المقـــدمـــــة
الحمد لله في الصبح إذا تنفس ، والليل إذا أقبل وخالط ضياء النهار ، الحمد لله عدد آنات الزمان الطولية في الماضي والحاضر والمستقبل ما تقدم منها وما هو آت قريباً كان أو بعيداً .
الحمد لله رب العالمين الذي تغشى الخلائق برحمته وخص الإنسان بنعمة الخلافة والعقل والملازمة بينهما, وأنزل القرآن خطاباً ودليلاً وضياءً له ، وهادياً إلى سبل الحمد .
الحمد لله ملأ السموات السبع والتي رفعها بغير عمد أو أركان ، الحمد لله ملأ الأرض التي جعلها قراراً وبسطها على الهواء من غير اوتاد وجعل فيها جنات وأعناباً ، وفجر فيها العيون وأجرى فيها الأنهار .
الحمد لله بعدد قطرات الماء وذرات الصعيد , الحمد لله على توالي النعم الظاهرة والباطنة والتي تستلزم منا الشكر المتصل والدائم .
الحمد لله على ما كان وما يكون , وقال سبحانه [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ] ( )، الحمد لله الذي فتح باب الإستغفار وجعل الذنوب تتساقط عن العباد ، وتمحى عن صحائفهم برحمته ورأفته وحلمه، وجعل هذا الإستغفار باباً للرزق الكريم، وفي التنزيل[اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزيِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ] ( ) .
وقد تضمن الجزء السابق من ( معالم الإيمان ) وهو الواحد والثلاثون بعد المائة تفسير قوله تعالى [ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ] ( ) ويحتمل نزول الأمنة النعاس على المؤمنين في معركة أحد والذي تذكره الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : إنه من مصاديق إرسال السماء بالغيث ومصاديق الفضل المتوالية .
الثاني : إنه من أفراد المدد الذي يأتي للمؤمنين .
الثالث : ليس من صلة موضوعية بين نزول النعاس على المؤمنين وبين مضمون الآية أعلاه خاصة وأنها وردت في دعوة النبي هود إلى قومه ، وترغيبهم بالإيمان وندبهم إلى الإستغفار ،
والمختار أن نزول نعمة النعاس يوم أحد من الوجه الثاني أعلاه ، ومصاديق فضل الله , وبيان قانون وهو إنتفاء الحد والحصر له سواء في كيفيتها أو كمها وعددها ومقدارها .
لقد تخلفت بعض الأمم عن دعوات أنبيائهم فيتلقاها المسلمون بالقبول والإمتثال فرزقهم الله ذات النعيم التي وردت في القرآن وعداً كريماً للمؤمنين وإلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الحمد لله الذي جعل الموت حتماً مقضياً على العباد والذي يتفضل ويجعل حمدنا له في الحياة الدنيا يتجدد بعد أن نغادرها إحساناً وجوداً وكرماً منه سبحانه , وفيه دليل على عظيم قدرته وسلطانه .
الحمد لله بعدد كلمات وآيات وسور القرآن وعدد تلاوة المسلمين لها في كل زمان من حين نزولها، ونسأله تعالى أن يكتب لنا حمداً مستحدثاً عند تلاوة كل مسلم ومسلمة لآيات القرآن وإلى يوم الدين ، فلا يفارق حمدنا له تعالى الدنيا ، وإن فارقتها أجسادنا.
الحمد لله الذي منّ علينا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته الجامعة المانعة ، الجامعة للأحكام الشرعية ، والمانعة من الضلالة والعذاب يوم القيامة.
الحمد لله الذي جعل الصلاة على النبي واجباً على المؤمنين قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] ( ) اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين .
الحمد لله الذي ذم المنافقين لسوء ظنهم بالله كما في الآية التي ورد
ت الأجزاء الثلاثة السابقة في تفسيرها إذ ورد فيها[وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ]( )، ليكون بيان هذا الظن على وجوه :
الأول : العبرة والموعظة للمؤمنين والمؤمنات .
الثاني : فضح المنافقين وبيان خصلة قبيحة من خصالهم وهي سوء الظن بالله .
الثالث : بيان أصل من أصول النفاق ، بلحاظ ترتب قبيح القول والفعل على سوء الظن بالله ووعده الكريم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر المبين.
الرابع : إرادة إستئصال أصول النفاق من أجل بناء صرح دولة الإسلام وبقاء أحكام الشريعة إلى يوم القيامة .
الخامس : إخبار القرآن عن علم الله عز وجل بما في الصدور ، وعن جابر بن عبد الله (قال : خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أيها الناس إياكم وشرك السرائر قالوا يا رسول الله ما شرك السرائر.
قال يقوم الرجل فيصلى فيزين صلوته جاهدا لما يرى من نظر الناس إليه فذاك شرك السرائر) ( ).
الحمد لله الواحد من غير تشبيه ، والعالم بغير تأليف ، والأزلي الباقي الدائم بذاته من غير جهد أو عناء.
الحمد لله عدد نجوم السماء وذرات الرمل ، الحمد لله كما حمد نفسه في التوراة والإنجيل والقرآن الذي جعله [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
الحمد لله الذي جعل عودة ورجوع الناس مجتمعين ومتفرقين إليه علة غائية لخلقهم ، بلحاظ أنها من عمومات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) فيدرك الإنسان
هذه الحقيقة في صغره وكهولته وشيخوخته ، وكلما قرب إلى المنية وإقتربت منه ، إزداد يقيناً بها لتكون مناسبة للإستعداد للآخرة ، فمن فضل الله عز وجل على الإنسان إطالة عمره ، وإبتلاؤه بالمرض والعوز .
الحمد لله الذي جعل الصبر مدرسة التقوى وسبيل النجاة وموضوعاً للإستعانة ، قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ] ( ).
ويتجلى الصبر في علوم القرآن بالتلاوة والتدبر في مضامينه القدسية ، وقراءته في الصلاة على نحو الوجوب العيني من غير عجلة أو هذر , ومنه نعمة التفسير والسياحة في كتب التفسير وما يترشح عن عقول أفذاذ العلماء من ذخائر تفسير آيات القرآن وإيجاد الصلة بين الآيات من جهات :
الأولى :تفسير القرآن بالقرآن والذي سميناه التفسير الذاتي.
الثانية : شهادة الآية القرآنية بصدق نزول الآية القرآنية الأخرى.
الثالثة : بيان الصلة بين كل آيتين من القرآن .
الرابعة : الإعجاز في إنتفاء التزاحم أو التعارض بين آيات القرآن ، قال تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا] ( ).
الخامسة : الترابط والتداخل الموضوعي بين آيات القرآن .
السادسة : إتحاد الحكم في آيات القرآن .
السابعة : تعضيد الآية القرآنية للآية القرآنية الأخرى في المعنى والدلالة .
الثامنة : بيان الآية القرآنية لمضامين الآية القرآنية الأخرى .
التاسعة : كل آية قرآنية حرز للآية القرآنية الأخرى , وواقية من التحريف أو التبديل أو التغيير في رسم ومنطوق كلمات وآيات القرآن .
العاشرة : الآية القرآنية عون ومدد لتلاوة وحفظ الآية القرآنية الأخرى .
الحادية عشرة : تجلي العلوم والأحكام والسنن من الجمع بين كل آيتين أو أكثر من القرآن .
الحمد لله الرزاق الذي تفضل ويتفضل بالنعم المتوالية والمواهب السنية ، والذي لا يقدر على حجب رزقه أحد من الخلائق ، الحمد لله الذي يرزق الفرد من البشر فتنتفع الجماعة والذراري منه ، ويرزق الجماعة فينهل الفرد من هذا الرزق من غير أن ينقص منه شيئاً ، فلقد شاء الله عز وجل أن يجعل الدنيا ( دار الرزق المتصل ) .
فمن الآيات تلقي الإنسان في كل لحظة من حياته رزقاً كريماً براً كان الإنسان أو فاجراً .
وفيه لطف ورحمة عامة من عند الله وحجة على الناس في النشأتين وإطلاق الحجة في أفراد الزمان الطولية والعوالم المتعاقبة من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) ومعاني لفظ [الْبَالِغَةُ] أعلاه ، فليس من حجة لأحد من الخلائق إلا وتنقطع في الدنيا إلا حجة الله عز وجل على الخلائق كلها سواء :
الأول : الذي كانت له حجة على غيره .
الثاني : الذي كانت عليه حجة لغيره .
الثالث : الذي ليس له حجة على غيره .
وعن رسول الله قال (اختصمت الجنة والنار، فقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضَعَفَةُ الناس وسَقطُهم؟ وقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. فقال الله عز وجل للجنة، أنت رحمتي أرحم بك من أشاء. وقال للنار: أنت عذابي، أنتقم بك ممن أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما الجنة فلا يزال فيها فضل، حتى ينشئ الله لها خلقا يسكن فضل الجنة، وأما النار فلا تزال تقول : هل من مزيد؟ .. ) الحديث ( ).
لقد هجم كفار قريش ومن والاهم بجيش عظيم للإجهاز على المسلمين وهم حديثوا عهد بالإيمان ، وعلى قلة في العدد والعدة فيتولى عدد من المسلمين من المعركة خوفاً وفزعاً فتأتي آية البحث لتخبر عن فضل الله عز وجل بنزول العفو عنهم ، ليكون هذا العفو عنهم باعثاً للسكينة في نفوسهم , ومواساة لهم , وبشرى للمسلمين .
ويتقابل جيش المسلمين بإمامة وقيادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الذين كفروا في معركة أحد ، والجامع بين الفريقين هو الحاجة إلى رزق الله في كل لحظة وآن ، ومنه الحاجة إلى النفس إذ لا يتم الشهيق والزفير إلا بإذن الله وهو سبحانه مالك الهواء والشجر والماء ، وأبى سبحانه أن يكون رزق المؤمنين والذين كفروا في معركة أحد متساوياً لتنفتح أبواب منه في معركة أحد للذين حضروا المعركة وغيرهم من المسلمين وإلى
يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] ( ).
ومن معاني ودلالات الآية أعلاه ترشح المنافع على الأجيال المتعاقبة من قتال أمة وطبقة منهم .
وهو من أسرار الإكرام والثناء على الذين قاتلوا في معركة أحد من المهاجرين والأنصار بأن صاروا في ذاتهم وإيمانهم وجهادهم سبباً لمصاديق ورشحات من الخير على أجيال المسلمين المتعاقبة .
الحمد لله الذي أنعم علينا بصدور كل من الجزء التاسع والعشرين والثلاثون والواحد والثلاثون بعد المائة في تفسير قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا……] ( ) في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً ، وهو من الرزق الكريم الذي يتفضل به الله عز وجل .
ومن هذا الرزق الكريم أني أقوم بمفردي بكتابة وتصحيح ومراجعة أجزاء التفسير المتعاقبة وكذا بالنسبة لكتبي الفقهية والأصولية والكلامية والحمد لله .
إذ يطل علينا هذا الجزء وهو الثالث والثلاثون بعد المائة من التفسير , وهو خاص بتفسير وتأويل قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ …..] ( ).
لتتضمن الآية الخطاب للمسلمين بصيغة الجملة الخبرية التي إبتدأت بأداة التأكيد ( إن ) الذي يفيد وجوهاً :
الأول : إرادة الصحابة الذين يقاتلون في معركة أحد ممن لم يفر أو ينهزم أو يصعد الجبل .
الثاني : المقصود عموم المسلمين أيام البعثة النبوية رجالاً ونساءً إذ تنزل الآية القرآنية لتخاطب أهل زمانها ، ولا يتعارض هذا المعنى مع لغة العموم في الآية القرآنية .
الثالث : إرادة جميع المسلمين وأجيالهم المتتالية وإلى يوم القيامة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية ، وهل يصح للمسلم والمسلمة أن يقولا بخصوص القراءة البيانية لآية البحث : إن الذين تولوا منا ….) .
الجواب نعم , إذا كان المراد المعنى والتفسير والبيان , وإلا فانه لا يجوز التصرف والتغيير في النص القرآني المرسوم في المصاحف .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها إبتدأت بالإخبار عن تولي وفرار فريق من المؤمنين في معركة أحد ليأتي بعد هذا الإخبار نسبة هذا التولي إلى الشيطان وإزلاله وإيقاعه بالمؤمنين.
وتلك آية في إكرام الله للمسلمين ، فحتى الذي يفر من وسط ميدان المعركة ويترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقاتل مع نفر من أهل بيته وأصحابه ينزل القرآن بالعذر له على نحو الموجبة الجزئية بنسبة الخطأ والزلل إلى الشيطان المتمرد عن طاعة الله الذي يجتهد بإغواء الناس ، فعجز عن منع المسلمين من دخول الإسلام فتسلل إلى ميدان المعركة بتحريضه للذين كفروا في القتال ليسوقهم إلى النار , أما المسلمون يومئذ فبرحمة واقية من الله سبحانه .
ومن الإعجاز في المقام مجئ الآية بصيغة الحصر [إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ]وصحيح أن لفظ [تَوَلَّوْا] يدل على نسبة فعل لتولي والفرار لهم ، ولزوم الصبر في الميدان وترك الفرار إلا أن الآية تجعل سبب التقصير والمعصية هو الشيطان ، وفيه تبرئة وتزكية للمسلمين .
وهل يعني هذا إغراء المسلمين بالفرار من ميدان المعركة في المعارك اللاحقة ، فكل من يفر وينهزم يقول الشيطان إستزلني ، الجواب لا ، وهو الذي تبينه ثنايا تفسير الآية الكريمة ومضامين الآية السابقة ، إذ تتضمن خاتمتها إمتحان القلوب وإختيار ما في الصدور للتوقي من غواية الشيطان بقوله تعالى [وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ).
ولتعود الآية للغة التبعيض في العمل بقوله تعالى [بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا] ثم ذكرت الآية تفضل الله عز وجل بالعفو عن المؤمنين الذين فروا بقوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ] ولم تذكر الذين لم يفروا أو شمولهم بالعفو ، وفيه مسائل:
الأولى :ذكر هذه الآيات لعفو الله عز وجل عن كل المجاهدين الذين حضروا معركة أحد كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ] .
الثانية : بيان قانون وهو أن ثبات ثلة من المهاجرين والأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضل ورحمة من عند الله عز وجل ، وقد ورد في الثناء عليهم قبل آيتين [وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ] ( ).
الثالثة : فوز الصحابة الذين لم يغادروا مواضعهم بالعفو من عند الله بالأولوية القطعية .
الرابعة : جاءت آية البحث بخصوص الذين تولوا وإنهزموا من المعركة , ولولا هذه الآية لما إستطاعوا الخروج إلى المسجد وملاقاة الناس من أسباب العار التي تتجلى من الفرار والهزيمة، ولقام المنافقون بتبكيتهم وتعييرهم .
الخامسة : بيان إختصاص وحصر نعمة تلقي العفو في آية البحث بموضوع التولي , فيخرج بالتخصص من كان معصوماً من هذا التولي .
السادسة : تلقي العفو من عند الله أمر حسن ونعمة عظمى سواء كان عن ذنب أو بدون ذنب .
وباستثناء المسألة الخامسة أعلاه فان المسائل الأخرى من مصاديق آية البحث ، لقد كان العفو الوارد في آية البحث غنيمة وكسب لعموم المسلمين الذين حضروا معركة أحد، فهم وأن لم يرجعوا بالغنائم والأسرى ولكنهم عادوا بالعفو من عند الله ، ليكون على وجوه :
الأول : العفو غنيمة ومكسب في الدنيا .
الثاني : يفتح العفو على المسلمين أبواب الرزق الكريم بلحاظ أن وطأة وكثرة الذنوب برزخ دونه ، ولو على نحو السالبة الجزئية .
الثالث : صيرورة العفو من عند الله على المسلمين سوراً للأخوة الإيمانية بينهم ، بأن يجمعهم العفو من عند الله ، وهو من مصاديق تسمية المجاهدين في آية البحث بالجمع في قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ].
بلحاظ أن النسبة بين الوجهين الثاني والثالث أعلاه هي العموم والخصوص المطلق , فالثالث أعم ، لأنه خطاب للمسلمين جميعاً في أجيالهم المتعاقبة لذا أخبرت آية البحث عن عفو الله عز وجل عن المؤمنين الذين فروا من ميدان المعركة يومئذ .فان قلت لقد سمّت الآية جيش الذين كفروا بالجمع أيضاً .
والجواب نعم ، فقد إجتمعوا على الشرك بالله عز وجل ومحاربة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
وفي الآية تنمية لملكة الأخوة الإيمانية بين المسلمين ولزوم التعاون والتآزر بينهم لدفع الأذى والضرر عنهم ، وعن النبي صلى الله عليه وأله وسلم (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ في َتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ شَىْءٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى) ( ).
لقد إبتدأت هذه الآيات المعطوفة بعضها على بعض بنداء الإيمان وصبغة الهداية في الخطاب بقوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا…] ( ) .
وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين مع أن موضوعها هو القتال وتفاصيل ووقائع معركة أحد .
وكأن الآية على وجوه في تقديرها :
الأول : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القتال لأنكم لا تطيعون الذين كفروا ,
الثاني : يا أيها الذين آمنوا الدفاع واقية من الإرتداد .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا جاهدوا في سبيل الله لسلامتكم من الإنقلاب على الأعقاب .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا في القتال .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا إن الله يقيكم من الإنقلاب والخيبة.
ويحتمل قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ] وجوهاً :
الأول : ملازمة العفو لحال الهروب والفرار من ميدان المعركة لعمومات قول الله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ) .
مع قرب وسرعة مجئ شآبيب رحمته للمؤمنين قال تعالى [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الثاني : مجئ عفو الله بعد إنقضاء معركة أحد ، ليكون محواً للتولي والتنازع والمعصية في الميدان .
الثالث : نزول العفو من عند الله مع نزول آية البحث التي يدل منطوقها على أن أوان نزولها ما بعد إنقضاء المعركة لمجئ الإخبار عن التولي بصيغة الماضي بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا] , ولم يتول أحد من المسلمين في معركة بدر التي سبقت معركة أحد بأحد عشر شهراً , وعدم التولي هذا من مصاديق النصر ونسبته إلى الله , بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الرابع : مجئ العفو بعد نزول آية البحث ، وجاءت الآية وبيان فضل الله بالعفو بصيغة الماضوية [وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ]لإفادة القطع والحتم بصدور العفو.
الخامس : تعلق العفو من عند الله عز وجل على صدور الإستغفار من الذين فروا من المعركة ، أو لجوئهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإستغفار لهم , قال تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ] ( ).
وتبين الآية أعلاه أمر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعفو عن أصحابه من المسلمين ، ليكون من باب الأولوية أنه سبحانه يتفضل بالعفو عنهم ، فالله عز وجل هو العفو ، وهو الذي يحب العفو ويأمر به ويدعو إليه ، لتكون الدنيا (دار العفو) وهذا العفو مقيد بالإيمان .
فصحيح أن الدنيا دار الرحمة والرزق لعامة الناس ، ولكن العفو أمر خاص بالمؤمنين ، وبه جاءت آية البحث ، فلم يحجبه التنازع والمعصية والقصور من المؤمنين ، وفي التنزيل [وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ] ( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : هل العفو عن المسلمين الذين تولوا والذي تذكره آية البحث من فضل الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : هل المقصود من الراد والمانع في الآية أعلاه خصوص البشر أم المعنى الأعم .
أما الأولى فنعم , لأن نزول مصاديق الرحمة على أمة محمد فضل من عند الله عز وجل عليه بالذات والواسطة وهو لا يتعارض مع أن رسالته صلى الله عليه وآله وسلم نعمة ورحمة للمسلمين و [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وليس من دور في المقام للتباين الجهتي .
وأما الثانية فالمراد هو المعنى الأعم ، فلو إجتمعت الخلائق على رد فضل الله فلا تستطيع ، وهذا من باب المثال التقريبي .
فليس للسموات والأرض إلا طاعة الله والإستجابة لأمره تعالى بتسخيرها لنفع الإنسان ودوام الحياة الإنسانية في الأرض لتكون مادة وموضوعاً لعبادة الله عز وجل , نعم تجتمع الخلائق على رحمة الإنسان لخلافته في الأرض , ولأن الله عز وجل أسجد الملائكة لآدم عليه السلام .
وآية البحث سياحة إيمانية في وقائع ومعارك الإسلام الأولى الدفاعية , وما يترشح عنها ، إذ إبتدأت بذكر إلتقاء المسلمين والذين كفروا للقتال , ولم تبين الآية أن المراد معركة أحد على نحو التعيين , ولكن نظم هذه الآيات ومضمون الآية ومجئ لفظ [الْتَقَى الْجَمْعَانِ] في الآية والذي ورد في القرآن أربع مرات له دلالات على إرادة معركة أحد ، كما سيأتي بيانه في ثنايا التفسير وعلم المناسبة في قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] وكيف أنه ورد بخصوص معركة بدر وأحد ولم يفر أو يولي المسلمون في معركة بدر ليكون تعيين معركة أحد من السبر والتقسيم بالإضافة إلى آيات القرآن الأخرى التي تدل على إرادتها على نحو الخصوص ، وورود أحاديث السنة النبوية وأخبار الصحابة المتواترة التي تدل عليها ، وهو من إعجاز القرآن بأن تتعدد الأدلة على المراد من اللفظ الإجمالي في الآية القرآنية .
ولقد ذكر القرآن معركة بدر بالاسم بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )وسميت معركة بدر باسم بئر مشهورة في موضع الواقعة تقع بين مكة والمدينة , ويقال بدرت إلى الشئ أبدر بدوراً أي أسرعت إليه وتبادر القوم تسارعوا .
وليلة البدر هي ليلة أربع عشر من الشهر القمري ، وسمي القمر ( بَدْراً لمبادرته الشمسَ بالطلوع، كأنَّه يعجِّلها المَغِيبَ. ويقال: سُمِّيَ بَدْراً لتمامه) ( ).
وبيت بني بدر مركز فزارة في الجاهلية ، وقال جرير:
جيئوا بمثل بني بدر لقومهم … أو مثل أسرة منظور بن سيار( )
ليتخذ المسلمون وعلى إختلاف أوطانهم ولغاتهم اسم بدر إسماً مباركاً لأولادهم من جهات :
الأولى : ذكر لفظ بدر في القرآن .
الثانية : تسمية يوم بدر بيوم الفرقان ، قال تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ] ( ).
الثالثة : معركة بدر أولى معارك الإسلام وقاتل المسلمون فيها بصيغة الدفاع إذ أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بعدم إبتداء القوم بالقتال , وكان يتطلع إلى معسكر الذين كفروا رجاء الصلح ودفع القتال ، فيسأل عن الذي يسعى بينهم لإجتناب القتال ، من غير أن يتعارض هذا الرجاء مع توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء بالنصر وسؤال الله عز وجل ما وعده من النصر والغلبة على الذين كفروا ، وفيه باعث لأهل البيت والصحابة للإستعداد للقتال وطرد الكسل والخمول ومفاهيم القعود عنهم .
قال ابن إسحاق : وَقَدْ ارْتَحَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ أَصْبَحَتْ فَأَقْبَلَتْ فَلَمّا رَآهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ تُصَوّبُ مِنْ الْعَقَنْقَلِ ، – وَهُوَ الْكَثِيبُ الّذِي جَاءُوا مِنْهُ إلَى الْوَادِي – قَالَ اللّهُمّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا ، تُحَادّك وَتُكَذّبُ رَسُولَك ، اللّهُمّ فَنَصْرُك الّذِي وَعَدْتنِي ، اللّهُمّ أَحِنْهُمْ الْغَدَاةَ .
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ( وَقَدْ ) رَأَى عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ فِي الْقَوْمِ عَلَى جَمْلٍ لَهُ أَحْمَرَ – إنْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنْ الْقَوْمِ خَيْرٌ فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ , إنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدُوا) ( ).
الرابعة : يستحب إختيار الاسم الحسن ، ومن معاني الحسن في الأسماء إقتباسها من القرآن بدلالات العز والحسن والهداية والإيمان ، وقد ورد القرآن والسنة باختيار الاسم الحسن ، قال تعالى في زكريا [يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا] ( ).
ووردت عن رسول الله أحاديث متعددة بالحث على الاسم الذي يتضمن العبودية لله عز وجل وعن الإمام الباقر عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منبره : ألا إن خير الاسماء عبد الله وعبد الرحمن وحارثة وهمام، وشر الاسماء ضرار ومرة وحرب وظالم) ( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقوم بتغيير بعض أسماء الصحابة إذ كانت تتصف بالقبح سواء بالنسبة للرجال أو النساء (عن سبرة بن أبي سبرة ، أن أباه دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : « ما اسم ولدك قال : عبد العزى ، والحارث فغير عبد العزى وسماه عبد الله وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : « خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن والحارث ودعا له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولولده فلم يزالوا بعد في شرف إلى اليوم) ( ) .
وكان يختار الإسماء الحسنة للأبناء ويحث عليه ، ومن الآيات تذكير النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بالآخرة بخصوص الأسماء وأن الإنسان يدعى باسمه يوم القيامة أمام أهل الحشر .
الخامسة : بيان الصلة والتداخل بين بدايات الإسلام وبين الأجيال المتعاقبة منه .
السادسة : تسمية الأهل إبنهم ( بدراً) من الشكر لله عز وجل من وجوه :
الأول : نعمة الهداية والإيمان .
الثاني : موضوعية الصبغة الإسلامية لاسم الولد .
الثالث : الشكر لله عز وجل على نعمة الولد وهي نعمة عظمى.
الرابع : دعوة الابن من حين ولادته لتعاهد نهج الإيمان .
الخامس : بيان قانون وهو دلالة الاسم الحسن على السيرة والسلوك الحسن .
السادس : إعلان الوالدين الإيمان , المقرون بالشكر لله عز وجل بتسمية الولد إسماً حسنا .
السابع : الاسم وثيقة وتركة ودعوة للابن عندما يكبر ويبلغ سن البلوغ بتعاهد سنن الإيمان .
السابعة : التسمية الحسنة للمولود مقدمة لتأديبه وتنمية ملكة الصلاح عنده .
الثامنة : بيان التغيير الذي حصل بالمجتمعات بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى في عالم الأسماء .
التاسعة : دلالة أسماء المسلمين على تفقههم بالدين , ووراثتهم لهذا التفقه .
العاشرة : شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة النصر في معركة بدر , ولو أجريت إحصائية لعالم الأسماء لتبين أن اسم محمد وأحمد هو أكثر الأسماء عدداً بين أهل الأرض .
ليكون من الأسرار في أسماء المسلمين الآباء والأبناء إنتفاء المذهبية والطائفية والإختلاف والتنازع .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها تخاطب المسلمين جميعاً بقوله تعالى [تَوَلَّوْا مِنْكُمْ] فلم تخاطب الآية ذات الذين فروا وتولوا على نحو الحصر ، ولم تتضمن إخبارهم بصيغة الخطاب بالعفو عنهم فلم تقل الآية : ولقد عفا الله عنكم.
وآية البحث من آيات البيان المقرون بالعفو والمغفرة فمن الإعجاز فيها أنها تتضمن العفو الخاص والمغفرة المطلقة ، فكما نهل ونال منها المسلمون الذين تولوا من ميدان المعركة العفو ، فان الذين ثبتوا ويثبتون في مواقفهم ينالون العفو من باب الأولوية .
وأختتمت آية البحث بذكر إسمين من أسماء الله عز وجل بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ] لبيان عموم المغفرة من الله لمن سألها وسعي إليها وسلك السبيل الذي يؤدي إليها .
وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) الذي يتلوه كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم وعلى نحو الوجوب العيني رجاء هدايتهم إلى سبل المغفرة والتي ليس بين العبد وبينها من برزخ أو حاجب ومنها قوله أستغفر الله ، وفي التنزيل [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ) .
حرر في 20 /1 /2016 ميلادية
10 / 4 / 1437 هجرية
قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ] الآية 155 .
الأعراب واللغة
إن : حرف مشبه بالفعل .
الذين : اسم موصول في محل نصب اسم (إن) .
تولوا : فعل ماض مبني على الضم المقدر على الألف المحذوفة لإلتقاء الساكنين ، وواو الجماعة : فاعل .
منكم : جار ومجرور ، إذ أن الضمير الكاف في محل جر متعلق بمحذوف من ضمير الفاعل .
يوم : ظرف زمان منصوب متعلق بـ [تَوَلَّوْا].
التقى : فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف .
الجمعان : فاعل مرفوع وعلامة رفعه الألف لأنه مثنى .
إنما : أن حرف مشبه بالفعل مبني على الفتح وهو حرف ناسخ وتوكيد ونصب لا محل له من الإعراب .
ما : حرف مبني على السكون ، كفت عن العمل لا محل لها من الإعراب ويقال إنما : كافة ومكفوفة ، وإذا أريدت الدقة العقلية ولحاظ الترتيب فيها يقال مكفوفة وكافة ، فـ (أن) هي المكفوفة وبها بدأت الكلمة [إِنَّمَا].
إستزلهم : إستزل : فعل ماض والضمير (هم) مفعول به .
الشيطان : فاعل مرفوع وعلامة رفعة الضمة الظاهرة على آخره .
ببعض : جار ومجرور متعلق بـ [اسْتَزَلَّ]
ما : اسم موصول مبني في محل جر مضاف إليه .
كسبوا : فعل ماض ، وواو الجماعة : فاعل .
ولقد : الواو حرف إستئناف : واللام : لام القسم لقسم مقدر .
قد : حرف تحقيق .
عفا الله : عفا فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف ولفظ الجلالة : فاعل مرفوع .
عنهم : عن حرف جر ، والضمير (هم) اسم مجرور متعلق بمحذوف حال من ضمير الفاعل .
إن الله : حرف مشبه بالفعل ، ولفظ الجلالة اسم (إن ) منصوب .
غفور : خبر مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
حليم : خبر ثان مرفوع بالضمة الظاهرة على آخره .
وتولوا مفرده (تولى ) وهو من الأضداد ، فيأتي بمعنى الولاية والنصرة ، وفي التنزيل [وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ] ( ).
ويأتي بمعنى الإعراض والإنصراف والترك ، وفي قصة يوسف [وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ] ( )وأكثر ما جاء هذا اللفظ في القرآن بالمعنى الثاني أعلاه ، ترى لماذا وردت أفراد لفظ (تولى ) في القرآن بمعنى الإعراض ونحوه أكثر منها في النصرة , الجواب من جهات :
الأولى : وردت معاني (النصرة ) باللفظ الصريح في مواضع عديدة من القرآن ، قال تعالى [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ] ( ).
الثانية : ورود معاني الولاية بنظائر ومرادفات موافقة لها مثل قوله تعالى [وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ]( ).
الثالثة : مجئ آيات القرآن بمصاديق الولاية الواقعية مثل قوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ) ليفيد الجمع بين هذه الآيات نزول النعم من عند الله من وجوه :
أولاً : نزول الملائكة مدداً لنصرة المؤمنين .
ثانياً : مجئ الغم بصيغة الثواب ناسخاً للغم على فوات الغنائم ، ولجوء أكثر المؤمنين إلى الفرار , وصعود الجبل طلباً للنجاة بعد سقوط القتلى منهم .
ثالثاً : نزول الأمنة والسلامة والحفظ والتوقي من العدو الكافر في ميدان المعركة ، ولا يقدر على هذه الآية والنعمة العظمى إلا الله عز وجل ، لبيان قانون وهو (كل معركة للإسلام ضد الكفر مناسبة لنزول النعم ) ، ومن مصاديقه أمور:
الأول : نزول النصر في معركة بدر .
الثاني : نزول المدد الملكوتي في معركة بدر , وفي معارك الإسلام اللاحقة .
الثالث : نزول الأمنة والنعاس على المؤمنين يوم معركة أحد.
الرابع : نزول آيات القرآن ، وكل آية نعمة عظمى .
الخامس : نزول الأمر الإلهي للنبي محمد صلى عليه وآله وسلم , ومنه لفظ (قل) مع مضمونه القدسي والذي ورد مرتين في الآية السابقة .
وتضمنه الإحتجاج على المنافقين ، ولا يختص هذا الإحتجاج بحالهم والرد على ما قالوه يوم معركة أحد ، بل هو متجدد إلى يوم القيامة من جهات :
الأولى : بقاء الآية السابقة بالنص وذات الألفاظ والرسم في الكتاب وبين الناس إلى يوم القيامة , وهو من مصاديق قوله تعالى في الثناء على القرآن [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ] ( ).
الثانية : تلاوة المسلمين للآية السابقة في الصلاة خمس مرات في اليوم وفي مشارق الأرض ومغاربها ، ومن الإعجاز في القراءة الواجبة في الصلاة وجوباً عينياً على كل مسلم ومسلمة أنها على قسمين:
الأول : القراءة الواجبة المنصوص عليها في كل ركعة وهي سورة الفاتحة .
الثاني : القراءة الواجبة الإختيارية ، إذ جعل الله عز وجل المسلم والمسلمة مخيرين في إختيار السورة والآيات التي يتلوها كل واحد منهما في الصلاة .
وفي هذا التقسيم نوع علقة وصلة بين الصبر والقرآن ، فأحد القسمين جذب من القرآن للمسلم , والقسم الثاني بيان لحب وعشق المسلم لآيات القرآن.
وقد يقال ربما يأتي يوم على المسلمين لا يتلون الآية السابقة إتفاقاً وصدفة ، والجواب هذا بعيد وقد أبى الله عز وجل إلا أن تتلى آيات القرآن كل يوم ، ومنهم من يقف في الصلاة ليقرأ السور الطوال ، ومنهم من يختم القرآن في يوم أو بضعة أيام وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث) ( ) والفقه الفهم والعلم .
الثالثة : محاكاة المسلمين لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إحتجاجه على المنافقين وتسليمهم بأن هذا القول حق وصدق وأنه نازل من عند الله .
وإذا كانت تلاوة المسلم للآية السابقة من محاكاته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله وإحتجاجه على المنافقين فهل يلزم في تحقق مصداق هذه المحاكاة وجود سامع من المنافقين لتلاوة المؤمن للآية , الجواب لا ، وقد يسمعها المنافق عرضاً ، وهو من الإعجاز في أحكام الصلاة بالقراءة في أكثر ركعاتها بالجهر .
الرابعة : من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلاوة المنافق لذات الآية القرآنية والقول الذي يتضمن ذمه وتوبيخه بلحاظ وجوب الصلاة وأداء المنافق والمنافقة لتعلق الأداء بالإسلام ظاهراً والنطق بالشهادتين ، وإن كان الأصل في التكليف بالصلاة والفروع العبادية الأخرى هو العموم وشمول المكلفين بها مثلما تشملهم ويتوجه لهم الخطاب بالأصول .
والتقى : أي إجتمع وتقابل ، والجمعان مثنى جمع , وهو اسم جمع ويراد منه النوع ، أي في معركة أحد على بعد نحو ثمان كيلو مترات عن المسجد النبوي .
والمراد في الآية لقاء جيش المسلمين وجيش الذين كفروا في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة .
والجمعان أي فريقان كل فريق له خصوصية وأمر يجتمع بسببه ولأجله , والجمع اسم لجماعة الناس تجتمع على أمر , ومن أسماء مزدلفة جمع لإجتماع وفد الحاج فيها , ويقال جمعت الشيء إذا جئت به من مواضع شتى (والجمع كالمنع : تأليف المتفرق ) ( ).
والجمعان في الآية ، المسلمون جمع ، والذين كفروا جمع ، وورد في التنزيل [فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ]( ) أي رأى كل فريق الفريق الآخر كناية عن التقارب بينهما ومقدمات القتال .
وزلّ : فعل ثلاثي لازم ، زل يزل زللاً وزلولاً , وزلت قدمه أي سقطت ، وزلّ لسانه أي إنحرف بخلاف ما يقصد ، وتلفظ بغير الذي يريد بيانه .
ويقال : زلّ العمر أي مضى .
وإستزله أي إستدرجه إلى الزلل والخطأ .
والسين والتاء من (إستزلهم) للتأكيد .
كما يقال إستقام وإستكبر , وقال النابغة :
وهم قتلوا الطائي بالجوّ عنوة.. أبا جابر واستنكحوا أم جابر( )
يقال إستزل يستزل إستزلالاً فهو مستزل ، والمفعول مسّتزلٌ واستزلهم أي إستدرجهم إلى الزلل وأوقعهم في الخطأ .
والشيطان له معنيان خاص وعام ، والخاص إبليس ، والعام كل متمرد وعات ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ] ( ) .
والشيطان الذي إبتعد عن الحق وسبل الرشاد وصار يزداد سوءً وينفث شراً والذي إبتعد عن رحمة الله ، وإشتقاق لفظ الشيطان من شطن أي إبتعد عن الخير والهدى ، وصار يمكث في الشر .
والشطن الحبل الطويل الشديد الفتل ، الذي تشد به الخيل والجمع أشطان .
وقيل أن لفظ الشيطان مشتق من شاط الشيء يشيط شيطاً وشياطة ويأتي بمعنى إحترف وتقول أشاط القدر أي قاربت الإحتراق .
لذا فان الياء فيه أصلية والنون زائدة , لأن لفظ الشيطان مشتق من (شاط) أي أنه كاد يحترق غضباً ، وفيه إشارة إلى مادة خلقه ، قال تعالى [وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ] ( ) .
وكان بعض العرب يسمي إبنه باسم شيطان , مثل شيطان بن مدلج الحشمي ، وشيطان بن الحكم بن جابر بن يربوع ، وشيطان بن قنان ، وشيطان بن الحكم الغنوي .
وجاء رجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : ما اسمك ” قال : شيطان بن قرط . قال : ” بل أنت عبد الله بن قرط) ( ).
وفي الحديث مسائل :
الأولى : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسؤال أفراد المسلمين عن أسمائهم .
الثانية : إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلم حالما يراه بأن يسأله عن إسمه وأحياناً يسأله عن عشيرته .
الثالثة : بعث السكينة والغبطة في نفس المسلم عند سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن إسمه لما فيه من معاني الود والعناية بذات الشخص .
الرابعة : تنمية ملكة الأخوة الإيمانية بين المسلمين والتآزر والتعاون بينهم.
الخامسة : معرفة المسلمين أحدهم للآخر حرز من الضرر والمكر بهم .
السادسة : تنزيه المسلمين عن إغواء الشيطان إسماً ومسمى .
السابعة : دعوة المسلمين والمسلمات إلى إختيار الأسماء الحسنة لأبنائهم ، وفي التنزيل ورد قوله تعالى [يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا] ( )وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ)( ).
الثامنة : بيان إنقطاع خصائص مجتمع الجاهلية .
التاسعة : حث المسلمين على إجتناب الأسماء القبيحة .
ويرد لفظ الشيطان في الإصطلاح على وجوه :
الأول : إرادة إبليس وهو الذي وسوس لآدم وحواء عندما كانا في الجنة ، فاكلا من الشجرة التي نهاهما الله عز وجل عن الإقتراب منها ، قال تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ]( ).
وقد وردت آيات القرآن بذكر إبليس بالاسم للبيان والإنذار وقاعدة نفي الجهالة والغرر ، قال تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ]( ).
الثاني : إرادة الأشرار من الجن , وفي التنزيل حكاية عن الجن [وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ] ( )أي منا المسلم ومنا الضال والكافر .
وكسب يكسب كسباً أي جمع .
ويقال كسب مالاً أو علماً : طلبه وربحه.
والعفو المحو والإندراس، وعفا المنزلُ يعفو فهو عافٍ، إذا دَرَسَ. وعفا شَعَرُه، إذا كثر؛ فكأنه عندهم من الأضداد( ).
وعفو الشيء طيبه وخالصه وصفوته .
سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآية السابقة ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ …..] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين : ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم إن الذين تولوا منكم يوم إلتقى الجمعان . . .) وفيه وجوه :
الوجه الأول : من خصائص القرآن البيان والوضوح والسلامة من اللبس والترديد وإبتدأت الآية السابقة بحرف العطف (ثم) الذي يدل على الترتيب الموضوعي للوقائع, والتراخي بين الغم والأمنة النعاس في الحلول والنزول مع حصره بالمؤمنين وخصوص واقعة أحد .
وظاهر العطف في هذه الآيات على وجوه منها :
الأول : إبتداء هذه الآيات بصيغة العموم لقوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( ) .
الثاني : بيان إتحاد موضوع هذه الآيات .
الثالث : تجلي قانون وهو لزوم الإتعاظ وإقتباس المواعظ وإستنباط القوانين من هذه الآيات مجتمعة ومتفرقة .
الرابع : إرادة العطف على لغة الخطاب الخاصة بالمهاجرين والأنصار الذين حضروا معركة أحد , وهم على قسمين :
الأول : الذين واصلوا القتال في معركة أحد إلى نهايتها ، ولم يتركوا مواضعهم التي جعلهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الذين فروا من ساحة المعركة ولم يثبتوا عند مجئ خيل الذين كفروا للمسلمين من خلفهم , وهم على قسمين :
الأول : الذين صعدوا الجبل طلباً للنجاة ولإستبانة الأمر ، ويدل عليه قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ].
الثاني : الذين فروا على وجوههم في الأرض وهم على قسمين أيضاً :
الأول : الذين بقوا على مقربة من المعركة وعادوا إليها عندما سمعوا نداء ودعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الذين لم يقفوا إلا في الجلعب وهو موضع تلقاء الخبيت بينهما وبين المدينة بريدان وإليه مضى الذين تولوا يوم التقى الجمعان ولم يدخل منهم المدينة أحد)( ) .
والمعركة لا زالت قائمة وهم الأقل عدداً ومنهم من قال أنهم ثلاثة ، وفيهم نزلت الآية التالية [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ]والمختار أن موضوع الآية أعلاه أعم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه لإرادة العام والخاص في الآية بلحاظ ان العطف في الآية موعظة وعبرة .
الوجه الثاني : جاءت كل من الآيتين بصيغة الخطاب وموضوع كل منهما هو معركة أحد , فيكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها المهاجرون والأنصار الحاضرون معركة أحد .
الثاني : تقدير الآية بلغة العطف التي تتغشى هذه الآيات ، ويكون تقديرها : يا أيها الذين آمنوا ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة … إن الذين تولوا منكم ) .
الثالث : يا أيها المسلمون أنزل الله عليكم بعد الغم أمنة نعاساً … إن الذين تولوا منكم ).
الرابع : يا أيها المسلمون والمسلمات ثم أنزل الله عليكم ..) .
فان قلت لم ينزل النعاس على عموم المسلمين , وتدل أسباب النزول وموضوع الآية على إرادة خصوص معركة أحد، والجواب هذا صحيح , ولكنه لا يتعارض مع معاني التبعيض والإنتساب العام وكون الصحابة الذين حضروا معركة أحد طائفة من عموم المسلمين , ويتجلى هذا المعنى في الآية السابقة .
ومن إعجاز القرآن تضمنه الأحكام الشرعية ، وقصص الماضين وأنباء الآخرة وما فيها من الأهوال , وما يلقاه المؤمنون الذين عملوا ويعملون الصالحات من النعيم والخلود في الجنة ، وعذاب الذين كفروا في النار ، قال تعالى [وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] ( ).
ومنه خطاب ونداء القرآن للمسلمين والمسلمات الذي يبقى غضاً طرياً إلى يوم القيامة ، ففي كل زمان يتوجه ذات الخطاب والنداء إلى المسلمين والمسلمات ، ويتلقونه برضا وفخر .
وهل هذا الخطاب وتلقيه من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( )الجواب نعم ، لبيان قانون وهو أن موضوع ومصداق الآية أعلاه متجدد في كل زمان ، ففي إستدامة تلاوة الآية القرآنية والعمل بأحكامها ، وتلقي المؤمنين لخطابات القرآن دليل على إستدامة سنن التوحيد في الأرض وإعلان عن وجود أمة مؤمنة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه عز وفخر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ورفعة للمؤمنين ، وزجر للناس من التعدي عليهم بلحاظ أن العزة التي تذكرها الآية أعلاه برزخ دون تجرأ وتعدي الظالمين ، خاصة وأنها نزلت بخصوص الرد على المنافقين .
ولو أجريت دراسة إحصائية مقارنة في آيات القرآن لتبين أن أكثر آيات القرآن تتضمن الخطاب والنداء إلى المسلمين والمسلمات ، وحتى الآيات التي وردت بصيغة الجملة الخبرية فانها تفيد معنى الخطاب في مفهومها ودلالتها .
ويأتي النداء إلى المسلمين ثم تعطف عليه آيات متعددة متداخلة، ومنه هذه الآيات ، إذ بدأت بقوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ..] ( ) ثم توالت الآيات في ذات سنخية الخطاب ، ومن الإعجاز فيها أنها بدأت بصيغة النهي والزجر الذي يفيد الحرمة ثم إنتقلت في الآية التالية إلى العهد والوعد من عند الله [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ …] ( ).
ليكون مضمون الآية أعلاه مدداً وعوناً للمسلمين والمسلمات وحرزاً وواقية من طاعة الذين كفروا ، وسبباً نازلاً من السماء يبعث في نفوس المسلمين النفرة من الركون إلى الذين كفروا, والحيطة والحذر من إتخاذهم خاصة ووليجة ، قال تعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً.
لتتجلى منافع وذخائر ولاية الله للمسلمين في موضوع الآية السابقة لها والآيات التالية لها ، ليكون من أسرار العطف في هذه الآية ملازمة سنن الولاية لها ، فيقابل العطف في الصناعة النحوية عطف موضوعي .
وعدد الآيات المعطوفة على النداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا…]( )، ست آيات إذ تختتم بهذه الآية ليكون تقدير خاتمتها بلحاظ النداء في الآية أعلاه : يا أيها الذين آمنوا إن الله غفور رحيم) وبلحاظ الولاية وقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] تأتي البشارة للمؤمنين بالنصرة والغلبة .
ومن مصاديق قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] بعثة النبي محمد صلى الله علية وآله وسلم لهداية الناس، وفوز المؤمنين بالتصديق بها ، وتقريب الناس إلى الهدى ، ودفع الذين كفروا عن محاربة الذين آمنوا ، ويتجلى هذا المعنى بالفترة والمدة بين كل معركة وأخرى من معارك الإسلام .
وهناك مسائل :
الأولى : ليس من حصر لمصاديق ولاية الله للمؤمنين .
الثانية : ظهور ووضوح مصاديق ولاية الله , وإدراك العقول لها ، قال تعالى [هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ).
الثالثة : إنتفاع المسلم من الولاية من وجوه :
أولاً : ولاية الله للنبي محمد صلى الله عليه آله وسلم .
وهل إنقطعت هذه الولاية بمفارقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى , الجواب لا ، فذات ولاية الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم متصلة إلى يوم القيامة ومنافعها متجددة.
ومنها آيات البحث التي تبين جهاده وصبره في ذات الله ونصر الله عز وجل له بالمعجزة في السنة الدفاعية .
ثانياً : ولاية الله للمؤمنين على نحو العموم المجموعي والإستغراقي .
ثالثاً : ولاية الله لذات المسلم .
رابعاً : إنتفاع المسلم من ولاية الله لأخيه المسلم ، ومن قصص الماضين ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
لقد جعل الله عز وجل القرآن مدرسة للدعاء , ويمكن تأسيس قانون وهو ( الآية دعاء ) فتأتي الآية القرآنية على وجوه :
الأول : تضمن الآية القرآنية الدعاء والمسألة .
الثاني : تبعث مضامين الآية القرآنية على الدعاء ، ومن إعجاز القرآن إيجاد ذات الدعاء في القرآن ، فيتضمن قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] حث المسلمين على الدعاء ، ويتجلى في قوله تعالى [أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ( ).
لبيان أن من عمومات قوله تعالى [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] نصرته للمؤمنين على عدوهم من الكافرين .
وفي الآية أعلاه من سورة البقرة حجة على المسلمين في وجوب عدم الإقتتال بينهم أو رمي بعض الطوائف منهم بالنفاق من أجل الفتنة , فلم يكن المنافقون فرقة أو طائفة مستقلة بل كانوا أفراداً الجامع بينهم إخفاء الكفر في ذات الوقت الذي يظهرون فيه الإيمان.
فان قلت قد وردت آية البحث بذكر طائفة أهمتهم أنفسهم والجواب بين الذين أهمتهم أنفسهم وبين المنافقين عموم وخصوص من وجه .
فمادة الإلتقاء الذين خافوا من القتل في معركة أحد من المسلمين , أما مادة الإفتراق فتتعلق بالبواطن فليس كل من همته نفسه منافقاً.
كما أن هناك منافقين لم يحضروا معركة أحد ولم يخرجوا إليها ، ليتضمن الدعاء في الآية أعلاه تأديب المسلمين بلزوم التآلف بينهم والمبادرة إلى الصلح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند وقوع خلاف أو نزاع بينهم ، قال تعالى [فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ] ( ).
وقال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ) مما يدل بالأولوية القطعية على حرمة القتال بين المسلمين ، وأنهم أمة تقاتل غيرها عن كره وضرورة دفاعية ، وتدل عليه آية البحث والآيات الأربعة السابقة لها ، وآيات أخرى تبين أن الذين كفروا هم الذين يختارون زمان وأوان المعركة ، ويعدون لها الأشهر العديدة والسنوات المتعاقبة .
ولقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة مضطراً للهجرة لأنه كان بين أمرين :
الأول : قتل الذين كفروا له .
الثاني : الهجرة والإعراض عن الذين كفروا .
وعندما بدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطوات الهجرة إلى المدينة , تلك الخطوات التي غيرت وجه التأريخ وإلى يوم القيامة (قال : والله إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله وأكرمها على الله تعالى ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك) ( ).
وأكد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات المعنى والمضمون يوم الفتح مع كثرة المسلمين يومئذ ، ليكونوا شهوداً ولبيان قدسية البيت الحرام وإفتخار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإنتساب للبيت ولمكة (عن أبي عمرو بن عدي بن الحمراء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم الفتح وهو بالحزورة: والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)( ) .
ومع هذا وحينما تم فتح مكة لم يبق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها طويلاً ، وقد خشي الأنصار بقاءه فيها لمجاورة بيت الله الحرام ولأنها بلد ومولد وموطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهله وقالوا (قَالَ الْأَنْصَارُ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَتَرَوْنَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إذْ فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ أَرْضَهُ وَبَلَدَهُ أَنْ يُقِيمَ بِهَا وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الصّفَا رَافِعًا يَدَيْهِ ؟ .
فَلَمّا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ قَالَ مَاذَا قُلْتُمْ ؟ قَالُوا : لَا شَيْءَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتّى أَخْبَرُوهُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ : مَعَاذَ اللّهِ الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ) ( ).
وفي حديث العلاء بن الحضرمي قال (يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا) ( ) أي لا يقيم الصحابي الذي هاجر من مكة قبل الفتح فيها عند المجئ لها لغرض الحج أو العمرة فيغادرها بعد أداء المناسك بثلاثة أيام لبيان أن الإسلام عمل وجهاد وبناء دولة .
ومن مصاديق قوله تعالى [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] نصرة الله للمسلمين بعدم الإقتتال بينهم .
ومن الإعجاز في دفع هذا الإقتتال إتحاد أداء المسلمين للفرائض والعبادات وإقتداؤهم جميعاً بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية.
وقد تقدم البيان في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) و(خذوا عنى مناسككم)( ).
ومن مصاديق اسم التفضيل [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] خذلان المشركين وبعث الشقاق والخلاف بين الذين كفروا وجعلهم في حيرة وإرباك ، قال تعالى [ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ] ( ).
وهل قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ) حجة على الذين تولوا يوم التقى الجمعان أم انه حجة على الذين كفروا خاصة .
الجواب لا تعارض بين الأمرين ، فهو حجة في المقام على المسلمين الذين تولوا وفروا وإنهزموا من القتال يوم معركة أحد ، وهو حجة على الذين كفروا مع التباين في سنخية وموضوع الحجة ، إذ يتوجه اللوم للمسلمين الذين إنهزموا مع إقترانه بالعفو والبشارة بالنصر ، بينما يتوجه الذم والتخويف والوعيد للذين كفروا بالهزيمة والخيبة في الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة.
الوجه الثالث : يمكن تأسيس قانون وهو الآية (حجة متعددة) فتتضمن كل آية من القرآن الحجة والبرهان الذي يقود إلى وجوب عبادة الله ولزوم عبادته بالكيفية التي يريدها هو سبحانه على سبيل الحصر والتقييد ، وترك الأنداد والإمتناع عن محاربة أهل الإيمان .
وهل يختص إحتجاج الآية القرآنية بالكفار والمنافقين ، الجواب لا ، إنما هي حجة على كل الناس ، نعم تكون حجة للمؤمن من غير تعارض بين أن يكون المؤمن فرداً من الناس يشمله إحتجاج الآية وإقامتها البرهان عليه ، وبين أن تكون حجة له ، بلحاظ قاعدة وهي : إذا تبدل الموضوع تغير الحكم بإستحداث عموم لها في هذه الأسطر , وهو أن التعدد في ذات الموضوع المتحد مع تعدد الحكم بحسب اللحاظ والبلغة والغاية ، فذات المؤمن هو مسلم وهو إنسان والنسبة بين الناس والمسلمين هي العموم والخصوص المطلق ، فكل مسلم هو إنسان وليس العكس .
وذات النسبة بين المسلم والمؤمن ، فكل مؤمن هو مسلم وليس العكس ، وتكرر لفظ (منكم) في آية البحث والسياق وبينهما عموم وخصوص من وجه .
فمادة الإلتقاء هي النسبة للمسلمين والإتحاد في ضمير جمع المذكر (كم) في منكم .
أما مادة الإفتراق فهي لغة التبعيض إذ أن الطائفة التي تذكرها آية السياق بتغشي النعاس لها غير الذين تولوا من المسلمين .
ومن الإعجاز في الصلة بين الآيتين تسمية الذين أكرمهم الله بتغشي النعاس بأنهم طائفة ، أما الذين تولوا فلم تطلق عليهم آية البحث عنوان الطائفة بل ذكرتهم بصفة التولي وفيه نكتة وهي أن الذين فروا من ساحة المعركة لم يأت فرارهم وتوليهم عن إتفاق وتواطئ بينهم ، بل فروا من شدة القتال وإستزلهم الشيطان، بمعنى أن كل فرد منهم إستزله الشيطان على نحو مستقل ، وليس من موضوع جامع بينهم، كالخوف والفزع من الذين كفروا الذين ملأ الله قلوبهم بالرعب، لقوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
وتتضمن آية السياق ترغيب المسلمين على الثبات في الميدان، وبعث الندامة في نفوس الذين تولوا وإنهزموا من ميدان المعركة من جهات :
الأولى : نزول النعاس من عند الله عز وجل لبيان أنه نعمة وكرامة ولطف من عنده تعالى .
الثانية : تغشي وملابسة النعاس لأبدان وجوانح طائفة من المؤمنين في معركة أحد .
الثالثة : نزول الأمنة رحمة من عند الله في ساعة الضيق والعسر وبطش الذين كفروا .
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : ثم أنزل عليكم بعد الغم أمنة نعاساً ، ولقد عفا الله عنهم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : يتحد موضوع الآيتين إذ جاءت كل واحدة منهما بخصوص معركة أحد ، وبينهما عموم وخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء من وجوه :
أولاً : نزول كل من الآيتين بخصوص معركة أحد .
ثانياً : أصل موضوع الخطاب في كل من الآيتين هم المسلمون الذين حضروا معركة أحد والآية أعم .
ثالثاً :تغشي الأمنة للمسلمين في معركة أحد .
أما مادة الإفتراق فمن وجوه :
أولاً : إبتداء آية السياق بنبأ النزول ، وما فيه من الخير والفلاح، وإبتدأت آية البحث بالإخبار عن تولي وفرار جماعة من المسلمين .
ثانياً : ذكرت آية السياق طائفتين بينهما تباين من جهة التنعم بآية النعاس وإخلاص الإيمان أو الحرمان من هذه الآية بسبب ضعف الإيمان والإنشغال بالنفس.
بينما وردت آية البحث بخصوص عدد من المسلمين الذين تولوا وفروا من القتال .
ثالثاً : تضمنت آية السياق التخويف والوعيد للمنافقين وتضمنت آية البحث الإخبار عن تفضل الله عز وجل بالعفو عن الذين فروا من القتال بقوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ].
الوجه الثاني : يدل الجمع بين الآيتين على تعدد النعم على المؤمنين , وتتجلى القوانين من وجوه :
أولاً : تعدد النعم الإلهية على المؤمنين ، قال تعالى[وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ]( ).
ثانياً : عدم إنقطاع النعم عن المؤمنين في حال الحرب والقتال.
ثالثاً : تقدير آية البحث يوم التقى الجمعان، فتأتي النعم تترى للمؤمنين ، ويهجم الرعب والفزع على الذين كفروا ، ليخالط جوانحهم , لبيان قانون وهو رجحان كفة المؤمنين في القتال وإن كان الذين كفروا هم الأكثر عدداً وعدة .
رابعاً : ينزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال السلم والحرب ، والحل والسفر .
وتبين آية السياق نزول الأمنة والنعاس على المؤمنين في حال الحر ب والقتال ليكونا وعاء ومقدمة لنزول آيات القرآن والإصغاء إليها إذ أخبرت الآية عن النعاس لتدل بالدلالة الإلتزامية على ما بعد النعاس من الكيفية النفسانية للمسلمين وحالهم بعد مغادرته .
الوجه الثالث : تحتمل الصلة بين نزول الأمنة النعاس على الذين ثبتوا في الميدان وبين العفو عن الذين تولوا من جهة الزمان والأوان وجوهاً :
أولاً : إرادة إتحاد الوقت ، وكل منهما نزل في نفس الوقت .
ثانياً : تقدم نزول الأمنة النعاس لحاجة المؤمنين لها في الميدان.
ثالثاً : نزل العفو عن الذين تولوا قبل أن تنزل الأمنة النعاس على الذين ثبتوا في الميدان .
والمختار أن الأمنة والنعاس هما اللذين نزلا قبل العفو عن الذين تولوا يوم أحد ، وفيه حجة على الذين تولوا بأن الله عز وجل كتب لهم الأمن والأمان وسط الميدان فلا تصل النوبة إلى الفرار ، وفي التنزيل [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
ويبين التوالي والتعاقب بين الأمنة النعاس وبين العفو قانوناً وهو رجوع كل الصحابة الذين لاقوا الذين كفروا في ميدان معركة أحد بالغنيمة والفضل من عند الله عز وجل ليكونوا على أقسام :
الأول : الذين فازوا بالأمنة والنعاس والعفو من عند الله ، فان قلت إختص العفو في آية البحث بالذين تولوا من المعركة والجواب من جهات :
الأولى : شمول الذين ثبتوا في الميدان بالعفو من باب الأولوية القطعية .
الثانية : دلالة نزول الأمنة والنعاس على الصحابة على نيلهم مرتبة العفو من عند الله عز وجل .
الثالثة : ورود العفو عن المؤمنين الذين قاتلوا في معركة أحد قبل ثلاث آيات [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها ذكرت العفو بعد بيان صدور الجبن والخصومة والمعصية من المؤمنين .
ويفيد الجمع بين هذه الآيات صيرورة يوم معركة أحد (يوم العفو ) عن المؤمنين ، وهو أعظم غنيمة فازت بها طائفة من الناس , وهو من مصاديق [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثاني : الذين فازوا بالأمنة والعفو من عند الله عز وجل وحجبت عنهم نعمة النعاس .
الثالث : الذين نالوا مرتبة الأمنة والعفو مع توليهم عن القتال .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين ، ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما إستزلهم الشيطان ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : من معاني إغواء الشيطان لطائفة من المسلمين إلى جانب فرارهم حرمانهم من آية النعاس مع حضوره بتغشيه لطائفة من المؤمنين، وفيه بيان قانون وهو أن الشيطان يسعى لحجب النعمة عن الإنسان ويجتهد في صده عن النفع والثواب في الدنيا والآخرة.
وتقدير الآية : إنما إستزلهم الشيطان عن نعمة الأمنة والنعاس ، وعلى فرض أن فريقاً منهم شاركوا المؤمنين بنعمة الأمنة بفضل من الله فإنهم حرموا من نعمة النعاس ودلالتها على الصبر في ميدان القتال , وما فيه من العز والفخر في الدنيا والآخرة.
وتبعث الآية في نفوس المسلمين الحيطة والحذر من كيد الشيطان ، وفيها بيان للضرر الحال الذي يجلبه إتباعه والإفتتان بحبائله ، ومنها حب الدنيا وصيرورتها الغاية .
ومن الإعجاز في آية البحث مجئ بيانها لإغواء الشيطان على نحو السالبة الجزئية من جهات :
الأولى : إختصاص إزلال الشيطان لأفراد من المؤمنين ممن حضر معركة أحد .
الثانية : نفاذ الشيطان للفرد من حبه للدنيا وزينتها .
الثالثة : إقتران إغواء الشيطان بالتولي والفرار من المعركة ، ويمكن تقدير الجمع بين الآيتين : ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يوم التقى الجمعان إلا الذين تولوا منكم .
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن ميمون بن سياه قال : قال عيسى ابن مريم : يا معشر الحواريين اتخذوا المساجد مساكن ، واجعلوا بيوتكم كمنازل الأضياف . فما لكم في العالم من منزل ، إن أنتم الا عابري سبيل( ).
الوجه الثاني : تقدير آية البحث إن الذين تولوا منكم يوم أنزل الله عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً .
لقد تجلت في معركة أحد معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي نزول الأمنة النعاس عليهم وعلى المؤمنين الذين قاتلوا معه في الميدان، ويحتمل أثر هذه النعمة التي فاز بها المسلمون على الذين كفروا وجوهاً :
أولاً :إصابة الذين كفروا بالخيبة والندامة عند نزول نعمة الأمنة على المؤمنين .
ثانياً : إنها من عمومات عودة ورجوع الذين كفروا خائبين بقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] أي خاسرين آسفين على نزول النعم على المؤمنين .
ثالثاً : إقامة الحجة على الذين كفروا في الدنيا والآخرة .
رابعاً : ترغيب الناس بدخول الإسلام ، وبعث النفرة في نفوسهم من الكفر والضلالة .
خامساً : بيان قانون من الإرادة التكوينية ، وهو التفاني بين النعم الإلهية في ميدان القتال وبين الكفر والضلالة .
وفي التنزيل بخصوص إبراهيم عليه السلام ونجاته من القوم الظالمين [وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ] ( )، لتبين الآية أعلاه قانوناً وهو أن الذي يريد الكيد بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يرجع كيده إلى نحره ، ويكون هو الأخسر ، أي الأكثر خسارة من غيره من الكفار سواء في الدنيا أو الأخرة وتتضمن آية السياق الإخبار عن نزول نعمتين :
الأولى : الأمنة والأمان في ساحة المعركة .
الثانية : نعمة النعاس وسلطانه .
والمختار أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، وأن الأمنة أعم في متعلقها وموضوعها إذ صارت صاحباً وظلاً لكل فرد من المؤمنين الذين حضروا معركة أحد تحت لواء النبوة والتنزيل .
أما النعاس فقد تغشى طائفة مخصوصة منهم دون العموم، وفيه حجة على الذين تولوا عند اللقاء ، أي أن الله عز وجل أنزل لهم الأمنة والأمان وأنه تغشاهم طوعاً وقهراً فلماذا الفرار من وسط المعركة , فيأتي الجواب بآية البحث بأن علة الفرار هي إزلال وإغواء وإستدراج الشيطان لهم لقوله تعالى [اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ] .
الوجه الثالث : يمكن تقدير الجمع بين الآيتين : إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما إستزلهم الشيطان ليحرمهم من نعمة الأمنة والنعاس فأوقعهم في ضيق وحسرة وشدة ولكن الله عز وجل أخبر قبل ثلاث آيات بأنه [ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
لقد خرج المسلمون إلى ميدان معركة أحد وإصطفوا في ملاقاة الذين كفروا دفاعاً عن النبوة وتثبيتاً لقواعد الإسلام في الأرض ، وبناء صرح الإيمان وإلى يوم القيامة .
لقد قام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام برفع قواعد البيت الحرام وأمر الله عز وجل إبراهيم أن يدعو الناس إلى حج بيت الله الحرام ، قال تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ) لتكون هذه الدعوة مقدمة لرسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومجئ الناس من كل قبيلة ومصر لدخول الإسلام ، وكان سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي من أوائل الصحابة الذين دخلوا الإسلام ولازموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي بالغ في إكرامهم .
وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (سلمان منا أهل البيت ) ( ) فهل يصدق ذات المعنى والنسبة على بلال وصهيب ، كأن يقال : بلال منا أهل البيت و(صهيب منا أهل البيت ) الجواب لا دليل على هذا المعنى والقدر المتيقن هو خصوص سليمان وجاء قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه في معركة الخندق حينما أشار سلمان بحفر الخندق وإجتهد في العمل والحفر يومئذ ولأن ولاءه كان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فعندما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة كان سلمان عبداً لرجل من اليهود فاسلم سلمان وكاتَبه اليهودي فأعانه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون إلى أن عُتق وقال رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم : أنا سابق ولد آدم وسلمان سابق أهل فارس ، وعن أبي هريرة قال (إنّ رسول الله تلا هَذِهِ الآية: وَإنْ تَتَوَلَّوا يَسْتَبْدِلْ قَوماً غَيْرَكُم، قيل: من هم يَا رسول الله؟ فضرب عَلَى فخذ سلمان، ثُمَّ قال: هَذَا وقومه! ولو كَانَ الدين عند الثريّا لتناوله رجال من فارس، وَفِي رواية: لو كَانَ الإيمان منوطاً بالثريّا.
ومرّ سلمان بجسر المدائن غازياً وهو أمير عَلَى الجيش واشترى رجل علفاً لفرسه، فقال لسلمان: يَا فارسي تعال فاحملْ! فحمل وأتبعه فجعل الناس يسلّمون عَلَى سلمان , فقال: من هَذَا؟ قال: سلمان الفارسي: قال: والله مَا عرفتك! أقِلْنِي! فقال سلمان: لا! إنّي احتسبت بما صنعت خصَالاً ثلاثاً إحداهنّ أنّي ألقيت عن نفسي الكبر , والثانية أعين رجلاً من المسلمين فِي حاجته , والثالثة لو لَمْ تسخرني لسخّرتُ من هو أضعف منّي فوقيتُهُ بنفسي. وقال الحسن: كَانَ عطاؤه خمسة آلاف وَكَانَ عَلَى ثلاثين ألفاً من الناس يخطب فِي عباءة يفترش نصفها ويلبس نصفها، وإذا خرج عطاؤه أمْضَاهُ ويأكل من سفيف يده، وقبره بالمدائن) ( ).
وكان سلمان على ثلاثين ألفاً من الناس في المدائن وكان يتصدق بعطائه وكان يعمل الخوص ، يشتريه بدرهم فيعمله ويسفه ويبيعه بثلاثة دراهم ، يرجع يشتر ي خوصاً بدرهم وينفق درهماً على عياله ويتصدق بدرهم ، قال مالك (قال مالك: كان سلمان الفارسي يعمل الخوص بيده، ولا يقبل من أحد شيئاً، وكان يعيش به، ولم يكن له بيت إنما كان يستظل بظل الجدر والشجر، وأن رجلاً قال له: أنا أبني لك بيتاً قال: مالي به حاجة، فما زال الرجل يردد عليه ذلك ويأبى سلمان حتى قال الرجل: إني أعرف البيت الذي يوافقك قال: فصفه لي، قال: أبني لك بيتاً إذا أنت قمت به أصاب رأسك سقفه، وإذا مددت رجلك أصابتا الجدار. قال: نعم، قال فبنى له)( ).
وذكر أن صهيباً بن سنان ليس رومياً إنما سُبي في الروم وكان أبوه أو عمه عاملاً لكسرى على الأبله وكانت منازلهم بأرض الموصل فأغارت الروم عليهم فوقع صهيب في الأسر وهو غلام ثم إشترته كلب ، وباعوه لعبد الله بن جدعان فاعتقه ، أما أهله فيقولون أنه هرب من الروم .
وقال ابن منظور (صُهيب بن سنان بن مالك بن عبد عمرو بن عقيل بن عامر بن جندلة بن سعد بن جُذيمة بن كعب بن منقذ بن العُريان بن حي بن زيد مناة بن عامر بن الضَّحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قساط بن هِنْب بن أفصى ابن دُعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار , وفي نسبه اختلال) ( ).
وقد آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين الحارث بن الصمة بن عمرو بن عتيك من بني النجار , وتزوج صهيب ريطة بنت أبي أمية أخت أم سلمة وتوفى صهيب في سنة ثمان وثلاثون وذكر (أن صهيباً كان يكنى أبا يحيى , وزعم أنه كان من العرب وكان يطعم الطعام الكثير فقال له عمر: يا صهيب ما لك تتكنى بأبي يحيى , وليس لك ولد وتزعم أنك من العرب وتطعم الطعام الكثير وذلك سرف في المال؟ فقال له صهيب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كناني بأبي يحيى , وأما قولك في النسب فإني رجل من النمر بن قاسط من أنفسهم ولكني سبيت غلاماً صغيراً قد عقلت أهلي وقومي , وأما قولك في الطعام فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: ” خياركم من أطعم الطعام ورد السلام فذلك الذي يحملني على أن أطعم) ( ).
وهل كان لتقوى وزهد سلمان موضوعية في ضم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له وجعله وكأنه من أهل البيت في النسب ، الجواب نعم ، ليكون من دلالات الوحي في إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووصفه للأفراد تحلي سلمان بأعلى مراتب الزهد في ساعة الإمتحان بتولي الأمارة في المدائن .
ويعد بعض المؤرخين سلمان من موالي أهل البيت والذي عاشوا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورووا عنه ، وهذا صحيح ولكن تسمية ( سلمان منا أهل البيت ) منزلة رفيعة لا صلة للولاء بها , وهي أسمى منه .
فلذا حينما سئل علي عليه السلام عن سلمان الفارسي (فقال: ذاك امرؤ منا والينا أهل البيت، من لكم بمثل لقمان الحكيم، علم العلم الأول والعلم الأخر وقرأ الكتاب الأول وقرأ الكتاب الآخر وكان بحرا لا ينزف) ( ).
(عن عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ” إن الله عز وجل أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم: علي والمقداد وأبو ذر وسلمان ” أخرجه الترمذي وابن ماجة وسنده حسن) ( ).
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين ( ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً ولقد عفا الله عنهم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : تتعدد لغة الخطاب في الآيتين ، إذ وردت الآية السابقة بصيغة الخطاب للمسلمين على نحو العموم المجموعي وإن لم يفد معنى العموم الإستغراقي ، وإبتدأت آية البحث بذات لغة الخطاب بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ] ليكون موضوعها أخص ، ويتعلق بإنسحاب وفرار فريق من المسلمين .
والتولي عن الزحف أمر قبيح ومحرم ، ولكن الآية جاءت بالإخبار عن عفو الله عز وجل عنهم بفضل وتخفيف منه تعالى ، وهو من مصاديق رحمة الله بالمسلمين الذين بادروا إلى دخول الإسلام في أيامه الأولى .
وتقدير الآية : ولقد عفا الله عن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان لبيان إكرام المسلمين بتوجه الخطاب إليهم جميعاً بالعفو عن طائفة منهم قد أخطأوا وعصوا بالتولي عن القتال والزحف، قال تعالى[ قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا]( ).
الوجه الثاني : إقامة الحجة على الذين تولوا بإخبار آية السياق عن توالي نزول النعم من عند الله على المؤمنين الذين آمنوا في الميدان وبيان قانون كلي , وهو أن دخول الإسلام مطلوب بذاته ، وهو مقدمة لأداء الفرائض والسنن ، ومنها الثبات في ميدان القتال لأنه في سبيل الله عز وجل .
ولقد كان القتال مأذوناً به للمسلمين , ولم يكن مفروضاً عليهم ، ليكون خاصاً بمعارك الدفاع وإيجاد قدرة على القتال ، وعدم الفرض لا يعني الإذن بالتولي والفرار للضرر العام المترشح عنه ، فصحيح أنه لم يشرع جهاد الطلب أي الجهاد الإبتدائي لنشر كلمة التوحيد ، ولكن الدفاع حق وواجب عقلي وشرعي .
لذا تفضل الله عز وجل بالمدد على المؤمنين بنزول الأمنة والنعاس عليهم رحمة من عند الله ومدداً وعوناً للثبات في ميدان القتال ، ليفيد الجمع بين نزول هذه النعم وبين تولي فريق من المؤمنين توجيه اللوم لهم على هذا التولي لوجود المقتضي للثبات في الميدان وفقد المانع منه .
الوجه الثالث : تقدير الجمع بين الآيتين : إن الذين تولوا منكم عن النعاس الذي نزل أمنة ورحمة من عند الله عز وجل) فالقدر المتيقن من أوان ومحل نزول النعاس هو ميدان المعركة والذين ثبتوا في الميدان من المؤمنين ، لبيان حقيقة وهي أن الذي يتولى عن المعركة لا يجلب لنفسه إلا الأذى والذم ، ويحرمها من النعم التي تنزل على المؤمنين في ساعة الضيق والضراء.
وهل في نزول الأمنة والنعاس على المؤمنين في معركة بدر وأحد مواساة للمؤمنين الذين صبروا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ .
الجواب نعم ، وفيه مدد وعون لهم ، فتحجب طائفة من المسلمين نصرها عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ساعة إشتداد القتال وصيرورة الجولة للذين كفروا.
فيتفضل الله عز وجل بالمدد المتعدد منه سبحانه بأن يبعث الملائكة وينزل الأمنة والنعاس لنصرته ومن صبر معه في ميدان القتال ، ومع حرمان الذين تولوا أنفسهم من نعمة الأمنة النعاس ، فان الله تفضل عليهم بالعفو والمغفرة ومحو أثر هذا التولي ، قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] ( ).
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً إن الله غفور حليم )وفيه وجوه :
الوجه الأول : أختتمت آية البحث بقانون يتغشى الحياة الدنيا وهو من جهتين :
الأولى : من إعجاز القرآن إختتام آياته بقوانين كلية من الإرادة التكوينية ، وأكثر هذه الخواتيم ما تأتي باسم أو إسمين من أسماء الله الحسنى لبعث السكينة في نفوس المسلمين ولتذكيرهم بحقيقة نزول القرآن من عند الله ، وأنه نزل ليعبدوه سبحانه ، ولبيان الصفات الذاتية والفعلية لله عز وجل التي تتضمن معاني المغفرة وتغشي الرحمة للناس جميعاً .
لقد أختتمت آية البحث بصفتين لله عز وجل فأخبرت بأنه سبحانه غفور , وفيه ترغيب للمسلمين بالإستغفار وجعله مادة للتدارك وسبيلاً للفلاح ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) لأن الإستغفار ذاته صراط مستقيم ومقدمة وطريق لوجوه متعددة من معاني ومصاديق الصراط المستقيم .
الثانية : لقد تفضل الله عز وجل وأخبر في خاتمة البحث عن حلمه وإمهاله للناس ، ومن الإعجاز في المقام إقتران الحلم منه تعالى بصفة المغفرة لترغيب الناس بالتوبة والإنابة .
لقد أراد الله عز وجل أن يبين للمسلمين أنه هو الحليم الذي لا يتعجل بالعقوبة .
ولما أخبرت آية البحث عن تفضل الله بالعفو وأختتمت الآية بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ] وفيه وجوه :
الأول : تعلق خاتمة الآية بموضوع العفو عن المؤمنين الذين فروا من ميدان المعركة بلحاظ أن العفو عنهم مغفرة لفعل التولي، وحلم وإمهال من الله عز وجل .
الثاني : إرادة مضامين آية البحث كلها ، لتشمل تولي وفرار طائفة من المسلمين معركة أحد .
الثالث : شمول المسلمين جميعاً بمعاني ودلالات خاتمة البحث.
الرابع : أصالة العموم وشمول الناس جميعاً خاصة .
والمختار هو الأخير , ليشمل المؤمنين من باب الأولوية, ويتوجه الخطاب في الآية إلى المسلمين جميعاً وإن جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية إذ يدل قوله تعالى [تَوَلَّوْا مِنْكُمْ] على إرادة المسلمين في الخطاب .
وهل في هذه الصيغة نوع تبكيت وإزدراء للذين تولوا خاصة وان العفو جاءهم بعد التولي وإنقضاء معركة أحد ، الجواب لا دليل عليه ، ومضامين الآية بخلافه بدليل نسبة التبعيض في [الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ] بالإضافة إلى النفع المتقدم .
الوجه الثاني : تتضمن خاتمة آية البحث معنى الوعد من عند الله عز وجل بأنه سبحانه غفور حليم ، ولو تردد الأمر بين العموم في هذا الوعد وشموله الناس جميعاً ، وبين إختصاصه بالمسلمين ، فالصحيح هو الأول لأصالة الإطلاق ، إلا أن يدل دليل على التقييد كما في قوله تعالى [ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
لقد حجب الذين كفروا عن أنفسهم سبل العفو والمغفرة من عند الله عز وجل ، ومن مصاديق هذا الحجب إصرارهم على محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين , والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
المسألة السادسة : من وجوه تقدير الجمع بين هذه الآية والآية السابقة : وطائفة قد أهمتهم أنفسهم والذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : من الإعجاز في نظم هذه الآية والآية السابقة والجمع بينهما إبتداء الآية السابقة بفضل نازل من عند الله عز وجل على طائفة من المؤمنين يوم معركة أحد , وفي ذات ميدان الواقعة بأن تغشاهم النعاس ولازمتهم الأمنة وبعد بيان هذه النعمة توالت مضامين الإخبار عن فريقين :
الأول : الذين إنشغلوا بسلامتهم وكيفية النجاة بأبدانهم من المعركة بعد صيرورة الجولة للذين كفروا .
الثاني : المسلمون الذين تولوا وإنهزموا من ميدان المعركة .
وإذ تتضمن الآية السابقة اللوم للذين أهمتهم أنفسهم وإنشغلوا بكيفية نجاتهم وسلامتهم ، فهل تتضمن هذه الآية ذم الذين تولوا من الميدان ، الجواب لا دليل بعد أن تضمنت الآية نسبة هذا التولي للسبب وهو الشيطان إذ إستدرجهم وأزلهم ، وحالت النفس الشهوية عن الثبات في الميدان ، فان قلت تفيد آية البحث معنى اللوم من جهات :
الأولى : النعت بالتولي والفرار ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ] ( ).
الثانية : تجلي اللوم بلحاظ حصول التولي مع أن الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقاتل في الميدان .
وتقدير الآية : إن الذين تولوا منكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقاتل الذين كفروا .
الثالثة : نفاذ الشيطان ووسوسته إلى هؤلاء النفر من المسلمين بما كسبت أيديهم .
الرابعة : سلامة طائفة من المؤمنين من التولي والفرار من الميدان حجة على الذين فروا وإنهزموا .
أما بالنسبة للجهة الأولى والثانية فالجواب نعم ، فيدل النعت بالتوالي على اللوم خاصة مع ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان الذي يدل على إمتناع هزيمة المسلمين لأن الملائكة يشدون عضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة ، ويدفعون عنه وعن أصحابه الذين معه في ميدان المعركة شرور الذين كفروا ز
ومن الإعجاز في آية البحث أنها تذكر معنى اللوم في أولها على نحو الإشارة والبيان لتأتي بعده بالإخبار عن إستزلال الشيطان لهم ، ثم عن عفو الله عز وجل عنهم ، في بيان أن الله يعطي بالأتم والأوفى .
وذكر في الآية أعلاه النهي عن تولي الأدبار والفرار من الزحف أنها نزلت في أهل بدر خاصة ، وهو المروي عن ابن عباس وابن عمر ( ).
ثم نزل التخفيف من عند الله ، قال تعالى [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ] ( ) بحصر التحريم بما كان دون الثلاثة لواحد .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (اجتنبوا السبع الموبقات . قالوا : وما هن يا رسول الله؟ قال : الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) ( ).
وأما بالنسبة للمسألة الثالثة فان الآية أقرب في دلالتها إلى الدعوة والحث على التنزه عن أسباب إغواء الشيطان ، وعن جابر بن عبد الله قال ( إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكنه في التحريش بينهم) ( ) أي بعث أسباب الخلاف والكدورة بينهم .
وفي آية البحث دعوة للمسلمين للإستعاذة من الشيطان في حال السراء والضراء ، والرخاء والشدة ، قال تعالى [وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ] ( ).
وأما الرابعة فانها دعوة للذين تولوا للصبر والتدارك والجهاد والإستجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الرجوع إلى ميدان المعركة .
الوجه الثاني : بيان حال جيش المسلمين في معركة أحد وأسباب الضعف والوهن عندهم لولا فضل الله عز وجل ، فلا تستطيع الطائفة التي أولت عنايتها وسلامة البدن من الجراحات أن تقاتل ، وكذا الطائفة التي تولي في المعركة فأنها تنكشف أمام العدو ، وتكون سبباً لإنكشاف الذين بقوا يقاتلون في الميدان .
لقد جاء كفار قريش وهم يطلبون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويريدون قتله فتهيأت لهم الأسباب ، وصاروا على بعد أمتار قليلة منه لولا فضل الله عز وجل بوقايته ونجاته .
وتقدير مضامين الآية السابقة على وجوه :
أولاً : وطائفة قد أهمتهم أنفسهم والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم يقاتل دونهم ودون إيمانهم ، لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يهم بأنفسهم أكثر مما يهمون بها ، إذ تجلى همّه بجهاده لسلامتهم في الدنيا والآخرة ، لبيان قانون وهو مصداق همّ المسلمين بأنفسهم هو في الثبات في ميدان المعركة والدفاع عن النبوة والتنزيل .
ثانياً : وطائفة قد أهمتهم أنفسهم والأصل أن يكون همّهم بسلامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : وطائفة قد أهمتهم أنفسهم مع أن الملائكة حاضرون إلى جانبهم لنصرتهم .
رابعاً : وطائفة قد أهمتهم أنفسهم , وقد ملأ الله عز وجل قلوب الذين كفروا الرعب والخوف ، وكأن الآية السابقة تقول لهذه الطائفة كيف تهمون بأنفسكم والخوف يملأ قلوب أعدائكم منكم .
الوجه الثالث : بيان الملازمة بين الهمّ بالنفس وتقديم سلامتها على الدفاع عن النبوة والتنزيل ومبادئ الإيمان وبين التولي والفرار في الميدان , وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذين تهمهم أنفسهم يولون في القتال .
الصغرى : طائفة من المسلمين همتهم أنفسهم يوم أحد .
النتيجة : طائفة من المسلمين تولوا في القتال .
وسيأتي في باب التفسير أن النسبة بين التولي على الأدبار وبين التولي هي العموم والخصوص المطلق ، فليس كل تول هو تول على الأدبار ، فقد يكون تولياً محدوداً أو إعراضاً أو إلى حين , وبغية التدبر بالأمر ونحوه .
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : وطائفة قد أهمتهم أنفسهم إنما إستزلهم الشيطان) وفيه وجوه :
الوجه الأول : من إعجاز آية السياق أنها تتضمن الإخبار عن الكيفية النفسانية للمسلمين في ميدان معركة أحد ، إذ ذكرت الآية حال فريق من المسلمين يوم معركة أحد وعند التهيئ لها بالهمّ بأنفسهم .
لقد كان يوم معركة أحد يوم شدة وضراء على المسلمين إذ قدم ثلاثة آلاف رجل من الذين كفروا لغرض القتال وإستئصال الإسلام ، فلا يعلم ماذا يحدث يومئذ إلا الله ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) وكان من علمه تعالى ما سيحدث ويقع يوم أحد .
فندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين للقتال ، ولبوا الدعوة ووقفوا أزاء العدو ، ثم قاتلوا وإجتهدوا في الدفاع عن بيضة الإسلام ، لم يمنعهم إنسحاب فريق منهم مع رأس النفاق في منتصف الطريق إلى أحد , وكان حال هؤلاء الذين أهمتهم أنفسهم وجوهاً :
الأول : إرادة الكيفية النفسانية ودبيب الخوف إلى صدورهم.
الثاني : المقصود صدور أفعال من هذه الطائفة تدل على همهم بأنفسهم وإثارتهم أسباب الشك والريب .
الثالث : إرادة المعنى الأعم من الخوف والفزع في النفوس وصدور الأفعال التي تدل على همهم بأنفسهم .
والصحيح هو الثالث أعلاه ، لذا ذكرت الآية ما يثيرون من أسباب الفتن ، وجاءت آيات القرآن ببيان شدة عذاب المنافقين لما يبثون من الشك ، وقد كشفت واقعة أحد ما يضمره المنافقون بعالم الفعل وليس القول وحده , إذ إنسحبوا وسط الطريق في وقت يحتاج فيه المسلمون العون والمدد وكثرة السواد ، وهذا التعدد من الشواهد على علم الله عز وجل بما تخفيه الصدور وأنه سبحانه يكشفه ليكون هذا الكشف على وجوه :
الأول : الإخبار عن إحاطة الله علماً بالنوايا والمقاصد وحال الحزن والخوف ونحوه عند الناس .
الثاني :لقد أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]لإفادة قانون وهو عدم إختصاص علم الله بما في صدور الذين أهمتهم أنفسهم ، بل يعلم الله عز وجل ما في صدور المؤمنين الذين أخلصوا في جهادهم ، لتتضمن خاتمة الآية الثناء على المؤمنين الذين ثبتوا في الميدان.
الثالث : دعوة الذين أهمتهم أنفسهم والذين تولوا من المعركة إلى إصلاح السرائر ، وإخلاص النية وثبات العقيدة ، فقد نزلت هذه الآيات ليزداد المسلمون إيماناً ، ويتوب الله عز وجل عليهم ، لذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ].
الوجه الثاني : لقد نسبت آية البحث علة تولي وفرار شطر من المؤمنين إلى إغواء ووسوسة الشيطان لهم ، ترى هل الذين أهمتهم أنفسهم إستزلهم الشيطان ، الجواب نعم ، إذ زين لهم حب الذات وأولوية سلامتها والميل إلى الجدال المبني على الشك والرياء ، وهل هذا التزيين بذات المرتبة في إغواء الشيطان للذين كفروا كما في قوله تعالى [وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ] ( ) الجواب لا ، للتباين الموضوعي فالذين أهمتهم أنفسهم من المسلمين الذين نطقوا بالشهادتين ، أما الذين تذكرهم الآية أعلاه فهم من الذين كفروا لبيان أن الشيطان لا يترك الإنسان وإن دخل الإسلام ، وهو من مصاديق الإبتلاء في الحياة الدنيا .
ليتضمن الجمع بين الآيتين الكشف عن حقيقة وهي أن الشيطان حاضر مع طمعه بالإغواء عند الجمعين ، وأنه لم يكتف بأغواء الذين كفروا وإستدراجه لهم ، بل يعمل على إزلال المسلمين فتفضل الله عز وجل بأمور :
الأول : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان يتلقى سهام وحجارة الذين كفروا .
الثاني : قتال طائفة من أهل البيت والصحابة حول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : نزول آية البحث والسياق بالتحذير من الشيطان ومكره .
الرابع : بيان قانون وهو أن المسلمين يبذلون الوسع للسلامة من إزلال الشيطان لهم ، وقد جاءت آية البحث لتكون عبرة وموعظة لهم ، وفي التنزيل [وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ]( ).
الوجه الثالث : لقد كان المسلمون أمة واحدة يجمعهم الإيمان بالله ورسوله والتنزيل والملائكة واليوم الآخر يقفون خمس مرات بين يدي الله عز وجل بخشوع في الصلاة , وهذه الوحدة من الدلائل على قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )وعندما وقعت معركة بدر أظهروا الإيثار , وإجتهدوا في التضحية والفداء , ويتجلى هذا المعنى بالمبادرة والتسابق لمبارزة أول ثلاثة خرجوا من جيش الذين كفروا ، فقد تقدم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وإبنه الوليد بين الصفين وطلبوا المبارزة بنوع من التحدي وإرادة القهر واللي .
ولم تكن هناك فترة أو تراخ ولم يتحير أو يندهش المسلمون بل بادر ثلاثة من شباب الأنصار للقائهم وهم عوف ومعاذ إبنا الحارث وأمهما عفراء , وعبد الله بن رواحة لقتالهم ، وحينما سألوهم : من أنتم ؟ قالوا رهط من الأنصار ، قالوا ما لنا بكم من حاجة ، ثم نادوا والصفان يسمعون كلامهم : (يا محمد أخرج لنا أكفاءنا من قومنا ) ( ).
لقد أظهر كفار قريش للملأ قطعهم للرحم ، وخلو قلوبهم من الرحمة ، مع حاجة الناس جميعاً إلى التراحم بينهم ونشر شآبيب السلام ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فأرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأنصار الثلاثة , وقال لهم : إرجعوا إلى مصافكم وليقم إليهم بنو عمهم .
ثم قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : قم يا علي، قم يا حمزة ، قم يا عبيدة ، وهو عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب وكان أسنهم ( وكان علي معلماً بصوفة بيضاء ليعلم مكانه ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فقاتلوا بحقكم الذي بعث الله به نبيكم، إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور الله) ( ).
لبيان أن قتال أهل البيت والمسلمين في سبيل الله وليس حمية أو غضباً ، ولبيان حقيقة وهي أنهم على الحق .
وتبين هذه المنازلة الإنعطاف والتغيير في تأريخ الإنسانية ، ومعالم التوحيد في الأرض ، لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم منقطعاً إلى الدعاء وسؤال النصر من عند الله عز وجل .
لقد نزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) في معركة الخندق , ولم يحصل فيه قتال شديد مثل الذي حصل في معركة أحد .
فهل تشمل مضامين الآية أعلاه القتال في معركة بدر وأحد ، أم أن القدر المتيقن هو خصوص معركة الخندق لعدم ثبوت الإستصحاب القهقري ، ولما ورد في أسباب وموضوع النزول إذ جاءت على وجوه :
الأول : إنشغل المسلمون عن الصلاة في أحد أيام معركة الخندق ، فنزلت الآية ، فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقيم لكل صلاة في وقتها ، فقد روي عن أبي سعيد الخدري قال (حبسنا يوم الخندق فلم نصل الظهر ولا العصر ولا المغرب ولا العشاء حتى كان بعد هوى من الليل كفينا وأنزل الله تعالى ، { وكفى الله المؤمنين القتال } ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً فأقام وصلى الظهر فأحسنها ثم كذلك حتى صلى كل صلاة بإقامة) ( ).
الثاني : المراد من قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] أن كفار قريش إنهزموا بالريح من غير قتال .
الثالث : لقد كفى الله المؤمنين القتال بنزول الملائكة والجنود من عنده تعالى .
الرابع : الكفاية هنا بعث الضجر والملل واليأس في قلوب الذين كفروا خاصة مع طول مدة حصارهم للمدينة , وأخرج ابن سعد عن سعيد بن المسيب أنه قال (لما كان يوم الأحزاب حصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بضع عشرة ليلة حتى خلص إلى كل امرىء منهم الكرب ، وحتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم أنك إن تشأ لا تعبد « فبينما هم على ذلك إذ جاءهم نعيم بن مسعود الأشجعي ، وكان يأمنه الفريقان جميعاً ، فخذل بين الناس ، فانطلق الأحزاب منهزمين من غير قتال . فذلك قوله { وكفى الله المؤمنين القتال})( ).
الخامس : تفضل الله عز وجل بكفاية المسلمين القتال بقتل علي بن أبي طالب عليه السلام لعمرو بن ود العامري وبعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا (وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ هذا الحرف { وكفى الله المؤمنين القتال } بعلي بن أبي طالب ( )عليه السلام .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، والله عز وجل يعطي الكثير في الموضوع المتحد لبيان عظيم قدرته وسعة رحمته بالمؤمنين .
والمختار أن قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]عام ينبسط على معارك الإسلام الأولى التي سبقت نزول الآية أعلاه والتي وقعت بعد نزولها ولو على نحو الموجبة الجزئية ، أي يحدث قتال في بعض المعارك ولكنه لا يكون حسب الحال والمقاصد إذ جاء الذين كفروا في معركة بدر للإنتقام والبطش فسقط منهم سبعون قتيلاً وأسر منهم سبعون مع أن رجحان الكفة بالعدد والعدة كانت لهم على نحو جلي وواضح .
ثم زحفت قريش بخيلها وخيلائها ، والقبائل معها فغادروا خائبين ، ثم كان موضوع قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ].
وأيهما أكثر موضوع الكفاية من عند الله للمعارك التي وقعت للمسلمين في قتالهم مع الذين كفروا أم التي صرف الله وقوعها ، ولا يعلم عددها وأوانها وتفاصيلها وآثارها لو وقعت فعلاً وفي المبرز الخارجي إلا الله سبحانه ، الجواب هو الثاني ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : وكفى الله المؤمنين القتال بمحوه وصرف الذين كفروا عن المؤمنين ، وصرف المؤمنين عن الذين كفروا ، ويدل عليه ما ورد قبل ثلاث آيات [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] ( ).
الثاني : وكفى الله المؤمنين القتال بقطعه وعدم إستمراره ، فوقعت معركة أحد في النصف من شهر شوال في السنة الثالثة للهجرة الواقعة ليوم من أيام شهر مارس 625 ميلادية .
وتبين آية البحث إنهزام فريق من المسلمين وتقتضي فنون القتال مطاردة العدو لهم خاصة مع كثرة جيوشه ومجئ خيالته للمسلمين من خلفهم ، ولكنه لم يلاحقهم ، إنما كانت دعوة الرسول هي التي تجذبهم إلى ميدان القتال .
الثالث : وكفى الله المؤمنين القتال في معركة الخندق .
الرابع : وكفى الله المؤمنين القتال في صلح الحديبية.
الخامس : وكفى الله المؤمنين القتال في فتح مكة .
المسألة الثامنة : تقدير الجمع بين الآيتين : وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ببعض ما كسبوا ، وفيه وجوه :
الوجه الأول : يدل الجمع بين هذه الآيات المتجاورة على الضرر الفادح الذي يجلبه الهم بالنفس في ميدان المعركة .
وصحيح أن المسلمين إنتصروا نصراً مبيناً في معركة بدر ، وكانت بذاتها فتحاً متجدداً إلى يوم القيامة إلا أن معركة أحد التي جاءت بعدها شهدت نكسة للمسلمين في ميدان القتال ، ومن الإعجاز في السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن هذه النكسة لم تبعث الهمّة والأمل في قلوب الذين كفروا كما كانوا يظنون , إذ أنهم يطمعون باستئصال الإسلام ، فيكسب الذين كفروا جولة من القتال ويفر شطر من المسلمين من ميدان المعركة ، ولكنهم لم يطمعوا بالنصر ، ولم تشف صدورهم لأن الخوف لم يغادر قلوبهم بذاته وأسبابه فيدل قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]على تزاحم أسباب هذا الخوف في هجومها على الذين كفروا مجتمعين ومتفرقين , وتأتيهم من وجوه :
الأول : يأتي الخوف إلى الذين كفروا من عند الله ومن غير واسطة وهو من أسرار نفخ الروح في آدم بقوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) لتترتب على هذا النفخ أمور عظيمة فاما أن يشكر العبد الله عز وجل ويصلح سريرته فتأتيه أسباب الهداية والرشاد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) فتأتي أسباب الهداية إلى الروح والنفس والجوارح من عند الله .
وأما أن يجحد ويكفر الإنسان فيأتيه الخوف والأذى وأسباب الحسرة والقنوط ، قال تعالى [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] ( ).
الثاني : حسن سمت المؤمنين وصبرهم وجهادهم , وثباتهم في منازل التقوى باعث للخوف في قلوب الذين كفروا .
الثالث : يأتي الخوف للذين كفروا من الملائكة في نصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعضيدهم للمؤمنين برمي وضرب الذين كفروا في المعركة ، قال تعالى [سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( ) .
لتبين الآية أعلاه تعدد الرعب الذي يأتي للذين كفروا في جهة صدوره وكيفيته وأوانه من جهات :
الأولى : إذ يبدأ الرعب من عند الله ومن الإعجاز في هذا الإبتلاء نفاذه إلى قلوب الذين كفروا وإحاطته بأعضائهم ، لأنه من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الثانية : مجي الرعب إلى الذين كفروا من الملائكة من وجوه :
أولاً : حضور الملائكة لمعركة أحد .
ثانياً : معرفة الكفار بحضور الملائكة من قبل في معركة بدر .
ثالثاً : ضرب الملائكة الكفار فوق الأعناق أي في الوجه وعلى العينين وعلى الرأس ، وكأن هذا الضرب لبعث الخوف والرعب في نفوسهم ودفعهم عن ميدان القتال وليكون مقدمة لحس وقتل المؤمنين لهم ، وفيه نوع رحمة من عند الله حتى بالذين كفروا لأن الملائكة تقوم بما يحول دون قتلهم من أجل توبتهم لاحقاً بدليل أن الذين بقوا أحياء ممن جاء لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر وأحد والخندق دخلوا الإسلام يوم فتح مكة .
رابعاً : ضرب الملائكة لأصابع وأعضاء الذين كفروا بما يجعلهم عاجزين عن حمل السيوف , ومن المطاردة ليكون أمام خيارين :
الأول : القتل للعجز عن ملاقاة المؤمنين .
الثاني : الفرار والهزيمة .
وهو من أسرار مبادرة الذين كفروا من قريش للإنسحاب يوم معركة أحد من غير علة ظاهرة , ومع أن الجولة كانت لهم لم يمهلوا أنفسهم ويبقوا لليلة أو حتى ساعات في ميدان المعركة مع أنهم أرادوا فرار أكثر المسلمين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث :من طرف المسلمين من جهات :
الأولى : مبادرة المسلمين للخروج إلى ميدان المعركة للقتال .
الثانية : طاعة المسلمين لله ورسوله في الحضر السفر ، وفي السلم والقتال .
الثالثة : عدم وجود أثر معتبر ، وضرر بيّن للمنافقين وأهل الخصومة والجدال في حياة المسلمين العقائدية والإجتماعية ، ليكون من أسرار مجئ آيات القرآن بذم وتبكيت المنافقين والتحذير منهم منع الذين كفروا من الإنتفاع منهم ومن النفاق الذي صاحب الإسلام في بدايات بناء صرح دولته .
الرابعة : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونفر من أهل بيته وأصحابه معه في ميدان القتال .
الخامسة : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع إلى ميدان المعركة بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] .
السادسة : إستجابة المسلمين لدعوة الرسول لهم للرجوع إلى الميدان .
الرابع : مجئ الخوف للذين كفروا من وعد الله للمسلمين وتنجز هذا الوعد في ميدان القتال ، فقد ورد قبل ثلاث آيات قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] ( ) فقد رأى الذين كفروا كيف إستحو القتل بهم وخاصة بحملة اللواء .
ومن الإعجاز في السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن أفراد الجيشين يرون قتل حامل اللواء فيزداد المؤمنون إيماناً وتصديقاً بنصر الله ، حين يسقط صاحب اللواء من الذين كفروا , ويزداد الذين كفروا حينئذ خوفاً ورعباً .
ومن الآيات أن عدد الذين حملوا اللواء سبعة من بني أبي طلحة من بني عبد الدار فقتلوا جميعاً ، وأخذها مولاهم صواب فقتل هو الآخر فحملت راية قريش امرأة ، ومع أنهم سعوا للإلتفاف حولها إلا أنه من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )بأن عجز رجالهم عن حمل لوائهم وما يعنيه حملها له من أسباب الذل والضعف والوهن .
الوجه الثاني : قد يقال لماذا كانت طائفة من المسلمين مشغولين بأنفسهم مع أن الله عز وجل صرف عنهم الحزن والكآبة ، وأنزل الأمنة على المسلمين يوم أحد بحيث صار الذين كفروا عاجزين عن مواصلة الهجوم على جيش المسلمين ، ولم يسعوا إلى أسر عدد من المسلمين بما فيهم الذين همتهم أنفسهم ، وهو من مصاديق عموم الأمنة في قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا] .
والمختار التفصيل والفصل بين عموم الأمنة وخصوص النعاس ، وتقدير الآية السابقة : ثم أنزل عليكم أيها المسلمون من بعد الغم أمنة وأنزل نعاساً يغشى طائفة منكم ).
وهل تشمل الأمنة أهل المدينة رجالاً ونساءَ يوم أحد أم أن القدر المتيقن إختصاصها بميدان معركة أحد .
المختار هو الأول ، وفيه آية من جهات :
الأول : بعث السكينة في نفوس عوائل المؤمنين الذين خرجوا للقتال ، إذ كان عدد المسلمين ألف مقاتل ورجع منهم وسط الطريق نحو ثلاثمائة بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول , ويبعث هذا الرجوع الفزع والخوف في نفوس أسر المجاهدين لولا فضل الله بنزول الأمنة .
الثاني : منع الفتنة والإفتتان بما يقوله المنافقون والذي تضمنت الآية السابقة شطراً منه ، ومن إعجاز القرآن أن الآية السابقة تتضمن مسائل :
الأولى : ورود قول المنافقين بصيغة الجمع ( يقولون ) لبيان أنه ليس قولاً لشخص منفرد لا يسمعه إلا القليل ، بل يصدر هذا القول من جماعة متعددين بما يكون له أثر بالغ على النفوس .
الثانية : مجئ الآية بصيغة الفعل المضارع الذي يفيد التجدد وتوالي الحدوث في أفراد الزمان الطولية فهم يجادلون ويبعثون روح الشك والريب في ميدان المعركة وفي المدينة ، ولكن الله عز وجل أنزل الأمنة على المسلمين ليكون من معانيها الوقاية من شرور ما يبثه المنافقون من السموم والأوهام .
الثالثة : تعدد مضامين ما يقوله ويطلبه المنافقون ، ولم يكن طلبهم شخصياً إنما يريدون الصدور عن رأيهم في الحرب والسلم فكانوا كالحرب على النبوة والتنزيل من داخل صفوف المسلمين .
وهل آية البحث من مصاديق الأمنة التي تذكرها الآية السابقة , الجواب نعم ، إذ تتضمن نسبة إزلال الذين تولوا من المؤمنين إلى الشيطان ، وتخبر عن تفضل الله عز وجل بالعفو عنهم .
الثالث : وقاية أهل المدينة من الإشاعات التي تبث الخوف والفزع من الذين كفروا وإحتمال دخول جيشهم المدينة وقتل أو سبي أهلها ونهب الممتلكات ، وهل من مصاديق الأمنة التي تذكرها الآية السابقة نصر المسلمين في معركة بدر وقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ] ( ) بحيث أن هذا النصر كان أمنة لهم من الهمّ والخوف من غزو جيش الذين كفروا المدينة ، الجواب لا ، وإن كان هذا النصر بذاته أمنة ومقدمة للأمنة ، ولكن الأمنة التي تذكرها الآية السابقة أمر مستحدث نزل يوم معركة أحد ، لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين بتعدد مصاديق الأمنة عليهم .
الرابع : إستعداد أهل المدينة للدفاع عنها في حال قدوم جيش الذين كفروا إليها ، بلحاظ أن الأمنة وعدم الخوف مقدمة للرباط والمناجاة بالدفاع .
لقد إحتج المنافق عبد الله بن أبي بن أبي سلول بعدم سماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم القول بالبقاء في المدينة وقتال الذين كفروا فيها ، وعلى فرض أن الذين كفروا إنسحبوا من معركة أحد بعد إنقضائها وركبوا الخيول وتوجهوا إلى المدينة لغزوها , والنبي وأهل بيته وأصحابه لا يزالون عند ميدان المعركة أو في الطريق لم يصلوا بعد إلى المدينة ، فهل يقاتل هؤلاء الثلاثمائة الذين رجعوا مع رأس النفاق جيش الذين كفروا مجتمعين أو متفرقين ز
الجواب لا دليل عليه ، وقد تجلت هذه الحقيقة في معركة الخندق عندما إختاروا الهروب والإعتذار بأن بيوتهم مكشوفة ، وفي التنزيل [وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا] ( ) .
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه والآية السابقة أن إحتجاج المنافقين في الطريق إلى المعركة وأثناء وقوعها بلزوم جعل نصيب لهم في قرار وتفاصيل الحرب وأن هذا النصيب ليس سبباً للسلامة من القتل إنما هو من أجل الفرار والإنهزام .
وإذ كانت الآية الأخرى تذكر نيتهم بالفرار وإتخاذهم العذر سبيلاً لترك المرابطة خلف الخندق وحراسة المدينة فأنهم في معركة أحد إتخذوا عذراً آخر وهو [يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ]( ) من أجل الفرار والهزيمة ، وقال رأس النفاق عبد الله بن أبي مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَاهُنَا) ( ).
الوجه الثالث : بيان قانون وهو أن دوام البقاء وإطالة العمر بالصبر والدفاع في سبيل الله ، فلذا جاءت آيات القرآن ببيان قانون من الإرادة التكوينية وهو أن كل إنسان له أجل محدود ومعلوم عند الله [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( ) وأن الموت وملكه لا يخطئان الإنسان في أجله سواء كان في الأرض أو البحر أو الجو أو صعد في المستقبل ليقيم في الكواكب الأخرى ، وإحتمال هذا الصعود من مصاديق تولي ملك من الملائكة قبض الأرواح لأن أصل سكن الملائكة في السماء ولقدرتهم على التشبه بما هو صالح وعلى الإنتقال السريع والحضور في الحال ، كما في معركة بدر وأحد فليس ثمة مسافة بين السماء والأرض بالنسبة لنزولهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ) ومن الشواهد على طاعة الملائكة لله عز وجل على نحو الموجبة الكلية والإنقياد التام ، وهو من دلالات قوله تعالى في معركة أحد [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ) .
وفيه شاهد بتصديق المسلمين تصديقاً تاماً بأن الملائكة إذا تلقوا أمراً من عند الله فأنهم لن يتخلفوا عنه ، إذ يتلقون الأمر الإلهي بالتسليم والإمتثال على نحو العموم الإستغراقي والبدلي ، فلا يعتذر أو يحتج أو يسأل أحدهم سؤالاً إنكارياً ، فان قلت قد سألوا وإستفهموا بلغة التعجب والإنكار يوم أخبرهم الله عز وجل بجعل آدم خليفة من الأرض كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) والجواب قد أقام الله عز وجل عليهم الحجة إذ أخبرهم باحاطته علماً بكل شيء يخص الإنسان وخلافته في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )فاستغفروا الله ، ومن علم الله عز وجل في المقام أمور:
الأول : تلقي أمة من المسلمين نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق .
الثاني : خروج المسلمين لملاقاة الذين كفروا في ميدان القتال ، لذا فان قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] في آية البحث نصر عظيم للمسلمين وفخر لهم في النشأتين فلم تمر على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أربع عشرة سنة وعلى هجرته إلى المدينة ثلاث سنوات حتى صار المسلمون قادرين على ملاقاه عدوهم ومناجزته في الميدان ، ومن الآيات إبتداء المعركة بكثرة القتلى في صفوف الذين كفروا في ذكرى كريمة توثق وعد الله للمؤمنين وإستجابة الملائكة لأمر الله في النزول الحال ونصرهم لهم بالملائكة.
وهل في نزول الملائكة من غير تخلف من أحد منهم الذي تخبر عنه الآية أعلاه دعوة للمسلمين لإظهار الطاعة والإنقياد لأوامر الله ورسوله ، وعدم التخلف عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإمتناع عن الجدال والإحتجاج وإثارة أسباب الشك والريب .
الجواب نعم ، ليكون من علم الله عز وجل في المقام إقتباس المؤمنين الدروس من الملائكة ونزولهم لنصرتهم ، ويكون من معاني المدد في المقام إقتداء المؤمنين بالملائكة وإظهار الصبر في الميدان وحسن التوكل على الله عز وجل .
المسألة التاسعة : تقدير الجمع بين الآيتين : وطائفة قد أهمتهم أنفسهم إن الله غفور ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : مع أن الله عز وجل هو الغفور , فقد تفضل وذكر تولي وفرار طائفة من المسلمين ، وإنشغال أخرى بأنفسهم وفيه مسائل :
الأولى : ذكر حال المسلمين والأخطاء أو المعصية التي إرتكبها بعضهم إنما هو من مقدمات ومصاديق مغفرة الله عز وجل .
الثانية : كون الله عز وجل هو الغفور ليس برزخاً أو حاجباً دون ذكر الذنوب التي يرتكبها العباد .
الثالثة : تعيين الذنب والمعصية في القرآن سبيل إلى العفو عنها ومغفرتها بفضل من عند الله .
الرابعة : من معاني المغفرة التي ينفرد بنيلها المسلمون , تفضل الله عز وجل بتذكيرهم بالذنب والمعصية لأمور :
أولاً : إجتناب المسلمين ذات الذنب والمعصية .
ثانياً : تحذير عموم المسلمين من إرتكاب المعصية .
ثالثاً : دعوة المسلمين إلى الإستغفار والإنابة .
رابعاً : إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية .
خامساً : ترغيب الناس في الإسلام لأنه دين العفو والمغفرة .
الوجه الثاني : لقد ذكرت الآية السابقة طائفتين من المسلمين:
الأولى : الطائفة التي جاءتها الأمنة وتغشاها النعاس فضلاً من عند الله , وهم على أقسام :
أولاً : النفر الذين ثبتوا في الميدان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان .
ثانياً : الذي بادروا إلى الرجوع حين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : الذين جاءهم النعاس فضلاً وإبتداء من عند الله عز وجل .
الثانية : الطائفة الذين إنشغلوا بأنفسهم وأظهروا الشك والريب ، وأكثروا من الجدال في ساعة ملاقاة الأعداء ومن الإعجاز في الآية بيانها لخصالهم المتعددة التي تتضمن الذم لهم وهي :
الأولى : الهمّ بالنفس وإنشغال البال بسلامتها ، ولو دار الأمر بين القتال وعدمه , فالمدار والإختيار عندهم الذي يفيد ويضمن السلامة الشخصية في العاجل ولابد أنه عدم الإقتتال وإجتنابه أو إعتزاله ، ولم يعلموا أن هذا الإنهزام أشد ضرراً عليهم وعلى الإسلام .
الثانية : سوء الظن بنصر الله , وعدم التسليم بحضوره ونزول الملائكة لنصرة المؤمنين .
الثالثة : إرادة الشأن والمشاركة في قرار الحرب والسلم ، لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر وينهى بالوحي والتنزيل فكيف يكون للناس موضوعية في الأمر إذ يقود تعدد أصحاب القرار إلى الفرقة والخصومة والخلاف ، ثم أن الرأي الآخر إما أن يكون موافقاً للوحي فيكون أمراً زائداً , وإما أن يكون مخالفاً للوحي فيجب تركه والإعراض عنه .
الرابعة : بيان الآية السابقة لكثرة ما يبغيه رؤساء النفاق من الأمر والشأن ، لقد كان عبد الله بن أبي بن أبي سلول رئيس الخزرج وكان يأمل أن ينّصب ملكاً على الخزرج والأوس قبل قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وعندما خرج المسلمون إلى معركة أحد ، أراد عبد الله بن أبي عدم الإشتراك في المعركة فأصر على أن يكون له قول ورأي في مكان المعركة ، بلحاظ أن أوانها ليس بيد المسلمين ، إما مكانه فالإختيار فيه محدود بين جبل أحد والبقاء في المدينة ، وقد إختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخروج ، وهذا الإختيار بالوحي .
الوجه الثالث :أختتمت آية البحث بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ] وهو قانون من الإرادة التكوينية يصاحب الخلائق ، ومنها الناس في حياتهم الدنيا وفي عالم البرزخ وفي الآخرة ، لذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو ويسأل الله عز وجل المغفرة لمن يموت من المسلمين .
(وعن واثلة بن الأسقع قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رجلٍ من المسلمين، فسمعته يقول: اللهم إن فلان ابن فلانٍ في ذمتك وحبل جوارك، فقه فتنة القبر؛ وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحمد؛ اللهم فاغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم) ( ).
إن إختتام آية البحث بالإخبار عن كون الله عز وجل هو الغفور الحليم تأكيد لعفو الله عز وجل عن الذين تولوا من المؤمنين ، وبيان قانون وهو إن علة وسبب العفو عنهم هو أن الله الغفور وهو الحليم ، وهل فيه إشارة إلى لزوم ثباتهم في ميدان المعركة وأن التولي عن القتال أمر مكروه وخطأ خاصة مع وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان معركة أحد ، الجواب نعم ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل تشمل معاني ودلالات المغفرة من عند الله مضامين الآية السابقة .
الثانية : هل تختص المغفرة في الآية السابقة بخصوص الطائفة الذين همتهم أنفسهم .
أما المسألة الأولى , فالجواب نعم ، وهو من أسرار مجئ خاتمة الآية بصيغة الجملة الإسمية وبيانها لحقيقة وهي أن (الغفور) اسم من أسماء الله الحسنى , وفيه دلالة على أمور :
الأول : مغفرة الله عز وجل للذنوب .
الثاني : محو الله عز وجل للسيئات .
الثالث : من مصاديق مغفرة الله عدم ترتب الأثر على الذنوب في الدنيا والآخرة .
وأما المسألة الثانية أعلاه فان المغفرة لا تختص بالذين همتهم أنفسهم على فرض نيلهم لها ، وبلوغهم لمراتب المغفرة بالتوبة والإنابة ، إنما تشمل المغفرة للطائفة الذين ثبتوا في الميدان ، وأثنى الله عز وجل عليهم ورزقهم الأمنة والنعاس فضلاً منه سبحانه ، لبيان قانون من الإرادة التكوينية وهو الملازمة بين النعم التي تأتي للمؤمنين بما هم مؤمنون وبالمغفرة والعفو من عند الله ، وفيه ترغيب لعامة المسلمين بالسعي إلى الفوز بالمغفرة من عند الله بصدق الإيمان وسلامة النوايا , وإرادة قصد القربة في عالم الأفعال , وتقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
أولاً : ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً إن الله غفور فبعد أن ورد إخبار القرآن قبل ثلاث آيات عن الفشل والجبن والتنازع والمعصية من قبل المسلمين تعقبها تفضل الله عز وجل بصرف الحزن عن المسلمين وعلى نحو الإطلاق بخصوص أسبابه في ميدان معركة أحد , والتي تتجلى بأمور :
الأول : ما فات المسلمين من الغنائم .
الثاني : كثرة قتلى المسلمين ، إذ كان عدد الشهداء في معركة أحد سبعين شهيداً .
الثالث : إصابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجراحات والكلوم ، وهل إنتشار إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق الإصابة في قوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ] ( ) الجواب لا ، إنما يتعلق قوله تعالى [مَا أَصَابَكُمْ] بالوقائع والأضرار التي لحقت بالمسلمين .
الرابع : عدم تحقق النصر المبين للمسلمين في معركة أحد كالنصر الذي فازوا به في معركة بدر .
وهل دفع الحزن والغم عن المسلمين يوم أحد من مصاديق المغفرة وقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ] الواردة في خاتمة آية البحث ، الجواب هو نعمة أخرى ومقدمة وسبب للمغفرة ، ونتيجة لها من غير أن يكون هناك تعارض بين كون ذات الأمر مقدمة ونتيجة للمغفرة لسعة فضل الله عز وجل ورحمته بالمؤمنين .
وقد يكون الحزن والخوف من أسباب الهم بالنفس ، والظن بالله غير الحق ، ودبيب اليأس إلى النفوس في إبطاء نصر الله ، فورد قوله تعالى أعلاه بصيغة العموم الإستغراقي الشامل للمسلمين جميعاً ، وتقدير الآية : لكيلا تحزنوا أيها المسلمون ) وفيه حجة بإنتفاء أسباب الحزن والحاجة إلى الهّم بالنفس ، لإقامة الحجة على المنافقين بأن الله عز وجل هيئ لهم وللمسلمين كافة أسباب السلامة من الهم بالنفس وما يترشح عن هذا الهم من الفزع والخوف ليكون من معاني قوله تعالى [فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) دفع أسباب ومقدمات الخوف عن المؤمنين على نحو العموم المجموعي فتنزل الأمنة على المؤمنين في معركة أحد لتسع وتتغشى المسلمين والمسلمات في المدينة ، للسلامة من الظن بإحتمال حدوث هزيمة لجيش المسلمين .
وقد تقدم في الجزء السابق بيان نسبة العموم والخصوص بين الأمنة والنعاس ، وهذه النسبة من جهات :
الأولى : الأفراد ، فقد شملت الأمنة المؤمنين في ميدان المعركة وفي المدينة رجالاً ونساءً بينما أختص النعاس بطائفة من المؤمنين الذين حضروا معركة أحد .
الثانية : المكان فان النعاس نزل بخصوص ميدان معركة أحد ، ولم يتغش مثلاً المؤمن الذي تخلف عن الخروج لعذر ، وكذا لم يتغش الذين همتهم أنفسهم ، ليس لأن هذا الهم كيفية نفسانية تحجب النعاس فهو فضل من الله عز وجل يقهر الموانع النفسية ، ولكنهم إختاروا الشك والنفاق وهو برزخ دون نعمة النعاس في ساعة الشدة .
الثالثة : المكان فقد كان محل الأمنة عاماً يشمل ميدان معركة أحد وزقاق وبيوت المدينة ، بينما نزل النعاس بخصوص ميدان المعركة ، ومن مصاديق مغفرة الله عز وجل للمسلمين نزول الأمنة من عند الله للمسلمين وسعتها وشمولها لأرجاء المدينة ، ومنها عدم خشية الصحابة من المهاجرين والأنصار على عوائلهم وذراريهم من جهات :
الأولى : عدم الخوف من القتل وصيرورة الأبناء أيتاماً ، ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية وجوب تعاهد الأيتام وإصلاحهم وإكرامهم .
الثانية : عدم الخوف من غزو الذين كفروا للمؤمنين وسبي العوائل .
الثالثة : عدم الخشية أو الخوف من القتل والأسر والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم ، ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية عدم وقوع أصحابه في الأسر .
الرابعة : عدم الخوف من تراكم الذنوب وترتب الآثام عليها لأن الله عز وجل ختم آية البحث مع قلة كلماتها بأمور ثلاثة :
الأول : عفو الله عن الذين تولوا وإنهزموا .
الثاني : إن الله عز وجل هو الغفور ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا] ( ).
المسألة العاشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : وطائفة قد أهمتهم أنفسهم إن الله غفور حليم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : تدل آية السياق بالدلالة الإلتزامية على لزوم نذر المؤمنين الأوائل أنفسهم لله عز وجل من جهات :
الأولى : مداهمة العدو لهم إلى عقر دارهم وصيرورته قريباً من المدينة وهو زاحف إليها إذ لم يخرج له المسلمون بدليل أنه جاء في معركة الأحزاب وحاصرها .
الثانية : كثرة جيش العدو ، فثلاثة آلاف رجل في ذلك الزمان يملأون الأفق ويبعثون الخوف في النفوس ، فان قلت هو ذات العدو في كل زمان , فالمساحة التي يحتلها ويتواجد فيها ثلاث آلاف رجل هي ذاتها في كل زمان مع فارق بسيط من جهة العدة والمؤن .
والجواب هذا صحيح ، ولكن الجزيرة العربية وأهلها آنذاك لم يعتادوا على جيش بهذا العدد والكثرة ، مما يزيد أفراده حماساً ويبعث الفزع في قلوب الخصم ، ولكن المشيئة المطلقة لله عز وجل [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) فجعل الخوف والفزع يملأ قلوب الذين كفروا وجيشهم العرمرم ، بينما تملأ السكينة قلوب الذين آمنوا ويتغشاهم النعاس .
وهل الخوف الذي غزا قلوب الذين كفروا هو ذاته الخوف الذي يكون في تلك الحال عند المسلمين , ولكن الله عز وجل نقله إلى قلوب الذين كفروا ، الجواب لا، إنما هو فزع مستحدث خلقه الله عز وجل خاصة لقلوب الذين كفروا لا يدخل غيرها إلى يوم القيامة ، ليكون في الآخرة شاهداً وحجة عليهم , وقد تشهد الخلائق كيفية نفاذه إلى قلوبهم من جديد .
ترى ما هو السر في مجئ جيش كبير لقتال المسلمين , ولو شاء الله لثبطهم , يتجلى الجواب في الجزء التالي باب : من غايات الآية.
الثالث : إنحصار مصر الإسلام بالمدينة المنورة ، فليس من بلد آخر يرجعون إليه أو قرى يفيئون إليها ، لقد كانت معركة بدر بعيدة في موضعها عن المدينة المنورة إذ تبعد نحو (150كم) عن المدينة المنورة بينما لا يبعد موضع معركة أحد إلا ثمان كيلو مترات عن المدينة كما تقدم .
لذا حينما قالت الآية [وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ] فانهم عرّضوا أنفسهم والمسلمين إلى الضرر الفادح , لبيان فضل الله عز وجل بنجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وأهليهم , وهو شاهد بأن المدد من الملائكة كان حاجة للمسلمين وللإسلام ، وحين نزل الملائكة لنصرته في أيامه الأولى فلا يخشى عليه أبداً لذا فان شريعة الإسلام باقية إلى يوم القيامة بمدد وعون من عند الله عز وجل .
إعجاز الآية الذاتي
إبتدأت الآية بالحرف (إن ) الذي يفيد التأكيد لبيان حقيقة تأريخية بأن طائفة من المسلمين تولوا وفروا من القتال ، وإخبار لأجيال المسلمين بأن هؤلاء منكم , ولم يغادروا الإسلام والإيمان بسبب هذا التولي من جهات :
الأولى : الخروج من المدينة بنية وقصد قتال الذين كفروا .
الثانية : الإشتراك في القتال والدفاع .
الثالثة : لغة التبعيض في الآية الكريمة ، بوصفهم بأنهم من المسلمين بقوله تعالى (منكم) .
وتبين الآية الشأن العظيم لواقعة أحد في تأريخ الإسلام إذ وصفها الله عز وجل بقوله [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] من غير تقييد باسم المعركة كما في معركة بدر إذ ورد إسمها على نحو التعيين بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ…] ( ) .
وهل يدل هذا الشأن لمعركة أحد على لزوم عدم التولي والفرار ، وعلى تقبيح فعل المنافقين بالإنسحاب وسط الطريق إلى المعركة ، الجواب نعم ، وكأن الإنتصار الحاسم في معركة أحد يفتح الطريق إلى مكة , ويكتب الخلود للمجاهدين ، ويكون النصر فيها بذاته فتحاً ، ودعوة للقبائل وأهل الأمصار بدخول الإسلام .
وتقدير الآية : لو لم يتول فريق منكم يوم التقى الجمعان ، لكانت معركة أحد آخر معارك الإسلام لفتح مكة .
وتتضمن بداية الآية الجمع بين أمرين :
الأول : تولي وإنسحاب طائفة من المسلمين .
الثاني : إلتقاء الجمعين في ميدان المعركة .
لبيان أن ثبات المسلمين في المعركة حاجة لهم وللإسلام ، ولقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بنزول الملائكة مدداً وعوناً في يوم معركة أحد ، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ) ويحتمل أوان نزول الملائكة وجوهاً :
الأول : قبل أن يتولى فريق من المسلمين .
الثاني : أثناء تولي فريق من المسلمين .
الثالث : بعد أن تولى فريق من المسلمين ، وظهور النقص والضعف في صفوف المؤمنين .
والصحيح هو الأول ، وفيه حجة على الذين تولوا ، فان قيل إنما ورد القرآن بتقييد نزول الملائكة بصبر المؤمنين بقوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ…] ( ).
والجواب لا تدل الآية أعلاه على التقييد لمجئ حرف العطف بين الصبر والتقوى ومجئ الملائكة لنصرة المؤمنين .
لقد إنقضت معركة أحد بيوم واحد لم تغب شمس نهاره إلا وقد وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، وصلى صلاة المغرب بأصحابه ليكون في هذه الصلاة إعلان لثبات دولة الإسلام وصرح معالم الإيمان إلى يوم القيامة وتوالي نزول آيات القرآن , وليبقى موضوع تولي وفرار فريق من المسلمين يومئذ أمراً مشهوداً وحاضراً في التصور الذهني لأجيال المسلمين ، وفيه بيان لقانون وهو مع حاجة الإسلام والمسلمين للأفراد من المؤمنين لملاقاة الذين كفروا كما في قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ومع قلة عدد وسلاح المؤمنين يومئذ فان تولي فريق منهم لم يضر الإسلام ولم يسبب بهزيمة المسلمين أو لحاق الطائفة الأخرى من المسلمين بالذين تولوا وإنهزموا منهم ، وهذا المعنى من الإعجاز في لغة التبعيض في قوله تعالى [تَوَلَّوْا مِنْكُمْ] أي أن المؤمنين بقوا في الميدان ، والمتعارف أن يكون المستثنى أقل من المستثنى منه ، أي أن عدد الذين تولوا أقل ممن لم يتول منهم .
ومن الإعجاز في المقام تعقب نسبة الإزلال للشيطان, بتفضل الله عز وجل بالعفو عن الذين تولوا في آية واحدة , وفيه وجوه :
الأول : تأكيد فضل الله عز وجل على المؤمنين الذين تولوا وإنهزموا من ميدان المعركة .
الثاني : منع اللبس والترديد في تأويل الآية ، وموضوع عفو الله عز وجل .
الثالث :زجر المنافقين والذين في قلوبهم مرض عن إثارة الريب وإغراء الناس بالتعريض بالذين تولوا وذمهم .
الرابع : من خصائص النعمة الإلهية أنها تأتي بالتمام فأراد الله عز وجل أن يتعقب العفو فعل الذين تولوا ولا يتأخر عنه .
ويمكن تسمية آية البحث آية (ان الذين تولوا منكم ) ولم يرد لفظ [تَوَلَّوْا مِنْكُمْ]في القرآن إلا مرة واحدة وفي آية البحث وكأنه دليل على عدم تجدد التولي من فريق من المسلمين في ميدان القتال ، وفيه بعث للخوف والفزع في قلوب الذين كفروا ، وحث للناس على إجتناب التعدي على حرمات وثغور المسلمين.
إعجاز الآية الغيري
تتضمن آية البحث التوثيق السماوي لواقعة ومعركة أحد التي جرت في النصف من شهر شوال من السنة التالية للهجرة النبوية المباركة ، حيث لا زال الإسلام في بدايات نشوء جيشه ، ولم يكن من فاصلة وفصل بين عموم المسلمين وبين الجيش ، فتأتي الدعوة للنفير وقتال العدو لهم على نحو العموم الإستغراقي إلا من أستثني ممن ليس عليه حرج كالأعمى ، وقد خرج بعض المؤمنين مع عرجته ودائه أو عاهته أو قربة إلى الله تعالى (عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ أَنّ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ كَانَ رَجُلًا أَعْرَجَ شَدِيدَ الْعَرَجِ ، وَكَانَ لَهُ بَنُونَ أَرْبَعَةٌ مِثْلَ الْأُسْدِ يَشْهَدُونَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ الْمَشَاهِدَ فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُد ٍ أَرَادُوا حَبْسَهُ وَقَالُوا لَهُ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ عَذَرَك .
فَأَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ إنّ بَنِيّ يُرِيدُونَ أَنْ يَحْبِسُونِي عَنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْخُرُوجِ مَعَك فِيهِ . فَوَاَللّهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ أَطَأَ بِعَرْجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنّةِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ : أَمّا أَنْتَ فَقَدْ عَذَرَك اللّهُ فَلَا جِهَادَ عَلَيْك ، وَقَالَ لِبَنِيهِ مَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَمْنَعُوهُ لَعَلّ اللّهَ أَنْ يَرْزُقَهُ الشّهَادَةَ فَخَرَجَ مَعَهُ فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ) ( ).
وتبين آية البحث القبح الذاتي والغيري للتولي عن القتال لما فيه من الأذى والضرر على المسلمين والإسلام ، وفيه بعث للطمع في قلوب الذين كفروا بالإسلام والإجهاز على الذين يثبتون في الميدان من المؤمنين ، فجاءت آية البحث لتحث المسلمين جميعاً بإجتناب التولي والفرار من المعركة لأن الله عز وجل وليهم وهو ناصرهم .
فيكون الثبات في الميدان من أفراد العلة التامة للنصر بوجود المقتضي وفقد المانع .
ومن إعجاز الآية الغيري نسبة التولي للسبب والمسبِب وهو الشيطان بمكره وإغوائه ، وتلك آية في لطف الله بالمسلمين ، ولزوم وقايتهم من مكر وكيد الشيطان ، وليس من حد لفتنة ومكر الشيطان ، قال تعالى [كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ* فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ] ( ).
وتنفي الآية الإفراط والتفريط ، وتمنع من الغلو ومن القنوط ، فلا يقول أحد من التابعين وتابعي التابعين بأن المسلمين جميعاً صبروا ورابطوا في ميدان القتال ، وأنه لم ينهزم منهم أحد في معركة أحد ، بل بينت الآية حال المسلمين وأنهم إنتزعوا النصر بالصبر وإخلاص النية وصدق الجهاد وأن فريقاً منهم إنهزموا من ميدان المعركة فتلقاهم الله عز وجل بعفوه ورحمته وبعث السكينة في نفوسهم ، بدليل آية البحث ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ] ( ) لبيان إنتفاء الحصر في المنافع العظيمة للمعية التي تذكرها الآية أعلاه ، ومنها نزول الملائكة للنصرة والعفو التي تضمنته آية البحث ، ومنه بعث الفزع والخوف الذي يبعثه الله في قلوب الذين كفروا .
وتبعث الآية المسلمين والمسلمات إلى الحذر والحيطة من فعل ما يكون مقدمة للإفتتان بالشيطان ، لذا جاءت آيات القرآن بالتحذير من إتباع خطواته ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ]( ).
ولا صلة موضوعية بين (إستزلهم الشيطان)وبين ( إتباع خطوات الشيطان ) فالمسلمون الذين تولوا وإنهزموا من المعركة لم يتبعوا خطوات الشيطان ولم يفعلوا الفواحش ، وهل إستزلهم الشيطان ليتبعوا خطواته , الجواب لا دليل عليه فقد عصمهم الله عز وجل بالخروج إلى معركة أحد وملاقاة الذين كفروا في الميدان من إتباع خطوات الشيطان ، ومن مصاديق هذه العصمة تعقب العفو من عند الله للذين آمنوا بعد أن إنسحبوا وإنهزموا من القتال.
وآية البحث برزخ سماوي بين المسلمين وبين اليأس والقنوط ، إذ تبين تفضل الله عز وجل بالعفو عن الذين إنهزموا من المعركة وتركوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقاتل في الميدان ، مما يدل عن العفو عن غيرهم ممن يقصر ويخطأ
الآية سلاح
تبين الآية حقيقة وهي أن الشيطان قد يغوي ويزل بعض المؤمنين خاصة في حال الشدة والإفتتان فجاءت الآية ليأخذ المسلمون الحيطة من إغواء الشياطين مطلقاً سواء شياطين الإنس أو الجن .
لقد أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( )ليفيد الجمع بينها وبين أول آية البحث تأكيد قانون وهو أن المسلم الذي يهم بالفرار أو يريد الهزيمة من القتال يعلم به الله عز وجل .
وهل يقف الأمر عند العلم ، الجواب لا ، إنما يصرف الله عز وجل هذا الهم ويجعل المسلم يثبت في موضعه ، ويأتي النصر المسلمين من عند الله بولايته سبحانه لهم بدليل قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( ).
ليكون مضمون الآية أعلاه فخراً وعزاً للذين همّوا بالجبن والخور يوم معركة أحد ، فقد نزلت الآية أعلاه في بني حارثة ، وبني سلمة من الأنصار إذ وقاهم الله الفشل والجبن لتبقى الآية شاهد عز لهم وللمؤمنين الذين ثبتوا في الميدان ، أما آية البحث فأخبرت عن حصول التولي .
ترى ما هي النسبة بين الفشل والتولي ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فكل تول هو فشل وليس العكس ، لذا لم تذكر الآية أعلاه ذات الفشل بل ذكرت الهمّ وإرادته بالقصد والنية مع أن هذا الفشل لم يقع لولاية الله عز وجل لهم، فقد يقول قائل لماذا لم تمنع ولاية الله الذين تذكرهم آية البحث من التولي والفرار.
الجواب تتضمنه ذات آية البحث ، وهو من الإعجاز فيها وبما يفيد منع الجدال والمغالطة وإثارة الشك والريب في دلالات آيات القرآن ليكون من ولاية الله للنبوة والمسلمين والقرآن منع القول بوجود تزاحم أو تعارض في القرآن ، ويتجلى هذا المنع بذات آيات القرآن .
ومن الإعجاز في المقام ذكر الهمّ بالفشل من قبل طائفتين من المؤمنين حجب الله عنهم الفشل وصرفهم عنه بولايته لهم ، بينما ذكرت آية البحث التولي بسبب إستزلال الشيطان لهم وإستدراجه لهم ، وهل تدل مضامين آية البحث عن حرمان الذين تولوا من ولاية الله .
الجواب لا ، إذ أنها عامة وخاصة ، عامة لكل المسلمين وخاصة لكل فرد منهم ، ومن ولاية الله عز وجل لهم في آية البحث أمور :
الأول : نسبة الذين تولوا إلى المسلمين بلحاظ عطف آية البحث على قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ..] ( ).
الثاني : إخبار آية البحث عن تولي فريق من المؤمنين حث لهم للجوء للإستغفار ، ودعوة لهم لإجتناب التولي في معارك الإسلام اللاحقة ، لذا لم يحصل الفرار في معركة حنين إلا على نحو السالبة الجزئية من قبل الكتائب الأولى للمسلمين وسرعان ما تداركوا أمرهم وعادوا إلى ميدان المعركة , وقاتلوا بين يدي رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال (الآن حمى الوطيس) ( ).
الثالث : ومن معاني السلاح في آية البحث قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]وفيه تهيئة لأذهان المسلمين للقاء العدو في ميدان المعركة , وهل من معاني اللقاء في الآية التخفيف عن المؤمنين ، وصيرورة المسايفة والقتال وكأنه لقاء وموضوع إجتماع .
الجواب نعم ، فقد إنطوت أيام الجهاد الأولى في بدايات الإسلام لتتلقى أجيال التابعين أحكام الشريعة من غير خوف وحيطة من الذين كفروا وخشية على الأنفس والنبوة والتنزيل .
وتبعث الآية على الحذر من الشيطان وإغوائه وسعيه لإزلال الإنسان مطلقاً ، مسلماً أو غير مسلم ليكون من معاني الآية الكريمة معرفة المسلمين لموضوع من مواضيع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وحث المسلمين على القيام بهما للتوقي من الشيطان وإجتناب أذاه .
ومن إعجاز آية البحث بيانها لما ينفذ بواسطته الشيطان وهو الكسب والفعل الذي يتنافى مع التقوى وسنن الإيمان وطاعة الله ورسوله لقوله تعالى [اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا] .
ومن أبهى مصاديق السلاح والمدد من عند الله في آية البحث إخبارها عن عفو الله عز وجل عن المؤمنين الذين تولوا وتعقب هذا العفو للتولي ووقوعهم بالزلل والخطأ والمعصية بالتولي والفرار من الزحف .
وأختتمت الآية بقانون [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ]لبيان أن أبواب العفو من عند الله لا تغلق ، وأن الله عز وجل يدعو النا س جميعاً للإستغفار والتوبة ,وأنه سبحانه يمهلهم ويرأف بهم في الدنيا , لتكون وعاءً ومناسبة للتوبة والإنابة .
(عن بن أبي ليلى عن عبد الله بن ربيعة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمع صوت رجل يؤذن فجعل يقول مثل ما يقول حتى إذا بلغ اشهد أن محمدا رسول الله , قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن هذا لراعي غنم أو رجل عازب عن أهله فهبط الوادي فإذا هو راعي غنم وإذا هو بشاة ميتة فقال ترون هذه هينة على أهلها , قالوا نعم , قال الدنيا أهون على الله من هذه على أهلها) ( ).
مفهوم الآية
لقد ذكرت الآية السابقة حال عدد من المسلمين إتصفوا بالنفاق وأظهروا الجدال وإتخذوا من المغالطة ما يشبه الحجة والعذر , فجاءت الآية بفضحهم وتوثيق أقوالهم وجدالهم ، ومع تعدد قولهم والرد عليه من عند الله عز وجل وأمره سبحانه للنبي فيها مرتين (قل) لإفادة المندوحة والنفع في جدال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فلم تفرد لهم آية خاصة إذ إبتدأت ببيان معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية بأن نزل عليه وعلى أصحابه الأمنة والنعاس .
ثم إنتقلت الآية إلى ذم الذين يظنون بالله غير الحق وبيان خصالهم المذمومة والإخبار بـأن الله [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( )وجاءت آية البحث مستقلة وخاصة بالمسلمين الذين إنهزموا وتولوا يوم معركة أحد ، مما يدل على الضرر المترشح عن هذا التولي ، وموضوعية تداركه وإجتنابه ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ]دعوتهم إلى الثبات في معارك الإسلام الأولى ، وأن هذا العفو بداية لصفحة مشرقة جديدة من جهادهم في سبيل الله.
وقد ورد لفظ (الجمعان ) أربع مرات في القرآن ، ثلاث بخصوص المسلمين وأخرى في قوله تعالى [فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ] ( ) ووردت ثلاث منها بلفظ[الْتَقَى].
بينما ورد الفعل فيها مرة واحدة بصفة [تَرَاءَى] كما في الآية أعلاه .
وبين تراءى والتقى عموم وخصوص مطلق ، فكل إلتقاء بين الجمعين هو تراءٍ بأن يرى أحدهما الآخر ، أما اللقاء فهو الإصطفاف للقتال ، واللقاء نوع مفاعلة فلا يصح في الواحد ، إنما يكون بين الإثنين فأكثر، فبينت آية البحث التضاد بين جيش المسلمين وجيش الكفار، وأنه ليس بينهما برزخ ووسط ، وليس هناك من يدخل بينهم للوساطة والصلح والشفاعة , فكانت المعركة حياة أو موتاً ، ومع هذا فقد تولى وإنهزم فريق من المسلمين .
ومن الآيات أن لفظ (التقى) ورد مرة رابعة في القرآن في قصة نوح وأمر الطوفان ، قال تعالى [وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ] ( ) .
ويدل قوله تعالى ( يوم إلتقى الجمعان ) على أن حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانت جهاداً ودفاعاً بالسيف وأن هجرته إلى المدينة لم تكن نهاية الأذى الذي كان يلاقيه من قريش أو بداية لأذى جديد من غيرهم بل كانت سبباً لإزدياد أذى قريش وتجدد الأذى من غيرهم ، ولكن الله عز وجل نصره بآية ومعجزة منه سبحانه ،وجعل المسلمين يتلون آيات معركة أحد هذه , وكأنهم في رياض ناضرة لما فيها من العز والفخر والنصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
وتبين الآية في مفهومها حقيقة وهي أن إغواء وإزلال الشيطان لا يختص بالذين كفروا فقد يدب أثره وضرره للمؤمنين ولكن الله عز وجل يقيهم شره ، ويبين لهم حيله ومكره ليصبحوا في حيطة وحذر منه .
فمن خصائص الحياة الدنيا أنها ( دار التوقي والحيطة من الشيطان ) وتضمنت آية البحث مصاديق من هذا التوقي , فقد إستزل الشيطان عدداً من المسلمين يوم معركة أحد ليكونوا وأجيال المسلمين المتعاقبة في حصن منه ، وكل مرة يقرأ المسلم آية البحث يستعيذ بالله من الشيطان وحيله ويزداد إحترازاً منه ، قال تعالى [فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ] ( ) وأختتمت آية البحث بقانونين من الإرادة التكوينية وهما :
الأول : المغفرة المطلقة من عند الله للعباد إن شاء .
الثاني : حلم وإمهال الله عز وجل للناس جميعاً .
لتبعث الآية السكينة في نفوس المسلمين على حسن عاقبتهم وعاقبة آبائهم المسلمين , ومن مغفرة الله عز وجل لحوق الثواب والجزاء الحسن للأولاد بما فعل الآباء من الصالحات .
إفاضات الآية
لقد أختتمت آية البحث بالذين فروا وتولوا من ميدان معركة أحد ، وقد تقدمت عدة أقوال في أسباب النزول منها أن الذين تولوا عددهم ثلاثة ، وهو عدد قليل بلحاظ مجموع جيش المسلمين يومئذ ، ومع هذا جاءت آية مستقلة خاصة بهم ، وحتى على فرض تعلق الآية بمجموع الذين إنسحبوا إلى الجبل وفروا من ميدان المعركة بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ]وأنه لم يبق مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أحد عشر أو ثلاثة عشر من أهل بيته وأصحابه فان عددهم قليل بالنسبة لعموم أجيال المسلمين , بلحاظ المختار من تجدد توجه الخطاب في آية البحث إلى المسلمين والمسلمات في كل زمان , وتقديرها ( يا أيها الذين آمنوا إن الذين تولوا منكم) لتجري إفاضات الآية في كل زمان بان التولي فرد نادر عند المسلمين ، وأنهم يتناجون بنبذه وتركه ، وفيه بعث للخوف في قلوب الذين كفروا .
ليكون من معاني آية البحث أنها من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
وهو من أسرار مجئ الآية أعلاه بحرف السين لإفادة المستقبل القريب ، وكأنها تقول سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بنزول آية البحث وإخبارها عن تول وفرار طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن معاني التبعيض ونسبة الذين تولوا إلى عموم المسلمين في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ] دعوة المسلمين إلى عدم تعييرهم أو ذمهم , ومصداقه مجئ ذات آية البحث بالإخبار عن عفو الله عنهم ، والذي يتفضل الله بالعفو عنه في ذات الآية التي تبين خطـأه وتقصيره لا يتوجه له اللوم والذم .
ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )تعقب العفو على المسلمين للقصور والخطأ والمعصية ، فما دامت الآية تخاطب المسلمين بصيغة الإيمان ، وتنسب الذين تولوا إلى المسلمين فان العفو يأتيهم من عند الله عز وجل .
ومن أسرار التبعيض في قوله تعالى [تَوَلَّوْا مِنْكُمْ] أنهم عند الفرار والتولي لم يتخلوا عن الإيمان ، ولم يدب الشك والريب إلى نفوسهم ، فهم ليسوا من الذين ذكرتهم الآية السابقة بصيغة الذم للذات والفعل بقوله تعالى [وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ] ( ) وفيه فتح لباب من فضل الله عز وجل بسلامة الإيمان حتى مع التولي والإعراض عن الواجب العرضي كالصبر في ميدان القتال .
الآية لطف
من معاني اللطف الإلهي على العباد جلب المصلحة لهم ودفع المفسدة عنهم ، ومنها تقريب العمل الصالح ، وحجب أو إبعاد العمل القبيح ، وقد تفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون المصداق الأبهى للطف الإلهي وتترشح عنها مصاديق غير متناهية من اللطف ، ومنها آيات القرآن ، وكل آية قرآنية لطف من جهات :
الأولى : نزول الآية القرآنية من عند الله , وتلقي النبي لها , وحاله إثناء التلقي .
الثانية : نزول جبرئيل الملك بالآية القرآنية (عن ابن عباس { نزل به الروح الأمين } ( ) قال : الروح الأمين : جبريل رأيت له ستمائة جناح من لؤلؤ قد نشرها فهم مثل ريش الطواويس ) ( ).
الثالثة : أسباب نزول الآية القرآنية والموضوع الحال الذي نزلت بخصوصه .
الرابعة : رسم ومنطوق الآية القرآنية .
الخامسة : تلاوة الآية القرآنية .
السادسة : وجود الآية القرآنية بين الدفتين .
السابعة : سلامة الآية القرآنية من التحريف والتغيير والتبديل رسماً ودلالة .
الثامنة : عطف الآية القرآنية على غيرها من الآيات .
التاسعة : تفسير الآية القرآنية لآية أو آيات أخرى .
العاشرة : تفسير الآية القرآنية من قبل آية أو آيات أخرى ، وما نسميه ( التفسير الذاتي ) .
الحادية عشرة : اللطف الإلهي المترشح عن دلالة الآية بلحاظ نظم وسياق الآيات .
الثانية عشرة : من اللطف الإلهي في القرآن المطلق والمقيد والمجمل والمبين ، والناسخ والمنسوخ ، ومنه قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ] ( ).
الثالثة عشرة : قوانين خواتيم آيات القرآن ، وما فيها من الوعد الكريم والفضل العظيم وبشارة الغبطة في الدنيا والسعادة في الآخرة.
ومن الإعجاز في القرآن عدم إختصاص اللطف بخاتمة الآية القرآنية بل سبقه لطف خاص لتكون النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق ، فقد أخبرت آية البحث عن نزول العفو من عند الله للذين تولوا ، ثم تفضل الله عز وجل وأخبر بأنه سبحانه [غَفُورٌ حَلِيمٌ] وفيه بيان على أن الله عز وجل لا يتعجل العقوبة , ويحتمل عدم التعجيل هذا وجوهاً :
الأول : إختصاص المسلمين بالإمهال عند المعصية .
الثاني :إرادة العموم في لطف الله في الإمهال في العقوبة .
الثالث : تعلق موضوع الإمهال بلحاظ ذات الفعل والنية ، لذا أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] .
والمختار هو الثاني ، لتكون الحياة الدنيا ( دار الحلم والإمهال من عند الله عز وجل ) وهل يختص حلم الله بالحياة الدنيا ، فيؤاخذ الناس بذنوبهم حالما يدخلون القبور أو عند البعث والنشور ، الجواب لا ، إذ ينشر الله عز وجل رحمته ولطفه في الآخرة .
وعن عبد الله بن جعفر قال علمني علي عليه السلام كلمات علمهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إياه يقولهن عند الكرب والشيء يصيبه « لا إله إلا الله الحليم الكريم ، سبحان الله وتبارك الله رب العرش العظيم ، والحمد لله رب العالمين .
وأخرج طريق إسحق بن عبد الله بن جعفر عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول « لقنوا موتاكم لا إله إلا الله الحليم الكريم ، سبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم ، الحمد لله رب العالمين . قالوا : يا رسول الله فكيف هي للحي؟ قال : أجود وأجود) ( ).
وليس من صلة بين نظرية الفيض عند المسيحيين ونظرية اللطف عند المعتزلة وإن إتحد الموضوع لأن الأصل فيه التسليم بعظيم فضل الله عز وجل .
ومن الإعجاز في آية البحث بلحاظ اللطف من عند الله عز وجل أمور :
الأول : نزول آية البحث بخصوص الذين تولوا عن القتال من المسلمين .
الثاني : إقامة الحجة على الذين كفروا لأنهم إضطروا طائفة من المسلمين إلى الفرار .
الثالث : تنمية ملكة حب اللطف والفضل الإلهي عند المسلمين ورجاءه وسؤاله في حال الشدة والرخاء .
الرابع : سلامة المسلمين من اليأس والقنوط ، قال تعالى [إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ] ( ).
الخامس : رجاء كل مسلم ومسلمة الفوز بالعفو من عند الله عز وجل وهو من أسرار إخبار آية البحث عن تولي وفرار أفراد من المسلمين في معركة أحد وإقتران هذا الإخبار بالعفو عنهم ، فذهب التولي وباد أهله ، وإنقطع الذين كفروا ممن حمل فريقاً من المسلمين على التولي ، ليبقى العفو الذي تذكره آية البحث في الأرض يتدلى للناس ويدخل بيوتهم كل يوم ، وفي أوقات الصلاة الخمسة .
فاذا كان ملك الموت يزور أهل كل بيت من الناس خمس مرات في اليوم ، ولا يقبض روح أحد إلا عند حلول أوان أجله ، قال تعالى [وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا]( ).
فإن من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )أن عفو الله عز وجل ينفذ إلى كل بيت من بيوت المسلمين كل ساعة من اليوم والليلة ، ويلامس بدن وروح كل مسلم , يُقربه إلى الإستغفار ويدعوه إلى التوبة وأداء الواجبات العبادية ويبعده عن المعصية ، وهو من مصاديق القانون العام الذي أختتمت به آية البحث [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ] بلحاظ أن العفو والمغفرة من عند الله لا تختص بالذين تولوا ولا تتعلق بقيد سؤالها وطلبها من قبل الفرد والجماعة ، إذ يبدأ الله عز وجل بالمغفرة من عنده سبحانه ويمهل الناس ولا يؤاخذهم بذنوبهم وإن كانوا يستحقون التعجيل بها .
وفي حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُمْلِى وَرُبَّمَا قَالَ يُمْهِلُ لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ . ثُمَّ قَرَأَ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى) ( )) ( ).
ومن اللطف الذي يتفضل الله عز وجل به عليّ أني أقوم بكتابة وتصحيح ومراجعة أجزاء سفر التفسير هذا بمفردي , وكذا بالنسبة إلى كتبي الفقهية والأصولية بمدد وعون وتخفيف وحلم منه تعالى .
قاعدة اللطف
اللطف هو الرقة والخفة في مقابل الكثيف والثقيل .
وقال المعتزلة بقاعدة اللطف الإلهي ، ولهم فيها تعاريف عديدة منها أنها طريق لإتباع الخير ، وإجتناب الشر وأنها بعث الإنسان على فعل الخير وإتيان ما فيه طاعة الله ، وإجتناب النواهي .
واللطف الإلهي مدد وكالقوة الإضافية التي تسوق العبد نحو الصلاح والخير ، وإختلف المعتزلة في وجوب قاعدة اللطف أو عدمه ، وأشكل الأشاعرة على قاعدة اللطف الإلهي بالمعنى ذهب إليه المعتزلة ، وذكروا مسائل في التردد في موضوعها منها قول المعتزلة بأن لله لطفاً لو بذله لفرد عديم الإيمان لآمن ، وحينها سيكون مستحقاً للثواب بلطف وعون من عند الله وأنه يكون مستحقاً للثواب حتى في حال عدم الإيمان .
والخلاف بين المعتزلة والإشاعرة صغروي ، ولم يستحق إشغال الأمة والمنتديات به ، وتأليف الكتب والمجلدات بخصوصه ، وصيرورة حزبين [كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] ( )فلطف الله عز وجل حاضر وكل إنسان ينال منه ، وقديأتي للمؤمن حتى في حال القصور والمعصية بدليل آية البحث ، إذ أخبرت عن تولي طائفة من المؤمنين ثم أخبرت عن تفضل الله عز وجل بالعفو عنهم ، وهذا العفو من اللطف الإلهي بهم وبالمسلمين ، ولأن الله عز وجل [لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ] ( ) تفضل بختم آية البحث بقانونين هما :
الأول : إن الله غفور يمحو ويغفر الذنوب بلطف منه تعالى .
الثاني : إن الله عز وجل هو الحليم الذي يرجئ العقوبة كي يعفو ، وهو أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل .
وقال المسيحيون بقاعدة الفيض ، وذهب أوغسطين (354-430) م وهو من أعاظم رجال الكنيسة ويأتي في مرتبة بعد القديس بطرس ، وكان مولده في مدينة إهراس ووفاته في مدينة عنابة من الجزائر بأنه ليس للإنسان إرادة مطلقة وإرادته ممتزجة بالذنب والميل إليه ، وليس من سبيل وبرزخ لمنع هذا الميل وعن الإبتعاد عن الله عز وجل إلا بفيض من الله عز وجل فهذا الفيض هو الطريق الوحيد للنجاة من براثن المعصية ولكن هذا الفيض لا يأتي للجميع ، إنما يهبه الله عز وجل لمن يصطفيه الله عز وجل .
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت آية البحث بحرف التأكيد (إن) ولابد أن المسألة والموضوع الذي تذكره الآية يتضمن القطع والجزم ، فتشرئب الأعناق وتنجذب الأسماع لما بعد حرف التأكيد إذ جاء بعدها الاسم الموصول (الذين ) الذي يفيد معنى الجمع والعموم في موضوعه ، ثم جاء بيان لصفة وفعل الذين ذكرتهم الآية بقوله تعالى [الَّذِينَ تَوَلَّوْا] .
لقد جاءت الآيات السابقة بالثناء على المسلمين في جهادهم وصبرهم ، مع بيان الخطأ والقصور من بعضهم ، كما في قوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ]وكما في الآية السابقة التي تضمنت الذم للذين همّوا بأنفسهم بقوله تعالى [وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ] ويحتمل هذا الهمّ وجوهاً :
الأول : إنه كيفية نفسانية .
الثاني : إنه نية وقصد .
الثالث : إنه فعل وعمل .
والصحيح هو الأخير فجاء لفظ الهم في الآية بما هو أعم من الإرادة النفسية والعزم وأول الفعل ، فهو فعل في معناه ودلالته وما يترشح عنه .
فيتضمن الهّم في الآية وجوهاً :
أولاً : الفرار من المعركة .
ثانياً : إجتناب القتال .
ثالثاً : إرادة الصلح مع الذين كفروا .
رابعاً : بث سموم النفاق .
كما تبين الآية السابقة وجوهاً من هذا الهمّ من وجوه :
الأول : قول الذين همتهم أنفسهم بأن يكون لهم من الأمر والقرار رأي وشأن .
الثاني : إحتجاج تلك الطائفة على سقوط القتلى من الأنصار بما ورد في الآية السابقة حكاية عنهم [لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا].
الثالث : مخالفة ما يقولون ويدعون بحضرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما يبطنون .
الرابع : ذكر آية البحث للتولي والإنهزام من ميدان المعركة فمن إعجاز تقسيم سور القرآن إلى آيات إختصاص موضوع تولي وفرار طائفة من المسلمين بآية مستقلة ومنفصلة عن الآية السابقة لها مع إتحاد الموضوع بينهما ، ثم ذكرت آية البحث صيغة التبعيض في الفعل مع إرادة العموم في الخطاب ، لبيان أن الثبات في الميدان هو صفة المؤمنين ، ووجود أمة من الصحابة تقاتل في الميدان عندما إنهزم فريق من المسلمين من المعركة ، وفيه حجة عليهم .
فالأصل هو الإقتداء بأولئك الذين ثبتوا في الميدان وإعانتهم على عدوهم إذ يقول الذين في قلوبهم مرض كما في الآية السابقة [لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا] إنما يكون توليهم سبباً في تعرض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة الذين بقوا يقاتلون في الميدان إلى القتل أو الأسر.
فكما يظهر المنافقون خلاف ما يخفون في نفوسهم فانهم يأتون بعذر وذريعة ، ويجتهدون بتبرئة أنفسهم باللبس وإلقاء اللوم على غيرهم ، فتصدى لهم القرآن وفضحهم ومن صيغ العداوة أن يجتنب العدو ذكر ما يذكره عدوه من العذر والحجة ويمتنع أن يكون سبباً في إظهار جداله والإعلان عن أقواله ، ولكن القرآن جاء بمعجزة بأن ذكر أقوال الكفار والمنافقين ، وبيّن ما يذكرونه من صيغ الإعتذار وأسباب التدارك فقولهم (هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) بيان لأمور :
الأول : منزلة رؤساء النفاق بين أهل المدينة , وإصغاء فريق منهم , لتبعث الآية السابقة على الإعراض عن أقوالهم , والنفرة منهم ( ).
الثاني : ما يتصف به رؤساء النفاق مثل عبد الله بن أبي بن أبي سلول من الخبرة والمعرفة بفنون القتال .
الثالث : أراد المنافقون بيان مسألة وهي أنهم أحرص على الأنصار ، فلو جرى القتال لعلموا كيف يدفعون عنهم .
الرابع : لم يفقه المنافقون مسألة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق إلا عن الوحي ، وهذه نعمة عظمى بينهم تغني عن الرأي والإجتهاد ، ومع هذا فان النبوة لم تعطل المشورة ، ولكنها تجعلها مقدمة لقول وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يصدر الأمر عن أعضاء الشورى أو ما يصل إليه المتشاورون ، قال تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] ( ).
فان قلت إذا كان الأمر والنهي والفعل وعدمه يختصان بالوحي ، فما هي موضوعية الشورى في المقام ، والجواب من وجوه :
الأول : تنمية سنن المشورة بين المسلمين عامة ، وبين الأمراء والقادة بمراتبهم المتباينة خاصة (عن ابن عباس قال « لما نزلت { وشاورهم في الأمر } قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما ان الله ورسوله لغنيان عنها ، ولكن جعلها الله رحمة لأمتي ، فمن إستشار منهم لم يعدم رشداً ، ومن تركها لم يعدم غياً ) ( ).
الثاني : بيان موضوعية رأي أهل البيت والصحابة عند الله عز وجل .
الثالث : موافقة الرأي والمشورة للوحي أحياناً .
الرابع : إرتقاء المشورة لتكون موافقة للوحي .
الخامس : إكرام أهل البيت والصحابة وإصغاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأقوالهم ، وعن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض )( ).
السادس : تفضل الله عز وجل بأن يأتي الوحي موافقاً لرأي بعض الصحابة رحمة من عنده تعالى ، ومقاليد الأمور كلها بيده سبحانه .
والمراد من العزم في الآية أعلاه إمضاء الأمر وإنجاز الفعل ، فيجب أن لا تكون المشاورة سبباً للتردد والإرباك أو موضوعاً للخصومة والخلاف .
وهل شاور النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنافقين في معركة أحد ، الجواب نعم ، لقد شاور عموم الصحابة في خروجه إلى معركة أحد ، وكان رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول قد أشار على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبقاء في المدينة وعدم الخروج للقاء جيش قريش في موضع قرب جبل أحد ، وهل إصرار عبد الله بن أبي بالبقاء بالمدينة للقاء العدو ، من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة [وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ] الجواب نعم ،لذا لجأ وأصحابه إلى الإنسحاب وسط الطريق إلى أحد مع ثلاثمائة من أفراد الجيش ، فجاءت آية البحث بذم الذين تولوا وإنصرفوا عن القتال مطلقاً ليشمل :
الأول : الذين قعدوا ولم يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله إلى ميدان المعركة ، وهو الذي يدل عليه مفهوم قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( )أي أن الذين قعدوا عن الخروج عن عمد ومن غير عذر ليسوا بمؤمنين إلا أن يراد من الألف والام في (للمؤمنين ) العهد وقصد الذين حضروا المعركة على نحو الخصوص والتعيين .
الثاني : الذين إنسحبوا وسط الطريق إلى معركة أحد .
الثالث : الذين إنهزموا في ميدان المعركة ، وهذا المعنى أعم من التولي الذي تذكره آية البحث , مع التباين بين هذه الوجوه الثلاثة فالذين إنهزموا من القتال بعد إشتداد وطأته ومجئ خيل الذين كفروا من خلف جيش المسلمين وكثرة القتلى فيهم هم مؤمنون .
نعم ربما لم يرجع بعض المنافقين في منتصف الطريق إلى أحد وإستمر مع جيش المسلمين طمعاً بالغنائم ونحوها مثل متعب بن قشير ولكنه سرعان ما إنهزم ، وهو فرد نادر من بين الذين تولوا وفروا من ميدان المعركة ، لذا جاء قوله تعالى في آية البحث [وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ] .
فان قلت إنما نفذ الشيطان باغوائه إلى المسلمين من حبهم للغنائم وإرادتهم جلب الأسرى للمدينة طلباً للفداء ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا].
والجواب إرادة المعنى الأعم ، وصيرورة الرغبة بالغنائم ظاهرة عند جيش المسلمين إستصحاباً لما وقع في معركة بدر وما صاحب النصر المبين يومئذ .
لقد أراد الله عز وجل تأديب المسلمين في آية البحث ببيان قانون وهو أن صيرورة حب الدنيا غاية في الجهاد وقتال الذين كفروا ، قال تعالى [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً] ( ).
وقيل أن الذين بقوا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم ينهزموا ثلاثة عشر رجلاً منهم خمسة من المهاجرين ، الإمام علي عليه السلام ، أبو بكر ، طلحة ،عبد الرحمن بن عوف ، سعد بن أبي وقاص ، والباقون من الأنصار( ).
ولما إبتدأت آية البحث بالإخبار عن تولي وفرار فريق من الصحابة عند القتال وملاقاة القوم الكافرين بينت علة هذا التولي لتوثيق حقيقة من جهات :
الأولى : لم يأت هذا التولي بسبب خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للقاء الذين كفروا ، وفيه رد على المنافقين كما ورد في الآية السابقة حكاية عنهم [لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا].
الثانية : إنعدام موضوعية قوة الذين كفروا وبسالتهم في القتال كسبب لتولي وفرار فريق من الصحابة ، وكأن الآية تقول للمنافقين ولعموم الذين تولوا من المسلمين إلا تقولوا أن شدة بطش الذين كفروا حملتنا على الفرار أو أننا لو بقينا في مواضعنا في معركة أحد لقتلنا بل أن علة الفرار هو إستزلال وإستدراج الشيطان بسبب حبهم للدنيا ، وهو لا يتعارض مع الأسباب الواقعية من شدة القتال , ومباغتة العدو , وكثرة القتل بين المؤمنين .
الثالثة : بيان قانون وهو أن التنزه عن حب الدنيا وطلب الغنائم والثروة العاجلة واقية من الشيطان وإغوائه .
ومن الإعجاز في المقام مجئ الآية بأداة الحصر (إنما) لنفي تعلق أسباب فرارهم بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أحد وسير المعركة ، وهو الذي تدل عليه الشواهد التأريخية بإبتداء معركة أحد بنصر عظيم للمؤمنين وتوالي سقوط القتلى من المشركين .
لقد أخبرت هذه الآيات عن إبتداء معركة أحد بوعد من عند الله وتنجز هذا الوعد بمصاديق النصر المبين بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] ( ).
وبعد أن ذكرت آية البحث فرار فريق من المؤمنين من معركة أحد عند إشتداد القتال , تضمنت بيان علة هذا الفرار ونسبته إلى الشيطان مع ذكر علة هذه النسبة والإخبار عن قانون وهو عجز الشيطان عن إغواء الإنسان إلا من جهة حبه الدنيا وزخرفها وزينتها.
فمن يريد الآخرة يختار الدفاع عن الإسلام والثبات في الميدان ، فتكون هذه الإرادة وقصد لقاء الله سبيلاً لسلامته من القتل ، وتنعمه بعمر مديد وحياة هانئة تتقوم بطاعة الله وإتيان الفرائض وتكون خالية من كيد وضرر الذين كفروا .
وبعد أن ذكرت آية البحث فرار فريق من المؤمنين وعلة هذا الفرار ونسبته إلى إغواء الشيطان أخبرت عن عفو الله عز وجل عنهم ، ومن الإعجاز في آية البحث أنها لم تذكر العفو بصيغة التراخي والإبطاء ولم تبدأ بحرف العطف (ثم) فلم تقل الآية (ثم عفا الله عنهم) إنما جاءت بحرف العطف الواو الذي يفيد الجمع وإنعدام الفترة بين التولي وصدور العفو من عند الله عز وجل عنهم .
فلم تدخل عليهم فريضة صلاة المغرب إلا وقد عفا الله عز وجل عنهم ، كما تكون هذه الصلاة علة وموضوعاً للعفو من عند الله عز وجل ، (عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات) ( ).
أسباب النزول
تبين الآية حقيقة وهي تولي وفرار طائفة من المسلمين يوم معركة أحد عند إلتقاء الصفين ، ووقوع القتال ، وفي الآية وردت أقوال:
الأول : ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تولوا عن القتال وعن نبي الله يوم أحد .
الثاني : نزلت الآية (في رافع بن المعلى وغيره من الأنصار ، وأبي حذيفة بن عتبة ، ورجل آخر) ( )عن عكرمة وقتادة .
الثالث : نزلت في عثمان، ورافع بن المعلى، وخارجة بن زيد( ).
الرابع : عن محمد ابن إسحاق : وقد كان الناس انهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني يوم أحد حتى انتهى بعضهم إلى المنقى دون الأعوص وفر عثمان بن عفان وعقبة بن عثمان وسعد بن عثمان أخوان من الأنصار حتى بلغوا الجبل مما يلي الأعوص فأقاموا به ثلاثا ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم : ” لقد ذهبتم بها عريضة) ( ).
وعندما عرّض عبد الله الرحمن بن عوف بعثمان بقوله أني لم أفر يوم عينين أي يوم أحد ، ولم أتخلف عن بدر ، وفي حديث نقل لعثمان ، فقال : (أما قوله أني لم أفر يوم عينين فكيف يعيرني بذلك وقد عفا الله عني؟ فقال { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم }) ( ).
الخامس : عن عبد الرحمن بن عوف { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان } قال : هم ثلاثة . واحد من المهاجرين ، واثنان من الأنصار ( ).
السادس : أخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال (وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال : كان الذين ولوا الدبر يومئذ : عثمان بن عفان ، وسعد بن عثمان ، وعقبة بن عثمان ، أخوان من الأنصار من بني زريق)( ).
السابع : الطبري باسناده قال : خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل عمران ، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها ، فلما انتهى إلى قوله { إن الذين تولوْا منكم يوم التقى الجمعان } ، قال : لما كان يوم -أحد- هزمنا ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأني أروى ، والناس يقولون قتل محمد ، فقلت : لا أجد أحداً يقول : قتل محمد إلا قتلته ، حتى اجتمعنا على الجبل فنزلت هذه الآية كلها ( ).
الثامن : وقال السدي وغيره : إنه لما انصرف المسلمون عن حملة المشركين عليه صعد قوم الجبل ، وفر آخرون حتى أتوا المدينة ، فذكر الله في هذه الآية الذين فروا إلى المدينة خاصة( ) .
التاسع : كل من ولّى الدبر من المشركين بأحد وهذا قول عمر ، وقتادة ، والربيع ( ).
العاشر : عَنِ الْحَسَنِ البصري ، قَوْلَهُ: ” ” إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ” قَالَ: فَرَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، زَاغَتْ قَلِيلا ثُمَّ رَجَعُوا”( ).
الحادي عشر : وهم المسلمون إلا اثني عشر رجلاً ( )( ).
ويفيد الجمع بين هذه الأسباب تأكيد حقيقة وهي فرار شطر من المسلمين من ميدان المعركة عندما جاءت خيالة المشركين من خلف المسلمين ، وهذا التأكيد دليل على الإعجاز في السنة الدفاعية ، وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من المهاجرين والأنصار من القتل والهزيمة ، وإذا أنعم الله عز وجل فأنه ينعم بالأتم والأوفى فقد نجى أيضاً الذين هموا بأنفسهم ، وكانوا يظنون بالله غير الحق وفيه دعوة لهم للتوبة ونبذ النفاق وإخفاء الشرك .
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : التوثيق السماوي لوقائع ومعارك الإسلام الأولى وهو من الإعجاز الغيري للقرآن من وجوه :
الأول : قراءة المسلمين لوقائع الإسلام الأولى بقصد القرآنية.
الثاني : ترتب الأجر والثواب على تلاوة المسلم والمسلمة لآيات معركة أحد , وغيرها من الآيات التي تذكر تفاصيل معارك الإسلام .
الثالث : بيان مصداق الصلة بين الله عز وجل وبين عباده ، فلما تفضل الله عز وجل بأخبار الملائكة بجعل خليفة في الأرض ، عند خلق آدم كما في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فتفضل الله عز وجل وجعل الصلة متصلة مع الناس بالوحي والنبوة وحارب الذين كفروا النبوة والتنزيل بالسيف والمال ، فلا غرابة أن تستمر حربهم بتحريف الحقائق وتبديل الأخبار وتغيير أنباء الوقائع .
فتفضل الله عز وجل ببيانها في القرآن , بما يمنع من طرو التحريف عليها .
الرابعة : تتجلى في معارك الإسلام معجزات وبراهين تدل على عظيم قدرة الله ومدده وعونه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدق نبوته فتفضل الله وأنزل كلامه في موضوعها وتفاصيل وقائعها ، وهذا النزول من مصاديق ثناء الله عز وجل على نفسه إذ يبين قوله تعالى في آية البحث [وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ] عظيم إحسان الله وسعة رحمته بالمؤمنين , فيأتيهم العفو والثواب مع فرارهم من المعركة , ويأتي الإثم والعذاب للذين كفروا مقبلين ومدبرين .
الثانية : منع طرو التحريف والتبديل على وقائع وأحداث الإسلام الأولى ، ليكون من إعجاز القرآن الغيري سلامة أخبار ووقائع البيعة النبوية من التغيير والزيادة والنقصان .
وليس من حصر لمنافع هذا الوجه من الإعجاز , ومنها :
الأولى : ترغيب المسلمين بتلاوة آيات القرآن .
الثانية : منع الفرقة والخلاف بين المسلمين .
الثالثة : إختصاص آية من القرآن بموضوع تولي وفرار طائفة من المسلمين دليل على أهمية الأمر في تأريخ بناء صرح الإيمان وبيان للضرر الفادح الذي يترتب على هذا التوالي .
الرابعة : دلالة آية البحث في مفهومها على صبر وجهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والصحابة , وبذلهم الوسع في سبيل الله إذ أن فرار طائفة منهم ثلمة وثغرة ينفذ منها العدو من وجوه :
الأول : صيرورة العدو على أمل بتحقيق الغلبة .
الثاني : المناجاة بين أفراد العدو وللإستمرار بالقتال .
الثالث : الشماتة من الأعداء وأهل الحسد .
الرابع : إغراء المنافقين باظهار ما يبطنون من ضروب الضلالة والنفاق .
الخامس : محاولة بعث الوهن والضعف والأذى بين صفوف المؤمنين .
الخامسة : بعث الشوق في نفوس المسلمين لقراءة آيات القرآن ، وتتبع أحداث معركة أحد , فكما إبتدأت المعركة بنصر بين للمسلمين ، وهمّ الذين كفروا بالفرار والإنهزام من ميدان المعركة ثم تدور الريح وتكون الجولة للذين كفروا ، فكذا أخبرت هذه الآيات في نظمها عن ترتيب وقائع معركة أحد ، إذ كان الإخبار عن ولاية الله للمسلمين كمقدمة لمعركة أحد وبشارة النصر فيها بقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]( ) .
فقد يظن بعضهم أن آية الولاية مطلقة وعامة ولا صلة لها بموضوع القتال ، فجاءت الآية لتأكيد موضوع النصرة ، لتكون نصرة المؤمنين بلحاظ الآية أعلاه من جهات :
الأولى : ولاية الله عز وجل وعونه ومدده للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين خاصة , وأن النصرة من معاني الولاية .
الثانية : إخبار الآية أعلاه عن نصرة الله عز وجل للمؤمنين بقوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ].
الثالثة : من معاني[ خير ] في الآية أن نصره خاص بالمؤمنين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) لتكون خير نصرة من خير الناصرين لخير أمة أخرجت للناس بخير شريعة , قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ).
الرابعة : إجتماع الولاية والنصرة من عند الله عز وجل للمؤمنين ، وهل في آية البحث نصرة للمؤمنين , الجواب نعم ، وهو من غايات الآية الذي يختص هذا الباب بذكر شذرات منها بلحاظ أمور :
الأول : تخلف أوهام البشر عن الإحاطة بغايات الآية القرآنية .
الثاني : عندما إحتجت الملائكة على جعل آدم عليه السلام خليفة في الأرض أجابهم الله عز وجل بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل أن غايات القرآن لا يحيط بها أحد من الخلائق من وجوه :
أولاً : الغايات الكريمة من كل آية قرآنية .
ثانياً : المقاصد السامية المستقرأة من الجمع والتقدير بين كل آيتين من القرآن ، ليكون مجموع أبواب العلم في هذا الوجـه ( 19,640,730) وكل باب منها تستقرأ منه علوم غير متناهية( ) .
ثالثاً : العلوم المستنبطة من الجمع بين كل ثلاث آيات .
رابعاً : إستقراء المسائل والأحكام التي تتضمنها كل سورة قرآنية على نحو الإستقلال , وعلى نحو الجمع بينها وبين آية قرآنية أخرى .
خامساً : موضوعية أسباب نزول آيات القرآن .
الخامسة : كل غاية من غايات الآية القرآنية خير محض , ونعمة متجددة .
السادسة : بيان قانون وهو فضل الله بإقالة عثرات المؤمنين
فقد إبتدأت آية البحث بالإخبار عن تولي وفرار طائفة من المؤمنين ، وقد يظن مجئ الذم والتوبيخ لهم بعد هذا الإخبار أو لا أقل توجيه اللوم لهم ، وبيان أضرار هذا التولي عليهم وعلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في ميدان المعركة ، ولكن الآية إنتقلت إلى أمر وهو نسبة هذا التولي إلى الشيطان كمسبب للإزلال والخطأ ، ثم تفضل الله عز وجل بالهبة العظمى والرحمة الواسعة بالإخبار عن عفوه عن الذين تولوا .
ولاية الله للمسلمين في آية البحث
لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار الولاية ، وهو من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض بقوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) فأقام الله عز وجل عليهم الحجة بحسن الإحتجاج وبديع البرهان والوعد الكريم بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ليكون من علم الله عز وجل تفضله بجعل الدنيا دار الولاية للناس جميعاً ، فتصاحبهم الولاية والعناية واللطف والرحمة من عنده تعالى ، ولكن الذين كفروا حجبوا عن أنفسهم هذه النعمة ، وقطعوا أسباب الولاية عن أنفسهم .
وهل ينتقم الله عز وجل منهم لحرمانهم أنفسهم من هذه النعمة ، الجواب إنما يأتي الإنتقام على إختيار الكفر والشرك بالله ومحاربة الذين تعاهدوا سنن الولاية ، فمن الإعجاز في قوله تعالى أعلاه [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )الملازمة بين وجود الناس في الأرض وولاية الله عز وجل للأنبياء والمؤمنين منهم ، وليس من حصر لمصاديق الولاية إذ تأتي دفعة وتدريجياً وعلى نحو التعدد في الزمان والمكان المتحد .
فقوله تعالى في الآية السابقة [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا]لا يعني الحصر بهذه النعمة إذ تتصف بوجوه :
الأول :تعدد النعم في ذات الأمنة النعاس .
الثاني : ترشح النعم العظيمة من نعمة الأمنة النعاس .
الثالث : مقدمات نعمة الأمنة النعاس من ولاية الله عز وجل للمسلمين ، وهو الذي تفضل عليهم بالخروج لملاقاة القوم الكافرين ، وجعل النصر في بداية المعركة للمسلمين بوعد منه تعالى وتنجز لهذا الوعد ، وفي التنزيل [أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
ويتعلق موضوع ولاية الله عز وجل في آية البحث بالآية السابقة لها بلحاظ إتحاد موضوع الآيتين في تنقيح المناط لورودها والآيات الأربعة السابقة لها بخصوص معركة أحد، التي كانت ولاية الله للمسلمين فيها حاضرة جلية , وتدل كل كلمة من هذه الآيات عليها بذاتها وبالإجتماع والتداخل مع كلمات هذه الآيات الأخرى.
كان يوم إلتقاء المسلمين مع الذين كفروا ميدان معركة أحد، وعلى سفح هذا الجبل الذي صار الآن جزء من أحياء المدينة وتجاوزته بيوتها في شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وزوال الكفر والضلالة عن أرض المدينة , ووقائعها مناسبة لنزول وجوه مصاديق متعددة من ولاية الله لهم، لبيان أنها عيد عبادي، وفخر بفضل الله لتكون وجوه الولاية التي تأتي للمسلمين بخصوص معركة أحد من البدل والعوض العظيم عن الغنائم التي حرموا منها في المعركة، فلا يقال أن المسلمين لم يرجعوا بالغنائم، بل رجعوا بما هو أعظم من الإبل والخيل والأسرى وبدل فكاكهم من الأسر، رجعوا بمصاديق من الولاية منها عصمة المسلمين من الهزيمة والإنكسار.
ولكن بماذا رجع المسلمون الذين تولوا من المعركة، الجواب رجعوا بالغنيمة أيضاً من وجوه:
الأول : نزول آية البحث التي تتضمن الإخبار عن نسبتهم إلى عموم المسلمين بقوله تعالى[تَوَلَّوْا مِنْكُمْ] فما تأتي من النعم العامة للمسلمين يصيبهم نصيب منها.
الثاني : إخبار آية البحث عن تولي طائفة من المسلمين لطف من الله تعالى بهم لما فيه من البيان والتذكير بلزوم الثبات في ميدان القتال.
الثالث : دلالة إخبار آية البحث عن تولي فريق من المسلمين بأنهم لو ثبتوا فان ولاية الله واقية لهم وسبب لنزول الأمنة النعاس عليهم، بلحاظ كبرى كلية وهي أن هذا الإخبار من ولاية الله عز وجل ولأجل إنتفاع المسلمين من مصاديق الولاية الإنتفاع الأمثل.
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن المسلمين لم ينهزموا جميعاً من معركة أحد وحتى إنتهاء المعركة ، وعلى حقيقة تأريخية وهي : بقاء طائفة من المسلمين في ساحة القتال من مصاديق ولاية الله لهم ، وسبب لرشحات من وجوه هذه الولاية من جهات :
الأولى : ذات وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ساحة المعركة مدد وعون للمؤمنين .
الثانية : حضور الملائكة مع المسلمين في ميدان القتال .
الثالثة : توثيق الآية السابقة لبقاء هذه الطائفة في الميدان بقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ] ( ) كما توثقه آية البحث في مفهومها ودلالتها .
ومن ولاية الله عز وجل للمسلمين نسبة فرار وتولي فريق من الصحابة يوم معركة أحد إلى الشيطان ، فهو الذي أغواهم وزيّن لهم التولي وجعلهم يخافون على أنفسهم من القتل والموت عند البقاء في ميدان المعركة ، ومن معاني ومادة الشيطان في إغوائه شدة هجوم الذين كفروا ، وصيرورة الجولة لهم أثناء القتال ، لبعث المسلمين على التوقي من حبائل الشيطان وأخذ الحائطة في باب الجهاد والمرابطة .
وقد ورد في الذين تولوا في معركة حنين وبعد خمس سنوات من معركة أحد قوله تعالى [ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل إلقاء التبعية على الشيطان ، ولو على نحو السالبة الجزئية لبيان قبيح الفعل الذي يقوم به ولمؤاخذته في الآخرة .
ومن ولاية الله عز وجل للمسلمين إختتام آية البحث بقانون يبين أن الله عز وجل هو الغفور وهو الرحيم .
فلم تقل الآية : منكم من يريد زينة الدنيا ومنكم من يسعى إلى الآخرة ) لبيان حقيقة وهي أن الذين تذكرهم الآية بخصلة إرادة الدنيا يتنزهون عن إرادة زينة الحياة الدنيا ، إنما يتصفون بأمور :
الأول : الإيمان ، فهم مؤمنون بدليل قوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا] ( ).
الثاني : الحضور في ميدان معركة أحد تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الإشتراك بالقتال والمبارزة ليمتازوا بأسباب العز والفخر ، ويختلفون عن المنافقين والذين ورد فيهم قوله تعالى [قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ]( ).
الرابع : إرادة الدنيا في عرض إرادة الآخرة التي تتجلى في الخروج للجهاد والقتال .
الخامس : التقيد بآداب وسنن وطاعة الله ورسوله في أداء الفرائض والعبادات .
ومن ولاية الله في المقام أمور :
الأول : تثبيت الذين يريدون الآخرة في مقاماتهم ، وسعيهم وحسن سمتهم .
الثاني : تنمية قصد القربة عند الذين يريدون الحياة الدنيا ، ودعوتهم للإقتداء بالذين يسعون للآخرة
الثالث : دعوة عموم المسلمين للإقتداء بالذين يريدون الآخرة ونبذ طلب الدنيا وجعلها غاية بذاتها في حال السلم والمهادنة وحال الحرب والقتال .
الرابع : بعث النفرة في نفوس المسلمين من إرادة الدنيا .
الخامس : بيان قانون وهو إرادة الدنيا مجلبة للأذى والضرر العام والخاص ، فتريد طائفة من المسلمين الدنيا وتسعى إليها فيأتي الضرر لعموم المسلمين ، وتريد طائفة من المسلمين الآخرة ، وتجاهد في سبيل الله فيأتي النفع لجميع المسلمين , ويكون سبباً لصلاح الأرض ، ونشر شآبيب السلام في ربوع الأرض .
ليبين قوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ] ( )أن الإسلام بُني على إرادة المسلمين الآخرة وأنهم يسعون إليها ، ويتناجون في نبذ إرادة الدنيا ، وفضح المنافقين والذي [يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ]( ).
ومن ولاية الله عز وجل للمسلمين أن قوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ] يتضمن تنمية ملكة الزهد عند المسلمين وجعلهم يتسابقون في فعل الخيرات وعدم الخشية من الفقر والفاقة فيخرجون للقتال طلباً للآخرة فيكون هذا الخروج تطهيراً لنفوسهم وسبباً لمحو ذنوبهم وسيئاتهم ، وهو المستقرأ من قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ].
وتقدير الآية أعلاه بلحاظ مضامينها وهي الثانية والخمسون بعد المائة من سورة آل عمران على قسمين :
الأول : منكم من يريد الدنيا ولقد عفا الله عنهم .
الثاني : منكم من يريد الآخرة ولقد عفا الله عنهم .
قال تعالى [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ] ( ).
ليكون من معاني ولاية الله للمسلمين في الآية أعلاه نسبة حب الشهوات إلى الناس وفطرتهم ، فتأتي الآية القرآنية فتجعل همّ المسلمين في خاتمة الآية أعلاه بالآخرة واللبث الدائم في النعيم بقوله تعالى [وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ] .
لقد أراد الله عز وجل أن تملأ السكينة قلوب المسلمين وأن ينقطعوا إلى الذكر ويداوموا على أداء الفرائض والعبادات ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن , والرغبة فيها تكثر الهم والحزن ، والبطالة تقسي القلوب ) ( ) .
وأن يجاهدوا في سبيل الله لإزاحة مفاهيم الكفر من الأرض ، وقهر الذين كفروا في ميدان القتال , ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : منكم من يريد الدنيا فخسر الدنيا والآخرة .
الثاني : منكم من يريد الدنيا فعليه أن يهجر هذه الإرادة .
الثالث : تلقي المسلمين خسارة وسقوط سبعين شهيداً في معركة أحد لأن طائفة من المسلمين يريدون الدنيا ساعة اللقاء مع العدو التي تفتح فيها أبواب السماء لقبول الدعاء .
الرابع : منكم من يريد الدنيا فجاءت آية البحث لبيان القبح الذاتي والعرضي لإرادة الدنيا .
لقد تضمنت آيات القرآن بيان فضل الله بإكرام المسلمين ، وكل كلمة منها تشريف وعز لهم ، ومن إعجاز القرآن أن هذا القانون لم يمنع من ذكر حال المسلمين عند إشتداد القتال ، وهرب وفرار شطر منهم ، وما في الفرار من العيب الخاص والضعف العام .
فهل يبعث هذا الذكر المسلمين على الفرار عند إلتقاء الصفوف أو ينمي عندهم الرغبة بالفرار والإنهزام .
الجواب لا، وهو آية في علوم القرآن والمسائل المستقرأة من ذخائره إذ تبين فيه الوقائع والأحداث من غير مبالغة أو تحريف أو تبديل ، وهل ذكر وقائع معركة أحد في القرآن ومنها آية البحث من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ] ( ) أم أنه خارج بالتخصيص وان القدر المتيقن من القصص التي تذكرها الآية أعلاه هي قصص الأمم الماضية .
الجواب هو الأول من جهات :
الأولى : وقائع معارك الإسلام من القصص التي ترد في القرآن .
الثانية : إرادة الإطلاق في معنى القصص لتشمل ما هو قريب أو بعيد من الأحداث .
الثالثة : مجئ الخطاب في الآية القرآنية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة الأمة وأجيال المسلمين المتعاقبة وإلى يوم القيامة .
الرابعة : بيان موضوع القصص وهو الوحي والقرآن النازل من عند الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ليبقى قوله تعالى [ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ ] شاهداً على واقعة أحد وشدة ضراوة المعركة ، وقوة بأس وكثرة عدد جيش الكفار ، وكيف أن المسلمين صاروا فرقاً متعددة من جهات :
الأولى : فرقة تخلفت عن الخروج إلى معركة أحد .
الثانية : فرقة إنسحبت وسط الطريق برأي وتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول وحرموا أنفسهم من نعمة الإشتراك في القتال فوقى الله عز وجل المسلمين من ترتب الضرر على إنسحابهم ، وهذا المنع من مصاديق ولاية الله عز وجل للمسلمين بقوله تعالى [ بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ ].
الثالثة : فرقة إنهزمت من وسط المعركة بعد صيرورة الجولة للذين كفروا .
الرابعة : فرقة ثبتت في ميدان المعركة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتكتب بحسن بلائها في القتال وبدمائها أسطر العز والفخر ، وأسباب قهر الذين كفروا ، وإزاحة مفاهيم الضلالة عن مقامات السلطان في الأرض وإلى يوم القيامة ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
ويحتمل ذكر خصوص الطائفة التي تولت عن القتال وجوهاً :
الأول : الأفراد الذين إنهزموا من ميدان المعركة .
الثاني : ذكر الآية للذين فروا من المعركة بقوله تعالى [الَّذِينَ تَوَلَّوْا] وذكر الذين ثبتوا في الميدان مع رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله تعالى [مِنْكُمْ] الذي يفيد التبعيض .
الثالث : ذكر الذين إنسحبوا وسط الطريق مع رأس النفاق ، بلحاظ أن النسبة بين التولي والفرار هي العموم والخصوص المطلق .
الرابع : شمول الذين قعدوا عن القتال وبقوا في المدينة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، فمن الإعجاز في آية البحث أنها تقسم المسلمين بخصوص ميدان معركة أحد إلى قسمين .
الأول : المسلمون الذين يقاتلون في الميدان وإستمروا في مجاهدة وقتال العدو إلى حين إنتهاء المعركة .
الثاني : الذين تولوا وفروا وأعرضوا عن القتال إبتداء وإستدامة .
لتتضمن آية البحث الثناء على الذين قاتلوا تحت لواء رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأجبروا والملائكة العدوَ على التقهقر والتراجع والإنسحاب إلى مكة في ذات يوم المعركة ، قال تعالى [وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ] ( ).
التفسير
قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ]
تبين الآية في دلالتها قبح التولي عن القتال الذي يكون في سبيل الله، ولكن العاقبة من إتصاله والإستمرار فيها ذات حسن ذاتي وإن كانت متعددة إذ تنحصر بأمرين إما النصر وإما الشهادة ، قال تعالى [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ] ( )وتقدير الآية على وجوه :
الأول : إن الذين تولوا منكم ) أي من بين صفوفكم في الميدان ، لأن معاني (من) إبتداء الغاية التي ترد غالباً في الأمكنة والأزمنة ، فهي بمنزلة منذ ومذ الظرفية في الزمان , كما في قوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى] ( ).
فيراد من الضمير المجرور في الآية ( منكم ) المسلمون الموجودون في ميدان القتال , ولا يتعارض هذا المعنى مع ما تفيده ( من ) من التبعيض .
الثاني : إن الذين تولوا من المؤمنين الذين حضروا معركة أحد تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان أن المدار ليس على الخروج إلى المعركة ، فقد خرج المنافقون مع عامة جيش المسلمين , ثم ما لبثوا أن رجعوا من الشوط من وسط الطريق إلى المعركة ، ولا على حضور المعركة في بدايتها وحده والتي كانت نصراً مبيناً للمسلمين ، وقيامهم بقتل وإزاحة الذين كفروا عن مواضعهم ، إنما المدار على الثبات في ميدان المعركة والصبر وبذل الوسع في دفع الذين كفروا .
وتحتمل النسبة بين الذين نزلت عليهم الأمنة والنعاس كما في الآية السابقة [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ]وبين الذين تصفهم آية البحث بأنهم تولوا وفروا من ميدان المعركة وجوهاً :
الأول : نسبة العموم والخصوص المطلق ، فالذين نزل عليهم الأمنة النعاس هم الأعم ، ويدخل معهم الذين تولوا من الميدان ، بلحاظ أن المقصود منهم ليس المنافقين الذين إنسحبوا وسط الطريق إلى أحد .
الثاني : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق , فشملت الأمنة النعاس شطراً من الذين تولوا إلى جانب الذين ثبتوا في الميدان وحرم شطر منهم من نعمة الأمنة النعاس .
الثالث : نسبة التباين إذ نزلت كل من الأمنة والنعاس نعمة يوم أحد على الصحابة الذين صبروا وجاهدوا تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذبوا عنه .
الرابع : تعدد النسبة بلحاظ تقسيم الذين تولوا إلى قسمين :
أولاً : الذين ثبتوا في الميدان بتلقي نعمة الأمنة النعاس ، خاصة وأن الآية السابقة ذكرت طائفتين هما :
الأولى : الذين نزل عليه الأمنة النعاس .
الثانية : الذين همتهم أنفسهم ويظنون بالله غير الحق ، ولا ملازمة بين الطائفة الثانية أعلاه وبين عموم الذين تولوا من الميدان ، فليس كل من تولى أهمته نفسه ويظن بالله غير الحق .
ثانياً : الذين حجبت عنهم نعمة الأمنة النعاس , والمختار هو الرابع أعلاه ، فمن فضل الله عز وجل أمران :
الأول : قانون عموم وسعة النعمة النازلة من عند الله , وعدم غلق بابها .
الثاني : قانون خصوص وحصر البلاء والأذى وغلق بابه ، لذا فما أن ذكرت آية البحث تولي فريق من المؤمنين عن ميدان معركة أحد حتى أخبرت الآية عن أمور :
الأول : بيان حال التولي وهو القتال وشدته ليخرج بالتخصيص المنافقون والذين إنسحبوا معهم وسط الطريق إلى معركة أحد .
وتقدير الآية : إن الذين تولوا منكم غير الذين إنسحبوا وسط الطريق إلى أحد مع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول ، ليتضمن هذا المعنى بعث الحسرة والأسى في نفوس المنافقين .
وقيدت الآية نسبة الذين تولوا بأنهم من المسلمين ، وفي الضمير الكاف في [مِنْكُمْ] وجوه :
الأول : المقصود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أن صيغة الجمع للتفخيم والإكرام .
الثاني : إرادة المجاهدين الذين بقوا يقاتلون في الميدان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : المقصود عموم الصحابة من المهاجرين والأنصار .
الرابع : إرادة المسلمين والمسلمات أيام نزول آية البحث سواء الذين كانوا في ميدان معركة أحد أو في المدينة أو غيرها ، وهل يشمل الخطاب في آية البحث المسلمين الذين خرجوا مع الذين كفروا في معركة أحد على نحو الإكراه أو الإغواء أو عزم الوالدين ، الجواب نعم .
الخامس : توجه الخطاب في آية البحث للصحابة في ميدان المعركة وعموم المسلمين أيام التنزيل ولأجيال المسلمين إلى يوم القيامة .
والصحيح هو الأخير لأصالة الإطلاق , ووحدة الموضوع في تنقيح المناط ، فيصبح تقدير قراءة المسلمين في زماننا لآية البحث : إن الذين تولوا منا ) وفيه مسائل :
الأولى : بيان حقيقة تجدد موضوع وقائع الإسلام الأولى ، فلا يقف تجددها عند التصور الذهني ، بل يشمل حضورها في الذهن وكـأنها ماثلة للعيان .
الثانية : إشراك كل مسلم ومسلمة في مواضيع آيات القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثالثة : إرادة تنزيه كل مسلم عن التوالي والفرار من ميدان المعركة بلحاظ تضمن الآية معنى أنكم أيها المخاطبون لم تتولوا ، ولكن فريق منكم هم الذين تولوا .
الرابعة : تأكيد قانون وهو نسبة الذين تولوا للمسلمين , فهذا التولي لم ولن يخرجهم من ربقة الإيمان , فلم يخرجهم الإخبار الوارد في الآية حين نزولها بأنهم من المؤمنين ، ولن يخرجوا لتجدد مضامين آية البحث في كل زمان .
وتقدير الآية بلحاظ عطفها على نظم الآيات السابقة : يا أيها الذين آمنوا إن الذين تولوا منكم( ) وهل يصح تقدير الآية بلحاظ العطف على الآيات السابقة : يا أيها الذين آمنوا الذين تولوا إنما إستزلهم الشيطان ببعض ما كسبتم ) الجواب نعم ، وهو من مصاديق لغة العموم الإستغراقي للخطاب في آية البحث .
الخامسة : لقد وعد الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين النصر والغلبة على الذين كفروا ، وجاءت آية البحث لتبين أن الحرب كر وفر ، وأن جيش المسلمين قد يخسر جولة ويفر شطر منه ، ولكن الخاتمة هي تنجز وعد الله عز وجل.
ويبين القرآن حكمة الله عز وجل في إفتتان الناس بإغواء إبليس وعصمة أمة من المؤمنين من هذا الإغواء ، وفي التنزيل حكاية عن إبليس [لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ] ( ) فجاءت الآية السابقة وهذه الآية لبيان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الذين صبروا معه في ميدان معركة أحد من المخلصين الذين ذكرتهم الآية أعلاه ، وفيه ترغيب للمسلمين بالإجتهاد في طاعة الله والإقتداء بالصالحين .
ومن الإعجاز في آية البحث حصر فتنة الشيطان بالإزلال من غير أن يكون له سلطان على المسلمين ، ويدل على هذا النفي نسبة الذين تولوا إلى عموم المسلمين وإشتراكهم في الخطاب الوارد في الآية بقوله تعالى [الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ] فلم يستطع إبليس منع المسلمين من الخروج إلى معركة أحد وملاقاة الذين كفروا بالسيوف والأرواح، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
ورد قبل آيتين قوله تعالى (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) فما هي الصلة بين آية البحث ودعوة الرسول هذه ، الجواب من وجوه :
الأول : نسبة التساوي وتوجه دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للذين تنعتهم آية البحث بالتولي والفرار .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق بتوجه دعوة الرسول إلى طائفة من الذين تولوا ، لتقييدها بقوله تعالى [فِي أُخْرَاكُمْ].
الثالث : تتضمن دعوة الرسول حث الذين في الميدان على الثبات وعدم الفرار .
الرابع : تشمل آية البحث المنافقين الذين تولوا وسط الطريق إلى أحد ، فلا تشملهم دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
والمختار هو الأول والرابع أعلاه .
ترى لماذا لم تقل الآية الذين تولوا الأدبار منكم ،الجواب بين التولي على الأدبار وبين التولي مطلقاً عموم وخصوص مطلق , فالأول أعم لأنه يشمل الفرار والهزيمة والإنزواء ، أما التولي فيشمل إلى جانب الفرار الإعراض عن القتال والإنسحاب والصعود في الأرض .
ومن الإعجاز في آية البحث بيان موضوعية نداء ودعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالرجوع إلى ميدان المعركة بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] ( )وصيرورة هذه الدعوة برزخاً دون توليهم الأدبار ، وفيه بعث لليأس والقنوط في قلوب الذين كفروا ، فحتى لو تولت طائفة من المسلمين فأنهم سرعان ما يعودون إلى ميدان المعركة ، وفيه بيان لقانون وهو أن دعوة الرسول تداهم الهّم بالنفس ، وتزيحه عن القلوب .
وتحتمل دعوة الرسول في الآية أعلاه من جهة العموم والخصوص وجوهاً :
الأول : إرادة وقائع معركة أحد .
الثاني : حضور دعوة الرسول في كل معركة من معارك المسلمين التي حضرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ الملازمة بين شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذه الدعوة .
الثالث : إستحضار المجاهدين لدعوة الرسول في كل معركة من معارك المسلمين أيام النبوة والتنزيل .
الرابع : إختصاص تجدد دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال تولي فريق من المسلمين .
الخامس : حضور دعوة الرسول للمسلمين في كل معركة من معارك المسلمين .
السادس : تجدد دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]عند المسلمين في حال السلم والمهادنة والقتال .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق مضامين الآية السابقة .
ومن الإعجاز في المقام تقييد نسبة الذين تولوا بأنهم (منكم) لبيان بقائهم على صفة الإيمان , وأن هذا التولي لم يخرجهم عن ربقته وعن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن غلبت عليهم الخشية على النفس والخوف من القتل ، فلذا إحتج الله في الآية السابقة بقوله [قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ] ( ).
ترى لماذا وردت الآية أعلاه بالأمر إلى النبي (قل) ولم تأت قانوناً وبلاغاً من عند الله , فيه مسائل :
الأولى : بيان الحاجة للإحتجاج في ميدان المعركة .
الثانية : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين للترغيب بالجهاد والصبر في ميدان المعركة .
الثالثة : حث المؤمنين على الإحتجاج بمنطوق الآية الكريمة في كل زمان .
الرابعة : بيان وظائف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقائدية ، فهو مع إنشغاله بالجهاد والقتال يقوم بالإحتجاج على المنافقين والذين يريدون إجتناب القتال حتى في حال فرحته وكونه دفاعاً عن النفوس .
بحث أصولي في صيغة العموم
يأتي اللفظ العربي ومطلقاً في سائر اللغات أما لإرادة أمر خاص أو عام ، بأن يأتي بأحد ألفاظ سور الموجبة الكلية مثل جميع ، كل ، قاطبة , وأدرجت معها أسماء الشرط والموصولات.
ومنهم من قسم صيغة العموم إلى أقسام :
الأول : العام اللغوي الذي يستقرأ من اللغة .
الثاني : العام العرضي ، وهو الذي نقله العرب بالتداول من اللغة إلى العرف فصار شائعاً ومتعارفاً فيه مثل الذل في قوله تعالى [وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ] ( ) فالذل في الآية أعلاه ليس طائراً له جناح بل هو من أبهى معاني بر الوالدين ، وهذا المعنى يسمى في اللغة المجاز في مقابل الحقيقة .
الثالث : العام العقلي وهو تبعية الحكم للموضوع والملازمة بين الحكم وعلته ، فيأتي العموم عقلاً بلحاظ علة الحكم ، كما في قوله تعالى [فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ] لبيان النهي العقلي عن كل فعل يؤذي الوالدين من باب الأولوية القطعية كالزجر والكلام القبيح.
ليكون من الإعجاز في الأوامر والنواهي القرآنية لزوم إظهار أبهى معاني البر والإحسان مع الوالدين ، وإجتناب أي أذى أم ما يكون مقدمة للأذى أو أمارة عليه ، قال تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا] ( )وأقل الجمع هو إثنان كما في كتب اللغة ، وهو الذي يأخذ به مشهور الفقهاء والأصوليين ، والمختار أن أقل الجمع هو ثلاثة ، ولا يكون إثنين إلا مع القرينة.
وقد يفيد الجمع معنى المنفرد ، كما في قوله تعالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا]( ).
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك عن رسول الله قال (ما من عبد يشهد له أمة إلا قبل الله شهادتهم . والأمة الرجل فما فوقه إن الله يقول : { إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين) ( ).والأمة : الرجل فما فوقه
ويحتمل ذيل الحديث أعلاه وجوهاً :
الأول : إنه تتمة لحديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إنه إضافة وبيان من الصحابي أنس بن مالك .
الثالث : إنه إضافة من رجال سند الحديث .
ولو دار الأمر بين الوجوه الثلاثة أعلاه , فالأصل أنه من قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان الصحابة والتابعون يحرصون على عدم الإضافة للحديث الوارد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن ورد الحديث أعلاه بصيغة الجمع بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( إلا قبل الله شهادتهم ) مما يدل على إرادة الجمع والتعدد .
وعن ابن عباس في الآية أعلاه ( { إن إبراهيم كان أمة قانتاً } قال : كان على الإسلام ولم يكن في زمانه من قومه أحد على الإسلام غيره ، فلذلك قال الله : { كان أمة قانتاً } )( ).
ومن العام ما يكون بمعناه وليس بصيغة الجمع فالأسماء الموصولة تفيد الجمع وإن جاءت بلفظ المفرد لدلالتها على إستغراق المعنى .
فيرد الاسم الموصول بلفظ المفرد ، ولكن معناه عام بلحاظ تعدد أفراده والموضوع .
وقد يرد العموم المجموعي فيتعلق الحكم بهم مجتمعين ومتفرقين كما في قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( ) وهل تنحصر بشارة وإنذار الرسول بأهل زمانه أو ما هو أعم من أتباعه والذين يتلون الكتاب الذي أنزل عليه ، الجواب أعم من هذا إذ جاء القرآن ليكون مدرسة البشارات والإنذارات التي جاء بها الأنبياء والرسل ، وهو من الشواهد على تفضيل القرآن على الكتب السماوية السابقة ، والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين ، ليصبح الأنبياء ببركة القرآن مبشرين ومنذرين إلى يوم القيامة .
وقد يرد العموم الإستغراقي بما يفيد الشمول لكل واحد منهم على نحو الإنفراد مع شموله للجميع ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( ) .
وقد يرد العموم على نحو بدلي ، وإختصاصه بفرد واحد من الجميع بحيث لا يستغرقهم كلهم كما في الجملة الشرطية ، وكما في قوله تعالى [وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ] ( ).
لقد إبتدأت آية البحث بصيغة التبعيض الإفرادي والخصوص الزماني بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]أما التبعيض بقيد [مِنْكُمْ] لإفادة إرادة شطر من المسلمين الذين حضروا معركة أحد ، لتؤكد الآية للناس جميعاً بأن المسلمين لم ينهزموا من ميدان المعركة ، وتحتمل علة العفو وجوهاً :
الأول : نزل العفو عنهم رحمة وفضلاً إبتدائياً من عند الله عز وجل .
الثاني : ثبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونفر من أهل بيته وأصحابه سبب للعفو عن الذين تولوا منهم .
الثالث : إستحقاق الذين تولوا العفو لإيمانهم .
الرابع : مبادرة الذين تولوا للإستغفار , وسعيهم للتدارك .
وبإستثناء الوجه الثالث أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق الآية , والأصل هو الأول والوجهان الآخران في طوله .
ثم جاء العفو بصيغة العموم المجموعي [وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ] وهو من فضل الله بأن ذكر التولي على نحو التبعيض ، والعفو على نحو العموم المجموعي الإستغراقي .
وهل يمكن إحتساب حرف الجر (من) في قوله تعالى (منكم) للتعليل ، كما في قوله تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ ] ( ) .
ليكون المعنى إن أعداءكم الذين تولوا منكم وإنهزموا أمامكم إنما إستزلهم الشيطان ، الجواب لا ، من جهات:
الأولى : إفادة نظم هذه الآيات إرادة المسلمين .
الثانية : ذكر الآية لإستزلال الشيطان ، وليس إتباعه والإنقياد له ، قال تعالى في ذم الذين كفروا [اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ]( ).
ومن بين سبعين مرة ورد فيها ذكر الشيطان في القرآن ، ورد ذكره في الآية أعلاه ثلاث مرات ، ولم يرد لفظ (حزب الشيطان ) في القرآن إلا في الآية أعلاه , وعلى نحو متعدد .
وأصل الحزب هم القوم يجتمعون على أمر قد حَزَبََهم ، والحزب هم الجماعة الذين توافقت أهواءهم وأعمالهم وقيل الحزب : الجماعة فيها قوة وصلابة ، وحَزَب الأمر أي إشتد .
(عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى ) ( ).
الثالثة : إخبار آية البحث عن عفو الله عز وجل عن الذين تولوا ، مما يدل على إرادة المسلمين على نحو الخصوص .
الرابعة : إخبار هذه الآيات عن صعود المسلمين , وأنهم لا يلوون على أحد.
الخامسة : ذكر هذه الآيات للذين كفروا بأن الله عز وجل صرف المسلمين عنهم بقوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] وتحتمل الآية أعلاه وجهين :
أولاً : ثم صرفكم عنهم إلا الذين تولوا منكم لم يصرفهم الله عنهم لإنهزامهم .
ثانياً : ثم صرفكم عنهم ، ومنكم الذين تولوا .
والمختار هو الثاني أعلاه ، وهو من أسرار قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ] لبيان أن رشحات نعمة العفو على المسلمين عاجلة وآجلة.
السادسة : إتصال وعطف هذه الآية بالآيات السابقة التي تخاطب المسلمين وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا( ) إن الذين تولوا منكم ).
علم المناسبة
وردت مادة تولوا في آيات عديدة من القرآن لتكون موعظة في إجتناب التولي والفرار في القتال ، وإنذاراً للذين يعرضون عن دعوة الحق والهدى مع التباين في موضوع وحال التولي ، وفيه مدرسة في تأديب وإصلاح المسلمين للثبات من جهات :
الأولى : الثبات في مقامات الإيمان .
الثانية : العصمة من الإرتداد وطاعة الذين كفروا بالباطل ، لذا عطفت هذه الآية والآيات الخمسة التي قبلها على قوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ).
الثالثة :صدق الجهاد عند ملاقاة العدو , وفي حال هجوم الذين كفروا ، فان قلت قد تولت طائفة من المسلمين في معركة أحد والجواب من وجوه :
الأول : نزلت آية البحث للإخبار عن تولي طائفة من المسلمين وعن عفو الله عز وجل عنهم .
الثاني : الغايات الحميدة لنزول آية البحث تنمية ملكة النفرة من التولي والإنهزام والفرار في النفوس .
الثالث : تدل آية البحث بالدلالة التضمنية على ثبات طائفة أخرى من المسلمين في ميدان القتال .
الرابع : دلالة لغة التبعيض في الآية (منكم) على ثبات شطر من المسلمين في ميدان المعركة لحين إنتهائها ، ولم يصعدوا الجبل إلا بعد فصل بين الجمعين .
الخامس : نسبة تولي طائفة من المسلمين إلى الشيطان بسبب بعض ما كسبوا من الأفعال ، وفيه دعوة لعموم المسلمين لتزكية الأعمال وإصلاح النفوس ، واللجوء إلى الإستغفار ، ولو إستغفر المسلم عن ذنبه فهل يستطيع الشيطان أن ينفذ له بسبب هذا الذنب .
الجواب لا، لأن الله عز وجل يتفضل بمغفرة الذنب ، ومحو ما يترتب عليه في النشأتين .
وورد قوله تعالى في النهي عن التولي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ] ( ).
وليكون من وجوه إتحاد المعنى بين الآية أعلاه وموضوع معركة أحد عطف هذه الآيات على خطاب الإكرام بصفة الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] .
وبيان الآية قبل السابقة لدعوة الرسول بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] ليكون من معاني في أخراكم , وتقدير الجمع بين الآيتين : والرسول يدعوكم وأنتم تسمعون ) فحينما أمر الله عز وجل رسوله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو المسلمين فانه سبحانه جعل دعاء ونداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصل إليهم جميعاً .
ولا يتعارض هذا المعنى مع مضامين الآية أعلاه وإرادة سماعهم لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالقرآن والسنة وإتيان الواجب وإجتناب المحرم ، ولبيان قانون وهو أن طاعة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العبادات والمعاملات سبيل لطاعته في ميدان القتال ، كما أن الآيات جاءت باقتران طاعته بطاعة الله عز وجل على نحو الإطلاق سواء في حال الحرب والسلم وصيرورة طاعته طريقاً ومصداقاً لطاعة الله عز وجل .
قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]
ذكرت الآية لفظ ( يوم ) وفيه وجوه :
الأول : إرادة يوم مخصوص من أيام الحياة الدنيا والذي يبدأ من طلوع الشمس إلى غروبها بلحاظ عدم إستمرار معركة أحد لأكثر من يوم واحد .
الثاني : المراد الواقعة والمعركة وإن إستمرت أكثر من يوم .
الثالث : إرادة يوم مخصوص من السنة كما في يوم عرفة , وهو التاسع من شهر ذي الحجة .
الرابع : إرادة أوان فعل مخصوص وإن إستغرق أكثر من يوم كما يقال (يوم الحصاد ) أي الوقت الذي تحصد فيه الزروع وتجنى فيه الثمار ، قال تعالى [وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ] ( ).
لقد تولى وفرّ شطر من الصحابة من معركة أحد لشدة وطأة القتال , ومجئ الذين كفروا من أمام وخلف جيش المسلمين ليزداد الإثم على الذين كفروا , ويُرجع الله كيدهم إلى نحورهم [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )ولتصاحب المغفرة المؤمنين في حال خروجهم إلى معركة أحد ، وعند الإصطفاف لملاقاة الذين كفروا ، ليكون من معاني قوله تعالى في آية البحث [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] وجوه :
الأول : تفضل الله بكتابة الحسنات للمؤمنين بيوم التقى الجمعان.
الثاني : مبادرة الملائكة للنزول لنصرة المؤمنين يوم إلتقى الجمعان.
الثالث : قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] من مصاديق تحلي المؤمنين بالصبر والتقوى في قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
الرابع : يوم التقى الجمعان ليخزي الله الذين كفروا , فلقد كثر تخويف ووعيد الذين كفروا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه , وكان كفار قريش يستأجرون رجالاً ليوصلوا رسائل تهديد وإنذار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فجاء إلتقاء الجمعين لفضح وخزي الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ).
الخامس : لقد أخبرت الآية السابقة عند الإمتحان والإبتلاء لما في الصدور من علم الله عز وجل بما تضمره قلوب المسلمين من الإيمان والتقوى .
وتضمنت آية البحث مصداقاً لهذا الإمتحان , وهو إلتقاء المسلمين مع الذين كفروا في ميدان القتال ، وهو أظهر وأشد ضروب الإمتحان .
وقد ورد قوله تعالى [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) بخصوص معركة بدر ، وفوز المسلمين بالنصر المبين يومئذ ، ويفيد الجمع بين آية البحث والآية أعلاه أموراً :
الأول : تجلي معاني الفصل والفرقان بين جيش الإسلام والذين كفروا في معركة بدر .
الثاني : التخفيف عن المسلمين في معركة أحد بلحاظ وقوع الفرقان في معركة بدر ، وقبل وقوع معركة أحد بأكثر من سنة .
الثالث : بيان حقيقة وهي في أي حال تكون كيفية ونتيجة معركة أحد فان الفرقان وظفر المسلمين بدليل قوله تعالى بخصوص معركة أحد [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) أي ما أصاب المسلمين من كثرة القتل والجراحات التي أصابت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهزيمة أكثرهم ، وهل آية البحث من مضامين المصيبة التي تذكرها الآية أعلاه الجواب نعم .
لقد إلتقى الجمعان جمع حزب الله بإمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وحزب الشيطان وكان عليهم أبو سفيان لبيان أن النصر ملازم لأهل الإيمان ، ومصاحب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ، وقد يرد ذات المعنى بصفة الفئة ، كما في قوله تعالى بخصوص معركة بدر [فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ]( ).
ويأتي لفظ (يوم) بمعناه اللغوي من طلوع الشمس إلى غروبها ، كما يأتي في الإصطلاح بمعان متعددة ومتباعدة ، فقد يعني الساعة من النهار ، وقد يكون مدة واقعة وإن إستمرت أربعين سنة ، وقد يطلق على عالم الآخرة ، كما في قوله تعالى [هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ]( ) [يَوْمُ التَّغَابُنِ]( ) [يَوْمُ الْوَعِيدِ] كما في قوله تعالى [وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ]( ).
وكما في يوم عرفات قال تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ] ( ) مع أن الوقوف في عرفات من زوال الشمس إلى غروبها وكذا بالنسبة لواقعة أحد فلم تستوعب النهار كله ، بل كانت في شطر فسمي اليوم به لأنه أمر عظيم ، وتقدير قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] على وجوه :
الأول : يوم إلتقى الجمعان في معركة أحد في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية المباركة .
الثاني : يوم إلتقى الجمعان في زمن النبوة والتنزيل والمعجزات التي تترى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كشاهد صدق على رسالته ولزوم إتباع الناس له ، وفي التنزيل ورد الخطاب من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
وفي الآية أعلاه دليل على خسران وهزيمة الذين يحاربون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم يحاربونه في ملك الله الذي بعثه رسولاً لهم ولغيرهم ، لقد أراد كفار قريش صد الناس عن الإسلام وما يترشح عنه من النعيم في النشأتين فالتقى الجمعان في معركة أحد .
الثالث : يوم التقى الجمعان مرة أخرى في معركة أحد بعد أن إلتقوا في معركة بدر في السنة الثانية من الهجرة النبوية الشريفة والتي توافق 624 ميلادية ، ولم يتعظ منها المشركون بعد أن رأوا الآيات العقلية والحسية ، منها وقوع سبعين قتيلاً منهم وأسر المسلمين لسبعين منهم ، فبعد أن كانوا في عز بين القبائل بسبب جوارهم للبيت الحرام وسعة في المال بما تفضل الله عز وجل عليهم في [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) وإذا هم يوم بدر على ثلاثة أقسام :
أولاً : فريق قتلى في القليب وهو البئر القديمة .
ثانياً : فريق أسرى يساقون إلى المدينة ليكون دخولهم لها مناسبة تزيد المسلمين إيماناً ، وتكون حرباً على النفاق ، ومظهراً لطرده من النفوس كمقدمة لمنع المسلمين من إتباع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول من الرجوع وسط الطريق إلى معركة أحد .
ثالثاً : طائفة من الذين كفروا منهزمون وفارون من موقع معركة بدر إلى مكة يصاحبهم الخزي والذل ، بينما يكون حال الذين تولوا من المسلمين والذين تذكرهم آية البحث في رحمة الله ، ويصاحبهم العفو منه تعالى .
الرابع : يوم التقى الجمعان وبينهما تضاد وتعاند ، إذ يدافع المسلمون عن كلمة التوحيد ويجتهدون في حفظ النبوة والتنزيل ، بينما يقاتل الذين كفروا من أجل إستدامة الباطل والضلالة ، وفي التنزيل [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
قوانين رشحات الآية القرآنية
يمكن تأسيس قانون متعدد في ذات موضوع الآية القرآنية من وجوه :
القانون الأول : قانون الآية القرآنية ناصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ويحتمل هذا النصر من جهة العموم أو الخصوص وجوهاً :
الأول : كل آية قرآنية نصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إنحصار موضوع النصرة بآيات الولاية والقتال ونحوها كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]( ).
الثالث : الجمود على النصر ، وخصوص لفظ النصر , وتتعلق آيات النصرة بما ورد فيها لفظ النصر نصاً ومنطوقاً كما في قوله تعالى [وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا] ( ).
الرابع : تقييد موضوع النصرة بالشرط من عند الله كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ]( ).
الخامس : تعليق تحقق النصر من عند الله عز وجل على الدعاء وسؤال النبي والمؤمنين كما في قوله تعالى [وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( ) وعن ابن عمر قال (قلما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه : « اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما يهون علينا مصيبات الدنيا ، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا ، واجعل ثأرنا على من ظلمنا ، وانصرنا على من عادانا ، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا)( ).
السادس : إرادة آيات القرآن التي تتضمن البشارة بالنصر من عند الله ، قال تعالى [وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ]( ).
السابع : التسليم بأن النصر بيد الله ، وهو فضل محض من عنده ومصداق من مصاديق المشيئة الإلهية ، قال تعالى [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ] ( ).
الثامن : نصرة الله للأنبياء والمؤمنين وعد منه تعالى .
التاسع : تقييد تحقق نصر المؤمنين بالتحلي بالصبر والتقوى كما في قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ]( ).
فيأتي النصر حيث يشاء الله وأنى يشاء ، وإن لم يتوجه المؤمنون بالدعاء , وهو من مصاديق رحمة الله بهم وبالناس , ومن مقدمات وعمومات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُو] ( ).
العاشر : مجئ نصر الله عز وجل عند دبيب اليأس إلى قلوب المؤمنين وإستعدادهم لمهادنة الذي كفروا بسبب خذلان قومهم لهم ، قال تعالى [حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا]( ).
ولما إستمر حصار المشركين للمدينة المنورة قريباً من شهر وهم يسعون لإيجاد طريق ومنفذ لدخولها بعث النبي محمد صلى الله علية وآله وسلم إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف وهما رئيسا غطفان ومن تابعهم من أهل نجد فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما وكتبوا الكتب وأجروا مقدمات الصلح ، وقبل أن تتم الشهادة ويقع الصلح ، بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يبين لهما الأمر ويستشيرهما في مسألة الصلح قبل إبرامه ، فقالا : يا رسول الله أمر تحبه وتصنعه أم أن هذا الصلح أمرك الله عز وجل علينا العمل به .
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (بل شيء أصنعه لكم والله ما أصنع ذلك إلى انى رأيت العرب قدر منكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما .
فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الاوثان لا نعبد الله ولا نعرفه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة الا قرى أو بيعا فحين أكرمنا الله بالاسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا ما لنا بهذا من حاجة والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم) ( ) .
حينئذ ترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسألة الصحيفة وإمضاءها ، وقال لسعد : أنت وذاك ، فتناول سعد مسودة الصحيفة ومحا ما فيها .
وصبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أذى قريش ، ورابط معه المسلمون خلف الخندق ، وإستمروا بحراسة مداخل المدينة وأزقتها وإستطاع عدد من فرسان قريش عبور الخندق يتقدمهم عمرو بن ود العامري ، وكان معلَماً ليعلم مكانه وكأنه نوع تحد للمسلمين , وكان من أشد وأشجع فرسان قريش , وقيل كان عمره تسعين سنة ، وطلب المبارزة فاستأذن الإمام علي عليه السلام رسول الله في الخروج إليه ، وقد تقدم بيانه إذ قتله الإمام علي عليه السلام ، فإنهزمت الخيل التي معه (قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَقَالَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام فِي ذَلِكَ
نَصَرَ الْحِجَارَةَ مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ … وَنَصَرْت رَبّ مُحَمّدٍ بِصَوَابِي
فَصَدَدْت حِينَ تَرَكْته مُتَجَدّلًا … كَالْجِذْعِ بَيْنَ دَكَادِكٍ وَرَوَابِي
وَعَفَفْت عَنْ أَثْوَابِهِ وَلَوْ أَنّنِي … كُنْت الْمُقَطّرَ بَزّنِي أَثْوَابِي
لَا تَحْسَبُنّ اللّهَ خَاذِلَ دِينِهِ … .. وَنَبِيّهِ يَا مَعْشَرَ الْأَحْزَابِ ) ( ).
ويحتمل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( )بلحاظ هذا القانون وهو الآية القرآنية نصر للمسلمين وجوهاً :
الأول : هذه الآية عون ومدد للمسلمين في معركة الخندق خاصة وأن حصار الذين كفروا للمدينة والمسلمين أكثر من عشرين ليلة , وعلى فرض ان الآية نزلت أثناء أيام الحصار ، وبعد أن قتل الإمام علي عليه السلام عمرو بن ود العامري .
الثاني : الآية نصر للمسلمين في معارك الإسلام اللاحقة بعد معركة الخندق .
الثالث : يتجلى نصر آية الكفاية أعلاه ببيانها لقانون كلي وإخبارهم عن فضل الله عز وجل على المؤمنين في ميادين القتال, ومنه حفرهم الخندق , لإمضاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمسألة حفره ومشاركته في حفره .
الرابع : إرادة الإخبار عن محو عدد من المعارك عن المسلمين، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : وكفى الله المؤمنين القتال بصرفه عنهم .
ثانياً : وكفى الله المؤمنين القتال بعدم إطالة مدته ، فلا يعقل أن معركة أحد التي تهيأ لها الذين كفروا لأكثر من سنة ويأتون بجيش عرمرم من مكة إلى المدينة نحو خمسمائة كيلو متراً بثلاثة آلاف رجل على الرواحل ومشياً مع إطعامهم وتولي نفقاتهم ومؤونهم ، وهم يلقون الأشعار ويسمعون الدفوف والرجز( ) من النساء اللاتي معهم يحرضنهم على القتال أن تنتهي هذه المعركة بساعات من نهار واحد ، خاصة وأن الجولة تحولت إلى جانب الذين كفروا .
الرجز بحر من بحور الشعر العربي والمفردة من قصائده : الأرجوزة والجمع الإراجيز وسمي بهذا الاسم لإضطرابه وكثرة إصابته بالزحافات والجمل الإعتراضية والتقلب وعدم البقاء على حال واحدة ، ويتصف بالوزن القصير والجمل الإعتراضية لذا يسهل حفظه وتداوله ، ومنه ألفية بن مالك في علم النحو وتسمى أرجوزته الألفية ومنها في الكلام وما يتألف منه
( كلامنا لفظ مفيد كاستقم … واسم وفعل ثم حرف الكلم )
( واحده كلمة والقول عم … وكلمة بها كلام قد يؤم )
وكانت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان يوم معركة أحد تقود نسوة من قريش وهن يضربن بالدفوف ويحرضن الرجال على القتال ويبعثن الحمية في نفوسهم ، ويدفعن من أجل الطعان والمسايفة فتوجهن إلى حملة اللواء بالشعر :
الكلام وما يتألف منه
( كلامنا لفظ مفيد كاستقم … واسم وفعل ثم حرف الكلم )
( واحده كلمة والقول عم … وكلمة بها كلام قد يؤم )
ومن الإعجاز في المقام أن حملة اللواء من بني عبد الدار قتلوا جميعاً في بداية المعركة وقتل معهم عبدهم ، فحملت اللواء امرأة فاجتمعت قريش حولها ، ولعله لتعفف المؤمنين عن قتل المرأة ثم يأخذن بالتنقل بين صفوف جيش المشركين وهن ينشدن بلغة الخطاب :
إنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ …
وَنَفْرِشُ النّمَارِقْ..
أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ …
فِرَاقَ غَيْرَ وَامِقْ ( ).
ثالثاً: صرف الذين كفروا عن القتال وإن همّوا به ، وإنشغالهم بأنفسهم ، فلا يعلم عدد المعارك التي منع الله عز وجل وقوعها بين المسلمين والذين كفروا إلا الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
رابعاً : وكفى الله المؤمنين القتال بأن جعلهم في حال دفاع وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهى أصحابه عن الإبتداء بالقتال ، ليكون القتال الذي كفى الله عز وجل المؤمنين وقوعه أعم من المفرد المستقل والمعركة الخاصة ، فيشمل صرف القتال على نحو الموجبة الجزئية بقلة وقتها والمنع من إستدامتها ، أو تجددها وعندما همّ الذين كفروا بعد معركة أحد بالرجوع والإغارة على المدينة .
والصحيح هو الوجه الأول أعلاه فكل آية قرآنية نصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بما فيها الآيات التي تخبر عن تقييد النصر بالدعاء والصبر والتقوى ، فلابد من التفكيك الموضوعي بين أمرين :
الأول : كون الآية القرآنية ناصر ومدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الثاني : مضامين الآية القرآنية وما تخبر عنه أو ما تتضمنه من الشروط .
وتحتمل الآية القرآنية في نصرها وجوهاً :
الأول : إختصاص الآية بالنصر للأنبياء ، وحتى إذا جاء النصر لأمته من بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى فهو من نصر الله عز وجل لذات النبي ، بلحاظ حصر النصر بالنبوة .
الثاني : إرادة نصر المؤمنين مجتمعين من غير أن تدب الفرقة بينهم ، لذا قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ).
الثالث : يأتي النصر من عند الله للمؤمنين إذا خرجوا للقاء العدو ولاقاه في ميدان المعركة كما في قوله تعالى في آية البحث [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]ليكون فيه نوع لوم للذين يفرون من العدو ويتركون مواضعهم في ميدان المعركة .
القانون الثاني : قانون الآية القرآنية مقدمة لنصر المسلمين .
لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وتعدد ضروب الإبتلاء التي يتعرض لها الإنسان في أيام حياته الدنيا ،فتأتي من جهات :
الأولى : ذات نفس الإنسان وما تأمر به من فعل الصالحات أو الترغيب بالسيئات ، قال تعالى [إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي] ( ).
الثانية : مباهج وزينة الدنيا ، وحب الإقتناء والطمع عند الإنسان.
الثالثة : إغواء الشيطان وقيامه بتزيين حب الشهوات للإنسان.
الرابعة : تعارض الرغائب عند الإنسان ، واللهث في حب وحطام الدنيا ،لذا دعا القرآن الناس إلى التسابق في الخيرات والتنافس في التزود إلى النعيم في الآخرة ، قال تعالى [خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ] ( ).
الخامسة : فتنة أهل السوء والضلالة ، أصحاباً وقرناء كانوا أو أعداء ، وقد أبتلي المسلمون في بداية الدعوة الإسلامية بالذين كفروا يؤذونهم من أجل ترك الإسلام ، ثم قادوا الجيوش حرباً على النبوة والتنزيل ، فكانت الآية القرآنية حاضرة في سبيل الوقاية من ضروب الإبتلاء التي تأتي من الذات والغير , وهذه الوقاية مقدمة لتحقيق المسلمين النصر والغلبة على الذين كفروا في ميادين القتال .
ومن الإعجاز في نزول القرآن أنه لم ينزل دفعة واحدة كنزول التوراة بل نزلت آيات القرآن على نحو التدريج والتوالي والتعاقب ، لتكون كل آية وسبب نزولها مقدمة لنصر المسلمين وواقية من الإنكسار والهزيمة ، ومنه آية البحث وكأنها تتضمن الإخبار بأن تولي فريق من المسلمين من ميدان معركة أحد مع بقاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونفر من أهل بيته وأصحابه يقاتلون الذين كفروا .
وتحث الآية المسلمين سواء الذين ذكرتهم الآية ونعتتهم بالتولي ، أو عموم المسلمين بألا يتولوا ولا يفروا من ميدان المعركة ، ليكون ثباتهم في الميدان مقدمة للنصر والغلبة على الذين كفروا ، كما تؤكد قانوناً وهو أن إغواء الشيطان والإنقياد لتخويفه من الذين كفروا وأسباب الحسرة والإحباط والإمتناع عن مواصلة الدفاع بسبب الحرمان من الغنائم ليس برزخاً دون تحقيق النصر على الذين كفروا .
وآية البحث مقدمة لتحقيق النصر للمسلمين في منطوقها ومفهومها ، أما المفهوم فلأن ذكر الآية لنبأ هروب وفرار طائفة من المؤمنين زجر عن التولي وبيان لضرره على الإسلام والمسلمين ، وأيهما أشد ضرراً على المقاتلين في الميدان ترك الرماة مواضعهم على الجبل ، أم فرار وتولي طائفة من المسلمين عن القتال ، الجواب هو الثاني .
لذا ذكرته آية البحث على نحو الخصوص ، ومن إعجاز القرآن أن ذكره لأي مسألة موعظة وعبرة ومناسبة لإقتباس الدروس وإستنباط الأحكام وإقامة البرهان ، وهو من عمومات قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ) فلا ينحصر البيان القرآني بالإخبار والإعلان ، بل يتضمن الحجة والدليل وتجلي سبيل الرشاد والجذب إليه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) .
القانون الثالث : قانون كل آية قرآنية نصر للمسلمين .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار خلافة الإنسان ومحل إمتحانه بالسراء والضراء , وتفضل الله وبعث الأنبياء لهداية وصلاح الناس .
وعن ابن مسعود قال (لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين) ( ).
إن نزول كل آية من القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو نصر وفتح للمسلمين وتأكيد سماوي لصدق نبوته ودعوة للمسلمين لإستقراء العلوم التي تترشح عن الآية القرآنية.
القانون الرابع : كل آية في القرآن شاهد على نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , بما فيها آية البحث فهي وأن إبتدأت بالإخبار عن تولي وفرار طائفة من المؤمنين من ميدان المعركة إلا أنها تدل بالدلالة التضمنية على ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة من أصحابه معه في ميدان القتال ودفع جيوش الذين كفروا عن المدينة بلحاظ أنها المصر الوحيد للإيمان آنذاك ومن وجوه نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في آية البحث نسبة زلل الذين تولوا من المؤمنين إلى الشيطان ، وفي كل يوم يمر على المؤمن يتغلب فيه على الشيطان ويقهره ، ثم أخبرت الآية عن عفو الله عز وجل عن الذين تولوا من المؤمنين .
القانون الخامس : قانون كل آية قرآنية دليل على نصر الله للأنبياء والمرسلين .
السادس : قانون كل آية قرآنية شاهد سماوي على خيبة وهزيمة وخسارة الذين كفروا .
السابع : قانون نصر الآية القرآنية للمسلم والمسلمة في الدار الآخرة ، وحضورها شافعة لهما ، وهو من الإعجاز في تشريع تلاوة المسلمين والمسلمات للقرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني .
وذكرنا هذه القوانين بعناوينها ، ونتطلع إلى العلماء في الأجيال القادمة إلى دراسة كل آية في القرآن بلحاظ كل قانون من هذه القوانين ، مع إضافة قوانين أخرى مناسبة لها ، لتكون العلوم المستقرأة من قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] من اللامتناهي .
ومن أسرار الترتيب في الآية بين الولاية والنصرة بقوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]أن الولاية طريق للفوز بنصرة الله عز وجل ، واليقين بمجئ النصر من عنده سبحانه ، وفي التنزيل ورد الثناء على الله عز وجل [وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] ( ).
والنصير والناصر بمعنى ، والناصر الميسر للنصر الذي تحضر نصرته عند الحاجة والسؤال , والنصير الذي تستديم نصرته ومدده ، والذي لا يكف أو يقف عن النصرة والعون في أي حال ، وهو الذي لا يخذل وليه .
ومن خصائص نصرة الله عز وجل أنه يجعل الصبر ملكة عند المسلمين ويرزقهم عليها خيراً ، ويخبر بأن الشهداء خالدون في جنات النعيم .
فليس من ناصر مثل الله عز وجل يخفف عن المؤمنين بالصبر والندب إليه والترغيب فيه ليكون سلاحاً في معارك المسلمين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) وهل من موضوعية للصبر في نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]الوارد في آية السياق .
الجواب نعم ، فبعد أن ترك الرماة المسلمون مواضعهم التي عينهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحثهم على عدم مغادرتها جاءت خيل المشركين من خلفهم وإرتبك المسلمون وتداخلت الخيل ، وتشابكت الأسنة ، وإشتدت وطأة الهجوم على المسلمين بكثرة جيش المشركين .
فمن نصر الله عز وجل أن أنعم على المسلمين بالصبر وجعله مقدمة ونوع طريق لنزول الملائكة لنصرتهم ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
ومن مصاديق قانون نصرة الله خير نصرة في الآية أعلاه وجوه :
الأول : تقييد نزول الملائكة مدداً بصبر وتقوى المسلمين ، وفيه مسألتان :
الأولى : هل تختص نصرة الله عز وجل يوم أحد بنزول الملائكة.
الثانية : هل يكل الله المؤمنين إلى أنفسهم من جهة الصبر والتقوى أم يمدهم بأسباب ومقدمات الصبر والتقوى .
أما المسألة الأولى فان نصرة الله عز وجل للمؤمنين لا تختص بكيفية واحدة للنصر ، وتعدد وجوه النصرة من عند الله من معاني ومصاديق قوله تعالى [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ومن الشواهد إبتداء معركة أحد بتنجز وعد الله عز وجل للمسلمين بالغلبة بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ..] ( ).
أما المسألة الثانية فان الله عز وجل يمد المسلمين بمقدمات وأسباب الصبر ويدنيهم لمقاماته ويقربهم لمنازله بلطفه ، وفي التنزيل [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ] ( ).
الثاني : من وجوه تقدير آية المدد أعلاه بل أن الله يمدكم بالصبر ويعينكم بالتقوى ليأتيكم الملائكة من فورهم ، وتدل على هذا المعنى لفظ [مِنْ فَوْرِهِمْ]وأن الله عز وجل هو خير الناصرين .
الثالث : لا يقدر على النصرة بالملائكة مدداً إلا الله عز وجل ، ومن الآيات أن الملائكة لا ينزلون إلا بإذن الله ولا يقومون بالنصر إلا بأمر منه سبحانه ، وهل يأتي الإذن الإلهي للملائكة على نحو الإجمال ، ويترك للملائكة التخيير في الكيفية وحس وقتل أو تخويف الذين كفروا .
الجواب هو الأول ، ويدل عليه قوله تعالى في الثناء على الملائكة [وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ).
ومن نصرة الله عز وجل مجئ الدعوة للجهاد والعودة إلى ميدان القتال على لسان رسوله الكريم ، فيتجلى معنى [خَيْرُ النَّاصِرِينَ]في المقام من جهات :
الأولى : مجئ الدعوة للمؤمنين للعودة لميدان القتال من عند الله عز وجل ومن فوق سبع سماوات .
الثانية : تجلي الدعوة للعودة لميدان المعركة على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : تسمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في آية البحث بأنه الرسول بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]ودلالة الألف واللام في الرسول على العهد أي ليس من رسول في زمان نزول القرآن إلا النبي مجمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل يدل لفظ الرسول في آية السياق على إنقطاع النبوة والرسالة بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب نعم ، وهو من مصاديقه ، وعن أبي كعب (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال « مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها وأجملها وترك فيها موضع هذه اللبنة لم يضعها ، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ، ويقولون : لو تم موضع هذه اللبنة ، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة .
وأخرج ابن مردويه عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي ، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي) ( ).
الرابعة : بيان قانون وهو أن قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه المنهزمين (إلي عباد الله إلي عباد الله) من عند الله ومن نصرته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
وهناك مسألتان :
الأولى : هل يصح تقدير دعوة النبي بأنها دعوة من عند الله , ويكون تقدير الآية : والله يدعوكم في أخراكم .
الثانية : هل يصح تقدير الآية : والرسول يدعوكم في أخراكم إلى الله .
أما الأولى فان دعوة الرسول من السنة النبوية والوحي ، وأما الثانية , فالجواب نعم ، لأن الرجوع إلى ميدان المعركة بصبغة الإيمان عودة ورجوع في سبيل الله ، وفي لفظ ورد قوله تعالى [إِنِّي مهاجراً إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ) وقيل : يعود الضمير في الآية أعلاه إلى إبراهيم عليه السلام وأستدل بقوله تعالى [إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ]( ) , والأصح الأول .
الرابع : من مصاديق قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]تعدد وجوه النصرة من عند الله للمؤمنين في كل آية من القرآن ، فمن وجوه النصرة في قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]الذي هو شطر من آية السياق أمور :
الأمرالأول : نصرة الله عز وجل لنبيه بنجاته من القوم المشركين الذين سعوا جاهدين إلى قتله ، وهذا السعي متصل من جهات :
الأولى : إرادة الكفار قتل النبي منذ صغره عند تجلي بشارات النبوة .
الثانية : لقد إجتهد أبو طالب في حفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عنه وإعانته في إظهار وإعلان وتبليغ رسالته ، فاراد المشركون ثنيه فعرضوا عليه أن يعطوه أحد أولادهم ويسلم لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقتلوه .
(قَالَ ابن إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ قُرَيْشًا حَيْن عَرَفُوا أَنّ أَبَا طَالِبٍ قَدْ أَبَى خِذْلَانَ رَسُولِ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَإِسْلَامَهُ وَإِجْمَاعَهُ لِفِرَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ وَعَدَاوَتِهِمْ مَشَوْا إلَيْهِ بِعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، فَقَالُوا لَهُ – فِيمَا بَلَغَنِي – يَا أَبَا طَالِبٍ هَذَا عُمَارَةُ قُرَيْشٍ وَأَجْمَلُهُ فَخُذْهُ فَلَك عَقْلُهُ وَنَصْرُهُ وَاِتّخِذْهُ وَلَدًا فَهُوَ لَك ، وَأَسْلِمْ إلَيْنَا ابن أَخِيك هَذَا ، الّذِي قَدْ خَالَفَ دِينَك وَدِينَ آبَائِك ، وَفَرّقَ جَمَاعَةَ قَوْمِك ، وَسَفّهُ أَحْلَامَهُمْ فَنَقْتُلَهُ.
فَإِنّمَا هُوَ رَجُلٌ بِرَجُلِ فَقَالَ وَاَللّهِ لَبِئْسَ مَا تَسُومُونَنِي أَتُعْطُونَنِي ابْنَكُمْ أَغْذُوهُ لَكُمْ وَأُعْطِيكُمْ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ هَذَا وَاَللّهِ مَا لَا يَكُونُ أَبَدًا.
فَقَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ : وَاَللّهِ يَا أَبَا طَالِبٍ لَقَدْ أَنْصَفَك قَوْمُك ، وَجَهَدُوا عَلَى التّخَلّصِ مِمّا تَكْرَهُهُ فَمَا أَرَاك تُرِيدُ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا .
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِلْمُطْعِمِ وَاَللّهِ مَا أَنْصَفُونِي ، وَلَكِنّك قَدْ أَجْمَعْتَ خِذْلَانِي وَمُظَاهَرَةَ الْقَوْمِ عَلَيّ فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَك ، أَوْ كَمَا قَالَ . فَحَقَبَ الْأَمْرُ وَحَمِيَتْ الْحَرْبُ وَتَنَابَذَ الْقَوْمُ وَبَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا) ( ).
الثالثة : قيام رجالات قريش مثل أبي جهل بالتحريض على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : قيام بعض كبار رجالات قريش بالهم بقتل النبي لا لشيء إلا لأنه يؤدي الصلاة في المسجد الحرام وأصابهم الحنق لأنه يعفر وجهه طاعة لله عز وجل .
وفي الخبر عن أنس قال ( لقد ضربوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى غشي عليه) .
الخامسة : إتفاق قريش على التواطئ والإشتراك بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يختاروا من كل قبيلة واحداً جليداً ،ثم يعطى كل واحد منهم سيفاً ،يضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه ، ليتوزع دمه بين القبائل .
فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام أن ينام في فراشه ، وهاجر من ليلته إلى المدينة المنورة لتكون هذه الهجرة على وجوه :
أولاً : إنها حاجة وسبيل أمن ودفع لشرور الكافرين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) بلحاظ كبرى كلية وهي أن هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من عند الله ومن الوحي .
ثانياً :في هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة على الذين كفروا إذ ترك جوار البيت الحرام وأرض الآباء والأجداد في سبيل الله .
ثالثاً : هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نجاة وطريق إلى النجاة .
رابعاً : في هجرة النبي صلى الله عليه وآله بناء لصرح الإسلام.
خامساً : إنها مصداق لملكية الله المطلقة للسموات والأرض ، ملكية تدبير ونفع لأهل الإيمان ، قال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] ( ).
سادساً : صيرورة هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة وحجة وحكم ضرورة ، وطريق سلامة , وهي من مصاديق إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
فلم يرضوا أن يصلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم فآواه الله إلى أمة من المهاجرين والأنصار .
( وعن النبي قال : سألت ربي مسألة ووددت أني لم أكن سألته ، فقلت : قد كانت قبلي الأنبياء منهم من سخرت له الريح ، ومنهم من كان يحيي الموتى ، فقال تعالى : يا محمد ألم أجدك يتيماً فآويتك؟ ألم أجدك ضالاً فهديتك؟ ألم أجدك عائلاً فأغنيتك؟ ألم أشرح لك صدرك؟ ألم أضع عنك وزرك؟ ألم أرفع لك ذكرك؟ قلت : بلى يا رب) ( ).
السادسة : إرادة قريش قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ، وهو من أسرار إصرارهم على القتال يومئذ مع أن قافلة أبي سفيان مرت في طريقها إلى مكة من غير تعرض أو حجز لها، لتكون سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ من مصاديق النصر في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
ويكون تقدير الآية على وجوه :
أولاً : ولقد نصركم الله ببدر بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونجاته من القتل .
ثانياً : ولقد نصركم الله ببدر بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
ثالثاً : ولقد نصركم الله ببدر بالغلبة على الذين كفروا .
رابعاً : ولقد نصركم الله ببدر لأنه مولاكم .
خامساً : ولقد نصركم الله ببدر وهو خير الناصرين .
سادساً : ولقد نصركم الله ببدر بنزول الملائكة مدداً لكم وعوناً في هزيمة الذين كفروا .
سابعاً : ولقد نصركم الله ببدر لما ينتظركم في قادم الأيام ، وهي على وجوه :
أولاً : إرادة العز والرفعة للمؤمنين في المدينة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ثانياً : دعوة أفراد القبائل العربية لدخول الإسلام لمجيئه بالإنذار والوعيد ، قال تعالى [لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ] ( ).
ثالثاً : تهيئ وإستعداد المسلمين للمعارك اللاحقة , فقد كان الثأر والإنتقام صبغة سائدة في زمان التنزيل وإلى يومنا هذا .
رابعاً : إجتهاد المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينهم ، وتوجه أمرهم ونهيهم إلى الناس عامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
خامساً : صيرورة المسلمين في حال يقظة وفطنة بعد هجوم الذين كفروا في معركة بدر ، وإصرارهم على القتال ، ومن خصائص آيات القرآن طردها الغفلة عن المؤمنين ، والغفلة هي قلة التحفظ والتيقظ , وكثرة السهو .
سادساً : تهيئ المسلمين للدفاع عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن التنزيل بعد بلوغ الأخبار بأن كفار قريش يستعدون ويحشدون لمعركة أحد .
سابعاً : ولقد نصركم الله ببدر لما سينزل من آيات القرآن وأحكام الحلال والحرام بعد معركة بدر لتبقى خالدة إلى يوم القيامة.
ثامناً : ولقد نصركم الله ببدر لأنها أولى معارك الإسلام, ليستصحب المؤمنون النصر , ورجاءه وسؤاله من عند الله سبحانه .
دلالة السنة على صدق نزول آيات القرآن
وتبين الآية القرآنية حال الأنبياء مطلقاً وما لاقوه من الأذى من قوم-هم كما في قوله تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ] ( ) .
وتجلت هذه الآيات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون مرآة لحياة وقصص الأنبياء السابقين ، وأن الجامع المشترك بين الأنبياء يتبين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أسباب وجوب حفظ المسلمين لسنته وتأريخ نبوته .
ويمكن تأسيس علم جديد وهو ( الشواهد من السنة على صدق نزول الآية القرآنية ) فنأخذ خبراً أو قولاً أو فعلاً من السنة النبوية لبيان دلالته على صدق نزول القرآن على نحو مستقل ثم تبين صلته بآيات القرآن من جهات :
الأولى : الآيات القرآنية التي يدل الخبر النبوي على صدق نزولها من عند الله بلحاظ أن قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي , فتأخذ كل حديث نبوي مع بيان كيفية ودلالة تصديقه لنزول آيات مخصوصة من القرآن.
الثانية : الآيات القرآنية التي يكون الخبر والحديث النبوي مرآة لها ، ومظهراً لتجلياتها وشاهداً على ما فيها من الإعجاز ، لتكون حاكية لآيات القرآن وبياناً لمضامينها ، فيذكر قول أو فعل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويبين دلالة وسنداً، ثم ينظر في آيات القرآن كلها ، وأي آيات منها يكون هذا الحديث أو الفعل النبوي بياناً وتفسيراً لها .
وهل يدل بيان السنة للآية القرآنية على صدق نزولها من عند الله، الجواب نعم ، لتجلي وحدة الموضوع في تنقيح المناط بلحاظ أن السنة وحي , وهي فرع نزول آيات القرآن ومن البديهيات العقلية دلالة الفرع على الأصل .
لقد شهدت الأرض إعجازاً وعلوماً مستحدثة بكل من نزول القرآن ووقائع السنة النبوية ليكون كل واحد منهما شاهداً على الإعجاز الذاتي للآخر , ويستنبط علم جديد من الجمع بين القرآن والسنة من وجوه :
الوجه الأول : دلالة الآية القرآنية على إعجازها الذاتي ، ومعاني مضامينها القدسية.
الثاني : الإعجاز الغيري للآية القرآنية ، وليس لهذا القسم من الإعجاز حصر من جهة :
أولاً : موضوع الآية .
ثانياً : دلالة الآية القرآنية .
ثالثاً : تعدد الأحكام التي تتضمنها الآية بالنص واللفظ والأحكام التي تستنبط منها .
رابعاً : جذب الآية القرآنية الناس إلى الإسلام والتسليم بنزول القرآن بأن تكون الآية الواحدة حجة في الإقرار بنزوله من عند الله عز وجل.
خامساً : عمل المسلمين بأحكام ومضامين الآية القرآنية.
سادساً : ترشح الإعجاز والبركة من العمل بأحكام الآية القرآنية.
ومن الآيات عدم مخالفة أو معارضة الحديث النبوي لآيات القرآن ومضامينها القدسية، بالدلالة التضمنية، وفيه دحض لمغالطة الذي قد يدعي مخالفة السنة النبوية للقرآن , ثم تذكر الأحاديث النبوية التي يدعى أنها تخالف القرآن لبيان المصداق والدليل على نفي المخالفة في المقام، أو على أن الحديث المخالف إن وجد موضوع لا أصل له.
سادساً : تأكيد الآية القرآنية لقول وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيان صدقه ، وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : أعرضوا سنتي على القرآن فما وافق القرآن فخذوه) وفي حديث العرض هذا مسائل :
الأولى : تأكيد السنة النبوية لصدق نزول القرآن من عند الله عز وجل .
الثانية : كشف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحقيقة وهي سلامة القرآن من التحريف مهما تقادمت الأحقاب ، بلحاظ توجه خطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكل من المسلمين والمسلمات في الأزمنة المتعاقبة بلغة الوحي.
الثالثة : تفقه المسلمين في الدين وإرتقاؤهم في المعارف الإلهية بحيث أنهم يجدون وجوه الإلتقاء بين القرآن والسنة .
الرابعة : التحدي بحقيقة وهي إنتفاء التعارض بين الكتاب والسنة .
الخامسة : تأديب المسلمين بحثهم على الصدور عن القرآن وأحكامه ، وما فيه الأوامر والنواهي .
السادسة : بيان الضابطة الكلية التي تحكم عمل المسلمين في أمور الدين والدنيا ، وهو اللجوء إلى القرآن والإقتباس منه , وإذا كان الإتحاد الموضوعي والحكمي يتجلى ببيان السنة للقرآن، فمن باب الأولوية القطعية أن يعرض على القرآن غير السنة النبوية كالوقائع التأريخية والأخبار ، وعالم الأقوال والسنن والعادات والأعراف الإجتماعية .
السابعة : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بتعاهد وتوثيق سنته ، لأنه سبيل إلى الإنتفاع الأمثل منها، ومن بيانها للقرآن.
ويحتمل موضوع العناية بالحديث النبوي وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الفعلية وجوهاً :
الأول : إرادة أهل البيت وخاصة الصحابة .
الثاني : عموم صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم كل مسلم ومسلمة تشرفا بعد إسلامهما برؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإستماع له .
الثالث : الصحابة والتابعون بلحاظ أنه زمان تنقيح وتوثيق الأحاديث وحصانتها من الوضع والجعل .
الرابع : إرادة خصوص العلماء في كل طبقة وجيل من المسلمين ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) ( ) .
الخامس : توجه التكليف إلى المسلمين والمسلمات كافة في الأزمنة المتعاقبة.
والصحيح هو الأخير لتجدد خطاب وأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل زمان ، وبما يفيد تعظيم شعائر الله والإقرار بنزول القرآن من عند الله تعالى، ولزوم إحياء السنة النبوية .
الوجه الثاني : الدلالة التضمنية للآية القرآنية ، وإحاطتها بعلوم الوحي بلحاظ أن السنة النبوية فرع الوحي ، ومن معاني هذا الوحي البشارات التي ترد في السنة النبوية إقتباساً من ذخائر وآيات القرآن، وهذه البشارات على وجوه :
أولاً : البشارات في الحياة الدنيا، وليس من حصر لها قولاً وموضوعاً وتنجزاً , فمع كثرة البشارات التي نطق بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الحياة الدنيا فان ذخائر القرآن من البشارات المدخرة في آيات القرآن من اللامتناهي.
ثانيا : مجئ السنة النبوية بالبشارات في عالم البرزخ وهو مدة القبر ما بين موت الإنسان وبين يوم البعث , وأخرج أحمد عن أسماء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا أدخل الإِنسان قبره ، فإن كان مؤمناً أحف به عمله : الصلاة والصيام . فيأتيه الملك من نحو الصلاة فترده ، ومن نحو الصيام فيرده فيناديه: اجلس . فيجلس ، فيقول له : ما تقول في هذا الرجل؟ يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم – قال من؟ قال محمد ، قال أشهد أنه رسول الله . فيقول : وما يدريك . . . ؟ أدركته؟ قال : أشهد أنه رسول الله . فيقول : على ذلك عشت وعليه مت وعليه تبعث ( ).
ثالثاً : ما يتعلق بعالم الآخرة واللبث الدائم للمؤمنين في الجنة ، قال تعالى [وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ] ( ).
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ، ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما ، ولملأت ما بينهما ريحاً ، ولنصيفها على رأسها يعني الخمار خير من الدنيا وما فيها ( ).
ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] أنه يدعو المسلمين إلى الجنة لأن هذه الدعوة في سبيل الله.
ومن الإعجاز والتحدي في السنة النبوية أن هذه البشارات جاءت على نحو الإجمال والتفصيل بلحاظ أمور :
الأول : دخول المؤمن الجنة بفضل وعفو من عند الله كما تقدم قبل ثلاث آيات [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ]( ) وكما يتبين في هذه الآية والدلالات المستقرأة من قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ] ( ).
والنسبة بين العفو الوارد في الآيتين هي العموم والخصوص المطلق ، فالعفو قبل قبل ثلاث آيات أعم في موضوعه وأفراده من العفو في هذه الآية , وتدل عليه صيغة الخطاب في قوله تعالى [عَفَا عَنْكُمْ] وإرادة العموم الإستغراقي قبل آيتين ، بينما ورد في هذه الآية بصيغة الغائب [عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ].
الثاني : بيان الأقوال والأفعال التي تدخل صاحبها الجنة بفضل الله ، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو واجب كفائي إذا جاء به بعض المسلمين سقط عن الباقين، وقد يصبح واجباً عينياً .
وعن أبي ذر قال سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ماذا ينجي العبد من النار ؟
قال : الإيمان بالله
قلت : يا نبي الله مع الإيمان عمل .
قال : أن ترضخ مما خولك الله أو ترضخ بما رزقك
قلت : يا نبي الله فإن كان فقيرا لا يجد ما يرضخ قال :
يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر .
قلت : إن كان لا يستطيع أن يأمر بالمعروف، و لا ينهى عن المنكر.
قال : فليعن الأخرق .
قلت : يا رسول الله أرأيت إن كان لا يحسن أن يصنع .
قال : فليعن مظلوما .
قلت : يا نبي الله أرأيت إن كان ضعيفا لا يستطيع أن يعين مظلوما .
قال : ما تريد أن تترك لصاحبك من خير ليمسك أذاه عن الناس .
قلت : يا رسول الله أرأيت إن فعل هذا يدخله الجنة .
قال : ما من مؤمن يصيب خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى تدخله الجنة ( ).
الثالث : بشارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للذين يقاتلون في سبيل الله، والقتال إبراز للنفس للقتل والتضحية بأعز ما يملك الإنسان.
وتأتي البشارة النبوية بالجنة للمجاهدين لبعث الشوق في نفوس المسلمين عامة للدفاع عن الإسلام والنبوة والتنزيل , وقهر النفس الشهوية .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ).
الرابع : ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأحاديث بخصوص الشهداء، وهو على وجوه :
أولاً : بيان حال الشهداء الذين حاربوا الكفار المشركين في معركة بدر وأحد والخندق وحنين , وحال الغبطة والسعادة التي يكونون عليها يوم القيامة .
ثانياً : سلامة ووقاية الشهداء من عذاب البرزخ ، وصيرورتهم في حال تمني العودة إلى الدنيا ليقتلوا في سبيل الله مرة أخرى.
ثالثاً : إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أحوال بعض الشهداء على نحو التعيين بما يبعث السكينة في نفوس أهله ، ومنه ما ورد بخصوص عبد الله بن عمرو وقال جابر بن عبد الله : قتل أبي يوم أحد وجدع أنفه وقطعت أذناه، فقمت إليه، فحيل بيني وبينه، ثم أتي به قبره، فدفن مع اثنين في قبره، فجعلت ابنته تبكيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” ما زالت الملائكة تظله حتى رفع ” .
قال: فحفرت له قبراً بعد ستة أشهر فحولته إليه، فما أنكرت منه شيئاً، إلا شعرات من لحيته كانت مستها الأرض( ).
وعن داود بن الحصين عَنْ رِجَالٍ من بني عبد الأشهل قالوا بخصوص معركة بدر: بينا حارثة بن سراقة كارعٌ في الحوض، إذ أتاه سهمٌ غرب فوقع في نحره، فلقد شرب القوم آخر النهار من دمه.
فبلغ أمه وأخته وهما بالمدينة مقتله، فقالت أمه: والله، لا أبكي عليه حتى يقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فأسأله ، فأن كان ابني في الجنة لم أبك عليه ، وإن كان إبني في النار بكيته لعمر الله فأعولته ! فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم من بدر جاءت أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم.
فقالت: يا رسول الله، قد عرفت موقع حارثة من قلبي، فأردت أن أبكي عليه فقلت: لا أفعل حتى أسأل رسول الله، فإن كان في الجنة لم أبك عليه، وإن كان في النار بكيته فأعولته.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: هبلت، أجنةٌ واحدة؟ إنها جنان كثيرة، والذي نفسي بيده إنه لفي الفردوس الأعلى قالت: فلا أبكي عليه أبداً! ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بإناءٍ من ماءٍ فغمس يده فيه ومضمض فاه، ثم ناول أم حارثة فشربت، ثم ناولت ابنتها فشربت، ثم أمرهما فنضحتا في جيوبهما، ففعلتا فرجعتا من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، وما بالمدينة امرأتان أقر أعيناً منهما ولا أسر( ).
رابعاً : ترغيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين بالشهادة والقتل في سبيل الله ، وحسن مواساته لأولياء وذوي الشهيد .
خامساً : بيان بركة الشهيد على أهله، ومن مصاديق حياة الشهداء في قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( )هو دعاؤهم لذويهم وإنعدام البرزخ أو المسافة بينهم وبين الله عز وجل لدلالة التقييد بالظرفية في قوله تعالى [عِنْدَ رَبِّهِمْ].
الوجه الثالث : إحتجاج النبي محمد صل الله عليه وآله وسلم بالآية القرآنية وإستحضاره لها على المنبر وقيامه بتفسيرها بوجه يدرك معه الجميع درر علم التفسير والحاجة إلى التأويل النبوي ، ومن خصائص السنة النبوية أن قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بيان وتفسير للقرآن .
(عن أبي الدرداء ، قال : سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالت : « كان خلقه القرآن) ( ).
وروي عن النبي صلى اله عليه وآله وسلم أنه قال : (بُعثت لأتُمّم مكارم الأخلاق) ( )، ليتجلى هذا التمام والكمال بنزول آيات القرآن والعمل بها.
لقد كانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرآة للقرآن ، وعملاً بأحكامه ، وبياناً لعصمته وخلوه من التعارض ، ويمكن إستقراء الصلة بين أي حديث أو فعل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآية أو آيات من القرآن ، وهو من كنوز القرآن وترشح السنة النبوية عنه ، بحيث إذا أخذت حديثاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وسألت ما هي الآية أو الآيات التي تدل على هذا الحديث وصدقه ومعناه ، فيأتيك الجواب بشواهد من ذات آيات القرآن .
وكما تحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذى كفار قريش وجاهدهم وقاتلهم ومن والاهم من المشركين في معركة بدر وأحد والخندق وحنين وغيرها من غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم البالغة سبعاً وعشرين غزوة على قول ابن إسحاق( )، فانه جاهد لبناء صرح التصديق بنزول القرآن ، وهو جهاد بالنفس أيضاً وبذل للوسع في الليل والنهار.
ولا يختص هذا الجهاد بالتصدي لأهل الريب والشك ، بل يشمل تثبيت الإيمان في قلوب المسلمين ، وزيادة إيمانهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ] ( )، وفيه دفع للشك والوهم عنهم ، ومن جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تأكيد صدق نزول القرآن جهاده للمنافقين وسعيه الحثيث لتنزيههم من النفاق ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( ).
ولا يختص تصديق السنة النبوية لنزول القرآن بآية النبوة ، وحياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ يبقى هذا العلم روضة مفتوحة إلى يوم القيامة ، وتكون السنة النبوية جواباً حاضراً على الشكوى والأوهام ، وبرهاناً يحتج به المسلم ، ويقتبس منه العلماء والمحققون شذرات في صحة نزول آيات القرآن من عند الله على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي والبدلي ، فتؤكد السنة صدق نزول الآية القرآنية الواحدة ، والسورة القرآنية ، وهو من مصاديق إستدامة مضامين قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( )، بتقريب أن الآية أعلاه تدعو المسلمين إلى التسليم بأن السنة النبوية وحي وأمر وإذن من عند الله عز وجل ، فتكون بياناً للقرآن، وشاهداً عليه بالقول والفعل .
وتقسم السنة النبوية إلى أقسام :
الأول : السنة القولية ، وهي أحاديث وخطب رسول الله صلى لله عليه وآله وسلم، وكان يصعد المنبر إبتداءً لبيان الأحكام والبشارة والإنذار ، ويرتقي المنبر عند حدوث واقعة أوحادثة ذات أثر، وكأن سنته مثل آيات القرآن التي منها ما يكون لها أسباب نزول خاصة بها، ومنها ما ليس لها أسباب وكذا الحديث النبوي فمنه ما يأتي إبتداء ليس له أسباب حسية ظاهرة من الوقائع والأحداث والأفعال ، ومنها ما يكون له سبب أو أسباب فيقترن بها ، ويساعد في حفظها وتوثيقها وبيانها وزيادة النفع منها في أوانها وما بعده وإلى يوم القيامة.
وقد تقدم قانون (المنبر النبوي) ( )، ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصعد على جذع نخلة ثم صنع منبراً من الخشب فحن الجذع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
عن أبي بن كعب قال :كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فصنع المنبر فلما جاوز ذلك الجذع إليه خار حتى تصدع وانشق فنزل فمسحه بيده حتى سكن( ).
ويمكن تقسيم أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أقسام :
الأول : خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر .
الثاني : إنشاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمدرسة المنبر وما فيه من الدروس والمواعظ فلا غرابة أن يسمي المسلمون منبر أي مسجد بأنه منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن يرتقي المنبر .
الرابع : خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتهيئة منبر مؤقت له كالصخرة يصعد عليها.
الخامس : خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة، فَكَبَّرَ ثَلاَثًا . ثُمَّ قَالَ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ ، صَدَقَ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ . أَلاَ إِنَّ كُلِّ مَأْثُرَةٍ كَانَتْفِي الْجَاهِلِيَّةِ ، تُذْكَرُ ، وَتُدَّعَى مِنْ دَمٍ ، أَوْ مَالٍ ، تَحْتَ قَدَمَيَّ ، إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ سِقَايَةِ الْحَاجِّ ، وَسَدَانَةِ الْبَيْتِ .
ثُمًّ قَالَ : أَلاَ إِنَّ دِيَةَ الْخَطَإِ شِبْهِ الْعَمْدِ ، مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِئَهٌ مِنَ الإِبِلِ ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ فِي بُطُونِهَا أَوْلاَدُهَا ( ).
عن عبد الله بن عمرو قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة نادى : من وضع السلاح فهو آمن ، فذكر الحديث فيه وفيمن لم يؤمنهم ، وفي الاغتسال ، وصلاة الضحى ، قال : ثم التفت إلى الناس فقال : ماذا يقولون أو ماذا يظنون، فقالوا : نبي وابن عم كريم ، فقال : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هاتين إلا ما كان من سدانة البيت وسقاية الحاج ( ).
السادس : الخطب التي ألقاها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة قبل الهجرة ، وحينما نزل قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( )، عن البراء قال: لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم { وأنذر عشيرتك الأقربين } صعد النبي صلى الله عليه وسلم ربوة من جبل فنادى « يا صباحاه . . فاجتمعوا فحذرهم وأنذرهم ثم قال : لا أملك لكم من الله شيئاً ( ).
السابعة : خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القبائل في موسم الحج والأشهر الحرم حيث يكون في مأمن من أذى قريش , ومنها خطبتاه في بيعة العقبة الأولى والثانية .
ولا ملازمة بين طول وكثرة الكلام وبين تحقق مصداق الخطبة ، فقد تكون خطبته صلى الله عليه وآله وسلم موجزة وهو من مفاهيم قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (أوتيت جوامع الكلم) ( ) .
وهو أن يأتي بكلمات معدودة لتتضمن معاني كثيرة تقتبس منها أجيال المسلمين المتعاقبة المواعظ وتستنبط منها المسائل والأدلة ومنها شواهد كلام النبي ، وهي توكد صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل .
وكذا الحديث القدسي وهو الحديث الذي ينزل معناه من الله عز وجل أما لفظه فمن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنه ما يخبر الله عز وجل نبيه بالإلهام أو المنام.
ولا يتعبد بالفاظ الحديث القدسي , ولم يأت بصبغة الإعجاز وما تتضمنه من التحدي .
(وأخرج عن جابر « إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال ربنا : الصيام جنة يستجن بها العبد من النار ، وهو لي وأنا أجزي به . قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : الصيام جنة حصينة من النار) ( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يقول الله عز وجل : الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما ألقيته في النار) ( ).
الثامن : الخطب التي ألقاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميادين القتال وهي على أقسام :
أولاً : التي قصد بها المؤمنين وشحذ هممهم وتذكيرهم بصدق نزول القرآن من عند الله سبحانه.
ثانياً : التي ألقاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الذين كفروا إتماماً للحجة عليهم ودعوة لهم للتوبة.
ثالثاً : خطب النبي محمد صلى الله عليه آله وسلم عند إلتقاء الصفين بما يكون موعظة للفريقين وحجة للمؤمنين وبعثاً للشوق في نفوسهم للدفاع ورجاء الشهادة وسبيلاً ومادة لإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ليكون تقدير آية إلقاء الرعب بأحاديث وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أنها وحي وفرع التنزيل وتصديق له .
التاسع : خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ] ( )، وهذه الخطب وموضوعها مدرسة مستقلة ذات صبغة عبادية وأخلاقية ، وصرح إيماني متجدد كل أسبوع وعنوان لوحدة المسلمين ، والتآخي بينهم.
وتدل هذه الخطب وتلقي طبقات وأجيال المسلمين لفريضة صلاة الجمعة بالقبول والتعاهد المتجدد على صدق نزول آية وسورة الجمعة وآيات القرآن كلها .
العاشر : من أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يأتي جواباً على سؤال ، وهو على أقسام :
أولاً : سؤال المؤمنين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : سؤال عامة المسلمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : سؤال إستفهام الذي ينوي دخول الإسلام ، والذي يطلب عرض الإسلام عليه .
رابعاً : سؤال أهل الكتاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
خامساً : ما يرد من الذين كفروا من الإستفهام الإنكاري الذي يكون جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه حجة عليهم ، وفي مضامين آيات [يَسْأَلُونَكَ] ( ) والذي ورد خمس عشرة مرة دلالات عقائدية على صدق نبوته .
ويمكن إستقراء مدرسة ( علم السؤال في القرآن ) من آيات السؤال وأدوات الإستفهام ، والتي ورد بعضها بصيغة خبرية غير صيغة السؤال .
الحادي عشر : جواب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأسئلة التي يوردها هو ابتداءً ، وهو علم مستقل يبين كيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية، ويجعل سنته برزخاً دون دبيب الشك إلى نفوسهم.
وهل من موضوعية لخطب وأجوبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأسئلة في نصر المسلمين في معارك الإسلام الأولى ، الجواب نعم خصوصاً وأن هذه الأجوبة تنمي ملكة التقوى عند المسلمين ، وتجعلهم يحترزون من الوهن والفشل والهزيمة ، وتتجلى منافع خطب وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] إذ يستحضر المسلمون ساعة نداء ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطبه وأحاديثه ووعده بالجنة للمؤمنين بفضل من الله ، قال تعالى [وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
أولاً : والرسول يدعوكم إلى القرآن والتنزيل .
ثانياً : والرسول يدعوكم لإستحضار خطبه وأحاديثه .
ثالثاً : والرسول يدعوكم لترون كيف أنه ثابت في ميدان القتال مع إشتداد هجوم الذين كفروا ، وقلة من حوله من أهل بيته والمؤمنين .
رابعاً : والرسول يدعوكم للدفاع عنه ، والحيلولة دون إنقطاع التنزيل والسنة النبوية , وكل منهما متعلق بشخصه الكريم على سبيل الحصر والتعيين .
خامساً : والرسول يدعوكم لسؤاله عن أخبار معركة أحد وكيف تكون نهايتها، ومنزلة الذين أستشهدوا في المعركة من المؤمنين.
سادساً : قد إجتهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في إجابة الأسئلة التي توجه إليه من المسلمين وغيرهم وهو يدعوكم للإنتفاع الأمثل منها بالجهاد في سبيل الله .
سابعاً : والرسول يدعوكم وذات هذه الدعوة من خطب ونداءات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني عشر : خطب النبي في المناسبات والوقائع ، وفي حال السفر وفي يوم غدير خم وضعت صخرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقال : (من كنت مولاه فعلي مولاه) ( ).
الثالث عشر : كما يمكن تقسيم خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قسمين :
أولاً : الخطب الطويلة .
ثانياً : الخطب القصيرة.
ومن الآيات أن المسلمين حفظوا خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وكانوا يستبشرون عندما يذكر الجنة ، ويبكون ويفزعون عندما يذكر النار وعذابها ، لتأتي معركة أحد دعوة إلى الجنة ، ويكون النعاس أمنة من عذاب النار .
الرابع عشر : أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير آيات القرآن ، وبيان مضامينها القدسية بلحاظ أن السنة تفسير للقرآن ( ) ومنها ما يرد عن سؤال من المسلمين وغيرهم ، ومنها ما يبادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيانه وتفصيله .
الخامس عشر : خطب وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المعاملات والبيع والشراء والنكاح والطلاق والمواريث ومجئ القرآن بتوثيق هذه الأحاديث أو أنها كانت تفسيراً لآيات القرآن .
السادس عشر : خطب وأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر والصلاح والتقوى ، والحث على الأخلاق الحميدة ، والنفرة من المعاصي والذنوب ، وإجتناب أسباب الضلالة.
قانون ولاية الله في آيات معركة أحد
من خصائص هذه الآيات التي تذكر وقائع معركة أحد أن كل واحدة منها تتضمن وعداً كريماً من عند الله , وتنجز هذا الوعد في الواقع , وكأن ليس ثمة فترة بين الوعد وتحقق مصداقه لأنه من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ) .
ومن معاني ولاية الله للمؤمنين التي ليس لها حد , وتتجلى بوجوه :
الوجه الأول : إبتدأت هذه الآيات بالنداء التشريفي للمسلمين بصيغة الإيمان بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا…] ( )إذ تعقب هذا النداء النهي والزجر ، ومنه مسائل :
الأولى :الدلالة على التباين والتضاد بين الإيمان وطاعة الذين كفروا .
الثانية : صيرورة الخطاب بإكرام المسلمين بالنداء واقية من طاعتهم للذين كفروا بلحاظ أنه مدد وعون .
الثالثة : سلامة المسلمين من الغفلة والغرور ، لقد أكرمهم الله وخاطبهم بصيغة الإيمان مما يجعلهم لم يقصروا عن وظائفهم العبادية بل يزيدهم هذا الخطاب إيماناً، ويبعث في نفوسهم الشوق للسعي في مرضاة وطاعة الله سبحانه .
الرابعة : دعوة المسلمين لتحمل مسؤولية الإمامة بين الناس في العبادة الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
الخامسة : بيان قانون وهو وجوب عدم طاعة المسلمين للذين كفروا، وفيه إلقاء لليأس في نفوس المنافقين والكافرين من إرتداد المسلمين .
السادسة : تأكيد الملازمة بين الخسارة وطاعة الذين كفروا .
السابعة : نهي المسلمين عن طاعة الذين كفروا نوع إخبار عن وقوع القتال بينهم وتهيئة أذهان المسلمين له ، ودعوتهم للإستعداد له ، بلحاظ كبرى كلية وهي أن الذين كفروا لن يرضوا من المسلمين إلا طاعتهم وهم لا يختارون إلا طاعة الله ورسوله.
وهو من الإعجاز في مجئ آيات معركة أحد بعد النداء التشريفي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] .
الوجه الثاني : بعد مجئ آية النداء وتشريف المسلمين بصفة الإيمان جاءت آية الولاية التي إبتدأت بحرف الإضراب (بل) لنفي طاعة المسلمين للذين كفروا بولاية الله للمسلمين .
ليكون من معانيه في قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] ( )، بلحاظ الآية السابقة وجوه :
أولاً : بل لن تطيعوا الذين كفروا .
ثانياً : بل لا [يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] .
ثالثاً : بل لا (تنقلبوا).
رابعاً : بل (لا تنقلبوا خائبين).
وتؤكد الآية أمارات وقوع القتال مع المشركين , وتبشر المسلمين بالنصر والأمن والسلامة من جهات :
أولاً : ولاية الله عز وجل للمسلمين بقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] وفيه شاهد بحضور رحمة الله للمسلمين في حال السلم والحرب .
ثانياً : بشارة نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معارك الإسلام .
ثالثاً : الإطلاق والتمام في نصرة الله لأوليائه بقوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ].
وتضمنت آية نداء تشريف المسلمين بالنداء بصفة الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا] ( )، ذم الذين كفروا ونعتهم بالجحود والكفر والضلالة.
وهذا الذم من ولاية الله عز وجل للمسلمين , إذ أن الولاية أعم من اللطف بذات المسلمين وأحوالهم , وتوالي النعم عليهم , فيشمل أسباب الوهن والضعف لأعدائهم , وفيه مسائل :
الأولى : إصابة الذين كفروا بالوهن والضعف .
الثانية : إنذار الذين كفروا من محاربة المسلمين والطعن بالإسلام .
الثالثة : تحذير المنافقين من الإعانة على النبوة والتنزيل .
الرابعة : زجر الناس عن ركوب جادة الكفر والركون إلى الذين كفروا ، لأن هذا الركون نوع ظلم للنفس بدليل قوله تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ] ( ).
رابعاً : من مصاديق ثناء الله عز وجل على نفسه بقوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] أمور :
أولاً : سلامة المؤمنين من الهزيمة في أي معركة من معارك الإسلام ، وفيه رد متقدم على الذين قالوا بأن المسلمين خسروا في معركة أحد .
ثانياً : الوعد الكريم من عند الله عز وجل بنصر المؤمنين.
ثالثاً : دعوة المسلمين للتطلع إلى وعده الكريم بالنصر في معركة أحد، لذا تفضل الله وإبتدات الآية قبل السابقة بقوله تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]( ).
رابعاً : خزي الذين يحاربون النبوة , ويقاتلون الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويحتمل هذا الخزي من جهة زمانه ومدته جهات :
الأولى : خزي الذين كفروا ساعة المعركة من وجوه :
أولاً : مباغتة المؤمنين للذين كفروا .
ثانياً : رؤية الذين كفروا كيف أن المؤمنين يبذلون الوسع ويجتهدون في القتال .
ثالثاً : عجز الذين كفروا عن تحقيق أي غاية من غاياتهم الخبيثة من القتال .
رابعاً : سقوط القتل والأسرى من الذين كفروا .
خامساً : خسارة الذين كفروا لمؤنهم وأموالهم من وجوه :
أولاً : الإنفاق على مقدمات القتال .
ثانياً : البذل والعطاء للذين يخرجون معهم لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
ثالثاً : تعطيل الذين كفروا لأعمالهم ومكاسبهم .
رابعاً : إنفاق الذين كفروا الأموال ونحر الإبل لإطعام أفراد جيش الكفر والضلالة أثناء مسيرهم من مكة إلى المدينة على الرواحل ومشياً على الأقدام .
الثانية : خزي الذين كفروا بعد إنتهاء المعركة من وجوه :
الأول : رجوع الذين كفروا خائبين خاسرين .
الثاني : عجز الذين كفروا عن تحقيق أغراضهم الخبيثة .
الثالث: سخرية وإستهزاء الناس بالذين كفروا .
الرابع : تناقل القبائل نبأ المعركة وسلامة المسلمين من الهزيمة في المعركة .
الخامس : تدبر القبائل والناس بآيات القرآن الخاصة بمعركة أحد وما فيها من الحكمة والأسرار والمضامين القدسية ومن الإعجاز في المقام كثرة الآيات التي نزلت بخصوص معركة أحد ، وبيان تفاصيلها .
السادس : تناقل الناس لدعوة الرسول لأصحابه بالرجوع من غير أن يغادر الميدان , كما ورد في التنزيل [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] .
السابع : الضرر الذي لحق قريشاً بسبب الإنفاق الكثير في المعركة .
الثامن : تعطل تجارة قريش.
الثالثة . خزي الذين كفروا عند الأجيال المتعاقبة من وجوه :
الأول : نزول آيات القرآن التي توثق وقائع معركة أحد ، ولحوق الوهن والذل بقريش , وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) والذي نزل بخصوص معركة أحد ، ولكن موضوعه ودلالاته أعم .
الثاني : تلاوة المسلمين لآيات القرآن التي تخص معركة أحد خمس مرات كواجب عيني على كل مسلم ومسلمة في الصلاة ، وبكرة وعشياً على نحو الإستصحاب والندب في صلاة النافلة وخارج الصلاة , ليكون من أسرار تلاوة المسلمين لآيات القرآن في الصلاة تجدد الخزي الذي يلحق الذين كفروا .
الثالث: السنة النبوية القولية والفعلية الخاصة بواقعة أحد أثناء المعركة وبعد وقوعها ، وعندما عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معركة تبوك في السنة التاسعة للهجرة وأطل على جبل أحد , قال (هذا جبل يحبّنا ونحبّه) ( ).
الرابع : روايات المؤمنين عن المعركة وكيفية القتال ، والمعجزات التي تجلت فيها ، وهل قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ,الجواب نعم ففيه شاهد بأنه لم يفر ولم ينهزم من المعركة وأن نداءه لأصحابه سبب لإنكسار الذين كفروا وعزمهم على الرجوع إلى مكة .
الخامس : تناقل الناس لروايات المؤمنين وإطمئنانهم لها وتلقيها بالقبول لصدورها من مقامات الصدق والإيمان والتقوى.
السادس : الأخبار والقصص التي رواها الذين كفروا عن وقائع المعركة لبيان العذر في تخلفهم عن تحقيق غاياتهم إذ أخبروا عن نزول الملائكة , وعن صبر وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورأفته بهم .
السابع : الأشعار التي قالها المسلمون يوم أحد وذكرهم أسباب خزي قريش في المعركة وتناقل الركبان لها .
وفي موسى عليه السلام قال تعالى [وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا] ( ) لبيان أن الله عز وجل نجّا الرسول من الغم الذي ترشح عن القتل , وتفضل الله عز وجل وأنزل الغم على المسلمين ثواباً لهم على جهادهم في سبيل الله بعد أن أكثروا القتل في المشركين بإذن وأمر من عند الله ، قال تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]وفيه آية في إكرام الله عز وجل للمسلمين بنعمة صحبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال وتلقي الأذى من الذين أشركوا .
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما من نبي يومئذ – آدم فمن سواه – إلا تحت لوائي ، وأنا أوّل من تَنْشَقُّ عنه الأرض ولا فخر . . . فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم عليه السلام فيقولون : أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك .
فيقول : إني أذنبت ذنباً أهبطت منه إلى الأرض ، ولكن ائتوا نوحاً .
فيأتون نوحاً فيقول : إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا ، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم . فيأتون إبراهيم فيقول : ائتوا موسى .
فيأتون موسى عليه الصلاة والسلام فيقول : إني قتلت نفساً ، ولكن ائتوا عيسى . فيأتون عيسى عليه السلام فيقول : إني عُبِدْتُ من دون الله ، ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم . فيأتوني فأنطلق معهم فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها ، فيقال : من هذا؟ فأقول : محمد .
فيفتحون لي ويقولون : مرحباً . فأخرّ ساجداً فيلهمني الله عز وجل من الثناء والحمد والمجد، فيقال: ارفع رأسك… سل تُعْطَ، واشفع تُشَفّعْ ، وقل يسمع لقولك . فهو المقام المحمود الذي قال الله : { عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً) ( ).
الوجه الثالث : إخبار هذه الآيات عن ولاية ونصرة الله للمؤمنين، فليس من أمة في تأريخ الإنسانية مثل المسلمين يأتيها الوعد من عند الله بتحقيق النصر قبل أن تدخل المعارك المتعددة ويتحقق مصداق الوعد في كل مرة، قال تعالى[بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]( ).
ومع قلة كلمات الآية أعلاه فأنها تتضمن أموراً:
أولاً : تعدد الوعد من عند الله عز وجل.
ثانياً : كل وعد يتغشى عموم المسلمين.
ثالثاً : مصاحبة الوعد الإلهي للمسلمين , وتنجزه عند تحقق أسبابه ومسمى الحاجة إليه.
رابعاً : بيان حقيقة ، وهي أن ولاية الله أعظم ولاية وأن نصرته أحسن وأتم نصرة، وتتداخل أفراد الولاية والنصرة على وجوه:
أولاً : ولاية الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
ثانياً : نصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
ثالثاً : إجتماع ولاية ونصرة الله للمؤمنين في الموضوع والزمان والموضع المتحد، وتحتمل آية البحث بلحاظ آية الولاية أعلاه وجوهاً:
أولاً : دلالة آية البحث على قانون ولاية الله للمؤمنين، بلحاظ أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إمام المتقين وسيد المرسلين، وورد الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن بآيات كثيرة منها ، قوله تعالى [قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ]( ).
ثانياً : كل من الأمنة والنعاس من ولاية الله عز وجل للمؤمنين بلحاظ نزولهما من عند الله، ولا يقدر عليهما مجتمعتين ومتفرقتين إلا هو سبحانه.
ثالثاً : جاءت الآية أعلاه بالإخبار عن خصوص الولاية للمسلمين بدليل عطفها على الآية السابقة لها[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]( ) وأختتمت بقانون عام من الإرادة التكوينية ينبسط على أيام الحياة الدنيا وهو[وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ].
ترى لماذا لم تقل الآية (بل الله مولاكم وهو خير ناصر لكم) أو (وهو ناصركم).
الجواب ما يرد في القرآن من اللفظ والنظم هو الأصح والأولى والخالي من اللبس والترديد، وهو الذي تستنبط منه الدروس والمواعظ والعبر ، وهو من مصاديق قوله تعالى[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ) .
وفي آية الولاية والنصرة أعلاه حذف , وتقديره على وجوه ( ):
أولاً : والله وليكم أيها المسلمون.
ثانياً : والله وليكم الذي أنعم عليكم بالهداية والإيمان .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا أعلنوا للناس أن الله وليكم , وفيه مسائل :
الأولى : ترغيب الناس بدخول الإسلام .
الثانية : زجر الذين كفروا عن محاربة الإسلام .
الثالثة : الوعد من عند الله بلحوق الهزيمة بالذين يحاربون المؤمنين ، والزجر والوعد في المقام من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) بتقريب أنهما مجتمعين ومتفرقين يصرفان الناس عن مؤازرة الطواغيت في الظلم والتعدي على النبوة والتنزيل وثغور المسلمين.
الرابعة : بيان علم متجدد، وقانون من الإعجاز الغيري بأن الرحمة والمدد من عند الله للمؤمنين من إستدامة وإتصال ولاية الله عز وجل لهم.
رابعاً : الله وليكم في الدنيا والآخرة، وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين والمسلمات .
خامساً : والله وليكم عند نشوب القتال بينكم وبين الذين كفروا .
سادساً : من خصائص خلافة الإنسان في الأرض أن الله ولي الصالحين ، وفي التنزيل [إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ]( ).
سابعاً : بيان قانون وهو أن نصرة الله أعم من أن تختص بالمسلمين فشمل الأنبياء أحياءاً وأمواتاً وتشمل مؤمني الأمم السالفة كما ينصر الله الملائكة ومؤمني الجن ، والله عز وجل الحق ويدعو إلى الحق ، وهل يصدق القول أن الله ينصر الحق على الباطل , الجواب نعم ، وهو من مصاديق الإطلاق والتعدد في نصرة الله عز وجل .
قال تعالى [وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا] ( )والزهوق أي الذاهب والهالك وذكر (أن الحق هو القرآن) ( ) قاله ابن جريج , ومعنى الآية أعلاه أعم في موضوعها.
وعن جابر بن عبد الله قال (دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة وحول البيت ثلثمائة وستون صنماً فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأكبت لوجهها وقال : { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً })( ) .
وجاءت الآية لتؤكد أن المسلمين هم الصالحون , وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الله ولي الصالحين .
الصغرى : الله وليكم .
النتيجة : أنتم الصالحون .
والولي فعيل بمعنى الفاعل ، وهو الذي توالى إحسانه , ويأتي بمعنى المفعول وهو الذي تتوالى عليه نعم الله عز وجل.
والولي من البشر هو المؤمن الذي يتقيد بسنن التقوى ، والولي خلاف العدو.
ومن أسماء الله عز وجل الولي و(عن الإمام جعفر الصادق عن أبيه عن آبائه عن الإمام علي عليه السلام قال : قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة ثم ذكر تلك الاسماء) ( ).
وعن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ( إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً ، من أحصاها دخل الجنة ، إنه وتر يحب الوتر ، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارىء ، المصور ، الغفّار ، القهّار ، الوهّاب ، الرزّاق ، الفتّاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدىء ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدم ، المؤخر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، البر ، التوّاب ، المنتقم ، العفو ، الرؤوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإِكرام ، الوالي ، المتعال ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور ) ( ).
وتبين هذه الآيات قانوناً وهو أن قانون الولاية وعد من عند الله عز وجل تتنجز مصاديقه في كل زمان ومكان ، وهل منه فرض العبادات والتوفيق إلى فعل الصالحات , الجواب نعم ، بلحاظ كبرى كلية وهي أن كل عبادة نعمة عظمى من عند الله من جهات :
الأولى : تشريع العبادة .
الثانية : نزول مصداق العبادة كالصلاة والصيام من عند الله عز وجل على نحو النص والتعيين ، قال تعالى [فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الثالثة : إتصاف حكم العبادة بالوجوب , وتركها عمداً بالحرمة والنهي .
الرابعة : إشتراك الأنبياء مع عامة المكلفين في أداء ضروب العبادة والطاعة لله عز وجل ، وقد إختص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوجوه من العبادة مثل صوم الوصال أي صيام يومين مع الليلة التي بينهما , أو ثلاثة أيام مع الليلتين اللتين بينهما .
الخامسة : أوان وأوقات العبادة بلحاظ آيات كونية كطلوع الفجر وزوال الشمس وغروبها .
السادسة : التفصيل في العبادات فمنها ما هو مقيد كالحج الذي يجب مع الإستطاعة والقدرة على الزاد والراحلة والطريق.
السابعة : نزول أسماء وجوه العبادة كالصلاة والزكاة من عند الله عز وجل .
ولما جعل الله عز وجل الإنسان خليفة في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ) إحتجت الملائكة وعلة هذا الإحتجاج أمران :
الأول : إفساد الإنسان في الأرض .
الثاني : إشاعة الإنسان القتل بغير حق .
فرد الله عز وجل على الملائكة بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علم الله عز وجل أنه سبحانه جعل الدنيا (دار الولاية ) من جهات :
الأولى : تفضل الله عز وجل ببعث الأنبياء وتنزيل الكتب السماوية ، ويجاهد كل نبي من أجل منع الفساد في الأرض ، والكف عن القتل ، وجاء كل كتاب سماوي بالأمر بالصلاح وفعل الخيرات , والنهي عن المعاصي والسيئات ومنها القتل ظلماً وتعدياً وجوراً .
الثانية : ولاية الله للمؤمنين وتقريبهم إلى عمل الصالحات وتهيئة مقدمات الفلاح وصرف أسباب السيئات عنهم بلطف من الله سبحانه ، وفي يوسف عليه السلام ورد قوله تعالى [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( ).
الثالثة : تنمية ملكة الولاية فيما بين المسلمين في مرضاة الله عز وجل، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام سئل ما حق المسلم على المسلم قال: له سبع حقوق واجبات ما منهن حق إلا وهو عليه واجب، إن ضيع منها شيئا خرج من ولاية الله وطاعته، ولم يكن لله فيه من نصيب ، أيسر حق منها أن تحب له ما تحب لنفسك، وتكره له ما تكره لنفسك .
والحق الثاني أن تجتنب سخطه وتتبع مرضاته، وتطيع أمره.
والحق الثالث أن تعينه بنفسك، ومالك ولسانك ويدك ورجلك.
والحق الرابع أن تكون عينه ودليله ومرآته.
والحق الخامس لا تشبع ويجوع، ولا تروى ويظمأ، ولا تلبس ويعرى .
والحق السادس أن يكون لك خادم وليس لاخيك خادم فواجب أن تبعث خادمك فيغسل ثيابه، ويصنع طعامه، ويمهد فراشه .
والحق السابع أن تبر قسمه، وتجيب دعوته، وتعود مريضه، وتشهد جنازته ، وإذا علمت أن له حاجة تبادره إلى قضائها ولا تلجئه أن يسألكها، ولكن تبادره مبادرة، فإذا فعلت ذلك وصلت ولايتك بولايته وولايته بولايتك)( ).
وتبين الآية أعلاه من سورة يوسف أموراً :
الأول : إستجابة السوء لأمر الله عز وجل بالإبتعاد عن المؤمنين الذين أخلصوا الطاعة لله عز وجل .
الثاني : حث المسلمين والمسلمات على الدعاء لنيل نعمة صرف السوء التي تفضل بها الله عز وجل على عباده الذين أخلصوا الطاعة له سبحانه .
الثالث : الشكر لله عز وجل على نعمة صرف الفواحش ومقدماتها عنهم ، وهل إستحباب النكاح وتيسير أحكامه وضبط الصلات الأسرية في الإسلام من عمومات صرف الفواحش والزنا عنهم .
الجواب نعم ، وهو أيضاً من عصمتهم من الفواحش , وعن أبي موسى ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو بهذا الدعاء : رب اغفر لي خطيئتي ، وجهلي ، وإسرافي في أمري ، وما أنت أعلم به مني ، اللهم اغفر لي خطاياي ، وعمدي وجهلي ، وجدي وهزلي ، وكل ذلك عندي . اللهم اغفر لي ما قدمت ، وما أخرت ، وما أسررت ، وما أعلنت ، إنك أنت المقدم ، وأنت المؤخر ، وأنت على كل شيء قدير) ( ).
الرابع : من ولاية الله عز وجل دفع السوء عن المؤمنين ، وهل تشمل الولاية رفع السوء , أم تختص بدفعه من الأصل كما في سلامة يوسف من فعل الفحشاء مع امرأة العزيز مع أنه غلام مملوك عندها وهي سيدة بيتها وزمانها ، الجواب هم الأول من جهات :
الأولى :قد تتهيأ مقدمات فعل السوء فيدفعه الله عز وجل .
الثانية : ربما يسعى المؤمن أو المؤمنة إلى فعل المعصية والسوء ، ولكن الله عز وجل يحجبها ويمنعها عنه ومن العصمة إمتناع المعصية .
الثالثة : تفضل الله عز وجل بفتح باب التوبة بلحاظ أن فعل الإنسان أمر متكرر في اليوم والليلة ، فتطلع الشمس عليه وقد تاب إلى الله توبة نصوحاً ، ويكون تقدير الآية بالنسبة للتائب ، كذلك لنصرف عنه السوء إنه صار من عبادنا المخلصين ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه من سورة يوسف أنها وردت بلغة التشبيه (كذلك) لبيان تجدد رحمة الله بإبعاد السوء عن المؤمنين , وهذا الإبعاد من ولايته تعالى .
ويمكن تأسيس قانون وهو أن كل آية قرآنية من ولاية الله عز وجل للمسلمين ، وهل الولاية في الآية القرآنية متحدة أم متعددة الجواب هو الثاني ، لتكون مصاديقها من اللامتناهي ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ومن و جوه ولاية الله للمؤمنين في آية البحث أمور :
أولاً : قانون إكرام الله للمسلمين بتوجه لغة الخطاب لهم بصفة الإيمان .
ثانياً : إخبار آية البحث عن إلتقاء المؤمنين والذين كفروا في ميدان القتال في يوم مخصوص ، والله عز وجل له ملك الزمان والمكان , وفيه دلالة على نصرته للمؤمنين .
ثالثاً : تحذير وإنذار للمسلمين من إزلال وإغواء الشيطان .
رابعاً : بيان أثر وضرر إغواء الشيطان على المؤمنين والناس ، لتكون الدنيا دار الإنذار من حبائل الشيطان ، وهل تختص عداوة الشيطان بالمؤمنين من أهل الأرض ، الجواب لا ، إذ أن عداوته للناس جميعاً بما فيهم أتباعه ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
ليكون قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] يوم عداوة الشيطان للمسلمين والكافرين معاً ، إذ يجعل الكافرين لا يرضون إلا بالقتال ومحاربة النبوة فيزدادون إثماً .
رابعاً : إخبار آية البحث عن تفضل الله عز وجل بالعفو عن المسلمين الذين إنهزموا من ساحة المعركة ، ترى كيف يأتي العفو من عند الله مع أنهم تركوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان يتلقى السهام والحجارة من الذين كفروا ، الجواب لقد حفظ الله عز وجل رسوله من القتل يومئذ ، وعفا عن أصحابه زلتهم ، ثم أن العفو دليل على حصول الخطأ والمعصية .
وتبين الآية قانوناً وهو الملازمة بين فضل الله وبين الإيمان فمع الإيمان تتوالى مصاديق فضل الله عز وجل على المؤمنين مجتمعين ومتفرقين ، ويأتيهم النصر والعفو وإن كانوا منهزمين ليكون ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه من القتال ومعه نفر من أهل بيته وأصحابه ، ونداؤه لأصحابه الذين تولوا للعودة للقتال كما في قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] ( ) من مقدمات وأسباب عفو الله عز وجل عنهم .
خامساً : عفو الله عز وجل عن المسلمين الذين فروا يوم أحد واقية لهم من التعيير والتبكيت .
سادساً : إختتام آية البحث بالترغيب بالعفو والمغفرة من عند الله عز وجل .
سابعاً : قانون توالي لغة الخطاب بالإيمان للمسلمين في هذه الآيات وحتى ما ورد قبل ثلاث آيات بصيغة الجملة الخبرية [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ) فانها جاءت خطاباً للمؤمنين بلحاظ عطفها على الآية التي قبلها التي تبدأ بالنداء [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] ( ) .
وتقدير الآية أعلاه على جهات :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب .
الثانية : يا أيها الذين آمنوا علة إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا أنهم أشركوا بالله .
الثالثة : يا أيها الذين آمنوا ليس عند الذين كفروا سلطان , أو حجة .
الرابعة : يا أيها الذين آمنوا إن الذين يقاتلونكم في معركة أحد مشركون بالله لبيان حق المسلمين في قتالهم ودحضهم ، وأن الذي يُقتل من المؤمنين في الدفاع عن بيضة الإسلام يكون شهيداً .
وعن عبادة بن الصامت قال (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما في الأرض من نفس تموت ولها عند الله خير تحب أن ترجع إليكم وأن لها الدنيا ، إلا الشهيد ، فإنه يحب أن يرجع فيقتل مرة أخرى ، لما يرى من فضل الشهادة) ( ) .
الخامسة : يا أيها الذين آمنوا لا تخشوا الكفار فإنهم يقاتلون بحمية الجاهلية من غير سلطان .
السادسة : يا أيها الذين آمنوا مأوى الذين يقاتلونكم النار .
السابعة : يا أيها الذين آمنوا الذين إن يكفرون بنبوة محمد صلى الله عليه وآل
الثامنة : يا أيها الذين آمنوا الذين يقاتلونكم ظالمون ) وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين .
ونعتت الآية أعلاه الذين كفروا بأنهم ظالمون ، وفيه وجوه :
أولاً : ظلم الذين كفروا لأنفسهم من جهات :
الأولى : الإقامة على الشرك بالله عز وجل ،وأصرار الذين كفروا على إتخاذ أنداد لله ، وفي التنزيل [وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]( ).
الثانية : إصرار الذين كفروا على الكفر مع إدراك العقول لإنعدام الدليل عليه .
الثالثة : جحود الذين كفروا بمعجزات النبوة والتنزيل .
الرابعة : تجهيز الذين كفروا الجيوش لمحاربة الإسلام والمؤمنين .
الوجه الرابع : موضوع هذه الآيات هو واقعة أحد، لذا جاءت بقانون وهو أن الله عز وجل [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ).
ليكون من إعجاز القرآن بقاء قوانينه إلى يوم القيامة مع إنقضاء مناسبة الآية الكريمة لذا فان المدار على عموم اللفظ وليس سبب النزول , لتكون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية في العالمين من جهة الإطلاق وجلب المصالح , وتعدد المنافع التي تترشح عنها .
وفي قانون (الله خير الناصرين ) عز متجدد للمؤمنين إلى يوم القيامة ، ولا يختص العز بأهل ذات الزمان بل يشمل من تقدم أو تأخر من المؤمنين ، فيغادر المؤمن الدنيا ، أو أنه لم يأت لها بعد، ولكن عزه موجود وحاضر بين الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ( ).
لقد ذكر القرآن النصرة وعدمها من وجوه :
أولاً : قانون نصرة الله لأنبيائه ورسله في الدنيا .
ثانياً : قانون نصرة الله للمؤمنين في الدنيا .
ثالثاً : قانون إنعدام الناصر للذين كفروا في الدنيا عند نزول البلاء بهم ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ] ( ).
رابعاً : نصرة الله عز وجل للأنبياء والمؤمنين في الآخرة .
خامساً : إنعدام الناصر للذين كفروا في الآخرة .
سادساً : عجز الذين كفروا عن المناجاة بالنصرة فيما بينهم يوم القيامة .
لقد جعل الله عز وجل الدنيا (دار النصرة ) وهو من معاني ومضامين إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
ولقد تفضل الله سبحانه باحاطة أيام الدنيا بقانون النصرة وجعله قريباً من كل إنسان إذ أن كل آية كونية موعظة ومدد وحجة تدعو إلى عبادة الله بذاتها أو بالواسطة فما ان يؤمن الإنسان حتى تتغشاه قواعد النصرة والعون من عند الله ، ومنه الآية السابقة بقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا]( ).
لتتجلى النعم من وجوه :
الأول : نعمة الغم الذي صار واقية للمؤمنين على ما أصابهم في معركة أحد من الخسارة .
الثاني : نزول نعمة الأمنة والحصانة والحرز من جيش الذين كفروا بعد أن صارت الجولة لهم .
الثالث : فضل الله على المؤمنين بنزول النعاس عليهم رحمة ورأفة من عند الله سبحانه .
وهل تتضمن الآية السابقة النصرة من عند الله عز وجل ، الجواب نعم من وجوه :
الأول : لغة الخطاب من عند الله للمسلمين بصيغة الإيمان من النصرة والوعد الكريم بها ، وتتجلى هذه اللغة بعطف آية البحث على قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ..] ( ).
الثاني : إبتداء الآية بحرف العطف (ثم) الذي يدل على توالي النعم على المؤمنين ، إذ تأتي مرة متتابعة متوالية كما ورد العطف في الآية السابقة بالواو في [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]وبالفاء في [فَأَثَابَكُمْ]وتأتي مرة أخرى بالتراخي كما في بداية الآية السابقة [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ].
الثالث : إخبار الآية عن نزول النعم من عند الله عز وجل على المسلمين ، وفيه دليل على رجحان كفتهم في المعارك وهو مقدمة لنصرهم ، بلحاظ أن مقدمة النصر فضل من عند الله وهو من مصاديق قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ).
وهل ينزل على الذين كفروا شيء أم لا ، الجواب هو الأول إذ ينزل عليهم الفزع والخوف كما في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ) ونزول الرعب هذا من مصاديق [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) بلحاظ أنه ملك تصرف وتدبير وحكمة , وفيه شاهد على التضاد بين الإيمان والكفر حتى في الموضوع النازل , ليكون مقدمة للفصل بين المؤمنين والكفار في الآخرة .
وهذا النزول من نصرة الله عز وجل للمؤمنين , ليكون من مصاديق نصرة الله عز وجل للمؤمنين وجوه :
أولاً : قانون بعث الرعب في قلوب الذين كفروا .
ثانياً : قانون تغشي الوهن والضعف لجيش الذين كفروا .
ثالثاً : إمتلاء نفوس الذين كفروا باليأس والقنوط .
رابعاً : قانون توالي المواعظ التي تؤكد قبح الشرك بالله والأضرار الفادحة التي يجلبها على صاحبه في الدنيا والآخرة .
خامساً : قانون الملازمة بين الكفر واللبث الدائم في النار ، قال تعالى [وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ] ( ).
سادساً : قانون صيرورة الرعب الذي يملأ قلوب الذين كفروا سبباً لدبيب الخلاف والخصومة بينهم .
سابعاً : قانون تعقب توجه الوعيد والتخويف للذين كفروا لإلقاء الرعب في قلوبهم ، وهو من الإعجاز في خاتمة آية الرعب بقوله تعالى [وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
ثامناً : قانون إقتران إقامة الحجة على الذين كفروا قبل ومع وبعد مجئ الرعب لهم وغزوه لقلوبهم .
تاسعاً : قانون إستقرار الرعب في قلوب الذين كفروا .
عاشراً : قانون ظهور علامات وآثار الرعب على أقوال وأفعال الذين كفروا , ومنه كثرة قتلاهم مع بداية معركة أحد مع أنهم هم الذين يدعون إلى القتال ويصرون عليه ويتقدمون للمبارزة ، ومنه سرعة إنهزام الذين كفروا من ميدان المعركة .
الرابع : تعاقب نزول النعم من عند الله على المؤمنين , ويحتمل وجوهاً :
أولاً : إنحصار النعم التي نزلت على المؤمنين في معركة أحد بما مذكور في هذه الآية والآيات الأربعة التي سبقتها ( ).
ثانياً : بيان آيات أخرى من القرآن للنعم التي توالت على المسلمين بخصوص معركة أحد .
ثالثاً: تولد وترشح النعم عن النعم الواردة في هذه الآيات .
والصحيح هو ثانياً وثالثاً أعلاه , وهذا الترشح على جهات:
الأولى : تترشح عن النعمة المذكورة في هذه الآيات نعم متعددة فقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] نعمة عظيمة تتفرع وتتولد عنها نعم عديدة من وجوه :
أولاً : التسليم بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله عز وجل.
ثانياً : دعوة المسلمين لإستقراء الوجوه المتعددة للسنة النبوية، وكيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأتي بأفعال متعددة بوقت واحد , وكل فرد منها من السنة النبوية .
ثالثاً : مصاحبة قانون [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] للمسلمين في كل زمان.
رابعاً : حضور نداء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للمجاهدين قبل نشوب المعركة مع الذين كفروا وأثناء المعركة وبعدها .
خامساً : نعمة حضور الرسول مع المسلمين في ميدان القتال ، ولو دعا غير الرسول كأمراء السرايا المنهزمين من المسلمين للعودة إلى ميدان المعركة , فهل يعودون , فيه وجوه :
الأول : يعود جميع الذين فروا بنداء غير الرسول من الأمراء , وكأن الرسول يدعوهم .
الثاني : عدم عودة أحد بنداء غير الرسول .
الثالث : إرادة الموجبة الجزئية وعودة قسم من الذين عادوا بدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
والمختار هو الثالث لبيان أن وجود الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين في ميدان المعركة نعمة عظمى ترشحت عنها نعم نوعية وشخصية على المؤمنين .
ومن الإعجاز في قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] تجدد موضوع وأثر ذات الدعوة عند قيام آمر السرية ونحوه بدعوة المؤمنين للقتال .
الثانية : من هذه النعم ما يترشح عنها نعمة أو أكثر ، ومنها ما لا تترشح عنها النعم ، كما لو كانت نعمة مستديمة ومتجددة بذاتها.
الثالثة : كل نعمة مذكورة في هذه الآيات لا تتفرع عنها نعم أخرى .
الرابعة : تترشح عن هذه الآيات مجتمعات نعم متعددة بلحاظ إجتماعها وتداخلها الموضوعي .
والصحيح هو الجهة الأولى والرابعة أعلاه ، لبيان قانون وهو توالي ترشح النعم عن كل نعمة يذكرها القرآن من جهات :
الأولى : النعم التي ترد بالنص ، وتذكر في القرآن بالاسم كما في قوله تعالى في الآية السابقة [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا].
الثانية : النعم التي تستقرأ من الآية القرآنية في مضامينها القدسية ، كما في قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثالثة : دلالة مفهوم الآية على توالي النعم من عند الله عز وجل .
الرابعة : قانون التفسير الذاتي للقرآن , ودلالته على قانون وهو كل نعمة مبينة في القرآن توليدية .
الوجه الخامس : إبتدأت آية الولاية والنصرة بحرف الإضراب (بل) لبيان الصلة والتداخل بينها وبين الآية السابقة لها ، ويكون تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : بل الله مولاكم الذي يهيئ لكم أسباب الثبات في منازل الإيمان .
الثاني : بل الله مولاكم الذي يجعلكم تتعاهدون الإيمان .
الثالث : بل الله مولاكم الذي يدفع عنكم الشرور وأسباب الريب والشك .
الرابع : بل الله مولاكم الذي يقيكم الفتنة والإفتتان بالكافرين ومكرهم .
الخامس : بل الله مولاكم الذي هداكم للإيمان بفضله ورحمته ، وفي التنزيل [وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ]( ).
السادس : تدل الآية أعلاه على لزوم الشكر لله عز وجل على نعمة الهداية ، وتقديرها : بل الله مولاكم الذي لا يقدر على وقاية هدايتكم إلا هو ، ولو إجتمعت الخلائق على إضلالكم لما إستطاعوا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) , والأصل أن الخلائق لا تجتمع على الإغواء والإضلال .
السابع : بل الله مولاكم ومولى الذين آمنوا من الأمم السابقة لبيان قانون وهو أن ولاية الله عز وجل لم ولن تغادر الأرض ، وهو من مصاديق سلامة القرآن من التحريف والتبديل والتغيير .
الثامن : بل الله مولاكم الذي يتفضل بمناداتكم وخطابكم في آيات القرآن بصبغة الإيمان .
التاسع : بل الله مولاكم الذي ينعم عليكم بأخوة الإيمان ، وتذوق البركة التي تترشح عنها .
العاشر : بل الله مولاكم الذي يحول بينكم وبين طاعة الذين كفروا , فان قلت إذن لماذا جاءت الآية السابقة لها بنهي المسلمين عن طاعة الذين كفروا , والجواب لإرادة مصداق للتكليف ولترتب الأجر والثواب للمسلمين والمسلمات على إمتثالهم للأوامر والنواهي الإلهية .
الحادي عشر : بل الله مولاكم الذي يبين لكم خصال الذين كفروا وما يتصفون به ومن معاني الجحود والضلالة .
الثاني عشر : بل الله مولاكم الذي يبعث اليأس في قلوب الذين كفروا من طاعتكم لهم ، وجاءت معركة بدر وأحد لبيان قانون سلامة المؤمنين من طاعة الذين كفروا .
الثالث عشر : بل الله مولاكم الذي يجعل واقية لأجيال المسلمين من طاعة الذين كفروا .
الرابع عشر : بل الله مولاكم الذي أنعم عليكم بالسلامة من الإرتداد .
الخامس عشر : بل الله مولاكم الذي يقيكم الإنقلاب والخسارة .
السادس عشر : لقد أنعم الله عز وجل على الناس بقانون وهو المنافاة بين الإيمان والخيبة ، لذا تفضل بولايته للمؤمنين لجعلهم في عصمة دائمة من الخيبة والحسرة .
الوجه السادس : من الإعجاز في قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] أنه قانون من الإرادة التكوينية ينبسط على أيام الحياة الدنيا وعالم البرزخ والآخرة ، ولو شككنا هل تفارق ولاية الله الذين آمنوا أم أنها تصاحبهم إلى يوم القيامة ، الجواب هو الثاني لأصالة الإطلاق وأصل الإستصحاب ، وبيان عظيم فضل الله عز وجل على المؤمنين .
وهل ينبسط هذا القانون على مضامين كل آية من القرآن الجواب نعم ، إذ تتجلى معاني الولاية في منطوق ومفهوم كل آية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )فان قلت وهل في آية [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] ما يدل على هذه الولاية , الجواب نعم من جهات :
الأولى : إبتداء الآية بحرف الإضراب (بل) وما فيه من نفي وإبطال الإنقلاب المسلمين بخيبة ، وإثباته لما بعده من ولاية الله عز وجل لهم .
الثانية : مجئ آية الولاية والمسلمون بحاجة شديدة لها للعصمة من طاعة الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( ) وهل يصح القول باستعانة المسلمين بولاية الله أم أن الإستعانة خاصة بالذات المقدمة ، الجواب هو الأول ، كما ورد في قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ).
الثالثة : إخبار الآية عن ولاية الله للمسلمين من الدلائل على تضمنها معنى ومضمون الولاية به , فمن معاني الآية وجوه:
أولاً : بل الله مولاكم الذي ينزل آية تتضمن الإخبار عن ولايته للمسلمين .
ثانياً : بل الله مولاكم الذي جعل آية الولاية تتضمن معنى الوعد والعهد بالولاية الدائمة للمسلمين ، ولو دار الأمر بين إنقطاع هذه الولاية عن طائفة من المسلمين بفرارهم عن الزحف مثلاً أو إستدامتها , فالأصل هو الثاني لأصالة الإطلاق .
ثالثاً : تعدد مصاديق الولاية ومنها :
الأول : ولاية الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقدير الآية : بل الله مولاك .
الثاني : ولاية الله عز وجل للمؤمنين والمؤمنات مجتمعين .
الثالث : ولاية الله لكل مؤمن ومؤمنة على نحو الإنفراد والإستقلال ، وهل تشمل ولاية الله عز وجل التي تذكرها آية الولاية وهي الآية الخمسون بعد المائة من سورة آل عمران المنافقين والمنافقات .
الجواب لا ، فهؤلاء حجبوا عن أنفسهم الولاية لإبطانهم الكفر والضلالة ولإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختبار ليكون المنافقون آية الولاية فتخلف الحسرة والأسى في نفوسهم ، ولكنها تتضمن الدعوة إلى التوبة والإنابة ، فمن فضل الله على الناس أو ولايته للذين آمنوا لا تتعارض مع عموم رحمته بالناس البر والفاجر منهم .
ومن معاني الولاية بلحاظ آية البحث أمور :
الأول : كيف يتولى فريق منكم والله عز وجل هو مولاكم .
الثاني : من ولاية الله للمسلمين نزول الملائكة لنصرتهم وإعانتهم .
الثالث : يتضمن قانون الولاية الوعد من عند الله بنجاة المسلمين من الهزيمة في المعركة وان كان جيش العدو هو الأكثر في العدد والعدة ، وهو الذي تجلى في معركة بدر وأحد والخندق.
فقد إنتصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون إنتصاراً مبيناً في معركة بدر ، ولا دليل على هزيمتهم في معركة أحد ، وقد ثبت بالدليل من القرآن والسنة والأخبار أن الذين كفروا لم يحققوا النصر والغلبة في معركة أحد ، وإن كانت لهم جولة في القتال , فالمدار في الأمور على خواتيمها , وقد أخبر القرآن عن رجوعهم إلى مكة بخيبة وخسران بقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
الرابع : نسبة فرار وتولي فريق من المسلمين من معركة أحد إلى الإيقاع والزلل عن الشيطان وبعثه الخوف والوسواس في نفوسهم , والأصل ألا تغيب عنهم وعن الوجود الذهني ولاية الله لرسوله الكريم وللمسلمين جميعاً في السلم والحرب .
الوجه السابع : من ولاية الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين نصرته لهم ، وهي أعظم وأبهى مصاديق الولاية من عند الله عز وجل ، لذا إقترنت هذه النصرة بالولاية في ذات الآية مع قلة كلماتها ، وزاد الله عز وجل من فضله ببعث السكينة في نفوس المؤمنين بأنه خير الناصرين ، إذ تنقطع نصرة الناس والخلائق في الدنيا ، أما نصرة الله فدائمة ومتصلة في الدنيا والآخرة ، ومن نصره عز وجل للمسلمين بخصوص آية البحث أمور :
الأول : نزول الملائكة مدداً وناصرين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
الثاني : تعدد وكثرة الملائكة النازلين من السماء لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معركة أحد ، قال تعالى بخصوص نزولهم هذا [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ] ( ).
الثالث : من نصرة الله عز وجل للمؤمنين منهم من التولي والفرار .
الرابع : إخبار آية البحث عن تولي فريق من المسلمين عن القتال وملاقاة الذين كفروا من نصرة الله للمسلمين من جهات :
الأولى : بيان نصرة الله للذين ثبتوا في الميدان .
الثانية : ذم التولي عن الميدان .
الثالثة : بعث السكينة في نفوس المسلمين بأخبار الآية عن إلتقاء جمع المسلمين وجمع الذين كفروا ، لما في هذه الإخبار من الدلالة على حضور ولاية الله عز وجل وإستدامتها في الميدان وما قبله وما بعده .
الرابعة : بيان الآية للتضاد بين المؤمنين والذين كفروا ، وتجلي هذا التضاد بالمبارزة والمطاردة والقتال .
لقد أبى الذين كفروا إلا الحرب والهجوم على بيضة الإسلام وإرادة إستئصال النبوة .
الخامسة : من ولاية الله عز وجل للمؤمنين صيرورتهم جمعاً قادراً على مواجهة الذين كفروا ، فمع أن جيش الكفار أربعة أضعاف جيش المسلمين فان آية البحث سمت كل واحد منها بأنه جمع وكأنهما بعرض واحد .
السادسة : من ولاية الله للمسلمين حفظهم من الضلالة والغواية إنما إستزل الشيطان فريقاً منهم ليبقى المؤمنون يقاتلون في الميدان وفي ثباتهم دعوة للذين فروا وإنهزموا للعودة إلى المعركة .
السابعة : من ولاية الله للمؤمنين العفو عنهم ومحو الذنوب التي إرتكبوها وإزالة الآثار التي تترتب عليها ، ولا يقدر على إحصاء الذنوب وعلى العفو عنها إلا الله عز وجل .
الثامنة : إختتام آية البحث بقانون كلي في ولاية الله للمؤمنين ورحمته لعموم الناس بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ].
الوجه الثامن : يتعلق موضوع ولاية الله في قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] من جهات :
الأولى : الآية السابقة لها .
الثانية : ذات الآية بالإخبار عن نصرة الله للمؤمنين .
الثالثة : الآية التالية لها ، فمن ولاية الله للمؤمنين إلقاء الله الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ).
لتكون هذه الآية مرآة ومثالاً لإنبساط ولاية الله على آيات القرآن الأخرى من جهات :
الأولى : شهادة منطوق كل آية من القرآن على ولاية الله للمؤمنين .
الثانية : إستقراء مسائل الولاية بمفهوم كل آية من القرآن .
الثالثة : العنوان الجامع باستنباط البراهين على ولاية الله عز وجل للمؤمنين من منطوق ومفهوم الآية القرآنية .
الرابعة : إستقراء معاني ومضامين ولاية الله للمؤمنين من الجمع بين كل آيتين من القرآن .
لقد كانت آية [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ) مدداً قبل معركة أحد ، لتكون لها موضوعية وأثر في مقدمات المعركة وكيفية سير القتال فيها وصبر المسلمين في مواضعهم التي جعلهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان .
وأيهما أكبر وأكثر تأثيراً في ميدان المعركة نزول آية الولاية أعلاه أم نزول الملائكة مدداً لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الجواب كل من الآيتين نعمة عظيمة وأكبر من أن توصف في ذاتها وعظيم نفعها ، ولكن نزول الملائكة أكبر لما فيه من النصرة الحسية والأثر الحال في ثبات المؤمنين وهزيمة الذين كفروا ، كما أنه فرع ولاية الله ونصرته , وتقدير آية الولاية بلحاظ نزول الملائكة على وجوه:
الأول : بل الله مولاكم الذي أنزل الملائكة لنصرتهم في معركة بدر .
الثاني : بل الله مولاكم الذي ينزل الملائكة يوم معركة أحد مدداً وعوناً لكم .
الثالث : بل الله مولاكم الذي نصركم بنزول الملائكة .
الرابع : لا يقدر على إنزال الملائكة لنصرتكم إلا الله وهل تستطيع الملائكة النزول لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من غير إذن خاص من الله يتعلق بذات الواقعة والنزول .
الجواب لا ، وقد أثنى الله عز وجل على الملائكة وأخبر بأنهم لا يفعلون إلا ما يأمرهم ، ولقد مدح الله الملائكة بقوله تعالى [لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ] ( ).
مما يدل على أن للملائكة إرادة وإختياراً وأنهم منزهون عن المعصية فقد جعلهم الله عقولاً بلا شهوة إذ أن المدح لا يجري للذي ليس له إختيار .
ولا تعارض بين تكليف الملائكة بالعبادة والطاعة وبين كونهم مجبورين عليها ، لا يقربون الذنوب والمعاصي ليكون من وجوه ورشحات نزولهم لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار لزوم شكر المسلمين لله عز وجل على هذه النعمة العظيمة التي ترشحت عنها أمور :
الأول : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل في معركة أحد , إذ تتجلى هذه الآية بوضوح بعد إقتراب الذين كفروا وصيرورتهم على بضعة أمتار منه تصله حجارتهم كما أنهم أشاعوا نبأ مقتله بين الصفين .
لقد أراد الذين كفروا من هذه الإشاعة فرار المسلمين من ميدان المعركة وإسقاط ما في أيديهم , وبعث الإرباك بينهم ، وهو الذي يحدث عادة عند إنتشار نبأ قتل القائد العام في الميدان خاصة مع كثرة جيوش العدو وعدتهم وخيلهم وسلاحهم ، وصيرورة الجولة في المعركة له .
فصعد فريق من المسلمين الجبل وفرّ بعضهم في الطريق إلى المدينة ، ولكن الله عز وجل هو مولى الذين آمنوا إذ تفضل عليهم بأن أمر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعوهم للعودة إلى ميدان القتال كما في قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] ( ) بلحاظ كبرى كلية وهي أن دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من عند الله وهي مصداق لولايته لهم .
ويكون تقدير الآية : والرسول يدعوكم في أخراكم فعدتم إلى ميدان المعركة .
الثاني : تعضيد المؤمنين في قتالهم ، وبعثهم على التفاني في الجهاد لرؤية الآيات الحسية التي تؤكد أنهم على الحق ويقاتلون دفاعاً عنه .
الثالث : عجز الذين كفروا عن تحقيق النصر مع إجتماع أسبابه وفق قواعد القتال وكثرتهم وعدتهم وإطباقهم على جيش المسلمين من الأمام والخلف بعد أن ترك الرماة المسلمون مواضعهم على جبل أحد .
الرابع : منع أفراد جيش الذين كفروا من ملاحقة أو مطاردة الذين فروا من المؤمنين ، لتجد دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالعودة إستجابة منهم .
الوجه التاسع : من ولاية الله للمسلمين إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ولا يختص هذا الإلقاء بحال الحرب والقتال ، بل يشمل مقدماته ، وحال السلم والمهادنة لإرادة أداء المسلمين فرائضهم بأمان .
والأمن دعاء كريم لحفظ آيات القرآن والتفقه في الدين ، فلما قال الله عز وجل [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) فانه سبحانه هيئ أسباب ومقدمات هذه الطاعة المتعددة من جهات :
الأولى : طاعة الله في العبادات والمناسك كأداء الصلاة والصيام وإتيان الحج ، لتكون الآية أعلاه بشارة فتح مكة وأداء المسلمين مناسك الحج من غير أذى أو ضرر .
الثانية : طاعة الله في المعاملات والأحكام والسنن .
الثالثة : إجتناب ما نهى الله عنه من المحرمات والمعاصي والذنوب.
الرابعة : طاعة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به من عند الله عز وجل ، قال تعالى [ وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الخامسة : طاعة الله والرسول في أبواب الصبر والجهاد والمرابطة ، ومنه وقائع معركة أحد .
وقد خفف الله عز وجل عن المسلمين , وقرب لهم سبل هذه الطاعة بأن بعث الفزع والرعب في قلوب الذين كفروا لتكون الحرب والقتال يومئذ أخف وطأة عليهم وكأنها مثل النار التي ألقى فيها إبراهيم بقوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ) وإن كان قياس مع الفارق لسقوط سبعين شهيداً من المسلمين في معركة أحد .
ولكن هذه المعركة صارت إنعطافاً في تأريخ الجزيرة العربية ، إذ أدرك الناس أن المسلمين أمة يدافعون عن عقيدة التوحيد ويقدمون الشهداء دونها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ) .
لتكون الآية أعلاه سبباً لبعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ودعوة للناس لإجتناب حرب المسلمين والدخول بحلف مع الذين أشركوا أو القيام بنصرتهم ، وهو من إعجاز القرآن بأن تأتي الآية القرآنية بخطاب للمسلمين يتضمن وصفاً لهم ، فيكون هذا الوصف فتحاً عاماً بين الناس ، ودعوة سماوية لهم لدخول الإسلام ، وهو الذي تجلى بدخول الناس أفراداَ وجماعات وقبائل إلى المدينة المنورة لدخول الإسلام ، ولم يكن إقتصاد المدينة وموارد المسلمين كافية لهذه الوفود وإقامتها الدائمة أو الموقتة .
فكان حديث أهل الصفة وإجتماع فقراء المسلمين في مؤخر المسجد النبوي ، فعندما نزل أمر الله عز وجل بتحويل القبلة إلى البيت الحرام بعد ستة عشر شهراً من هجرة النبي محمد صلى الله علية وآله وسلم إلى المدينة بقوله تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ] ( ) .
بقي حائط القبلة الأولى إلى المسجد الأقصى من جهة شمال المسجد النبوي فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتظليله بما يشبه السقف من غير أن تكون له جدران تحيط به , وسّمي الصُّفة والظلة وصار محلاً لنزول الغرباء من الصحابة ممن لا مسكن أو أهل أو مأوى له .
ولقد آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الأنصار من الأوس والخزرج وبين المهاجرين الذين سبقوا في الهجرة وقدموا إلى المدينة قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بعده حتى السنة الثانية وتقاسم معهم الأنصار النفقة والمؤونة في آية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً , ومنهم من عرض النزول عن إحدى زوجاته وطلاقها ليتزوجها أخوه المهاجر .
وتجلت معجزات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس ، وتناقل الركبان آيات القرآن ، وما فيها من البرهان الذاتي والغيري على نزولها من عند الله عز وجل , مما جعل الناس يدخلون في الإسلام ويفدون إلى المدينة بأعداد لا تستوعبها ، فكانت الصُفة في ناحية المسجد النبوي مقدمة مكانية لحضورهم الصلوات الخمس مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد النبوي وما فيه من إتقان الصلاة ، وسماع آيات القرآن والتفقه في الأحكام الشرعية مع الصبر والرضا على الفقر والفاقة .
وهل الصُفة والظلة وأصحابها من أسباب إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : دلالة كثرة أصحاب الصفة على دخول الناس الإسلام .
الثانية : أهل الصُفة جنود مجندة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : إستعداد أهل الصفة للجهاد والدفاع عن الإسلام وقد ذكرت أسماء عديدة من أهل الصفة في التراجم الشخصية للصحابة منهم أبو هريرة ، وطلحة بن عمرو النصري ، وأسماء وهند إبنا حارثة ، وربيعة بن كعب ، والعرباض بن سارية ، وأبو فراس الأسلمي، وواثلة بن الأسقع الليثي الذي شهد غزوة تبوك ، وقيل أنه أخذ القراءة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وعدد أبو نعيم إسماءهم في الحلية فزادوا على المائة .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو أهل الصُفة في الليل فيفرقهم على أصحابه ويبقى جماعة منهم يتعشون معه .
وكان أهل الصُفة يزيدون مرة وينقصون أخرى فبعضهم يتزوج أو يسافر أو يموت .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إتخذ المسجد النبوي بعد الهجرة وبعد أن بقي في قباء أربعة عشر يوماً ولحقه بها بعد ثلاث من وصوله إليها الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بعد أن نام في فراشه وتخلف في مكة لرد ودائع وأمانات الناس التي كانت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد أراد الله عز وجل النصر والفتح للإسلام ، فجاءت الوقائع والأحداث بما يبعث الفزع والرعب في قلوب الذين كفروا لأنهم أصروا على الإقامة على الشرك والضلالة في زمن الرسالة السماوية الخاتمة وتوالي المعجزات العقلية والحسية.
وهل من ملازمة بين نزول وتوالي المعجزات وإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا ، الجواب نعم ، وهي حجة عليهم ، ولكنه لا يتعارض مع كون علة الرعب هي الشرك والجحود بالربوبية وإتخاذ الأصنام أنداداً لله عز وجل .
الوجه العاشر : من وجوه ولاية الله عز وجل للمسلمين والمسلمات تفقههم في الدين ومعرفتهم علل الأحكام والشرائع على نحو الإجمال والإستقراء من القرآن والسنة ، إذ تبين آية الولاية علتها وهو الإيمان بالله عز وجل لبيان ملازمة بينهما ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الله ولي المؤمنين .
الصغرى : المسلمون هم المؤمنون .
النتيجة :الله عز وجل ولي المسلمين .
وفيه حث للمسلمين والمسلمات للتمسك بعرى الإيمان والعصمة من الإرتداد ، وهو من الإعجاز في مجئ آية ولاية الله بعد النهي والتحذير من طاعة الذين كفروا وترشح الإنقلاب والإرتداد عنها ، ومن ولاية الله عز وجل في هذا الباب تحذير المسلمين من الركون للكافرين بقوله تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ] ( ) فان قلت بين الظلم والكفر عموم وخصوص مطلق فالظلم أعم ، الجواب هذا صحيح وفيه مسائل :
الأولى : مجئ التحذير والإنذار الإلهي من الأعم والأكثر .
الثانية : الملازمة ونسبة التساوي في بعض المواطن بين الظلم والكفر ، قال تعالى [وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
الثالثة : نزول آيات القرآن بالتحذير من إتخاذ الظالمين والفاسقين والكافرين بطانة وخاصة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]( ).
الوجه الحادي عشر : لقد تجلت ولاية الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من أول ساعة من بداية معركة أحد، بما يكون حجة ومعجزة عقلية وحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية , فقد قال تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] ( ) .
وفي الشطر أعلاه من الآية وجوه لولاية الله منها :
الأول : الإخبار عن وعد الله عز وجل للمسلمين .
الثاني : الدعوة لإستقراء مضامين وعد الله عز وجل .
الثالث : حضور المسلمين للمعركة بصحبة ولاية الله لهم ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( )وجوه :
أولاً : وإذ غدوت من أهلك بولاية الله .
ثانياً : وإذ غدوت من أهلك تبوى للمؤمنين بولاية الله لبيان حقيقة وهي أن المسلمين يخرجون إلى معركة أحد مؤمنين بأن ولاية الله حق وصدق وهي سبيل نجاة لهم .
ثالثاً: وإذ غدوت من أهلك لبيان ولاية الله في نصرتك .
رابعاً : وإذ غدوت من أهلك تبوء للمؤمنين مقاعد للقتال دفاعاً عن ولاية الله .
خامساً : وإذ غدوت من أهلك تبوء للمؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم بالذين ينصرونه بولايته وينتصرون بها .
الرابع : من قوانين ولاية الله عز جل للمؤمنين أمور :
أولاً : الوعد الكريم من الله للمؤمنين .
ثانياً : تعدد الوعد الإلهي للمؤمنين .
ثالثاً : تنجز الوعد الإلهي للمؤمنين.
رابعاً : التوثيق السماوي لوعد الله عز وجل للمؤمنين وتنجزه ،وبقاء هذا التوثيق إلى يوم القيامة .
وتحتمل النسبة بين وعد الله للمسلمين وبين حس وقتل المؤمنين للذين كفروا في معركة أحد وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي وتحقق المصداق الكامل للوعد الإلهي في ذات معركة أحد .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق وأن وعد الله الذي تذكره الآية أعم من أن يختص أو ينحصر بخصوص بدايات معركة أحد حيث كثر سقوط القتلى من المشركين ، ومن الآيات أن حملة لوائهم المتتابعين كانوا من هؤلاء القتلى .
الثالث : نسبة العموم والخصوص المطلق بلحاظ أن وعد الله عز وجل أعم من وقائع معركة أحد .
الرابع : نسبة العموم والخصوص من وجه فكان شطر من وقائع معركة أحد من مصاديق وعد الله عز وجل لرسوله الكريم وللمؤمنين وبعضها بحسب الحال والكر والفر في القتال .
والمختار هو الثالث أعلاه فقد إنقضت وقائع معركة أحد ولكن وعد الله عز وجل للمؤمنين باق ومتجدد في كل زمان ، وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة الجمع في الخطاب ، فلم تقل الآية : ولقد صدقك الله وعدك) كما أن لغة الجمع في جهة الوعد وخطابه مناسبة لآية الولاية بقوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ]وهو من فضل الله عز وجل بالإعطاء بالأتم والأعم والأوسع، ومن مصاديق قانون عدم مغادرة النعمة الأرض بعد نزولها ، إذ أن الله عز وجل أكرم من أن يرفع نعمة بعد أن يتفضل بها على الناس عامة أو على المؤمنين خاصة ، وعدم الإرتفاع أو الزوال هذا من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ) من جهات :
الأولى : نزول النعمة والهبة والفضل من عند الله نعمة عظمى .
الثانية : إخبار القرآن عن نزول النعمة نعمة أخرى .
الثالثة : مجئ النعمة في أوانها والحاجة إليها نعمة أخرى ، كما في نزول الملائكة في معركة بدر وأحد والخندق وحنين .
الرابعة : تجلي وترشح المنافع العظيمة عن النعمة والفضل الإلهي نعمة أخرى ، وتجدد هذه المنافع نعمة أخرى .
ويجمع قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] بين أمور :
الأول : ولاية الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الثاني : نصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الثالث : إقامة البرهان على أن الله عز وجل [ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]من جهات:
الأولى : تنجز الوعد الإلهي بأبهى صورة بغلبة ونصر المسلمين مع أنهم الأقل عدداً وعدة .
الثانية : إنقضاء وقائع معركة أحد في يوم واحد مع أن المشركين أعدوا لها أكثر من عام كامل ، كما أنهم لم يحققوا أية غاية من الغايات الخبيثة التي زحفوا من أجلها ، لبيان مرآة لعالم الآخرة ، وكيف أن عمل الذين كفروا يذهب سدى ً ، قال تعالى [وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا] ( ).
الثالثة : عدم وقوع الخلاف والشقاق بين المسلمين بعد إنقضاء المعركة وسقوط سبعين شهيداً .
الرابعة : جعل أهل المدينة رجالاً ونساءً يستبشرون بعودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سالماً من القتال ، وإيمانهم بأن كل مصيبة تهون ما دام هو سالماً .
الخامسة : بعث التلاوم بين الذين كفروا في ميدان المعركة وبعد إنقضائها لأنهم عجزوا عن تحقيق أي غرض من غزوتهم ، لقد خسر كفار قريش أموالهم وجهدهم ، وفقدوا سمعتهم وصيتهم بين الناس في معركة بدر ومعركة أحد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
لقد أدرك أهل مكة وما حولها أن عدم الخروج إلى معركة أحد هو الأولى والأحسن لهم ولشأنهم ، ولكن شقوة الذين كفروا غلبت عليهم , وتفضل الله بتوثيق وقائع هذه المعركة بالتنزيل لتكون عبرة وموعظة لأجيال المسلمين المتعاقبة وغيرهم ، وتفضل وجعل تلاوة آياتها مناسبة للأجر والثواب وسبيلاً للهداية والصلاح ، وإقتباس الدروس منها .
وكانت وقائع معركة أحد واقية من الفرقة والخلاف والهزيمة والإنكسار يوم معركة الخندق ، وهو من الإعجاز في نزول الآيات الخاصة بهذه المعركة على نحو البيان والتفصيل ، وهو من مصاديق نصرة الله عز وجل للمؤمنين بأن رجعوا بالموعظة والدروس وأسباب التدارك في المعارك القادمة .
ويمكن تقسيم مصاديق ولاية الله عز وجل للمسلمين في القتال إلى وجوه :
الأول : ضروب الولاية قبل بدء المعركة .
الثاني : مصاديق الولاية أثناء المعركة .
الثالث : أفراد الولاية بعد إنتهاء المعركة .
ومن الإعجاز أن المسلمين في أجيالهم المتعاقبة ينتفعون من هذه الولاية في كل زمان وإلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
ويحتمل صدق الوعد الذي تذكره الآية أعلاه في موضوعه ومدته وجوهاً :
الأول : إرادة بداية معركة أحد ، وقتل حملة لواء المشركين تباعاً ، ثم حمل المسلمين على المشركين حتى كشفوهم عن معسكرهم ، وهذا الكشف مقدمة لهزيمة وإنكسار المشركين ، وصارت نساؤهم تنادي بالويل , وبدأ المسلمون ينهبون عسكرهم ،ويستولون على الغنائم فنزل أكثر الرماة من مواضعهم للإصابة من الغنائم .
الثاني : المقصود معركة أحد كلها إبتداء وخاتمة , وفي وعد الله عز وجل للمسلمين أنهم لم يرجعوا منهزمين خائبين من المعركة .
الثالث : بيان نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة أحد ومعارك الإسلام الأولى .
وهل يختص عمل الملائكة يوم معركة أحد بالقتال أم هو أعم ، الجواب هو الثاني ، ومنه تخويف الذين كفروا وصدهم عن الهجوم على المؤمنين , وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الملائكة قاموا بغسل حنظلة عندما قتل لذا سمي غسيل الملائكة ، فقد كان جنباً وعندما سمع النفير والهيعة خرج مسرعاً ناسياً الغسل ، وذكر عن زوجته أنها غسلت أحد شقي رأسه , والأول أصح ، وبارز أبو سفيان فصرعه حنظلة ، فاتاه شداد بن الأسود بن شعوب الليثي فقتله .
فقال أبو سفيان :
وَلَوْ شِئْتُ نَجّتْنِي كُمَيْتٌ طِمرّة ( )… وَلَمْ أَحْمِلْ النّعْمَاءَ لِابن شَعُوبِ
في أبيات كثيرة. ( )
وذهب بعضهم إلى أن الشهيد في المعركة يغسل إذا كان جنباً لأن حنظلة غسلته الملائكة .
ولكنه قياس مع الفارق فعمل ونواميس الملائكة أمر مختلف ولعل فيه رسالة ملكوتية بأن الملائكة تتولى تغسيل الشهيد .
الرابع : إرادة صدق وعد الله عز وجل للمسلمين بخروجهم إلى معركة أحد، وأنها حق ، لبيان أن المسلمين لم يكونوا سبباً في حدوث معركة أحد وسيل الدماء فيها ، وهو من مصاديق ومعاني قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
الخامس : إرادة صدق الوعد بإشاعة القتل بالذين كفروا إذا أرادوا الهجوم على المسلمين ، فقد كان المسلمون قلة في عددهم ولا يملكون السلاح أو الرواحل التي تساعدهم على ملاقاة الذين كفروا فوعدهم الله عز وجل السلامة من الهزيمة والإنكسار إن هجم الذين كفروا للثأر من واقعة بدر فجاء قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]( ).
الوجه الثاني عشر : من ولاية الله عز وجل الإخبار في القرآن عن صدق وعده لهم ، ففي قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] وجوه :
الأول : لا يقدر على مضامين الوعد الإلهي إلا الله عز وجل فان قلت قد يعد الملك والحاكم والمالك ، ولكن وعده مقيد بأمور :
أولاً : إتصاف الوعد من الإنسان مطلقاً بأنه محدود .
ثانياً : قد تطرأ عوارض ذاتية على الإنسان الذي يعد غيره تجعله يعرض ويمتنع عن تنجز وعده ومنها الحسد والنسيان والشح والخوف من الفاقة ونحوها , ولكن وعد الله ليس دونه حاجب أو مانع .
ثالثاً : قد تحول الأسباب الخارجية القهرية دون تحقيق مصداق الوعد من الإنسان حاكماً أو ملكاً أو غيره .
رابعاً : يتعلق تحقق الوعد من الإنسان بالمشيئة الإلهية موضوعاً وتنجزاً وحجباً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ] ( ).
وهل من مصاديق تنجز الوعد من الله عز وجل للمؤمنين أمران :
الأول : تحقق ما يعد به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين .
الثاني : تنجز وعود المسلمين فيما بينهم ووعودهم للناس ، الجواب أما الأول فنعم لأن الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يعد إلا بأذن من عند الله سبحانه ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى]( ) , وقد وفى عنه أصحابه ما وعد به وعاجله الإنتقال إلى الرفيق الأعلى .
أما الثاني فلا دليل عليه ، والقدر المتيقن من الآية تنجز وتحقق الوعد الذي وعده الله للمسلمين فيأتيهم الوعد ثم تنجزه ، ولا يتعلق الأمر بصدور الوعد منهم ، نعم يتناجى المسلمون فيما بينهم بأمور:
أولاً : تفضل الله عز وجل بالوعد الكريم للمسلمين .
ثانياً : قدرة الله المطلقة على تنجز وعده للمسلمين ، فلا يستطيع الإيفاء بالوعد مطلقاً وبأحسن كيفية إلا الله عز وجل .
ثالثاً : شكر المسلمين لله عز وجل من جهات :
الأولى : إختصاص المسلمين بالوعد من عند الله عز وجل .
الثانية : تنجز الوعد من عند الله عز وجل .
الثالثة : ذكر الوعد الإلهي للمسلمين وتنجزه في القرآن ، وفيه بعث للفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ، فالأمة التي التي يحاربون هي الأمة التي يعدها الله عز وجل , ويتفضل بتنجز وعده لهم .
الوجه الثالث عشر : من الإعجاز في مضامين ومصاديق ولاية الله للمسلمين أنها متعددة في كل آية من آيات القرآن ، ليكون القرآن كتاب ولاية الله ، ولا تختص ولاية الله عز وجل للمسلمين بمضامين آيات القرآن بل تشمل وجوهاً :
الأول : تصديق المسلمين بنزول آيات القرآن من عند الله عز وجل .
الثاني : تلاوة المسلمين لآيات القرآن .
الثالث : صيرورة قراءة القرآن جزءً واجباً من الصلاة ، وتعاهد المسلمين لصيغة القرآنية وقصد القربة عند التلاوة .
الرابع : سلامة القرآن من التحريف والتبديل .
الخامس : منع إختلاف المسلمين في القرآن رسماً وتلاوة وتفسيراً وتأويلاً .
السادس : إجتهاد المسلمين بالعمل بمضامين آيات القرآن , وإتخاذهم القرآن إماماً بتوفيق من عند الله عز وجل .
ويمكن تأسيس باب جديد في العلوم التي يتضمنها هذا التفسير إسمه ( ولاية الله في الآية القرآنية ) أو ( الآية من ولاية الله ) فكما شرّعنا في هذا السفر أبواباً من ذخائر التأويل منها : إعجاز الآية الذاتي ، إعجاز الآية الغيري , الآية سلاح ، مفهوم الآية ونحوها فنشرع باباً خاصاً في كل آية لبيان مصاديق ودلائل ولاية الله عز وجل للمسلمين فيها ، وهو علم جديد يفتح آفاقاً وخزائن علمية .
ويمكن تأسيس قانون آخر وهو ( قانون ولاية الله للمسلمين في الصلة بين كل آيتين من القرآن ) لتكون المسائل المستنبطة منه من اللامتناهي ونبين وجهاً من وجوه هذا العلم في باب : ولاية الله في آية البحث.
السابع : صدور المسلمين والمسلمات عن القرآن في أقوالهم وأفعالهم وخياراتهم .
الثامن : رجوع المسلمين إلى القرآن عند الإختلاف والخصومة ، ومن ولاية الله عز وجل للمسلمين أنهم يجدون في القرآن ما يحتاجون إليه ومنه الصلح ونبذ الفرقة بينهم وترك الغيبة والتنابز بالألقاب ، ليدخل معه ذكر مسألة التولي من معركة أحد خاصة وقد أخبرت آية البحث عن عفو الله عز وجل عنهم ، ليكن ترك التعيير بهذه المسألة من وجود المقتضي وفقد المانع .
الوجه الرابع عشر : من مصاديق ولاية الله للمسلمين إخبار هذه الآيات عن تقسيم المسلمين إلى قسمين :
الأول : الذين يريدون الدنيا .
الثاني : الذين يسعون إلى الآخرة .
ومن الإعجاز أن الآية جعلت القصد والسعي لكل منهما بذات النص بقوله تعالى [يريدون].
وتتجلى ولاية الله عز وجل للمسلمين بخصوص هذه الآيات النازلة في موضوع وأحكام واقعة أحد وبالثناء من الله على طائفة من المسلمين لأنهم يريدون الآخرة ، وهم نواة التكامل الإيماني في المجتمع الإسلامي وإلى يوم القيامة .
وتقدير الآية : منكم من يريد الدنيا فتخلصوا وتنزهوا من هذه الإرادة , ومنكم من يريد الآخرة فاقتدوا بهم ففيه خير الدنيا والآخرة .
لقد تغيرت الدنيا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ صارت موضوعية لعالم الآخرة في القصد والغاية عند إختيار القول والفعل ، وجاء القرآن بالتأكيد عليه ووجوب الإيمان بعالم الحساب والجزاء ، وجعل الله عز وجل نوع ملازمة بينه وبين إقامة الصلاة وعمارة المساجد ، قال تعالى [إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] ( ).
ومن إعجاز القرآن موضوعية الإيمان باليوم الآخر من جهات :
الأولى : الصبر في ميادين القتال .
الثانية : الشوق إلى الشهادة وعشق طريقها .
الثالثة : الإجتهاد في طاعة الله ورسوله ليكون من معاني الرحمة في قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ) أي ترحمون من وجوه :
الأول : التصديق باليوم الآخر .
الثاني : عمل الصالحات وإدخارها لليوم الآخر .
الثالث : تلقي شآبيب الرحمة يوم القيامة بفضل الله وليس من حد لضروب ووجوه هذه الرحمة .
وعن سلمان المحمدي في قوله تعالى [كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ]( ) قال : إنا نجده في التوراة عطيفتين ، أن الله خلق السموات والأرض ثم جعل مائة رحمة قبل أن يخلق الخلق ، ثم خلق الخلق فوضع بينهم واحدة , وأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة ، فيها يتراحمون ، وبها يتعاطفون ، وبها يتباذلون ، وبها يتزاورون ، وبها تحن الناقة ، وبها تنتج البقرة ، وبها تيعر الشاة ، وبها تتابع الطير ، وبها تتابع الحيتان في البحر ، فإذا كان يوم القيامة جمع تلك الرحمة إلى ما عنده ، ورحمته أفضل وأوسع ) ( ) .
ويتضمن قوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ] ( )بالدلالة التضمنية مسألة وهي لو لم تفشل وتجبن طائفة من المسلمين وتريد الدنيا وتحصل المعصية والإختلاف والتنازع بينهم وحضر ألف من المسلمين ميدان معركة أحد ، ولم يرجع ثلث الجيش من وسط الطريق لوضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرماة بدل الخمسين مائة ولم يتركوا مواضعهم على الجبل ، ولو لم يعص طائفة من المسلمين الله عز وجل في معركة أحد .
ولم تتبع طائفة منهم رأس النفاق بالإنسحاب وسط الطريق , وكانوا جميعاً ممن يريدون الآخرة ، فتكون هذه الإرادة برزخاً دون تحقيق الذين كفروا النصر في جولة من المعركة .
فمن ولاية الله عز وجل للمسلمين بيان حالهم وكيفية التدارك والإصلاح وإجتناب اللهث وراء الدنيا ومباهجها .
ويمكن تقسيم معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أقسام :
الأول : بشارات وإخبار الكتب السماوية السابقة عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : معجزاته قبل ولادته والبشارات التي تجلت عندما إقتربت إطلالته على الأرض .
الثالث : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة النبوية .
الرابع : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة وقبل الهجرة إلى المدينة المنورة .
الخامس : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة إلى المدينة .
السادس : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميادين القتال وساحة المعركة ، وهل تختص هذه المعجزات بالمعارك التي قاد المسلمين فيها بنفسه ، أم تشمل السرايا التي بعثها الجواب هو الثاني .
الوجه الخامس عشر : لقد مرّت على المسلمين في واقعة أحد محن ومصائب لم يتعرضوا لمثلها في معارك الإسلام الأخرى ، إذ إنخزل ثلث الجيش لا لسبب إلا لتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول ، فبعد حال النصر المبين للمسلمين الذي إبتدأت به المعركة بتنجز وعد الله عز وجل لهم بقتل ومطاردة وتشريد الذين كفروا مع كثرتهم تبدلت الحال إلى ضدها .
وتغيرت الريح وصارت الجولة للذين كفروا وإقتربوا من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يرمونه بالحجارة للتجرأ على قتله فقد كان الخوف يملأ قلوبهم منه , ليكون من معاني قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ..] ( )صيرورة هذا الرعب واقية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ، وبرزخاً دون تمادي الذين كفروا في الغي والتعدي وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب فلا تصل أيديهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليعجزوا عن أسر عدد من المسلمين .
الثالث : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ليكون مقدمة لهزيمتهم وإنسحابهم .
لذا فبعد أن جاء قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ]ورد قوله تعالى في الآية التالية لها [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] لبيان أن الرعب الذي يملأ قلوب الذين كفروا جعلهم عاجزين عن مواصلة القتال وإختيار طول أو قصر مدته وأوان نهايته لبيان حقيقة وهي أن معركة أحد إبتدأت بنصر المسلمين المبين، بفضل ومدد من عند الله، وإنتهت بانصراف المسلمين من ميدان المعركة بأمر من عند الله عز وجل، ترى لماذا لم تقل الآية (ثم انصرفتم عنهم) أو (ثم أنصرفتم ليبتليكم) والجواب من جهات:
الأولى : بيان رحمة الله عز وجل بالفريقين , وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو لهداية قومه.
الثانية : علم الله عز وجل بان الذين يقاتلون المسلمين في ميدان معركة أحد سيدخلون الإسلام.
الثالثة : تأكيد ولاية الله عز وجل للمسلمين، وبيان مصداق من مصاديق هذه الولاية بأن جعل إنقضاء المعركة بأمره تعالى، وباختيار المسلمين الإنصراف منها.
الرابعة : بعد تخويف ووعيد الذين كفروا وتحضيرهم لمعركة أحد فانهم عجزوا في ذات يوم المعركة عن حسمها، وتنفسوا الصعداء عندما إنصرف المسلمون عنهم.
الخامسة : بيان قانون عام وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يبعث بالسيف والقتل، وأن الذين كفروا هم الذين قصدوا وأرادوا القتال وأصروا عليه، ومع هذا تفضل الله عز وجل وصرف المسلمين عنهم.
لقد نسبت الآية أعلاه إنصراف المسلمين إلى الله عز وجل، ترى كيف كان هذا الإنصراف، فيه وجوه:
الأول : أمر الله عز وجل الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإنصراف من المعركة.
الثاني : إخبار الملائكة الذين نزلوا لنصرة المسلمين النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر للمسلمين بالإنصراف.
الثالث : إلقاء الله العزم على الإنصراف من المعركة في قلوب السيف.
الرابع : دعوة المسلمين عامة والعلماء خاصة لإستقراء أسباب وعلة إنصراف المسلمين من آيات القرآن ومضامينها القدسية مثلاً ما ورد في الآية السابقة بقوله تعالى[ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ].
الخامس : جاء قوله تعالى[ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] للإخبار عن إنقضاء المعركة التلقائي بعد إدراك كل فريق العجز عن تحقيق النصر في المعركة إذا إستمرت.
وباستثناء الوجه الأخير أعلاه فان كل الوجوه الأخرى من مصاديق الآية ومعاني نسبة إنصراف المسلمين إلى الله عز وجل ، وتأكيد ولاية الله عز وجل لهم، لإرادة إنتفاء اللوم عنهم بسبب إيقاف القتال , وليكون في قوله تعالى[بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] مسائل:
الأولى : البشارة بعدم هزيمة المسلمين في معركة أحد.
الثانية : الوعد الكريم من عند الله بأن إنتهاء معركة أحد بانصراف المسلمين.
الثالثة : دلالة قوله تعالى[ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] على سلامة المسلمين من الهزيمة في المعركة، فلا يقال أن المسلمين خسروا معركة أحد، فالذي يخسر لا ينصرف عن العدو، وهو من الإعجاز في تقييد وتعدي الإنصراف بالجار والمجرور (عنكم) .
فلم تقل الآية (ثم صرفكم ليبتليكم) لأن هذا الصرف عام ويحتمل وجوهاً منها الإنسحاب من ميدان المعركة مع رغبة العدو بالقتال، وثباته في الميدان , وجاء هذا التقييد لبيان أن المسلمين تركوا الذين كفروا ينسحبون من الميدان من دون ملاحقتهم ومطاردتهم، ويدل عليه أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بملاحظة حالهم وهل ركبوا الخيل أم الإبل، لأن ركوب الخيل دليل على إرادتهم غزو المدينة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مشغولون في الميدان، أما ركوب الإبل فهو أمارة على إرادتهم قطع المسافات الطويلة بالتوجه إلى مكة مدبرين .
ليأتي الجواب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الذين كفروا ركبوا الإبل وجنبوا الخيل , عندها غادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ميدان المعركة، ترى لماذا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن كيفية إنصراف الذين كفروا من المعركة مع أن الله عز وجل يقول بخصوص معركة أحد[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، والجواب من جهات:
الأول : على فرض أن الآية أعلاه نزلت قبل معركة أحد، فانها تصف حال إنسحاب الذين كفروا سواء من ميدان المعركة أو من سعيهم لدخول المدينة.
الثاني : جاء سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق إنصراف الذي كفروا لتنمية ملكة الحيطة والحذر عند المسلمين.
الثالث : تأكيد فضل الله عز وجل بالآية الحسية، والمصداق والشاهد العملي لمضامين الآية القرآنية.
الرابع : بيان ولاية الله عز وجل للمسلمين في كيفية إدبار عدوهم خائباً.
الخامس : تجلي حقيقة وهي أن قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] نوع وعد من عند الله عز وجل للمسلمين، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]( )، بلحاظ أن حس وقتل المسلمين للذين كفروا فرد من مصاديق وعد الله عز وجل للمسلمين، ومن هذه الأفراد فرار الذين كفروا من ميدان المعركة إلى مكة بذات الطريق الذي جاءوا به لم يكسبوا إلا الخزي والإثم.
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بتلاوة سورة الفاتحة على نحو الوجوب العيني على كل مكلف منهم ذكراً كان أو أنثى، فيكرر كل مسلم ومسلمة كل يوم قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، ومن وجوه هذا الصراط الإنصراف عن الذين كفروا في ميدان المعركة، وتقدير الآية على وجوه:
الأول : ولقد صرفكم الله عنهم بولايته لكم.
الثاني : ولقد صرفكم الله عنهم لأن هذا الإنصراف خير لكم في النشأتين.
الثالث : ولقد صدقكم الله عز وجل تخفيفاً عنكم، وهذا التخفيف من مصاديق ولاية الله للمسلمين.
الرابع : ولقد صرفكم الله بعز ونصر وسلامة من الهزيمة.
الخامس : ولقد صرفكم الله عنهم وجعلهم ينقلبون خائبين نادمين.
السادس : ولقد صرفكم الله عنهم، ومعكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عز وجل سالماً وهو من ولاية الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الوجه السادس عشر : لما أخبرت هذه الآيات عن ولاية الله عز وجل للمسلمين تفضل الله وأخبر أنه سبحانه يبتليكم , ومن فضل الله عز وجل ومعاني الولاية في المقام وجوه :
الوجه أولاً : ورود مادة الإبتلاء بصيغة الخطاب (ليبتلي الله ما في صدوركم ) لبيان حقيقة وهي أن هذا الإبتلاء تنزيه للمؤمنين وتأكيد لصدق إيمانهم ، ونبذ للنفاق ودعوة للمنافقين للتوبة والإنابة .
ومن خصائص إبتلاء ما في الصدور الكشف عما تضمره من النوايا ، وما يدور في الخلد من الأوهام والحب والبغض ، والرجاء واليأس ، والمنعة والخوف ، وهل يقف الإبتلاء عند الكشف , الجواب لا ، فمن خصائص ولاية الله عز وجل العون والمدد للمؤمنين بأن يكشف عما في صدورهم من النوايا السليمة والمقاصد السامية وإرادة قصد القربة ، وحسن التوكل على الله عز وجل .
الوجه ثانياً : مجئ الإبتلاء بعد إنقضاء معركة أحد ، ونسبة إنهاء المعركة إلى الله عز وجل والإنصراف إلى المسلمين ز
وقال الواحدي (ثم صرفكم ) ردكم بالهزيمة (عنهم) عن الكفار ( ) ويرد عليه من جهات :
الأولى : هذا المعنى خلاف ظاهر اللفظ والمعنى وإن وردت الأخبار بأن المسلمين خسروا جولة من المعركة .
الثانية : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وطائفة من المؤمنين معه يوم أحد شاهد على عدم تحقق هزيمة المسلمين على نحو السالبة الكلية ، لبيان حقيقة تأريخية وهي ثبات المسلمين في ميدان المعركة يوم أحد من أول المعركة إلى آخرها .
الثالثة : ورود قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم وهو وسط ميدان المعركة ، ولابد من إستجابة لهذه الدعوة ، وهو الذي تؤكده أخبار المعركة .
الرابعة : إختتام آية العفو هذه بتأكيد عظيم فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الخامسة : نزول الملائكة مدداً للمسلمين ، ومن خصائص هذا المدد الحيلولة بين المسلمين والهزيمة .
السادسة : إخبار القرآن عن إنقلاب الذين كفروا يوم أحد بذلة وخيبة وحسرة بقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )ولو تحققت هزيمة المسلمين لإفتخر الكفار بها ونظموا الأشعار .
السابعة : إستحضار وحضور ولاية الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وهي واقية من الهزيمة والإنكسار .
وبين الولاية في قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] ( )وبين نزول الملائكة عموم وخصوص مطلق ، فهذا النزول المبارك فرع الولاية ومصداق من مصاديقها .
الثامنة : إخبار آية الولاية بأن الله عز وجل [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( )ومن الدلائل على أنه سبحانه ينصر المسلمين خير وأحسن وأعظم نصرة , ويقيهم من الهزيمة , ومن حمل قوله تعالى [صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ] على معنى هزيمة المسلمين .
ولو قالت الآية الكريمة (ثم صرفكم عنكم ) فهل يدل على هزيمة المسلمين , الجواب لا ، لأن متعلق الصرف والإنصراف أعم من الهزيمة بالنسبة للمسلمين ، فالذين كفروا هم الذين جاءوا إلى المدينة غازين زاحفين بجيش عرمرم لإستصحاب الإسلام فانصرافهم دون تحقيق غاياتهم الخبيثة دليل على عدم هزيمة المسلمين .
أما إنصراف المسلمين عنهم فهو هزيمة للذين كفروا لأنه شاهد على ثبات المسلمين في مقامات الإيمان وخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم سالماً من المعركة والذي يعني توالي نزول آيات القرآن ، وإستدامة الوحي من عند الله لرسوله الكريم ونزول الملائكة عليه .
وبين الوحي والقرآن عموم وخصوص مطلق ، فالوحي الذي يوحيه الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعم, ومنه الحديث القدسي والسنة النبوية الشريفة التي تترشح عن الوحي .
الوجه ثالثاً : تعقب الإخبار عن عفو الله عن المؤمنين لمسألة الإبتلاء في نظم الآية القرآنية بقوله تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ] ومن إعجاز القرآن أن العفو من عند الله عز وجل عن المؤمنين سابق زماناً للإبتلاء , وإن كان الأخير متقدماً عليه , وتقدير الآية أعلاه على وجهين :
الأول : ولقد عفا عنكم ثم يبتليكم .
الثاني : ولقد عفا عنكم بعد أن إبتلاكم .
ولا تعارض بين الوجهين بلحاظ أن الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وإختبار ، وهو من أسرار خلق الإنسان وصيرورته خليفة في الأرض ، نعم الإبتلاء في معركة أحد جلي وظاهر ليتبين المؤمن من المنافق , والمجاهد من القاعد ، والصابر في مرضاة الله من ضعيف الإيمان .
لقد ذكرت الآية الإبتلاء على نحو الإجمال , ومنه وجوه :
الأول : سقوط سبعين شهيداً من المسلمين .
الثاني : إصابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجراحات والكلوم المتعددة في رأسه ووجهه الشريف .
وهل في الآية إخبار وبلاغ عن تجدد المعارك مع الذين كفروا ، وقيامهم بغزو المسلمين في عقر دارهم في المدينة المنورة ، الجواب نعم ، لذا جاءت الآية بصيغة نزول البلاء على المسلمين لإرادة البيان بأنهم لم يهجموا ولم يغزو الذين كفروا في المعركة اللاحقة ، ولم يسع المسلمون للثأر والإنتقام , مثلما زحف المشركون يوم أحد للثأر لقتلاهم في معركة بدر , وعدم السعي هذا من المصاديق الطولية لقوله تعالى ( ثم صرفكم عنهم ) .
فلم تمر سنتان حتى كانت معركة الخندق التي زحف فيها الذين كفروا بجيش عظيم يتألف من عشرة آلاف رجل .
وتقدير الآية : ليبتليكم بمعركة الخندق ) وقد ذكر الله عز وجل بخصوص معركة الخندق طائفتين ، وكأنهما مرآة للطائفتين في قوله تعالى في الآية السابقة [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ] ( ).
وتجلى هذا الذكر بوجهين :
الأول : خشية الأعراب من الأحزاب وجيش الذين كفروا ورغبتهم في كونهم خارج المدينة عندما أحاطت بها جيوش الذين كفروا بقوله تعالى [يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ]( ).
الثاني : المؤمنون الصابرون الذين تلقوا نبأ مجيء جيوش الأحزاب ومرابطتهم حول المدينة بالرضا بأمر الله وعشق الشهادة ، وحسن التوكل عليه سبحانه ، وفي التنزيل [وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا] ( ) ومن وجوه الإبتلاء في المقام أمور :
الأول : الشدة والحرج والضراء بقدوم جيوش الذين كفروا.
الثاني : بذل المسلمين الوسع في حفر الخندق ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقوم بنفسه بالحفر ، وكان كل عشرة منهم يحفرون أربعين ذراعاً ، لبيان دقة التنظيم في العمل ، ومنع وقوع الخصومة والخلاف فيه ، خاصة وأن جيوش العدو باتت قريبة من المدينة وكان الطقس شديد البرودة مع قلة الأكل عند المسلمين وعن سهل بن سعد قال : ( كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بَالْخَنْدَقِ وَهُمْ يَحْفِرُونَ وَنَحْنُ نَنْقُلُ التُّرَابَ عَلَى أَكْتَافِنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ لَا عَيْشَ إِلَّا عَيْشُ الْآخِرَةِ فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) ( ).
وعن أنس قال (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَالْمُهَاجِرُونَ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ قَالَ أَنَسٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ خَدَمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ , اللَّهُمَّ إِنَّمَا الْخَيْرُ خَيْرُ الْآخِرَهْ
فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ
قَالَ فَأَجَابُوهُ نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدًا
عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدً) ( ).
الثالث : ما أصاب المسلمين من الجوع ونقص الغذاء .
الرابع : سلامة المسلمين من الإنكسار والهزيمة في معركة الخندق .
الخامس : قلة قتلى المسلمين في معركة الخندق ، فمع أن الكفار جاءوا بأكثر من ثلاثة أضعاف جيشهم في معركة أحد التي خسر فيها المسلمون سبعين شهيداً ، فان عدد قتلى المسلمين في معركة الخندق هو ستة شهداء وهم :
الأول : سعد بن معاذ .
الثاني : أنس بن أوس .
الثالث : عبد الله بن سهل .
الرابع : الطفيل بن النعمان .
الخامس : كعب بن زيد ، جاءه سهم غارب ، أي لا يعرف من رماه ( ).
السادس : ثعلبة بن غنمة .
السادس : تجلي ولاية الله للمسلمين بأبهى كيفية في معركة الخندق بقوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ) وهذه الكفاية من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ترى هل كانت كفاية الله للمسلمين في معركة الخندق حاجة وضرورة لهم أم انها من باب التخفيف عنهم .
الجواب هو الأول , وفيه معجزة عقلية وحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية .
إن توالي هجوم الذين كفروا على المسلمين مع مضاعفة أعدادهم وأسلحتهم في كل معركة دليل على أمور :
الأول : كثرة الذين كفروا وقدرتهم على حشد القبائل والأعوان معهم .
الثاني : الشأن والجاه الذي تمتاز به قريش بين القبائل العربية.
الثالث : موضوعية سدانة وخدمة وجوار قريش للبيت الحرام في إنصات العرب لهم .
الرابع : إتساع دائرة صلات قريش وتشعبها وقوة تأثيرها بين الناس .
الخامس : توظيف قريش لما عندها من الأموال لتجهيز الجيوش وهو خلاف ما أمروا به ، إذ تدل سورة قريش على لزوم تعاهدهم لعبادة الله والإقتداء بابراهيم وإسماعيل عليهما السلام في سنن التوحيد ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] ( ) .
فليس من زراعات في الجزيرة ، ولا أسباب للرزق ظاهرة فقد كانت أرض الجزيرة آنذاك صحراء قاحلة لا تؤمن قوت الأفراد والعيال , وكان الناس يتبعون مساقط الغيث والكلأ ، ولكن قريشاً يرحلون للتجارة والكسب ثم يعودون إلى مكة المكرمة .
وتبين السورة أعلاه أن عبادتهم لله عز وجل هي علة الرزق الكريم الذي فتحه الله لهم برحلة الشتاء إلى اليمن لشراء الثياب والعطور وما يجلب من الهند وبلاد فارس وبرحلة الصيف إلى الشام لشراء الحبوب والمحاصيل الزراعية .
(وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن مسعود أنه كان يقرأ هذا الحرف { وكفى الله المؤمنين القتال } بعلي بن أبي طالب) ( ).
لقد كانت أعداد وأفراد جيش المشركين في تصاعد في معارك الإسلام الأولى بما يدل على شدة الأذى الذي لاقاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي على وجوه مرتبة :
الأولى : عدد جيش الذين كفروا في معركة بدر التي جرت في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة نحو ألف رجل .
الثانية : جاء الذين كفروا في معركة أحد التي جرت بعد معركة أحد بنحو ثلاثة عشر شهراً بثلاثة آلاف رجل .
الثالثة : زحف عشرة آلاف رجل من الذين كفروا في معركة الخندق ، ويبين القرآن كثرتهم وحال الشدة والخوف عند المؤمنين يومئذ لولا رحمة الله ، قال تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ] ( ).
ومن الإعجاز أن ولاية الله حاضرة في كل معركة منها ، لبيان قانون وهو أن الحكومة والحسم لولاية الله للمؤمنين لذا لم يرجع الذين كفروا في كل معركة من هذه المعارك إلا بالخيبة والخسران .
وتحتمل ولاية الله عز وجل للمؤمنين في هذه المعارك وجوهاً:
الأول : ولاية الله للمسلمين بعرض واحد في معارك الإسلام الأولى :
الثاني : ولاية الله عز وجل للمسلمين حسب الحاجة والضرورة .
الثالث : إرادة التصاعد في مراتب ولاية الله للمسلمين في معارك الإسلام الأولى .
والمختار هو الثاني والثالث .
ومن الشواهد عليه في معركة الخندق أمور :
الأول : عجز الذين كفروا عن القتال بالتحام الصفين ، مما فوت الفرصة عليهم لتوظيف كثرة جنودهم وأسلحتهم وخيلهم.
الثاني : رؤية الذين كفروا معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن قرب ، لتكون كثرة جيوشهم حجة عليهم ، وسبباً لسخط الناس عليهم ، ومبادرتهم لدخول الإسلام ، وهو الذي تجلى بعد صلح الحديبية إذ دخلت بعض القبائل مثل خزاعة في عهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووفد المئات من أبناء القبائل إلى المدينة لإعلان إسلامهم .
الثالث : تعطيل قريش وأفراد جيش الذين كفروا لأعمالهم مدة الحصار على المدينة الذي إستمر أكثر من عشرين ليلة إلى جانب مدة الطريق ذهاباً وإياباً بين مكة إلى المدينة .
الرابع : إنفاق كبار كفار قريش الأموال الطائلة في معركة الخندق ومقدماتها لذا سعوا إلى صلح الحديبية ستراً لحالهم .
وهل يصح تقدير الآية : ولقد عفا الله عنكم ليبتليكم ، الجواب لا ، لأن العفو مطلوب بذاته ، وهو نعمة لا يترشح عنها الإمتحان والإختبار .
الوجه السابع عشر : من وجوه ولاية الله عز وجل للمسلمين تكرار مسألة عفوه عنهم في ذات هذه الآيات المتعلقة بواقعة أحد ، فما أن أخبرت آيات القرآن عن ولاية الله عز وجل حتى توالت البشارات بالعفو من عند الله وتنجز هذه البشارات في الواقع .
وهل يمكن تأسيس باب للعلوم في هذا السفر من التفسير إسمه ( الآية بشارة ) يكون على نسق ومنهجية الأبواب المستقلة فيه مثل : إعجاز الآية ، الآية سلاح ، إفاضات الآية ، إكرام الآية القرآنية للمسلمين .
الجواب نعم ، فما من آية من القرآن إلا وهي بشارة في ذاتها ومنطوقها أو في مفهومها ودلالتها .
لقد تفضل الله عز وجل وأخبر عن عفوه عن المسلمين بقوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ] وصحيح أن نظم الآية جاء بخصوص واقعة أحد ، وحدوث الفشل والخور عند فريق من المسلمين وحصول التنازع بين أفراد منهم وصدور المعصية عنهم إلا أن موضوع العفو أعم ، ويشمل وجوهاً :
الأول : العفو من عند الله عن الفشل والجبن الذي ظهر على طائفة من المسلمين ، ويحتمل الفشل في قوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ] وجوهاً :
أولاً : الفشل كيفية نفسانية لا يعلمها إلا الله عز وجل فيكون من إعجاز الآية الإخبار عن بواطن النفوس .
ثانياً : ظهور علامات الخوف على الوجوه وتغشيها بالصفرة والذهول .
ثالثاً : حصول مصداق الفشل في عالم القول كالمناجاة بالهزيمة .
رابعاً : تحقق الفشل في عالم الفعل بالهزيمة والفرار من ميدان المعركة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة لأصالة الإطلاق ولبيان عظيم فضل الله عز وجل بمجئ العفو عنهم .
الثاني : تفضل الله عز وجل بالعفو عن المسلمين في خلافهم وتنازعهم فيما بينهم سواء بخصوص الرماة الذين أصروا على ترك مواضعهم في الجبل , أو غيرهم .
وقد جاء العفو بصيغتين :
الأولى : صيغة الخطاب ولغة العموم في قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ] وسور الموجبة الكلية يتمثل بضمير جمع المذكر (كم) في عنكم .
الثانية : صيغة الغائب والموجبة الجزئية في آية البحث في قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ] وسيأتي مزيد بيان في (علم المناسبة ) .
وهذا التعدد والعموم والخصوص في متعلق عفو الله عز وجل من ولايته للمسلمين ويمكن تأسيس قانون , وهو الملازمة بين ولاية الله وبين العفو ، فالذين وليهم الله يعفو عنهم ، ليكون وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذين وليهم الله يعفو الله عنهم .
الصغرى : المسلمون وليهم الله عز وجل .
النتيجة : المسلمون يعفو الله عنهم .
الثالث : العفو من عند الله عن الذين تركوا مواضعهم على الجبل مع توصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بعدم تركها بأي حال من الأحوال .
الرابع : تفضل الله عز وجل بالعفو عن المؤمنين جزاء وثواباً لهم في جهادهم في سبيل الله .
الوجه الثامن عشر : من ولاية الله عز وجل للمسلمين توالي فضله عليهم كما في قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]ومن خصائص هذا الفضل وجوه :
الأول : تعدد مصاديق فضل الله على المؤمنين .
الثاني : يأتي هذا الفضل إبتداءً ورحمة من عند الله .
الثالث : هذا الفضل مقدمة وسبب لشكر المسلمين لله عز وجل .
الرابع : توالي وتعاقب مصاديق الفضل الإلهي على المسلمين .
الخامس : من فضل الله على المؤمنين إتصال ولايته لهم ، وملازمتها لهم .
السادس : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من فضل الله عز وجل من جهات :
الأولى : عموم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوجهها للناس جميعاً .
الثانية : ذات بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضل عظيم على الناس .
الثالثة : كل آية ومعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من فضل الله سبحانه .
الرابعة : إختتام النبوات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ] ( ).
الخامسة : ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بيان للعبادات والفرائض التي يجب على الناس إتيانها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) .
السابع : مجئ فضل الله عز وجل نافلة ورحمة من عند الله من غير إستحقاق .
الثامن : مجئ الفضل من عند الله للمؤمنين من جهات :
الأول : الفضل العام الذي يأتي من عند الله للناس ، وبين الناس والمسلمين عموم وخصوص مطلق .
الثاني : ما يتفضل به الله عز وجل على المسلمين والمسلمات إذ ينال منه المؤمنون بلحاظ أن النسبة بين المسلمين وبينهم هي العموم والخصوص المطلق ، فالمسلمون هم الأعم ، وكل مؤمن هو مسلم وليس العكس .
الثالث : فضل الله عز وجل الذي يختص به المؤمنين ، وهو على أقسام :
الأول : الفضل العام على المؤمنين في كل زمان من أيام أبينا آدم عليه السلام .
الثاني : خصوص المهاجرين والأنصار ،بلحاظ أن موضوع هذه الآيات معركة أحد وهم الذين حضروها تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : عموم المسلمين برسالة النبي محمد صلى الله علسه وآله وسلم .
ولا تعارض بين هذه الأقسام وقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ) ثناء من عند الله على نفسه لأن فضله مصاحب لأهل الإيمان في الدنيا والآخرة .
وهل فيه وعد من الله عز وجل للمؤمنين لدوام ولايته لهم ، الجواب نعم ، وفيه بعث لهم للصبر والمرابطة والجهاد في سبيله تعالى .
الوجه التاسع عشر : أخبرت الآية السابقة عن حدوث الفرار والهزيمة من قبل جيش المسلمين في معركة أحد بقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ].
ومع مجئ الآية بصيغة العموم المجموعي المستقرأ من لغة الخطاب ويدل عليه سور الموجبة الكلية من الجمع بين واو الجماعة في [تُصْعِدُونَ] ولغة الخطاب فيها ، فانه يحمل على التقييد بدلالة ذات الآية الكريمة بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] وتقدير الآية على وجوه :
الأول : والرسول يدعوكم للرجوع إلى ميدان المعركة .
الثاني : والرسول يدعوكم لتعضيد وشد أزر أصحابكم الذين بقوا يقاتلون الذين كفروا .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) ( ).
الثالث : والرسول يدعوكم للإلتحاق بلواء الإسلام الذي ما زال مرفوعاً وسط المعركة .
الرابع : والرسول يدعوكم لولاية الله له ولكم .
الخامس : والرسول يدعوكم لفضل الله عليكم وأفراده الخاصة بميدان المعركة .
السادس : والرسول يدعوكم للتدارك وترك الصعود والفرار .
السابع : والرسول يدعوكم للدعاء والنصر منه سبحانه .
الثامن : من ولاية الله لرسوله أنه يدعوكم للعودة للميدان .
التاسع : والرسول يدعوكم لولاية الله لكم في الآخرة وعظيم الثواب فيها ، قال تعالى [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
ويحتمل قوله تعالى [يَدْعُوكُمْ]بلحاظ موضوع الولاية وجوهاً:
الأول : هذه الدعوة والنداء من ولاية الله عز وجل للمؤمنين .
الثاني : إنها من ولاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين .
الثالث : ليس من صلة بين الولاية ودعوة الرسول لأصحابه الذين فروا من الميدان بالرجوع إلى المعركة .
الرابع : ذات الآية وقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] موضوع ولاية مستقلة .
والصحيح هو الأول والثاني ، قال تعالى [ إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ] ( ).
وهل تختص ولاية الله عز وجل في دعوة الرسول في ميدان معركة أحد بخصوص الذين بلغهم النداء الرسالي بالعودة للمعركة ، الجواب لا ، إنما هو من ولاية الله للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، من جهات :
الأولى : مجئ آية [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] بصيغة الخطاب ، وكأنها موجهة للمسلمين جميعاً مع تعدد الموضوع بحسب الحال ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا الرسول يدعوكم لأداء الفرائض والعبادات بلحاظ أن هذه الآيات معطوفات على قوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
ثانياً : والرسول يدعوكم للإحتراز من طاعة الذين كفروا والركون إليهم وإتخاذهم خاصة وبطانة ، قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ] ( ).
ثالثاً : والرسول يدعوكم للتدبر في آيات القرآن ، ومنها هذه الآيات الخاصة بواقعة أحد ، وإستنباط المواعظ والعبر من تلك الواقعة , ومن الآيات التي نزلت بخصوصها ، وهو من إعجاز القرآن بأن تتضمن الآية القرآنية البرهان وتستنبط منها المسائل ، وتكون نوراً وضياءً لإستقراء الصبر والدروس من الواقعة والحادثة التي نزلت بخصوصها ، وهو من الذخائر العلمية الكامنة في علم أسباب النزول وأنه لا ينحصر بذكر خبر وقصة نزول الآية القرآنية ، بل يشمل موضوعها والعلة الغائية منها .
رابعاً : والرسول يدعوكم لقانون وهو حضور ولاية الله للمؤمنين في كل حال سواء في الشدة أو الرخاء , والحرب أو السلم لتكون هذه الدعوة باعثاً على حسن التوكل على الله .
خامساً : والرسول يدعوكم بولاية الله له ولكم لبيان قانون وهو تغشي صيغة العصمة والحكمة والكمال لدعوة الرسول للمؤمنين ، فليس فيها نقص ولا تؤدي إلا إلى الخير المحض سواء في ميدان المعركة أو خارجها ، لذا لم يحدث قتال يومئذ بعد هذه الدعوة إذ سارع الذين كفروا إلى الإنسحاب والهزيمة لتكون هذه الدعوة والنداء من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
فدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للذين سمعوها من الجمعين مع التضاد والتناقض بينهما ، إذ أن إنسحاب الذين كفروا من ميدان المعركة أقل إثماً عليهم من بقائهم في الميدان .
سادساً : من مصاديق ولاية الله عز وجل للمؤمنين في دعوة الرسول للمؤمنين سلامتهم من الحزن على ما يفوتهم من الغنائم ومكاسب الدنيا ، وإكتفت الآية بنفي الحزن عن المؤمنين بقوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ] ( ) ولم تذكر الخوف وإنتفاءه عن المؤمنين مع كثرة الآيات التي جاءت بالسلامة منهما مجتمعين كما في قوله تعالى [فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
الجواب من جهات :
الأولى : بيان حاجة المسلمين إلى صرف الحزن عنهم يوم معركة أحد ، لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالنصر المبين في معركة بدر ونزول القرآن بنسبة هذا النصر إلى الله عز وجل بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) وهذه النسبة ظاهرة بالوقائع والدلائل العقلية والحسية ، فالله وحده هو القادر على تحقيقه مع الفرق والتباين في العدد والعدة بالكثرة من طرف الذين كفروا وظهور القلة والنقص في معسكر المسلمين .
وكان رجحان كفة المسلمين بوجود رسول الله صلى الله بين ظهرانيهم من نصر الله , ومن وجوه تقدير الآية أعلاه : ولقد نصركم الله ببدر برسول الله وأنتم أذلة ) .
فخرج المسلمون إلى معركة أحد وهم يستصحبون تحقيق ذات النصر لوجود المقتضي بأبهى مصاديقه والفقد القاطع للمانع فليس بمقدور المشركين الصمود أمام المدد الملكوتي الذي يأتي للمؤمنين في ساحة المعركة .
وعن سعد قال [لَقَدْ رَأَيْتُ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ يَسَارِهِ يَوْمَ أُحُدٍ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يُقَاتِلَانِ عَنْهُ كَأَشَدِّ الْقِتَالِ مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ] ( ) .
وفي قوله تعالى [بلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
قيل أن الله عز وجل وعد المؤمنين بالمدد الملكوتي إن صبروا وإتقوا فصدقهم الله عز وجل وعده بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]فلما فشلوا وجبنوا وتنازعوا وعصوا أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بألا يبرحوا مواضعهم فأعقبها البلاء والغم ليبقى الملائكة يذبون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويحفظونه من العدو .
ولا دليل على هذا القول والمعنى , وإن كان مشهوراً ويتناقله رجال التفسير ، وذات الخروج إلى معركة أحد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طاعة لأمره من أصدق معاني الصبر والتقوى ، وكذا الوقوف في مواجهة العدو , ويشهد له قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( )كما تدل عليه آية البحث بقوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) .
وفيه شهادة بأن كل فرد من المسلمين حضر معركة أحد هو من أفراد جمع المؤمنين الذي تخلده آية البحث إلى يوم القيامة ، وإن الفرار من المعركة عند إشتدادها وصيرورة الجولة للذين كفروا أمر آخر لا تنخرم معه صبغة الإيمان والعون والمدد من الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم معركة أحد.
الثانية : يتعلق الحزن بما فات في الزمن الماضي ، أما الخوف فيتعلق بالأذى المحتمل بما هو آت من الزمان ، لذا جاءت الآية قبل السابقة[لكيلا تحزنوا]بصيغة المضارع التي تتضمن الوعد الكريم من عند الله بقوله [إِذْ تُصْعِدُونَ] ومنه صرف أسباب الخوف عن المسلمين جزاء لهم على المبادرة إلى الإيمان .
الثالثة : إخبار الآية السابقة عن نزول النعاس أمنة للمؤمنين يوم أحد فمن منافعه زيادة الهمّة وتجديد النشاط ودفع ضروب الخوف عن المؤمنين .
وقد ذكرت الآية السابقة طائفتين :
الأولى : المؤمنون الذي أخلصوا النية في طاعة الله وبذلوا الوسع في الجهاد , وتفانوا بصيغة الإيمان من وجوه :
الأول : الشوق للقاء العدو الكافر ، قال تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ).
الثاني : المبادرة إلى الخروج إلى معركة أحد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع إدراك التباين بينهم وبين جيش الذين كفروا ورجحان كفة العدو في العدد والسلاح والرواحل من وجوه :
أولاً : عدد جيش المسلمين نحو سبعمائة وعدد جيش الذين كفروا ثلاثة آلاف .
ثانياً : في جيش المسلمين فرسان إذ إنخزل رأس النفاق عبد الله بن أبي بثلاثمائة مقاتل ، فلم يبق من الخيل مع المسلمين سوى فرسين ، وجاء الذين كفروا ومعهم مائتا فرس لم يركبوا ظهورهم في الطريق إلى المدينة .
ثالثاً : كان عدد الأبل عند المسلمين في معركة بدر سبعون ، وكانوا يتناوبون كل ثلاثة على بعير , أما في معركة أحد فقد كان مع الذين كفروا نحو ثلاثة آلاف بعير .
رابعاً : مع المسلمين مائة درع ومع جيش الذين كفروا سبعمائة درع .
لذا تأسف وحزن المؤمنون لفوات الغنائم يومئذ لأنها أضعاف الغنائم في معركة بدر ، فجاء قوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ].
خامساً : حضرت مع جيش المشركين نحو سبع عشرة امرأة معهن الدفوف والطبول لبعث الحمية في نفوس المشركين والإتيان بالأشعار التي تذكر بقتلاهم في معركة بدر والثأر لهم .
سادساً : قلة المؤون والزاد مع المسلمين وكثرتها مع رجالات قريش وجيش الذين كفروا فهي من رشحات التجارة بقوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] ( )إذ سخروا هذه النعم ضد الإسلام والنبوة وارادوا منع الناس من عبادة الرحمن ، وهل يختص منع كفار قريش الناس عن عبادة الله عز وجل بخصوص أهل مكة ومن حولها من أهل زمانهم الجواب بلحاظ أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتمة للنبوات ، وفيها دعوة للناس جميعاً للتصديق بنبوته وإتباعه ، قال تعالى [ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ] ( ).
السادس : زحف الذين كفروا للثأر والإنتقام لقتلاهم وما لحقهم من الخزي في معركة بدر .
الثالث : ملاقاة الذين كفروا في معركة أحد ، لقد ظن رؤساء الكفر أن المسلمين يملأ قلوبهم الخوف والفزع وأنهم يتفرقون ويتجنبون لقاء ومواجهة جيشهم الكبير ، وأنهم قد يتركون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مع قلة من أهل بيته وأصحابه ، ففوجئوا بجيش قوامه أكثر من ضعف عددهم في معركة بدر إذ كانوا يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً .
الرابع : بذل الوسع في القتال والخروج لمبارزة شجعان قريش .
الخامس : إظهار المؤمنين حبهم للشهادة وملاقاة الله عز وجل .
لقد أنهزم شطر من جيش المسلمين ، وصعدت طائفة منهم الجبل من شدة هجوم جيش كفار قريش بعد أن ترك الرماة مواضعهم على الجبل ومجي خيالة الذين كفروا من خلف جيش المسلمين ، وكانت ولاية الله حاضرة معهم ولهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ] ( )ومن الولاية إختتام الآية بقوله تعالى [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( )وفيه بشارة صيرورة الصعود على الجبل في معركة أحد نصرا للمؤمنين في معارك الإسلام اللاحقة ، وهو من الإعجاز الغيري في قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ]لما فيه من التحذير والزجر عن تكرار ذات الهزيمة والصعود على الجبل ، لقد صار المسلمون يثبتون في مواضعهم لا يغادرونها وإن قتلوا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ).
الثانية : طائفة من المسلمين إستولى عليهم الإهتمام بالذات وسلامة النفس .
الوجه العشرون : من ولاية الله للمسلمين في معركة أحد صرف الأذى بنظيره وما هو شبهه ، إذ تفضل الله عز وجل بمجئ الغم ثواباً للمؤمنين من عنده سبحانه ، ولا يقدر على صيرورة الأضداد نظائر وأشباهاً إلا هو سبحانه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( )بلحاظ كبرى كلية , وهي إنتفاع المسلمين والناس جميعاً من سعة قدرة الله وعظيم سلطانه .
لقد أخبرت آية [إِذْ تُصْعِدُونَ] عن أمور :
الأول : إستدامة وحضور ولاية الله عز وجل للمؤمنين حتى في حال الفرار والهزيمة .
الثاني : تجلي بركة إمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في ميدان القتال .
الثالث : كما يدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين للرجوع إلى ميدان المعركة فانه يدعوهم يوم القيامة إلى الحوض (وأخرج الطبراني عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لكم فرط وإنكم واردون عليّ الحوض ، فانظروا تخلفوني في الثقلين قيل : وما الثقلان يا رسول الله؟ قال : الأكبر كتاب الله عز وجل . سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم ، فتمسكوا به لن تزالوا ولا تضلوا ، والأصغر عترتي وأنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض ، وسألت لهما ذاك ربي فلا تقدموهما لتهلكوا ، ولا تعلموهما فإنهما أعلم منكم)( ).
وكما بادروا إلى الإستجابة لدعوته ولبوا نداءه فأنهم يفزعون إليه يوم القيامة رجاء شفاعته [يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ]( ).
ومن الآيات والفيوضات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الشفاعة يوم القيامة لا تختص بشخصه الكريم مع عظيم منزلته وتفضل الله عز وجل له بالشفاعة إذ تأتي بواسطة العبادات والمناسك التي يؤديها المسلمون ، وكأنه من رشحات قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
ليكون من معاني الرجوع في الآية أعلاه أنهم يفوزون بشفاعة ما إستعانوا به من العبادات لذا فسر الصبر في الآية أعلاه بالصيام ( ) .
(وقال وهب بن منبه : مكتوب في التوراة : إن الله يبعث يوم القيامة سبعمائة ألف ملك من الملائكة المقربين بيد كل واحد منهم سلسلة من ذهب إلى البيت الحرام , فيقول لهم : إذهبوا إلى البيت الحرام فزموه بهذه السلاسل ثم قودوه إلى المحشر) ( ).
الرابع : بيان قانون وهو التضاد والتنافي بين ولاية الله وبين الحزن إذ يهرب الحزن ولا يدنو من الذين يفوزون بولاية الله ، وفيه ترغيب بالإيمان ، وحث على الإنتقال إلى مرتبة التقوى والدعاء لنيل مرتبة الولاية ، قال تعالى [وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ]( ).
ومن الإعجاز في آية [إِذْ تُصْعِدُونَ] ( )صيغة الأفعال التي وردت فيها وهي على قسمين :
الأول : صيغة الفعل المضارع (تصعدون ، تلوون ،يدعوكم لكيلا تحزنوا .
الثاني : صيغة الفعل الماضي فأثابكم ، ما فاتكم ، أصابكم, ليدل هذا التقسيم وأفراده على إستدامة نعم الله عز وجل ومنها دعوة الرسول ، والسلامة من الحزن حتى وإن ترك المسلمون مواضعهم ولم يطيقوا ملاقاة العدو بالسيف .
وفي صيغة الفعل الماضي أعلاه بصرف الغم عن المؤمنين ووقايتهم من الإصابة بالجراحات العديدة ، وسقوط شهداء كثيرين ، وعدم فوات الغنائم عنهم نوع بشارة لهم ، وهل يتجلى هذا المعنى والكشف بقراءة للوقائع والأحداث وسير المعارك مع الذين كفروا ، الجواب نعم وعلى نحو جلي وظاهر ، ومن وجوه متعددة :
الأول : إنسحاب جيش الذين كفروا من ميدان معركة أحد في ذات اليوم الذي بدأت فيه المعركة وهو النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية المباركة ، والتي صادفت سنة 625 ميلادية مع لحاظ أمور تجعل إنسحابهم المبكر أمراً مستبعداً لولا فضل الله , منها :
أولاً : تهيئ وإستعداد الذين كفروا لمعركة أحد لأكثر من عام كامل .
ثانياً : كان رجالات قريش موتورين لما أصابهم في معركة بدر إذ سقط منهم سبعون قتيلاً وأسر سبعون مع أنهم كانوا مطمئنين إلى نصرهم وغلبتهم ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
ثالثاً : كثرة عدد أفراد جيش الذين كفروا ، وتعدد قبائلهم .
رابعاً : طول مدة السفر والزحف بين مكة والمدينة ، إذ قطعوا نحو خمسمائة كيلو متراً على الرواحل ومشياً .
خامساً : كثرة الإنفاق على الجيش مدة الطريق .
سادساً : حرص قريش على سمعتهم بين أهل مكة وعند القبائل وفي الأمصار .
فهم يعلمون بأن النصر وإن كان على نحو صرف الطبيعة والمسمى ، فقد أبى الله الإ حرمانهم منه ، ليكون مقدمة لحرمانهم من الأمن والسكينة في الآخرة ، فصحيح أن الدنيا دار إمتحان وإختبار إلا أن من خصائصها أنها مرآة للآخرة .
سابعاً : طمع كفار قريش بقلة عدد وعدة المسلمين والنقص في مزاولة شطر منهم القتال .
ثامناً : وجود المنافقين في المدينة كالظهير للذين كفروا .
الثاني : رجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من معركة أحد سالماً وإن أصيب بجراحات عديدة ، لقد كانت غاية الذين كفروا قتل النبي وإستئصال الدعوة الإسلامية ، وإيقاف التنزيل , فأشاع الذين كفروا نبأ قتله في المعركة وتغشتهم الغبطة ، وسرعان ما تبين كذب هذه الإشاعة وعلم الفريقان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حي يرزق ، فأصابتهم الخيبة وملأ نفوسهم اليأس والقنوط ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ] ( ).
الثالث : عدم حصول معارك وقتال بين المسلمين والذين كفروا بعد معركة أحد بما يبعث الغم والحزن في نفوس المسلمين فلم يتكرر كثرة سقوط القتلى منهم في معركة الخندق وفتح مكة وحنين وغزوات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأخرى ، ليكون تقدير الآية على وجوه :
أولاً : لكيلا لا تحزنوا في معارك الإسلام التي تلي معركة أحد .
ثانياً : الوعد من عند الله بالإنتقام من الذين كفروا لكيلا يحزن المؤمنون .
ثالثاً : تفضل الله بالبشارة بمجئ الغنائم إلى المدينة لكيلا يحزن المؤمنون .
لقد جعل الله عز وجل الغم الذي جاء ثواباً للمؤمنين يوم معركة أحد واقية من الحزن ومقدمة للوقاية منه بمجئ الوقائع بعد معركة أحد خالية من أسباب الحزن .
رابعاً : توافد الناس إلى المدينة ليعلنوا إسلامهم ويقفوا في صفوف المصلين خلف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خمس مرات في اليوم , ودخول أي فرد للإسلام هو غنيمة ومقدمة لتحقق الفتح وجلب الغنائم .
الوجه الحادي والعشرون : من أسماء الله الحسنى الخبير ، وهو العالم بأفعال الناس ومقدماتها وأوانها وكيفية السبيل إليها او صرفهم عنها , وبيده سبحانه مقاليد الأمور ، لذا تفضل وأمر بالدعاء والمسألة بقوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( )ومن الإعجاز وضروب تشريف المسلمين ومصاديق قوله تعالى في خطابه لهم [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) إنقطاع المسلمين للدعاء طوعاً وإنطباقاً ، إذ يقوم كل مسلم بتلاوة سورة الفاتحة وآياتها السبعة كلها دعاء ومسألة سواء في منطوقها أو مفهومها ، ومنها قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
ومن الإعجاز في هذه التلاوة أمور :
الأول : صيغة الوجوب العيني للتلاوة على كل مسلم ومسلمة .
الثاني : تعدد تلاوة المسلم والمسلمة لسورة الفاتحة في كل فرض من الفرائض من الصلاة اليومية .
الثالث : ندب المسلمين لتلاوة سورة الفاتحة خارج الصلاة .
الرابع : قصد القرآنية في قراءة سورة الفاتحة ومضامين الدعاء فيها .
الخامس : حال الخشوع والخضوع لله عز وجل التي يقرأ بها المسلم آيات سورة الفاتحة رجاء الإستجابة , وهذه التلاوة في ذاتها وكيفيتها من ولاية الله عز وجل للمسلمين وعمومات قوله تعالى [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]بلحاظ أن فريضة الصلاة خير محض ، ونعمة متجددة في ذاتها وأحكامها , وتشريع الوضوء وغسل الجنابة والتيمم مقدمة لها ، قال تعالى [وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ] ( ).
ويمكن تأسيس قانون وهو أن كل تشريع في الإسلام هو من عمومات قوله تعالى [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ].
وهل مضامين آية البحث من مصاديق هذا القانون , الجواب نعم من جهات :
الأولى : كانت معركة أحد موعظة للمسلمين .
الثانية : ليس من حصر للدروس المستقرأة من معركة أحد لذا فمن الإعجاز تعدد الآيات التي جاءت بخصوصها ، وتجاور وتداخل هذه الآيات كما في آية البحث والآيات السبعة التي سبقتها ، لتكون الصلة بينها من جهات :
الأولى : إتحاد موضوع هذه الآيات وتعلقها بخصوص معركة أحد .
الثانية : بيان مصاديق ولاية الله عز وجل للمسلمين في حال الحرب والسلم ، ومن هذه الولاية أن المعركة تنقضي وتنقطع ولكن الولاية للمسلمين متجددة من وجوه :
الأول : مقدمات معركة أحد .
الثاني : وقائع معركة أحد .
الثالث : نتائج ورشحات معركة أحد ، وهذه النتائج توليدية بمعنى أنه في كل زمان وواقعة تستنبط علوم مستحدثة من واقعة أحد تنير دروب الهداية للمؤمنين والمؤمنات ، ومنه علوم التفسير والتأويل للآيات القرآنية الخاصة بمعركة أحد .
الثالثة : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين بتدارك أحوالهم ونجاتهم من الهزيمة والخسارة في معركة أحد مع فرار وهزيمة طائفة منهم .
ويدل التبعيض في قوله تعالى [تَوَلَّوْا مِنْكُمْ] على أن المسلمين لم ينهزموا كلهم والأصل هو أن لغة التبعيض في المقام كالإستثناء , والمستثنى أقل من المستثنى منه ، فكذا التبعيض ، فان قلت كان عدد المسلمين يوم معركة أحد نحو ألف رجل إنخزل منهم مع رأس النفاق عبد الله بن أبي ثلاثمائة ليلاقي نحو سبعمائة من المؤمنين جيش الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]في آية البحث ولم يبق مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان إلا أحد عشر من أهل البيت والصحابة ، وفي رواية سبعة عشر ، فكيف يكون التبعيض والذين تولوا أقل ممن بقي في الميدان ، والجواب من وجوه :
أولا : جاءت الآية بصيغة الخطاب للمسلمين جميعاً الذين حضروا معركة أحد وغيرهم .
ثانياً : إرادة عموم المسلمين في أجيالهم المتعاقبة في كل زمان ، فلذا تكون القلة ونسبة الذين تولوا من عموم المسلمين ، وفيه تنمية لملكة التقوى عند المسلمين وحثهم على الصبر مطلقاً ، وعلى المرابطة في حال ملاقاة العدو وإحتمال التعدي على ثغور المسلمين خاصة وان معارك الإسلام الأولى كلها دفاعية ، وهو من الشواهد والبراهين القاطعة على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف , إنما ثبت مع شهر الذين كفروا السيوف عليه وعلى نحو التوالي والتعاقب .
ولا يمكن لمبدأ وعقيدة الثبات مع شدة وضراوة هجوم العدو عليه وفي كل مرة يأتون بجيش ثلاثة أو أربعة أضعاف عدد جيش المسلمين مع ذات النسبة من جهة العدة والسلاح والمؤون ، والفارق في التدريب والتأهيل ، ولكن ولاية الله للمسلمين حاضرة في كل معركة .
ثالثاً :تجدد وتعدد معارك الإسلام ، وثبات المؤمنين في تلك المعارك وصيرورة معركة أحد ووقائعها موعظة وعبرة ، وهو الذي تجلى في معركة الخندق إذ صبر المؤمنين فيها ولم ينهزموا بأستثناء المنافقين الذين أرادوا الفرار وإستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأذن لهم ، قال تعالى [بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا] ( ).
لقد أبى الله إلا أن تكون ولايته حاضرة مع المسلمين في كل معركة من معارك الإسلام الأولى بما ينفع المسلمين لأن الله عز وجل خبير بما عمل المسلمون مجتمعين ومتفرقين فأراد الله عز وجل ألا يعملوا إلا ما فيه خير لهم في النشأتين ، وأن يكون سبباً لصلاحهم .
الوجه الثاني والعشرون : من خصائص خاتمة الآية القرآنية إفاضاتها على مضامين ذات الآية ، وعلى الآية التي بعدها وآيات القرآن الأخرى من جهة الموضوع والحكم ، لذا تتصف هذه الخاتمة بأنها قانون من الإرادة التكوينية ، فكما تتجلى معاني ومنافع معركة أحد [وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] بخصوص ذات آية [إِذْ تُصْعِدُونَ] ووفق قواعد ولاية الله للمسلمين فانها تتداخل مع مضامين الآية التالية لها وهي [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا.]بذات موضوع وسنن الولاية من جهات :
الأولى :إبتداء الآية بحرف العطف (ثم) والذي يفيد التراخي ، لبيان حقيقة بلحاظ خاتمة الآية السابقة وهي أن التراخي والفترة آن ما بين مجئ الغم للمسلمين ثواباً وبين نزول الأمنة النعاس عليهم هو لنفع المسلمين وإعانة لهم لفعل ما فيه الخير والصلاح ، لأن الله عز وجل خبير بأمور :
الأول : ما يفعله المسلمون لو جاءهم النعاس بعد الأمنة مباشرة ، وبحرف العطف الواو بتقدير الآية [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا].
الثاني : ما يفعله المسلمون لو لم تأتهم الأمنة النعاس .
الثالث : ما يفعله المسلمون إذ أبطأ عليهم النعاس بعد حلول الغم بين ظهرانيهم .
الرابع : الله خبير بأن يراخي مجئ النعاس كما في الوجه الثالث أعلاه الأفضل والأحسن للمسلمين .
الثانية : أخبرت الآية السابقة عن مجئ النعاس لطائفة من المؤمنين في ميدان معركة أحد ، ويحتمل النعاس في جهة وكيفية مجيئه وجوهاً :
الأول : يأتي من جوار المؤمنين .
الثاني : يكون النعاس ملاصقاً لأبدانهم ، فيأمره الله عز وجل بالنفاذ إليها والإستحواذ على الأعضاء والحواس على نحو السالبة الجزئية .
الثالث : يتولى ملك من الملائكة إدخال النعاس في أبدان المؤمنين .
الرابع : النعاس كيفية بدنية خاصة ، فيوحي الله عز وجل لأبدان المؤمنين أن تدخل في نعاس .
ولأن الله عز وجل خبير بما يعمل المسلمون فانه تفضل فانزل النعاس من عنده تعالى .
ويحتمل نزول النعاس في كيفية واسطته وجوهاً :
الأول : نزول النعاس بأمر الله عز وجل بالكاف والنون ، قال تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
الثاني : نزل ملك من ملائكة السماء بالنعاس .
الثالث : نزل ملائكة بعدد المؤمنين الذين تغشاهم النعاس ، كل ملك ينزل على واحد من أهل البيت والصحابة بالنعاس ، لذا أخبر القرآن عن نزول آلاف من الملائكة ، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
ليكون تقدير الآية أعلاه أن بعضهم نزل بالنعاس على المؤمنين .
الرابع : نزول عدد من الملائكة بالنعاس على المؤمنين ، وعدد آخر من الملائكة يحرسونهم من الشياطين خاصة وأن آية البحث تؤكد فتنة الشيطان , وكيف أنه أزل طائفة من المسلمين ، وصاروا يولون الأدبار في القتال .
الخامس : نزول الملائكة بالأمنة وآخرين منهم نزلوا بالنعاس من عند الله .
والمختار هو الأول أعلاه .
قوله تعالى [إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ]
ويحتمل المراد بالشيطان في المقام وجوهاً :
الأول : إرادة إبليس وما يوسوس به للذين كفروا .
الثاني : شياطين الجن .
الثالث : شياطين الأنس .
ولا تعارض بين هذا الوجوه .
وقد إستزل إبليس آدم وحواء في الجنة فاغواهما ورغبّهما بالأكل من الشجرة التي نهاهما الله عز وجل عن الإقتراب منها ، قال تعالى [وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ) .
وبين الإقتراب والأكل عموم وخصوص مطلق ، إذ أن الإقتراب أعم لذا فمن الإعجاز في النواهي الإلهية أمور :
الأول : الزجر عن مقدمات الفعل القبيح ، فالإقتراب من الشجرة مقدمة ونوع طريق للأكل منها .
الثاني : النهي عن ذات الفعل القبيح .
الثالث : بيان الأذى والضرر المترتب على فعل القبيح .
الرابع : الإنذار والتخويف من الفعل القبيح .
الخامس : بيان سوء عاقبة الفعل المذموم .
السادس : بعث المسلمين على التفقه في الدين بمعرفة سبل الغواية على الفعل القبيح ، ومنه قوله تعالى [إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ] .
فمن إكرام الله عز وجل للمؤمنين نسبة الخطأ والمعصية التي إرتكبوها إلى الشيطان من جهة التحريض والإستدراج وزلة القدم .
وتقع الجناية على وجهين :
الأول : نسبة الجناية للمباشر نية وقصداً وفعلاً .
الثاني : وجود سبب للجناية ، وهذا التسبيب من الكلي المتواطئ الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
و(إنما) كلمة مركبة من (إن) و(ما) وتفيد معنى الحصر وتكف (ما) (إن) عن العمل فتقول :إنما الصلاة واجبُ .
وقال ابن عطية : إنما لفظ لا تفارقه المبالغة والتأكيد ) وهذا القول لا ينفي إستقراء معنى الحصر عنها ، إذ أن النسبة بين التأكيد والحصر هي العموم والخصوص المطلق ، فكل حصر هو تأكيد وليس العكس ، وقال أبو حيان : إنما يستفاد معنى الحصر من (إنما) من سياق الكلام وليس من ذات لفظ (إنما ).
وفي (قال الزجاج : انهم لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على جهة الفرار من الزحف رغبة منهم في الدنيا ، وإنما ذكرهم الشيطان ذنوبا كانت لهم ، فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها ، وإلا بعد الاخلاص في التوبة ، فهذا خاطر خطر ببالهم وكانوا مخطئين فيه . الثاني : انهم لما أذنبوا بسبب مفارقة ذلك المكان أزلهم الشيطان بشؤم هذه المعصية وأوقعهم في الهزيمة ، لأن الذنب يجر الى الذنب ، كما أن الطاعة تجر الى الطاعة . ويكون لطفا فيها) ( ) .
ولا دليل على قول الزجاج أعلاه فصحيح إنهم لم يتولوا عناداً وأن الأولى ة على أحسن وجه يناسب عز ورفعة المسلمين ، ولكن الآية تذكر التولي قبل الإستهزلال ، وتذكر العفو من عند الله عز وجل بعده ، وقد بينت الآية إستزلال الشيطان بأداة الحصر (إنما) .
وأما بالنسبة للثاني أعلاه ، فلا دليل على أن الذنب يجر إلى الذنب على نحو السالبة الكلية ، فمن فضل الله عز وجل أنه جعل نفس الإنسان كالرقيب عليه إلى فعل الخيرات وتبعث النفرة عنده من فعل السيئات خاصة عند تكرارها إذ يكتشف زيف اللذة فيها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ] ( ) .
وقد أختتمت آية البحث بإسمين من أسماء الله الحسنى (غفور حليم ) ومن حلمه تعالى إمهال المذنب ليتوب .
وإستزل على وزن إستفعل من الزلة وهو الخطأ والخطيئة .
ويحتمل الإستزلال في الآية وجوهاً :
الأول : دعوة الشيطان للذين تولوا للزلة والمعصية .
الثاني : ترغيب الشيطان لهم بالزلة وتزيينها في نفوسهم .
الثالث : قيام الشيطان بجعلهم يزلون ويميلون عن جادة الهدى .
الرابع : فعل الشيطان الزلة ونسبتها لهم على نحو الظاهر ولمباشرتهم لها .
الخامس : حمل الشيطان الذين تولوا من المسلمين على الفرار ، فيكون معنى إستزلهم أي أزلهم ، والسين في [اسْتَزَلَّهُمْ]للطلب ، والمعنى أنه حملهم على الزلة والخطأ .
السادس : زين لهم الشيطان أن النبي محمداً قد قُتل فانهزموا فراسخ وكانوا ستة نفر ( ).
بحث بلاغي
من ضروب البلاغة السبر والتقسيم ويفيد إختيار العلة من النص ومع أن السبر هو المقدم في عنوان الإصطلاح لأنه المطلوب ،والتقسيم نوع طريق إليه ، جاء السبر في العنوان أولاً, ويتألف السبر والتقسيم من مرتبتين متتاليتين :
الأولى : التقسيم وتعني حصر الأوصاف الخاصة بالعلة أو الموضوع , والتقسيم لغة هو التجزئة والتفريق .
الثانية : السبر هو إختبار تلك الأوصاف التي يحتمل أنها العلة فتترك غير الملائمة للعلة ، ويستبقي الوصف الذي يصح أن يكون علة للحكم .
ويسمى في علم المنطق الشرطي المنفصل كما يقال العلاج إما نافع أو ضار ، وسماه الغزالي التعاند ( ) وإن كان معنى السبر والتقسيم أعم ،ويتخذه الأصوليون طريقاً لإستنباط علة الحكم الشرعي من جهتين :
الأولى : حصر خصائص الأصل ذات الصلة بالموضوع .
الثانية : إبطال ما يصلح للعلة .
كما في إحتجاج يوسف عليه السلام [أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ] ( ) وذكرت آية البحث تولي فريق من المسلمين من ميدان معركة أحد ، ويتبادر إلى الذهن أنهم تولوا من تلقاء أنفسهم خاصة وأن الآية السابقة تحدثت عن همّ فريق من المسلمين يومئذ بأنفسهم كما في قوله تعالى [وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ] ( ).
ولكن الله عز وجل تفضل وأخبر في ذات آية البحث بأن الشيطان هو السبب لتخرج أجيال المسلمين من تلاوة هذه الآية بحرز وواقية من شر الشيطان وإغوائه وفيه نكتة وهي ما من آية يقرأها المسلم والمسلمة إلا خرجا منها بثروة وغنيمة ، وإذ وتنقص وتنفذ الغنائم في الحروب فان ذخائر تلاوة القرآن والتدبر في علومه باقية ومتجددة في نفعها .
ويحتمل تولي طائفة من المسلمين عن القتال يوم أحد وجوهاً:
الأول : أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أذن لهم بالإنسحاب .
الثاني : تولوا إلى فئة , وليأتوا بجيش المشركين من الخلف .
الثالث : الإستغفار عنهم ، وعدم الحاجة لهم في القتال .
الرابع : غلبة النفاق في نفوسهم وظهوره على عالم الأفعال .
الخامس : تحريض رؤساء الطوائف والقبائل منهم .
السادس : إصابتهم بالفشل والجبن وإمتلاء نفوسهم بالرعب.
السابع : إغواء ووسوسة الشيطان .
وتبين آية البحث أن الوجه الأخير أعلاه وخبث الشيطان هو السبب بتوليهم لبيان حقيقة في تحقق إنتصارات الإسلام في المعارك اللاحقة وهي سلامة وحصانة المسلمين من إغواء الشيطان الذي يدل بالسبر والتقسيم على تنزههم عن الأفعال والمقاصد والمكاسب التي ينفذ بواسطتها الشيطان ويبث سمومه وأسباب الخوف والفزع بينهم ، وأخرج ابن أبي الدنيا (وأخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان عن ابن عمر قال : لقي إبليس موسى فقال : يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وكلمك تكلماً إذ تبت؟ وأنا أريد أن أتوب فاشفع لي إلى ربي أن يتوب عليّ .
قال موسى : نعم . فدعا موسى ربه فقيل « يا موسى قد قضيت حاجتك فلقي موسى إبليس قال : قد أمرت أن تسجد لقبر آدم ويتاب عليك . فاستكبر وغضب وقال : لم أسجد له حيًّا أسجد له ميتاً؟ ثم قال إبليس : يا موسى إن لك عليّ حقاً بما شفعت لي إلى ربك فاذكرني عند ثلاث لا أهلكك فيهن . اذكرني حين تغضب فإني أجري منك مجرى الدم ، واذكرني حين تلقى الزحف فإني آتي ابن آدم حين يلقى الزحف . فاذكره ولده وزجته حتى يولي ، وإياك أن تجالس امرأة ليست بذات محرم فإني رسولها ورسولك إليها .
وأخرج ابن المنذر عن أنس قال : إن نوحاً لما ركب السفينة أتاه إبليس فقال له نوح : من أنت؟ قال : أنا إبليس قال : فما جاء بك؟ قال : جئت تسأل لي ربي هل لي من توبة؟ فأوحى الله إليه : أن توبته أن يأتي قبر آدم فيسجد له قال : أما أنا لم أسجد له حياً أسجد له ميتاً؟ قال : فاستكبر وكان من الكافرين ) ( ).
وفي الآية نكتة بلاغية وهي دلالة تولي طائفة من المسلمين على ثبات وبقاء طائفة منهم في ميدان المعركة ، ومع قلة عدد الذين بقوا فان منطوق الآية يشير إلى أنهم الأكثر بأمور :
الأول : وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم .
الثاني : المدار على الثبات والصبر في اللقاء .
الثالث : رجوع الذين صعدوا الجبل إلى الميدان .
قوله تعالى [بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا]
جاء هذا الشطر من الآية جواباً على سؤال مقدر ، كيف يستزل ويوقع الشيطان المؤمنين بالخطأ ، ويجعلهم يرتكبون معصية الفرار التي يكون أثرها وضررها كبيراً بلحاظ أنه ترك وإعراض عن بقاء رسول الله صلى الله عليه وآلله وسلم مقاتلاً في ميدان المعركة ، ومن بديهيات التصديق بالأنبياء الدفاع عنهم ونصرتهم ، ومنع أيدي الذين كفروا من الوصول إليهم ، فتعقب البيان التولي بأن ذكرت الآية علته وهي إستزلال الشيطان للذين تولوا مع ذكر السبب بلحاظ أن الباء في [بِبَعْضِ] للسببية .
لقد ترك هؤلاء النفر موقفهم في المعركة ولم يتوقفوا قريباً منها ، وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يناديهم للرجوع , إذ ورد قبل آيتين قوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] ( ) فهل يكون من إستزلال الشيطان لهم صيرورة برزخ وحاجب دون سماعهم نداء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب لا .
وهل يحتمل شمول الآية للرماة الذين تركوا مواضعهم مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم (لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا ) ( ) .
الجواب لا , فالقدر المتيقن من الآية إرادة الذين إنهزموا وفروا من المسلمين ، ولعل منهم عدداً من الرماة الذين تركوا مواضعهم ، فقد كان عددهم نحو واحد وأربعين فرداً ، ويحتمل حالهم على وجوه :
الأول : الذين أستشهدوا في المعركة إذ جاءتهم خيالة الذين كفروا من خلفهم ، ولو بقي هؤلاء الرماة في مواضعهم لما قتلوا أو قتل أميرهم عبد الله بن جبير والثمانية الذين ثبتوا معه على الجبل ولم يغادروا مواضعهم طاعة لله ورسوله .
الثاني : الذين بقوا يقاتلون في المعركة دفاعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام ، فصحيح أنهم نزلوا لأخذ نصيب من الغنائم بعد أن لاحت أمارات هزيمة وإنهزام الذين كفروا من ميدان المعركة ، ولكن عندما إستمر القتل بالمؤمنين إشتركوا في القتال والدفاع إلى حين إنتهاء المعركة ، وهل ينالون من نعمة النعاس التي تفضل الله عز وجل بها كما ورد في الآية السابقة [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ]أم أن تركهم مواضعهم على الجبل برزخ دون تلقيهم وفوزهم بهذه النعمة .
الصحيح هو الأول , إذ تبين تقسيم الآية السابقة المسلمين إلى طائفتين :
الأولى : طائفة نزل عليهم النعاس فضلاً ورحمة من عند الله .
الثانية : طائفة أهمتهم أنفسهم , ودب الشك إلى نفوسهم .
نعم إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، فبيان الآية السابقة لطائفتين لا يمنع من وجود طائفة أو طائفتين أخرى بدليل آية البحث التي ذكرت عدداً من المسلمين تولوا وإنهزموا , ويصدق عليهم عند التقسيم أنهم طائفة .
والطائفة هي الجماعة والفرقة والفريق والفئة ( والطائفة تكون ثلاثة وأكثر ، وقال مجاهد :الطائفة تقع على الواحد ) ( ).
وتبين الآية عدم إنحصار موضوعها بالمفرد من المسلمين إنما يراد منها الجماعة خاصة وأن الآية تضمنت العفو عنهم ، وهو نعمة يكون نفعها في الجماعة أكثر وأعظم .
وقد يقال قد يراد من صيغة الجمع المفرد بما يفيد التفخيم ، الجواب من جهات :
الأولى : ليس من تفخيم في الآية خاصة وأنها تتضمن معنى التقبيح بسبب التولي.
الثانية : تجلي معنى الجمع بلحاظ كلمات آية البحث ست مرات منها مرتان بصيغة واو الجماعة .
الثالثة : لو دار الأمر بين المنفرد والمتعدد في صيغة الجمع في القرآن فالأصل هو الجمع ، إنما لغة التفخيم للمفرد ترد في خطابات البشر بينهم خاصة بين الأدنى والأعلى .
قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ]
من فضل الله تعالى نزول العفو عن الذين تولوا من ميدان المعركة ، ويحتمل هذا الفضل بلحاظ جهته وجوهاً :
الأول : إرادة فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، بلحاظ أنه إمام المؤمنين وسيد المرسلين ، وفي التنزيل ورد عن موسى عليه السلام بقوله تعالى [فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
فينزل العفو عن صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرماة الذين تركوا مواضعهم أو الذين تولوا وفروا من الميدان عندما جاءت خيل الذين كفروا من خلف معسكر المسلمين ، ويكون نزول العفو في المقام من إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صحابته ، وتقدير الآية على وجهين :
أولاً : والله ذو فضل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعفو عن أصحابه .
ثانياً : والله ذو فضل عظيم على المهاجرين والأنصار لأنهم صحابة رسول الله .
الثاني : الإخبار عن فضل الله على جميع المسلمين والمسلمات أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصدور العفو عن الصحابة الذين شاركوا في القتال يوم معركة أحد .
الثالث : القدر المتيقن هو الملازمة بين الذين عفا الله عز وجل عنهم والذين تغشاهم فضل الله للتساوي بين فضل الله وبين العفو في المقام .
الرابع: تقدير قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]بلحاظ مضامين ذات الآية على وجوه :
أولاً : والله ذو فضل على المؤمنين الذين فشلوا وجبنوا .
ثانياً : والله ذو فضل على المؤمنين الذين تنازعوا في الأمر .
ثالثاً : والله ذو فضل على المؤمنين الذين عصوا من بعد ما أراهم ما يحبون .
وتحتمل النسبة بين العفو والفضل من عند الله في قوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]وجوهاً :
الأول :نسبة العموم والخصوص وأن العفو هو الفضل المقصود في الآية في الآية أعلاه .
الثاني : نسبة العموم والخصوص وأن العفو من فضل الله .
الثالث : إرادة نسبة الأصل والفرع وأن فضل الله هو الأصل .
بحث بلاغي
من ضروب البلاغة الإدماج وهو لغة الإدخال واللف ، وفي الإصطلاح ذكر معنى غرض في الكلام مع أن المراد أعم إذ يراد معنى آخر يستقرأ أو يترشح ويفرع من ذات الكلام والبديع .
ويحتمل الإدماج في الآية القرآنية وجوهاً :
الأول : الغرض المبين في الآية أعم وأكثر من الغرض الذي يتداخل معه , ويتجلى في ثناياه ومضامينه القدسية .
الثاني : نسبة التساوي بين الغرض المبين في الآية وبين الغرض الذي يندمج ويدخل فيه .
الثالث : تعدد وكثرة الغرض المدمج بالقصد والغرض الظاهر من اللفظ القرآني .
والصحيح هو الأخير وهو من أسرار إحاطة كلمات القرآن المتناهية باللامتناهي من العلوم والوقائع ، وتتجلى شذرات منها في هذا السفر المبارك ( معالم الإيمان في تفسير القرآن ) ومن الإعجاز في اللفظ القرآني عدم إنحصار الإدماج فيه بالغرض فيشمل وجوهاً :
الأول : معنى اللفظ بلحاظ الأشباه والنظائر والمعاني المتعددة للفظ القرآني.
الثاني : ما يترشح من الأغراض والمقاصد السامية من الجمع بين مضامين الآية والجمل المفيدة فيها ، وهو الذي نبين شذرات منه في العلم الذي إستحدثناه في هذا التفسير وهو الصلة بين أول وآخر الآية .
الثالث : تجلي معاني وضروب الإدماج في الصلة بين كل آيتين من القرآن ، ولا ينحصر موضوع هذا الإدماج بالصلة والجمع بين الآيتين على نحو العموم المجموعي لكلماتها فستقرأ مسائل وتستنبط أحكام من الصلة بين كل شطرين من آيتين من القرآن , وهو من خزائن القرآن ، ومصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ).
علم المناسبة :
ورد لفظ [عَفَا] بصيغة الفعل الماضي سبع مرات في القرآن ستة منها في عفو الله عز وجل عن المسلمين لبيان فضله عز وجل على المسلمين في العفو عنهم , وبيان قانون الملازمة بين الإيمان والعفو من عند الله , وكأنه من شكر الله عز وجل للمسلمين في تصديقهم بالنبوة والتنزيل ، ومن أسماء الله عز وجل الشاكر ، وفي التنزيل [وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا] ( ).
وهل فيه ترغيب للناس بدخول الإسلام , الجواب نعم ، إذ تبين آية البحث فوز الذين تولوا عن القتال بالعفو لتأكيد عفو الله تعالى عن الذين ثبتوا في الميدان من باب الأولوية القطعية .
الجواب نعم ، وهو من أسرار سلامة القرآن من التحريف , ويمكن تأسيس قانون من جهات :
الأولى : كل آية من القرآن دعوة للناس لدخول الإسلام .
الثانية : كل شطر من الآية القرآنية دعوة لدخول الناس الإسلام .
الثالثة :الجمع بين كل آيتين من القرآن حث وجذب لعموم الناس لدخول الإسلام ( ).
الرابعة : الجمع بين شطري آيتين من القرآن دعوة للناس لدخول الإسلام .
وجاء قوله تعالى [عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ] ( ) في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وقدمت الآية أعلاه العفو على العتاب لبيان إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له : الا تغزو بني الأصفر لعلك أن تصيب ابنة عظيم الروم؟ فقال رجلان : قد علمت يا رسول الله أن النساء فتنة فلا تفتنا بهن فأْذَن لنا . فأذن لهما ، فلما انطلقا قال أحدهما : إن هو إلا شحمة لأوّل آكل ، فسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينزل عليه في ذلك شيء ، فلما كان ببعض الطريق نزل عليه وهو على بعض المياه { لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك } ونزل عليه { عفا الله عنك لم أذنت لهم }( ) ونزل عليه { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر }( ) ونزل عليه { إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون) ( ).
وهل يدل قوله تعالى [لم أذنت لهم] على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن لهم من عنده وليس بالوحي ، الجواب إن إذنه من الوحي والسعة والمندوحة فيه ، خاصة وأن البيان والنسخ جاء فيما بعد لذا ورد عن ابن عباس بأن الآية أعلاه نسخت بقوله تعالى [فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ] ( ).
قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ]
بيان قانون المغفرة من عند الله للعباد وأنه سبحانه يغفر الذنوب بفضل ولطف وإحسان منه تعالى ، وبين المغفرة والعفو في الآية عموم وخصوص مطلق ، فالمغفرة أعم في موضوعها ودلالاتها وأثرها ، وتتجدد حاجة الإنسان للمغفرة من عند الله عز وجل في الدنيا والآخرة ، وهو من مصاديق ملازمة الحاجة لعالم الإمكان والإنسان ممكن ، وهو من أسرار الإبتلاء في الحياة الدنيا ، وتفضل الله عز وجل بجعل الرجحان في الدنيا لكفة الإيمان والعفو والمغفرة من عند الله .
ومن الآيات في المقام تفضل الله باقتران صفة الحليم بالغفور في آية البحث ، وقد ورد لفظ [حليم ] صفة لله عز وجل إحدى عشرة مرة ، ثمانية منها بصيغة الرفع , وثلاثة بصيغة النصب ، وإقترنت سبعة منها باسمه تعالى [ غفور] وكأن هناك ملازمة بينهما ، إنما هو تأكيد لعظيم فضل الله وتواليه وتعاقبه وتعدد مصاديقه وموضوعاته , ويكون من مصاديق (الحليم ) وجوه :
الأول : تقريب الله عز وجل العبد إلى ضروب الطاعة وترغيبه فيها ، وتقريبها له , وحجبه عن المعصية وإن كان راغباً فيها ، ناوياً لها ، وحجبها عنه , قال تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ] ( ).
وتعدد معاني الإطلاق في مغفرة الله عز وجل من جهات :
الأولى : دوام وتعاقب المغفرة من عند الله فكلما يذنب العبد ويستغفر الله يتفضل الله بالعفو والمغفرة عنه .
الثانية : توالي أفراد المغفرة .
الثالثة : صيرورة الذنب والمعصية بالإستغفار حسنة ، قال تعالى [إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ] ( ).
الرابعة : الله هو الغفور الذي يتفضل بترغيب الناس بالإستغفار ، ويجذبهم إلى مقاماته ويزينه في نفوسهم وفي مجتمعات المؤمنين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
وقد وردت آية البحث بذكر صفة [الحليم] لله عز وجل على نحو الذكر والتعيين ، وليس من آية في القرآن إلا وتدل على حلمه سبحانه على الخلائق عامة والناس خاصة ، وهو من اسرار خلافة الإنسان في الأرض ، ومن مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) في إحتجاج الله عز وجل على الملائكة عندما إستفهموا عن خلافة آدم في الأرض مع إفساد ذريته في الأرض وسفكهم الدماء ، فمن علم الله عز وجل أن خلافة الإنسان في الأرض هي من حلم الله عز وجل إبتداءً وإستدامة وموضوعاً وحكماً ، قال تعالى [ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى]( ) .
ويمكن تقسيم أسماء الذات المقدسة تقسيماً إستقرائياً :
الأول : أسماء الذات .
الثاني : أسماء الصفات .
الثالث : أسماء الأفعال .
وقيل أن اسم الحليم هو اسم فعل لأن الله عز وجل يؤخر العقوبة ، ولكن الوجوه الثلاثة أعلاه تنطبق على اسم الحليم بحسب اللحاظ .
ومن حلم الله عز وجل أنه لا يثير غضب ، ولا يستعجل العقوبة وهو الذي يمهل العباد مجتمعين ومتفرقين ، ويستر عيوبهم , وهذا الستر مقصود بذاته ، وهو واسطة وطريق للعفو والمغفرة بفضل الله ، ومن الآيات أن حلم الله عز وجل لا يختص بالحياة الدنيا فهو مطلق في الدنيا والآخرة .