستقلاً بذاته ، والنعاس أمراً مستقل بذاته .
ولا تعارض بين الوجهين ، وهو من إعجاز لغة الخطاب والسبر والتقسيم في ذات اللفظ القرآني الواحد ، ولبيان قانون وهو أن النعمة التي تأتي من عند الله لا تقدر عليها الخلائق وإن إجتمعت ، كما تعجز عنها العلوم التقنية والطبية المستحدثة والتي توجد في الأزمنة اللاحقة .
فيمكن أن يطرأ النعاس على الإنسان بالعقاقير المناسبة ، ولكن الأمنة لا تصاحبه بل بالعكس فان تلك العقاقير لا تخلو من مضاعفات جانبية , ترى ماذا لو كانت النعمة أمنة وحدها , الجواب تحتمل حال المسلمين في ساحة المعركة حينئذ وجوهاً :
الأول : الإندفاع نحو العدو لقتاله ثقة بالأمنة من عند الله ، فقد نال المسلمون نعمة صدق وعد الله في بداية المعركة .
الثاني : لما إنهزم أكثر المسلمين جاءتهم نعمة نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يحثهم للرجوع إليه بقوله (إلي عباد الله إلي عباد الله ) .
وكأنه يقول لهم : لقد إنهزمتم من ميدان المعركة بعد هجوم الذين كفروا فأرجعوا إلي فانه ليس من معركة أو حرب بعدئذ ، ولكن هذا المعنى لم يستبن لهم إلا بعد أن عادوا والتفوا حوله مستعدين للقتال ، والسبب أن نداء العودة للمعركة من المسائل الإبتلائية .
فأراد الله ورسوله التخفيف عنهم ، فجاء نداء العودة لذات الموضع الذي فيه شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع عدم تجدد القتال بعد تلك الدعوة .
الثالث : بقاء الخوف من مداهمة وهجوم العدو من جديد ، فمن الإعجاز في نظم الآيات أنها لم تذكر الخوف من تجدد هجوم الذين كفروا مع كثرتهم وكثرة مؤنهم وإصرارهم على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاء تقييد الأمنة بالنعاس للتوقي من هجوم العدو وبطشه .
الرابع : إستحضار المسلمين أسباب الخسارة , وإظهارهم الحزن والجزع على الشهداء الذين سقطوا في المعركة.
الخامس : كثرة التلاوم بين المسلمين، وتوجيه العتاب إلى الرماة الذين تركوا مواضعهم.
السادس : الإستماع إلى شكوك المنافقين وإستحضار قول عبد الله ابن أبي بن أبي سلول : ( ما ندرى علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس( ).
السابع : إظهار المسلمين علامات الأمن بالقاء السلاح، والميل إلى الراحة، وإغراء الذين كفروا بهم.
الثامن : قلة إحتراز المسلمين من جيش العدو.
التاسع : تنمية ملكة الرجوع إلى سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصدور عما يأمر به في حال الأمن وضده من أسباب الخوف والقتال والحاجة إلى المرابطة .
العاشر : رجاء المسلمين تجدد صدق وعد الله لهم بحسهم وقتلهم للذين كفروا.
الحادي عشر : التفصيل وحدوث الإختلاف بين المسلمين أو في فعلهم، فمنهم من يندفع نحو العدو لقتاله كما تقدم في الوجه الأول أعلاه، ومنهم من يظهر الحزن , أو يكثر التلاوم , أو يلقي السلاح.
ولا تعارض بين هذه الوجوه من جهة إحتمال الوقوع والتفصيل، وما فيه من المشقة والحرج ، فأراد الله عز وجل للمسلمين السكينة والإنتفاع الأمثل من نعمة الأمنة فتفضل عليهم باقتران النعاس مع الأمنة لسلامتهم , وفتح آفاق من النعم والفيوضات عليهم، من وجوه:
الأول : المجاهدون الذين في ساحة معركة أحد.
الثاني : المؤمنون الذين يخرجون لمعارك الإسلام اللاحقة.
الثالث : المسلمون والمسلمات من أهل المدينة.
الرابع : المسلمون والمسلمات أيام التنزيل ، والنسبة بينهم وبين المسلمين المذكورين أعلاه هي نسبة العموم والخصوص المطلق، إذ أن المسلمين أيام التنزيل أكثر عدداً .
ولم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى حتى نزل قوله تعالى[ إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أوان نزولها، إذ أنها نزلت في مكة بعد فتحها ودخول الناس في الإسلام.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة حنين أنزل عليه { إذا جاء نصر الله والفتح}( )، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا علي بن أبي طالب ، يا فاطمة بنت محمد جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبحان ربي وبحمده واستغفره إنه كان توابا.
وأخرج الخطيب وابن عساكر عن علي عليه السلام قال : نعى الله لنبيه صلى الله عليه وسلم نفسه حين أنزل عليه { إذا جاء نصر الله والفتح } فكان الفتح سنة ثمان بعدما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما طعن في سنة تسع من مهاجره تتابع عليه القبائل تسعى فلم يدر متى الأجل ليلاً أو نهاراً ، فعمل على قدر ذلك فوسع السنن ، وشدد الفرائض ، وأظهر الرخص ، ونسخ كثيراً من الأحاديث ، وغزا تبوك ، وفعل فعل مودع ( ).
ومن إعجاز آية البحث الذاتي أنها إبتدأت بالإخبار عن نزول الأمنة النعاس على المؤمنين في بداية المعركة وبعد الغم , ثم أخبرت عن إختصاص طائفة من المؤمنين بنعمة الأمنة النعاس بقوله تعالى[يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ]( )، لبيان حرمان المنافقين والذين كفروا من النعم في ميدان المعركة .
وإن قيل لماذا يحرم المنافقون من تلك النعم وهم يحضرون الصلاة، ويخرجون مع المؤمنين للقتال، فجاءت الآية بالجواب وأقامت البرهان على إختيارهم التخلف عن بلوغ المراتب التي تنال بها هذه النعم.
ويمكن تسمية آية البحث آية (ثم أنزل عليكم) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في آية البحث.
وورد لفظ (ثم أنزل) مرة أخرى في قوله تعالى[ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
إعجاز الآية الغيري
إبتدأت آية البحث بحرف العطف (ثم) لبيان التراخي في العطف، وهل يبعث هذا العطف وأداته على التراخي والتباطئ في التدبر في الصلة بين هذه الآيات ، الجواب لا ، إذ يبين حرف (ثم ) التداخل الموضوعي بين هذه الآيات بلحاظ أنه للعطف .
ومن إعجاز الآية مجئ نبأ النزول بعد حرف العطف (ثم) من غير تراخ أو فترة ، فبعد أن أخبرت الآية السابقة عن تفضل الله عز وجل بدفع الحزن الذي يترشح عن الخسارة وفوات الغنائم في واقعة أحد .
جاءت آية البحث بنبأ نزول نعمة الأمنة والنعاس على المسلمين، وقد أخبر القرآن بآيات عديدة نزول القرآن من عند الله ، قال تعالى [وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ) كما أخبر القرآن عن نزول المطر والغيث رحمة من عند الله من ، قال سبحانه [وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ]( ).
وأخبرت آية البحث عن كنز نازل من السماء يتعلق بالأبدان وهو الأمنة والنعاس ولأنه شرف ونعمة عظمى إختص الله عز وجل بها المؤمنين في ساعة الشدة والمحنة , ويتجلى هذا الإختصاص والحصر بقوله تعالى [أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ] أي أنزل الله عليكم من بين أهل الأرض أمنة نعاساً ، فصار المسلمون يفتخرون بهذا التنزيل , وجاءت آية البحث لتكون هذه النعمة إرثاً عقائدياً لكل المسلمين والمسلمات .
وهل يمكن القول بأن كل جيل من المسلمين يتنعم بنعمة الأمنة والنعاس في كل شدة وضيق وعسر فتمتلأ نفوسهم بالسكينة الجواب نعم ، وهو من أسرار بقاء النعم في الأرض ، وإختصاص المسلمين بنعمة الأمنة والنعاس ، لذا ترى الأمن يتغشى المسلمين مجتمعين ومتفرقين عند أداء الصلاة اليومية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
وتبعث الآية على إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية بالعلم بتعدد مصاديق وأفراد النعم النازلة من عند الله عز وجل بلحاظ قانون يتغشى الحياة الدنيا , وهو كل آية قرآنية إرتقاء للمسلمين في المعارف الإلهية , ويحتمل هذا الإرتقاء وجوهاً :
الأول : إرتقاء كل مسلم ومسلمة في المعارف .
الثانية : إرتقاء المسلمين كأمة ، وإحاطتهم بالسنن والعلوم .
الثالثة : إرادة المعنى الأعم الجامع ، إذ ترتقي الأمة ويسمو الأفراد منها في سلم المعرفة .
والصحيح هو الأخير ، وهو من أسرار تشريع وجوب الصلاة على المسلمين والمسلمات خمس مرات في اليوم والليلة والإستحباب المؤكد لصلاة النافلة .
ولما أخبرت آية البحث عن نزول الأمنة والنعاس فانها تدعو المسلمين للدعاء لتوالي نزول آيات القرآن بلحاظ أن كل آية نعمة قائمة بذاتها , ويدل عليه أمور :
أولاً : إنتفاع المسلمين في كل زمان من الآية القرآنية .
ثانياً : إتخاذ المسلمين الآية القرآنية إماماً .
ثالثاً : إحتجاج المسلمين بالآية القرآنية .
رابعاً : تجلي قانون وهو عجز الذين كفروا عن الطعن بالقرآن .
خامساً : إنتفاء التزاحم والتعارض بين آيات القرآن .
سادساً : كفاية القرآن للناس في العبادات والمعاملات والأحكام، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) وهل من وجوه الكفاية هذه تسليم المسلمين بعدم حاجة الناس إلى تنزيل آخر بعد القرآن ،الجواب نعم ، وهو من فضل الله بأن يقيم الحجة على الناس بلحاظ المدارك العقلية والأمور الحسية مجتمعة ومتفرقة ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
لقد إنشغل المنافقون بسلامتهم ونجاتهم من القتل والقتال يوم أحد ، فجاءت آية البحث بذمهم وأيهما أشد على الإنسان الذم في الكتاب الباقي إلى يوم القيامة أم المشاركة في القتال في سبيل الله في يوم مخصوص .
الجواب هو الأول ، فقد تضمنت آية البحث ذم المنافقين في ذات الوقت الذي تثني فيه على المؤمنين .
وذم المنافقين في آية البحث نعمة على كل من :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما في آية البحث من حث جميع الصحابة على التنزه عن النفاق .
الثاني : المؤمنون الذين تتغشاهم الأمنة والنعاس لدلالته على سلامتهم من النفاق والإنشغال بأنفسهم وسلامتهم وجمع الغنائم .
الثالث : إنه نعمة على ذات المنافقين من جهات :
الأولى : إرادة الآية تأديب المنافقين .
الثانية : حث المنافقين على نبذ وترك النفاق .
الثالثة : إخبار المنافقين بأن الله عز وجل يعلم ما في قلوبهم وأنه سبحانه يطلع أجيال المسلمين عليه .
الرابعة : بيان علة حرمان المنافقين من الفوز بنعمة الأمنة والنعاس .
ومن أسرار هذه الآية أنها تبعث المسلمين على الإخلاص في طاعة الله، وبذل الوسع والتفاني في الجهاد في سبيل الله من جهات:
الأولى : توالي النعم على المؤمنين في ميدان القتال .
الثانية : صيرورة النعم التي تأتي للمسلمين في المعركة نوع طريق للنصر والحفظ والسلامة , ويدل عليه قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ) .
لتدل الآية أعلاه بالدلالة التضمنية على بذل المؤمنين الوسع في القتال وخروجهم سالمين منه ، وفوز الشهداء بالمنزلة الرفيعة عند الله عز وجل .
الثالثة : إنقضاء القتال وعودة المؤمنين إلى المدينة ولكن النعمة التي تنزل عليهم تبقى لا تغادرهم , ومن وجوه عدم مغادرتها توثيقها في القرآن إلى يوم القيامة .
الرابعة : تذكير آية البحث بالأجل المحتوم ، قال تعالى [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ).
الآية سلاح
من إعجاز الآية القرآنية أن موضوع التسلح فيها على وجوه :
أولاً : الوقاية والتوقي بالآية القرآنية من الشرور وأسباب الضلالة .
ثانياً : الإحتراز من المعاصي والسيئات .
ثالثاً : وقاية الإيمان والمؤمنين ، فلا تختص الوقاية بذات الأشخاص والأفراد في ذاتهم وأفعالهم بل تشمل العقيدة ومبادئ التوحيد ومنافع الأمة .
رابعاً : مصاحبة الآية القرآنية للمسلمين متحدين ومتفرقين ، وهو من ذخائر تلاوة آيات القرآن في الصلاة ووجوبها .
خامساً : تشع الآية القرآنية بالأنوار على حاملها وتاليها لتضئ له دروب الهداية ، وهو من مصاديق ما ورد في التنزيل [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
وإبتدأت آية البحث بحرف العطف (ثم) وهو سلاح للمسلمين لأنه جاء بعد الأمن والسلامة من الحزن والكدورات الذي ذكرته الآية السابقة بقوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ]( ) ومن خصائص الفضل الإلهي أنه يأتي بالجملة مجتمعاً ومتفرقاً ودفعة وعلى نحو التدريج , فتضمنت الآية السابقة الإخبار عن دفع الحزن الذي قد يترشح يوم معركة أحد عن أمور:
الأول : فوات الغنائم .
الثاني : كثرة شهداء الإسلام إذ سقط سبعون شهيداً .
الثالث : جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : شدة وتعدد جراحات المسلمين.
ولم تذكر الآية السابقة الأمن مما يجري لاحقاً بلحاظ تعلق الحزن بما مضى ، أما ما يداهم الإنسان من البلاء والمصائب في قادم الأيام فيترشح عنه الخوف لذا ورد في بشارة المؤمنين بحسن الإقامة في الآخرة قوله تعالى [فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) .
وبعد أن أختتمت الآية السابقة بنجاة المسلمين من الحزن جاءت آية البحث بسلامتهم من الخوف فتفضل الله عز وجل وألقى عليهم أمنة نعاساً ، وهل تنفع الأمنة النعاس في السلامة من الحزن , الجواب نعم ، ليكون من فضل الله تعدد أسباب الوقاية والسلامة من الحزن خاصة وأن المعركة مستمرة ، وأن فرار أكثر المؤمنين لم يضع حداً لها , ولم ينتفع منه جيش الذين كفروا .
ومن الآيات في المقام أن نداء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه وإستجابتهم له بالعودة إلى ميدان المعركة من أسباب السلامة من الحزن إلى يوم القيامة بخصوص قتال المسلمين في معركة أحد .
فقد تحزن الأجيال اللاحقة عند العلم بفرار أكثر الصحابة وترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونفر من أهل بيته وأصحابه يقاتلون نحو ثلاثة آلاف من الذين كفروا حتى صاروا يرمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحجارة عن قرب ليكون هذا الرمي مقدمة للإجهاز عليه ومن بقي معه لما فيه من تجرأ الذين كفروا وتعاونهم ومناجاتهم بالباطل لولا أن يمن الله عز وجل عليه بنزول الملائكة لنصرته والمؤمنين , ودعوته لأصحابه للعودة وبعث الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين إقتباس المواعظ والدروس من جهات :
الأولى : وقائع معركة أحد والمواعظ فيها كثيرة ومتعددة.
الثانية : إستشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالخروج للقاء العدو أو اللبث في المدينة وقتالهم فيها ، وإختياره الخروج للقائهم .
الثالثة : ثبات صرح دولة الإسلام مع كثرة قتلى المسلمين في معركة أحد ، في بداية نشوئها لإدراك المسلمين لفلسفة الشهادة والأجر والثواب العظيم الذي ينتظر الشهيد ولتجلي بركة الشهادة على ذرية وخلف الشهيد .
الرابعة : كل شطر آية قرآنية ورد بخصوص معركة أحد موعظة وسلاح للمسلمين في كل زمان ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : الآية القرآنية التي تخص معركة أحد سلاح .
الثاني : الآيات القرآنية الخاصة بمعركة أحد مجتمعة سلاح .
الثالث : كل شطر من الآية القرآنية التي تخص معركة أحد سلاح منفرد .
الرابع : كل شطر من الآية القرآنية التي نزلت خاصة بمعركة أحد في موضوعها أو سبب نزولها سلاح متعدد .
وبإستثناء الوجه الثالث أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها صحيحة ، إذ تتعدد معاني الوقاية والسلاح في كل شطر من آية البحث خاصة وأنها جاءت على وجوه :
الأولى : عطف الآية على الآية السابقة .
الثاني : توجه الخطاب في بداية الآية بصيغة العموم .
الثالث : نسخ الغم وتبديله بنزول الأمنة والنعاس ، وكل فرد من المنسوخ والناسخ المتعدد سلاح .
الرابع : ذكر المنافقين والذين شغلتهم أنفسهم في ساحة المعركة بصيغة الذم والتحذير منهم ومن ذات فعلهم في حال الحرب والسلم .
الخامس : تقسيم الظن , وذكر فرد منه هو ظن الجاهلية وما يترتب عليه من الضرر للفرد والجماعة ، وإتصافه بخصوصية وهي أنه خلاف الحق ولزوم الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، لبيان نعمة نازلة إلى الناس ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أن القرآن حرب على الجاهلية وأنه جاء لترغيب الناس بالإيمان بالله وعظيم قدرته وبديع صنعه وسعة سلطانه .
وتنزههم وإلى يوم القيامة من عبادة الطواغيت ومن سوء الظن بالله عز وجل .
السادس : توثيق آية البحث لحال الشك والوهن التي عليها المنافقون يوم معركة أحد ، وذكر قولهم : هل لنا من الأمر من شيء).
وهل ينحصر ما يبثون من أسباب الشك والريب وسوء الإعتذار بهذا الكلام أم أن الآية ذكرته من باب المثال الأمثل ، الجواب هو الثاني ، وهو من الإعجاز في آية البحث وفيه ترغيب بالرجوع إلى السنة النبوية ، ومعرفة ما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المنافقين ومع هذا فهو لم ينتقم منهم ، ولم يسع للبطش بهم لإستئصال النفاق بل جاءه الأمر من عند الله بالإحتجاج عليهم بالقول (قل) .
وهل من مفاهيم قوله تعالى [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ]منع للنبي محمد صلى الله عليه وآلة وسلم من عقاب المنافقين والذين إنسحبوا من وسط الطريق إلى معركة أحد ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي) ( ) من جهات :
الأولى : تفضل الله بتعيين فعل وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال السراء والضراء .
الثانية : صيرورة المؤمنين مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حربه ضد النفاق ، فمن معاني [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ]دعوة المسلمين جميعاً للتسليم بأن أمر الحرب والسلم والمهادنة كله بيد الله عز وجل ، وكذا خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لملاقاة العدو في معركة بدر أو أحد وبقائه في المدينة في معركة الخندق .
الثالثة : من معاني لفظ (قل) في آية البحث الوعد الكريم من عند الله بأن القول والإحتجاج كاف لدفع ضرر المنافقين ، وحثهم على التوبة والإنابة .
الرابعة : سلامة وعصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إستحواذ النفس الغضبية والشهوية .
الخامسة : منع المسلمين من الحث على البطش بالمنافقين وإقصائهم وعزلهم وقطع المعاملة معهم ، إذ أن لفظ (قل) كان للحجة على الجميع ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، أي الحجة التي تتصف بالتمام والقطع والكفاية على الخلق فتأتي الآية القرآنية لتكون حجة للمؤمن وحجة على الكافر فيكتفي المؤمنون بلفظ [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] ويدرك المنافقون قصورهم ومعصيتهم بأصرارهم على إبطان الكفر ، وعلى الإعتذار بأسباب واهية من أجل التخلف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في باب الجهاد .
لقد أراد الله عز وجل بالأمر الصادر منه بلفظ (قل) بقاء سلاح القول والإحتجاج به بيد المسلمين إلى يوم القيامة ، ومن الآيات تفضل الله عز وجل تكرار لفظ (قل) في آية البحث مع بيان موضوعه [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] [قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ].
لقد كشفت آية البحث قانوناً يصبغ قول وفعل المنافقين وهو التباين والتضاد بين قولهم الحسن وسوء سريرتهم كما ورد في قوله تعالى[يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا للاَ يُبْدُونَ لَكَ] ليبقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون في حيطة وحذر من أهل النفاق والشقاق .
وفي الآية تذكير للمنافقين والناس جميعاً بأن الله يعلم ما تخفي الصدور والصلة ونوع الرتبة بين القول وما تضمره السرائر، وهل في الآية سلاح لتنزه عموم المسلمين من النفاق , الجواب نعم .
منافع قانون الآية سلاح
لقد شرعنا في هذا السفر (معالم الإيمان في تفسير القرآن) بتأسيس علم (الآية سلاح) وإفراد باب ومبحث خاص في تفسير كل آية من القرآن لبيان كيف أنها سلاح ، ليقوم العلماء في الأجيال اللاحقة بالتوسعة فيه ، ووضع ضوابط وقواعد له ، ويمكن تقسيم هذا العلم إلى أقسام :
الأول : تعلق موضوع المدد والسلاح بذات الآية محل البحث .
الثاني : إقتباس مسائل هذا العلم بلحاظ الآيات المتجاورة سواء إتحد موضوعها أو تعدد لأمور :
أولاً : صبغة القرآنية التي تتصف بها كل آية .
ثانياً : إستقراء أسرار المجاورة بين آيات القرآن ، فقد يبدو للوهلة الأولى أو حسب الظاهر إختلاف في موضوع آيتين أو ثلاثة آيات متجاورة ، ولكن عند التدبر في مضامينها القدسية تتجلى وجوه من الإلتقاء والصلة الموضوعية أو الحكمية بين هاتين الآيتين أو الآيات المتجاورة.
فتكون هذه الوجوه سلاحاً بيد المسلمين كما في آية البحث وما جاورها من الآيات .
ثالثاً : التدبر في ذخائر المدد وعناوين السلاح عند البيان والتفسير عند الجمع بين كل آيتين، ليكون موضوع أو حكم مخصوص جامعاً بينها .
ولم يرد لفظ (سلاح) في القرآن نعم ورد لفظ (أسلحتكم) مرتين(وأسلحتهم) مرتين، وفيه مسائل:
الأولى : وردت هذه الألفاظ الأربعة في آية واحدة وهي الثانية بعد المائة من سورة النساء.
الثانية : يتعلق موضوع هذه الآيات بخصوص المسلمين.
الثالثة : تشريع صلاة الخوف في هذه الآية.
الرابعة : بيان قانون هو أن نصر المسلمين حتم لأنهم يتلقون دروس وفنون القتال من عند الله، قال تعالى[وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ]( ).
فتتجلى معاني السلاح في المقام من جهات :
الأولى : ذات الآية سلاح .
الثانية : الجمع بين الآيات المتحدة في موضوعها سلاح وعون للمسلمين .
الثالثة : التدبر في إتحاد موضوع آيتين من سورتين من سور القرآن ، وقد تجد آيتين متشابهتين في اللفظ متغايرتين في المعنى والدلالة عند لحاظ الآيات المجاورة لها ، كما في قوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ] ( ).
الرابعة : التعدد في الموضوع في الآيات المتجاورة سلاح للمسلمين .
الخامسة : من إعجاز القرآن مجئ أول الآية بموضوع ووسطها بموضوع ، وآخرها بموضوع آخر لتكون معاني علم الآية سلاحاً متعدداً، وهو مناسبة لإستنباط الأحكام والمسائل منه .
كما يمكن تقسيم علم (الآية سلاح) إلى قسمين :
القسم الأول: الآية القرآنية سلاح في الدنيا ، فمن إعجاز الآية القرآنية أنها صاحب كريم ينير الدرب لقارئها وحافظها وتكون حاضرة مع المؤمن في أحواله المختلفة ، وإماماً في أموره الإجتماعية والمعاشية ، وهل يصح القول أن الآية القرآنية سلاح لسامعها الجواب نعم .
القسم الثاني : الآية القرآنية سلاح في الآخرة ، وفيه وجوه :
أولاً : الآية القرآنية صاحب واقية وعون للمؤمن في القبر , وسبيل نجاة من عذاب البرزخ وبخصوص سورة الملك .
ورد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أن رجلاً ممن كان قبلكم مات وليس معه شيء من كتاب الله إلا تبارك الذي بيده الملك ، فلما وضع في حفرته أتاه الملك فثارت السورة في وجهه .
فقال لها : إنك من كتاب الله ، وأنا أكره شقاقك ، وإني لا أملك لك ولا له ولا لنفسي ضراً ولا نفعاً ، فإن أردت هذا به فانطلقي إلى الربّ فاشفعي له ، فانطلقت إلى الرب ، فتقول : يا رب إن فلاناً عمد إليّ من بين كتابك فتعلمني وتلاني ، أفمحرقه أنت بالنار ومعذبه وأنا في جوفه؟ فإن كنت فاعلاً به فامحني من كتابك .
فيقول : ألا أراك غضبت , فتقول : وحق لي أن أغضب ، فيقول : اذهبي فقد وهبته لك ، وشفعتك فيه ، فتجيء سورة الملك فيخرج كاسف البال لم يحل منه شيء فتجيء فتضع فاها على فيه ، فتقول : مرحبا بهذا الفم فربما تلاني .
وتقول : مرحباً بهذا الصدر فربما وعاني ، ومرحباً بهاتين القدمين فربما قامتا بي ، وتؤنسه في قبره مخافة الوحشة عليه فلما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث لم يبق صغير ولا كبير ولا حر ولا عبد إلا تعلمها ، وسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم المنجية ( ).
ثانياً : حضور الآية القرآنية مع المؤمن في الحساب ، ليكون حضورها هذا من مصاديق قوله تعالى [مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
ثالثاً : لقد وردت الشفاعة في القرآن وهي معلقة على الإذن من عند الله عز وجل ، فان قلت جاءت الشفاعة بصيغة المذكر السالم وإرادة التقييد لقوله تعالى [وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى]( ), وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء( ).
فهل تخرج الآية القرآنية بالتخصص أو التخصيص عن مضامين آية الشفاعة أعلاه ، الجواب لا ، إنما وردت الآية والخبر للفرد الغالب وفي موضوع مخصوص , وقد أخبرت السنة النبوية عن حضور شفاعة الآية القرآنية في عالم الحساب بما يبين حاجة الإنسان لها في الآخرة ، ونفعها العظيم للمؤمن بدفع أهوال يوم القيامة ، والأمن من الفاقة .
إن إستقراء المسائل التي تدل على أن الآية القرآنية عون وسلاح من فضل الله عز وجل في جعل هذه التلاوة واجباً عينياً على كل مسلم ومسلمة .
وهل يشترط في إعانة وشفاعة الآية القرآنية للمسلم إستحضاره لقصد إعانتها وشفاعتها له سواء في الدنيا أو الآخرة الجواب لا ، إنما تجزي التلاوة بقصد القرآنية والقراءة في الصلاة طاعة لله عز وجل وقصد القربة إليه.
وهل يتحد الموضوع المستقرأ من كون الآية سلاحاً في كل آيات القرآن أم أن كل آية لها خصوصية في هذا الباب.
الجواب لا تعارض بين الأمرين ، إذ تتحد آيات القرآن في أبواب من هذا العلم.
وتنفرد كل آية بعلوم وأبواب خاصة بها ، وهو من كنوز القرآن وعلومه اللامتناهية إذ تطل علينا كل آية من القرآن بصفحات من التوقي وأسباب من الإحتراز الظاهر والخفي ، وعن الزهري قال : سمعت علي بن الحسين عليه السلام يقول : آيات القرآن خزائن العلم فكلما فتحت خزانة فينبغي لك أن تنظر فيها)( ).
ومن مصاديق الخزينة في المقام إستحضار الآية القرآنية كسلاح، وإستقراء المسائل منها لتكون حرزاً وواقية ومدداً.
وتحتمل الآية القرآنية في دلالتها ومعانيها في باب السلاح وجوهاً:
أولاً : الآية سلاح متحد من جهة الحضور ، فتحضر عند المؤمن مرة واحدة وعليه إذا أراد أن يستعين بالقرآن في مرات لاحقة يلجأ إلى آية قرآنية أخرى بحسب الموضوع واللحاظ .
ثانياً : كل آية قرآنية سلاح متعدد يصاحب المسلم في آنات حياته وأحواله المختلفة.
ثالثا : تعدد الآيات التي تكون سلاحاً في الموضوع المتحد.
رابعاً : تدعو ذات الآية القرآنية المسلم لتكون سلاحاً بيده وضياء ينير دربه , وهو من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
وهي عون ومنهاج مبارك لإصلاح النفس ، وتهذيب عالم الأقوال والأفعال .
ويمكن تقسيم باب الآية سلاح إلى أقسام بلحاظ مضامين ذات الآية القرآنية :
أولاً : أول الآية سلاح ، وفيه بيان إنتفاع المسلم من أول الآية منطوقاً ومفهوماً ، وإبتدأت آية البحث بقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا]ليكون سلاحاً ، خلافاً لماهية النعاس وأنه سبب للكسل والتكاسل وقد تفوت الفرص والمكاسب بالنعاس ، فقيدت آية البحث النعاس في المقام بأنه أمنة .
ولو صار المسلم في شدة وضيق وضراء فهل يختار ذات النعاس ويميل إليه للنجاة من الغم والهم والحزن ، الجواب لا ، لأن النعاس الذي تذكره آية البحث نعمة ورحمة وحلّ محل الغم، وليصبح واقية من الحزن والأسى بسبب ما فات المسلمين .
ثانياً : وسط الآية القرآنية سلاح، بلحاظ المضامين القدسية للآية.
ثالثاً : خاتمة الآية القرآنية سلاح وعون وقانون ينفع في إرتقاء المسلم في منازل الهداية.
مفهوم الآية
جاء حرف العطف (ثم) في أول آية البحث ، لبيان رحمة الله بالمؤمنين وتغشيهم برأفته ، وعدم تركهم يواجهون الذين كفروا بمفردهم .
لقد آمن المهاجرون والأنصار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليواجهوا الحرب من جيوش الذين كفروا وبما يفوق قدراتهم وما عندهم من المؤن والأسلحة ، كما كانت المدينة المنورة تأن من وطأة وهجرة المسلمين إليها وما يلزم لهم من الطعام واللباس ، ومع هذا لم يقم المسلمون بالغزو ولم يطلبوا القتال ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر يرجو إجتناب القتال وعدم وقوعه ، وكان يشاهد ويرقب معسكر كفار قريش ويأمل إنصرافهم من غير قتال .
وحينما أقبلت قريش إلى ميدان المعركة إستقبلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء والمسألة من عند الله بالنصر والغلبة له وللمسلمين ، إذ قال (قَالَ اللّهُمّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا ، تُحَادّك وَتُكَذّبُ رَسُولَك ، اللّهُمّ فَنَصْرَك الّذِي وَعَدْتنِي ، اللّهُمّ أَحِنْهُمْ الْغَدَاةَ .
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ- ( وَقَدْ ) رَأَى عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ فِي الْقَوْمِ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ – إنْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنْ الْقَوْمِ خَيْرٌ فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ إنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدُوا) ( ).
ثم نادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام وقال له : ناد حمزة إذ كان أقربهم إلى المشركين :
من صاحب الجمل الأحمر ؟ أي أنه لم يستدع حمزة ويسأله بل وجه له السؤال وهو في موضعه وقربه من العدو كيلا يظن العدو حصول الفزع والخوف عند المسلمين ولا يرتبك ويحصل الخلل في النظام والضبط في جيش المسلمين .
فقال حمزة (هو عتبة بن ربيعة وهو ينهى عن القتال ويأمر بالرجوع ويقول يا قوم أعصبوها اليوم برأسي وقولوا جبن عتبة وأبو جهل يأبى ذلك ) ( ).
ومن مفاهيم قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ]أن المسلمين خرجوا إلى القتال في معركة أحد وهم بعين الله ، وهو الذي يمدهم بأسباب الأمن , وبين الأمن والنصر عموم وخصوص مطلق ، فكل نصر هو أمن وليس العكس ، والنصر بذاته أمن وهو مقدمة للأمن ، وكذا فان الأمن مقدمة للنصر من غير تعارض أو تزاحم بينهما لذا فان إخبار الآية عن نزول الأمن والنعاس بشارة النصر والفتح وهو من معاني نزولهما من السماء ، وكما ينزل الأمن فان الفتح ينزل من عند الله عز وجل .
وهل تدل الآية في مفهومها على نزول نعم أخرى غير الأمن والنعاس , الجواب نعم ، وهو من أسرار العطف في آية البحث
إفاضات الآية
لقد نزل القرآن بمعاني الرحمة والعفو من عند الله , ووردت الأسماء الحسنى التي تخص الرحمة والرأفة من عند الله أكثر من غيرها لبيان قانون وهو أن القرآن كتاب الرحمة وسبب للرحمة وموضوع للرحمة وتترشح عن كل آية منه شآبيب الرحمة على الموجود والمعدوم وعلى الأحياء والأموات ، وهل يصح تسمية القرآن (كتاب الرحمة ) الجواب نعم .
لأن كل آية منه رحمة للمسلمين خاصة والناس عامة ، وهي رحمة في الدنيا وفي الآخرة ، وكم من مسلم إجتنب الفاحشة لإستحضاره أو تلاوته أو سماعة آية قرآنية .
ولا يعلم عدد الذين أسلموا من الناس بسبب الآية القرآنية إلا الله عز وجل ، ولا ينحصر الأمر بالعدد والكم بل قام صرح الإسلام ودخل الناس في بدايات الدعوة بآيات القرآن كحجة عقلية وبرهان على نزولها من عند الله عز وجل .
وجاءت آية البحث بنزولها بالذات وإخبارها عن نزول الأمن والنعاس نعمة من عند الله عز وجل .
وقيل أن نعمة الأمن لا يعرف حقها إلا الذي هو فاقدها وخارج عنها ، أما الذي تكون عنده فلا يعرف حقها ، ولا دليل عليه ، وجاء القرآن بذكر النعم ولزوم شكر الله عز وجل عليها وفيه طرد للغفلة عن المسلمين ، قال تعالى [لاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ] ( ).
ليكون من دلالات ومنافع آية البحث أمور :
الأول : تسليم وإقرار المسلمين بأن الأمن نعمة عظيمة.
الثاني : ما عند المسلمين من نعمة الأمن والعز من عند الله وحده.
الثالث : لا يقدر على نعمة الأمن، ومنحها للفرد والجماعة إلا الله عز وجل.
الرابع : عصمة المسلمين من الغفلة.
الخامس : دوام شكر المسلمين والمسلمات لله عز وجل على نعمة الأمن، وهل أداء الصلاة من الشكر لله على نعمة الأمن الجواب نعم .
ومنه حال الخشوع والسكينة، وإجتناب الأفعال المنافية للصلاة بعد تكبيرة الإحرام ، ومنه تلاوة المسلمين لآيات القرآن.
ومن الآيات في المقام أن التلاوة تبدأ بعد البسملة بقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وجاء الحمد في الآية الكريمة مطلقاً، ليكون من معانيه الحمد لله على نعمة الأمن الخاص يوم معركة أحد وفي مطلق الأيام .
ومن فيوضات الآية الكريمة أمور :
الأول : نزول الأمن والنعاس مجتمعين .
الثاني : الإخبار عن نزول الأمن والنعاس من السماء ، وكأنهما كنز مدخر للمسلمين بخصوص يوم أحد وفتحت هذه الخزينة ليترشح عنها الفضل الإلهي على المؤمنين إلى يوم القيامة .
الثالث : تطلع المسلمين إلى السماء وما ينزل من فضل الله عليهم ، فبعد نزول المطر وآيات القرآن أخبرت آية البحث عن نزول الأمنة والنعاس ، ليبعث إخبار الآية عن نزولها على الدعاء لسؤال نزول النعم الحسية والمادية من عند الله , وتلك التي يظن الناس أنها تأتي بالأسباب ، إذ بينت الكتب السماوية أن الذي ينزل الوحي والتنزيل كما يدرك الناس نزول الغيث من السماء ، فجاء القرآن بالإخبار عن نزول الأمنة والنعاس من عند الله عز وجل على المسلمين ليختصوا بنعمة عظيمة تكون سبباً للنصر والغلبة على مر السنين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ] ( ) .
لقد كانت قلوب المؤمنين في حرقة على الذين إتبعوا صيغ النفاق، وأصروا على إبطان الكفر بين ثنايا أضلاعهم مع إدعائهم الإيمان وإنتسابهم إلى الإسلام ، فجاءت آية البحث سلاحاً يشفي المسلمين ، ويزيل عنها الكدورة ، ويعث الطمأنينة في نفوسهم لكشف القرآن للعداوة الظاهرة والخفية لهم .
الآية لطف
الحمد لله اللطيف بالناس جميعاً برهم وفاجرهم , والذي جعل نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أبهى مصاديق لطفه سبحانه لتصاحب أحكامها الأجيال المتعاقبة منهم ، والذي تفضل بتنزيل القرآن ، قال تعالى [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ ..] ( ) .
لتكون كل آية قرآنية لطفاً من عند الله للمسلمين خاصة والناس جميعاً ، قال تعالى [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ]( ).
واللُطف الرفق والمبرة ، يقال لطف لطُفاً أي رفق وتقرب ودنا باحسان ، ويقال لطف الله بك أي أبلغك مرادك .
والله لطيف بالخلائق على نحو الإطلاق والدوام ، وهو يعلم ضعف الإنسان وحاجته إلى رحمته ، فتفضل باللطف به وإقترن هذا اللطف بخلقه ونشأته ورزقه وهدايته إلى سبيل النجاة في الآخرة وهو أعظم مصاديق اللطف .
ومن لطف الله عز وجل بالإنسان أن نفخ فيه من روحه في آدم وأسجد له الملائكة وجعل الإنسان خليفة في الأرض على سعتها لا يزاحمه فيها جنس آخر من الخلائق مع أنه لا يعلم ولا يحصي عددها إلا الله عز وجل .
وتفضل الله وعرج بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء وعلمه خزائن العلوم ومفاتيح العبادات لتؤمن به أمة من المهاجرين والأنصار ، ويخرج كفار قريش لقتاله , فكانت واقعة بدر موعظة وزاجراً لهم عن قتاله إذ إنتهت بنصر ساحق للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بآية إعجازية من عند الله ، إذ تدل نسبة النصر وعمومه في المعركة إلى الله عز وجل [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) على تجلي النصر بمعجزة عقلية وحسية ظاهرة للناس جميعاً فيدرك الفرقان في معركة بدر حقيقة وهي أن النصر فيها لم يتم إلا بفضل ولطف من عند الله سبحانه .
وهل يشمل قوله تعالى أعلاه [وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أم أنه خارج بالتخصيص لمقام النبوة , وتفضل الله عز وجل بعصمته ، وتفضله عليه بالوحي الذي يحجب عنه أسباب الذل .
الجواب هو الثاني , والأذلة جمع ذليل مثل أعزة وعزيز .
والمراد قلة عدد المسلمين وضعف حالهم والنقص في أسلحتهم (قال ابن عباس : كان المهاجرين يوم بدر سبعة وسبعين رجلاً ، والأنصار مائتين وستة وثلاثين رجلاً ، وكان المشركون ما بين تسعمائة وألف) ( ) .
وهل يمكن تقدير الآية بمعنى أعم , والمراد : وأنتم أيها المسلمون أذلة ) ليشمل الخطاب المسلمين الذين تخلفوا في المدينة ولم يخرجوا للقتال ، والذين في مكة يخفون إسلامهم ، وكأن بعضهم لا يعلم ما تؤول إليه حال المسلمين على قلتهم وتكالب الأعداء عليهم ، فجاء النصر في معركة بدر إعلاناً لنشوء دولة الإسلام بأحكامها في الحلال والحرام ، وتقدير آية ببدر : ولقد نصركم الله ببدر فلن تكونوا أذلة بعدها ).
لذا تضمنت الآية السابقة الإخبار عن صعود فريق من الصحابة الجبل فراراً من المعركة من غير أن تكون في هذا الصعود والإخبار عنه في القرآن ذلة للمسلمين بلحاظ أمور :
الأول : سبق معركة بدر وتحقق نصر المسلمين فيها .
الثاني : غزو الرعب قلوب الذين كفروا في معركة أحد ، الأمر الذي يجعلهم لا يتنفعون من صعود وفرار المسلمين , وعدم الإنتفاع جلي وظاهر بامتناع الذين كفروا عن اللحاق بهم ، وكما قال الله عز وجل في المؤمنين [وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ]فانه سبحانه جعل المشركين لا يلوون ولا يلتفتون إلى المسلمين الذين فروا من المعركة .
ويكون من تقدير الآية : ولا تلوون على أحد ولا يلوون إليكم الذين كفروا .
وهل يصح القول والتقدير : ولا يلو عليكم أحد) الجواب لا ، إذ ينخرم التقدير بدعوة ونداء الرسول لهم بالرجوع إلى ميدان المعركة , وهو من مصاديق اللطف الإلهي بالمسلمين بلحاظ كبرى كلية وهي أن دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي تذكرها الآية السابقة بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] وحي وأمر من عند الله عز وجل .
الثالث : لقد فر وإنهزم المشركون في معركة بدر ، ولم يقفوا إلا في مكة المكرمة ، ولم يثبت منهم أحد في الميدان ، وهو من معاني الموجبة الكلية في تحقيق النصر من عند الله عز وجل .
أما في معركة أحد فقد ثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة من أصحابه ليعود لهم الذين إنهزموا من المعركة .
الرابع : إخبار الآية السابقة عن دعوة الرسول للمؤمنين وفيها أطراف :
الأول :الداعي هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : مضمون الدعوة .
الثالث : المدعو والموجهة إليه الدعوة .
الرابع : الذين يستمعون إلى الدعوة .
وهذا الطرف من وجوه :
أولاً : الذين إنهزموا وصعدوا الجبل .
ثانياً : الرماة التي تركوا مواضعهم .
ثالثاً : الصحابة الذين يقاتلون في ميدان المعركة , ولم يتركوا مواضعهم .
رابعاً : الذين كفروا من المشركين ممن هو قريب من جنس المسلمين .
ونزلت الآية السابقة ليكون كل مسلم ومسلمة من المستمعين لهذه الدعوة وكأنها قريبة منهم يتردد صداها المبارك في آذانهم ويسمعها الناس بتلاوة المسلمين لهذه الآية وهو من أسرار إجهار المسلمين بتلاوة القرآن لتكون أوسع دعوة في تأريخ الإنسانية وهو من وجوه تفضيل النبي لهم على الأنبياء السابقين ، وهل يصح تقدير الآية بالمعنى الأعم وهو : أيها الناس الرسول يدعوكم ، الجواب نعم ،إذ يدعوهم الرسول محمد إلى عبادة الله , والتصديق برسالته والعمل بما فيها من الأحكام والسنن .
لقد تكرر لفظ (صدور ) في خاتمة الآية مرتين لبيان أن الله عز وجل هو شارح الصدور وباعثها على الهداية وهو سبحانه الذي يطهرها من دنس النفاق والكفر والضلالة ، كما ذكرت الآية في طاعتها القلوب بقوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ] ( ).
لقد أنزل الله عز وجل القرآن لتبقى قلوب المسلمين وجلة تخشى الوهن والضعف عند ملاقاة الأعداء .
وعن أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين إلى فريضة من فرائض الله تعالى .
لقد أختتمت آية البحث بما يصرف قلوب المسلمين عن الذنوب والسيئات ، فيطرد موضوع الآية النفاق عن قلوبهم , وتمحو مضامينها القدسية وتلاوتها عنهم أسبابه ومقدماته ، إذ تجذب القلوب إلى طاعة الله , وتجعل الإنسان يستحضر علم الله بما في قلبه عندما يهم بالفعل .
وتدفع آية البحث العجز والخمول والكسل عن المسلمين وتجعلهم في حرز من الفشل والجبن .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها تجمع في خاتمتها بين أمور :
الأول : إبتلاء المسلمين بما في صدورهم .
الثاني : إصلاح قلوب المسلمين .
الثالث : علم الله عز وجل بما في صدور الناس مطلقاً فما أن يهم الذين كفروا بالتعدي وينوون الهجوم على المدينة المنورة حتى يتلو المسلمون آية البحث , ويدركون حاجة الإسلام إلى شخص وسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم , وكيف أن الله عز وجل إستجاب دعاءه ليلة المعركة , ليقتفي المسلمون أثره باقتران الدعاء بالصبر والجهاد , وبذل الوسع لإصلاح القلوب ونبذ سوء الظن بالله وأسباب الشك والريب .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته عصمة أمري ، وأصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي ، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير ، واجعل الموت راحة لي من كل شر) ( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بحرف العطف (ثم) لبيان صلتها بالآية السابقة ، ومن فضل الله على المسلمين تعلق العطف بالمقام بتوالي النعم على المسلمين فهو عطف لنعمة الأمن والنعاس على نعمة صرف الحزن والكدورات عنهم يوم معركة أحد ، فيكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه ليس من جيش لا يصيبه الحزن والأسى يوم المعركة التي يلقى فيها الخسارة ويلحقه فيها الضرر ، إلا جيش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام الأولى .
فيأتي المدد من عند الله عز وجل من الملائكة أثناء المعركة ثم تأتي الأمنة والنعاس بعد إنتهاء المعركة لتصاحب الأمنة المسلمين إلى يوم القيامة ، ومن الشواهد عليه أمور :
الأول : إنتهاء معركة أحد في يوم واحد ، وكان من عادة العرب أن تستمر الحروب والقتال بينهم إلى أن يمشي بين الفريقين مصلحون وتحصل التسوية وتدفع الديات ، مثل حرب البسوس بين قبائل ذهل وتغلب (571 -577 ) ميلادية .
وقيل إستمرت حرب البسوس أربعين سنة وكان سببها ناقة .
وحرب داحس والغبراء بين قبائل عبس وذبيان سنة( 582 – 587 ) ميلادية .
وحرب الفجار بين قبائل مضر وقيس عيلان (580 – 588 )
قال ابن مسعود (فأما أيام العرب وَوَقائعها وحروبها فقد ذكرناها فيما سلف من كتبنا، وما كان منها في الجاهلية والإِسلام، كيوم الهَبَاءة، وحروب ذبيان وغطفان، وما كان بين عبس وسائر العرب من نزار واليمن.
وحرب داحس والغَبْراء، وحرب بكربن وائل وتغلب، وهي حرب البَسوس .
ويوم الكُلاب، ويوم خزاز، ومقتل شاس بن زهير، ويوم في قار، ويوم شِعْب جَبَلَة، وما كان من بني عامر وغيرهم، وحرب الأوس والخزرج، وما كان بين غَسَّان وعَك) ( ).
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمور:
الأول : قصر مدة المعارك التي خاضها المسلمون .
الثاني : بعث الرعب في قلوب الذين كفروا قبل وأثناء وبعد المعركة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ).
الثالث : إستيلاء اليأس والقنوط على نفوس الذين كفروا بعد كل معركة للخسارة التي تنزل بهم كل مرة ، وخروج المسلمين بعز ورفعة ونصر من معارك الإسلام .
الرابع : قلة مدة وزمان كل معركة للمسلمين ، وهذا النصر من الشواهد الجلية على تغشي الرعب والفزع لقلوب الذين كفروا مجتمعين ومتفرقين ، وهو مناسبة لتوجه المسلمين لعباداتهم وفرائضهم .
الخامس : طول مدة إستعداد الذين كفروا للمعركة ، وخروجهم بخفي حنين وملاحقة الخزي والخيبة لهم , وبخصوص معركة أحد التي نزلت آية البحث في موضوعها ووقائعها جاء قوله تعالى في ذم الذين كفروا وبيان سوء حالهم [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
لقد أخبرت آية البحث عن نزول الأمنة والنعاس على المسلمين في ميدان معركة أحد ، وفيه آية إعجازية إذ يعرف كل من الأمنة والنعاس المسلم من الكافر ، ويميزان بين المؤمن والمنافق ، ولا يصل النعاس إلا إلى طائفة مخصوصة من المؤمنين الذين قاتلوا إلى جوار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة , وفيه تزكية لهم من عند الله عز وجل وتفضل الله عز وجل وجعلهم يعرفون به أجيال المسلمين المتعاقبة وإلى يوم القيامة ، إن لم يعرفوا بأسمائهم على نحو الحصر والتعيين فبتفانيهم في الجهاد في سبيل الله في معركة أحد.
وهل يعرفون بالأمنة النعاس يوم القيامة ، وهل يزورهم ذات النعاس أم شبهه في الآخرة ، الجواب نعم ، وهو من فضل الله عز وجل وعمومات ما ورد في التنزيل حكاية عن أهل الجنة [هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا] ( ).
الثاني : سلامة المسلمين الأوائل من الأسر والإنشغال العام به وبكيفية فكاك الأسرى ، وتعرضهم للأذى ، ولو وقعت طائفة من الصحابة في الأسر وجرت محاولات لإكراههم وترغيبهم بترك دينهم فهل يستجيبون لها .
الجواب لا ، بل يكون الأسرى المسلمون دعاة إلى الحق والهدى ورسلاً لنشر سنن التوحيد ومعالم الإيمان بين الناس ، لبيان قانون وهو عدم وجود حائل دون نشر الإسلام بين الناس ، وما يفعله الكفار للإضرار بالمسلمين يكون هدماً لصرح الكفر والضلالة.
ومن البينات في المقام مجئ الغم ثم النعاس رحمة للمؤمنين في ميدان معركة أحد مع شدة بأس الذين كفروا وكثرة عددهم ، فمن خصائص كل من الغم والنعاس عدم الخوف من العدو وكثرة أفراده ، وقد وقع في الأسر من المشركين في معركة أحد أبو عزة الجمحي .
وقد خفف الله عز وجل عن المؤمنين والمؤمنات بسلامة المجاهدين من الأسر ، ومن الإعجاز في آية البحث أن إحتجاج المنافقين لم يتضمن الإشارة إلى الأسر والخوف منه ، إذ ذكروا الخشية من القتل لقوله تعالى [يَقُولُونَ ْ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا]ولم يقولوا ما أسرنا ههنا ، وفيه حجة على المنافقين من جهات :
الأولى : التسليم بسلامة المسلمين من الأسر .
الثانية : وجود نوع إتفاق بين المنافقين والذين كفروا بحيث لا يؤسر أحد من المنافقين .
الثالثة : ذكر المنافقين للفرد الأهم , وهو القتل .
الرابعة : ورود قول المنافقين الذي توثقه آية البحث [مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا] بعد إنقضاء المعركة وسقوط سبعين شهيداً من المسلمين .
الثالث : إقرار المسلمين والمسلمات في كل زمان بالنفع العظيم الذي ترشح عليهم من نعمة الأمنة التي نزلت على المؤمنين في معركة أحد وجعلتهم في سلام من اليأس والقنوط وأسباب الفتنة ، فمن خصائص الأمنة يومئذ أن المسلمين لم يخرجوا من معركة أحد خاسرين بل رجعوا بأسباب النصر ومنها :
أولاً : سلامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من القتل مع أن قتله كان غاية لقريش من حين معركة بدر وأثناء التهيئ والإستعداد لخروجهم إلى معركة أحد ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) .
فكان مكرهم منع إنتشار الإسلام وصد الناس عن التنزيل بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ومكر الله عز وجل بهم فارجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سالماً إلى المدينة , وأنزل آية البحث ليتلوها المسلمون والمسلمات إلى يوم القيامة مع الشكر لله عز وجل على نعمة نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : بطلان إشاعة قتل النبي التي أذاعها كفار قريش يوم معركة أحد ، ومن الآيات أنهم إمتنعوا عن تكرار هذه الإشاعة سواء في حال الحرب أو السلم .
وفيه نوع إقرار بأنه في حفظ من الله عز وجل وسلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إشاعة القتل , ومن صيرورتها حقيقة من مصاديق قوله تعالى [فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًاوَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
والمراد من صيرورتها حقيقة أي قد يشيع العدو نبأ مقتل النبي كذباً وزوراً ,ولكن ما يلبث أن يقتل بلحاظ أن هذه الإشاعة سبب لتفرق أصحابه عنه وإصابتهم بالإنكسار والخذلان , ومن الشواهد على صدق إيمانهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما سمع بنبأ إشاعة مقتله لم يعلن لأصحابه صيانه كيلا ينهزموا ، بل إستمر في قتال العدو إلى أن نادى المنهزمين ( إلي عباد الله إلي عباد الله ) والتي تدل بالدلالة التضمنية على حياته وسلامته من القتل .
وفي تجلي سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إشاعة القتل وتوابعها حجة على المنافقين ودعوة لهم لنبذ النفاق وترك اليأس والقنوط ، ولقد كان بطلان هذه الإشاعة من أسباب هزيمة الذين كفروا ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية بأن يرجع ضرر سلاح الذين كفروا إليهم ويشل إبدانهم ويربك صفوفهم ،ويبعث اليأس في نفوسهم .
لقد بحثوا بين القتل عن جثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فلم يجدوها وسألوا الصحابة فأخبرهم بأنه حي يرزق ، وأدركوا هذه الحقيقة بعودة الصحابة إلى ميدان المعركة وإجتماعهم في موضع واحد حول قطب وإمام لا يمكن إلا أن يكون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه خاصاً وأن قريشاً ذوو خبرة في أحوال الناس في القتال إبتداء وإستدامة وإنتهاء للمعركة .
وهل من صلة بين بطلان إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين تلقي المسلمين لنعمة الأمنة والنعاس ، الجواب نعم، فقد كان علمهم بنجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم باعثاً للسكينة في النفوس ، ودعوة للشكر لله عز وجل مع كثرة الجروح والكلوم التي أصابته .
ثالثاً : إنقضاء معركة أحد بيوم واحد وعدم إستمرارها إلى غروب ذات اليوم الذي بدأت فيه , وهو الخامس عشر من شهر شوال من السنة التاسعة للهجرة النبوية المباركة من مكة إلى المدينة .
إذ إستطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الرجوع إلى المدينة المنورة عند الغروب مع الإطمئنان بأن المشركين لم يرجعوا لغزوهم تلك الليلة وهو معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فلم يترك المشركون وحالهم بل بعث الإمام علي عليه السلام خلفهم ليقتفي أثرهم ويرى الجهة التي يتوجهون إليها هل هي مكة أم عندهم عزم على الإلتفاف والرجوع إلى المدينة لأعمال السلب والنهب والإنتقام ، وبعث النفرة في نفوس أهلها من الإسلام .
فحينما إنسحب الذين كفروا بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علياً خلفهم , وقال : إن ركبوا الإبل وتركوا الخيل فهو الظعن ) أي المغادرة إلى مكة لأنهم ينوون قطع المسافات الطويلة .
وقال : وإن ركبوا الخيل وجنبوا الإبل فهي الغارة على المدينة، والذي نفسي بيده، لئن ساروا إليها لأسيرن إليهم ثم لأناجزنهم( ).
رابعاً : عجز الذين كفروا عن تحقيق نصر وغلبة يوم أحد هو نصر عظيم للمسلمين ، لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالنصر في يوم بدر مع أنهم قلة وضعفاء بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وهل يصح تقدير الآية : ولقد نصركم الله بأحد وأنتم أعزه ، الجواب نعم ، إذ أن نزول الملائكة مدداً للمؤمنين نصر ، ونزول الأمنة النعاس يوم معركة أحد نصر .
لقد علم أهل مكة وما حولها من القبائل والقرى وكذا أهل المدينة المنورة وغيرها من الأمصار أن قريشاً تستعد لإستئصال الإسلام بجيش عرمرم مع مئات من الإبل والخيل والسيوف والدروع والعبيد أمر لم تعهده الجزيرة العربية آنذاك ، وإشرأبت الأعناق للنزاع بين كثرة الرجال والسلاح وبين المعجزة للتسالم بين الناس أن المسلمين لا يملكون معشار قوة ومؤن وأسلحة كفار قريش ، فكانت معركة أحد المنازلة الكبرى والإمتحان الشاق لذا قالت آية البحث [وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ].
خامساً : خروج المسلمين بالسلامة من الحزن والأسى على الحرمان من الغنائم , وعلى الخسارة في الأرواح وتقديم الشهداء كما ورد في الآية السابقة [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ].
وتبين الآية أعلاه أن دفع الحزن لا يقدر عليه إلا الله عز وجل .
وقد ورد ذكر لفظ [طائفة ] مرتين في آية البحث ، وبينهما عموم وخصوص مطلق ، أما مادة الإلتقاء فهي الإنتماء للإسلام والنطق بالشهادتين .
وأما مادة الإفتراق فهي إخلاص الطائفة الأولى في الجهاد في سبيل الله في معركة أحد ، وإتصاف الطائفة الثانية بالنفاق وترك القتال والدفاع لصد ورد الذين كفروا .
ومن أسرار إكتفاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدفاع في معارك الإسلام الأولى وعدم إختياره غزو العدو ومباغتته في أرضه ومحله قطع الطريق على المنافقين ومنعهم والذين في قلوبهم مرض من بث السموم وأسباب الشك والريب بين عموم المسلمين وأهل المدينة ، وهو من الإعجاز في السنة الدفاعية , قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ]( ) .
فمع أن معركة أحد للدفاع المحض وجاءت بعد النصر العظيم في معركة بدر فقد إنخزل ثلث جيش المسلمين وسط الطريق إلى المعركة ، ثم أظهر فريق من المسلمين الجزع والخوف ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن نفراً قليلاً معه رفعوا قواعد الإسلام في الأرض يوم معركة أحد بعد زحف الذين كفروا للقضاء على بيضة الإسلام ليكون يوم معركة أحد يوم الثبات في وجه الظلم والعدوان ، ويوم التحدي بفئة قليلة لملاقاة الطواغيت وعتاة الأرض ، لذا تفضل الله عز وجل وجعله يوم الأمنة والأمان للمسلمين في المعارك اللاحقة ، وفيه شاهد بأن المسلمين لم يخسروا معركة أحد بل خرجوا منها منتصرين.
وصحيح أنهم لم يجمعوا فيها الغنائم ، ولم يكسبوا الأموال كبدل وعوض للأسرى من المشركين ، ولكن المسلمين غنموا الأمنة إذ نزلت من السماء ، ومن معاني نزولها في قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا] أنها تبقى في الأرض لا تغادر المؤمنين ويحتمل بقاؤها وجوهاً :
الأول : تصاحب الأمنة المؤمنين طيلة يوم معركة أحد وإلى حين إنصراف الفريقين .
الثاني : حضور الأمنة مع المؤمنين عند الحاجة في معارك الإسلام اللاحقة .
الثالث : مصاحبة الأمنة للمؤمنين في معارك الإسلام اللاحقة ، فحالما يخرجون إلى المعركة تكون الأمنة معهم واقية وحرزاً .
الرابع : إنحصار الأمنة النازلة من عند الله بأهل البيت والصحابة الذين نزلت عليهم يوم معركة أحد ، جموداً على القدر المتيقن من موضوع النزول , فتكون مصاحبة لهم في حال الحرب والسلم ، وفي ميدان القتال وفي المسجد والسوق والبيت .
الخامس : أصالة العموم وصيرورة نعمة الأمنة ملكاً للمؤمنين وإلى يوم القيامة .
والمختار هو الأخير بدليل عطف آية البحث على آية النداء لكل المسلمين والمسلمات في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( ).
ليكون من مصاديق آية البحث : يا أيها الذين آمنوا أنزلنا عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً .
فان قلت إختص أهل معركة أحد بالغم ، والجواب هذا صحيح لذا ذكرته آية البحث بلغة الإنقضاء وصيرورته وراء ظهور المسلمين لتبقى تبعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا , وبرزخاً دون تكرار هجومهم وتعديهم على المسلمين .
وتبين آية البحث قانوناً وهو أن الظن بالله خلاف الحق يحجب النعمة النازلة من عند الله ، وهل ينحصر هذا الحجب بنعمة الأمنة والنعم الخاصة التي تأتي فضلاً ونافلة من عند الله عز وجل ، الجواب لا ، بل يتعلق بالرزق والصحة والولد والكيفية النفسانية ، ويتجلى هذا الحجب في حال الرخاء والشدة , والسراء والضراء ، بما يجعل الإنسان يندم على سوء ظنه بالله , ويتدبر في لزوم التوبة والإنابة .
وتتضمن الآية في مفهومها تنزيه المؤمنين عن سوء الظن بالله ، وتدل على إقرارهم بالعالم الآخر لإختصاصهم بنعمة الأمنة والنعاس وحجبها عن المنافقين والذين يظنون أن الله عز وجل لا ينصر نبيه الكريم وجند الإسلام مع تأكيد آيات القرآن التي نزلت قبل معركة أحد على نصرهم من عند الله كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) على فرض نزولها بعد معركة بدر وقبل معركة أحد .
وقد بينت آية البحث ما يقوله المنافقون والذين في قلوبهم مرض والذين يجعلون سلامتهم هي موضوع همّهم والعلة الغائية لما يختارونه من الأفعال ، إذ ذكرت ما يقولونه من جهتين :
الأولى : صدور السؤال الإنكاري من المنافقين وهو : هل لنا رأي وشأن في قرار الحرب والسلم ، وإذ كان قرار الحرب أمر بيّن وضرورة ملحة لأن الذين كفروا زحفوا من مكة طالبين له ، فان موضع وكيفية القتال لا بد وأن يكون لنا فيها شأن .
الثانية : بيان المنافقين لدعوى وهي سلامتهم وقومهم من القتل لو سمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قولهم بالبقاء في المدينة وعدم الخروج للقاء المشركين في معركة أحد.
ترى ما هي الصلة بين نزول الأمنة والنعاس وبين قول المنافقين، الذي تذكره آية البحث[هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ] الجواب فيه بيان للتباين بين المؤمن والمنافق والكافر في ميدان معركة أحد، فالمؤمن في أمان، وينتفع من حال النعاس بالإعراض عن قول المنافق الذي يكون في حال حسرة وفزع وحسد وشماتة ليس لها سبب معقول لذا ورد ( عن الزبير قال : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا، أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره، فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم {لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا} فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً} إلى قوله {ما قتلنا ههنا} لقول معتب بن قشير)( ).
أما الكافر فإن قلبه مملوء بالفزع والخوف من حين بداية المعركة وإلى نهايتها، ومن معاني تكرار لفظ (قل) بيان نكتة وهي النفع العظيم في إقامة الحجة على المنافقين، وفيه منع للناس من الإفتتان بهم .
وبين لفظ (الصدور) و(صدوركم) اللذين ذكرتهما آية البحث في خاتمتها عموم وخصوص مطلق , والصدور أعم ويشمل الناس جميعاً من الأولين والآخرين , أما لفظ صدوركم فهو خاص لذا ورد بصيغة الخطاب كما يأتي في باب التفسير.
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : بيان شأن وموضوعية معركة أحد في حياة المسلمين ، وتأريخ معارك الإسلام ، وتأكيد قانون وهو أن المسلمين قد خسروا جولة من المعركة ولكن الله تفضل عليهم بالسلامة من أضرار الخسارة ليكون من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، أنه ليس من أمة مثل المسلمين تقاتل في سبيل الله وعندما تأتيها خسارة بسبب كثرة ومباغتة جيش الذين كفروا يتفضل الله عز وجل عليهم بأسباب الأمن والسلامة وتوثيق هذه النعم بالقرآن لتبقى خالدة بين الناس إلى يوم القيامة، وهي في المقام على وجوه :
الأول : نسبة الصرف والإنصراف من المعركة للمسلمين وليس للذين كفروا.
كما ورد في الآية السابقة بقوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] ومن وجوه تقدير الآية السابقة : ولقد صرف الملائكة عن الذين كفروا ، ويحتمل صرف الملائكة وجوهاً :
أولاً : قبل صرف وإنصراف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من المعركة .
ثانياً : إقتران إنصراف الملائكة عن ميدان المعركة بأنصراف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا من ميدان المعركة.
ثالثاً : لم ينصرف الملائكة إلا بعد إنتهاء المعركة ، ومغادرة الذين كفروا إلى مكة.
والمختار هو الثالث ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
الثاني : خروج المسلمين من المعركة بنعمة العفو من عند الله، وهو أعظم من الغنائم وبدل الأسرى لذا قال تعالى[لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ].
الثالث : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين ، ويفيد قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]في خاتمة الآية السابقة الوعد الكريم على المؤمنين بما لا عين رآت ولا أذن سمعت ، ويمكن تقسيمه إلى قسمين :
أولاً : الوعد للمؤمنين في الحياة الدنيا ، وليس لموضوعه حد أو منتهى .
ثانياً : الوعد للمؤمنين في الآخرة باللبث الدائم في الجنان .
وهل ما ينال الذين كفروا من الأذى من فضل الله على المؤمنين الجواب ، نعم ، ليكون مقدمة للنصر المبين للإسلام ، ووعيداً وعقوبة في الآخرة للذين كفروا ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
وإذ وقع القتال بين المسلمين والذين كفروا في معركة أحد فانه لم يحصل قتال بين الطرفين في معركة الخندق مع أن جيش الكفار يومئذ أكثر من ثلاثة أضعاف جيشهم في معركة أحد ، إذ جاءوا بعشرة آلاف مقاتل في معركة الخندق وهو عدد لم تشهد الجزيرة العربية جيش مثله إلا في قدوم إبرهة لهدم الكعبة الذي وثقه قوله تعالى [أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ] ( )وهذا التشابه في عدد أفراد الجيش وإتحاد سنخية الكفر دلالة على لقاء الذين كفروا من قريش ذات عاقبة أصحاب الفيل من الفناء والقتل ، لولا بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) ولكن النتيجة على الطرف الآخر أي من جهة المؤمنين هي ذاتها التي تتجلى بالأمن والسلامة من كيد الكافرين إذ حاصرت جيوش المشركين المدينة أكثر من عشرين ليلة ثم عادوا بخزي وبعد فقد عدد من أبطالهم .
وتجددت ذات الآية وفضل الله عز وجل على المؤمنين في معارك الإسلام وهي :
الأولى : إبتدأت معركة بدر بطلب ثلاثة من كبار كفار قريش المبارزة ، فبرز لهم ثلاثة من الأنصار فأبوا إلا الأكفاء من قريش عندها أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقرب أهل بيته بالخروج للقتال لبيان صدق نبوته ، وتفاني أهل البيت في طاعة الله ورسوله فقال (قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ ، وَقُمْ يَا حَمْزَةُ وَقُمْ يَا عَلِيّ ، فَلَمّا قَامُوا وَدَنَوْا مِنْهُمْ.
قَالُوا : مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالَ عُبَيْدَةُ عُبَيْدَةُ وَقَالَ حَمْزَةُ حَمْزَةُ وَقَالَ عَلِيّ : عَلِيّ ، قَالُوا : نَعَمْ أَكْفَاءٌ كِرَامٌ . فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ وَكَانَ أَسَنّ الْقَوْمِ عُتْبَةَ ( بْنَ ) رَبِيعَةَ ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَبَارَزَ عَلِيّ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ.
فَأَمّا حَمْزَةُ فَلَمْ يُمْهِلْ شَيْبَةَ أَنْ قَتَلَهُ وَأَمّا عَلِيّ فَلَمْ يُمْهِلْ الْوَلِيدَ أَنْ قَتَلَهُ وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَعُتْبَةُ بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَيْنِ كِلَاهُمَا أَثْبَتَ صَاحِبَهُ وَكَرّ حَمْزَةُ وَعَلِيّ بِأَسْيَافِهِمَا عَلَى عُتْبَةَ فَذَفّفَا عَلَيْهِ وَاحْتَمَلَا صَاحِبَهُمَا فَحَازَاهُ إلَى أَصْحَابِهِ)( ).
الثانية : إبتدأ القتال في معركة أحد بأن تقدم طلحة بن أبي طلحة حامل لواء المشركين بين الصفين ويسمى كبش الكتيبة فصاح: من يبارز ، فلم يبرز إليه أحد ،فقال : يا أصحاب محمد زعمتم أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار ، كذبتم واللات ، لو تعلمون أن ذلك حق لخرج إلي بعضكم ، فبرز إليه الإمام علي عليه السلام ليكون هذا اللقاء عنوان التحدي وبيان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفضح الذين يتجرأون على الإسلام وسننه من الذين كفروا ، فصرعه علي عليه السلام وتنزه الإمام عن الإجهاز عليه وأخذ لأمة قتاله وسلبه ، مع ما في هذا السلب من التوثيق التأريخي للمبارزة ، وهو شهادة النصر والغلبة ، فقال بعض المؤمنين : أفلا أجهزت عليه .
فقال : إنه إستقبلني بعورته فعطفني عليه الرحم ، وعرفت أن الله تعالى قد قتله ، وقال ابن سعد (وصاح طلحة بن أبي طلحة: من يبارز؟ فقال علي عليه السلام : هل لك في البراز؟ قال طلحة: نعم. فبرزا بين الصفين. ورسول الله صلى الله عليه وسلّم جالسٌ تحت الراية عليه درعان ومغفر وبيضة، فالتقيا فبدره علي فضربه على رأسه، فمضى السيف حتى فلق هامته حتى انتهى إلى لحيته، فوقع طلحة وانصرف علي عليه السلام. فقيل لعلي: ألا ذففت عليه( )؟ قال: إنه لما صرع استقبلتني عورته فعطفني عليه الرحم، وقد علمت أن الله تبارك وتعالى سيقتله هو كبش الكتيبة.
ويقال حمل عليه طلحة، فاتقاه علي بالدرقة فلم يصنع سيفه شيئاً. وحمل عليه علي عليه السلام، وعلى طلحة درع مشمرة، فضرب ساقيه فقطع رجليه، ثم أراد أن يذفف عليه، فسأله بالرحم فتركه علي فلم يذفف عليه، حتى مر به بعض المسلمين فذفف عليه. ويقال إن عليا ذفف عليه. فلما قتل طلحة سر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأظهر التكبير، وكبر المسلمون. ثم شد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم على كتائب المشركين، فجعلوا يضربون حتى نقضت صفوفهم، وما قتل إلا طلحة) ( ).
فتكرر المبارز من طرف المؤمنين وهو علي عليه السلام في معركة بدر وأحد ، وحصل التبدل والتغيير في طرف المشركين إذ أن الذي بارز علياً في معركة بدر قد قتل وهو شيبة بن عتبة، وذات التكرار والتبدل حصلا في معركة الخندق.
الثالثة : لم ينزجر كفار قريش من وقائع معركة بدر وأحد ولم يتجهوا إلى الصلح والمهادنة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ولم يكفوا عن الزحف بالجيوش الكبيرة ، بل جاءوا بأكبر جيش لهم في معركة الخندق ليحيطوا بالمدينة المنورة ويبعثوا الفزع في قلوب المسلمين ، قال تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ] ( ).
وقد ورد في معركة أحد هذا الظن على نحو السالبة الجزئية بتقييد حصوله عند طائفة من المؤمنين بقوله تعالى [وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ] والنسبة بين الظن في الآيتين هي العموم والخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء من وجوه:
أولاً : موضوع الظن اللقاء بين جيش الإسلام والذين كفروا .
ثانياً : إخبار كل من الآيتين عن مجئ الكفار بجيوش عظيمة تفوق عدد المسلمين أضعافاً .
ثالثاً : دلالة كل من الآيتين على حسن ظن المسلمين بالله في حال السلم والمهادنة ، وعند لقاء المشركين بأستثناء أفراد منهم .
لقد جاءت هاتان الآيتان وغيرهما لتنزيه المسلمين من سوء الظن ، وفي كل منهما دعوة لحسن التوكل على الله .
أما مادة الإفتراق فمن وجوه :
أولاً : التباين الزماني في حدوث الظن ، إذ تخبر آية البحث عن واقعة أحد بينما تخبر الآية أعلاه عن واقعة معركة الأحزاب وهي ذاتها الخندق .
ولم يرد لفظ الخندق في القرآن وقد ذكرت هذه المعركة في القرآن باسم الأحزاب ، ووردت سورة باسمها ، قال تعالى [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ] ( ).
ثانياً : النسبة في الموضوع بين الآيتين هي العموم والخصوص المطلق إذ ذكرت آية البحث سوء الظن بخصوص طائفة من المسلمين وبساعة المحنة والبلاء، بينما ذكرته الآية العاشرة من سورة الأحزاب على نحو العموم الإستغراقي للمسلمين .
ثالثاً : النسبة بين ذات الظن في الآيتين هي العموم والخصوص المطلق ، إذ تتعدد سنخية الظن الذي تذكره الآية أعلاه ليشمل الظن الحسن، وصدق التوكل على الله من المؤمنين ورجاءهم نزول الفضل الإلهي بينما تذكر آية البحث ظن الجاهلية من قبل طائفة من المسلمين.
الثالث : من أسباب السلامة التي تفضل الله عز وجل بها في آية البحث وخاتمة الآية السابقة عفو الله عن المسلمين ، كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ] وجاءت الآية بصيغة الماضي لإفادة القطع بنزول وتحقق العفو من عند الله، وفيه مسائل:
الأولى : بعث السكينة في نفوس المسلمين .
الثانية : بيان سعة وحضور رحمة الله للمؤمنين على ملاقاتهم للذين كفروا في معركة أحد وهو بشارة الثواب العظيم في الآخرة ، فأن قلت كيف يكون الثواب على الفشل والتنازع والمعصية وهي الأمور التي ذكرتها الآية السابقة ، والجواب من وجوه :
أولاً : لم ينحصر فعل المسلمين على الفشل والتنازع والمعصية .
ثانياً : من أسماء الله عز وجل الشاكر والشكور ، وفي التنزيل [فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ] ( ).
ثالثاً : الثناء على أهل معركة أحد .
رابعاً : تنمية ملكة حب أهل البيت والصحابة الذين جاهدوا مع الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله .
خامساً : منع المسلمين من تعيير الذي إنهزم من المعركة وأظهر الفشل والجبن يوم أحد لأن فوزه بالعفو من عند الله وأسبابه برزخ دون هذا التعيير.
سادساً : الذين فشلوا وتنازعوا وعصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصوص الرماة الذين تركوا مواضعهم في الميدان أو الذين إنهزموا من الميدان مع دلالة قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( )على لزوم ثباتهم في مواضعهم وهم طائفة وشطر من المؤمنين في معركة أحد وليس كلهم ، فمنهم من ثبت في الميدان فجاء العفو في الآية السابقة عاماً للجميع ، ويحتمل نيل الذين فشلوا وتنازعوا وعصوا العفو من عند الله وجوهاً :
الأول : لقد نالوا العفو ببركة وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم وحضورهم المعركة تحت لوائه .
الثاني : ثبات عدد من أهل البيت والصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة سبب للعفو عن جميع الذين إشتركوا من المؤمنين في المعركة .
الثالث : نال الذين فشلوا وتنازعوا وعصوا العفو بفضل الله عز وجل عليهم لصبرهم وجهادهم في سبيل الله وإمتناعهم عن الإستجابة لرأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول بنكوصه ورجوعه في الطريق إلى معركة أحد، خاصة وأن مجموع الذين رجعوا معه نحو ثلاثمائة من الأنصار ، مما يكون سبباً لإغواء غيرهم الذين ساروا إلى جبل أحد وهم يدركون بأن المعركة واقعة لا محالة وهو الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواء بما رآه في المنام من رؤيا هي فرع الوحي أو بالإخبار عن وقائع معركة أحد قبل وقوعها .
الرابع : جاء العفو رحمة ونافلة إبتداءً من عند الله عز وجل .
وكل هذه الوجوه الأربعة صحيحة ، وكل فرد منها في طول الآخر.
الثالثة : الإخبار عن قانون وهو تحقق العفو للمؤمنين في الحياة الدنيا وعلى نحو العموم الإستغراقي الذي يشمل طائفة منهم في زمان ومكان واحد .
الرابعة : دعوة المسلمين للدعاء والمسألة بنيل العفو بفضل من عند الله ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
المسألة الثانية : بيان بديع صنع الله ، وعظيم قدرته وأنه يهب المؤمنين ما لا يطرأ على بال أحد من العالمين ، وفي يحيى ورد قوله تعالى [يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا] ( ) وتفضل الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورزقه وأصحابه نعمة نازلة من السماء هي النعاس ، ليكون على وجوه :
الأول : النعاس آية ورحمة .
الثاني :إتصاف النعاس النازل على المؤمنين من السماء بأنه أمنة وسلام وحرز .
الثالث : النعاس النازل من السماء آية في نفوس المؤمنين تتضمن إخبارهم عن إبتداء نهاية معركة أحد ، فمع أن الجولة لجيش المشركين وأن عددهم بالآلاف ولا زالت المعركة في أول يوم لها فقد إنتهت المعركة في يوم واحد، ومن معارك العرب ما إستمرت أربعين سنة مثل معركة البسوس بين بكر وتغلب وقيل من سنة 494-534 ميلادية التي نشبت بسبب ناقة لذا قيل أشام من ناقه البسوس، وحرب واحس والغبراء، ويوم الكُلاب، والحرب بين الأوس والخزرج قبل الإسلام.
الرابع : لقد أصرت طائفة من المسلمين على الخروج لقتال الذين كفروا في معركة أحد وعدم إمهالهم لحين الوصول إلى المدينة ، وجاء النعاس لمنع الإصرار على مقاتلتهم بعد الإستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالعودة إلى الميدان ، فلا ينادي المسلمون بالثأر لأصحابهم السبعين الذين سقطوا شهداء في ذات معركة أحد ، وإن أرادوا الثأر فان الله عز وجل واسع كريم وهو الذي إبتلى الذين كفروا بالوهن والضعف والعجز عن الهجوم على المدينة المنورة .
الخامس : بيان حقيقة وهي هناك نعمة إسمها النعاس يصاحبها الأمن والأمان ، وحتى في الحياة الدنيا قد يكون النعاس والنوم سبباً للإنصراف عن الباطل والمعصية وإرتكاب الخطأ وتحمل الخسارة وأسباب الإبتلاء ، وهو من أسرار وفلسفة حاجة بدن الإنسان إلى النوم ، نعم النعاس الذين نزل على الذين آمنوا في معركة أحد معجزة وآية ، ويدل عليه أنه نزل عليهم وهم وسط الميدان ، إذ يطرد الفزع والخوف والتهيئ للقتال ومزاولته أسباب النعاس والوهن ، وأحياناً يكون النعاس كالعادة تأتي في وقت مخصوص يغشى الإنسان كمقدمة للنوم ، فتميل إليه الجوارح والأركان ، أما النعاس أثناء المعركة فهو أمر خلاف العادة وحال البدن ، ليكون آية بينة تمنع بذاتها الشك بموضوعها .
ومن الإعجاز في آية البحث تقديم الأمنة على النعاس ، فلم تقل (نعاساً أمنة) بل ذكرت الأمنة هي التي نزلت على المؤمنين يوم أحد ، ويتجلى موضوعها ومصداقها بالنعاس ، فتكون الغاية هي تغشي الأمن والأمنة المؤمنين في معركة أحد ثناء وجزاء وشكراً من عند الله عز وجل لهم على صبرهم وجهادهم في المعركة.
نعم ورد تقديم النعاس بخصوص معركة بدر بقوله تعالى [إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ]( )، وعن قتادة قال: كان النعاس أمنة من الله ، وكان النعاس نعاسين . نعاس يوم بدر ، ونعاس يوم أحد ( ).
ولكن ذكر النعاس بخصوص أول معركتين يفيد تعدد وقوعه بلحاظ أنه لطف ورحمة من عند الله، نعم لايثبت هذا التعدد إلا مع الدليل.
المسألة الثالثة : بيان حقيقة وهي عدم إستمرار الغم وإستدامة تغشيه المؤمنين ، فمع أن الغم نوع جزاء وثواب للمؤمنين على صبرهم في ملاقاة جيش المشركين في معركة أحد ، فأن الله عز وجل تفضل وأحل بدله النعاس وجعله أمنة مما يدل على أنه ثواب أيضاً, وتقدير الجمع بين الآيتين فأثابكم من بعد الغم أمنة نعاساً.
ليكون من الإعجاز في آيات القتال ، توالي وتعاقب الآيات والمعجزات على المحل الواحد وهو من الشواهد على أن الله عز وجل يعطي بالأوفى والمتعدد من النعم ، فحينما أخبر الله عز وجل عن حياة الشهداء خالدين عنده تعالى فان آية البحث تبين فضله تعالى على المؤمنين الذين قاتلوا وكتب لهم السلامة من القتل يوم معركة أحد ، بأن توالت عليهم النعم في أبدانهم فبعد نعمة الغم جاءت نعمة النعاس ، ليكون معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومدداً من عند الله ، ومقدمة لإنتهاء المعركة والفصل بين الفريقين .
وهل من صلة موضوعية بين [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] وبين نزول النعاس أمنة على المؤمنين الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : نزول النعاس هو السبب لصرف المؤمنين عن الذين كفروا لأنه برزخ دون إصرار المؤمنين على القتال ، وهذا الإصرار من وجوه :
أولاً : إجتماع المؤمنين حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد دعوته لهم ونزولهم من الجبل ورجوع الفار منهم.
ثانياً :رجاء الصحابة تجدد فضل الله عليهم في بداية المعركة بجعل الغلبة لهم ، وقيامهم بحس الذين كفروا.
ثالثاً : إرادة المؤمنين الإنتقام لإخوانهم الشهداء السبعين الذين سقطوا في المعركة ، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد آخى بين المهاجرين والأنصار ، فيكون لكل شهيد أخوة نسبيون وأخوة في الله بلحاظ أن المؤخاة بين كل إثنين من الصحابة تنمية لخصال ومعاني الأخوة بينهم مطلقاً، وكل يريد الثأر له من الكفار المعتدين فأنزل الله النعاس أمنة وكأنه وقف لإطلاق النار .
الثانية : نزول النعاس بعد صرف الله للمؤمنين عن الذين كفروا لبعث الطمأنينة في نفوس المسلمين، وبيان حضور رحمة الله بهم في ميدان المعركة.
الثالثة : إرادة إبتداء المسلمين صفحة جديدة من الجهاد وهم لا يزالون في ميدان المعركة لتعاهد الفرائض والواجبات العبادية، وهو من الشكر لله عز وجل بأن خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتنزيل والإسلام من معركة أحد بأمن وحرز ووقاية من عند الله، وهو من مصاديق المن في قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
المسألة الرابعة : من إعجاز القرآن أن الآية منه تنزل بخصوص موضوع معين لتبقى حية طرية في كل زمان ونبراساً وإماماً للمسلمين والمسلمات ، وتتضمن آية البحث أسباب الهداية إلى الصبر وتحمل الأذى في جنب الله من جهتين متباينتين بالموضوع متحدتين بالغاية وهما:
الأولى : الثناء على أهل البيت والصحابة الذين ثبتوا في مواضعهم في معركة أحد وذبوا عن رسول الله ، وبيان الجزاء العاجل الذي فازوا به في المعركة ليكون عوضاً وبدلاً عن الغنائم والفداء عن الأسرى الذين كانوا يأملون وقوعهم بأيديهم ، ويرجعون بهم إلى المدينة كما رجعوا بالسبعين من الأسرى في معركة بدر .
وهل من الغايات الحميدة لإلقاء النعاس على طائفة أخرى من المؤمنين تهمهم أنفسهم ، بلحاظ مسألتين :
الأولى : النعاس أمنة من دبيب أسباب الشك والريب إلى النفوس .
الثانية : النعاس فترة لبقاء المؤمنين على ما هم عليه من الثبات على الإيمان ، والإمتناع عن الفرار والنكوص .
وهل يمكن القول بأن التنكير في ذكر طائفة نزل عليها النعاس وطائفة همتهم أنفسهم بأن تكون هناك طائفة أو أكثر على يقين من أمرهم ، راضين بالقضاء والقدر الجواب هو أن بداية الآية تدل على النفي لنزول النعاس بصيغة العموم الإستغراقي على جميع المؤمنين، ولا دليل على أن سبب النعاس هو حفظ طائفة من المؤمنين من اللحاق بالطائفة التي همتهم أنفسهم إلا أن هذا الأمر والغاية من فضل الله عز وجل عليهم ومن مصاديق ومعاني الأمنة في آية البحث بلحاظ أن النعمة تنزل لتكون غاياتها ورشحاتها ومنافعها متعددة وكثيرة ، ومنها الأمنة والوقاية من الخوف والقنوط ومحاكاة الطائفة التي شغلتهم أنفسهم وخافوا من القتل وأكثروا من الإستفهام والإنكار، ويكون من منافع النعاس أنه أمنة من النفاق والفزع وتكرار الفرار.
لقد أراد الله عز وجل منع إستمرار وتوالي فرار المسلمين ، ويكون تقدير الآية : ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً من الفرار) بلحاظ أن الغم إذا إستدام تغشيه للنفوس فقد يؤدي إلى الملل والسأم وإظهار الشكاية وإختيار تبديل الحال بترك ميدان المعركة قبل الأوان فيطمع الذين كفروا.
وفي الآية مسائل :
الأولى : بيان حال المسلمين يوم معركة أحد ، وتجلي حقيقة وهي رأفة ورحمة الله بهم في حال الضيق والشدة .
ومن مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ) أن مصاديق الرحمة في المقام لم تأت على نحو الإجمال ، بل وردت على نحو التفصيل والشواهد العامة التي تشمل جميع المسلمين في ميدان المعركة ، مثل مجئ الغم وصرف الحزن عنهم والخاصة التي تتعلق بطائفة آلو على أنفسهم إختيار الجهاد والمرابطة والتضحية وأحبوا الشهادة فبذلوا الوسع وبعثوا اليأس في قلوب الذين كفروا ليكونوا من أسباب خيبتهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الثانية : توالي نزول النعم الخاصة والعامة على المؤمنين بما يبعث السكينة في نفوسهم ويجعلهم يمتنعون عن الإفتتان بأقوال المنافقين وإنسحابهم من وسط الطريق إلى المعركة بمغالطة هي كالحجة إذ قالوا (علام نقتل أنفسنا هاهنا).
ومن أسرار القيادة في الجيش عدم إطلاع الجنود على ما يقوله أهل الإحتجاج والشك وإرباب الإستفهام الإنكاري ولغة الشك ، ولكن القرآن وثق وإلى الإبد أقوال وشكوك المنافقين من غير خشية على المؤمنين ، ومن الإعجاز مجئ هذا التوثيق بعد الإخبار عن نعمة الأمنة والنعاس لبيان عدم إضراره بالمؤمنين .
الثالثة : بيان إستدامة نزول النعم من عند الله على المؤمنين وللفظ التنزيل موضوعية وشأن عظيم يدركه كل إنسان ذكراً أو أنثى براً أو فاجراً ، فقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ]دعوة للناس لدخول الإسلام ، وقهر للذين كفروا هجموا في معركة أحد فنال المسلمون تنزيلاً من نوع الهبات العقلية والجسمانية التي تزيدهم إيماناً .
المسألة الخامسة : لقد جاءت آيات القرآن في أمور :
الأول : الثناء على المؤمنين ،والوعد لهم باللبث الدائم في النعيم .
الثاني : تبكيت المنافقين وبيان قبح النفاق وإبطان الكفر في ذات الوقت الذي يظهر فيه المنافق الإيمان ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ]( ).
الثالث : ذم وتوبيخ الذين كفروا ، والوعيد لهم بالخلود في النار ومن إعجاز اللفظ القرآني إجتماع الغايات والمقاصد الحميدة في اللفظ المتحد ، والآية الكريمة الواحدة فأبتدأت آية البحث بذكر نعمة الله عز وجل على المؤمنين وفيه دعوة لهم للثبات على الإيمان فمعركة أحد ليست آخر معارك الإسلام ، وإذا كان المسلمون إنتصروا في معركة بدر إنتصاراً عظيماً ثم شهدت معركة أحد إنتكاسة وخسارة لهم ، فجاءت آية البحث لمنع التبادر إلى أذهانهم بأن المعركة التالية تكون فيها خسارتهم أكبر وفق مفهوم الإستصحاب العقلي وليس معناه في الإصطلاح الفقهي( ) .
إذ إبتدأت الآية بنزول نعمة الأمن على المسلمين في ميدان المعركة ، وهو من مصاديق تفضيل المسلمين ومنع إستحواذ الذين كفروا أو غلبتهم عليهم ، وفيه مقدمة وإنذار وتحذير للكافرين من شدائد يوم القيامة إذ قال الله تعالى [وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً] ( ) .
والمراد من السبيل في الآية أعلاه الحجة يوم القيامة .
ونزلت الأمنة على المؤمنين لغلق باب النصر على الكافرين وحرمانهم منه ، وهل فيه بشارة نصر المسلمين في المعارك اللاحقة ، الجواب أن الأمة التي يصاحبها الأمن والسلامة من الهزيمة لابد وأن تنتصر في المعارك اللاحقة ، ومع هذا فلم يهجم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الذين كفروا ، ولم يغزُ مكة بل رجع إلى المدينة ، وتولى تبليغ الرسالة وآيات القرآن والدعوة إلى الله ، وبيان أحكام الحلال والحرام ، وتثبيت حكم الإسلام في المدينة ، ولكن الذين كفروا لم يتعظوا ولم يرضوا بما هم عليه ، فزحفوا بعشرة آلاف رجل في معركة الخندق وبعد أكثر من سنة من معركة أحد ، وكأن ما حققوه من الغلبة في جولة من معركة أحد بعد خطأ ومعصية الرماة من المسلمين سبب لإستدراجهم وإغرائهم بالمؤمنين ، وظنهم أنهم يحققون النصر الحاسم في معركة الخندق بلحاظ المقارنة بين المعركتين في الكيفية والأداء والعدة والرجال .
لقد أثرت التجارة و[رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) على قريش في كيفية حساب وتقدير الأمور بالإضافة إلى خبراتهم وإطلاعهم على أيام العرب والوقائع فيها إذ كانوا يواظبون على الحضور والإجتماع في دار الندوة وإستعراض الأمور ، كما أنهم يتصلون برجال القبائل العربية في موسم الحج ويسمعون منهم الأخبار والأشعار التي توثق الأحداث والمعارك والغزوات في تأريخ الجزيرة فظنوا أنهم كسبوا معركة أحد على نحو الجزئية وأرادة الإجهاز على المسلمين في معركة الخندق فجاءوا بأكثر من ثلاثة أضعاف جيشهم في معركة أحد لإرادة الغلبة ولم يغب عن بالهم دخول طائفة من الناس في الإسلام بين معركة أحد والخندق ، فكانت نعمة الأمنة والنعاس في معركة أحد واقية للمسلمين من الوهن والضعف ، وكان صرف الحزن عنهم الذي تذكره الآية السابقة عوناً ومدداً في معركة أحد .
المسألة السادسة : لقد جاءت آيات القرآن بذم النفاق والمنافقين ، وهذا الذم مطلوب بذاته ، وهو مقدمة ووسيلة لتنزه المسلمين والمسلمات منه ، لذا لم ينحصر موضوع ذكر النفاق في القرآن بخصوص لفظ المنافقين مع أنه جامع للذكور والأناث ، بل ذكرت الآيات القرآنية المنافقين على نحو التعيين لبيان دبيب النفاق إلى النساء والضرر التي تسببه المرأة المنافقة وورد لفظ [َالْمُنَافِقَاتُ] في القرآن خمس مرات واحدة بخصوص قبيح فعلهن في الدنيا وأربعة بخصوص ما يلقين من العذاب في الآخرة ، وفي كل مرة من هذه المرات الخمسة يأتي لفظ المنافقون متقدماً ومقترناً مع لفظ المنافقات ، وكأنهن يقتبسن منهم ، وهذا الإقتباس لا يتعارض مع التكليف المستقل لكل فرد منهم ، قال تعالى [ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا] ( ).
وتضمنت آية البحث وصف حال المنافقين في ميدان القتال لإقتراب إلتقاء الصفين ، وعند رؤية لمعان السيوف ، فقد أبوا القتال في سبيل الله وإمتنعوا عن دفع الذين كفروا عن بيضة الإسلام وعن النفس والمال والعرض ، قال تعالى [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ]( ).
المسألة السادسة : لما أحتجت الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض لأنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )تفضل الله عز وجل بالإحتجاج الذي يتجدد بالمصداق والبرهان في كل يوم وهو قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ومن علمه تعالى تفضله بإنزال الآية القرآنية لتنزيه المسلمين من درن النفاق ، وأفة الجبن والضعف والخوف .
وجاءت الآية السابقة صريحة بدفع الحزن عن المسلمين بسبب فقدان الغنائم وتعدد الخسائر في الأرض وكثرة الجراحات ،أما آية البحث فقد نزلت لتخبر عن نزول نعمتين وهما الأمنة والنعاس ، وقد يقال أنهما نعمة واحدة وأن ذات الأمنة هي نعاس ولا تعارض بين الأمرين والخلاف صغروي إذ يترشح النعاس عن الأمنة وتتعاقب النعم على المؤمنين لتكون متفرقة ومجتمعة واقية من النفاق وطرداً له من النفوس ليبنى الإسلام على قواعد التقوى وسنن اليقين ، ويكون المسلمون يداً واحدة وصفاً متماسكاً ومتجانساً عند لقاء العدو (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) ( ).
قانون العودة إلى الميدان
ومن الإعجاز العقلي والحسي في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تأسيسها لقوانين تضبط عمل وسعي وجهاد المسلمين إلى يوم القيامة ، وتمنع من الفرقة والخلاف بينهم وتتجلى هذه القوانين في الكتاب والسنة ، وهي من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ) ودلالة معنى الحبل على الطول والسعة وبإمكان الفرد والجماعة التمسك به كعنوان لتجليه ووضوحه وقربه من الناس ، وهو من أفراد رحمة الله ، قال تعالى [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
وتقدير دعوة الرسول الواردة في الآية السابقة على وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم في معركة أحد .
الثاني :والرسول يدعوكم في معركة الخندق .
الثالث : والرسول يدعوكم في معركة حنين .
الرابع : والرسول يدعوكم إلى التهيئ للقاء العدو .
الخامس : والرسول يدعوكم إلى مقدمات أداء الفرائض والعبادات ، ومنها الصبر في ميدان المعركة وعند لقاء الذين كفروا .
السادس : والرسول يدعوكم لتعاهد الصلاة والصيام والحج والزكاة .
ترى ما هي النسبة بين قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) وبين قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]الجواب أنها العموم والخصوص المطلق ، فالإستجابة لدعوة الرسول يوم أحد من مصاديق وفروع الآية أعلاه .
السابع : والرسول يدعوكم للعمل بالقوانين التي ينطق بها القرآن وتتضمنها السنة النبوية ، لبيان حقيقة وهي أن رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرقان بين الحق والباطل ، وفيصل بين الجد واللهو ، وباشراقتها أصبحت الدنيا دار العمل ومزرعة للآخرة ، وإحياء لسنن الأنبياء السابقين ودعوتهم إلى الله عز وجل.
لقد تفضل الله سبحانه على المؤمنين بدعوة الرسول لهم للرجوع إلى ميدان القتال حيث لا قتال، ولا تجدد للمسايفة وليس من رسل للقوم من النبال والسهام والحجارة، فجاء فضل الله عز وجل نعمة أخرى , وأنزل سبحانه الغم على المؤمنين بشرط لا شيء، وهي الماهية المجردة التي لا تتوقف على شيء من العوارض والقيود، وتكون خالية من العناوين الإضافية كالمداومة على القتال، وعدم الصعود لأن الله عز وجل يعطي المؤمنين بالأوفى والأعم.
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل ابتنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة ، فكان من دخلها فنظر إليها قال : ما أحسنها! إلا موضع اللبنة ، فأنا موضع اللبنة فختم بي الأنبياء) ( )
لقد بانت وإستبانت أحكام الشريعة لكل ذي عينين ، وتجلت معاني الحكمة بمعجزة القرآن الخالدة ، جاءت السنة النبوية بياناً وترجماناً لها ، ومنها دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين في معركة أحد بالعودة إلى ميدان القتال لتكون قانوناً ويمكن تسميته (قانون الرجوع أو العودة ) .
وقد إنتفع منه الإسلام والمسلمون يوم حنين بأن بادر الذين فروا من كتائب المسلمين الأولى إلى الرجوع حالما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلسانه وبواسطة عمه العباس وكان صوته جهورياً وبواسطة غيره من الصحابة .
وهل إنتفع المسلمون من هذا القانون في معركة الخندق ، والتي وقعت قبل معركة حنين , الجواب نعم ، بثبات المؤمنين في مواضعهم ، ونزلت الآيات بذم المنافقين الذين إستأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإنصراف ، قال تعالى [هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا] ( ) .
لتدل الآية أعلاه في منطوق أولها ومفهوم آخرها على أن المؤمنين لم يفروا ولم ينهزموا , ولم يأتوا بالعذر والإعتذار للإنسحاب عند أوان الشدة وإشراف عشرة آلاف من الذين كفروا على المدينة لليال متتالية ,
ولو دار الأمر في التفضيل بين الثبات في ميدان المعركة وبين العودة إليه ، فان الأول هو الأفضل ليتضمن قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] في مفهومه حث المؤمنين على الثبات في مواضعهم القتالية .
قانون أثر وذخائر كل فرد من السنة النبوية
ذكرت آية البحث دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع ، من السنة القولية والفعلية معاً، إذ أن تقسيم السنة إلى قولية وفعلية تقسيم إستقرائي من العلماء والمحققين، وإلا فإنها أعم في عدد أفراد السنة وفي التداخل بينها، فيأتي الأمر من السنة، ليكون جامعاً للسنة القولية والفعلية والدفاعية والتقريرية.
ومن الآيات ترشح الأثر الفعلي والقولي والنفسي عنه، وإذ يتم تقسيم السنة إلى أقسام , وكل قسم إلى أبواب فنحن بحاجة إلى علم مستقل ومتشعب , ليس له حد أو رسم , وهو أثر السنة النبوية من وجوه :
الوجه أولاً : أثر الحديث النبوي على نحو الإنفراد في ذات الحديث وموضوعه ، أي نأخذ كل حديث بذاته لتستقرأ منه المسائل مثل :
المثال الأول : قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي( )، ومن أبواب أثره أمور:
الأمر الأول : حرص أهل البيت والصحابة على إتقان الصلاة بالكيفية التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الأمر الثاني : تلقي المسلمين أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمحاكاته في صلاته بالقبول والإستجابة، وإدراك إرادة الوجوب منه، فليس للمسلم أو المسلمة مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته .
فان قلت هناك إختلاف بين فرق المسلمين في أداء الصلاة، فمنهم من يسدل يديه ويرسلهما على جنبيه في الصلاة ، ومنهم من يضع يده اليمنى على اليسرى ويضعهما على صدره عند القيام والقراءة .
والجواب هذه المسألة في أداء الصلاة في أمر ليس ركناً أو واجباً غير ركني من الصلاة، وعلى فرض أنه إختلاف فانه صغروي، ومدركه الأخبار المتعددة الواردة عن صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد أجمع المسلمون على واجبات الصلاة من جهات:
الأولى : مواقيت كل فرض من الصلوات الخمسة، ومن الآيات أن توقيتها بالكتاب والسنة النبوية , وفيه أمور :
أولاً : وقت كل فريضة مقتبس من القرآن لقوله تعالى[أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
ثانياً : حرص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أداء الصلوات اليومية في أول وقتها .
ثالثاً : تعاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لصلاة الجماعة ، وإمامته للمسلمين في كل فرض من الصلاة لتكون هناك ملازمة بين النبوة والصلاة , والنبوة وصلاة الجماعة , ويكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم لصلاة الجماعة .
الثاني : والرسول يدعوكم للصلاة فقد ملأ الله قلوب الذين كفروا بالرعب .
الثالث : والرسول يدعوكم لشكر الله عز وجل على صرف الذين كفروا بملأ قلوبهم بالرعب ، وصيرورتهم عاجزين عن منعكم من الصلاة .
الرابع : والرسول يدعوكم لقانون عدم وجود برزخ دون أداء المسلمين الصلاة وإلى يوم القيامة ، والرعب سلاح حاضر ضد من يريد أن يمنعهم من الصلاة .
الثانية : محاكاة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عدد ركعات كل صلاة فريضة، وقد تقدم التفصيل في ذكر عدد ركعات كل صلاة فريضة .
وهل تقيد المسلمون بأوان وكيفية صلاة رسول الله من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أدّبني ربّي فأحسن تأديبي( )، الجواب نعم وفيه وجوه:
أولاً : أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين من تأديب الله عز وجل له للمسلمين، بتقريب أن أوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في باب العبادات والمعاملات والأحكام من تأديب الله له، بلحاظ أن هذه الأوامر فرع الوحي ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى] ( ).
ثانياً : تلقي المسلمين أوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والإمتثال من التأديب الذي إقتبسه المسلمون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : إرادة المعنى الأعم من حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وتقديره : أدبنا ربنا فأحسن تأديبنا ، فيكون تقيد وإمتثال المسلمين لأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أحكام الصلاة مما أدبهم الله عز وجل بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : تلاوة القرآن في كل ركعة من ركعات الصلاة اليومية مع ضبط القراءة بذات الصيغة والكيفية التي قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه تعاهد لآيات القرآن , ومنع من طرو التغيير والتحريف والتبديل عليها ، ليكون من وجوه تقدير الحديث النبوي المتقدم بخصوص الصلاة : صلوا كما رأيتموني أصلي ) لحفظ القرآن من التحريف والتبديل والضياع .
الرابعة : أداء المسلمين الصلاة وإتيانهم باجزائها بحسب ذات الترتيب الذي صلاها بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الإبتداء بتكبيرة الأحرام ثم القراءة عن قيام ثم الركوع مرة واحدة ثم السجود مرتين في كل ركعة .
الخامسة : أداء المسلمين الصلاة جماعة ، فان قلت القدر المتيقن من قوله صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) هو أفعال الصلاة التي أداها .
الجواب تدخل صلاة الجماعة مع عمومات الحديث أعلاه ، إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعاهد صلاة الجماعة , ويحث المسلمين عليها ، ويبين الثواب العظيم فيها .
(عن ابن أم مكتوم ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استقبل الناس في صلاة العشاء فقال : « لقد هممت أن آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن هذه الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم ، فقام ابن أم مكتوم ، فقال : يا رسول الله ، لقد علمت ما بي ، وليس لي قائد قال : « أتسمع الإقامة ؟ قال : نعم قال : « فاحضرها ) ( ).
الأمر الثالث : تعاهد المسلمين الصلاة مطلقاً , وصلاة الجماعة خاصة , وهو مرآة لوحدة المسلمين وشاهد على الأخوة الإيمانية بينهم .
ومن الإعجاز في شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أداء كل مسلم ومسلمة الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة ، ليكون إعلاناً عبادياً متجدداً ومصداقاً يومياً لقوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
فالصلاة ملاك الإيمان وعنوان التقوى ، وإتيان المسلمين لها بذات الكيفية التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وثيقة للأخوة والألفة , وسبب لبعث المودة والمحبة بين المسلمين .
الرابع : أداء كل فرض من الصلاة دعوة لتعاهد الأخوة الإيمانية ونبذ الفرقة والشقاق بين المسلمين وأداء الصلاة طريق لوحدة المسلمين .
وليس من تعارض أو دور بين هذا الأمر والأمر الثالث أعلاه ، وهو من الإعجاز في شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يترشح أداء الصلاة عن وحدة المسلمين , وتترشح وحدة المسلمين عن أداء الصلاة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ).
الخامس : لما إجتمعت الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ) رد الله عز وجل عليهم بأن قال سبحانه [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ].
وكان من علم الله سبحانه أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين والمسلمات بمصداق من الوحي بأن تكون صلاتهم مثل صلاته ، وفيه بيان لخزائن الوحي , وكيف أن الكلمة منه تملأ الأرض بمفاهيم الصلاح.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) ليحافظ المسلمون والمسلمات على كيفية أداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة مع التفقه في الدين والمناجاة بحفظ هذه الكيفية وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] ( ) .
ليكون أداء المسلمين الصلاة بذات الكيفية التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ الآية أعلاه على وجوه :
الأول : أداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة من الحق ، ومن الشواهد على موضوعية الصلاة في الشريعة الإسلامية توجه الخطاب بأدائها من جهات :
الأولى : الأمر والخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأدائها ، قال تعالى [وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ] ( )ليلحق المسلمون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في وجوب إقامة الصلاة والتقيد بأوقاتها .
فيأتي الخطاب التكليفي بصيغة المفرد والقضية الشخصية , ولكنه عام للمسلمين والمسلمات .
الثانية : مجئ آيات القرآن بالأمر للمسلمين والمسلمات بأداء الصلاة على نحو الوجوب العيني ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ).
الثالثة : أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بأداء الصلاة بذات الكيفية التي أداها بها.
وإن قلت ظاهر كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولغة الخطاب فيه إرادة أهل البيت والصحابة الذين رأوه كيف يصلي لقوله صلى الله عليه وآله وسلم ( كما رأيتموني أصلي) والجواب جاء قيد الرؤية في الحديث لتعاهد جيل الصحابة بكيفية وأحكام وآداب الصلاة ليرث عنهم التابعون وتابعوا التابعين ذات الكيفية والأفعال , ولأن رؤية كل جيل لاحق لكيفية محاكاة الجيل السابق لصلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فالجيل السابق تلقى صلاة النبي تركة عبادية وميراثاً ، وتقدير الحديث :
أولاً : أيها المسلمون والمسلمات صلوا كما رأيتموني أصلي ووفق السنة القولية والفعلية.
ثانياً : صلوا كما رأيتم الجيل السابق من المسلمين يصلي بذات الكيفية التي صليت بها .
ثالثاً : صلوا كما رآني أهل البيت والصحابة كيف أصلي .
الثاني : أداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة من الحق بلحاظ أنها عنوان العبودية والرق والخضوع لله عز وجل ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (اتخذنى الله عبدا قبل أن يتخذنى نبيا) ( ).
ليكون من معاني قوله تعالى [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ] أي تواصوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته لعبادة الله عز وجل ، وتعاهدوا السلامة من الغلو بشخصه الكريم ، فيكون من مصاديق الآية أعلاه : تواصوا بصلاة رسول الله في ذاتها وكيفيتها .
الثالث : أداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة من الصبر فيكون من مصاديق قوله تعالى [وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا تواصوا بصلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنها صبر وطريق إلى الصبر .
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم : أنه قال: يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها( ) .
فان قلت من معاني واو العطف في قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ] ( ) المغايرة وأن الصلاة غير الصبر , وورد في تفسير الآية أعلاه أن المراد من الصبر هو الصيام، والجواب نعم، إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، وملاك العبادة هو الصبر، فمن معاني عطف الصلاة على الصبر عطف الخاص على العام .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا تواصوا بالفرائض والعبادات، ومنها الصلاة التي هي عمود الدين ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ).
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا تواصوا بالصلاة ) بلحاظ أن الخطاب التكليفي بالصلاة عام وشامل للمسلمين والمسلمات جميعاً ، وإذ وردت الرخصة في الصيام للمريض على نحو دائم بالنسبة للذي لا يرجى شفاؤه , وللمسافر على نحو تعليقي بالقضاء عند الرجوع من السفر ، وسقط التكليف بإخراج الزكاة عن المال الذي لم يبلغ النصاب ، وقيد وجوب حج بيت الله الحرام بخصوص الذي يملك الزاد والراحلة لقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
فان الصلاة لا تترك بحال ، وتجب على المريض والمسافر والعاجز عن القيام والركوع والسجود ، وكل ما غلب الله عليه فهو سبحانه يعلم العذر .
وجاءت الآية بالتعدد الغيري بين الصبر والصلاة في قوله تعالى [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] ( ) ويمكن أن يجتمع الأمران معاً في مصداق واحد كما هو في حال الصلاة فهي من الحق ومن الصبر ، وكذا بالنسبة للفرائض العبادية الأخرى ، ليكون من مصاديق الآية أعلاه وجوه :
الأول : الصلاة من الحق الذي تذكره الآية اعلاه .
الثاني : الصلاة من الصبر الذي هو أمر وجودي، يكون في الصلاة على نحو التطوع والإختيار وقصد القربة ، وليس هو كالصبر على المصيبة .
الثالث : التواصي والمناجاة والأمر بالصلاة , والحث عليها من معطوف الآية في قوله تعالى [وَتَوَاصَوْا].
وتحتمل التوصية بالصلاة بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
أولاً : الصلاة من الصبر من جهات :
الأولى : التقيد بأوقات الصلاة وإنتظار الفريضة بعد الأخرى .
الثانية : الوقوف بين يدي الله سبحانه بخشوع وخضوع من مصاديق الصبر ، لذا عندما يدخل المصلي في الصلاة ويقول (الله أكبر) تحرم عليه الأفعال والأقوال المنافية للصلاة ، لذا سميت تكبيرة الإحرام .
الثالثة : مقدمات الصلاة من معاني الصبر كما في الوضوء والأجزاء المنصوصة فيه ، لذا ورد ذكره وتفاصيله في القرآن ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ] ( ).
الرابعة : يتجلى في الصلاة نوع فريد وشاق من أنواع الصبر، وهو أخذ الحائطة من الخطأ في الصلاة وعدد الركعات ، ولا ينحصر موضوع وأوان هذا الصبر بساعة إقامة الصلاة بل هو مصاحب للمسلم والمسلمة , وفيه تنمية لملكة الصبر في المعاملات كما في نهي وفد الحاج عن الأخلاق المذمومة ليكون حسن السمت والأخلاق الحميدة صفة مصاحبة لهم حتى بعد الرجوع إلى بلدانهم.
فان قلت إن هذا الصبر عبأ على الإنسان ، وله ثقل ووطأة على النفس ، والجواب إنما هو جزء من علة خلقه , قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ومن الآيات أن المسلم إذا أدى فرض الصلاة ينتقل بروحه إلى عالم الملكوت ، ويشعر بالغبطة والسعادة ، ويحس بأن صبره بخصوص الصلاة بناء وإصلاح للبدن ونقاء للقلب , قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
الخامسة : تحمل المسلم الأذى بسبب الصلاة ، وتفويت مصالح دنيوية آنية قد تتزاحم مع أداء الصلاة فيقدم أداؤها .
وهل يكون هذا التقديم سبباً لتضييع تلك المصالح ، الجواب لا، ومن خصائص الصلاة أنها مفتاح للرزق.
ليكون تقدير حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المتقدم : صلوا كما رأيتموني أصلي يرزقكم الله بغير حساب ) وهذا المعنى مستقرأ من القرآن , قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
وليس من حصر لوجوه الخير في تقدير حديث النبي أعلاه ومنها ما يتعلق بأمور الدنيا ، ومنها ما يتعلق بعالم الآخرة والخلود فيها ويكون من معاني الحديث النبوي أعلاه بلحاظ آية البحث والسياق وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم إلى الصلاة .
الثاني : والرسول يدعوكم بتذكيركم بالصلاة .
الثالث : والرسول يدعوكم لحفظ وتعاهد الصلاة بالثبات في مواضع القتال .
الرابع : والرسول يدعوكم للعودة إلى ميدان المعركة .
الخامس : والرسول يدعوكم ليصلي المسلمون بذات الكيفية التي أداها فيها ، إذ أن إتقان عموم المسلمين والذين يدخلون الإسلام الصلاة لا يتم إلا بأخذهم لها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرصه على أداء الصلاة جماعة وبإمامته ، فلم يقدم غيره للإمامة في حال حضوره .
وعندما يخرج للغزو ينيب عنه أحد أصحابه لإقامة صلاة الجماعة كما كان يقيمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت الوفود تأتي من القبائل والأمصار فيدخلون الإسلام فيؤخرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أياماً حتى يتقنوا الصلاة بالكيفية التي يؤديها هو ، ثم يرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيهم أكثر حفظاً للقرآن فيجعله إماماً عليهم ، وفيه مسائل:
الأولى : تنمية ملكة حفظ القرآن عند المسلمين .
الثانية : الحث على إتقان تلاوة القرآن , والتدبر في معانيه ودلالات آياته.
الثالثة : تعلم القراءة والكتابة كمقدمة لتلاوة القرآن في المصحف.
وهو من الشواهد على صدق نزول القرآن من عند الله فلا يخشى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تدارس الناس لآيات القرآن، وهو من الدلائل على أن القرآن يدعو الناس لتلاوته والتدبر في معانيه .
وعن عمرو بن سلمة قال: كُنَّا بِحَاضِرٍ يَمُرُّ بِنَا النَّاسُ إِذَا أَتَوُا النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم فَكَانُوا إِذَا رَجَعُوا مَرُّوا بِنَا فَأَخْبَرُونَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم , قَالَ كَذَا وَكَذَا وَكُنْتُ غُلاَمًا حَافِظًا فَحَفِظْتُ مِنْ ذَلِكَ قُرْآنًا كَثِيرًا فَانْطَلَقَ أَبِي وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِى نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ فَعَلَّمَهُمُ الصَّلاَةَ .
فَقَالَ: يَؤُمُّكُمْ أَقْرَؤُكُمْ. وَكُنْتُ أَقْرَأَهُمْ لِمَا كُنْتُ أَحْفَظُ فَقَدَّمُونِى فَكُنْتُ أَؤُمُّهُمْ , وَعَلَيَّ بُرْدَةٌ لِي صَغِيرَةٌ صَفْرَاءُ فَكُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَكَشَّفَتْ عَنِّي , فَقَالَتِ امرأة مِنَ النِّسَاءِ وَارُوا عَنَّا عَوْرَةَ قَارِئِكُمْ. فَاشْتَرَوْا لِي قَمِيصًا عُمَانِيًّا فَمَا فَرِحْتُ بِشَىْءٍ بَعْدَ الإِسْلاَمِ فَرَحِي بِهِ فَكُنْتُ أَؤُمُّهُمْ وَأَنَا ابن سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانِ سِنِينَ ( ).
الوجه الثاني : أثر الحديث النبوي في تأكيد صدق نزول القرآن من عند الله ، وصحيح أن الله عز وجل جعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
ولكن تأكيد مصاديق هذا البيان بالسنة النبوية لا يتعارض مع كون القرآن تبياناً لذات السنة النبوية ، وهذا التأكيد من لطف الله عز وجل بالعباد ، وفي التنزيل [فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( ).
إذ تفضل الله بإنزال آيات القرآن نجوماً وعلى نحو التدريج وجعل الوحي وعاء وصيغة لكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) لتذكير الصحابة يوم أحد بأن دعوته لهم بالرجوع إلى ميدان المعركة من الوحي.
وتقدير آية السياق : والرسول يدعوكم من الوحي وبالوحي وللوحي.
أما من الوحي فبلحاظ إبتداء الغاية وأن النبي صلى اله عليه وآله وسلم ما كان يناديهم بالرجوع إلا بأمر من عند الله لبيان أن في دعوته لهم خير الدنيا والآخرة.
وأما ( بالوحي ) فقد تجلى سلاح الوحي في معركة أحد بأبهى حلة، ولإرادة تثبيت الوحي في الأرض بإستدامة التنزيل وأخبار السنة أيام معركة أحد في شوال من السنة الثالثة للهجرة وما بعدها وإلى يوم إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، وهو أعظم نصر لسنن التوحيد في الأرض بأن يحكم الذين كفروا خططهم ومكرهم للإجهاز على الإسلام بهجوم ثلاثة آلاف رجل لم يحضر لملاقاتهم وقتالهم , إلا نحو سبعمائة من المؤمنين.
ولم يبق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ، ولم يخرج إلى جهة أخرى طلباً للسلامة مدة وجود جيش الأعداء لأن في سلامته دوام التنزيل والوحي وحضور النبوة بين ظهراني الناس ، بل قاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم جيش المسلمين بنفسه ، ليفوزوا بدعوته عند الصعود والفرار بالرجوع ويستجيبوا إلى تلك الدعوة النبوية المباركة ، ولو دعاهم غيره للرجوع فهل ينزلون من الجبل ويرجعون من طريق الفرار , الجواب لا دليل على فرض حدوث هذه الدعوة .
لقد عزم رؤساء جيش الذين كفروا على الإنسحاب والإنقلاب إلى مكة عندما رأوا تدفق وعودة الذين آمنوا يعودون لميدان المعركة، بعد أن علموا بكذب إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم ينسحب الذين آمنوا من معركة أحد إلا بأمر وإذن من عند الله عز وجل بدليل قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
ومن أمر الله عز وجل دعوة الرسول لأصحابه بالرجوع بلحاظ أن هذه الدعوة من الوحي لتكون معركة أحد من البراهين على صدق نزول القرآن من عند الله من جهات :
الأولى :تنجز وعد الله عز وجل للمؤمنين بالغلبة على الذين كفروا في بداية المعركة بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] ( ) فان قلت صدق الوعد أمر بين الله عز وجل وبين رسوله الكريم والمؤمنين برسالته ، فما هي صلته بصدق نزول القرآن والجواب من وجوه :
أولاً : جاء الوعد الذي تخبر عنه الآية أعلاه بالقرآن .
ثانياً : تهيئة مقدمات الوعد بالقرآن وآياته .
ثالثاً : توثيق تنجز وعد الله بالقرآن .
رابعاً : بيان القرآن للمنافع العظيمة التي ترشحت، وتترشح عن وعد الله لنبيه وللمؤمنين، وعن تنجزه وتحققه يوم أحد ، وأيهما أكثر وأعظم أثراً ونفعاً المنافع التي ترشحت عن معركة أحد أو المنافع التي تترشح عنها .
الجواب المختار أن المنافع التي تترشح وتتولد عن معركة أحد أعظم لأنها من اللامتناهي ببركة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : كثرة عدد آيات القرآن التي نزلت بخصوص معركة أحد، وكل آية معجزة في ذاتها ونظمها وموضوعها وبيانها وتوثيقها ودلالاتها .
وهل تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الآيات من الحديث النبوي الذي يدل على صدق نزول القرآن ، الجواب لا، وإن كانت ذات التلاوة تدل على صدق نزول القرآن .
الثالثة : بيان آيات القرآن لقول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد , وتوثيقها لجهاده والمؤمنين في الدفاع عن بيضة الإسلام .
وهل من صبر وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سعيه بالقول والفعل لتأكيد صدق نزول القرآن، الجواب نعم، وكل فرد من أقوال وأفعال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذو أثر عظيم في حياة الناس والأخذ بأيديهم نحو السعادة الأبدية وإقامة الحجة على الذين يصرون على الكفر والجحود، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
الرابعة : لقد ذكر الله عز وجل نزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يوم أحد ، ووردت الأخبار برؤية الناس لهم، وتحدثوا عن عظيم نفعهم وأثرهم يومئذ وكان لآيات القرآن الفضل العظيم في تحقيق النصر والغلبة على الذين كفروا من من جهة آيات القرآن التي تتعلق بمقدمات معركة أحد، وهل منها الآيات الخاصة بمعركة بدر بمعنى تأتي الآية بخصوص وقائع معركة بدر لتكون مقدمة وتوطئة لمعركة أحد .
الجواب نعم، وهو من الشواهد على نزول القرآن من عند الله، والتداخل الموضوعي بينها , فقوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( ) برهان على تحقق نصر المسلمين بمعجزة .
لتكون الآية أعلاه مقدمة لمعركة أحد وعوناٍ وإصلاحاً للمسلمين فيها من وجوه:
أولاً : بيان أن نصر المسلمين من عند الله عز وجل، وأنه سبحانه حاضر معهم في المعركة بالأولوية بخصوص موضوع قوله تعالى[مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ] ( )، فاذا تناجى شخصان أو أكثر فإن الله عز وجل حاضر معهم برحمتهم , ولطفه ويسمع كلامهم مع الإطلاق في موضوع المناجاة خيراً أو شراً، لبيان قانون وهو أن علم وقرب الله عز وجل من الناس سبيل لتثبيت سنن الصلاح وأفعال الخير، ودفع الناس بلطفه عن الشر والعزم عليه، وكم من أفراد هموا بفعل السيئة وإرتكاب المعصية والفساد فحجبهم الله عز وجل عنه , وصرف ذات الفعل عنهم .
ومن العصمة إمتناع المعصية وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، في الرد من عند الله على إحتجاج الملائكة في جعل الإنسان خليفة في الأرض.
فمن باب الأولوية القطعية أن يتفضل الله بالعون والمدد لنبيه الكريم والمؤمنين عند أول معركة بينهم وبين الذين كفروا، وفضله هذا من مصاديق تسمية يوم بدر[يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
وكل فرد من فضل الله عز وجل على المؤمنين يومئذ هو مصداق مستقل لتسمية معركة بدر [يَوْمَ الْفُرْقَانِ] لتكون تلك المصاديق من اللامتناهي ، وتبعث المسلمين في كل زمان على إستقراء المسائل والمواعظ منها ، ومن أثرها ونفعها بخصوص معركة أحد بيان صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل .
ثانياً : بعث السكينة في نفوس المسلمين بخصوص معارك الإسلام اللاحقة ،لأصل الإستصحاب الذي هو مدرك عقلي قبل أن يكون دليلاً أصولياً , فما دام نصر الله عز وجل صاحب المسلمين في معركة بدر فان الله سبحانه ينصرهم في المعارك , وفي قوله تعالى (” والعاديات ضَبْحاً ” قال ابن قتيبة كان علي رضي الله عنه يقول هي الإبل , ويذهب إلى وقعة بدر , وقال ما كان معنا يومئذ إلا فرس عليه المقداد) ( ).
ثالثاً : إنذار الذين كفروا وزجرهم عن الهجوم على المدينة وإرادة قتال ومناجزة المسلمين ، لقد خرجت قريش في معركة بدر لتأمين قافلة أبي سفيان القادمة من الشام فأصابتهم الخسارة والهزيمة , ونزلت آية [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( )، تدعوهم إلى المهادنة والتحلي بالصبر والعزوف عن الثأر والإنتقام، لأنه ممتنع بذاته بدليل الآية أعلاه , وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ولقد نصركم الله ببدر، ولا يقدر الذين كفروا على الثأر , لقانون وهو إتصاف النصر من عند الله بالإطلاق في ذاته وموضوعه وأثره ، فلا يستطيع الكفار نسخ أو تغيير أثر هذا النصر ، ليكون من معاني قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] ( )عصمة المسلمين بعده من الهزيمة والإنكسار .
وهل من فارق بين معنى النصر في الآية أعلاه وبين قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ]( ) الجواب بينهما عموم وخصوص مطلق من جهات :
الأولى : إختصاص النصر في آية [بِبَدْرٍ] بخصوص معركة بدر أما الآية أعلاه فموضوعها أعم .
الثانية : أخبرت الآية أعلاه عن مجئ النصر من عند الله ، أما آية (ببدر) فأخبرت عن نصر الله للمؤمنين ، ليكون النصر في معركة بدر مقدمة للنصر وفتح مكة .
الثالثة : يدل قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( ) في مفهومه على معارك أخرى , وأن معركة بدر فرد منها ، أما قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] ( )، فهو عنوان الظفر والفتح.
الرابعة : ورد الخطاب في آية [بِبَدْرٍ] محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، أما بالنسبة لآية النصر فقد جاءت مطلقة في سنخية النصر ونسبته إلى الله عز وجل .
الخامسة : وردت آية [بِبَدْرٍ] بصيغة الماضي لإفادة الحدوث والقطع بالوقوع ، وأن الله عز وجل هو الذي نصر نبيه الكريم والمؤمنين في معركة بدر ، كما تخبر آية ببدر عن زمان نزولها وأنها لم تنزل إلا بعد معركة بدر لتكون حجة للصحابة بأنهم جاهدوا وصبروا وقاتلوا في معركة بدر , وهم يعلمون بأن النصر لا يتحقق إلا بفضل الله.
أما آية [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] ( ) فقد وردت بصيغة الجملة الشرطية التي تدل على رجحان الوقوع بل وحتميته .
ويمكن تأسيس قانون وهو إلحاق الجملة الشرطية التي تتضمن الوعد الإلهي بالوعد الصريح , وهو الذي دل عليه الواقع والحوادث ، فقد تحقق النصر والفتح المبين بدخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة من غير قتال يذكر ودخلت قريش الإسلام ، وأخذ الناس يحجون البيت الحرام كمسلمين ووفق أحكام الإسلام في الحج .
لتكون أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الحج من (قانون أثر وذخائر كل فرد من السنة النبوية ).
السادسة : أخبرت آية النصر عن إقتران الفتح بنصر الله، وفيه وجوه :
أولاً: ذات النصر هو الفتح والنسبة بينهما هي التساوي .
ثانياً : إرادة العموم والخصوص المطلق ، فالفتح أعم من ذات النصر .
ثالثاً : نصر الله مقدمة للفتح ، ليكون العطف في الآية بالواو [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] ( )، بياناً لفضل الله بتهيئة مقدمات الفتح وقربه والقطع بتحققه، فقد أخبرت الآية السابقة عن صدق وعد الله بحس وقتل المؤمنين للذين كفروا.
المثال الثاني ( ): قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (خذوا عني مناسككم) ( ) وهذا الحديث تشريع يدعو إلى التقيد بشرائع الحج وآداب المناسك.
وقد ورد في آية السياق دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين للعودة إلى ساحة المعركة والقتال , أما الحديث أعلاه الذي جاء بعد نحو ست سنوات من نزول الآية اعلاه فانه دعوة للمسلمين من جهات :
الأولى : التفقه في الدين والإحاطة بأحكام الحج .
الثانية : التنزه عن عادات العرب في الجاهلية بخصوص أيام الحج , وعن ابن عباس : أن رجالاً من أهل المدينة كانوا إذا خاف أحدهم من عدوّه شيئاً آخر فأمن ، فإذا أحرم لم يلج من باب بيته وإتخذ نقباً من ظهر بيته .
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة كان فيها يوما رجل محرم ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بستاناً ، فدخله من بابه ودخل معه ذلك المحرم ، فناداه رجل من ورائه : يا فلان إنك محرم وقد دخلت مع الناس . فقال : يا رسول الله إن كنت محرماً فأنا محرم ، وإن كنت أحمس فأنا أحمس .
فأنزل الله { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها }( ) إلى آخر الآية . فأحل للمؤمنين أن يدخلوا من أبوابها( ).
الثالثة : حث المسلمين والمسلمات على الصدور عن القرآن والسنة في العبادات ، فيدل قوله صلى الله عليه وآله وسلم (خذوا عنى مناسككم) في مفهومه على أمور :
أولاً : خذوا عني أحكام الصلاة ، ففي مدة الحج صلاة يومية وصلاة طواف , وفيه يؤدي المؤمن الصلاة في ذات المواطن الشريفة التي أداها فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثانياً : أدوا الصلاة كما أصليها .
ثالثاً : صوموا شهر رمضان وفق القواعد التي أصومه بها، بلحاظ كبرى كلية وهي أن التذكير بفريضة عبادية وبيان أحكامها تذكير بالفرائض الأخرى وأحكامها لاتحاد السنخية ورشحات الوجوب الذي ينبسط عليها جميعاً.
رابعاً : إتبعوا منهاجي في أداء العبادات ، لأني أؤديها بالوحي وصبغة النبوة ، قال تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ).
الرابعة : نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإختلاف في أداء مناسك الحج ومواقيتها .
الخامسة : حث المسلمين على إجتناب الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة : الثناء على المسلمين بتعاهد كيفية عبادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل ، وهذا التعاهد من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
السابعة : بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لموضوعية وأهمية مناسك الحج ولزوم التقيد بها ، وعدم التفريط بأي فرد منها.
الثامنة : لقد حج الملائكة البيت الحرام قبل آدم بألفي عام , وتعاهدوا حجه فبعث الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأداء المسلمين مناسك الحج في الأرض كل عام وإلى يوم القيامة ، فقال (خذوا عني مناسككم) ( ) .
لقد توالت النعم من أهل الأرض ببركة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وجهاد المسلمين في تثبيت معالم الإيمان .
التاسعة : ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المناسك باضافتها للمسلمين ، فلم يقل ( خذوا عني مناسك الحج ) أو (خذوا عني المناسك ) بل قيدت بالإضافة إلى المسلمين والمسلمات لبيان أمور :
أولاً : المناسك حاجة للمسلمين بالذات، والبشر , وهي علة خلقهم وفيها مجتمعة ومتفرقة من المنافع الدنيوية والأخروية ما لا يعلمه ويحصيه إلا الله سبحانه .
ثانياً : إقتداء المسلمين في كل زمان بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أقواله وأفعاله وعبادته ، فلما جاء قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) , حرص المسلمون والمسلمات على إتباع نهجه .
وتوالت الأحاديث النبوية بما يجعل المسلمين يمتثلون للأمر الوارد في ثنايا ومضامين الآية أعلاه ، وهل هذا التوالي من قانون وعلوم (أثر وذخائر كل فرد من السنة).
الجواب إنه علم وقانون آخر في طوله , ويمكن أن نسميه (جذب السنة النبوية المسلمين والناس للعمل بمضامين آيات القرآن والأحكام والأوامر والنواهي الواردة فيه وفي ذات السنة .
فان قلت هذا الجذب من مصاديق قانون أثر وذخائر السنة النبوية ، والجواب هذا صحيح ، ولكنه لم يمنع من عدم إستقلاله كعلم وقانون .
ثالثاً : تأكيد سنن التكليف على المسلمين ، وبيان إنتفاء الواسطة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة .
وهل يدل هذا الحديث على النهي عن المذاهب وإتباع رؤساء المذاهب الفقهية ، الجواب لا دليل عليه ، كما أن المذاهب في الإسلام لبيان أحكام القرآن والسنة النبوية ، ولتيسير أخذ المسلمين السنة النبوية، وإتحادها وتداخلها وفناء بعضها ببعض أولى وأفضل من تعددها.
رابعاً : يفيد الأمر في هذا الحديث النبوي [خذوا عني مناسككم] صيغة الأمر والوجوب ، فيجب أن يصدر المسلمون في مناسكهم عن سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ترى لماذا لم يقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : خذوا مناسككم من القرآن ، الجواب لقد كانت أفعال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحج مرآة لآيات القرآن وما ورد فيها من أحكام الحج.
وتحتمل مناسك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحج وجوهاً :
الأول : كيفية أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مناسك الحج كالإحرام والطواف والوقوف في عرفة ومزدلفة ، والمبيت في منى .
الثاني : أدعية وأقوال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مناسك الحج .
الثالث : أوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بخصوص مناسك الحج .
الرابع : النواهي التي صدرت من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بخصوص مناسك الحج .
الخامس : أجوبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أسئلة المسلمين بخصوص أداء مناسك الحج ، وكل جواب حكم ومنار وضياء ينير دروب المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
لبيان حقيقة وهي أن أداء مناسك الحج بذات الصيغة والكيفية التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من سبل وصيغ الهداية والفلاح .
السادس : أحكام الكفارات في الحج ، وبيان موضوعها وأفرادها .
السابع : التخفيف والعفو وأحكام حديث الرفع في الحج .
الوجه ثانياً ( ) : إستحضار المسلم للحديث النبوي عند الإبتلاء بمسألة في العبادات أو المعاملات وإستدلاله وصدوره عن السنة الفعلية والقولية والتقريرية وغيرها ، ليبقى الحديث النبوي كنزاً ينهل منه المسلمون في كل زمان ، ويستنيرون بضيائه في دروب الهداية والرشاد ، وهو واقية من الزلل والخطأ العمدي او السهوي بلحاظ أنه برزخ دون الإجتهاد خلاف النص ، ومانع من العمل بجهالة .
لقد تفضل الله عز وجل بطرد الغفلة عن المسلمين بنزول القرآن، وكل آية منه حرز وواقية من الجهالة والغفلة ، وجاءت السنة النبوية لتبعث المسلمين على التفقه في الدين , والتدبر بآيات القرآن ، والإحتراز من الشطط .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الوحدة والإتحاد بنزول آيات القرآن ، وسلامته من التحريف , وتفضل وثبّت قواعد هذه الوحدة بالسنة النبوية ، وهو من أسرار كونها فرع الوحي ومرآة له وجزءً منه، لتكون على وجوه :
أولاً : السنة النبوية مادة للإحتجاج .
ثانياً : السنة النبوية برهان حاضر عند المسلمين .
ثالثاً : إنها تزكية لأعمال المسلمين التي يحاكون بها فعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاً : السنة النبوية سلاح في البيان ومدد في الجدال , ودفع المغالطة .
وهل السنة النبوية من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ) الجواب نعم لتكون السنة النبوية نبراساً لكل الأمم ، وموعظة للناس ، وعلماً حاضراً عندهم ينهلون منه المبادئ والسنن الحميدة ، ويلوذون به من مفاهيم الكفر والشرك ، لذا ورد العموم في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
ويحتمل أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الظهر والعصر يوم عرفة قصراً ، وصلاة العشاء قصراً في صلاة العشاء ليلة المزدلفة بلحاظ المثلين السابقين في هذا القانون وجوهاً :
الأول : إنه من الشواهد على قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ).
الثاني : إنه من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (خذوا عنى مناسككم) ( ).
الثالث : إرادة المعنى الجامع للوجهين أعلاه.
والجواب هو الأخير، وتلك آية في السنة النبوية بأن تتعدد سنخية الأثر والنفع الخاص والعام للحديث النبوي , وفيه شاهد على قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : أعطيت جوامع الكلم) .
وعن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب (مر برجل يقرأ كتاباً ، فاستمعه ساعة ، فاستحسنه , فقال للرجل : أكتب لي من هذا الكتاب قال : نعم . فاشترى أديماً , فهيأه ثم جاء به إليه ، فنسخ له في ظهره وبطنه ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فجعل يقرأه عليه ، وجعل وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتلون ، فضرب رجل من الأنصار بيده الكتاب , وقال : ثكلتك أمك يا ابن الخطاب أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ اليوم وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب ؟ .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ذلك، إنما بعثت فاتحاً وخاتماً ، وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه ، واختصر لي الحديث اختصاراً ، فلا يهلكنكم المتهوكون( ).
ليتخذ المسلمون جوامع الكلم هذه تفسيراً للقرآن , وحرزاً من أسباب الضلالة ، ويكون تقدير ما ورد قبل آيات بنهي المسلمين عن طاعة الذين كفروا بالتوقي والتسلح بالسنة النبوية القولية والفعلية .
الوجه ثالثاً : لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالسنة النبوية بياناً وتفسيراً للقرآن ، وهي المصدر الثاني للتشريع ، مما يلزم العناية بها ، والتدبر في مضامينها القدسية من جهات :
الأولى : التدبر بالسنة النبوية وتفسير الحديث النبوي , وإستقراء المسائل منه تفصيل لبيان القرآن ، وفيه آية من جهة أن بيان القرآن يستلزم البيان والتوضيح والتفسير .
الثانية : ما دامت السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع فإنها بحاجة إلى بيان وتفسير لإستنباط ما فيها من العلوم , ويكون هذا البيان برزخاً دون الخطأ في التأويل .
الثالثة : بيان السنة النبوية سبيل لوحدة المسلمين ، ومنع للإختلاف والإفتراق بينهم ، فكل فرقة من المسلمين تحرص على العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ولكن تفسيرها وتأويلها للسنة قد يختلف عن غيره ، وقد يكون من السعة والمندوحة في السنة النبوية , وعندها لا يكون التباين في الفعل من الإختلاف والتباين.
الرابعة : بيان مضامين الحديث والفعل النبوي طريق للإنتفاع الأمثل منه سواء الإنتفاع على نحو القضية الشخصية أو النوعية خاصة وان أكثر المسلمين في هذه الأزمنة ليسوا من العرب ، وحتى الذي يتقن العربية يحتاج إلى تفسير السنة النبوية بلحاظ أمور :
أولاً : بيان حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمضامين آيات القرآن ، وكيف أنه مرآة وتفسير لها .
ثانياً : دلالة الأسرار القدسية في السنة النبوية على ترشحها عن الوحي ، وفيه زيادة هدىً ودعوة لعامة المسلمين للتمسك بالسنة النبوية وإتخاذها مناراً ومنهاجاً وموضوعاً لإمتلاء القلوب بالسكينة.
وعن الحسن البصري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من رغب عن سنتي فليس مني ، ثم تلا هذه الآية [ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ…] إلى آخر الآية ( ) .
وقد ورد قبل ثلاث آيات الإخبار عن إلقاء الرعب من عند الله في قلوب الذين كفروا , ليكون برزخاً دون إجهازهم على المؤمنين وإستمرار هجومهم على الثغور .
ومن تجليات هذا الإلقاء سرعة هزيمة المشركين يوم بدر مع رجحان كفتهم عدداً وعدة ، وعادوا في معركة أحد مع المناجاة والتحريض بينهم بقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وإستعدوا مدة أحد عشر شهراً لمعركة أحد , ومن أجل إجتناب الإنسحاب والهزيمة وما يصاحبها من الذل والهوان بين القبائل وعند الدول آنذاك كالدولة الرومانية والفارسية بلحاظ أن قريشاً معروفون عندهم بسدانة البيت الحرام الذي يحج إليه العرب وبالتجارة على مدار السنة ، وهو الأمر الذي وثقه القرآن مع دلالات وأسرار هذا التوثيق ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] ( ).
ومن فضل الله قانون معرفة وإكرام الناس للفرد والجماعة والطائفة التي تسخر نفسها في طاعة الله وتيسير مناسك أهل التوحيد بالإمامة أو السدانة ونحوها من مقدمات العبادة ، أما إذا أساءوا لهذه النعمة ، وفرطوا في وظائفهم العبادية العامة التي يتطلع عامة الناس إلى صدورها منهم ، فان البلاء يكون عليهم عظيماً والعذاب شديداً .
قال تعالى[وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ]( )، وهو المستقرأ من الآيات أعلاه من سورة قريش إذ بينت العلة الغائية من فضل الله على قريش بتهيئة أسباب التجارة بين الأمصار, وما فيها من أمور :
الأول : السياحة والضرب في الأرض .
الثاني : كسب الأموال وجني الأرباح من التجارة .
الثالث : الصلات الطيبة مع الناس من البلدان المختلفة، والمعاملة الحسنة مع التجار والوجهاء.
الرابع : المندوحة والسعة في العيش وتوفير المؤون والطيبات .
الخامس : دفع الفقر والفاقة عن الذات والعيال .
السادس : حسن المقام والشأن في المجتمع عند تسخير شطر من الأموال في وجوه الإحسان والبر ، ومن الإعجاز في أحكام وآيات القرآن تشريع الزكاة وفرض مقدار مخصوص للفقراء والمساكين عند تحقق النصاب مع تعيين الموارد التي تجلب فيها الزكاة بالسنة النبوية، والأمور التي ليس فيها زكاة تخفيفاً ودفعاً للحرج، ومنعاً للإختلاف بين المسلمين في مقدار وموضوع ومستحق الزكاة.
ترى ما هو السر في إستحواذ قريش على التجارة بين الشام واليمن ومكة ، الجواب من وجوه :
الأول : إستجابة الله عز وجل لدعاء إبراهيم في رزق أهل مكة من الطيبات ، وفي التنزيل [وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَات] ( ).
الثاني : بركات البيت الحرام ، والفيض الذي يترشح منه على مجاوريه وعماره والقائمين على سدانته وسقاية الحاج , وورد بخصوص المسجد الأقصى بيان البركات التي يتفضل الله عز وجل بها من حوله بقوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] ( ) للدلالة على نزول البركات حول البيت الحرام من باب الأولوية القطعية ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ).
فتبين الآية أعلاه أن ذات البيت الحرام مبارك مما يدل على إفاضة البركات حوله بالإضافة إلى البركة والخير الذي ينعم الله به حول البيت وعلى مجاوريه كما تفضل بإنزال البركة حول بيت المقدس ليتصف البيت الحرام بضروب وكثرة البركة من وجوه :
الأول : البركات المصاحبة للبيت الحرام قبل بنائه لتعيين موضعه من عند الله يوم خلق السموات والأرض .
الثاني : طواف الملائكة حول البيت الحرام قبل أن يخلق آدم وعن ابن عمر قال : إن الله أوحى إلى آدم وهو ببلاد الهند أن حج هذا البيت فحج ، فكان كلما وضع قدمه صار قرية ، وما بين خطوتيه مفازة ، حتى انتهى إلى البيت ، فطاف به ، وقضى المناسك كلها ، ثم أراد الرجوع ، فمضى حتى إذا كان بالمأزمين تلقته الملائكة .
فقالت : برَّ حجك يا آدم ، فدخله من ذلك . . . فلما رأت ذلك الملائكة منه قالت : يا آدم إنا قد حججنا هذا قبلك قبل أن تخلق بألفي سنة . فتقاصرت إليه نفسه( ) .
وقيل: لما هبط آدم قالت له الملائكة : طف حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام) ( ) وفي هذا الطواف وجوه :
أولاً : إنه فعل وعمل مبارك في ذاته .
ثانياً : مصاحبة البركة لفعل الملائكة .
ثالثاً : ترشح البركة عن طواف الملائكة ، وهل من أجل محدد ومخصوص لهذه البركة , الجواب لا .
رابعاً : سنّ الملائكة الطواف حول البيت ترغيب للناس للإقتداء بهم وبرزخ دون الشك والجدال في صبغة التعبد بالطواف حول البيت.
وعندما أنكر الملائكة جعل الإنسان خليفة في الأرض وسألوا الله عز وجل إستفهاماً ورجاء البيان [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( )، أجابهم الله عز وجل ببديع الحكمة وعظيم القدرة وسعة الرحمة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
فكان من علم الله تعالى أن أمر الملائكة بالطواف بالبيت الحرام قبل أن يخلق آدم ويستفهموا عن علة وسر خلقه بألفي سنة ليكون طوافهم مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعمارة المسلمين والمسلمات للبيت الحرام وإلى يوم القيامة ، وترشح الصلاح والعفة والتنزه عن الفساد بهذا الطواف وأداء مناسك الحج، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ] ( ).
وليس من حصر لمنافع هذه المقدمة وأثرها ونفعها ، ومنها تهيئ وإستعداد الملائكة للنزول يوم بدر ويوم أحد ، وفي معركة الخندق، ومعركة حنين لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويحتمل قول الملائكة (طف حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام) ( ) وجوهاً :
الأول : إرادة طواف جميع الملائكة مرة واحدة ، وكان حجهم هذا قبل أن يخلق آدم بألفي عام .
الثاني : المقصود تجدد حج الملائكة للبيت الحرام كل سنة ، أي أن الملائكة حجوا البيت ألفي مرة، بلحاظ أن الحج لا يكون إلا مرة واحدة في السنة، وفي وقت مخصوص لا يقبل التبديل، وعن عبد الرحمن بن يعمر قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو واقف بعرفة وأتاه ناس من أهل مكة ، فقالوا : يا رسول الله كيف الحج ؟ .
قال : الحج عرفة ، فمن جاء قبل طلوع الفجر ليلة جمع فقد تم حجه، أيام منى ثلاثة أيام ، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه( ).
الثالث : صدور القول أعلاه من طائفة من الملائكة لبيان أن فريقاً منهم هم الذين يحجون البيت الحرام ، كما لو كان الملائكة القائمون على شؤون الأرض هم الذين يتولون حج البيت الحرام.
الرابع : إرادة طواف فريق من الملائكة الفي عام ، فكما يجب الحج على مختلف الناس مرة واحدة في العمر ، فكذا يكون حكم الحج بالنسبة للملائكة .
الخامس : لا يحج البيت الحرام من الملائكة إلا من أذن له الرحمن بالحج .
السادس : لقد خلق الله عز وجل ملائكة لخصوص الطواف بالبيت الحرام كل يوم ، وليقوموا بأداء مناسك الحج كل عام .
والمختار هو الثاني والخامس أعلاه، إلا أنه لا يمنع من الوجوه الأخرى والله واسع كريم، فان قلت قد ورد التقييد في الآية أعلاه بأن البيت الحرام [وُضِعَ لِلنَّاسِ] ( ) والجواب من جهات :
الأولى : ورود السنة النبوية بالإخبار عن حج الملائكة للبيت الحرام .
الثانية : حراسة وحفظ الملائكة للبيت الحرام من مردة الشياطين.
الثالثة : إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، فلم تقيد الآية أعلاه الحج أو الطواف بالبيت لخصوص الناس ، إنما ورد التقييد بخصوص وضع وإنشاء البيت ، لذا حينما ورد التكليف بالحج لم يقيده القرآن بخصوص الناس بل أخبر عن وجوبه عليهم دون أن يمنع من وجوبه وإستحبابه من غيرهم من الخلائق كالملائكة والجن، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( )، لعموم صبغة العبادة والطاعة لله التي تتغشاهم وتجب عليهم.
الثالث : بركات إنشاء ووضع البيت الحرام .
الرابع : تجدد البركة حول البيت الحرام كل يوم من أيام الحياة الدنيا .
الخامس : البركات التي تتغشى البيت الحرام بلحاظ كونه جزء من الأرض إذ تفضل الله عز وجل وجعل فيها البركة ، قال تعالى [وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا] ( ).
السادس : البركات التي تأتي من طواف وعمارة المؤمنين للبيت الحرام ، وفي أمر وخطاب من عند الله عز وجل لإبراهيم وإسماعيل , قال سبحانه[أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ) .
لتترشح البركة في الآية أعلاه من وجوه :
الأول : ذات الأمر الإلهي إلى إبراهيم وإسماعيل بخصوص البيت الحرام من بين بقاع الأرض .
الثاني : تفضل الله بتسمية البيت الحرام بأنه بيته ونسبته إليه ليتفضل الله عز وجل بإكرام عماره ونزول بركاته ورزقهم الثواب العظيم على وفد الحاج من غير واسطة ملك أو نبي ، وفي الحديث القدسي بخصوص فريضة الصيام (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) ( ).
وهو لا يتعارض مع تفضل الله بالجزاء نافلة من عنده تعالى على من حج بيته الحرام .
الثالث : هل ينحصر موضوع وحكم بركات البيت على عماره بخصوص إقامتهم عنده وذات أشخاصهم ، الجواب لا ، إذ تستديم وتتجدد بركات عمارة وزيارة وحج البيت الحرام على ذات المسلمين الذين يؤدونها وعلى ذويهم .
الرابع : صيرورة طهارة البيت مقدمة وسبباً لنزول البركة .
الخامس : حصول تطهير البيت من قبل الأنبياء لإفادة البركة في ذات أفعالهم ، ولحصانة البيت الحرام من الأوثان .
السادس : من بركة البيت الحرام انه حرب على الشرك , وسلام من درن ومفاهيم الضلالة ، لذا فان تطهيره جهاد في سبيل الله تولى القيام به الأنبياء، ليكون سنة للمؤمنين ، قال تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
السابع : تجلي مصاديق الجهاد لتطهير البيت الحرام بفتح مكة عنوة في السنة الثامنة للهجرة من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه وإن لم يقع قتال معتد به.
قال ابن مسعود وابن عباس: لما إفتتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة وجد حول البيت ثلثمائة وستين صنماً، صنم كل قوم بحيالهم , ومعه مخصرة فجعل يأتي الصنم فيطعن في عينه أو في بطنه ثمّ يقول {جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}( ) بجعل الصنم ينكب لوجهه وجعل أهل مكة يتعجبون، ويقولون فيما بينهم ما رأينا رجلاً أسحر من محمّد ( ).
وهل يمكن القول بأن توجه الأمر من عند الله سبحانه إلى إبراهيم وإسماعيل بتطهير البيت يصدق توجهه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقدير الآية : وطهر بيتي الحرام كما طهره إبراهيم .
الجواب نعم، لبيان أن معنى تطهير البيت أعم من رفع وإزالة الأصنام لأن إبراهيم رفع قواعده ودعا الناس إليه وإلى حجه , وبين الدعوة إلى البيت وإلى حجه عموم وخصوص مطلق , فالدعوة إلى البيت أعم إذ تشمل أداء العمرة طيلة أيام السنة , وإتخاذ البيت قبلة .
وقد جاهد إبراهيم قوم نمروذ في ديارهم وملكهم , ودعاهم إلى التوحيد وعبادة الله ونبذ الشرك والإنقياد التام للفرد والملك الظالم بغير الحق، وعرّض إبراهيم نفسه للهلاك والموت حرقاً بالنار لولا أن منّ الله عز وجل عليه كما في قوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( )، ليجزيه الله في الدنيا بتوليه بناء البيت الحرام ، ورفع قواعده الموجودة في مكانها في الأرض من أيام أبينا آدم عليه السلام .
وعن الإمام الباقر عن أبيه، عن آبائه، عن علي عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إنما كان لبث آدم وحواء في الجنة حتى خرج منها سبع ساعات من أيام الدنيا حتى أكلا من الشجرة، فأهبطهما الله إلى الارض من يومهما ذلك .
قال: فحاج آدم ربه فقال: يا رب أرأيتك قبل أن تخلقني كنت قدرت علي هذا الذنب وكل ما صرت وأنا صائر إليه، أو هذا شئ فعلته أنا من قبل لم تقدره علي، غلبت علي شقوتي فكان ذلك مني وفعلي لا منك ولا من فعلك ؟ قال له: يا آدم أنا خلقتك وعلمتك أني اسكنك وزوجتك الجنة، وبنعمتي وما جعلت فيك من قوتي قويت بجوارحك على معصيتي، ولم تغب عن عيني، ولم يخل علمي من فعلك ولا مما أنت فاعله .
قال آدم: يا رب الحجة لك علي، يا رب فحين خلقتني وصورتني ونفخت في من روحك، قال الله تعالى : يا آدم أسجدت لك ملائكتي، ونوهت باسمك في سماواتي، وابتدأتك بكرامتي، وأسكنتك جنتي، ولم أفعل ذلك إلا برضى مني عليك أبلوك بذلك من غير أن تكون عملت لي عملا ” تستوجب به عندي ما فعلت بك .
قال آدم: يا رب الخير منك والشر مني.
قال الله: يا آدم أنا الله الكريم، خلقت الخير قبل الشر، وخلقت رحمتي قبل غضبي، وقدمت بكرامتي قبل هواني، وقدمت باحتجاجي قبل عذابي، يا آدم ألم أنهك عن الشجرة ؟ واخبرك أن الشيطان عدو لك و لزوجتك ؟ واحذركما قبل أن تصيرا إلى الجنة، واعلمكما أنكما إن أكلتما من الشجرة كنتما ظالمين لأنفسكما عاصيين لي ؟ يا آدم لا يجاورني في جنتي ظالم عاص لي .
قال: فقال: بلى يا رب الحجة لك علينا، ظلمنا أنفسنا وعصينا وإلا تغفر لنا وترحمنا نكن من الخاسرين، قال: فلما أقرا لربهما بذنبهما وأن الحجة من الله لهما تداركهما رحمة الرحمن الرحيم فتاب عليهما ربهما إنه هو التواب الرحيم.
قال الله: يا آدم اهبط أنت وزوجك إلى الأرض، فإذا أصلحتما أصلحتكما، . في نسخة: بنعمة منى عليك عملتما لي قويتكما، وإن تعرضتما لرضاي تسارعت إلى رضاكما، وإن خفتما مني آمنتكما من سخطي، قال: فبكيا عند ذلك وقالا: ربنا فأعنا على صلاح أنفسنا وعلى العمل بما يرضيك عنا، قال الله لهما: إذا عملتما سوءا فتوبا إلي منه أتب عليكما وأنا الله التواب الرحيم.
قال: فأهبطنا برحمتك إلى أحب البقاع إليك، قال: فأوحى الله إلى جبرئيل: أن أهبطهما إلى البلدة المباركة مكة، قال: فهبط بهما جبرئيل فألقى آدم على الصفا، وألقى حواء على المروة، قال: فلما القيا قاما على أرجلهما ورفعا رؤوسهما إلى السماء وضجا بأصواتهما بالبكاء إلى الله تعالى وخضعا بأعناقهما، قال: فهتف الله بهما: ما يبكيكما بعد رضاي عنكما ؟ قال: فقالا: ربنا أبكتنا خطيئتنا، وهي أخرجتنا عن جوار ربنا، وقد خفي عنا تقديس ملائكتك لك ربنا، وبدت لنا عوراتنا واضطرنا ذنبنا إلى حرث الدنيا ومطعمها ومشربها، ودخلتنا وحشة شديدة لتفريقك بيننا، قال: فرحمهما الرحمن الرحيم عند ذلك .
وأوحى إلى جبرئيل: أنا الله الرحمن الرحيم، وأني قد رحمت آدم وحواء لما شكيا إلي فاهبط عليهما بخيمة من خيام الجنة، وعزهما عني بفراق الجنة، واجمع بينهما في الخيمة فإني قد رحمتهما لبكائهما ووحشتهما ووحدتهما، وانصب لهما الخيمة على الترعة التي بين جبال مكة، قال: والترعة مكان البيت وقواعده التي رفعتها الملائكة قبل ذلك، فهبط جبرئيل على آدم بالخيمة على مقدار أركان البيت وقواعده فنصبها، قال: وأنزل جبرئيل آدم من الصفا وأنزل حواء من المروة وجمع بينهما في الخيمة .
قال: وكان عمود الخيمة قضيب ياقوت أحمر فأضاء نوره وضوؤه جبال مكة وما حولها، قال: وامتد ضوء العمود فجعله الله حرما فهو مواضع الحرم اليوم، كل ناحية من حيث بلغ ضوء العمود فجعله الله حرما لحرمة الخيمة والعمود لأنهما من الجنة .
قال: ولذلك جعل الله الحسنات في الحرم مضاعفة والسيئات فيه مضاعفة، قال: ومدت أطناب الخيمة حولها فمنتهى أوتادها ما حول المسجد الحرام، قال: وكانت أوتادها من غصون الجنة ، وأطنابها من ظفائر الارجوان .
قال : فأوحى الله إلى جبرئيل: اهبط على الخيمة سبعين ألف ملك يحرسونها من مردة الجن، ويؤنسون آدم وحواء، ويطوفون حول الخيمة تعظيما ” للبيت والخيمة، قال: فهبطت الملائكة فكانوا بحضرة الخيمة يحرسونها من مردة الشياطين والعتاة، ويطوفون حول أركان البيت والخيمة كل يوم وليلة كما كانوا يطوفون في السماء حول البيت المعمور .
قال وأركان البيت الحرام في الأرض حيال البيت المعمور الذي في السماء. قال: ثم إن الله أوحى إلى جبرئيل بعد ذلك: أن اهبط إلى آدم وحواء فنحهما عن مواضع قواعد بيتي فإني اريد أن أهبط في ظلال من ملائكتي إلى أرضي فأرفع أركان بيتي لملائكتي ولخلقي من ولد آدم، قال: فهبط جبرئيل على آدم وحواء فأخرجهما من الخيمة ونحاهما عن ترعة البيت الحرام ونحى الخيمة عن موضع الترعة، قال: ووضع آدم على الصفا، حواء على المروة، ورفع الخيمة إلى السماء .
فقال آدم وحواء: يا جبرئيل بسخط من الله حولتنا وفرقت بيننا أم برضى تقديرا ” من الله علينا ؟ .
فقال لهما: لم يكن ذلك سخطا من الله عليكما، ولكن الله لا يسأل عما يفعل، يا آدم: إن السبعين ألف ملك الذين أنزلهم الله إلى الأرض ليؤنسوك ويطوفون حول أركان البيت والخيمة سألوا الله أن يبني لهم مكان الخيمة بيتا ” على موضع الترعة المباركة حيال البيت المعمور فيطوفون حوله كما كانوا يطوفون في السماء حول البيت المعمور .
فأوحى الله إلي: أن انحيك وحواء وأرفع الخيمة إلى السماء، فقال آدم: رضينا بتقدير الله ونافذ أمره فينا، فكان آدم على الصفا وحواء على المروة، قال: فدخل آدم لفراق حواء وحشة شديدة وحزن , قال: فهبط من الصفا يريد المروة شوقا ” إلى حواء وليسلم عليها .
وكان فيما بين الصفا والمروة واد , وكان آدم يرى المروة من فوق الصفا، فلما انتهى إلى موضع الوادي غابت عنه المروة فسعى في الوادي حذرا لما لم ير المروة مخافة أن يكون قد ضل عن طريقه، فلما أن جاز الوادي وارتفع عنه نظر إلى المروة فمشى حتى انتهى إلى المروة , فصعد عليها فسلم على حواء، ثم أقبلا بوجههما نحو موضع الترعة ينظران هل رفع قواعد البيت ويسألان الله أن يردهما إلى مكانهما حتى هبط من المروة فرجع إلى الصفا فقام عليه وأقبل بوجهه نحو موضع الترعة فدعا الله، ثم إنه اشتاق إلى حواء فهبط من الصفا يريد المروة ففعل مثل ما فعله في المرة الاولى، ثم رجع إلى الصفا ففعل عليه مثل ما فعل في المرة الاولى .
ثم إنه هبط من الصفا إلى المروة ففعل مثل ما فعل في المرتين الاوليين، ثم رجع إلى الصفا فقام عليه ودعا الله أن يجمع بينه وبين زوجته حواء، قال: فكان ذهاب آدم من الصفا إلى المروة ثلاث مرات ورجوعه ثلاث مرات فذلك ستة أشواط .
فلما أن دعيا الله وبكيا إليه وسألاه أن يجمع بينهما استجاب الله لهما من ساعتهما من يومهما ذلك مع زوال الشمس، فأتاه جبرئيل وهو على الصفا واقف يدعو الله مقبلا ” بوجهه نحو الترعة فقال له جبرئيل عليه السلام: انزل يا آدم من الصفا فالحق بحواء، فنزل آدم من الصفا إلى المروة ففعل مثل ما فعل في الثلاث المرات حتى انتهى إلى المروة فصعد عليها وأخبر حواء بما أخبره جبرئيل عليه السلام ففرحا بذلك فرحا شديدا , وحمدا الله وشكراه، فلذلك جرت السنة بالسعي بين الصفا والمروة، ولذلك قال الله: ” (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا “]( ) .
قال: ثم إن جبرئيل أتاهما فأنزلهما من المروة وأخبرهما أن الجبار تبارك وتعالى قد هبط إلى الأرض فرفع قواعد البيت الحرام بحجر من الصفا، وحجر من المروة وحجر من طور سيناء، وحجر من جبل السلام وهو ظهر الكوفة .
فأوحى الله إلى جبرئيل أن ابنه وأتمه، قال: فاقتلع جبرئيل الأحجار الأربعة بأمر الله من مواضعهن بجناحيه فوضعهما حيث أمره الله في أركان البيت على قواعده التي قدرها الجبار ونصب أعلامها، ثم أوحى الله إلى جبرئيل: أن ابنه وأتممه بحجارة من أبي قبيس، واجعل له بابين: باب شرقي، وباب غربي، قال: فأتمه جبرئيل، فلما أن فرغ منه طافت الملائكة حوله، وأقبل بوجهه نحو موضع الترعة فدعا، ثم انه اشتاق إلى حواء فهبط من الصفا يريد المروة ففعل مثل ما فعل في المرتين الاوليين. ولم يزد على ذلك. (فلما نظر آدم وحواء إلى الملائكة يطوفون حول البيت انطلقا فطافا بالبيت سبعة أشواط، ثم خرجا يطلبان ما يأكلان وذلك من يومهما الذي هبط بهما فيه) ( ).
وأخبرت آية السياق عن دعوة ونداء الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين، مع إحراز سماعهم لهذه الدعوة بدليل بيانها وتوضيحها بقوله تعالى[فِي أُخْرَاكُمْ] ومع أن نظم الآيات يقتضي صيغة الخطاب (في أخراكم) فان له دلالات عقائدية تفيد العموم والشمول بالدعوة من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين .
فقد إنقضت معركة أحد في يوم واحد، ولكن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين تبقى غضة متجددة في كل زمان، وكأن من معاني (في أخراكم) أي في آخر الأجيال من المسلمين.
ويفيد الجمع بين دعوة الرسول وقوله تعالى[وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] حث المسلمين على التوبة والإنابة ، فمن يقصر في عمله العبادي ، أو يفعل المعاصي من المسلمين فان الرسول يدعوه في كل يوم للإنابة والصلاح ، وفيه مسائل:
الأولى : إنه من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين بأنه يدعو أفراد أمته في كل زمان للعمل بأحكام الرسالة.
الثانية : يدعو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أفراد أمته على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي لسبل الهداية والصلاح، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثالثة : ذكرت آية البحث دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه الذين فروا من وسط ميدان المعركة يوم أحد، لتنتهي المعركة عصر ذات اليوم , ولكن دعوة الرسول تبقى في الآفاق , وفي مجتمعات ومنتديات ومساجد المسلمين، وفي جنبات وبين ضلوع كل واحد منهم للثبات على الإيمان وإن تعرضوا إلى هجوم مباغت من عدو أكثر عدداً وعدة لذا تفضل الله عز وجل وجعلها وثيقة سماوية خالدة يتلوها المسلمون كل يوم في صلاتهم وخارج الصلاة لأمور:
الأول : إستحضار واقعة أحد، من جهة الأسباب، ووقائع يوم المعركة، والنتائج والغايات.
الثاني : المعركة والعراك نوع مفاعلة بين طرفين أو أكثر.
الثالث : ذكر فرار وإنسحاب أكثر المسلمين من ميدان المعركة ودعوة الرسول لهم ذكرى وموعظة لأجيال المسلمين، وشهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صبره وجهاده وعنايته باصحابه بما ينجيهم في الدنيا والآخرة، فليس في الفرار إلا التعرض للقتل من قبل الذين كفروا خاصة وأنهم جاءوا للثأر والإنتقام،
وكان العرب لا يحصرون ثأرهم بالقاتل بل يطلبون أخوته وأبناء عمومته وأفراد قبيلته، ويتباهون إن قتلوا رأساً من رؤوسهم، ليصير المسلمون بعد واقعة بدر مطلوبين عند كفار قريش للإنتقام وإستيفاء الثأر منهم لذا يكون من مصاديق دعوة الرسول وجوه:
أولاً : والرسول يدعوكم لسلامتكم من القتل.
ثانياً : والرسول يدعوكم لنجاتكم من الأسر والعذاب والذل بأيدي قريش.
لقد كان كفار قريش يتمنون أن يدخلوا أسرى من المسلمين إلى مكة في معركة أحد، كما أدخل رسول الله سبعين أسيراً منهم إلى المدينة المنورة عقب معركة بدر، فجاءت دعوة الرسول لأصحابه بقوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] لدفع الأسر والذل والهوان عن الصحابة.
فان قلت في هذا الأمر والذل أجر وثواب لأنه في سبيل الله، والجواب هذا صحيح ، ولكن الأمن من الأسر رحمة , وفيه مسائل :
الأولى : العز والرفعة المتحدة والمتعددة , وللمؤمن الذي ينجو من الأسر ولعموم المؤمنين والمؤمنات.
الثانية : الأجر وكتابة الثواب للمؤمن عند نجاته من الأسر، وكأنه أصيب به وتلقى أذاه، وهو من فضل الله عز وجل، ليجمع الله تعالى للمؤمنين مصاديق وشواهد من قانون خاتمة الآية السابقة [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
الثالثة : النجاة من الأسر مناسبة كريمة لأداء الفرائض والمناسك بسعة ومندوحة ومن غير أذى.
الرابعة : النجاة من الأسر طريق لتحقيق النصر والغلبة على العدو، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الخامسة : التفقه في الدين والإنصات لآيات القرآن التي تنزل نجوماً وتباعاً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة : الفوز بالصحبة اليومية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابعة : الصدور عن السنة النبوية القولية والفعلية.
ثالثاً : والرسول يدعوكم في أخراكم لخيبة كفار قريش بالرجوع إلى مكة من غير إحراز نصر أو إدخال أسرى معهم إلى مكة ليكون من مصاديق قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) عجز وخيبة قريش عن العودة بأسرى , فلا غرابة أن يكون عدد قتلى المسلمين يوم أحد سبعين شهيداً بعدد أسرى قريش الذين وقعوا بأيدي المسلمين.
رابعاً : لقد إختار المؤمنون الشهادة على الأسر لإعطاء رسالة للذين كفروا بعشق الشهادة ودفع الأسر عن الذات أي ذات الشهيد , وعن باقي المؤمنين سواء الذين خرجوا للقتال يوم أحد أو الذين بقوا وتخلفوا في المدينة عن عذر أو بدون عذر ، لأن العدو الكافر لا يميز بين المقاتل وغيره من المؤمنين، لذا فمن مصاديق الآية [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]( )، أي يدعوكم لنجاة إخوانكم في المدينة من الأسر والقتل .
خامساً : والرسول يدعوكم لسلامة المؤمنات من السبي، والمدينة من الإستباحة.
وهل إستحضر الصحابة هذه المعاني عند سماعهم لدعوة الرسول ولو في الجملة، الجواب نعم.
سادساً : تبين آية البحث فضل الله على المسلمين وعلى نحو متعدد ومتجدد، وكل فرد منه نعمة عظيمة، وهو أكبر وأعظم مما قبله من مصاديق الفضل , فقوله تعالى[فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ] بيان بأن الغم ثواب من عند الله، وأنه ثواب متعدد , وإن كان من ذات جنس النعمة والفضل، إذ يتجلى الفضل الإلهي في موضوع الغم من وجوه:
الأول : ذكر المتعدد من الغم، فلو لم تذكر الآية تثنيته وتعدده بقوله تعالى[فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ] لما علم أحد من الناس أن الغم المتعدد قد حلّ يوم أحد في المحل المتحد سواء في النفوس أو الجماعة أو الطائفة.
الثاني : بيان حقيقة وهي أن الغم الذي طرأ على المسلمين من الثواب والخير المحض، فقد يكون الثواب برزخاً دون نزول البلاء والضرر.
الثالث : عدم وجود فترة أو فاصلة بين الغمين، فاحدهما دخل على الآخر.
الرابع : لم تذكر آية السياق متعلق وسبب الغم الأول والثاني، وظاهر الآية أن الغم الأول الذي أصاب الصحابة بسبب صعودهم على الجبل وفرارهم.
وعلى عدم إلتفاتهم إلى ورائهم , ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن بقي معه وسط الميدان، ولا مانع من التعدد في أسباب الغم من جهات:
الأولى : تغشي الغم للمؤمنين بسبب ترك الرماة مواضعهم.
الثانية : حرمان المؤمنين من الغنائم في معركة أحد، بعد جمعها بيسر وسهولة في معركة بدر، وبعد أن إستعد الذين كفروا للهزيمة في بدايات معركة أحد، وصارت مؤنهم قريبة من أيدي المسلمين.
الثالثة : سقوط القتلى شهداء من جيش المسلمين، ومنهم حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويحتمل الغم بسقوط الشهداء وجوهاً :
أولاً : إصابة المؤمنين بغم واحد ومتحد لفقد مجموع الشهداء.
ثانياً : كل شهيد يترك غماً في نفوس المؤمنين من المهاجرين والأنصار.
ثالثاً : تعلق موضوع الغم بالصلة مع الشهيد، فمثلاً لا يصيب الغم أحد المهاجرين على سقوط أنصاري لا يعرفه شهيداً.
والصحيح هو ثانياً أعلاه، فكل شهيد أمة وعلم ونبراس وأسوة للمؤمنين، ومشروع شهادته من مضامين دعوة الرسول لأصحابه بالعودة والرجوع إلى المعركة , وتقدير الآية على جهات:
الأولى : والرسول يدعوكم للإتعاظ من إخوانكم الشهداء، وتضحيتهم في سبيل الله.
الثانية : والرسول يدعوكم للإقتداء بالشهداء ببذل الوسع في سبيل الله.
الثالثة : والرسول يدعوكم لوقف القتل بين صفوفكم.
الرابعة : والرسول يدعوكم ليقتدي المسلمون في أجيالهم المتعاقبة بصبركم وجهادكم.
الخامسة : والرسول يدعوكم في أخراكم , كما يدعوكم في أولادكم، لبيان قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ الرسالة وأن من خصائص هذا التبليغ الإحاطة الرسالية بالمؤمنين سواء بإقبالهم أو عند حدوث الفرار منهم لتكون دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن يصاب بالكسل أو يأتيه الشك من المسلمين من باب الأولوية القطعية.
ولو لم تنزل آية البحث لم يعلم أحد من الناس أن الغم يكون ثواباً وجزاءً، ترى هل رزقت أمة وأهل ملة قبل المسلمين ثواباً من صنف الغم، الجواب لا دليل عليه، وهو باب فتحه الله للمسلمين، وشاهد على صبرهم وجهادهم في سبيل الله , والتخفيف عنهم بما يظنه الناس أذى، وهو الغم، وما هو بالأذى.
نعم قد ورد في أم موسى عليه السلام أنها خافت عليه عند ولادته فأمرها الله عز وجل أن تلقيه في البحر مع طمأنتها عليه والوعد الكريم من عند الله على إعادته لها بقوله تعالى[فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ] ( )، ولكن هذا الموضوع أمر آخر وعلى نحو القضية الشخصية وبخصوص أحد الرسل الخمسة أولي العزم، أما بالنسبة للغم فهو ثواب وجزاء وتوجه لأمة وهم الصحابة من المهاجرين والأنصار.
وهل تتكرر هذه النعمة والثواب أم أنه باب فتحه الله مرة ثم غلقه إلى يوم القيامة، كما فاز المهاجرون والأنصار بتسمية لم ينلها غيرهم من الأولين والأنصار، قال تعالى[وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ]( ).
الجواب هو الأول ، فهذه النعمة ثروة وكنز فاز أهل البيت والصحابة بنيله يوم أحد ليبقى كالخزينة عند المسلمين ينعم به الله عز وجل على من يشاء، وقد إجتمعت شرائط وأسباب يوم أحد من جهات:
الأولى : حضور النبي محمد في ميدان المعركة.
الثانية : قيادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجيش المسلمين.
الثالثة : مجئ جيش الكفار بقصد القتال والظلم والتعدي.
الرابعة : بلوغ جيش الذين كفروا ثلاثة أضعاف جيش المسلمين.
الخامسة : وقوع الخطأ والزلل من جيش المسلمين بترك الرماة مواضعهم على الجبل، وصيرورة هذا الترك سبباً لهجوم الخيالة من جيش المشركين من الخلف ، وكأنهم إستعدوا لهذا الهجوم بالمجئ بمائتين من الخيل تقاد قوداً، كيلا تجهد في الركوب عند الإغارة والمطاردة في ساحة المعركة.
السادسة : فوات فرصة نيل المسلمين الغنائم في معركة أحد، تلك الأمنية والغاية التي كانت حاضرة في أذهان بعض المؤمنين الذين اشتركوا في القتال في معركة أحد لقوله تعالى قبل آيتين[مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا]( ).
السابعة : كثرة القتلى الذين سقطوا من المؤمنين في معركة أحد وكان عددهم عشر عدد أفراد جيش المسلمين، بينما وقع ثمانية وعشرون قتيلاً من المشركين من مجموع جيشهم البالغ ثلاثة آلاف رجل.
الثامنة : إصابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجراحات والكلوم العديدة ، وجريان الدماء من رأسه ووجهه الشريف ، وكسرت أسنانه الأمامية ، ( وهشمت البيضة على رأسه)( ).
التاسعة : فرار أكثر المؤمنين من ساحة المعركة ساعة شدة القتال ومجئ الذين كفروا من خلف جيش المسلمين لبيان عملي لحقيقة وهي حتمية نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وإن بذل الذين كفروا أقصى جهدهم، وأنفقوا أموالهم في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاءوا بالحيلة والمكر وفنون القتال قبل وأثناء المعركة .
وقد يشمت الذين كفروا بالمؤمنين عند إصابتهم بالغم المركب والمتعدد خاصة وأن أعراضه وآثاره تظهر على أسارير الوجه , وفي عالم الأفعال وإن كان كيفية نفسانية.
فأخبرت آية البحث بأن هذا الغم ثواب ورحمة من عند الله للمسلمين ليتلقوه بالقبول والشكر لله عز وجل، مع التدبر في منافعه الآنية والآجلة.
العاشرة : تلقي أهل البيت والصحابة الذين قاتلوا حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذبوا عنه يوم أحد الجراحات البالغة، قال أنس بن مالك: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ بعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعليه نيف وسبعون جراحة من طعنة وضربة ورمية، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسحها وهي تلتئم بإذن الله كأن لم تكن، ونظير هذه الآية قوله : {أولما أصابتكم مصيبة}( ) يوم أُحد قد أصبتم مثليها يوم بدر، ( ).
وهل يحق للمسلمين أن يتخذوا نزول الغم ثواباً من عند الله عيداً، أم أنه نوع مواساة وتخفيف جاء عند فرار أكثر المؤمنين من ميدان معركة أحد وأنه لا يخلو من صبغة العقاب لما له من وطأة على النفس , لذا لم ينزل الغم على المسلمين يوم بدر لأنه نصر على نحو الإطلاق.
الجواب هو الأول، فقد فضّل الله عز وجل المؤمنين حتى في حال الهزيمة والفرار بأن يحسن إليهم بالغم والأسى على فوات نعمة الظفر والغلبة في بعض جولات معركة أحد.
ومع أن الغم ثواب ونعمة وأجر من عند الله عز وجل فانه لم يستقر ويستديم عند المسلمين كثيراً، ويحتمل وجوهاً :
الأول : رفع الغم عن المؤمنين يوم أحد، وبقاء المسلمين كل فرد منهم بحسب حالته النفسية.
الثاني : مجئ الغبطة والسكينة بدل الغم.
الثالث : ندب المسلمين للإستغفار والإسترجاع بلحاظ أن ما أصابهم يوم أحد مصيبة ، وفي قوله تعالى[أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ َ]( ) .
ورد عن ابن عباس في قوله { أو لما أصابتكم مصيبة . . . } الآية . يقول : إنكم قد أصبتم من المشركين يوم بدر مثلي ما أصابوا منكم يوم أحد .
وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال : قتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين واسروا سبعين ، وقتل المشركون يوم أحد من المسلمين سبعين . فذلك قوله { أصبتم مثليها قلتم أنى هذا } ونحن مسلمون نقاتل غضباً لله ، وهؤلاء مشركون { قل هو من عند أنفسكم }( )عقوبة لكم بمعصيتكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قال ما قال( ).
الرابع : نزول النعاس أمنة وطمأنينة.
ويحتمل هذا النزول وجوهاً :
أولاً : مجئ النعاس بدلاً عن الغم، وحالاً محله في القلوب.
ثانياً : إجتماع النعاس مع الغم في آن وعرض واحد.
ثالثاً : إنصراف الغم عن المؤمنين قبل أن ينزل النعاس أمنة بدليل(ثم) في أول هذه الآية , والذي يفيد العطف والتراخي.
والصحيح هو أولاً أعلاه، بلحاظ أنه نعمة من عند الله، ومن الإرادة التكوينية في قوانين النعم الإلهية مجيؤها في الحال وعدم إبطائها أو تأخرها عن أوانها.
لقد كانت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة عظمى على الناس جميعاً، ولا تختص منافعها في أمور العبادة وحسن المقام في الآخرة مع أنه الغاية والعاقبة الحسنة للناس.
لقد أراد الله عز وجل أن تكون الدنيا برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم دار السعادة والأمن والغبطة والتنزه عن الظلم، ومن خصائص الظلم وقبحه أن الظالم قد يكون متحداً ولكن المظلوم متعدد في الغالب، وان النفوس تنفر من الظلم، فجاءت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرباً على الظلم للذات والغير، وأشد أنواع الظلم هو الكفر والجحود، وفي وصية لقمان لابنه ورد في التنزيل[يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]( ).
وإذا أعطى الله عز وجل فانه يعطي بالأتم والأوفى، لذا وردت السنة النبوية في أمور الدين والدنيا، وليس من مورد في الحياة ومسألة إبتلائية إلا وللسنة حكم وضياء فيها، وهذا الحكم مقتبس من القرآن , وهو مرآة له.
وأبى الظالمون على النفوس أن تميل إلى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن يعمل الناس بأحكام شريعته التي تحارب الظلم وإلى يوم القيامة ، وتمنع من عبادة الأوثان، قال تعالى [فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ]( ).
لقد جعل الله عز وجل العبادة علة لخلق الإنسان ، مما يدل على أنه مكلف ومأمور في الدنيا بالإنقياد إلى مقام الربوبية ، لذا تفضل الله وخلق آدم في الجنة وزوجه ليقيم فيها مدة قصيرة ليرى عبادة الملائكة لله وإنقطاعهم لطاعته ، قال تعالى [لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ).
لينزل آدم إلى الأرض وقد جعل الملائكة أسوة حسنة له في طاعة الله والإمتثال لأوامره ، ويتعظ من قبيح ما فعل إبليس وإصراره على المعصية وإمتناعه عما أمره الله من السجود لآدم ، وتلك آية في خلق آدم بأن جعله الله عز وجل يرى ملائكة كثيرين ينقطعون لعبادة الله بشوق وحسن إنقياد ، ويرى فرداً واحداً مصراً على معصيته وهو إبليس مطروداً من رحمة الله , فيقبل آدم وهو في الأرض على طاعة الله وأداء التكاليف هو وزوجه ، ويقومان بتأديب أولادهما على التقيد بطاعة الله , وبيان أنها طريقة للعودة إلى الجنة .
فمن فضل الله عز وجل في خلق آدم أن علة إقامته في الجنة في أول خلقه مقدمة لعودته والمؤمنين من ذريته إلى الإقامة الدائمة فيها من غير وسوسة إبليس لأن مصيره والكافرين إلى النار ، قال تعالى[قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] ( ).
لقد سجد الملائكة لآدم ليكون هذا السجود مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته للمؤمنين بالرجوع إلى المعركة .
وهل كان سجود الملائكة لآدم مثل سجود الإنسان بوضع جبهته على الأرض ، الجواب إنه أعم , فالسجود لغة هو التطامن والخضوع ، ولم يكن الملائكة بهيئة واحدة، ومنهم من تكون قدماه في تخوم الأرض ورأسه في السماء السابعة .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا كان أولُ يومٍ من شهرِ رمضانَ نادى منادِى اللهِ رضوانَ خازنَ الجنةِ يقولُ يا رضوانُ فيقولُ لبيك سيدى وسعديك فيقولُ زيِّن الجِنانَ للصائمين والقائمين من أمةِ محمدٍ ولا تغلقْها حتى ينقضيَ شهرُهم .
ثم إذا كان اليومُ الثالثُ أوحى اللهُ إلى جبريلَ اهبطْ إلى الأرضِ فغُلَّ مَرَدَةَ الشياطينِ وعُتَاةَ الجنِّ حتى لا يفسدوا على عبادى صومَهم وإنَّ للهِ مَلَكًا رأسُه تحتَ العرشِ ورجلاه فى تُخُوم الأرضِ السابعةِ السفلى له جناحان أحدُهما بالمشرقِ والآخرُ بالمغربِ أحدُهما من ياقوتٍ أحمرَ والآخرُ من زبرجدٍ أخضرَ ينادي فى كلِّ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ .
هل من تائبٍ يتاب عليه هل من مستغفرٍ يغفر له هل من صاحبِ حاجةٍ فيشفعُ لحاجتِهِ يا طالبَ الخيرِ أبشرْ يا طالبَ الشرِّ أقصرْ وأبصرْ ألا وإنَّ للهِ فى كلِّ ليلةٍ عندَ السحورِ والإفطارِ سبعةَ آلافِ عتيقٍ من النارِ قد استوجبوا العذابَ من ربِّ العالمين .
فإذا كانتْ ليلةُ القدرِ هبط جبريلُ فى كبكبةٍ من الملائكةِ له جناحانِ أخضرانِ منظومانِ بالدرِ والياقوتِ لا ينشرُهما جبريلُ فى كلِّ سنةٍ إلا ليلةً واحدةً , وذلك قولُه {تَنَزَّلُ الملائكةُ والروحُ فيها بإذنِ ربِّهم } ( ).
ولما كانت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة عظمى من عند الله على الأجيال المتعاقبة من أهل المشرق والمغرب فان الله عز وجل أمده بالملائكة ناصرين له في ميدان القتال في معارك الإسلام الأولى.
وهل كانت الملائكة تحيط بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما دعا أصحابه للرجوع إلى ميدان المعركة كما تبين آية البحث هذه الدعوة والنداء بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ].
الجواب نعم ، وهو من أسباب سلامته من القتل يومئذ ، وفيه دعوة إضافية لأصحابه بالرجوع إلى وسط الميدان إذ أن ذات الدعوة نوع أمان ليأتي الغم بعد أمان هذه الدعوة , ثم يتعقبه النعاس الذي بينت آية البحث أنه أمان بذاته وموضوعه , وما يترشح عنه بقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا] ( ).
لقد دخل المهاجرون والأنصار الإسلام عن إيمان وتصديق بمعجزات النبوة ، وهل كانوا يتوقعون القتال وخوض المعارك واحدة تلو أخرى تحت لواء النبوة ، فيه وجوه :
الأول : لم يعلم الصحابة بأنه ستقع معارك ضارية بينهم وبين الذين كفروا ، ولم تنزل آية السيف في السنة الاولى أو الثانية للخجرة , وهي [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]( ).
الثاني : التفصيل والتعدد في حال الصحابة، فشطر منهم يعلم بوقوع القتال , وشطر يرجح عدم وقوعه.
الثالث : كان الصحابة يظنون بوقوع القتال مع الذين كفروا ويرجحون وقوعه .
والصحيح هو الأخير من جهات :
الأولى : الظن بمسمى القتال ورجحان ملاقاة طائفة من الذين كفروا للأخبار التي يتناقلها الناس عن إستعداد وزحف قريش.
الثانية : سخط وعداوة رؤساء الكفر من قريش للإسلام والنبوة.
الثالثة : سعي رجالات قريش للثأر مما لحقهم يوم بدر من الهزيمة والعار والذل.
الرابعة : توقع شدة القتال مع الذين كفروا وإستدامته لسنوات طويلة ، وقام المسلمون باصلاح أنفسهم وأبناءهم لهذا البلاء وهو من مصاديق قوله تعالى في الثناء على المؤمنين [وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] ( ) بلحاظ أن الندب والخروج لقتال الذين كفروا من الحق ، وهو من أبهى مصاديق الصبر في مرضاة الله.
وتتجلى الصلة بين دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه وبين نزول النعاس عليهم من جهة أخرى , أن ذات دعوة الرسول أمنة ورحمة ومقدمة للأمنة والسلامة من الفزع والخوف ، لبيان التضاد بين المؤمنين والذين كفروا في ساحة القتال.
ففي ذم الذين كفروا وما يلقونه من أسباب العذاب العاجل ، ورد قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
وفي هذا التضاد مسائل :
الأولى : كل من النعاس الأمنة والرعب ينزل من عند الله عز وجل .
الثانية : تأكيد المدد من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ببعث الأمنة في نفوسهم , وإلقاء الرعب في قلوب أعدائه .
عن أبي أمامة ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : فضلت على الأنبياء بأربع : أرسلت إلى الناس كافة ، وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً ، فأينما رجل أدركه من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره ، ونُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي ، وأحل لنا الغنائم) ( ).
ويحتمل موضوع الرعب بلحاظ الحديث أعلاه وجوهاً :
أولاً : يكون الرعب بمرتبة واحدة , وإن تباينت المسافة والمدة بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذين كفروا فسواء إقترب الذين كفروا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجيشه أو إبتعدوا عنه يكون مقدار الرعب الذي يدخل قلوبهم نفسه والضابطة الكلية هي أن مدة المسير شهر كامل .
ثانياً : التناسب الطردي , فكلما إقترب الذي كفروا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إشتد الرعب في نفوسهم .
ثالثاً : التباين بلحاظ الموضوع من جهتين :
الأولى : موضوعية نية الكفار القتال بإشتداد الرعب كلما إقترب الذين كفروا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : موضوعية نية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القتال في إزدياد وشدة الرعب للذين كفروا عندما يقترب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الذين كفروا لغزوهم وقتالهم .
رابعاً : إنحصار الرعب بالكفار الذين يريدون قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويجهزون الجيوش لمحاربته .
والصحيح هو ثانياً وثالثاً أعلاه بجهتيه ، لذا فان الرعب الذي دخل قلوب الذين كفروا يوم أحد أشد ضروب الرعب والفزع ليشل أيديهم ويمنعهم من مطاردة المؤمنين عند الصعود إلى الجبل والفرار في الأرض .
الثالثة : تأكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ الخصال النفسية للمؤمن والكافر ، فيدرك المؤمن آية حسية في نفسه وبدنه وجوارحه فيزداد إيماناً ، ويدرك الكافر حال الخوف والفزع والجزع التي طرأت عليه , وإستحوذت على نفسه وجوارحه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ).
فقد يكون العبد تابعاً لرؤساء الكفر والضلالة ، أو أنه من رؤساء الكفر والضلالة ولا يسمع إلا الإفتراء والتكذيب للآيات ، والإستهزاء بالذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن القواعد في النبوات أن الذين يبادرون إلى التصديق بالنبوة في الغالب من المستضعفين والضعفاء والفقراء ، فيغزوا الرعب قلب الكافر لإستكباره ليكون آية حاضرة تصاحبه في حله وترحاله وفي حال الحرب والسلم والمهادنة لتدعوه لنبذ الكفر ، وتحمله على التدبر في آيات التنزيل ، ومنها الآية أعلاه التي تخبر عن نزول الرعب في نفسه وعند أصحابه مع إستحضاره للآية أعلاه ومضامينها القدسية ، وهو من أسرار تلاوة المسلمين والمسلمات للقرآن في الصلاة على نحو الوجوب العيني لتكون تلاوة المسلم آية من القرآن في الصلاة رحمة للذات والغير من جهات :
الأولى : تلاوة الآية القرآنية في الصلاة رحمة بالمسلم الذي يتلوها .
الثانية : إنها رحمة بوالدي الذي يتلوها من المسلمين , ذكراً كان أو أنثى .
الثالثة : التلاوة في الصلاة ميراث كريم للأبناء ، وفيه ثواب عظيم لهم ، وليس من ميراث يقترن معه الثواب إلا أفراد العبادة والنسك ، نعم قد يرث الإنسان المال فيسخره في سبيل الله فيكتب له الأجر والثواب .
أما التلاوة والصلاة فهي ميراث يقترن به الثواب ، بمعنى أن ابن المسلم يصل سن البلوغ وعنده كنز من الأجر والثواب ورثه من أبيه أو أمه أو هما معاً مع إنهما معه في الحياة الدنيا لم يموتا بعد ، فالأصل بالميراث أنه ينتقل إلى الحي عند وفاة المالك المورث بلحاظ قانون لابد من مالك للمال , وأنه ينتقل قهراً وإنطباقاً إلى الورثة بعد موت صاحبه الأصلي .
ولكن ميراث الصالحات ومنها أداء الصلاة والتلاوة فيها يرثه الابن والبنت من الوالدين في ذات أوان الفعل ، ومن غير أن يتعارض هذا الثواب مع ما يأتي للوالدين ذاتهما من الأجر والثواب ، ومنه تلاوة القرآن في الصلاة والتي هي إعلان للحرب على الكفر والضلالة ، ودعوة للأبناء للثبات على الإيمان والنهل من كنوز الأجر ، وهو من بر الوالدين اللذين يصلحان أبناءهما بالتقيد بالسنة النبوية .
الرابعة : تلاوة المسلم آيات القرآن في الصلاة رحمة حتى بالكافر والذي يعادي النبوة والإسلام لأنها زاجر عن الإقامة على الكفر , ومعاداة الحق .
وليس من حصر لعدد الذين دخلوا الإسلام بسبب سماعهم لآيات القرآن بتلاوة المسلمين , وهو من الشواهد على أن القرآن لم ينتشر بالسيف , وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
وهذه الجهات مجتمعة ومتفرقة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) فلا غرابة أن يشرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة من أول يوم من بعثته وأن يؤدي هذه الصلاة في المسجد الحرام بين ظهراني كفار قريش ويتحمل منهم الأذى الشديد ، وأن يقف معه أهل البيت في الصلاة نصرة وتأييداً وإيماناً بالصلاة .
وهل كان وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين يدي الله في الصلاة وتلاوته آيات القرآن في الأيام والأشهر الأولى للبعثة النبوية سبباً في دخول فريق من الناس الإسلام ، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتنزل الآية القرآنية ليبين الله عز وجل إعجازها كل يوم بتلاوة المسلمين لها ، وتكون كالماء الجاري في النهر الذي يدخل الجداول ويسقي المزروعات ، ويشرب منه الناس والدواب ، ويكون سبباً لإستدامة الحياة .
وهذه التلاوة غذاء للروح والبدن , وبرزخ دون دبيب الشك والريب إلى النفوس.
وفي إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة وتلاوة القرآن فيها إجهار بكلام الله في الأرض ودعوة للناس لتلاوته وإن كانت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى في آية السياق [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]خاصة بأصحابه الذين فروا وإنسحبوا من ميدان المعركة ، فان صلاته وصلاة المسلمين اليومية دعوة للناس كافة للإيمان ودخول الإسلام , وكأن معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) حث للمسلمين لدعوة الناس بالصلاة إلى الإسلام .
وورد عن عبد الله بن مسعود أنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « اقرأ عليَّ قلت : يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال : نعم . إني أحب أن أسمعه من غيري . فقرأت سورة النساء حتى أتيت على هذه الآية { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً }( ) فقال : حسبك الآن . . فإذا عيناه تذرفان) ( ).
وهل يحب الله عز وجل تلاوة كلامه من قبل نبيه والمؤمنين ، وهل الحب من أسرار وجوب التلاوة في الصلاة أم أن مقام الربوبية المطلقة منزه عن مثل هذا الحب إذ أن هذه التلاوة رحمة وحاجة للناس أنفسهم .
الجواب لا تعارض بين الأمرين ، وهو من الإعجاز والتجليات في الصلاة اليومية ، إذ أن القراءة في الصلاة صلة بين الله عز وجل وروح وبدن وجوارح العبد تتجدد كل يوم خمس مرات لأن المسلم يتلو كلام الله بقصد القربة له سبحانه ، ليأتي الأجر والثواب له ولذويه , وتنزل البركة والفيوضات عليه وعلى من حوله من الناس البر والفاجر ، قال تعالى [هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
فقد يقول المسلم من التابعين وتابعي التابعين يا ليتني كنت من الصحابة الذين بقوا في معركة أحد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال أو من الذين فروا من المعركة فازوا بدعوة الرسول وتخليدها وإياهم في القرآن , بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] ويتجلى هذا الخلود من جهات :
الأولى : لغة الخطاب في آية السياق ، فان قلت قد يرد الخطاب في القرآن من عند الله إلى الذين كفروا كما في قوله تعالى [كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَع ُونَ] ( ) وفيه شاهد بأن الخطاب وحده لا يدل على المدح والثناء والذكر الحسن .
والجواب هذا صحيح , ولكن الخطاب في آية السياق ورد بصيغة الإيمان الذي يدل بالدلالة التضمنية على الثناء ، وتقديره على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا الرسول يدعوكم في أخراكم .
ثانياً : والرسول الذي آمنتم برسالته وصدقتم بنبوته يدعوكم في أخراكم .
ثالثاً : والرسول الذي بعثه الله بشيراً ونذيراً يدعوكم ، لتكون دعوته بشارة للمؤمنين من وجوه عديدة منها :
الأول : إقتران النصر بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتقدير الآية : والرسول يدعوكم للنصر .
الثاني : والرسول يدعوكم لتثبيت صرح الإيمان إلى يوم القيامة بعودتكم إلى ميدان المعركة ، وهو من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد : يا رب إن تهلك هذه العصابة في الأرض فلن تعبد في الأرض أبداً) ( ) .
الثالث : والرسول يدعوكم لتكون عودتكم إلى ميدان المعركة بشارة للأجيال المتعاقبة من المسلمين ، وفيه مسألتان :
الأولى : هل دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه ذاتها بشارة للمسلمين .
الثانية : لم تذكر آية السياق إستجابة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لدعوته بالعودة إلى ميدان المعركة .
أما الأولى فالجواب نعم ، لبيان أن هذه الدعوة من الوحي ، ومن رحمة الله عز وجل بعموم الصحابة سواء الذين ثبتوا في الميدان أو الذين توجهت لهم الدعوة ممن فروا من المعركة .
وأما الثانية فان السنة النبوية وأخبارها شاهد على إستجابة الصحابة لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ نزلوا من الصخرة ورجعوا من طريق الفرار ، ومنهم من ورد إسمه فيمن فر وصعد الصخرة ، ثم أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرد على أبي سفيان عندما قال (أعل هبل ) وكانت إستجابتهم هذه وإحاطتهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في ساحة المعركة من الأسباب التي جعلت رؤساء الكفر يأمرون بالإنسحاب من ميدان معركة أحد بخيبة .
ولم يوجه أفراد الجيش وأمراء الفرق والطوائف داخل جيش المشركين اللوم إلى رؤسائهم بسبب هذا الإنسحاب ، ولم يقل أحد منهم فيما بعد أن نصرهم كان قريباً لولا الإنسحاب ، وأنّى لهم هذا القول .
وقد توافد المؤمنون وأحاطوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من جديد وساءهم ما رأوه من الجراحات في رأسه ووجهه وسيلان الدم منهما .
الرابع : والرسول يدعوكم للبشارة بالعز المستديم ،وسيبقى قول الله عز وجل [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) وعداً وقانوناً متجدداً في كل يوم ، وهل منه أداء الصلاة وتلاوة آيات القرآن فيها، الجواب نعم ، وهو عز ظاهر وجلي ، ومنه تلاوة آية السياق والبحث .
ومن القليل النادر عودة أفراد الجيش الفارين إذا كانوا هم الأكثر والأغلب من مجموع الجيش فلم يفر هؤلاء إلا عن إضطرار وطلباً للأمن والسلامة مع تعاهد الإيمان ، فتفضل الله عز وجل وبيّن المدد منه تعالى بدعوة وكلام من الرسول (إليّ عباد الله ، إليّ عباد الله) ( ) .
فينسخ قاعدة وسجية في معارك القتال , ويعود الذين فروا إلى ميدان المعركة لتكون عودتهم بشارة لهم وسكينة فلذا ورد في آية البحث نزول النعاس أمنة خاصاً بالذين أخلصوا الإيمان ولم يطرأ الشك ومفاهيم النفاق على نفوسهم .
الخامس : والرسول يدعوكم في أخراكم ليكون سعيكم وجهادكم يوم أحد بشارة لأهليكم وذويكم والمؤمنين جميعاً ، لما في الإستجابة لدعوة النبي من نسخ ومحق ودفع للفرار والهزيمة .
وكان أهل المدينة يتلقون الأخبار عن سير المعركة والريح فيها ويستبشرون إذا بلغهم خبر سار عن بطولات المؤمنين وإزاحة الذين كفروا من وسط المعركة .
الثانية : ترشح الخلود على دعوة الرسول للصحابة من خلود القرآن، ودوام بقائه في الأرض كتاباً سماوياً لا تصل إليه يد التحريف والتغيير، وهو من مصاديق قوله تعالى في الثناء على القرآن[لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ]( ) .
فمن إعجاز القرآن توارث الناس لمضامين ودلالات آياته وتدبرهم في معانيها.
الثالثة : توثيق آية البحث لتفاصيل ووقائع معركة أحد نوع خلود لها عند الناس في كل زمان وإلى يوم القيامة، ففي كل زمان يشعر المسلمون وكأن معركة بدر وأحد وقعتا في زمن ليس ببعيد، ويتحسسون منافع كل منهما في هدايتهم وصلاحهم، قال تعالى [وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
ويمكن تقسيم أثر وذخائر السنة النبوية عدة أقسام منها :
الأول : الأثر والنفع في الحياة الدنيا .
الثاني : الإنتفاع من السنة النبوية في عالم البرزخ .
الثالث : أثر ونفع السنة النبوية على الناس في عالم الحشر, والتقسيم بلحاظ أهل الملل إلى أقسام :
الأول : أثر ونفع السنة النبوية على المسلمين، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الثاني : أثر ونفع السنة النبوية على أهل الكتاب .
الثالث : أثر ونفع السنة النبوية على الناس جميعاً .
وتقسم السنة النبوية وفق الموضوع والحكم إلى أقسام منها :
الأول : أثر ونفع السنة النبوية في باب العبادات .
الثاني : منافع السنة النبوية في المعاملات .
الثالث : الدرر واللآلىء المستنبطة من السنة النبوية في التشريع والأحكام .
الرابع : أثر ومنافع السنة النبوية في الحياة العامة للناس، والقوانين والمسائل التي تأسست بالسنة النبوية في علم الإجتماع وتنظيم الأسرة ، فيأتي حديث بخصوص النكاح والحياة الزوجية تعجز الدول والمؤسسات عن إيجاد معشار نفعه وآثاره كما في أحاديث الحث على النكاح منها : (النَّكَاحُ سُنَّتي ، فَمَنْ أَحَبَّ فِطْرَتي فَليسْتَنَّ بِسُنَّتِي)( ).
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : تَنَاكَحُوا تَكَاثَروا؛ فإنِّي أُبَاهِي بِكُم الأُممَ يَوْمَ القِيَامة ، حَتَّى السَّقْط ) .
وقال أيضاً : مَنْ رَغِبَ عَن سُنَّتي فَلَيْسَ مِنِّي ، وإِنَّ مِنْ سُنَّتي النّكاحَ ، فَمَنْ أحَبَّنِي فَليَسْتَنَّ بِسُنَّتِي وقال صلى الله عليه وآله وسلم : مَنْ تَرَكَ التَّزَوُّج مَخَافَةَ العَيْلة فَلَيس مِنَّا ).
وقال صلى الله عليه وسلم : مَنْ نَكَحَ لله وأَنكَحَ لله استَحَقَّ ولايَة الله) ( ).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (رُذال موتاكم العزّاب) ( ).
إذ تبين هذه الأحاديث إستحباب النكاح، وأنه حسن ذاتاً، ويجذب الرجال والنساء إلى الزواج، ويبعث النفرة في نفوسهم من حياة الفردية، كما يدعو المسلمين عامة إلى تيسير مقدمات النكاح آباء وأمهات ومصلحين وآمرين بالمعروف وناهين عن المنكر، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
أو في باب الطلاق مثلاً كما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) ( ) ولم يرد وصف من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لموضوع آخر , بانه أبغض الحلال غير الطلاق ، مما يدل على الترابط والإتصال وإنتفاء التزاحم أو التضاد بين الأحاديث النبوية التي نطق بها صلى الله عليه وآله وسلم طيلة مدة النبوة البالغة ثلاثاً وعشرين سنة .
وحتى لو ورد حديث آخر ينبأ عن موضوع بأنه أيضاً أبغض الحلال إلى الله فانه ليس من التعارض ، إذ يمكن الجمع بينهما وأنهما بعرض واحد من حيث الحكم الشرعي.
ومن الآيات أن الحديث النبوي لا يتعارض مع مضامين أي آية من القرآن ، فقد ورد قوله تعالى [وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ] ( ) ولبيان عدم إنقطاع فضل الله عز وجل عن المسلمين ذكوراً وأناثاً حتى وإن كان الطلاق بسبب تقصير من الزوج أو الزوجة أو منهما معاً.
إذ تفيد الآية الإطلاق في نزول فضل الله وتغشيه الطرفين فيطرد اليأس ويدفع القنوط عن المسلمين والمسلمات ويدعوهم إلى التطلع إلى رحمة الله، والإجتهاد بالدعاء لسؤال الفضل والنافلة منه سبحانه ، قال تعالى [إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ] ( ).
وهل في علم (أثر وذخائر كل فرد من السنة النبوية) دعوة لعلماء الإجتماع والسياسة والإقتصاد والمؤسسات العلمية في العالم للنهل من السنة خاصة في زمان العولمة , وتداخل الحضارات , وتبادل المعارف وإدراك الناس للإعجاز في القرآن , وتمسك المسلمين به وبالسنة النبوية .
الجواب نعم وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )وخير اسم تفضيل يتجلى في المقام بعمل المسلمين بأحكام القرآن والسنة والصدور عنهما ، وفيه دعوة للناس للصلاح والفلاح بالهداية إلى سبل الإيمان ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
ويمكن تقسيم الوجه الرابع أعلاه إلى أقسام وهي :
أولاً : إقتباس الناس المسائل من السنة النبوية القولية والفعلية مباشرة ، ومن الآيات في المقام أن الحديث النبوي أقل رتبة من القرآن وآياته إلا أنه فوق كلام البشر , لذا قال صلى الله عليه وآله وسلم (أوتيت جوامع الكلم) ( ).
ثانياً : الإنتفاع من الحديث النبوي بالتجربة وتجلي عظيم نفعه والصدور عنه بلحاظ المقارنة مع غيره .
ثالثاً : النهل من ذخائر وكنوز الحديث النبوي بالواسطة ، والإقتباس من المسلمين وإنتفاعهم الأمثل من السنة النبوية في أبواب العبادات والمعاملات والأحكام ، وهذا الإنتفاع من مصاديق وعمومات قوله تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ).
وتتفرع عن هذا العلم قوانين متعددة ومضامين وأبواب من العلم منها تعيين وجوه الإتفاق بين المذاهب الفقهية والكلامية بلحاظ السنة النبوية كما في باب قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (صَلُّوا كما رِأَيتموني أُصلِّي)( ) وقوله : (خذوا عنى مناسككم) ( ) وستبقى السنة النبوية واقية من الإختلاف والخلاف وزاجراً عن الإجتهاد خلاف النص ، وهي حجة للفقهاء ، ودعوة لوحدة المسلمين في باب العبادات والألفة وحسن المعاشرة ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
ومن منافع هذا التعيين تعاهد وحدة المسلمين ، والمنع من جعل الإنتماء الطائفي هو المقدم والأصل ، إن عامة المسلمين يميلون إلى الوحدة والإتحاد في أداء الأفعال العبادية ، وهو من منافع السنة النبوية ، كما أنها تدعوهم لنبذ الفرقة الطائفية .
والسنة النبوية من مصاديق حبل الله في قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ) لذا فهي مصاحبة للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة .
ومن الإعجاز في المقام التباين اللفظي النسبي بين الأمر بمحاكاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أفعال الصلاة بقوله تعالى : صلوا كما رأيتموني أصلي ) وبين الأمر بأخذ المناسك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يقل صلى الله عليه وآله وسلم : حجوا كما أحج ) أو أدوا مناسككم كما أديتها ).
وهل فيه دلالة على التخفيف في مناسك الحج بالنسبة للأجيال اللاحقة وأداء الملايين من المسلمين فريضة الحج في كل سنة ، الجواب نعم ، فقد قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) .
فلو دخلت طوائف من الناس الإسلام وكانت عندهم أو عند أكثرهم إستطاعة للحج فتأتي عشرات الملايين من الناس لأداء حجة الإسلام الواجبة عدا الذين يأتون للحج المستحب ، ومدمني الحج ,فلا بد أن البيت الحرام يسعهم بتخفيف في أحكام الحج , وإشاعة العمل بالرخصة وكفاية المسمى في الموارد التي يكفي فيها وفق الكتاب والسنة .
ولاداء الحج خصوصية عند المسلم , فهو يقطع المسافات البعيدة ، ويأتي من الأمصار النائية وينفق الأموال الطائلة للوصول إلى البيت الحرام في مدة وأوان الحج ، وقد لا يخرج إسمه للحج إلا بالقرعة ونحوها ، ولقاعدة الإشتغال وحاجة المسلم إلى أداء الفرائض وللثواب العظيم في الحج يحرص المسلم على إتيان أفعال ومناسك الحج على الوجه الأتم والأكمل ولابد من الجمع بين أمور:
الأول : أداء أكثر عدد من المسلمين حج بيت الله الحرام .
الثاني : سلامة وأمن وفد الحاج .
الثالث : التخفيف في مناسك الحج ، بما لا يكون تفريطاً وخلافاً للنص والسنة النبوية ، ويملي هذا الأمر على الفقهاء الإجتماع والإتفاق على صيغ للتخفيف سواء في الطواف أو السعي أو النفر من عرفة أو في المشعر الحرام إلى منى لرمي الجمرات وفق الرخصة والترخيص في الكتاب والسنة كما في الإذن للنساء والخوالف بالنفر من مزدلفة ليلاً والرمي ليلاً.
ومن خصائص هذا الإتفاق بعث السكينة في نفوس حجاج بيت الله الحرام إلى مسائل التخفيف ، وتلقيها بالقبول والإمتثال وإن تباينت المذاهب الفقهية التي ينتمون إليها إذ لم يعهد في عهد أولئك الفقهاء الكرام هذه الأعداد المضاعفة من وفد الحاج وإلا لما قالوا مثلاً بحصر الطواف بين الركن والمقام .
أما السنة القولية والفعلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتصفان في هذا الباب فيتصعان بالمناسبة لكل الإزمنة لما فيهما من السعة وأسرار المندوحة , ففي قوله تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ] ( ) من جهة التخفيف مسائل :
الأولى : عدم تقييد الإفاضة من عرفات، وجاءت السنة النبوية ببيان أوانه عند الغروب في يوم عرفة , وهو التاسع من شهر ذي الحجة .
الثانية : الإخبار عن تعيين أمرين :
أولاً : الجهة التي يفيض ويتوجه إليها وفد الحاج وهو المشعر الحرام ، الثالث : من أفعال الحج: الوقوف بالمشعر الحرام، وللمشعر ثلاثة أسماء:
الأول: المشعر بكسر الميم وتقرأ بالفتح ــ وفي تسميته وجوه:
أولاً : لأنه معلم للعبادة , قال تعالى[وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
ثانياً : بيان قانون وهو الملازمة بين الوقوف في المشاعر وبين ذكر الله ( ).
ثالثاً: وصف بالحرام لحرمته.
رابعاً : لأنه جزء من الحرم.
الثاني: جمع، وفيه وجوه:
الأول :سمي جمع لإجتماع آدم وحواء فيه.
الثاني : لإجتماع الناس فيه في ليلة الحج الأكبر.
الثالث :لأن آدم عليه السلام لما إنتهى إليه جمع فيها بين صلاة المغرب وصلاة العشاء الآخرة فسميت جمعاً.
الأول :أن آدم إعترف في جمع سبع مرات بذنوبه , وفيه دعوة للمسلمين للإجتهاد بالإستغفار والتوبة فيه.
الثاني :في هذه التسمية تذكير وإنذار بيوم الحشر , قال تعالى[لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ]( ). وسميت مزدلفة لوجوه:
الثالث : لإزدلاف الناس أي إقترابهم إلى منى بعد الإفاضة من عرفات(ويقال: إزدلف الرجل: تقدم في قرب إلى الشيء)( ).
الرابع :لمجيئ الحاج في زلف من الليل، أي ساعة بعد ساعة, ويقال: مضت زلفة من الليل أي طائفة منه.
الخامس : لأن جبرئيل عليه السلام إزدلف إلى المشعر الحرام.
السادس : قال جبرئيل لإبراهيم عليه السلام بعرفات: إزدلف إلى المشعر الحرام فسميت مزدلفة.
السابع : لأنهم إزدلفوا إليها من عرفات , وبه ورد الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام.
الثامن : لأنه الموضع الذي إزدلف فيه آدم إلى حواء، أي تقدم وتقرب إليها.
ومزدلفة كلها موقف، وقيل المشعر الحرام بوسطها , والأقوى أن النسبة بين المشعر الحرام ومزدلفة هي التساوي .
ومن بين هذه الأسماء الثلاثة ورد اسم المشعر الحرام في القرآن) ( ).
ثانياً : تقييد الإفاضة بذكر الله والتسبيح ليكون هذا الذكر على وجوه:
أولاً : الذكر في الإفاضة مصداق الإنقطاع إلى الله عز وجل.
ثانياً : لقد جعل الله الحج ركناً من أركان الدين ، وهو يتقوم بالذكر والتلبية والتهليل والتسبيح .
ثالثاً : بيان الملازمة بين الوقوف في المشعر الحرام وبين الذكر.
وفي نعت المشعر في المقام وجوه :
الأول : قدسية ذات موضع المشعر لأنه من الحرمة والخصوصية فيه ، كما ورد بشأن الصفا والمروة قوله تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ]( ).
وهل يفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ] ( ) الندب إلى ذكر الله عند كل من الصفا والمروة وحال السعي بينهما ، الجواب نعم لبيان قانون وهو إرادة ذكر الله عند المشاعر ومواطن طاعته سبحانه.
الثاني : المشعر لغة هو المَعْلم لأنه موضع ذكر الله , وتعظيم مقام الربوبية ولأنه من مواطن الدعاء والإستجابة له بفضل الله، ولأن الوقوف فيه من مناسك الحج.
الثالث : جزئية المشعر من الحرم وما له من قدسية يترشح عنها طوعاً وقهراً تعاهد ذكر الله بالنسبة لوفد الحاج والمجاورين للبيت الحرام ،لذا ورد في سورة قريش وما أنعم الله عز وجل عليهم من رحلة الشتاء والصيف بقوله تعالى [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] ( ) لبيان أن الله عز وجل يتفضل على أهل مكة بالرزق الكريم حتى في أيام الجدب، وتوالي سنوات همود( )، وجفاف الأرض لبيان لزوم ذكرهم لله عز وجل والتقيد بآداب العبادة وأن الرزق لا ينحصر بباب مخصوص .
وهل يختص الأمر بعبادة الله في الآية أعلاه بقريش وبطونها ورجالاتها أم انه شامل لمجاوري البيت الحرام وسكان الحرم وما حوله ، الجواب هو العموم، إذ أن العبادة هي علة خلق الإنسان، وإرادة الله عز وجل أن تتعاهد أمة أو اكثر العبادة بحسب اللحاظ وعمارة المسجد الحرام منهم :
أولاً : الأنبياء والمرسلون فهم أئمة الناس في العبادة والذكر ، لذا ورد أنه من ما نبي إلا وقد حج البيت الحرام ويلبي ويذكر الله [شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ] ( ) بالتوفيق لأداء حج بيته الحرام ( وعن الباقر عليه السلام: “حج موسى بن عمران ومعه سبعون نبياً من بني اسرائيل خطم إبلهم من ليف، يلبون وتجيبهم الجبال وعلى موسى عبائتان قطوانيان يقول: لبيك عبدك وابن عبدك، ومرّ يونس بن متى بصفائح الروحاء وهو يقول: لبيك كشاف الكرب العظام لبيك، ومرّ عيسى بن مريم بصفائح الروحاء وهو يقول: لبيك عبدك وابن أمتك لبيك….) ( ).
ولم يقل عيسى عليه السلام عبدك وابن عبدك، بل قال ابن أمتك شكراً لله عز وجل وفخراً وبياناً وحجة بأن الله خلقه من غير أب، ودعوة للناس للتصديق بنبوته وإتباعه.
ومعنى لبيك الإعلان عن الإقامة على طاعة الله، ويأتي هذا الإعلان مفرداً صادراً عن المؤمن الواحد ، ومتعدداً بصدوره عن الجماعة والأمة ، وتتجلى في أحكام مناسك الحج حقيقة وهي أن الله عز وجل يحب سماع التلبية من الوفد والجماعة وصدورها بصيغة العبادة والقربة إلى الله .
ليكون من معاني تفسير [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( )، أي أداء التلبية ونبذ الأصنام ومفاهيم الشرك، ولزوم الإتيان بالتلبية ( لبيك اللهم لبيك ) في حالات العبادة :
الأولى : عمرة التمتع وهي التي يتصل بها الحج ، ولا تصح إلا في أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة والأيام الأولى من شهر ذي الحجة، بما سيكون معه متسع للوقوف عند زوال يوم عرفة أي أوان الظهر، في عرفات وإرادة قصد الحج قربة إلى الله تعالى وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الحجّ عرفة ( ).
قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ] ( ).
فيستقرأ وجوب القيد لإرادة الحج في عمرة التمتع بلحاظ الآية.
بالبيان والحصر والزماني لأشهر الحج في الإرادة التكوينية قبل أن يخلق آدم وهذا الحكم مستمر إلى يوم القيامة ، وهو من الشواهد على بقاء القرآن سالماً من التحريف والتبديل ، وحاجة الناس لتلاوة المسلمين لآياته في الصلاة اليومية ، وكل تلاوة من أحد المسلمين لهذه الآية على وجوه :
أولاً : تثبيت معالم الحج .
ثانياً : بيان أسرار من إستقبال المسلمين البيت الحرام ، وهو من العلوم المستقرأة من قوله تعالى [وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ] ( ).
ثالثاً : تعاهد المسلمين لحساب الأيام والشهور بلحاظ حركة القمر ، وكيف انه يطل على أهل الأرض هلالاً في أول الشهر ثم يأخذ بالكبر وإتساع نوره تدريجياً كل ليلة إلى نصف الشهر القمري ثم يبدأ بالنقصان إلى أن أيام المحاق .
رابعاً : تنمية ملكة الأخلاق الحميدة عند المسلمين ، ومعرفة الناس الملازمة بينها وبين أداء الحج ، وهو من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ)( ).
ولا بد أن تكون العمرة والحج في سنة واحدة وهو المتبادر من الأخبار (من إعتمر في شهر رمضان أو قبله فأقام إلى الحج فلا يكون حجه حج تمتع وإنما هو مجاور، فإذا أراد أن يحج حج تمتع فليخرج من مكة حتى يجاوز ذات عرق أو عسفان أو من الميقات الذي يحرم أهل بلده فيدخل متمتعاً بعمرته الى الحج ) ( ) .
الثانية : العمرة المفردة ، وهي عمل عبادي مستقل يصح الإتيان به في أي يوم من السنة على نحو الإطلاق الشمولي ويراد منه الإستغراق والإستيعاب التام لأفراد الطبيعة التي يتعلق بها الحكم ، وفي كل آن وزمان تجد المعتمرين ومن مختلف الأمصار في البيت الحرام ، وكأنهم سفراء قومهم وأهل بلدانهم الذين يستقبلون البيت الحرام خمس مرات في اليوم.
والعمرة مصداق خارجي لتعاهد المسلمين للبيت الحرام وشاهد مكاني في أشرف بقعة على تجدد عبادة الناس لله عز وجل في كل يوم ليكون علة لإستدامة الحياة بلحاظ أن العبادة علة خلق الناس ، ووسيلة لنزول وتوالي البركة من عند الله وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ) وإذ يجب الحج مرة في العمر على المستطيع وإن بعد محل سكناه وتقترن به عمرة التمتع لأنها بمنزلة العبادة الواحدة، فان العمرة المفردة لا تجب على البعيد عن مكة إلا أن يرد دليل خاص في المقام.
وعدم وجود العمرة المفردة من وجوه :
الأول : تقييد القرآن للحج بالوجوب دون العمرة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ).
الثاني : لم تذكره العمرة عند ذكر أركان الإسلام إنما يرد خصوص حج بيت الله الحرام ، وهل يدل قوله تعالى [وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ] ( )على وجوب العمرة المفردة ، الجواب لا ، إنما المراد إتمام مناسك عمرة التمتع والتي تلزم عند التلبية بقصد العمرة والأمر بأتمام الفعل أعم من وجوبه .
الثالث : ورود النص بعدم وجوب العمرة المفردة (عن جابر بن عبد الله : أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن العمرة أواجبة هي؟ قال : لا ، وإن تعتمروا خير لكم) ( ) وفي قوله تعالى [إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ] ( ) ورد عن مقسم عن إبي عباس قال (إنّ على جهنّم سبع مجاسر يسأل العبيد عند أوّلهنّ عن شهادة أن لا إله إلاّ الله.
فإن جاء بها تامّة جاز بها إلى الثاني.
فيسأل عن الصلاة .
فإن جاء بها تامّه جاز إلى الثالث .
فيُسئل عن الزكاة فإن جاء بها تامّة جاز إلى الرابع .
فيسأل عن الصوم.
فإن جاء به تامّاً جاز إلى الخامس.
فيسأل عن الحجّ فإن جاء به تامّاً جاز إلى السادس.
فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامّة جاز إلى السابع.
فيسأل عن المظالم فإن خرج منها وإلاّ يقال انظروا،
فإن كان له تطوّع أكمل به أعماله.
فإذا فرغ به انطلق به إلى الجنّة) ( ).
ولم يرفع ابن عباس الحديث ولم يؤد المسلمون كلهم الحج لقيد الإستطاعة والسؤال عن الفعل وتمامه أعم من وجوبه.
الثالثة : حج البيت الحرام وهو الركن الخامس من الإسلام ، إذ يحرم له الحاج في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة الذي سمي يوم التروية لوجوه:
الأول : إن جبرئيل عليه السلام أتى إبراهيم عليه السلام وقال له يا إبراهيم إرتو من الماء لك ولأهلك، ولم يكن بين مكة وعرفات ماء.
الثاني : لأنهم كانوا يستقون من مكة الماء عند الخروج الى عرفة التي ليس فيها ماء، وعن الصادق عليه السلام كان بعضهم يقول لبعض: ترويتم من الماء فسميت التروية.
الثالث :إن إبراهيم عليه السلام رأى في تلك الليلة رؤيا ذبح ولده، فأصبح يروي في نفسه أهو حلم أم من الله تعالى؟ فسمي يوم التروية فلما كانت ليلة عرفة رأى ذلك أيضاً فعرف أنه من الله تعالى، فسمي يوم عرفة.
والإحرام للحج من بطن مكة، وأشرفها المسجد الحرام وأفضله المقام ثم تحت الميزاب خصوصاً وأنه يستحب الصلاة ركعتين عند الإحرام، والصلاة في المسجد الحرام بألف صلاة ) ( ).
وهل من موضوعية لحج بيت الله الحرام في معركة أحد وآيات البحث التي نزلت بخصوصها ، الجواب نعم ، فهي من طرف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين مقدمة لحجهم والمسلمين البيت الحرام كما حجه آدم عليه السلام وإبراهيم والأنبياء الآخرين، وهي من طرف الذين كفروا صد عن البيت الحرام وإشاعة لعبادة الأصنام وإرادة تعطيل أحكام الشريعة [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
ليكون من معاني الركن في العبادة موضوعيته في أداء الواجبات العبادية الأخرى.
لقد جاهد النبي وأهل البيت والصحابة لتقوم أجيال المسلمين بحج بيت الله بأمن وسلام وتنزه عن مفاهيم الشرك والضلالة ، فقد كان يوم فتح مكة أوان لكسر الأصنام وإستئصال عبادتها من الأرض ، فقد أزاحها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده المباركة .
عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (دخل مكةَ يوم الفتح وحول البيت ثلاثُمائةٍ وستون صنماً فجعل ينكُت بمِخْصَرة كانت بيده في أعينها واحداً واحداً ويقول : جاء الحقُ وزهق الباطلُ فينكبّ لوجهه حتى أَلقْى جميعَها ، وبقيَ صنمُ خُزاعةَ فوق الكعبة وكان من صُفْر , فقال : يا عليُّ ارمِ به فصعِد فرمى به فكسره) ( ).
وفيه وجوه :
الأول : بيان ثمرة ونعمة عظمى مترشحة عن جهاد وصبر المؤمنين في معركة أحد، لذا ورد في الآية البحث [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ].
الثاني : بيان مصداق لقانون وهو عموم رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
الثالث : لقد جعل الله عز وجل البيت الحرام للناس جميعاً من غير فارق أو مائز بينهم ، وكذا جعل رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وإذا كان البيت الحرام يتصف بكونه [مَثَابَةً لِلنَّاسِ]فكذا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وزاد الله عز وجل أن جعلها [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ومن الرحمة تنزيه البيت الحرام من عبادة الأوثان والأصنام , ووقايته من الجبابرة والطواغيت وإلى يوم القيامة .
الرابع : بعث المسلمين لمحاربة نصب الأصنام والتماثيل في البيت الحرام بقصد إتخاذها واسطة تقرب إلى الله لعمومات قوله تعالى[لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
وحج البيت على أقسام وهي :
الأول : حج تمتع: سمي به لما يتخلل بين عمرته وحجته من التحلل الموجب لجواز التلذذ أي قبل الإحرام لحجه، وهو فرض من كان بعيداً عن مكة ووظيفة القادم للحج من الأمصار والبلدان الاسلامية جميعاً باستثناء الذي يسكن أو يقيم في مكة وقريباً منها)( ) .
أفضل أنواع حج التمتع أن تكون عمرته قبل ذي الحجة سواء في شوال أو ذي القعدة، ثم ما تكون قبل يوم التروية، ثم ما تكون قبل يوم عرفة، وهو أمر ممكن في هذا الزمان مع سرعة المواصلات فيه وكثرة المشاغل وتزاحم الأعمال وإزدحام الحاج واسباب الحرج ونيل الثواب وإتيان المناسك كاملة.
يجوز أن تكون عمرة التمتع صباح يوم عرفة ولكنه خلاف الإحتياط وإعتبار المقدمة العلمية، خصوصاً وأن اللازم إدراك الوقوف الإختياري أي الوقوف بعرفة من زوال الشمس الى غروبها وهو الواجب، لأن الوقوف الإضطراري خلاف الأصل وللتدارك، وإن كان الركن هو مسمى الوقوف) ( ).
الثاني :حج القِران: لأن الحاج يقرن بين إحرامه وسوقه لهديه أي يجمع بين الحج والعمرة في الإحرام.
الثالث:حج الإفراد: لإنفراد الحج عن العمرة وعدم إعتبارها فيه.
حج الإفراد والقِران: فرض من كان بين منزله وبين مكة ثمانية وأربعون ميلاً أو أقل، وهو قول الأكثر، وبما أن الميل الواحد يساوي 1,609 كيلو متراً، فكل من كان مسكنه يقرب عن مكة 77،23 كيلو مترا تقريباً يكون فرضه القِران أو الإفراد) ( ).
وهل من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (خذوا عنى مناسككم) ( ) الجهاد والقتال كما في معركة أحد الجواب لا ، فالقدر المتيقن أداء أفعال الحج الواجبة والمستحبة.
الثالث : حج الإفراد بأن يحرم الحاج من الميقات، ويتوجه إلى عرفات في اليوم التاسع من ذي الحجة، ثم يفيض إلى المشعر الحرام ثم إلى منى، ثم يذهب إلى مكة فيقوم بالطواف وصلاة الطواف والسعي بين الصفا والمروة وعليه عمرة مفردة.
ثانياً ( ): يتعاهد أصحاب الأنبياء حج البيت الحرام ليكون الحج أمانة ولواء طاعة وعبادة يتوارثه المؤمنون بالله وأنبيائه وكتبه لتسليم اللواء إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاهد لنفسه وأهل بيته وأصحابه فيفتح مكة عنوة ، ليبدأ ربيع القلوب المنكسرة وعز دائم للمؤمنين .
ثالثاً : المسلمون والمسلمات إذ يعمرون البيت الحرام ويقومون بأداء مناسك الحج وليس من أمة تعاهدت وتتعاهد البيت الحرام وحجة كل عام مثل المسلمين بأجيالهم المتعاقبة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
قانون المواساة
يمكن تسمية هذه الآيات بأنها آيات المواساة للمؤمنين، وهو من إعجاز الآية القرآنية وتعدد المضامين القدسية لها، والغايات الكريمة والإشراقات التي تنبعث منها فتتغشى القلوب فتزيد المسلمين إيماناً، وتقرب الناس إلى منازل الهداية والإيمان، وكل آية منها علم مستقل في باب الإجتماع وسنخية النفوس، وأسرار النفخ من روح الله في الإنسان، وقد دعا الله عز وجل المسلمين إلى اللجوء عند المصيبة إلى الإسترجاع وذكر الله، قال تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
وورد لفظ (مصيبة) في القرآن عشر مرات، منها ماجاء بخصوص ما لاقاه المسلمون يوم أحد بقوله تعالى[أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا]( ).
إذ قتل المسلمون سبعين من المشركين وأسروا منهم سبعين يوم بدر، وقتل من المسلمين يوم أحد سبعون مثلما قتل من المشركين يوم بدر، وتدل الآية وذكر المثلية في المقام على فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، فلم يؤسر منهم أفراد يدخل بهم المشركون مكة ويكون هذا الدخول شاهداً وأمارة لأهل مكة ومن حولها بتحقيق كفار قريش النصر، وقد يقول بعضهم حينئذ كيف تكون عودتهم بخيبة وندم وخسران، كما في قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
ليكون من مصاديق الخيبة عند دخولهم مكة عدم وجود أسرى معهم مع أن عدد أفراد جيشهم ثلاثة آلاف وإستعدوا للمعركة نحو أحد عشر شهراً بعد معركة بدر وأنفقوا الأموال الطائلة عليها.
وعن الإمام علي عليه السلام قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الأسارى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم ، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، فذكر ذلك لهم فقالوا : يا رسول الله عشائرنا واخواننا نأخذ فداءهم فنقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا بعدتهم ، فليس في ذلك ما نكره . فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلاً عدة أسارى أهل بدر( ).
وتتجلى المواساة للمسلمين في منطوق ومفهوم آيات البحث لما أصابهم يوم أحد، من جهات:
الأولى : إبتدأت هذه الآيات بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا]( )، وفي الخطاب التشريفي للمسلمين بصفة الإيمان إكرام لهم ومواساة على الخسارة في واقعة أحد، وإخبار بأن خروج المسلمين من معركة أحد بتعاهد الإيمان، والثبات في مقاماته هو نصر عظيم وتبكيت للذين كفروا، وبعث لليأس في نفوسهم.
الثانية : لقد هجم الذين كفروا على المدينة في معركة أحد، وهم يريدون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتل أو أسر المهاجرين والأنصار، ومحاولة إبادة أهل الإسلام، وطمس معالم الإيمان فانتهت المعركة، ونجّى الله رسوله الكريم، ولم يقع الصحابة في الأسر.
ولم ينو أي واحد منهم مغادرة منازل الإيمان، فان قلت قد ورد في آية البحث قوله تعالى[وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ]( ).
والجواب أن همهم هذا لم يترجل إلى الخارج بفعل، وتدل لغة الخطاب في الآية على عدم خروجهم من سنخية الإيمان , وتقدير الآية: وطائفة منكم قد أهمتهم أنفسهم.
وورد أن شطر الآية أعلاه جاء بخصوص المنافقين فلا يتغشاهم النعاس لأمرين مجتمعين:
الأول : ما أصابهم من الجزع والخوف، إذ أن الخوف الشديد والفزع يطرد أسباب النوم ويذهب النعاس.
الثاني : الظن بالله عز وجل ظن الجاهلية، وأن نصر الله لا يأتيهم ومنه قوله تعالى[بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا]( ).
الثالثة : دلالة معركة أحد ووقائعها، وصبر وجلد المؤمنين فيها على أن المسلمين لم يكتفوا بعدم طاعة الذين كفروا بل حاربوهم وقاتلوهم، ومنعوهم من تحقيق غاياتهم الخبيثة وجعلوهم يرجعون بخيبة وهوان وذل.
الرابعة : من أعظم مصاديق المواساة للمسلمين قوله تعالى[بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]( )، فيدرك معه المسلمون سلامتهم من الخسارة، إذ أن الولاية في المقام على وجوه :
أولاً : ولاية الله للمؤمنين قبل معركة أحد، وهو ظاهر الآية لمجيئها قبل أوان معركة أحد.
ثانياً : قذف الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا .
ثالثاً : النصر في أولى معارك الإسلام وهو معركة بدر .
ثانياً : الآية أعلاه عهد من عند الله بنصر وسلامة المسلمين في معركة أحد، وهل هي من أفراد وعد الله الوارد في أول الآية السابقة[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]( )، الجواب نعم.
وتقدير الجمع بين الآيتين : ولقد صدقكم الله وعده بأنه مولاكم) وفيه دعوة للعلماء خاصة والمسلمين عامة في أجيالهم المتعاقبة لإستقراء مصاديق ولاية الله للمؤمنين يوم أحد، وتأسيس هذا العلم بشواهد منه وهي:
الأول : حضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الصحابة في معركة أحد من ولاية الله عز وجل لهم بلحاظ أمور:
أولاً : صدور أوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القتال وكيفيته وهو شعبة من الوحي، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
ثانياً : مقام النبوة ونزول البركات بوجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المؤمنين.
ثالثاً : سلامة النبي محمد من القتل، وما فيها من عز للمؤمنين، وهوان وذل للكافرين.
رابعاً : إنتفاع الصحابة من ولاية الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي خطاب من عند الله عز وجل له [قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلاَ تُنظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ]( ).
الثاني : آية الولاية إنحلالية : وتقديرها يا أيها الذين آمنوا الله مولى كل واحد منكم.
الثالث : تجلي مصاديق ولاية الله بعفوه عن المؤمنين وصرفهم عن الذين كفروا وإثابتهم بالغم .
الرابع :لا يقدر على إنزال النعاس على الجماعة والطائفة إلا الله وحده سواء كان هذا الإنزال تدريجياً أو دفعياً، وهو من مصاديق ولاية الله لهم.
جبل الرماة
وهو جبل صغير يقع على بعد نحو خمسة كيلو متر عن المدينة قريب من جبل أحد ويغلب على لونه الإحمرار وكان بعضهم يسمي معركة أحد بيوم عينين ، وقيل : قام عليه إبليس يوم أحد ونادى : أن رسول الله قتل ) وبني على الجبل قبل مئات السنين مسجد صغير ، ويتصف هذا المسجد بأمور :
أولاً : المسجد مكشوف .
ثانياً : بني المسجد بحجارة غير منحوتة والجير .
ثالثاً : يقع المسجد في الركن الشرقي للجبل .
رابعاً : يعرف هذا المسجد باسم مسجد المصرع .
خامساً : طول المسجد خمسة أمتار وتسعون سنتمتراً ، وعرضه أربعة أمتار وأربعون سنتمتراً , أما إرتفاع جدرانه فمقداره سبعون سنتمتراً .
سادساً : ذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على حمزة في هذا الموضع فأنشأ عليه المسلمون مسجداً .
وكانت في أعلاه بيوت لبعض أهل المدينة ، وحوله الدكاكين والبيوت إذ تجددت هناك عين ماء وعليها حديقة ونخل ، وإندثرت العين وأزيلت البيوت ، وبلغ مستوى الأرض المجاورة له إرتفاعه بالطمى الذي تجرفه السيول ، ويطل جبل الرماة على قبور الشهداء إذ دفنوا شماله ، وفي كل يوم ترى وفداً من الحاج أو المعتمرين يصعدون جبل الرماة للذكرى والعبرة والتدبر , وشكر الله على نعمة نصر الإسلام , وهو من رشحات الإعجاز في السنة النبوية الدفاعية .
وكان يسمى (جبل عينين) باسم رجل من العمالقة وصارت تسميته من حين معركة أحد جبل الرماة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقام عليه الرماة ليحموا ظهور المسلمين ، ويمنعوا تسلل المشركين من خلفه .
وفي الركن الشرقي لجبل الرماة أستشهد حمزة بن عبد المطلب برمية وحشي له بالحربة ودفن هناك ، وفي سنة 46 للهجرة نقل هو ومن معه بسبب السيل الذي جرف قبورهم .
وكان على موضع قبره الأول بناء بالحجارة ، وفي قبلته محراب متهدم ، وهو مما بني أيام الدولة العثمانية ، ويحتمل حال خيل المشركين ، وإغارتهم من الخلف على جبل الرماة وجوهاً :
أولاً : بقاء خيل المشركين خلف الجبل بانتظار فرصة للإغارة .
ثانياً : كمن وتخفي خيل المشركين بين جبل الرماة والعرصة ، وقيل كانت هناك غابة من الأثل كمنوا فيها .
ثالثاً : صيرورة جيش المشركين خلف جبل الرماة بعد هزيمتهم في بدايات المعركة .
رابعاً : رؤية خالد بن الوليد وعِكرمة بن أبي جهل رئيساً فرقة خيالة المشركين وأصحابهما نزول الرماة من الجبل وإستدارته ومجيئه لهم من الخلف ، وهو بعيد للجهد والعسر في دوران الخيل من بئر رومة إلى شمال أحد ومرورها بوعيرة ، ودخول القناة ، وما في هذا الطريق من الوعورة والجبال المتعددة ، خاصة وأن جيش المشركين أغار ثلاث مرات على الرماة ، وكل مرة يرمونهم بالنبال لأن الخيل تجفل وتمتنع عن التقدم مع النبال ،هذا بالإضافة إلى كثرة الخيل عند المشركين ،إذ كان عددها مائتي فرس لم تركب أثناء الطريق لتكون جاهزة للإغارة .
وعلى بعد مائتي متر من قبور الشهداء كان هناك معلم على موضع الحفرة أو الزبية( )، التي وقعت فيها دابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ أن أبا عامر الفاسق حفر عدة حفر يومئذ ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون ، وهو مكر بدائي في القتال وليس كالألغام التي تزرع في هذا الزمان .
(فَأَخَذَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَرَفَعَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ حَتّى اسْتَوَى قَائِمًا) ( ).
وفي هذا الوضع جاء الإمام علي عليه السلام بماء من ماء المهراس فعافه لتغير رائحته ، وفيه غسلت جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وجاءت فاطمة عليها السلام بقطعة من حصير فأحرقتها وأخذت رمادها وكمدت به جراح النبي صلى الله عليه وآله وسلم فانقطع النزف بفضل الله ، وفي هذا المكان صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه صلاة الظهر والعصر بعد إنقضاء المعركة جالساً ، وصلى معه المسلمون جلوساً لشدة الجراح التي أصابتهم .
ومن الآيات أن المكان إزدحم بالمسلمين ، ولم يجد بعضهم مكاناً للصلاة ويبدو أن المسلمين كانوا على درجة من المهارة في الرمي وتصويب السهام إلى العدو بدقة ، وقيل فيه نزل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ] ( ) .
ولكن الآية ظاهرة بخصوص المجالس مع الإقرار بأن موضوعها أعم ، وأن المدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول (قال مقاتل: كان النبي صلى الله عليه وسلم في الصفة وفي المكان الضيق وذلك يوم الجمعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار.
فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس، فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم، وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال لمن حوله من غير أهل بدر: قم يا فلان وأنت يا فلان، فأقام من المجلس بقدر النفر الذي قاموا بين يديه من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجوههم، فقال المنافقون للمسلمين ألستم تزعمون أن صاحبكم يعدل بين الناس؟ والله ما عدل على هؤلاء قوم أخذوا مجالسهم وأحبهم القرب من نبيهم أقامهم وأجلس من أبطأ عنهم مقامهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية) ( ) .
وكان سعد بن مالك يرمي السهام ويقول له النبي : يا سعد أرم فداك أبي وأمي.
(عن أنس، أن أبا طلحة كان يرمى بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد، والنبى صلى الله عليه وآله وسلم خلفه يترس به، وكان راميا، وكان إذا رمى رفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شخصه ينظر أين يقع سهمه، ويرفع أبو طلحة صدره ويقول: هكذا، بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا يصيبك سهم، نحرى دون نحرك.
وكان أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقول: إنى جلد يا رسول الله، فوجهني في حوائجك ومرني بما شئت) ( ).
معجزات الأنبياء
ومن معجزات الأنبياء في المقام وجوه:
الأول : كان آدم عليه السلام معجزة بخلقه من غير أب وبذاته وزوجه ومسكنه، إذ خلقه الله عز وجل ليكون خليفة في الأرض، ولتعمر ذريته مشارق ومغارب الأرض بعبادة الله بدليل قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، فمع أن ذرية آدم ولدوا بالتناسل والنكاح بين الرجل والمرأة فقد نسب الله عز وجل خلقهم إلى نفسه لبيان عدم التعارض بين المشيئة الإلهية وبين قاعدة السبب والمسبب، والعلة والمعلول.
وهل يمكن القول أن معجزات الأنبياء فرع معجزة آدم عليه السلام، الجواب فيه تفصيل فاذا كان المراد معجزة خلق آدم ونفخ الروح فيه من عند الله فالجواب نعم، وليكون من معاني العبادة وأسبابها في قوله تعالى في الآية التالية، توالي معجزات الأنبيـاء ليكـون الإيمان بالنبوات من عبـادة الله عز وجل.
أما إذا أريد من معجزة آدم عليه السلام ما جرى على يديه من المعجزات ، فالجواب لا، لأن كل نبي له معجزته الخاصة به وما يناسب أهل زمانه، وكيفية جذب الناس لرسالته والتصديق بنبوته، وهو من اللطف الإلهي بشخص النبي في أي زمان وبأهل زمانه عامة، وأصحابه خاصة الذين يصبرون على الأذى والضرر، لتسليمهم بصدق نبوته بدلالة المعجزة التي جرت على يديه، وإتخاذهم لها حجة وبرهاناً في الإحتجاج ودفع المغالطة وضروب الشك.
وجاءت معجزة النبي محمد وعاءً سماوياً حافظاً لمعجزات الأنبياء وكلاماً من عند الله للتصديق بها، فيغادر النبي من الأنبياء السابقين، ولم يؤمن به وبمعجزته إلا عدد قليل من الأفراد فتنزل الآية القرآنية بذكره بصفة النبوة أو تبين معجزته ، فيؤمن به المسلمون في أجيالهم المتعاقبة ، ولا يعلم عددهم إلا الله، وهذا الإيمان من مصاديق النصر المبين في قوله تعالى[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا]( ).
الثاني : معجزة نوح عليه السلام وهي على وجوه منها :
أولاً : معجزة السفينة وتحتمل هذه المعجزة وجهين :
الأول : إنها معجزة متحدة .
الثاني : سفينة نوح معجزة متعددة.
والصحيح هو الثاني من جهات :
الأولى :بناء نوح لسفينته في اليابسة وليس هناك نهر أو بحر ، فيضحك الناس منه عن جهالة منهم , فيعظهم وينذرهم , وفي التنزيل [إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ]( ).
لقد كان كل يوم من عمل السفينة موعظة ومناسبة للتوبة والإنابة ولو أن قومه تابوا وآمنوا لمحى وصرف الله عز وجل عنهم الطوفان.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم عليهما السلام ، لو بعثت لنا رجلاً شهد السفينة فحدثنا عنها ، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب ، فأخذ كفاً من ذلك التراب .
قال : أتدرون ما هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : هذا كعب حام بن نوح ، فضرب الكثيب بعصاه , قال : قم بإذن الله . فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه قد شاب قال له عيسى عليه السلام : هكذا هلكت .
قال : لا مت وأنا شاب , ولكني ظننت أنها الساعة قامت فمن ثم شبت قال : حدثنا عن سفينة نوح قال : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع ، كانت ثلاث طبقات .
فطبقة فيها الدواب والوحش ، وطبقة فيها الإِنس ، وطبقة فيها الطير ، فلما كثر أرواث الدواب أوحى الله إلى نوح : أن اغمز ذنب الفيل . فغمز فوقع منه خنزير وخنزيرة ، فأقبلا على الروث , فلما وقع الفأر يخرب السفينة بقرضه ، أوحى الله إلى نوح أن أضرب بين عيني الأسد . فخرج من منخره سنور وسنورة ، فأقبلا على الفأر .
فقال له عيسى عليه السلام : كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت؟ قال : بعث الغراب يأتيه بالخبر ، فوجد جيفة فوقع عليها فدعا عليه بالخوف ، فلذلك لا يألف البيوت .
ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها ، فعلم أن البلاد قد غرقت ، فطوّقها الخضرة التي في عنقها ودعا لها أن تكون في أنس وأمان .
فمن ثم تألف البيوت فقالوا : يا روح الله ألا تنطلق بنا إلى أهالينا فيجلس معنا ويحدثنا ؟ قال : كيف يتبعكم من لا رزق له؟ ثم قال : عد بإذن الله فعاد تراباً( ).
الثانية : طول مدة بناء السفينة ، فمن الآيات أن بناءها إستغرق وقيل عمل نوح السفينة في أربعين سنة , وقيل في أربعمائة( ) .
وهل يمكن القول أنها أطول مدة لصنع سفينة حتى في هذا الزمان الذي تصنع فيه ناقلات النفط والسفن الواسعة وحاملات الطائرات والغواصات , الجواب لا دليل عليه ، وهو قياس مع الفارق , خاصة وأن نوحاً كان يباشر العمل بالسفينة من غير إنقطاع معتد به .
لقد كانت ذات السفينة وصنعها دعوة لعبادة الله عز وجل وإصلاح النفوس بالتوبة والتسليم بالقضاء والقدر , وفيها دروس في الصبر عند البناء والصناعة .
الثالثة : صبر نوح على أذى قومه، وهو يصنع السفينة وعدم تسرب اليأس والقنوط إلى نفسه في دلالة على أن فعله بأمر ووحي من عند الله سبحانه .
الرابعة : الملازمة بين دعوة نوح قومه إلى عبادة الله ونبذ الأوثان والفسوق ، وبين صنعه السفينة، وصنعها وطول مدته نوع تخويف ووعيد لهم.
الخامسة : تجلي الحاجة إلى السفينة دفعة واحدة بحصول الفيضانات والطوفان في الأرض.
السادسة : بيان ما وقع بعد الطوفان وحفظ النسل البشري بهذه السفينة إذ هلك أهل الأرض إلا الذي كانوا مع نوح في السفينة لذا ذكر أنه الأب الثاني للبشر.
ويمكن مناقشته فقد كان آدم وحواء وحدهما يعمران الأرض ليس فيها غيرهما ، أما نوح فقد عاش مع الناس من قومه وغيرهم، ثم ركب معه السفينة جماعة ، وكل فرد منهم يصدق عليه أنه أبو البشر الثاني إلا أن يقال بأن الذين ركبوا في السفينة معه هم أولاده وأن هذه التسمية لا تدل على المطابقة، لنكاح الأخوة بغير المحارم , فيكون المعنى ركوب أولاد نوح مع أزواجهم معه , وأن الطوفان غمر الأرض المسكونة من الناس كلها , فيصح حينئذ أنه أبو البشر , وقد ورد في خبر أن الذين ركبوا السفينة هم نوح وبنوه الثلاثة سام، وحام، ويافث، وكنائِنِه الأربع نساء هؤلاء الثلاثة وامرأة يام( ).
. وأختلف في عدد الذين ركبوا مع نوح فالى جانب الخبر أعلاه وورد ( عن ابن عباس:كانوا ثمانين نفسا منهم نساؤهم. وعن كعب الأحبار: كانوا اثنين وسبعين نفسا. وقيل: كانوا عشرة( ).
ويدل هذا الإختلاف بالدلالة التضمنية على أن نوحاً لم يركب وحده هو وزوجه السفينة بل إختلف في زوجة نوح هل كانت معه في السفينة أو لا( ).
والمختار والمشهور أنها لم تركب معهم، إنما كانت جاحدة بالنبوة والمعجزة، وتصر على الإقامة على ملة قومها الكافرين على نحو التعيين، وقد ورد ذمها في القرآن بقوله تعالى[ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امرأة نُوحٍ وَامرأة لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا]( ).
واسم امرأة نوح واعلة ، واسم امرأة لوط واهلة( ).
وكانت خيانتهما في الدين وليس في فعل الفاحشة والزنا لتنزه أزواج الأنبياء عنها، وتتمثل خيانة امرأة نوح بأنها تشيع بين الناس أنه مجنون, وتخبر عن أسرار خاصة بالإيمان، فاذا آمن واحد من قومه بنبوة نوح أخبرت قومها الكافرين.
أما امرأة لوط فانها دلت قومه على أضيافه، وفي قوله أعلاه[فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا] دليل على غرقها مع قومها وعدم ركوبها السفينة والنجاة معه، خاصة وأن تلك النجاة حجة ومناسبة للتوبة والإنابة والتدبر في الخلق والآيات الكونية الثابتة والعرضية.
ثانياً : طول عمر نوح من بين الأنبياء والناس جميعاً ، وهو معجزة أخرى لنوح في بيان عظيم قدرة الله وصنعه في خلق الإنسان إبتداء وإستدامة , ومنه طول عمره، وأيام حياته في الدنيا بلحاظ متوسط عمر الفرد [فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا] ( )لتتعظ الأجيال التالية من قومه من ضلالة وصدود الجيل السابق منهم الذي غادر الدنيا على عدم التصديق بنبوة نوح عليه السلام .
ثالثاً : صبر نوح على قومه ، إذ كان يتلقى الأذى منهم ، ويرجو أن يخرج أولادهم على نهج غير نهجهم ولكنهم يجتهدون في تثبيت مفاهيم الكفر ودعوة أبنائهم للإعراض عن دعوته إلى التوحيد ولإيذائه ، وبين صبر نوح مطلقاً وبين صبره في صناعة السفينة كما تقدم عموم وخصوص مطلق ، كما ورد في التنزيل حكاية عنه [قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا]( ).
فكان نوح يدعو قومه إلى الإيمان سراً وعلانية، وفي الليل والنهار، مما يدل على بذله الوسع في التبليغ، وأنه كان يذهب إلى منتدياتهم وأماكن سكناهم ليدعوهم إلى التوحيد والإسلام ونبذ الكفر .
الثالث : معجزة نبي الله صالح وهي الناقة ، لقد بيّن الله عز وجل لقوم صالح كيف أنه سبحانه يخلق الناقة في غير رحم وأنها ناقة تختلف عن الإبل مع أن ذات الإبل آية في العالمين، قال تعالى أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ.
فجاءت معجزة صالح عليه السلام برهاناً وآية إضافية عظمى في ذات موضوع آية خلق الإبل لبيان تجدد الآيات من عند الله , وكان ما يحلب في ناقة صالح في اليوم يعادل مجموع ما يحلب من مجموع نوق قومه، لتكون آية في كل يوم بذات خلقها وضخامة بدنها وفي النفع العام منها، ولبيان قانون وهو أن الآية التي تأتي من عند الله ينتفع منها الناس الإنتفاع الأمثل كل يوم، وفيه دعوة للمسلمين لشكر الله عز وجل على تعدد وكثرة آيات القرآن وأسرار الفصل بين كل آيتين والبالغة ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية .
ومن فضل الله في تلاوة كل مسلم ومسلمة آيات القرآن في الصلاة على نحو الوجوب العيني نزول البركات عليهم خمس مرات في اليوم , لذا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه (مثل الصلاة كمثل نهر جار)( ) وتتجلى البركة والنفع من الآية القرآنية من وجوه :
أولاً : الآية القرآنية كلام الله عز وجل في الأرض ، وعندما يتلوها المسلم إنما يتلو كلام الله، ويجدد العهد والصلة بينه وبين خالقه بتلاوة كلامه سبحانه.
ثانياً : تلاوة كلام الله نوع توسل ورجاء الرفد والفضل منه سبحانه .
ثالثاً : تلاوة آيات القرآن مناسبة للتدبر في ذخائرها وإستنباط العلوم منها.
رابعاً : وجوب تلاوة آيات وسور القرآن في الصلاة موعظة في بيان لزوم إكرام كلام الله والنطق به وهو من مصاديق الخشوع والخضوع والإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل إذ يقرأ المسلم والمسلمة آيات القرآن في الصلاة مع إجتناب منافياتها للإنقطاع عن الدنيا وبيان الإستعداد للآخرة وعالم الحساب , والحاجة إلى رحمة الله عز وجل .
خامساً : كل آية قرآنية ترغيب بالعمل الصالح ودعوة سماوية لنبذ الشرك وإرتكاب الذنوب والمعاصي .
سادساً : تدفع تلاوة آيات القرآن العذاب والبلاء عن الناس، ولما تفضل الله عز وجل وجعل العبادة والإنقياد لأوامره علة خلق الناس تفضل بهدايتهم إلى سبل طاعته وعبادته، وبعث الأنبياء والمرسلين مبشرين ومنذرين بالجنة واللبث الدائم في النعيم لمن آمن وعمل صالحاً ، ومنذرين بعذاب النار والخلود فيها لمن أصر على الكفر والجحود .
وإذ أختتمت النبوة برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فان الله عز وجل أنزل القرآن ليكون رسولاً من جنس الكلام إلى الناس جميعاً وإلى يوم القيامة يدعوهم إلى ما دعا إليه الأنبياء والمرسلون ، ولتدخل هذه الدعوة كل بيت وتصل كل أذن سامعة، وهو من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين .
وصحيح أن قوله تعالى في آية السياق [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] ( ) نزل بخصوص معركة أحد إلا أن موضوع الدعوة أعم ومنه الدعوة إلى التصديق بمعجزات الأنبياء السابقين.
وهل ذكر القرآن كل معجزات الأنبياء , الجواب ورد في القرآن ذكر آيات وأفراد من معجزات الأنبياء لتكون شاهداً على تفضل الله برزق الأنبياء أموراً خارقة للعادة ، مقرونة بالتحدي، وكل فرد منها دعوة إلى عبادة الله ، ولكن المشركين أبوا إلا محاربة النبوة وقام كفار قريش بتجهيز الجيوش العظيمة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتلقاهم بنفر من أهل البيت والصحابة في ميادين القتال فهزمهم بمعجزة من عند الله ، لتكون السنة النبوية شاهداً على إعجاز القرآن وصدق نزوله من عند الله ، قال سبحانه [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
ومن معاني [كَمْ] في الآية أعلاه تجدد قانون إنتصار المسلمين، وغلبة القليل من الأفراد والجنود على الجيش العظيم، والملاك هو إذن الله ، مما يدل على حضور مشيئة الله في كل معركة وحرب ، وكم من معركة محاها الله وصرف وقوعها عن الأطراف المتنازعة وعن الذراري ، لأن سلامة كل جندي من القتل في المعركة مقدمة للإنجاب وكثرة الأولاد والأحفاد , ليكون من شكرهم لله عز وجل لزوم الهداية والإيمان .
ومن السنة إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن قصص الأنبياء من جهات :
الأولى : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآيات التي تذكر الأنبياء وقصصهم .
الثانية : إظهار النبي محمد صلى الله عله وآله وسلم الإكرام للأنبياء السابقين، والحرص على إتباع ذات نهجهم وبيان إتحاد سنخية النبوة .
الثالثة : ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما لاقاه الأنبياء السابقون من الأذى من قومهم على نحو التفصيل ليكون هذا الذكر من مصاديق تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن.
الرابعة : إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قصص للأنبياء لم تذكر في القرآن ، وهي على أقسام :
أولاً : ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقصص ووقائع جرت لأنبياء ذكروا في القرآن لبيان أن السنة النبوية تتضمن بياناً لآيات القرآن ، منها مثلاً :
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لقد كذب إبراهيم ثلاث كذبات، ما منها واحدة إلاّ وهو بماحل وناصل بها عن دينه : قوله : [إِنِّي سَقِيمٌ] ( )، وقوله :[ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ] ( )، وقوله لسارة : هذه أُختي( ) .
ثانياً : إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قصص أنبياء لم يذكروا في القرآن ، وهو على شعبتين :
الأولى : ذكر النبي لأسماء بعض الأنبياء الذين لم يذكروا في القرآن .
الثانية : إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قصص جرت لأنبياء سابقين من غير ذكر اسم النبي لأن المدار على الموضوع والإتعاظ منه , كما في قوله وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه خطه علم علمه “( ).
ثالثاً : تفسير وبيان النبي صلى الله عله وآله وسلم لآيات القرآن التي تتضمن قصصاً للأنبياء السابقين .
رابعاً : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإنقطاع الأنبياء إلى طاعة الله وبذلهم الوسع في التبليغ وتعرضهم لأشد صنوف الأذى وقتل طائفة منهم، قال تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
لقد بشر الأنبياء السابقون ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فسارع قومهم للتصديق برسالته مع علمهم بأنه يبعث في زمان غير زمانهم، لتكون بشاراتهم بنبوته من مواثيق الأنبياء وميراث النبوة في الأرض، فلم يترك ويورث الأنبياء الذهب والفضة، ولكنهم خلّفوا من بعدهم الدعوة إلى التوحيد والجهاد في سبيل الله، ودعوة الناس إلى الإسلام.
الرابع : معجزة هود عليه السلام أنه كان وحيداً فريداً بين قوم عتاة يعبدون الأصنام ويريدون قتله، وهو يتحداهم ويبين سفاهة عقول الذين يعبدون الأوثان، ويحقر الهتهم، وفي التنزيل حكاية عنه [فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ]( )، ومن معجزات هود أنه كان يعدهم بالرزق الكريم ونزول الغيث إذا تابوا او آمنوا كما ورد في التنزيل [وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزيِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ * قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ…]( ).
الخامس : معجزات إبراهيم خليل الله وهي متعددة إذ إبتدأت من حين ولادته وهذه المعجزة من وجوه منها :
الأول : سلامة إبراهيم من القتل في صغره.
الثاني : قيام إبراهيم بكسر الأصنام في تحد ظاهر لقومه مقرون بالإحتجاج عليهم , وفي التنزيل [قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ]( ).
الثالث : دخول إبراهيم على النمروذ ملك البلاد الطاغوت الذي يكفر بالله، وقيام إبراهيم بالإحتجاج عليه في مسألة إحياء الموتى وأن الله عز وجل قادر على إحياهم وبعثهم من جديد، فجاء نمروذ باثنين من السجناء حكم عليهما بالقتل، فاطلق أحدهما وقال : لقد أحييته، وقتل الآخر، فقال إبراهيم [فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ]( )، وقيل أن النمروذ خيّر إبراهيم بين أن يحيى الله الموتى أو أن يقتله، فاخذهم إبراهيم على البحر , وقال [رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى]( ).
الرابع : نجاة إبراهيم من الحرق بالنار الذي أراده له نمروذ وقومه بعد إحتجاجه عليهم، قال تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ) في آية للعالمين لبيان أن الخلائق كلها مستجيبة لله عز وجل وبما يوافق سنخيتها أو يخالفها، إذ أن النار علة للإحراق، ومن الأمم والطوائف من تتقرب إليها زلفى وتعبدها، فجاءت معجزة إبراهيم عليه السلام لبيان أن النار مخلوق لله عز وجل ومستجيبة لأمره إذ تبين الآية أعلاه بأنه ليس للنار إلا الإمتثال لأمر الله عز وجل، وبخصوص السموات والأرض وإمتثالها لأمر الله، قال سبحانه[فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ]( ) وفيه إخبار عن إجابة وإستجابة السموات والأرض إذ أخبرت عن ماهية مجيئها بصيغة الطاعة والإمتثال لأمر الله وفيه دعوة للناس لأداء الوظائف العبادية وهو من الإختبار في الحياة الدنيا ، لتكون لهم واقية يوم القيامة من النار فلا تقربهم ولا يمسهم لهيبها، قال تعالى[أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ] ( ).
وهل صيرورة الوقود والحطب والنار التي جمعت لإبراهيم عليه السلام فكانت برداً وسلاماً مصداق وشاهد على قوله تعالى [وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا] ( ) بتقريب أن النار تكون على المؤمن أمناً وسلاماً.
الجواب نعم ، لبيان أن الدنيا مزرعة الآخرة ، وفيه مرآة من عالم الآخرة ، لترغيب الناس بالعمل الصالح وإتخاذه طريقاً إلى الجنة ، وهو من مصاديق ما ورد في التنزيل [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) فلا غرابة أن يتلو كل مسلم ومسلمة الآية أعلاه مع آيات سورة الفاتحة الأخرى عدة مرات في اليوم ، وقد ورد في آية البحث قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا] ( )وهناك مسألتان :
الأولى : لو صلى الصحابة صلاة فريضة أو غيرها وهم في حال الغم أو النعاس فهل هي تامة وصحيحة .
الثانية : هل صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه يوم معركة أحد وهم في حال الغم أو النعاس الذي تفضل الله به , وأخبر عنه في آية البحث .
أما بالنسبة للمسألة الأولى فلو تمت الصلاة بأحدهما أو هما معاً فالصلاة صحيحة وتامة لأن كلاً من هذا الغم والنعاس نعمة وآية من عند الله وباب للأجر والثواب .
وأما بالنسبة للمسألة الثانية فالأقرب بلحاظ أسباب النزول وعلم التفسير أن حال الغم والنعاس لم تستمر عند المؤمنين بعد إنقضاء المعركة.
الجهة الثالثة : إجتهاد إبراهيم في الدعوة إلى الله وعدم خشيته من الظالمين وطاغوت عصره نمروذ ، ومن خصائص نبوة إبراهيم عدم وجود الأنصار والأعوان له .
فحينما وقف على باب نمرود يريد لقاءه والإحتجاج عليه وإخباره عن ضلالته بادعاء الربوبية، لم يكن مع إبراهيم أحد، لذا فان توثيق قصته في القرآن وثيقة ومدد وعون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الجهة الرابعة : ولادة إسحاق نافلة لإبراهيم بعد بلوغه المائة سنة من العمر ، ويأس الإنسان من الإنجاب قبل بلوغ هذا السن من العمر ، ولكن حمل سارة زوجة إبراهيم بعد أن بلغت تسعين عاماً من العمر آية، وفيه مسائل:
الأولى : دعوة للناس لإكتشاف أسباب وسبل ولادة الزوجة من كبر وشيخوخة سواء من طرف الزوج أو من طرفها، قال تعالى[وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ *قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا]( ).
الثانية : بشارة الإنجاب عن كبر وشيخوخة، كما تجلى في هذا الزمان بالإرتقاء العلمي الحثيث لبلوغ هذه الغاية.
الثالثة : حث الناس على إستحضار معجزة إبراهيم عليه السلام بولادة إبنه إسحاق، وموضوعية ولادته في توارث النبوة، وتثبيت معالم الدين في الأرض.
الرابعة : عدم الإفتتان ببلوغ العلم مرتبة قدرة الإنسان على الإنجاب وهو بعمر مائة عام، وحمل المرأة وهي في سن متقدمة لأنه من فضل الله ويتم إكتساب العلوم بالبذل والتحصيل، قال تعالى[عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
الخامسة : لزوم إستحضار معجزة إبراهيم عليه السلام، وعدم الخلط بينهما وبين الإنجاب في الكبر عن علم وأسباب طبية.
الجهة الخامسة : ورود آيات عديدة في القرآن بخصوص إبراهيم عليه السلام ، وقصته وجهاده وأدعيته لنفسه وذريته وللنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبيت الحرام وعماره ومجاوريه، وفي التنزيل حكاية عنه [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ]( ).
لقد أخبر الله عز وجل في القرآن عن إتصاف إبراهيم عليه السلام بأنه دعّاء أي كثير الدعاء والمسألة إلى الله، بقوله تعالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ] ( ).
فتفضل الله عز وجل وذكر عدداً من أدعيته للدلالة على إتخاذ إبراهيم الدعاء سلاحاً ولبيان حقيقة وهي إستجابة الله عز وجل للدعاء ، وهذه الإستجابة من وجوه :
أولاً : إستجابة الله لدعاء إبراهيم على نحو الخصوص .
ثانياً : تفضل الله بالإستجابة لأدعية الأنبياء مطلقاً .
ثالثاً : حصر الإستجابة بلحاظ الموضوع والحكم .
رابعاً : الإطلاق هو الأصل، لقوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : أدعوني كما دعاني الأنبياء أستجب لكم .
ثانياً : أدعوني كما دعاني أبوكم إبراهيم أستجب لكم .
ثالثاً : أدعوني فان الدعاء عبادة ، وهو سبيل النجاح والفلاح، وعلامة الإقتداء بالأنبياء ، قال تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
السادس : معجزة إسماعيل عليه السلام ، لقد تجلت معجزات إسماعيل من حين صباه وأيام صغره ، فقد ولد لإبراهيم عليه السلام على كبر من هاجر , وبعد عقم سارة وعدم إنجابها الولد تزوج إبراهيم هاجر باذن من سارة لأنها جارية ، وعن سفر التكوين أن هاجر إبنة فرعون .
وعندما ولد لها إسماعيل أخذت تتأبى عن طاعة سارة ، وظهرت عليها أمارات الإمتناع عن الذل والمسكنة لها ، فقد أصبحت أم ولد إبراهيم ، وتجلت مسألة ظاهرة وهي أن إبنها إسماعيل هو الذي يرث إبراهيم في شأنه وماله ، وكان إبراهيم عليه السلام صاحب مواشي وأنعام ، وذكر أنه لما أنجاه الله من نار نمرود التي صعد لهيبها عالياً في السماء .
وكان الطير يمر بها فيسقط شواء في وسطها لإرتفاع لسانها في السماء ، وما أن خفتت النار حتى ظهر إبراهيم وهو جالس في وسطها لم يمسه أذى فطلب منه الملأ من قوم فرعون المغادرة وترك بلدهم ، وصادروا ما يملك ، وكان عنده ألفا شاة ، فقال لهم : أعيدوا وأرجعوا لي أيام عمري التي سخرتها بجمعها ، فقالوا : لا نستطيع إعادة أيام عمرك ، فارجعوا له ما يملك.
ولقد جاء إبراهيم من الشام ليسكن هاجر وإسماعيل في مكة، كما ورد في قوله تعالى [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ]( ).
لقد أمر الله عز وجل إبراهيم في رؤيا منام أن يذبح ولده ، كما ورد في التنزيل [يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى]( ) وأختلف في الذبح على قولين :
الأول : إنه إسحاق .
الثاني : إنه إسماعيل .
لقد كان أمر الذبح إبتلاء عظيماً من وجوه :
أولاً : إتخاذ إبراهيم للرؤيا علماً مستقلاً ، ومصداقاً للوحي ، وتدل الآية أعلاه على تلقي إبراهيم شطراً من الوحي بواسطة الرؤيا الصادقة.
وفي رواية أن أحدهم قال للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يا ابن الذبيحين( ).
ثانياً : إمتثال إبراهيم عليه السلام لأمر الله عز وجل في ذبح فلذة كبده وقرة عينه، والولد الذي جاء الى الدنيا بفضل الله بعد طول إنتظار وتقدم في العمر وفي زكريا وسؤال الولد بآية من عند الله في التنزيل [رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا]( ).
ثالثاً : بيان صفحة مشرقة من تأريخ النبوة.
رابعاً : التوثيق السماوي لجهاد وصبر إبراهيم وأبنائه في سبيل الله.
خامساً : تجلي معجزة لإبراهيم عليه السلام، من جهات:
الأولى : تفضل الله بالوحي إلى إبراهيم من غير واسطة ملك أو نبي.
الثانية : الأمر الصريح من عند الله سبحانه لإبراهيم بذبح إبنه , كما تقدم في بيان معنى اسم يوم التروية .
الثالثة : عدم فزع إبراهيم من رؤياه في المنام ذبح ولده لأنها من الوحي.
الرابعة : نقل وقص إبراهيم عليه السلام رؤياه لإبنه من غير زيادة أو نقيصة.
سادساً : البيان والأمارة على أن رؤيا إبراهيم من الوحي من جهات:
الجهة الأولى : قص إبراهيم الرؤيا على إبنه , وفيه وجوه:
أولاً : علم إبراهيم عليه السلام بحسن سمت إبنه.
ثانياً : تسليم إبراهيم عليه السلام برجحان عقل إبنه، وحسن إختياره
ثالثاً : تنمية إبراهيم عليه السلام لملكة الإختيار عند أولاده في حال الإمتحان والإبتلاء.
الجهة الثانية : تطلع إبراهيم إلى رأي إبنه في موضوع الرؤيا، وفيه وجوه:
أولاً : ثقة إبراهيم بأن إبنه لا يختار إلا ما يرضي الله.
ثانياً : بيان إبراهيم عليه السلام لمسألة وهي ضرورة أخذ رأي إبنه فيما يخصه من مسألة ذبحه بسبب الرؤيا.
ثالثاً : إرادة تمييز إبنه بين رؤيا الوحي وغيرها.
رابعاً : تأسيس وتأكيد قانون وهو رؤيا الأنبياء وحي.
الجهة الثالثة : توثيق القرآن لرؤيا إبراهيم، فان قلت قد وثق القرآن رؤيا ملك مصر أيام يوسف عليه السلام وهو ليس بمسلم، فلا ملازمة بين ذكر الرؤيا في القرآن وبين الوحي، والجواب فيه وجوه:
أولاً : ذكر رؤيا إبراهيم بصفة النبوة.
ثانياً : لقد سأل ملك مصر تأويل رؤياه كما ورد في التنزيل [إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ]( ) .
أما إبراهيم عليه السلام فانه رآى رؤيا وأولها على ظاهرها، وسأل إبنه رأيه فيها بقوله تعالى[فَانظُرْ مَاذَا تَرَى]( ).
وتقدير الآية على وجوه:
أولاً : فانظر في صدق وموضوع الرؤيا.
ثانياً : فانظر ماذا ترى في الإمتثال للرؤيا.
ثالثاً : فانظر في تأريخ النبوة ومنزلة الرؤيا في الوقائع والأحداث التي صاحبت الأنبياء.
رابعاً : فانظر ماذا ترى في رؤيا الوحي.
خامساً : فانظر في أمور الدنيا والآخرة.
سادساً : فانظر ماذا ترى في الأمر المتوجه لإبراهيم والذي يحمل صيغة الأمر بلحاظ أن رؤيا بذبح ولده شعبة من الوحي، لذا أجابه إبنه[يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ]( ).
وكأنها في اليقظة بقوله ( إني أرى ) وذات المعنى تكرر أيضاً فيما بعد في رؤيا يوسف عليه السلام وإخباره لأبيه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بمضمونها كما ورد في التنزيل[إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ]( )، وفيه مسائل :
الأولى : لم يصف يوسف عليه السلام ما رأى في المنام بأنها رؤيا، وفيه دلالة على توارث أنبياء بني إسرائيل لقانون وهو ما يرون في المنام له دلالة ومصداق في الواقع إذ لا دلييل على أن ذات الشمس والقمر والكواكب تسجد للإنسان وإن كان نبياً، ولا ينخرم هذا القانون في المقام بأوان رؤيا يوسف عليه السلام وأنه رآها قبل أن ينال مرتبة النبوة.
الثانية : في هذه الرؤيا بشارة ليعقوب بوراثة النبوة في ذريته، ومن فضل الله عز وجل تعيين الذي يرتقي إلى مرتبة النبوة من بين أبنائه الإثني عشر برؤيا منام، وذات الكيفية التي أمر الله بها إبراهيم بذبح إبنه، وهو من عمومات قوله تعالى[َيَعْقُوبَ نَافِلَةً]( )، بلحاظ تعدد وإتصال وتجدد مصاديق النافلة والفضل في أمور:
أولاً : ولادة يعقوب.
ثانياً : ذات شخص يعقوب.
ثالثاً : سيرة يعقوب وما فيها من تعظيم شعائر الله ومصاديق العصمة.
رابعاً : إنجاب يعقوب للأولاد.
خامساً : بعد أن كان إبراهيم عليه السلام يلح في الدعاء بسؤال الولد.
وتفضل الله عز وجل ورزقه إسماعيل وإسحاق بعد كبره وفي سن الشيخوخة تفضل الله ورزق إسحاق إبنه ولدين هما : عيصو ويعقوب، ورزق إسماعيلًً.
ثم تفضل الله عز وجل ورزق يعقوب إثني عشر ولداً، وهل من صلة بين دعاء إبراهيم الولد وبين كثرة أولاد يعقوب، الجواب نعم، فقد يكون الدعاء أو البشارة في أمر , ولكنه لا يتحقق إلا بعد حين أو بالواسطة[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
سادساً : تأديب يعقوب أولاده على تقوى الله، وعدم مغادرته الدنيا إلا بعد أن ترك وصيته لهم، ولم تكن في الأموال وزينة الدنيا، بل كانت بوجوب تعاهد كلمة التوحيد، والإجتهاد في طاعة الله، والشهادة من الأبناء بأنه وآبائه على ذات النهج، والتوارث الحسن، قال تعالى[أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
الثالثة : مبادرة يوسف عليه السلام لقص رؤياه على أبيه يعقوب , ويحتمل وجوهاً :
أولاً : تسليم يوسف بنبوة أبيه يعقوب، فقص عليه الرؤيا رجاء تأويلها من مقامات النبوة.
وعن ابن زَمْل الجهني، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح قال، وهو ثان رجله: “سبحان الله وبحمده. أستغفر الله، إن الله كان توابا” سبعين مرة، ثم يقول: “سبعين بسبعمائة، لا خير لمن كانت ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبعمائة”. ثم يقول ذلك مرتين، ثم يستقبل الناس بوجهه ، وكان يعجبه الرؤيا.
ثم يقول: “هل رأى أحد منكم شيئا؟” قال ابن زمل: فقلت: أنا يا رسول الله. فقال: “خير تلقاه، وشر توقاه، وخير لنا، وشر على أعدائنا، والحمد لله رب العالمين. اقصص رؤياك”. فقلت: رأيت جميع الناس على طريق رحب سهل لا حب، والناس على الجادة منطلقين، فبينما هم كذلك، إذ أشفى ذلك الطريق على مرج لم تر عيني مثله، يرف رفيفا يقطر ماؤه، فيه من أنواع الكلأ قال: وكأني بالرعلة الأولى حين أشفوا على المرج كبّروا، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فلم يظلموه يمينا ولا شمالا. قال: فكأني أنظر إليهم منطلقين .
ثم جاءت الرعلة الثانية وهم أكثر منهم أضعافا، فلما أشفوا على المرج كبّروا، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فمنهم المرتع، ومنهم الآخذ الضغث. ومضوا على ذلك. قال: ثم قدم عظم الناس.
فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا:(هذا خير المنزل). كأني أنظر إليهم يميلون يمينا وشمالا فلما رأيت ذلك، لزمت الطريق حتى آتي أقصى المرج، فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات وأنت في أعلاها درجة، وإذا عن يمينك رجل آدم شثل أقنى، إذا هو تكلم يسمو فيفرع الرجال طولا وإذا عن يسارك رجل ربعة باذ كثير خيلان الوجه، كأنما حمم شعره بالماء، إذا هو تكلم أصغيتم إكراما له.
وإذا أمام ذلك رجل شيخ أشبه الناس بك خلقا ووجها، كلكم تؤمونه تريدونه، وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف، وإذا أنت يا رسول الله كأنك تبعثها.
قال : فامتقع لون رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سري عنه .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “أمّا ما رأيت من الطريق السهل الرحب اللا حب، فذاك ما حملتم عليه من الهدى وأنتم عليه. وأما المرج الذي رأيت، فالدنيا مضيت أنا وأصحابي لم نتعلق منها بشيء، ولم تتعلق منا، ولم نردها ولم تردنا .
ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدنا وهم أكثر منا أضعافا، فمنهم المرتع، ومنهم الآخذ الضغث، ونجوا على ذلك. ثم جاء عظم الناس، فمالوا في المرج يمينا وشمالا فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وأما أنت، فمضيت على طريقة صالحة، فلن تزال عليها حتى تلقاني. وأما المنبر الذي رأيت فيه سبع درجات وأنا في أعلاها درجة، فالدنيا سبعة آلاف سنة، أنا في آخرها ألفا. وأما الرجل الذي رأيت على يميني الآدم الشثل، فذلك موسى، عليه السلام، إذا تكلم، يعلو الرجال بفضل كلام الله إياه. والذي رأيت عن يساري الباز الربعة الكثير خيلان الوجه، كأنما حمم شعره بالماء، فذلك عيسى ابن مريم، نكرمه لإكرام الله إياه .
وأما الشيخ الذي رأيت أشبه الناس بي خلقا ووجها فذاك أبونا إبراهيم، كلنا نؤمه ونقتدي به. وأما الناقة التي رأيت ورأيتني أبعثها، فهي الساعة، علينا تقوم، لا نبي بعدي، ولا أمة بعد أمتي”. قال : فما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رؤيا بعد هذا إلا أن يجيء الرجل، فيحدثه بها متبرعا)( ).
ثانياً : قص يوسف رؤياه على يعقوب لأنه أبوه، وأراد إخباره بما في الرؤيا من البشارة، فمن الرؤيا ما تكون بشارة ومنها ما تكون إنذاراً، وهل في رؤيا إبراهيم عليه السلام ذبح إبنه إنذار بحدوث القتل في ذريته، كما في قتل الأنبياء من بني إسرائيل وقتل حمزة بن عبد المطلب، والإمام علي والحسين عليهم السلام الجواب لايبعد هذا.
ثالثاً : كان يوسف عليه السلام نائماً في حجر أبيه يعقوب فرأى الرؤيا فقصها على أبيه في الحال.
رابعاً : العنوان الجامع للوجوه أعلاه.
والصحيح هو الأخير، ولا تعارض بينها، وهو دليل على حسن تأديب يعقوب أولاده من وجوه:
الأول : تلقي الرؤيا بالعناية والإهتمام، وهو أمر ورثوه من إسماعيل في قوله تعالى[قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ]( ).
الثاني : التسليم بالرؤيا الصالحة.
الثالث : حرص يوسف وأولاد الأنبياء على عدم تضييع نعمة الرؤيا.
الرابع : السعي لتأويل الرؤيا، وتفسير دلالاتها، وما فيها من الإشارات والرموز.
الخامس : تلقي أبناء الأنبياء الرؤيا الصالحة بالقبول والتطلع لتنجزها، والسعي لتحصيل أسبابها.
السابع : معجزة يعقوب( )، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وكانت ولادته نافلة كأبيه، ووضعته أمه متعقباً لأخيه عيصو ليس بينهما ثمة دقائق أو ساعات وقد شرّف الله عز وجل عدداً من الأنبياء بأن ذكر لكل واحد منهم في القرآن إسمين أو أكثر، وورد ذكر يعقوب باسمه هذا وباسم إسرائيل كما نُسب إليه اليهود، إذ ورد لفظ ( إسرائيل) في القرآن ثلاثاً وأربعين مرة منها إحدى وأربعون مرة بلفظ [بَنِي إِسْرَائِيلَ].
وقد ورد في آية واحدة مرتين منها مرة بالرفع [بَنُو] قال تعالى [وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ] ( )لبيان منّ الله عز وجل عليهم بالنجاة من فرعون وقومه .
وتعدد ذكر اسم يعقوب في القرآن إكرام إضافي ليعقوب، بينما ورد ذكر أبنائه الصلبيين بصفة البنوة بقوله تعالى[أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي]( ) .
وذكر اسم يوسف من بينهم على نحو الخصوص , وجاءت سورة كاملة بإسمه وبقصته , وهل فيه إشارة إلى إختصاصه بالنبوة خلافاً لمن قال بصيرورة إخوانه أنبياء بعد توبتهم , الأقرب نعم .
ومن دلالات نسبة اليهود إلى يعقوب أنه أسس لأمة من الموحدين، وأن القرآن يتوجه إليهم في التذكير بنعم الله عليهم، ويدعوهم إلى التصديق بنبوة محمد ويذكرهم بالبشارات التي جاءت خاصة ببعثته، ويحثهم على لزوم عدم محاربته أو الإعانة على قتاله، لأن الله عز وجل ينصره ويظهره بانتشار أحكام شريعته وعمل أمة عظيمة بسنة القرآن وهم المسلمون، قال تعالى[لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( ).
وهذه الدعوة والتذكير والإنذار من مصاديق تفضيل بني إسرائيل في قوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، بأن خصهم الله عز وجل بالتنبيه والتحذير وإن كان الناس جميعاً مشمولين بذات الخطاب والتنبيه، وفي ذكر بني إسرائيل على نحو الخصوص مسائل :
الأولى : تشريف وإكرام بني إسرائيل بلحاظ كبرى كلية وهي أن توجيه الخطاب القرآني إلى أمة إكرام لها، إلا أن يكون خطاب إنذار ووعيد وبيان قبح الفعل، وقد يأتي للأفراد.
الثانية : فيه حجة على بني إسرائيل وإنذار لهم.
الثالثة : ترغيب بني إسرائيل بدخول الإسلام.
الرابعة : دعوة بني إسرائيل والناس جميعاً للتدبر في المضامين الإعجازية لآيات القرآن.
الخامسة : بيان قانون وهو موضوعية دخول بني إسرائيل في الإسلام، وصيرورة المسلم منهم حجة على الناس للزوم محاكاته في إسلامه لأن بني إسرائيل أهل كتاب يقرأون في التوراة البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيه من الحث على المقارنة بين نبوة ومعجزات موسى عليه السلام ونبوة ومعجزات محمد صلى الله وآله وسلم وإستقراء الآيات والبراهين منهما التي تدعو إلى التصديق بنبوته وإتباعه.
ولا يتعارض هذا التشريف مع دلالات الخطاب الإلهي الموجه للمسلمين[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ويفيد الجمع بين تفضيل بني إسرائيل وبين الآية أعلاه حثهم على دخول الإسلام ليتصل التفضيل والإكرام.
ويكون تقدير آية التفضيل من سورة البقرة أعلاه على وجوه:
الأول : وأني فضلتكم على العالمين بكثرة النداء الموجه لكم في القرآن.
الثاني : وإني فضلتكم على العالمين بتعدد ذكر قصص أنبيائكم في القرآن.
الثالث : وإني فضلتكم على العالمين برحمتي والشكر مني لأنبياء بني إسرائيل وجهادهم وأتباعهم في سبيل الله.
الرابع : وإني فضلتكم على العالمين لبيان قانون وهو أن الله عز وجل يفضل من يشاء من العباد.
الخامس : من أسرار التفضيل بين الناس أمور:
أولاً : بيان موضوعية الإسلام والإيمان في ملاك التفضيل بين الناس.
ثانياً : الحث على معرفة أسباب التفضيل والبلغة إليه، وتتجلى بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدخول الإسلام.
ثالثاً : إكرام بني إسرائيل بين الأمم بلحاظ الخطابات التي تتضمن إكرامهم.
رابعاً : إنذار بني إسرائيل بخصوص آيات تخاطبهم والتخويف التي تخاطب بني إسرائيل، والآيات التي تذكر قصصهم وذم فريق من أهل الكتاب.
الثامن : معجزات كليم الله موسى عليه السلام، وهو أكثر الأنبياء ذكراً في القرآن بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بيان معجزاته، مع التعدد والتفرع في ذات المعجزة كما في معجزة العصا، وفي التنزيل[قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى]( ).
لقد تجلت آية العصا لفرعون والسحرة وعند عبور بني إسرائيل البحر هرباً من فرعون وجنوده الذين كانوا في أثرهم، طالبين لهم.
لقد كانت عصا موسى حجة وبرهاناً حسياً مصاحباً لنبوة موسى، وسبيل نجاة لبني إسرائيل في البيداء بقوله تعالى[فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا]( )، لتكون حجة على بني إسرائيل في لزوم التقيد بما جاء به من الأوامر والنواهي، ولترغيبهم بالإنصات لبشارته بنبوة محمد، وكثرة أنصاره ، وكصا موسى فانه يصل الماء إلى إنحاء وأطراف الجزيرة ببركة نبوته , فقد ورد في إبراهيم عليه السلام أنه أسكن إسماعيل وأمه[بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ]( )، لتكون بطن مكة وما حولها من القرى أودية ذات زروع وأشجار ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبلحاظ آية السياق , يمكن التقدير على وجوه:
أولاً : والرسول يدعوكم لصيرورة مكة وما حولها من جنان الدنيا.
ولقد أنعم الله عز وجل على قريش بالتجارة وسير قوافلها محملة بالبضائع بين الشام واليمن ومكة بقوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( )وعندما جحدت قريش بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنشغلت بمحاربته وقتاله إبتلاهم الله بقطع حبل هذه التجارة وأهلكوا الإبل والرواحل في قطع المسافة بين مكة والمدينة في معركة بدر وأحد ثم حصار المدينة الذي إستمر أكثر من عشرين ليلة في معركة الخندق.
لقد كانت لغايات التجارة ورحلة الشتاء والصيف موضوعية في لجوء أبي سفيان رئيس جيش الذين كفروا يوم معركة أحد إلى الإنسحاب في آخر يوم المعركة والإنصراف إلى مكة من غير تجديد القتال أو المبيت في موضع معركة أحد أو الإغارة على المدينة المنورة.
لقد أراد كفار قريش الإجهاز السريع على المسلمين في يوم واحد ، وفي حال عدم تحققه فالأولوية للعودة ومزاولة التجارة والمكاسب وخشية تعطيل التجارة والخزي أمام القبائل العربية وحدوث هوة وترد في منزلتهم وضعف في شوكتهم مما يطمع الناس وأفراد القبائل بهم.
لقد أرادوا إيهام الناس بأنهم أخذوا ثأرهم مما لحقهم من الخسارة والخزي يوم بدر ، فأرجعهم الله عز وجل من معركة أحد خائبين ، ومن أسباب هذه الخيبة قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ].
ثانياً : والرسول يدعوكم لتكون رحلة الشتاء والصيف للمسلمين ) فقد جحدت قريش بالنعم ، وحاربوا النبوة والتنزيل مع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من قريش وساداتها ، قال تعالى [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ] ( )إذ تبين سورة قريش أن أبواب التجارة والرزق التي فتحها الله لقريش مقدمة ونوع طريق لعبادة الله وذكرتهم السورة بأن الله عز وجل رب البيت الحرام الذي هم مجاوروه وسدنته لقوله تعالى [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه ورود اسم الإشارة لقرب البيت الحرام منهم وصيرورته قريباً من الناس جميعاً، بإتخاذ المسلمين له قبلة ، إذ يتوجه إليه خمس مرات في اليوم كل مسلم مسلمة ومن مشارق ومغارب الأرض ويحرصون قبل الدخول في الصلاة على تحري القبلة ، قال تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ( ).
ويتجدد في كل عام في نفوس المسلمين الشوق إلى الشاخص المبارك الذي جعله الله [مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا] ( ) فيصل وفد الحاج من بين عموم المسلمين ليهتفوا جميعاً وبصوت واحد ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ) ولا ينحصر أداء الحج بالتلبية ، فهو مدرسة عقائدية وأخلاقية تتجلى فيها أسمى مصاديق التقوى والشكر لله عز وجل.
ليكون من معاني آية إيلاف قريش[فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( )، ولكنهم جحدوا وتعاهد المسلمون عبادة الله، وعمروا الأرض بالصلاة والذكر في أطراف النهار وجوف الليل ففتح عليهم الله أبواب الرزق الطيب، وفيه نكتة وهي أن الله عز وجل إذا انعم نعمة فانه أكرم من أن يرفعها ، فقد رزق الله قريشاً نعمة التجارة ، وقطع الصحراء بقوافل الإبل ، فصدوا عن معجزات النبوة فتوالت عليهم الإنذارات ومنها السور المكية.
وكل سورة مدرسة في الإنذار والتخويف ، فتلقاها المسلمون بالقبول والتصديق فشكرهم الله عز وجل وآتاهم تلك النعم التي آتاهم قريشاً ، ومن آمن من قريش تعاهد هذه النعم ويحتمل وجوهاً:
الأول : تعاهد النعمة من قبل المسلم من قريش ودوام الرزق عليه بصفته مؤمناً .
الثاني : دوام النعمة بلحاظ إسلامه وتصديقه بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : إرادة المعنى الجامع بأنه من قريش ومسلم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق ودلالات أن رجالات قريش الذين آمنوا صاروا أمراء وقادة في الغزوات وفي الأمصار ومنهم من آمن يوم فتح مكة.
ثالثاً : من وجوه تقدير الآية : والرسول يدعوكم لتنحية كفار قريش عن رحلة الشتاء والصيف ) لقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المدينة في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة لتلقي عير قريش وإسترداد أموالهم التي إستحوذت عليها قريش في مكة.
ومن الآيات أنهم لم يدركوا العير ، ولم يأخذوا من البضائع التي تحملها ، لتقع معركة بدر وتصبح [يَوْمَ الْفُرْقَانِ] ( ) الذي فصل الله عز وجل به بين الحق والباطل ، بين حال المسلمين قبله من الضعف وتلقي الأذى من كفار قريش ونحوهم ، وبين حالهم بعده من العز والشأن ، وتجلي مقدمات بناء دولة الإسلام .
رابعاً : يكون من معاني تقدير الآية : والرسول يدعوكم ليوم كيوم بدر ) فندب المؤمنون بعضهم بعضاً وتناجوا بينهم بالعودة وإستحضروا بطولاتهم يوم بدر ، ونزول الملائكة لنصرتهم ، وما أصاب الذين كفروا من الوهن والضعف وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) أي أصبحتم أعزة تتناجون بالعودة إلى المعركة، والإستجابة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته لكم.
وبينت الآية الكريمة أن النعاس نعمة فازت به طائفة من المؤمنين دون طائفة أخرى مع بيان أسباب تخلفها عن التنعم به، ومن إعجاز الآية أن هذه الأسباب متعددة وليس سبباً واحداً وهي:
الأول : إنشغال أفراد تلك الطائفة بأنفسهم ، فصاروا يخشون القتل ، مع ان نزول النعاس يدل على قرب إنقضاء المعركة وسلامتهم من القتل أو الأسر .
وفي الآية تنبيه بأن الأولى هو الذب والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وفي سلامته إستدامة لنزول آيات القرآن وبيان وتثبيت لأحكام الإسلام فلا غرابة أن يهب أهل المدينة رجالاً ونساءً إلى طريق أحد يتلقون أنباء المعركة ، ويسألون عن نجاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليستبشروا بعودته سالماً مع كثرة الشهداء .
و(عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ ، قَالَ مَرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِامرأة مِنْ بَنِي دِينَارٍ ، وَقَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا وَأَبُوهَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأُحُدٍ فَلَمّا نُعُوا لَهَا ، قَالَتْ فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ قَالُوا : خَيْرًا يَا أُمّ فُلَانٍ هُوَ بِحَمْدِ اللّهِ كَمَا تُحِبّينَ .
قَالَتْ أَرُونِيهِ حَتّى أَنْظُرَ إلَيْهِ ؟ قَالَ فَأُشِيرَ لَهَا إلَيْهِ حَتّى إذَا رَأَتْهُ قَالَتْ كُلّ مُصِيبَةٍ بَعْدَك جَلَلٌ( ).
أي يكون فقد الأحبة بعد سلامتك ونجاتك أمراً يسيراً , وهيناً, وفيه تسليم بنبوته , وإقرار عام بأن فعله وأمره في معركة أحد وخروجه للقاء جيش الكفار من الوحي , وفيه دلالة على عدم ترتب الأثر بين المسلمين والمسلمات على جدال المنافقين .
الثاني : ظن المنافقين بالله غير الحق، إذ يريدون تحقيق النصر المبين في كل جولة وكل معركة، ولم يعلموا أن الدنيا دار إمتحان وإختبار وأن المسلمين لم يخسروا معركة أحد , ولم ينهزم المؤمنون فيها .
الثالث : التساؤل بصيغة الإنكار عن حقهم في إختيار ما يريدون فعله في ميدان القتال ، مع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يأمر أو ينهي إلا بالوحي من عند الله عز وجل .
الرابع : إضمار هذه الطائفة السخط وعدم الرضا لفوات منفعة الغنائم والأسرى التي كانت هدفاً لهم.
ولم تكتف هذه الآية ببيان خصال هذه الطائفة بل جاءت بالأمر من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإحتجاج عليهم بالبرهان وبما يتضمن لزوم الصبر والرضا بأمر الله عز وجل فيما أصاب المسلمين من الخسارة والمصيبة يوم أحد ، وأن الذين قتلوا إنما ماتوا بأجلهم وحلول أوان مغادرتهم الدنيا ، قال تعالى [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( ) مع مائز عظيم وهو أن الذي يقتل في ساحة المعركة من المؤمنين يكون شهيداً، قال تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
ومن إعجاز الآية أن نزول النعاس للمؤمنين جميعاً الذين حضروا معركة أحد على نحو العموم المجموعي بقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ] بذات النسق والعطف على الغم ، ثم خصت الآية طائفة من المؤمنين بالنعاس ، وبينت علة حجبه عن طائفة أخرى ، وفيه نكتة وهي حالما يزول المانع الذاتي يأتي النعاس للفرد والجماعة من الطائفة الذين همتهم أنفسهم ، سواء بذات معركة أحد أو في معارك ومناسبات أخرى.
فمن إعجاز الآية أنها تخبر عن معجزة وهي أن نزول النعاس رحمة خص الله بها المؤمنين الذين عشقوا الجهاد ، وبادروا إلى الدفاع عن بيضة الإسلام ،ولم يشكوا , قال تعالى[وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ]( ).
لقد خرج المسلمون من معركة أحد بحكمة وموعظة وهي لزوم الصبر في مرضاة الله , وتحمل الأذى في جنبه وتلقي فعل وأمر النبي محمد بالقبول والرضا , قال تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ ] ( ).
ويدل قوله تعالى [يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ] على علم الله عز وجل بما في الصدور، وهل فيه إخبار عن الحساب عليه، الجواب لا، إنما تخبر الآية عن حجب نعمة النعاس عنهم لأسباب متعددة منها ما يخفون في أنفسهم من السخط والخوف من العدو ، والحسرة على فوات الغنائم .
ومن فضل الله على المسلمين أنه لا يؤاخذهم على نية السوء إلا أن تترجل إلى الخارج.
لتكون هذه الآية من مصاديق قوله تعالى [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( )وهناك مسألتان :
الأولى : ترى هل يدل قوله تعالى يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك، على النفاق .
الثانية : هل يمكن تقسيم النفاق إلى قسمين :
الأول : النفاق المستقر الذي يظهر على اللسان وفي عالم الفعل وحال السلم والحرب ، وعند الجدال والإحتجاج.
الثاني : النفاق المتزلزل الذي يكون في حالات خاصة كما لو إشتد البأس ولمعت السيوف وسالت الدماء .
الجواب أما بالنسبة للمسألة الأولى فلا تدل الآية على النفاق لأن رأس النفاق ومن تبعه رجعوا وسط الطريق وأن حجب النعاس عن طائفة من المؤمنين ممن إشترك بمعركة أحد لا يدل على النفاق ، نعم قد يحجب النعاس عن فريق من المنافقين ، ليكون هذا الحجب أعم في موضوعه في النفاق.
وأما بالنسبة للمسألة الثانية فلا دليل على هذا التقسيم ، إنما يكون حال النفاق كله في تزلزل وعدم إستقرار ، وكل آية من الآيات التي تذم النفاق والمنافقين تبين نوع طريق للتوبة والتنزه منه ، ويدل عليه واقع حال المسلمين بالتناقص في عدد المنافقين وضعف تأثيرهم وسلطانهم ، فحينما قال رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول في معركة أحد في السنة الثالثة من الهجرة النبوية : علام نقتل أنفسنا ها هنا( ).
إنخزل معه ثلاثمائة من جيش المسلمين ، وكان إنخزالهم هذا مصيبة عظمى أصابت جيش المسلمين ، ولكن وجود النبي صلى الله بين ظهراني الجيش ، وصدق إيمان المؤمنين منع من ترتب الضرر على هذا الإنخزال ، ليأتي الوعد الإلهي بحس وقتل المسلمين للذين كفروا مدداً وعوضاً وبدلاً عن حضور وفعل الذين إنخزلوا ، ولكن في غزوة بني المصطلق من خزاعة في السنة السادسة للهجرة , عندما قال ذات الشخص وهو عبد الله بن أبي سلول [ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ]( ) لم يرض عليه المسلمون وبادروا في الحال بنقل كلامه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتبرأ منه حتى إبنه وإستاذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قتله ليكون حجة من وجوه:
اولاً : زيادة إيمان المسلمين.
ثانياً : تفقه المسلمين في الدين، ومعرفتهم بخصال المنافقين.
ثالثاً : تنزه المسلمين من النفاق وأهله.
رابعاً : مبادرة المؤمنين إلى فضح النفاق والنهي عنه قوة ومنعة للإسلام.
خامساً : إنحسار النفاق وصلاح أكثر الذين كانوا يتصفون بالنفاق والمؤلفة قلوبهم.
سادساً : منع المسلمين الناس من الإفتتان بالمنافقين.
سابعاً : لجوء المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الملمات وصدورهم عنه.
وتجمع آية البحث بين الصدور والقلوب مع دلالتها على موضوع متحد، لبيان أن الله[يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى]( ) وتأكيد حقيقة من جهات:
الأولى : ما حصل للمسلمين في معركة أحد إبتلاء وإمتحان وإختبار.
الثانية : فيه درس وموعظة لأجيال المسلمين.
الثالثة : إنه ترغيب بإقتباس الدروس من معركة أحد.
الرابعة : ما لاقاه المسلمون من الأذى دعوة إلى الله بصبر وتحمل ورضا.
الخامسة : بعث الرغبة في النفوس لنيل الثواب من عند الله عز وجل، ولتكون عاقبة هذا الإبتلاء الجنة واللبث الدائم في النعيم، قال تعالى [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ]( ).
ووردت ألفاظ في آية البحث لم ترد في غيرها من آيات القرآن وهي :
الأول : نعاساً , نعم ورد لفظ [النعاس ] بالتعريف بالألف واللام فيه وفي الأمنة في آية أخرى، ولكن في ذات موضوع قتال المسلمين للذين كفروا , قال تعالى [إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ] ( ).
الثاني : أهمتهم .
الثالث : لبرز ، ولم يرد لفظ [برز] في القرآن إلا في آية البحث، ويمكن إستقراء نكتة منه وهي شدة الإبتلاء وقلة القتل بين المؤمنين .
الرابع : قُتلنا .
الخامس : مضاجعهم .
السادس : قد وردت مادة يبتلي بصيغة الجمع [ليبتليكم] في القرآن قبل آيتين ، لبيان حقيقة وهي أن معركة أحد إبتلاء خاص وعام للمؤمنين.
وإذا أخذنا بعض الكلمات المتجاورة في إنحصار ورودها في آية البحث والآيات الأخرى لتجلى علم جديد آخر يكشف عن أسرار اللفظ القرآني ومنه في آية البحث أمثلة عديدة لجمل لم ترد إلا فيها، ومنها :
الأول : ثم أنزل عليكم .
الثاني : بعد الغم.
الثالث : أمنة نعاساً .
الرابع : نعاساً يغشى .
الخامس : يغشى طائفة .
السادس : وطائفة قد أهمتهم .
السابع : يظنون بالله .
الثامن : ظن الجاهلية .
التاسع : هل لنا .
العاشر : من الأمر من .
الحادي عشر : ما قتلنا .
الثاني عشر : ما قتلنا ها هنا .
الثالث عشر : لو كنتم في بيوتكم .
الرابع عشر : وليمحص ما في قلوبكم .
ولم يرد لفظ [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ] في القرآن إلا في آية البحث ، لبيان أن النعاس نعمة إختص بها المسلمون في ساحة المعركة .
أيهما أكثر التلاوة في الصلاة أم خارج الصلاة
تكون تلاوة المسلمين للقرآن على وجوه :
أولاً : تلاوة المسلمين القرآن في الصلاة وهو على شعبتين :
الأولى : التلاوة في صلاة الفريضة .
الثانية : التلاوة في صلاة النافلة .
ثانياً : تلاوة المسلم للقرآن خارج الصلاة .
ثالثاً : عموم قراءة المسلمين للقرآن في الدراسة ، وعلوم التفسير ورجاء الروق والأجر , ومصاحبة آيات القرآن , وختمه والتدبر في مضامينه القدسية وإذا كانت التلاوة واجباً عينياً على كل مسلم ومسلمة في الصلاة ، فان تلاوة القرآن خارج الصلاة أمر كفائي وهو مستحب ، وقد يكون واجباً بالعرض.
والصلاة ترغيب بتلاوة القرآن خارجها , وتلمس للأجر والثواب وإكتناز الحسنات بهذه التلاوة وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ) بتقريب أن التلاوة واقية من فعل السيئات وأن التوقي من السيئات سبب لكثرة التلاوة من غير أن يلزم الدور بينهما .
وقد يقال بالتفصيل فقد تكون تلاوة المسلمين للقرآن في الصلاة هي الأكثر في عدد من الأمصار ، وفي عدد آخر منها تكون التلاوة خارج الصلاة هي الأكثر وهذا لا يمنع من الحساب والنتيجة النهائية بين التلاوة في صلاة الفريضة وبين عموم التلاوة في النافلة وأوقات خارج الصلاة ، ومع أن هذه المقارنة إفتراضية ولا يعلمها إلا الله عز وجل إلا أن الأمارات تدل على أن تلاوة القرآن وقراءة آياته في الصلاة أكثر منها خارج الصلاة.
وهو من إعجاز القرآن الغيري وأسرار الصلاة ، وما فيها من أبواب المعرفة ، وحاجة دوام الحياة في الأرض إلى وجوبها , قال تعالى[وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي]( ).
ويدعو القرآن المسلمين كل ساعة لتلاوته .
ومن الآيات أن المؤمن حينما يفرغ من تلاوة القرآن يشتاق إليها مرة أخرى ، فقد جعل الله القرآن سراً من أسرار الحياة ، وهو سبب لنزول الرزق والبركة .
ويحتمل متعلق بركة القرآن وجوهاً :
الأول : خصوص الذي يتلو القرآن نافلة .
الثاني : عموم المسلمين , لأنهم يقرأون القرآن في الصلاة الواجبة .
الثالث : نزول البركة على المؤمنين خاصة لأنهم يتدبرون بتلاوة آيات القرآن .
الرابع : شمول البركة للمسلمين وأهل الكتاب خاصة بدليل قوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى] ( ).
الخامس : نزول بركة القرآن على الناس جميعاً برهم وفاجرهم، والصحيح هو الأخير لمصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) .
وتحتمل البركة في المقام وجوهاً :
أولاً :البركة بتلاوة القرآن من الكلي المتواطئ الذي يكون على مراتب متساوية بالنسبة للناس جميعاً .
ثانياً : مصداق البركة في قراءة القرآن من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
ثالثاً : ليس من قانون ثابت في ماهية ومقدار وكيف وكم البركة التي تترشح عن تلاوة القرآن .
والمختار هو ثانياً أعلاه وان البركة التي تنزل على المؤمنين أكثر وأعظم من البركة التي ترد على المنافق وعلى الذين كفروا ، ترى ما هي مصاديق البركة في المقام فيه وجوه :
أولاً : ذات تلاوة القرآن بركة لمن يتلوه ولغيره ، قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ثانياً : الزيادة في الرزق ، وقد وعد الله عز وجل بنزول البركة وحلول الخصب بالإستغفار ، وورد حكاية عن نوح في التنزيل [وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا]( ).
وتحتمل تلاوة القرآن بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : الإستغفار في أيام نوح يعادل تلاوة القرآن في أيام النبوة الخاتمة ، وفيه شاهد على كون المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بلحاظ أن الأمم السابقة تكتفي بالإستغفار وأن المسلمين يتلون آيات القرآن في الليل والنهار .
ومن الإعجاز في المقام ورود ذكر صلاة الصبح بلفظ القرآن بقوله تعالى [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( ) .
ويكون تقدير الآية أعلاه من سورة هود أن إقرأوا القرآن ينزل الله عليكم الغيث , ويمددكم بأموال وبنين.
الثاني : ذات تلاوة القرآن إستغفار ، وعلة للمغفرة.
الثالث : تضمن آيات القرآن الإستغفار والوعد من عند الله بالعفو والمغفرة ، قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
الرابع : ذكر آيات القرآن لأسماء الله الحسنى التي تفيد المغفرة، وفي التنزيل[وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ثالثاً : من البركة حال الصلاح في المجتمعات تهذيب النفوس بتلاوة آيات القرآن .
رابعاً : كثرة تلاوة القرآن من البركة ، بأن يقرأ المسلم القرآن فتكون هذه التلاوة سبباً لأمور :
الأول : قيام المسلم بالإكثار من قراءة القرآن .
الثاني : صيرورة تلاوة المسلم على نحو الورد اليومي , لطائفة من القرآن .
الثالث : عدم حصول الفترة والغفلة في تلاوة المسلم للصلاة .
الرابع : ترغيب المسلمين بتلاوة القرآن .
الخامس : التلاوة نوع طريق وعلة للتدبر في آيات القرآن وبعث لإستقراء العلوم التي في الآية القرآنية .
ومن الإعجاز في المقام تعدد العلوم في كل آية قرآنية , فتتحد الآية وتتعدد العلوم المستقرأة منها لتكون باعثاً للتلاوة .
السادس : تبعث تلاوة القرآن في النفس الرغبة بختمه وقراءة دعاء ختم القرآن , وعن عاصم عن زر بن حبيش قال : قرأت القرآن من أوله إلى آخره في المسجد الجامع بالكوفة على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، فلما بلغت ” الحواميم ” قال لي أمير المؤمنين : قد بلغت عرايس القرآن ، فلما بلغت رأس العشرين من حم عسق: والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم مايشاؤن عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير ، بكى حتى ارتفع نحيبه ، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : يا زر أمن علي دعائي.
ثم قال : اللهم اني أسألك اخبات المخبتين ، وإخلاص الموقنين، ومرافقة الابرار ، واستحقاق حقائق الايمان ، والغنيمة من كل بر والسلامة من كل اثم ووجوب رحمتك وعزائم مغفرتك والفوز بالجنة والنجاة من النار ، يا زر اذا ختمت القرآن فادع بهذا ، فان حبيبي رسول الله أمرني بأن أدعو بهن عند ختم القرآن ( ).
ولما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض بقولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )رد الله عز وجل عليهم باحاطته علماً بأحوال آدم وذريته على نحو التفصيل ، ومن علمه سبحانه في المقام عكوف المسلمين على تلاوة القرآن ونزول البركة والخير عليهم وعلى الناس ،ومنه صيرورة هذه التلاوة سبباً لتنزه الناس عن الفساد ونفرة النفوس من القتل .
وعندما يتلو المسلم القرآن يعلم بحكم القصاص كما في قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ) فينزجر عن القتل ويحث الناس على الإبتعاد عن سفك الدماء .
يوم الزحمة
وهو اليوم الذي إجتمعت فيه قريش , وقررت قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ليلته حيث بات الإمام علي عليه السلام في فراشه.
لقد تبين لقريش وغيرها من القبائل وعموم الناس أن المسلمين صاروا على قلتهم وهم في مكة أمة لها شأن بين الدول وأهل الأمصار من وجوه:
الأول : هجرة الصحابة ومغادرتهم مكة وما تتضمنه هذه المغادرة المنظمة من الدلالات منها :
الأولى : ترك وإعراض الصحابة عن مجتمعات الشرك والضلالة.
الثانية : صدق إيمان الصحابة بلحاظ مفارقتهم للأهل والأحبة وديار الصبا شراءً لسلامة الدين .
الثالثة : تعرض الصحابة إلى المخاطر في طريق الهجرة، وحلولهم في بلاد الغربة مع الإختلاف في المبدأ والعقيدة.
الرابعة : كل فرد من المسلمين الذين هاجروا داعية إلى الله ورسوله، وهم مجتمعون شاهد صدق على صحة نبوته.
الخامسة : حدوث الهجرة بأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه دلالة على إنقياد الصحابة لأوامره .
الثاني : لقد إنكشف للناس بهجرة الصحابة من مكة قبح عقيدة كفار قريش، والمكوث على الأصنام، مع ما يترشح من الواجبات العبادية عن جوار بيت الله الحرام، فقد يخطأ ويقصر الأتباع والأعوان , ولكن عندما يصدر ذات التقصير من المتبوع وذي الرئاسة فانهم وغيرهم يستهجنون فعله.
الثالث : لقد أنكرت قريش معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنهم يدركون صدقها، قال تعالى[وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا]( )، وعندما كثر عدد المهاجرين والجهات والأمصار التي توجهوا إليها علمت قريش بأن الناس سيميلون إلى الإسلام ويملأ قلوبهم الشغف لمعرفة معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وتفاصيلها ودلالاتها.
لقد كان كل مهاجر إلى الحبشة وغيرها سفيراً للإسلام، ومبعوثاً من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان صدق نبوته، ودعوة الناس لدخول الإسلام، وهو من مصاديق سلامتهم من إجهاز الناس عليهم في الأمصار التي أقاموا فيها.
الرابع : شيوع نبأ إجارة وحسن جوار النجاشي للصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة.
الخامس : سلامة المهاجرين من الإرتداد وترك دينهم، مع أنهم ذهبوا إلى بلاد تسود فيها النصرانية , وكان الذين إجتمعوا في دار الندوة يوم الزحمة من كبار المشركين هم:
الأول : من بني عبد شمس: عقبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة (قتلا في معركة بدر)، وأبو سفيان بن حرب.
الثاني : من بني نوفل بن عبد مناف: طعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم، والحرث بن عمرو بن نوفل.
الثالث : من بني عبد الدار بن قصي: النضر بن الحارث بن كلدة.
الرابع : من بني أسد بن عبد العزى، أبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام.
الخامس : من بنى مخزوم: أبو جهل بن هشام.
السادس : من بنى سهم: نبيه ومنبه إبنا الحجاج.
السابع : من بنى جمح: أمية بن خلف.
ودخل معهم جمع من رجالات قريش لخطورة الأمر , ووقف على باب دار الندوة إبليس بهيئة شيخ من نجد , وإدعى إسداء النصيحة لهم، فاذنوا له بالدخول، فليس لإبليس أن يدخل معهم إلا بإذن منهم، وهو من أسرار الإبتلاء في الحياة الدنيا وورد قريباً منه بخصوصه في قصة سفينة نوح.
فتشاوروا في أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وما يجب فعله معه , وذكروا عدة وجوه , فقال أحدهم : إحبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله، زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم( ).
ولم يحبس الشعراء بل كانوا يكرمون في الغالب ، ويحتاج إليهم قومهم في المعارك والحروب وموارد الفخر أو الهجاء.
وأدركوا عقم هذا الرأي لأنه يزيد ولاء الناس للنبي ، ويجعلهم يتابعون معجزاته، ويكون حبسه عاراً على قريش، كما خافت قريش من إنتقام أصحابه وأنصاره وبطشهم بقريش داخل وخارج مكة، وتعرضهم لتجارتها بين اليمن والشام،، وخافوا من إنقضاض أصحابه وهجومهم وإخراجه من السجن عنوة ، فصرفوا النظر عن مسألة حبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم , إذ أبى الله عز وجل إلا سلامته من السجن والحبس ، وما فيه من الذل والضعف والأذى .
ومن فضل الله عز وجل أن قريشاً لم يذكروا ويقترحوا مسألة السجن إلا بعد أن شاع في الآفاق خبر نبوته، وإنتشر أصحابه في الأمصار، وصار ينافس قريشاً في الأثر والتأثير بين الناس مع تنامي أثره , وإقبال الناس بلهفة على سماع آيات القرآن وتلاقفهم لأنباء نبوته، والمعجزات التي جرت وتجري على يديه .
ولو سجن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهل تحدث معجزات في سجنه , الجواب نعم، ويكون فيها خزي ونهاية سطوة قريش.
لقد تركوا مسألة سجنه لإدراكهم أنها سبيل إلى خسارتهم وصرفوا النظر عنها، وتطلعوا إلى قول وإقتراح آخر، خاصة وأن دار الندوة أسست للتشاور في المهمات.
ثم قال أحدهم : نخرج محمداً من بين أظهرنا، وننفيه عن بلادنا)( )، بلحاظ أنه من أوسط قريش وساداتها، فلا يبتلون بدمه ولا يؤذونه وكانوا يرجون تعرضه للأذى من غيرهم من أهل الأمصار والملل الأخرى .
وأرادوا بهذا الرأي أن يبقوا على سيادتهم في مكة، والمنع من الفرقة والخلاف الذي حصل بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل وميل الناس إليها ، وإصرار شطر من كبرائهم على عبادة الأصنام والبقاء على ما ألفوا عليه آباءهم، وفي التنزيل حكاية عن قوم هود [قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا]( ) .
وتداولت قريش الأمر فيما بينهم، وإبليس يحرضهم على رفضه ببعث الفزع والخوف في نفوسهم من خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة وإجتماع الأنصار حوله ودخوله مكة فاتحاً .
وهل تخويف إبليس هذا لقريش في دار الندوة يوم الزحمة من مصاديق ما ورد قبل آيتين [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ) .
الجواب لا، إذ نسبت الآية إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا لله عز وجل وبصيغة المضارع (سنلقي) حيث نزلت الآية أعلاه أوان معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة، نعم هو من الرعب الذي يترشح عن الضلالة والإنقياد إلى الشيطان والهوى .
ومن مصاديق الرعب الذي تذكره الآية أعلاه ما يكون بواسطة الملائكة والمؤمنين , وتعدد طرق وسبل الخوف التي تنسب إلى الله عز وجل وجنوده ، ولكن تخويف إبليس لكفار قريش أمر آخر وإستدراج لهم لإتخاذهم الشيطان ولياً ، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا]( )، وما يظهره إبليس من الحيلة والمكر يبدو على ألسنة المشركين، لإمتلاء نفوسهم بالغيظ والحنق ولسطوع شمس النبوة في أرجاء الجزيرة، ونفاذ عذوبة آيات القرآن إلى قلوب الناس.
لقد صارت قريش في حيرة من أمرها لأن النبي يجذب الناس بالآيات وبكلامه لما فيه من الصدق , وإستحضار البرهان ومخاطبة العقول .
كيفية معاملة أسرى بدر
لقد دخل المسلمون معركة أحد وهو يريدون النصر والغلبة ، ويريد فريق منهم حيازة الغنائم وجلب الأسرى ثم طلب الفداء والبدل المالي لفكهم من الأسر ، ويبدو أن قريشاً إحتاطت للأمر ، وحرص رجالها في معركة أحد على إجتناب وقوعهم في الأسر وبعثهم هذا الحرص على الإنسحاب السريع والمفاجئ من معركة أحد .
وتلك آية في بديع صنع الله عز وجل ومكره بالذين كفروا ومن نتائج أسر سبعين من المشركين في معركة بدر أمور :
الأول : لحوق الخزي والذل لكفار قريش بين القبائل , وحتى بين أفراد أسرهم وهو من أسباب دخول ابن وبنت وزوجة الكافر قبله الإسلام .
الثاني : سرعة إنتشار الإسلام في مكة وما حولها لإدراك الناس أن وقوع المشركين بالأسر مع ضعف وقلة عدد المسلمين معجزة في السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : إنفاق كفار قريش الأموال الكثيرة عوضاً وبدلاً للأسرى وفكاكاً لهم ، ومن الإعجاز في السنة الدفاعية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترك مقدار الفداء وملكيته للمسلم الذي قام بأسر الكافر ، فكان الفداء متفاوتاً (فأقل ما أخذ أربعمائة، ومنهم من أخذ منه أربعون أوقية من ذهب.
قال موسى بن عقبة : وأخذ من العباس مائة أوقية من ذهب) ( ) ومقدار الأوقية من الذهب نحو ثلاثين غراماً .
ودفع بعضهم أربعة آلاف درهم فضة .
الرابع : عجز عدد من الأسرى عن فكاك أنفسهم من الأسر وعدم قيام أرباب الأموال من كفار قريش بدفع البدل عنهم بلحاظ أنهم أخرجوهم إلى معركة بدر .
الخامس : نزول بيان الأولوية في حكم الأسرى بالقتل كيلا يرجعوا إلى فئة تعيدهم للقتال ضد الإسلام ، قال تعالى [مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
السادس : يقوم الأسير الذي يعجز عن إفتداء نفسه بالمال بتعليم أولاد المسلمين القراءة والكتابة ، وفيه شاهد بأن الإسلام دين العلم, وكان زيد بن ثابت ممن تعلم القراءة والكتابة من الأسرى , وقال بعضهم : حدد عدد الأولاد الذين يعلمهم كل أسير بعشرة , ويستلزم الدليل
وعن ابن عباس قال : كان ناس من الاسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الانصار الكتابة، قال: فجاء غلام يوما يبكي إلى أمه فقالت: ما شأنك ؟ فقال: ضربني معلمي , فقالت : الخبيث يطلب بذحل بدر ! والله لا تأتيه أبدا) ( ).
و(بَعَثَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي فِدَاءِ زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرّبِيعِ، وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ لِخَدِيجَةَ – يُقَالُ إنّهَا مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ، كَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أَدَخَلْتهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ حِينَ بَنَى بِهَا.
فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الْقِلَادَةَ عرفها ورق لهاوَذَكَرَ خَدِيجَةَ وَرَحّمَ عَلَيْهَا، وَقَالَ: ” إنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا، وَتَرُدّوا إلَيْهَا مَتَاعَهَا فَعَلْتُمْ “. فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ. فَأَطْلَقُوا أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرّبِيعِ وَرَدّوا عَلَى زَيْنَبَ مَتَاعَهَا. وَأَخَذَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ أَنْ يُخَلّيَ سَبِيلَهَا، فَوَعَدَهُ ذَلِكَ وَقَدِمَ فِي فِدَائِهِ عَمْرُو بْنُ الرّبِيعِ أَخُوهُ. وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ النّعْمَانِ أَخُو خَوّاتِ بْنِ جُبَيْرٍ)( ).
فيكون الأسرى في واقعة بدر على أقسام :
الأول : الذي قتل صبراً في بداية الأسر , وهما عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث إذ كانا شديدي الإيذاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله والمسلمين عندما كانوا في مكة .
ومن الآيات في المقام حدوث الإحتجاج بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعقبة بن أبي معيط الذي قال :
(أتقتلني يا محمد من بين قريش ؟ قال: نعم أتدرون ما صنع هذا بي ؟ جاء وأنا ساجد خلف المقام، فوضع رجله على عنقي وغمزها فما رفعها حتى ظننت أن عينيى ستندران، وجاء مرة أخرى بسلا شاة فألقاه على رأسي وأنا ساجد، فجاءت فاطمة فغسلته عن رأسي ) ( ) وفيه مسائل :
الأولى : إتحاد القتل عند إنقضاء المعركة , ولم يكن متعدداً لقول عقبة ( أتقتلني يا محمد من بين قريش) فلم يقتل النبي غيرهما وأختلف أيهما قتل أولاً عقبة بن أبي المعيط أو النضر بن الحارث , ويدل الخبر أعلاه على أن عقبة هو أول من قتل منهما .
الثانية : شدة إيذاء بعض الأفراد من قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : الإنذار والوعيد للذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين عندما كانوا في مكة .
الرابعة : دعوة كفار مكة إلى دخول الإسلام .
الخامسة : كسر شوكة الذين كفروا ، وبعث الفزع في قلوب رؤسائهم ، وفيه إنذار لهم ومقدمة لإستئصال فريق منهم في معركة أحد ، كما في قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ).
الثاني : الأسرى الذين أطلقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير فداء أو عوض منهم أبو العاص بن الربيع الأموي ، والمطلب بن حنطب ، وصيفي بن أبي رفاعة , وأبو عزة الشاعر ، ووهب بن عمير الجمحي .
الثالث : الذين دفعوا فداءً وبدلاً لفكاكهم من الأسر ، وجاءتهم مبالغ الفداء من مكة ومنهم العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسأل الأنصار الذين أسروه النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يتركوا له فداءه أي للنبي ( فأبى عليهم ذلك ، وقال : لا تتركوا منه درهما) ( ).
ولعل فيه دليلاً بأنه لم يكن مسلماً عندما كان في مكة وعند خروجه مع كفار قريش لمعركة بدر ، وقد فدى العباس نفسه (وَفَدَى ابْنَيْ أَخِيهِ فَقَالَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لَقَدْ تَرَكْتنِي أَتَكَفّفُ قُرَيْشًا فَقِيرًا مُعْدِمًا ، فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَيْنَ الذّهَبُ الّتِي تَرَكْتهَا عِنْدَ أُمّ الْفَضْلِ وَعَدَدُهَا كَذَا وَكَذَا ، وَقُلْت لَهَا : كَيْت وَكَيْت ، فَقَالَ مَنْ أَعْلَمَك بِهَذَا يَا ابن أَخِي)( ).
الرابع : مبادلة بعض الأسرى بأسرى ورهائن عند المشركين .
الخامس : إسترقاق بعضهم ، خاصة وقد خرج مع قريش بعض عبيدهم في معركة بدر وكذا في معركة أحد ، كما في خروج وحشي معهم يوم أحد وقتله لحمزة عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه شاهد على السعة والمندوحة في كيفية التصرف مع الأسرى بقيدين :
أولاً : أولوية مصلحة المسلمين وجلب المنفعة ودفع المفسدة .
ثانياً : تقديم الرحمة وأسباب السماحة عند التخيير , وفي التنزيل [فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً] ( ) وفيه وجوه :
الأول : إذا دار الأمر بين قتل الأسير أو قبول الفداء منه ، يقدم قبول الفداء .
الثاني : إذع دار الأمر بين أخذ فداء كبير أو قليل فيكتفى بالقليل .
الثالث : إذا دار الأمر بين الفداء أو الإطلاق من غير بدل فيقدم الثاني ، إلا مع الدليل على الخلاف .
ومن الآيات أن النبي محمداً لم يسجن أسيراً ومنهم من أدخله معه إلى بيته عند عودته من معركة بدر ، ليكون مقدمة لنزول قوله تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا] ( ).
الوجه الثاني : ترى أيهما أسبق زماناً مجئ الغم ثواباً والذي تغشى المسلمين أم إظهار المنافقين خلاف ما يخفون ، فيه وجوه :
أولاً : التساوي وإرادة خصوص وقائع معركة أحد حيث توالى الفضل الإلهي على المسلمين وإنكشف أمر المنافقين .
ثانياً : تقدم علامات النفاق وظهورها على أفعال المنافقين قبل واقعة أحد بينما نزل الغم على المؤمنين يوم معركة أحد .
ثالثاً : مجئ الغم للمسلمين قبل أن ينكشف سوء سريرة المنافقين إذ أنهم جاءوا مع النبي والمؤمنين إلى معركة أحد ، ورزق الله المسلمين جميعاً الغم ثواباً لمنع حزنهم وإستيلاء الأسى على نفوسهم ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ] قيام الحجة على المنافقين بلزوم الإيمان لأن ساحة المعركة مناسبة لنزول الآيات وتوالي المعجزات .
والمختار أن لفظ [يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ] عام في موضوعه فيشمل وجوهاً :
أولاً : إرادة زمان ما قبل معركة أحد وأن المنافقين يضمرون الشر .
ثانياً : بيان حال المنافقين في يوم معركة أحد إذ طمعوا بالغنائم ، ولما صارت الريح على المسلمين أظهروا حنقهم وبغضهم لأهل الإيمان ، وفي ذم المنافقين ورد في التنزيل [الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ثالثاً : تحذير المسلمين من نصرة قول وفعل المنافقين أو تأييدهم فيما يقولون .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، ليكون هناك عدم تعارض بين نزول الغم ثواباً وبين أخذ الحيطة والحذر من المنافقين .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : فأثابكم الله غماً بغم قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) وفيه وجوه :
الوجه الأول : جاءت كل من الآيتين بصيغة الخطاب إلا أن المخاطب متعدد من جهات :
الأولى : إرادة المؤمنين الذين قاتلوا في معركة أحد من قوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ].
الثانية : توجه الأمر والخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى (قل) .
وتقدير الآية : قل يا محمد) ويصح تقديرها (قل يا رسول الله) بلحاظ آية السياق وهي الآية السابقة والتي تتضمن [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] ليكون فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يوم معركة أحد على وجوه :
أولاً : إستشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بخصوص كيفية لقاء الذين كفروا إذ كان رأيهم على وجهين :
الأول : البقاء في المدينة حتى يصل الذين كفروا ويقاتلوهم في أزقتها وبين نخيلها .
الثاني : الخروج لقتال الذين كفروا ، كما حدث في واقعة بدر وعليه أكثر المهاجرين ومنهم حمزة عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أستشهد في ذات المعركة .
وإختار النبي ص صلى الله عليه وآله وسلم الوجه الثاني .
ومن الإعجاز في السنة الدفاعية إنقياد المسلمين لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحاكاتهم لفعله ، فعندما لبس لأمة الحرب ساروا معه نحو أحد مع ندم بعضهم بسبب إلحاحه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج ، مع أن خروجه لم يتم إلا بالوحي ، وقد نزل القرآن بإمضائه بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ] ( ) وفيه أيضاً تحذير وزجر للمنافقين , ودعوة لعموم المسلمين بعدم الإحتجاج على هذا الخروج .
ثانياً : قيام النبي باستعراض أفراد الجيش ، ورد الصغار الذين لا يقدرون على القتال ، فاعاد أسامة بن زيد وعبد الله بن عمر والبراء بن عازب ، وزيد بن أرقم .
وأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إعادة رافع بن خديجة وكان عمره خمس عشرة سنة ، فتوسط له عمه وقال إنه يحسن الرماية فقبله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه إشارة إلى حاجة المسلمين إلى الرماة في معركة أحد ، وبيان لزوم ثبوت الرماة في مواضعهم .
ثالثاً : توزيع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأفراد الجيش وطوائف المسلمين على مواضعهم وهي :
الأول : المقدمة .
الثاني الميمنة .
الثالث :الميسرة .
الرابع : القلب .
الخامس : الساقة ( ), ومنهم الرماة .
رابعاً : دفع الألوية يوم أحد إلى الإمام علي بن أبي طالب وإلى مصعب بن عمير وسعد بن عبادة .
خامساً : تعيين النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمراء الجيش.
سادساً : إختبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرماة وجعل عبد الله بن جبير أميراً عليهم .
سابعاً : صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمره للمسلمين بالصبر وعدم الإبتداء بالقتال أو طلب المبارزة بلحاظ أن هذا الصبر أمر وجودي .
ثامناً : توصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرماة , بعدم ترك مواضعهم حتى , وإن رأوا إنتصار المسلمين وهزيمة الذين كفروا .
ليكون من الإعجاز في هذه التوصية البشارة بالنصر .
تاسعاً: مزاولة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القتال بنفسه وتلقيه الجراحات البالغة .
عاشراً : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه الفارين بالرجوع إلى المعركة لقوله تعالى في آية السياق [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ].
الحادي عشر : تلقي الوحي والتنزيل .
الثاني عشر : الإمتثال لأمر الله بالإحتجاج على المنافقين والذي تكرر في آية البحث بلفظ [قُلْ].
إنذارات معركة بدر
لم تنقطع النعم الإلهية عن قريش حتى عند قيامهم بالجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهذه النعم حجة ودعوة لهم للإنزجار والكف عن محاربة الإسلام ، وإبتدأت قصة وأسباب معركة بدر حينما سمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن أبا سفيان بن حرب أقبل من الشام بتجارة عظيمة لقريش ، وكانت ألفاً من العير محملة بالبضائع ومعها ثلاثون أو أربعون رجلاً من قريش .
وكان أبو سفيان يتتبع الأخبار ويخشى هجوم المسلمين حتى بلغة أن النبي إستنفر أصحابه لتلقي القافلة والإستيلاء عليها عوضاً وبدلاً عن أموال المسلمين التي إستحوذت عليها قريش وأذاهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
فاستأجر أبو سفيان ضمضم بن عمرو الغفاري وأرسله إلى مكة ليخبر قريشاً (أن محمدا قد عرض لها في اصحابه فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة) ( ).
وقد لا يتعرض النبي لأموالهم إنما كان استنفر أصحابه في المدينة المنورة وحينما بلغ الخبر مكة هاج المشركون خاصة أصحاب الأموال التي في القافلة وخرجوا على عجل ومعهم القيان والدفوف .
لقد أخذتهم [الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ] ( ) إذا كانوا يؤذون النبي محمداً وأهل بيته وأصحابه أشد الأذى في مكة ظلماً وعدواناً فلم يطيقوا أن يكون عنده جيش يعترض تجارتهم التي هي عنوان لشأنهم ووجاهتهم .
ومن خصائص الظالم أنه لا يلتفت إلى التبدل النوعي والتغيير الموضوعي الذي يجعل كفة المظلوم تتكافئ معه أو تكون هي الراجحة , ولم يتدبر أو يتعظ كفار قريش بتلقي عامة الناس معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق والدخول في الإسلام .
وإذا كان الذين يدخلون الإسلام مائة مثلاً من قبيلة فلابد أن الذين مالوا إليه منها أضعاف هذا العدد ، كما أنه يخبر عن توالي دخول الناس الإسلام وهو الذي صار يخشاه رؤساء الكفر ، فسارعوا للإجهاز على الإسلام في معركة بدر ، لقد أرادوا مسألة العير والتعرض لها وسيلة وسبباً لقهر المسلمين بالسيف والأسر والتشريد ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
والإنذارات التي توجهت لقريش على وجوه :
الأول : المعجزات الحسية التي تجلت على يد النبي محمد صلى الله عليه ورأتها قريش والناس من أهل مكة ومنها آية إنشقاق القمر, وعن عبد الله بن مسعود قال: رأيت القمر منشقّاً شقتين بمكة قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء ، فقالوا : سحر القمر ، فنزلت { اقتربت الساعة وانشق القمر })( ).
الثاني : شاء الله عز وجل للرسالة أن تشيع وتنتشر بين أهل مكة لزجرهم عن الهجوم على المسلمين .
منها رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب عمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ قالت لأخيها العباس
(يا اخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا لقد افظعتني وتخوفت ان يدخل على قومك منها شر ومصيبة فاكتم عنى ما احدثك فقال لها وما رأيت قالت رأيت راكبا اقبل على بعير له حتى وقف بالابطح ثم صرخ بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث فأرى الناس اجتمعوا إليه .
ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينا هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ثم مثل به بعيره على رأس ابى قبيس فصرخ بمثلها ثم اخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوى حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقى بيت من بيوت مكة ولا دار الا دخلتها منه فلقة، قال العباس والله ان هذا لرؤيا وانت فاكتميها ولا تذكريها .
ثم خرج العباس فلقى الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان صديقا له فذكرها له واستكتمه اياها فذكرها الوليد لابيه عتبة ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش، قال العباس فغدوت لاطوف بالبيت وابو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة فلما رأني أبو جهل قال يا ابا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل الينا فلما فرغت اقبلت حتى جلست معهم .
فقال لى أبو جهل يا بني عبدالمطلب متى حدثت فيكم هذه النبية قال قلت وما ذاك قال ذاك الرؤيا التى رأت عاتكة قال فقلت وما رأت قال يا بنى عبدالمطلب , اما رضيتم ان تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم قد زعمت عاتكة في رؤياها انه قال انفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه الثلاث فان يك حقا ما تقول فسيكون وان تقضى الثلاث , ولم يكن من ذلك شئ نكتب عليكم كتابا انكم اكذب اهل بيت في العرب ، قال العباس فوالله ما كان مني إليه كبير الا أني جحدت ذلك وانكرت ان تكون رأت شيئا) ( ).
وكادت تحدث فتنة بين بني هاشم وبين أبي جهل ورهطه إذ دخل العباس بعدها إلى البيت الحرام ليوقع به وإذا هو يسمع الناس صوت ضمضم بن عمرو الغفاري الذي بعثه أبو سفيان مستغيثاً ، يصرخ وقد جدع بعيره .
وتناجى القوم بالخروج لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , ومن لم يترج منه بعث بدله رجلاً فبعث أبو لهب بدله العاصي بن هشام بن المغيرة ، وأسقط عنه أربعة آلاف درهم كانت عليه وأبطأ أمية بن خلف عن الخروج والإستعداد له فأتاه عقبة بن معيط وهو في المسجد بين أفراد من قومه ووضع أمامه مجمراً فيها نار وهو يقول (يا أبا علي إستجمر فانما أنت من النساء)( ) .
الثالث : سلامة قافلة أبي سفيان ، وإجتيازها مناطق ما حول المدينة ، حتى إذا إطمأن لسلامة العير والقافلة (بعث إلى قريش فقال: إن الله قد نجى عيرَكم وأموالكم ورجالكم، فارجعوا.
فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نأتي بدرا -وكانت بدرُ سوقًا من أسواق العرب -فنقيم بها ثلاثا، فَنُطْعمُ بها الطعام، وننحَرُ بها الجُزُر ونُسْقَى بها الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبسيرنا، فلا يزالون يهابوننا بعدها أبدا) ( ).
الرابع : رجوع فريق من قريش في الطريق إلى بدر ، وإمتناعهم عن الإستمرار في السير ، أي أنهم لم يمتنعوا عند اللقاء والقتال ، بل رجعوا وسط الطريق لبيان عدم الحاجة إلى الإستمرار في المسير إلى بدر ولظهور نوايا السوء عند بعض أقطاب قريش فمثلاً قال الأخنس بن شريف : يا معشر بني زُهَرة، إن الله قد نَجَّى أموالكم، ونَجَّى صاحبكم، فارجعوا. فأطاعوه، فرجعت بنو زهرة، فلم يشهدوها ولا بنو عدي( ).
لقد كان هذا الرجوع إنذاراً ذاتياً ومن داخل معسكر قريش ليتعضوا ويلتفتوا إلى الفتن وإنتفاء الحاجة عن السير والزحف إلى الإمام ، فقد لا يجدون أمامهم جيشاً ، لذا قال أبو جهل نذهب إلى بدر وهو سوق من أسواق العرب ، ولكنه لم يكن يوم سيرهم سوقاً لأنهم كانوا في شهر رمضان وليس في شهر من الأشهر الحرم، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا]( ).
الخامس : مخالطة المعجزات الحسية لنفوس قريش وإن أظهروا الجحود إستكباراً وعناداً .
فحينما أرسل إيماء بن رحضة الغفاري (بعث إلى قريش حين مروا به ابنا له بجزائر اهداها لهم وقال ان احببتم ان نمدكم بسلاح ورجال فعلنا قال فأرسلوا إليه مع ابنه ان وصلتك رحم قد قضيت الذى عليك فلعمرنا لئن كنا انما نقاتل الناس ما بنا ضعف ولئن كنا انما نقاتل الله كما يزعم محمد ما لاحد بالله من طاقة) ( ).
فهذا الترديد شاهد على رؤيتهم الآيات والمعجزات وأنه في حال صدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان الخسارة تصاحب كفار قريش على نحو القطع واليقين .إن قول قريش أعلاه حجة عليهم في معركة بدر ، وكذا في معركة أحد التي هي موضوع الآية الرابعة والخمسين بعد المائة التي جاء هذا الجزء خاصاً بتفسيرها ، فحينما إنهزمت قريش يوم بدر بما يدل على المعجزة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنتصر بآية ومدد من عند الله عز وجل وجب عليهم الإتعاظ والإعتبار وكف أيديهم عنه وعن المسلمين .
السادس : صدور الإنذار ممن تبعثه قريش عيناً يتجسس لهم حال المسلمين فلما إطمأنوا في ميدان معركة بدر بعثوا عميراً بن وهب الجمحي وقالوا له (احزر لنا القوم أصحاب محمد
قال : فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال : ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون و لكن أمهلوني حتى أنظر : أللقوم كمين أو مدد .
قال : فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا فرجع إليهم فقال : ما رأيت شيئا و لكن قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس لهم منعة و لا ملجأ إلا سيوفهم و الله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ! ؟ فروا رأيكم) ( ).
أي أنه إذا قتلتم مائة من الأنصار فأنهم يقتلون مائة منكم مما يصيبكم بنكبة ويدخل الحزن في بيوتكم وتصيرون في حال الحزن والخسارة ، لبيان أن إجتناب القتال خير لقريش .
السابع : قيام حكيم بن حزام بالمشي بين رؤساء قريش في موضع معركة بدر لنصحهم ومنعهم من القتال .
وحكيم بن حزام هذا ابن أخ لخديجة بنت خويلد زوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقيل أنه ولد في الكعبة (أن أمه دخلت الكعبة في نسوة من قريش وهي حامل فضربها المخاض فأتيت بنطع فولدت حكيم بن حزام عليه) ( ) .
وكان من وجوه قريش ، وعاش في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين سنة وتوفى سنة أربع وخمسين وهو ابن مائة وعشرين سنة في داره في المدينة عند بلاط الفاكهة وزقاق الصواغين ولم يسلم إلا عام الفتح هو وأبناؤه عبد الله وخالد ويحيى وهشام .
لقد أخذ حكيم يدعو رؤساء قريش إلى صرف النظر عن القتال مما يدل على أن أمر وقوع القتال أو عدمه بيد كفار قريش ، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون لم يأتوا للقتال ، ولم يصروا على طلبه ، ولم يفعلوا المقدمات التي تهيج العدو .
وكان قد قتل جماعة من المسلمين عمرو بن الحضرمي ، وهو حليف عتبة بن ربيعة فجاء له حكيم بن حزام فقال (فَقَالَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ إنّك كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيّدُهَا ، وَالْمُطَاعُ فِيهَا ، هَلْ لَك إلَى أَنْ لَا تَزَالَ تُذْكَرُ فِيهَا بِخَيْرِ إلَى آخِرِ الدّهْرِ ؟ قَالَ وَمَا ذَاكَ يَا حَكِيمُ ؟ قَالَ تَرْجِعُ بِالنّاسِ وَتَحْمِلُ أَمْرَ حَلِيفِك عَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيّ ، قَالَ قَدْ فَعَلْتُ أَنْتَ عَلَيّ بِذَلِكَ إنّمَا هُوَ حَلِيفِي ، فَعَلَيّ عَقْلُهُ وَمَا أُصِيبَ مِنْ مَالِهِ فَأْتِ ابن الْحَنْظَلِيّةِ .
قَالَ ابن هِشَامٍ وَالْحَنْظَلِيّةُ أُمّ أَبِي جَهْلٍ وَهِيَ أَسَمَاءُ بِنْتُ مُخَرّبَةَ أَحَدُ بَنِي نَهْشِلْ بْنِ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ – فَإِنّي لَا أَخْشَى أَنْ يَشْجُرَ أَمْرَ النّاسِ غَيْرُهُ يَعْنِي أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَام ٍ . ثُمّ قَامَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ خَطِيبًا ، فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّكُمْ وَاَللّهِ مَا تَصْنَعُونَ بِأَنْ تَلَقّوْا مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ شَيْئًا ، وَاَللّهِ لَئِنْ أَصَبْتُمُوهُ لَا يَزَالُ الرّجُلُ يَنْظُرُ فِي وَجْهِ رَجُلٍ يَكْرَهُ النّظَرَ إلَيْهِ قَتَلَ ابن عَمّهِ أَوْ ابن خَالِهِ أَوْ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهِ فَارْجِعُوا وَخَلّوا بَيْنَ مُحَمّدٍ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ ، فَإِنْ أَصَابُوهُ فَذَاكَ الّذِي أَرَدْتُمْ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ أَلْفَاكُمْ وَلَمْ تَعَرّضُوا مِنْهُ مَا تُرِيدُونَ . قَالَ حَكِيمٌ فَانْطَلَقْتُ حَتّى جِئْت أَبَا جَهْل ٍ فَوَجَدْته قَدْ نَثَلَ دِرْعًا لَهُ مِنْ جِرَابِهَا ، فَهُوَ يُهَنّئُهَا . فَقُلْتُ لَهُ يَا أَبَا الْحَكَم ِ إنّ عُتْبَةَ أَرْسَلَنِي إلَيْك بِكَذَا وَكَذَا ، لِلّذِي قَالَ فَقَالَ انْتَفَخَ وَاَللّهِ سَحْرُهُ حِينَ رَأَى مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ كَلّا وَاَللّهِ لَا نَرْجِعُ حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمّدٍ وَمَا بِعُتْبَةَ مَا قَالَ وَلَكِنّهُ قَدْ رَأَى أَنّ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ أَكَلَةُ جَزُورٍ وَفِيهِمْ ابْنُهُ فَقَدْ تَخَوّفَكُمْ عَلَيْهِ . ثُمّ بَعَثَ إلَى عَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيّ ، فَقَالَ هَذَا حَلِيفُك يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنّاسِ وَقَدْ رَأَيْتَ ثَأْرَك بِعَيْنِك ، فَقُمْ فَانْشُدْ خُفْرَتَكَ وَمَقْتَلَ أَخِيك .
فَقَامَ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ فَاكْتَشَفَ ثُمّ صَرَخَ وَاعَمْرَاه ، وَاعَمْرَاه ، فَحَمِيَتْ الْحَرْبُ وَحَقِبَ النّاسُ وَاسْتَوْسَقُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الشّرّ وَأُفْسِدَ عَلَى النّاسِ الرّأْيُ الّذِي دَعَاهُمْ إلَيْهِ عُتْبَةُ) ( ).
وقد أقام الذين كفروا الحجة على أنفسهم يوم بدر إذ قال أبو جهل عند التقاء الصفين :
( اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة : فكان هو المستفتح( ).
وقد أهلك الله عز وجل أبا جهل يومئذ فهل كان قتله وهلاكه إستجابة من الله لدعائه، الجواب لا، قال تعالى[قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( )، ولكن دعاؤه حجة عليه من جهات:
الأولى : إصرار أبي جهل على القتال والحرب يوم بدر، فقد مشًى حكيم بن حزام بين صفوف جيش المشركين لإرادة إجتناب القتال بعد أن أرسل لهم أبو سفيان يخبرهم بسلامة العير والتجارة التي جاء بها من الشام وتوجهها الى مكة بسلام.
الثانية : توبيخ أبي جهل للذين مالوا إلى مسألة صرف النظر عن القتال، مثل عتبة بن ربيعة الذي كان معروفاً بالحلم ظاهراً , والسعي بين القبائل للإصلاح، ولكن إقامته على الكفر جعلته أول من يخر صريعاً مع إبنه وأخيه لبيان حقيقة وهي التنافي بين الحلم والكفر.
وأن الصلاح والإصلاح يتقومان بالهداية والإيمان، فان قلت أثاره وحرضه أبو جهل، وهذا صحيح، ولكن لو كان حليماً لما إلتفت لكلام أبي جهل لأنه باطل , وهو من الشواهد على قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( )، فقد تؤدي الفتنة إلى القتل.
الثالثة : لقد جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصلة الرحم، وتعاهدها وحفظها وإتخاذها طريقاً إلى اللبث الدائم في الجنة والإبتداء بدعوة الأهل والعشيرة إلى الإسلام، ووردت نصوص كثيرة في السنة النبوية عن صلة الرحم منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الرحم معلقة بالعرش لها لسان ذلق تقول اللهم صِلْ من وصلني واقطع من قطعني ( ).
الرابعة : كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في صلة الرحم ويدل عليه قوله تعالى[وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( )، لبيان أن منافع نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تشمل بالأولوية أهل البيت.
وورد عن البراء بن عازب قال: لمّا نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} ( )جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلاً، الرجل منهم يأكل المسنّة ويشرب العس،
فأمر عليّاً برِجْل شاة فأدمها ثم قال : ادنُوا باسم الله فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا، ثم دعا بقعب من لبن فجرع منه جرعة ثم قال لهم : اشربوا باسم الله، فشرب القوم حتى رووا فبدرهم أبو لهب فقال : هذا ما يسحركم به الرجل، فسكت النبي {صلى الله عليه وسلم} يومئذ فلم يتكلّم. لما يجيء به أحد منكم، جئتكم بالدنيا والآخرة فأسلموا وأطيعوني تهتدوا، ومَن يواخيني ويؤازرني ويكون وليّي ووصيي بعدي، وخليفتي في أهلي ويقضي ديني؟ فسكت القوم، وأعاد ذلك ثلاثاً كلّ ذلك يسكت القوم، ويقول علي : أنا , فقال : أنت فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أُمِّر عليك( ).
وهل أبو جهل من أهل الآية أعلاه ، فيه وجوه :
أولاً : تشمل الآية أعلاه أبا جهل ، وهو من عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأقربين .
ثانياً : أبو جهل من عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه ليس من الأقربين .
ثالثاً : لم يكن أبو جهل من عشيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاً : كان أبو جهل من عشيرة النبي الأقربين ولكنه خارج بالتخصص من مضامين الآية أعلاه لإصراره على الكفر .
والمختار هو ثانياً أعلاه ، بدليل الخبر أعلاه في عدم دعوته , وتلك آية إعجازية في عدم شمول رؤساء الكفر بالأمر والدعوة في الآية فان قلت تشمل الدعوة أبا لهب وقد أجاب دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن حضوره كان حرباً على النبوة.
والجواب هذا صحيح لأن أبا لهب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان ما فعله من الإحتجاج على الدعوة النبوية حجة وبرهاناً على عدم دعوة عامة قريش بالإضافة إلى حقيقة وهي أن في دعوة النبي لأقرب أهله وعشيرته مسائل :
الأولى : حث بني هاشم على الذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحفظه، ودفع الأذى عنه .
الثانية : ترغيب أبناء عمومة النبي بالإسلام ، وحثهم على الإيمان .
الثالثة : لا يعلم الأسرار والمنافع في قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( )، إلا الله عز وجل ، ويحمل الأمر فيه [وَأَنذِرْ] على الوجوب، ويحتمل وجوهاً :
أولاً : كفاية المرة الواحدة من إنذار النبي محمد وسلم صلى الله عليه وآله وسلم لأهل البيت وبني هاشم , والإكتفاء بها .
ثانياً : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه بالإنذار.
ثالثاً : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن إنذار لعشيرته , وفيه مسائل :
الأولى : بيان الإعجاز والأسرار الملكوتية في وجوب تلاوة آيات القرآن في الصلاة .
الثانية : تكرار الصلاة خمس مرات في اليوم الواحد ، وكل صلاة من عدة ركعات وأقلها صلاة الصبح وتتكون من ركعتين ، وكل ركعة فيها قراءة للقرآن على نحو الوجوب العيني على كل مكلف ومكلفة .
الثالثة : سماع أهل البيت وذوي قربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن لقربهم منه في السكن والرحم والصلات اليومية .
الرابعة : إجهار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتلاوة في صلاة الصبح والمغرب والعشاء، وكل فرد من أفراد تلاوة دعوة للإسلام , وهو من مصاديق الإنذار في قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ) .
رابعاً : مبادرة الإمام علي عليه السلام وخديجة إلى دخول الإسلام ، وفيه دعوة يومية متكررة لأهل البيت وغيرهم بدخول الإسلام ، وترغيب لهم بالإسلام وحجة عليهم .
خامساً : إتصاف السور المكية التي نزلت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإنذار والوعيد للذين كفروا منها قوله تعالى [فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى]( ).
وتتضمن كل آية من القرآن الإنذار في منطوقها أو مفهومها ، لذا فان تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن إنذار متجدد لقريش وأهل مكة مطلقاً، وبإستثناء أولاً أعلاه فان الوجوه الأخرى من مصاديق آية الإنذار، بالإضافة إلى صيغة الإستقبال ، وتتجلى معاني التجدد في قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ) ويكون تقديره من وجوه :
الأول : وأنذر عشيرتك الأقربين يا محمد في كل يوم .
الثاني : وأنذر عشيرتك الأقربين حين يأتوك يسألونك عن الإسلام وأحكامه .
الثالث : وأنذر عشيرتك الأقربين سوء عاقبة المكذبين.
الرابع : وأنذر عشيرتك المقربين خلود الذين كفروا في النار قال تعالى في ذمهم وتوبيخهم[الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ]( ).
ويحتمل أوان نزول آية الإنذار أعلاه وجوهاً :
أولاً : نزلت الآية قبل عقد قريش ميثاق حصار شعب أبي طالب على أهل البيت.
ثانياً : نزلت الآية مدة حصار شعب أبي طالب والذي إستمر أكثر من سنتين .
ثالثاً : نزلت الآية بعد حصار شعب أبي طالب .
والمختار ان الآية نزلت قبل فرض قريش الحصار على بني هاشم وبني عبد المطلب في شعب أبي طالب الذي بدأ في السنة السابعة للبعثة النبوية ، إذ تفيد الأخبار أن أبا طالب كان حاضراً في الدعوة التي أقامها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبني هاشم عند نزول الآية.
وهل لآية الإنذار هذه موضوعية ونفع في تنمية ملكة الصبر عند أهل البيت، وتحمل أذى الحصار حتى كسرته قريش قهراً وعجزاً ويأساً , الجواب نعم .
ومن إعجاز القرآن عدم إنحصار النفع بإنذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعشيرته الأقربين بأشخاصهم بل يشمل غيرهم من جهات :
الأولى : عشيرة النبي عامة من غير المقربين ، فيشمل الإنذار أبا جهل وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف وغيرهم .
الثانية : إنذار عوائل عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كالنساء من غيرهم أما النساء من بني هاشم وبني عبد المطلب فيدخلن في موضوع الآية ، ويحتمل وجهين :
الأول : دخول النساء في موضوع الآية بالأصالة .
الثاني : دخول النساء في موضوع الآية بالإلحاق ، والصحيح هو الأول.
وفيه دلالة على أن لفظ العشيرة في القرآن والحكم الشرعي أعم وأوسع من المعنى العرفي السائد آنذاك وإختصاصه بالرجال، ومن الدلائل على عموم لفظ العشيرة وشموله للنساء مجئ آية المواريث وإحتساب الإرث للنساء , قال تعالى [لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ] ( ) فان قلت تدل الآية أعلاه على التباين بين الذكر والأنثى في الإرث وأن الأبناء ليسوا متساوين أو بعرض واحد في الإرث , الجواب من وجوه :
الأول : لم يكن للمرأة نصيب من الإرث قبل الإسلام .
الثاني : لحاظ مسألة إنفاق الزوج على الزوجة وأن المرأة تأخذ حصتها لنفسها من غير تكليف بالنفقة إذ ينفق عليها زوجها بينما ينفق أخوها على زوجته وعياله.
الثالث : أخذ البنت والمرأة التركة كلها إذا لم يكن معها وارث من مرتبتها , وهي المرتبة الأولى .
الثالثة : إنتفاع أهل مكة عامة من الإنذار النبوي عي الجملة , ودخول طائفة منهم الإسلام .
بحث أصولي ( )
يمكن تقسيم الإستصحاب إلى أقسام :
الأول :الإستصحاب العقلي .
الثاني : الإستصحاب الشرعي .
الثالث : الإستصحاب الممتنع كالإستصحاب القهقري .
الرابع : الإستصحاب المكروه .
الخامس : الإستصحاب المذموم والمحرم كما ورد في القرآن بقوله تعالى [وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا] ( ) أي مع إستصحاب وإتيان القبيح ، أصر الذين كفروا على الإفتراء على الله عز وجل .
السادس : الإستصحاب المنقطع الذي يجب ألا يستمر كما في إصرار فرعون وملئه على الجحود والإستكبار وإنكار نبوة موسى وهارون ، وورد حكاية عنهم في التنزيل [ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ]( ).
وتكاد تنحصر الأصول العملية على نحو الإستقراء بأمور أربعة :
الأول : أصل البراءة ، لنفي التكليف أو نفي الحرمة أو نفي الوجوب أو مطلق الحكم وأصل الإباحة فيما لا نص فيه.
الثاني : الإحتياط.
الثالث : التخيير.
الرابع : الإستصحاب.
وموضوعنا هنا هو الإستصحاب وقد عرف بتعاريف عديدة، الإختلاف بينها صغروي وقيل : الإستصحاب اثبات الحكم في الزمن الثاني تعويلاً على ثبوته في الزمن الأول.
وأشكل عليه بعدم ورود ركني الإستصحاب فيه , وهما (اليقين) (والشك)، ولكن كلاً من ذات لفظ اليقين والشك إستقرائي وبياني ، وقد أشير الى اليقين فيه بالقول (تعويلاً) والى الشك بالقول (اثبات الحكم) .
وقيل الإستصحاب هو ( إبقاء ما كان).
وهو أقصر التعاريف، ويرد عليه أمور:
أولاً : يحتاج المقام إلى البيان، وليس القصر الذي قد يكون إيجازاً مخلاً في المقام.
ثانياً : لم يذكر ركني الإستصحاب , وهما اليقين والشك ، إلا أن يقال أنه أشار إلى اليقين بقوله ( ما كان ) وإلى الشك بقوله ( إبقاء ).
ثالثاً : الإستصحاب أعم من الإبقاء الذي قد يرد في الفعل والأمور الحسية.
والإستصحاب هو الأخذ عند الشك في الزمن الحال أو اللاحق بحكم أو وصف ثبت يقيناً في زمن سابق، وأدلة الطرق والأمارات مقدمة على أصل الإستصحاب.
والإستصحاب لغة استفعال من صحب كما لو قلت استصحبت ولدي إلى المسجد أي جعلته مصاحباً لي، واستصحبت ما كان معي يوم أمس أي صيرته معي في هذا اليوم.
ويجري الإستصحاب في الثبوت والنفي، والحلية والحرمة, والطهارة والنجاسة , والموضوع والحكم، والحياة والموت، والناسخ والمنسوخ.
ولم يرد لفظ ( الإستصحاب ) في القرآن والسنة وكلام المعصوم إنما عبّر به الأصوليون،في الأدلة العقلية وغيرها، والفقهاء في الإحتجاج والإستدلال ، ولو على نحو الإقتباس .
ومما ذكر في هذا الباب قول الإمام الباقر عليه السلام : لا تنقض اليقين بالشك، ولا تنقضه إلا بيقين آخر ) ، ويجري الإستصحاب في الشبهة الحكمية والموضوعية.
ويحتمل الإستصحاب في سنخيته، وماهيته وجوهاً :
الأول : الإستصحاب مبحث عقلي.
الثاني : إنه مبحث فقهي.
الثالث : إنه مبحث أصولي.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وهو من مصاديقها، نعم الأصل فيه أنه مبحث عقلي.
ويمكن تقسيم الإستصحاب بما تتداخل معه الأصول العملية الثلاثة الأخرى من وجوه:
أولاً : استصحاب البراءة، فيستصحب أصل البراءة من التكليف والواجبات إلى أن يرد دليل شرعي.
ثانياً : إستصحاب الإباحة الأصلية، بلحاظ أن الأصل في الأشياء هو الإباحة.
ثالثاً : إستصحاب النص والحكم الشرعي إلا أن يدل دليل على النسخ ونحوه، فلو دار الأمر في حكم هل هو منسوخ أو لا ، فنستصحب عدم النسخ.
رابعاً : إستصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي، ومنه إستصحاب الطهارة، والحدث، والملك، والنكاح، والعقد كالإجارة إلى أن يثبت الخلاف والنقض.
خامساً : إستصحاب الإطلاق والعموم إلى أن يرد دليل يفيد التقييد والتخصيص.
سادساً : إستصحاب الإجماع في محل النزاع، وهذا الإستصحاب محل خلاف بين الأصوليين هل هو حجة أو لا ، والخلاف صغروي، لأن الإجماع ليس علة لثبوت الحكم، إنما هو كاشف عن الدليل من الكتاب والسنة، فاذا إنتقض الإجماع فالأصل هو بقاء الحكم وإن وقع النزاع.
والإستصحاب على قسمين:
الأول : أمر ثابت، فيجري حكم إستصحاب هذا الثبوت عند الشك.
الثاني : أمر منتف ويستصحب نفيه عند طرو الشك .
والإستصحاب حجة في المقام على المنافقين للزوم إستصحابهم النصر المبين للمسلمين في معركة بدر، بلحاظ إجتماع الشرائط والأسباب لهذا النصر في معركة أحد.
بالإضافة إلى التطلع لنعم ومدد آخر أضافي، ولو تجددت واقعة للمؤمنين، ففيه من النعم ونزولها وجوهاً:
الأول : مجيء ذات النعم.
الثاني : توقف مجيء ذات النعم على شكر العبد لله عز وجل على النعمة في الواقعة الأولى.
الثالث : مجيء نعمة أقل من الأولى.
الرابع : تفضل الله بالزيادة في النعم كماً وكيفاً.
والصحيح هو الرابع أعلاه، ويكون الثاني في طوله، ويتصف المسلمون بالإجتهاد في طاعة الله والتوجه له بالشكر، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
تجلي النعم في معركة أحد
من قوانين الإرادة التكوينية توالي وإتصال النعم على المتحد والمتعدد .
ومن النعم الإضافية في معركة أحد وجوه:
الأول : قوله تعالى[إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]( )، فحالما بدأت المعركة إنتشر القتل في صفوف الذين كفروا.
الثاني : إقالة عثرة المسلمين عند ترك الرماة مقاعدهم، وترتب الضرر الفادح عليه.
الثالث : الفوز بالعفو من عند الله عز وجل والذي ورد قبل آيتين، وجاء بالآية التالية في قوله تعالى[وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ]( ).
الرابع : مجيء الغم مواساة من عند الله للمؤمنين.
الخامس : دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين بصفة الرسالة، وصيرورة هذه الدعوة درساً وحرزاً من أجل إجتناب المسلمين الفرار في المعركة، وقد إستحضر المسلمون هذه الدعوة يوم حنين وسرعان ما عادوا إلى ميدان المعركة وإلتفوا حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : نزول الأمنة نعمة بذاتها وزمانها ومكانها وساعة الشدة التي عليها المسلمون يوم أحد.
السابع : تفضل الله عز وجل بإنزال النعاس على المؤمنين.
الثامن : تفضل الله بإعانة المسلمين للإتعاظ من معركة أحد، وإقتباس الدروس منها.
التاسع : فضح المنافقين، وبيان قبح جدالهم , وكشف مغالطتهم.
آيات معارك المسلمين
تبين آية البحث فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله والمسلمين بلحاظ كبرى كلية وهي أن الله عز وجل يتعاهد المؤمنين في مواطن القتال ، ويكلأهم ويدفع عنهم ويحرسهم بعينه التي لا تنام ، ويتغشاهم بمصاديق الرحمة والمغفرة فبينما يقاتل المؤمنون تحت لواء النبي محد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد ،وقد وقع الخلاف والشقاق بينهم نزل العفو عليهم من عند الله [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ]( ).
ويحتمل العفو المذكور في الآية قبل السابقة وجوهاً :
أولاً : العفو عن الذين رجعوا وسط الطريق مع عبد الله بن أبي سلول .
ثانياً : العفو عن المؤمنين الذين فشلوا وأظهروا الجبن والخور .
ثالثاً : تفضل الله بالعفو عن الرماة ، الذين إختاروا ترك مواضعهم ، والنزول من الجبل لتقع المصيبة , ويستعر القتل في صفوف المؤمنين .
رابعاً : تفضل الله عز وجل بالعفو عن الذين عصوا أمر رسول الله وهم على أقسام :
الأول : الذين إمتنعوا عن الخروج إلى معركة أحد على فرض وجودهم سواء كان الإمتناع عن عذر أو بدون عذر .
الثاني : الذين رجعوا منتصف الطريق ، وعددهم نحو ثلاثمائة من المسلمين .
الثالث : الرماة الذين تركوا مواضعهم .
الرابع : الذين فروا من ميدان المعركة بلحاظ أن هذا الفرار من المعصية .
الخامس : العفو عن أهل البيت والصحابة الذين ثبتوا في مواضعهم حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى نهاية معركة أحد .
السادس : شمول العفو للمسلمين والناس جميعاً .
السابع : تفضل الله بالعفو عن الشهداء الذين وقعوا قتلى في معركة أحد .
وصحيح أن الخطاب في آية البحث ورد للأحياء من المؤمنين إلا أنه لا يمنع من شمول الشهداء بمضامينه لجهات :
الأولى : إتحاد موضوع وعلة العفو وهو القتال تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد .
الثانية : إخبار الله عز وجل عن حياة الشهداء وأنهم لم يموتوا ، إنما إنتقلوا من دار الدنيا إلى النعيم الدائم، قال تعالى [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ] ( ).
الثالثة : إرادة الشهداء بالعفو من باب الأولوية القطعية للملازمة بين الشهادة ومغفرة الذنوب بفضل من عند الله .
والمختار هو ثانياً وثالثاً ، والثالث والرابع والخامس والسابع من الوجه رابعاً أعلاه ، ويدل عليه نظم الآية السابقة وإتحاد صيغة الخطاب والجهة التي تتوجه إليها.
وبين الفضل الإلهي والعفو عموم وخصوص مطلق ، فالفضل هو الأعم ، وبين العفو عن المسلمين والعفو في آية البحث ذات النسبة ، ومن أسماء الله تعالى [العفو] , وفي التنزيل[فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا] ( ).
وعن الصادق جعفر بن محمد ، عن محمد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي ، عن أبيه علي بن أبي طالب عليهم السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله : إن لله عز وجل تسعة وتسعين إسما – مائة إلا واحد – من أحصاها دخل الجنة وهي الله . الاله . الواحد . الاحد . الصمد . الاول . الآخر . السميع . البصير . القدير.
القاهر . العلي . الاعلى . الباقي . البديع . البارئ . الاكرم . الظاهر . الباطن .
الحي . الحكيم . العليم . الحليم . الحفيظ . الحق . الحسيب . الحميد . الحفي . الرب .
الرحمن . الرحيم . الذارئ الرزاق . الرقيب . الرؤوف . السلام . المؤمن . المهيمن . العزيز .
الجبار . المتكبر . السيد . السبوح . الشهيد . الصادق . الصانع . الطاهر . العدل
. العفو . الغفور . الغني . الغياث . الفاطر . . الفرد . الفتاح . الفالق . القديم . الملك
. القدوس . القوي . القريب . القيوم . القابض . الباسط . قاضي الحاجات . المجيد
المولى . المنان . المحيط . المبين . المقيت. المصور . الكريم . الكبير . الكافي . كاشف – الضر . الوتر . النور . الوهاب . الناصر . الواسع . الودود . الهادي . الوفي . الوكيل .
الوارث . البر . الباعث . التواب . الجليل . الجواد . الخبير . الخالق . خير الناصرين .
الديان . الشكور . العظيم . اللطيف . الشافي) ( ).
وتتعدد مصاديق العفو من الله في كل يوم، وتكون زينة لأهل الأرض , ومقدمة لنزول الخير والبركة ، وهل العفو عن المؤمنين المذكور في الآية قبل السابقة مقدمة لنزول النعاس عليهم الذي ذكرته آية البحث , الجواب نعم .
لقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون أشد الأذى من كفار قريش في معركة أحد فجاءهم فضل الله عز وجل على نحو دفعي في موضوعه وأفراده ومنه في المقام :
أولاً : تعدد الآيات القرآنية التي تذكر معركة أحد .
ثانياً : إنصاف آيات القرآن التي تخص معركة أحد بالإنفراد والإتحاد فتأتي آية واحدة تخص معركة أحد من بين آيات تتعلق في مواضيع وأحكام أخرى , وتأتي آيات متجاورات تخص معركة أحد كما في آية البحث والآيات الأربعة السابقة لها ، والآية التالية ، وجاءت آيات متتالية بخصوص معركة أحد كما في قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) والآيات السبعة التي بعدها لتأتي بعدها آية الملكية المطلقة لله عز وجل للسموات والأرض ، ثم آية حرمة الربا ، لتكون فيه نكتة وهي خروج المسلمين من معركة أحد بالثبات على الإيمان ، وأن الخسارة التي تعرضوا لها والجراحات والكلوم التي أصابتهم مناسبة لفوزهم بالعفو عما صدر منهم يوم المعركة وما قبله من الأيام.
وجوه دفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد يدافع بثبات ويقين ومن منازل الرسالة والوحي عن كل من الوجوه الآتية:
الوجه الأول : يدافع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن شخصه الكريم خاصة بعد إقتراب العدو منه وإصابته بالجراحات العديدة في الرأس والوجه ، وسيلان الدم منه بمرأى ومسمع من المؤمنين يومئذ ، فان قلت ألم ينزل قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ) والجواب من جهات:
الأولى : نزلت الآية أعلاه بعد معركة أحد.
الثانية : يعصم الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجنوده التي لا يعلمها إلا هو سبحانه .
الثالثة : من عصمة وحفظ الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دفاعه عن نفسه بلحاظ أن هذا الدفاع من مصاديق الوحي ويحتمل وجوهاً:
الأول : يأمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالدفاع عن نفسه في معركة أحد.
الثاني : توجه أمر واحد إلى النبي بلزوم دفاعه عن نفسه، ويحتمل وجوهاً:
أولاً : فضل الله عز وجل بالأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدفاع عن نفسه من أول أيام البعثة النبوية .
ثانياً : جاء الأمر من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدفاع عن نفسه من أيام إشتداد أذى قريش له وهو في مكة.
ثالثاً : تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأمر من عند الله بالدفاع عن نفسه في معركة بدر.
رابعاً : أمر الله عز وجل رسوله الكريم بالإحتراز والتوقي من سهام وسيوف الذين كفروا في معركة أحد خاصة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ولا تنخرم هذه القاعدة بصبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أذى قريش، وورد عن أنس قال: قال رسول الله عليه وآله وسلم: لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت علي ثلاث من بين يوم وليلة وما لي طعام إلا ما واراه إبط بلال)( ).
الثالث :تعدد الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع عن نفسه قبل الهجرة إلى الطائف ، وعند عودته من الطائف ثم هجرته إلى المدينة المنورة ، وفي بدايات معارك الإسلام فيكون تقدير قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) : تبوء للمؤمنين مقاعد للقتال ليذبوا عنك وعن التنزيل .
الرابع : دلالة آيات القرآن على وجوب دفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه ويكون معنى هذا الدفاع مستقرأ من مضامين ومفاهيم آيات القرآن ، ليكون حجة وبرهاناً وبرزخاً دون الشك وطارداً للغفلة.
الخامس : نزول جبرئيل بحث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على لزوم الدفاع عن نفسه أثناء المناجاة بينهما ، وهذه المناجاة فرع تدارسهما القرآن، وورد عن عائشة، عن فاطمة عليها السلام قالت: أسر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي)( ).
السادس : مجئ الأمر من عند الله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدفاع عن نفسه من مقدمات كل معركة من معارك الإسلام.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وهي من سعة رحمة الله ولطفه وفضله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنتفاء المسافة أو البعد بين الوحي وبينه ، وفي التنزيل [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي]( ).
وتدل الآية أعلاه بالدلالة التضمنية على قرب الله سبحانه من رسوله الكريم.
الوجه الثاني : دفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد عن التنزيل وآيات القرآن من جهات :
الأولى : الدفاع عن الآيات التي سبق وأن نزلت عليه،لأن بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المسلمين سبب لتوثيقها وكثرة تلاوتها وبيان تفسيرها خاصة وأن السنة النبوية بيان للقرآن .
الثانية : يدافع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صدق نزول القرآن من عند الله بمناجزة الذين كفروا بالتنزيل والنبوة ، ومن الآيات في تأريخ الإنسانية والشواهد على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبدأ القوم القتال ، ولم يهجم عليهم في عقر دارهم ، ولم يوصل رسائل تهديد ووعيد لرؤساء قريش قد تسبب توثبهم ومسارعتهم في القتال ، بل كان يرجو وفي بداية كل معركة عدم وقوع القتال ، وينتظر ما يؤول إليه قرار رؤساء جيش الكفار.
وفي معركة بدر وعندما إلتقى الصفان رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً من المشركين على جمل أحمر وهو يكلم أصحابه، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن يك في أحد من القوم خير فعند صاحب هذا الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا، وهو معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات:
الأولى : علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالذي يدعو إلى المهادنة، وإجتناب القتال.
الثانية : بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن إجتناب المشركين القتال رشد وسلامة لهم.
الثالثة : الإشارة إلى خسارة المشركين إذا وقع القتال ثم خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام: يا علي ناد حمزة، وكان أقربهم من المشركين: من صاحب الجمل الأحمر؟ فقال: هو عتبة بن ربيعة، وهو ينهى عن القتال، ويحث قريشاً على ترك القتال، ويقول (أعصبوها اليوم برأسي وقولوا جبن عتبة , وأبو جهل يأبى ذلك)( ).
الثالثة : دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال الحرب والسلم عن الشريعة وأحكام الحلال والحرام ، وهو من وظائف النبوة .
الرابعة : تفضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمره بالدفاع عن نفسه مقدمة لنزول الآيات اللاحقة لمعركة أحد التي وقعت في السنة الثالثة للهجرة ،وإستمر نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحين إرتقائه إلى الرفيق الأعلى في السنة العاشرة للهجرة، ليكون من مصاديق الأمانة والصدق عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآيات التي لم تنزل الا بعد وقوع معركة أحد، وهو نوع من الأمانة ينفرد بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بين والناس ، بأن يدافع عن آيات القرآن قبل نزولها ، ويتحمل وأهل بيته وأصحابه الأذى من أجلها ، وهل منه صبر أهل البيت عند حصار قريش لهم في شعب أبي طالب في السنة السابعة للبعثة النبوية.
الجواب نعم، إن نزول أي آية من القرآن يستحق تحمل الأذى لبقائها إماماً لأجيال الناس المتعاقبة إلى يوم القيامة ، ودفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن آيات القرآن على وجوه :
أولاً : دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن آيات القرآن بصبره على أذى قريش في مكة في بدايات البعثة النبوية .
ثانياً : دفاع النبي عن آيات القرآن بهجرته إلى المدينة المنورة في السنة العاشرة للبعثة النبوية ، ومن الآيات في المقام أن كفار قريش كانوا يريدون قتله في ذات الليلة التي هاجر فيها وبات في فراشه الإمام علي عليه السلام ليفضح الله الكفار , ولم يتعظوا عندما رأوا علياً في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل خرجوا في طلبه بحال من الفزع والرعب .
ثالثاً : دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن آيات القرآن في معركة بدر, لقد إختارت قريش عشرة من شبابها لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه، وحينما أبطل الله كيدهم وأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج إلى المدينة مهاجراً ، ونجى في الطريق بمعجزة حسية ، قال تعالى [لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا] ( ) سارت قريش بألف من الجنود لقتاله وقتله ومن معه وكان قادة الجيش هم أنفسهم الذين آذوه أشد الأذى وأرادوا قتله في مكة، مثل أبي جهل، فكان جزاؤهم أن ألقوا قتلى في القليب [فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ] ( ) إلا أمية بن خلف فإن جسمه إنتفخ فذهبوا ليحركوه فتزايل لحمه فتركوه في موضعه وألقوا عليه التراب والحجارة.
وهل يشمله توبيخ وتبكيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما قال بعد وضع قتلى المشركين في القليب وهي البئر المتروكة ( بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس ، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا )( ) .
الجواب نعم، ليشمل الخطاب أمية ومن لم يدفن في القليب من المشركين لأنه موجه إلى كل الذين قتلوا منهم .
رابعاً : دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن كنوز آيات القرآن وخزائن علم التنزيل في معركة أحد بالذب عن نفسه بقتال الذين كفروا، فمن الإعجاز في السنة الدفاعية أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يدافع عن آيات القرآن وإستدامة تنزيلها ببقائه في المدينة وإجتنابه القتال وملاقاة الذين كفروا وإرسال أصحابه للقتال، بل دافع عنها بمزاولة القتال بنفسه ، ودفعه الذين كفروا بدعائه ويده وبدنه مع علمه بأنهم يطلبونه بالذات [فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًاوَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
وهل ينحصر دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التنزيل بمعارك الإسلام الدفاعية مثل معركة بدر وأحد والخندق أم يشمل غزوات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأخرى .
الجواب هو الثاني فكل معركة في الإسلام ضد المشركين هي ذات صبغة الدفاع عن التنزيل، وتتضمن في غاياتها الحميدة هدم صرح الشرك والجحود بالتنزيل.
الوجه الثالث : دفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن أهل بيته وأصحابه الذين آمنوا بنبوته، ولاقوا الأذى والصدود من قومهم، وليس من تعارض أو دور بين أمور :
الأول : دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التنزيل، وآيات القرآن رسماً وتلاوة وبياناً.
الثاني : جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لسلامة القرآن من التحريف، وهل كان جهاده لسلامة القرآن من التحريف خاصاً بأيام التنزيل والنبوة أم إرادة المعنى والأمر الأعم لتكون منافع جهاده هذا في الأحقاب المتعاقبة .
الجواب هو الثاني لذا جاءت الخطابات بالإقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم موجهة للمسلمين بأجيالهم المتعاقبة، كما في قوله تعالى[لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
الثالث : جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للعمل بأحكام القرآن وأداء المسلمين للفرائض والعبادات.
الرابع : جهاد المهاجرين والأنصار للدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذب عنه، إذ يدركون حاجة أهل الأرض في أجيالهم المتعاقبة إلى سلامته ونجاته، وتجلى الأمر في معركة أحد بثبات نفر من أهل البيت والصحابة يقاتلون حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الآيات مشاركة بعض الصحابيات في هذا الدفاع، وفيه توبيخ وتبكيت للذين كفروا .
م/ شكر و ثناء لأهل بلدنا العراق على نـجاح زيارة الأربعين وذكرى إنتقال النبي (ص) إلى الرفيق الأعلى
الحمد لله على إطلالة وصدور الجزء الثلاثون بعد المائة من التفسير هذا اليوم وهو القسم الثاني من تفسير الآية (154) من سورة آل عمران ونطبع أجزاءه المتعاقبة على نفقتنا الخاصة بفضل الله , وهو من أحسن موارد الخمس والحقوق الشرعية, وتتقدم مرجعيتنا بالشكر والثناء إلى إخوتنا في العراق رجالاً ونساءً , فلقد تجلت آيات الصلاح والتقوى والكرم عندهم بما لم يشهد له التأريخ مثيلاً من جهات:
الأولى : زحف الملايين لزيارة الحسين عليه السلام من وسط وجنوب وشمال العراق، وكأنه تلبية لنداء الجهاد والوفاء له.
الثانية : تنافس وقيام عشرات الآلاف من المؤمنين بالتطوع لخدمة الزوار من العراق والأمصار المتعددة في طهي وتوزيع الطعام على مدى أكثر من عشرين يوماً قربة إلى الله تعالى ومن غير أجر أو عوض مالي، قال تعالى[وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ].
الثالثة : المناجاة بين الزوار والزائرات وأهل المواكب على أداء الصلاة والتقيد بآداب التقوى وسنن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرابعة : التبرع بموائد الطعام التي إستمرت طيلة مدة الزيارة وعلى طول الطرق التي تربط بين القرى والنواحي والمحافظات العراقية .
ومع الضائقة المالية التي يمر بها العراق في هذه السنة وثقل وطأة الحرب ضد الإرهاب فان البذل من أهله ومن مالهم الخاص كان أفضل وأكثر من العام الماضي، وقد زارني في مكتبي في النجف يوم أمس وأمس الأول بعض أفراد مؤمنين من دول أخرى وكانوا يفتخرون بأن عندهم موكباً أو موكبين في كربلاء أو في النجف الأشرف فقلت لهم بحضور العشرات من زوار المكتب إن عدد المواكب المسجلة حسب الإحصائية(7060) موكباً كلها لأهل العراق فطوبى لهم.
وكل بلد ينتفع من السياحة ويجعلها مورداً في ميزانيته وتقوية إقتصاده, إلا العراق بآية في زمن العولمة والفضائيات جذبت قلوب جميع الناس لهم.
الخامسة : حسن السمت والخلق الرفيع مدة الزيارة مع الإجهاد الظاهر على أفراد الأجهزة الأمنية والزوار والزائرات في مشيهم الطويل، وقطع كل واحد منهم عشرات أو مئات الكيلو مترات في زمن وسائط النقل السريع حزناً ومواساة لأهل البيت عليهم السلام.
السادسة : فتح أهل المضائف والقرى والمدن التي يمر الزوار عليها أو بمحاذاتها وعلى مقربة منها بيوتهم بسخاء وصبر لايواء الزائرين لتصبح فجأة مضارب وسرادق ومنهم أهل مدينة النجف الكرام بأحيائها المتعددة، وقد إستقبلتُ الزوار مدة الزيارة هذا العام في مكتبي في كربلاء والواقع خلف المخيم بفضل من الله عز وجل .
السابعة : القوات والمؤسسات الأمنية التي بذلت الوسع في تأمين سلامة الزوار، والخدمات الجليلة للأجهزة الحكومية ذات الصلة.
ونشكر جميع أهل العراق شيعة وسنة، وعرباً وأكراداً، وأقليات على التعاون لدفع الإرهاب فقد كانت زيارة الملايين للإمام الحسين عليه السلام في الأربعين لسنة 1437 هجرية وبين 16/11 و4/12/2015 ميلادية صفحة مشرقة ونقية وسط آلام القلوب المنكسرة .
وكأن الأمان في هذه الزيارة من مقدمات أيام الإمام المهدي كما ورد عن الإمام علي عليه السلام في وصفها (حتى تمشي المرأة بين العراق إلى الشام، لا تضع قدميها إلا على النبات، وعلى رأسها زبيلها لا يهيجها سبع ولا تخافه.
ونوصي باخواننا النازحين خيراً، ولزوم عدم الإعتداء على السكان والممتلكات الخاصة في المناطق المحررة لعمومات قاعدة السلطنة, ومن باب الأولوية إذ لم يرض أمير المؤمنين عليه السلام بالإستحواذ على شيء من أموال الناكثين ومن والاهم في معركة الجمل .
لقد تجلت في زيارة الأربعين معاني الأخوة في الدين والوطن بأبهى هيئة نوعية عامة, ورشحات الأمل وإستدامة العز وهي في دلالاتها واقية وحرز من التقسيم, وعندما أخبر الله عز وجل الملائكة بقوله[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] إحتج عليهم بقوله[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ولم يكن قول الملائكة هذا من الإستفهام الإنكاري كما قال أكثر علماء التفسير , وقد ذكرنا في سِفر تفسيرنا ولأول مرة أن الملائكة أرادوا أن يكون أهل الأرض مثل الملائكة في اليقين والتنزه عن المعاصي وأن لا يكون فيها الظالم يزيد وشبهه.
فبين لهم الله تعالى بحكمته أن الدنيا دار إمتحان وإختبار فاز ويفوز بها المؤمنون, ومن لطفه وعلمه سبحانه الذي ذكرته الآية أعلاه سلامة زوار الإمام علي والحسين عليهما السلام من الإرهاب البغيض والذي ما أنزل الله به من سلطان، وقال الإمام علي في الثناء على أهل العراق (أنتم الانصار على الحق والاخوان في الدين والجنن يوم البأس والبطانة دون الناس بكم أضرب المدبر وأرجو طاعة المقبل فأعينوني بمناصحة خلية من الغش سليمة من الريب فوالله إني لأولى الناس بالناس.
ونسأل الله عز وجل أن تكون هذه المناسبات المباركة بداية إنحسار الإرهاب في العراق وأنحاء العالم، فالله عز وجل هو السلام ويدعو إلى دار السلام، قال تعالى[وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ].