معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 131

المقدمـــــــة
الحمد لله اللطيف في صنعه ، الواسع في رحمته , القريب في رحمته , العظيم في قدرته , الرؤوف بعبادته , المستأثر بالقوة والجبروت ، وفي التنزيل [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] ( ).
الحمد لله الباسط بالخير يده ، الفاشي في الخلق حمده طوعاً وقهراً وإنطباقاً ، الحمد لله الذي إنفرد بالربوبية المطلقة الذي لا ند أو شريك له في ملكه وسلطانه .
الحمد لله الذي لا راد لفضله ، ولا دافع لقضائه وحكمه الذي[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( )، الذي جعل الأشياء كلها حاضرة عنده مستجيبة لأمره , ممتنعة عن الغياب أو التخفي عنه .
الحمد لله بديع السموات والأرض الذي خلق الأكوان من غير مثال أو أصل , وجعل كل فرد منها آية تدعو إلى عبادته , وتحث الناس على التوبة والإنابة .
الحمد لله على حلمه بعد علمه وعفوه بعد قدرته ، الحمد لله على عدد الرمل والحصى ، والورق والشجر والشعر والوبر , وسبحان الله الحي الذي لا يموت , الذي جعل الأرض داراً لرحمته ومسكناً لخليفته ومحلاً لإمتحان وإبتلاء وإختبار الإنس والجان .
سبحان الذي جعل التسبيح والحمد والإستغفار طرقاً مباركة للفوز برحمته ورضوانه ، قال تعالى [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ) .
سبحان الذي أنزل كلامه على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون دستوراً دائماً في الأرض , ومصدراً للقوانين , وشريعة الخلود التي تقود إلى النعيم الدائم في الجنان , وبرزخاً دون العذاب في الدنيا والآخرة .
الحمد لله الذي جعل كل آية من القرآن رحمة وروضة وكنزاً للعلوم لتكون حجة ودعوة للعلماء للغوص في ذخائرها وإستخراج الدرر من كنوزها .
وقد أنعم الله عز وجل علينا بإتمام هذا الجزء وهو الواحد والثلاثون بعد المائة من ( معالم الإيمان في تفسير القرآن ) والذي هو القسم الثالث من تفسير الآية [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ….. ] ( ) في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً إذ كانت كتب التفسير المباركة تحصر تفسير الآية بأسطر معدودات في الغالب .
وليس العبرة بالكثرة والكم خاصة في زمان السرعة وأيام الثورة الصناعية , إنما جاءت أجزاء هذا التفسير بالتأويل والإستنباط , وتأسيس القوانين الكثيرة والقواعد التوليدية التي تتفرع عنها العلوم لبيان قانون وهو أن علوم القرآن من اللامتناهي .
وقد جاء الجزء التاسع والعشرون بعد المائة في صلة شطر من هذه الآية بشطر من الآية السابقة لها ، وهو قوله تعالى إذ تصعدون ولا تلوون على أحد [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ( ).
وجاء الجزء السابق وهو التاسع والعشرون بعد المائة في بيان شذرات من علوم آية البحث , والأبواب التي نذكرها في تفسير كل آية وفق المنهجية المستحدثة في هذا السِفر من وجوه :
الأول :المقدمة .
الثاني :إعراب الآية محل البحث .
الثالث : سياق الآيات .
الرابع : إعجاز الآية الذاتي .
الخامس :إعجاز الآية الغيري .
السادس : الآية سلاح .
السابع :مفهوم الآية .
الثامن : إفاضات الآية .
التاسع : الآية لطف .
العاشر : الصلة بين أول وآخر الآية .
الحادي عشر : من غايات الآية .
ومع تضمن الجزء السابق لهذه الأبواب الخاصة بآية البحث وهي الرابعة والخمسون بعد المائة من سورة آل عمران وردت تتمة لبعض هذه الأبواب في هذا الجزء وهي :
الأول : سياق الآيات .
الثاني : إعجاز الآية .
الثالث : الآية سلاح .
الرابع : مفهوم الآية .
ومن فضل الله عز وجل أن ورود جزء مستقل بالصلة بين شطر من هذه الآية والآية السابقة وهو الجزء التاسع والعشرون بعد المائة ، ومجئ شطر من علومها بالجزء السابق وشطر بهذا الجزء ، ولم تستوف المسائل التي تتعلق بالصلة بينهما ، فكيف بالنسبة للصلة بين آيات القرآن .
أما باب علم تفسير كلمات ومضامين الآية القرآنية فجاء في هذا الجزء وإن كان الجزءان السابقان يتضمنان علوماً وذخائر منه سواء على نحو الصلة بين هذه الآية وبين الآية السابقة أو على نحو الإستقلال كما أن الأبواب المتقدمة من إعجاز الآية الذاتي والغيري والآية سلاح ومفهوم الآية وغيرها كلها تتعلق بتفسير الآية وتأويلها وإستظهار كنوزها وذخائرها.
ليكون كل باب من هذا التفسير تأسيساً لعلوم قرآنية ومفتاحاً لكنوز من المضامين القدسية لكل آية من القرآن ، وسيأتي قانون يتعلق بكل آية وهو : أسباب نزول وموضوع الآية الظاهر أو الذي يتجلى بالتدبر في معانيها .
وتضمن الجزء السابق ( قانون الآية سلاح ) وهو مدخل لمسائل عقائدية تتعلق بالصلاح والإصلاح , وأوردنا فيه بحثاً أصولياً في باب ( الإستصحاب ) ومسائل وتقسيمات مستحدثة فيه ، وهو مقتبس من بحثنا الخارج على فضلاء الحوزة العلمية .
إن تضمن ثلاثة أجزاء للصلة بين الآية السابقة وآية البحث بيان للسعة واللآلئ العلمية في علم الصلة بين الآيات , والتي تدعو العلماء في كل زمان إلى تثويره وإستقراء المسائل منه ، بما يؤكد نزول القرآن من عند الله ، وييسر للمسلمين خاصة والناس جميعاً الإنتفاع الأمثل من كلام الله عز وجل , وفيوضات آياته ومشارق الأنوار التي تشع من كلماته .
وآية البحث من الآيات التي إختصت في موضوعها بوقائع معركة أحد، ولكن دلالاتها متجددة وحاضرة بين الناس إلى يوم القيامة ، وكل كلمة في هذه الآية حجة بذاتها ، وبرهان بإتصالها بكلمات وألفاظ الآية الأخرى يؤكد صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل , قال تعالى (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ) ( ).
لقد إبتدأت الآية السابقة بالإخبار عن فرار طائفة من المؤمنين وصعودهم الجبل يوم معركة أحد , من شدة ما لاقوه من بطش وبأس الذين كفروا ، ومن الآيات أن هذه الشدة لم تقع إبتداء بل بسبب التقصير والمعصية من قبل الرماة المسلمين الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم ترك مواضعهم بأي حال من الأحوال ، فجاءت خيالة المشركين من خلف جيش المسلمين ليستعر القتل بين صفوفهم .
ولولا فضل الله يومئذ لأصيب المسلمون بنكبة فالأصل في هذه الحال أن ينكسر وينهزم الجيش ويقع أفراد منه في الأسر خاصة مع إقتران هذه الواقعة بأمور :
الأول : إنسحاب ثلث جيش المسلمين وسط الطريق بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول بحجة أن النبي لم يسمع قوله بالبقاء في المدينة .
الثاني : كثرة عدد ومؤن جيش الكفار إذ بلغ عددهم ثلاثة آلاف رجل ليكون أربعة منهم مقابل واحد من المسلمين .
الثالث : إشاعة الذين كفروا الخوف والتهديد , وكثرة الوعيد للمسلمين , وساعدهم المنافقون في بث روح الشك والريب , والقيام بالسعي لتثبيط العزائم .
الرابع : صدور الخطأ والتقصير من المسلمين , وتعدد هذا التقصير ومجئ الآية قبل السابقة بنعته بصفات :
الأولى : إصابة المؤمنين بالفشل والجبن .
الثانية : حدوث النزاع والخصومة بين المؤمنين .
الثالثة : معصية فريق من المؤمنين , ويجمعها قوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ]( ).
وظاهر الآية أعلاه أن هذه الصفات والأفعال لا تختص بترك الرماة لمواضعهم ولا حتى ذات الرماة أنفسهم ، فنزول الرماة من مواضعهم ليس من الفشل الذي تذكره الآية قبل السابقة بقوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ] لأنهم نزلوا لجمع الغنائم وفي ساعة يستعد فيها العدو للفرار إلا أن يقال في الآية تقديم وتأخير للوقائع وأن الأصل هو حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم وفشلتم ، بلحاظ أن الفشل والجبن حصل بعد نزول الرماة ومجئ خيل الذين كفروا من خلف جيش المسلمين .
لتدل سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ، وجيش المسلمين من الهزيمة يوم أحد مع التعدد في الخلاف والمعصية بينهم شاهد على عظيم فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم أحد وما بعده من الأيام وإلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ] ( ).
ومن علم الله عز وجل على المؤمنين أنه يحول الهزيمة إلى زحف وتقدم والخسارة إلى نصر وظفر للمؤمنين .
الخامس : إرادة فريق من المسلمين الغنائم والمكاسب لقوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا] ( ) وهل المراد أنهم يطلبون زينة ومباهج الدنيا والإنقطاع إليها , الجواب لا ، بدلالة ذات الآية أعلاه من وجوه :
الأول : موضوع الآية هو معركة أحد وخروج المؤمنين إلى المعركة جهاد في سبيل الله .
الثاني : فوز المؤمنين بوعد الله عز وجل لهم بالنصر، والذي يدل بالدلالة التضمنية على حسن سمتهم، ورضا الله عز وجل عنهم , قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ] ( ).
الثالث : تنجز وعد الله عز وجل للمؤمنين بقوله تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]( )، مما يدل على سعي المؤمنين في مرضاة الله وعدم إنشغالهم بالدنيا.
الرابع : القدر المتيقن من طلب الدنيا في الآية قبل السابقة هو ما كان في طول إرادتهم الآخرة برجاء الإستيلاء على الغنائم أو السعي إليها، فيكون تقدير الآية : منكم من يريد الدنيا مع طلبه الآخرة ومنكم من يريد الآخرة على نحو الإطلاق , وتجلى ذات المعنى في قصة واقعة بدر بقوله تعالى [تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ] ( ) أي أرادوا الفداء فدعاهم الله سبحانه لإختيار ما فيه الأجر والثواب العظيم .
الخامس : إختتام الآية بتأكيد فضل الله عز وجل على المؤمنين خاصة، بقوله تعالى[وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( )، ليكون بينهم وبين عموم الناس من جهة الفوز بالفضل الإلهي عموم وخصوص مطلق، من جهات:
الأولى : يشارك المسلمون الناس في مصاديق الفضل الإلهي العامة.
الثانية : العناية واللطف الإلهي بالمؤمنين في مصاديق الفضل الإلهي العامة.
الثالثة : إختصاص المؤمنين بفضل عظيم من عند الله عز وجل، وتدل عليه الآية أعلاه .
الرابعة : ترشح النعم والمنافع على المؤمنين من الفضل الذي خصّ الله عز وجل به رسوله الكريم، وفي التنزيل[إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا]( )، ومن مصاديق السعة في فضل الله عز وجل الذي تذكره الآية أعلاه.
الخامسة : توجه المؤمنين إلى الله بالدعاء رجاء فضله ورفده، وإستجابة الدعاء من فضل الله، وتقدير قوله تعالى[وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، على وجوه:
أولاً : أستجب لكم فضلاًً مني.
ثانياً : أستجب لكم من فضلي.
ثالثاً : أستجب لكم بفضلي.
السادسة : ينعم الله عز وجل على المؤمنين بزيادة فضله وإحسانه لهم وفي التنزيل[لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
وكل آية من القرآن فضل من عند الله من جهات:
الأولى : ذات الآية القرآنية فضل من الله عز وجل .
الثانية : كل شطر وجملة وكلمة من الآية القرآنية فضل من الله.
الثالثة : تلاوة المؤمن للآية القرآنية.
الرابعة : وجوب تلاوة الآية القرآنية في الصلاة.
الخامسة : الجمع بين كل آيتين من القرآن فضل من الله .
السادسة : النظر إلى القرآن فضل من عند الله، وكذا قراءته عن ظهر قلب.
السابعة : التدبر في الآية القرآنية وتفسيرها والمضامين القدسية لها من فضل الله عز وجل على المؤمنين .
السادس : قيد [مِنْكُمْ] الوارد في الآية , ويدل هذا التقييد على صبغة الإيمان ، وتقدير الجار والمجرور [مِنْكُمْ] على وجوه :
الأول : تقدير ( منكم ) أي : من الذين آمنوا ) بدليل عطف هذه الآيات على قوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
الثاني : من المسلمين الذين خرجوا لمعركة أحد .
الثالث : من الرماة التي جعلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجبل .
وهل يشمل الخطاب [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا] الشهداء السبعين الذين سقطوا يوم أحد أو بعضهم ، الجواب لا .
للتنافي العقلي والعملي بين فعل الشهداء وبين حب الدنيا ، فبذل النفس في سبيل الله ومغادرة الدنيا في ساحة المعركة شوقاً إلى لقائه شاهد على التنزه والعصمة عن حب الدنيا .
لقد بذل الشهداء أنفسهم ومهجهم في سبيل الله وإختاروا لقاءه والذي يدل بالدلالة المطابقية على مغادرتهم الدنيا وتخليهم عن رغائبها وزخرفها .
لقد كان مبدأ الشهادة حاضراً عند كل مسلم من أول دخوله الإسلام لأنه يدرك أن الذين كفروا من قريش ونحوهم يريدون إستئصال الإسلام ويباشرون شتى صنوف التعذيب لمن أظهر إسلامه .
وفي بيعة العقبة التي تمت في السنة الثانية عشرة من البعثة النبوية كان عدد الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينئذ إثني عشر رجلاً وليس معهم امرأة ، وكانت مقدمة لبيعة العقبة الثانية وهجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، (وأخرج ابن سعد عن عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت « أن أسعد بن زرارة أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة فقال : يا أيها الناس هل تدرون علام تبايعون محمداً؟ إنكم تبايعونه على أن تحاربوا العرب والعجم والجن والإِنس كافة .
فقالوا : نحن حرب لمن حارب وسلم لمن سالم . فقال أسعد بن زرارة : يا رسول الله اشترط عليَّ ، فقال : تبايعوني على أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وإني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وتقيموا الصلاة ، وتؤتوا الزكاة ، والسمع والطاعة ، ولا تنازعوا الأمر أهله ، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم . قالوا : نعم . قال قائل الأنصار : نعم هذا لك يا رسول الله فما لنا؟ قال : الجنة والنصر ) ( ).
وقد تسمى بعثة العقبة الأولى بأنها بيعة النساء ، ولكنه من التشبيه وتقريب المعنى , فليس فيها أمر القتال , ولبيان المقارنة بينها وبين بيعة العقبة الثانية وحال الأنصار والمهاجرين في الجهاد وخوض معركة بدر وأحد وغيرهما .
إذ روي عن عبادة بن الصامت قال (كنت فيمن حضر العقبة الأُولى وكنا اثنى عشر رجلا فبايعنا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا،
ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا،
ولا نعصيه في معروف،
فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشّيتم شيئاً من ذلك) ( ) .
ويراد من بيعة النساء في الإصطلاح وواقع الحوادث , قيام النساء ببيعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولم يذكر موضوع بيعة النساء في القرآن إلا مرة واحدة في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( )ولكن هذا لا يعني وقوع بيعة النساء مرة واحدة بل هي متصلة ومتجددة ويدل عليه نص الآية الكريمة ولغة الشرط فيها [إِذَا جَاءَكَ] لتكون من مصاديق وتفسير قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً] ( ) يشمل لفظ الناس في الآية أعلاه الرجال والنساء .
ومن الإعجاز أن الآية أعلاه لم تقل (إذا جاءت المؤمنات ) بينما ورد بصيغة التأنيث الخبرية في قوله تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ] ( ).
وتبين آية بيعة النساء موضوعية النساء في إقامة صرح الإسلام وأنهن بعرض واحد مع الرجال من جهة التكليف , وفيه تأكيد لإكرام الإسلام للمرأة .
وقد جاءت آيات متعددة في التحذير من النفاق وفي ذم المنافقين، والوعيد لهم وللمشركين ذكوراً وأناثاً بالعذاب الأليم ، ومن إعجاز القرآن أن تأتي آية تجمعهم بالذكر مع المؤمنين , مع بيان التضاد والتناقض بينهم في الآخرة بلحاظ عملهم وخصالهم في الدنيا ، قال تعالى [لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ).
ومن الإعجاز في الآية السابقة أن خاتمتها فاتحة لباب التوبة لكل الذين ذكرتهم الآية وهي مانعة من غلقه ، ترى لماذا لم تقل خاتمة الآية خطاباً خاصاً للمؤمنين والمؤمنات أو الذين ذكرتهم الآية فلم تقل ( وعلموا أن الله غفور رحيم ) بل جاءت بصيغة القانون [وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] الجواب فيه مسائل :
الأولى : بيان إتصال ودوام المغفرة والرحمة من عند الله عز وجل .
الثانية : شمول قانون المغفرة والرحمة للناس الموجود والمعدوم منذ أيام أبينا آدم وإلى يوم القيامة .
الثالثة : البشارة للناس ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المغفرة من عند الله تأتي إبتداءً من فضله وإحسانه .
الرابعة : تنمية ملكة التقوى عند المسلمين .
الخامسة : بعث المسلمين على ترغيب الناس بدخول الإسلام .
السادسة : طرو اليأس والقنوط عن نفوس الناس .
وحينما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لأن الإنسان [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )أجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
لقد إحتجت الملائكة على سقوط المؤمنين شهداء مضرجين بدمائهم فأخبرهم الله عز وجل بأن للشهداء الذكر الحسن في الدنيا والخلود في النعيم في الآخرة ، فخر الملائكة ساجدين لله عز وجل .
وتبين الوقائع أن الشهداء لا يريدون إلا الآخرة , وهم أسوة كريمة للأجيال المتعاقبة , وقصتهم سبب لبعث الخوف في قلوب الذين كفروا من التعدي على الإسلام .
ومن بين أسباب تسمية الشهيد أن ملائكة الرحمة تشهده إذ تحضر غسله ونقل روحه إلى الجنة فان قلت جاءت الآية بصيغة المضارع , فظاهر الآية أنها نزلت بعد معركة أحد والشهداء في معركة بدر وأحد غادروا إلى دار الآخرة قبل نزول الآية مما يدل على عدم تلقيهم لغة الخطاب فيها ، والجواب من جهات :
الأولى : من إعجاز الآية مجيؤها بصيغة التبعيض وإخبار المسلمين بأن منهم فريقاً يريد الآخرة ليشمل الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله , فبين موضوع الآية وبين المخاطبين بها منهم عموم وخصوص مطلق . وذات النسبة بين المخاطبين بها وبين الذين يريدون الآخرة منهم .
الثانية : الشهداء هم المصداق الأمثل للذين يريدون الآخرة .
الثالثة : تدعو الآية المسلمين والمسلمات إلى إستحضار ذكر الشهداء بصيغ الإكرام .
الرابعة : يجوز مجئ الفعل المضارع ليشمل أفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل مع وجود القرائن على هذا الشمول وصبغة الدوام .
الخامسة : في الآية نكتة وهي غبطة وإفتخار الشهداء بنعت القرآن لهم بأنهم يريدون الآخرة ، فيقرأ المسلمون والمسلمات الآية كل يوم فيكون فيها ذكر حسن للشهداء , ونوع تجديد للصلة والعهد معهم .
وهل فيه ثواب إضافي للشهداء , الجواب نعم، وهو من فضل الله عز وجل على المؤمن من جهات:
الأولى : صيرورة المؤمن والشهيد أسوة حسنة، وإماماً في الصالحات.
الثانية : من معاني الرحمة في الدنيا أن المؤمن يغادر الدنيا في أجله ، ولكن النفع يترشح عن ذكره وسيرته ، فيأتيه الثواب من هذا النفع المتجدد.
الثالثة : بيان قانون يدركه الناس جميعاً في أجيالهم المتعاقبة وهو وجود أمة من الصالحين جاهدوا في سبيل الله , وسعوا في تثبيت قواعد الإسلام.
الرابعة : لاينحصر النفع من سيرة الشهيد بالتأسي والإقتداء به، بل يشمل الإتعاظ والتدبر وإصلاح السريرة وإختيار التوبة والإنابة، فيتخلف بعض الناس عن طلب الشهادة أو إيجاد موضوعها، فقد كان المؤمنون يتمنون الموت في سبيل الله ولكنهم لم يغزوا الذين كفروا ولم يبثوا طلائعهم في الآفاق , بل إكتفوا باداء الفرائض العبادية من الصلاة ونحوها، إلى أن زحف الذين كفروا في معركة أحد , قال تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ) .
حتى إذا هجم الذين كفروا على المدينة بجيش عرمرم ملأ الآفاق يتألف من ثلاثة آلاف رجل في وقت يكون سفر الناس في تلك الفيافي على نحو الأفراد، فيكون قتالهم مبارزة أو غيلة وغدراً ومباغتة , أو سير عدد من أفراد القبيلة .
فصار خروج المؤمنين للقاء الذين كفروا نحو حاجة وضرورة ودفع للمفسدة ودرأ للفتنة، بالإضافة إلى حقيقة ثابتة وهي حصول هذا الخروج بأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يتدخل بنفسه في إختيار المجاهدين، ويُعيد غير المؤهل وصغير السن، ويعذر ذوي الأعذار .
فلم يأت خروج المؤمنين إلى معركة بدر أو أحد أو غيرها عن مناجاة بين المهاجرين والأنصار وإرادة الثأر والإنتقام أو طلب الغنائم، إنما هو من مصاديق قوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( )، لذا ورد قوله تعالى[وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ] ليكون طلب شطر من الصحابة الدنيا والغنائم في طول طاعتهم لله عز وجل ورسوله الكريم .
وهذا الجزء المبارك هو القسم الثالث من تفسيرنا للآية الرابعة والخمسين بعد المائة من سورة آل عمران في ثورة وثروة علمية تبين شذرات من ذخائر الكنوز التي فيها، ودعوة لإستنباط المزيد من العلوم , وإقتطاف الثمار منها والتي تنفع المؤمنين والناس في الدنيا والآخرة، قال تعالى[وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ]( ).
وآية البحث روضة من رياض العرش ومرج علمي وربيع عقلي يرتع فيه أهل الدراية والألباب ، وتلاوتها وإدراك أسباب وموضوع نزولها طريق إلى المعرفة بعظيم فضل الله , وهي واقية ومصداق للنعم المتعددة التي تنزل من عند الله لنجاة المؤمنين وسلامتهم من الأدران وضروب الحسرة والأسى ، ومرآة للمنزلة الرفيعة للمؤمنين في الآخرة ، قال تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ]( ) وتبين الآية مدرسة للجدال ذي صبغة الورع والتقوى والحجة والبرهان والخالي من العي والقصور والغفلة .
لقد بدأت آية البحث بذكر معركة أحد ونزول الأمنة والنعاس على المهاجرين والأنصار الذين صبروا في ميدان القتال طاعة لله ورسوله ، وأختتمت بالإخبار عن حال القلوب ، وعلم الله عز وجل بخلجات النفس والنوايا والعزائم بقوله تعالى [وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( )لبعث المؤمنين على حسن السريرة وأداء الفرائض والعبادات وتعاهد الأخوة الإيمانية ، والإستعداد للقاء العدو في معارك الإسلام اللاحقة ، خاصة وأن رؤساء الكفر لم يغادروا ميدان المعركة إلا وقد توعدوا المسلمين وأخبروا عن كون الموعد واللقاء في العالم التالي في موضع معركة بدر ، وبعث الله الرعب في قلوبهم ، فلم يأتوا في ذات الموعد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ].
ويمكن إستقراء مسألة من قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) وهي من مصاديق ووجوه هذا الصبر عجز الكفار عن العودة إلى ذات الموضع للقتال وإن أعلنوا الرجوع إليه .

وقد أراد الله عز وجل بمضامين آية البحث سلامة صدور المسلمين والمسلمات من الأدران والغفلة والرياء وحب الدنيا وأسباب الشك والريب بلطف وفضل ومدد منه تعالى .
وبين الصدور والقلوب عموم وخصوص مطلق ، فالصدر أعم معنى وموضوعاً ودلالة ، قال تعالى [فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ]( ) .
وفي ثناء الله عز وجل على نفسه والترغيب بالتوكل عليه وتفويض الأمور إليه سبحانه ورد في التنزيل [لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً]( ).

                 حرر في

الخامس عشر من شهر ربيع الأول 1437
27/12/2015

قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] الآية 154
اللغة
يقال غشى يغشي فهو غاش والمفعول مغشي ، للتعدي أي باشره ولامسه وأحاط به ويتعدى بحرف الجر على ، فيقال غشي عليه من الضحك أي إستسلم لضحك شديد .
ومضاجع بفتح الميم جمع مَضجع وهو اسم مكان من ضجع ، وهو موضع النوم والراحة ، ويقال ضاجع زوجته أي نام بجوارها، وتأتي بمعنى جامعها ، وقد ورد لفظ (المضاجع ) مرتين في القرآن، قال تعالى في الثناء على المؤمنين [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ]( ).
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيان مصداق للآية كما أخرج البيهقي عن معاذ بن جبل قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في كتيبة تبوك ، فأصاب الناس ريح فتقطعوا ، فضربت ببصري فإذا أنا أقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقلت : لأغتنمن خلوته اليوم ، فدنوت منه فقلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يقربني – أو قال – يدخلني الجنة ، ويباعدني من النار؟ قال : لقد سألت عن عظيم ، وأنه ليسير على من يسره الله عليه ، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤتي الزكاة المفروضة ، وتحج البيت ، وتصوم رمضان ، وإن شئت أنبأتك بأبواب الخير . قلت : أجل يا رسول الله . قال : الصوم جنة ، والصدقة تكفر الخطيئة ، وقيام العبد في جوف الليل يبتغي به وجه الله ، ثم قرأ الآية { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } ثم قال : إن شئت أنبأتك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه . قلت أجل يا رسول الله . قال : أما رأس الأمر فالإسلام ، وأما عموده فالصلاة ، وأما ذروة سنامه فالجهاد ، وإن شئت أنبأتك بأملك الناس من ذلك كله . قلت : ما هو يا رسول الله؟ فأشار بإصبعه إلى فيك .
فقلت : وإنا لَنُؤَاخَذَ بكل ما نتكلم به؟! فقال : ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يُكِبُّ الناس على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم ، وهل تتكلم إلا ما عليك أو لك) ( ).
أما الآية الثانية فقوله تعالى [وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ] ( ) وفيه نكتة وهي أن إنقطاع المؤمن لطاعة الله وإنشغاله بالعبادة يحول دون معاقبته للمرأة التي يخاف نشوزها وخروجها عن الطاعة بالهجران في المضاجع وإعطائه ظهره لها في المنام لقوله تعالى[كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ] ( )، وقوله تعالى[تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ] ( ).
وإذ إنقطع هذا الأمر قد يسقط ما بعده رتبة، وهو ضربها في قوله تعالى [وَاضْرِبُوهُنَّ] وهو من إعجاز القرآن وبيان الرأفة بالمرأة ودعوة التي تتهم بالنشوز أو تتلبس به إلى التوبة وإعانة المؤمن في عبادته وصلاحه وزهده، مع أن الضرب التي تذكره الآية أعلاه هو ضرب غير مبرح .
لذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع : اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٍ( ). لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ لَكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ حَقًّا وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ وَلاَ يَأْذَنَّ فِى بُيُوتِكُمُ لِمَنْ تَكْرَهُونَ أَلاَ وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِى كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ) ( ).
ويبين الإمام الباقر عليه السلام قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرباً غير مبرح , بأن الضرب بالسواك ، وهو عود صغير من شجر الأراك بطول إصبع اليد ونحوه مما يدل على عدم ترتب الأذى أو الأثر عليه .
ورود لفظ المضاجع في الحديث النبوي منه قوله صلى الله عليه وآله وسلم (مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِى الْمَضَاجِعِ) ( ).

سياق الآيات
تتمة صلة هذه الآية بالآية السابقة إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين : فأثابكم غماً بغم يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : جاءت الآية السابقة بصيغة الخطاب للمؤمنين الذين حضروا معركة أحد وقاتلوا فيها وهم على أقسام :
الأول : الذين صبروا في الميدان ولم يغادروا مواضعهم ، وهل في ذكر هذه المواضع والمقاعد في القرآن بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( )دعوة للمسلمين الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد ومنهم الرماة بعدم ترك مواضعهم وإن صارت الجولة للذين كفروا الجواب نعم .
وهل ينخرم هذا القانون والحكم الذي تدل عليه الآية بالدلالة التضمنية حينما ترك الرماة مواضعهم وجاءت خيل المشركين من خلف المسلمين ، الجواب لا , بل يبقى ذات القانون في كل الأحوال وهو سبيل للنصر بدلالة تقيد نفر وفئة قليلة من المؤمنين بمضامين الآية أعلاه وإلتزامهم بأوامر النبي صلى الله عليه وآله فذبوا عنه وقاتلوا معه ، ولا أحد يتصور كيف أن أحد عشر مؤمناً بالإضافة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إستطاعوا أن يصدوا ويهزموا جيشاً قوامه ثلاثة آلاف رجل لولا المدد والفضل من عند الله عز وجل ، ولو لم ينسحب شطر من الجيش مع رأس النفاق , ولو بقي معهم بقية جيش الإسلام ولم يفروا ولم يصعدوا الجبل , الذي يوثقه قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] لكانت النتيجة دحر الغزاة ووقوع أسرى منهم ، لذا فمن أسباب الغم الذي أصاب المسلمين ما ترشح عن الفرار من فوات النعم والغنائم والمكاسب , وكأن قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] أي إلى الغنائم وقلة عدد الشهداء منكم لو ثبتم في المقاعد التي نصبكم وعينكم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه [وَإِذْ غَدَوْتَ] وبين قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] تفضل الله عز وجل بإقالة عثرة المؤمنين وإصلاحهم للإمتثال لأوامره وملاقاه القوم الكافرين ، فقد خرجوا للقتال لتتوالى عليهم النعم ، وتكون حاضرة وفي إستقبالهم , ومنها بلحاظ هذه الآيات :
الأولى : ولاية الله عز وجل بقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] وتقدير الآية :
أولاً : أخرجوا إلى معركة أحد بقصد القربة , وأثبتوا أفراداً وطوائف في مقاعدكم التي جعلكم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : الله مولاكم [وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ] ( ).
ثالثاً : والرسول يدعوكم بولاية الله لكم ولولايته وحفظه .
رابعاً : بل الله مولاكم الذي ينزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً .
الثانية : الوعد من عند الله عز وجل للمؤمنين بتحقيق النصر والغلبة لهم على الذين كفروا لقوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]( ).
وهل تدل الآية أعلاه على أن الذين كفروا لم ينتصروا في معركة أحد ، أم أنه يجوز إنتصارهم ليتعلم المسلمون دروس الصبر وكشف زيف المنافقين كما ورد في يعقوب عليه السلام وخطابه لأبنائه حينما جاءوا على قميص يوسف بدم كذب [قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ] ( ) .
وهل تدل الآية أعلاه على إمكان صناعة الدم وبدليته عن الدم الحقيقي في العلاج والعمليات الجراحية وغيرها مع إمكان التمييز بينهما في المختبر بسهولة ويسر ، الجواب نعم .
الثالثة : حث المؤمنين للثبات في مقاعدهم لأن الله عز وجل وعد رسوله ووعدهم بالقاء الرعب والفزع في قلوب عدوهم الغازي بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
وهل إخبار هذه الآيات عن إلقاء الله الرعب في قلوب الذين كفروا حجة على المؤمنين بلزوم ثباتهم في مواضعهم , الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
فان قلت ما هو المائز بين المؤمنين والذين كفروا في باب الحجة إذ كانت تقوم عليهم جميعاً في الموضوع المتحد , الجواب لا تعارض بين الإيمان والتكليف بالأصول والفروع .
ثانياً : تقوم الحجة على المؤمنين لإصلاحهم وإعادة إيمانهم وتوالي ضروب الثواب عليهم .
ثالثاً : تعقب العفو من الله عز وجل على الذنب والتقصير الذي يصدر من المؤمنين .
رابعاً : من معاني ودلالات إقامة الحجة من الله تنمية ملكة التقوى في نفوس المسلمين والخشية من الله في السر والعلانية ، قال تعالى في خطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثناء على القرآن [وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]( ).
خامساً : تنزيه المسلمين من النفاق ، وإقامة الحجة على المنافقين بلزوم صيرورة باطنهم وسرائرهم بمثل ذات صيغة الإيمان التي يظهرونها .
الرابعة : من النعم الإلهية على المؤمنين في معركة أحد إخبارهم عن سوء عاقبة الذين يحاربونهم ويقاتلونهم والذين يصرون على الكفر والجحود وإن لم يحاربوا المسلمين بدليل قوله تعالى [وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) .
لتبين الآية أعلاه قانوناً وهو عدم الإجتماع بين المؤمنين والذين كفروا في محل سكن وإقامة واحد في الآخرة ، فثواب الذين قاتلوا في معركة أحد هو الجنة وهو من مصاديق ومعاني الأمنة التي تذكرها آية البحث , لأصالة الإطلاق .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه البيان والوضوح في عاقبة الذين كفروا ليكون هذا البيان ظهيراً ومدداً إضافياً للصحابة في معركة أحد ، وهو من مصاديق قانون ( الآية مدد ) وليأمن المؤمنون إلى سلامة إختيارهم والتوفيق والرشاد في خروجهم إلى المعركة ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ويطمئنوا إلى حسن عاقبتهم ومصيرهم [قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا]( ).
ليكون من إعجاز آية البحث تعدد وجوه ومصاديق وأسباب الأمنة التي تأتي للمؤمنين لذا تفضل الله عز وجل وجعلها مما ينزل من عنده لمصاحبتها لآيات القرآن .
الخامسة : مع أن موضع وأوان معركة أحد مناسبة لإلتقاء الصفين وسيلان الدماء وكثرى الجرحى بين الفريقين ، وبذل كل فريق الوسع لتحقيق النصر والذي يحتاج إليه المسلمون وينتفع من نصرهم الناس جميعاً بما فيهم الكفار الذين يحاربونهم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) .
أما لو إنتصر الذين كفروا في معركة أحد ، فلن ينتفع أحد من هذا الإنتصار ، ويكون سبباً للبلاء والنقمة عليهم وعلى أهل الأرض ، لذا تفضل الله عز وجل وأخبر عن خيبتهم بقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )مما يدل على أنهم لم ينتصروا .
وهل كانوا محتاجين للخيبة الجواب نعم ، لأنها ملازمة للكفر والضلالة وتمنع من غرورهم وطغيانهم ، فان قلت يستلزم هذا المعنى توجه الناس جميعاً بالشكر لله عز وجل على نعمة حجب النصر عن الذين كفروا في معركة بدر وأحد والخندق ، الجواب نعم ، فكل معركة منها بناء في صرح التوحيد , ومنار للعلم والهدى , وسلاح لإستصال الكفر والضلالة من الأرض .
ومن معاني الأمنة التي تذكرها آية البحث السلامة والأمن من تحقيق الذين كفروا الغلبة أو النصر في معركة أحد ، ليكون قوله تعالى [أَمَنَةً نُعَاسًا]وعداً كريماً بحجب النصر عن الذين كفروا في معركة أحد ، وصيرورته ذخيرة وكنزاً ونعمة خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين يقاتلون تحت لوائه .
المسألة الثانية :تقدير الجمع بين الآيتين : فأثابكم غماً بغم قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل منكم إلى مضاجعهم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول :من أسرار آيات القرآن أن كل آية منه إمام يقود الناس إلى مقامات التوحيد والإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل ويفيد الجمع بين كل آيتين أو أكثر منه إعجازاً آخر بأن يكون هذا الجمع إماماً آخر للمؤمنين فتكون إمامة القرآن من اللامتناهي من جهات :
الأولى : كل آية قرآنية إمام للمؤمنين .
الثانية : كل آية قرآنية إمام للمسلمين .
الثالثة : كل آية قرآنية إمام للناس .
الرابعة : الجمع بين كل آيتين من القرآن إمام للمؤمنين .
الخامسة : الجمع بين كل آيتين من القرآن إمام للمسلمين .
السادسة : الجمع بين كل آيتين من القرآن إمام للناس .
السابعة : الجمع بين كل ثلاث آيات من القرآن إمام للمؤمنين، للمؤمنين ، للناس .
الثامنة : الجمع بين كل أربع آيات من القرآن إمام للمؤمنين والمسلمين والناس ، وهكذا بالنسبة للجمع بين العدد من الآيات القرآنية .
التاسعة : كل سورة من القرآن إمام للمؤمنين والمسلمين والناس .
العاشرة : كل شطر من آية إمام هدى .
الحادية عشرة : الجمع بين شطرين من آيتين إمام .
الثانية عشرة : ذات تلاوة الآية القرآنية إمامة للمسلمين ، وهو من أسرار وجوب قراءة القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني على كل مسلم ومسلمة وعدم جواز ترك الصلاة على أي حال ليكون من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )مصاحبة الإمامة السماوية للمسلم في حله وترحاله وإلى حين مغادرته الحياة الدنيا .
وهل تدخل الآية القرآنية وتلاوتها مع المسلم في القبر وتكون واقية له من عذاب البرزخ , الجواب نعم .
وعن الزهري عن أنس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن رجلاً ممن كان قبلكم مات وليس معه شيء من كتاب الله إلا تبارك الذي بيده الملك ، فلما وضع في حفرته أتاه الملك فثارت السورة في وجهه , فقال لها : إنك من كتاب الله ، وأنا أكره شقاقك ، وإني لا أملك لك ولا له ولا لنفسي ضراً ولا نفعاً ، فإن أردت هذا به فانطلقي إلى الربّ فاشفعي له ، فانطلقت إلى الرب ، فتقول : يا رب إن فلاناً عمد إليّ من بين كتابك فتعلمني وتلاني ، أفمحرقه أنت بالنار ومعذبه وأنا في جوفه؟ فإن كنت فاعلاً به فامحني من كتابك .
فيقول : ألا أراك غضبت , فتقول : وحق لي أن أغضب ، فيقول : اذهبي فقد وهبته لك ، وشفعتك فيه ، فتجيء سورة الملك فيخرج كاسف البال لم يحل منه شيء فتجيء فتضع فاها على فيه ، فتقول : مرحبا بهذا الفم فربما تلاني ، وتقول : مرحباً بهذا الصدر فربما وعاني ، ومرحباً بهاتين القدمين فربما قامتا بي ، وتؤنسه في قبره مخافة الوحشة عليه .
فلما حدّث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحديث لم يبق صغير ولا كبير ولا حر ولا عبد إلا تعلمها ، وسماها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنجية)( ).
وتذكر كل آية البحث بالموت وأنه حق وصدق وتشير آية السياق له بقوله تعالى [وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ].
الوجه الثاني : يفيد الجمع بين الآيتين حقيقة وهي أن الغم الذي نزل بالمؤمنين لم يكن مانعاً دون قيامهم بالوظائف الجهادية بقتال الذين كفروا والإحتجاج على المنافقين ، وهو من مصاديق العموم في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ) .
أي يجاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون الكفار بالسيف ، ويجاهدون المنافقين باللسان وإقامة الحجة عليهم أما الغلظة فعلى الفريقين , وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : يا أيها النبي أغلظ على الكفار .
الثاني : يا أيها النبي أغلظ على المنافقين .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا أغلظوا على الذين كفروا فان قلت يدخل في الذين آمنوا المنافقون , فهل يصح الأمر للمنافقين بأن يغلظوا على الكفار مع أن الآية تجمع بينهما في وجوب غلظة المؤمنين عليهم .
الجواب نعم يصح لإرادة عموم المسلمين والمسلمات من الخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يدل دليل على التخصيص كما في نكاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم كالتعدد والزيادة في عدد أزواجه بأكثر من أربعة , قال تعالى [ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامرأة مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
وليس لامرأة أن تهب نفسها لرجل إلا بمهر إلا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا تنحصر خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنكاح ونحوه بل تشمل إنفراده بأداء تكاليف لا يقوم بها غيره مثل قيام الليل وصيام الوصال وهو صيام يومين والليلة التي بينهما ، أو ثلاثة أيام والليلتين اللتين بينهما ، وعن ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الوصال قالوا : إنك تواصل؟ قال : لست مثلكم إني أطعم وأسقى) ( ) أي أن الله عز وجل يطعمه ويسقيه .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا أغلظوا على المنافقين ،ليكون من معاني وتقدير هذا الوجه : يا أيها المنافقون أغلظوا بعضكم على بعض ).
ومن إعجاز القرآن عدم وجود نداء خاص للمنافقين ، وهو إخبار بأنهم ليسوا أمة أو طائفة إنما هم جماعة في إنحسار مستمر ونقص متوال ، فيستحضر المنافقون الموت وأنه حتم ويتدبرون في عاقبتهم خاصة وان آيات القرآن جاءت بتخويفهم ووعيدهم ، وهل الغم أو النعاس اللذان تعاقبا على المؤمنين يوم معركة أحد إنذار بأنه سيأتيهم الموت ، الجواب لا ، إنما هم خرجوا للقتال وثبتوا في منازلهم لم يغادروها لأنهم يقرون ويسلمون بقانون وهو [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( ).
الوجه الثالث : من خصال المؤمنين أيام النبوة عشق الشهادة ، وبذل الوسع للفوز بها أو بالنصر والفتح ، وفي التنزيل [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ] ( )أي إما النصر أو القتل في سبيل الله ، ليكون من مصاديق الغم التي أصابتهم في معركة أحد الحرمان من النصر المبين ومن الشهادة ، فان قلت هذا المعنى يتعارض مع مضمون الآية أعلاه .
والجواب ليس من تعارض بلحاظ تعدد الأفراد الطولية للتربص وهو الإنتظار والرصد والترقب ، فاذا لم ينل المسلمون النصر في معركة فأنهم يفوزون به في معركة لاحقة لذا قيل الحرب سجال .
لقد تضمنت آية البحث مواساة للمؤمنين من جهتين :
الأولى : بيان حقيقة وهي أن الذين أستشهدوا في معركة أحد فارقوا عند حلول آجالهم , وأن القتل مكتوب عليهم , مما يدل بالدلالة التضمنية على ثبوت الثواب العظيم لهم بفضل من الله عز وجل .
الثانية : عاد الصحابة من معركة أحد لأن الله عز وجل كتب لهم السلامة والنجاة من القتل مما يستلزم الشكر لله عز وجل بالتقيد بسنن التقوى فأوان القتل أو الموت واحد ، ولكن السبب والموضوع متباين ، فاذا جاء الأجل غادرت روح الإنسان بدنه سواء كان في ساحة المعركة .
ومن معاني الجمع بين الآيتين تجلي معاني الإبتلاء والإختيار في الحياة الدنيا ، قال تعالى [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا] ( )لقد كان موضع معركة أحد فيصلاً بين الحق والباطل , ومائزاً بين الهدى والكفر .
فأما أن يكون الإنسان مومناً وتنزل عليه الأمنة والنعاس دفعة ، وأما أن يكون كافراً فيأتيه كابوس هو ثقل وطأة الرعب الذي ينفذ إلى قلبه ليذكره طوعاً أو كرهاً بالخوف والحزن والندامة يوم القيامة .
ومن الإعجاز في المقام تعدد نزول النعم على المؤمنين ، وتعدد صنوف الأذى والإنذار على الكافرين .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين (فأثابكم الله غماً بغم ليبتلي ما في صدوركم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : بيان قانون كلي وهو لا سلطان على القلوب إلا لله عز وجل ، عن رضوان بن سمعان قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الميزان بيد الرحمن . يرفع أقواماً ويضع آخرين إلى يوم القيامة ، وقلب ابن آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن . إذا شاء أقامه ، وإذا شاء أزاغه ، وكان يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) ( ).
فان قلت أن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره , وإن الله عز وجل أثاب المؤمنين بالغم ، وقد يأتي الغم بالأسباب والهموم أو بالعلاج والتقنية الحديثة ، وهذا صحيح , ولكن الغم الذي جاء من عند الله يتصف بأنه ثواب مما يدل بالدلالة التضمنية على خلوه من الآيات في خلق الإنسان بأن تأتي الآيات بمشيئة الله خلاف النواميس كما في النار التي هي علة الإحراق ولكنها صارت [بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ) بمشيئة وأمر الله عز وجل لها.
وهل تدل الآية السابقة على أن الله عز وجل أمر الغم أن يتوجه إلى المؤمنين يوم أحد وأن يكون ثواباً , الجواب نعم .
ويمكن تأسيس قانون وهو أن الغم مذموم ذاتاً إلا أن تأتي من عند الله للمؤمن فيكون ثواباً وأجراً ورحمة ، وهل يأتي الغم من عند الله للمؤمن ولكنه لا يحمل صفة الأجر والثواب ، الجواب لا، لتبين الآية السابقة قانوناً لنسخ الشيء بذاته مع التباين في السنخية والأثر وإن إتحد الاسم والموضوع .
لقد عطفت هذه الآية على الآية السابقة التي تتضمن البيان من وجوه :
الأول : توثيق فرار المؤمنين من ميدان المعركة لبيان قانون وهو أن نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإظهار رسالته ، وقيام دولة الإسلام إنما كان بفضل ومدد من الله عز وجل وهو من أسرار إبتداء الآية السابقة ومسألة الصعود والفرار بصيغة العموم المجموعي وكذا بالنسبة لعموم إلتفاتهم إلى الوراء فلم تقل الآية ( إذ تصعدون ولا تلو طائفة منكم على أحد ) وقد ذكرت آية البحث لفظ طائفة مرتين .
وتبين هذه الآيات قانوناً وهو أنه ليس لأحد من الناس منّة في قيام دولة الإسلام، وأن الله عز وجل هو الذي ذبّ عن النبي والمؤمنين، وهو الذي أنزل الملائكة , وهو من أسرار ذكر الآية السابقة لفرار المؤمنين بصيغة العموم الإستغراقي[إِذْ تُصْعِدُونَ] وتوكيد وبيان ماهية هذا الفرار بأنهم لم يلتفتوا على أحد مع أن المؤمنين لم يفروا كلهم وأن ثلة منهم بقت تقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ومن الإعجاز في الآية السابقة أنه لم يقل أحد من الصحابة بعد نزولها أنه لم يفر فكيف جاءت الآية بصيغة العموم الإستغراقي.
لقد أراد الله عز وجل الإخبار عن عظيم فضله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس في إقامة صرح الإسلام في نصر المؤمنين في بدر، ودفع الهزيمة عنهم في معركة أحد ليمنع من وقوعهم أسرى وإفتتانهم، وينجيهم من القتل .
ولقد قُتل رجال من المشركين , ونسب القرآن هذا القتل إلى الله سبحانه إذ قال[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا ..]( )، فان قلت هناك مسألتان:
الأولى : موضوع الآية أعلاه مردد بين معركة بدر وأحد.
الثانية : تبين الآية أعلاه الترديد بين القطع والكبت والمراد من القطع هو القتل، والكبت هو الحزن والأسى وإنعدام مصداق الأمل.
والجواب لا تعارض بين كل من الأمرين في المسألتين أعلاه فلا يمنع الترديد في الآية من تحقق مصداق كل منهما وفي معركة بدر ومعركة أحد .
واللام في (ليقطع) لام الغاية ويتعلق موضوعها بنزول الملائكة في معركة أحد وتحقق النصر ليكون نزول الملائكة وتحقق النصر مجتمعين ومتفرقين سبباً وعلة لقتل صناديد من الكفار وبعث الخيبة واليأس في نفوسهم، فان قلت لا تكون الخيبة إلا بعد الأمل، ويكون اليأس من غير أمل .
والجواب حتى اليأس قد يتعقب الأمل، ولقد كان كفار قريش يأملون النصر في معركة أحد ويمنون أنفسهم به ، فاخبر الله عز وجل أنه هو الذي ينتقم منهم.
وجاءت هذه الآيات ببيان كيفية إنتقام الله من الذين كفروا، وهو من الشواهد على رحمة الله بالمؤمنين ولطفه بهم، ولما كان الله عز وجل هو الذي يهلك طرفاً وطائفة من جيش المشركين فلابد أن تكون المعركة سريعة ولا تستمر كثيراً لمصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
والأصل وفق قواعد القتال أن إنهزام أفراد الجيش القليل أمام الجيش الكثير سبب لمواصلة الأخير القتال طمعاً بالنصر التام خاصة مع الإطمئنان بأن هذا الإنهزام ليس مكيدة أو إستدراجاً، وليس من مدد للجيش القليل المنسحب .
وقد أخبرت الآية السابقة عن تحقق فرار المؤمنين بقوله تعالى[إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] لبيان حقيقة وهي تحقق الفرار من المسلمين وهم القلة في العدد والعدة يوم أحد، وعجز وتخاذل الذين كفروا عن اللحاق بهم لإمتلاء قلوبهم بالرعب.
وهذا المعنى من أسرار مجئ الآية أعلاه بصيغة العموم مع أن المؤمنين لم ينهزموا جميعاً، وقد كان الإمام علي عليه السلام يقاتل مع حمله اللواء الذي هو أمارة على وجودهم في الميدان، ومعه نفر من الصحابة يقاتلون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد ذكرت الآية السابقة أمرين :
أولاً : صعود وفرار المؤمنين يوم أحد بعد تقصير الرماة ونزولهم لجمع الغنائم والإستحواذ على المكاسب حينما رأوا مقدمات هزيمة المشركين وتهيأهم للفرار خاصة وأن مؤن المشركين كانت كثيرة ومتنوعة وقيل كان معهم ثلاثة آلاف بعير ومائتا فرس وسبعمائة درع .
ثانياً : دعوة الرسول للمؤمنين بالرجوع إلى الميدان ، كما ورد في التنزيل [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ].
وظاهر الآية أن المؤمنين كلهم إنهزموا من وسط المعركة ولكن التدبر في الآيات يدل على بقاء نفر من أهل البيت والصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان ، ومنها قوله تعالى في الآية قبل السابقة (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) فهناك تباين بين الفرار ونسبة الصرف والإنصراف للمؤمنين إلا أن يقال أن هذا الإنصراف بعد دعوة الرسول وعودة الفارين ، وهو صحيح ولكنه يشمل الذين بقوا يقاتلون في الميدان والذي تدل عليه السنة النبوية والأخبار المتواترة التي ترويها طبقة عن طبقة يمتنع تواطؤهم على الكذب .
ومنها قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] بلحاظ وجود عدد من المؤمنين حول النبي يسمعون دعوته ، ويكونون أسوة للآخرين للرجوع إلى ميدان المعركة .
ومنها التفصيل الوارد في هذه الآية بتقسيم المسلمين إلى طائفتين وأن الأمنة والنعاس جاءا إلى طائفة منهما .
وجاءت الأمنة جزاء للذين ثبتوا في الميدان ولم يتركوا مواضعهم كما يدل عليه إخبار القرآن عن قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجعل المؤمنين في مواضعهم بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( )ولا بد من إمتثال لأمر الله ورسوله ، ووجود أمة وأفراد لم يتركوا مقاعدهم في المعركة إلى أن إنتهت وإنطوت صفحاتها لتبقى المواعظ المستقرأة منها إلى يوم القيامة .
لقد حدثت وقائع معركة أحد في يوم واحد هو الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة ووافقت شهر آذار من سنة 625 ميلادية .
ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسنة الدفاعية أمور :
الأول : قصر مدة معركة أحد ، إذ بدأت ضحى يوم السبت وإنتهت عصر ذات اليوم فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة المغرب في المدينة مع إحتساب قطعه للمسافة بين جبل أحد والمسجد النبوي وهي نحو خمسة كيلو متر ونصف الكيلو ، قطعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على الإبل ومشياً ، وهم مثقلون بالجراح البليغة فلا يمكن أن تقطع هذه المسافة بأقل من ساعة من الزمان إلا أن يقال باحتمال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى صلاة المغرب متأخراً عن بداية وقتها بعد غروب الشمس .
ولو دار الأمر بين إحتمال صلاته يومئذ في أول الوقت أو صلاها متأخراً قليلاً أو كثيراً , فالأصل هو الأول لأصالة البراءة عن الزائد ولكبرى كلية وهي حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أداء الفريضة في أول الوقت خاصة في يوم معركة أحد لما فيها من الشكر لله عز وجل وبعث السكينة في النفوس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
وهل طمأنينة القلوب من مصاديق قوله تعالى [وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ] الجواب بينهما عموم وخصوص مطلق إذ تتغشى الطمأنينة المؤمنين , أما إبتلاء ما في الصدور الذي تذكره آية البحث فهو عام يشمل المنافقين الذين حرموا أنفسهم من هذا النعمة بإنشغالهم بالجدال وتفضيل أنفسهم .
الثاني : يدل قصر مدة معركة أحد بالدلالة الإلتزامية على تسليم كفار قريش بالعجز عن قهر الإسلام فمع إستعداد وتهيئ كفار قريش لهذه المعركة نحو أكثر من سنة، وتسخيرهم لأموال تجارة الشام لها، ومنعهم حتى النساء من النوح والبكاء على قتلى بدر خشية الوهن وضعف العزائم فانهم لم يستمروا بمزاولة القتال ليوم واحد .
ومن الآيات أنهم عادوا إلى مكة والأسى يتغشاهم , والهم والحزن يملأ صدورهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ].
الثالث : في صباح التالي لمعركة أحد وهو يوم الأحد السادس عشر من شهر شوال أذّن مؤذن رسول الله في طلب العدو، وعهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يخرج معه أحد إلا من شهد معركة أحد، أي أنه لم يأذن للذين رجعوا وسط الطريق ولا القاعدين بالخروج معه، وفيه بيان لحسن التوكل على الله، ورجاء رفده وفضله، والكفاية بمدده سبحانه , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، فأستأذن جابر بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج معهم فأذن له .
( فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَبِي كَانَ خَلّفَنِي عَلَى أَخَوَاتٍ لِي سَبْعٍ وَقَالَ يَا بُنَيّ إنّهُ لَا يَنْبَغِي لِي وَلَا لَك أَنْ نَتْرُكَ هَؤُلَاءِ أُوثِرُكَ بِالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَلَى نَفْسِي ، فَتَخَلّفْ عَلَى أَخَوَاتِك ، فَتَخَلّفْت عَلَيْهِنّ فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَخَرَجَ مَعَهُ وَإِنّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مُرْهِبًا لِلْعَدُوّ وَلِيُبَلّغْهُمْ أَنّهُ خَرَجَ فِي طَلَبِهِمْ لِيَظُنّوا بِهِ قُوّةً وَأَنّ الّذِي أَصَابَهُمْ لَمْ يُوهِنْهُمْ عَنْ عَدُوّهِمْ) ( ).
فلبى المسلمون نداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخرجوا مع ما فيهم من الجراحات والكلوم لبعث الرهبة والفزع في قلوب العدو، ولتأكيد حقيقة وهي أن المؤمنين لم ينهزموا في معركة أحد وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( )، وكأن جيش الذين كفروا قد أظهروا الندم على سرعة عودتهم إلى مكة وأخذوا يتناجون بالعودة إلى المدينة، فلما بلغهم خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إمتلأت نفوسهم بالخوف، وواصلوا السير إلى مكة.
ووصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد، وهي على بعد ثمانية أميال من المدينة فأقام فيها الإثنين، والثلاثاء، والأربعاء ثم رجع إلى المدينة، وألقى المؤمنون في خروجهم القبض على معاوية بن المغيرة بن العاص بن أمية، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بضرب عنقه صبراً، وهو والد عائشة أم عبد الملك بن مروان.
وذكر أن عثمان بن عفان إستأمن له على ألا يقيم بعد ثلاث ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدها زيد بن حارثة وعمار بن ياسر وقال : ستجدانه في مكان كذا وكذا فاقتلاه ، فوجداه في ذات الموضع فقتلاه ( ).
الوجه الثاني : تتضمن الآية الإخبار عن دبيب الغم إلى نفوس المؤمنين في ساحة معركة أحد ، ومن الإعجاز في هذه الآية وآية السياق , وهي الآية السابقة أمور:
الأول : إصابة المؤمنين بالغم , وهو كيفية نفسانية لا يعلم بها إلا الله عز وجل ، وأخبرت الآية عن صبغته العامة بين المسلمين في الميدان .
ولو أصيب إثنان بمرتبة متساوية من الغم أحدهما جاءه الغم بمفرده , ويكون من حوله في حال غبطة ورضا وسلامة من الغم والهم ، والآخر إستولى عليه الغم وعلى من معه وحوله من الناس لوحدة موضوع وسبب الغم الذي يشملهم جميعاً ، فهل من فرق بين الأثنين .
الجواب نعم ، إذ يكون غم الثاني أكثر وأبين وأطول في مدته من الأول ، فكيف وقد غلب الغم على المؤمنين يوم معركة أحد لذا تفضل الله عز وجل بغم ناسخ ثواباً , ويحتمل الثواب بالغم وجوهاً :
أولاً : الغم اللاحق هو الثواب .
ثانياً : الغم السابق والأول هو الثواب .
ثالثاً : يأتي الثواب على الغم السابق واللاحق والجامع المشترك بينهما .
والصحيح هو الأخير ، وهو من أسرار التداخل الموضوعي بين المتعدد من الغم مع إمكان الفصل والتمييز بينها .
الثاني : الوقاية النوعية العامة للمؤمنين من الحزن والأسى مع شدة ما نزل بهم يوم أحد، وقد ورد في يعقوب النبي وحزنه على يوسف قوله تعالى[وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ]( )، مع أن يوسف عليه السلام حي يرزق، أما المؤمنون فقد فقدوا يوم أحد سبعين شهيداً وأصابتهم الجراحات البليغة مما يترشح عنه إنطباقاً وقهراً الحزن والحسرة , ولكن الله عز وجل وقاهم منه، وهو مصداق لتفضيل المسلمين على أتباع الأنبياء السابقين بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وتحتمل الآية السابقة وجوهاً :
أولاً : أمر الله للحزن بعدم الإقتراب من المؤمنين، أو لا أقل عدم النفاذ إلى نفوسهم.
ثانياً : صيرورة المؤمنين في حال منعة ووقاية من الحزن.
ثالثاً : إرادة التعدد في الأمر والأثر , فيتوجه الأمر من عند الله للحزن بالإمتناع عن الوصول إلى المؤمنين أو النفاذ إلى صدورهم وتغشيهم برحمة الله بالحصانة والعصمة من الحزن يوم أحد.
والصحيح هو الأخير، وإن كانت الآية تخبر عن الثاني بقوله تعالى[لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا..] فكما أن الغم مستجيب لله عز وجل فكذا الحزن.
الثالث : دعوة أجيال المسلمين للإحتراز والتوقي من الحزن بسلاح الدعاء، واللجوء إلى الله عز وجل فهو الذي يصرفه وإن تعددت أسبابه وجاءت على نحو دفعي، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
وهل دفع الحزن عن المؤمنين مدد لهم , الجواب نعم، والآية زاجر للناس عن لومهم لماذا لم يظهروا الحزن على ما أصابهم.
وقد روي أن سليمان عليه السلام حزن على ابن له مات حزناً شديداً، فجاءه ملك بهيئة رجل متخاصماً مع آخر، فقال: إن هذا مشى في زرعي واتخذه طريقاً، فقال له سليمان: ما حملك على هذا الفعل، فقال: لأنه زرع في طريق الناس وممرهم، ففطن سليمان بأن الموت طريق لابد لكل إنسان أن يسلكه ولا راد لأمر الله عز وجل، فتعزى.
وهل يمكن القول أن تفضل الله عز وجل بسلامة وحصانة المؤمنين من الحزن في معركة أحد بعد أن أصيبوا فيها لأن الإسلام في بداياته، ولأن عدد المسلمين قليل، وللتخفيف عنهم والإستعداد للمعارك اللاحقة، وللخشية من صدود الناس عن دخول الإسلام، اما وقد قويت شوكة المؤمنين في السنوات والمعارك اللاحقة وسما صرح دولة الإسلام فلا ضير من إظهارهم الحزن والأسى.
الجواب لا دليل على هذا المعنى، إنما تفيد الآية السابقة وآية البحث حث المسلمين على إجتناب الحزن والتواصي والمناجاة فيما بينهم بالسلامة والتنزه منه، وجاءت الآيات باللجوء إلى الله والتسليم بقضائه والتحلي بالصبر عند طرو المصيبة الخاصة والعامة لقوله تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
ومن أسرار إنصراف المؤمنين عن الحزن تذوق حلاوة الجهاد في سبيل الله، والنجاة من الإنصات لصوت رأس النفاق الذي رجع بثلث الجيش من وسط الطريق.
لقد أدرك المؤمنون أنهم فازوا بطاعة الله ورسوله بالخروج إلى معركة أحد فأنستهم هذه النعمة الحزن والأسى، وإنقطعوا إلى شكر الله وتعاهد الصلاة، لذا لم يتخلفوا عندما صلى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وفي أدائها تأكيد لسلامتهم من الحزن والندامة .
لقد إنشغل المسلمون بالمعجزات التي تجلت في معركة أحد فلم يلتفتوا إلى أسباب الحزن والأسى، ويمكن تقسيم هذه المعجزات تقسيماً إستقرائياً إلى وجوه:
الأول : المعجزات الخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإجتهاده في القتال وسط الميدان، وخروجه من المعركة سالماً من القتل، وهل نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] من معجزاته في المقام، الجواب نعم.
الثاني : المعجزات العامة لجيش الإسلام ومنها إبتداء المعركة بحسهم وقتلهم للذين كفروا مع أن الذين كفروا هم الذين زحفوا إلى المدينة للقتال وهم الذين بدأوه.
الثالث : المعجزات التي تجلت على جيش الذين كفروا من الإرباك والرعب والفزع والخصومة والرغبة في الإنسحاب من المعركة مع أن الجولة كانت لهم.
الرابع : المعجزات الفردية والخاصة، التي تجلت على الأفراد في ميدان المعركة وهي على قسمين:
الأول : ما ظهر من معجزات المدد والتعضيد والتوثيق وأسباب الرضا والرجاء على الأفراد من المهاجرين والأنصار.
الثاني : حال اليأس والخيبة التي ظهرت على أفراد جيش المشركين، قال تعالى[تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى]( ).
وهناك نوع تضاد بين الخوف والصبر، فيدل إخبار آية السياق عن عصمة المؤمنين من الخوف يوم معركة أحد بالدلالة التضمنية على إرتقائهم إلى مراتب سامية من الصبر، وليكون الغم الذي رزقهم الله يومئذ من مصاديق هذا الصبر .
وجاء الغم للمؤمنين في المقام من جهات :
الأولى : التباين الكبير بين جيش المسلمين وجيش الذين كفروا قلة وكثرة من جهة العدد .
الثانية :كثرة أسلحة ورواحل الذين كفروا وظهور النقص فيها عند المسلمين، وكان هذا الأمر من أسباب إشاعة القتل بين صفوف المسلمين، إذ جاء الذين كفروا معهم بمائتي فرس لم يركبوها في الطريق بين مكة والمدينة لتكون مهيأة لدخول المعركة، ومنها الخيل التي أغارت على المسلمين من الخلف برئاسة خالد بن الوليد وعِكرمة بن أبي جهل , وقتلوا من بقي من الرماة على الجبل، وجاءوا إلى المسلمين من خلفهم يقتلون بهم لولا فضل الله ومنه دعوة الرسول لهم التي تدل بالدلالة التضمنية على توقف القتل بالمسلمين .
الثالثة : إنسحاب ورجوع ثلث جيش المسلمين في الطريق مع حاجة المسلمين لهم مجتمعين ومتفرقين ، فالقائد والجيش يحتاجون الفرد الواحد من أصحابهم شارك في القتال أو إكتفى باكثار السواد .
الرابعة : غزو وهجوم الذين كفروا على المسلمين ، مع أن رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمنفعتهم في الدنيا ، ونجاتهم في الآخرة .
الوجه الثالث : لقد ذكرت آية البحث في أولها أموراً :
الأول : تأكيد مجئ الغم من عند الله للمسلمين ثواباً لقوله تعالى في الآية قبل السابقة [َأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ] ( ).
الثاني : تعقب نعمتان لآية الغم وهما :
الأولى : نعمة الأمنة .
الثانية : نعمة النعاس .
الثالثة : تغشي الأمنة والنعاس لطائفة من المسلمين يوم معركة أحد ، وليس جميع من حضر معركة أحد من المسلمين ثم جاءت الآية التالية لتذكر الذين تولوا وفروا عن معركة أحد .
وهو من إعجاز نظم إعجاز نظم القرآن بالتكامل الموضوعي والحكمي في آياته وكل آية منها تؤازر الأخرى في بيان المعنى ووضوح الحكم بما يمنع من اللبس والترديد.

من إعجاز الآية
تبدأ آية البحث بحرف العطف [ثم] لإفادة التراخي والفترة والتأخير بين مضامين آية البحث وبين ما سبقها ، ويحتمل العطف وجوهاً :
أولاً : فأثابكم غماً بغم ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً).
ثانياً : لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً ).
فبعد أن وقى الله المسلمين من الحزن والأسى والحسرة على عدم جلب الغنائم ألقى عليهم النعاس أمنة ، فان قلت هناك تباين بين فوات الغنائم وسقوط القتلى من المؤمنين ، فإذا سلم المسلمون من الحزن على الغنائم وشكروا الله عز وجل على إنسحاب الذين كفروا خائبين أذلاء ، فان خسارة سبعين من أهل البيت والصحابة أمر عظيم لابد وأن يحزن ويألم النبي والمسلمون على فراقهم ، وقد وقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حمزة مقتولاً ونشج في بكائه .
ثالثاً : ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم لبيان إتصال وتعدد النعم التي تكون برزخاً دون إصابة المؤمنين بالحزن والحسرة ، فبعد الثواب بالغم جاء الأمن والنعاس مترادفين ومجتمعين , فأخبر الله عز وجل في الآية السابقة عن كون الغم الذي حلّ بالمؤمنين إنما هو ثواب ورحمة من عند الله , ثم بينت آية البحث عدم إستمراره وإستدامته إلى آخر نهار من يوم النصف من شهر شوال أوان معركة أحد بل جاء بعده النعاس أمناً ليحل محله وينسخه ، قال تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا] ( ).
وجاء لفظ (ثم) في أول آية البحث للمنع من القول بأن الغم مرّ سريعاً على المؤمنين وأنه لم يبق في نفوسهم وبينهم إلا آناً ما ، إنما بقي الغم يتغشاهم ليمحو الغم الذي لحقهم بسبب الخسارة والحرمان من النصر المبين والغنائم .
حتى إذا ما أدركوا أن هذا الغم خال من الأذى وهو سبب للرجوع إلى ميدان المعركة والإحاطة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عنه وأن الأولى السعي والجد والمثابرة وتحقيق الغايات الحميدة والجهاد في سبيل الله تفضل الله وأبدله بالنعاس والأمن دفعة واحدة .
ترى لماذا لم يرزق الله عز وجل المؤمنين يوم أحد النعاس أمنة مرة واحدة من غير المرور بحال الغم ثواباً , والجواب من وجوه :
الأول : بيان سعة فضل الله على المؤمنين وكثرة سبل سلامتهم من الضرر .
الثاني : تعدد صيغ نجاة المؤمنين من الحزن من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
لقد ظن الذين كفروا بأنهم يجتثون مقامات العز والرفعة التي نالها المؤمنون بعد معركة بدر ، وسعوا إلى إدخال الحزن إلى قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقلوب أسر وعوائل الذين آمنوا سواء في المدينة المنورة أو مكة .
الثالث : لقد كان الغم الذي نزل بساحة الصحابة يوم أحد متعدداً في ذاته وموضوعه فأراد الله عز وجل تثبيته في التنزيل وفي أذهان الصحابة وجعلهم يلتفتون إليه ويستحضرونه عند نزول آية البحث وتلاوتهم والمؤمنون والمؤمنات لها ، لذا إبتدأت آية البحث بحرف العطف (ثم) الذي يفيد التراخي ، وفيه نكتة وهي إخبار الآية السابقة بأن الغم سلامة من الحزن والأسى ، بينما جاءت آية البحث بنزول الأمن والنعاس على المؤمنين وهم في حال السلامة من الحزن والأسى ، ليكون لفظ (أمنة ) أي أمنة للمؤمنين من العدو وشروره ولا مانع من كونه أمنة من الحزن أيضاً لتكون النجاة من الحزن بأمور :
الأول : الثواب بالغم .
الثاني : الأمنة من عند الله .
الثالث : النعاس من فضل الله .
وجاءت الآيات السابقة بصيغة العموم الإستغراقي الشامل للمؤمنين يوم أحد بينما ورد نزول النعاس على خصوص طائفة من المؤمنين وليس الجميع فهل هو مثل التقسيم الوارد في قوله تعالى قبل آيتين [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ] ( )وأن النعاس نزل على خصوص الذين يريدون الدار الآخرة , الجواب لا، لأن الآية أعلاه وردت بصيغة الخطاب للمؤمنين ، بينما ذكرت آية البحث طائفة أولوا عنايتهم وإهتمامهم بأنفسهم وسبل نجاتهم .
ولما كان الهم والظن بقوله تعالى [يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ]( )، كيفية نفسانية تفضل الله عز وجل وبيّن ما يبطن المنافقون ، وما يطرأ على قلوب ضعيفي الإيمان عند الشدائد ولمعان السيوف وطرو أسباب الخوف والفزع .
وتكرر في الآية لفظ [يقولون] والخطاب من عند الله سبحانه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قل] لبيان صيغ الحوار والإحتجاج بينه وبين المسلمين بالبيان والبرهان والترغيب بالشهادة وإرادة الثواب .
وذكرت آية البحث نزول الأمنة والنعاس من غير أن تذكر الذي أنزله بقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ]وفيه مسائل :
الأولى : بيان قانون كلي وهو إختصاص الله بالتنزيل .
الثانية : تسليم المسلمين بأن التنزيل من سنن التوحيد .
الثالثة : الفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) يعود لله عز وجل .
الرابعة : إرادة العطف الموضوعي لهذه الآية على الآية السابقة وخاتمتها التي تذكر الله عز وجل بالاسم بقوله تعالى [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] .
فان قلت وردت الآية أعلاه بصيغة الجملة الخبرية الإسمية لبيان قانون ، وإبتدأت هذه الآية بموضوع متبدل ومتغير وجملة فعلية [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا] .
والجواب إنه من أسرار تقسيم السورة القرآنية إلى آيات ، وكل آية مستقلة بذاتها , والعطف بين هذه الآية والآية السابقة من وجوه :
أولاً : إتحاد الموضوع , وتتعلق كل من الآيتين بخصوص معركة أحد .
ثانياً : نسبة الفعل في الآيتين إلى الله عز وجل .
ثالثاً : بيان تعدد وجوه الفضل الإلهي على المسلمين بلحاظ الآية السابقة من وجوه :
الأول : تفضل الله عز وجل بقطع فرار المؤمنين من ميدان معركة أحد بنداء ودعوة الرسول لهم بلحاظ أنها بوحي من عند الله , وتقدير الآية السابقة : والرسول يدعوكم بأمر الله ) .
الثاني : دعوة ونداء الرسول محمد صلى الله عليه لأصحابه الفارين ، إذ أن هذه الدعوة فضل ونعمة بذاتها إلى جانب وظائفها في قطع طريق الفرار عن المؤمنين في معركة أحد ومعارك الإسلام اللاحقة ، وهو من مصاديق الإعجاز في تثبيت دعوة الرسول في القرآن .
وهل يمكن إستقراء قانون في المقام ( حاجة السنة النبوية للقرآن ) الجواب نعم ، فمن أجل أن يعمل المسلمون بالسنة النبوية ورد ذكرها في المقام مع الدلالة على أنها من عند الله بدليل قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
وتقدير الآية أعلاه : ما آتاكم الرسول من عند الله فخذوه وما نهاكم عنه بأمر الله فانتهوا .
ومن النعم في دعوة الرسول والدلالة على عدم إنحصار موضوعها بجذب الفارين من المؤمنين إلى ميدان القتال عطف ما بعدها بالفاء مما يدل على ترتبه على الدعوة بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ].
الثالث : مجئ الثواب للمؤمنين في ميدان المعركة بقوله تعالى [فَأَثَابَكُمْ ] كما تقدم بيانه في الجزء السابق .
الرابع : دفع الحزن عن المؤمنين في أشد الأحوال التي خيم فيها الحزن على النفوس طوعاً وقهراً وإنطباقاً ، وكأنه والمصيبة من العلة والمعلول ، إذ يترشح الحزن عن المصيبة ، فجاءت الآية السابقة وهذه الآية بقهر ذات الحزن والفصل بينه وبين المصيبة لتأتي مجردة من غير أن يتعقبها الحزن بالإضافة إلى حقيقة تكشفها الآية السابقة وهي مجئ الثواب ساعة الخسارة فلا يبقى سبب وعذر وعلة لمجئ وتراكم الحزن على النفوس بلحاظ أن الثواب الذي يأتي من عند الله ويتجلى بالغم وتوثيقه في القرآن أعظم كثيراً في النفع والأثر من خسارة الأموال والغنائم التي حرموا منها يوم معركة أحد .
الخامس : إختتام آية البحث بقوله تعالى [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]لبيان أن الله عز وجل لطيف بعباده , وأنه سبحانه يخلف على المؤمنين بإصلاح أعمالهم , ورشادهم .
السادس : إبتداء آية البحث بنزول نعمة من عند الله ولا زال المؤمنون في ميدان معركة أحد ، ليكون من فضل الله عز وجل توالي البشارات والنعم على المؤمنين وهم في ميادين المعركة مع بيان الحال , وتقبيح فعل المنافقين وذم الكافرين .
لقد إبتدأت آية البحث بالعطف على الآية السابقة بخصوص صيغة الخطاب ، وإرادة الصحابة في معركة أحد بأن أنزل الله عز وجل عليهم أمنة نعاساً ، ترى ما هي الصلة بين نزول القرآن على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين نزول الأمنة النعاس على طائفة من الصحابة يوم معركة أحد .
الجواب إنها نسبة الأصل والفرع ، فهذا النعاس فرع نزول القرآن والتصديق به ، لبيان قانون وهو أن الإيمان بالله ورسله يفتح على الناس أبواباً من السماء ، وتنزل عليهم من مصاديق الخير والفضل ما لم يطرأ على التصور الذهني ، فبنزول آية البحث أدرك الناس ولأول مرة أموراً :
الأول : نزول النعاس من السماء على أفراد مخصوصين بشرائط معينة ملاكها التقوى والإخلاص في ساعة الشدة والضراء .
الثاني : إتصاف النعاس بأنه أمنة ومقدمة للأمان فهو بذاته أمن ، ويكون بشارة ومقدمة الأمان .
الثالث : نزول النعاس بعد الثواب بالغم , والنسبة بين الغم والنعاس من جهة المتعلق هي العموم والخصوص المطلق ، فالذين تغشاهم الغم أعم وأكثر , وفيه مسائل :
الأولى : تعقب مجئ الغم بعد دعوة ونداء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه .
الثانية : بيان الآية السابقة لعلة مجئ الغم وصيرورته ثواباً ليكون علة لدفع الحزن عن عموم جيش الإسلام في معركة أحد لقوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ] ( ).
الثالثة : بيان الآية السابقة لقانون وهو شكر الله عز وجل للمجاهدين بدفع الحزن عنهم ، وتحتمل الآية وجوهاً :
أولاً : فأثابكم غماً بغم لكيلا تحزنوا وأنتم في ساحة المعركة .
ثانياً : فأثابكم غماً بغم لكيلا تحزنوا عند الرجوع إلى المدينة وفقد الشهداء والحرمان من الغنائم .
ثالثاً : لكيلا تحزنوا عند إستحضار وقائع معركة بدر والنصر فيها والمقارنة بينها وبين معركة أحد ونتائجها .
رابعاً : لكيلا تحزنوا ما دام الغم مصاحباً لكم ، فاذا غادركم هو والنعاس الذي تذكره آية البحث تجدد الحزن عندكم ولا يضر حينئذ لأنكم خارج المعركة ، وأسباب القتال فيها ، وبأستثناء الوجه رابعاً أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق آية البحث .
فمن إعجاز آية البحث أن النعاس نزل على المؤمنين وهم في سلامة وحصن من الحزن والكآبة ، وهو من الإعجاز في نظم هذه الآيات لأن الذي يستحوذ عليه الحزن الشديد يبتعد عن عينه الكرى ، ويقال ران الكرى في عينيه : إذا غلبه النعاس .
وورد لفظ ( طائفة ) مرتين في آية البحث , ومن إعجاز القرآن ورود هذا اللفظ عشرين مرة في القرآن ، وتكرر في أربع آيات منه ( )
الرابع : إنحصار نعمة النعاس في نزوله على طائفة معينة من الصحابة يوم معركة أحد .
ويبعث إختصاص النعاس بطائفة من المسلمين دون غيرهم الشوق في نفس التالي للآية والمستمع .
ذكرت آية البحث لفظ (طائفة ) مرتين ، وكل لفظ منها يدل على طائفة مخصوصة غير الأخرى ، وهو من أسرار صيغة التنكير في الآية .
وذكرت الآية الطائفة الأولى بقيد النسبة والإنتماء للمسلمين بقوله تعالى [أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ]أما الطائفة الأخرى فلم تذكر الآية نسبتها للمسلمين بل ذكرتها على نحو الإطلاق [وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ]ويحتمل وجوهاً :
الأول : وطائفة منكم قد أهمتهم أنفسهم بلحاظ نظم الآية .
الثاني : إرادة المسلمين والجامع المشترك بينهم , فالطائفة الأخرى الذين همتهم أنفسهم ممن نطقوا بالشهادتين .
الثالث : المراد طائفة أخرى من غير المؤمنين ، وهم المنافقون .
الرابع : إرادة العنوان البرزخ بين الوجهين أعلاه .
الخامس : لقد توجه الخطاب في الآية السابقة للذين حضروا معركة أحد ، ودعوة الرسول لمن فرّ منهم من ميدان المعركة , أما الطائفة التي تذكرها آية البحث بقوله تعالى [وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ] فليسوا ممن حضر معركة أحد إنما إنخزلوا وسط الطريق .
والمختار هو الثاني والخامس أعلاه .
وفي الآية نكتة وهي إرادة عطف لفظ طائفة على شبهه ، ويمكن تسميته إصطلاحاً (عطف النظائر ) وتدل عليه القرآئن ويكون تقدير آية البحث ( وطائفة منكم قد أهمتهم أنفسهم ) لبيان قانون وهو أن هّم المسلم نفسه خطأ وقصور ولكنه لا يخرجه من الإسلام .
لذا فلم تقف الآية عند ذمهم بالإخبار عن همهم بأنفسهم بل بينت سوء ظنهم بالله وإصرارهم على الجدال والمغالطة .
وتحتمل النسبة بين همهم بأنفسهم وبين سوء ظنهم بالله ، وإرادتهم الإشتراك بقرار الحرب والسلم وجوهاً :
الأول : الهم والإنشغال بالنفس مقدمة لسوء الظن بالله .
الثاني : كل من الهم والإنشغال بالنفس وسوء الظن بالله والمغالطة بعرض واحد وكل خصلة منها مستقلة في قبحها وضررها .
الثالث : إرادة إتحاد السنخية عند المنافق بين سوء السريرة وقبيح القول ، فصحيح أنه يخفي الكفر ، ولكن أمارته تظهر على لسانه وفي فعله ، قال تعالى [وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ]( ) ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة .
ومن الإعجاز في آية البحث إبتداؤها ببضع كلمات تتضمن ذكر نعمة نازلة على المسلمين في ميدان المعركة ثم جاءت أكثر كلمات الآية في ذم المنافقين والإحتجاج عليهم والأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجدالهم وإقامة الحجة عليهم , إذ تكرر لفظ (قل )في الآية مرتين ، وكل منهما في بيان عظيم قدرة الله وسعة سلطانه .
وتبين الآية حقيقة ونعمة من عند الله من جهات :
الأولى : تأتي بعد النعمة المتحدة النعم المتعددة , فبعد الغم يأتي الأمن والنعاس .
الثانية : تجلي نعمة النعاس بعد الغم ، وفيه طمأنينة ونوع سكينة.
الثالثة : دلالة نعمة الأمنة في آية البحث على إنتهاء معركة أحد والشدة والأذى الذي لحق المسلمين يومئذ ، فبعد نزول الملائكة للقتال ونصرة المؤمنين نزل الأمن والحفظ والسلامة ، لبيان حقيقة وهي أن أوان وكيفية إنتهاء معركة أحد كانت من عند الله عز وجل وبأمر نازل منه سبحانه .
وقد تقدمت تسمية آية البحث بآية [ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ ] وأنه لم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في آية البحث .
بحث لغوي
من خصائص آية البحث أنها تجمع حروف المعجم كلها , كما تجمعها آية [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا] ( ).
وحروف المعجم هي حروف النطق التي يتألف من جمعها الكلام العربي ، وهي ثمانية وعشرون حرفاً : أ – ب – ت – ث .. وقيل سميت به من التعجيم وهو إنتفاء العجمة بالنقاط ويرد عليهم بأنها مع التنقيط تسمى حروف المعجم .
ويقال أعجمته وهو خلاف أعربته وأستعجم عليه الكلام أي استبهم ولم يتبين له .
إنما هي حروف منفصلة وكل واحد منها مستقل ومنفرد عن غيره من الحروف ولا يكون له معنى ودلالة إلا عند جمعه مع حروف أخرى بقصد إفادة معنى مخصوص .
وتكون حروف المعجم على وجوه :
الأول : معرفة بالألف واللام ، فنقول : الألف ، الباء ،التاء .
الثاني : نكرات من غير ألف ولام ، فنقول ألف ، باء ، تاء .
الثالث : صيغة التهجي من غير إعراب ، فنقول ، باء , تاء ، ثاء.
الرابع : مجرد بصيغة الاسم مع عطف بعضها على بعض مع المد فنقول، ألف ، باء ، تاء ، حاء ، خاء , لأن الاسم لا يكون على حرف وتنوين لذا أشكل على القول : تاً ثاً طاً
ووردت في حرف الزاي خمسة أوجه وهي :
الأول : زاءٌ بالمد .
الثاني : زايٌ .
الثالث :زا بالقصر ، وإرادة الوقف فيقال : هذا زا .
الرابع : النطق بتنوين الزاي , فيقال : زاً .
وحكى الأصمعي قال : أنشدني عيسى بن عمر بيتاً هجا به النحويين :
إذا اجتمعُوا على ألفٍ وياءٍ … وواوٍ هاجَ بيَنُهمُ قِتَالُ ) ( )
ونسب ابن سيده البيت إلى يزيد بن الحكم( )
وقال المبرد : قال الرجل من الأعراب يذم النحويين إذ سمع خصومتهم فيه وذكر بيت الشعر أعلاه ( ) والأولى أن يقال : قال رجل من الأعراب لإفادة أن قائله غير معروف ولكنه من الأعراب الذين يرون عدم الحاجة لوقوع الخلاف بين الناطقين بالضاد والتوسع في تفاصيل النحو والإعراب وأن الخلاف أصلاً منتف في اللغة والنطق بالكلام العربي.

إعجاز الآية الغيري
يظن المنافق الذي ينسحب من القتال يوم أحد أنه نجا بنفسه ، وإنسحب إلى المدينة ، وسلم من لمعان وحر السيوف ، وإحاطة جيش العدو بالمسلمين فجاءت آية البحث لتفضحه وتجعله بيت بندامة أيام حياته يعلوه الحزن لقبح التخلي عن نصرة النبوة والتنزيل في ساعة الشدة ولمجئ آية البحث بالتبكيت والتوبيخ للمنافقين (قال الشاعر :
إذا بَلَّ من داء به ظَن أنَّه … نجا وبه الداءُ الذي هو قاتِلُهْ( )
لقد قال رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول كلمة جعلت ثلث الجيش يميلون إليه وهي (والله ما ندري على ما نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس، ثم رجع بمن معه من قومه من أهل النفاق وأهل الريب) ( ).
والأصل أن يكون هذا العذر مصباحاً لهم ، يقولونه عند رجوعهم إلى المدينة وفي المنتديات ، وتؤيدهم بعض النسوة والأتباع خاصة أولئك الذين يريدون سلامتهم ويجعلون الأولوية لها وفيه إيجاد للعذر لهم ، وإشعار للمؤمنين عند رجوعهم إلى المدينة بالجدال والإحتجاج , وفيه بعث للشك وسبب للوهن والضعف في صفوف المسلمين ، ولكن نزلت آية البحث وفيها وجوه :
الأول : تزجر آية البحث المنافقين عن التجاهر بالنفاق .
الثاني : منع المنافقين من الفخر والزهو بانسحابهم وسط الطريق .
الثالث : تلقي عوائل الذين إنخزموا وسط الطريق عودتهم بالإنكار .
الرابع : قيام أهل المدينة بالإعراض عن المنافقين الذين رجعوا وسط الطريق .
الخامس : بيان آية البحث لعلة رجوع الذين نافقوا وسط الطريق ، وهي حب النفس ، والحرص على إجتناب الأذى الذي هو باب للأجر والثواب لأنه في سبيل الله وسوء الظن وعدم إتخاذ التوكل على الله منهاجاً ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] ( ) .
ومن إعجاز آية البحث أمور :
الأول : منع المسلمين من الإنخزال والرجوع وسط الطريق إلى قتال الذين كفروا .
الثاني : نفرة المسلمين والمسلمات من المنافقين والإحتراز منهم .
الثالث : بيان الآية لمظهر من مظاهر القبح التي يتصف بها المنافقون وهو الإنخزال وسط الطريق وبما يشبه الغدر والخيانة .
الرابع : عدم ترك الذين همتهم أنفسهم وشأنهم ، بل ذكرت الآية سوء فعلهم وعلته وبصيغة التوثيق السماوي الباقي إلى يوم القيامة .
لقد إنتهت وقائع معركة أحد في يوم واحد ، ولكن نتائجها وآثارها بقيت خالدة بآيات القرآن التي ذكرت أحداثها على نحو البيان والتفصيل الذي يمنع المسلمين من الإعراض عنها أو التهاون في موضوعها ، وليكون من أسرار وجوب تلاوة القرآن في الصلاة اليومية لكل مسلم ومسلمة طرد الغفلة عنهم .
وآية البحث معطوفة على قوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( ).
وأخبرت آية البحث عن تفضل الله بانزال أمنة نعاساً ، لتشمل هذه الآمنة السلامة والوقاية مما تذكره الآية أعلاه من وجوه :
الأول : الأمن من طاعة الذين كفروا .
الثاني : السلامة مما يترتب على هذه الطاعة في حال حدوثها لإنتفاء المشروط بانتفاء شرطه .
الثالث : النجاة من كفر الجحود والصدود عن المعجزات وبراهين النبوة وعن آيات الآفاق .
الرابع : الآمنة والسلامة من الخسارة في معركة أحد ومعارك الإسلام الأخرى .
وتقدير الآية أعلاه : فتنقلبوا إلى المدينة خاسرين المعركة ، بلحاظ أن طاعة الذين كفروا سبب للوهن والضعف ، وباعث للشك والوهن .
وهل الصلح والمهادنة مع الذين كفروا من عمومات طاعتهم ، الجواب لا ،لأنه يصدر من منازل الإيمان وهو شاهد على التباين بين الفريقين .
ومن إعجاز الآية أنها تخبر عن نزول النعاس على المهاجرين والأنصار في معركة أحد ليرجعوا إلى المدينة , وليس في قلوبهم فزع وخوف من جهات :
الأولى : النعاس أمنة مما يترتب على شدة القتال في معركة أحد من الخوف والفزع .
الثانية : عدم صيرورة كثرة الشهداء سبباً لخوف المسلمين من ذات النتيجة في معارك لاحقة .
الثالثة : الأمنة النعاس واقية من خشية الإستئصال والإبادة .
الرابعة : كان أبو سفيان رئيس جيش المشركين في معركة أحد، فأطل على المسلمين عند إنتهاء المعركة وأنذرهم بأن القتال سوف يتجدد في العام التالي .
قال ابن إسحاق (وَلَمّا انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ نَادَى : إنّ مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ لِلْعَامِ الْقَابِلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِرَجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ قُلْ نَعَمْ هُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَوْعِدٌ) ( ) وفيه حجة من وجوه :
الأول : لم يبدأ المسلمون القتال ولم ولا يتوعدون به .
الثاني : يصر الذين كفروا على القتال وينذرون بوقوعه ويحددون له زماناً ومكاناً معينين .
الثالث : تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإنذار بالقبول لأن عاقبة الذين كفروا هي الخيبة والخزي سواء حضروا للقتال أم لم يحضروا .
الرابع : تجلي مصداق لقوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] الذي نزل بخصوص معركة أحد بأن من معاني الخيبة عند رجوعهم العجز عن تحقيق وعدهم والخروج إلى بدر في السنة التالية .
ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج وأصحابه في السنة التالية إلى بدر ولكن المشركين هم الذين تخلفوا عن الحضور لإصابتهم بالجدب في تلك السنة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) وبيان شاهد بأن أموال تجارة قريش في [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) ، قد أنفقوها في تجهيز ثلاثة آلاف مقاتل في معركة أحد ، وتعطيل الأعمال مدة المعركة.
الآية سلاح
يبعث أول آية البحث السكينة في نفوس المسلمين في حال الشدة والضعف ، ولا يختص الأمر بالصحابة الذين حضروا معركة أحد بل يشمل المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة فعندما يتلو المسلمون آية السياق وكيف أن أكثر المسلمين إنهزموا من الميدان ، ومجئ الآية بالخطاب الشامل لهم على نحو العموم الإستغراقي ، وكأن جميع المسلمين إنهزموا لإستقراء دروس الصبر، وعدم اليأس في السعي في مرضاة الله.
وهل فيه توبيخ للمسلمين وعتاب حتى للذين بقوا في الميدان لأنهم لم يقوموا بما يمنع أكثرهم من الفرار , الجواب لا ، وقد قام الذين بقوا في الميدان بواجبهم أزاء إخوانهم الذين إنهزموا وفروا ، وتجلى هذا الواجب بأمور :
الأول : الثبات في المواضع التي جعلهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الإنحياز إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند إشتداد المعركة .
الثالث : المرابطة والقتال دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان .
ودعوة الرسول للمسلمين للعودة من مصاديق لواذهم به إذا إشتد البأس .
فهل قتالهم حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد من هذا اللواذ أم أنه خارج بالتخصص من هذا القانون.
الجواب هو الأول ، فلا تعارض بين التفاني في القتال في سبيل الله والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقتال دونه واللواذ بشخصه الكريم ، وضياء النبوة الذي يشع على المؤمنين من حوله.
ولقد أنزل الله عز وجل عند هبوط آدم وحواء خيمة من السماء ضربها جبرئيل عليه السلام على البيت الحرام فأضاءت حدود الحرم المرسومة بعلامات معلومة إلى هذا الزمان وتفضل سبحانه وجعل ضياء النبوة يشع على من حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون بصيرة وحرزاً لهم ، ترى لماذا توجه الخطاب إلى المسلمين جميعاً [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] فيه مسائل :
الأولى : إرادة إنهزام أكثر المؤمنين .
الثانية : بيان حقيقة وهي أن القلة من أهل البيت والصحابة الذين بقوا يقاتلون في الميدان لا يستطيعون وقف زحف وهجوم الذين أشركوا بمفردهم لولا فضل الله عز وجل .
الثالثة : تأكيد فضل الله على المسلمين بغزو الرعب في قلوبهم، وإحاطتهم بأفعالهم ، ليتصف المسلمون بخصوصية في المعارك وهي قصور وتخلف عدوهم عن اللحاق بالمنهزم منهم ، لقد تفضل الله عز وجل بالإخبار عن دعوة الرسول لتكون سلاحاً عند المنهزم من المسلمين ، وعند الذي يباشر المسايفة والمبارزة والقتال لأنهم يعلمون بأن المنهزم من المعركة يعود إليها بدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له للرجوع , لتخفف هذه الدعوة عن الجميع لأن رجوع المنهزمين إلى المعركة قوة للإسلام ، وواقية للذين يقاتلون دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قانون مصاديق الولاية
لما أخبرت هذه الآيات عن ولاية الله عز وجل للمسلمين إبتدأت بذكر مصاديق الولاية ، ومن إعجاز القرآن وعظيم فضله على المؤمنين مجئ أول مصداق لولاية الله بذات آية الولاية بالإخبار بأن الله عز وجل هو الناصر للمؤمنين بقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ).
فإبتدأت الآية أعلاه بلغة الخطاب للمسلمين والمسلمات لتنتقل الآية إلى قانون في الإرادة التكوينية بصيغة الغائب لبيان نكتة وهي أن نصرة الله سبحانه عامة لكل المؤمنين ، ترى ما هي النسبة بين الولاية والنصرة ، الجواب فيه وجوه :
أولاً : نسبة التساوي ، فالولاية هي ذاتها النصرة .
ثانياً : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الولاية أعم من النصرة .
الثانية : النصرة أعم من الولاية .
ثالثاً : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين الولاية والنصرة .
والصحيح هو الشعبة الأولى من ثانياً أعلاه ، إذ أن الولاية أعم في موضوعها ومنافعها وتجلياتها .
ويحتمل حضورها ونصرة الله في معركة أحد وجوهاً :
الأول : نزول النصرة من عند الله ، ونزول المدد من الملائكة والنعاس ونحوه من فضل الله .
الثاني : مجئ الولاية والنصرة مجتمعين عوناً وفضلاً على المسلمين يوم معركة أحد .
الثالث : حضور الولاية من عند الله عز وجل .
والصحيح هو الثاني أعلاه ، فقد تفضل الله عز وجل بتغشي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار بولايته ونصرته يوم أحد ، فان قلت إذاً لماذا لم يتحقق النصر المبين للمسلمين في معركة أحد مع أن آية الولاية تخبر بأن الله عز وجل [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] الجواب من وجوه :
الأول : نصر المسلمين أعم من أن يختص بمعركة واحدة , والمدار على عواقب الأمور والنتائج العامة للمعارك .
الثاني : قد تفضل الله عز وجل بنصر المسلمين في معركة بدر ، وهي أول معارك الإسلام مع رجحان كفة الذين كفروا في العدد والعدة ، وتفضل الله ونسب النصر لنفسه في تلك المعركة ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) .
وفيه شاهد بأن كل آية تدل على نصر الله ثناء منه سبحانه على نفسه لبيان عظيم قدرته وسلطانه ، وأن من خصائص ملكيته للأرض والسماء أموراً :
أولاً :النصر بيد الله .
ثانياً : لا ينصر الله إلا المؤمنين .
ثالثاً : أنا الله عز وجل [خَيْرُ النَّاصِرِينَ].
رابعاً : يخزي الله الذين كفروا في الدنيا والآخرة إذ يدل نصر فريق وطرف بالدلالة التضمنية على هزيمة الطرف الآخر .
الثالث : مجئ نصر الله عز وجل من غير أسباب وخلاف قواعد وسنن القتال ، فليس من موضوعية في النصر لمتعلق أسباب الرجحان في القتال ، فلا يريد الله سبحانه من المؤمنين تحصيل حد أدنى من مستلزمات وأسباب النصر كي يمدهم وينجز لهم كسب المعركة ، بل يأتي النصر من عند الله إبتداء وبالمعجزة ، لذا تفضل الله سبحانه وذكر في الآية أعلاه حال المسلمين يوم معركة بدر , وأنهم كانوا [أَذِلَّةٌ] أي ضعفاء فقراء ليس عندهم مقومات النصر .
الرابع : من مصاديق [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] تحقيق النصر للمسلمين من غير قتال وخوض معارك ، وهو آية من عند الله ، فكل آية من القرآن تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي سيف موجه للذين كفروا ، وكذا بالنسبة للمعجزات الحسية له .
فتكون معركة أحد مقدمة للنصر المبين , وفي قوله تعالى [إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا] ( )ذهب كثير من المفسرين إلى إرادة صلح الحديبية من الفتح في الآية أعلاه .
قال الزهري : ما فتح في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية،
لأنّه إنّما كان القتال حيث التقى النّاس،
فلمّا كانت الهدنة وضعت الحرب،
وأمِنَ النّاس بعضهم بعضاً،
فالتقوا فتفاوضوا في الحديث،
والمناظرة،
فلم يكلّم أحد بالإسلام بعقل شيئاً إلاّ دخل فيه في تينك السنتين في الإسلام،
مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر( ).
بلحاظ أنه بداية هدنة ومناسبة لتدبر وتبصر الناس بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول أفواج منهم في الإسلام .
الخامس : من مصاديق قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] في معركة أحد سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والصحابة من الأسر، ومنها رجوع الذين كفروا بخزي .
السادس : نزول الملائكة مدداً من عند الله للمؤمنين في معركة أحد فلا تستطيع الملائكة النزول للنصرة من غير أمر من عند الله , وليس من جهة أو طرف يستطيع إنزال مدد أو نصر من السماء إلا الله عز وجل ، وهو من مصاديق اسم التفضيل في قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ].
السابع : لما جاء قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] فان كل آية من الآيات التالية لها تدل على ولاية الله للمؤمنين ونصرته لهم من جهات :
الأولى : دلالة كل آية على ولاية الله .
الثانية : تأكيد الآية كل آية نصرة الله للمؤمنين .
الثالثة : إجتماع الولاية والنصرة في ذات الشطر من كل آية ، وفيه وجوه:
أولاً : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا من ولاية الله ونصرته للمؤمنين .
ثانياً : بيان القبح الذاتي والغيري للشرك , وأنه سبب لإمتلاء القلب بالرعب والفزع .
ثالثاً : تضمن قوله تعالى في ذم الشرك [مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]بلحاظ ولاية الله للمسلمين مسائل :
الأولى : تحذير وإنذار الناس من الشرك .
الثانية : جذب الآية أعلاه الناس للإسلام لأنها باعث للنفرة في النفوس من الشرك .
الثالثة : إعانة الآية المسلمين في إقامة الحجة على الذين كفروا .
الرابعة : هداية المسلمين لصيغ الإحتجاج وإقامة البرهان وصيرورة ذم الشرك وسيلة لحجب نصرة الناس عن الذين كفروا في محاربتهم للنبوة والتنزيل .
الخامسة : التحدي والإحتجاج بأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما أنزل الله عز وجل به سلطاناً بدليل نزول القرآن والمعجزات العقلية والحسية التي تجري على يديه .
السادسة : ترتب إمتلاء القلب بالرعب على إختبار الشرك .
السابعة : موضوعية نزول السلطان من عند الله عز وجل في باب الإعتقاد ، فلا يصح التصديق بما ليس عليه دليل من الكتاب أو السنة .
ومن الإعجاز في نظم هذه الآيات ولاية الله للمسلمين ونصرته لهم لإيمانهم بسلطان النبوة والتنزيل الذي أنزله .
فمع الآيات تأتي النعم دفعة واحدة وتدريجياً وتستمر من غير إنقطاع .
ومن نصرة الله عز وجل للمؤمنين بيان سوء عاقبة الذين كفروا بقوله تعالى [وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ] ( ) .
وتتجلى النصرة في المقام من جهات :
الأولى : تأكيد الآية لحقيقة العالم الآخر , وأنه عالم حساب وجزاء .
الثانية : دلالة توبيخ الذين كفروا في مفهومه على حسن عاقبة المؤمنين وفي التنزيل[اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]( ).
الثالثة : الإخبار بأن الدنيا دار إمتحان وإختبار وأنها مزرعة للآخرة , ولم يزرع فيها الكفار إلا أسباب الشقاء وخلودهم في النار , قال تعالى [وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا] ( ).
الأمر الثالث : إخبار هذه الآيات عن قانون إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بقوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ..]( ) .
ومن إعجاز نظم هذه الآيات ملازمة الرعب للذين هجموا على المدينة المنورة من كفار قريش ومن والاهم من غطفان والأحابيش ليكون من سبل نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية دبيب الوهن والضعف بين صفوف الذين كفروا بما يلقيه الله في قلوبهم من الفزع والخوف .
وصحيح أن الرعب كيفية نفسانية تصيب الذين كفروا جزاء عاجلاً من عند الله ليقابل الثواب الذي يأتي للمسلمين في ذات الوقت من الغم والنعاس ، ولكن ما هي الأسباب المادية والظاهرية للرعب الذي يملأ قلوب الذين كفروا، فيه وجوه :
الأول :مجئ الرعب للذين كفروا من غير علة أو سبب .
الثاني : إصابة الذين كفروا بالرعب بسبب ما يردهم من أنباء عن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : بسالة الأنصار والمهاجرين في القتال وحبهم للشهادة .
الرابع : نزول الرعب من عند الله الذي يمنع المشركين من القتال وإن إجتمعت مقدماته وأسبابه , ويكون تقدير الآية : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب فلا يعودون للقتال ) وهو من مصاديق نعت الذين كفروا عند رجوعهم من معركة أحد بالخيبة وإنقطاع الآمال ، والتخلف عن نيل ما يبغون من تجهيز الجيوش العظيمة لمعركة أحد ، وكانت النتيجة التي رجعوا بها هي قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) .
فان قلت قد سقط سبعون شهيداً من المسلمين وأصيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكلوم وجراحات بليغة إذ شج وجهه وسال الدم من رأسه وكسرت رباعيته أي أسنانه الأمامية , كما أصابت الجراحات أهل البيت والصحابة , فهل تنخرم خيبة الكفار بهذه النتيجة .
الجواب لا , لأن الكفار لم يحققوا ما كانوا يطلبون من مبتغاهم وغاياتهم الخبيثة ، ولأن الإسلام خرج أقوى من معركة أحد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]وكانت شهادة سبعين من المهاجرين والأنصار وتلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة الجراحات الشديدة منعة للإسلام , وسبباً لبعث الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا .
لذا ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يقول حين يمسح المسلمون الدم عن وجهه : ( كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم) ( ).
ومن مصاديق حرمان الذين كفروا من الفلاح نزول النعاس أمنة على المؤمنين عند نهايات معركة أحد ليرجعوا إلى المدينة وليس في قلوبهم خوف أو رعب من الذين كفروا ووقائع معركة أحد .
وهل النعاس الذي أنزل الله عز وجل على المؤمنين في معركة أحد سبب لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا , الجواب نعم من جهات :
الأولى : تجلي التباين بين جيش المسلمين الذي تتغشاه الأمنة وبين الكفار حيث أصابهم الرعب .
الثانية : إصابة الذين كفروا بالدهشة والذهول لتجلي الآيات الحسية على المسلمين .
الثالثة : يأس وقنوط الذين كفروا عند رؤيتهم رجوع المؤمنين إلى ميدان المعركة ، وهو من مصاديق قوله تعالى بخصوص عودة كفار قريش ومن معهم إلى مكة [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] لبيان حقيقة وهي تعدد أسباب خيبة الذين كفروا ، وأنها حلّت بساحتهم وهم في ميدان المعركة ، وهو من أسباب تعجيلهم العودة إلى مكة .
قانون تجليات دعوة الرسول
لقد عجز الكفار عن معرفة العلة الظاهرية للرعب الذي ملأ قلوبهم وللأمنة التي نزلت على المؤمنين , فلقد تبدلت الريح فكانت جولة للمشركين وكثر القتل بين صفوف المسلمين ، وفرّ كثير منهم من وسط ميدان المعركة وصار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يناديهم كما في قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] , وتحتمل دعوة الرسول وجوهاً :
الأول : يدعو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه للعودة إلى مواضعهم في ميدان المعركة التي أقامهم فيها كما في قوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
الثاني : أراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رجوع الصحابة إليه والإلتفاف حوله بدليل ما ورد في الأخبار من قوله صلى الله عليه وآله وسلم (إلي عباد الله ) .
الثالث : كفاية مسمى الرجوع إلى ميدان المعركة .
الرابع : القدر المتيقن من دعوة الرسول تذكير الصحابة بلزوم التدارك وقبح الفرار .
الخامس : يدعو الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه للرجوع إلى القتال .
السادس :دعوة الرسول أصحابه لإرادة الأجر والثواب الذي يأتي خاصاً لمسألة الرجوع .
السابع : يدعو الرسول أصحابه إلى الرجوع إلى المعركة لأنه يضمن لهم عدم تجدد القتال بعد رجوعهم .
الثامن : يدعو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
التاسع : والرسول يدعوكم في أخراكم لترجعوا , وتكون دعوته لكم من أمامكم .
العاشر : والرسول يدعوكم لإستحضار آيات النصر من عند الله , وأنه سبحانه [خَيْرُ النَّاصِرِينَ].
الحادي عشر : والرسول يدعوكم من مقام النبوة والرسالة مما يدل على أن هذه الدعوة خير محض ، وخالية من الأذى والضرر .
الثاني عشر : والرسول يدعوكم بأمر من عند الله لأن دعوته هذه من الوحي [فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ] ( ).
الثالث عشر : والرسول يدعوكم للرجوع للمعركة بعد أن صدقكم الله وعده إذ تحسونهم .
الرابع عشر :والرسول يدعوكم بإذن الله .
الخامس عشر : والرسول يدعوكم لتدارك الفشل والتنازع في الأمر والمعصية .
السادس عشر : لما أخبرت الآية قبل السابقة بالتباين في إرادة وبغية المؤمنين من دخول معركة أحد بقوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ] جاءت دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه لتكون غايتهم الآخرة .
ويكون تقدير الآية : والرسول يدعوكم لتريدوا الآخرة وتسعوا إليها .
السابع عشر : والرسول يدعوكم ليصرفكم الله عن الذين كفروا ، فحالما يرجع المؤمنون إلى ميدان المعركة فأنهم ينتظرون صرفهم وتركهم الذين كفروا وقتالهم .
الثامن عشر : والرسول يدعوكم ليبتليكم بتلقي هذه الدعوة بالقبول والإستجابة .
التاسع عشر : والرسول يدعوكم للثبات على الإيمان حتى في حال الفرار والإنهزام .
العشرون : والرسول يدعوكم لنعمة عظمى وهي أمنة نعاس .
الحادي والعشرون : والرسول يدعوكم لإتمام الحجة على المنافقين الذين إنخزلوا وسط الطريق إلى معركة أحد فقد يكون إنهزام وفرار شطر من الصحابة من المعركة حجة للمنافقين في رجوعهم وخذلانهم ، فتفضل الله بدعوة الرسول لأصحابه لغلق باب الإحتجاج على المنافقين .
الثاني والعشرون : والرسول يدعوكم , وسيدعوكم في حال تكرر الهزيمة .
الثالث والعشرون : والرسول يدعوكم لعدم تكرر الفرار والهزيمة خاصة وأنه لم يقع قتال بعد العودة إلى ميدان المعركة .
الرابع والعشرون : والرسول يدعوكم لوجود المقتضي وفقد المانع بعد أن ألقى الله عز وجل (الرعب في قلوب الذين كفروا).
ولما تفضل الله عز وجل وأخبر بصيرورة المسلمين (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ( )تفضل وبين مصاديق وشواهد تدل على هذا القانون ومنه مجئ المدد من عند الله للمسلمين من جهات :
الأولى : نزول الملائكة من السماء كما في قوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
لتؤكد الآية أعلاه أن الملائكة الذين جاءوا لنصرتهم نزلوا من السماء وليسوا هم من سنخية أهل الأرض ، وفيه منع للتأويل غير المناسب .
الثانية : كل آية من القرآن مدد للمسلمين سواء كانت آيات الأحكام أم القصص أم البشارات والإنذارات ، قال تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الثالثة : آيات القتال وبيان حال المسلمين في ميدان المعركة من العون والمدد وأسباب الرشاد لهم من عند الله ، فان قلت قد إستقرأ الذين كفروا أسرار المدد للمسلمين في آيات القرآن , وتبينت لهم بعض مصاديق هذا المدد وفيه وجوه :
أولاً : لا يستطيع الذين كفروا أن يحجبوا المدد الذي يأتي من عند الله .
ثانياً : إطلاع الذين كفروا على المدد الذي يتفضل به الله على المسلمين مناسبة للإيمان , وسبب لزجرهم عن الإقامة على الكفر .
ثالثاً : يختص المسلمون بالمدد من عند الله .
رابعاً : إقتران النصر والغلبة بالمدد الذي يتفضل به الله عز وجل وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : النصر ملازم للذين يأتيهم النصر من عند الله .
الصغرى : المسلمون يأتيهم النصر من عند الله .
النتيجة : النصر ملازم للمسلمين .
الرابعة : من وجوه المدد للمسلمين سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدفاعية وسيرته مطلقاً لأنها نبراس ومنهاج وضياء ينير دروب المسلمين ، لذا يتلو المسلمون في كل فرض من الصلاة اليومية قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )ومنه سؤال إتباع ذات نهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال الحرب والسلم وتفانيه في طاعة الله عز وجل .
الخامسة : مجئ البشارة للمسلمين بالثواب العظيم , وتنمية ملكة حب لقاء الله عز وجل .
السادسة : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
السابعة : آيات الإنذار للذين كفروا والتي تبعث الإرباك في صفوفهم ، وتمنعهم من بذل الوسع في ميدان المعركة .
الثامنة : إحتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيانه لما هية الحياة الدنيا وأنظمة الإرادة التكوينية التي تحكم سير وحركة الموجودات والخلائق كما ورد في آية البحث [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] ( ).
ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) أن المسلمين يدخلون المعركة وهم يعلمون بأن الرعب والفزع يملأ صدور أعدائهم سواء الذين يلاقونهم في الميدان أم الذين من خلفهم رجالاً ونساءً ، وهو من مقدمات النصر ، وهل هو حجة على الذين إنهزموا في ميدان المعركة ، الجواب إنما هو حجة على المنافقين والذين ذكرتهم آية البحث بقوله تعالى [قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ]( ).
التاسعة : الإطلاق في المدد الذي يأتي من عند الله ، وهو المستقرأ من قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
ومن أسرار الآية أعلاه أنها تتضمن في منطوقها البشارة والإنذار في آن واحد ، ولا تصل النوبة لإستقراء أحدهما بالمفهوم ، وهو من الشواهد على تعدد معاني اللفظ القرآني والمقاصد الحميدة منه ، إذ تبعث الآية أعلاه السكينة في نفوس المؤمنين ، والفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ، ويتجلى هذا المعنى بالإطلاق وعدم التقييد في وسائل وسبل إلقاء الرعب والخوف في قلوب الذين كفروا بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ).
وهل يشمل الرعب المذكور في الآية أعلاه الذين تضمنت آية البحث ذمهم بقوله تعالى [قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ]( )الجواب لا، وهو من الإعجاز في الآية أعلاه بالتشديد والبيان بذكر علة وسبب إلقاء الرعب والذي ورد متعدداً من جهات :
الأولى : إختيار الكفر .
الثانية : الإصرار على الشرك بالله .
الثالثة : إقامة الكافر على ظلمه لنفسه .
وتبين الآية أعلاه أن النسبة بين الشرك والكفر هي العموم والخصوص المطلق ، وأن الكفر فرع الشرك ، فالذي يشرك بالله يجحد بالنبوة ، ولا يؤمن باليوم الآخر ، ويحارب الإسلام ويقاتل المسلمين فيأتيه الرعب عقاباً عاجلاً , وجزاءً كاشفاً عن قبح إختياره , وعزوفه عن الآيات والبراهين التي تدعوه والناس جميعاً إلى طاعة الله والرسول .
وتبين آية البحث معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ساحة القتال وملاقاة الذين كفروا بأن أنزل الله عز وجل النعاس وجعل الأمنة مصاحبة له .
ومن الإعــجاز في آية إلقاء الرعب انها لم تقف عند بيان غضب الله سبحانه وتعالى على الذين كفروا بإلقاء الرعب في قلوبهم لمنعهم من تحقيق نصر ما في معاركهم مع المسلمين ، إنما أخبرت الآية عن أمور :
أولاً :بيان علة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا وانه الشرك بالله ، وهو أم الكبائر ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ) ليكون من معناه مسائل :
الأولى : تفقه المسلمين في الدين ومعرفة أحكام العقائد .
الثانية :دعوة المسلمين للحرب على الشرك ومفاهيمه .
الثالثة :إدراك الناس جميعاً للحاجة لتنزه الأرض من الشرك .
الرابعة : دعوة المسلمين لمنع الناس من إتباع المشركين في ضلالتهم .
ثانياً : قذف الرعب في قلوب الذين كفروا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة للناس للهداية والإيمان ، وعدم الإصغاء إلى مشركي قريش وأعداء الحق والصدق .
ثالثاً : بيان وجوب التوحيد والإقرار بأنه لا خالق سوى الله ، وأنه سبحانه (رب العالمين) ويترشح عن هذا الإيمان قهراً وإنطباقاً وطوعاً لزوم الإنقياد لأوامر الله عز وجل ، وإخلاص العبادة له ، وإجتناب المعاصي وفعل السيئات .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : لن يوافي عبد يوم القيامة يقول لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله إلا حرم على النار( ) .
وهل يمكن معرفة الذين كفروا في ساحة المعركة وخارجها من حال الرعب التي يصابون بها لقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( )، ولأن قول الله عز وجل حق وصدق ، الجواب نعم ، فصحيح أن الرعب كيفية في القلوب , ولكنه يترجل على الجوارح والأركان , ويظهر ببعض أفعال الذين كفروا.
الأمر الرابع : تتضمن هذه الآيات بعث السكينة في نفوس المؤمنين وهم في وسط المعركة ليستجيبوا لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما يدعوهم للرجوع إلى ميدان القتال .
وإذ تمتلأ قلوب الذين كفروا بالرعب والخوف والفزع فان الأمنة والنعاس يأتيان دفعة للمسلمين ، وفيه بعث للحسرة في نفوس كل من :
أولاً : كفار مكة الذين حضروا معركة أحد ، لذا ندموا على سرعة مغادرتهم حالما غادروا أحداً ، وهموا بالرجوع إلى الميدان , لتتجلى منافع الرعب الذي ألقاء الله في قلوبهم وهم في الطريق إلى مكة بأن ندموا على الرجوع إلى مكة , ولكنهم عجزوا عن العودة للقتال ، مما يدل على أن الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا يقعدهم , ويشل أيديهم , ويمنعهم من الإتفاق على القتال .
لقد ندم الذين كفروا على رجوعهم من معركة أحد مع أن الحرب والقتال أمر مكروه ، وهذه الكراهية من جهات :
الأولى : لما إحتجت الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض وبينوا أن علة هذا الإحتجاج من وجهين :
الأول : فساد الإنسان في الأرض .
الثاني : سفك الإنسان للدماء وإشاعة القتل بين الناس .
تفضل الله عز وجل ورد عليهم بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، وكان من علم الله عز وجل أن جعل النفوس تنفر من القتل , وأن يجتنب الناس القتال , ويذمون الذي يبادر إليه .
وتفضل الله وجعل الإنبياء لا يبدأون القتال مع الذين كفروا إلا على نحو الدفاع ودفع الضرر ، فيكون القتال وسيلة للأمن والسلم ، وليس غاية بذاته لذا تفضل الله عز وجل في آية البحث بأن أنزل الأمنة النعاس لتكون سلامة من أمور :
أولاً : إستدامة القتال .
ثانياً : قتل المسلم للكافر .
ثالثاً : قتل الكافر للمسلم .
رابعاً : كثرة الجراحات .
وهل من معاني الأمنة في آية البحث أنها مناسبة للدعوة إلى الله وبيان المعجزات , وتدبر الناس في دلالتها ، الجواب نعم .
الثانية : إدراك الناس للأضرار التي تترشح عن القتال والخسائر في الأرواح والأموال وتعطيل المكاسب .
الثالثة : إنتفاء الربح المستديم من القتال , فلا يحرز أي فريق أو طرف من المتحاربين غنائم تتصف بالدوام إلا ما يتعلق بالهداية والإيمان لأنه علة خلق الإنسان ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ثانياً : يتناقل الناس معجزة نزول الأمنة النعاس على المؤمنين في آخر ساعة من معركة أحد من جهات :
الأولى : إحاطة الناس علماً بالآية الحسية .
الثانية : تجلي منافع الأمنة النعاس على المسلمين قبل إنصرافهم من ساحة المعركة .
الثالثة : نزول آية البحث التي تخلد هذه المعجزة الحسية ، وهو من الإعجاز الذي ينفرد به القرآن بقانون توثيق المعجزة العقلية الخالد للمعجزة الحسية ، وهو من أسرار سلامة القرآن من التحريف إلى يوم القيامة .
وتصل أخبار معجزة النعاس إلى الذين كفروا من أهل مكة ممن تخلف عن الخروج إلى أحد فيصابون بالهلع والرعب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ] ( ).
ثالثاً : نزول نعمة الأمنة والنعاس من عند الله على المؤمنين يوم معركة أحد سبب لبعث الحسرة في نفوس المنافقين سواء الذين رجعوا وسط الطريق إلى المعركة أو الذين لم يقولوا هذا القول , أو الذين إختاروا القعود من غير عذر [يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ] ( ) .
فلقد رجع المؤمنون بنعمة وهي تفضل الله عز وجل علمهم بنعمتين متلازمتين في ساعة الشدة , وهما :
الأولى : الأمنة .
الثانية :النعاس .
مما يدل على سلامتهم ونجاتهم من بطش وشدة الذين كفروا وأن عدوهم رجع خائباً لم يكسب من معركة أحد أي شيء .
الأمر الخامس : تذكير هذه الآيات بيوم القيامة ، وأن الدنيا دار زوال ومزرعة للحياة الدائمة , وجاء هذا التذكير بالمنطوق والمفهوم ، إذ تضمنت الوعيد للذين كفروا بالنار عاقبة لهم , فمع حلول الرعب في قلوبهم من غير إختيار منهم فان النار مثوى لهم لقوله تعالى [وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ] ( ).
ليكون من الإعجاز في هذه الآيات أن تأتي الآية في ذم ووعيد الذين كفروا فتكون على وجوه :
أولاً : بيان قانون وهو الوعيد للكافرين مدد وعون للمؤمنين .
ترى كيف يكون هذا الوعيد مدداً , الجواب من جهات :
الأولى : بعث السكينة في نفوس المسلمين لإختيارهم الإسلام وهو من مصاديق قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ]( ).
الثانية : ثناء وشكر المسلمين لله عز وجل على نعمة الإيمان وعلى تفضله تعالى بإخبارهم بأن مأوى الذين كفروا النار .
الثالثة :تلاوة المسلم للآيات التي تتضمن الوعيد للكافرين تجديد لهذا الوعيد ، وحجة على الناس ودعوة للإيمان ، وهو من أسرار وجوب تلاوة القرآن في الصلاة اليومية .
ثانياً : الإخبار عما هو حق وصدق ، وهو يوم البعث وأنه يوم جزاء إذ يبين قوله تعالى في ذم الذين كفروا [وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ] ( ) أن الجامع المشترك بين المشركين هو كفرهم بالله , ويترتب عليه الخلود في النار .
وعن ثوير قال ( سمعت علي بن الحسين عليهما السلام يحدث في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله , فقال : حدثني أبي أنه سمع أباه علي بن أبي طالب عليه السلام يحدث الناس قال: إذا كان يوم القيامة بعث الله تبارك وتعالى الناس من حفرهم غرلا مهلا جردا مردا في صعيد واحد يسوقهم النور وتجمعهم الظلمة حتى يقفوا على عقبة المحشر، فيركب بعضهم بعضا ويزدحمون دونها , فيمنعون من المضي فتشتد أنفاسهم، ويكثر عرقهم وتضيق بهم امورهم، ويشتد ضجيجهم، وترتفع أصواتهم، قال: وهو أول هول من أهوال يوم القيامة .
قال: فيشرف الجبار تبارك وتعالى عليهم من فوق عرشه في ضلال من الملائكة فيأمر ملكا من الملائكة فينادي فيهم: يا معشر الخلائق أنصتوا واستمعوا منادي الجبار .
قال: فيسمع آخرهم كما يسمع أولهم، فتنكسر أصواتهم عند ذلك، وتخشع أبصارهم، وتضطرب فرائصهم، وتفزع قلوبهم , ويرفعون رؤوسهم إلى ناحية الصوت مهطعين إلى الداعي، فعند ذلك يقول الكافر: هذا يوم عسر، قال: فيشرف الله عز وجل ذكره الحكم العدل عليهم فيقول: أنا الله لا إله إلا أنا الحكم العدل الذي لا يجور، اليوم أحكم بينكم بعدلي وقسطي، لا يظلم اليوم عندي أحد، اليوم آخذ للضعيف من القوي بحقه، ولصاحب المظلمة بالمظلمة بالقصاص من الحسنات والسيئات، واثيب على الهبات، ولا يجوز هذه العقبة اليوم عندي ظالم ولاحد عنده مظلمة إلا مظلمة يهبها لصاحبها واثيبه عليها وآخذ له بها عند الحساب، فتلازموا أيها الخلائق واطلبوا مظالمكم عند من ظلمكم بها في الدنيا، وأنا شاهد لكم عليهم، وكفى بي شهيدا.
قال: فيتعارفون ويتلازمون فلا يبقى أحد له عند أحد مظلمة أو حق إلا لزمه بها، فيمكثون ما شاء الله فيشتد حالهم، فيكثر عرقهم ويشتد غمهم، وترتفع أصواتهم بضجيج شديد، فيتمنون المخلص منه بترك مظالمهم لاهلها. قال: ويطلع الله عز وجل على جهدهم فينادي مناد من عند الله تبارك وتعالى يسمع آخرهم كما يسمع أولهم: يا معاشر الخلائق أنصتوا لداعي الله تبارك وتعالى واسمعوا، إن الله تبارك وتعالى يقول لكم: أنا الوهاب، إن أحببتم أن تواهبوا فتواهبوا، وإن لم تواهبوا أخذت لكم بمظالمكم، قال: فيفرحون بذلك لشدة جهدهم وضيق مسلكهم وتزاحمهم .
فيهب بعضهم مظالمهم رجاء أن يتخلصوا مما هم فيه، ويبقى بعضهم فيقولون: يا رب مظالمنا أعظم من أن نهبها.
قال: فينادي مناد من تلقاء العرش: أين رضوان خازن الجنان جنان الفردوس فيأمره الله عز وجل أن يطلع من الفردوس قصرا من فضة بما فيه من الآنية والخدم، فيطلعه عليهم في حفافة القصر الوصائف والخدم، فينادي مناد من عند الله تبارك وتعالى: يا معشر الخلائق ارفعوا رؤوسكم فانظروا إلى هذا القصر فيرفعون رؤوسهم فكلهم يتمناه .
قال: فينادي مناد من عند الله تبارك وتعالى: يا معشر الخلائق هذا لكل من عفى عن مؤمن، قال، فيعفون كلهم إلا القليل.
فيقول الله عز وجل: لا يجوز إلى جنتي اليوم ظالم) ( ).
ومن صفات الله عز وجل لأنه حكم لا يفعل إلا ما فيه غرض وقصد حميد ، وتفضل وخلق الإنسان لتكون الدنيا له دار إختبار وسبيل هداية للنجاة من عذاب الآخرة وقد جعل الله الدوام والخلود في عالم الجزاء والثواب .
ثالثاً : يدل ذكر النار وأنها عذاب قريب على وجود الجنة ثواباً للمؤمنين وجزاء على فعلهم الصالحات وصبرهم في ميدان المسايفة .
ووردت الآية قبل السابقة بمخاطبة المسلمين بلغة الإيمان بقوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا].
وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا منكم من يريد الدنيا ) وفيه تزكية لهم وأن إرادة الدنيا لا تضر مع الإيمان ، ولكن الأذى ترشح من مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتركهم مواضعهم في ميدان القتال لذا قال تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ] فلم ترد إضافة وعطف في الآية وتقول مثلاً :
أولا: منكم من يريد الدنيا ففشلتم .
ثانياً : وتنازعتم في الأمر وعصيتم لأن منكم من يريد الدنيا ) أي أن الله عز وجل أكرم المسلمين ولم يجعل حبهم للغنائم وجمعها سبباً لمعصيتهم وهزيمتهم ، بل تفضل وجعل الفشل والتنازع في الأمر والمعصية بعرض واحد كأسباب إنقطاع حسهم وقتلهم للذين كفروا , وتعرضهم للإنكسار والخسارة .
ثالثاً : لم تجعل الآية إرادة المؤمنين المكاسب والمغانم سبباً لهزيمتهم فلم تقل ( إذ تصعدون لأن منكم من يريد الدنيا ) ، فمن لطف الله بالمؤمنين وحلمه عليهم أنه لم يبدأ آية السياق التي تتضمن الإخبار عن إرادة شطر من المؤمنين الدنيا ، بل ورد ذكر هذا الموضوع قبل الإخبار عن صعود وإنهزام أكثر المؤمنين ،وتركهم منازلهم في المعركة.
ترى لماذا قدمت الآية الذين يريدون الدنيا على الذين يريدون الآخرة بقوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ] مع أن الذين يطلبون الآخرة أرفع وأسمى مرتبة من الذين يريدون الدنيا، والجواب من وجوه :
أولاً : لحاظ نظم الآية الكريمة ، وإبتداء الآية بالإخبار عن وعد الله عز وجل للمسلمين بالنصر والتمكن من الذين كفروا فان قيل لماذا لم يستمر حس وقتل المؤمنين للذين كفروا يأتي الجواب في ذات آية السياق بتقديم [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا] ولا يعني هذا أن إرادتهم علة الهزيمة .
ثانياً : الدنيا مزرعة للآخرة، ولا يحضر الناس في عرصات يوم القيامة إلا بعد إنقطاع الدنيا وموت آخر جيل من البشر، قال تعالى[يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ]( ).
ثالثاً: لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار البهجة والزينة والغبطة , كما في قوله تعالى [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( ) فطلب شطر من المؤمنين المال المذكور في الآية أعلاه بصفة غنائم من الذين كفروا , لتكون على جهات :
الأولى : هذه الغنائم عون على أداء الفرائض والعبادات .
الثانية : إرادة الدنيا لطرد الفقر والجوع والفاقة عن المسلمين .
الثالثة : المراد حب شطر من المؤمنين الدنيا والغنائم في معركة أحد لتكون ذخيرة للدين والدنيا .
ويكون تقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : المال زينة الحياة الدنيا لزينة البنين .
الثاني : البنون زينة الحياة الدنيا لكسب وجمع المال والإنتفاع منه .
الثالث : المال زينة الحياة الدنيا .
الرابع : البنون زينة الحياة الدنيا ، لبيان التعدد في معاني حرف العطف الواو في قوله [الْمَالُ وَالْبَنُونَ] ( ) إذ تفيد الواو الجمع بينهما تارة وتفيد المغايرة والتعدد .
الثاني : ومنكم من يريد الدنيا للآخرة ، بلحاظ أن الخطاب في الآية بصيغة الإيمان .
الثالث : منكم من يريد الدنيا والغنائم لتسخيرها في سبيل الله وشراء السلاح والمؤن.
الرابع : منكم من يريد الدنيا في معركة أحد للتسليم بعظيم فضل الله عز وجل على المؤمنين .
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعل منهم من يريد الدنيا ، فلولا رسالته والتصديق بها ، ونزول الملائكة يوم بدر لنصرته , لم يطمع المهاجرون والأنصار بالدنيا وكسب الأموال على نحو دفعي كالغنائم من الذين كفروا خاصة وأن أكثر المهاجرين والأنصار لم يكونوا في حال سعة ومندوحة من المال.
ومن الآيات أن الصحابة لم يريدوا الدنيا في كل أحوالهم إذ كان دخولهم الإسلام سبباً لتلقي الأذى من قومهم ، ومنهم من ترك ماله وملكه وهاجر إلى المدينة ، وبالنسبة للأنصار فقد تعطلت زراعاتهم ومكاسبهم، ولو على نحو السالبة الجزئية , ليكون من مصاديق الجهاد والصبر في سبيل الله عز وجل .
والقدر المتيقن من الآية قبل السابقة ، منكم من يريد الدنيا يوم معركة أحد ، وما سواه لا يريدون إلا الآخرة .
رابعاً : من وجوه تقديم الآية قبل السابقة ذكر الذين يريدون الحياة الدنيا تأديب المسلمين وبيان الضرر الذي يترشح عن حب الدنيا والطمع بالغنائم.
خامساً : موضوعية التقدم الزماني للحياة الدنيا على الآخرة ، وإرادة التذكير من عند الله في الآية بأن [الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ] ( ).
سادساً : بيان حقيقة وهي أن إرادة شطر من المؤمنين الحياة الدنيا أمر طارئ عليهم إتضح في يوم معركة أحد فتفضل الله بذكره وتقديمه ليلتفت له المسلمون ويتناجون بالتوقي منه، وعدم جعل الأولوية لطلب الدنيا والغنائم في حال السلم والحرب .
سابعاًٍ : الإشارة إلى انسحاب أكثر المسلمين، وبقاء نفر من أهل البيت والصحابة يقاتلون مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودونه , قال تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]( ).
ومن الإعجاز في الآية قبل السابقة أنها لم تحصر إرادة ورغبات جميع المؤمنين فلم ترد بصيغة تتضمن معنى : وكنتم طائفتين ، طائفة تريد الدنيا وطائفة تريد الآخرة ، أو كنتم على فريقين ، فريق يريد الدنيا وفريق يريد الآخرة ، بل وردت بصيغة التنكير في الفريقين بلفظ(منكم) .
ويمكن تقسيم المسلمين يوم أحد على وجوه:
الأول : من يريد الدنيا.
الثاني : من يريد الآخرة.
الثالث : منكم من يريد الدنيا من أجل الآخرة وحسن الإقامة فيها، فيسعى لطلب الغنيمة لأنها تشهد له يوم القيامة بالجهاد في سبيل الله.
الرابع : منكم من يريد الدنيا والآخرة مجتمعين ومتفرقين.
الخامس : منكم من يريد الآخرة ويريد معها الدنيا.
ولا تعارض بين طلب الدنيا مع الآخرة وطلب الآخرة بالذات , فان المسلمين لايختارون إلا الآخرة، وهو الذي يدل عليه خروجهم إلى معركة أحد وبذلهم الوسع في القتال، وشوقهم إلى الشهادة، قال تعالى بخصوص واقعة أحد ومقدماتها [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ).
وذكرت الآية طائفتين من المسلمين ، وهل يحتمل مثلاً وجود جهتين غيرهم :
الأولى : الذين يريدون الدنيا ويريدون الآخرة .
الثانية : الذين لا يريدون الدنيا ولا يريدون الآخرة بلحاظ صيغة التنكير في قوله [منكم] والذي تكرر مرتين في الآية قبل السابقة .
أماالمسألة الثانية أعلاه فهي من الممتنع عقلاً وواقعاً.
وأما الأولى فنعم ممكن أن يكون عدد من المؤمنين يريدون الفوز بالغنائم ويريدون الأجر والثواب ، ويسعون إلى الشهادة ، فان قلت هناك تضاد بين طلب الدنيا وعشق الشهادة خاصة في ميدان القتال وهو موضوع هذه الآيات ، الجواب من جهات :
الأولى : يحصل التضاد بين السعي للدنيا وإرادة الشهادة في الواقع وعالم الفصل ، وليس في الوجود الذهني الذي تجتمع فيه المتضادات والمتناقضات لأنه عالم للتصور ، وهو من أسرار وبديع خلق الإنسان.
ومن مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ]( ) بتقريب إمتناع الجمع بين المتضادين في الآفاق ، وفي الواقع ، بينما يجتمعان في النفس والوجود الذهني .
الثانية : التباين في أفراد الزمان بخصوص إرادة الدنيا ، إذ توجه المؤمنون للقتال في معركة أحد وهم يريدون النصر والغلبة على الذين كفروا ويسعون للشهادة كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ) وظهر حب الدنيا عند فريق من المؤمنين في معركة أحد حينما رأوا فرار الذين كفروا .
الثالثة : إرادة فريق من المؤمنين الدنيا يوم أحد في طول إرادتهم النصر والشهادة في سبيل الله .
ليكون من معاني صرف المؤمنين في قوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] ( ) أي سواء من أراد الدنيا أو أراد الآخرة فان الله عز وجل صرفه عن الذين كفروا ، وكذا لو كانت هناك غنائم فينالها كل من الذين يريدون الدنيا والذين يريدون الآخرة.
الرابعة : الجمع بين حب الغنائم وإرادة الشهادة ليس من التضاد والتعارض، لأن كلاً منهما في سبيل الله.
لقد أراد الله هداية المسلمين ودعوتهم لتحري سبل الأجر الأتم والثواب الأكمل , فسواء أراد المؤمن من القتال وغيره الدنيا أو الآخرة فانه لا ينال من الدنيا إلا ما كتب الله له ، وأن المؤمنين في الغنائم شرع سواء الذي أراد الدنيا أو الذي أراد الآخرة ، ومن الآيات في المقام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعدل بين المجاهدين في توزيع الغنائم.
فان قلت إن الذي يقتل الكافر يومئذ يمتلك سلبه.
والجواب هذا صحيح ، ولكنه ليس علة تامة لطلب الدنيا كما أن الرماة لم يجعلوا هذا الأمر ونحوه علة تامة لنزولهم من الجبل وتركهم مواضعهم التي نصبهم بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وظنوا أنه خاص بحال الملاقاة والتكافؤ وإستمرار المسايفة والمبارزة بينهم وبين الذين كفروا.
فعندما رأوا هزيمة المشركين إستبشروا وأرادوا الغنائم والمكاسب طمعاً بفضل الله ونهلاً مما أفاض وأفاء به على رسوله الكريم وعليهم.
فكل آية من هذه الآيات سلاح لتعليم وتعلم المسلمين وإقتباسهم المواعظ وإستقرائهم المسائل التي تنفعهم في أمور الدين والدنيا .
فتقع واقعة ومعركة للمسلمين ، ويتلقون فيها الخسارة ليتجلى المدد من عند الله ، وتأتي الآية القرآنية لتنبأ وتوثق تلك الواقعة والحوادث فيها ، فتكون الآية بذاتها شاهداً سماوياً على التأريخ ومدداً للمسلمين ومعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تبين معجزات من السنة الدفاعية والقولية والعقلية .
قال تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
وليس من حصر لوجوه المدد النازل من عند الله على المؤمنين في أمور :
الأول : معركة أحد ، بلحاظ ما لها من الخصوصية وكثرة خسارة المسلمين بسقوط سبعين شهيداً وإصابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجراحات البالغة التي لا يفصلها عن الشهادة إلا فضل الله عز وجل من جهات :
الأولى : دنو وقرب العدو من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : لم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا نفر من أهل بيته وأصحابه .
الثالثة : إنكشاف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للعدو ، ولا يضر بصدق هذا الإنكشاف مبادرة أفراد مؤمنين يذبون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتلقون بظهورهم وصدورهم سهام ونبال وحجارة العدو ، ويدل هذا التعدد فيما يرميه الذين كفروا على وصول بعضه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن صيرورة الإنسان ترساً لغيره لا يحجب عنه كل الرمي .
الرابعة : جريان الدماء من وجه ورأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : سقوط الأسنان الأمامية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة : الألم المترشح عن إجتماع سيل الدماء وأذى تلقي الحجارة وسقوط الأسنان دفعة واحدة .
ومع هذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتولى أموراً وهي :
أولاً : مباشرة القتال بنفسه .
ثانياً : الثبات في موضعه من الميدان وعدم مغادرته مع شدة هجوم العدو ، وتعدد الكفار الذين كانوا يطلبون شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالذات لإرادة قتله .
وحتى بعد أن أسند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الشعب جاء أبي بن خلف وهو ( يقول أين محمد لا نجوت إن نجا ) ( )، فاستئذن من حضر من الصحابة للإجهاز عليه ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال دعوه حتى إذا دنا منهم تناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحربة من الحارث بن الصمة , وإنتفض بها ثم إستقبله فطعنه في عنقه فخدشه (خدشا غير كبير فاحتقن الدم قال قتلني والله محمد قالوا ذهب والله فؤادك والله إن بك بأس قال إنه قد كان بمكة قال لي أقتلك فو الله لو بصق على لقتلني فمات عدو الله بسرف وهم قافلون به إلى مكة) ( ).

مفهوم الآية
إبتدأت آية البحث بحرف العطف (ثم) لبيان حقيقة من جهات:
الجهة الأولى : عدم الإنفكاك أو الفصل بين آية البحث وما قبلها وعدم الإنفكاك هذا من وجوه :
الأول : إكرام المسلمين من عند الله في هذه الآيات .
الثاني : إتحاد موضوع هذه الآيات ، وهو واقعة أحد وتفاصيل سير المعركة والحوادث التي جرت فيها .
الثالث : حال البأساء التي صار عليها المؤمنون في ساعة وجولة من يوم معركة أحد إذ أخبرت الآية السابقة عن تنجز وعد الله للمسلمين بقتلهم وحسهم للذين كفروا في بدايات المعركة ثم حدث الخطأ والزلل من الرماة فذكرت الآية ثلاثة أمور دفعة واحدة وهي :
أولاً : غزو الفشل والجبن لنفوس المؤمنين في معركة أحد بعد مجئ خيل الذين كفروا من الخلف , فأن قلت قد ورد قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( )، فلم يحدث الفشل ، ويتحقق الجبن عند الطائفتين , وهم بنو سلمة وبنو حارثة , فكيف وردت الآية قبل السابقة بصيغة العموم الإستغراقي، وكأن الفشل حدث عند المسلمين .
ثانياً : حصول الخلاف بين المؤمنين، ويحتمل قوله تعالى [وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ] ( ) وجوهاً :
الأول : إرادة إختلاف الرماة فيما بينهم بخصوص البقاء على الجبل حتى في حال فرار وهزيمة الذين كفروا أو ترك مواضعهم التي جعلهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع ظهور أمارات الهزيمة على الذين كفروا .
الثاني : إرادة التنازع والخلاف بين المؤمنين أثناء المعركة في سير وقائع المعركة وسير القتال، والتقدم والتأخر في الهجوم، ويحتمل لفظ الأمر في الآية أعلاه وجوهاً:
أولاً : أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد منه شعبتان:
الأولى : إرادة الأمر الذي يصدره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويجمع على أوامر.
الثانية : المراد حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان ويجمع على أمور.
ثانياً : الأمر بمعنى الشيء والموضوع.
ثالثاً : المقصود في الآية أمر مخصوص للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو أمر للرماة بعدم ترك مواضعهم لحين إنتهاء المعركة.
رابعاً : المقصود الوجوه الثلاثة أعلاه .
وفيه حجة على الذين يظنون بالله ظن الجاهلية ويفيد الجمع بين الآيتين الحجة عليهم ، فكيف تظنون بالله غير الحق وهو الذي ألقى الرعب في قلوب الذين كفروا .
ومن وجوه سور الموجبة الكلية بلفظ (كل) في قوله تعالى [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ]حضور مشيئة الله بصدق وعده للمؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ويحتمل إلقاء الرعب هذا بلحاظ قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ]( ) وجوهاً :
الأول : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا مقدمة لصدق وعد الله للمؤمنين .
الثاني : التخفيف عن المؤمنين بما يصيب عدوهم من الوهن والضعف .
الثالث : إنذار الذين كفروا وبعثهم على التوبة والإنابة وجعلهم يكفون عن الإعتداء على الذين آمنوا .
الرابع : بيان قانون وهو أن نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمر ومشيئة الله عز وجل ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الأرْضِ ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ ، وَجُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُورًا، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأمَمِ) ( ).
ووردت الآية بصيغة المعرف بالألف واللام ( الأمر )وإرادة شيء معروف عند المؤمنين وأنهم إختلفوا وتنازعوا فيه ، وفي هذه الحال لابد أن تكون هذه المعرفة متوارثة عند أجيال المسلمين ، إلا أن يشاء الله أن يستر على المؤمنين فلا يظهر الأمر الذي إختلفوا فيه للأجيال اللاحقة من المسلمين، وهو آية في إكرام المجاهدين الذين قاتلوا في سبيله تعالى وأخلصوا الطاعة له سبحانه.
والمختار هو أولاً أعلاه، وفي الآية حذف، وتقديرها على وجوه:
الأول : وتنازعتم في البقاء على الجبل.
الثاني : وتنازعتم في كيفية الإمتثال لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد مجئ خيالة الذين كفروا من الخلف.
الثالث : وتنازعتم في أمر النبي محمد بسبب فشلكم وجبنكم، لبيان قانون في سنخية الإنسان، وهو أن دبيب الجبن إلى النفوس سبب للخصومة والخلاف بين أفراد الجيش، ليكون من مفاهيم قوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ] أمور:
الأول : بيان قبح الفشل والتلبس بالجبن والخوف .
الثاني : طمع الذين كفروا بجولة من المسلمين اذا ظهرت عليهم أمارات الفشل والجبن .
الثالث : حث المسلمين على المناجاة بينهم لإجتناب الفشل والجبن في معارك الإسلام اللاحقة ، وتجلي النفع العظيم من الآية أعلاه في معركة الخندق التي وقعت بعد معركة أحد ونزول الآية قبل السابقة بأقل من سنتين.
الرابع : الأصل هو تتعقب الهزيمة للفشل والجبن ، ويصبح الذي يملأ قلبه الجبن والفشل عازفاً عن الهجوم مع إدراكه أنه على الحق وأن عدوه الكافر على الباطل.
ولكن هذه القاعدة إنخرمت في معركة أحد إذ ظهرت أمارات الفشل والجبن على أغلب المؤمنين ، فتفضل الله سبحانه وجعل برزخاً بين فشل المؤمنين وبين تعرضهم للهزيمة وهو الذي يدل عليه قوله تعالى في خاتمة الآية قبل السابقة [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الخامس : من الإعجاز في الآية قبل السابقة أنها تشير إلى الفشل على نحو عرضي، وهو مقدمة لبيان فضل الله على المسلمين من جهات:
الأولى : قبل الفشل , وهو من وجوه :
الأول : النصر المبين للمسلمين في معركة بدر والتسليم العام بأنه تم بمدد من عند الله عز وجل .
الثاني : الفيوضات الظاهرة بإمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين في معركة أحد.
ومن الإعجاز في قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( )، بيان حقيقة تأريخية وقاعدة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاد وصاحب المؤمنين من المسجد النبوي إلى ميدان المعركة، وهو من الإعجاز البياني في الجمع بين خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيته وبين قيامه وهو في ميدان المعركة بتعيين مواضع أصحابه بقوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( )، وكيلا يقول بعضهم ما هو الدليل على مصاحبة النبي للجيش أو إحتمال أنه أرسل الجيش قبله وإلتحق بهم فيما بعد ولبيان حقيقة وهي أن إعداد جيش الإسلام لمواجهة الذين كفروا في معركة أحد إستمر من حين خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بيته وهو عدة غرف صغيرة بعدد أزواجه أمهات المؤمنين مطلة على المسجد النبوي بمساحته الصغيرة يومئذ ، حتى إذا وصل النبي وأصحابه إلى ميدان المعركة قام بتنظيم صفوف الجيش بعصا صغيرة بيده .
الثالث :إنخزل ثلث جيش المسلمين في الطريق في مصيبة نادرة يتعرض لها جيش مع أن عدد أفراد العدو أربعة أضعاف جيش المسلمين هذا من جهة عدد الأفراد ، اما من جهة الخيل والرواحل والمؤن فالفارق أكبر ، ولكن الرعب كان بانتظارهم ليبدد أمانيهم بالثأر والإنتقام , وليسفه أحلامهم ويكون مقدمة لهزيمتهم وعودتهم إلى ميدان المعركة .
الثانية : حث المسلمين على الإمتناع عن حصر بيان الآية بلحاظ موضوعها فلابد من لحاظ الآية أو الآيات السابقة وإستنتاج تفسير وعلم آخر من الجمع بين هذه الآية والآية أو الآيات التي قبلها لبيان قانون وهو أن سياق الآيات معجزة للقرآن قائمة بذاتها تستنبط منها المسائل والعلوم والأحكام.
وقد تجلت شذرات منه في هذا السفر إذ جاء الجزء الخامس العشرون بعد المائة بالصلة بين آية من القرآن والآية السابقة لها( ) وزاد الله علينا من فضله جاء الجزء السادس والعشرون بعد المائة بصلة شطر من آية بشطر من آية أخرى( ).
وجاء حرف العطف (ثم ) في آية البحث دعوة للمسلم والمسلمة بالتدبر في وجوه الصلة بين هذه الآية والآية التي قبلها ، وتنمية ملكة التدبر في الصلة بين الآيات المتجاورة وغير المتجاورة.
ولا يختص هذا العلم باتحاد الموضوع أو الحكم بين الآيتين فهو عام في كل آيات القرآن ، ويمكن تأسيس قانون الصلة والتداخل بين كل آيتين من القرآن ، وفيه شاهد على إنتفاء التزاحم أو التعارض بينهما وبين مفاهيمهما ودلالاتهما.
الثالثة : تعقب دعوة الرسول لصعود وفرار طائفة من الصحابة ، ليكون من معاني الواو في [وَالرَّسُولُ]المعية والجمع بدليل تقييد دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنها في أخراهم .
وتبين آية البحث قانوناً وهو مصاحبة رحمة الله للمؤمنين، وحضور اللطف الإلهي في حال الرخاء والشدة التي قد يتعرضون لها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ) بلحاظ كبرى كلية وهي ان خروج المؤمنين إلى ميدان معركة أحد من الإحسان من جهات :
الأولى : تجلي صدق الإيمان بالندب للخروج إلى معركة أحد تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذا تفضل الله وشهد للذين بادروا للخروج بنيلهم مرتبة الإيمان ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ).
الثانية : تبين الآية أعلاه أن معرفة المؤمنين بأنهم ذاهبون للقتال والمسايفة والحرب ، لتكون هذه المعرفة صفة كريمة زائدة وخصلة من خصال التقوى .
الثالثة : لقد خرج المؤمنون للقتال مع علمهم بالفارق الكبير بين عدد جيش المشركين العرمرم وكثرة أسلحته ومؤنهم وبين عدد جيش المسلمين الذين لم يريدوا القتال والحرب ، ولكنه فرض عليهم وأدركوا أنه ليس أمامهم إلى الدفاع مما يدل على صدق الإيمان .
الرابعة : خروج المؤمنين إلى المعركة إحسان لأنفسهم ، لما فيه من الثواب العظيم في الآخرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وهل يمكن القول أن هذا الأجر جاء بالإكراه.
الجواب لا ، فصحيح أن القتال أملي على المسلمين بسبب إرادة المشركين غزو المدينة ، ولكن الخروج للدفاع عن النبوة والتنزيل طوعي وإختياري لذا ورد في آية البحث [وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
الخامسة : الإحسان للناس بلحاظ أن هذا الخروج دعوة للإيمان لأنه شهادة بالواسطة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه زجر عن نصرة الذين كفروا .
إن مبادرة خروج الصحابة للقتال يوم أحد دعوة للناس لعدم إعانة الظالمين، وزجر عن الوقوف في برزخ بين الإيمان والكفر فلابد من التحلي بالإيمان .
وتدل بداية الآية في مفهومها على عمومات قوله تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى] ( )، بلحاظ أن نزول النعاس والأمن على طائفة من المؤمنين نعمة من جهات:
الأولى : إنها نعمة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأن الله عز وجل يتعاهد جيش الإسلام من المهاجرين والأنصار لذا كان دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وأحد : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد( ).
ليدل نزول النعاس في مفهومه على سلامتهم من القتل والموت في ميدان المعركة، وأصل النعاس أنه سبب لتضييع فرصة العمل وهو برزخ بين اليقظة والغفلة، ولكنه في موضوع آية البحث كنز نزل من السماء وسبب لليقظة والفطنة، وشاهد عليها، ويدل على هذا المعنى تقييد النعاس بأنه أمنة ليكون هذا التقييد سبيلاً للغبطة , وشاهداً على عز المؤمنين حتى في موطن القتال.
ويحذر القائد جنوده من النعاس والنوم ويدرك الجنود أنه سبب لمباغتة العدو لذا فأكثر ما تكون الغزوات عند وقت السحر والفجر الصادق لأن جنود الطرف الآخر في حال سكينة , ولغلبة النوم والنعاس حتى على المرابطين والعيون في المواقع المتقدمة وبطئ الإستجابة العامة للتنبيه والتحذير من العيون والحرس الساهرين على مراقبة حركة العدو وإرادته الهجوم ، ولكن آية البحث , تبين أن النعاس من جنود الله وهو رحمة بالمؤمنين بقيد أنه أمنة في ذاته وسببه وأثره , وتصاحبه الأمنة .
الثانية : الأمنة والنعاس نعمة على الذين نزل عليهم النعاس ودبّ في أجسادهم ساعة الشدة والضيق ، وبعد جولة للذين كفروا وسقوط نحو سبعين شهيداً من المؤمنين ، وفرار الكثير منهم .
الثالثة : الأمن والنعاس نعمة على المؤمنين الذين خرجوا للقتال في معركة أحد ، وإصطفوا للقاء العدو ، وكان قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) بشارة نزول الأمنة والنعاس وأيهما أعظم نعمة :
الأولى : نزول الأمنة على المؤمنين يوم أحد .
الثانية : نعمة الأمنة النعاس .
الثالثة : نعمة نزول آية البحث التي تخبر عن نعمة الأمنة النعاس .
والجواب مع أن كل نعمة من هذه النعم عظيمة وأكبر من التصور الذهني ، إلا أن نعمة نزول آية البحث هي الأعظم من وجوه :
أولاً :الآية القرآنية نعمة عقلية متجددة .
ثانياً : آية البحث دليل وضياء يهدي المسلمين إلى نعمة الأمنة النعاس ، وفيها بيان للمعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
ثالثاً : تفضح آية البحث المنافقين ، وتدعو الناس لأخذ الحائطة منهم .
رابعاً : آية البحث حجة في الجدال وبرهان في الإحتجاج .
الثالثة : الأمنة والنعاس نعمة على عموم المسلمين الذين حضروا واقعة أحد وهي إعلان وبشارة لسلامتهم من القتل والأسر .
الرابعة : ستبقى آية الأمنة والنعاس نعمة على أجيال المسلمين المتعاقبة لما في معركة أحد من تثبيت لقواعد الإسلام وإنحسار لمفاهيم الضلالة وخيبة للذين كفروا وفيها دعوة للمسلمين في كل زمان لشكر الله عز وجل على نعمة الأمنة والنعاس يوم أحد وسؤال إستدامتها وبقائها بين ظهرانيهم ، ومن خصائص النعم الإلهية أنها إذا نزلت لا تغادر الأرض كالثمار اليانعة يقتطفها المسلمون بذاتها وبتلاوة الآيات القرآنية الخاصة بمعركة أحد .
ومن إعجاز الآية أن النعاس أصاب طائفة من المؤمنين ، وطائفة إنشغلوا بأنفسهم وسلامتهم من القتل يوم أحد تفريطاً وتقصيراً لتبقى فرقة من المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم تذب عنه وعن الإسلام , وعن أنفسهم.
ليكون من معانيه الأمن من العدو والأمن من الهم بالغنائم والحسرة عليها.
ومن مفاهيم الآية حث المسلمين على التوكل على الله والرضا بقضاء الله وملاقاة الذين كفروا بصبر ، وإجتناب الفرار من المعركة والهم به ، قال تعالى [فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ] ( ).
وتتضمن الآية في مفهومها وجوب التفقه والتدبر بفضل الله، وقرب رحمته من المؤمنين وحسن التوكل عليه ، فمن إعجاز آية البحث في مفهومها أنها تتضمن اللوم والذم لطائفة من المسلمين في ساعة المحنة وشدة البأس في معركة أحد.
ليكون موعظة للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة ، وفي حال الحرب والسلم.
فتأتي آية قرآنية بلوم طائفة قليلة من المسلمين لأنهم يظنون بالله غير الحق لتنفر نفوس ملايين المسلمين من سوء الظن هذا ، وفيه دعوة لها للتآزر والتعاضد للسلامة من قبح الظن بالله ، وبلحاظ عطف هذه الآية على النداء التكليفي في قوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ).
يكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا يكون همكم أنفسكم وحدها , وكيفية دفع الموت عنها .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا تظنوا بالله غير الحق ) للتباين بين الإيمان وظن الجاهلية بالله عز وجل .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا توكلوا على الله وفوضوا أموركم إليه ، ولا تقولوا هل لنا من الأمر شيء ، فان الأمر كله لله ).
الرابع : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا ) .
وفي بيان الآية لعلم الله عز وجل بما في الصدور دعوة سماوية ليستحضر المسلم ذكر الله ، ويبادر إلى فعل الصالحات ويتجنب أسباب الهلكة.
ومتى ما أدرك العبد أن مولاه يرقب فعله فانه يكون على حذر ووجل ، ويتجنب تعطيل الأعمال والمكاسب ، فأخبرت آية البحث بعلم الله بما في الصدور.
ولا يقدر على الإخبار عن حالات الظن المعتبر الذي يكون حجة على صاحبه إلا الله تعالى .
وهل تتضمن الآية الثناء على المؤمنين الذين يظنون بالله ظن الحق وأن النصر بيده سبحانه، الجواب نعم، وهو من مصاديق وأسباب نزول النعاس أمنة على فريق من المؤمنين عند نهايات معركة أحد .
وأول آية البحث حرف العطف (ثم) لبيان إتحاد موضوعها مع موضوع الآية السابقة مع تراخ بينهما , وهذا التراخي من مصاديق خاتمة الآية السابقة [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] وفيه حث للمسلمين على الصبر ودعوة لهم لعدم السؤال عن علة التراخي والبطئ الذي يدل عليه الحرف (ثم) في أول هذه الآية ، فقد دلت الآية السابقة على سلامة المؤمنين من الحزن بسبب ما فاتهم من النصر المبين ومن الغنائم ، وما لحقهم من كثرة الشهداء وشدة الجراحات .
فقد أصبح المؤمنون في مأمن من الحزن بعد نزول الغم ثواباً ليحل بساحتهم النعاس وهم في حال سكينة لتكون الأمنة في النعاس نعمة أخرى ورحمة من عند الله ، لذا فمن الإعجاز الإخبار في الآية السابقة بأن الغم ثواب .
ولم تذكر الآية السابقة بأن ذات النعاس نازل من عند الله بينما ذكرت آية البحث أن النعاس نزل من عند الله عز وجل , ويمكن إستقراء قاعدة وهي أن النعمة النازلة بالنعاس أعظم من الثواب بالغم , وأن هناك موضوعية لمسألة النزول أي أن الآية السابقة لم تخبر عن نزول الغم بل أخبرت عن كونه ثواباً ، أما آية البحث فقد ذكرت مسألتين :
الأولى : نزول النعاس بقوله تعالى [ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ]وهل هذا النزول من السماء الدنيا , الجواب لا ، فالأرجح أنه من بطنان العرش , وأن هذا النعاس كنز تفضل الله عز وجل بادخاره ليرزقه [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) وهذا النزول تشريفي إضافي للمسلمين .
الثانية : إتصاف النعاس بأنه أمنة ، وأن الأمن مصاحب له لطرد وهم أو ظن بأن هذا النعاس كسل وخمول إنما هو سكينة ودليل على تحقق الأمن والسلامة من تجدد القتال أو الفرار .
ومن مفاهيم آية البحث حضور نعمة الله عز وجل ونزولها على المسلمين في حال القتال وملاقاة الذين كفروا , وتحتمل مدة وزمان الأمن في قوله تعالى [أَمَنَةً نُعَاسًا]وجوهاً :
الأول : إنحصار الأمن النازل بيوم المعركة وحا ما بعد تغشي الغم للمسلمين ثواباً من عند الله .
الثاني : لم يدم الأمن بلحاظ آية البحث إلا ساعة من نهار اليوم الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة لإقترانه وملازمته للنعاس إذ تخبر الآية أن النازل هو الأمن ونزل بهية النعاس .
الثالث : إرادة التفكيك بين الأمنة والنعاس فارتفع النعاس , ولكن الأمن بقي مصاحباً للمؤمنين .
الرابع : إنقضاء مدة الأمنة مع بقاء النعاس يتغشى طائفة من المؤمنين .
والمختار هو الثالث ، لقد خرج المؤمنون لمعركة أحد وحرموا من الغنائم كالإبل والمؤون ووقوع الأسرى بأيديهم يومئذ ، ولكنهم رجعوا بغنيمة نازلة من السماء وهي الأمن والسلامة من فتك العدو ، ومن وقوعهم أسرى بيده.
ومن مفاهيم الآية دعوة المسلمين للتطلع إلى السماء رجاء نزل فضله تعالى بما هو محسوس ومادي وبما هو معنوي , فكما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقلب وجهه في السماء ينتظر الوحي بأمر مخصوص ، والذي ود في قوله تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا]( )فان المسلمين يتطلعون إلى السماء من جهات :
الأولى : رجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التنزيل والبيان بخصوص موضوع مخصوص ينتظره , وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
الثانية :يتطلع المسلمون لنزول الملائكة مدداً وعوناً ، وهل يختص نزول الملائكة بالمدد والعون في ميادين القتال ، الجواب لا ، فنزولهم أعم فيشمل البركة وأسباب الرزق والتعضيد في أمور الدين والدنيا .
الثالثة : توجه وجوه المسلمين إلى البيت الحرام خمس مرات في اليوم ، لتنبسط هذه المرات الخمسة على جميع آنات اليوم والليلة بلحاظ التباين في أوان أداء الفرائض اليومية بين أقاليم الأرض ، وهو من الإعجاز في تقييد الأداء بالآيات الكونية الجلية والظاهرة في كل مكان وزمان من طلوع الفجر وزوال وغروب الشمس , قال تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ) .
الرابعة : تدل الآية أعلاه على رجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزول الأحكام والسنن من السماء وأن يهديه الله لسبل نشر الإسلام وكفاية القوم الظالمين .
ولو دار الأمر بين إنحصار تقلب وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السماء بخصوص أمر القبلة ونسخها لصرف المسلمين إلى البيت الحرام كقبلة في صلاتهم وبين الموضوع الأعم ورجاء إستدامة التنزيل وبيان الأحكام.
فالجواب هو الثاني , لذا ففي الآية أعلاه من سورة البقرة حذف وتقديره على وجوه :
الأول : قد نرى تقلب وجهك في السماء رجاء الوحي والتنزيل.
الثاني : قد نرى تقلب وجهك في السماء للإعانة في جدال ورد مغالطة الذين كفروا .
الثالث : قد نرى تقلب وجهك في السماء فنثيب المسلمين بالغم.
الرابع : قد نرى تقلب وجهك في السماء فنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً .
الخامس : قد نرى تقلب وجهك في السماء ولم يرد لفظ (تقلب) في القرآن إلا مرتين ، قال تعالى [لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ] ( ).
لبيان التباين بين الإسلام والكفر وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم منقطع إلى الله عز وجل , ويرجو فضله ويجتهد المسلمون في محاكاته ، أما الذين كفروا فإنهم مشغولون بالدنيا مغترون بزينتها ، وقد كفى الله المسلمين فوقاهم من الإفتتان بها وبهم , ومن مصاديق هذه الوقاية الأمنة والنعاس .

منافع الآية
تبين الآية حضور فضل الله ، وتغشيه للمسلمين على نحو الخصوص ، وهم يلاقون رؤساء الكفر والضلالة ، لقد جحدت قريش بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقابلوا المعجزات بالسخرية والمغالطة والتكذيب , وسعوا لصد الناس عن الإسلام وسنن التوحيد .
لم يطيقوا التقيد بأحكام الحلال والحرام وتعاهد أداء الفرائض كالصلاة اليومية , إذ عتادوا على حياة خاصة ملاكها إطلاق العنان للنفس وهواها وجاءت التجارة ومكاسبها في [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) رحمة لقريش خاصة ورشحة من فيوضات جوار بيت الله الحرام ، وليكون شكرهم على هذه النعمة التصديق بالنبوة والتنزيل , ولكنهم إتخذوا أموال هذه التجارة لتجهيز الجيوش العظيمة لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا معه مع أن قريشاً هم أهل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعشيرته ، وقد أوصاه الله بدعوتهم للإسلام وإنذارهم قال تعالى[وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ).
وحينما إلتقى الفريقان في معركة بدر كان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر , وهم على قسمين :
الأول : المهاجرون : وهم على أقسام :
أولاً : أهل بيت النبوة والذين منهم سادتهم علي بن أبي طالب عليه السلام وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث .
ثانياً :المهاجرون من عامة قريش .
ثالثاً : المهاجرون من بطن وشعب مكة من غير قريش .
رابعاً : أهل القبائل من حول مكة ممن هاجر إلى المدينة .
خامساً : الذين هاجروا وجاءوا من خارج الجزيرة .
الثاني : الأنصار وهم الذين آمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصروه وأيدوه من أهل المدينة من الخزرج والأوس .
وكان المسلمون يوم بدر من جهة إنتسابهم على قسمين :
الأول : المهاجرون وعددهم إثنان وثمانون ،(عن ابن عباس أنه قال: كان أهل بدر ثلثمائة وثلاثة عشر، وكان المهاجرون ستة وسبعين , وكانت هزيمة أهل بدر لسبع عشرة مضين من شهر رمضان يوم الجمعة) ( ).
الثاني : الأنصار وهم على قسمين :
الأول : مائة وسبعون من قبيلة الخزرج .
الثاني : واحد وستون من قبيلة الأوس .
إفاضات الآية
تفتح الآية كنوزاً من العلوم وذخائر من رحمة الله لتبين أن الذي ينزل من السماء أعم من الوحي , ومن الغيث والرزق المحسوس ، وقد تنزل الملائكة مدداً كما جاء في قوله تعالى بخصوص معركة أحد [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( )، وأخبرت آية البحث عن نزول نعمة ومدد آخر يتعلق بالمؤمنين في أشخاصهم وجمعهم ونفوسهم وهو ( الأمنة النعاس ) .
وهل سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل في معركة أحد من مصاديق الأمنة التي تذكرها آية البحث , الجواب نعم ، لبيان فضل الله عز وجل على المؤمنين ومؤاساتهم عن الخسارة المتعددة التي لحقتهم في المعركة .
وتبعث الآية الرجاء في نفوس المسلمين لنزول المدد والعون من الله تعالى بصيغ وكيفيات لا يعلمها إلا هو سبحانه ، وفي حال الرخاء والشدة والنعماء والضراء وفيها دعوة للدعاء والتطلع إلى السماء لنزول الفضل من عند الله عز وجل .
أسباب النزول
ورد عن أنس أن أبا طلحة قال (غشينا ونحن في مصافنا يوم أحد ، حدث أنه كان ممن غشيه النعاس يومئذ ، قال : فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، وسقط وآخذه . فذلك قوله { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم }
والطائفة الأخرى؛ المنافقون ليس لهم همّ إلا أنفسهم ، أجبن قوم وأرعبه وأخذ له للحق يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية كذبهم إنما هم أهل شك وريبة في الله) ( ).
والصاف ترتيب الصفوف عند اللقاء مع العدو ومقابلته (صَفَّ الجيشَ يَصُفُّه صَفّاً وصافَّهُ فهو مُصافٌّ إذا رَتَّبَ صُفُوفَه في مُقابِل صُفُوفِ العدوّ والمَصافُّ بالفتح وتشديد الفاء جمع مَصَفٍّ وهو موضع الحرب الذي يكون فيه الصُّفُوفُ وصَفَّ القوم يَصُفُّونَ صَفّاً واصْطَفُّوا وتَصافُّوا صاروا صَفّاً)( ).
وفي حديث صلاة الخوف (أنَّ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان مُصافَّ العدوّ بعُسْفان ، أي مُقَاِبَلُهم)( ).
وعن الزبير بن العوّام قال (رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر وما منهم أحد إلا وهو مميد تحت جحفته( ) من النعاس . فذلك قوله ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً، وتلا هذه الآية ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً) ( ).
وظاهر كلام الزبير أعلاه العموم في تغشي النعاس للمؤمنين يوم أحد ، وبلحاظ آية البحث يكون المقصود من حديثه :
أولاً :كثرة الأفراد الذين ألقى الله عليهم النعاس .
ثانياً : بقاء المؤمنين في حال تصاف وتقارب .
ثانياً : بيان فضل الله , وأنه سبحانه يعطي بالأتم والأعم .
ثالثاً : إتصاف الذين يحيطون بالنبي بالإيمان ، وأنهم من الطائفة التي ألقى عليها النعاس رحمة وأمناً.
وجرت وقائع معركة أحد في يوم واحد، وهو الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة والموافق لليوم الحادي والعشرين من آذار لسنة 625 ميلادية، وقيل وقعت في السابع عشر من شهر شوال من ذات السنة .
ووقعت أحداثها عند جبل أحد الذي يقع في الشمال الغربي من المدينة المنورة ، وبينه وبين المسجد النبوي نحو خمسة كيلو ونصف ، ودخل في هذا الزمان في عمران المدينة في آية إعجازية تبين فيوضات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدق نبوته ورسالته .
وسمي جبل أحد لتفرده عما حوله من الجبال ، وقيل هو الموضع الذي دفن فيه موسى أخاه هارون .
ومما وقع من المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد إلقاء النعاس على أصحابه ، ويحتمل سبب هذا النعاس وجوهاً:
أولاً : جاء النعاس بسؤال من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل .
ثانياً : لقد سأل المؤمنون الله عز وجل أن يمن عليهم بالنعاس أمنة .
ثالثاً : سأل المؤمنون الله عز وجل معجزة تدل على حسن إختيارهم وصدق فعلهم ، وأن فقدهم سبعين شهيداً في معركة أحد، وتعرضهم للإنكسار لا يتعارض مع صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحتمية تحقق النصر على الذين كفروا .
رابعاً : بعد أن نادى الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه عند فرارهم وأمرهم بالعودة إلى ميدان القتال كما في قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] إستجابوا لدعوته ، وسألوا أن يسأل الله عز وجل آية تثبت قلوبهم في مقامات الهدى والإيمان، وفي التنزيل[رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا]( ).
وأن يريهم آية في أنفسهم لتطمئن قلوبهم من غير أن يعينوا النعاس أو غيره ، وقد سأل بنو إسرائيل عيسى عليه السلام أن ينزل الله عليهم مائدة من السماء برهاناً على صدق نبوته ، ونعمة حاضرة من نعم الآخرة ، وحجة لهم وللمؤمنين في الأجيال اللاحقة.
وعن سلمان الفارسي قال (واللّه ما اتبع عيسى (عليه السلام) شيئاً من المآذي قط ولا انتهر شيئاً ولا قهقه ضحكاً ولا ذبّ ذباباً عن وجهه ولا أخلف على أنفه من أي شيء قط ولا عتب إليه. ولما سأله الحواريون أن ينزل عليهم المائدة لبس صوفاً وبكى .
وقال : اللهم أنزل علينا مائدة من السماء الآية وارزقنا عليها طعاماً نأكله وأنت خير الرازقين فنزل اللّه سفرة حمراء بين غمامتين،
غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها (وهي تجيء مرتفعة) حتى سقطت من أيديهم فبكى عيسى فقال : اللهم إجعلني من الشاكرين، اللهم إجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة.
واليهود ينظرون إلى شيء لم يروا مثله قط ولم يجدوا ريحاً أطيب من ريحه.
فقال عيسى : أيكم أحسنكم عملاً فيكشف عنها ويذكر اسم اللّه ويأكل منها؟
فقال شمعون رئيس الحواريين : أنت بذلك أولى منا،
فقام عيسى وتوضأ وصلى صلاة طويلة وبكى كثيراً ثم كشف المنديل عنها وقال : بسم اللّه خير الرازقين،
فإذا هو بسمكة مشوية ليس عليها ضلوعها ولا شوك فيها سيل سيلاً من الدسم وعند رأسها ملح ويمتد ذنبها خل وجهها من ألوان البقول ما خلا الكراث وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد.
فقال شمعون : يا روح اللّه أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟
فقال عيسى : ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الآخرة ولكنه شيء فعله اللّه بالقدرة العالية فكلوا مما سألتم مني في دار الدنيا ولا أعلم ما يكون منكم في الآخرة) ( ).
خامساً : نزل النعاس نعمة من عند الله , وإبتداء من فضله .
والمختار هو الأخير , وربما لم يطرأ على أذهان الصحابة أن ينزل النعاس نعمة ورحمة من عند الله تعالى وآية للعلمين.
ولقد تفضل الله عز وجل بصلاة الخوف والتقصير فيها عند الشدة والخشية من غدر العدو , وتفضل باباحة الإفطار للمريض والمسافر ، وإستثنائهما من وجوب الصيام , وتفضل وقيد وجوب أداء حج البيت الحرام بالإستطاعة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ).
وعن أنس قال (نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع.
فجاء رجل من أهل البادية فقال : يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك.
قال : صدق . قال : فمن خلق السماء؟ قال : الله . قال : فمن خلق الأرض.
قال : الله . قال : فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟
قال : الله . قال : فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال ، الله أرسلك؟
قال : نعم .
قال : وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟
قال : صدق . قال : فبالذي أرسلك ، الله أمرك بهذا؟
قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا؟
قال : صدق . قال : فبالذي أرسلك ، الله أمرك بهذا؟
قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا؟ قال : صدق . قال : فبالذي أرسلك ، الله أمرك بهذا؟
قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا [حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ). قال : صدق . قال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا انتقص منهن . فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لئن صدق ليدخلن الجنة) ( ).
وتفضل الله سبحانه بتغشي نعمة النعاس على جوارح وأذهان المؤمنين في معركة أحد , ويحتمل نزول النعاس في أوانه وجوهاً :
أولاً : نزل النعاس في أول معركة أحد وقبل أن يلتقي جيش الإيمان بأمامه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجيش الذين كفروا .
ثانياً : هبط النعاس على المؤمنين عندما بدأ القتال لصيرورة الفارق الكبير في العدد والعدة بين الفريقين ورجحانه إلى جانب الذين كفروا أمراً واقعاً قد يترتب عليه الأثر ، لولا فضل الله على المؤمنين.
ثالثاً : نزول النعاس على المؤمنين عند إشتداد القتال بين الفريقين يوم واقعة أحد .
رابعاً : لقد إنقسم المؤمنون يوم أحد إلى قسمين :
الأول : الذين بقوا يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان وهم الأقل في العدد من مجموع جيش المسلمين البالغ نحو سبعمائة رجل .
الثاني : الذين فروا من وسط الميدان وهم الأكثر ، ونزل النعاس بعد حدوث هذا الحال لمواساة الذين بقوا في الميدان من المؤمنين .
خامساً : أوان نزول النعاس بعد دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين للعودة إلى ميدان المعركة ليكون وسيلة لجذبهم إليها، وتقدير الآية : ثم أنزل عليكم النعاس لتنزلوا من الجبل.
سادساً : نزول النعاس على المؤمنين في آخر آنات المعركة وبعد النزول من الجبل والعودة من طريق الهزيمة والفرار .
والمختار هو الأخير ، وهو الذي يدل عليه نظم هذه الآيات .
لتبين هذه الآية ترتيب الوقائع وحال المؤمنين الصحابة في معركة أحد على وجوه :
الأول : إقتران التقاء الصفين بإلقاء الرعب عند الله في قلوب الذين كفروا ليحصل الإرتباك في صفوفهم ، وتكون غشاوة على أبصارهم فلا يرون ثغرة قد تحدث عند المؤمنين (وروى الكلبي عن رجل من (أهل الشام) عن كعب في هذه الآية قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستتر من المشركين بثلاث آيات : الآية التي في الكهف {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا}( )، والآية التي في النحل {أُولَاكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ}( )، إلى قوله {هُمُ الْغَافِلُونَ}.
والآية التي في الجاثية[أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ]( )، إلى قوله {غِشَاوَةً} فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قرأهن يستتر من المشركين.
قال كعب : فحدثت بهن رجلاً من أهل الشام فمكث فيهم ما شاء الله أن يمكث ثمّ قرأ بهنّ فخرج هارباً وخرجوا في طلبه حتّى كانوا يكونون على طريقه ولا يبصرونه.
وروى الكلبي عن رجل من (أهل الشام) عن كعب في هذه الآية قال : كان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يستتر من المشركين بثلاث آيات : الآية التي في الكهف {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا} والآية التي في النحل {أُولَاكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} إلى قوله {هُمُ الْغَافِلُونَ} .
والآية التي في الجاثية {أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الههُ هَوَ اهُ} إلى قوله {غِشَاوَةً} فكان رسول الله {صلى الله عليه وسلم} إذا قرأهن يستتر من المشركين.
قال كعب : فحدثت بهن رجلاً من أهل الشام فمكث فيهم ما شاء الله أن يمكث ثمّ قرأ بهنّ فخرج هارباً وخرجوا في طلبه حتّى كانوا يكونون على طريقه ولا يبصرونه.
قال الكلبي : حدثت به رجلاً بالري فأُسر بالديلم فمكث فيهم ما شاء الله أن يمكث ثمّ قرأهنّ وخرج هارباً وخرجوا في طلبه حتّى جعل ثيابهم لتلتمس ثيابه فما يبصرونه( )، واليلم أو الديالمة من شعوب إيران وبلادهم تسمى بلاد جيلان واقعة في الجنوب الغربي من شاطئ بحر الخزر وهو بحر قزوين , وعن المدائني قال : كان كسرى أرسل إلى جيلان فأتى أربعة آلاف رجل من الديلم ، وكانوا خدمه وخاصته ثم كانوا على تلك المنزلة بعده وشهدوا القادسية ، فلما قتل رستم وإنهزم المجوس إعتزلوا وقالوا : ما نحن كهولاء ، ولا لنا ملجأ ، وأثرنا عندهم غير جميل ، والرأي لنا أن ندخلهم في دينهم فنعز بهم .
والأقوى أنهم رأوا المعجزات والبراهين الساطعة التي تدل على صدق بالدعوة إلى الإسلام ، ودخل بلاد الديلم الحسن بن علي الملقب بالأطروش وأقام بينهم ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام ، ودخل خلق كثير منهم الإسلام وتوفى الأطروش سنة 304 ز
ومن الديالمة البويهيون الذين إستولوا على واسط ، وكاتب قواد بغداد ابن بويه , فقدم بغداد وكان زيدياً وعقد نوع حلف مع الخليفة العباسي المكتفي بالله الذي منحهم السلطة ومنحهم الألقاب .
فمكث فيهم ما شاء الله أن يمكث ثمّ قرأهنّ وخرج هارباً وخرجوا في طلبه حتّى جعل ثيابهم لتلتمس ثيابه فما يبصرونه)( ).
ليكون من منافع قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] وجوه :
أولاً : الإنذار الذاتي للذين كفروا بمعنى أن مصاديق الإنذار تتغشاهم وتنفذ إلى قلوبهم وجوارحهم ، ففي الحرب تبرز مسائل خاصة بفنون القتال ، وقد لا يلتفت الناس إلى المعجزة العقلية أو الحسية الخارجية لأنهم مشغولون بأنفسهم ، وتدبير صيغ الخديعة والمكر والمهارة في القتال.
فجعل الله عز وجل المعجزة تخترق قلوب الذين كفروا بان إمتلأت بالرعب ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا] ( ) فلا مانع من تحقق معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نفوس أعدائه ، وقد بينت الآية أعلاه أن علة الرعب هو شركهم بالله عز وجل مع تعدد وتجلي الآيات الكونية ومعجزات النبوة والتنزيل التي تدعوهم إلى التوحيد والإقرار بالعبودية لله ، والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويمكن تقسيم معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ الموضوع تقسيماً إستقرائياً إلى جهات :
الأولى : معجزة التنزيل ، وكل آية من القرآن معجزة عقلية قائمة بذاتها.
الثانية : ترشح المعجزات الحسية عن الآية القرآنية ، وهو من أسرار إنفراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأنبياء والمرسلين بالمعجزة العقلية ، إذ جاءت معجزات الأنبياء حسية ، مثل سفينة نوح , وناقة صالح , وعصا موسى ، وإبراء عيسى عليه السلام للأكمه والأبرص وإحيائه لبعض الموتى ، وفي التنزيل [وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا] ( ).
الثالثة : المعجزات الخاصة بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حين ولادته إلى أيام بعثته وهجرته وسلامته من كيد الأعداء ، وهل من معجزات خاصة بمعركة أحد في هذا الباب ، الجواب نعم منها ما تبينه هذه الآيات ، ومنها آية البحث وكيف أن الله عز وجل يأمر نبيه في الشطر الأخير منها مرتين بلفظ (قل) .
الرابعة : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخاصة بأهل البيت .
الخامسة : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تجلت في أصحابه ودخول الناس الإسلام .
السادسة : التغيير النوعي الذي حصل في المجتمعات , والتهذيب عند الناس بالإبتعاد عن العادات المذمومة , ومنها الثأر العشوائي ووأد البنات ، قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( ).
السابعة : تحسن الحالة المعاشية ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل يختص هذا التحسن بالمسلمين وأهل المدينة المنورة بجلب الغنائم لها ، والفداء الذي دفعته قريش لفكاك أسراهم في معركة بدر ، الجواب لا ، فمن بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عموم البركة والفيوضات فيها، وهو من رشحات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
ويكون من مصاديق الإنذار بلحاظ الآية أعلاه خروج كفار قريش بالتخصص من هذه البركات لأنهم سخروا أموالهم لمحاربة الإسلام، ولدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليهم (عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع « اللهم أنج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين . اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف يجهر بذلك وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر اللهم العن فلاناً وفلاناً . . . لأحياء من أحياء العرب يجهر بذلك حتى أنزل الله[لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ]( )، وفي لفظ اللهم العن لحيان ، ورعلا ، وذكوان ، وعصية ، عصت الله ورسوله . ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزل قوله { ليس لك من الأمر}( )( ).
الثامنة : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تتجلى واضحة على الذين كفروا بالجوع والخوف والإختلاف والشقاق والوهن والحزن، ومنها إلقاء الرعب في قلوبهم عند اللقاء ، وقيدت الآية الرعب ببيان علته وهو الشرك بالله ، لبيان قانون من الإرادة التكوينية وهو ملازمة الرعب للذين يحاربون الأنبياء إصراراً على الشرك , ويكون وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : يلقي الله الرعب في قلوب الذين يحاربون الأنبياء .
الصغرى : حارب كفار قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
النتيجة : يلقي الله الرعب في قلوب كفار قريش .
الثالثة : ما تجلى من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أعدائه والذين نصبوا له العداوة وجهزوا الجيوش لقتاله ومنها :
أولاً : عودة الجيوش التي تحارب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من ميدان القتال بالخيبة والحسرة وأعباء الخسارة بالنفوس والمؤون والسلاح ، قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
ثانياً : خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه إلى سوح القتال وعجز العدو عن الوصول إليه ، ليعود إلى المدينة في كل مرة سالماً من القتل، وتكون هذه السلامة من أصل الإستصحاب أي يدرك المسلمون وأهل المدينة المنورة عموماً وغيرهم عند خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ميدان المعركة أنه يعود سالماً .
وفيه آية وحرز من التعدي على عوائل المسلمين والقاعدين منهم عند غياب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سوح القتال ، وأصل الإستصحاب مرتكز عقلي قبل أن يكون مبحثاً أصولياً .
ثالثاً : إزدياد عدد جيش المشركين على نحو تصاعدي في المعارك المتتالية ثم صيرورته إلى النقصان والقلة والإنحسار مع إتحاد النتيجة وهي رجوعهم بانكسار وذل وخيبة من جهات :
الأولى : عدد جيش الذين كفروا في معركة بدر نحو ألف .
الثانية : عدد جيش الذين كفروا في معركة أحد ثلاثة آلاف رجل .
الثالثة : عدد جيش الذين كفروا في معركة الخندق عشرة آلاف رجل .
ثم عجز الذين كفروا عن تجهيز جيش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصابتهم الفاقة ، ولحقهم الخزي ، وتعطلت تجارتهم وتوقفت [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) إذ كانت قريش تسافر بالعير والقوافل في الشتاء إلى اليمن والصيف إلى الشام لجلب البضائع مع الغبطة والسياحة ورغد العيش وإحاطة الخدم والعبيد بهم ، والإتصال بالملوك والتجار والذوات في الأمصار، لتتحول هذه النعمة إلى المسلمين ومعها نعم متعددة.
وفي كفار قريش وصدودهم عن النبوة والتنزيل وإصرارهم على محاربة المسلمين نزل قوله تعالى [أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ] ( ).
التاسعة : ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دخول الذين حاربوه الإسلام طوعاً وقهراً ، فهذا الدخول بذاته معجزة وهو من رشحات معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل هو من معجزاته في أعدائه أم في أصحابه , أو فيهما معاً .
الجواب لا تعارض بينها ، وهو من فضل الله عز وجل وسيبقى موعظة للأجيال وباعثاً على الإيمان .
العاشرة : بيان وجود طائفة من المسلمين تظهر الإيمان وتخفي الكفر وهم المنافقون فلولا نزول القرآن بفضحهم وبيان خصالهم وذمهم وتقبيح فعلهم لما إلتفت إليهم أحد ولإرتقوا إلى منازل رئاسة في الإسلام ، وقاموا بتشويه سننه وأحكامه، وأبى الله عز وجل إلا سلامة القرآن من التبديل والتحريف.
وأراد الله سبحانه حفظ سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأنذر المنافقين ، وحذر المسلمين والناس منهم , وأخبر عن سوء عاقبتهم ، قال سبحانه [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( ) ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص المنافقين أمور:
الأمر الأول : الإخبار القرآني عن طائفة من المسلمين إسمهم المنافقون .
الأمر الثاني : تحذير المسلمين من النفاق , ليكون من مصاديق وعمومات قوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي) ( )، تفقه المسلمين في الدين ، والتوقي من أمارات النفاق ، وصفات المنافقين ، ليتضمن قوله تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ] ( )مسائل :
الأولى : الإخبار السماوي عن وجود أفراد مع المسلمين يحملون صفات النفاق ، ودعوة المسلمين لنعتهم بالمنافقين .
الثانية : بيان حقيقة وهي عدم إنحصار النفاق بالرجال ، فيشمل النساء وفيه وجوه :
أولاً : بعث الحيطة والحذر في نفوس المسلمين .
ثانياً : تحذير المؤمنين والمسلمين جميعاً من المنافقات .
ثالثاً : إرتقاء المسلمين في مراتب الفقاهة .
رابعاً : قد يظن بعض المؤمنين بعدم دبيب النفاق إلى النساء، وإن وصل إليهن فليس لهن أثر وتأثير ، فجاءت الآية أعلاه معجزة في بيان أحوال الناس العقائدية ، ودليلاً على أثر وموضوعية المرأة في الحياة العامة للمسلمين ، وإحتمال قيامها بصد عدد من المؤمنين عن الخروج إلى ميادين القتال .
خامساً : ذكر الفرد الجامع بين المنافقين والمنافقات من غير تعيين وإخبار عن إتحاد الأسرة ، فقد يكون المنافق زوجاً لمؤمنة , والمنافقة زوجة لمؤمن ، مما يلزم العناية بالأسرة , وموضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين أفرادها , التوقي من النفاق , والإحتراز من إبطان الكفر والضلالة بعد إعلان الإسلام .
سادساً : حث المسلمين على جذب النساء لمقامات الهدى والإيمان والتفقه في الدين ، ومعرفة سبل السلامة من النفاق .
الثالثة : صيرورة الآية القرآنية التي تذكر المنافقين حرباً على النفاق ووسيلة مباركة للتنزه عنه .
الرابعة : بيان صفة قبيحة يعرف بها المنافقون رجالاً ونساءً وهي أمرهم بالنهي عنه ، ونهيهم عن المأمور به فلابد أن المسلمين يعرفون مصاديق المعروف ، وضروب النهي .
الأمر الثالث : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص المنافقين سلامة صرح الإسلام ومجتمعات المسلمين من شر المنافقين ، ومن موالاتهم للكافرين .
الرابع : بيان قانون وهو لزوم الإخلاص في طاعة الله، وإيمان المسلم في السر والعلانية، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال أصبحنا على فطرة الاسلام وكلمة الاخلاص ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما أنا من المشركين( ).
الخامس : كل آية من القرآن سبب لإنحسار النفاق ليكون من أسرار تلاوة المسلمين والمسلمات لآيات وسور القرآن في الصلاة العصمة من النفاق، ومنها إعانة الناس على إجتنابه ، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( )، بلحاظ أن تلاوة القرآن سبب للهداية والصلاح ونفرة القارئ والسامع للنفاق.
السادس : صدق نزول القرآن من عند الله لتضمنه الإخبار عن خفايا النفوس ، وما تضمره الصدور ، إذ يدل ذم الله للمنافقين بدلالته الإلتزامية على سلامة قلوب المؤمنين من النفاق والثناء عليهم لأنهم يتلون الآيات التي تذم النفاق والمنافقين ، وفي هذه التلاوة دعوة لهم للتوبة والإنابة .
ومنها تلاوة آية البحث وما فيها من الثناء على المؤمنين وفوزهم بنعمة نزول النعاس أمنة.
وبين الذم الوارد للذين إنشغلوا بأنفسهم في آية البحث [قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ] وبين النفاق والهم بالنفس عموم وخصوص مطلق , فكل منافق يهم بنفسه ، وليس كل من يهم بنفسه منافقاً .
وصحيح أنه ورد في أسباب النزول تعلق شطر الآية أعلاه بعدد من المنافقين إلا أن المدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول ، وجاءت الآية لبيان قانون وهو حجب المسلم عن نفسه النعمة النازلة من عند الله عند إجتماع أمور :
الأول : الهم بالنفس والحرص على سلامتها ، وتقديم حب الحياة باجتناب القتال في سبيل الله .
الثاني : الظن بالله عز وجل الذي هو حاضر معهم , ويمد نبيه الكريم بأسباب ومقدمات النصر .
الثالث : الجدال وبث روح الشك وصيغ الوهن بين المؤمنين .
أخرج ابن جرير عن السدي (أن المشركين انصرفوا يوم أحد بعد الذي كان من أمرهم وأمر المسلمين ، فواعدوا النبي صلى الله عليه وسلم بدراً من قابل فقال لهم : نعم . فتخوّف المسلمون أن ينزلوا المدينة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً فقال : انظر فإن رأيتهم قد قعدوا على أثقالهم ، وجنبوا خيولهم ، فإن القوم ذاهبون . وإن رأيتهم قد قعدوا على خيولهم ، وجنبوا على أثقالهم ، فإن القوم ينزلون المدينة . فاتقوا الله واصبروا ، ووطنهم على القتال .
فلما أبصرهم الرسول قعدوا على الأثقال سراعاً عجالاً نادى بأعلى صوته بذهابهم ، فلما رأى المؤمنون ذلك صدقوا نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فناموا ، وبقي الناس من المنافقين يظنون أن القوم يأتونهم فقال الله يذكر حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم })( ).
وعن ابن عباس قال (مُعْتِبٌ الَّذِي قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ”لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قَتَلْنَا هَاهُنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: ” وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ ” إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ)( ).
وعن قتادة (فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ ” قَالَ: وَكَانُوا يَوْمَئِذٍ فِرْقَتَيْنِ، وَأَمَّا الْفُرْقَةُ الأُخْرَى فَالْمُنَافِقُونَ لَيْسَ لَهُمْ هَمٌّ إِلا أَنْفُسَهُمْ، أَرْعَبُ قَوْمٍ وَأَخْبَثَهُ وَأَخْذَلُهُ لِلْحَقِّ)( ).
لقد تضمنت آية البحث الذم والتوبيخ للمنافقين من جهات :
الأولى : الإخبار عن سوء سرائر المنافقين من وجوه :
الأول : لا يشغل المنافقين إلا أمر سلامتهم ونجاتهم , ويظنون أن إحرازها ينحصر بالإمتناع عن الوصول إلى موضع إلتقاء الصفين .
الثاني : سوء ظن المنافقين بالله وشكهم بنصره للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين مع تجلي هذا النصر في معركة بدر التي لم يمض عليها سوى عام واحد ، فالأصل هو إستصحاب هذا النصر وإستمرت مسألة فك الأسرى ومجئ أهل الأسرى إلى المدينة لدفع البدل بعدها .
الثالث : رجوع المنافقين إلى المفاهيم القهقرية وغلبة أوهام الجاهلية وأفكار الضلالة عليهم .
الثانية : صدور القول القبيح ومعاني الشماتة من المنافقين قبل وبعد معركة أحد ، فحينما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وقد أصيب وأصحابه بنكبة (فَجَعَلَ ابن أُبَيّ وَالْمُنَافِقُونَ مَعَهُ يَشْمَتُونَ وَيُسَرّونَ بِمَا أَصَابَهُمْ وَيُظْهِرُونَ أَقْبَحَ الْقَوْلِ) ( ).
الثالثة : إستمرار المنافقين ببث سمومهم وإظهار شكوكهم علناً عندما أصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون .
فمثلاً كان عبد الله بن عبد الله بن أبي بن أبي سلول مؤمناً وأصيب بالجراحات فبات ليلته يعالج جروحه بالكي بالنار (وَجَعَلَ أَبُوهُ يَقُولُ مَا كَانَ خُرُوجُك مَعَهُ إلَى هَذَا الْوَجْهِ بِرَأْيٍ عَصَانِي مُحَمّدٌ وَأَطَاعَ الْوِلْدَانَ وَاَللّهِ لَكَأَنّي كُنْت أَنْظُرُ إلَى هَذَا) ( ) أي أني أتوقع حصول هذه النتيجة بسقوط القتلى وكثرة الجراحات والكلوم في صفوف المسلمين فيرد عليه إبنه وهو في جراحته بالقول : الذي صنع الله لرسوله وللمسلمين خير ، فكانت شماتة وأقوال المنافقين سبباً لنزول آية البحث لتكون سلاحاً وواقية ومنعاً من مواصلتهم إثارة ضروب الفتنة بين المسلمين والمسلمات .
الرابعة : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإحتجاج وبيان قانون أن القتال وخوض المعارك وكثرة الجراحات وسقوط الشهداء ليس برزخاً دون إحتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يصير سبباً في إرجاء الإحتجاج منه .
ومن قوانين النبوة تقومها بالإحتجاج والجدال بالدليل والبرهان على وجوب التوحيد ، والرضا بأمر الله ، وفي التنزيل ورد بصيغة الأمر والوجوب ، قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
وفي خاتمة الآية أعلاه بيان لعظيم النفع من الإمتثال لأمر الله ورسوله وبقصد القربة ، ولا تختص الرحمة في الآية أعلاه بالدنيا أو خصوص موضوع الطاعة بالذات بل تشمل الآخرة , وتتجلى الرحمة بصرف أهوال البرزخ ويوم القيامة عمن يطع الله والرسول.
وعن الإمام علي عليه السلام ( إنكم والله لو حننتم حنين الوله العجال ودعوتم دعاء الحمام وجأرتم جؤار متبتلي الرهبان ثم خرجتم إلى الله من الأموال والأولاد التماس القربة إليه في ارتفاع درجة عنده أو غفران سيئة أحصاها كتبته لكان قليلا فيما أرجو لكم من جزيل ثوابه وأتخوف عليكم من أليم عقابه .
فبالله بالله بالله لو سالت عيونكم رهبة منه ورغبة إليه ثم عمرتم في الدنيا ما الدنيا باقية ولو لم تبقوا شيئا من جهدكم لأنعمه العظام عليكم بهدايته إياكم للإسلام ما كنتم تستحقون به الدهر ما الدهر قائم بأعمالكم جنته ولكن برحمته ترحمون , وإلى جنته يصير منكم المقسطون جعلنا الله وإياكم من التائبين العابدين) ( ).
نشوء وثبات الإسلام مع إشهار السيوف عليه
من إعجاز آية البحث أنها لم تبدأ بحرف العطف الواو فلم تقل ( وأنزل عليكم ) لإحتمال إفادة الجمع بين الغم والنعاس زماناً ومحلاً.
ويحث (ثم) المسلمين والمسلمات على الشكر لله عز وجل على كل نعمة في الآية السابقة وهي :
الأولى : إبتداء الآية السابقة بالإخبار عن صعود المسلمين الجبل وفرارهم من ميدان معركة أحد ، بلحاظ أن لفظ [تصعدون] أعم من الصعود على الجبل ويشمل معنى الهزيمة والهروب ، والإبتعاد قليلاً في الأرض.
الثانية : عدم إنحصار الثواب بالغم، بل يبين سياق الآيات الزيادة في الثواب كماً وكيفاً، وإسماً ومسمى، إذ جاءت بعد الغم الأمنة والنعاس.
الثالثة: بيان حقيقة وهي أن المسلمين قد يتعرضون للخسارة ويلجأون إلى الفرار ، ولا يعني هذا إنكسارهم وهزيمتهم ، وفي صعود الصحابة الجبل فراراً حجة وبرهان من وجوه :
الأول : فيه دلالة على إصرار الذين كفروا على الإستمرار في القتال، وإرادة القضاء على سنن الإيمان التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : بيان حاجة المسلمين لفضل الله بدعوة أصحابه للرجوع إلى الميدان.
الثالث : إنه حجة على الذين كفروا , وشاهد على شدة بأسهم , وسعيهم الحثيث لإستئصال الإسلام , ومنع توالي نزول آيات القرآن ، وفيه شاهد بأن الإسلام لم يقم بالسيف، ولكنه قام وإنتشر مع شدة وكثرة التعدي عليه من جهات :
الأولى : إيذاء كفار قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنين الأولى لدعوته إلى الله , وهذا الإيذاء من وجوه :
أولاً : إنكار الكفار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع رؤية المعجزات .
ثانياً : المناجاة بين المشركين بالجحود والكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لينعم الله عز وجل عليه بالمؤاساة بأن جعل أصحابه يتناجون بالمعروف ويحث بعضهم بعضاً على فعل الخيرات والفداء والتضحية في سبيل الله ، قال تعالى في الثناء على المؤمنين الذين يعملون الصالحات وما ينتظرهم من الثواب العظيم [إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ *وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] ( ).
ثالثاً : بذل الكفار الوسع في الإستخفاف بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند رؤيته وعند أدائه الصلاة في البيت الحرام الذي بني أصلاً للصلاة والطواف والذكر ، قال تعالى [وَعَهِدْنَا إِلَي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ]( ).
رابعاً : تعذيب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين دخلوا الإسلام ، والتضييق عليهم والسعي لإكراههم على ترك الإسلام وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد أدركت قريش أمراً وهو كلما تقادمت الأيام على الذين أسلموا إزدادوا إيماناً وإجتهدوا في دعوة ذويهم والناس إلى الإسلام ، وصار من العسير على كفار قريش حملهم على الإرتداد ، ليدل بالدلالة الإلتزامية على إقرارهم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من عمومات قوله تعالى [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ] ( ).
خامساً : فرض حصار إقتصادي وإجتماعي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت في شعب أبي طالب في السنة السابعة للبعثة النبوية ولأكثر من سنتين ، ومن غايات كفار قريش الخبيثة من هذا الحصار :
الأول : حمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على ترك الدعوة إلى الله سبحانه .
الثاني : إرادة منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إعلان نبوته ، وأنه رسول من عند الله .
الثالث : سعي الكفار لكف النبي وأصحابه عن ذم عبادة الأصنام وتقبيح ما يفعل الكفار من تقديسها والتقرب إليها زلفى .
الرابع : التخويف والإنذار لأهل البيت والسعي لجعلهم يتركون نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : بعث الخوف والفزع في قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة جعلهم يتركون الإسلام وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : زجر عموم شباب قريش كيلا يدخلوا الإسلام ويتبعوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، فتفضل الله عز وجل وحث المسلمين على الصبر والتقوى ، قال تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا] ( ).
سادساً : إرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه ، ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المقام أن رؤساء قريش إتفقوا على هذه الرأي والإشتراك بدمه كي توزع الدية عليهم ويصعب الثأر من قاتله لتعدد الذين حثوا على القتل وشاركوا فيه ، فأنجاه الله عز وجل بذات الليلة ليخرج مهاجراً إلى المدينة المنورة , ويبدأ التأريخ والسنن بالتغير والتبدل النوعي لتثبيت سنن التوحيد ومعالم الإيمان .
فلا غرابة أن يجعل المسلمون بداية تأريخهم من حين سنة الهجرة النبوية المباركة ، وليس من أوان ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو من حين بعثته أو من يوم معركة بدر الذي سماه الله عز وجل (يَوْمَ الْفُرْقَانِ) ( ).
سابعاً : إرسال قريش وفداً خلف المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة لتحريض ملك الحبشة عليهم مما يدل على أن بغضهم لا يختص بظهور الإسلام في مكة ، وسعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإعلاء كلمة التوحيد وإزالة الأصنام من البيت الحرام .
ثامناً : إبلاغ القبائل في موسم الحج بلزوم عدم الإنصات لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم , والإفتراء عليه بحضورهم ، ورميه بالجنون .
لقد كانت قريش تخشى إتصال دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوفود القبائل التي تحضر الموسم فيجتمع كبار رجالات قريش في دار الندوة للعمل على الفصل بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقبائل , وبما يبعث النفرة في نفوسهم من دعوته لهم.
قال ابن إسحاق : ثم إن الوليد بن المغيرة إجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم فقال لهم يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم وان وفود العرب ستقدم عليكم وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا قالوا .
فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول فيه قال بل أنتم فقولوا أسمع .
قالوا نقول كاهن قال والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه .
قالوا فنقول مجنون قال والله ما هو بمجنون ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بحنقه ولا تخالجه ولا وسوسته قالوا .
فنقول شاعر قال ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر.
قالوا فنقول ساحر قال ما هو بساحر قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده قالوا فما تقول يا ابا عبد شمس.
قال والله ان لقوله لحلاوة وان اصله لعذق وان فرعه لجناة وما انتم بقائلين من هذا شيئا الا اعرف انه باطل .
وان اقرب القول فيه لان تقولوا ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه , وبين المرء وأخيه , وبين المرء وزوجه , وبين المرء وعشيرته, فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون لسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه , وذكروا له أمره , وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها)( ) .
وكانت قريش تضع رجالاً على طريق العرب القادمين إلى مكة تحذرهم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ولم تستطع قريش إيذاءه حينئذ لأن قدوم القبائل يكون في الأشهر الحرم : شوال وذي القعدة وذي الحجة لأداء الحج.
فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطوف على القبائل في خيامهم ومنازلهم قبل أن يأمره الله بالهجرة إلى المدينة ، وكان يدعو الناس إلى عبادة الله عز وجل ونبذ الشرك .
ويروي بعض أهل الموسم يومئذ: أنه كان يرى رجلاً وراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول (أيها الناس أن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم ، ولما نسأل عنه قالوا إنه عمه أبو لهب).
وهل كان لقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ والدعوة إلى الله في موسم الحج موضوعية في سعي قريش لقتله في فراشه الجواب نعم .
قانون إحتجاج القرآن
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار القوانين التي تترشح عن الإرادة التكوينية , ومنها قانون إحتجاج القرآن والبراهين الساطعة التي تتجلى في مضامين آياته القدسية , وهو قانون ثابت إلى يوم القيامة , ويمكن تأليف مجلدات بعنوان (إحتجاج القرآن) بلحاظ أمور :
الأول : بيان إحتجاج الله عز وجل على الملائكة عند خلق آدم وإخبارهم بأنه سيجعله خليفة في الأرض ، ويدل معنى الخليفة والإحتجاج عليها على إستدامة هذه الخلافة من غير أن يأتي جنس آخر من الخلائق لينافس الإنسان في الأرض وثرواتها ، إلا أن الناس أنفسهم يتقاتلون بينهم في ذات الوقت الذي أقام الله عز وجل الحجة عليهم بأن جعلهم من أب وأم واحدة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ) , وأفاض عليهم من ضروب الرزق والبركات غير المتناهية.
وقد بيّن القرآن وإلى يوم القيامة ملاك التفضل وعلة الترجيح وهو الصلاح والهدى وسنخية التقوى ولا تكون الروابط العصبية والإنتماءات الأخرى بدلاً وخلفاً للإسلام ، ويمكن أن تكون في طوله ولا تتعارض معه .
الثاني : تفضل الله عز وجل بالإحتجاج على الناس في القرآن، وهو من اللطف بهم جميعاً وفيه مصداق لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )إذ يقيم الله عز وجل الحجة على الكافرين مجتمعين ومتفرقين في آيات كثيرة من القرآن ، وفيه تأديب للمسلمين وحث لهم للزوم إتخاذ الجدال والإحتجاج وسيلة لتأكيد صحة إختيار الإيمان ، وطريقاً للهداية والتوبة والإنابة ، ومنها التذكير بنعمة الخلق والنشأة .
الثالث : لغة الإنذار بالعالم الآخر وحال الجزاء فيه ونزول العذاب بالذي يظلم في الدنيا ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ] ( )وبينت آيات القرآن سوء عاقبة الذين كفروا على نحو التعيين ، قال تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ).
الرابع : مجئ الإحتجاج على ألسنة الأنبياء السابقين ، وكل سُنة لأي نبي من الأنبياء مدرسة في الإحتجاج وإتخاذه منهاجاً للدعوة إلى الله عز وجل ، وكان يوسف عليه السلام يحتج على الذين كفروا وهو في السجن لم يخش مكرهم وبطشهم ، إذ خاطبهم [مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ]( ).
الخامس : الإحتجاج الوارد بالأمر من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذي يتجلى أكثره بلفظ (قل) والذي تكرر مرتين في آية البحث ليتوجه للمنافقين والذين إنسحبوا وسط الطريق إلى المعركة والذين يوجهون اللوم للمؤمنين على خروجهم للقتل تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولا يختص موضوع القول بالجهة التي يتوجه إليها بل هو قانون دائم وبرهان ساطع ، كما في قوله تعالى [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] ليكون رحمة ونعمة على الذين آمنوا من جهات :
الأولى : إنه حجة للذين آمنوا وشهادة على حسن سمتهم وسلامة إختيار الدفاع والجهاد بالنفوس والأموال في سبيل الله .
الثانية : فيه دعوة للمؤمنين بالتطلع للنصر والغلبة من عند الله عز وجل.
الثالثة : الرضا بقضاء الله وشكره عز وجل على نعمة الإبتلاء والإمتحان ، ورجاء التخفيف من فضله سبحانه .
الرابعة : يأمر الله عز وجل رسوله بتوجيه خطابه للمنافقين وبصيغة القطع بأن الأمور كلها بيد الله ، قال سبحانه [لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ] ( ).
وهل يمكن جعل نصر المسلمين في معركة بدر من بسط الرزق لهم وأن الخسارة التي لحقتهم وحرمانهم من الغنائم من مصاديق قوله تعالى أعلاه [وَيَقْدِرُ] أي يقلل ، أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه الرزق على نحو القضية الشخصية في المكاسب والتجارات والصحة في الأبدان وكثرة الأولاد .
المختار هو الثاني لتنفتح آفاق من العلم من كنوز آيات القرآن وعمومات اللفظ والموضوع فيه ، وفي علم الأصول والتقييد فالأصل هو الإطلاق .
الخامسة : حث المؤمنين على الصبر وإظهار التحمل المقرون بالتسليم بأمر الله ورجاء الفرج والظفر والفتح من عنده تعالى .
السادسة : بعث السكينة للإجتهاد في الدعاء , لأن الأمر كله بيده سبحانه وهو القائل [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( )وهو من أسباب رجحان كفة المسلمين إذ أنهم يمتلكون سلاح الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل بينما يعجز الذين كفروا عن هذا السلاح ويتخلفون عنه وليس لهم من دعاء أو أستجابة ، فان قلت قد سأل أبو جهل الله عز وجل يوم بدر إذ قال (اللّهُمّ أَقْطَعَنَا لِلرّحِمِ وَآتَانَا بِمَا لَا يُعْرَفُ فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ) ( ).
ولله عز وجل المشيئة المطلقة [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ) ولما أنكرت الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) تفضل الله عز وجل وإحتج عليهم بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علم الله سبحانه إحتجاجه على الناس في التنزيل بما يدل على وجود أمة تمنع من الفساد وتنهى عن سفك الدماء ، ولا يختص الأمر بمرتبة المنع والنهي بل يشمل أموراً :
الأول : الأمر بالصلاح والإحسان وما هو ضد الفساد .
الثاني : قيام المؤمنين بأداء الصلاة والصيام والفرائض العبادية طاعة لله عز وجل ، وفيه تحصين للذات من إرتكاب الموبقات مما إحتج به الملائكة ، وهل فيه دعوة للصلاح ونبذ الناس للفساد ، الجواب نعم ، وتلك آية في خلافة الإنسان في الأرض بأن يكون تعاهد المؤمن لسنن الشريعة دعوة لجذب الناس لمنازل الإيمان .
ومن الآيات في الآية أعلاه من سورة البقرة مجيؤها بصيغة الظرفية [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]ولم تقل الآية (خليفة للأرض) لبيان قانون وهو أن الأرض لا تحتاج خليفة عليها له الإستعلاء عليها يدبر شؤونها إنما أمر الأرض إلى الله عز وجل ، وفي التنزيل [فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ] ( ).
بينما تفيد الظرفية في الآية أن خلافة الإنسان ذاتية ، وتكون على ذات جنسه ، ومنه قوله تعالى [بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ]( ).
ومن إعجاز تكرار اللفظ في القرآن ورود لفظ [ بَصِيرَةٌ] مرتين في القرآن إذ ورد بقوله تعالى [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي] ( ) ليفيد الجمع بينهما أن المراد من البصيرة في الآية أعلاه ما يتقوم بالدعوة إلى الله عز وجل وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين أسوة حسنة للناس في باب البصيرة واليقين .
وورد عن الإمام علي عليه السلام أنه كان يصلي صلاة الصبح جماعة بالمسلمين في مسجد الكوفة فنادى رجل من الخوارج بأعلى صوته وهو يقرأ قوله تعالى [وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ] ( ) فعلم الإمام علي عليه السلام إرادته التعريض فاجابه وهو في الصلاة بقوله تعالى فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ.
الثالث : دفاع المؤمنين عن النبوة والتنزيل في كل زمان ، وهو من أسرار خلافة الإنسان في الأرض ، ليكون من معاني قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) أن خلافة الإنسان تتعلق وتتقوم بالنبوة والإيمان والعمل بأحكام التنزيل , وهو الذي أراده الملائكة كما هو ظاهر بأستفهامهم الإنكاري [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
ومن الإعجاز في لغة الخطاب بين الله والملائكة أنهم لم يحتجوا على خلافة الإنسان في الأرض وأوانها ومدتها على شخص الخليفة وهل يصح القول أن في الآية أعلاه حذفاً , وتقديرها : أتجعل خليفة يفسد في الأرض ويسفك الدماء ) .
الجواب لا ، لأن جعل الخليفة في الأرض خير محض ، ونفع للناس في النشأتين ، إنما يكون تقدير الآية أعلاه : أتجعل مع الخليفة من يفسد فيها ويسفك الدماء ) لتتجلى حقيقة وهي ان الملائكة سألوا الله عز وجل ان يمن على الخليفة في الأرض بالأمن والسلامة وهل سأل الملائكة تفضل الله عز وجل بدخول أهل مكة وما حولها الإسلام حالما بدأ النبي محمد صلى الله عليه آله وسلم دعوته إلى الله وسألوا عدم وقوع معركة بدر وأحد لأتصاف هجوم الذين كفروا وقتالهم فيها وفي معركة حنين ونحوها , بلحاظ إحتجاج الملائكة أعلاه بأمور :
أولاً : هذا الهجوم من الفساد في الأرض الذي ورد في الآية أعلاه [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] ( ).
ثانياً : أنه من مصاديق قوله تعالى [وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )إذ أرادوا قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ، ومن مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) في المقام أن النداء والدعوة إلى منع القتال وإجتناب لمعان السيوف صدرت بين صفوف الذين كفروا ولكن رؤساء الكفر والضلالة كأبي جهل أصر على القتال فكان من الذين ألقوا في القليب ( )يومئذ .
ثالثاً : سعي الذين كفروا لمنع الصلاح ومفاهيم التقوى في الأرض ، فأراد الله فرض الحق والصدق , قال تعالى [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
رابعاً :ليس من حصر لمصاديق الفساد التي إحتج المنافقون بخصوصها ، فتفضل الله عز وجل وأخبرهم بأن من علم الله عز وجل محو وصرف كثير من وجوه وضروب الفساد كماً وكيفاً وموضوعاً وهو من عمومات ومصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
لماذا سأل النبي (ص) عن قتل حمزة
عندما جاء وحشي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعلن إسلامه ، أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبين كيف قتل حمزة يوم أحد ، وهل يدل هذا السؤال على إستدامة حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حمزة ، الجواب لا، وفيه مسائل :
الأولى : تجدد مصيبة حمزة عند رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقاتله وهو وحشي .
الثانية : ذكر مصيبة قتل حمزة مناسبة للإسترجاع , وذكر الله عز وجل.
الثالثة : شكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل على نعمة دخول قاتل عمه حمزة الإسلام.
الرابعة : دخول قاتل حمزة بن عبد المطلب الإسلام شاهد على التحول النوعي عند الناس نحو الهداية ، وإزاحة أسباب الكفر والجحود.
الخامسة : إستحداث ذكر حمزة وجهاده في بناء صرح الإسلام قبل الهجرة وبعدها، وكانت قريش تؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولما أخبرهم حمزة بإسلامه هابوه .
السادسة : ما بين واقعة أحد في السنة الثالثة من الهجرة إذ قتل حمزة وبين دخول وحشي في الإسلام بعد فتح مكة في السنة الثامنة, وبعد إسلام أهل الطائف التي هرب إليها , صارت أمور منها :
أولاً : إنشغال المسلمين في أمور الدين والتفقه في العبادات والمعاملات.
ثانياً : تعدد غزوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والسرايا التي بعثها.
ثالثاً : ترتب التخفيف من وطأة المصيبة مع توالي الأيام وتعاقب السنين.
رابعاً : كثرة الشهداء الذين سقوط في معارك الإسلام.
خامساً : دخول أفواج من الناس في الإسلام لم يعلموا بتفاصيل واقعة أحد، فيكون سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوحشي عن كيفية قتله لحمزة بياناً وموعظة لهم.
سادساً : التوثيق العام لواقعة أحد ومقتل حمزة بن عبد المطلب، وتناقل الناس ذات رواية وحشي من غير زيادة أو نقيصة.
سابعاً : بيان حقيقة وهي أن أهل البيت أول من قدم الشهداء في سبيل الله، وهو شاهد صدق على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثامناً : ترغيب الناس بالجهاد في سبيل الله.
تاسعاً : تجلي شجاعة حمزة وتفانيه في مرضاة الله.
عاشراً : بيان الأذى الذي لاقاه المسلمون في سبيل الله في معركة أحد.
الحادي العشر : بعث المسلمين لتلاوة الآيات التي تخص معركة أحد , ومنها آية البحث والآية التي قبلها والتي بعدها.
الثاني عشر : التذكير بصبر وشجاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد , وكيف أنه ثبت في الميدان.
الثالث العشر : تفسير آية البحث والآيات الأخرى الخاصة بواقعة أحد ببيان حال المسلمين يومئذ واستشهاد سبعين شهيداً من المسلمين.
الرابع عشر : التذكير بشهداء أحد، وعددهم سبعون شهيداً، وما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوحشي ببيان كيفية قتله حمزة إلا دعوة لسؤال المسلمين عن كيفية قتل شهداء أحد وإقتباس الدروس والمواعظ من جهادهم وإخلاصهم في تقوى الله.
الخامس عشر : بيان التباين بين إقدام المؤمنين ومكر وخبث الذين كفروا في معركة أحد.
السادس عشر : التأكيد على جهاد أهل البيت، وموضوعيته في بناء دولة الإسلام .
السابع عشر : لزوم العمل بمضامين قوله تعالى[قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى]( )، وبيان إخلاص أهل البيت في الدفاع عن النبوة والتنزيل، وبذلهم النفوس في سبيل إقامة شعائر الإسلام.
الثامن عشر : بيان فتح باب التوبة للناس مطلقاً من غير استثناء لذات أو فعل أو قول، فقد قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إسلام قاتل حمزة عمه مما يدل على قبول إسلام غيره.
التاسع عشر : ترغيب الناس بالإسلام، وإزالة حاجز الخوف من الإنتقام والثأر، فقد يخشى بعضهم من دخول الإسلام بسبب خشية الثأر والإنتقام منه بسبب قتله لأخ أو أب أو ابن بعض الصحابة، فتبادل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحديث مع وحشي بما يذكره بعمه حمزة وشجاعته وفروسيته , وتوثيق حقيقة وهي عجز الكفار عن قتله إلا غيلة مكراً.
العشرون : منع الحرج عن الصحابة في السؤال عن كيفية قتل الشهداء، وتحكي كل قطرة دم سالت من أهل البيت وعموم الصحابة قصة رفع قواعد الإسلام، وفي إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قال تعالى[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ]( )، وقد رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته قواعد الإسلام ليبقى صرح شريعته شامخاً منيراً إلى يوم القيامة، ويكون أداء الحج منسكاً، وركناً من أركانها يتصف بالتجدد الواجب كل عام .
والجواب من وجوه :
الأول : نزول الغم من عند الله على المؤمنين تخفيف عنهم لفقد الشهداء .
الثاني : دعوة المسلمين للإسترجاع والصبر للخسارة الكبيرة بوقوع سبعين شهيداً ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ).
وتحتمل المصيبة بشهداء أحد وجوهاً :
أولاً : فقد كل شهيد مصيبة .
ثانياً : إتحاد المصيبة مع كثرة الشهداء .
ثالثاً : سقوط كل شهيد مصيبة متعددة في ذاتها وأثرها .
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وأفادة الآية أعلاه إتحاد جنس المصيبة.
الثالث : القدر المتيقن من قوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ] هو الجراحات والكلوم التي أصابت المؤمنين ، أما سقوط الشهداء فهو أمر آخر ، وتقدير آية السياق : وما أصابكم في أبدانكم وما لحقكم من الجراحات وإرادة القضية الشخصية في الخطاب في الآية الكريمة على نحو الإنحلال لبيان منزلة كل واحد من المهاجرين والأنصار الذين حضروا معركة أحد.
أما موضوع الشهداء فهو مسألة أعظم مما أصاب المسلمين من الجراحات ، لذا تفضل الله سبحانه وأصاب المسلمين بالغم , لتكون أسباب الغم أمور :
الأول : إنقطاع قتل المسلمين للمشركين الذي حصل في بداية المعركة .
الثاني : ترك أكثر الرماة لمواضعهم على الجبل , ونزولهم إلى وسط الميدان لإرادة حيازة الغنائم، مع أمارات إحرازهم لها من جهات:
الأولى : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوعد الرماة خيراً بخصوص الغنائم، عند إنتهاء معركة بدر.
الثانية : قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند إنتهاء معركة بدر بتوزيع الغنائم على عموم المؤمنين الذين خرجوا إليها قبل أن يدخلوا المدينة ليستصحب المؤمنون هذه السنة النبوية في واقعة أحد، ويطمئنوا لنيل حصصهم من الغنائم خاصة.
الثالثة : تأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصيته للرماة بعدم ترك مواضعهم حجة , وبرهان على الحكمة وخصائص الوحي في ميدان المعركة.
الرابعة : حث أمير الرماة عبد الله بن جبير أصحابه على عدم ترك مواضعهم وبقائه ونفر من أصحابه في مواضعهم، وقاتلوا خيل الذين كفروا التي جاءت من خلف جيش المسلمين إلى أن قتل هو وأصحابه الذين إختاروا البقاء على الجبل، ليبقى موضع إستشهادهم مزاراً للمسلمين والمسلمات إلى يومنا هذا، يقتبسون منه الدروس والمواعظ بلزوم طاعة الله ورسوله، ويدركون أن فيها النجاة والفلاح، قال تعالى[فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
الثالث : فوات النصر على الذين كفروا يوم أحد , مع أنه صار قريباً من المؤمنين، وإذ وقع سبعون من المشركين أسرى بيد المسلمين يوم معركة بدر، فقد تهيأت للمسلمين فرصة بوقوع المئات منهم أسرى يوم أحد وصيرورة الطريق الى مكة مفتوحاً أمام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ولكن فتحها تأخر إلى السنة الثامنة للهجرة[لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً]( )،
ومع تعدد الإنتصارات التي حققها المسلمون وكثرة ومضاعفة أعداد المسلمين إذ حضر مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد سبعمائة من المسلمين في السنة الثالثة للهجرة، بينما دخل معه مكة في السنة الثامنة للهجرة عشرة آلاف، وهو معجزة حسية جلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تبين صدق نبوته وتسليم الناس بإعجاز القرآن.
وحينما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة بعد فتحها سار معه إثنا عشر ألف مسلم بإضافة ألفين ممن أسلم عند فتح مكة أو كان يخفي إيمانه، ومع هذا تلقتهم هوازن وثقيف بهجوم سريع ومباغت لم يعهده المسلمون فمرت الكتائب التي في مقدمة جيش المسلمين على النبي منهزمين، لولا فضل الله بثباته في الميدان مع نفر من أهل بيته وأصحابه , ودعوته لكتائب المسلمين بالرجوع، وطلبه من عمه العباس أن ينادي عليهم بالرجوع إلى ميدان المعركة حيث إستداروا سريعاً، ومن إستعصت عليه راحلته رمى نفسه عنها، ليلبي نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعودة.
وهو من أسرار تنمية آية السياق لملكة العودة إلى المعركة عند المسلمين لقوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ..] ( )، وهو من إعجاز القرآن بأن تنزل آية من القرآن فتكون قانوناً في إنضباط المؤمنين في ميادين القتال، ومنهاجاً قتالياً تعجز الدول والسلاطين عن إيجاده وإن أنفقوا الأموال، وإستعملوا الشدة والبطش والتخويف , وقد إنتهت المعركة من غير أن يربحها الذين كفروا , ولم يكسبوا إلا الرجوع[خَائِبِينَ]( ).
ووردت كلمتان في آية السياق ( وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ ) لتؤسس لقانون يقهر الظالمين، ويمنعهم من التعدي والهجوم على ثغور المسلمين، وأن هجموا فهم في خشية وخوف من رجوع المسلمين عليهم.
ترى متى تجلت منافع هاتين الكلمتين، وما فيهما من الإخبار، الجواب من إعجاز القرآن أن منافع الآية القرآنية تبدأ من ساعة نزولها وتستمر إلى يوم القيامة، وهو من معاني الصيغة العقلية التي تتصف بها معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو القرآن، إذ جاء الأنبياء السابقون بمعجزات حسية كل نبي يأتي بمعجزة حسية متحدة أو متعددة.
ويمكن تسمية هذه الآية (آية النعاس) ولم يرد لفظ النعاس في القرآن إلا في الآيتين .
وتذكر هذه الآية النعاس بأنه نعمة نازلة من السماء، وإن يرد التعدد فيما نزل من السماء كالغيث والرزق والحديد كما في قوله تعالى[وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ]( )، وأن النعاس واحد من مصاديق فضل الله من السماء، وهو لا يتعارض مع كون النعاس كيفية نفسانية إعتاده الإنسان وجبل عليها البدن.
وفيه بيان لماهية خلق الإنسان، ومن مصاديق قوله تعالى[لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( )، إن الله عز وجل بيده مقاليد الأمور،[ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( )، فيجعل من الأمر الخاص ببدن الالخاص ببدن الانسان آية حسية قاهرة وموعظة متجددة بتوثيق القرآن , وفي معجزة زكريا ورد في التنزيل[آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا]( )،
قانون (قل) في القرآن
وجاءت هذه الآيات نداءً وثناءً على المسلمين , وخطاباً من عند الله عز وجل للمؤمنين من غير واسطة في ذات الخطاب إذ وردت بصيغة الجمع فبدأت بقوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ) [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]( ) وتضمنت الآية الحادية والخمسون بعد المائة قانوناً ووعداً من عند الله للمؤمنين وهو إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا مع خلوها من لغة الخطاب التي تتجلى بهذه الآيات بالنداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] وواو الجماعة كما في قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] [أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ]( ) وبضمير جمع المذكر المخاطب الذي تكرر في الآية السابقة , ومنه قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]( ).
وجاءت آية البحث بذات صيغة الخطاب للمسلمين إلا أنها تضمنت الأمر [قل] الموجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليخاطب المسلمين الذين هبوا للقتال والنصرة يوم أحد ممن رأوا شدة القتال، وتبدل الأمر وصيرورة الجولة للذين كفروا وسقوط سبعين شهيداً من المؤمنين فتعلق همهم بأنفسهم وخشوا الموت والقتل، وورد لفظ [قل] في آية البحث مرتين وهما:
الأول : في الإحتجاج والرد على قول هذه الطائفة ( هل لنا من الأمر من شيء).
الثاني : في إقامة الحجة على هذه الطائفة من المسلمين حينما قالوا [يَقُولُونَ ْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا] ( ).
تتحدان في ذات وجهة الخطاب وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم
خطابه وهم الطائفة من المؤمنين الذين همتهم أنفسهم، وعدد المرات التي ورد فيها لفظ [قل] في القرآن هو ثلاثمائة وإثنتان وثلاثون مرة .
وورد في آية البحث مرتين , ويدل تكرره في ذات الآية وموضوع الإحتجاج على موضوعيته ، ولزوم تنزه المسلمين من أسباب الشك والريب ، وقد آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار لتنمية ملكة الإيثار بينهم والمناجاة في مرضاة الله والتفاني في طاعته .
وتعدد وكثرة الأوامر الإلهية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ [قل] مدرسة كلامية، وشاهد على جهاده في طاعة الله سبحانه .
عن ابن إسحاق عن أبي جحيفة قال : قيل : يا رسول الله قد أسرع إليك المشيب،
قال : «شيبتني هود وأخواتها : الحاقة، والواقعة، وعمّ يتساءلون، وهل أتاك حديث الغاشية( ).
فهل من موضوعية فيه للأوامر بقل مثل قوله[ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ]( ) [وَقُلْ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ]( ).
الجواب نعم لبيان الأذى الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قومه وإنكارهم التنزيل مع الإعجاز الذاتي الذي يتجلى فيه ليكون من إعجازه الغيري لحوق الخزي والخيبة بهم، وصيرورة المؤمنين في بحبوحة من العيش وأمن وأمان الذي يأتيهم حتى بالنعاس في ميدان معركة أحد.
ومن إعجاز القرآن إبتداء بعض سور القرآن بلفظ [قل] ومنها سورة الإخلاص التي هي سورة التوحيد[قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]( ) ومنها سورة الكافرون [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ]( ) وسورة الفلق وسورة الناس , لتبقى مصاديق [قل] دعوة متجددة للمسلمين والمسلمات للإقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في البيان والإحتجاج وإقامة البرهان والإخلاص في عبادة الله ، وجذب الناس لمنازل الإيمان , وبعث النفرة في نفوسهم من الكفر والضلالة .
و(سئل علي بن الحسين عليهما السلام عن الكلام والسكوت أيهما أفضل ؟ فقال : لكل واحد منهما آفات، فإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت) ( ).
وفيه شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكثرة الأمر له من الله [قل] وعمل المسلمين إلى يوم القيامة بمضامين الأوامر والنواهي بالقول والكلام والتبليغ والأمر والنهي ومنها مدرسة الإحتجاج على المنافقين التي وردت في آية البحث بلفظ ( قل ) .
علم جديد (جند الله في القرآن)
لم يعلم أحد أن النعاس من جنود الله لولا نزول آية البحث للكشف عنه كآية وأنه أمن وأمان وسلامة للمؤمنين من القتل وكأنه وقف لإطلاق النبال والسهام والحجارة بين الفريقين ، وبرزخ دون المبارزة ولمعان السيوف ، قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ) ويكون من معاني الآية أعلاه وجوه :
الأول : لا يعلم عدد جنود الله عز وجل في الأرض أو في السموات إلا الله عز وجل .
الثاني : لا يعلم قوة وأثر جنود الله إلا هو سبحانه .
الثالث : لا يعلم كم وكيفية وصدق جهاد وتقوى المؤمنين إلا الله عز وجل .
الرابع : تعدد سنخية جنود الله، فمنهم الملائكة والأنبياء والكتب السماوية والجن وعامة الإنس والدواب والجماد.
الخامس : كل آية كونية من جند الله، وهذه الآيات توليدية تكون سبباً , وبلغة لكثرة المؤمنين وطاعتهم لله عز وجل ، وكثرة الآيات الكونية.
وذكرت آية البحث النعاس بلحاظ أنه من جنود الله في حفظ المؤمنين.
السادس : ليس من حصر لأفراد وماهية جنود الله.
السابع : يملأ جنود الله عز وجل السموات والأرض، وهم حاضرون في الدنيا والآخرة، وفيه دعوة للناس للجوء إليه سبحانه.
الثامن : بيان كفاية الله عز وجل للمؤمنين بتسخير جنده الذين لا يعلم قوتهم ونفعهم في قهر الكافرين وإستئصال سنن الضلال من الأرض إلا هو سبحانه، قال تعالى[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
التاسع : ملازمة النصر والغلبة وأسباب الفتح لجند الله، قال تعالى[وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ]( ).
العاشر : من جنود الله ما يتخلف الناس عن رؤيتهم في ذاتهم، ولكن أثرهم يتجلى بوضوح لكل ذي عينين، قال تعالى[وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا]( ).
ومن أسرار القرآن ورود لفظ (الجنود) إثنتين وعشرين مرة فيه، وأكثرها ورد في ذم وتبكيت الظالمين، ومنهم فرعون وهامان، وكيف أن الله عز وجل أخزاهم كما في قوله تعالى[إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ]( ).
الحادي عشر : كل مؤمن هو من جند الله في عبادته وصبره وصلاحه وقيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثاني عشر : كل كتاب سماوي من جند الله، لذا تفضل الله وجعل القرآن كلامه وكتابه الباقي بين الناس في الأرض إلى يوم القيامة.

مدة بقاء الرعب
تتضمن كل من آية البحث والسياق في مفهومهما علم الله عز وجل بمقدار وأثر الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ) من وجوه بلحاظ آية البحث :
أولاً : أثر الرعب في نفوس وأفعال الذين كفروا .
ثانياً : أثر الرعب في الحال القتالية للذين كفروا ، وكيف أن الرعب يحول بينهم وبين مواصلة الهجوم والإغارة على المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ] ( ).
ثالثاً : بقاء الرعب في قلوب الذين كفروا المدة التي يريدها الله عز وجل ، فهو سبحانه لم يلق الرعب في قلوبهم ويترك لهم أو لذات الرعب أوان المغادرة بل يبينه الله عز وجل بمدة تحقق الغايات منه .
وهل إستدامة الرعب في قلب الفرد من الذين كفروا من الكلي المتواطئ أو المشكك بمعنى هل يستمر الرعب في قلب الكافر من الذين حضروا معركة أحد على مرتبة واحدة ، أم أنه يكون مرة شديداً وأخرى ضعيفاً.
الجواب هو الثاني وهو من الدلائل على عظيم قدرة الله وبيان تحقيق أثر الرعب بما يفيد نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحفظ بيضة الإسلام ، ودفع الأضرار عن المؤمنين وجعل الكفار يدركون أن هذا الرعب أمر خارجي وليس من خلجات النفس ، وهو من مصاديق ما ورد ( عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها)( ).
ويحتمل تذكر الذين كفروا الرعب الذي يلقيه الله في نفوسهم بعد إنقضاء مدته وجوهاً :
الأول : يتذكر كل فرد من الذين كفروا غزو الرعب قلبه على نحو دفعي وفجأة طول عمره ليكون زاجراً عن التمادي في الضلالة.
الثاني : الملازمة بين مدة الرعب وبقائه في الذاكرة ، فحالما يغادر الكافر ميدان المعركة فانه ينساه ، وهذه الملازمة لوجوه:
أولاً : التخفيف من عند الله عن الناس .
ثانياً : قد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الرحمة التي تشمل البر والفاجر وإن كانت على نحو متفاوت بالزيادة والنافلة في مصاديق الرحمة للمؤمنين كماً وكيفاً ،ومن هذه الرحمة نسيان الكافر للرعب الذي نزل وحلّ في قلبه .
ثالثاً : إنه من إستدراج الله للذين كفروا ، قال تعالى [سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
الثالث : إستدامة تذكر الكافر للرعب عند تجدد أسبابه وحدوث موضوعه .
الرابع : إستحضار الكافر للرعب الذي أصابه في معركة أحد ، عند إستحضار المعركة وما جرى فيها من الوقائع .
الخامس : يتذكر الكافر الرعب الذي ألقاه الله في قلبه عندما يسمع قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( )على نحو الخصوص ، لتكون جذبة إلى التوبة والإنابة .
السادس : حينما تتلى آية بخصوص معركة أحد من هذه الآيات يتبادر إلى ذهن الكافر ما نزل به من بلاء الرعب الذي أطبق على قلبه .
السابع : إستحضار الكافر الرعب الذي أصابه لمحاربته الإسلام والنبوة والتنزيل عندما يسمع آية قرآنية من مجموع آيات القرآن ، وهو من أسرار تلاوة المسلمين لآيات القرآن في الصلاة اليومية ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : يتذكر الكافر رعب قلبه عند سماع آيات القرآن .
الصغرى : يتلو المسلم آيات القرآن في الصلاة كل يوم .
النتيجة : يتذكر الكافر رعب قلبه عندما يتلو المسلم آيات القرآن في الصلاة كل يوم ، قال تعالى [وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً] ( ).
الثامن : إستحضار الكافر الرعب الذي أحاط به وهجم على قلبه في معركة أحد عندما تداهمه أسباب الفزع والخوف .
التاسع : يستمر تذكر الكافر للرعب الذي حلّ به في معركة أحد إلى حين توبته ودخوله الإسلام.
والصحيح هو الأول أعلاه وتكون الوجوه الأخرى أعلاه في طوله عدا الوجه الثاني أعلاه لبقاء الرعب في الذاكرة بعد إنقضاء زمانه وموضوعه وهو من رحمة الله بالناس .
وهل يبقى مطلق الرعب في الذاكرة , الجواب لا ، إنما يختص هذا القانون بالرعب الذي يقذفه الله في قلوب الذين كفروا ليكون على جهات:
الأولى : إنه حجة عليهم مصاحبة لهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
الثانية : فيه آية لهم وللناس.
الثالثة : ما يصيب الذين كفروا من الرعب موعظة متجددة.
الرابعة : الرعب وسيلة سماوية لجذب الذين كفروا إلى الهداية والإيمان، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بلحاظ أن الرعب الذي يلقيه الله عز وجل في قلوب الذين كفروا رحمة من وجوه:
الأول : إنه رحمة بذات الذين كفروا من وجوه:
أولاً : بعث الوهن والضعف في نفوس الذين كفروا.
ثانياً : صد الذين كفروا عن محاربة الإسلام.
ثالثاً : إلقاء بأس الكفار فيما بينهم، وبعث روح الشك والخصومة فيما بينهم.
رابعاً : جعل الكفار يتدبرون في لزوم التخلص من حال الضلالة التي هم عليها.
الثاني : إنه رحمة بالمسلمين لما فيه من التخفيف عنهم بضعف عدوهم، وكف أيديهم عن النبوة والتنزيل.
الثالث : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا رحمة بذراريهم من جهات:
الأولى : إنشغال الذين كفروا بأنفسهم، وعجزهم عن ترك الكفر والجحود تركة لأبنائهم.
الثانية : رؤية الأبناء لآبائهم الكفار وكيف أن الفزع يملأ نفوسهم من الإسلام ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : إنصات هؤلاء الأبناء لآيات القرآن ومنها قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( )، وكيفية تحقق المصداق الفعلي للآية بحال آبائهم الذين أصروا على الكفر، وهو من أسرار ومنافع تلاوة المسلمين للقرآن في الصلاة اليومية لينصت الناس لها ويتدبر في معانيها، ويلتمسوا مصاديقها الخارجية لما فيها من الوعد والوعيد ليترشح عنه قانون وهو (بقاء ذكر وأثر ونفع المعجزة والآية الحسية بعد إنقضاء مدتها وذاتها).
وهو من الإعجاز الغيري للقرآن بأنه حفظ الآيات الحسية للأنبياء، والآيات في أحوال الظالمين وسوء عاقبتهم، ليتجلى حفظه وتوثيقه ليكون حفظه لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من باب الأولوية القطعية.
وفيه بيان لصدق نبوته ولزوم إتباعه ، والتحذير من معاداته ومحاربته لأنها لا تجلب إلا الخسران المبين في النشأتين ، وهو من أسرار سلامة القرآن من التحريف والتبديل لأنه كنز المعجزات ، والوثيقة السماوية لحفظ الآيات والبراهين النازلة من عند الله ، ومنها أمران متضادان في ذاتهما وموضوعهما ووجهتهما مع إتحاد المكان والزمان في معركة أحد وهما:
الأول : نعمة نزول النعاس على طائفة من المؤمنين .
الثاني : البلاء والنقمة بنزول الرعب على الكفار الذين جاءوا من مكة لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وعن أبى ذر الغفاري رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عزوجل انه قال انى حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ; يا عبادي انكم الذين تخطؤن باليل والنهار وانا الذى اغفر الذنوب ولا ابالى فاستغفروني اغفر لكم ، يا عبادي كلكم جائع الامن اطعمت فاستطعموني اطعمكم ، يا عبادي كلكم عارالا من كسوته فاستكسوني اكسكم ; يا عبادي لو ان اولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على اتقى قلب رجل منكم لم يزد ذلك في ملكى شيئا ; يا عبادي لو ان اولكم وآخركم وانسكم وجنكم كانوا على افجر قلب رجل منكم لم ينقص ذلك من ملكى شيئا ; يا عبادى لو ان اولكم وآخركم وانسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد فسألوني ثم اعطيت كل انسان منهم ما سأل لم ينقص ذلك من ملكي شيئا الا كما ينقص البحر يغمس فيه المخيط غمسة واحدة يا عبادي انما هي اعمالكم احفظها عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن الا نفسه) ( ).
ومن الآيات مجيء النعاس على نحو الموجبة الجزئية بأن تغشى طائفة من المؤمنين، بينما غزا الرعب قلوب جميع الذين كفروا يوم معركة أحد.
وهل يشمل هذا الرعب المنافقين إذ إنخزل ثلث جيش المسلمين في الطريق إلى أحد بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول إذ قال لهم: علام نقتل أنفسنا ها هنا)( ) فعلى هذا القول يكون النكوص بالعودة إلى المدينة من منتصف الطريق من مصاديق الرعب يلقيه الله في قلوب الذين كفروا أو أنه ملحق به.
الجواب لا، وهو من الإعجاز في بيان آية إلقاء الرعب وتعيين موضوعها وأنه خاص بثلاثة آلاف من الكفار الذين زحفوا من مكة إلى المدينة في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحاولة الإجهاز على الإسلام ، ومنع الصحوة التي حدثت بين الشباب والناس جميعاً بلزوم الإيمان ونبذ عبادة الأوثان، وكان يقال للذي يدخل الإسلام بأنه صبا صبا تعريضاً به لأنه ترك دين آبائه وسموا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالصابي .
وتبين آيات القرآن في نظمها وإخبارها الوقائع والأحداث التي صاحبت البعثة النبوية ، وإنتقال الدعوة من السر إلى العلنية ، ومن التبليغ المقترن بتحمل المشقة والصبر على أذى الكفار وصدود العامة إلى الجهاد والقتال في ملاقاة الذين كفروا.
ومن الإعجاز ومصاديق الحجة نزول آية السيف [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ….] والتي قيل أنها نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية من القرآن، ولا دليل عليه وقيل صار أولها ناسخاً لآخرها، ونسخت بقوله تعالى[فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً]( )، أنها لم تنزل إلا بعد أن كرر الذين كفروا الهجوم على المدينة بجيوش عظيمة لإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووأد الإسلام فاقترن الأمر بالقتال للمسلمين بنزول النعاس عليهم أمناً ورحمة وتخفيفاً من عند الله عز وجل، ومجئ الرعب دفعة إلى الذين كفروا، لتكون نتيجة الأمر بالقتال حسم المعارك بنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وهدم صرح الكفر والأصنام والطواغيت، فكيف يظن فريق من المسلمين بالله غير الحق بعد هذه النعم، فلذا حجب الله عز وجل عنهم نعمة النعاس مع أن العاقبة واحدة وهي سلامتهم من تجدد القتال يوم أحد ، وهو من أسرار إبتداء الآية بصيغة العموم المجموعي في نزول النعاس [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا] ثم خصت الآية بحصر نزول النعاس على طائفة من الصحابة فلم تبدأ بقول ( ثم أنزل على طائفة منكم نعاساً ) ليكون في هذا العموم ثم التخصيص وجوه:
أولاً : بيان قانون هو الملازمة بين الإيمان ونزول النعاس عند الضراء وشدة البأس .
ثانياً : الإخبار عن حاجة طائفة من المؤمنين إلى نعمة النعاس لصرف الحسرة والحزن عنهم .
ثالثاً : إنتفاع عموم المؤمنين من نعمة النعاس ورشحاتها، ومنها نعمة الأمن وصرفهم عن القتال.
ومن الإعجاز في الآية السابقة أنها ذكرت أموراً جسمانية ونفسية ولكنه لم يرد فيها لفظ النفوس أو القلوب.
وجاءت مضامينها على نحو الترتيب:
الأول : يتعلق قوله تعالى(إذ تصعدون) بحركة الأجسام وإرتقائها إلى الأعلى لبيان أن الأولوية في القتال على الفعل وحركة الأبدان.
الثاني : قوله تعالى [وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] فهو فعل جسماني ونفسي، فلا يستديرون إلى الوراء لينظروا كيف تسير المعركة ولا يتحسسون إخوانهم الذين بقوا يقاتلون حول النبي في القلب أو في مواضعهم، فلم ينكشف المؤمنون يوم أحد من الميمنة والميسرة معاً، فتفضل الله عز وجل عليهم بدعوة الرسول وندائه الكريم لهم، وتقدير آية البحث على وجوه :
أولاً : والرسول يدعوكم فتوقفتم عن الصعود في الجبل.
ثانياً : وإذ كنتم لا تلوون على أحد فدعاكم الرسول فالتفتم وأدركتم لزوم معرفة وقائع المعركة، ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الصابرين في مواطن القتال.
ثالثاً : والرسول يدعوكم للعودة إلى قتال الذين كفروا فحينما ناشد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالعودة إلي عباد الله إلي عباد الله) كان نداؤه عاماً لا يختص بحال القتال، والدعوة إليه، فلم يقل الرسول : إلى الجهاد عباد الله) أو إلى المبارزة والمسايفة عباد الله)
بل كانت دعوته للمهاجرين والأنصار أن يرجعوا إلى شخصه حيث الرسالة الخالدة وظلال المدد الملكوتي وساحل النجاة والأمل، وعن الإمام علي عليه السلام قال:كنا إذا إشتد البأس ، وحمى الوطيس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله ولذنا به( ).
ليكون حال المؤمنين[وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] جامعاً للحال الجسماني والنفسي , وهو من إعجاز آية البحث في الوصف والترتيب.
التفسير
قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا]
تبدأ أكثر الآيات المعطوفة بحرف العطف الواو لبيان الجمع والتداخل بين ذات الآية والآية التي قبلها ، أما آية البحث فابتدأت بحرف العطف [ثم] الذي يفيد التراخي , للدلالة على وجود فترة، وتحتمل وجوهاً :
الأول : وقوع فترة بين الغم والنعاس .
الثاني : الإخبار عن مدة بين إثابة المسلمين بالغم وبين نزول النعاس .
الثالث : الإتصال بين الغم والنعاس ، والتداخل بينهما ، فيدخل النعاس على الغم كما يدخل ضوء النهار على الليل .
والمختار هو الثاني والثالث من غير تعارض بينهما ، وفيه دلالة على إستمرار تغشي الغم للمؤمنين إلى حين نزول النعاس أمنة ليغرق الذين حضروا معركة أحد مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفيوضات وبركة من عند الله عز وجل ، يتنقلون على نحو قهري وطوعي بين الغم كثواب والنعاس أمنة منه تعالى .
ترى هل في النعاس ثواب وأجر للمسلمين كما في قوله تعالى بخصوص الغم [فَأَثَابَكُمْ]الجواب نعم ليكون النعاس الذي أنزله الله عز وجل يوم أحد على وجوه :
الأول : إنه أمان من القتل والأسر ، ويدل في مفهومه على كفاية الله عز وجل للمؤمنين , ومنع الذين كفروا من الإستمرار في القتال .
الثاني : بيان حقيقة وهي حاجة الإنسان للأمان في كل ساعة من ساعات حياته ، لذا ورد في آية البحث [قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ] ( ).
الثالث : النعاس في ساحة المعركة أحد هبة من عند الله للمؤمنين , وهو شرف ووسام لهم إلى يوم القيامة .
الرابع : حضور هذا النعاس مع المؤمنين في الآخرة شاهد وشفيع لهم وحجة على الذين كفروا وهو من الأمن الدائم من الفزع والخوف يوم القيامة ، قال تعالى [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
الخامس : إنفراد المسلمين بنعمة عظمى وهي تغشي النعاس لهم عند الإنكسار وفوات مصلحة وعدم تحقق النصر التام على الذين كفروا , وهذه النعمة من مصاديق قوله تعالى قبل أربع آيات [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]( ).
السادس : البيان والتفصيل في الآية بأن النعاس خاص بطائفة من المؤمنين يوم أحد ، مع الثناء على هذه الطائفة من جهات:
الأولى : الإخبار عن نزول النعاس من عند الله ، فقد وردت الآيات بذكر الأفراد والمفاهيم والأجناس التي أنزلها الله وهي :
الأول : تفضل الله عز وجل بنزول القرآن وهو كلام الله عز وجل الذي أوحاه إلى نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ]( ).
الثاني : نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وبين الوحي والقرآن عموم وخصوص مطلق ، فكل آية قرآنية من الوحي وليس العكس.
فمن فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً إتصال نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالليل والنهار ، وفي الحضر والسفر ، وهو من مصاديق إكرام المسلمين وصيرورتهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) بلحاظ حضور الوحي عند

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنتفاع المسلمين منه ، ولجوئهم إليه ، وخروجهم للناس بالقرآن والحديث القدسي والوحي والسنة النبوية ، وليس من نبي ترك هذه الكنوز والذخائر لأمته وللناس غيره، وهو من الشواهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين.
الثالث : نزول الملائكة من عند الله ، إذ أن مسكنهم في السموات ، فيتفضل الله عز وجل ويأمر أو يأذن لبعضهم بالنزول إلى الأرض في أمور تخص أهل الأرض ، فان قلت لماذا تنزل الملائكة ، والأشياء مستجيبة لأمره ، وقال تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل بيان الصلة بين العالم العلوي والعالم السفلي والتداخل بين العوالم والملاك فيه الإطلاق في مشيئة الله ، وحضور الأشياء كلها عنده [لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ]( )، ولأن الإنسان خليفة في الأرض فان الله عز وجل يتعاهده بنزول الملائكة ، ليكون هذا النزول سبباً لتجديد الإيمان في الأرض ، والإقرار بالعبودية والخضوع والخشوع لله عز وجل الذي يتجلى بأداء الفرائض والعبادات.
وحينما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) أجابهم الله عز وجل بعلمه بما لا يقدرون على الإحاطة به بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ليكون من علمه تعالى نزول الملائكة لجذب الإنسان إلى منازل الهداية ودفعه عن أسباب الفساد وحجبه عن سفك الدماء لذا إستبشر ملائكة السماء عندما علموا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في حديث الإسراء ، ولقائه صلى الله عليه وآله وسلم بالملائكة.
ويمكن تقسيم نزول الملائكة إلى أقسام:
أولاً : نزول الملائكة بالوحي إلى الأنبياء.
ثانياً : ينزل الملائكة بوظائف ورسائل خاصة إلى الأنبياء ، وفيه شواهد كثيرة، كما في نزول ملك الحبال على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول آلاف منهم لنصرته والمؤمنين في معارك الإسلام الأولى .
ولا يختص نزول هؤلاء الملائكة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد نزلوا على الأنبياء السابقين، وكلموا مريم وغيرها، ولا يأكل أو يشرب الملائكة، وليس لهم أزواج ينكحونها وهم مجردون من الشهوة، ولا يحصي عددهم إلا الله عز وجل، ومن أركان الإيمان التسليم بوجودهم، قال تعالى[وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا]( ).
ثالثاً : نزول الملائكة بعد إنقطاع عصر النبوة بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، وهو من فضل الله على الناس بعدم قطع العلقة بين أهل السماء وأهل الأرض ، وإخبار عملي بعدم الملازمة بين الوحي ونزول الملائكة ، فينقطع الوحي ولكن نزول الملائكة إلى الأرض مستمر ومتجدد وليباشروا سعيهم في تقريب الناس إلى عمارة الأرض بالتقوى والصلاح، قال تعالى[تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ]( ).
رابعاً : نزول الملائكة عند إحتضار أي إنسان ، ذكراً كان أو أنثى ، قال تعالى [تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا] ( ) وسميت مغادرة الروح للبدن، وسوقها وإخراجها وصاحبها من عالم الدنيا بالإحتضار لجهات:
الأولى : حضور الأهل والأقارب عند الميت ساعة قبض روحه.
الثانية : من الآيات أن ملائكة الرحمة وملائكة العذاب يحضرون عند الميت.
الثالثة : حضور ذات الموت، وهو ظاهر القرآن، قال تعالى[حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ]( ).
الرابعة : حضور المؤمنين عند الميت.
الخامسة : حضور أعمال الإنسان في الوجود الذهني.
السادسة : تصور الإنسان لحاله في الآخرة.
السابعة : حضور مقدمات التوبة رحمة من عند الله.
الثامنة : إدراك الإنسان لموضوعية كتابة وصيته.
وفي هذا الحضور والإخبار عنه في القرآن والسنة دعوة للناس للتوبة والإنابة ، وحث على التنزه عن الفساد .
خامساً : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معاركهم ضد الذين كفروا ، وهل يمكن القول هناك ملائكة للحرب وخصوص القتال لا ينزلون إلا لنصرة الأنبياء والذين آمنوا بالتوحيد والنبوة ، الجواب لا يبعد هذا، وكان ممن نزل في معركة بدر ثلاثة من كبار الملائكة وهم :
الأول : جبرئيل الذي ينزل بالوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزل الملائكة يوم معركة بدر لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ) وفيه شاهد بأن هذه النصرة ضرورة وحاجة لإستدامة الوحي وإستمرار التنزيل وأن الذين كفروا جاءوا ليستأصلوا الإسلام ويمنعوا التنزيل، ويحجبوا عن الناس الهدى والإيمان ، فنزل الملك بالوحي للقتال.
وخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه إلى ميدان المعركة ، ليكون نزول جبرئيل عليه السلام من مصاديق قوله تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى] ( ) فان قلت الآية أعلاه مكية ووردت بصيغة الفعل الماضي مما يدل على أن موضوعها في زمان ما قبل الهجرة النبوية ، والجواب صحيح أن الآية مكية ولكن موضوعها متصل ومتجدد , وهذا التجدد يحتمل وجوهاً:
أولاً : إرادة أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل الهجرة لشدة أذى قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو بمكة .
ثانياً : مصاحبة مضامين الآية أعلاه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميادين القتال ، فلا يخلي الله بينه وبين القوم الكافرين ، لذا تفضل وأنزل الملائكة لنصرته يوم بدر وأحد وحنين.
ثالثاً : من معاني الآية أعلاه أنها وعد كريم من عند الله عز وجل لنبيه الكريم ولأمته بأنه سبحانه لن ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم من الأيام وإلى يوم القيامة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق الآية الكريمة ، والملائكة خلق مكرمون وعباد مطيعون لله عز وجل دائبون على التسبيح من غير ملل أو كلل , وهم أجسام نورانية منزهون بفضل من الله عز وجل عن الأكل والشرب والنكاح .
وللملائكة وظائف عبادية في نظام الكون لا يقدر عليها إلا هم ، ولكل إنسان ملكان عن يمينه وشماله يكتبان أقواله وأعماله ومنهم حملة العرش ، وخزنة الجنة ، وخزنة النار , وخزنة الغيث ولا يحصي عدد الملائكة إلا الله عز وجل ، والإيمان بهم واجب ,
وعن أبي أمامة ، عن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف عليه السلام أنه كان يقول : عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : « عرى الإيمان أربع ، والإسلام توابع ، عرى الإيمان أن تؤمن بالله وحده وبمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من شيء ، وتؤمن بالله ، وتعلم أنك مبعوث بعد الموت ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان، وحج البيت ، والجهاد في سبيل الله عز وجل ( ).
ويأتي الموت على الملائكة ولكن أمد حياتهم بعيد بفضل الله ، ومن وظائف الملائكة أنهم رسل الله بعضهم إلى بعض وإلى الأنبياء والرسل .
ويستطيع الملائكة تبديل هيئتهم بكيفيات وأشكال متعددة وكلها حسنة ، وقد جاء جبرئيل إلى مريم بنت عمران بهيئة بشر ، وجاءت الملائكة إلى إبراهيم بصورة بشر ، كما في قوله تعالى [هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ]( )، وجاءوا إلى لوط بهيئة البشر ومظهر الشباب والوجه الحسن لإقامة الحجة على قومه بتأكيد إفتتانهم وسوء فعلهم ، وجاء جبرئيل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهيئات متعددة منها بصورة دحية الكعبي الذي كان جميل الوجه ، وجاء بهيئة الأعراب وهو يسأل عن الإيمان والإحسان وأمارات الساعة ، كما ينزل جبرئيل في ليلة القدر من كل عام وله ستمائة جناح ومعه عدد من الملائكة ز
وعن ابن عباس (أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن الجنة لتعد وتزين من الحول إلى الحول لدخول شهر رمضان ، فإذا كانت أول ليلة من شهر رمضان هبت ريح من تحت العرش يقال لها المثيرة ، تصفق ورق الجنة وحلق المصاريع ، يسمع لذلك طنين لم يسمع السامعون أحسن منه ، فيثب الحور العين حتى يشرفن على شرف الجنة ، فينادين : هل من خاطب إلى الله فيزوّجه؟ ثم يقول الحور العين : يا رضوان الجنة ما هذه الليلة؟ فيجيبهن بالتلبية ، ثم يقول : هذه أول ليلة من شهر رمضان ، فتحت أبواب الجنة على الصائمين من أمة محمد ، ويا جبريل اهبط إلى الأرض فاصفد مردة الشياطين وغلهم بالأغلال ، ثم اقذفهم في البحار حتى لا يفسدوا على أمة محمد حبيبي صيامهم .
ويقول الله عز وجل في ليلة من شهر رمضان لمناد ينادي ثلاث مرات : هل من سائل فاعطيه سؤله؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ من يقرض المليء غير المعدم؟ والوفي غير الظلوم.
قال : وله في كل يوم من شهر رمضان عند الإِفطار ألف ألف عتيق من النار كلهم قد استوجبوا النار ، فإذا كان آخر يوم من شهر رمضان أعتق الله في ذلك اليوم بقدر ما أعتق من أول الشهر إلى آخره)( ).
وعن ابن مسعود في قوله ({ ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى } قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته عند السدرة له ستمائة جناح؛ جناح منها سد الأفق يتناثر من أجنحته التهاويل والدر والياقوت ما لا يعلمه إلا الله)( ).
وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال : أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة ) ( ).
الثاني : نزول ميكائيل وهو رؤساء الملائكة لنصرة المؤمنين. وذكر أن رؤساء الملائكة أربعة وهم :
الأول : جبرئيل .
الثاني : ميكائيل .
الثالث : عزرائيل، وهو ملك الموت .
وورد في الخبر أن رجلاً قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أقرب الخلق إلى الله جبريل وميكائيل وإسرافيل وهم منه مسيرة خمسين ألف سنة ، جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره وإسرافيل بينهما) ( ).
الثالث : نزول إسرافيل وهو من الملائكة المقربين لله عز وجل ، وهو موكل بالنفخ في الصور إيذاناً بيوم القيامة , فعيناه معلقتان باتجاه العرش ، ينتظر الأمر بالنفخ في الصور .
ثالثاً : إعانة وتعضيد الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحياة العامة ، وأموره العائلية ، وهو من مصاديق تشريف مقامه بين الناس ، وليكون إقتداء الناس به برشحات توجيه الملائكة .
وفي الثناء على النبي محمد ص ورد في خصوص بعض أزواجه قوله تعالى [وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ] ( ).
الرابع : نزول الملائكة بالبركة والخير والرزق والخصب للناس باذن من عند الله .
الخامس : تفضل الله عز وجل بنزول الملائكة لنجدة وإغاثة عبد مؤمن ، وصرف البلاء عن الناس مؤمنين أو كفاراً ، وهو من مصاديق كون الدنيا ( دار الرحمة ) لذا فان المسلمين يتلون في الصلاة اليومية قوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( )، على نحو التكرار والتعدد في البسملة للسورة والجزئية من سورة الفاتحة .
وهل تلاوة المسلمين للبسملة جهراً وإخفاتاً من مصاديق إحتجاج الله على الملائكة في كون إفساد طائفة من الناس في الأرض وقتلهم النفس الزكية بغير حق ليس سبباً أو علة تامة لعدم جعل الإنسان خليفة في الأرض.
الجواب نعم، فهناك أمة مؤمنة تتلو بصيغة التعبد ولغة التضرع والخشوع صفات الله الحسنى عدة مرات كل يوم , وتتوسل إليه بقوله [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] فتتجلى معاني الخلافة في الأرض ، ويصرف الله البلاء عن الذين يفسدون في الأرض ، وعلى المبنى الذي أسسناه في هذا السفر الذي هو رشحة من رحمة الله علينا وعليكم بأن الملائكة سألوا الله عز وجل أن يكون كل أهل الأرض صالحين ليس فيهم مفسد أو فاسد.
ويكون تقدير قولهم:[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، هو : أتجعل في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء بل تفضل وإجعل أهلها مثل الملائكة يسبحون بحمد الله ويقدسونه.
لقد أنزل الله الملائكة لنصرة المؤمنين وللإنتقام من المفسدين في الأرض، قال تعالى[فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( ).
الوجه الرابع : نزول المطر من عند الله ليغمر الأرض بالخير ويحصل الخصب ، وتزدهر التجارات وتطيب المكاسب ، قال تعالى [وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج]( ).
فنسب الله عز وجل نزول المطر والماء إليه لبيان أن عملية تبخر الماء من البحار وتجمعه إنما هو بفضل ورحمة من الله ، وأن هذه الأبخرة مستجيبة لله، وهل إستجابتها واحدة أم أن كل جزء وذرة منها تتلقى الأمر من عند الله وتستجيب له على نحو الخصوص.
الجواب هو الثاني، وتلك آية في بديع صنع الله وسعة قدرته وبديع سلطانه على الخلائق بحيث تكون هناك صلة بين الله عز وجل وبين كل فرد من الخلائق صغر أو كبر .
ويحتمل نزول المطر وبداياته في الأرض وجوهاً:
أولاً : نزل المطر في الأرض قبل خلق آدم وهبوطه وعمارته الأرض.
ثانياً : إقتران بداية نزول المطر في الأرض بهبوط آدم وحواء إليها، وهو من أمارات خلافته في الأرض.
ثالثاً : لم ينزل المطر من السماء إلى الأرض إلا بعد أن هبط إليها آدم وحواء وإحتاجا الأكل والشرب، والعمل بالزراعات.
والصحيح هو أولاً أعلاه لوجوه:
الأول : نزول المطر على الأرض من الإرادة التكوينية، ومن عمومات [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
الثاني : نزول المطر إلى الأرض من النظام الكوني العام الذي لا يتعلق بمخلوق متحد أو متعدد.
الثالث : عمارة كائنات حية للأرض قبل خلق آدم، فإن الأشجار وأنواع الثمار تنتشر في الهند.
الرابع : توطئة وتهيئة المقدمات لآدم في خلافته في الأرض بفضل من الله، فحتى إذا هبط هو وحواء فانهما يريان الأشجار والنباتات، ومياه الأمطار والأنهار، وإن كان سكنهما في بقعة محدودة من الأرض .
وقد وردت الأخبار بأنهما هبطا في الهند وإنتقلا إلى مكة , لبيان إنتفاع الإنسان من الغيث وبركات الأرض حال سكنه فيها, وعمارته لها .
وعن الإمام الباقر عن الإمام علي عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى لما أحب أن يخلق خلقا ” بيده وذلك بعد ما مضى للجن والنسناس في الأرض سبعة آلاف سنة، قال: ولما كان من شأن الله أن يخلق آدم للذي أراد من التدبير والتقدير لما هو مكونه في السماوات والأرض وعلمه لما أراده من ذلك كله كشط عن أطباق السماوات، ثم قال للملائكة: انظروا إلى أهل الأرض من خلقي من الجن والنسناس .
فلما رأوا ما يعملون فيها من المعاصي وسفك الدماء والفساد في الأرض بغير الحق، عظم ذلك عليهم وغضبوا لله وأسفوا على أهل الأرض ولم يملكوا غضبهم أن قالوا: يا رب أنت العزيز القادر الجابر القاهر العظيم الشأن، وهذا خلقك الضعيف الذليل في أرضك يتقلبون في قبضتك ويعيشون برزقك ويستمتعون بعافيتك وهم يعصونك بمثل هذه الذنوب العظام لا تأسف ولا تغضب ولا تنتقم لنفسك لما تسمع منهم وترى، وقد عظم ذلك علينا وأكبرناه فيك .
فلما سمع الله عز وجل ذلك من الملائكة قال: إني جاعل في الأرض خليفة، لي عليهم فيكون حجة لي عليهم في أرضي على خلقي، فقالت الملائكة: سبحانك أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ” وقالوا: فاجعله منا فانا لا نفسد في الأرض ولا نسفك الدماء. قال الله جل جلاله: يا ملائكتي[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، إني اريد أن أخلق خلقا بيدي أجعل ذريته أنبياء مرسلين، وعبادا صالحين، وأئمة مهتدين، أجعلهم خلفائي على خلقي في أرضي، ينهونهم عن معاصي، وينذرونهم عذابي، ويهدونهم إلى طاعتي، ويسلكون بهم طريق سبيلى، وأجعلهم حجة لي عذرا أو نذرا، وابين النسناس من أرضي فاطهرها منهم، وأنقل مردة الجن العصاة عن بريتي وخلقي وخيرتي، واسكنهم في الهواء وفي أقطار الأرض لا يجاورون نسل خلقي، وأجعل بين الجن وبين خلقي حجابا، ولا يرى نسل خلقي الجن ولا يؤانسونهم ولا يخالطونهم، فمن عصاني من نسل خلقي الذين اصطفيتهم لنفسي أسكنتهم مساكن العصاة وأوردتهم مواردهم ولا أبالي، فقالت الملائكة: يا رب افعل ما شئت ” لا علم لنا إلا بما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم)( ).
الخامس : في إبليس وأنه كان من قوم من الجن يعمرون الأرض.
وليس في مكة زراعات وأشجار، كما ورد في التنزيل حكاية عن ابراهيم[رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ]( )، وفيه وجوه:
أولاً : كانت الهند جنة الأرض، وليس من ثمرة وشجرة فاكهة إلا فيها، ولا زالت هذه النعمة إلى يومنا هذا.
ثانياً : أخبرت الآية أعلاه عن كون أرض البيت الحرام أرض جرداء إنما كان هذا في عهد إبراهيم عليه السلام وأيام آدم متقدمة على أيام إبراهيم بمئات السنين.
لقد خلق الله عز وجل الأرض[وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ]( )، قبل أن يخلق آدم.
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث طويل أنه قال : لعلك ترى أن الله تعالى لم يخلق بشراً غيركم بلى والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين) ( ).
وذكر الشيخ في فتوحاته ما يقضي بظاهره أن قبل آدم بأربعين ألف سنة آدم غيره)( ).
ثالثاً : يدل دعاء إبراهيم في مفهومه على أن الأرض الجرداء أمر نادر , بالنسبة للأماكن المسكونة .
السادس : يتعاهد الله الأرض بنزول المطر، ويكون لها كالرزق والغذاء لذا ترى هيأتها تتبدل عند نزول وتوالي المطر عليها مما يدل على أن نزول المطر سابق لخلافة آدم عليه السلام في الأرض، وهو من رحمة الله بالأرض.
السابع : وجود الدواب والهوام في الأرض قبل هبوط آدم إلى الأرض، وتتقوم حياتها بنزول المطر، قال تعالى[وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]( ).
وفي رواية أن إبليس حرّض السباع على آدم لتأكله مما يدل على وجود السباع والحيوانات في الأرض قبل عمارة آدم للأرض، قال وهب بن منبه: لما أهبط إلى الأرض جاء إبليس إلى السباع فأشلاهم على آدم ليؤذوه , وكان اشدهم عليه الكلب فأميت فؤاده , فروي في الخبر أن جبريل عليه السلام أمره أن يضع يده على رأسه فوضعها فاطمأن إليه وألفه فصار ممن يحرسه ويحرس ولده ويألفهم وبموت فؤاده يفزع من الأدميين فلو رمي بمدر ولى هاربا ثم يعود آلفا لهم ففيه شعبة من إبليس وفيه شعبة من مسحة آدم عليه السلام فهو بشعبة إبليس ينبح ويهر ويعدو على الآدمي وبمسحة آدم مات فؤاده حتى ذل وانقاد وألف به وبولده يحرسهم , ولهثه على كل أحواله من موت فؤاده ولذلك شبه الله سبحانه وتعالى العلماء السوء بالكلب ونزلت عليه تلك العصا التي جعلها الله آية لموسى فكان يطرد بها السباع عن نفسه)( ).
الثامن : لعل نعمة وآية المطر سر من أسرار إستدامة النظام الكوني والتناسق بين السموات والأفلاك والأرض والجبال، وسير الكواكب والشمس والقمر بانتظام ودقة متناهية مع مرور آلاف السنين .
وفي قوله تعالى[وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ]( ) أخرج الشافعي عن المطلب بن حنطب في مرسلته: كان إذا برقت السماء أو رعدت ، عرف ذلك في وجهه ، أي وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا أمطرت سري عنه .
وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا سمعتم الرعد فاذكروا الله ، فإنه لا يصيب ذاكراً)( ).
وفيه أن الرعد مصاحب لخلق السموات والأرض، وشاهد على التداخل والصلة بينهما، ليكون كالرسول من عند الله للخلائق، وفيه دعوة للذين كفروا بالكف عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين خاصة , وأن هذه المحاربة إستمرت لسنوات عديدة إلى أن تم فتح مكة.
وتحتمل الصلة بين الغم والنعاس وجوهاً :
الأول : إستقلال كل منهما بموضوعه وإنعدام الملازمة أو التداخل بينهما .
الثاني : إرادة بيان قاعدة تعقب النعاس الأمنة للغم إذا كان هذا الغم ثواباً من عند الله.
الثالث : بيان قانون في الإرادة التكوينية وهو نزول النعاس بعد الغم لإزاحة آثاره عن النفس والبدن والجوارح.
والمختار هو الثاني والثالث، وهو من بديع صنع الله في الإنسان والمدد للمؤمنين، وأنه سبحانه يتعاهد الناس برحمته ولطفه، ويمن على المسلمين على نحو خاص بأفراد نافلة من الرحمة، وكما تفضل سبحانه وأخبر عن صيرورة النار[بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ) حينما ألقي إبراهيم فيها من قبل الطاغوت وقومه ، فان الله عز وجل أنعم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند حال الخسارة في معركة أحد بلحاظ هذه الآيات بأمور :
الأول : بيان قانون ولاية الله للمؤمنين وقد يقال أن ولاية الله خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وجاءت هذه الآيات لبيان أن ولاية الله له وللمؤمنين عامة، وهو من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين ومنهم الرسل أولوا العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بعدم إنحصار ولاية الله بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل تشمل المؤمنين برسالته .
ومن أسرار عموم الولاية في المقام ورود آيتها قبل آية إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا والتي جاءت بصيغة المستقبل القريب لبيان موضوعية نظم وسياق الآيات في علم التفسير ومنها حضور ولاية الله للمحسنين في حال السلم والحرب قبل وبعد أن تبين هذه الآيات وقائع معركة أحد ، قال تعالى [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]( ).
الثاني : بعث الوهن والحزن في صفوف الذين كفروا بإلقاء الرعب في قلوبهم ، للملازمة بين الرعب والوهن وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : يلازم الوهن والحزن الرعب .
الصغرى : يملأ الرعب قلوب الذين كفروا .
النتيجة : يصاحب الوهن والحزن الذين كفروا .
ومن معاني قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]دعوة المسلمين لعدم الرجوع والإنخزال من وسط الطريق إلى معركة أحد عندما دعاهم رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول للرجوع والخذلان.
وتتجلى معاني هذه الدعوة بأن العدو سيكون ضعيفاً عاجزاَ عن الهجوم والمبادرة في القتال، وهو الذي إتضح من المعارك الأولى للإسلام , والتي بدأت بخروج حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة ليطلب المبارزة فلم يجبه أحد من المسلمين فازداد غروراً، وطلبها ثانية وثالثةً فخرج له الإمام علي عليه السلام .
وإذا كان عمرو بن ود العامري قال لعلي عليه السلام في معركة الخندق أن أباك صديقي , فمن باب الأولوية القطعية أن الإمام علي كان أصغر سناً في معركة احد لوقوعها قبل معركة الخندق، وكان قد قتل الوليد بن عتبة بن ربيعة في معركة بدر ليستحضر طلحة بن أبي طلحة هذه الحقيقة في الوجود الذهني وهو من الرعب الذي ألقاء الله في قلبه , أما بالنسبة لجيش المشركين فان الرعب أعم في هذه المبارزة من جهات :
الأولى : خشية الذين كفروا من تكرار نتائج معركة بدر ، لأن الإستصحاب أمر عقلي قبل أن يكون قاعدة أصولية، والإستصحاب في المقام من مصاديق إلقاء الرعب من عند الله في قلوب الذين كفروا.
وتقدير الآية: سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب في معركة أحد باستحضارهم لوقائع معركة بدر واستصحابهم لنتائجها .
الثانية : يتقدم أحد المشركين للمبارزة وهو حامل لوائهم ومن فرسانهم وكان يسمى كبش الكتيبة ، فيتقدم له من صفوف المسلمين شاب تعرفه قريش بنسبه الشريف وقربه الشخصي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومبادرته للإسلام حال بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشجاعته ، وقتله لنفر من فرسان قريش يوم معركة بدر.
الثالثة : إنتهاء المبارزة بين علي عليه السلام وطلحة بن أبي طلحة بقتل الأخير بمرأى ومسمع من الصفين ، وفيه عز وفخر للمؤمنين ، وذل ووهن للذين كفروا، وهو مناسبة لإمتلاء قلوبهم بالرعب والفزع .
الثالث : بيان هذه الآية لقانون من قوانين الإرادة التكوينية وهو جلب الشرك الويلات على أصحابه في الدنيا , ليكون على وجوه:
أولاً : الشرك كفر جحود، وهو أقبح فعل للإنسان وسبب غلق باب الرأفة والشفاعة عن العبد، وتكون عاقبته شدة العذاب في النار، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
ثانياً : ظلم الكافر لنفسه ولغيره مما يجعله يشعر بالضيق والأذى لأن كلاً من الشرك والكفر والظلم خلاف الفطرة الإنسانية التي جبل الله الناس عليها ، لذا أختتمت آية إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بالرعب بالوعيد على ذات الظلم بقوله تعالى [وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
وبين الظلم والكفر عموم وخصوص مطلق ، فالظلم أعم, والظالمون أكثر وأعم من الذين كفروا ، وكل كافر هو ظالم وليس العكس ، وهل في الآية أعلاه إنذار ووعيد للذين ينصتون للذين كفروا ويتبعونهم.
الجواب نعم، وفي الآية حجة بلحاظ كبرى كلية وهي ظهور الرعب في أقوال وأفعال الذين كفروا زاجر للناس عن إتباعهم والإنقياد لأوامرهم ، ومنه تحذير أهل مكة والقرى والقبائل التي حولها من كفار قريش والتنبيه إلى لزوم إعانتهم في حربهم على الإسلام فاذا لم يجد الظالم وأقطاب الظلم من يعينهم على الظلم يعجزون عنه، ويكفون عن إيذاء الناس ، وتجلى هذا الأمر في معركة أحد والخندق.
فقد أراد كفار قريش الثأر لقتلاهم في معركة بدر فطافوا على القبائل وأغروا الناس بالمال واعطوا الوعود لمن يخرج معهم، وقبلوا شروط من جعل لخروجه معهم شروطاً خاصة من ذوي الشأن ورؤساء القبائل والذين يتصفون بالشجاعة، وإشتهروا بالفروسية والبسالة.
ولو إمتنع هؤلاء عن نصرة كفار قريش على الباطل لما إستطاعوا جمع ربع العدد الذي حضر معهم إلى معركة أحد ، وفي هذه الحال هل يقدم كفار قريش على الزحف على المدينة المنورة بقصد قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحاربة الإسلام ، الجواب لا.
لذا من وجوه تقدير خاتمة الآية أعلاه وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا بئس مثوى الظالمين ) بلحاظ عطف الآية على الخطاب التشريفي للمسلمين والذي عطفت عليه هذه الآيات وهو[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
وتتضمن الآية الإعجاز بلحاظ العموم الإستغراقي لتغشي النعاس لطائفة وأفراد كثيرين من جيش الإسلام، فلم يكن النعاس قضية شخصية كي يقال إنه أمر خاص وطارئ، أو أنه نزل بفردين أو ثلاثة من المؤمنين كي يقال إنه حدث إتفاقاً وصدفة، بل اتصف بأمور:
الأول : نزول النعاس من عند الله عز وجل، كما ينزل المطر من عنده تعالى[يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ]( )، وينزل المطر بقدر مخصوص لبيان الدقة العقلية في فضل الله وإستجابة الخلائق لأمره سبحانه، وفيه دعوة للناس للإجتهاد بالمسألة في نزول الوافر من المطر وترشح الخصب والبركة عنه، والنعاس من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة، وفيه وجوه:
أولاً : نزل مقدار معين من النعاس على كل فرد من المؤمنين الذين خصهم الله بهذه النعمة، وهذا المعنى وكونه من الكلي المتواطئ خاص بواقعة أحد، إذ أن الأصل فيه هو التباين في المقدار والأثر.
ثانياً : يختلف مقدار وكم النعاس الذي نزل على المؤمنين بحسب حال البدن والنفس.
ثالثاً : موضوعية تجلي آية النعاس بوضوح في مقداره وكيفيته بالنسبة لكل فرد من الصحابة الذين نزل عليهم النعاس.
الثاني : نزول مقادير متباينة من النعاس، وفيه جهات:
الأولى : لحاظ مراتب الإيمان.
الثانية : بحسب حال الأشخاص ودرجة تلقيهم للنعاس.
الثالثة : يأتي النعاس بمقدار يدرك به الصحابي أنه آية من عند الله عز وجل.
الثالث : التباين الرتبي والزماني في نزول النعاس، فلم ينزل النعاس على جميع الصحابة دفعة واحدة، بل يأتيهم بالتوالي والتعاقب، ليرى كل من المؤمنين آية النعاس في نفسه وأصحابه، ويرى الآخرون من الطائفة الذين ( أهمتهم أنفسهم) فوز أصحابهم بنعمة النعاس ثواباً من عند الله على نعمة إخلاص النية والثبات في منازل الإيمان، والتسليم بقضاء الله عز وجل.
ومن إعجاز آية البحث مجئ حكم النعاس عاماً للمؤمنين ليناله فريق منهم، وفيه ترغيب لأجيال المسلمين بالإيمان وإخلاص العبادة لله عز وجل ليتلقوا النعم النازلة من عند الله عز وجل، قال تعالى[وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ]( ).
ولم تقل الآية ( ثم أنزل عليكم أمنة نعاساً ) بل ذكرت ذات الغم الذي ذكرته الآية السابقة بأنه جاء للمسلمين ثواباً من عند الله.
إبتدأت الآية بحرف العطف (ثم) وفيه مسائل :
الأولى : بيان تعدد أحوال المسلمين في معركة أحد , وإن كانت لم تستغرق إلا يوماً واحداً ، ومن خصائص الحياة الدنيا أن الأيام الراتبة والتي يتشابه فيها عمل الإنسان تمر سريعاً وتطوى بالتعاقب من غير إلتفات للفارق بينها , وأن كل يوم على الأرض لا يعود أبداً .
أما الأيام التي تقع فيها الحوادث وضروب الإبتلاء فتبدو أطول من غيرها وتبقى في الذاكرة بوقائعها وما يترشح عنها ، وتفضل الله عز وجل وخصّ المسلمين بنعمة وهي توثيق هذه الحوادث بكتاب نازل من عنده وهو القرآن إذ أراد الله عز وجل له أن يبقى في الأرض إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
فلولا آية البحث لرأيت كثيراً من الناس ينكرون نزول النعاس من السماء وأنه نعمة مخصوصة على طائفة من المسلمين ولقالوا إنما ينزل الكتاب والوحي من عند الله ولكن آية البحث فتحت أبواباً من العلم وأسست لمدارس في المعارف الإلهية تؤكد لزوم الصدور عن القرآن في معرفة وقائع معارك الإسلام الأولى والسعي في إحصاء فضل الله على المؤمنين في ميادين القتال ، وقبل المعركة وبعد إنقضائها .
ليكون من الإعجاز في خاتمة الآية قبل السابقة [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]أمور :
الأول : تعدد مصاديق الفضل الإلهي على المسلمين بمضامين ذات الآية أعلاه ، لتكون الخاتمة تذكيراً بها ، وشاهداً عليها ، ودعوة للمسلمين للشكر لله على نعمة الفضل الإلهي عليهم .
الثاني : إخبار الله عز وجل عن كونه ذا فضل على المؤمنين فضل عظيم من عنده سبحانه عليهم وعلى الناس .
وفي الآية ثناء من وجوه :
أولاً : ثناء الله عز وجل على نفسه .
ثانياً : الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لفوز الذين آمنوا بنبوته من بين الناس بالفضل من عند الله عز وجل .
ثالثاً : إختصاص المؤمنين بفضل من عند الله من بين الناس وبلحاظ إنتفاع عامة الناس من هذا الفضل أو عدمه جهات :
الأولى : إنحصار النفع من الفضل الإلهي النازل لخصوص المؤمنين بهم فلا يتعدى إلى غيرهم من الناس .
الثانية : ترشح منافع الفضل الإلهي على المؤمنين على ذويهم وأهليهم والقريب منهم .
الثالثة : إنتفاع الناس جميعاً من الفضل الإلهي الذي يخص به المؤمنين.
الرابعة : التفصيل والفصل فمن الناس من ينتفع من فضل الله الذي يختص به المؤمنون ، ومنهم من يحرم من رشحات وما يتفرع عن هذا الفضل .
والمختار هو الثالثة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )فيأتي الفضل للمؤمنين خاصة ولكنه ينفع الناس جميعاً , وكل فرد ينال ويكتسب من علومه ومنافعه .
الثالث : ذات قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]فضل عظيم ونعمة متجددة ومناسبة ليتخذها المسلمون عيداً عند تلاوتها فليس بالضرورة أن يكون العيد بيوم مخصوص ، بل يشعر المسلم عند تلاوة الآية الكريمة أنه في عيد وغبطة وسعادة لما في الآية من الإخبار عن تعدد مصاديق الفضل الإلهي على المسلمين وهي وعد كريم لهم بتوالي النعم والفضل من عند الله عز وجل .
وهل يفيد لفظ [فَضْلٍ] الذي جاء نكرة الإثبات والعموم والإطلاق في موضوعه ، الجواب لا ، كما أنه ورد في الآية قبل السابقة منسوباً ومضافاً إلى الله لبيان أنه ليس نكرة .
وفي الصلة بين الغم والنعاس وجوه :
الأول : هناك ملازمة بين حدوث الغم ونزول النعاس ، فاذا جاء الغم ثواباً من عند الله فأن الأمنة والنعاس يتعقبانه .
الثاني : النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق , وهي على شعبتين:
الأولى : قد يأتي الغم ويتخلف عن تعضيد النعاس والأمنة .
الثانية : قد تحل الأمنة النعاس إبتداء من غير أن يسبقها الغم .
الثالث : ليس من قاعدة كلية ثابتة في المقام , فيتعقب النعاس والأمنة الغم مرة , وأخرى لا يتعقبه .
الرابع : القدر المتيقن هو حدوث الغم ونزول النعاس أمنة مرة واحدة في واقعة أحد .
والمختار هو الوجه الأول والشعبة الثانية من الوجه الثاني ، ومن أسرار تعدد وكثرة الآيات التي تتعلق بواقعة أحد أمور :
الأول : إقتباس المسلمين الدروس والمواعظ من واقعة أحد .
الثاني : كل آية تتعلق بواقعة أحد كنز يقتبس منه المسلمون الدروس ، ويتعلمون منه المعارف الإلهية .
الثالث : دعوة المسلمين لجمع الآيات التي تخص معركة أحد بلحاظ أسباب النزول للآية ومضامينها القدسية , ومنها هذه الآيات المتجاورة التي تبدأ بقوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا..] ( ).
ومن خصائص الآيات التي تتعلق بواقعة أحد تعدد الآيات المعطوفة بعضها على بعض .
الرابع : إستقراء المسائل من الجمع بين كل آيتين من الآيات التي تخص معركة أحد لذا تفضل الله عز وجل علينا في هذا التفسير المبارك بأن إختص الجزء الخامس والعشرون بعد المائة منه بالصلة بين الآية ( 151-152 ) .
وإختص الجزء السادس والعشرون بعد المائة بالصلة بين شطر من الآية (151) وشطر من الآية (153) .
الخامس : تعدد النعم على المسلمين والناس في كل آية من آيات معركة أحد ، وكل وجه من هذه الوجوه يصلح أن يكون رسالة مستقلة ومجلداً قائماً بذاته بأبواب متعددة .
ترى ما هي النعم في آية البحث بلحاظ أنها من آيات معركة أحد .
الجواب من وجوه :
أولاً : إبتداء الآية بصيغة العطف المقرون بالتراخي أما العطف فللدلالة على التداخل والإتصال بين موضوع آية البحث والآيات السابقة ، ومنع الخلاف بين المسلمين في التأويل ، وأما التراخي فلبيان الفترة بين الغم والنعاس ، وتحتمل وجوهاً :
الأول : إستمرار الغم إلى أن نزل النعاس .
الثاني : صيرورة فترة بين الغم والنعاس ، ليس فيها وجود لأحدهما.
الثالث : وجود نعمة أخرى بين الغم والنعاس تفضل الله عز وجل بها تتعلق بالسلامة من الحزن والخوف .
والمختار هو الثالث ،وفيه دعوة للمسلمين للإلتفات إلى تعدد النعم ، والإجتهاد بشكر الله عز وجل على توالي النعم .
ثانياً : لم يرد في هذه الآيات السبعة المعطوفة بعضها على بعض مادة ولفظ النزول إلا في آية البحث لبيان أن حال القتال لم يمنع من التنزيل والنزول . ولما أكدت آية البحث نزول النعاس فانه يدل بالدلالة الإلتزامية على نزول آيات القرآن .
وتقدير آية البحث : ثم أنزل عليكم من بعد الغم آية أمنة نعاساً وأنزل على الرسول آيات التنزيل لينتفع المسلمون من نزول القرآن ونزول النعاس .
ومن خصائص تقييد نزول النعاس بأنه أمنة عدم طرو الغفلة على المسلمين بخصوص التنزيل وآيات القرآن ولبيان حقيقة وهي أن هذا النعاس وعاء وحال نفسانية لإستحضار آيات القرآن , ولزوم الإستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالرجوع إلى ميدان المعركة .
ثالثاً : تحلي المسلمين بالصبر طوعاً وقهراً وإنطباقاً لبيان آية البحث إجتماع الأمن والنعاس ، ومن المواطن التي يحتاج فيها المؤمن الصبر عند اللقاء ولقاء العدو ، فرزق الله عز وجل المؤمنين الصبر في معركة أحد بالواسطة أي باجتماع الأمنة والنعاس ، ليكون الصبر خاليا من الرعب والفزع والخوف .
لقد ورد قبل ثلاث آيات إمتلاء قلوب الذين كفروا بالفزع والرعب ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ).
وجاءت آية البحث لتبين معنى من معاني التضاد والتباين بين المؤمنين والذين كفروا بسلامة قلوب المؤمنين أنصاراً ومهاجرين من الرعب والفزع ، وهو من إعجاز القرآن , وفيه دعوة لإستقراء ذخائره وعلومه بالذات وبالواسطة والجمع بين الآيات .
وهل يمكن القول بأن من مصاديق (ثم) في آية البحث أن نزول النعاس أمنة جاء بعد نزول الملائكة مدداً وعوناًً للمؤمنين يوم أحد، الجواب نعم لقد نزل النعاس بعد نزول الملائكة بلحاظ أفراد الزمان الطولية وترتيب وقائع معركة أحد .
وقد يقال إنه لا يرقى إلى مرتبة الدليل ، ومن معاني (ثم) الجلية في آية البحث الترتيب بين نزول الملائكة وبين النعاس .
وقد يرد إشكال وهو أن الأصل هو ملازمة الأمنة لنزول الملائكة لنصرة المؤمنين والجواب نعم تتجلى هذه الملازمة بدعوة الرسول لأصحابه بالرجوع وإستجابتهم لندائه ، وأن قوله تعالى [أَمَنَةً نُعَاسًا]لا يدل إبتداء الأمن بالنعاس , ولكن لبيان أن الأمن مصاحب للنعاس ، وأن كلاً منهما نعمة وفضل من عند الله ويفتح هذا المعنى آفاقاً من العلم .
وهل إنقطعت آية الأمنة والنعاس وإنحصرت بمعركة أحد أم أنها تكررت وتجددت بفضل الله , الجواب هو الثاني ،فمن نعم الله على أهل الأرض أن النعمة التي يتفضل بها الله عز وجل لا تغادر الأرض ، لذا تكون كل نعمة سلاحاً بيد المؤمنين وإلى يوم القيامة فتأتي من جهات :
الأولى : تأتي النعمة إبتداء من عند الله عز وجل .
الثانية : إتخاذ المؤمنين الدعاء والمسألة وسيلة لنزول النعم , قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
الثالثة : مجئ النعم حيث يشاء الله في جلب المصلحة ودفع المفسدة .
الرابعة : توالي النعم على المؤمنين والناس ليشكروا الله عز وجل عليها , وهو من عمومات [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )وفيه وجوه :
الأول : لحاظ المعنى الأعم للخلق وإستدامته وأفعال العباد والإبتلاء اليومي المتجدد للإنس والجن .
الثاني : القدر المتيقن من الآية أعلاه هو إبتداء الخلق .
الثالث : خلق آدم بالذات والنفخ فيه من روح الله .
الرابع : خلق كل إنسان .
والمختار هو الرابع أعلاه ، فكل إنسان يتوجه له التكليف بالعبادة شكراً لله سبحانه على خلقه ودوام حياته ، وكل شهيق وزفير ونفس لا يكون إلا بأمر الله عز وجل ، وفي شعر للإمام علي عليه السلام :
أتحسب أنك جرم صغير … وفيك إنطوى العالم الأكبر( )
ووردت الأمنة النعاس التي الآية التي يختص هذا الجزء بتفسيرها وهي [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ] ( ).
وجاءت بعض الأخبار لبيات مجئ ذات النعمة للمسلمين ، منها ما ذكره ابن أسحاق عن عائشة قالت (لَمّا أَرَادُوا غَسْلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ اخْتَلَفُوا فِيهِ . فَقَالُوا : وَاَللّهِ مَا نَدْرِي ، أَنُجَرّدُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مِنْ ثِيَابِهِ كَمَا نُجَرّدُ مَوْتَانَا ، أَوْ نُغَسّلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ ؟ قَالَتْ فَلَمّا اخْتَلَفُوا أَلْقَى اللّهُ عَلَيْهِمْ النّوْمَ حَتّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إلّا ذَقْنُهُ فِي صَدْرِهِ ثُمّ كَلّمَهُمْ مُكَلّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا يَدْرُونَ مَنْ هُوَ أَنْ اغْسِلُوا النّبِيّ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ , قَالَتْ فَقَامُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَغَسّلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ يَصُبّونَ الْمَاءَ فَوْقَ الْقَمِيصِ وَيَدْلُكُونَهُ وَالْقَمِيصُ دُونَ أَيْدِيهِمْ )( ) .ويحتاج الخبر في نهوضه إلأى تأكيد .
وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : نزول الأمنة النعاس دفعة واحدة .
الثاني : نزول الأمنة النعاس على نحو التدريج والترتيب في الزيادة والكثرة .
الثالث : تغشي الأمنة النعاس المؤمنين في آن واحد .
الرابع : التعدد في آنات وزمان نزول الأمنة النعاس على المؤمنين ، فيبدأ عند طائفة ثم يبدأ عند أخرى إلى أن يتغشاهم جميعاً .
والمختار هو الأول والثالث ، ليدرك المؤمنون كيف تم نزول النعمة وأن النعاس الذي يطرأ عليهم في إبدانهم خلاف المألوف وسنخية الإنسان من جهات :
الأولى : مجئ النعاس للمؤمنين من نواح متعددة من أجسامهم ، فهذا الذي يدب إليه النعاس من رأسه يأتيه من كتفه أو من عضده .
الثانية : سريان النعاس في البدن بحيث يدرك المؤمن عجزه عن دفعه ، فالأصل أن الإنسان يفزع عند الخوف ، ويطير من عينيه الكرى ، وكيلا يعتريه الأسى والحزن بأن يميل إلى النعاس في ساعة يجب أن يخلص فيها في الدفاع عن النبوة والتنزيل ، فيتفضل الله عز وجل ويجعل النعاس يأتي مقروناً بالأمنة ويطرأ بكيفية تتصف بأمور :
الأول : إحساس المؤمنين بأن مجئ النعاس معجزة من عند الله عز وجل .
الثاني : إمتلاء نفس المؤمن بالعز والرفعة لأن الله عز وجل يرحمه بنعمة النعاس التي تخالط بدنه .
الثالث : زيادة إيمان المؤمن ، ومن أبهى معاني الإيمان تعاهده في ساعة الشدة وميدان القتال فكيف وأن الله عز وجل يتفضل على المؤمنين ببركة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بزيادة إيمانهم في سوح القتال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الرابع : إقترن النعاس بالمنافع والفوائد الخاصة والعامة .
الخامس : من دلالات نعمة النعاس بيان المائز بين المؤمن والمنافق .
الثالثة : رضا وإستئناس المؤمنين بالنعاس لإقترانه بالأمنة والسلامة ، فالأصل أن طرو النعاس على المقاتلين في ميدان القتال كالكابوس ولكنه صار في معركة أحد رحمة وتخفيفاً لمصاحبة الأمنة له ، وذات الأمنة تسبب النعاس بعد بذل الجهد في القتال .
وفي المثل (لَوْ تُرِكَ القَطا لَيْلاً لَنَامَ ؛ لأَنّ القَطَا لا يَسْرِي لَيْلاً) ( ).
ويقال هذا المثل بخصوص من يهيج في غير موضع تهييجه , وله قصة وسبب( ) .
الرابع : ميل المؤمن إلى ذات النعاس وعدم صراعه معه لطرده من البدن ، وهو من خصائص المعجزة بأن تصرف الإنسان عن العزم على دفعها أو تركها أو التخلي عنها , وإن جاءت للإنسان وسط قوم كافرين ويخشى على نفسه .
وهل من صلة بين نزول النعاس أمنة وبين قوله تعالى [لِيَبْتَلِيَكُمْ] الجواب نعم , لإفادة المعنى الأعم من الإبتلاء , وشموله حال النعم وتواليها .
ومن الإعجاز في آية البحث ذكرها لأمر الأمنة والنعاس بأنهما نازلان من عند الله عز وجل ، وقد ذكرت هذه الآيات مجئ الملائكة مدداً وعوناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من غير أن يرد في مجيئهم لفظ النزول مع أن سكنهم في السماء .
إذ ورد قوله تعالى [أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ]( )[ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
أما الأمنة النعاس فنزلا من عند الله , وفيه مسائل :
الأولى : بيان قانون من الإرادة التكوينية وهو من وجوه :
الأول : يهب الله عز وجل الأمنة والنعاس للمؤمنين حيث يشاء , وأنى يشاء .
الثانية : كل من الأمنة والنعاس نعمة .
الثالثة : لا يقدر على نعمة الأمنة والنعاس إلا الله عز وجل ليكون فيه تحد للناس ودعوة للتسليم بسلطان الله المطلق ، وحاجتهم إلى رحمته .
الرابعة : بيان حقيقة وهي أن نزول الأمنة والنعاس نعمة عظمى تراها الملائكة فيدركون عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله سبحانه .
وهل يحق للمسلمين الإفتخار بأن عندهم سلاحاً متعدداً من جهات :
الأولى: سلاح الأمنة .
الثانية : سلاح النعاس .
الثالثة : إجتماع نعمة وسلاح الأمنة والنعاس .
الرابعة : إختصاص المسلمين بنزول سلاح الأمنة والنعاس .
الجواب نعم , ويمكن تقدير آية البحث : لقد أنزل عليكم نعمة الغم ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً ) بلحاظ أن المراد من (ثم) في العطف التشابه بين المعطوف والمعطوف عليه .
إذ أن نزول النعم أعم من أن يكون بنص ولفظ النزول ، فيمكن أن يأتي بالمعنى ، فان قلت هل تتضمن الآية السابقة موضوعاً أو حكماً نازلاً من عند الله عز وجل , ليكون من معاني العطف هو صبغة النزول في المعطوف والمعطوف عليه ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : كل آية قرآنية نازلة من عند الله عز وجل ، فبعد نزول الآية السابقة وما فيها من الإخبار عن صعود شطر من جيش الإسلام الجبل فراراً من وسط ميدان المعركة أخبرت عن عدم إلتفاتهم إلى حال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقاتل في الميدان .
الثانية : دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع إلى معركة أحد بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]مما نزل من السماء من جهات :
الأولى : لم يدع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه للعودة إلى ميدان المعركة إلا بأمر من عند الله عز وجل.
الثانية : الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشهادة له من السماء بأنه رسول من عند الله عز وجل، وجاءت الآية بألف ولام العهد أي ليس من رسول بخصوص أوان وموضوع الآية إلا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه دلالة على ختم النبوات برسالته، ومن معانيه وجوه :
أولاً : التخفيف عن المسلمين والناس جميعاً، بمنع البحث والإستقصاء في موضوع النبوة وتعددها.
ثانياً : دعوة الناس للتسليم برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه خاتم النبيين .
ثالثاً : حث الناس على أخذ أخبار السماء من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
رابعاً : بقاء رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض إلى يوم القيامة.
خامساً : إخبار الناس عن قانون من جهات :
الأولى : لا يدعو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمر وإذن من عند الله عز وجل، وفي التنزيل[إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ).
الثانية : لا يدعو وينادي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا لله عز وجل.
الثالثة : لا يدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا في الله.
سادساً : تقدير الآية: الرسول يدعوكم ليرى إستجابتكم للدعوة في ساحة المعركة وحال الشدة والضيق، لذا ورد في آية البحث[وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ]( ).
وجاء ترتيب وقائع معركة أحد بلحاظ الآيتين السابقتين وهذه الآية على وجوه:
الأول : إلتقاء الصفين جيش المسلمين بإمامة وقيادة رسول الله عليه وآله وسلم وجيش الذين كفروا في اليوم الخامس عشر من شهر شوال في السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة من مكة إلى المدينة.
الثاني : إبتداء القتال بالمبارزة ورمي السهام والنبال، وكثرة قتلى المشركين لتكون النسبة بين معركة بدر وأحد في بداية المعركتين التساوي.
فإن قلت قد أخبر الله عز وجل بخصوص معركة أحد عن صدق وعد الله بقوله تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]( )، فهل في معركة بدر وعد من الله وتحقق مصداقه .
الجواب نعم ، فعندما إلتقى الجيشان في معركة بدر توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء بقوله ( اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم نصرك )( ).
ترى ماذا لو أنزل الله عز وجل الأمنة النعاس من غير أن يبعث الغم ليدب في نفوس المسلمين ، الجواب من جهات :
الأولى : تفضل الله عز وجل على المسلمين بتوالي النعم ، فتتجلى نعمة الأمنة والنعاس عندما تحل بدل الغم ليحصل إنقلاب ظاهر في الكيفية النفسانية للمؤمنين , يدركه كل واحد منهم في نفسه وعند أصحابه فيزدادون إيماناً .
الثانية : من إعجاز هذه الآيات بيان وظيفة ومنافع الغم الذي جاء ثواباً من عند الله بأن صار واقية من الحزن والحسرة على ما فات المسلمين يوم أحد وعلى فقدان الأحبة وكثرة الجراحات والكلوم التي أصابت النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ونزلت بهم .
لقد كان يوم معركة أحد مصيبة حلت بالمسلمين ، قال تعالى في خصوصها [ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
الثالثة : من أسرار تعدد النعم وتعقب الأمنة النعاس للغم عند المؤمنين التباين الموضوعي في زمان وأوان كل منهما , فجاء الغم ثواباً عندما أدرك المسلمون الحرمان من الغنائم وأخذوا يتفقدون أصحابهم والذين لم يرجعوا منهم ، وإلتفتوا إلى خطأ ومعصية الرماة بمغادرة مواضعهم وكيف أنهم تركوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقاتل في الميدان مع قلة من أهل بيته وأصحابه ، فتفضل الله عز وجل عليهم بالغم ليصرف عنهم الحزن والحسرة والندامة .
الرابعة : بعد الأمن والسلامة من الحزن جاءت الأمنة النعاس رحمة ولطفاً وفضلاً من عند الله ، ليكون بين الأمنة التي تذكرها آية البحث والأمنة المترشحة عن الغم الذي جاء ثواباً عموم وخصوص مطلق ، فالأمنة في قوله تعالى [أَمَنَةً نُعَاسًا] أعم من صرف ودفع الحزن عن المؤمنين بسبب ما فاتهم وما أصابهم ، فيشمل وجوهاً :
الأول : الأمن من هجوم مباغت من قبل الذين كفروا .
الثاني : الأمن من الإستمرار في الإنهزام والبقاء على الجبل .
الثالث : الأمن من ذات الغم والهم بلحاظ أن الأمنة والنعاس ناسختان للغم .
الرابع : تأكيد سلامة المسلمين من الحزن على ما فاتهم من الغنائم , وما أصابهم من الخسارة في الأرواح والأبدان .
الخامس : أخبرت الآية السابقة عن دفع الحزن عن المؤمنين , أما آية البحث فانها تبين قانوناً يتضمن التحدي , وبيان سلامة المسلمين من الحزن حتى إذا إستحضروا وتذاكروا وقائع معركة أحد , وما لحقهم يومئذ من الخسائر .
السادس : نعمة الأمن من تجدد الحزن وأسبابه , وكأن آية البحث تتضمن إخباراً بأنه لا تقع وقائع وحوادث تصير سبباً للحزن والأسى عند المسلمين كتلك التي حدثت في مصيبة يوم معركة أحد .
السابع : إقتران نعمة النعاس مع نعمة الأمنة في آية البحث .
الخامسة : النعاس أول النوم وسكون الأعضاء , وهو لا يغادر الإنسان ولا يبقى إما باستسلام الإنسان للكرى وإطباق النوم على عينه وإذنه وقلبه، وإما بذهاب النعاس وإنصرافه .
وحال المسلمين يوم أحد من الثاني حيث يكون إنصرافه فجأة عنهم جميعاً آية ومعجزة في الإبدان كنزوله عليهم , ومن مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( ) .
وعندما إرتفع النعاس عن المؤمنين فهل رجع وصعد إلى السماء , وخزائنها , الجواب لا , فمن فضل الله : قانون عدم صعود النعمة بعد نزولها ) ومع مغادرة النعاس المسلمين لم يبق حزن ولا غم , ولا تستولي الندامة على نفوسهم لأن الغم دفع الحزن ، والنعاس صرف الغم .
ومن بديع قدرة الله عز وجل أنه لا تستعصي عليه مسألة ، ويمكن أن تأتي الأمنة والنعاس من جهات :
الأولى : مجيء الأمنة والنعاس من موضع ومحل قريب من المؤمنين .
الثانية : نزول الأمنة من السماء ، أما النعاس فيأتي من جانب المؤمنين.
الثالثة : مجئ الأمنة من ميدان المعركة ونزول النعاس من السماء .
الرابعة : نزول كل من الأمنة والنعاس من السماء حقيقة وليس مجازاً أو بالواسطة .
الخامسة : إرادة الأمر الإلهي من كلمة [ثم أنزل ] وتقدير الآية : ثم أنزل الله أمره بالأمنة لكم وأن يتغشى النعاس طائفة منكم .
ويبدو للوهلة الأولى أن المسألة الخامسة راجحة ومناسبة للأحكام والأوامر والنواهي ، ولكن الكلام العربي يحمل على الحقيقة , لو دار الأمر بين الحقيقة والمجاز .
والمختار أن كلاً من الأمنة والنعاس نزلا من كنز من كنوز العرش, وأوان هذا النزول خاص بيوم معركة أحد ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) عندما إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض بأن الإنسان [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
ليرى الملائكة جميعاً أن نزول الأمنة والنعاس من أسباب الوقاية من الفساد من إشاعة القتل ، بما فيه نبأ وإشاعة قتل خاتم النبيين وسيد المرسلين ، وثبوت كذب هذا النبأ لأن الله عز وجل أبى إلا حفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل أو الموت يومئذ ، مع أنه حق وخاتمة حياة كل إنسان ، قال تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ).
وفي قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ] ثناء من وجوه :
الأول : إنه ثناء من الله عز وجل على نفسه من جهات :
الأولى : لا يقدر على إنزال النعم من السماء دفعة أو تدريجياً إلى الله سبحانه ، ينزلها من غير مؤونة بل بالكاف والنون ، قال تعالى [إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
الثانية : بيان عظيم فضل الله عز وجل على المؤمنين وإنزال الأمنة النعاس من مصاديق قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] ( ).
الثالثة : قدرة الله عز وجل على الفصل والتمييز في ساحة المعركة بين:
اولاً : المؤمنون .
ثانيا : المنافقون .
ثالثاً : الكافرون .
فينفذ النعاس للمؤمنين على نحو التعيين من غير أن يحرم منه أحدهم أو أن يصل إلى غيرهم .
الرابعة : الأمنة النعاس من الرزق الكريم الذي يخص الله عز وجل به المؤمنين في ساعة الضيق والعسرة والحرج .
الخامسة : ليس من حاجب أو برزخ دون فضل الله وبلوغه للعباد تاماً غير ناقص .
السادسة : بيان مصداق الإستجابة لله عز وجل للدعاء , فلما قال سبحانه [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) تفضل وبيّن مصداقاً للإستجابة بنزول الأمنة والنعاس .
السابعة : من أسماء الله الحسنى (الكريم) قال تعالى [يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ]( ).
ومن كرمه في المقام أمور :
أولاً : إكرام الله عز وجل لرسوله في ميدان المعركة .
ثانياً : تفضل الله بنزول النعم على المؤمنين وهم في حال الجهاد .
ثالثاً : نزول النعم المتعددة من الله سبحانه .
رابعاً : توثيق النعم التي يتفضل بها الله عز وجل على المؤمنين في القرآن لتشكر أجيال المسلمين المتعاقبة إلى يوم القيامة الله عز وجل على هذه النعم .
الثامنة : تكون كل نعمة ينزلها الله مدداً وعوناً للمؤمنين في جهادهم في سبيله تعالى .
التاسعة : كفاية النعم التي يتفضل بها الله على المؤمنين لرجحان كفتهم في ميدان المعركة .
العاشرة : إنتفاع المسلمين من النعم الإلهية الإنتفاع الأمثل ، وإقتباسهم والناس جميعاً الدروس والمواعظ من هذه النعم , فهي وسيلة لزيادة إيمان المسلمين , وحجة وبرهان لجذب الناس إلى منازل الرشاد والهدى .
الثاني : في الآية ثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين البشر من أول الخلق وإلى يوم القيامة .
الثانية : فوز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول نعمة الأمنة عليهم وعلى أصحابه يوم معركة أحد .
الثالث : صبر وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومزاولته القتال بنفسه يوم أحد , وكان المؤمنون يلوذون به ويرجعون إليه .
وعن الإمام علي عليه السلام قال : كنا إذا حمى أو اشتد البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , فما يكون أحذ أقرب إلى العدو منه , ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأسا .
وكان صلى الله عليه وآله وسلم أشد الناس حياء , واكثرهم عن العورات إغضاء, قال الله تعالى[إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ] ( ) ( ).
الرابعة : دعوة الرسول لأصحابه بالرجوع إلى ميدان المعركة .
الثالث : في الآية ثناء على أهل البيت والصحابة الذين ثبتوا في الميدان في معركة أحد من جهات :
الأولى : خروج المؤمنين مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ميدان الجهاد .
الثانية : تفضل الله بتوثيق القرآن لجهاد المنافقين .
الثالثة : صرف الحزن عن المؤمنين .
الرابع : نزول الأمنة والنعاس من عند الله عز وجل على المؤمنين ، فان قلت إن الأمنة والنعاس نعمتان من عند الله عز وجل فكيف يكون فيهما ثواب وثناء على المؤمنين .
والجواب من معاني خلافة الإنسان في الأرض أن الله عز وجل يتفضل على الإنسان ويجعل فضله ثواباً له ، ومقدمة لبلوغه مراتب التقوى واليقين، ونيله المراتب العالية في الآخرة .
وتقدير آية البحث : ثم أنزل عليكم أمنة نعاساً ليكون مقدمة للأمن من شدائد يوم الحساب وأهوال الآخرة ، قال تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] ( ).
قوله تعالى [عَلَيْكُمْ]
يرد حرف الجر (على ) بمعان متعددة ، ومن معانيه قوله تعالى في آية البحث [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ] وجوه:
الأول : تفيد (على ) الإستعلاء وهو الغالب في إستعمالها فينزل الله عز وجل الرزق والأمن والنصر من عنده لأنه رب ومالك كل شي , ويدل على الإستعلاء لفظ النزول ذاته فالأمنة ليس جرماً مادياَ إنما هي نعمة نازلة بأمر من عند الله عز وجل ، وفيه نوع تحد بأن الأمنة والنعاس ليس أمراً متيسراً للناس ولا يستطيعون نيله إلا بفضل الله ، وفيه ترغيب بالإيمان .
الثاني : الظرفية إذ أراد الله عز وجل للأمنة أن تكون مع المسلمين وبين ظهرانيهم ، وسلاحاً بأيديهم ينتفعون منه ، ويفتخرون ويعتزون به .
وهل يستطيع المسلمون الإحتجاج بنعمة الأمنة النعاس يوم أحد , الجواب نعم ، بلحاظ أنها غنيمة وكسب عظيم .
الثالث : من معاني (على) المجاورة لبيان ملازمة النعم وعدم مغادرتها لهم حتى في حال الشدة والضراء , وهذه المصاحبة من مصاديق قوله تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى] ( )وليكون من أسرار نزول الآية أعلاه في مكة وقبل الهجرة ووقوع القتال والحروب بين المسلمين والذين كفروا بشارة حضور المدد والعون من عند الله للنبي محمد صلى لله عليه وآله وسلم والمسلمين , ونزول الملائكة لنصرتهم في معركة بدر ، وأحد ، والخندق ، وحنين ، وغيرها .
الرابع :من معاني (على) المصاحبة كـ (مع) إذ تبين آية البحث نزول أمرين :
الأول :الأمنة .
الثاني : النعاس .
وتحتمل مصاحبة الأمنة والنعاس المؤمنين بلحاظ طول مدة وزمان كل منهما وجوهاً:
أولاً : نسبة التساوي فيأتي الأمن والنعاس دفعة واحدة ، ويغادران في زمان واحد .
ثانياً : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الأمنة أطول مدة وزماناً في بقائها وتغشيها للمؤمنين من النعاس .
الثانية : النعاس هو الأطول مدة في بقائه وإستيلائه على جوارح وأركان المؤمنين .
ثالثاً : نسبة التباين الزماني بين نزول الأمنة والنعاس , ويحتمل جهتين :
الأولى : تقدم زمان الأمنة بلحاظ قرينة تقدمها على النعاس في آية البحث .
الثانية : سبق زمان النعاس لأنه تخفيف عن المسلمين فتأتي الأمنة كيلا يهجم الذين كفروا على المؤمنين وهم في حال نعاس .
رابعاً : نسبة العموم والخصوص من وجه , بالتفصيل بين المؤمنين , فمنهم من نزل عليه الأمن أولاً ثم جاءه النعاس ومنهم بالعكس , ومنهم من غادره النعاس قبل أن تغادر الأمنة أو بالعكس بلحاظ أن الأمنة أمر عام , وليس خاصاً ومتفرقاً .
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثاني أعلاه فقد طرأ النعاس كنعمة وغادر وبقي الأمن والأمنة كنزاً نازلاً من السماء للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) وتحتمل النسبة بين الأمنة والنعاس في المتعلق والموضوع وجوهاً :
أولاً : نسبة التساوي بين الذين نزلت عليهم الأمنة والذين ألقى الله عز وجل عليهم النعاس .
ثانياً : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الذين نزلت عليهم الأمنة أعم وأكثر من الذين تغشاهم النعاس .
الثانية : الذي تغشاهم الأمن والسلامة أعم وأكثر من الذين غزاهم النعاس،وهما مجتمعين ومتفرقين من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
ثالثاً : نسبة التباين بين الذين نزل عليهم الأمن والذين تغشاهم النعاس رحمة من عند الله عز وجل .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه ، فغادر النعاس المؤمنين مع إنتهاء معركة أحد في ذات اليوم الذي إبتدأت به , أما نعمة الأمنة فقد إنتفع المسلمون منها ساعة نزولها والنعاس ولتبقى مصاحبة للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، وهو فتح ونصر للمسلمين ، وتقدير آية [ببدر] هو (ولقد نصركم الله ببدر وأحد).
قوله تعالى [أَمَنَةً نُعَاسًا]
ترى ما هي النسبة بين الأمنة والنعاس ، فيه وجوه :
الأول : نسبة التساوي بين الأمنة والنعاس .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق , وهي على شعبتين :
الأولى : الأمنة والأمن أعم من النعاس .
الثانية : النعاس أعم من الأمنة في موضوعه ومنافعه .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه , وهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه ، كما أنه مما إذا إجتمعا إفترقا وإذا إفترقا إجتمعا ، فالأمنة في الآية هي النعاس والنعاس هو الأمنة من غير أن يتعارض مع كون الأمنة من عند الله أعم، ومنها قوله تعالى في الآية السابقة[وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ) .
فمن فضل الله عز وجل الأمان والأمن للمؤمنين في معركة أحد.
ترى ممن كانت الأمنة المذكورة في آية البحث , فيه وجوه:
أولاً : الأمن من العدو وبطشه ، وهو الأهم في المقام ، ليكون النعاس نوع برزخ بين المؤمنين والعدو ، ويكون تقدير الآية: ثم أنزل الله عليكم من بعد الغم نعاساً أمنة من العدو وشروره.
ثانياً : الأمن من إستمرار القتال , والمنع من تقدم رجال من كفار قريش وطلبهم المبارزة ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
ثالثاً : السلامة والأمن من النفاق ودبيب مفاهيمه إلى النفوس، إذ أن شدة القتال وصيرورة الريح للعدو سبب للجزع والضجر.
رابعاً : الأمن من الإرتداد والنكوص عن مقامات الإيمان ، كما ورد التحذير منه في بداية هذه الآيات المعطوف بعضها على بعض بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ).
خامساً : الأمنة من الفرقة والشقاق والخلاف، خاصة وأن آية البحث تبين مقدمات مثل هذا الشقاق بإحتجاج بعض المسلمين بالقول[لو كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا]( )، وكأنهم يريدون أن تكون لهم موضوعية في قرار الحرب والسلم والمهادنة وطلب الصلح مع المشركين والرضا بشروطهم التي تقود إلى الوهن والضعف والإرتداد , فنزل النعاس أمنة من عند الله، ومدداً للنبي محمد صلى الله وآله وسلم ، وتخفيفاً عن المؤمنين.
سادساً : الأمنة بمعنى وقف سفك الدماء وسقوط القتلى من المؤمنين ، لقد أعزّ الله عز وجل المسلمين في معركة بدر بقلة القتلى منهم إذ كانوا أربعة عشر شهيداً , ستة من المهاجرين وهم :
الأول : عبيدة بن الحارث من بني المطلب بن عبد مناف قتله شيبة بن ربيعة ، الذي قتل معه في ذات المبارزة .
الثاني : عمير بن أبي وقاص قتله عمرو بن عبد .
الثالث : عمير بن عبد عمرو ذو الشمالين ، قتله أبو أسامة الحبشي .
الرابع : عاقل بن أبي البكير قتله مالك بن زهير الحبشي .
الخامس : مهجع مولى عمر بن الخطاب قتله عامر بن الحضرمي .
السادس : صفوان بن بيضاء قتله طعيمة بن عدي .
والشهداء يوم بدر من الأنصار هم :
السابع : مبشر بن عبد المنذر ، قتله أبو ثور .
الثامن : سعد بن خيثمة ، قتله عمرو بن عبد .
التاسع : حارثة بن سراقة من بني عدي بن النجار رماه حبان بن العرفة بسهم فوقع في حنجرته فسقط شهيداً .
العاشر : عوف بن عفراء قتله أبو جهل .
الحادي عشر : معوذ بن عفراء قتله أبو جهل .
الثاني عشر : عمير بن الحمام قتله خالد بن الأعلم .
الثالث عشر : رافع بن المعلى ، من بني زريق قتله عكرمة بن أبي جهل.
الرابع عشر : يزيد بن الحارث بن قسم قتله نوفل بن معاوية الديلي .
أما قتلى المشركين يوم بدر فهم :
الأول : حنظلة بن أبي سفيان بن حرب ، قتله الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
الثاني : عامر بن الحضرمي قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح.
الثالث : عمير بن أبي عمير مولى لبني عبد شمس قتله سالم بن معقل مولى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة .
وأختلف في اسم أبي حذيفة على ثلاث أقوال :
الأول : هشيم .
الثاني : مهشم .
الثالث : هاشم .
بادر إلى دخول الإسلام قبل دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم للدعوة وكان أبو حذيفة (رجلاً طوالاً حسن الوجه أحول أثعل والأثعل الذي له سن زائدة وتراكبت أسنانه بعضها على بعض , وفيه تقول أخته هند بنت عتبة حين دعا أباه إلى البزار يوم بدر:
فما شكرت أبا رباك من صغر … حتى شببت شباباً غير محجون
الأحول الأثعل المشؤوم طائره … أبو حذيفة شر الناس في الدين( )
ولكنه كان مؤمناً تقياً وعبداً صالحاً مجاهداً في سبيل الله ، إختار الهدى والرشاد ففاز في النشأتين وبقي ذكره الحسن في العالمين .
قوله تعالى[يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ]
أخبرت الآية في أولها عن نزول النعاس على المسلمين كأمة متحدة ، وبالتعيين لأولئك المجاهدين في معركة أحد ، ولكنها حصرت موضوعه وحلوله بطائفة من المسلمين دون الجميع بقوله تعالى [يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ]مما يدل على أمور :
الأول : نعمة الأمنة النعاس لعموم المسلمين الذين حضروا مع النبي للقتال في معركة أحد .
الثاني : لم يتغش النعاس إلا طائفة من المؤمنين .
الثالث : حجبت طائفة من المسلمين عن أنفسهم نعمة الثواب برجوعهم وسط الطريق ، وإظهارهم النفاق , لتتضح حقيقة وهي وجود منافقين بين صفوف المسلمين ، قال تعالى [وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ] ( ).
الرابع : إرادة تحذير المنافقين من النفاق بأن داهمهم النعاس ليكون واقية من الفزع من جيش الكفار وحرزاً من الإنصات للمنافقين في جدالهم وشكهم .
الخامس : بيان قانون وهو الهم بالنفس يحجب النعم الإلهية .
لقد قسمت الآية المسلمين في ميدان المعركة إلى قسمين :
الأول : طائفة نزل عليها الأمن والنعاس .
الثاني : طائفة فزعوا وخافوا من القتال وضعفوا بأنفسهم وأبدانهم وإنسحبوا وإمتنعوا عن القتال ، لم يكن عددهم قليلاً إذ كانوا ثلث جيش المسلمين ، لذا نعتتهم الآية بالطائفة وجعلتهم من جهة الاسم بعرض واحد مع المؤمنين .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها شهدت للذين صبروا في ميدان المعركة ونزل عليهم الأمن والنعاس بأنهم من المؤمنين لصبرهم وجهادهم ، ترى ما المقصود من الضمير الكاف في (منكم) الجواب فيه وجوه :
الأول : إرادة المهاجرين والأنصار الذين خرجوا لمعركة أحد .
الثاني : المقصود النفر من أهل البيت والصحابة الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان بلحاظ أن الذين نزلت عليهم الأمنة والنعاس طائفة من هؤلاء النفر ، كما لو كانوا أحد عشر رجلاً ونزل النعاس على سبعة أو ستة منهم , ويطلق لفظ الطائفة على الجزء والجماعة .
ويصح على القليل والكثير .
الثالثة : إرادة لغة النداء والعطف في هذه الآيات إذ إبتدأت بقوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ) فيكون تقدير آية البحث : يغشى طائفة من الذين آمنوا ) .
الرابعة : عودة ضمير الجمع في [منكم] إلى عموم المسلمين ساعة تنزيل آية البحث .
الخامسة :إرادة أجيال المسلمين والمسلمات وإلى يوم القيامة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكل فرد منها في طول الآخر ، وهو من علل نضارة الآية القرآنية ، وذخائر ومعاني لغة الخطاب فيها .
ترى ما هي النسبة بين نزول الأمنة والنعاس وبين الذين أنزل إليهم ، الجواب فيه وجوه :
الأول : نسبة التساوي فلم ينتفع من هذه النعمة إلا الذين تغشتهم الأمنة والنعاس .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وأن الذين نزلت عليهم الأمنة والنعاس أعم من الطائفة التي تغشاهم النعاس وكذا بالنسبة للذين إنتفعوا من الأمنة والنعاس فأنهم أعم من تلك الطائفة التي تغشاهم النعاس .
الثالث : إرادة نسبة العموم والخصوص من وجه من جهة الإنتفاع من كل من الأمنة والنعاس فالذين إنتفعوا من الأمنة أكثر عدداً من الذين تغشاهم النعاس ، وهو من الإعجاز في ترتيب اللفظ القرآني ، إذ إنحصر موضوع التغشي الذي تذكره آية البحث بالنعاس على نحو الخصوص ، فلم تقل الآية : أمنة نعاساً يغشيان طائفة منكم ) أو ( أمنة نعاساً تغشى طائفة منكم ) فيكون النعاس صفة للأمنة بل خصت الآية موضوع التغشي بالنعاس وبصيغة التذكير (يغشى ) للبيان ومنع اللبس أو الترديد ، وفيه شاهد على الإطلاق في قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( )وشمول بيان القرآن لذاته وأن آياته تفسر نفسها بنفسها ، كما تفسر غيرها من الآيات ، وتبين علل الوقائع وكيفية التدارك والعلاج , وتدل عليه صيغة الجمع في قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ] ليكون في الآية تفصيل من جهات :
الأولى : نزول الأمنة من عند الله سبحانه.
الثانية : نزول النعاس من عند الله سبحانه.
الثالثة : إحاطة وتغشي الأمنة للمسلمين عامة .
قال أبو طلحة كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد ، ولقد سقط السيف من يدي مراراً يسقط وآخذه ، ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الجحف ( ).
وهل أصاب النعاس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب لا ، بدليل قول علي عليه السلام بخصوص معركة بدر (ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتُنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح) ( ).
وهو من أسرار حصر تغشي وإحاطة النعاس بطائفة من المؤمنين لتأكيد أن الأمنة والسكينة مصاحبتان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال الحرب والسلم , وتقدير آية البحث على وجوه :
أولاً : أمنة للرسول , ونعاس يغشى طائفة منهم .
ثانياً : أمنة لكم ونعاس يغشى طائفة منكم ، بلحاظ أن النسبة بين متعلق الأمنة والنعاس هم العموم والخصوص المطلق إذ تصاحب الأمنة المؤمنين الذين يقاتلون في الميدان والذين فروا وصعدوا الجبل كما أن لفظ يغشى أخص إذ أن الأمنة تصاحب وتخالط بدن المؤمن وتصاحبه وتكون نوراً وضياءً له وتلازمه ولا تفارقه وليس هي مثل النعاس الذي هو عرض زائل.
ثالثاً : أمنة دائمة لكم تصاحبكم حتى عودتكم إلى المدينة ، ونعاس يغشاكم وسط المعركة .
والأصل في سياق اللفظ أن يكون : و يغشى طائفة وطائفة منكم قد أهمتهم أنفسهم ) ولكن التبعيض والإنتساب لأهل الإيمان جاء بخصوص الطائفة الأولى ، فهل تخرج الطائفة الثانية التي تذكرها الآية بخصال مذمومة متعددة من الإنتساب إلى الإسلام ، الجواب لا ، ولكن الآية تتضمن إعجازاً وهو أن النسبة الحقيقية للإسلام تختص بالمجاهدين والذين يخلصون الطاعة لله ورسوله ولا يبثون سموم النفاق وصيغ الشك والريب .
لقد أراد الله عز وجل في هذه التفصيل البياني تهذيب نفوس المسلمين وتأديبهم في السعي في رضاه ، وهو من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي) ( ).
الآية من ولاية الله للمسلمين
من إعجاز القرآن أن كل آية منآياته من مصاديق ولاية الله للمسلمين ، وفيه مسائل :
الأولى : إنه من البراهين والدلائل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : فيه حجة على الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
الثالثة : ترغيب الناس بدخول الإسلام .
الرابعة : زجر الذين كفروا عن محاربة الإسلام وقتال المسلمين.
الخامسة : بيان الإعجاز الذاتي والغيري للآية القرآنية .
السادسة : إستقراء علوم خاصة بالولاية من ذات مضامين الآية القرآنية .
السابعة : بيان ما تتضمنه الآية القرآنية من الذخائر والكنوز.
الثامنة : ولاية الله للمسلمين في كل آية قرآنية مدد وعون لهم في أمور الدين والدنيا .
لقد إبتدأت آية البحث بالإخبار عن نزول الأمنة والنعاس على المؤمنين الذين حضروا معركة أحد .
ليكون من معاني ولاية الله حفظ المؤمنين في ساعة الشدة والحرج ووطأة هجوم الذين كفروا ، وهل هذا الحفظ لسلامتهم خاصة أم أنه نفع للمؤمنين والمؤمنات عامة ،الجواب هو الثاني ، فقد أراد الله عز وجل بناء صرح دولة الإسلام بخروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سالمين من القتل في معركة أحد .
ولا ينخرم هذا القانون بسقوط سبعين شهيداً منهم مع كثرتهم وأنهم عشر جيش الإسلام ، لأنهم صاروا نواة للتضحية والفداء ، وبقي إخلاصهم في القتال وعشقهم للشهادة سبباً لبعث الفزع والخوف في قلوب المشركين ، وتجلى في تردد الذين كفروا وعجزهم عن إقتحام المدينة في معركة الأحزاب مع أن عددهم كان عشرة آلاف رجل بما لم تر الجزيرة العربية مثله في تلك الأزمنة إلا عدد جيش إبرهة والذي جاء من خارجها .
لتمر الأيام ويغزو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فتح مكة بمثل هذا العدد وهو عشرة آلاف، في السنة الثامنة للهجرة، ويخرج من مكة باثني عشرة ألف مسلم .
وتلاقيه في معركة حنين هوازن وثقيف ومن حولهم من جشم وسعد بن بكر وغيرهم ممن أصروا على الشرك والجحود , وامتنعوا عن دخول الإسلام ونبذ الأصنام، وكان عددهم في معركة حنين ثلاثين ألفاً، فهزمهم الله عز وجل.
ليخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السنة التاسعة للهجرة بمثل هذا العدد من المؤمنين إلى معركة تبوك ومعهم من الخيل عشرة آلاف فرس .
لقد ورد قبل ثلاث آيات قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ..] ( )ويحتمل نزول الأمنة النعاس بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول :هذا النزول مقدمة لتحقق وعد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الثاني : نزول الأمنة والنعاس من مصاديق وعد الله للمسلمين الذي تذكره الآية أعلاه .
الثالث : نزول الأمنة النعاس رشحة من رشحات وعد الله عز وجل للمسلمين .
الرابع : ليس من صلة بين وعد الله للمسلمين وصدقه الذي تذكره الآية أعلاه , وبين نزول الأمنة النعاس .
الخامس : يكون نزول الأمنة النعاس بعرض واحد مع صدق وعد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
وباستثناء الوجه الرابع أعلاه ،فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق ومعاني الجمع بين الآيتين والمضامين القدسية فيهما ، ليتغشى الوعد الإلهي المسلمين في ميدان القتال ، ويأتيهم بضروب ووجوه تبعث السكينة في النفوس ، وتكون مواساة لهم .
ولما أصاب المسلمين الغم على فقدان الغنائم وعلى سقوط الشهداء تفضل الله ومنع من صيرورته حزناً وكآبة مصاحبة لهم ، وقطع ما يترشح عنها من الضرر والخصومة والخلاف بين المسلمين بأن أنزل الأمنة والنعاس دفعة واحدة من عنده سبحانه .
ولا بد من دلالات للفظ ( أنزل ) في المقام ، فلم تقل الآية : فأثابكم من بعد الغم أمنة نعاساً ) بل أخبرت عن نزول كل من الأمنة والنعاس من السماء في آية إعجازية بأن ذات الأثر في الأبدان ينزل من السماء ، وهو من ولاية الله عز وجل للمؤمنين في الدنيا وبشارة صيرورتهم في الآخرة بحال وكيفية من الغبطة والسعادة ، فاذا سأل أحدهم كيف يكون المؤمنون في مواطن الآخرة وما فيها من الأهوال بحال وصبغة [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) .
يأتي الجواب من وقائع معركة أحد وأن سلامتهم يوم القيامة من الخوف من الأسى والحزن على ما فاتهم في الماضي من مصاديق ولاية الله عز وجل لهم .
ترى لماذا إختصت طائفة من المسلمين بالأمنة النعاس ولم يتغش جميع المسلمين في ميدان المعركة ، الجواب من إعجاز آية البحث أنها تتضمن البيان والتفصيل والإخبار بأن طائفة من المسلمين حجبوا عن أنفسهم نعمة الأمنة النعاس بسبب إنشغالهم بسلامتهم وعدم إخلاصهم في الجهاد مع أن العفو من عند الله شملهم بدليل قوله تعالى في الآية التالية [وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ]مما يدل على أن ولاية الله عز وجل للمؤمنين على مراتب وتتناسب مع درجات الإيمان والتقوى واليقين .
وهل قوله تعالى [قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ] من ولاية لله للمؤمنين, الجواب نعم من وجوه :
الأول : إخبار المسلمين عن حال الصحابة يوم معركة أحد.
الثاني : تجلي مصداق من ولاية الله بحفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كيد الذين كفروا مع أن طائفة من أصحابه إنشغلوا بأنفسهم، ونسوا وجوب الذب والدفاع عنه.
الثالث : تأكيد ولاية الله عز وجل للمسلمين والإسلام بسلامة المؤمنين من الهزيمة حتى مع إنشغال طائفة منهم بانفسهم وبعد أن تخلت طائفة منهم عن القتال باتباع رأس النفاق عبد الله بن أبي والرجوع من وسط الطريق إلى المعركة.
الرابع : بيان كيفية إنتفاع طائفة من المسلمين من ولاية الله بصدق الجهاد في سبيل الله، وحرمان طائفة أخرى أنفسهم من نعمة من نعم ولاية الله بخشيتهم من القتل ، وخوفهم على أنفسهم.
الخامس : من ولاية الله عز وجل للذين تغشاهم الأمن والنعاس بيان حال الذين همتهم أنفسهم من أجل الإتعاظ والإعتبار منهم، وكيلا يحاكيهم المجاهدون في فعلهم، إذ يدل قوله تعالى[وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ] في مفهومه على أن طائفة من المؤمنين لم تهمهم أنفسهم، وهم الذين نزل عليهم النعاس والأمن .
ولم يكن عدم الهم بالنفس عرضاً زائلاً بل هو من رشحات التقوى وطلب مرضاة الله , قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ]( ).
وتكون ولاية الله بخصوص قوله تعالى[قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ] من جهة المتعلق على وجوه:
أولاً : إرادة الولاية والنصرة للذين ثبتوا في مواضعهم، وبعث الأمن في نفوسهم بأن هذا الهم الذي طرأ على نفوس فريق من المسلمين يومئذ لم يضرهم.
ثانياً : توجيه التنبيه واللوم للذين إنشغلوا بأنفسهم، وبعثهم على التحلي بالصبر والتخلي عن هذا لهم.
ثالثاً : إرادة دعوة الناس لدخول الإسلام بقيد السلامة من الهم بالنفس والإنشغال بها عند تعدي وظلم الذين كفروا.
رابعاً : من ولاية الله للمسلمين إخبار الذين كفروا بنزول القرآن بتنبيه الذي شغلتهم أنفسهم بلزوم التنزه عن هذا الإنشغال.
فمن خصائص الآية القرآنية أنها وقاية وإصلاح وتدارك , وكأن الآية تقول بأنه نزل قوله تعالى[قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ] للبقاء في مقامات الإيمان , وكيلا تهمهم أنفسهم، ومن ولاية الله عز وجل للمسلمين بيان الخصال المذمومة التي إتصف بها بعض الذين دخلوا الإسلام ، وهي :
الأولى : الهّم بالنفس عند إشتداد وطأة القتال يوم معركة أحد.
الثانية : الظن بعدم مجيء النصر من عند الله عز وجل.
الثالثة : الأسى والحزن لفوات الغنائم.
الرابعة : إرادة الشأن والموضوعية في قرار الحرب والسلم وغيره .
الخامسة : إبطان الشك والريب بالنبوة .
ليكون من مصاديق ولاية الله عز وجل للمسلمين تنزيههم من النفاق، مع فتح باب التوبة والإصلاح للمنافقين، وهل يمكن القول بأن المنافق يختلف عن الكافر، إذ أنه قطع نصف الطريق إلى الهدى بإختيار دخول الإسلام والنطق بالشهادتين .
الجواب نعم، وهو من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يدخل الإيمان للقلوب بطرق شتى، فمنهم ما يأتيه الإيمان دفعة، ومنهم ما يكون إيمانه تدريجياً , أما الذي يبقى على النفاق ويصر على إبطان الكفر وأسباب الشك والريب فإن عذابه شديد , قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).

قوله تعالى [وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ]
تقسم الآية المسلمين ساعة انقضاء معركة أحد إلى طوائف :
الأولى : طائفة نزل عليهم النعاس أمنة من عند الله .
الثانية : طائفة كانوا في أمنة وحال صبر وحسن توكل على الله عز وجل لم ينزل عليهم النعاس .
الثالثة : طائفة إنشغلوا بأنفسهم وأسباب نجاتهم الحسية وتسرب الشك إلى نفوسهم ، فلم ينزل عليهم النعاس لأنه أمن وأمان ورحمة وفضل من عند الله حجبوه عن أنفسهم بالتلبس بالشك والريب .
ولأن النعاس في معركة أحد نعمة عظمى وتخفيف عن المؤمنين، ومناسبة للتسليم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن خروجهم حق وأنهم على الجادة المستقيمة، فقد بينت الآية أسباب حجبه عن طائفة من المسلمين ممن خرج إلى معركة أحد ، ترى هل تكرر نزول النعاس على المسلمين في معركة أخرى معركة أحد، مثل معركة الخندق التي زحفت الأحزاب بعشرة آلاف من المقاتلين لإقتحام المدينة المنورة حيث لم يكن مصر آخر للإسلام غيرها.
وقد ثبت في المعارك التي سبقتها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينهزم أو يفر إلى جهة وبلدة أخرى ولم ينسحب إلى المدينة ، فكيف وقد أحاطت الأحزاب بها وحاصروها، الجواب إذا ورد دليل على نزول النعاس على المسلمين في معركة أخرى غير بدر وأحد فهو نعمة، لبيان خصوصية لهذه المعارك ، وتأكيد قرب نعمة النعاس من المسلمين عند إشتداد البأس .
والنعاس في ساعة من ساعات نهاية المعركة رحمة وشاهد على حكمة الله عز وجل , أما النعاس في الصلاة فهو قصور ونوع خمول مكروه .
وفي الآية نكتة وهي مجئ أسباب التخفيف والرحمة للمسلمين عند لقاء العدو ، وتحقيق المسلمين النصر والغلبة ووقوع الخسائر في صفوفهم ، ففي كل الأحوال ينال المسلمون ما فيه العون والمدد ، ولا ينال عدوهم إلا الرعب والهوان والخيبة، وهو من مصاديق[هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ) وتدعو الآية المسلمين إلى إخلاص عبادة الله , وترك تقديم النفع الخاص في حال السلم والحرب ، وتبين أن الدنيا دار إبتلاء وإمتحان ليفوز بالنعم من يقهر النفس الشهوية والغضبية .
وهل يمكن القول أن التفصيل في آية البحث ومجئ النعاس لطائفة من المؤمنين دون طائفة أخرى من المؤمنين يشبه في دلالته تشريع صلاة الخوف بأن تصلي طائفة من المسلمين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة وتواجه طائفة أخرى منهم جيش العدو ، كما في قوله تعالى [وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ] ( ).
الجواب لا ، فانه قياس مع الفارق ، إذ وردت الآية أعلاه لبيان تفاني المؤمنين في الجهاد والثناء عليهم أما آية البحث فقد جاءت بالثناء على طائفة من المؤمنين وبيان فضل الله عليهم بنعمة النعاس، وذكر طائفة أخرى منهم شغلتهم أنفسهم وساء ظنهم ، وهل جاءت الآية أعلاه لتنزيه المسلمين من الإنشغال بالنفس في حال القتال وتنمية ملكة أخذ الحائطة في القتال والعصمة من الهزيمة والفرار والسلامة من الغفلة .
وعن ابن عباس قال (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعسفان ، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة ، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ، فقالوا : قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم .
ثم قالوا : يأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم ، فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر[وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاَةَ]( )، فحضرت ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخذوا السلاح وصففنا خلفه صفين ، ثم ركع فركعنا جميعاً ، ثم سجد بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم .
ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وهؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، ثم ركع فركعوا جميعاً ، ثم رفع فرفعوا جميعاً ، ثم سجد الصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا ، ثم سلم عليهم ثم انصرف .
قال : فصلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرتين . مرة بعسفان ، ومرة بأرض بني سليم) ( ) .
وهذا المعنى لا يتعارض مع ما ورد عن الإمام علي عليه السلام قال (سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله[وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ]( )، ثم انقطع الوحي ، فلما كان بعد ذلك بحول كتيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فصلى الظهر .
فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم ، هلا شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم : إن لهم مثلها أخرى في أثرها، فأنزل الله بين الصلاتين[إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ]( )، إلى قوله { إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً} فنزلت صلاة الخوف) ( ).
ويحتمل الهم والعناية بالنفس الذي تذكره آية البحث وجوهاً :
الأول : كل فرد من هذه الطائفة يهم بنفسه .
الثاني : الهم والعناية بالنفس والغير من ذات الطائفة .
الثالث : حرص وعناية المنافق بنفسه وأصحابه وجميع المسلمين .
الرابع : همّ الطائفة بالفرد منهم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه والأصل هو الأول أعلاه ، وتكون الوجوه الأخرى في طوله , وهو من أسرار لغة الجمع في آية البحث ولبيان حقيقة وهي مناجاتهم باعتزال القتال وبتوجيه صيغ اللوم للمؤمنين .
وصحيح أن الفاعل في الآية وفق الصناعة النحوية هو (أنفس) ولكن المعنى على وجوه محتملة :
الأول : صيرورة النفس هي الأهم عند المنافقين والطائفة التي تتصف بضعف الإيمان .
الثاني : النفوس هي التي تجعلهم في حال من الهم وتحملهم على الحزن والفزع ، وهذا المعنى يوافق الصناعة النحوية ، ولم يرد لفظ [أَهَمَّتْهُمْ] في القرآن إلا في هذه الآية الكريمة .
الثالث : إرادة المعنى الأعم وهو أن النفوس هي التي تهم بهم، وأنهم يهمون بأنفسهم بلحاظ أن النفس جوهر روحاني وقوة الإحساس.
والمختار هو الأول ، فالأصل في المعنى اللغوي أن الفاعل هو ذات أفراد الطائفة وأنهم يهمون بأنفسهم ، ولو قرأت (أنفس) بالفتح لصح ، ولكن المدار على المرسوم في المصاحف ، وهو الباقي إلى يوم القيامة ، وهل هو من قاعدة لا إجتهاد في مقابل النص ، أي أن التصرف النحوي في حركات وإعراب كلمات القرآن بما يخالف المرسوم في المصاحف من الإجتهاد في مقابل النص .
الجواب لا ، وإن كان لا يجوز إلا على سبيل البيان والتفسير والتفصيل وإظهار خزائن علوم القرآن , وكيف أن ألفاظه وأسراره أعم من أن تحيط بها القواعد النحوية مع التسليم بأن العمل والتلاوة وفق المرسوم في المصاحف .
ويحتمل موضوع هذا الشطر من الآية والذين [قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ] وجوهاً :
الأول : المنافقون الذين إنسحبوا وسط الطريق إلى معركة أحد بتحريض وإغواء من رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول .
الثاني : المقصود الرماة الذين تركوا مواضعهم وجعلوا همهم كسب الغنائم , فيكون المعنى أنهم أرادوا الغنائم والمكاسب لهمهم بأنفسهم ونفعهم ومصلحتهم .
الثالث : المقصود الذين فروا من القتال وهم على شعبتين :
الأولى : الذين عادوا إلى ميدان المعركة بعد نداء ودعوة الرسول لهم بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ].
الثانية : الذين لم يعودوا إلى ميدان المعركة إلى حين إنقضائها وإنسحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وهؤلاء على شعب :
الأولى : الذين إلتحقوا مع جيش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الطريق إلى المدينة ، ودخولها معهم .
الثانية : الذين لم يدخلوا إلى المدينة إلا بعد أن رجع إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، كما لو كانوا قد فروا في طريق آخر غير طريق المؤدية إلى المدينة .
الثالثة : الذين فروا ودخلوا المدينة , ومعركة أحد لا زالت قائمة.
الرابعة : إرادة الذين تولوا ممن ذكرتهم الآية التالية بقوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ….].
الخامسة : طائفة من المسلمين وأفراد ممن ورد ذكرهم في الوجوه أعلاه , بلحاظ أن النسبة بين الهم والنفس والتولي هي العموم والخصوص المطلق ، فقد تهمه نفسه ولكنه لم يفر من الميدان حياءً أو عصبية أو بانتظار الفرج أو لإدراكه أن التولي قد لا ينجيه ونحوه .
والمختار أن المراد من قوله تعالى [أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ]هم المنافقون ومن تبعهم , وهم على أقسام :
الأول : الذين تخلفوا في المدينة ولم يخرجوا إلى القتال يوم أحد عن قصد وعمد ومن غير عذر .
الثاني : الذين إنخزلوا وسط الطريق مع عبد الله بن أبي ، وعددهم نحو ثلاثمائة أي نحو ثلث جيش المسلمين .
الثالث : الذين فروا من القتال عندما إشتدت وطأته وصارت الجولة للذين كفروا ، وظنوا الحرمان من الغنائم .
الرابع : الذين بقوا مع جيش المسلمين ، ولكن النفاق ظهر على إلسنتهم .
ويحتمل الهم الذي تذكره الآية وجوهاً:
الأول : هم كل فرد من هذه الطائفة بنفسه.
الثاني : هّم وإنشغال كل فرد منهم بالجماعة والطائفة، ومن كان من الأولى يخشى عليهم، ويخاف عليهم القتل، وكذا بالنسبة للذي من الخزرج.
وكان رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول بن مالك بن الحارث بن عبيد بن مالك بن سالم رئيس الخزرج.
الثالث : هّم الطائفة التي تذكرها هذه الآية بصفة الهم بأنفسهم بالفرد الواحد منهم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وهي من مصاديق آية البحث.
وذكرت الآية طائفتين من المسلمين وبينهما عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من جهات :
الأولى : النطق بالشهادتين .
الثانية : الإيمان بالله ورسوله .
الثالثة : الخروج إلى معركة أحد للقتال تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : عدم الإنخرام مع رأس النفاق عندما حث الأنصار على الرجوع بقوله : (ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا) ( ).
الخامسة : الخطاب العام في الآية السابقة [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ] ( ).
أما مادة الإفتراق فمن جهات :
الأولى : بيان آية البحث للتباين بين الطائفتين .
الثانية : الثناء على طائفة من المؤمنين بأن ألقى الله عز وجل عليهم النعاس مع بيان أنه أمنة .
الثالثة : ذم الطائفة التي أهمتهم أنفسهم ليكون من إعجاز الآية أن يأتي المدح والذم فيها ، وهل هو من السبر والتقسيم الذي يعني الجمع ثم التفريق والفصل ، الجواب لا ، لمجئ المدح منفصلاً ومستقلاً عن الذم في الوضوع لمنع اللبس والترديد ، ومن خصائص القرآن البيان والوضوح والخلو من اللبس والسلامة من التزاحم والتعارض في الموضوع أو الحكم , وهو الذي تدل عليه آية البحث إذ ذكرت صفات الذين حجبت عنهم نعمة النعاس بأن إنشغلوا بسلامتهم وراودهم الشك والوهم عند طرو أسباب الخوف ورؤية الذين كفروا يأتونهم من أمامهم ومن خلفهم .
وتقدير الآية : وطائفة أهمتهم أنفسهم فحرموا من نعمة النعاس ذي صبغة الأمن ، أي أن الله عز وجل لم يعاقبهم ، ولم يبتليهم ، ولكن شآبيب الرحمة في آية النعاس لم تتغشاهم ، نعم رأوها على إخوانهم من المؤمنين ، وهو من أسرار مؤاخاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار بأن تترشح بواسطتها معاني الرحمة والرأفة والفوز بالنعمة بالواسطة والإلحاق والإنابة , وهو من الإعجاز بابتداء الآية بصيغة العموم المجموعي بقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا] .
وفي الآية نكتة وهي أن جميع المؤمنين ومنهم الطائفة التي أهمتهم أنفسهم خرجوا من الغم , وهو غادرهم ، وهل يقال أنهم فارقوه إلى غير رجعة , الجواب لا ، بلحاظ أن هذا الغم ثواب من عند الله , ويتفضل الله ويجزي عليه بأفراد أخرى من الثواب الإضافي , ولا تجد في هذه الأفراد من الثواب الهم بالنفس , وسوء الظن .
ومن إعجاز آية البحث نسبه العموم والخصوص المطلق بين نزول النعاس والجهة التي يتغشاها .
الرابعة : الذين يتغشاهم النعاس ثبتوا على حسن الظن بالله ، وإحترزوا من الشك والوهن والجزع عند البأساء وضراوة القتال .
لقد كان ترك الرماة لمواضعهم سبباً للإبتلاء والإفتتان ، ولكنه درس وموعظة متجددة في كل زمان ، وصار ذكره في القرآن واقية من الهزيمة يوم حنين عند هجوم ومباغتة ثقيف وهوازن الذي كان أشد وطأة وضرراً من هجوم الذين كفروا يوم أحد ، فكانت الآيات التي نزلت بخصوص معركة أحد واقية للمسلمين وخيراً محضاً من وجوه :
الأول : التوقي من الفرار والزحف .
الثاني : حسن التوكل على الله عز وجل .
الثالثة : الإستجابة لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد ذكر القرآن في آية البحث [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]( )، بخصوص معركة أحد ، لتأتي دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة حنين مرآة وتأكيداً وثمرة لتلك الدعوة ، وهل هناك تباين في الإستجابة , الجواب نعم من جهات :
الأولى : سرعة عودة المؤمنين الذين إنسحبوا إلى الميدان في معركة حنين.
الثانية : إشتراك عدد من أهل البيت والصحابة في النداء والدعوة للعودة منهم العباس بن عبد المطلب , وكان صوته جهورياً, و(عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين حين رأى من الناس ما رأى : يا عباس ناد: يا معشر الانصار يا أصحاب الشجرة ” فأجابوه: لبيك لبيك ( ).
الثالثة : التفصيل في الدعوة بنداء الصحابة بلحاظ بيعة الرضوان التي جرت في السنة السادسة للهجرة أي بعد ثلاث سنوات من معركة أحد بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا أصحاب بيعة الشجرة ، وفي رواية : يا أصحاب سورة البقرة .
الرابعة : كثرة المسلمين في معركة حنين ، إذ كان عددهم إثني عشر ألفا، عشرة آلاف حضروا مع النبي من المدينة المنورة لفتح مكة ، وخرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألفان من مسلمين الفتح ، وكان عدد جيش هوازن وثقيف يوم حنين هو ثلاثين ألفاً أي أكثر من عدد جيش المسلمين بكثير، بينما كان عدد المشركين في معركة أحد ثلاثة آلاف رجل وهو نحو أربعة أضعاف جيش المسلمين .
الخامسة : ترى لماذا لم تنزل آية قرآنية بخصوص دعوة النبي للمسلمين يوم حنين مثلما نزلت آية تذكر وتوثق دعوته يوم أحد ، وهي الآية السابقة , الجواب من وجوه :
أولاً : نزل القرآن بصيغ البيان والإيجاز .
ثانياً : الدلالة على تفقه المسلمين في الدين , وإرتقاؤهم في سلم المعارف .
ثالثاً : حضور دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية السابقة عند كل معركة للمسلمين ومقدماتها , وعند إنقضاء المعركة فصحيح أن دعوته لأصحابه وردت عند هزيمتهم وفرارهم ، ولكن دلالاتها أعم وتشمل حال النصر والغلبة للمسلمين ، وهو من أسرار تلاوة المسلمين لآيات القرآن في الصلاة اليومية خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني على كل مكلف ذكراً كان أو أنثى وبالجهر والإخفات ، وكأن دعوة الرسول للمسلمين تتوجه للمسلمين من وجوه:
الأول : الذي يتلو آيات القرآن في الصلاة إماماً كان أو منفرداً .
الثاني : الذي يستمع لآيات القرآن وينصت لها ويحتمل المأموم في الصلاة وجوهاً :
أولاً : الذي ينصت لآيات القرآن التي يتلوها الإمام .
ثانياً : يلحق المأموم بالإمام في التلاوة والقراءة ، بلحاظ كفاية تلاوة الإمام مع عموم الأجر والثواب للجميع .
ثالثاً : العنوان الجامع فيكون المأموم مستمعاً وملحقاً بالإمام التالي للقرآن .
والمختار هو الثالث ، خصوصاً في الصلاة الجهرية وهي صلاة الصبح والمغرب والعشاء .
الثاني : الذي يستمع وينصت لآيات القرآن سواء في الصلاة أو مطلقاً .
لقد ذكرت آية البحث طائفتين من المسلمين إذ تضمنت مدح طائفة من المسلمين والثناء عليهم بالإخبار عن تغشيهم بالنعاس ودلالة اللازم على الملزوم , وذكرت طائفة أخرى بخصال مذمومة وهي :
الأولى : إنحصار العناية بالنفس والسلامة من القتل والظن باختصاصها باجتناب القتال في معركة أحد أو غيرها .
الثانية : قلة الإيمان ، وضعف اليقين ، والإنتقال إلى حسن التوكل على الله عز وجل .
الثالثة : التساؤل الإنكاري قبل وأثناء وبعد المعركة : هل لنا من الأمر من شيء ، ليكون الرد من عند الله [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] لبيان أن التوحيد لا يختص في باب العقيدة بل لابد من الإمتثال للأحكام التي تنزل من عند الله سبحانه .
وفي الآية شاهد على كفاية آيات القرآن والسنة النبوية لهداية الناس وإصلاح المجتمعات والنصر في القتال في معركة أحد وما بعدها مثل تحقق النصر في معركة بدر لإجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء حينئذ , وحسن جهاد المؤمنين وتوكلهم على الله عز وجل .
لقد ذكرت الآية طائفتين من المسلمين ولا يعني عدم وجود قسيم ثالث لهم ، فمن المؤمنين من لم يأته النعاس ، ولم تهمه نفسه، لذا وردت خاتمة الآية مطلقة ، وفيه دعوة لإبتداء المسلمين صفحة جديدة من الصلاح والتقوى بعد معركة أحد ، وأخذ الحائطة في ملاقاة العدو خاصة وأن الذين كفروا من قريش لما أرادوا الإنسحاب من معركة أحد توعدوا المسلمين وجعلوا موعداً للقاء في العام التالي .
قال ابن إسحاق (وَلَمّا انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ نَادَى : إنّ مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ لِلْعَامِ الْقَابِلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِرَجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ قُلْ نَعَمْ هُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَوْعِدٌ) ( ).

قوله تعالى [يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ]
ورد ذم مفاهيم الجاهلية وما قبل الإسلام بقوله تعالى [حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ] ( ) [تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى]( ) .
وقال نافع بن الأزوق لابن عباس ( أخبرني عن قوله : { كأساً دهاقاً }( ) قال : الكأس الخمر والدهاق الملآن . قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم . أما سمعت قول الشاعر :
أتانا عامر يرجو قرانا … فأترعنا له كأساً دهاقاً)( ).
(وذهب بعض المفسرين إلى أنه أراد في هذه الآية ظن الفرقة الجاهلية ، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه ، والأمر محتمل ، وقد نحا هذا المنحى قتادة والطبري) ( ).
ولكن المعنى مختلف إنما يتعلق الوصف بالجاهلية بخصوص سوء الظن وحال الجزع والخوف الشديد الذي إعترى ضعاف الإيمان عندما صارت الجولة للذين كفروا ، فلم يسلموا بالنصر والغلبة على الذين كفروا .
ومن معاني [ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ] في المقام وجوه :
الأول : القنوط واليأس .
الثاني : عدم رجاء مجئ النصر من عند الله عز وجل .
الثالث : الشك في المعجزة وموضوعيتها في القتال وخاتمته .
الرابع : غلبة الخوف على نفوس المنافقين , وغياب النوم عن عيونهم لحال الجزع وفقدان الصبر وحسن التوكل على الله .
الخامس : الإعراض عن آيات القرآن التي تعد المؤمنين بالنصر والغلبة ، وتوعد الذين كفروا بالإنكسار والهزيمة .
ويدل قوله تعالى [ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ] معنى الضد منه , وهو الذي يجب أن يتحلى به المسلمون وهو مراتب اليقين , وأن الذين تغشاهم النعاس يظنون بالله ظن الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من الإعجاز في ذكر الآية للفظ (طائفة ) مرتين مع التباين الجلي بينهما .
قال تعالى في الثناء على الخاشعين [الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ).
ومن الإعجاز أن آية البحث لم تذكر صفات الطائفة الأولى إنما ذكرت جزاء ولطف الله عز وجل بهم ، ليدل بالدلالة التضمنية على الثناء عليهم ، بينما ذكرت الطائفة الأخرى بالذم وذكر حالهم وجدالهم وشكهم يوم معركة أحد .
السادس : ويمكن تأسيس قانون في لغة وأحكام القرآن وهو (تجلي مفهوم الضد من المنطوق ) وقانون ( تأكيد معنى ودلالة المنطوق من ضد ومفهوم الضد ).
ويدل ذم الطائفة التي أهمتهم أنفسهم في مفهومه على وجود طائفة تواجه العدو الكافر ، وتجاهد بالنفوس وتسعى إلى إحدى الحسنيين ، فلا ملازمة بين السلامة وبين الهم بالنفس .
لذا تبين آية البحث قانوناً وهو هل من إنسان يخشى على نفسه ويحذر الأحداث ويتجنب أسباب الأذى المحتمل وإن كان قليلاً فيأتيه الأذى والضرر من حيث لا يحتسب ، نعم يتعلق موضوع الجدال بخصوص الأجل وأوان الموت .
(وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي عروبة قال : كان الحسن يقول : ما أحمق هؤلاء القوم . . . ! يقولون . اللهم أطل عمره ، والله يقول { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون })( ).
وعلى فرض صحة نقل الخبر فليس من حماقة في المقام من جهات :
الأولى : إستحباب الدعاء مطلقاً .
الثانية : السؤال للغير أمر حسن ، وفي الحديث القدسي : (أن الله عز وجل أوحى إلى موسى عليه السلام ادعني بلسان لم تعصني به، فقال: أنى لي بذلك، فقال: ادعني بلسان غيرك ) ( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام : (قال أوشك دعوة وأسرع إجابة دعوة المؤمن لاخيه بظهر الغيب) ( ).
الثالثة : ورد قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) بصيغة الإطلاق في الموضوع ، فيشمل سؤال إطالة العمر لذات الداعي ولغيره ، إذ يكون منه : اللهم أطل عمري ، اللهم أطل عمر فلان ، اللهم أطل أعمار ذريتي ، اللهم أطل أعمار المسلمين والمسلمات .
الرابعة : إستحضار قوله تعالى [وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) فالله سبحانه هو الذي يمحو الأجل وإن كان مكتوباً , وفي التنزيل [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
الخامسة : تعدد لفظ الأجل في آيات القرآن وفي موضع واحد منها، بما يبعث على الدعاء والمسألة ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ]( ).
السادسة : مجئ آيات القرآن بندب المسلمين إلى الدعاء من غير تقييد لمسألة وموضوع الدعاء ، وورود السنة بالترغيب بالدعاء والحث عليهم ، وورد (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : سلوا الله من فضله ، فإن الله يحب أن يسأل)( ).
قوله تعالى [يَقُولُونَ ْ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ]
لقد تكرر لفظ [يَقُولُونَ] في آية البحث مرتين لإرادة أهل النفاق والشك والريب والذين ملأ قلوبهم الخوف من جيش الذين كفروا ورجحان عددهم وكثرة أسلحتهم في معركة أحد .
ومن إعجاز هذه الآية تكرر لفظ (قل) مرتين في أمر من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن خصائص القرآن أن خطاباته غضة طرية ، وتبقى متجددة في كل زمان ويتجلى هذا التجدد بلحاظ آية البحث من وجوه :
الأول : نزول الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضمن آيات القرآن .
الثاني : سلامة القرآن من التحريف والتبديل إلى يوم القيامة .
الثالث : تلاوة المسلمين كل يوم لآية البحث سواء في القراءة الواجبة في الصلاة أو خارجها .
الرابع : توجه لفظ (قل) إلى المسلمين والمسلمات جميعاً ، وتقدير الآية (قولوا) فينحسر قول المنافقون [يَقُولُونَ] الذي ورد في هذه الآية مرتين في موضوعه وأثره ، ويغيب الذين قالوا ،ولكن لفظ (قل) الموجه في هذه الآية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دائم في كل زمان بذاته وموضوعه ، وهو على قسمين :
الأول : قل إن الأمر كله لله عز وجل .
الثاني : قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ز
ومن الإعجاز في آية البحث مجئ لفظ (قل) متعقباً لقول المنافقين ، فحينما يجادلون ويأتون بدعوى يأتي الرد من عند الله (قل يا محمد ).
وفيه دعوة لهم للتوبة والإنابة ، وهو من الإعجاز في آيات القرآن وكون كل واحدة منها سلاح لتثبيت إيمان المؤمنين وإزاحة النفاق والريب من قلوب عموم المسلمين .
وتتجلى معاني السلاح والتوقي في آية البحث بالجمع بين القول الذي يتضمن معنى النفاق وبين نزول أمر الله عز وجل للنبي محمد (قل) وتحتمل جهة توجه كلام المنافقين وجوهاً :
الأولى : توجه قول المنافقين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقدير الآية : يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان لنا من الأمر من شئ ).
الثانية : إرادة المناجاة والحديث فيما بين المنافقين ، وتقدير الآية : يقول بعضهم لبعض هل لنا من الأمر من شيء .
الثالثة : ذكر قول رؤساء النفاق لأتباعهم وأبناء طائفتهم مطلقاً، وتقدير الآية : يقول الرؤساء من المنافقين هل لنا من الأمر من شيء .
الرابع : توجه قول المنافقين للمؤمنين والطائفة التي تغشاها النعاس : هل لنا من الأمر من شيء .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق آية البحث .
ويحتمل القائل [يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ] وجوهاً :
الأول : قيل لعبد الله بن أبي ابن سلول(قتل بنو الخزرج فقال: وهل لنا من الأمر من شيء ؟ يريد أن الرأي ليس لنا ، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا فلم يخرج فلم يقتل أحد منا)( ).
لبيان ان موضوع ومضامين آية البحث أعم من أن تختص بالمؤمنين الذين إشتركوا بالقتال ومحاربة الذين كفروا في معركة أحد، إنما تشمل المنافقين الذين إنسحبوا في الطريق إلى أحد وكان إنسحابهم هذا نوع خذلان وباعثاً للأسى فذكرهم الله في آية البحث ببيان التضاد بينهم وبين المجاهدين في سوح المعارك وفيه إخبار عن مواساة المؤمنين على إنخزال المنافقين ومجئ هذه المؤاساة في ميدان المعركة، وقبل أن يرجعوا إلى المدينة بأن ألقى عليهم الأمن وتغشاهم النعاس .
الثاني : ورد ما يدل على أن موضوع الآية خاص بالذين حضروا معركة أحد ، إذ ورد [عن الزبير قال : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين اشتد الخوف علينا ، أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره ، فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } فحفظتها منه ، وفي ذلك أنزل الله { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً } إلى قوله { ما قتلنا ههنا } لقول معتب بن قشير]( ).
ومعتب هذا من الذين بنوا مسجداً للإضرار بأهل قباء والتفريق بين المؤمنين، قال تعالى[وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا] ( ) وفيه دلالة بأن القول الذي تذكره آية البحث والذي يتضمن الذم لصاحبه صدر في ميدان المعركة، وعند صيرورة الجولة للذين كفروا وسقوط سبعين شهيداً من المؤمنين .
الثالث : إرادة المعنى الأعم الجامع للفريقين ، وهو أن هذا القول صدر من بعض المؤمنين في ميدان المعركة ، وصدر من المنافقين الذين عادوا وسط الطريق ، ويحتمل أوان صدوره وجوهاً:
أولاً : صدور هذا القول من المنافقين وهم في المدينة أثناء التهيئ للخروج إلى قتال الذين كفروا .
ثانياً : لم يقل المنافقون هذا القول إلا عند وصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى ميدان المعركة وإلتقاء الصفين ، واليقين بحصول القتال ، وصحيح أن هؤلاء المنافقين لم يحضروا المعركة ، ولكنهم يحزنون من جهات :
الأولى : متابعة أخبار المعركة من حين إبتدائها , فثلث الجيش الذين رجعوا مع عبد الله بن أبي سلول في الطريق إلى أحد لم يتركوا متابعة أخبار الجيش وأحواله .
الثانية : ما أصاب الأنصار يوم أحد , حيث كان عدد قتلى الأنصار خمسة وستين شهيداً فان قلت جاءت الآية بصيغة المتكلم [مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا] مما يدل على حضورهم المعركة.
والجواب هذا صحيح وهو سبب لترجيح كون القائلين من المسلمين الذين حضروا معركة أحد ، ولكنه لا يمنع من صدوره من المنافقين بلحاظ إتحاد النسب بين الأوس والخزرج، والإختلاط، وشدة وطأة القتال.
الثالثة : حزن المنافقين بسبب إنسحابهم وسط الطريق ، وتخلفهم عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإخوانهم من الأنصار , خاصة وأن الذين كفروا جاءوا للتعدي على حرمات المدينة ، والإضرار بأهلها .
الرابعة : الخزي الذي لحق المنافقين عند رجوعهم وسط الطريق سبب لحزنهم إذ إفتضح أمرهم ولاقاهم أهل المدينة باللوم والإستهجان لقبح خذلانهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإخوانهم من الأنصار إذ كانوا من قبل يخوضون المعارك في الجاهلية جنباً إلى جنب ، سواء الأوسي مع الأوس ضد الخزرج أو الأوس والخزرج ضد عدوهم من غيرهم .
ثالثاً : قال المنافقون [هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ] عندما بلغهم صيرورة الريح والجولة لكفار قريش ومن والاهم وكثرة القتلى في الأنصار.
وصدر القول [لو كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ] من بعض المسلمين الذين حضروا معركة أحد وشاركوا في القتال , ومن الذين إنخزلوا وسط الطريق مع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول معهم بذات القول .
وجاءت هذه الآيات في الثناء على الذين حضروا معركة أحد وهم على أقسام:
الأول : الذين أستشهدوا في سبيل الله في معركة أحد ، قال تعالى [مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ]( ).
الثاني : الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة.
الثالث : الذين فروا من وسط المعركة وذكرهم الله عز وجل في الآية السابقة بقوله تعالى[إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ]( ).
قوله تعالى [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ]
لقد تكرر لفظ (قل) مرتين في آية البحث , ويحتمل من جهة الفورية والإبطاء وجوهاً :
الأول : إرادة الفورية في كل من القولين .
الثاني : إرادة الفورية في قول , والإبطاء في القول الآخر ، وهو على شعبتين :
الأولى : إختصاص الفورية بقوله تعالى [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ].
الثانية : إرادة الفورية في قوله تعالى [قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ].
الثالث : إرادة الإبطاء والتراخي في كل من القولين , وهل من صلة في هذا الموضوع لإبتداء الآية بحرف العطف (ثم) وإفادته التراخي ، الجواب لا ، للتباين الموضوعي بين نزول الأمنة والنعاس وبين الأمر من عند الله لرسوله الكريم (قل) .
الرابع : الإحتجاج بالوقت الملائم ، وعند الحاجة للإحتجاج والجدال وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
الخامس : إرادة الدوام على هذا القول وعدم كفاية المرة الواحدة منه .
والصحيح هو الأول والرابع والخامس بالإضافة إلى ترديد المؤمنين لهذا القول في المدينة , وفي حال السلم والحرب والمهادنة ، وتحتمل الآية وجهين :
الأول : إرادة الحصر والتعيين بما ذكرت الآية من القولين بأن الأمر كله لله وأن الذين يأتي أجلهم يبرزون له طوعاً وقهراً .
الثاني : ذكرت آية البحث القولين من باب المثال , والحث على الجدال والإحتجاج بالحق , وعدم السكوت عندما يبث الذين في قلوبهم مرض الشكوك وضروب الريب .
والصحيح هو الثاني ، ويمكن إستقراؤه من آيات القرآن وصيغ وقواعد الإحتجاج فيه .
لقد أمر الله عز وجل رسوله الكريم أن يحتج على المنافقين بأن [الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] وجاء وقوف المؤمنين في مواطن القتال بحسب تعيين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم من الشواهد على تسليمهم بأن الأمر كله لله عز وجل ، ويحتمل السبق الزماني في المقام وجوهاً :
أولاً : إتخاذ المؤمنين مواطن القتال يوم أحد هو السابق زماناً .
ثانياً : نزول الآية أعلاه والأمر الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للمنافقين [الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ]هو المتقدم زماناً .
ثالثاً الإتحاد الزماني بين وقوف المؤمنين في مواضعهم ونزول قوله تعالى أعلاه .
وظاهر آية البحث أنها نزلت بعد إنقضاء معركة أحد بدليل إبتدائها بالإخبار عن نزول الأمنة النعاس بصيغة الماضي [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ]ولم تقل الآية (ثم ينزل عليكم ).
ولكن قد ينزل شطر من الآية في زمان غير زمان الشطر الآخر ، ويبلغ جبرئيل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بموضع كلاً من الشطرين , وأنهما من آية واحدة مع تعيين للآية التي تسبقها والتي تليها .
وقد قال رأس النفاق في الطريق إلى أحد (والله ما ندري على ما نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس، ثم رجع بمن معه من قومه من أهل النفاق وأهل الريب) ( ) ولا دليل على الملازمة بين هذا القول ورجوع ثلث جيش المسلمين وبين نزول آية البحث .
والمختار هو أولاً أعلاه ، وأن قوله تعالى [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] هو الذي تأخر زماناً .
وهناك مسألتان :
الأولى : قيل لعبد الله بن أبي بن سلول : قتل بنو الخزرج وكان سيدهم فقال ، وهل لنا من الأمر من شيء ) ( ) أي لو سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأيه بالبقاء في المدينة لما قتلوا .
الثانية : ما ورد عن الزبير قال (لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين إشتد الخوف علينا ، أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره ، فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } فحفظتها منه ، وفي ذلك أنزل الله { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً } إلى قوله { ما قتلنا ههنا })( ).
ومن الإعجاز في المقام أمران :
الأول : مجئ آية البحث بصيغة الجمع وأن القائل ليس متحداً ، بدليل قوله تعالى [يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ].
الثاني : صيغة المضارع في القول [يقولون] مما يدل على تجدد هذا القول , وهل يشمل الزمن الماضي وقول عبد الله بن أبي عندما رجعوا من الشوط في الطريق إلى معركة أحد الجواب نعم ، لذا كان نزول آية البحث حاجة للمؤمنين وبرزخاً دون الفتنة من المدينة بعد رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجيش المسلمين وقد فقدوا سبعين شهيداً .
وهل إنتهى وإنقطع قول المنافقين بعد نزول الآية وأمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإحتجاج عليهم ، وقيامه بالإحتجاج وتلاوة المسلمين لمضامين آية البحث ، الجواب من الإعجاز في الآية القرآنية أنها تقطع النفاق وتمنع من العدوى في درنه والمخاطر الرديئة التي تترشح عنه , وتأتي تلاوة المسلمين المتجددة لآية البحث لتكون حصناً من النفاق , ودعوة للمسلمين والمسلمات في المدينة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الإعجاز في الآية عدم حصر جهة الخطاب فيها بالذين همتهم أنفسهم , ويوجهون اللوم والعتاب لعدم جعل شأن وموضوعية لهم في شؤون القتال , فلم تقل آية البحث ( قل لهم إن الأمر كله لله ) بل جاءت بصيغة اسم الجنس , والقانون الكلي الذي يتغشى عالم الخلق والأكوان .
وعلى فرض التعدد في معنى (الأمر) ومضامين الآية السابقة والآية قبل السابقة , فيه وجوه:
الوجه الأول : تعلق قوله تعالى[حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ] بوجوه :
أولاً : خصوص الذين رجعوا مع رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول، خاصة , وهم ثلث جيش المسلمين , وأن القرآن أخبر عنهم , وهم طائفة من المسلمين أي أنهم لم يهموا بالفشل والجبن والخور , إنما أظهروا الفشل فعلاً .
ثانياً : إرادة فرار فريق من الصحابة بقوله تعالى في الآية السابقة [إِذْ تُصْعِدُونَ] ودعوة الرسول لهم للرجوع , وتدل هذه الدعوة بالدلالة التضمنية على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينهزم , ولم يوجه اللوم للذين فروا، ولم يتركهم وشأنهم، بل أخذ يناديهم لنجاتهم في النشأتين , وورد في تفسير قوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ]، (أنهم بنو سلمة ، وبنو حارثة ، هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبي ، فعصمهم الله . وبقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سبعمائة( )، وفي الآية أعلاه مسائل :
الأولى : فرار المسلمين يوم أحد ليس من الفشل لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاهم للرجوع.
الثانية : التعدد الموضوعي، فتتعلق الآية أعلاه بخصوص همّ وعزم طائفتين على الفشل والجبن، بينما فرّ فريق من المؤمنين يوم أحد.
الثالثة : إرادة همّ ونية رجوع تلك الطائفة في وسط الطريق إلى المدينة مع المنافقين وأتباعهم , ولكن الله عز وجل حصّنهم وحفظهم .
الرابعة : هناك فرق بين الفشل والجبن وبين الفرار يوم أحد.
والمختار الثانية والرابعة أعلاه.
ثالثاً : إرادة المعنى الأعم الجامع للذين فاتهم الحضور والمشاركة في معركة أحد سواء بالإنسحاب وسط الطريق أو القيام بترك الميدان .
رابعاً : الرماة الذين نزلوا من الجبل مع توصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها بالبقاء في مواضعهم ، ولا تعارض بين هذه الوجوه .
الوجه الثاني : من مصاديق قوله تعالى [ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ]إبتداء معركة أحد بكثرة القتلى بين صفوف الذين كفروا إذ كانوا يتساقطون صرعى فراداً وجماعات وهي معجزة جلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ قلة عدد وعدة جيش المسلمين , وكثرة عدد وعدة ورواحل الذين كفروا .
لبيان قانون وهو أن مشيئة الله هي الغالبة وإرادته النافذة ، فتفضل الله وجعل معركة أحد ميداناً لمصداق وعده للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين باستئصال المعتدين من الذين كفروا ، ومن مصاديق العموم في رحمة الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حدوث إستئصالهم على نحو الموجبة الجزئية في معركة أحد ، ويدل قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) الذي يخص هذه المعركة في سبب النزول وإن كان موضوعه أعم .
ومضمون الآية أعلاه متصل ومتجدد إلى يوم القيامة ، وتقديره على وجوه :
أولاً : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا في معركة أحد .
ثانياً : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا في معركة الأحزاب .
وهل يختص القطف بالقتل أم يشمل معاني ومصاديق أعم الجواب هو الثاني ، وفي التنزيل [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ) .
ثالثاً : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا في كل معركة من معارك الإسلام اللاحقة .
ومن معاني الآية أعلاه وتحقق مصداقها بقطع طرف من الذين كفروا قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] ويكون الجمع بين الآيتين (ولقد صدقكم الله وعده بقطع طرف من الذين كفروا ) .
وفي قوله تعالى [إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] بعث للنفرة من النفاق وترغيب للمنافقين بالتنزه عنه ، وهو سلاح بيد المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وإخبار للناس جميعاً بلزوم التسليم بقضاء الله سبحانه .
الأمر الرابع : من معاني قوله تعالى [إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] تنبيه المسلمين وإرشادهم لسبل النجاة في النشأتين ، وهل فيه لوم للرماة ونحوهم لمضامين قوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ] .
الجواب الآية تأديب للمسلمين ، وجاءت بالأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخطابه للذين شغلتهم أنفسهم ، والمنافقين الذين [يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ] وبيان حال الفشل والجبن والمعصية هو نفسه لوم وتحذير ودعوة لإجتنابه ، وفي التنزيل [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ] ( ).
لتبين الآية مسألتين :
الأولى : ما دام الأمر كله لله فلماذا فشلتم وجبنتم ، ولماذا تنازعتم في الأمر ، ولماذا عصيتم ، وقوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ]من البيان العملي والشواهد الفعلية على أن الأمر كله لله عز وجل .
الثانية : إياكم والفشل والتنازع في الأمر والمعصية في المعارك اللاحقة لأن الأمر كله لله .
تفضل الله بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا يوم معركة أحد لقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
الأمر الخامس : من معاني قوله تعالى [إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ]بلحاظ ما أصاب المسلمين من الفشل والجبن والنزاع والمعصية أمور :
أولاً : بعث السكينة في نفوس المؤمنين ، فأنهم خرجوا من المدينة تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتوجهوا إلى أحد للقتال في سبيل الله ، ورجاء رفده ونصره ، وطمعاً بوعده الكريم ، ولما حدثت المعصية من قبل الرماة وفرار أكثر المسلمين من ميدان المعركة فان اليأس لم يدب إلى نفوسهم إذ يرجون فضل الله عز وجل لأن الأمر كله له سبحانه ، ومن أسمائه تعالى العفو والغفور والغفار ، والتي تفيد معاني العموم في شمول الناس والإطلاق في المعاصي التي يشملها العفو والمغفرة من عند الله ، فمن باب الأولوية القطعية شمول المؤمنين في ميدان المعركة بالعفو والمغفرة منه تعالى لأن الأمر كله بيده .
ويدل على هذا المعنى مجئ الآية قبل السابقة بالإخبار عن تفضيل الله عز وجل بالعفو عن المؤمنين بقوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ] .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه مسائل :
الأولى : مجئ العفو في ذات الآية التي تتضمن الإخبار عن الفشل والتنازع والمعصية .
الثانية : إرادة العموم , والإطلاق في موضوع العفو .
الثالثة : شمول العفو للتقصير والذنوب مجتمعة ومتفرقة ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ولقد عفا الله عن فشلكم .
الثاني : ولقد عفا الله عن تنازعكم في الأمر .
الثالث : ولقد عفا الله عن معصيتكم .
الرابع : ولقد عفا الله عن ذنوبكم في معركة أحد مجتمعين متفرقين .
إذ أن النسبة بين العفو الوارد في قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ]وبين التقصير والمعصية التي تذكرها ذات الآية هي العموم والخصوص المطلق ،
وهل يشمل العفو ما قبل معركة أحد ، الجواب نعم ليكون من خصائص الجهاد في سبيل الله محو الذنوب والمعاصي التي حدثت قبله , وفيه ترغيب بالخروج عليها وسواء وقع القتال أو لم يقع وإن كانت الآية أعلاه تخبر عن وقوع القتال ومجئ العفو بعده إلا أن تعقب الإخبار عن عظيم فضل الله عز وجل على المؤمنين شاهد على سعة وتجدد العفو من الله عز وجل .
والعفو لغة هو التجاوز عن الذنب وعدم ترتب العقاب عليه , يقال عفا يعفو عفواً فهو عاف وعَفوً ، وأصل العفو هو المحو والطمس .
وهل يتعارض قوله تعالى [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] مع قانون الشفاعة ، الجواب لا ، فمن أمره سبحانه الإذن بالشفاعة وقبولها حيث يشاء ، قال تعالى [وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى] ( ).
ثانياً : دعوة المسلمين والمسلمات إلى عدم مؤاخذة المؤمنين الذين خاضوا معارك البناء والجهاد , ومنهم الرماة الذين تركوا مواضعهم ، ومن خصائص معارك الإسلام الأولى أنها بناء لصرح الإيمان بالنفوس والأموال ومن رشحاته المكانة والقدسية التي فاز بها الشهداء في قلوب المؤمنين ، وإجماع المسلمين في كل زمان على وجوب إكرامهم للتسليم بصدق نواياهم وحسن سمتهم .
ثالثاً : من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ]إحصاء كل قول وفعل صدر من المسلمين أو من عدوهم ، وتوثيق وقائع معركة أحد في القرآن من غير تحريف أو زيادة أو نقصان .
وتقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
أولاً : إن الأمر كله لله حتى إذا فشلتم ، فلن يضركم هذا الفشل ، ولن ينتفع منه الذين كفروا ، وتلك آية في بديع صنع الله عز وجل ، إذ ينتفع المسلمون من كل قصور أو خطأ يرتكبه الذين كفروا ويكون حجة عليهم وسبباً لبعث الوهن بين صفوفهم .
ثانياً : إن الأمر كله لله وتنازعتم في الأمر ) فالأصل هو وجوب تنزه المسلمين عن التنازع ، ولبيان أن العفو من عند الله عن المسلمين حث لهم على عدم التنازع في المعارك اللاحقة للإسلام .
ثالثاً : تقدير الآية وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون وأن الأمر كله لله) لتذكر المسلمين بأن إبتداء معركة أحد بالنصر للمؤمنين وكثرة القتلى في صفوف المشركين من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] وبيان إنتفاء أسباب المعصية بين المؤمنين .
رابعاً : بيان قانون كلي , وهو عدم طرو التغيير على قانون نصر المؤمنين حتى في حال معصيتهم .
الأمر السادس : صحيح أن قوله تعالى [إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] خطاب من عند الله عز وجل موجهاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإحتجاج على المنافقين إلا أن موضوعه أعم وهو قانون دائم ومتجدد في الدنياوالآخرة , وباعث على الدعاء والسؤال من عند الله عز وجل .

قوله تعالى [يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ ]
من وجوه تقدير آية البحث : يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لكم) وقد يرد الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن ، ويراد منه أيضاً الأمة وأجيال المسلمين المتعاقبة إلى يوم القيامة ، فكذا يرد الخطاب للأمة ويراد منه شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا مع القرينة التي تدل على الخلاف وخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من موضوع الخطاب بالتخصص أو التخصيص .
ومن الإعجاز في صيغة الجمع في قوله تعالى [يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ]وجوه :
الأول : المناجاة بين المنافقين بعدم إطلاع وإخبار المؤمنين عن مكرهم ودهائهم وسوء سرائرهم .
الثاني : إرادة التفكيك في الآية , وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : ويخفي المنافق في نفسه البغضاء والحسد وهو غير الذي يبديه لكم ويدعيه من الإيمان , ولا يكشف للمؤمنين ما يبطنه من الكفر والشك والضلالة .
ثانياً : ويخفي المنافق في نفسه ما لا يبديه لك ، فيكون الخطاب وفق هذا التقدير للمؤمن , أي أن المنافق لا يكشف للمؤمن وإن كان أخاه ما في داخله من أسباب الشرك .
ثالثاً : ويخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك ، في خطاب للمؤمن بلحاظ أنه أمة بمفرده وأنه يقوم باطلاع المؤمنين على سوء نوايا المنافقين ، فيكتمون ما في داخلهم من الجحود والعناد عنه .
الثالث : من وجوه إخفاء المنافقين ما في نفوسهم إظهارهم الإيمان وخروجهم مع المؤمنين للقتال ، حتى إذا إلتقى الجمعان نكصوا على أعقابهم .
ترى ماذا يخفي المنافقون وضعيفوا الإيمان في بواطنهم , فيه وجوه :
الأول : الرغبة في إجتناب القتال وترك ملاقاة الذين كفروا.
الثاني : يخفون الشك والريب في نفوسهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : عدم التصديق بدلالات ومعاني آيات القرآن .
الرابع : الشك بتحقيق المسلمين النصر والغلبة في معركة أحد ومعارك الإسلام الأخرى .
الخامس : يخفون في أنفسهم الخشية والخوف من جيش الذين كفروا وشدة بطشهم .
السادس : يخفون في أنفسهم التصديق بوعيد الذين كفروا وعزمهم على إستئصال الذين آمنوا .
السابع : يخفون التباين والتضاد بين علانيتهم وسرهم ، بين ظاهر قولهم وحقيقة ما يبطنون .
وتبين الآية المصداق الإجمالي لما يخفي هؤلاء المنافقون في نفوسهم بأنه خلاف الذي يظهرونه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من طاعة لله وطاعته وأدائهم الفرائض والواجبات العبادية.
لقد أراد الله عز وجل تهذيب نفوس المسلمين والإمتناع عن محاكاة المنافقين في قولهم فاذا كان لكل فرد من المسلمين أمر وشأن في القرار , أو لخصوص الملأ منهم ورؤساء القبائل فيهم لحدثت نزاعات عديدة ، ولا تصل النوبة إليه لوجود نعمة الوحي من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد ورد قبل آيتين الإخبار عن وقوع التنازع بين المسلمين بقوله تعالى [وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ] ( ) فورد لفظ الأمر في الآية أعلاه كما ورد ذات اللفظ في آية البحث , ولكن على لسان فريق من المنافقين [لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا] ( ) إذ تمنوا بعض الأمر والشأن ولم يسألوا الأمر كله لعلمهم بأن الأمر بيد الله , وفي التنزيل [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( ).
لقد ورد قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ) في قانون لتنزيه الإسلام عن التضاد الذاتي ومنع إضعاف الإسلام من داخله ، لقد أراد المنافقون أن يكونوا طائفة يتناجون فيما بينهم بالمكر والخبث وتثبيط عزائم المؤمنين ، فتفضل الله عز وجل وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يجاهدهم , الأمر الذي يدل بالدلالة التضمنية على أمور :
الأول : تفضل الله بجعل المنافقين بمرتبة واحدة مع الكفار من جهة الحاجة إلى جهادهم .
الثاني : تبكيت المنافقين بإخبارهم بأنهم أعداء للإسلام لابد من محاربتهم .
الثالث : حمل المنافق على تلاوة الآية التي تذمه , وتدعو إلى جهاده وإستماعه لها في الصلاة وغيرها ، وتقدير الآية بخصوص توجه الخطاب لذات المنافق على جهات :
الأولى : وجاهد الكفار ) ، وفيه قهر للنفس الشهوية , وبرزخ دون إئتلاف المنافق مع الكفار , وليرى المنافق نفسه في حال حرب مع الكفار ليتنزه في قرارة نفسه عن الكفر ومفاهيم الضلالة ،
فيكون من إعجاز الآية أعلاه دعوتها لجهاد ومحاربة المنافق وهي بذاتها تجعل المنافق يحارب النفاق ومفاهيم الكفر الكامنة في نفسه والتي يبطنها وهو من مصاديق قوله تعالى [جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ] مع إعجاز إضافي وهو أن الله عز وجل يبعث المنافق على لوم نفسه , ويحتمل هذا اللوم وجوهاً :
أولاً : إنه مقدمة للتنزه والسلامة من النفاق ، بلحاظ أن النفاق أمر عرضي متزلزل غير ثابت .
ثانياً : ليس من أثر لهذا اللوم على نفس المنافق ، لذا قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ] ( ) .
ثالثاً : هذا اللوم من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة في كيفيته وأثره ونفعه سواء بالنسبة للأفراد من المنافقين أو حال المنافق في القضية المتحدة .
رابعاً : لوم المنافق لنفسه شاهد على تخلصه من النفاق ، وإبتعاده عنه .
والصحيح هو أولاً أعلاه ، وقد يكون هذا اللوم مقدمة لتوبة المنافق , وهو من الإعجاز الغيري للآية أعلاه وموضوعية الجمع بين الآيات وما لها من سلطان على النفوس , فان قيل ما المقصود بقوله تعالى في ذم الذين كفروا [بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( )يكون من معاني السلطان الذي أنزله الله نظم آيات القرآن والجمع بينها ، وكل آية بذاتها سلطان .
وهل ينقطع الخطاب المتوجه للذي يتوب عن النفاق بجهاد النفاق في نفسه ، ويبقى جهاده للكفار والمنافقين ، الجواب نعم ، لأنه إذا تبدل الموضوع تغير الحكم خاصة وأن الآية لم تقل (جاهد الكفر والنفاق ) بلحاظ الصفة والماهية بل وردت بخصوص الأفراد لذا ورد قول الله تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ]( ) , ولكن الإحتراز من النفاق مصاحب للمؤمن , في كل أحواله .
وتتجلى في هذه الآيات موضوعية الإستغفار في نيل مرتبة التوبة ( قال زر قلت لأبي بن كعب: فما التوبة النصوح؟ فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: “هو الندم على الذنب حينَ يَفرطُ منك، فتستغفرُ الله بندامتك منه عند الحاضر، ثم لا تعود إليه أبدًا”)( ).
الثانية : وجاهد المنافقين ، فكون الإنسان منافقاً ليس برزخاً دون إمتثاله للأمر في الآية الكريمة بجهاد المنافقين فيكون أمراً بالخروج من بينهم , ودعوتهم إلى الإيمان والصلاح ونبذ النفاق .
الثالثة : إجتهاد المنافق في إصلاح نفسه للتوبة , والتنزه عن النفاق .
الرابع : تدل الآية في مفهومها على توجه الخطاب للمسلمين والمسلمات وتقديرها : وجاهدوا الكفار والمنافقين وأغلظوا عليهم ) وهل يسقط هذا الجهاد عن النساء ،الجواب لا ، إنما يكون بقدره من جهة مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الخامس :التباين في صيغة وكيفية جهاد الكفار بالسيف وجهاد الكفار بالزجر عن إبطان الكفر وعن بث روح الشك والريب ، وهو من معاني آية البحث وحث المنافقين على التسليم بأمر الله عز وجل وأمر رسوله في الخروج إلى معركة أحد ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ] ( ).
السادس : لقد إحتج رؤساء النفاق بقولهم [لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ]ومن مصاديق أمر الله عز وجل في المقام توجه الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجهاد الكفار والمنافقين بأن الأمر كله بيد الله ، ولو كان شطر من الأمر بيد المنافقين لأصاب الضرر المسلمين .
وقد تفضل الله عز وجل وصرف عنهم الضرر الذي قد يأتي من الأعداء بدليل قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها النبي جاهد الكفار ) ومن الإعجاز في قانون التفسير الذاتي للقرآن بيان سنخية الجهاد , وتقييده بقصد القربة كما في قوله تعالى [أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ] ( ).
ثانياً : يا أيها النبي جاهد المنافقين ) وفيه شاهد على الأذى الذي يلقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم ، وهو الذي تدل عليه آية البحث ، وقد يقول بعضهم لماذا هذا التأكيد في ذم القرآن للمنافقين وجعلهم بعرض واحد مع الذين كفروا مع أنهم نطقوا بالشهادتين وإستقبلوا مع المسلمين القبلة .
فيأتي الجواب في آية البحث فمع الخسارة التي لحقت بالمسلمين في الأرواح والأبدان والحرمان من تحقيق النصر المبين ومن الغنائم ترى المنافقين يثيرون الشك والريب فيطلبون أن يكون لهم شأن في أمر القتال إبتداء وإستدامة ويبينون أنه لو أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم لما تعرض المسلمون للخسارة في واقعة أحد ، فيسمعهم المهاجر والأنصاري ويصل إحتجاجهم وجدالهم إلى أسر وعوائل الذين قتلوا في سبيل الله ويعلو صوت النفاق في المدينة ، ويتجرأ أهل الشك والفسوق .
فتفضل الله عز وجل وقطع دابر النفاق بأن أنزل آية البحث لتحكي ظلم المنافقين وتفضح تعديهم وإتخاذهم الباطل وما ليس بحق لمحاربة الحق والصدق .
فهم لم يقتلوا في معركة أحد ، وعادوا إلى المدينة من غير أن يحضروا المعركة ويواجهوا الذين كفروا , وليس من ملازمة بين حضورهم المعركة وبين قتالهم إنما هو الأجل وما كتب الله ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( ).
ثالثاً : تقدير الآية يا أيها المسلمون جاهدوا الكفار والمنافقين وأغلظوا عليهم.
رابعاً : إدفعوا مفاهيم الكفر والنفاق.
خامساً : جاهدوا لسلامة القلوب من الكفر والنفاق والشك والوهم في عقيدة التوحيد والنبوة والتنزيل .
وتبين آية البحث خصلة من خصال النفاق ، ومن إعجاز القرآن مجئ بيانه بالبشارة والإنذار ، والثناء والذم ، مع التباين في الموضوع بينهما , وهو من عمومات قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( )، فلا ينحصر بيان القرآن بالكشف عن الحقائق , وتتضمن الآية طرفين :
الأول : ما يخفيه المنافقون في أنفسهم .
الثاني : ما يظهره المنافقون للنبي محمد صلى لله عليه وآله وسلم.
والأصل ان تكون النسبة بينهما هي التساوي ، ولكن النفاق خلاف الأصل وسنخية الإنسان ، وماهية خلقه التي تفيد الإتحاد بين العقل والحواس ، والتداخل والتشابه بين الظاهر والسر ، وأن ظاهر الإنسان مرآة لباطنه إلا أن يضطر لحصول الخلاف بينهما ، وليس من إضطرار يحمل المنافق على الرياء والتضاد بين علانيته وسره .
فجاءت الآية السياق لبيان دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في معركة أحد , وتتضمن في دلالتها إرادة إصلاح المنافقين لأنفسهم ، وتقدير الآية : والرسول يدعوكم للتنزه عن إخفاء خلاف ما يجب عليكم من أسباب النصرة والإستجابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن مصاديق الإعجاز في آية البحث إخبار الآية عما يكمن في صدور المنافقين وأنه خلاف ما يظهرون ليكون المسلمون في حال إحتراز ويقظة منهم ومن حيلهم ومكرهم , ولا يعلم السرائر إلى الله عز وجل وفي التنزيل [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ).

قوله تعالى [ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا]
لقد إحتج المنافقون بأنه لو كان لهم في قرار موضع القتال شأن لما تعرضوا للقتل ، ويحتمل أوان هذا القول منهم وجوهاً :
ا لأول : صدر هذا القول من المنافقين قبل وبعد المعركة ساعة عزمهم على الرجوع إلى المدينة ,خاصة وأن المراد من هذا القول تحريض طوائف الأنصار على الرجوع .
الثاني : إحتجاج المنافقين بعد ترك الرماة مواضعهم وشدة القتل في المؤمنين لأن مثل هذا القول يلقى آذاناً صاغية , وقد تميل إليه النفوس ، فتفضل الله عز وجل ومنع المسلمين من الإنصات له بقوله تعالى [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] ( ) لبيان قانون من جهات :
الأولى : تفضل الله عز وجل بفضح المنافقين .
الثانية : من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) الحيلولة دون إنصات المؤمنين لما يقوله المنافقون .
الثالثة : بيان حقيقة وهي أن كل آية من القرآن نصر من عند لله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الذين معه .
الرابعة : بعث اليأس في قلوب المنافقين ، إذ وجدوا إعراض المسلمين عن قولهم [هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ] ( ) وكيف يكون للعبد أمر مع مولاه وخالقه .
الخامسة : بيان قانون وهو لزوم عدم سكوت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن المنافقين بل يجب أن يقوم هو والمؤمنون بردهم وزجرهم , وكشف زيف وبطلان أقوالهم ذات صبغة النفاق.
السادسة : تثبيت قانون في حياة المسلمين العقائدية في اليوم والليلة من وجوه:
أولاً : الصدور عن آيات القرآن .
ثانياً : الرجوع إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإقتباس من السنة في الحرب على النفاق .
ثالثاً : مقابلة أي قول من المنافقين بآية قرآنية تفضحه وتبين ما فيه من المغالطة وسوء القصد .
رابعاً : تأكيد قانون عجز المنافقين عن بث سمومهم .
خامساً : توجيه رسالة إلى الذين كفروا بأن المنافقين عاجزون عن التأثير على المسلمين مجتمعين ومتفرقين .
سادساً : إلقاء الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا , وتقدير الجمع بين آية الرعب وآية البحث ، سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بقول [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ].
الثالث : لقد لام أهل المدينة المنافقين عند رجوعهم إلى المدينة وسؤال الناس لهم عن سبب إنخزالهم وتركهم النبي وأهل بيته ومن بقي من أصحابه من المهاجرين والأنصار يواجهون جيش قريش وحلفائهم , فلجأ المنافقون إلى المكر والخبث ، فجاءوا بهذا الإعتذار والمكر , وقالوا : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا)، لبيان حقيقة وهي أن علامة المنافقين إخفاء خلاف ما يظهرون في الفروع أيضاً إلى جانب الأصول ، مما يستلزم أخذ الحائطة منهم.
الرابع :صدر قول [لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ] عندما شاع خبر سقوط سبعين شهيداً من المسلمين من جهات :
الأولى :قيام المسلمين والمسلمات في المدينة بتوجيه اللوم إلى المنافقين , فجاء المنافقون بدعوى باطلة .
الثانية : أراد المنافقون بث سمومهم وإثارة الشكوك عندما تلقى أهل المدينة نبأ كثرة القتل في المسلمين .
الثالثة : عدم إيمان المنافقين يدفعهم للتجرأ والغرور والظن بأن إتباعهم في رأيهم يمنع من شيوع القتل بين المسلمين ، فجاء الرد من عند الله عز وجل بأن الأمر كله بيد الله عز وجل وما وقع إنما هو بعلمه وكلمته ولإقتباس المواعظ مما وقع في معركة أحد ولتنفر نفوس الناس من فعل الذين كفروا وتجهيزهم الجيوش ضد النبوة والإسلام ، قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق آية البحث والشواهد على ما كان يلاقيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من الأذى المتعدد الذي يمكن تقسيمه بلحاظ جهة الصدور إلى أقسام :
الأول : الأذى الذي يأتي من الذين كفروا بالجحود وإنكار الرسالة .
الثاني : تجهيز الذين كفروا الجيوش ووقوع القتال بين المسلمين والذين كفروا .
الثالث : الأذى الذي يأتي من الفاسقين من أهل الملل الأخرى.
الرابع : ما يبثه المنافقون من مصاديق الشك والريب .
الخامس : التآزر والتعاون بين الذين كفروا والمنافقين لبعث الوهن والضعف في قلوب المؤمنين ، لذا ورد (عن أنس : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما أوذي أحد مثل ما أوذيت في الله ( ).
فجاء قول الله تعالى [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] لصد ودفع الأذى عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل ، وفيه دعوة للنبي والمؤمنين بالإجتهاد والجهاد لمنع أسباب الأذى هذه ومنع المنافقين من إرادة بث روح الفرقة والخصومة بين المسلمين ليكون من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) نزول آيات القرآن التي تكون واقية من النفاق وأثر المنافقين ومصاحبة هذه الآيات ورشحاتها لأجيال المسلمين المتعاقبة ، وهو من أسرار وجوب تلاوة آيات القرآن في الصلاة وجوباً عينياً على كل مسلم ومسلمة وعلى نحو يومي متكرر لبيان قانون وهو عدم مغادرة المسلمين لسبل التحذير والوقاية السماوية من النفاق والمنافقين .
ومن الآيات في المقام أن المسلمين يتلون في كل ركعة [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( ) لتأكيد إقرار المسلمين بأن الأمر كله بيد الله عز وجل وله المشيئة المطلقة في الخلق والخلائق ولا يملك معه أحد شيئاً ويعلن المسلمون أنهم يعبدون الله لأنه رب العالمين ومالك كل شيء وهو الذي جعل عبادة الناس له علة لخلقهم , ولأن الأمر كله بيده سبحانه وإياه سبحانه يستعين المسلمون لأن الأمور كلها بيده سبحانه .
لذا تقدم قبل ثلاث آيات ذم الذين كفروا وإلقاء الرعب في قلوبهم لأنهم [أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( ).
وورد لفظ الأمر في آية البحث ثلاث مرات , وهل الموضوع في هذه الثلاثة متحد أو متعدد, الجواب هو الثاني ,فالأمر في قوله تعالى [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] أعم موضوعاً ودلالة .
وقال تعالى [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ] فهل المقصود بالأمر في الآية أعلاه ذات الأمر الوارد في آية البحث لإتحاد اللفظ والموضوع، الجواب لا ، وبينهما عموم وخصوص مطلق، ورجوع الأمر إلى الله عز وجل أعم في معناه ودلالته من لفظ الأمر المذكور في آية البحث، قال تعالى [إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ]( ).
ومن إعجاز آية البحث ورود قول المنافقين بصيغة المضارع [يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ] مما يدل على إستمرارهم بهذا القول , وترديدهم له في وجوه :
الأول : يتكلم المنافقون بهذا الإحتجاج فيما بينهم .
الثاني : إتخاذ المنافقين هذا الكلام موضوعاً للمناجاة بينهم .
الثالث : كان قول المنافقين هذا وعتابهم لعدم جعل موضوعية لهم في القتال وموضعه ، ولم تنزل الآية إلا للتخفيف عن المؤمنين, وعدم إفتتان طائفة منهم بذات قول المنافقين أو بهم مطلقاً.
الرابع : إستمرار قول المنافقين [هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ] بعد نزول آية البحث , وهو المستقرأ من صيغة المضارع التي وردت فيها آية البحث .
وباستثناء الوجه الرابع أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق الآية ، وحتى على فرض بقاء قول المنافقين هذا بعد نزول آية البحث فانه أصبح واهناًً مكشوفاً , ليس له أثر أو تأثير على المؤمنين .
لقد فضح المنافقون أنفسهم ، وبينت آية البحث خصلة من خصالهم المذمومة ، وفيه دعوة للمسلمين لتعيين المنافقين وأخذ الحائطة منهم ، والإمتناع عن الإنصات لهم ، وفي هذا الإمتناع وجوه :
الأول : إنه أمر وجودي .
الثاني : في هذا الإمتناع والإعراض أجر وثواب من عند الله .
الثالث : تقييد ترتب الأجر والثواب على هذا الإمتناع بأن يكون بقصد القربة .
وفيه ترغيب للمسلمين بإجتناب الأقوال ذات صبغة النفاق أو الإستماع للمنافقين .
ومن الإعجاز ورود تأديب وزجر المنافقين في هذه الآية بالأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول لهم لغيرهم الحق والصدق رداً على قولهم الذي لا أصل له ، وهو من اللطف الإلهي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ان الله يحب الرفق في الامر كله) ( ).
ومن إعجاز آية البحث أنها الآية الوحيدة في القرآن التي ورد فيها لفظ الأمر ثلاث مرات، ولا بد له من أسرار تستلزم الوقوف عندها والتدبر في دلالاتها ومعانيها ، وما يترشح عنها ومنها :
الأول : ذكر الأمر في الآية على نحو الإطلاق .
الثاني : شمول لفظ الأمر معنى الموضوع والحكم .
الثالث : إرادة المنافقين أن يكون لهم شأن ورأي في القرار العام في الحرب .
الرابع : إرادة نسبة العموم والخصوص المطلق بين (الأمر) في قوله تعالى [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] وبين كل من [هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ] و[لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ], وهو من الشواهد على عالمية رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويكمن الضرر في قول المنافقين بموضوعه بالذات وبصيرورته مقدمة لإرادتهم الشأن والموضوعية في الأحكام والسنن ، ويدل على هذا المعنى مجئ الإحتجاج من عند الله بصيغة الإطلاق [قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ] وفيه تأديب للمسلمين وهو سبيل لزيادة إيمانهم وتسليمهم بأن مقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل لتبعث الآية اليأس في قلوب المنافقين والخيبة في نفوس الذين كفروا ، فلا يطمعون بعدها بالإسلام والمسلمين , وتدل الآية بالدلالة التضمنية على كفاية القرآن والسنة .
ويحتمل الذين قالوا [لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ ]وجوهاً :
الأول : الذين لجأوا إلى الفرار والصعود في الأرض .
الثاني : فريق من الذين تركوا وسط الميدان ثم عادوا بدعوة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالرجوع إلى الميدان.
الثالث : أفراد من المسلمين إنهزموا من المعركة ولم يرجعوا إلى الميدان .
والمختار أن المراد هم المنافقون والذين في قلوبهم مرض ، سواء حضروا المعركة وفروا عند شدة القتال , أو لم يحضروها ممن أهمتهم أنفسهم .
لقد خاطبت الآيتان السابقتان المسلمين بصيغة العموم الإستغراقي [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]ثم ذكرت الآية السابقة فرار فريق عنهم وكأنه حادث من جميع المؤمنين الذين حضروا معركة أحد[إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] مع أن فريقاً منهم ثبت مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ,ولم يعرفوا الفرار يومئذ ولا قبله ولا بعده .
وإبتدأت آية البحث بذات صيغة الجمع الإستغراقي ولغة الخطاب للمؤمنين الذين قادهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد وحدد مواضعهم فيها لما فيها من الثناء عليهم وإلقاء الأمنة عليهم , وذكرت الآية قسمين من المسلمين :
الأول : فريق من المسلمين نزل عليهم النعاس نعمة وثواباً وتخفيفاً .
الثاني : فريق من المسلمين أصابهم الفزع من القتال والجزع لما لحقهم وخافوا من الموت ونسوا أن الأولى هو الدفاع عن بيضة الإسلام ، وحفظ النبوة وتعاهد إستدامة وتوالي نزول آيات القرآن الذي لا يتم إلا بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل لحصر نزول الوحي عليه من بين أهل الأرض.
(وأخرج الخطيب وابن عساكر عن علي عليه السلام قال: نعى الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم نفسه حين أنزل عليه[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]( )، فكان الفتح سنة ثمان بعدما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما طعن في سنة تسع من مهاجره تتابع عليه القبائل تسعى فلم يدر متى الأجل ليلاً أو نهاراً ، فعمل على قدر ذلك فوسع السنن ، وشدد الفرائض ، وأظهر الرخص ، ونسخ كثيراً من الأحاديث ، وغزا تبوك ، وفعل فعل مودع) ( ).
وتتضمن آية البحث في دلالتها الثناء على فريق من المؤمنين لم تهمهم أنفسهم يوم أحد ، إتصفوا بالتقوى وأخلصوا الطاعة لله ولاقوا الخوف بالصبر والثبات على الإيمان ، فحينما رآهم الذين كفروا على هذا النهج والبسالة والعزم على الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصابهم اليأس والقنوط ، وعزموا على الإنسحاب إلى مكة في ذات يوم القتال ، لذا قال الله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ] ( ) .
بلحاظ أن كلاً من الصبر والصيام والصلاة واقية للإيمان وحرز من الوهن والضعف وسلاح يبعث الفزع والرعب في قلوب الذين كفروا ليكون من مصاديق وأسباب قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ) فيأتيهم الرعب من زيادة إيمان المسلمين ونزول نعمة النعاس عليهم ، وصيرورتهم في أمان وأمن ، فيستعرض المشركون جيوشهم وأسلحتهم وخيولهم يوم أحد لتصيب الرهبة المؤمنين الذين لا يملكون معشار أسلحتهم , ولكن المؤمنين في أمنة ونعاس.
ومن منافعه الثبات في الميدان والوقاية من الفزع والخوف من جيوش العدو ، عندئذ ييأس المشركون ، وهو من أسباب لجوئهم إلى ترك ميدان المعركة فارين فزعين.
وتقدير أول آية البحث ثم أنزل عليكم أمنة نعاساً ليملأ قلوب الذين كفروا الرعب ويفروا من ميدان معركة أحد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )، أي : فينقلبوا خائبين لأن الله أنزل أمنة نعاساً على المؤمنين.
وقد تضمن القرآن الإخبار بأن الأمر كله لله عز وجل وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليس له مع أمر الله عز وجل شيء , وقوله تعالى[لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ]( )، نزل في قصة معركة أحد , وهي أعم في موضوعها وهو إرادة دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الذين كفروا بعد أن أصابوه بالجراحات , وقتلوا سبعين شهيداً من جيش المسلمين من بينهم حمزة بن عبد المطلب ، وهو عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن الربيع قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد ، وقد شج في وجهه وأصيبت رباعيته ، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو عليهم فقال « كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى الشيطان ، ويدعوهم إلى الهدى ويدعونه إلى الضلالة ، ويدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار؟ فهمَّ أن يدعو عليهم . فأنزل الله { ليس لك من الأمر شيء } الآية فكف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الدعاء عليهم) ( ).
لقد أراد المنافقون أن يكون لهم أمر مع أمر الله عز وجل وأمر رسوله ، ورغبوا في الخيرة والأخذ بقولهم وأحبوا أن يظهروا للناس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعمل برأيهم وأنه يخشاهم ويخاف جانبهم فلا يعدوهم في قول أو فعل حتى في حال الحرب والقتال .إنها حرب أخرى غير حرب وهجوم الذين كفروا وقى الله النبي والمسلمين منها بآية البحث .
وكأن المنافقين لا يرضون بأمر الله ورسوله ويبعثون الشك في النفوس في قول وفعل النبي في ساعة الشدة والحرج وإطلالة العدو الكافر على المدينة وهو يريد قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسر أصحابه وحملهم على ترك الإسلام , فجاء فضح المنافقين من عند الله عز وجل ، وبينّ للمسلمين حقيقة قولهم وأضرار هذا القول ، ولزوم إجتنابه .
وفي القتل أطراف :
الأول : القاتل الذي يزهق بفعله روح المقتول .
الثاني : سفك الدم وإزهاق الروح بآلة وفعل عن قصد وعمد أو خطأ ومن غير قصد من القاتل .
الثالث : المقتول الذي تغادر روحه الجسد بفعل فاعل , ولم يأته الأجل بالموت والأجل المحتوم .
ومن الدلالة على المغالطة في قول المنافقين ذكر آية البحث لقولهم بصيغة المضارع [يَقُولُونَ] بينما أخبرت عن إدعائهم نزول القتل بهم بصيغة الماضي [قُتِلْنَا] .
وتقدير الآية : الآن هم يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ) ولم ترد الآية باتحاد صيغة القول والفعل الزمانية فلم تقل :
قالوا لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ) .
وحتى على التقدير أعلاه يقع الإشكال عليه كيف يقولون لو كان لنا من الأمر شيء بعد قتلهم ها هنا ، فلو كانوا قد قتلوا فعلاً كيف يقولون ويبينون سبب القتل ، ولا ينصرف موضوع الآية إلا بخصوص أيام نزولها فلا تحمل على إرادة قولهم في الحياة الأخرى لدلالة تقييد [مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا]على قصد معركة أحد ويومها , والجواب إرادة تعرضهم للقتل , وقتل إخوانهم من الأنصار , وتقدير الآية ( لو كان لنا من الأمر شيء وسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قولنا بالبقاء في المدينة وقتال الذين كفروا في أزقتها ما قتل إخواننا في ميدان معركة أحد .
ويحتمل قولهم [مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا] وجوهاً :
الأول : إرادة قتل سبعين من المسلمين في معركة أحد بلحاظ أن الإسلام والنطق بالشهادتين هو الجامع المشترك بينهم وبين المؤمنين.
الثاني : المقصود شهداء أحد من الأنصار في معركة أحد ، وعددهم خمسة وستون شهيداً ( ) .
الثالث : يقصد المنافقون أنفسهم على نحو الخصوص ولو كان لهم رأي لما قتلوا في حال إشتراكهم في القتال لبيان إعتذارهم عن عدم القتال وللإخبار بأنهم مستعدون للقتال بشرط سماع رأيهم في تعيين موضعه وكيفيته لأن في هذا الشرط سلامة لهم في القتال .
الرابع : إرادة المنافقين إتخاذ مصيبة كثرة الشهداء عند المسلمين وسيلة وموضوعاً لبث روح الشك والريب في نفوس المسلمين والتجرأ على خيار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في القتال، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] ( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق آية البحث , ومن أسرار نزولها وبيان مضامينها القدسية
قوله تعالى[قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ]
مع شدة البأس والقتال يوم أحد، فقد كان باب الإحتجاج والتعليم والتأديب من عند الله متصلاً , فيتفضل الله عز وجل ويقول لنبيه الكريم (قل) لإقامة الحجة على سلامة نهجه، وصحة خروجه إلى معركة أحد والقتال فيها، وهو من الإعجاز في التخفيف عنه ليأتي لفظ (قل) في خطابات القرآن الموجهة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص على وجوه منها :
الوجه الأول : الجدال وإقامة البرهان على الذين كفروا , قال تعالى[قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ]( ).
ومن الإعجاز في السورة أعلاه أنها نزلت في مكة في بدايات الدعوة الإسلامية من غير خوف أو فزع من سلطان وغرور وطغيان رؤساء الكفر والضلالة من قريش ونزول الآية أعلاه من مصاديق قذف الرعب في قلوبهم بقوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ) .
والقدر المتيقن من الآية أعلاه هو معركة أحد وما بعدها بدليل صيغة الفعل المضارع (سنلقي) والجواب هو الأول بدليل ذات الآية أعلاه التي تتضمن بيان علة القاء الرعب في قلوبهم وهو الشرك بالله مما لم ينزل به الله أمراً أو إخباراً فلم ينزل الله سلطاناً بخصوص إتخاذهم الأصنام وسائل مادية ظاهرة لتقربهم إلى الله زلفى ثم صاروا يتقربون إليها بالذات.
وجاء الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ] بإرادة العموم الإستغراقي لجميع الكفار التابع والمتبوع ، والقريب كأبي لهب عم النبي والبعيد كالذين ينتمون إلى قبائل أخرى والذكر والأنثى والحر والعبد من أهل الأمصار ، لذا فمن الإعجاز أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث برسائل في السنة السادسة للهجرة إلى الملوك والأمراء يدعوهم فيها للإسلام.
ويحتمل أمر الله عز وجل إلى رسوله الكريم [قل] وجوهاً :
الأول : إرادة الندب والإستحباب فللنبي أن يقول ويبلغ بخصوص مسألة الأمر [قل] وله أن يسكت، ولكن القول هو الأفضل والأولى .
الثاني : إفادة الوجوب من قوله تعالى [قل] وتقدير الآية : قل يا محمد للكافرين لا أعبد ما تعبدون) , وكذا بالنسبة لآية البحث , ولفظ ( قل ) فيها.
الثالث :المعنى الأعم الجامع للوجوب والندب في آن واحد .
الرابع : التباين بحسب القرينة والأمارة والدليل فمرة يفيد لفظ (قل) الوجوب ، وأخرى تفيد الندب والإستحباب .
الخامس : لحاظ الموضوع في لفظ (قل ) فمرة يفيد الوجوب ، وأخرى يفيد الندب والإستحباب، والمراد من الوجوب اي يجب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول ما يأمره الله في الآية، والمراد من الندب هو يستحب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول ما يأمره الله به الله عز وجل ، وله أن يسكت فلا يقول , وله أن يرجئ القول.
والصحيح هو الثاني أعلاه ، فلا بد أن يقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يأمره الله عز وجل لوجوه :
الأول : الأصل في الأمر هو الوجوب إلا مع الدليل والقرينة على الإستصحاب .
الثاني : كل مرة يأتي فيها الأمر من عند الله يفيد الوجوب ، قبل أن تصل النوبة إلى علم الأصول لأنه أمر من الخالق إلى المخلوق ، ومن الرب إلى المربوب ، ومن الله عز وجل إلى رسوله ونبيه الذي بعثه [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : فإن الله اتخذني عبداً قبل أن يتخذني نبياً) ( ).
الثالث : تجلي حاجة الناس العامة لما يقوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم إمتثالاً لأمر الله عز وجل .
وهل يدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عمومات قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( )أم لا يدخل فيها لأنه هو الذي يأتي بما يلزم المسلمين أخذه ، المختار أنه يدخل في مضامين الآية أعلاه وأن الأمر الذي يتوجه للمسلمين في الآية قد توجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو الإمام والأسوة في الإمتثال لأوامر الله , ويتصف إمتثاله بأمور :
أولاً : مباردة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإمتثال إلى أمر الله .
ثانياً : إتيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفعل المأمور به بأحسن كيفية وطريقة.
ثالثاً : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالفعل المأمور به تفسير لذات الأمر وبيان عملي له، وفيه مسائل:
الأولى : السنة النبوية بيان للقرآن .
الثانية : السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع .
الثالثة : السنة النبوية برزخ دون الإختلاف والخلاف بين المسلمين سواء في موضوع ذات الآية القرآنية أو تفسيرها وتأويلها .
رابعاً : إتيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الفعل المأمور به من عند الله من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
وتقدير الآية أعلاه : ولكم في رسول الله أسوة حسنة في الإمتثال لأمر الله ) وهناك مسألتان :
الأولى : هل يكفي الإمتثال للأمر الإلهي من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرة واحدة أم لابد من التكرار ، الجواب هو الثاني ، وهو من معاني وخصائص الدعوة إلى الله , وتبليغ الرسالة ، ومن عمومات قوله تعالى [بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ] ( ).
الثانية : هل يلزم الفورية بقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقول المأمور به، والتبليغ الجواب نعم، وتتجلى هذه الفورية بتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية حالما تنزل عليه، وإمتثاله للأمر الوارد فيها، وتأكيد مضمونها في السنة القولية والعقلية.
ومن الإعجاز في المقام تكرار تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية، وفي كل مرة يتلو فيها الآية التي تتضمن الأمر [قل] من التكرار ولا يضر بهذا المعنى ما إذا كان متعلق القول غير حاضر، ويحتمل لفظ[قل] من جهة التكليف وجوهاً:
الأول : إرادة خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جموداً على النص.
الثاني : شمول المسلمين بالخطاب، وفيه وجوه :
أولاً : نزول الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأصالة وإلى المسلمين بالتبعية .
ثانياً : توجه الأمر إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى المسلمين في آن واحد وتقدير الآية(قولوا يا أيها الكافرون لا نعبد ما تعبدون).
ثالثاً : المقصود من الخطاب حكام وعموم المسلمين ، إذ يأتي الخطاب أحياناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمراد المسلمون ، وعليهم أن يقولوا ما يأمر به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ نزل القرآن بلغة (إياك أعني وأسمعي يا جارة ) .
والصحيح هو الثاني أعلاه ، وفيه آية في جهاد المسلمين في سبيل الله، وهو من مصاديق قوله تعالى [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) فهم [خَيْرَ أُمَّةٍ] من جهات :
الأولى : تلقي الخطاب من عند الله بالأمر بالقول .
الثانية : تشريف المسلمين بتفضل الله عز وجل بأمرهم بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من مصاديق خاتمة الآية السابقة[وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالثة : صبغة القرآنية في تلقي الأمر الإلهي ، وهو من مصاديق سلامة القرآن من التحريف والتبديل والتغيير.
الثالث : يتلقى المسلمون لفظ[قل] والأوامر من عند الله إلى رسوله الكريم بالقبول والرضا والغبطة والمبادرة إلى العمل، ومن أسرار تعدد لفظ [قل] في القرآن المندوحة والسعة للمسلمين بتعدد الأفراد التي يصدق فيها الإمتثال , ولا يعني هذا التغيير والترديد فيها، إنما تفيد كثرة الأمر[قل] للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين إرادة فوزهم بالأجر والثواب، ويدل على المعنى الأعم إتحاد صيغة الأمر[قل] ومجئ آيات بالأمر بصيغة الجمع كما في قوله تعالى[قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ]( ).
الوجه الثاني : ورود الأمر في القرآن إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم [قل ] ليخاطب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهل الكتاب كما في قوله تعالى [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ] ( )، وأغلب هذه الآيات نزلت في المدينة لوجود طوائف من اليهود فيها وهم : بنو النضير ، بنو قريظة ، بنو قينقاع .
وجاء الوعد الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء على نحو القضية الشخصية والعامة ، وفي باب المعارك والغزو أو في بناء صرح الإسلام ، وفي مرسلة محمد بن سيرين (نبئت أن عبد الله بن مسعود ، كان يقول : كل ما وعد الله رسوله قد رأينا غير أربع : الدجال ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، ويأجوج ومأجوج , وقال : ونبئت أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول : قد مضى الدخان ، كان سنين كسني يوسف ، والبطشة الكبرى يوم بدر وقد انشق القمر) ( ).
وتوالي مصاديق تنجز الوعد الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن أسرار هذا التوالي إقامة الحجة على الناس في صدق نبوته ، وزيادة إيمان المسلمين ، وبيان قانون وهو مصاحبة الإعجاز لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعاقب مصاديق تنجز الوعد الإلهي له في حياته وبعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى .
و( عن انس بن مالك قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين فقال انثروه في المسجد قال وكان اكثر مال اتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ولم يلتفت إليه .
فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه فما كان يرى احدا الا اعطاه إذ جاءه العباس فقال يا رسول الله أعطني فاني فاديت نفسي وفاديت عقيلا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ فحثا في ثوبه , ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال مر بعضهم يرفعه إلي , قال لا قال فارفعه انت على قال لافنثرمنه ثم احتمله فالقاه على كاهله ثم انطلق قال فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خفى عليه عجبا من حرصه .
فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثم منها درهم( ) ( ).
الوجه الثالث : بيان قوانين في الإرادة التكوينية والتشريعية، وتأكيد عالم الحساب والجزاء في الآخرة بلغة الحجة والتحدي والبرهان، ومن النظريات اللغوية الحديثة ما يسمى بالتداولية في تجلي المعنى من الجمع بين اللفظ وقرائن السياق بلحاظ أن المعنى ليس ملازماً لكلمات , وأنها تأتي بمعان متعددة بحسب الجمع بينها وقصد المتكلم.
لقد جاءت خطابات الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بغاية الوضوح، وبما يمنع من اللبس والترديد وإن تعاقبت الأجيال ، فكل فرد من (قل) هو مدرسة وشاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وضياء ينير سبل الهداية للمسلمين والناس جميعاً.
ويترشح عن الجمع بين ألفاظ (قل) وموضوعها والغاية الحميدة منها قوانين متعددة، وذخائر من العلوم، ومن الإعجاز في آية البحث تكرار لفظ ( قل ) في الآية مرتين، وموضوع الأول أعم من الثاني مع بقاء موضوع وحكم كل واحد منهما إلى يوم القيامة .
ومعنى برز أي تقدم وصار في البراز من الأرض (وقرأ أبو حيوة « لبُرِّز بضم الباء وكسر الراء وشدها . ( )
أي يتوجه الخطاب الى المنافقين بأنه إذا إخترتم القعود وعدم الخروج إلى الجهاد ، فان الله يبعث المؤمنين على البروز إلى آجالهم, وما مرسوم في المصاحف ( لبَرَزَ ) هو الصحيح .
ومن الإعجاز في الآية توجه الخطاب فيها إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل لو كنتم) وهل هو من الإحتجاج أم أن القدر المتيقن منه هو إقامة الحجة والبرهان على الذين كفروا وعلى أهل الكتاب، وأن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين إنما هو للبيان والتأديب والإرشاد.
الجواب لا تعارض بين الأمرين، وليس من دليل بحصر الإحتجاج على غير المسلمين، وجاء الإحتجاج في الآية بقانون تعيين أوان الموت وأجل الإنسان من عند الله عز وجل، قال سبحانه[َإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ).
وجاءت الآية بلفظ ( لو ) وهو حرف إمتناع لإمتناع، أي أنهم في واقع الحال كانوا في ميدان المعركة , لم يفصل بينهم وبين القتل إلا رحمة الله، ولم يأمر الله عز وجل نبيه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بأن يحتج عليهم بحتمية الموت وأن خاتمة الحياة هي مفارقة الروح للجسد ليغادرا معاً الدنيا وإلى الأبد كما في قوله تعالى[كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( ) .
وجاءت الآية بخصوص القتل بقوله تعالى[الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ]( )، وبين الموت والقتل عموم وخصوص مطلق، فكل قتل هو موت وليس العكس، فقد يأتي الموت للإنسان من مرض أو كبر أو هرم، وقبض لروح الإنسان، أما القتل فهو نوع مفاعلة، وفيه أطراف:
الأول : القاتل.
الثاني : القتل.
الثالث : المقتول.
لتتضمن الآية في مفهومها الثناء على المؤمنين الذين أستشهدوا في معركة أحد، فانهم قتلوا في سبيل الله وفازوا بالحياة الأبدية في جنان الخلد، أما القتل في البيوت الذي أخبرت عنه آية البحث، فهو على جهات:
الأولى : القتل أو الموت في البيوت لصفة الإيمان، لبيان حقيقة وهي إذا تخلف المؤمنون عن الخروج إلى أحد، ولهجوم الذين كفروا , وغزوهم المدينة، وقيامهم بدخول البيوت، والبطش بالذين آمنوا، والإنتقام منهم لقتلاهم في معركة بدر.
الثانية : مجئ القتل بسبب الخصومات والنزاع الشخصي والعصبية.
الثالثة : تعدد أسباب القتل، ومنها ما يكون في سبيل الله، وإن حدث في البيوت.
الرابعة : تقييد الآية بأن القتل يأتي للذين حلً أجلهم، وهم نائمون في فراشهم ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ] ( ).
ولم يرد لفظ اشترى وكذا لفظ [فَيَقْتُلُونَ][ وَيُقْتَلُونَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان عظيم منزلة الشهداء وإنفرادهم بخصوصية ومرتبة رفيعة عند الله , وإذ ذكرت الآية أعلاه قتل المسلمين لغيرهم وتعرضهم للقتل على نحو الإجمال ، فقد تضمنت آية البحث والآيتان اللتان سبقتاها الدلالة على قاعدة كلية وهي أن قتل المؤمنين لغيرهم أكثر من تعرضهم للقتل ، إذ ورد قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] ( ) .
وأخبرت الآية السابقة عن صعود المؤمنين في الجبل وفي الأرض المنبسطة فراراً من شدة بأس الذين كفروا بعد خطأ أغلب الرماة بتركهم مواضعهم ، وما يدل عليه هذا الصعود بالدلالة الإلتزامية على سلامتهم من مطاردة العدو , لاسيما وأنه جاء للبطش بهم طلباً لثارات معركة بدر وخسارة وهزيمة الذين كفروا ، ثم جاءت هذه الآية بالإخبار بأن نعمة النعاس واقية من عند الله للذين آمنوا، وهو حرز من التعرض للقتل .
فان قلت قد سقط سبعون شهيداً في معركة أحد , والجواب تضمنت آية الشراء أعلاه البشارة بالجنة للذين يقاتلون في سبيل الله، وهم على أقسام :
الأول : الذين يُقتلون في سبيل الله .
الثاني : الذين يقتلون أفراداً من الذين كفروا .
الثالث : الذين يقتلون من الكفار ثم يُقتلون .
الرابع : الذين يخرجون إلى المعركة , فلم يقتلوا أحداً , ولم يقتلهم الذين كفروا , بلحاظ كبرى كلية وهي بين القتال والقتل عموم وخصوص مطلق ، فالقتال أعم فقد يحدث القتال ولا يحدث قتل ،أو يقع القتال والقتل ولكن شطراً من الجيش يخرجون سالمين ومن الإعجاز في الآية أعلاه مجيؤها بصيغة الإطلاق من جهة الفوز بالجنة باشتراك المؤمن بالقتال بقصد القربة ورجاء مرضاته تعالى ، ليخرج بالتخصيص المنافقون الذين إنخزلوا في منتصف الطريق إلى معركة أحد .
ولكن آية البحث تشملهم فيما يخص لغة الإحتجاج واللوم على الخشية على النفس وحرمانهم من نعمة النعاس وإقامة الحجة عليهم بأن أجلهم إذا حلّ يأتيهم القتل أو الموت ولو في بيوتهم من باب الأولوية القطعية فلقد غدروا وخلوا بين أخوانهم من الأنصار والمهاجرين أثناء التوجه إلى معركة أحد ، وأصروا على الإمتناع عن الدفاع عن النبوة والتنزيل ، فكان رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سالماً من معركة أحد خزياً لهم , وإستبشر أهل المدينة برؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق العودة , ولما رأت بعض المؤمنات طلعته البهية تشرق على سهول ودور المدينة قالت مؤمنة من الأنصار أصيب أبوها وأخوها وزوجها : (كل مصيبة بعدك جلل ) ( ) أي صغيرة في ذاتها وأثرها.
و(فخرج النساء ينظرون إلى سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكانت أم عامر الأشهلية تقول: قيل لنا قد أقبل النبي صلى الله عليه وسلّم ونحن في النوح على قتلانا، فخرجنا فنظرت إليه فإذا عليه الدرع كما هي، فنظرت إليه فقلت: كل مصية بعدك جللٌ.
وخرجت أم سعد بن معاذ وهي كبشة بنت عبيد بن معاوية بن بلحارث بن الخزرج تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورسول الله صلى الله عليه وسلّم واقفٌ على فرسه، وسعد بن معاذ آخذٌ بعنان فرسه، فقال سعد: يا رسول الله، أمي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: مرحباً بها! فدنت حتى تأملت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت: أما إذ رأيتك سالماً، فقد أشوت المصيبة. فعزّاها رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعمرو بن معاذ ابنها، ثم قال: يا أم سعد، أبشري وبشري أهليهم أن قتلاهم قد ترافقوا في الجنة جميعاً وهم اثنا عشر رجلاً وقد شفعوا في أهليهم.
قالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ ثم قالت: ادع يا رسول الله لمن خلفوا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: اللهم أذهب حزن قلوبهم واجبر مصيبتهم، وأحسن الخلف على من خلفوا ( ) .
لقد أدرك المسلمون والمسلمات أن عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سالماً دوام للإسلام ، وتبكيت للمنافقين ونقش لذلهم في صفحات التأريخ ، فجاءت آية البحث لبيان قانون وهو أن معركة أحد كانت للإمتحان ، وإختباراً لمراتبهم في سلّم الإيمان، وتهذيباً للأفعال ، وإقامة للحجة على الذين كفروا الذين لم يكتفوا بالجحود بل ساروا بالجيوش لمحاربة الإسلام .
ومن إعجاز الآية لومها للذين شغلتهم أنفسهم وأخذوا يتساءلون بصيغة الأنكار : لو كان الخيار لنا ما تعرضنا للقتل في معركة أحد ، وأظهروا ميلهم إلى حياة الدعة والمهادنة , ومنه أنها تتضمن في مفهومها الثناء والمدح للمؤمنين من جهات :
الأولى : الثناء على الذين قتلوا من المؤمنين في معركة أحد تحت راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لم تهمهم أنفسهم ،بل ضحوا بها قربة إلى الله وإن قيل قد أهمتهم أنفسهم بأن سعوا إلى النعيم الدائم في الآخرة ، وإشتروا الجنة بالشهادة , فالجواب هذا صحيح ، وكان همهم على وجوه :
الأول : الهم والحرص على سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والجرح .
فان قلت قد أصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجراحات المتعددة في رأسه ووجهه , وسالت الدماء منه ، وشق على المسلمين إيقاف نزول الدم حتى قامت فاطمة عليها السلام بحرق حصيرة , ثم جعلت رمادها على الجرح .
والجواب لقد بذل أهل البيت والمؤمنون وسعهم في الدفاع عنه، وحالوا بصدورهم وظهورهم بين سهام ونبال الذين كفروا وبينه، وسقط عدد منهم وهم يدفعون عنه مثل مصعب بن عمير ، ومنهم من قاتل دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلقى السهام وضربات السيوف ولكنه لم يقتل في معركة أحد مثل أبي دجانة وأم عمارة التي ظلت جراحاتها ظاهرة للعيان وشاهداً على شدة البأس والأذى الذي لاقاه المؤمنون يوم أحد .
ولم تكن نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ إلا معجزة من عند الله ، وإلا ماذا يفعل عدد قليل من أهل البيت والصحابة الذين يحيطون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في دفع آلاف المشركين وهم موتورون وصاروا قريبين منه .
ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يباشر القتال بنفسه ، ويحث عليه ، ونادى الذين فروا وإنسحبوا من المؤمنين ودعاهم إلى الرجوع إلى ميدان المعركة ، ويحتمل نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] ( ) وجوهاً :
أولاً : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بأسمائهم ، وتقدير الآية السابقة والرسول يدعوكم في أخراكم بأسمائكم .
ثانياً : يدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بحسب التقسيم القرآني ، كما لو قال : يا أيها المهاجرون ، يا أيها الأنصار.
ثالثاً : نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بحسب قبائلهم وطوائفهم ، كما لو قال : يا أيها الأوس ، يا أيها الخزرج .
رابعاً : نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالسمات الإيمانية المعروفين بها والتي تندبهم إلى الرجوع لميدان المعركة ، كما لو قال : يا أصحاب بيعة العقبة ، يا أهل معركة بدر ، كما وقع في معركة حنين إذ دعاهم بالقول يا أصحاب السمرة ، يا أصحاب الشجرة ) لإرادة بيعة الرضوان في بيعة الحديبية ، لأنها وقعت تحت الشجرة .
خامساً : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه على نحو الإجمال من غير ذكر أسماء أو نسب معين ، كما لو كان يقول: أرجعوا يرحمكم الله ) .
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق الآية السابقة ، وهل يمكن تقدير الآية : والرسول يدعوكم ليثيبكم الله غما بغم ، وتقديرها : والرسول يدعوكم لينزل الله عز وجل عليكم أمنة نعاساً .
الجواب لا مانع من هذا التقدير لبيان توالي فضل الله على المسلمين وندبهم إلى الرجوع إلى المعركة بعد الفرار ، والإستعاذة من الشيطان ووساوسه .
ويتصف هذا الوجه من الأوامر الإلهية بمعاني الإحتجاج وإقامة البرهان على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووجوه الإلتقاء بينها وبين نبوة الأنبياء السابقين ، و( عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) ( ).
ترى ما هو النفع العام في الدنيا والآخرة من الأمر بلفظ [قل] في القرآن، وتتجلى في الجواب على هذا التساؤل آيات من إعجاز القرآن من جهات :
الأولى : الذب عن الإسلام والدفاع عن النبوة ، وبيان صدق نزول القرآن من عند الله .
الثانية : إقامة الحجة على الذين كفروا في لزوم نبذ الكفر والضلالة.
الثالثة : دفع ضرر الذين كفروا والوقاية منهم ، ليكون لفظ [قل] في القرآن من أسباب دفع الضرر عن المسلمين ومن مصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
الرابعة : تفقه المسلمين في الدين، وتنمية ملكة الجواب والإحتجاج عندهم ، ومن الآيات أن القرآن حجة بالغة وبرهان ساطع تتجلى مصاديقه في كل زمان سواء بالإحتجاج بذات اللفظ القرآني أو بالسنة النبوية أو بمصاديق مستحدثة، وشواهد كونية وأمارات عامة تدل على النفع العام من ورود لفظ[قل] في القرآن.
الخامسة : إعانة الناس على دخول الإسلام بالتدبر في معاني لفظ[قل] في القرآن، وقد يرد أحياناُ بصيغة السؤال ثم يرد الجواب بذات لفظ (قل) كما في قوله تعالى[قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ]( ).
ومن الآيات في لفظ [قل] في القرآن أنه لم يختص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل يتوجه أيضاً إلى بعض الأنبياء وهو من مصاديق قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( ).
ولا تختص أحسن القصص بلفظ [قل] في القرآن بذات القصة بل بإحتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالآية ولفظ [قل] فهو يأتي على نحو القصة في القرآن ليكون مناسبة لإحتجاج المسلمين بقصص الأنبياء , وكأنه ليس ثمة مدة مديدة وأفراد زمان طولي بين قصص الأنبياء وبين إحتجاج المسلمين بها ، كما في قوله تعالى خطاباً لإبراهيم عليه السلام[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ) وهو من مصاديق أحسن القصص المتجددة في تعاقب الأزمنة والأحقاب والقرون.
ومن الآيات في المقام ووجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ الآية أعلاه وجوه:
أولاً : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذات الأذان والإعلان والإسلام والدعوة إلى حج بيت الله الحرام التي قام بها إبراهيم عليه السلام، وهل كان الوقوف على عرفة يوم التاسع من ذي الحجة من مناسك الحج التي أداها إبراهيم عليه السلام ودعا الناس إليها، الجواب نعم ومن قبله آدم وحواء، وتفيد بعض الأخبار أن لإبراهيم موضوعية في تسمية عرفة.
وعن ابن عباس قال: إن إبراهيم لما رأى المناسك عرض له الشيطان عند المسعى ، فسابق إبراهيم فسبقه إبراهيم، ثم انطلق به جبريل حتى أراه مِنى فقال: هذا مناخ الناس.
فلما انتهى إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب.
ثم أتى به جمرة الوسطى فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب.
ثم أتى به جمرة القصوى فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، فأتى به جمعاً، فقال: هذا المشعر. ثم أتى به عرفة، فقال: هذه عرفة.
فقال له جبريل: أعرفت؟ قال: نعم. ولذلك سميت عرفة. أتدري كيف كانت التلبية؟: أن إبراهيم لما أمر أن يؤذن في الناس بالحج، أمرت الجبال فخفضت رؤوسها ورفعت له القرى، فأذن في الناس بالحج)( ).
ثانياً : إزاحة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأصنام التي حول الكعبة يوم الفتح , وعددها ثلاثمائة وستون صنماً .
ثالثاً : فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمكة وقهر الذين كفروا من قريش .
رابعاً : تثبيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأحكام حج بيت الله الحرام ، وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: خذوا عنى مناسككم) ( ) .
خامساً : تعاهد المسلمين حج بيت الله وإلى يوم القيامة ، لقد دعا إبراهيم عليه السلام الناس لحج بيت الله الحرام بأذان وإعلان على نحو القضية الشخصية ولمن حوله من قبيلة جرهم ، أما دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكانت ولا زالت للناس كافة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
سادساً : ضعف أثر دعوة النبي إبراهيم عليه السلام بعد مغادرته وإسماعيل عليه السلام إلى الرفيق الأعلى، وإن بقيت معالم الحنيفية الإبراهيمية ، أما دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهي متجددة في كل زمان بالمسلمين وعمارتهم للمسجد الحرام .
سابعاً : لقد جاءت بعد أذان إبراهيم للناس بالحج فترة جاهلية وعبادة الأوثان ووأد البنات وطغيان مفاهيم الشرك ، وليس بعد نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا الثبات على الإيمان , وتعاهد سنن التوحيد، قال تعالى[إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
لقد إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لإفساد بعض ذريته في الأرض، فرد الله عز وجل عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) فمن علمه تعالى توافد الحاج من المسلمين كل عام إلى البيت الحرام لتجديد التلبية بقولهم جميعاً (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك).
وليقوم وفد الحاج برجم الشيطان في دلالة على إرادة قهر النفس الشهوية والغضبية وحجب دسائس الشيطان عن المسلمين والناس جميعاً .
وعن ابن عباس رفعه قال: لما أتى إبراهيم خليل الله المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة ، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ، ثم عرض له عند الجمرة الثانية ، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ، ثم عرض له عند الجمرة الثالثة ، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض، قال ابن عباس : الشيطان ترجمون ، وملة أبيكم إبراهيم تتبعون)( ).
وسميت الجمار جماراً:
الأول : لأن آدم كان يرمي إبليس فيجمر بين يديه، أي يسرع وينهزم.
الثاني : سميت باسم الأرض والبناء.
الثالث : لأنه مجمع الحصى بمنى فكل كومة من الحصى جمرة، والجمع جمرات، فسمي باسم ما يرمى.
ويجب ان يرمي في:
الأول : اليوم العاشر جمرة العقبة وحدها.
الثاني : اليوم الحادي عشر والثاني عشر الجمار الثلاث، كل جمرة بسبع حصيات.
الثالث : إذا بات الحاج ليلة الثالث عشر في منى، فعليه الرمي في اليوم الثالث عشر , وإن لم يجب عليه المبيت فيها.
ووقت الرمي للمختار ما بين طلوع الشمس الى غروبها، وأفضل الأوقات عند زوال الشمس عن كبد السماء، ويجوز الرمي ليلاً لعذر كالخائف والمريض والذي يستوعب العمل والشغل نهاره ونحوهم.
ولو حصل الزحام في الرمي طيلة النهار جاز للمرأة والكبير ومن يخشى الزحام الرمي ليلاً، وقد يستحب خصوصاً في هذا الزمان.
تجوز النيابة في الرمي لمن يخشى الزحام والتدافع الشديد والأمراض المعدية ذكراً كان أو أنثى كبيراً أو صغيراً) ( ).
ومن الإعجاز في مناسك الحج أن كل فعل منها يؤتى به مرة واحدة أو مرتين إلا رمي الجمرات فانه يتكرر لثلاثة أيام بالنسبة للنفر الأول وأربعة أيام بالنسبة للذين يبقون حتى النفير الثاني، ومجموع الحصى التي يقذفها كل حاج أو حاجة سبعون حصاة ، لا تؤخذ إلى من الحرم في دلالة على موضوعية الرمي، وما يرمى به .

قانون سبب النزول
كثيرة هي الآيات التي لها أسباب نزول ، وأفرد عدد من العلماء بابا لهذا العلم وألفت كتب خاصة به ووردت أسباب النزول بخصوص آيات مخصوصة , وبالإمكان توسعة هذا العلم بلحاظ التدبر في مضامين الآية القرآنية وبيان أسباب ظاهرة جلية أو مستقرأة لنزول الآية القرآنية وبالذات أو بالواسطة طرداً وعكساً .
ليكون باب أسباب النزول علماً مستقلاً وقانوناً تتضمنه درر أغلب آيات القرآن ، ولا يطلب هذا العلم لذاته فقط بل تستنبط منه المسائل وتقتبس منه المواعظ , وفيه فتح علمي جديد يطل على الأرض باشراقة من ذخائر القرآن وعلومه غير المتناهية .
وهل هذا القانون هو نفسه قانون ( موضوع الآية ) الجواب لا إنما يبقى ذات مضمون وعلة النزول وسبب نزول بعض آيات القرآن علم بذاته في تفسير وبيان كل آية من القرآن .
وسبب نزول آية البحث أمور :
الأول : حال الإنكسار والخسارة التي لحقت بالمسلمين في معركة أحد .
الثاني : فضل الله عز وجل بالتخفيف عن المؤمنين في معركة أحد .
الثالث : لقد نزلت الآية لمنع المسلمين والناس من الظن بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خسر معركة أحد فهو لم يخرج منها إلا منتصراً غانماً هو وأصحابه بالأمنة والنعاس كنعمة نازلة من عند الله , أما الذين كفروا فقد إنقلبوا بخيبة وخسران .
الرابع : من أسباب نزول آية البحث الإخبار عن نزول نعمة الأمنة والنعاس من بطنات العرش , فلولا هذه الآية لم يدرك الناس كنهها وأنها حق وصدق لا يقبل الترديد أو اللبس ، وتقدير الآية بلحاظ سبب النزول : أنزل الله هذه الآية لتعلموا أنه أنزل الأمنة نعاساً على المؤمنين في معركة أحد .
وفيه بيان لقانون وهو أن الآية القرآنية توثق الوقائع والأحداث، وتمنع من نسيانها أو تحريفها أو تبديلها .
قوله تعالى [وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ]
لقد خلق الله الناس ليكونوا في دار إبتلاء مدة حياتهم في الدنيا وقبل إنتقالهم إلى عالم الآخرة ، وفي التنزيل [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] ( ) والإبتلاء بالنعم من العافية والغنى والجاه وطول العمر والسلامة من الأدران والآفات ، والنعمة في الأولاد ، والبلاء بالفقر والعوز والمرض وحال الضراء والضيق والشدة والحاجة .
لينال المؤمنون الأجر والثواب , وتقوم الحجة على الكافرين ، قال تعالى [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ] ( ).
والنسبة بين الإبتلاء مطلقاً وبين الإبتلاء بما في الصدور هي العموم والخصوص المطلق ، فالإبتلاء بما في الصدور أخص وهو مرآة للإبتلاء .
وتحتمل النسبة بين الإبتلاء في الدين والإبتلاء في البدن وجوهاً:
أولاً : نسبة التساوي ، وهما بعرض واحد بالذات والأثر .
ثانياً : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وفيه شعبتان :
الأولى : الإمتحان والإبتلاء في الدين أكبر وأشد من الإبتلاء في البدن وهو الأشد والأشق على الإنسان .
الثانية : الإمتحان في البدن , وآفة المرض هي الأشد.
ثالثاً : بين الإبتلاء في الدين والإبتلاء بالبدن عموم وخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء ، وأخرى للإفتراق ، فمادة الإلتقاء الإبتلاء والإختبار من عند الله ، ومادة الإفتراق تعلق الإبتلاء في الدين بالعقيدة والمبدأ ، أما الإبتلاء في البدن فيتعلق بالصحة والمرض ونحوهما.
رابعاً : التباين بين الإبتلائين .
والمختار هو ثالثاً أعلاه والشعبة الأولى من ثانياً أعلاه , ويحتمل قوله تعالى [وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ] ( )وجوهاً :
الأول : إنه من الإبتلاء والإمتحان في الدين .
الثاني : المقصود في الآية الإبتلاء في البدن .
الثالث :إرادة المعنى الأعم وأن المقصود في الآية هو المعنى الأعم ، وهو على شعب :
الأولى : إرادة الإبتلاء في الحياة الدنيا دون الآخرة .
الثانية : الإبتلاء في عالم الآخرة وأهوالها .
الثالثة : الإطلاق في الإبتلاء وشموله للدنيا والآخرة .
وهذه الوجوه من مصاديق آية البحث وضروب الإبتلاء المذكورة فيها .
لقد أراد الله عز وجل إظهار إخلاص المؤمنين في إيمانهم بصبرهم وجهادهم في سبيل الله , وبيان حقيقة تأريخية للناس وهي رضا المؤمنين بقضاء الله وعزمهم على مواجهة الذين كفروا حتى تحقيق النصر أو الشهادة ، وفي التنزيل [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ] ( ) , وفي آية البحث حذف وتقديره على وجوه :
أولاً : وليبتلي الله ما في صدوركم من العزم على طاعة الله ورسوله .
ثانياً : وليختبركم الله عز وجل في حال الضراء والقتال .
ثالثاً : ليتبين المؤمنون من المنافقين بالإبتلاء والإختبار .
وتبين الآية أن ما جرى من القتال باذن الله عز وجل ، وفيه منافع عظيمة للإسلام والمسلمين ، وهو مناسبة للإختبار والإمتحان ، وعندما يعلم المسلمون أن ما يصيبهم من الجراحات وسقوط القتلى هو بعلم وإذن الله تهون عليهم المصائب .
وفيه بناء لصرح الإيمان إذ يتلقى المسلمون الإذى بصبر وشكر لله عز وجل ، وفي التنزيل [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا]( ).
وتؤكد الآية علم الله عز وجل بما في الصدور وأنه سبحانه يخرج النوايا والعزائم والمبادئ في سريرة الإنسان بمبرز خارجي كاشف لها ، وفيه حجة للمؤمن في الدنيا والآخرة بتفانيه في طاعة الله عز وجل في ملاقاة الذين كفروا في معركة أحد .
ترى لماذا لم تقل الآية ( وليبتلي الله ما في الصدور) ونحوه بما يدل على إرادة المعنى الأعم ، وأن معركة أحد مناسبة لإختيار المؤمنين والذين يقاتلونهم من الذين كفروا .
الجواب لقد أظهر الذين كفروا ضلالتهم وظلمهم وتعديهم فكشفوا عن جحودهم ، وأقاموا الحجة على أنفسهم ، فأراد الله عز وجل أن يبين لهم وللناس أن الإيمان مستقر في صدور المؤمنين وأنهم سيستمرون في الجهاد والدفاع ، لبيان حقيقة وهي ذهاب سعي الذين كفروا في محاربة الإسلام هباء ولن يجنوا منه إلا الخيبة والخسران .
وهل يبعث قوله تعالى [وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ] ( )، الفزع والرعب في قلوب الذين كفروا , الجواب نعم ، وتلك آية في لغة الخطاب بين الله عز وجل وبين المسلمين , وفيها مسائل :
الأولى : بيان الآية لقانون من وجوه :
أولاً : علم الله عز وجل بما في صدور الناس .
ثانياً : تهذيب ما في صدور المسلمين , وما يكمن في نفوسهم من المقاصد والنوايا .
ثالثاً : جاء قبل آيتين قوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ] ( ) وتفضل الله عز وجل وأخبر بأن النوايا والعزائم التي في القلوب يكشفها الله عز وجل بالقول والفعل .
الثانية : إخبار الآية بأن الإمتحان لما في الصدور يصيب الذين كفروا بالفزع والخوف , ويبعثهم على إستحضار مسألة وهي شهادة الله عز وجل على ما في صدورهم .
الثالثة : ترغيب المسلمين بالإجتهاد في طاعة الله ، وإخلاص النوايا وصدق العزائم .
الرابعة : آية البحث حرب على النفاق ، وإستئصال له , ومنع للمنافقين من إظهار مفاهيم الشك والرياء والغدر , وجاءت آية البحث بصيغة المضارع والإستقبال التي تتجلى في قوله تعالى [لِيَبْتَلِيَكُمْ] من جهات :
الأولى : حرف العطف والإستئناف (الواو) .
الثانية : لام التعليل وتعلق تحقق المعلول على علته .
الثالثة : صيغة المضارع في الفعل التي تفيد الإستمرار والتجدد، ومن الإعجاز في التعدد في دلالة صيغة المضارع بكلمة واحدة بعث المسلمين على تنزيه صدورهم من أسباب الشك والريب وحب الدنيا .
لقد كانت خسارة المسلمين في معركة أحد بالغة وإن لم يخسروها ولم ينهزموا فيها .
وجاءت هذه الخسارة بعد نصر عظيم فازوا به في معركة بدر ، وبيان الله عز وجل بأنه من عند الله لقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )، فانتقلت آية البحث إلى موضوع خفايا الصدور وما تتكون فيها من النوايا والعزائم أي أن قوله تعالى [مَا فِي صُدُورِكُمْ] أعم من النوايا والعزائم ليشمل الأسباب والموضوع الذي تترشح عنه , وكيفية تلقي المسلمين للوقائع والأحداث ، وفيه دعوة لصفاء ونقاء الصدور ، وخلوها من الغل والحسد ، قال تعالى في الثناء على أهل الجنان [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ] ( ).
وهل يستطيع غير الله أن يبتلي ما في صدورهم مجتمعين أو متفرقين ، الجواب لا ، وهو من دلائل التوحيد وهذا الإبتلاء أعم من كشف وإستبيان ما في الصدور بل إنه إظهار بالقول والفعل لما في الصدور , فيتجلى إيمان المسلمين بإجتهادهم في الدفاع وتفانيهم في التضحية في سبيل الله عز وجل .
وصار المسلمون والناس بعد نزول هذه الآية يترقبون الأسباب التي تكشف بواطن النفوس والخفايا التي تنطوي عليها الصدور وكل سبب حجة ومصداق لآية البحث , وليس من حصر لهذه الأسباب ومنها آيات القرآن وكل آية منها موضوع ومناسبة لإكتشاف ما في الصدور .
وهل يختص الأمر والتسبيب بالإبتلاء بالآيات القرآنية التي تنزل بعد آية البحث بلحاظ صيغة المضارع فيها .
الجواب لا ، فكل آية من القرآن تكون موضوعاً للإبتلاء وإن كانت من الآيات والسور المكية التي نزلت في بدايات البعثة النبوية ومن هذه الأسباب مواضيع نزول الآيات والوقائع والأحداث التي جرت للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ومنها معركة أحد التي حدثت بها أمور لم تحدث في غيرها كماً وكيفاً ونكبات تعرض لها المسلمون صارت موعظة ودرساً لهم ، فيكون الإبتلاء والإختبار بالأقوال والأعمال ، ويشمل السلامة من الكآبة والحزن والوهن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ) .
فيكون من إعجاز آية البحث صيرورة إخبارها عن إبتلاء المسلمين بكشف ما في صدورهم سبباً لإمتلاء صدورهم بالأمن , وهو من عمومات قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ومن وجوه تفسير وتقدير الآية :
الأول : ليبتلي الله ما في صدوركم لزيادة إيمانكم .
الثاني : يزيد الله إيمانكم ليبتلي ما في صدوركم وكون الإبتلاء بما في الصدور معلولاً لا يعني أنه لا يكون علة إذ تتفرع عنه مسائل متعددة وتترشح عنه منافع كثيرة لقانون من الإرادة التكوينية بخصوص الإبتلاء وهو ما من إبتلاء من عند الله للمؤمنين إلا وفيه منافع كثيرة في النشأتين لذا جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الإبتلاء والإمتحان .
الثالث : ليبتلي الله ما في صدوركم لإصلاحكم للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , والتأهيل العام والخاص للدعوة إلى الله وعمل الصالحات ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
الرابع : ليبتلي الله ما في صدوركم بعد المصيبة في واقعة أحد والخسارة التي نزلت بكم يومئذ .
الخامس : لم تقع معركة أحد إلا بإذن الله , وليبتلي الله ما في صدوركم .
السادس : لقد أحسنتم الجهاد في واقعة بدر ليبتلي الله ما في صدوركم .
السابع : لقد هجم الذين كفروا على الإسلام والمسلمين في معركة بدر وأحد , وهو من معاني الإبتلاء لما في صدور المسلمين , وفضح المنافقين , قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ]( ).
ويحتمل الإبتلاء في المقام وجوهاً :
أولاً : إنه إمتحان خال من العون والمدد .
ثانياً : كثرة وجوه وصيغ الإمتحان والإختبار , وعندما يجتاز المسلمون إمتحاناً يبتليهم الله بامتحان آخر .
ثالثاً : التعدد في الإمتحان من جهات :
الأولى : مجئ موضوع وإبتلاء يكون إختباراً للمسلمين عامة .
الثانية : الإمتحان بقضية تخص طائفة من المسلمين ، كما في الإبتلاء بالقتال وشدته في معركة أحد .
الثالثة : مجئ الإمتحان وتمحيص القلب للفرد من المسلمين .
رابعاً : مجئ الإبتلاء مع المدد والعون من عند الله عز وجل.
والصحيح هو الرابع أعلاه ، ويكون الثاني والثالث في طوله ، ويتجلى المدد والإعانة من عند الله للمسلمين بلحاظ هذه الآيات من وجوه :
الأول : إبتداء هذه الآيات بالنداء بصيغة الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وفيه مسائل :
الأولى :هذا النداء رحمة بالمسلمين , فينزل الإبتلاء بناحيتهم ورحمة الله تتغشاهم .
الثانية : الخطاب بصفة الإيمان تشريف وإكرام ، وهذا التشريف بذاته مدد وبعث على السعي للتوفيق في الإبتلاء .
الثالثة : دلالة النداء بصيغة الإيمان على علم الله عز وجل بما في قلوب المسلمين , وأنهم إرتقوا إلى منازل الإيمان .
الثاني : دعوة الرسول للمؤمنين في أخراهم مدد وعون خاصة وأنها لم تأت إلا من الوحي ، وتقدير الآية السابقة ( والرسول يدعوكم في أخراكم بأمر من عند الله ) .
الثالث : ذكر آية البحث لنزول النعاس على المؤمنين فهو مدد وسكينة .
الرابع : نعت النعاس بأنه أمنة , وأن الأمن مصاحب له ، وهو مدد وسبيل رشاد ،لإختيار الفعل والقول الذي يترشح عن طاعة الله ورسوله ، وتكون فيه خصائص هذه الطاعة ، ويصير مقدمة لها بلحاظ تعدد مصاديق الطاعة , ووجوه الإستجابة وكثرة مواضيعها وشمول أحكام الشريعة لأمور الدين والدنيا .
قوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ]
التمحيص التنقية وتخليص الشيء مما يلتصق به من غيره، ويراد به في الآية معنى الإختبار وإظهار النوايا، وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : إرادة الخطاب للمنافقين وبما يفيد الوعيد.
الثاني : توجه الخطاب للمؤمنين بلغة الثناء وكيف أن التمحيص يبين صدق إيمانهم.
الثالث : إرادة عموم المسلمين.
ولا تعارض بين هذه الوجوه.
والتمحيص : التطهير والتزكية، وقد ورد قوله تعالى[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]( )، وفي قوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ] بيان لفضل الله عز وجل على المؤمنين، وإخبار بالمنافع العظيمة لدفاع المسلمين في معركة أحد، وصيرورته سبباً نوع طريق للتقوى والصلاح، ونماء لملكة الأخوة الإيمانية بينهم، وهذا الدفاع حرب على مفاهيم الكفر، وإستئصال للنفاق بدليل فضح آية البحث للمنافقين .
ومن الإعجاز فيها أن هذا الفضح لايتعارض مع تضمنها للمدح والثناء للمؤمنين.
وفي الآية بشارة للمؤمنين بأن تلاوة آيات القرآن تزكية لهم، وتطهير لقلوبهم من مفاهيم الشك والريب وهو من عمومات قوله تعالى[هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ]( )، ومثلما تكون النسبة بين المرات الثلاثة التي ورد فيه لفظ (الأمر) في بداية آية البحث عموم وخصوص مطلق.
فكذا النسبة بين لفظ الصدور والقلوب في خاتمة الآية والأعم هو [وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ليشمل الناس جميعاً إلى يوم القيامة .
قوله تعالى [وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]
تبين الآية قانوناً كلياً يبين سعة علم الله وعظيم قدرته وسلطانه، إذ ينفرد الله سبحانه بعلم الظواهر والبواطن ، وفيه حجة ودعوة للناس لدخول الإسلام , والخشية من الله عز وجل بالسر والعلانية.
وأختتمت هذه الآية بثلاثة قوانين تتعلق كلها بالصدر , وخلجات النفس وهي:
الأول : تفضل الله بإمتحان ما في القلوب , وإظهار ما في السرائر من النوايا والعزائم , وإرادة الخير أو الشر .
الثاني : كشف ما في القلوب من الإخلاص والطاعة , أو النفاق والخبث .
الثالث : بيان علم الله بحال القلوب وما فيها من الإيمان أو ضده ، والصبر والجرأة أو الخوف والفزع .
وتحتمل الآية في موضوعها وجوهاً :
الأول : توجه الخطاب في خاتمة الآية للمنافقين على نحو الإنذار والتنبيه والوعيد .
الثاني : خاتمة الآية خطاب للمؤمنين , وصيغة من صيغ الثناء وردت على نحو الجملة الخبرية وشهادة لهم بأن الله يعلم صدق إيمانهم وأنه سبحانه تفضل عليهم بالغم ثم النعاس والأمنة مع الأجر والثواب على كل حال منها ، وعلى حال الأذى والضرر الذي يأتي من الذين كفروا والذي صرفه الله عز وجل عنهم , أي يثيب الله عز وجل المؤمنين على النعمة التي يرزقهم إياها ، وعلى الأذى الذي صرفه عنهم ، وفي التنزيل [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ] ( ).
الثالث : توجه الخطاب في خاتمة الآية إلى الناس جميعاً لتعلق الموضوع بكل فرد منهم ، وتقدير الآية بالنسبة لكل شخص من البشر : والله عليم بذات صدرك ).
الرابع : ليس من خطاب في خاتمة الآية , فهي قانون ورد بصيغة الجملة الخبرية أراد الله عز وجل به الوعد للمؤمنين والثناء عليهم وإنذار وتخويف المنافقين والكفار .
لقد ورد الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجهاد الكفار والمنافقين مجتمعين ومتفرقين بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( )مع التباين في سنخية الجهاد بينهما ، فجهاد الذين كفروا بالدفاع بالسيف ، أما جهاد المنافقين فبالإحتجاج والتخويف .
وقد وردت آيات أخرى تجمع بين المنافقين والكفار , ولكن بخصوص عالم الآخرة بالإشتراك في العذاب بعرض واحد ، وليس من تباين في سنخيته ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا]( ).
وفي سنخية جهاد النبي والمؤمنين للمنافقين نوع مندوحة وسعة لهم ليتوبوا إلى الله عز وجل ، وهذه السعة فضل من الله وإمهال بسبب إسلامهم الظاهري ونطقهم بالشهادتين ، وكما أنه قد يتأثر بعضهم بالمنافق من جهة شروره وخبثه ، فقد ينجذب بعضهم إلى الإسلام بلحاظ أداء المنافق الفرائض والعبادات ، فيقتدي بالمنافق في الظاهر ليكون باطنه موافقاً لظاهره من جهة الإيمان والتقوى ، فيكون حجة على ذات المنافق في الدنيا والآخرة .
بحث بلاغي
من وجوه البلاغة والإطناب المبالغة وهي مصدر رباعي من ( بالغ يبالغ مبالغة ، يقال بالغ الخطيب في المدح وبالغ الصانع في صنعته أي أجادها والفاعل مُبالغ ، والمفعول به مُبالغ فيه .
وقيل بالغ في الحقيقة أي تجاوز الحد فيها إذ يتضمن تجاوز الحد معنى التعدي قال تعالى [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا] ( ) وقيل : أفرط : بالغ في التقدير , وسمى ابن المعتز المبالغة في بديعه بإنها الإفراط في الصفة ، ولكن هناك فارق رتبي بين المبالغة والإفراط , وهو مبالغة منه في تعريف إصطلاح المبالغة .
وعرفه الباقلاني بأنه تأكيد معنى القول ، ولكن المبالغة أعم من التأكيد ، وبينهما عموم وخصوص مطلق ومن أدوات التأكيد : إن ، أنٍّ ، قد ، القسم ، أداء الحصر : إنما ، أحرف التنبيه ، التكرار ، أما الشرطية ، لام الإبتداء ، الحرف الزائد من جهة الإعراب ، نون التوكيد الخفيفة والثقيلة .
وفي قوله تعالى [يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي …]( ) يتكرر الـتأكيد في أداء النداء (يا) ونون التوكيد في [يَأْتِيَنَّ] , والمبالغة بلوغ لأقصى الغاية في البيان والوصف والتفصيل.
والمراد من المبالغة في الإصطلاح النحوي أخص مما يرد في علم البلاغة .
قال ابن خالويه في شرح الفصيح( العرب تبني أسماء المبالغة على اثني عشر بناء: فَعَالِ كَفَساق، وفُعَل كَغُدَر، وفَعّال كغدّار، وفَعُول كَغَدُور، ومِفْعِيل كمِعْطِير، ومفْعال كمِعْطار، وفُعَلة كهُمَزة لمَزَة، وفَعُولة كمَلولة، وفَعَّالة كعلاَّمة، وفاعلة كراوِية، وخائنة، وفَعَّالة كبَقَّاقة؛ للكثير الكلام، ومِفْعالة كمِجزَامة)( ).
لقد جاءت المبالغة في آية البحث بالوصف الحقيقي الذي يتضمن البيان والوضوح ومنع اللبس إذ ذكرت الآية صفات طائفة من المسلمين يوم معركة أحد بصيغة الذم واللوم ، أي من إعجاز القرآن إجتماع الذم واللوم والموعظة والإعتبار وإقتباس الدروس من الآية والموضوع المتحد والمتعدد .
إذ بينت الآية صفات وأمارات النفاق التي ظهرت وبانت في معركة أحد لتكون الدروس المستقرأة من الإنكسار والخسارة في معركة أحد ذات نفع عظيم للمسلمين .
ومن الإعجاز في آية البحث التفصيل في صفات المنافقين يومئذ ، وتنحصر بأمور :
الأول : الكيفية النفسانية ودبيب الخوف واليأس إلى النفوس .
الثاني : صدور المغالطة من المنافقين وتكرارها وتعدد موضوعها لتشمل مقدمات القتال ، وحال قيام المعركة ، فقد أراد المنافقون أن يكون لهم رأي في تعيين موضع القتال ، وفي كيفيته عند نشوبه ، فجاء الرد بالدعوة إلى الشكر لله عز وجل لهم أن الأمر كله لله عز وجل وهو الذي يتفضل ويوحي إلى رسوله الكريم ما يجب عليه وعليكم فعله ، وفي التسليم لأمره جلب للمصلحة ودفع للمفسدة .
الثالث : إنسحاب المنافقين من وسط الطريق إلى المعركة ، وبه جاءت الأخبار المتواترة ، إذ ذكرت الآية قول المنافقين [لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا] وتضمنت الأخبار ذكر قول رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول هذا وإنحياز الجيش له وتركهم القتال .
ولا تختص المبالغة بضروب المدح والثناء فتشمل الذم والوصف بالقبيح ، ومنه الهجاء والتشبيه المذموم في الشعر .
وجاءت آية البحث ببيان صفة المنافقين والذين في قلوبهم مرض بأوصاف متعددة إذ إبتدأت بذكرهم بأنفسهم وإنشغالهم بسلامتها الذي يترشح عنه على نحو الإنطباق إجتناب المبارزة والإجتهاد في ساحة المعركة وكذا السعي لوقف القتال ولو بالتنازل عن الحق ، لذا فمن الإعجاز في آية البحث أنهم لما قالوا [هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ] وجاء الرد والإحتجاج من عند الله عز وجل متعقباً لقولهم ، وهذا الرد من جهات :
الأولى : الأمر من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل).
الثانية :موضوع الأمر وهو القول باللسان (قل) ليدل في مفهومه على عدم عقاب المنافقين على سوء القول والجدال .
الثالثة : البيان والتفصيل في مضمون كل فرد من القولين .
ويسمى الإحتجاج النظري والمذهب الكلامي كما في قوله تعالى [كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي] ( )والمبالغة على قسمين :
الأول : المبالغة في الوصف , وقد تصل المبالغة في الوصف إلى حد الإستحالة .
الثاني : المبالغة في الصيغة , مثل وزن فعلان كالرحمن ، وفعول كالرؤوف .
لقد إبتدأت الآية بصيغة من المبالغة في الوصف وهي نزول النعاس من عند الله ليخالط الأبدان ، ويبعث الأعضاء على التراخي ويمنع من الهم والحزن ويصرف الفزع وتختتم بقوله تعالى [وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] لإرادة الإطلاق والعموم .
ومن الإعجاز أن صيغ المبالغة في صفات الله عز وجل من وجوه الثناء عليه سبحانه , وفيها بيان لعظيم قدرته وسلطانه ومع إطلاقها فهي حق وصدق , وفي التنزيل [هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ] ( ) .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
العدد: 539
التاريخ: 24/7/2012

م/ جواز تولي المرأة القضاء وفق قوانين ومواد منصوصة
الحمد لله الذي جعل المسلمين حكاماً وأمراءً، ولهم دولهم وأمصارهم، وثغورهم التي يدافعون عنها، ويتولون القضاء والحكم بين الناس فيها وفي غيرها ، وهو مقام رفيع، ومن رشحات النبوة، وأغصان التنزيل وهو واجب كفائي لمن أحرز شرائطه , و( عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يُؤْتَى بِالْقَاضِى الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَلْقَى مِنْ شِدَّةِ الْحِسَابِ مَا يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِى تَمْرَةٍ قَطُّ) ( ) .
والقاضي والفقيه والحاكم والمفتي والمجتهد أسماء ومصاديق لمسمى واحد، فيسمى قاضياً لأنه يقضي في الخصومات، وفقيها لإحاطته بالأحكام كالحل والحرمة والصحة والفساد، وإستقرائها من القرآن والسنة وحاكماً لأنه يحكم بين الناس، ومفتياً لأنه يبين الأحكام والقواعد الكلية لتنطبق على مصاديقها، ومجتهداً لإستنباطه الأحكام من أدلتها التفصيلية ولكن موضوع القضاء في الدولة والقوانين الوضعية هذا الزمان مختلف، إذ أن القاضي مقيد بنصوص ومواد لا يحق له تجاوزها، والإفتاء بما هو خارج عنها.
وإجماع علماء الإسلام على عدم جواز تولي المرأة القضاء ، وهو المختار وخالف أبو حنيفة بجواز توليها له في الأموال دون القصاص والحدود، ولكن هناك تباين في الموضوع، فالقضاء في هذا الزمان عمل بمواد قانونية ومسائل وضعية مبينة ولها حد أعلى وحد أدنى في الحكم والغرامة وقد تكون مادة الحكم تعيينية وليس تخييرية بما يخفف الأمر فلا يجوز للقاضي تجاوزها إنما هو أجير مختص يعمل بعقد ويعرض حكمه على من هو أعلى منه من محاكم الإستئناف والتمييز والإدعاء العام ونحوها، ويكون حكمه قابلاً للطعن والنقض.
وأستدل على عدم جواز تولي المرأة للقضاء بأدلة هي:
الأول: قوله تعالى[الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً] ( ) وهو عمدة الأدلة , وإذا كانت المرأة منعت من الولاية الأسرية وهي أصغر الولايات , فمن باب الأولوية منعها من القضاء والوزارة، ولكن ورد في أسباب نزول الآية أعلاه (قال مقاتل نزلت الآية في سعد بن الربيع بن عمرو، وكان من النقباء , وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير وهما من الأنصار , وذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي فقال أفرشته كريمتي فلطمها , فقال النبي لتقتص من زوجها فانصرفت مع أبيها لتقتص منه .
فقال النبي ارجعوا فهذا جبرائيل أتاني وأنزل الله هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أردنا أمراً , وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير ورفع القصاص) ( ).
وصحيح أن المدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول إلا أن الآية خاصة بالحكم داخل الأسرة وتنظيم شؤونها بما يكفل الإستقرار ويبعث السكينة في المجتمعات الإسلامية ، ويخفف عن المحاكم ودوائر القضاء فلا تصل الخلافات داخل الأسرة إليها، بل تبقى ضمن أسوار عالية شيدت صرحها الآية أعلاه وآية[وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً] ( ).
فتنقض آية المودة الخلاف، وتأتي عليه، ولو رفع الزوجان كل خلاف بينهما إلى المحاكم لغصت بهم، وعجزت عن خصومات كثيرة، وصار من الصعب رجوع الزوجين إلى حال المودة والوئام، ولماذا لم يستدل القائلون بعدم تولي المرأة للقضاء بإنحصار الطلاق بيد الزوج دون الزوجة , ولكن ذات النكاح والطلاق عقد بقبول وإيجاب , وللمرأة الخيار التام في عقد النكاح والرضا بالزوج وعلمها بدلالة هذا العقد بالدلالة التضمنية أن الطلاق بيد من أخذ بالساق, ولا بد من التفكيك بين الصلة الزوجية وأحكامها، وبين عمل المرأة أو الرجل خارج المنزل، ولزوم تقيدهما بشرائطه.
وقبل بضع سنوات عقدت ندوة في الإمارات لرجال قضاء من أوربا والدول العربية فقال أحد المحاضرين الأوربيين لماذا يأمر القرآن بضرب المرأة؟ أي أنه يشير لقوله تعالى(وأضربوهن) ( )من الآية أعلاه , قلت لبعض الحاضرين من القضاة آنذاك : هل رددتم عليه بالبيان والحجة. إذ تضمنت الآية أمرين:
أولاً: علة الضرب فلا يصح الضرب إلا بخصوص التي يخاف كراهيتها لزوجها ومعاشرته.
ثانياً : الترتيب، فلا يأتي الضرب إلا بعد مرتبتين وهما:
الأولى: الموعظة والنصح للزوجة والتذكير بوظائفها الشرعية.
الثانية : هجران الزوج للزوجة في الفراش وعلى نحو متكرر , وليس مرة واحدة للغة الجمع[وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ] وإن كانت بلحاظ خطاب الجماعة , وهذا الهجران على وجوه :
أولاً : إجتناب الكلام مع الزوجة التي يخاف نشوزها وخروجها عن الطاعة , وتقدير الآية : وأهجروهن باللسان .
ثانياً : إجتناب الزوج الوطئ مع مبيته معها في فراش واحد .
ثالثاً : إعطاء الزوج ظهره لها في السرير ، وهو أمر شاق لطول الليل وحال السكينة فيه ، ومن الآيات في المقام أن الزوج ينشغل بالأمر أكثر من الزوجة مع أن الوطئ راجع إليه ، وكأنه إختبار متجدد في آنات الليل يبعث على الوئام ونبذ التفرق بين الزوجين .
ولو حصل الضرب بعدها فيكون بالمسواك وهو عود تدلك به الأسنان مأخوذ من فروع شجر الآراك بطول الأصبع، مما يدل على إنعدام الأذى بالضرب فيه , وفي رواية الضرب لا يكون مدمياً ولا مبرحاً، أي لا يخرج معه الدم، ولا يكون شديداً بالعصا.
ولم يرد كل من لفظ (حافظات) (عظوهن) (أهجروهن) (أضربوهن) (أطعنكم) إلا في الآية أعلاه ، بينما ورد لفظ (حافظات) في قوله تعالى [وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا]( )، وفيه نكتة وهي أن العفة والطهارة وتعاهد أداء الفرائض والإقامة على ذكر الله واقية وعصمة من النشوز سواء من الرجل أو المرأة .
وورد لفظ (المضاجع) في القرآن مرتين في الآية أعلاه , وفي وآية البحث , وهذا الجزء وهو الواحد والثلاثون بعد المائة من ( معالم الإيمان في تفسير القرآن ) القسم الثالث في تفسيرها , ومنها قوله تعالى [لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ] ( )، لبيان نكتة وهي لزوم تقوى الله في الصلات الزوجية وإدراك حقيقة وهي أن هذه المضاجع وفراش الزوجية نعمة عظمى من عند الله ، ولا بد أن تنقطع بالموت ومغادرة الروح الجسد , قال تعالى[وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
لقد أراد الله عز وجل التخفيف عن المحاكم بالإصلاح الذاتي للأسرة، وتولي الرجل المسؤولية فيها، ولو نشزت القاضية عن زوجها , فهل تشملها أحكام آية النشوز أعلاه , ولأنها موضوعاً وحكماً من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الجواب نعم، لإتحاد الموضوع وأصالة الإطلاق , وقد يكون النشوز من الرجل , فليتقوا الله , قال تعالى[وَإِنْ امرأة خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ).
الثاني : وأستدل على عدم جواز تولي المرأة للقضاء بما ورد في حديث أبي بكرة قال: نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فاقاتله معهم – أي الإمام علي عليه السلام – بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس ملكوا عليهم إبنة كسرى .
فقال النبي : لن يُفلِح قومٌ وَلَّوا أمْرَهُم امرأة) ( ).
وقيل أن الحديث يثبت الكراهة التحريمية، على المبنى بتقسيم الكراهة إلى تحريمية وتنزيهية , ولم يثبت التحريم إلا بدليل قطعي وقد بينا في البحث الخارج لعلم الأصول أن الأحكام التكليفية خمسة وهي الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والتحريم .
ويبين الحديث معنى التولية وهي الإمامة ورئاسة الدولة وشؤون الحكم المطلق ، وأما موضوعنا فهو القضاء المقيد بنصوص ومواد ليس للقاضي تجاوزها أو الخروج عنها وقد يحكم وفقها ولكن يأتيه الطعن والنقض بسبب ضعف ووهن الأدلة.
الثالث: أستدل بقوله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القضاة ثلاثة إثنان في النار وواحد في الجنة , رجل عرف الحق فقضى به فهو في الجنة , ورجل قضى بين الناس بالجهل فهو في النار , ورجل عرف الحق فجار فهو في النار).
ووجه الإستدلال لفظ الرجل، وأنه يدل بمفهوم المخالفة على خروج المرأة من الأهلية للقضاء , ولكن لفظ (الرجل) يأتي لتغليب المذكر كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ]( )، مع أن الصوم مفروض على الرجال والنساء بعرض واحد، ويقال القمران ويراد الشمس والقمر، والتثنية أخت العطف.
الرابع: يحتاج القضاء إلى كمال الرأي والفطنة وتمام العقل، والمرأة معرضة للنسيان، إذ جعل الله شهادة إثنتين من النساء بشهادة رجل واحد، قال تعالى[فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ]( ).
ولكن يتقوم القضاء في المحاكم الوضعية بالتدوين سواء لمواد القانون أو للدعاوى والشهادات وأصول المرافعات وعلة ومدرك الحكم .
الخامس: ما يعتري المرأة من أمور النساء كالحيض والحمل والولادة، وفيه لا دليل على تأثير هذه الأمور التكوينية الجسدية على ماهية الحكم وإقتباسه من أدلته المنصوص عليها في القانون، بالإضافة إلى الإطلاق بأن القاضي لا يحكم إذا كان في مزاج غير ملائم.
السادس: غلبة العاطفة على المرأة , ولكنها مقيدة بقوانين ومواد ليس لها أن تتجاوزها، وطول مزاولة المرأة للمحاماة والقضاء ينمي عندها ملكة التقيد بالضوابط القانونية من دون أثر زائد للعاطفة , وقد تكون هذه العاطفة أمراً حسناً في ظل أحكام وضعية تبتعد عن الحكم الشرعي.
إن القضاء الذي لا تتولاه المرأة هو الذي يستنبط فيه القاضي الفتوى والحكم من الأدلة التفصيلية , وفيه تخفيف عنها في النشأتين .
ويجوز أن تتولى المرأة القضاء في المحاكم التي تعمل بالقوانين الوضعية ونصوص العقوبات الثابتة تلك التي تخضع وفق نظامها للنقض والإبرام ولغة الجدل والبرهان التي يقوم بها المحامون( ) وإذا تبدل الموضوع تغير الحكم فهذه المحاكم والقوانين لا تكون فيها يد القاضي مطلقة بل هي مقيدة قبل إصدار الحكم بالأنظمة والقوانين، وبعد الحكم بالإستئناف والتمييز، وإمكان العرض على مواد وقوة القانون.
وقد يقال بكراهة تولي المرأة للقضاء لوجوه:
الأول: وظيفة القاضي في المحاكم الوضعية كفائية، والمؤهلون من الرجال للقضاء كثيرون.
الثاني: الجواز أعم من الوقوع.
الثالث: الأفضل للمرأة إجتناب منازل وأسباب الفتنة والإفتتان.
الرابع: عدم الخروج عن الإجماع.
وقد صدر والحمد لله الجزء الثاني بعد المائة من تفسيري للقرآن , وهو القسم الثالث في تفسير آية[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ]( )، في إشارة لموضوعية الإستغفار والندم في لزوم تخفيف الحكم في قانون العقوبات وأروقة المحاكم، وتقديم الغرامة على السجن مع الإمكان .
ونرجو إجراء دراسة مقارنة في هذا الباب بين الحكم الشرعي والوضعي، وأثر الندم والإعتذار في حيثيات وماهية الحكم في القوانين الأوربية وغيرها أيضاً, وجاء قوله تعالى[خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ]( )، لبعث الحكام والقضاة على الرأفة في الأحكام ومحو العقوبات , وعدم توجيه اللوم للقاضي إن تسامح في ماهية ومقدار العقوبة , والمراد من العرف أي الأمر المعروف.
وينبغي أن تكون موضوعية للقيادة السياسية بالتخفيف في قوانين العقوبات بما يتناسب والتغييرات في سنخية وحال وتأثير الشعوب وزمان العولمة، وحاجة تلك القيادات وبقائها في دفة الحكم لإجتناب التشديد والغلظة في الأحكام, فلا أحد يتوقع سقوط سريع لنظام حكم شمولي بسبب صفعة شرطية لبائع متجول بمدينة تبعد عن العاصمة التونسية 265 كيلو متراً، ولا هجوم المتظاهرين على السجون في بلد آخر وخروج آلاف السجناء حال إستقالة رئيس الدولة ليس تحت قوة القانون، بل تحت إرادة وقهر الشعب ووطأة الجور.
والأولى في زمن العولمة إعادة قراءة أحكام العقوبات والأمر بالحجز والسجن , وإجراء تغييرات فيها بلحاظ تبدل الأحوال، وتغير الموضوع ، وندعو للإقتباس من القوانين الأوربية والأمريكية للتخفيف في هذا الباب، وإدراك حقيقة وهي إتصاف الشريعة الإسلامية بالسماحة والشواهد كثيرة وأُتي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسارق سرق شملة قال: أسرقت؟ ما أخالك سرقت؟ أي ليدفع عنه الحكم مع طرو الإحتمال , قال: نعم قال: إذهبوا به فاقطعوه. ثم اتوني به، ففعل فقال: ويحك تُب إلى اللّه ، فقال: اللّهم تُب عليه) ( )..
وقصة ماعز مشهورة إذ أخبر النبي بأنه فعل فاحشة (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن كان معه: أبصاحبكم مس؟ قال ابن عباس: فنظرت إلى القوم لأشير عليهم فلم يلتفت إلي منهم أحد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لعلك قبلتها , قال: لا ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فمسستها قال: لا، قال: ففعلت بها ولم تكن؟ …..الحديت) ( ).
وعن الشعبي قال : جئ بشراحة الهمدانية إلى على رضى الله عنه فقال لها ويلك لعل رجلا وقع عليك وانت نائمة قالت لا قال لعلك استكرهك قالت لا قال لعل زوجك من عدونا هذا اتاك فانت تكرهين ان تدلى عليه يلقنها لعلها تقول نعم قال فأمر بها فحبست فلما وضعت ما في بطنها اخرجها يوم الخميس فضربها مائة وحفر لها يوم الجمعة في الرحبة واحاط الناس بها( ).
وسيتجلى للمشرعين مناسبة الحكم الشرعي قرآناً وسنة لأحوال المجتمعات وصلاحها في كل زمان ، وهو من الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن , قال تعالى[وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn