المقـــدمـــــة
الحمد لله الذي جعل الخلائق ذخائر تدل على بديع صنعه وعظيم قدرته ، وكل فرد منها يدعو الناس إلى عبادة الله والخشية من عقابه وبطشه .
الحمد لله الذي ملأ الآفاق بكنوزٍ وآلاء تجذب الناس إلى الإيمان ، وتحثهم إلى التفكر في عالم الأكوان ، ليكون مدخلاً ومناسبة للخشوع والخضوع لله عز وجل .
الحمد لله الذي تجلت بدائع من حكمته بنزول القرآن وتفضل وأدام الصلة بينها وبينه بسلامة القرآن من التحريف , وكل آية مصداق لحبل الله في قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
ليكون لفظ [حَبْلِ] في الآية أعلاه اسم جنس وسور الموجبة الكلية الجامع لآيات القرآن وأحكام الشريعة وسنن النبوة ، فكل آية من القرآن يصدق عليها أنها حبل الله وأنها جزء منه .
الحمد لله الذي خلق الشمس والقمر رحمة بالعالمين وآيتين تتجددان كل يوم ، بل كل ساعة في جريانهما وتعاقبهما ليكونا سبيل جذب للناس للهداية ، ووسيلة رشد , وبرزخاً دون الغواية والضلالة ، قال تعالى [وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى] ( ).
الحمد لله للهداية إلى كلمة التوحيد وفطرة الإسلام وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العبادات والمعاملات .
الحمد لله على تلقي المسلمين نداء الإيمان في القرآن بصيغة الثناء عليهم بلفظ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]الذي يتضمن هذا الجزء بداية تفسير الآيات التي ورد في أولها وهي (ثمان وثمانون آية ) والتي جاء في وسطها وهي آية واحدة وهو قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] ( ) لبيان أن الصلاة على النبي مدرسة عقائدية ومفتاح للبركة ونوع عهد من المسلمين مجتمعين ومتفرقين للعمل بالأوامر والنواهي التي جاء بها من عند الله .
اللهم صل على محمد وآل محمد ونشهدك ونشهد ملائكتك , وجميع الخلائق أنك أنت الله لا إله إلا أنت سبحانك وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبدك ورسولك ، ونعوذ بجلال وجهك من الغواية والضلالة .
الحمد لله الذي أنعم علينا بالعافية في البدن والحواس وجعل القرآن سبيلاً لإستدامتها ، وطريقاً للسلامة في الآخرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) لتكون تلاوة المسلم كل مرة لنداء الإيمان من معاني الصراط ، وكذا بالنسبة للعمل بمضامين آيات نداء الإيمان وآيات القرآن الأخرى .
الحمد لله الذي تفضل وجعل القرآن شاهداً على إيمان المسلمين ، وفيه مسائل :
الأولى : مجئ الشهادة للمسلمين بالإيمان في كتاب الله وهي من كلامه .
الثانية : إستدامة وتجدد الشهادة بحسن سمت المسلمين .
الثالثة : بعث المسلمين على العمل بسنن الإيمان .
الرابعة : نداء الإيمان حرب على الإرتداد , ودليل على عصة المسلمين منه ، ففي كل يوم يخاطبهم بصفة الإيمان ، قال تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا] ( ).
فورد نداء الإيمان ليصبر المسلمون في تحمل الأذى ولوقايتهم من المعاصي والظلم والتعدي والإرهاب.
الخامسة : تلاوة المسلمين لنداء الإيمان , وفيه عز وفخر لهم ، وترغيب على الثبات في مقامات الهدى ، وهو من مصاديق ما ورد في التنزيل [وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا] ( ).
السادسة : دعوة المسلمين للتفقه في الدين ومعرفة سنن الإيمان , وما يجب عليهم كمؤمنين عمله ، وهذا الباب واسع ويتعلق بمضامين كل آية من آيات القرآن وأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع ، ليفوز المسلمون بأمور :
الأول : الإيمان بالتنزيل .
الثاني : الإيمان بأن السنة النبوية شعبة من الوحي .
الثالث : عمل المسلمين بسنن الإيمان .
وعن الزهري قال : سمعت علي بن الحسين عليه السلام يقول : آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزينة ينبغي لك أن تنظر ما فيها).
ومن خزائن الآية القرآنية موضوعية نداء الإيمان في رسم وذات ودلالات الآية من جهات:
الأولى : ورود نداء الإيمان في ذات الآية.
الثانية : عطف الآية القرآنية على آية النداء .
الثالثة : دلالة الآية في مفهومها على الإتصال بآية النداء من وجوه:
الأول : صيغة الخطاب، وتوجهه إلى المسلمين والمسلمات في الآية القرآنية .
الثاني : الإتحاد الموضوعي بين آية النداء وبين الآية القرآنية الأخرى التي لم تعطف على آية النداء، وهذا الإتحاد من وجوه:
أولاً : التشابه في الموضوع .
ثانياً : وحدة وجهة الخطاب والحكم.
ثالثاً : تجلي معاني الإيمان في مضامين الآية القرآنية.
رابعاً : إدراك المسلم بأنه المخاطب بالآية القرآنية، وأنها تخاطبه كمسلم آمن بالله ورسوله، واليوم الآخرة، وفيه دعوة للتنزه من النفاق.
ومن إعجاز القرآن أن كل آية من القرآن كنز من العلوم بذاتها ومضامينها ومفاهيمها والسنن والأحكام التي تتضمنها وهو من أسرار وجود ما يحتاجه الناس إلى يوم القيامة في القرآن.
ومنه الجمع بين نداء الإيمان وبين مضامين آيات القرآن وإستنتاج المواعظ والعبر منه، ومن خصائص هذا النداء أنه مبارك من وجوه :
أولاً : ذات النداء مبارك لأنه نازل من عند الله عز وجل.
ثانياً : دوام بقائه في الأرض
ثالثاً : نداء الإيمان سبيل للتوبة .
رابعاً : إفتخار الملائكة بالمسلمين من وجوه :
الأولى : شهادة الله عز وجل لهم بالإيمان.
الثانية : نزول آية نداء الإيمان خطاباً وتزكية لهم.
الثالثة : تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نداء الإيمان بصبغة القرآنية وأنه كلام الله.
الرابعة : بعث نداء الإيمان المسلمين عل العمل.
الخامسة : حث الناس جميعاً على الهداية والرشاد، وبعث الأسى في نفس من يتخلف عن الإيمان لحرمانه من هذا النداء المبارك.
السادسة : تلاوة المسلمين لنداء الإيمان كل يوم ، ومن الإعجاز تكراره في القرآن تسعاً وثمانين مرة ، موضوع كل واحدة يختلف عن الأخرى , فلابد أن يقرأوه المسلمون في صلاتهم اليومية ولتكون تلاوة المسلم لنداء الإيمان خطاباً مستحدثاً للمسلمين والمسلمات بالعمل بمضامين الآية القرآنية.
الثالث : إمتثال المسلمين للأوامر والنواهي التي في القرآن مصداق للإيمان.
الرابع : من خصائص نداء الإيمان أنه واقية من الشك والريب، وهو حرز من الإفتتان بأهل الدنيا، فتنزل الآية القرآنية بالأمر أو النهي لتكون أمناً من مفاهيم الضلالة ، وهو من إعجاز القرآن الغيري وسبيل للفلاح في الآخرة.
لقد تفضل الله عز وجل وعلّم آدم الأسماء في الجنة كما في قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
و(عن أبي رافع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثلت لي أمتي في الماء والطين ، وعلمت الأسماء كما علم آدم الأسماء كلها)( ).
وسأل أحدهم الإمام جعفر الصادق عليه السلام (قول الله عزوجل [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]، ما هي قال: أسماء الأودية والنبات والشجر والجبال من الأرض)( ).
وهبط وهو يعلمها ، وقد تفضل الله عز وجل وخاطب المسلمين والمسلمات تسعاً وثمانين مرة في القرآن بلفظ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وهو نداء من الرب إلى المربوبين.
ويكون النداء بين الناس على أقسام :
الأول : من العالي إلى الداني ، ويحمل صيغة الأمر .
الثاني : من المساوي ويتضمن معنى الطلب .
الثالث : سؤال ودعاء الداني للعالي ، قال تعالى [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي] ( ).
وجاءت نداءات القرآن إلى المسلمين بصيغة الإكرام والرأفة والرحمة وبشارات الإحسان ، وتلك آية في إصلاح النفوس وحث المسلمين على العبادة ، ونشر شآبيب الرحمة واللطف بينهم ، ومع الناس جميعاً.
ففي كل مرة يبدأ النداء بالشهادة للمسلمين بالإيمان ، وتترشح عنه معاني التقوى والصلاح ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ).
ومن عادة العالي أن يأتي نداؤه بصيغة الأمر وعلى نحو الإيجاز والإقتضاب .
وقد لا يتضمن الثناء والمدح على المنادى لا أقل في بدايته ، لصفة العلو التي يحس بها الآمر ، أو لمنع تمادي الأدنى والتابع وتراخيه وتباطئه في الإمتثال والعمل أو خشية إغرائه وتجرئه .
وتفضل الله عز وجل وخاطب المسلمين بصيغ الإكرام ، وقدّم الثناء عليهم قبل الأمر بالفعل الصالح أو النهي عن الفعل المذموم ، وكأن هذا النداء شهادة للمسلمين لإمتثالهم للأوامر الإلهية ، وهو من وجوه إحتجاج الله عز وجل على الملائكة حين أنكروا صيرورة الإنسان خليفة في الأرض , فقال الله لهم سبحانه [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
فمن علم الله عز وجل تفضله بالثناء على المسلمين بصيغة النداء , وتقديم الثناء على الأمر والنهي وتفضله بإعانة ومدد المسلمين بهذا النداء والتكريم .
وورد هذا النداء المبارك في عشرين سورة من مجموع سور القرآن البالغة مائة وأربع عشرة سورة .
وورد نداء الإيمان في سور القرآن من جهة عدد المرات كالآتي :
سورة البقرة : إحدى عشرة مرة .
سورة آل عمران : سبع مرات .
سورة النساء : تسع مرات .
سورة المائدة : ست عشرة مرة .
سورة الأنفال : ست مرات .
سورة التوبة : ست مرات .
سورة الحجر : مرة واحدة .
سورة التغابن : مرة واحدة .
سورة التحريم : مرتان
سورة النور : ثلاث مرات .
سورة الأحزاب : سبع مرات .
سورة محمد : مرتان .
سورة الحجرات : خمس مرات .
سورة الحديد : مرة واحدة .
سورة المجادلة : ثلاث مرات .
سورة الحشر : مرة واحدة .
سورة الممتحنة : ثلاث مرات .
سورة الصف : ثلاث مرات.
سورة الجمعة : مرة واحدة .
سورة المنافقون : مرة واحدة .
وكل هذه الآيات ورد النداء في بدايتها لتفتتح به الآية القرآنية باستثناء آية واحدة كما تقدم [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] ( ) لبيان حقيقة وهي أن الله عز وجل هو الذي بدأ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وهو الذي يدعو إليها ويأمر المسلمين بها ، بالإضافة إلى دلالة الآية على إكرام الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون جامعة لإكرامه وإكرام المسلمين مع التباين الرتبي , ففي الآية مسائل :
الأولى : صلاة الله عز وجل على النبي محمد , وهي رحمته ورأفته به وبأمته , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثانية : صلاة الملائكة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشهادة له بالنبوة وتزكيته .
الثالثة : صلاة المسلمين على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة :الأمر من عند الله عز وجل للمسلمين بالصلاة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص .
الخامسة : ذات الصلاة والتعدد في موضوعها وكيفيتها ومصداقها (عن كعب بن عجرة قال : لما نزلت { إن الله وملائكته يصلون على النبي . . . } . قمت إليه فقلت : السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك يا رسول الله؟ قال : قل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد ) ( ).
لقد أراد الله عز وجل أن تمتلأ الآفاق بنداء ( يا أيها الذين آمنوا ), وكل واحد منها يكون شاهداً لصاحبه وتلاوته له وعمله بمضامينه القدسية بلحاظ أن كل نداء ينبسط ويتعدد بعدد المسلمين والمسلمات .
ومن أسرار بقاء هذا الخطاب صيرورته سبباً لمضاعفة الثواب الذي يأتيه من تلاوة آيات نداء الإكرام ، وعمله بمضامينها القدسية , ومنها الإمتناع عن طاعة الذين كفروا , وإجتناب تقليد الذين كفروا بصدهم عن سبيل الله .
وكل من هذا الإمتناع والإجتناب أمر وجودي يترشح عنه الثواب العظيم .
وهل يكون من معاني تعدد نداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]بعدد المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة مجيؤه شافعاً لصاحبه الذي يتلوه ويعمل بمضامينه وأحكام الآيات التي يرد فيها ، الجواب نعم , وهذا العلم الخاص بنداء الإيمان من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )حينما إستفهموا بصيغة الإنكار عن جعل الإنسان خليفة في الأرض .
ولم يرد النداء[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كفروا ] في القرآن إلا مرة واحدة بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : جاء النداء للذين كفروا في الآخرة ، ولم يرد نداء خاص بهم ولهم في الحياة الدنيا مما يدل على ذلهم وهوانهم عند الله ، قال تعالى [إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً] ( ).
الثانية : مجئ النداء لتعيين الذين كفروا ، وكأن القرآن لم يخاطبهم بالنداء في الدنيا ليتوبوا وكيلا يصروا على الكفر .
الثالثة : إقامة الحجة على الذين كفروا .
الرابعة : سماع الخلائق نداء الله عز وجل للذين كفروا بصيغة الذم والتوبيخ .
الخامسة : بيان عدم إنتفاع الذين كفروا من الإعتذار عن سوء أعمالهم في الدنيا , ومنها قولهم بأن الشهداء لو بقوا معهم في المدينة لم يقتلوا .
السادسة : غلق باب الشفاعة على الذين كفروا والإشعار بأنهم ليسوا أهلاً للشفاعة سؤالاً , وموضوعاً , ومحلاً .
السابعة : عدم قبول إعتذار الكفار , وبيان قانون وهو أن حسابهم وجزاءهم على أعمالهم من غير عفو عنهم .
ومن الإعجاز في نظم القرآن أنه بعد النداء الوحيد للذين كفروا في القرآن جاء نداء الإيمان في الآية التي بعدها بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا]( ), وكأنه بشارة نسخ الكفر في الأرض.
ترى لماذا لم تقل آيات النداء : يا أيها المؤمنون، كما ورد في قوله تعالى[َتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ]( )، فلم تقل الآية (يا أيها المسلمون) .
والجواب من جهات :
الأولى : بيان التفصيل في حال المسلمين بما يفيد الثناء عليهم من وجوه:
الأول : إختيار الإيمان إبتداءً.
الثاني : الثبات على الإيمان.
الثالث : تعاون المسلمين على الإيمان وتجدده والبقاء في مقاماته.
الثانية : إرادة صبغة العموم في النداء ليشمل المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ، فالذي يؤمن ظاهراً بالدعوة الإسلامية وينطق بالشهادتين يتوجه له النداء، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثالثة : ترغيب ضعيفي الإيمان والمنافقين بالإيمان وأداء الواجبات.
ومن معاني ورشحات النداء أنه مقدمة لأمر بفعل أو نهي عن ضده ، لذا فان مدرسة النداء في القرآن دعوة للإمتثال للأوامر الإلهية ، وحث على إجتناب المعاصي والسيئات ليكون من الآيات فيه ترغيب المسلمين بطاعة الله عز وجل لتكون سبيلاً لنيل رحمة الله عز وجل ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) .
ويتضمن هذا الجزء المبارك وهو الخامس والثلاثون بعد المائة وأجزاء تالية أخرى تفسيراً جهتياً للآيات التي يرد فيها نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وهي تسع وثمانون آية، ويختص تفسيرها في المقام بلحاظ موضوعية نداء الإيمان وأسرار ورود النداء فيها والذخائر العلمية المستقرأة منها ، مع موضوعية ترتيبها في نظم القرآن، وأول آية منها هو قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا]( )، وهو مقدمة وتشريع لصيغ المخاطبة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لإصلاحهم لتلقي الأوامر والنواهي القرآنية التي نزلت على نحو التوالي والتعاقب والنجوم .
وهذا البيان الجهتي لا يتعارض مع تفسيرها وفق نظم وسياق الآيات، وهو تأسيس لعلوم وكنوز مستحدثة من القرآن يمكن أن نسميها التفسير الجهتي، بأن تؤخذ جهة معينة من الآية القرآنية مع بيان النكات العلمية في ورودها وتعددها ومواضعها .
وعن ابن عباس قال : يأتي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد , فكان إذا نزل عليه الشئ دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ( ).
ليكون موضع كل آية في نظم القرآن توقيفياً، وكان جبرئيل يعارض ويدارس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن في كل سنة مرة، وعارضه في السنة التي إنتقل فيها إلى الرفيق الأعلى مرتين.
وعن أوس بن حذيفة الثقفي قال : قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وفد ثقيف قال فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى مالك في قبة له , قال مسدد وكان في الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ثقيف .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل ليلة بعد العشاء يحدثنا قال أبو سعيد قائما على راحلته ثم يقول لا سواء كنا مستضعفين مستذلين قال مسدد بمكة فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم ندال عليهم ويدالون علينا فلما كانت ليلة أبطأ عن الوقت الذى كان يأتينا فيه فقلت لقد أبطأت علينا الليلة قال إنه طرأ علي حزبي من القرآن فكرهت أن أجى حتى أتمه .
قال أوس فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف تحزبون القرآن فقالوا ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل وحده( )، ويبدأ المفصل من سورة ق .
قال تعالى[يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ]( ).
حرر في 22 / 3 / 2016
قانون كل آية رحمة
لقد ذكر القرآن رحمة الله في آيات كثيرة , وكل آية يكون تقديرها على وجوه متعددة .
لترغيب المسلمين بالتطلع إلى رحمة الله ، والغبطة بما أنعم به عليهم , ويمكن تسمية الدنيا بأنها (دار الرحمة ) وذات آية البحث رحمة ومنّة من عند الله , وكذلك كل آية في القرآن تكون رحمة من وجوه :
الأول : الآية القرآنية رحمة بذاتها ونزولها .
الثاني : الآية رحمة في رسمها ومضامينها .
الثالث : الآية القرآنية رحمة بلغتها العربية ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ).
الرابع : سلامة الآية القرآنية من التحريف رحمة وذخيرة .
الخامس : بقاء الآية القرآنية في الأرض سالمة من التحريف فمن إعجاز القرآن الذاتي سلامة كل آية من آياته التي تبلغ ستة آلاف ومائتين وثلاثين آية قرآنية من التحريف والتغيير والتبديل وهذه السلامة المتعددة والمتحدة رحمة من عند الله عز وجل .
وهل هي من مصاديق الرحمة التي تذكرها آية البحث بقوله تعالى [وَرَحْمَةٌ]الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن بأن يدل العام على الخاص , ويدل الخاص على العام ، وتستنبط المسائل والقوانين من كل من :
الأول : المعنى العام والجامع لمصاديق الرحمة .
الثاني : المعنى الخاص للرحمة الذي يرد في آية قرآنية مخصوصة أو موضوع أو حكم محدد .
الثالث : الرحمة المستقرأة من الآية القرآنية ، ومع التسليم بأن كل آية قرآنية رحمة ، فهل تنحصر رحمة الله في الآية القرآنية بخصوص نزولها ورسمها وتلاوتها والمعنى الظاهر منها كما في قوله تعالى [كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] ( ) وقوله تعالى [قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا]( ) .
الجواب معاني الرحمة في الآية القرآنية أعم من المنطوق فتشمل المفهوم والدلالة ، وهي مصاحبة للإنسان في حياته وقبره ويوم القيامة ، كما تتصف رحمة الله التي تترشح عن الآية القرآنية بالتجدد والفيض المتصل ، ومنه قوله تعالى[وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( )، من جهات :
الأولى : عدم حصر عاقبة المسلم بالقتل وإن كان في سبيل الله وفيه خير الدنيا والآخرة ، وعن الإمام جعفر الصادق قال (من قتل في سبيل الله لم يعرّفه الله شيئاً من سيئاته ) ( ).
وذكر مع القتل والشهادة موت المسلم على الفراش لغرض الإكرام والثواب .
الثانية : دلالة الآية أعلاه على الوعد من عند الله عز وجل للمسلم بحسن العاقبة بلحاظ نداء الإيمان والإخبار عن وقوع القتل في سبيله تعالى ، وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
الثالثة : ذكر الآية للرحمة التي تتغشى وتنتظر المسلمين بقوله تعالى [ورحمة] وفيه نفي للجهالة وطرد للغفلة عن المؤمنين بالقطع ببشاراتهم بالعفو والمغفرة .
الرابعة : هداية المسلمين لما فيه نفعهم وخيرهم في النشأتين وبيان وجوه التفضيل في الحياة الدنيا وملاكه في الآخرة .
وليس من حصر لمعاني الرحمة المستقرأة والمترشحة عن الآية القرآنية كما أنها لا تختص بذات ومضامين الآية القرآنية , إذ تتجلى من وجوه :
الأول : عطف الآية القرآنية على ما قبلها وما يدل عليه من إتحاد الموضوع والحكم .
الثاني : عطف الآية التالية على ذات الآية ، وما يفيده من المعاني المقتبسة من ذات الآية المعطوف عليها.
وهو من الإعجاز الذي يختص به القرآن بأن تأتي الآية القرآنية بمضامين قدسية ، وتقتبس منها المسائل والقوانين ، ثم تعطف عليها الآية التالية لتترشح معاني جديدة ومصاديق للرحمة من كل من :
أولاً : الآية المعطوف عليها .
ثانياً : الآية المعطوفة على الآية السابقة لها .
ثالثاً : الجمع بين الآيتين المعطوفة والمعطوف عليها .
ومن الإعجاز أيضاً أن ذات الآية القرآنية تكون مرة معطوفة ومرة تعطف عليها غيرها ، باستثناء أول آية من السورة فتكون معطوف عليها ، على فرض شمول آيات القرآن بالعطف على نحو العموم الإستغراقي , وتكون آخر آية من السورة معطوفة على غيرها ، وقد يحصل الإطلاق حتى في هذا المقام كما في الصلة بين خاتمة سورة الفيل [فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ]( ) وأول سورة قريش [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ] ( ) بلحاظ أن اللام أعلاه لام الغاية لبيان فضل الله على قريش وإتصال نعمه عليهم .
وعن الزبير قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فضّل الله قريشاً بسبع خصال .
فضّلهم بأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبده إلا قريش ،
وفضّلهم بأنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون .
وفضّلهم بأنه نزلت فيهم سورة من القرآن لم يدخل فيها أحد من العالمين غيرهم , وهي { لإِيلاف قريش }
وفضّلهم بأن فيهم النبوّة , والخلافة , والحجابة , والسقاية)( ). والمراد من عبادتهم لله عز وجل عشر سنين أي بداية الدعوة , وقبل بيعة العقبة والهجرة إلى المدينة .
الثالث : الإتحاد الموضوعي بين آية قرآنية وآية قرآنية أخرى في ذات السورة أو في سورة أخرى، وما يدل عليه هذا الإتحاد من معاني الرحمة والفضل الإلهي .
ويمكن تشريع قوانين عديدة متفرعة عن هذا القانون ( كل آية رحمة ) منها :
الأول : إنشاء باب جديد في تفسير كل آية وهو (الآية رحمة)، فكما يوجد في هذا التفسير المبارك أبواب متعددة في ذات الآية مثل:
الأول : الإعراب واللغة .
الثاني : سياق الآيات .
الثالث: إعجاز الآية الذاتي .
الرابع: إعجاز الآية الغيري .
الخامس : الآية سلاح .
السادس : مفهوم الآية .
السابع : إفاضات الآية .
الثامن : الآية لطف .
التاسع : إكرام الآية للمسلمين .
العاشر : الصلة بين أول وآخر الآية .
الحادي عشر : الآية بشارة( ).
الثاني عشر : الآية إنذار( ).
الثالث عشر : من غايات الآية .
الرابع عشر : علم المناسبة .
الخامس عشر : يمكن تأسيس علم جديد إسمه : الآية رحمة، ويتضمن هذا العلم وجوهاً :
أولاً : قانون الآية القرآنية رحمة بالمسلمين والمسلمات .
ثانياً : قانون الآية القرآنية رحمة بأهل الكتاب .
ثالثاً : قانون الآية القرآنية رحمة بالناس جميعاً .
وإذا كانت البشارة في الآية من مصاديق الرحمة ، فهل الإنذار من مصاديقها , الجواب نعم ، فقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وأخبر سبحانه بعموم وسعة رحمته وشمولها الخلائق كلها، قال تعالى[وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ]( ).
قانون نداء الإيمان
لقد أثنى الله عز وجل على القرآن فقال [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( )، ومن البيان الكريم مخاطبة المسلمين بصيغة الإيمان، وفيه بيان لتفضيلهم من بين الناس , وبشارة لهم بتوالي النعم، وبعث لأداء الوظائف العبادية.
وبعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة نزلت آيات القتال , ووقعت المعارك بين المسلمين والمشركين، وكانت للدفاع عن بيضة الإسلام , وعن النبوة والتنزيل .
ليكون من رشحات نداء الإيمان تنمية ملكة الصبر عند المسلمين، وتحمل الأذى في مرضاة الله، فتبين كيفية وتعاقب المعارك الأولى للإسلام مضاعفة أعداد جيش المشركين في معركة أحد بالنسبة لمعركة بدر , وفي معركة الخندق بالنسبة لمعركة أحد، ثم أصيب الذين كفروا بالوهن، وعجزوا عن جمع الرجال واستنفار القبائل وحشد الجيوش، وفي مدة تلك المعارك دخل فريق من الناس الإسلام، وأخذ فريق آخر بالتفكر في معجزات أخباره .
وصاروا ينصتون للآيات القرآنية ويتدبرون في أحكامها ودلالاتها، ويستمعون لآيات النداء وهي تخاطب المسلمين والمسلمات [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فيسمعها أهل المدينة والطائف ومكة ، ويتلو الركبان بعض أفراد هذا النداء فتميل القلوب إليه، وترغب النفوس بأن تكون ممن يتلقى هذا النداء، وهو من الإعجاز الذاتي والغيري لنداء الإيمان وأسرار تكراره وتعدده في القرآن .
وعن (عِكْرِمَةَ، يُحَدِّثُ عَنِ ابن عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةً فِي الْقُرْآنِ، يَقُولُ فِيهَا: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ” إِلا كَانَ عَلَي شَرِيفِهَا وَأَمِيرِهَا، وَلَقَدْ عَاتَبَ اللَّهُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فِي غَيْرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمَا ذَكَرَ عَلِيًّا إِلا بِخَيْرٍ) ( ).
لقد أكرم الله عز وجل الإنسان بآلة النطق وشرّع بين أهل الأرض اللغة للتخاطب والتفاهم ، وقطع الطريق على أهل الجحود والضلالة ، فليس لهم أن يقولوا إنهم إخترعوا اللغات والتخاطب , وحتى على القول بأن اللغات تطورت تطوراً فطرياً وتدريجياً بين الناس بالتواصل بين البشر وحال الإجتماع بينهم أو من الإدراك البشري الذي هو أرقى مرتبة من التواصل والمباشرة.
فان اللغة تتقوم بأصل خلق الإنسان وقدرته على الكلام وإخراج الأصوات والحروف المتعددة من مخارجها ، وأقام الله عز وجل الحجة على الناس بذكره لخلقه لآدم وتعليمه اللغة والنطق وتسخير اللسان للبيان والوضوح ، وقضاء الحاجات بأبهى صورة وصيغ الإحتجاج على الملائكة ، قال تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ]( ) .
ليكون هذا التعليم بداية الدعوة إلى الله , ومقدمة لعبادة الناس لله عز وجل بالكيفية التي يريدها سبحانه ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ليكون من إعجاز القرآن بيان قانون الملازمة بين أمور :
الأول : خلق آدم وحواء .
الثاني : قانون تعلم آدم وحواء الأسماء ومفردات اللغة , وصيغ التخاطب.
الثالث : قانون عبادة آدم وحواء وذريتهما لله عز وجل باللسان والجوارح .
الرابع : تلقي الأنبياء التنزيل , وقيامهم بالتبليغ .
أقسام نداء الإيمان
يمكن تقسيم نداء الإيمان تقسيماً إستقرائياً إلى أقسام :
القسم الأول : نداء الأوامر ، أي النداء الذي ورد في القرآن وتعقبه أمر من عند الله ، وهو على جهات :
الأولى : ما يرد بصيغة الأمر , ويمكن تقسيمه إلى وجهين :
أولاً : الأمر المتحد كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ] ( ) .
ثانياً : الأمر المتعدد قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) ويمكن تقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا إصبروا .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا صابروا .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا رابطوا .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله .
وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا] ( ) ، ويمكن تقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا انفروا ثباتٍ .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا انفروا جميعاً .
وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً]( ).
ويمكن تقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا أولي الأمر منكم .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا إن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله .
الثانية : ورود الأمر بصيغة الجملة الخبرية التي ترد في معنى البعث الأكيد على الفعل , كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ] ( ).
الثالثة : ورود صيغة الأمر في الجامع بين الوجوب والندب والإستحباب , وكأن الندب من المجاز الراجح المساوي في سنخية لفظه لماهية الحقيقة عند غياب الراجح الخارجي .
كما يمكن تقسيم معاني نداء الإيمان بلحاظ أقسام الواجب كالواجب العيني مثل قوله تعالى [ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( ) والواجب الكفائي, مثل رد السلام, كما في قوله تعالى[وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا]( )، بلحاظ أن الآية أعلاه خطاب للمسلمين وإن لم تبدأ بنداء الإيمان , وواجب التخيير أو الواجب على الترتيب ، والواجب الموسع والمضيق , والواجب التوصلي أي الذي يراد به الوصول إلى غيره من الأفعال والغايات والذي لا يشترط فيه قصد القربة على فرض وجوده في نداء الإيمان والذي يحصل بمجرد حصول الواجب بخلاف الواجب التعبدي الذي لا يتحقق إلا بادائه بالذات .
وهل الأمر في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ] ( ) من الواجب العيني الذي يجب على كل مسلم ومسلمة , أم من الواجب الكفائي الذي يجزي فيه أداء الفرد من الأهل عن الباقين ، الجواب هو الأول ، وهو من أسرار صيغة العموم ليكون النفع للمسلم من جهات :
الأولى : إنتفاع المسلم من عمله وفعله .
الثانية : ترشح المنافع والأجر والثواب على الأهل من عمل المسلم كالأب والابن والأخ .
الثالثة : إنتفاع المسلم من عمل أهله العبادي وإتيانهم الصالحات .
القسم الرابع : النداء الذي يتضمن الأمر ثم النهي كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ) وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( ) وتقدير الآية على وجهين :
الأول : صيغة الأمر , وتقدير الآية على وجوه , سيأتي بيانها إن شاء الله .
الثاني : صيغة النهي بقوله تعالى [فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى].
القسم الخامس : النداء الذي جاء بالنهي ثم الأمر كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ] ( ) , لبيان قانون وهو أن النهي أمر وجودي , ويأتي العمل بالحسن بعده , وكأن النهي مقدمة ونوع طريق للأمر , وتيسير للإمتثال له .
تفسير قوله تعالى[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) .
وهذه الآية أول آية وفق نظام القرآن يأتي فيها نداء الإيمان ، وتضمنت النهي مما يدل على موضوعيته في بناء صرح الإسلام وتثبيت أحكام الشريعة ، وبيان قانون وهو الثواب العظيم الذي يترشح عن التقيد بأحكام النهي ، وفيه نكتة وهي أن هذا التقيد أمر وجودي , ويصدر عن إرادة وإن كان إمساكاً وعزوفاً عن النهي عنه .
لقد إبتدأ نداء الإيمان في القرآن بالنهي عن قول ( راعنا) لأمور :
الأول : بعث النفرة في نفوس المسلمين من الحرام وما نهى الله عز وجل عنه .
الثاني : النهي مقدمة للأمر ، وتلك آية في أحكام الشريعة والتنزيل.
الثالث : تنمية ملكة الطاعة عند المسلمين وإمتثالهم للأمر والنهي الواردين في القرآن والسنة .
الرابع : من معاني نداء الإيمان التقيد بالنواهي ، وتقديره على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا بأن القرآن ينزل بالنواهي .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بلزوم العمل بأحكام النواهي التي وردت في القرآن والسنة ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
الثالث : يا أيها الذين آمنوا بان التقيد بالنواهي القرآنية حق وواجب .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا بأن الله خصكم وشرفكم بالنواهي القرآنية , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامس : يا أيها الذين آمنوا إجتنبوا ما نهى الله عنه ، ومنه التشبه بالكفار كما في قوله تعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى...
السادس : يا أيها الذين آمنوا أشكروا الله على نعمة النواهي في القرآن.
السابع : يا أيها الذين آمنوا بالجزاء العظيم على التقيد بالنواهي القرآنية .
وجاء بعد النداء في الآية النهي عن قول ومحاكاة غيرهم فيه ، ليكون من معاني النداء تهذيب ألسنة المسلمين ، وجعلها لهجة بذكر الله بلحاظ كبرى كلية وهي أن إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقدمة لهذا الذكر وطريق ومدخل إليه , لتقوم هذا الإكرام بالتسليم بأنه رسول من عند الله ، وأنه [ مَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
وبلحاظ الجمع بين آية البحث والآية أعلاه من سورة آل عمران يتبين قانون وهو تأديب القرآن للمسلمين في عالم الأقوال والأفعال وتهيئتهم وأذهانهم للقاء الذين كفروا من قريش، وتدل كلمة ( راعنا ) على نوع مفاعلة إذ أنها طلب وسؤال للمسلمين من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا يا رسول الله ( راعنا) .
وكان المسلمون يسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم مراعاتهم والإصغاء لهم، وتلقي أسئلتهم وإلحاحهم بصبر النبوة، بغية الإنتفاع الأمثل من حضوره بين ظهرانيهم، ومنهم من هو مهاجر لا يعلم باللهجات الخاصة لأهل المدينة , فيقولون (راعنا) ولكن هذه الكلمة تعني عند فريق من أهل الكتاب السب والشتم ففرحوا بها، وأخذوا يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (راعنا) ويضحكون .
فتفضل الله عز وجل ونهى المسلمين والمسلمات عن هذه اللفظة من الأصل، لبيان السعة والمندوحة في الألفاظ والمعاملات ويكون بلحاظ الفاظ القرآن على وجوه :
الأول : عدم إمكان إتخاذ الفاظ القرآن محلاً للشك والريب.
الثاني : عصمة ألفاظ القرآن من أسباب السخرية.
الثالث : عجز الذين كفروا عن الإستهزاء بالمؤمنين عند تلاوتهم لآيات القرآن.
الرابع : دعوة المسلمين والمسلمات إلى غلق باب السخرية بهم على الذين كفروا.
الخامس : من خصائص المعجزة النبوية مطلقاً التحدي، لذا فان القرآن يتحدى الناس بسلامته من أسباب الإستهزاء والسخرية، وهو من مصاديق [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ]( )، ومن خصائص النهي الوارد في آية البحث مسائل :
الأولى : تنمية ملكة إكرام المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لذا ورد قوله تعالى[لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا]( ).
وعن ابن عباس في الآية قال : يعني كدعاء أحدكم إذا دعا أخاه باسمه ، ولكن وقروه ، وعظموه ، وقولوا له : يا رسول الله. ويا نبي الله ( ).
وسيأتي مزيد كلام في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ]( ).
الثانية : لزوم إحتراز المسلمين ممن حولهم في القول والعمل.
الثالثة : ترك المسلمين العناد والإصرار والإلحاح، فاذا كان هناك لفظ غير مناسب، أو مناسباً ولكن الذين كفروا يسيئون تأويله فعلى المسلمين هجرانه، والإتيان بنظيره.
ويؤدي النظير ذات المعنى والنفع , ولكنه يبعث الخوف في قلوب الذين كفروا لأن الله عز وجل هدى المسلمين إلى إستمرار تقيدهم بأحكام الشريعة مع ترك وهجران ما كان ينفذ منه الذين كفروا بالتعدي أو الإستهزاء أو وضع الحاجز والبرزخ عن العمل والسعي في مرضاة الله عز وجل .
ومن منافع إبتداء الآية بنداء الإيمان وجوه:
الأول : لزوم تقيد المؤمنين بالنواهي التي ترد في القرآن.
الثاني : بيان قانون وهو أن كل نهي في القرآن خير محض , وفيه نفع عام للمسلمين.
الثالث : التنافي والتضاد بين الإيمان وقول (راعنا).
الرابع : بيان التباين بين المسلمين وغيرهم، فهؤلاء قد يقولون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راعنا، أما المسلمون فانهم يتناجون فيما بينهم ليوم مخاطبته بقول (راعنا).
ومن الآيات في المقام أن المسلمين يتلون آية البحث , وهي تنهاهم عن قول راعنا، وكأن كل مسلم ينهى نفسه وأصحابه عن هذا القول عند قراءته للآية القرآنية.
الخامس : الإخبار القرآني عن قانون إتصاف المسلمين بالقول الرشيد , وهذا القول مستقرأ من القرآن وأوامره ونواهيه: وتقدير الآية يا أيها الذين آمنوا تنزهوا عن القول الضار وغير النافع، وهل وقفت الآية عند النهي ، الجواب لا، إذ أنها جمعت بين النهي والأمر في ذات الموضوع .
وهو من إعجاز القرآن , وما فيه من البيان بأن يمنع من أمر مكروه ثم يأمر بالصحيح والنافع، وفيه تأديب للمسلمين في حياتهم اليومية، وبناء صرح الدولة والهداية إلى سبل السلام.
لقد بدأ الإسلام في مكة ثم هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة، وعندما خرجوا إلى معركة بدر كان عدد أصحابه من المهاجرين والأنصار ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، مع تخلف بعض الصحابة في المدينة، ومنهم من إعتذر بعد إنقضاء المعركة وتحقق النصر العظيم للمسلمين فيها بأنه لم يظن بوقوع قتال، وقبل النبي إعتذارهم، لتتعاقب الأيام , فيخرج أكثر من عدد الصحابة من أهل بدر إلى الأمصار أمراء وقادة وأئمة، وهو من الإعجاز التبليغي وإقامة دولة الإسلام وترامي أطرافها، وتعظيم شعائر الله عز وجل , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
لتؤسس آية البحث لقانون من شعبتين :
الأولى : لا تقولوا كذا وقولوا كذا.
الثانية : قولوا كذا ولا تقولوا كذا.
ومن إعجاز الآية إنعدام الفاصلة بين النهي عن قول، والأمر بقول، فحالما نهت الآية عن قول ( راعنا )، جاءت بالأمر بقول وهو[انظُرْنَا] وهل هو من الناسخ والمنسوخ، الجواب لا، لأنه ليس تبديلاً لحكم محل حكم.
والنسخ لغة على وجوه :
الأول : الإزالة والمحو ورفع شئ وإبداله بغيره في ذات الموضوع كما يقال (نسخت الشمس الظل) وانتسخته، ونسخ الشيب الشياب.
الثاني : النسخ بمعنى النقل وإيجاد الشبيه والنظير، كما يقال: نسخت الكتاب.
الثالث : إزالة الشئ مع عدم المجئ ببدل له، كما يقال : نسخت الريح الآثار .
وتناسخ الورثة : موت ورثة وإستحقاق ورثة آخرين , والتركة قائمة لم تقسم بعد .
والنسخ في الإصطلاح : رفع لحكم شرعي بدليل شرعي لاحق له، ليكون في المقام ثلاثة أطراف :
الأول : الحكم المرفوع المتقدم زماناً , وهو المنسوخ.
الثاني : الحكم الرافع واللاحق زماناً , ويسمى الناسخ.
الثالث : الرفع الذي يترشح عن الدليل.
وقد يكون المنسوخ بغير بدل كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ]( )، وعن علي عليه السلام , قال : إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة }( ) كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم ، فكنت كلما ناجيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدمت بين يدي درهماً ، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد فنزلت { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات } الآية ( ).
وهل الأمر الذي يأتي بعد النهي في الآية القرآنية ناسخ له ، الجواب لا، وإن كان الموضوع متحداً كما في آية البحث وأن كلاً منهما يتعلق بالقول لبقاء النهي قائماً بعرض واحد مع الأمر وليس بينهما إنفصال .
ففي كل آن يتوجه النهي للمسلمين عن قول [راعنا] والمنع من مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الكلمة كما يتوجه في كل وقت قول المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنظرنا المفردة بالإستماع له.
وإذا كانت آيات القرآن غضة طرية إلى يوم القيامة فهل آية البحث من الآيات التي يتعلق موضوعها بآيات النبوة وحده ، فبعد إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ليس من خطاب بين المسلمين وبينه إلا الدعاء والصلاة عليه ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] ( ) .
الجواب تبقى مضامين الآية في كل زمان كما تكون شاهداً على أيام النبوة من جهات:
الأولى : تهذيب ألسِنة المسلمين , وبيان قانون وهو أن القرآن يأخذ بأيدي المسلمين لمقامات السمو والرفعة .
الثانية : بيان إكرام الصحابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفضل من الله عز وجل عليهم ، قال تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ..] ( ).
الثالثة : إرتقاء المسلمين في لغة التخاطب فيما بينهم .
الرابعة : أخذ المسلمين الحائطة في صيغ التخاطب مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : إكرام أجيال المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند إستحضار ذكره .
السادسة : زيارة وفد الحاج والمعتمرين لقبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشد الرحال له , عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي.
وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم « من زار قبري وجبت له شفاعتي .
وأخرج الطبراني عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من جاءني زائراً لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقاً علي أن أكون له شفيعاً يوم القيامة ( ).
مجئ الآية بلزوم الإستماع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى [وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا] ( ) وتقدير الآية على وجوه:
أولاً : ولا تقولوا راعنا واسمعوا .
ثانياً : وقولوا أنظرنا واسمعوا .
ثالثاً : وقولوا أنظرنا ولا تقولوا راعنا .
رابعاً : واسمعوا ولا تقولوا راعنا .
وهل يصح التقدير : واسمعوا وقولوا أنظرنا ، الجواب لا ، لأنه بعد السماع يكون الإصغاء والتدبر ، والإمتناع عن الجدال فمن إعجاز آية البحث مجئ النهي أولاً , ثم الأمر وبيان القول الذي يخاطب به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم الإستماع , ليكون من معاني واسمعوا وجوه :
الأول : واسمعوا القرآن ، وأنصتوا إلى آياته ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا] ( ).
الثاني : إسمعوا لتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن في الصلاة .
الثالث : إسمعوا الأوامر والنواهي القرآنية .
الرابع : إسمعوا الأحكام الشرعية من القرآن والسنة .
الخامس : إسمعوا القرآن والأحكام بصيغة الإيمان ، وتقدير آية البحث على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا قولوا أنظرنا .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا قولوا أنظرنا واسمعوا.
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا إسمعوا .
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا للكافرين عذاب أليم .
خامساً : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وللكافرين عذاب أليم.
لبيان أن الذين يستهزئون بالنبوة مأواهم النار .
وقد جاء النهي في آية البحث رحمة بهم في الدنيا وحجة عليهم في النشأتين ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها الناس كونوا كالمسلمين فهم لا يقولون راعنا .
ثانياً : يا أيها الناس قولوا أنظرنا .
ثالثاً : يا أيها الناس إسمعوا , ولما ورد قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا..] فان آية البحث تدل على دعوة الناس لمحاكاة المسلمين في صالح أعمالهم والعمل بالأوامر والنواهي التي جاءت في القرآن ، وهو من أسباب جذب الناس إلى سبل التوبة والصلاح .
ليكون من الإعجاز قانون (دعوة القرآن الناس كل يوم إلى الإسلام ) وهو من الشواهد العقلية على إعجاز القرآن ، وصلته بالناس ، وحضوره في المنتديات ، ونفاذه إلى القلوب ، فآية البحث تقول للناس [إسمعوا] أي إسمعوا آيات القرآن وتلاوتها ، وأحكام الشريعة ومعجزات النبوة ، وإسمعوا ذات لفظ [إسمعوا] الوارد في آية القرآن وتقديره : إسمعوا قوله تعالى [وإسمعوا ] .
السادس : إسمعوا السنة النبوية القولية والفعلية ، فما دامت آية البحث تتضمن النهي والأمر ، فكذا السنة النبوية , وقد نال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة لم ينلها أحد من البشر غيره من أوان خلق آدم وإلى يوم القيامة بقوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
السابع : إسمعوا أحكام القرآن تتلى عليكم .
الثامن : أنصتوا لآيات القرآن وتدبروا فيها واعملوا بمضامينها ، بلحاظ ( واسمعوا) أعم من أن يختص بتلقي حاسة السمع القول ، إنما يشمل العمل بما يُسمع , وتقدير الآية : واسمعوا واعملوا ، لذا أختتمت الآية بذم الكافرين وأن عذابهم أليم لأنهم يسمعون ولا يعملون بما لا يسمعون .
لقد أراد الله عز وجل من المسلمين الإنصات للأحكام والعمل بأحكامها ، ومع أن كلمة [راعنا] نادرة الحدوث , وتتعلق بسبب نزول , إلا أنها وردت مرتين في القرآن ، قال تعالى [وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ] ( ) لبيان مسائل :
الأولى : كل واحدة من لفظ [راعنا] تفسير للأخرى .
الثانية : يفيد الجمع بين لفظي [راعنا] معاني متعددة .
الثالثة : موضوعية نظم وسياق الآيات في بيان لفظ [راعنا].
الرابعة : تقييد آية البحث بأنها خطاب ونداء للمسلمين على نحو الخصوص .
ومن إعجاز القرآن أن هذا النداء ليس برزخاً وحاجزاً يمنع الآخرين من الإنتفاع من مضامينه والموضوع الذي ورد بخصوصه إنما هو ترغيب للناس بالإشتراك في تلقي هذا النداء .
ومن الآيات أن باب دخول الإنسان الإسلام مفتوح إلى يوم القيامة ، وليس من واسطة فيه ، ولا يتوقف على إذن أحد من الناس ، وقد ورد بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ) ليكون من الوحي دخول الإنسان الإسلام بالنطق بالشهادتين ، فكما نفخ الله عز وجل من روحه في آدم وجعله خليفته في الأرض فانه أكرم الإنسان بأن منع من وجود البرزخ والواسطة في هدايته وتوبته وصلاحه ، ولا تستطيع الخلائق أن تحول دون توبته ، حتى في حال التقية فان الله عز وجل يعلم النوايا والمقاصد والسرائر ، لذا قال تعالى [إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ]( ) .
الخامسة : بيان الأضرار الجسيمة من إستدامة قول [راعنا] وصدوره من المسلم وغير المسلم ، إذ تبين الآية أعلاه من سورة النساء أن لفظ [راعنا] تحريف وتعد وظلم وإثارة للشك والريب في مبادئ وأحكام الإسلام .
وكان بعضهم يقول [وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ] ( ) أي اسمع من غير إصغاء أو عمل بما تسمع ) لتثبيط الهمم والإستهزاء بالمؤمنين الذين يتلقون ما يسمعون من الأحكام ، فجاء القرآن ببيان قبح قول [راعنا] وتحذير المسلمين منه , ومن الذين يقولونه .
وتبين الآية نكتة وهي أن قول أنظرنا وإمهلنا وبيّن لنا لا يعني القعود وعدم العمل ، بل لابد من الإنصات والإصغاء للأوامر التي تأتي في القرآن والسنة ، وتلك آية من إعجاز القرآن بأنه يمنع من الكسل ومن سوء الفهم ، فمع ما في الآية من النهي والأمر فأنها بخصوص القول , وإنتقلت إلى الأمر بالسمع .
وبين لفظ [قولوا ]و[أنظروا ] وبين [اسمعوا] عموم وخصوص مطلق ، إذ أن كلمة أنظرنا خاصة وهي مقدمة للسماع الذي هو أعم موضوعاً ودلالة وزماناً ومكاناً .
ولو لم ينظرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء في الأوامر أو النواهي أو الإنبعاث للجهاد .
فهل يجب عليهم أن يسمعوا أم أن الإستماع مقيد بانظارهم الجواب هو الأول ، وهو من إعجاز نظم آية البحث ، وتقديرها فاسمعوا بكل الأحوال سواء أنظركم وأمهلكم الرسول أم لم يمهلكم ، وقد يكون قولهم (انظرنا ) متعلقاً أيضاً بالتنزيل ، وتوالي نزول وبيان آيات القرآن ، لذا جاء الأمر للمسلمين بالإستماع والإصغاء مطلقاً من غير تقييد بحال إبطاء وتأن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
لم يبق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة إلا عشر سنوات إنتقل بعدها إلى الرفيق الأعلى ، وعمره ثلاث وستون سنة ، بيّن فيها أحكام الشريعة ومسائل الحلال والحرام وما يحتاجه الناس إلى يوم القيامة ، فلابد أن يكون أحياناً تتابع بالأوامر والنواهي ، وسنّ الفرائض ، فمثلاً شرّعت الزكاة والصيام في سنة واحدة هي السنة الثانية من الهجرة ، ومن الإعجاز في الآية ثناء الله عز وجل على المسلمين بنعتهم بالذين آمنوا والذي يدل بالدلالة التضمنية على إمتثالهم للنهي الوارد فيها بخصوص قول (راعنا) .
ومن علم الله عز وجل أنهم يمتنعون عنه حالما تنزل الآية فلا يعود له المسلمون إلى يوم القيامة ، ولا يقولون (راعنا) لا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا للأئمة والفقهاء من بعده وليصبحوا منزهين عن منكر القول ، متوجهين إلى الأحكام ويشمل قوله تعالى [واسمعوا] الشهادة من عند الله عز وجل بأن المسلمين يستمعون بآذانهم وقلوبهم مفتوحة لتلقي الأحكام والرضا بالأوامر والنواهي .
وسَمِع : فعل ، وسَمْع : اسم ويأتي مصدراً .
والسمع : حاسة السمع وقوة في الأذن تدرك بها الأصوات ويقال سمَّعه الكلام أي اسمعه الكلام .
وسمّع بفلان : أي فضحه وشهّر به بين الناس ، ويقال جعل نفسه بين سمع الأرض وبصرها : أي صار في أرض قفرة خالية ليس من أحد يسمع كلامه كناية عن الإنفراد والتوحد .
وأم السمع : الدماغ ، وإسترق السمع : إستمع خفية ومن غير أن يعلم المتكلم ، قال تعالى بخصوص السماء [وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلاَّ مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ] ( ) أي أنه يخطف السمع فيعلم بعض الأمور .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول البعثة في مكة يصلي في البيت الحرام , ويتلو آيات القرآن في الصلاة فأخذ المشركون يؤذونه ، ورد ابن عباس (قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي ، تفرقوا عنه وأبوا أن يستمعوا منه ، فكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعض ما يتلو وهو يصلي ، استرق السمع دونهم فرقاً منهم ، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ، ذهب خشية أذاهم فلم يستمع . فإن خفض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لم يستمع الذين يستمعون من قراءته شيئاً . فأنزل الله { ولا تجهر بصلاتك }( ) فيتفرقوا عنك { ولا تخافت بها } فلا تسمع من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك ، لعله يرعوي إلى بعض ما يستمع فينتفع به { وابتغ بين ذلك سبيلاً } ) ( ).
ومن إعجاز آية البحث صيغة الإطلاق في الأمر بالإستماع وفيه بشارة قراءة القرآن علانية وجهراً من غير خوف من المشركين ، ليكون من معاني إسمعوا وجوه :
الأول : الإستماع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قراءته للقرآن .
الثاني : تعلم أحكام الصلاة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : تلقي آداب المناسك والعبادات عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا قال بخصوص أعمال حج بيت الله الحرام (خذوا عني مناسككم) ( ) أي ليس من خوف بعد اليوم عليكم في العمل بسنن الحج , فان قلت قد مرت في تأريخ الإسلام بعض السنوات يخاف فيها حجاج بيت الله , كما حدث في سنة سبع عشرة وثلاثمائة , الجواب لا تقاس الأحكام بالفرد القليل النادر مع أن هذا الفرد توجه له الأمر من عند الله باسماع ولو إستمع لما إعتدى على حرمات المسلمين ، ولما حصل خلاف بينهم.
الرابع : إسمعوا صيغ المكر التي يكيدها الذين كفروا للإسلام فأحذروها وأهلها ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبعث العيون ليعلم أخبار العدو ، وعزمه على القتال وأوان خروجه من بلده.
الخامس : ينمي الأمر من عند الله [وَاسْمَعُوا] المتوجه إلى المسلمين ملكة الجدل وإقامة البرهان عندهم ، لما فيه من الهداية إلى التدبر في المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإستماع إلى مغالطات أهل الشك والريب للرد عليها وإبطالها ، ومنع إفتتان الناس بها .
وورد لفظ [وَاسْمَعُوا] أربع مرات في القرآن( ) وكل واحدة منها يتقدمها حرف العطف (الواو) لبيان عطفها على ما قبلها في آية علمية تبين أن السمع أمر واجب وأن الأصل هو القول والعمل والدعوة إلى الله عز وجل باللسان واليد ، قال تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا …]( ).
وأختتمت آية البحث بالوعيد للذين كفروا ، وتقدير الآية : يا ايها الذين آمنوا للكافرين عذاب اليم ) وفيه دعوة للمسلمين للشكر لله وجل من جهات :
الأولى : الهداية إلى سبل الإيمان .
الثانية : النجاة من مفاهيم الكفر وما يؤدي إليه من العذاب الأليم ، وعن ابن عباس قال (سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الآية { يحول بين المرء وقلبه } ( ) قال يحول بين المؤمن والكفر ، ويحول بين الكافر وبين الهدى) ( ).
الثالثة : تفقه المسلمين في الدين وإحاطتهم علماً بسوء عاقبة الذين كفروا وشدة عذابهم .
الرابعة : دلالة الآية في مفهومها على الملازمة بين الكفر والعذاب الأليم ، ومن الإعجاز في الآية أنها لم تتضمن حصر العذاب بهم ، فلم تقل : والعذاب الأليم للكافرين ) ، وقد وردت آيات أخرى بالوعيد للظالمين والمنافقين والفاسقين , قال تعالى [سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ] ( ) ولفظ (الكافرين) جمع مفرده الكافر ، وفيه بلحاظ آية البحث وجوه :
الأول : إرادة الكافر بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
الثاني : الذي يكفر بالنبوة .
الثالث : الذي يمتنع عن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : الكافر الذي يستهزء بالنبوة ، ويصر على السخرية بقوله تعالى [راعنا].
الخامس : الكافر الذي يحارب الذين آمنوا ويستهزء بالفرائض العبادية .
السادس : الذي يصر على عدم الإستماع لآيات القرآن والتدبر في مضامينها القدسية .
وقد تقدم أنه لو تردد الأمر بين كون كلمة [راعنا] بداية تعني السب أو أنها كلمة عربية , فالصحيح هو الثاني( ) .
وحتى على فرض أنها كلمة غير عربية فان آية البحث تحذر المسلمين من محاكاة غيرهم بالقول الذي قد يأتي بالأذى معه ، لذا ورد نداء الإيمان في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا] ( ) وفيه دعوة للمسلمين لعدم إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون عدم الإيذاء هذا مقدمة لطاعة المسلمين لله عز وجل بلحاظ عدم إجتماع الضدين .
ومع إبتداء آية البحث بنداء الإيمان فأنها أختتمت بذم الذين كفروا والإخبار عمن ينتظرهم من العذاب الأليم .
ومن إعجاز القرآن التفسير الذاتي لكلماته ، ومنع اللبس فيها ، فكلمة [راعنا] غير متداولة في اللغة والمخاطبات العامة ، فمنع الله من سوء التأويل بأن ذكرها مرة أخرى بصيغة البيان والتفسير كما في قوله تعالى في ذم قوم من أهل الكتاب في كيفية خطابهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ] ( ).
(عن ابن عباس في قوله { واسمع غير مسمع } يقولون : اسمع لأسمعت . وفي قوله { وراعنا } قال : كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : راعنا سمعك وإنما راعنا كقولك عاطنا . وفي قوله { لياً بألسنتهم } قال : تحريفاً بالكذب) ( ).
وعن أبي العالية قال ( إن مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضاً يقول أحدهم لصاحبه : ارعني سمعك . فنهوا عن ذلك) ( ).
مما يدل على أن معنى راعنا أنهم يطلبون من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يستمع وينصت لهم فيما يقولون ويشترطون ويسألون ويعتذرون وهذا المعنى في تفسير الآية له دلالات كثيرة ، إذ جاءت الآية ببيان قانون وهو أن الأصل إستماع الناس والمسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا أن يستمع هو لهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( ) .
فمن مفاهيم الآية أعلاه لزوم إصغاء الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بما يبشر به ومقدماته ، والإبتعاد عما نهى وأنذر منه ، فقد بعث الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتستمعوا له وتأخذوا عنه ، وتصدقوا بما جاء به من عند الله ، لا أن تقولوا له إستمع لنا وأرعنا سمعك .
نعم أذنت الآية للمسلمين أن يقولوا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنظرنا وبيّن لنا وخفّف عنا , وبينه وبين راعنا تباين , وليس من تعارض بين معنى الإستهزاء في كلمة [راعنا] أو إرادة وطلب إنصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم .
لقد تبدلت الصلات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم تكن بين طرفين بعرض واحد وليس للمسلمين أن يطلبوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإستماع لهم في آرائهم وعاداتهم مثلما يستمعون للتنزيل ، بل لابد من الإصغاء لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لذا وردت الآية بالأمر باسمعوا ومعناه : إسمعوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا تسألوه الإستماع والإصغاء لكم , وهل هذا الأمر الخاص بالصحابة وأيامهم ، الجواب لا، فهذا الحكم باق ومتجدد إلى يوم القيامة لذا إبتدأت الآية بنداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] وتتعلق كيفية الحكم في الآية بأجيال المسلمين بلزوم صدورهم عن القرآن وإتباعهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم الإجتهاد في المجئ بمذاهب جديدة في الفقه والإجتماع والأخلاق والسياسة مخالفة ومباينة لنهج وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , أو تسخير علوم السنة لأقوالهم ومذاهبهم , وهذا الإجتهاد والتسخير من مصاديق قول [راعنا] الذي نهت عنه الآية الكريمة .
وما يلائم آرائهم وأخذ ما يوافقها وطرح ما يتعارض معها أو مع الأفكار الغريبة والمنقولة ، بل يجب ألا تخرج هذه المذاهب والآراء عن الكتاب والسنة ، وعدم الخروج هذا من مصاديق قوله تعالى [وأسمعوا] .
قانون منافع [انظُرْنَا وَاسْمَعُوا]
لقد تضمنت هذه الآية النهي المتحد والأمر المتعدد ، وتقديرها على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تقول للنبي راعنا .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا قولوا أنظرنا .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا اسمعوا .
لقد منع الله عز وجل المسلمين عن قول [رَاعِنَا] والوقوف عنده حتة على المعنى بأنه طلب الرعاية والتخفيف عنهم في الأوامر والأحكام والواجبات وفي البعث إلى النفير .
إنما إذن الله عز وجل لهم أن يطلبوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إمهالهم وإفهامهم والبيان لهم ، وفيه تشريف للمسلمين ودليل على تلقيهم الأحكام على نحو متتابع وأنهم يؤمنون بهذه الأحكام إلا أنهم سألوا البيان والسعة والمندوحة في فهم هذه الأحكام والتقيد بسننها وآدابها .
وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ومن أسرار نزول آيات القرآن نجوماً وعلى نحو التعاقب في مدة ثلاث وعشرين سنة ، فقد أنظرهم الله عز وجل قبل ان يطلبوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنظارهم ومع هذا لقّنهم الله عز وجل السؤال والطلب بأن ينظرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً .
وكأن بعض الأوامر تنزل وتكون هناك سعة في العمل بها .
لقد منعت آية البحث المسلمين من قول [رَاعِنَا] لبيان قانون وهو لزوم تنزه المسلمين عن قبيح أو غليظ القول مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه نكتة وهي أن الإسلام جاء ليمنع من جفاء البادية والشدة في التخاطب .
لقد أبى الله عز وجل إلا توالي الأوامر والنواهي على المسلمين ، ومجيأها في الكتاب والسنة فأراد سبحانه أن يكون حسن الخطاب والطلب من المسلمين مقدمة لتلقيها ويدل عليه قول [وَاسْمَعُوا] فلابد من الإصغاء والسماع للأوامر والنواهي التي يتفضل بها الله عز وجل على المسلمين فلذا إبتدأت الآية بنداء الإيمان لبيان أن ترك اللفظ الغليظ وما فيه من سخرية وإستهزاء أمر واجب ، وأن الإستماع لآيات القرآن ضرورة .
وتقدير قوله تعالى [لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا] على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا اتركوا لفظ ( راعنا ) في مخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إمتنعوا عن كل قول غير مناسب في الخطاب مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا]( ).
الثالث : لا تقولوا للنبي راعنا لأنه [ مَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
لتبين الآية قانوناً وهو ليس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التخفيف من الأوامر والنواهي التي تأتي من عند الله ، وتقدير الآية كيف تقولون للنبي [رَاعِنَا]وإنما هو مأمور بالتبليغ ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ] ( ).
الرابع : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا لأن الله عز وجل إختار لكم سنخية الخطاب مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما فيه الثواب والأجر .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا خاطبوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وتكلموا معه وأسالوه ولكن بالكيفية المناسبة التي يبينها لكم الله ورسوله .
فمن إعجاز آية البحث أنها لم تكتف بمنع المسلمين من قول [راعنا] إنما ذكرت ما يجب عليهم قوله وهو [أنظرنا ].
لبيان إتحاد الموضوع والمناسبة مع الإختلاف في سنخية القول.
وتبين الآية سؤال الإمهال مع ملازمة الإنصات والإستماع له فلا يصح أن يقول المسلمون أنظرنا وينصرفون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو يتركون ما ينزل من الأوامر والنواهي ، وما يأمر به من صيغ الصبر والمرابطة والدفاع في سبيل الله ، وحضور الصلوات الخمسة .
وتتضمن الآية أمرين :
الأول : قول أنظرنا ، وهل يجب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينظرهم على فرض إرادة معنى الإمهال من الآية ، الجواب لا، من جهات :
الأولى : يقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ الآيات حال نزولها ، وفيها الأوامر والنواهي .
الثانية : لا يقول أو يفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا ما يأمر به الله عز وجل إذ أن سنته شعبة وفرع من الوحي ، وهو من أعظم النعم على المسلمين ، ولم يقل لهم الله عز وجل لا تقولوا أنظرنا لأن الله عز وجل أعلم بالمصالح ودفع المفاسد ، قال تعالى [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ولكنه سبحانه أذن لهم بالقول للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [انظُرْنَا]وفيه نكتة وهي حتى في حال الإستجابة لقولهم هذا فان الأوامر والنواهي لابد وأن تنزل من عند الله ويقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغها ويشاركه المسلمون العمل بمضامينها .
الثالثة : لم تقل الآية (أرجئنا) أو (أمهلنا) لدلالة لفظ أنظرنا على الأجل القريب لأن مدى نظر الإنسان قريب خاصة إذ تعلق بالجماعة وما تنظر له الأمة على نحو العموم المجموعي وبين الإرجاء والإنظار عموم وخصوص مطلق ، فالإرجاء أعم وأوسع لذا إذن الله عز وجل للمسلمين سؤال الإمهال لأمر قريب يكونون فيه منصتين مطيعين لله ورسوله فتترى الأحكام ، وفيه تنمية لملكة الفقاهة عند المسلمين ، وطرد للغفلة والجهالة عنهم ، فلا غفلة مع الإستماع والإنصات للآيات ، ومن معاني الإنظار مجئ آيات قصص الأنبياء والأمم السالفة في القرآن وما فيها من الموعظة والإعتبار وليزين الإنظار بعطر الإتعاظ ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ) .
ومن منافع الجمع بين نداء الإيمان وقوله تعالى [انظُرْنَا]ثبات المسلمين على الإيمان حتى في حال وجود أيام ليس فيها أوامر أو نواهي من جهات :
الأولى : حضور نداء الإيمان عند سؤال المسلمين [انظُرْنَا].
الثانية : مخاطبة وسؤال للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإيمان والتصديق بنبوته وأنه رسول من عند الله .
الثالثة : يدل قول [انظُرْنَا] بالدلالة التضمنية على الوعد للإمتثال , كأن المسلمين يقولون أنظرنا ولله عهد بأننا نعمل بما تأمرنا به ونتجنب ما ننهى عنه .
ومن الإعجاز في نظم آيات القرآن مجئ الآية التالية لقوله تعالى [لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا] بصيغة الجملة الخبرية مع إتصالها وعطفها على هذه الآية ، وصحيح أنها لم تبدأ بحرف عطف كالواو ولكن العطف بين الآيتين يستقرأ من الإتحاد بصيغة الخطاب بين الآيتين ، فكل واحدة منهما تتوجه للمسلمين ، وتقدير الآية التالية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين ..) .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا ما يود الذين كفروا أن تمتنعوا عن قول راعنا في مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الإعجاز أن الذين كفروا يولون عناية بالغة حتى لكيفية التخاطب بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ويتأذون من كيفية إكرام المسلمين له في النداء والصلة ، وكان المسلمون يأخذون قطرات وضوئه تبركاً .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا ما يود الذين كفروا أن تقولوا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [أنظرنا] لأن هذا القول شاهد على حبكم للرسول وسعيكم لتلقي التنزيل وعلوم الوحي منه على نحو الإجمال ، ولتكون آية البحث شاهداً على الإعجاز والرحمة بنزول آيات القرآن نجوماً .
ويتجلى معنى من معاني قوله تعالى [يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ] ( ) بنزول آيات القرآن على نحو التدريج وفي مناسبات الوقائع ، ويختص القرآن في المقام بأنه الكتاب السماوي الوحيد الذي نزل نجوماً ومع هذا قال المسلمون [أنظرنا] رجاء بيان السنة للقرآن .
لبيان قانون من جهات :
الأولى : كل فرد من نداء [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] في القرآن خير ورحمة من عند الله عز وجل.
الثانية : نهي الله عز وجل المسلمين عن قول مخصوص كما في آية البحث فضل عظيم من عند الله وأصل لبناء صرح من الصلة الإيمانية بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بحسن ندائهم ومخاطبتهم له .
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بنداء الإيمان , وأراد الله منهم الشكر له على هذه النعمة , ومنه إجتناب المسلمين قول [راعنا] .
الثالثة : لزوم إقامة المسلمين على الشكر الدائم لنعمة الأوامر والنواهي التي تصاحب نداء الإيمان .
ومن الإعجاز في الآية أنها تضمنت نهياً ثم أمرين متتابعين وورد النهي لقول مخصوص ، وورد الأمر بقول مخصوص مع الإستماع والإنصات لإرادة تسخير المسلم حواسه في طاعة الله ، والسعي لنيل مرضاته ، وهذا التسخير من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ومن خصائص القرآن التحدي , وتأكيد عجز الناس عن الإتيان بمثله ، ومن التحدي في المقام البيان القرآني , وقوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ) .
ومن وجوه البيان في آية البحث وجوه :
الأول : إختصاص المسلمين بالخطاب في آية البحث .
الثاني : إكرام المسلمين بنداء الإيمان وإنفرادهم به .
الثالث : نهي المسلمين عن مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما لا يليق بمقام النبوة ولا بهم .
الرابع : تعليم المسلمين كيف يخاطبون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله [أنظرنا] وورد هذا القول من باب المثال والموضوع الخاص , والمراد الأعم من صيغ ومصاديق الخطاب عامة .
ومن إعجاز القرآن أن آيات النداء الإيمانية في القرآن لا تقف عند الأمر والنهي , وغالباً ما تأتي بجملة خبرية بعدها تتضمن قانوناً أو حكماً مع إمكان الجمع بين النداء , ومضمون هذه الجملة الخبرية سواء كانت خاتمة للآية أو لا ز
وتقدير هذا الجمع [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( )، وفيه مسائل :
الأولى : إخبار الآية للمسلمين والمسلمات في كل زمان بقانون وهو شدة عذاب الكافرين .
الثانية : دعوة الناس جميعاً لنبذ الكفر ومفاهيم الجحود .
الثالثة : ترغيب الناس بالإيمان والإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
الرابعة : بيان التباين بين المسلمين والكافرين ، إذ يتوجه نداء الإيمان للمسلمين , فيبعث الطمأنينة في نفوسهم ، ويهديهم إلى العمل في مرضاة الله , وإجتناب معصيته بينما تختتم الآية بالوعيد والتخويف للذين كفروا .
الخامسة : تفقه المسلمين في الدين والإرتقاء في سلم المعارف الإلهية ببيان حال الكافرين يوم القيامة وشدة العذاب الذي يلاقونه .
السادسة : تقدير نداء الإيمان بلحاظ خاتمة الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا أنذروا الذين كفروا وأدعوهم إلى التوبة والإنابة .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا أبشروا بالأمن والسلامة من العذاب يوم القيامة .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا إن الله يشهد لكم بالإيمان , وهذه الشهادة أعظم واقية من العذاب يوم القيامة .
ليكون من رشحات هذا النداء وجوب قيام المسلمين بالشكر لله عز وجل .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا [عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ] ( ) لبيان أن المسلمين في مأمن من عذاب الكافرين في الآخرة ، فلا يحتج بعضهم بأن فلاناً الذي تاب وآمن كان معهم أو كان سبباً بغوايتهم وضلالتهم .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا للكافرين عذاب أليم إلا أن يتوبوا ويقولوا أنظرنا واسمعوا .
ترى ما هي الصلة بين كل من :
الأول : النهي عن قول (راعنا) والأمر بقول (أنظرنا) .
الثاني : نهي المسلمين عن قول (راعنا) والأمر بالإنصات والإستماع .
الثالث : إقتران الأمر بقول (أنظرنا ) والأمر بالإستماع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وظاهر الآية أن القول فيها نوع مفاعلة بين :
الأول : المسلمون وهم الذين يقولون (راعنا).
الثاني : ذات القول واللفظ (راعنا) .
الثالث : الجهة التي يتوجه لها القول والخطاب .
وقد ذكرت الآية الوجه الأول والثاني أعلاه ، ولم تبين لمن يتوجه الخطاب عند صدوره من المسلمين , والمراد هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقدير الآية على وجوه :
الأول :يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لرسول الله محمد راعنا .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا قولوا لرسول الله أنظرنا .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا إسمعوا رسول الله ، وفي التنزيل [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
ويحتمل قوله تعالى [وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ] في أوانه وجوهاً :
الأول : إرادة عذاب الكافرين في الحياة الدنيا ، وليس له حصر , ومنه القتل والإستئصال كما في معركة بدر , وإنقطاع الهدنة والعهد كما في سورة التوبة ، وعن ابن عباس قال (كان لقوم عهود فأمر الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤجلهم أربعة أشهر يسيحون فيها ولا عهد لهم بعدما أبطل ما بعدها ، وكان قوم لا عهود لهم فأجلهم خمسين يوماً ، عشرين من ذي الحجة والمحرم كله ، فذلك قوله { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }( ) .
قال : ولم يعاهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد هذه الآية أحداً) ( ).
ومنه الإبتلاء بالفقر والفاقة ، كما في توقف تجارة قريش إلى الشام واليمن إذ إنشغلوا بالحروب والمعارك وقتال المسلمين فمثلاً كانت قافلة أبي سفيان التي صارت نوع سبب لمعركة بدر تتألف من ألف بعير محملة بالبضائع وقادمة من بلاد الشام إلى مكة ، وعندما خرج الذين كفروا إلى معركة أحد كان عددهم ثلاثة آلاف رجل ، ومعهم نحو سبعمائة بعير إلى جانب ما ينحرون في الطريق طعاماً للجنود وهذه الخسارة والعجز عن تحقيق الغايات الخبيثة منها من مصاديق قوله تعالى لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ.
لتكون هذه الحسرة على وجوه :
الأول : إنها من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ].
الثاني : إنها برزخ دون إلحاق الذين كفروا الضرر بالمسلمين .
الثالث : هذه الحسرة مقدمة للعذاب الأليم في الآخرة ، وتحذير وإنذار منها ، وكأن هذه الحسرة تلح على الذين كفروا مجتمعين ومتفرقين بنبذ الكفر والضلالة ، ومن أسرار مجئ الآية أعلاه بصيغة الجمع أمور :
أولاً : دعوة المسلمين إلى حث الذين كفروا على السلامة والنجاة من الحسرة الملازمة للكفر , وهذه الملازمة مستقرأة من ذات الآية إذ أخبرت عن مجئ الحسرة إلى قلوبهم وليس من دليل متصل أو منفصل في آية أخرى على مغادرة هذه الحسرة لقلوبهم لتكون من الأمور المصاحبة للكافرين في الحياة الدنيا والآخرة ، فاذا سأل أحد ما هي الأمور التي تصاحب الكافر في الدنيا والآخرة , يكون الجواب هي الحسرة ، فكانت من أسماء يوم القيامة بقوله تعالى [وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ] ( ).
ومن معاني [وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ] بلحاظ مضامين هذه الآية وجوه :
الأول : لمّا إبتدأت آية البحث بالنداء للمسلمين بلغة الإكرام والثناء فان خاتمتها وما فيها من الإنذار تبين حرمان الكافرين من هذه النعمة العظيمة .
ومن إعجاز الآية تأكيدها أن الكافرين هم الذين جلبوا لأنفسهم العذاب الأليم باختيارهم الكفر والضلالة لمجيئها بصيغة اسم الفاعل [الْكَافِرِينَ]أي هم الذين إختاروا الكفر وأقاموا عليه .
ترى ما هي النسبة بين الكافرين والذين كفروا , الجواب قد يقال أن الظاهر عند الدقة العقلية هو العموم والخصوص المطلق ، لذا قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ] ( ).
ولكن النسبة هي التساوي بينهما , لأن المراد من لفظ [الَّذِينَ كَفَرُوا] هو التلبس بالكفر في أوان الخطاب والموضوع مع تبعية الحكم للموضوع .
الثاني : تقدير الآية على جهات :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا بالله للكافرين بالله لهم عذاب أليم .
الثانية : يا أيها الذين آمنوا برسالة محمد للكافرين برسالة محمد عذاب أليم .
الثالثة : يا أيها الذين آمنوا بالملائكة للكافرين بالملائكة عذاب أليم .
الرابعة : يا أيها الذين آمنوا باليوم الآخر للكافرين باليوم الآخر عذاب أليم .
الخامسة : يا أيها الذين آمنوا بالإستعانة بالصبر قربة إلى الله وللكافرين بالإستعانة بالصبر عذاب أليم .
السادسة : يا أيها الذين آمنوا بالإستعانة بالصلاة قربة إلى الله وللكافرين بالإستعانة بالصلاة عذاب أليم .
السابعة : يا أيها الذين آمنوا بأن للكافرين عذاباً أليماً .
أي يأتي عذاب للكافرين بسبب جحودهم وعدم تصديقهم بقانون [وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ].
نداء الأمر والنهي
ويمكن تقسيم نداء الإيمان إلى :
الأول : نداء الأمر , الذي يتضمن صيغة إفعل , وهو على شعبتين :
الأولى : الأمر على نحو القضية الشخصية .
الثانية : الأمر العام , مثل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ] ( ) وتقدير الآية على وجهين :
الأول : النهي وهو على جهات :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله أي مناسك ومعالم الحج ، فقد ورد لفظ الشعائر هنا بما هو أعم من إتيان المناسك كما في قوله تعالى [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا] ( )إذ بينت الآية أعلاه في منطوقها أن كلاً من ذات موضع الصفا وموضع المروة من شعائر الله ، لبيان تعاهدها والحفاظ على قدسيتها وموضوعيتها في الحج .
فان قلت لعل المراد من الشعائر في الآية أعلاه هو الطواف بهما لأن من أفعال الحج والعمرة السعي بينهما ، كما يأتي أحياناً حذف المضاف والإتيان بالمضاف إليه مثل قوله تعالى [وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ]( ) .
الجواب لا ، بدليل أن ذات الآية ذكرت مسألة الطواف والسعي على نحو التعيين ، ولو دار الأمر بين الحقيقة والمجاز ، فالأصل هو الحقيقة إلا مع القرينة التي تدل على الخلاف .
الثانية : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا الشهر الحرام ، أي لا تبيحوا القتل فيه , فصار المسلمون يحجون مع الذين كفروا والأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم , وشهر رجب وقيل خصوص شهر رجب , وقيل ذو القعدة ( ).
الثالثة : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا الهدي أي عموم الهدي وذكرت القلائد لذكر الجزء وإرادة الكل .
الرابعة : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا القلائد ، وفي القلائد وجوه :
أولاً : هو لحاء الشجر من الحرم حينما يريدون الخروج من الحرم يأخذونه فيتقلدونه ليأمنوا ، فجاء النهي عن إقتطاعه وإنتزاعه ليتقلدوه .
ثانياً : كان الحاج إذا قلد هدياً صار محُرماً ، عن ابن عباس.
ثالثاً : كانوا يضعون القلائد على ما يهدى إلى البيت الحرام ضفائر من صوف كيلا يمسها أحد بسوء .
الثاني : نداء النواهي ، وهو النداء الذي إبتدأت به الآية القرآنية وتعقبته صيغة النهي التي تتضمن معنى الإمساك والإمتناع ، وهو على جهات :
الجهة الأولى : النهي المتحد ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ).
الثانية : النهي المتعدد كما في قوله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ]( ).
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : صيغة النهي من وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى .
ثانياً : لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب حتى تغتسلوا .
ثالثاً : ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا أو تتيمموا .
الثاني : صيغة الأمر من وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا تيمموا صعيداً طيباً .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا تيمموا صعيداً طيباً فأمسحوا بوجوهكم .
ثالثاً : فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بأيديكم .
الثالثة : الشرط الجامع للأمر والنهي كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا] ( ).
الثالث : يمكن تقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتهم في الأرض فتبينوا .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في الأرض لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا تبينوا .
الرابع : نداء الشرط وهو النداء الذي إبتدأت به الآية القرآنية وتضمن الشرط ، وهو على شعبتين :
الأولى : الشرط الباعث على الفعل كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثانية : الشرط الذي يتضمن البشارة.
الثالثة : الجملة الشرطية التي تتضمن الإنذار , كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ] ( ).
الجهة الثانية : الشرط الذي يتضمن الزجر والنهي .
من معاني نداء الإيمان وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا هناك طبقة وجيل كانوا قبلكم على الإيمان والتصديق بالله والرسول ، ويخرج بالتخصيص جيل الصحابة الأوائل فليس قبلهم جيل , وهو نوع تشريف لهم .
وهل يمكن أن شطر هذا الخروج إلى شعبتين :
الأولى : خصوص أهل البيت والصحابة الأوائل
بلحاظ أنهم أول الذين آمنوا وصدقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم واتبعوه وتحملوا صنوف الأذى .
وإنطباق صيغة الجمع في [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]على المفرد منهم لأن المؤمن أمة وكما في قوله تعالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ]( ) وحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص أبي ذر بلحاظ قوله تعالى [إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ] ( ) .
الثانية : ليس من جيل أو طبقة قبل طبقة الصحابة .
الجواب لا دليل على هذا التقسيم .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا يجمع بينكم رجالاً ونساءّ الإيمانُ .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا هناك جيل يأتي بعدكم يتصف بالإيمان مثلكم .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا تعاهدوا الإيمان كما تعاهده الذين من قبلكم .
وجاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: اعهد إليَّ. فقال: إذا سمعت الله يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فارْعِها سَمْعَك، فإنه خَيْر يأمر به، أو شَر ينهى عنه) ( ).
وفيه بيان لموضوعية نداء الإيمان في آيات القرآن وأنه فضل من الله لبعث المسلمين على الإنصات والإستماع ويبين الحديث تقسيم آيات نداء الإيمان إلى قسمين :
الأول : الأمر بالخير والعمل الصالح .
الثاني : النهي عن الشر والفعل القبيح .
ومع أن مجموع آيات النداء هي تسع وثمانون آية من مجموع ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية ، فقد جاءت آيات متجاورة تتضمن كل واحدة آية النداء وهي :
الأولى : سورة المائدة الآية 105
سورة المائدة الآية 106 .
الثانية : سورة الأحزاب 69
سورة الأحزاب 70 .
الثالثة : سورة الحجرات 1
سورة الحجرات 2 .
الرابعة : سورة المجادلة 11
سورة المجادلة 12 .
ومن خصائص نداء الإيمان أنه دعوة سماوية لوحدة المسلمين وباعث على الألفة بينهم ، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما يترشح عنه من معاني الأخوة بصيغة الإيمان التي يشير إليها النداء ، لذا قال الله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
ويتضمن نداء الإيمان في مفهومه زجر المسلمين عن الفرقة والإختلاف والتنازع والتباغض لأن هذا النداء سور الموجبة الكلية الذي يجمع المسلمين بصبغة الهداية والتقوى والصلاح ، لذا قال الله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ]( ).
وتتفرع عن قانون نداء الإيمان قوانين كثيرة منها :
الأول : قانون وحدة المسلمين , وقد أصدرنا فتوى بعنوان ضرورة إندماج المذاهب الإسلامية ( ).
الثاني : قانون نداء الإيمان مدد للإمتثال بأحكام الآية التي تأتي فيها .
الثالث : قانون نداء الإيمان عنوان العطف والجمع بين مضامين الآية التي يأتي فيها والآية أو الآيات التي بعدها ، كما في إبتداء آية البحث بذات صيغة الخطاب [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ]وإبتدأت الآية التالية [وَلَئِنْ مُتُّمْ].
الرابع : قانون شهادة الله عز وجل للمسلمين بالإيمان ليكون من معاني الجمع بين قوله تعالى [وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا] ( ) وبين نداء الإيمان نيل المسلمين مرتبة العز والفخر لشهادة الله عز وجل لهم بالإيمان في القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وهل تكون شهادة الله عز وجل للمسلمين بالإيمان متحدة لأن واجب الوجوب بسيط غير مركب وتجزي الشهادة الواحدة من الله أم أن شهادته تعالى متعددة ، الجواب هو الثاني ، فصحيح أن الشهادة مرة واحدة من الله مجزية وفيها خير الدنيا والآخرة ، وهي فخر دائم ومتصل إلا أن شهادة الله للمسلمين بالإيمان متعددة وغير متناهية من جهات :
الأولى : عدد مرات ورود لفظ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]في القرآن وهي تسع وثمانون مرة .
الثانية : في كل مرة يتلو فيها المسلم لفظ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] رشحة من رشحات شهادة الله للمسلمين بالإيمان .
الثالثة : وقوف المسلمين بين يدي الله عز وجل في الصلاة جماعة وفرادى .
الرابعة : إمتثال المسلمين لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإجتنابهم ما نهى عنه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) فلم ترد الآية أعلاه إلا بصبغة الإيمان .
الخامسة : مبادرة المسلمين للإنبعاث إلى ميدان الدفاع عن الإسلام عند سماع قرب الذين كفروا وجيوشهم من المدينة .
السادسة : حرص ومناجاة المسلمين بإجتناب التشبه بالكفار في الصدود عن سبيل الله .
الخامس : قانون نصر المسلمين ، وتحقيق الغلبة والظفر لهم ، ويمكن إستقراء معاني الوعد الكريم من عند الله في خطابه للمسلمين بصفة الإيمان وتقديرها (يا أيها الذين آمنوا إن الله ناصركم ) .
السادس :قانون ترتب الثواب على ذات نداء الإيمان ، فالله سبحانه هو الذي يعطي ويرزق ويهب ويثيب على هباته للناس بلحاظ أن نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] هبة من عنده من جهات :
الأولى : نداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] كلام الله عز وجل الذي يخاطب به المسلمين .
الثانية : نزول نداء الإيمان من السماء إلى الأرض .
الثالثة : قيام جبرئيل وهو من سادة الملائكة بالنزول بنداء الإيمان .
وذكر أن رجلاً قال: يا رسول الله أي الخلق أكرم على الله عز وجل؟ قال : لا أدري . . . ! فجاءه جبريل عليه السلام فقال : يا جبريل أي الخلق أكرم على الله؟ قال : لا أدري . . . ! فعرج جبريل ثم هبط ، فقال : أكرم الخلق على الله جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، فأمَّا جبريل فصاحب الحرب وصاحب المرسلين ، وأما ميكائيل فصاحب كل قطرة تسقط وكل ورقة تنبت وكل ورقة تسقط ، وأما ملك الموت فهو موكل بقبض كل روح عبد في بر أو بحر ، وأما إسرافيل فأمين الله بينه وبينهم ) ( ).
الرابعة : صبغة القرآنية التي يتصف بها نداء الإيمان من وجوه:
أولاً : نزول النداء جزء من القرآن .
ثانياً : تلاوة المسلمين لنداء الإيمان بصفة القرآنية .
ثالثاً : بقاء ودوام نداء الإيمان في الأرض ودخوله كل بيت وسماع أهل المشرق والمغرب له ، فان قلت : وما حال الأمم السابقة للإسلام ونزول القرآن .
الجواب ذات النداء نزل في التوراة بلفظ (يا أيها المساكين ) مما يدل على وجوده أو معناه في الكتب السماوية السابقة فان قلت لا يقول أحد من الأصوليين بالإستصحاب القهقري .
والجواب من جهات :
الأولى : نعم ولكن الأمر ليس من الإستصحاب القهقري .
الثانية : ورود ما يدل على الخطاب للذين آمنوا في التوراة والإنجيل.
الثالثة : عمومات خطابات التكليف ونداء المسلمين في الكتب السماوية وألسنة الأنبياء .
الرابعة : وجود خصوصية ومرتبة سامية للمسلمين الذين آمنوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعل نداء الإيمان وسام شرف وعز لهم في الدنيا والآخرة .
الخامسة : ترشح الأمر والنهي والشرط عن نداء الإيمان بلحاظ الآيات التي ورد فيها .
وكما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا] ( ) .
ومن الإعجاز في نظم هذه الآية مسائل :
الأولى : ورد النداء في هذه الآية متعقباً لآية نداء أخرى ليس بينهما آية أخرى .
الثانية : إتحاد رسم الكلمتين المتجاورتين [آمَنُوا آمِنُوا] ( ) إحداهما بفتح الميم وهي جزء من جملة نداء الإيمان ، أما الثانية فهي فعل أمر جاء بكسر الميم .
الثالثة : ورود مادة كتب في الآية ثلاث مرات ، وقد ورد في آية أخرى اسم الجلالة ثلاث مرات واسم الكتاب ثلاث مرات بقوله تعالى [وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ] ( ).
وجاء الأمر في الآية متكرراً , وتقديرها على وجوه منها :
الأول : يا أيها الذين آمنوا بالله .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا آمنوا برسول الله .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا بالكتاب الذي أنزل على رسول الله وهو القرآن .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا بالكتب التي أنزلت قبل ومنها التوراة والزبور والإنجيل .
بلحاظ ان الكتاب ورد في الآية من سورة النساء للعهد وإرادة فرد مخصوص وهو القرآن ، وأخرى للجنس وإرادة الكتب السماوية السابقة وتعقب الأمر الشرط .
الثاني : صيغة الشرط وهي من جهات :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا من يكفر بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً .
الثانية : يا أيها الذين آمنوا من يكفر بملائكة الله فقد ضل ضلالاً بعيداً .
الثالثة : يا أيها الذين آمنوا من يكفر بكتب الله فقد ضل ضلالاً بعيداً .
الرابعة : يا أيها الذين آمنوا من يكفر برسل الله فقد ضل ضلالاً مبيناًَ .
الخامسة : يا أيها الذين آمنوا من يكفر باليوم الآخر فقد ضل ضلالاً مبيناً .
ومن الإعجاز في هذه الآية أنها ذكرت الإيمان بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين بلحاظ صفة العلم بالإضافة في قوله تعالى [وَرَسُولَهُ] بينما جاء تقييد الضلال البعيد بأنه بالكفر برسل الله على نحو العموم الإستغراقي مع إتحاد الدلالة لأن الرسل بعضهم يبشر ببعض كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ] ( ) .
وتتضمن هذه الآية النهي المتحد ولكنه إنحلالي ويكون على وجوه :
الأول : يا أيها المسلم لا تتخذ الكافر ولياً .
الثاني : يا أيتها المسلمة لا تتخذي الكافر ولياً .
الثالث : يا أيها المسلم لا تتخذ الكافرين أولياء .
الرابع : يا أيتها المسلمة لا تتخذي الكافرين أولياء .
الخامس : يا أيتها المسلمة لا تتخذي الكافرة ولياً .
السادس : يا أيتها المسلمة لا تتخذي الكافرات أولياء .
ومن إعجاز القرآن ورود لفظ المنافقات خمس مرات فيه وورود لفظ المشركات ثلاث مرات ، ولم يرد فيه لفظ الكافرات ولا الكافرة ، قال تعالى [لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ).
وورد لفظ (كافرة ) صفة لجمع المشركين في معركة بدر بقوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ] ( ) ،إذ أن الشرك أعم ، وكل مشرك هو كافر ، وكما في قوله تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ] ( ).
جاءت الآية بالأمر المتحد ولكنه مسألة إبتلائية تلاقي المسلم وكل إنسان كل يوم ، فجاءت الآية لقهر النفس الشهوية والغضبية , وتعقب الأمر الإباحة وأكل الطيبات مع حرمة الميتة والدم ولحم الخنزير [وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ] ( ) لبيان نكتة وهي أن التقيد بالعهود والوفاء بالعقود لا يحجب الرزق ، ولا يمنع البركة ، وأن زاد الإنسان في الدنيا وفي كل الأحوال قليل ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود فيما بينكم .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود مع غيركم .
و(عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أدوا للحلفاء عقودهم التي عاقدتم أيمانهم ، قالوا : وما عقدهم يا رسول الله : قال العقل عنهم ، والنصر لهم ).
الثالث : العقود في المعاملات كالبيع والنكاح .
الرابع : العقود والعهود في الحكم وأمور السلطنة .
وعن محمد بن عمرو بن حزم قال (هذا كتابُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندنا الذي كتبه لعَمْرِو بن حزم حين بعثه إلى اليمن يُفّقِهُ أهلها ويعلمهم السُّنَّةَ، ويأخذ صدقاتهم، فكتب له كتاباً وعَهْداً، وأمره فيه أمْرَه فَكَتبَ:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ من الله ورسوله – – } { ، عهدٌ من رَسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن حزْم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره، فإنَّ الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وأمره أن يأخذ الحق كما أَمَرَهُ، وأن يبشر الناس بالخير، ويأمرهم، ويُعلِّم الناسَ القرآن ويفقههم فيه، وينهى الناس، ولا يمسَّ أحدٌ القرآن إلا وهو طاهر، ويخبر الناس بالذي لهم والذي عليهم، ويلين لهم في الحق، ويشدُّ عليهم في الظلم؛ فإنَّ الله عز وجل كَرِهَ الظلم ونهى عنه، وقال: – { ويبشِّرُ الناس بالجنة وبعملها، وينذر الناس النار وعمَلَها، ويستألِف الناس حتى يفقهوا في الدين، ويعلم الناس معالم الحج، وسننه وفرائضه، وما أمر الله به والحج الأكبر والحج الأصغر، فالحج الأصغر العمرةُ .
وينهى الناس أن يصلي الرجل في ثوب واحد صغيرٍ، إلا أن يكون واسعاً فيخالف بين طرفيه على عاتقيه، وينهى أن يحتبي الرجل في ثوب واحدٍ ويفضي إلى السماء بفرجه، ولا يعقد شعر رأسه إذا عفا في قفاه، وينهى الناس إذا كان بينهم هَيْجٌ أن يدعوا إلى القبائِل والعشائِر، وليكن دعاؤهم الى الله عز وجل وحده لا شريك له، فمن لم يَدْعُ إلى الله عزَّ وجل، ودعا إلى العشائِر والقبائل، فليعطفوا فيه بالسيف حتى يكون دعاؤهم إلى الله عز وجل وحده لا شريك له.
ويأمُرُ الناس بإِسباغ الوضوءِ وجوههم وأيديهم إلى المرافق، وأرجلهم إلى الكعبين، وأن يمسحوا رؤوسهم كما أمر الله.
وأُمِروا بالصلاة لوقتها وإتمام الركوع والخشوع، وأن يغلّس بالصبح، ويهجر بالهاجرة حتى تميل الشمس، وصلاة العصر والشمس في الأرض، والمغرب حين يُقبل الليل، ولا تؤخر حتى تبدو النجوم في السماءِ، والعشاءُ أول الليل، وأمره بالسعي إلى الجمعة إذا نودي بها، والغسل عند الرواح إليها.
وأمَرَهُ أن يأخذ من المغانم خُمس الله عز وجل.
وما كُتبَ على المؤمنين في الصدقة من العقار فيما سقى العين، وفيما سقت السماء العُشْرُ، وما سقت القِرَبُ فنصف العشر.
وفي كل عشر من الإبل شاتان، وفي عشرين أربعٌ، وفي كل ثلاثين من البقر تبيعٌ أو تبيعة، جَذَعٌ أو جَذَعَة، وفي كل أربعين من الغنم سائِمة وحدها شاة؛ فإنها فريضة الله عز وجل التي افترض على المؤمنين في الصدقة، فمن زاد فهو خيرٌ له.
وإنَّه من أسلم مِنْ يهودي أو نصراني إسلاماً خالصاً من نفسه فَدَان دين الإسلام فإنه من المؤمنين، له ما لهم وما عليهم، ومن كان على نصرانيةٍ أو يهوديَّةٍ فإنَّهُ لا يغيَّر عنها.
وعلى كل حالمٍ، ذكرٍ أو أنثى حُرٍ أو عبدٍ دينار وافٍ أو عِوَضه من الثياب، فَمَنْ أدى ذلك فإن له ذمَّة الله عزَّ وجل، وذمة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن منع ذلك فإنَّه عدُوُّ الله ورسوله والمؤمنين جميعاً.
صلوات الله على محمد والسلام عليه ورحمة الله وبركاته)( ).
وجاءت الآية بعد الإباحة بالنهي عن المعصية في حال الإحرام للحج وأختتمت بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ] ( ) لبيان كون الأحكام أعم من أن تتعلق بالمصالح الظاهرة والمنافع الجلية للحواس ، فحكم الله عز وجل بالنسبة لإباحة الطيبات وتعيين المحرمات من وجوه الإبتلاء في الدنيا ، وإختبار الناس في إيمانهم وطاعتهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، وفيه دعوة الناس للصدود عن القرآن والرجوع إليه في تعيين الحلال والحرام.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (يمثل القرآن يوم القيامة رجلاً فيؤتى الرجل قد حمله فخالف أمره ، فيقف له خصماً فيقول : يا رب حملته إياي فبئس حاملي تعدى حدودي ، وضيع فرائضي ، وركب معصيتي ، وترك طاعتي ، فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال : فشأنك ، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار ، ويؤتى بالرجل الصالح قد كان حمله وحفظ أمره ، فيتمثل له خصماً دونه فيقول : يا رب حملته إياي فحفظ حدودي ، وعمل بفرائضي ، واجتنب معصيتي ، واتبع طاعتي ، فما يزال يقذف له بالحجج حتى يقال له : شأنك به ، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يلبسه حلة الاستبرق ، ويعقد عليه تاج الملك ، ويسقيه كأس الخمر) ( ).
وكما في قوله تعالى [وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ] ( ) .
إبتدأت الآية بصيغة النداء العام للمسلمين والمسلمات ليتعقبه النهي المتعدد ثم الأمر ثم عادت إلى الأمر في آية إعجازية , وتقدير الآية على وجوه:
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ) لوجوب إمتناع المسلمين والمسلمات عن تعدي حدود الله وأحكامه ، والشعائر جمع شعيرة ، أي قد أشعر الله أنها حده وفيها طاعته ، وهي من معاني الإيمان.
( وعن ابن عباس في قوله { لا تحلوا شعائر الله } قال : مناسك الحج ) ( ) .
ووردت الآية بالنهي [لاَ تُحِلُّوا]لتتضمن عدم التفريط بأداء فريضة الحج وعدم ترك أي منسك منه ، ولزوم الإمتناع عما نهي الله عنه في الحج من تروك الإحرام .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا الشهر الحرام ).
ولفظ الشهر الحرام اسم جنس وإن جاء بصيغة المفرد لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب) ( ).
وأضيف شهر رجب إلى مضر لأنه كان شهراً حراماً عندهم على نحو الخصوص ، وفيه يزيلون السلاح ، وينزعون الأسنة من الرماح للدلالة على عدم القتال أو المبادرة إليه ، لذا سمي نصل الأسنة وسمي الأصم لعدم سماع قعقعة فيه .
وإجماع العرب على حرمة شهر ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ، وكانت ربيعة تحرم شهر رمضان فلما جاء الإسلام ثبت شهر رجب معها ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ] ( ).
وجمادى الأولى والآخرة هما وحدهما من بين الشهور بصيغة المؤنث , وباقي الشهور القمرية كلها بصيغة التذكير ، وسيأتي البيان في قانون الأشهر القمرية ، ويدل قوله تعالى [وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ]على أن نشوء وبناء دولة الإسلام وصيرورة المسلمين في منازل الغزو والهجوم والمبادرة بالبطش بالكافر ، لذا نهاهم الله عز وجل عن إستباحة الأشهر الحرم ، لتكون هذه الأشهر رحمة من عند الله بالناس جميعاً .
(وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال :كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت ، وقد اشتد ذلك عليهم ، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة ، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصد هؤلاء كما صدنا أصحابنا ، فأنزل الله { ولا يجرمنكم . . . . } الآية) ( ).
ولا ينحصر موضوع رحمة الله بالأشهر الحرم بخصوص الأمن من القتل على الكفر بل يشمل دعوتهم للإسلام ، والمندوحة في تدبرهم بوجوب الإيمان ونبذ الكفر .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا الهدي .
وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا بأن الحج فريضة .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا بأن في الحج مناسك .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا حجوا البيت الحرام ، ولا تفرطوا فيه وفي مناسكه ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) .
وهل آية البحث من سورة المائدة من آيات الحج ، الجواب نعم لأنها تتضمن أحكامه وتبين سننه ، وتزجر عن تركها .
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (خذوا عني مناسككم) ( ) وقد بيّن صلى الله عليه وآله وسلم أحكام الهدي بما لا يقبل اللبس والترديد .
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا تفقهوا في أحكام الحج وتقيدوا بشرائط الهدي ، وينقسم الحج إلى أقسام :
الأول : الحج الواجب , وهو الذي يجب على العبد حسب الحكم الشرعي ، وهو على وجوه منها هدى التمتع والقران ، وهو الدم الواجب عند الجمع بين العمرة والحج في السفر الواحد ، قال تعالى [فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ]( ).
والحج القارن بالتمتع لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، فيجب عليه [فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ]( ) ومنه فعل أحد تروك الإحرام ، الذي تكون كفارته دماً وشاة وقد بيناه في رسالتنا العملية مناسك الحج .
ويسمى دم إرتكاب المحظور من غير عقد النكاح وقتل الصيد، كما في حلق الرأس ولبس المخيط أو إستعمال الطيب ، فالواجب فيه تخييري بين أمور :
الأول : ذبح شاة .
الثاني : إطعام ستة مساكين ، كل مسكين مدان أو مدّ واحد وهو كيلو غرام إلا ربع .
الثالث : صيام ثلاث أيام .
قال تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ] ( ) وهناك كفارة الوطئ والإستمتاع وجزاء الصيد وقتل المحرم له .
الثاني : الحج الواجب بالعرض , كالنذر والعهد .
الثالث : الحج المستحب والذي يكون في عام لاحق ومتأخر عن الحج الواجب , بلحاظ إتحاد فرض الوجوب في الحج , فتجزي مرة واحدة منه.
الرابع : الحج عن الغير تبرعاً أو إجارة ونحوها , وإجماع علماء الإسلام على صحة قضاء الحج عن الميت .
وللهدي شروط منها أن يكون من بهيمة الأنعام ( الغنم ، البقر، الإبل ) ولها سنّ معينة ولا تجزي العوراء الظاهر عورها والعرجاء والمريضة البائن مرضها والعجفاء التي لا مخ لها .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وكل منى منحر، وكل المزدلفة موقف ، وكل فجاج مكة طريق ومنحر) ( ) .
وأوان الذبح بعد الرمي يوم النحر وعند إرتفاع الشمس قدر الرمح ، ويمتد في أيام التشريق ، وهي اليوم الحادي عشر ، والثاني عشر ، والثالث عشر ، من شهر ذي الحجة.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (كل أيام التشريق ذبح) ( ).
الرابع : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا القلائد ) .
القلائد جمع قلادة التي توضع في العنق من فضة أو غيرها ، وفي الإصطلاح العلامة التي توضع على الهدي ليعرف أنه هدي، وذكر الحال وإرادة المحل أي المقصود الهدي والمقلد بها لأنه (إذا قلد هديه صار مُحرِماً) ( )وهو المروي عن ابن عباس .
وذكر ان الآية تتضمن النهي عن محاكاة الذين كفروا إذ كانوا يأخذون لحاء الشجر إذا أرادوا الخروج منه ، فيتقلدونه ليأمنوا ، فنهوا أن ينتزعوا شجر الحرم فيتقلدوه ) .
وقد تضمن قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا] ( ) بنهي المسلمين عن تقليد الذين كفروا في حثهم على القعود عن الجهاد في سبيل الله ، ومن إعجاز الآية أنها تبين إختصاص وصدور هذا الحث من الذين كفروا لمنع المسلمين من الدفاع عن الإسلام والنبوة ولم يتوجه منعهم إلى الذين كفروا .
ولم يطلب الذين كفروا والمنافقون من كفار قريش عدم غزو المدينة ، بل ذهب فريق منهم إلى مكة لتحريض الكفار على الهجوم والغزو .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا قتل أو منع الذين آمين البيت الحرام ) .
وقيل أن مضامين هذه الآية منسوخة بآية السيف وهي [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ] ( ) وذكر أن قوله تعالى [وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ] ( ) (نزلت بسبب الحطم بن هند البكري أخي بني ضبيعة بن ثعلبة وذلك أنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً لأصحابه : يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان فجاء الحطم فخلف خيلاً خارجة من المدينة ودخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما عرض رسول الله عليه السلام ودعاه إلى الله قال : أَنظر ولعلي أسلم وأرى في أمرك غلظة ولي من أشاوره .
فخرج فقال النبي عليه السلام لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر ، فمر بسرح من سرح المدينة فساقه وانطلق به وهو يقول :
قد لفها الليل بسواق حطم … ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم … باتوا نياماً وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم … خدلج الساقين خفاق القدم
ثم أقبل الحطم من عام قابل حاجاً وساق هدياً فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث إليه . وخف إليه ناس من أصحاب النبي عليه السلام)( ).
وتبين الآية حرمة البيت الحرام ، وما يفيده حجه وعمارته من أسباب الهداية والصلاح , والآية من مصاديق العموم في جعل البيت للناس جميعاً [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] ( ).
ولما جعل الله عز وجل حرمة للبيت , وللأشهر الحرم فانه تعالى أمر المسلمين بتعاهدها مجتمعين ومتفرقين ، وهو من الإعجاز في آية [لاَ تُحِلُّوا].
أن لفظ [لاَ تُحِلُّوا] لم يرد إلا في الآية أعلاه وبصيغة النهي لبيان موضوعية الآية والأحكام الواردة فيها ، ويدل قوله تعالى [وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ] وأسباب النزول أعلاه على الأمن والسلامة لمن يـأتي لحج بيت الله الحرام وهو في الطريق إليه ، وهل في الآية تأديب للمسلمين بعدم صدّ وفد الحاج والقتل على الخصومة والشقاق القبلي أو المذهبي , الجواب نعم من باب الأولوية القطعية .
فاذا كان الأمر ينزل من عند الله عز وجل بترك الذي يزور ويعمر البيت من الذين كفروا فانه سبحانه يدعو المسلمين إلى حفظ حرمة البيت فيما بينهم ، وكما يكون البيت الحرام وعمارته وسيلة لهداية الناس فانه آية عبادية مباركة لتنمية ملكة الأخوة الإيمانية بين المسلمين ، ونبذ الفرقة والخلاف .
ومن الإعجاز في الآية تقييد نية وقصد الذين يأتون البيت الحرام بأنه لطلب الفضل من الله ، وإرادة مرضاته تعالى .
السادس : يا أيها الذين آمنوا لا يحملنكم بغض وعداوة قوم لكم على التعدي بخصوص حرمة البيت مطلقاً .
لبيان مكارم الأخلاق التي يدعو إليها القرآن ليتقوم بها الطريق إلى البيت الحرام وصولاً إلى نشر مفاهيم الصلاح في الأرض كما في مسألة الزجر والنهي عن الجدال وقبيح القول في موسم الحج بقوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ] ( ) لتكون الأخلاق الحميدة سنخية ثابتة عند المسلمين ثم إنتقلت الآية إلى الأمر من وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا تعاونوا على البر ) وهو أداء الواجب وفعل الخيرات والأمر بالمعروف .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا تعاونوا على التقوى ) وهي الخشية من الله وإجتناب المعاصي والسيئات , وينحل الأمر في الآية إلى وجوه :
أولاً : يا أيها المسلم إفعل البر .
ثانياً : يا أيها المسلم تعاون مع إخوانك على البر .
ثالثاً : يا أيها المسلم إتق الله ، قال تعالى [وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ] ( ).
رابعاً : يا أيها المسلم تعاون مع المؤمنين على التقوى والتوقي من المنكرات .
(عن وابصة قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا لا أريد ألا أدع شيئاً من البر والإثم إلا سألته عنه ، فقال لي : يا وابصة أخبرك عما جئت تسأل عنه أم تسأل؟ قلت : يا رسول الله أخبرني! قال : جئت لتسأل عن البر والاثم ، ثم جمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري .
ويقول : يا وابصة استفت قلبك ، استفت نفسك ، البر : ما اطمأن اليه القلب واطمأنت اليه النفس ، والإثم : ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك) ( ).
وهل يدل هذا الحديث على إرادة عموم الناس ، وأن كل فرد يستفتي قلبه ، الجواب لا ، إنما يدل على إرادة خصوص المؤمن من بين الناس ، بلحاظ ملكة الإيمان التي يتصف بها ، لذا قيد إسلام الأعراب بقوله تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
الثالث : يا أيها الذين آمنوا تعاونوا على البر والتقوى مجتمعين .
السابع : بعد ورود الأمر بالبر والتقوى عادت الآية إلى النهي ، وتقديره : يا أيها الذين آمنوا لا تعاونوا على الإثم ) وهو الذنب والمعصية بين العبد وبين الله ، وبينه وبين الناس ، وذكرت الآية الصفة والعاقبة , وأرادت الفعل الموصوف والعاقبة .
ومن الإعجاز في الآية أنها تمنع عن الفعل القبيح شرعاً وعقلاً وتنهى عن التعاون فيه , وتبين القبح الذاتي للتآزر لإرادة فعل الباطل .
وأيهما أكثر ضرراً على الناس فعل المعصية أم التعاون فيها ، الجواب هو الثاني ، وهو من إعجاز القرآن بأن يذكر مصاديق المعصية العامة التي تضر بالمجتمع , وتكون نوع برزخ دون صدق الإستقامة .
وقد تفضل الله عز وجل ورزق المسلم تلاوة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) عدة مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني ليكون من مصاديق الهداية وصيغة الجمع في الآية أعلاه تعاون المسلمين على البر والتقوى إمتناعهم عن التعاون على الإثم والعدوان .
الثامن : يا أيها الذين آمنوا لا تعاونوا على العدوان ) ويضعف التدبر والتفكر مع تأثير الجماعة ، فيندفع الإنسان معها فجاءت الآية معجزة في علم الإجتماع ولتؤسس مدرسة في الإخلاق الحميدة ، وتنهى المسلمين مجتمعين ومتفرقين عن العدوان والتعدي .
ومن الدراسات ما أشارت إلى تأثير أسباب البيئة في وقوع العدوان كالطقس الحار والرطوبة والضوضاء وآية البحث واقية منها جميعاً لأنها تنفذ إلى أعماق النفس الإنسانية وتصاحب الإنسان في أحواله كلها ، وتكون حاضرة مع جماعة المسلمين ، فتكون لها موضوعية في الرأي والقول بالمعروف أما آية البحث فغنها تمنع من الإحباط الشديد الذي يؤدي إلى الإنتقام والعدوانية ، فعندما يستمر القتل بأفراد الجيش يسعون للإنتقام والتعدي في الرد فأخبرت آية البحث بملازمة النعم للقتل في سبيل الله بما يبعث السكينة في نفوس المسلمين ، ولا يتناجون إلا بالمعروف ويستبشرون بالمغفرة والرحمة التي تترشح عن القتل في سبيل الله لذا فحينما يدخل الكافر الإسلام يستقبله المسلم بالإكرام والسعادة وإن كان قد قتل أباه أو أخاه المؤمن .
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ثم يتوب الله على القاتل فيقاتل فيستشهد ) ( ).
ويحمل الضحك هنا على القبول والرضا ودخول المتقاتلين الجنة لأن الله عز وجل منزه عن التغيير , فلابد من التاويل , كما في قوله تعالى [يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ] ( )أي قوته وسلطانه .
الرابع :من مصاديق تقدير الأمر في الآية : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ) لقوله تعالى في خاتمة الآية الثانية من سورة المائدة [وَاتَّقُوا اللَّهَ] والذي ورد خمساً وخمسين مرة في القرآن , ويمكن أن تؤلف عشرات المجلدات بخصوص هذا الأمر وبلحاظ نظم الآيات والسياق الذي ورد فيه هذا اللفظ ، ليأتي هذا الأمر كالدعاء والحصن الذي يحث المسلمين على العمل بأحكام هذه الآية ويكون عضداً لنداء الإيمان الذي إبتدأت به الآية ، فمن إعجاز الآية القرآنية أن بعضها يعضد بعضاً .
ثم أختتمت الآية بقانون [أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] لحث المسلمين على التقيد بأحكام الآية , وبعث السكينة في نفوسهم بأن الله عز وجل ينتقم من الذين كفروا .
والشرط الباعث على الفعل في النداء الذي إبتدأت به آية الوضوء بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ ..] ( ) لبيان أمور :
الأول : وجود مقدمات للصلاة .
الثاني : لزوم التهيئ والإستعداد لأداء الصلاة .
الثالث : من شرائط الصلاة القيام لها والندب إليها .
وتبين الآية قانوناً وهو أن الإيمان عبادة بأفعال مخصوصة , ومع مقدمة لها تتعلق بالطهارة والوضوء ، لتكون عنوان التزكية والطهارة من دنس الذنوب .
وقيدت الآية القيام بأنه لمخصوص الصلاة للبيان ومنع الحرج في الدين وعدم التشديد على النفس أو الحرص على البقاء على الطهارة في ساعات النهار كلها ، وإن كان الوضوء بذاته أمراً مستحباً ، ولكن لغة الشرط في الآية تفيد الوجوب , وتقدير مفهومها : يا أيها الذين آمنوا ليس لكم إذا قمتم إلى الصلاة ألا تغسلوا وجوهكم ..) .
ويبين أول الآية الملازمة بين أمور :
الأول : الإيمان .
الثاني : القيام إلى الصلاة .
الثالث : الإستعداد لأداء الصلاة .
وبعد الشرط المتحد بقوله تعالى [إِذَا قُمْتُمْ] جاء الأمر المتعدد من وجوه :
الأول : الأمر الإلهي للمسلمين بغسل وجوههم لأداء الصلاة وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا أغسلوا وجوهكم إذا قمتم إلى الصلاة ومن الإعجاز أن يبدأ الغسل بالوجه لأنه أشرف أعضاء الإنسان وبه يستقبل العبد ربه في الصلاة وبه تؤدي أكثر أفعال الصلاة فبه يستقبل القبلة وبه يسجد على الأرض ويتلو القرآن بلسانه ، وكأن غسل الوجه بشارة النضارة يوم القيامة ، قال تعالى [وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ] ( ) .
الثاني : ثم ذكرت الآية الأيدي مع أن الغسل بها ، وتقدير الآية يا أيها الذين آمنوا أغسلوا أيديكم إذا قمتم إلى الصلاة ، أي أغسلوا أيديكم بأيديكم ) ، وفيه إشارة إلى التوبة والإستغفار ، وبيان لقانون وهو أن الصلاة طريق التوبة ووسيلة حث ومحو الذنوب .
وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ( إن مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات) ( ).
ومن الإعجاز تقييد الآية لموضوع حد غسل الأيدي وهو إلى المرافق ، وهي جمع مرفق ، وهو الموصل بين الساعد والعضد .
ومن خصائص آية الوضوء ذكرها لغسل الوجه على نحو الإطلاق من غير تقييد بحد مخصوص ، بينما قيدت غسل اليدين بأنه إلى حد المرفق .
الثالث : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا إمسحوا برؤوسكم إذا قمتم إلى الصلاة ) لإظهار الذل والرق لمقام العبودية ، والمسح إمرار اليد برطوبة ماء الوضوء على الرأس .
ويقال مسح يده على رأس اليتيم : عطف عليه .
ومن الإعجاز أن المسح فيه أطراف :
الأول : الماسح .
الثاني : الممسوح .
الثالث : المسح .
وهو كالغسل يقوم به المكلف نفسه لينال الأجر والثواب في الواجب ومقدمته .
وتقدير نداء الإيمان : يا أيها الذين آمنوا أني أشهد لكم بالإيمان والتصديق ) ووردت الآية بصيغة الإطلاق وحذف المتعلق فلم يبين النداء بماذا آمن المسلمون , ولكن الآيات القرآنية تبينه منها قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( )إذ توكد الآية أعلاه على وجوب الإيمان من جهات :
الأولى : الإيمان بالله عز وجل خالقاً وإلهاً ومالكاً للسموات والأرض .
الثانية : الإيمان بالصفات الحسنى المطلقة لله عز وجل .
الثالثة : الإقرار بأن الله عز وجل هو الذي يحيي ويميت .
ومن وجوه تقدير آية البحث:
الأول : ولئن قتلتم في سبيل الله بإذن الله .
الثاني : ولئن نجوتم من القتل في المعارك بإذن الله.
الثالث : ولئن متم بإذن الله .
الرابعة : التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : تعيين الخصال الحميدة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة : الإقرار بإيمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكلمات الله التامات ووجوب الإيمان بها .
السابعة : الإيمان بإن إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واجب .
وفي قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( )وجوه للإيمان منها :
الأول : الإيمان بأن الركوع حق .
الثاني : وجوب السجود لله عز وجل , وللسجود معنيان :
أولاً : المعنى اللغوي وهو الخضوع والتطامن .
ثانياً : السجود بمعناه الإصطلاحي وهو وضع الجبهة على الأرض كركن من أركان الصلاة .
ومن وجوه تفسير السنة للقرآن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) لتعيين واجبات ومندوبات الصلاة وحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بأمره بإتباعهم ذات نهجه , وفيه مصداق لأدائهم الواجبات العبادية ونجاتهم في النشأتين .
الثالث : بيان أن سجود المسلمين لله عز وجل وحده ، وأنهم لا يسجدون لغيره وكل ما سواه مخلوق ومنقاد لأمره، قال تعالى [لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ] ( ).
الرابع : الإيمان بأن عبادة الله عز وجل حق وواجب .
الخامس : وجوب عمل الصالحات وأداء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لإرادة الوجوب في قوله تعالى [وَافْعَلُوا الْخَيْرَ] وورد لفظ الخير لإرادة اسم الجنس الجامع للواجب والمستحب من العمل الصالح والمعروف .
السادس : يدل قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] الذي أختتمت به الآية أعلاه بالدلالة التضمنية على التسليم باليوم الآخر ووقوف الناس بين يدي الله للحساب ، وترتب الجزاء يوم القيامة على عمل الإنسان في الدنيا .
ويمكن تأسيس قانون وهو في كل آية من القرآن بيان لواجب إيماني سواء في منطوقها أو مفهومها ، لذا فهناك ملازمة بين أمور:
الأول : الإيمان والتوحيد والتنزه عن الشرك ، قال تعالى [لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ] ( ).
الثاني : الإيمان وعبادة لله ، فمع النطق بالشهادتين يلزم إتيان الواجبات .
الثالث : الملازمة بين الإيمان وإجتناب ما نهى الله عنه .
ويمكن تسمية الحياة الدنيا بأنها (دار الإيمان ) وصحيح أن مجموع أوقات الصلاة اليومية لا تستوعب إلا أقل من ساعة من مجموع ساعات النهار والليلة الأربع والعشرين إلا أن واجبات ومعاني الإيمان تنبسط على آنات ساعة اليقظة، لذا تفضل الله عز وجل وجعل الآيات الكونية قريبة من الناس.
وقد تقدم في الجزء السابق قانون (منع الشماتة بالمسلمين)( )، وفي نداء الإيمان بلحاظ هذا القانون مسائل :
الأولى : كل خطاب من الله عز وجل للمسلمين بنداء الإيمان عز لهم، وحرز من الشماتة بهم.
الثانية : يبعث تقيد المسلمين بالأوامر والنواهي التي تأتي مع نداء الإيمان الحسرة في قلوب الذين كفروا.
الثالثة : يبعث نداء الإيمان المسلمين على العمل، ويحثهم على التقوى وإتخاذها جلباباً، فلا يخشون معها الشماتة.
ويمكن تأسيس قانون متفرع عن قانون (نداء الإيمان) وهو (نداء الإيمان واقية من الشماتة بالمسلمين) ونأخذ كل آية قرآنية تتضمن نداء الإيمان والتي عددها تسع وثمانون آية لتبين دلالتها على دفع الشماتة عن المسلمين , وتؤلف علوم هذا البيان بمجلدات لتكون قاعدة بيانية لعلوم إضافية وقوانين أخرى تتفرع عنها يتولى القيام بها العلماء في الأجيال القادمة.
فعلى سبيل المثال قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
وفي دلالتها على دفع الشماتة عن المسلمين وجوه :
أولاً : توجه النداء من عند الله عز وجل للمسلمين والمسلمات بصفة الإيمان سبب لدبيب الغيظ والحنق إلى نفوس الذين كفروا لما فيه من الشهادة للمسلمين والمسلمات بالإيمان، وفي التنزيل [وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا]( ).
ثانياً : تضمنت الآية الأمر للمسلمين بتذكر نعمة الله عز وجل، وفيه مسائل :
الأولى : الأمر بتذكر نعمة الله نعمة أخرى.
الثانية : حث المسلمين على إستحضار نعمة الله عز وجل شاهد على اللطف الإلهي بالمسلمين.
الثالثة : الأمر للمسلمين بتذكر نعمة الله عز وجل باب لتوالي النعم عليهم.
لقد كانت الرابطة التي تجمع الناس على نحو الطوائف والفرق والجماعات هي القبيلة والعشيرة ونحوها وقد قسمت الأنساب حسب الترتيب إلى أقسام منها :
الأول : الشعب
الثاني : القبيلة . وأخذ لفظ القبيلة من قبائل الشجرة وهي أغصانها .
الثالث : العمارة بكسر العين .
الرابع : البطن .
الخامس : الفخذ .
السادس : العشيرة .
السابع : الرهط .
الثامن : الأسرة .
التاسع : العترة .
العاشر : الذرية .
وهناك أنساب أخرى منها النسب إلى الجد كما يقال الهاشمي ومنه النسب إلى القبيلة بالولاء (كسيبويه، يقال له الحارثي؛ لأنه مولى بني الحارث بن كعب بن عمرو بن خالد بن أدد، ذكره السِّيرافي) ( ).
ومنه النسب إلى البلد والوطن والمدينة ، ومنهم من ينسب إلى لباسه إذا كان متميزاً به مثل الكسائي , ومنهم ينسب إلى اسم أبيه خاصة أو اسم أمه ، وجاء الإسلام ليجعل أخوة الإيمان هي الأولى والأمر المقدم في حياة الناس , ونزل القرآن بتوثيق هذه الأخوة من جهات :
الأولى : نزول الخطاب للمسلمين بصيغة وصفة الإيمان .
الثانية : تكرار نداء [يا أيها الذين آمنوا] في القرآن وكل واحد منها دعوة للمسلمين للإتحاد والتعاون بصفة الإيمان وتثبيت مناهجه وسننه .
ومن إعجاز القرآن أنه مع كثرة ورود نداء الإيمان فيه فانه لم يتكرر في آية من آياته لبيان تغشي معانيه لمضامين الآية كلها , ومضامين الآيات الأخرى التي تعطف عليها .
الثالثة : ما يتعقب نداء الإيمان من الأمر أو النهي الذي يتصف بصبغة العموم الإستغراقي والمجموعي ، فكل مرة يرد فيها نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] يتوجه الخطاب إلى كل مسلم ومسلمة على نحو الإستقلال والإشتراك مع غيره من المؤمنين
الرابعة : دلالات العطف بين الآيات وتعلق الموضوع بذات نداء الإيمان كما في آية البحث التي وإن لم يرد فيها هذا النداء ولكنها معطوفة عليه في مضامينها .
ولم تختص صيغ دعوة القرآن المسلمين للوحدة والتآخي بنداء الإيمان بل تأتي على وجوه منها :
الأول : كل أمر في القرآن دعوة للأخوة الإيمانية بين المسلمين وندب إلى التأدب بأخلاق القرآن .
ويأتي هذا الأمر أحياناً بخصوص الوحدة والأخوة بين المسلمين بلباس التقوى .
الثاني : كل نهي متوجه إلى المسلمين في القرآن دعوة للأخوة بينهم والتعاون في إجتناب المعاصي والسيئات .
الثالث : مجئ الأمر والنهي في آية واحدة وموضوع متحد ليكون رابطة سماوية توثق اللحمة والألفة بين المسلمين ، كما في قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ) وجاء سور الموجبة الكلية [جَمِيعًا]في الآية أعلاه لنفي الإستثناء من هذه الأخوة المحبوبة في ذاتها والتي ليس لمنافعها من حدود في الذات والأثر .
فقد يأتي التكليف مقيداً بالشرط كما في حج بيت الله الحرام ، إذ أنه مقيد بالإستطاعة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( )أما التمسك بالقرآن وأحكام الشريعة فهو واجب مطلق غير مشروط , وهو شامل للمسلمين والمسلمات جميعاً .
وهل نداء الإيمان من حبل الله الذي تذكره الآية , الجواب نعم .
وأخرج أحمد عن زيد بن ثابت قال : (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيها الناس إني تارك فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي أمرين . أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وأنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض .
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني من طريق الشعبي عن ابن مسعود { واعتصموا بحبل الله جميعاً }( ) قال : حبل الله الجماعة) ( ).
ويحتاج إلى النداء عند البعد خاصة , ويأتي للقريب .
والله عز وجل قريب من عباده ، وفي التنزيل في خطاب للمسلمين [وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ] ( ) والجواب جاء النداء لبيان أن الأمر والنهي الذي يتعقبه عظيم ، ولندب المسلمين للعمل بأحكامه ومضامينه .
وقد يتكرر النداء في الخطاب القرآني عند الدعاء والتوسل إلى الله كما في قوله تعالى [قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا] ( ).
ويكون لفظ[اللَّهُمَّ] نداءً أولاً , ويكون لفظ [رَبَّنَا] نداءً ثانياً ، وجاء الدعاء بصفة الإلوهية المطلقة الجامعة للكمالات والربوبية العامة التي تتغشى الخلائق كلها ، ليكون نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]الوارد في القرآن من مصاديق الدعاء في الآية أعلاه ومضامينه من جهات :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا برسالة عيسى عليه السلام وأنه نبي رسول من عند الله عز وجل .
الثانية : يا أيها الذين آمنوا بأن الدعاء وسيلة لجلب المصالح ودفع المفاسد .
الثالثة : يا أيها الذين آمنوا بالإقتداء بالأنبياء في الدعاء والمسألة .
الرابعة : يا أيها الذين آمنوا بأن الله إستجاب لدعاء عيسى عليه السلام وأنزل مائدة من السماء .
(وقال وهب بن منبه : أنزل اللّه أقرصة من شعير وحيتاناً،
فقيل لوهب : ما كان ذلك يغني عنهم،
قال : لا شيء ولكن اللّه أضعف لهم البركة،
فكان لهم يأكلون ثم يخرجون فيجيء آخرون فيأكلون حتى أكلوها جميعهم وفضل.
وقال الكلبي ومقاتل : إستجاب اللّه لعيسى (عليه السلام) فقال إني منزلها عليكم كما سألتم فمن أكل من ذلك الطعام ثم لا يؤمن جعلته مثلاً،
ولعنة لمن بعدهم،
قالوا : قد رضينا فدعا شمعون وكان أفضل الحواريين،
فقال : هل لكم طعام؟
قال : نعم معي سمكتان صغيرتان وستة أرغفة،
فقال : عليّ بها فقطعهن عيسى قطعاً صغاراً،
ثم قال : اقعدوا في روضة فترفقوا رفاقاً كل رفقة عشرة،
ثم قام عيسى ودعا اللّه فاستجاب اللّه له ونزل فيها البركة فصار خبزاً صحاحاً وسمكاً صحاحاً .
ثم قام عيسى فجعل يلقي في كل رفقة ما عملت أصابعه ثم قال : كلوا بسم اللّه فجعل الطعام يكثر حتى بلغ ركبهم فأكلوا ما شاء اللّه وفضل خمس الذيل،
والناس خمسة آلاف ونيف.
وقال الناس جميعاً : نشهد إنك عبده ورسوله ثم سألوا مرة أخرى فدعا عيسى (عليه السلام) فأنزل اللّه خبزاً وسمكاً وخمسة أرغفة وسمكتين فصنع بها ما صنع في المرة الأولى فلما رجعوا إلى قراهم ونشروا هذا الحديث ضحك منهم من لم يشهدوا وقالوا لهم : ويحكم إنما سحر أعينكم. فمن أراد به الخير بثَّته على بصيرته ومن أراد فتنته رجع إلى كفره) ( ).
الخامسة : يا أيها الذين آمنوا قد جعل الله كل آية قرآنية عيداً لأولكم وآخركم ) وفيه شاهد على أن معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة عقلية وأن النعم التي أنعم الله عز وجل بها على المسلمين غير متناهية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )ولم يرد لفظ [عِيدًا] إلا في الآية أعلاه .
وقد جعل الله تلاوة الآية القرآنية عيداً للمسلم ، وهو من أسرار أداء المسلمين الصلاة جماعة وأصغائهم للإمام وكأنهم في روضة ناضرة تكون مقدمة لدخول الجنة بهذه التلاوة وما تدل عليه من الأخوة بينهم والصبر في مرضاة الله .
السادسة : كانت المائدة آية حسية من عند الله في ذاتها ونزولها وبركة الأكل الذي فيها ، وأنعم الله عز وجل على المسلمين بأن كل آية من القرآن معجزة وآية ونعمة ، وعن أنس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أتاني جبريل وفي يده كالمرآة البيضاء فيها كالنكتة السوداء ، فقلت يا جبريل : ما هذه ؟ قال : هذه الجمعة ، قلت : وما الجمعة؟ قال : لكم فيها خير .
قلت : وما لنا فيها؟ قال : تكون عيداً لك ولقومك من بعدك ، وتكون اليهود والنصارى تبعاً لك . قلت : وما لنا فيها؟ قال : لكم فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها شيئاً من الدنيا والآخرة هو لكم قسم إلا أعطاه إياه ، وليس له قسم إلا ادخر له عنده ما هو أفضل منه ، أو يتعوّذ به من شر هو عليه مكتوب إلا صرف عنه من البلاء ما هو أعظم منه ز
قلت له : وما هذه النكتة فيها؟ قال : هي الساعة ، وهي تقوم يوم الجمعة ، وهو عندنا سيد الأيام ، ونحن ندعوه يوم القيامة يوم المزيد … الحديث ) ( ) .
ترى ما هي النسبة بين [ الَّذِينَ آمَنُوا ] في نداء الإيمان وبين المؤمنين كما في قوله تعالى مثلاً [وبشر المؤمنين] ( ) وقوله تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ]( ) .
الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، وأن كل مؤمن هو من الذين توجه لهم خطاب ونداء الإيمان ، ولكن ليس كل الذين توجه لهم نداء الإيمان هم مؤمنون إلا بفضل من عند الله إذ يشمل نداء الإيمان كل مسلم ومن نطق بالشهادتين ، وكان في ظاهره مسلماً ، قال تعالى [إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ…. الآية ] ( ).
إبتدأت الآية بصيغة الأمر العام للمسلمين , ويحتمل هذا النداء في شموله للمسلمات وجوهاً :
الأول : إرادة قاعدة الإشتراك بين الرجال والنساء في الأحكام التكليفية .
الثاني : يمكن تقسيم قاعدة الإشتراك أعلاه إلى قسمين :
أولاً : الإشتراك بين الرجل والمرأة في التكاليف على نحو الموجبة الكلية بأن ينبسط التكليف على المسلمين والمسلمات بعرض واحد ، كما في الصيام والزكاة والحج ، فان قلت الصلاة عمود الدين , وهي من الواجب المطلق في علم الأصول , والأصل التساوي فيها .
الجواب نعم ، ولكن خفّف الله سبحانه عن المرأة فليس من قضاء للصلاة التي تفوتها أيام الحيض ، بينما ورد حج البيت مثلاً بالخطاب والتكليف للناس وقيد الإستطاعة بقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ).
ثانياً : الإشتراك على نحو الموجبة الجزئية بأن تشترك المرأة مع الرجل ببعض مصاديق التكليف وتسقط عنها بعضها حسب الدليل كما في الجهاد فليس عليها جهاد، وعن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما تكون الصنيعة إلى ذي دين أو حسب ، وجهاد الضعفاء الحج ، وجهاد المرأة حسن التبعل لزوجها ، والتودد نصف الإِيمان ، وما عال امرؤ على اقتصاد ، واستنزلوا الرزق بالصدقة، وأبى الله أن يجعل أرزاق عباده المؤمنين إلا من حيث لا يحتسبون)( ).
وإذا كان المراد من الصبر الإطلاق في مصاديقه وأنه يشمل الجهاد فان الوجه ثانياً ينطبق على صبر المرأة بأن تخرج عن الصبر بالجهاد بالتخصيص مع بقاء تكليفها بالصبر والصيام والصلاة وإن كان الجهاد غير مقصود بالآية فيكون من القسم أولاً أعلاه وهو المختار ، ليكون تقدير آية البحث على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا من الرجال استعينوا بالصبر …
ثانياً : يا أيها الذي آمن من الرجال استعن بالصبر …
ثالثاً : يا أيتها النساء اللائي آمنّ إستعنّ بالصبر …
رابعاً : يا أيتها المرأة التي آمنت استعينِ بالصبر …
الثالث : التفصيل والمقصود عامة الرجال من المسلمين بخصوص مراتب من الصبر وإرادة الرجال والنساء بخصوص مراتب أخرى من الصبر والصلاة .
والمختار هو الأول والمقصود عموم المسلمين والمسلمات في طرفي الآية من الصبر والصلاة , ويكون تقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها المسلمون استعينوا بالصبر .
ثانياً : يا أيتها المسلمات استعنّ بالصبر .
ثالثاً : يا أيها المسلمون استعينوا بالصلاة .
رابعاً : يا أيتها المسلمات استعنَ بالصلاة .
خامساً : يا أيها المسلمون استعينوا بالصبر والصلاة .
سادساً : يا أيتها المسلمات استعنَّ بالصبر والصلاة ، وكذا بالنسبة للفظ [وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ) إذ يصدق تقديره على وجوه:
أولاً : وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين .
ثانياً : وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين والخاشعات .
ثالثاً : وإنها لكبيرة إلا على الخاشع .
رابعاً : وإنها لكبيرة إلا على الخاشع والخاشعة .
وقد تقدم قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ).
ويدل نظم الآيات على مجيئها خطاباً لبني إسرائيل ، ودعوتهم لتعاهد الصلاة وأدائها بأركانها وأجزائها ومنها الركوع وبينت الآية التي بعدها صفات الخاشعين ، ومنها التسليم باليوم الآخر ، والوقوف بين يدي الله للحساب .
ولم يذكر لفظ [وَاسْتَعِينُوا] بإضافة واو العطف إلا في الآية أعلاه ، أما آية البحث فإنها جاءت خطاباً للمسلمين على نحو الخصوص ليفيد الجمع بين الآيتين أموراً :
الأول : دعوة المسلمين وأهل الكتاب والناس لأداء الصلاة.
الثاني : تشريف أهل الكتاب بحثهم على أداء الصلاة وبيان المائز بينهم وبين الذين كفروا ممن لا يؤمن بالتوحيد ولا يقر بوجود واجبات وفرائض عبادية .
الثالث : إختصاص المسلمين بتكرار توجه الأمر لهم بأداء لصلاة ولا ينحصر هذا التكرار بالنداء والأمر في هاتين الآيتين بل يأتي من جهات :
الأولى : تعدد الأوامر للمسلمين بإقامة الصلاة ، قال تعالى [فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ).
الثانية : إخبار القرآن عن إقامة الأنبياء للصلاة .
الثالثة : تعليم الأنبياء السابقين أتباعهم وأممهم الصلاة لبيان قانون من وجوه :
أولاً : قانون الملازمة بين وجود الإنسان في الأرض وإقامة الصلاة.
ثانياً : قانون الصلاة مصداق عبادة الناس لله عز وجل .
ثالثاً : قانون توارث الأنبياء والمؤمنين إقامة الصلاة .
رابعاً : قانون صلاة الأنبياء والأمم السابقة مقدمة وبشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تحفظ الصلاة في الأرض إلى يوم القيامة من غير زيادة أو نقيصة ، لذا ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : صلوا كما رأيتموني أصلي ) ( ) ومن معانيه تعاهدوا الصلاة بذاتها وكيفيتها وأجزائها من غير نقص أو زيادة أو تحريف .
الرابعة : توجه الأمر الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإقامة الصلاة وبواسطته إلى الأمة ، قال تعالى [وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ] ( )وقال تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ]( ).
الخامسة : الحث على أداء الصلاة حتى في حال الخوف والفزع لبيان وجوب أدائها في كل الأحوال الخاصة والعامة وعدم تركها عند المصيبة والبلاء ، وفيها كشف للبلاء وهو خير مواساة , وهي من معاني الإسترجاع في قوله تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ] ( ) فكما يصلي المسلمون طاعة وقربة لله عز وجل فانه سبحانه يصلي عليهم بأن يتغشاهم برحمته .
السادسة : أمر الأنبياء لأسراهم وعوائلهم بإقامة الصلاة وهو من سنن الأنبياء ، وفي إسماعيل ورد قوله تعالى [وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ] ( ).
وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا بالإستعانة بالصبر وصيرورتها وسيلة لنيل مرضاة الله عز وجل .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر في تلقي الأذى من الذين كفروا .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا بأن الإستعانة بالصبر حق وواجب بلحاظ صيغة الأمر في الآية التي تحمل على الوجوب إلا مع الدليل على إرادة الندب والإستحباب .
وهل يمكن القول بالتفصيل بأن هناك مواطن يكون فيها الصبر واجباً وأخرى يكون فيها الصبر مستحباً ، الجواب لا دليل على هذا التفصيل والأصل الإطلاق بالوجوب خاصة مع إقترانه في الآية بالأمر بالصلاة .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا شكر الله عز وجل لكم إيمانكم فأمركم بالإستعانة بالصبر وإتخاذه سلاحاً ذاتياً لتعاهد الإيمان والسلامة من الجزع والخوف والفزع .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا بالله عز وجل رباً وبمحمد نبياً اتقوا الله بالإستعانة بالصبر .
وتبين الآية قانوناً وهو الملازمة بين الإيمان وبين الأمر بالصبر فكل من يؤمن يتوجه له الأمر من عند الله بالصبر ويرى أن السنة النبوية قائمة على الصبر ، ولقد أراد الله عز وجل للمسلمين الثواب العظيم فأمرهم بالصبر ، قال تعالى [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
وليس من حصر لوجوه الصبر ، إنما تكون بحسب اللحاظ والوصف ، وهو على أقسام منها :
الأول : الصبر الواجب , وهو على شعب :
الأولى : الصبر بإتيان الواجبات مثل أداء فريضة الصلاة وصيام شهر رمضان .
الثانية : الصبر في الإمتناع عن المحرمات مثل الربا والزنا .
الثالثة : الصبر عند الإبتلاء وحلول المعصية .
الثاني : الصبر المستحب , وهو على شعبتين :
الأولى :الصبر في إتيان المستحبات وفعلها , كالصبر في أداء صلاة النافلة , والصوم والحج المستحبين .
الثانية : الصبر في إجتناب المكروهات مثل الحلف في البيع إن كان صادقاً ، فمع الكذب فهو حرام .
وكراهية الخروج من المسجد بعد الأذان ، فيكون الصبر بإجتناب الحلف حتى مع الصدق ، وعدم إتخاذ الحلف وسيلة للبيع ، وكراهية إنشاد الشعر في المسجد ، فلابد من الصبر عن الشعر وإنشاده في المسجد ، ومنهم من ذكر أقسام أخرى للصبر منها.
أولاً : الصبر المحرم مثل الصبر عن الأكل والشرب حتى الموت , وكذا مطلق الصبر الذي يجلب الأذى .
ثانياً : الصبر مباح ، وهو الإمتناع عن الأكل مع الحاجة إليه ، ولكن في حال عدم حصول أذى أو ضرر بتركه .
وتبين الآية القرآنية أن الصبر تحمل الأذى لما فيه نفع في الدنيا أو في الدنيا والآخرة , ويدل قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ] على أن الصبر حسن ذاتاً .
ومن الإعجاز في آية البحث عطف الآية التالية ومضامينها القدسية عليها إذ إبتدأت بقوله تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ] ( ) فبعد أن تضمنت آية البحث الأمر المتعدد للمسلمين من الصبر والصلاة ، جاءت الآية التالية لها بالنهي عن تسمية إخوانهم الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً إنما هم أحياء عند الله عز وجل ، لبيان المائز بين حياة الخلود في النعيم عند الله وحياة الدنيا ذات صبغة الإبتلاء اليومي المتجدد .
وتقدير الآية التالية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصلاة ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات .
ترى لماذا إبتدأت الآية بنداء الإيمان , ولم تأت بالأمر وحده وتبدأ بالأمر إستعينوا بالصبر والصلاة ، الجواب من وجوه :
الأول : تفضل الله عز وجل بإكرام المسلمين بالإبتداء بالشهادة لهم بالإيمان .
الثاني : بيان الملازمة بين كل من الإيمان والتحلي بالصبر، و(عن علي قال: الصبر من الإِيمان بمنزلة الرأس من الجسد، إذا قطع الرأس نتن باقي الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له)( ).
الثالث : الإيمان وإقامة الصلاة ، فالصلاة علامة المؤمن والدليل على الهدى ، ومصداق الإقرار بالعبودية لله عز وجل وفي عيسى ورد (سئل الإمام الباقر عليه السلام (كان عيسى بن مريم حين تكلم في المهد حجة الله على أهل زمانه ؟ فقال: كان يومئذ نبيا حجة الله غير مرسل .
أما تسمع لقوله حين قال: ” إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ” قلت: فكان يومئذ حجة الله على زكريا عليه السلام في تلك الحال وهو في المهد ؟ فقال: كان عيسى في تلك الحال آية للناس، ورحمة من الله لمريم حين تكلم فعبر عنها، وكان نبيا حجة على من سمع كلامه في تلك الحال، ثم صمت فلم يتكلم حتى مضت له سنتان، وكان زكريا عليه السلام الحجة لله عز وجل على الناس بعد صمت عيسى عليه السلام بسنتين، ثم مات زكريا عليه السلام فورثه ابنه يحيى الكتاب والحكمة وهو صبي صغير، أما تسمع لقوله عز وجل: ” يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا ” …الحديث ( ).
الرابع : الملازمة بين مصاديق العبادة بلحاظ أن المراد من الصبر هو الصيام .
وكل عبادة تتقوم بالصبر حتى الصلاة ، ومن الإعجاز فيها لزوم المقدمة بالطهارة المائية ، ومع العجز يتوجه إلى الطهارة الترابية .
ومن الإعجاز في نظم الآية القرآنية صحة الجمع بين أول وآخر الآية وإقتباس المواعظ منه ، وتقدير آية البحث ( يا أيها الذين آمنوا إن الله مع الصابرين ) .
لبيان أمور :
الأول : الصبر مقدمة للعبادة .
الثاني : حاجة المسلمين والمسلمات للصبر .
الثالث : الصبر مناسبة للفضل الإلهي ، ونزول رحمة الله وهو المستقرأ من المعية في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ).
لقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أشد صنوف الأذى , وضرب كفار قريش حصاراً على أهل البيت في شعب أبي طالب ذاقوا فيه الجوع والعطش وأذى العزلة وكان الصبيّان من أولادهم يقتسمان التمرة الواحدة لتكون ذات الهجرة إلى الحبشة والمدينة من مصاديق [إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ).
وفيه نكتة وهي أن إعانة ونصرة الله للمسلمين متجددة في كل يوم فبعد الهجرة جاء الإيواء ، فهو كمسألة الإثبات والثبوت ، فلا تعني مغادرة المؤمن مكة بدينه السلامة في الطريق , أو القبول في بلد الإقامة الجديد لذا جاء الثناء على المهاجرين والأنصار بقوله تعالى[ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]( ).
لتكون الهجرة وكذا الإيواء من معاني الصبر فيصدق اسم الصابرين على كل من المهاجرين والأنصار .
وهل يكون من مصاديق , وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا بان الله مع الصابرين ) الجواب نعم فان نداء الإيمان عام في مضامينه ، والإيمان يتغشى أيام الحياة الدنيا والوقائع والمسألة الإبتلائية فما من شيء وتكون فيه موضوعية للإيمان بياناً أو تصديقاً أو تأكيداً .
قانون منافع الإستعانة بالصبر
ولم يأمر الله عز وجل المسلمين بالإستعانة بالصبر والصلاة إلا بعد النداء بصفة الإيمان ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان حقيقة وهي أن الإستعانة بالصبر نعمة عظمى [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ).
الثانية : إخبار المسلمين والناس بأن جزاء الإيمان الإستعانة بالصبر وأداء الصلاة وفيه نكتة بحسب اللحاظ وهي إعانة الله للمسلمين لإستعانتهم بالصبر فهو شديد على النفس إذ تميل النفس إلى الدعة ، وتمتنع عن الكلفة ومواطن الشدة ، فجاءت آية البحث بنداء الإيمان للتخفيف عنهم وتعضيدهم وجعلهم يدركون أن الخير في الصبر ومع الصبر ، وأن الصلاة طريق الهدى والفلاح وهي خير محض ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )بلحاظ آية البحث وجوه :
الأول : التحلي بالإيمان ، والتصديق بالنبوة والتنزيل .
الثاني : رجاء حضور نداء الإيمان شفيعاً للمسلم يوم القيامة ، وهذه الشفاعة من جهات :
الأولى : ذات نداء الإيمان .
الثانية : الصبر في مرضاة الله .
الثالثة : إتخاذ الصبر وسيلة ومقدمة لأداء الواجبات والإحتراز من المعاصي والسيئات .
الرابعة : حضور ذات الصبر والصلاة يوم القيامة للشفاعة ودفع الأذى عن المؤمن وهو من مصاديق قوله تعالى [َلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
والصبر سور جامع ويشمل وجوه تحمل الأذى وحبس النفس عن الهدى ومنه الصيام ، وتقدير الآية استعينوا بالصبر والصلاة ، أي إستعينوا بالصيام والصلاة وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفِّعْني فيه ، قال : فيشفعان) ( ).
الثالث : لما أمر الله عز وجل في آية البحث المسلمين بأمور كل فرد منها من مصاديق [الصراط المستقيم] الذي تذكره سورة الفاتحة وهي :
الأول : الصبر سبيل هداية ومقدمة للفلاح والنجاح ، فهو صراط مستقيم لتحقيق الرغائب في الدنيا واللبث الدائم في نعيم الآخرة .
الثاني : الصلاة وأداؤها من أبهى معاني الصراط المستقيم بذاتها وموضوعها وكيفيتها وبركاتها .
الثالث : من الصراط المستقيم الإستعانة بالصبر بلحاظ أنها طاعة الله ومجلبة للغير وواقية من السوء والشر .
ليكون من إعجاز قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )إرادة الهداية إلى الوسيلة والمقدمة والأداء والبلغة والغاية ، فكل فرد منها صراط مستقيم .
الرابع : الإستعانة بالصلاة والإنتفاع الأمثل منها .
ومن الإعجاز في المقام تعدد منافع الإستعانة من وجوه :
الأول : إستعانة المسلم بالصبر لنفعه الخاص .
الثانية : إستعانة المسلم بالصبر لنفع عياله وذريته .
الثالث : إستعانة المسلم بالصبر من أجل الأمة وإستدامة العز والظفر لها ، وقد نال المسلمون النصر في معركة بدر مع قلة عددهم وأسلحتهم بالنسبة لعدوهم من كفار قريش وحلفائهم يومئذ بالصبر ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
وبلحاظ آية البحث يكون المعنى على جهات :
الأولى : ولقد نصركم الله ببدر بالصبر .
الثانية : ولقد نصركم الله ببدر بالإستعانة بالصبر .
الثالثة : ولقد نصركم الله ببدر بالصلاة .
الرابعة : ولقد نصركم الله ببدر بالإستعانة بالصلاة .
وهو لا يتعارض مع موضوعية نزول الملائكة لنصرة المسلمين.
وتتضمن الآية أوامر للمسلمين والمسلمات :
الأول : استعينوا بالصبر .
الثاني : استعينوا بالصلاة .
الثالث : استعينوا بالصبر والصلاة .
فقد يكون الحاجة للصبر في مواطن أو للصيام أو للصلاة وأدائها جماعة وفي أوقاتها ، وقد تكون الحاجة للصبر والصلاة معاً ، وهو من الآيات إذ أن ذات الصلاة والتكاليف عامة وتستلزم الصبر .
وإبتدأت الآية بنداء الإيمان لأن الإستعانة بالصبر تكليف ولا يقدر عليه إلا المؤمن ، فمع أن إنعدام الإيمان يعجز الإنسان على الإقامة على الصبر ، ويستحوذ عليه الجزع وتقدير الآية على وجوه :
الأول : لولا أنكم مؤمنون لما أمرتم بالإستعانة بالصبر .
الثاني : من رشحات الإيمان التحمل والصبر في طاعة الله .
الثالث : يا أيها المسلمون والمسلمات أشكروا الله لأنه هداكم للصبر والصلاة وأمركم بالإستعانة بهما ، وهو من أسرار إختتام الآية بذكر ثقل وطأة الصلاة على غير الخاشعين لله عز وجل .
الرابع : إستعينوا بالصبر والصلاة فان الله عز وجل أعانكم وهيئ لكم مقدمات وأسباب هذه الإستعانة .
الخامس : إستعينوا بالصبر والصلاة وستجدون النفع العظيم بهذه الإستعانة ،وهي من وجوه :
الأول : منافع الإستعانة بالصبر : وتتجلى بالبصيرة والحكمة والتدري والمنع من إستحواذ النفس الغضبية أو الشهوية .
ومن منافع الإستعانة بالصبر أنه مقدمة لأداء الصلاة ، فيكون تقدير الآية على وجوه :
أولاً : إستعينوا بالصبر لأداء الصلاة ، وهو على شعب :
الأولى : إستعينوا بالصبر في الوضوء ومقدمات الصلاة .
الثانية : إستعينوا بالصبر في إتقان الصلاة وتلاوة الآيات .
الثالثة : لقد خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجيال المسلمين والمسلمات المتعاقبة بالقول(صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) ليكون من معاني الإستعانة بالصبر إتيان الصلاة بذات الكيفية التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن معاني الإستعانة بالصلاة إتخاذ الصلاة طاعة لله ولرسوله .
الرابعة : إستعينوا بالصبر لأداء صلاة الجماعة والمرابطة في المسجد .
(عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً ، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ، ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار) ( ).
الخامسة : إستعينوا بالصبر لجلب النفع من أداء الصلاة للفرد والجماعة وعن أبي أمامه (عن أبي أمامة قال : جاء علي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا نبي الله ادفع إلينا خادماً . قال : اذهب فإن في البيت ثلاثة فخذ أحد الثلاثة . فقال : يا نبي الله اختر لي . فقال : اختر لنفسك قال : يا نبي الله اختر لي . قال : اذهب فإن في البيت ثلاثة : منهم غلام قد صلى فخذه ولا تضربه ، فإنا قد نهينا عن ضرب أهل الصلاة) ( ).
ثانياً : استعينوا بالصبر لتنمية ملكة الصبر في النفوس .
ثالثاً : استعينوا بالصبر لمنع التبديل والتغيير في كيفية أداء العبادات.
رابعاً : بيان قانون وهو أن الصبر سلاح حاضر يستعان به.
خامساً : تأكيد فضل الله عز وجل على المسلمين بهدايتهم إلى سبل الهداية إذ أن الإستعانة بالصبر والصلاة فزع الإستعانة بالله وقوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ).
الثاني : منافع الإستعانة بالصلاة لقد أمر الله عز وجل المسلمين والمسلمات بأداء الصلاة، وجاءت هذه الآية لتبين قانوناً وتفتح آفاقاً للمسلمين بالأمر باتخاذ الصلاة بلغة مباركة وواقية من الأذى، ولجوء إلى الله، ورجاءً للفضل منه تعالى، والصلاة حرز من إرتكاب الذنوب، قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).
وعن رجل من أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا بلال، أرحنا بالصلاة( ).
ومن وجوه تقدير الآية :
الأول : استعينوا بالصلاة لطلب الرزق.
الثاني : استعينوا بالصلاة لتثبيت الإيمان.
الثالث : استعينوا بالصلاة لهداية الذرية، وتوارث الصلاح.
الرابع : استعينوا بالصلاة لسلامة في الدنيا .
الخامس : استعينوا بالصلاة للنجاة من العذاب في الآخرة .
السادس : استعينوا بالصلاة شكراً لله عز وجل .
السابع : استعينوا بالصلاة لتعاهد الأخوة الإيمانية .
قانون منافع الإستعانة بالصلاة
لقد جاءت الآية بصيغة الأمر للمسلمين بالإستعانة والصبر ، والأصل في الأوامر الإلهية أنها خير محض ونفع دائم ، وصحيح أن الصلاة تكليف ، ولكنها ثروة وكنز متجدد وخزينة يومية تترشح عنها ، الفيوضات والبركات .
وفي الإستعانة أطراف :
الأول : المستعين بكسر العين وصيغة اسم الفاعل .
الثاني : المستعان به أو آله الإستعانة .
الثالث : المستعان له ومن أجله ، وليس من حصر للغايات التي يستعان لها بالصلاة .
وتتضمن الآية طرفاً رابعاً وهو الأمر بالإستعانة بالصلاة ، فلا يعلم المسلمون لزوم ووجوب الإستعانة بالصلاة ولا يحيطون بالمنافع العظيمة لهذه الإستعانة وبذات الصلاة فتفضل الله عز وجل بآية البحث لبيان أن الصلاة وسيلة مباركة للإستعانة لتكون على وجوه :
الأول : إستعينوا بعبادة الله من لأجل الإقامة على طاعته .
الثاني : إحترزوا من الشيطان وإغوائه بالصلاة .
الثالث : الصلاة واقية من النفاق .
الرابع : إستعينوا بالصلاة لدفع الأذى والضرر والبلوى في الدنيا .
الخامسة : إستعينوا بالصلاة للنجاة يوم القيامة .
لقد ورد قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) ليكون من معانيه في المقام وجوه :
الأول : أداء الصلاة .
الثاني : الإستعانة بالصلاة .
الثالث : السعي للغايات التي تتخذ الصلاة طريقاً ومسلكاً مباركاً لها .
فمن أسرار مجئ التعدد بالمستعان باقي آية البحث وأنه الجامع للصبر والصلاة وأن الغايات الحميدة كثيرة ، ولابد من الوسائط المتعددة ، منها دفع الزكاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد في سبيل الله والتحلي بالتقوى والخشية من الله في السر والعلانية ، وأثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره فالإستعانة بالصبر والصلاة لا تمنع من الإستعانة بغيرها بل تدعو وتندب المسلمين إليها .
ليكون من معاني الآية الكريمة وجوه :
الأول : إستعينوا بالصبر كي تستعينوا بالجهاد والمرابطة .
الثاني : إستعينوا بالصلاة كي تستعينوا بالزكاة والأنفاق في سبيل الله .
الثالث : إستعينوا بالصبر كي تستعينوا بالحج.
الرابع : إستعينوا بالصبر كي تفوزوا بحب الله لكم لذا ورد قوله تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ).
ومع أن الآية ذكرت الإستعانة بالصبر والصلاة فانها أختتمت بقانون حب الله للصابرين ، فلم تقل أن الله يحب الصابرين والمصلين ) وفيه نكتة وهي أن النسبة بين الصبر والصلاة هي العموم والخصوص المطلق ، فالصلاة صبر وكل فرد منها هو صبر مستقل قائم بذاته من جهات :
الأولى : إتيان مقدمات الصلاة ، كالوضوء ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ] ( ).
الثانية : الصبر بانتظار أوقات الصلاة .
الثالثة : النية والعزم على أداء الصلاة عند حلول وقتها وهو أمر متجدد في كل فريضة ، فما أن يخرج المسلم من الصلاة حتى يتبادر إلى ذهنه لزوم التهيئ للفريضة القادمة ، ولذا وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة كالنهر الجاري ، فهو لا إنقطاع له حتى في الوجود الذهني للمسلم .
الرابعة : الصبر بالوقوف بين يدي الله عند وبعد تكبيرة الإحرام .
الخامسة : صبر المسلم في إتيان أفعال في إتيان أفعال الصلاة على نحو التعيين والترتيب .
السادسة : حرص المسلم على أداء الصلاة بذات الكيفية التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
السابعة : مناجاة المسلمين بتعاهد الصلاة وقيامهم بالأمر بأدائها والحث على حضور الجماعة والنهي عن صلاة المنفرد وفي البيت من غير علة .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (“صلاة الرجل في الجماعة تُضَعَّف على صلاته في بيته وفي سوقه، خمسًا وعشرين ضعفًا. وذلك أنه إذا توضأ فأحسن وضوئه ثم خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لم يَخطُ خَطوة إلا رُفع له بها درجة، وحطّ عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مُصَلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة”
وعند الدارقطني مرفوعًا: “لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد” .
وفي السنن: “بشِّر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة) ( ).
وأداء الصلاة النعمة العظمى في الدنيا وهي المواقيت يوم القيامة والسلاح في العبور على الصراط ، فيتلو المسلمون قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) في كل ركعة ليعبروا الصراط .
وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يجمع الله الناس يوم القيامة ، وينزل الله في ظلل من الغمام فينادي منادٍ يا أيها الناس ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم وصوّركم ورزقكم أن يولي كل إنسان منكم ما كان يعبد في الدنيا ويتولى أليس ذلك من ربكم عدلاً؟ قالوا : بلى ، قال : فينطلق كل إنسان منكم إلى ما كان يعبد في الدنيا ويتمثل لهم ما كانوا يعبدون في الدنيا ، فيتمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى ، ويتمثل لمن كان يعبد عزيراً شيطان عزير ، حتى يمثل لهم الشجرة والعود والحجر ويبقى أهل الإِسلام جثوماً فيتمثل لهم الرب عز وجل ، فيقول لهم : ما لكم لم تنطلقوا كما انطلق الناس؟ فيقولون : إن لنا ربّاً ما رأيناه بعد ، فيقول : فبم تعرفون ربكم إن رأيتموه؟ قالوا : بيننا وبينه علامة إن رأيناه عرفناه . قال : وما هي؟ قال : { يكشف عن ساق } فيكشف عند ذلك عن ساق فيخر كل من كان يسجد طائعاً ساجداً ، ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون ، ثم يؤمرون فيرفعوا رؤوسهم ، فيعطون نورهم على قدر أعمالهم ، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه ، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك ، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه ، ومنهم من يعطى نوره دون ذلك بيمينه ، حتى يكون آخر ذلك من يعطى نوره على إبهام قدميه يضيء مرة ويطفأ مرة ، فإذا أضاء قدم قدمه ، وإذا طفىء قام ، فيمر ويمرون على الصراط والصراط كحدّ السيف دحض مزلة ، فيقال لهم : انجوا على قدر نوركم ، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب ، ومنهم من يمر كالطرف ، ومنهم من يمر كالريح ، ومنهم من يمر كشد الرجل ويرمل رملاً ، يمرون على قدر أعمالهم حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه يجر يداً ويعلق يداً ، ويجر رجلاً ويعلق رجلاً ، وتصيب جوانبه النار ، فيخلصون فإذا خلصوا قالوا : الحمد لله الذي نجانا منك بعد الذي أراناك . لقد أعطانا الله ما لم يعط أحداً ، فينطلقون إلى ضحضاح عند باب الجنة ، فيغتسلون فيعود إليهم ريح أهل الجنة ، وألوانهم ، ويرون من خلل باب الجنة وهو يصفق منزلاً في أدنى الجنة فيقولون : ربنا أعطنا ذلك المنزل ، فيقول لهم : أتسألون الجنة وقد نجيتكم من النار ، فيقولون : ربنا أعطنا ، حل بيننا وبين النار ، هذا الباب لا نسمع حسيسها ، فيقول لهم : لعلكم إن أُعْطِيتُمُوهُ أن تسألوا غيره ، فيقولون : لا وعزتك لا نسأل غيره ، وأي منزل يكون أحسن منه؟ قال : فيدخلون الجنة ويرفع لهم منزل أمام ذلك كان الذي رأوا قبل ذلك حلم عنده فيقولون : ربنا أعطنا ذلك المنزل ، فيقول : لعلكم إن أعطيتكموه أن تسألوا غيره ، فيقولون : لا وعزتك لا نسأل غيره ، وأي منزل أحسن منه؟ فيعطونه ، ثم يرفع لهم أمام ذلك منزل آخر كان الذي رأوا قبل ذلك حلم عند هذا الذي رأوا فيقولون : ربنا أعطنا ذلك المنزل ، فيقول : لعلكم إن أعطيتكموه أن تسألوا غيره ، فيقولون : لا وعزتك لا نسأل غيره وأي منزل أحسن منه؟ ثم يسكتون فيقولون لهم : ما لكم لا تسألون فيقولون : ربنا قد سألناك حتى استحينا ، فيقال لهم : ألم ترضوا أن أعطيكم مثل الدنيا منذ يوم خلقتها إلى يوم أفنيتها وعشرة أضعافها؟ فيقولون : أتستهزىء بنا وأنت رب العالمين) ( ).
قانون تجلي الصبر في كل آية قرآنية
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار ومن الآيات أن الإنسان لا ينفصل عنها إلى عالم آخر يكون فيه الإبتلاء أخف واقل وطأة وفيه الحق أوضح مسلكاً إنما ينتقل إلى عالم البرزخ ثم الحساب ثم الجزاء .
وفي ذم الكافر وبيان حسرته يوم القيامة ورد في التنزيل [قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ] ( ).
ومن الآيات في الحياة الدنيا مجئ الحق ليدحض الباطل , والنور ليزيح الظلمة ، والرزق الكريم ليطرد شبح الفقر ، والصحة والعافية للتوقي من المرض ، وعند الإصابة يأتي العلاج والبعثة النبوية لفضح ودحض مفاهيم الكفر وليحل الإيمان محل الجحود ، فكانت كل كلمة قرآنية لبنة مباركة في هذا الصرح العظيم ، وقيدناه بالكلمة لبيان وجوه :
الأول : الجمع بين كلمات شطر من الآية القرآنية .
الثاني : معاني الجملة من الآية القرآنية .
الثالث : دلالات عطف الآية القرآنية على الآية أو الآيات السابقة لها في تثبيت معالم الإيمان .
الرابع : الصلة بين أجزاء الآية الواحدة وإستقراء المسائل منها .
الخامس : الصلة بين أول وآخر الآية القرآنية .
لتكون أفراد الصبر المستقرأة والمترشحة عن كل آية قرآنية متعددة ومتصلة ومتجددة ، فمع تلاوة المسلم للآية القرآنية تشع عليه أنوار الصبر ، ومعاني الحكمة وهو من مصاديق [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )فيكون من مصاديق التبيان في المقام وجوه :
أولاً : بيان خصائص الصبر .
ثانياً : إيضاح كيفية الصبر .
ثالثاً : تعلم المسلمين مسائل الصبر .
رابعاً : تنمية ملكة الصبر عند المسلمين ، وهو من أسرار وجوب قراءة المسلمين لآيات القرآن في الصلاة من جهات :
الأول : قراءة القرآن كل يوم .
الثاني : وجوب قراءة القرآن في الصلاة اليومية .
الثالث : تعدد قراءة المسلم للقرآن ، إذ يقرأ آياته خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب .
الرابع : التدبر في آيات القرآن عند تلاوتها ، وهو من أسرار حال الخشوع والخضوع لله عند أداء الصلاة ، ولذا تسمى التكبيرة التي يدخل بها المسلم الصلاة تكبيرة الإحرام لأنه يحرم معها الإتيان بأي فعل مناف للصلاة , وخارج عن أجزائها وأركانها .
وهل يصح تقدير الآية بأن (الله مع المصلين ) الجواب نعم ، لأن أداء الصلاة من مصاديق الصبر ولأن الذين يؤدونها هم المؤمنون الصابرون.
وذات تلاوة المسلم للآية القرآنية مصداق للصبر في جنب الله، وهو صبر على الطاعة وصبر عن المعصية ، بلحاظ أن إتيان العبادة إمتناع عن ضدها .
لقد جعل الله عز وجل الآية القرآنية مدرسة للمعارف الإلهية ، وضياءً ينير دروب المسلمين ، وتتقوم الهداية وتحقيق الرغائب بإتخاذ الصبر بلغة ووسيلة مباركة ، والصبر لغة هو الإمتناع .
وهو في الإصطلاح مقيد , إذ يراد منه حبس النفس في أداء الواجبات , ومنعها بلطف عن المحرمات .
وتحتمل معاني الصبر الواردة في الآية القرآنية وجوهاً :
الأول : إرادة ضروب الصبر التي تتضمنها ذات الآية القرآنية.
الثاني : موضوعية العطف بين الآية القرآنية وما جاورها من الآيات .
الثالث : إرادة إتحاد الموضوع والحكم في الآيات القرآنية .
ولا تعارض بين هذه الوجه ويمكن تأسيس علم جديد وهو الآية دعوة للصبر ، ثم تؤخذ ذات الآية القرآنية مثل قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) وتبين وجوه الصبر المستقرأ من أي آية في القرآن بلحاظ هذه الآية من سورة الفاتحة .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها تضمنت أمرين وقانوناً أما الأمران فهما الإستعانة بالصبر والإستعانة بالصلاة ، ويمكن استقراء فرد ثالث وهو الإستعانة بهما مجتمعين ، وأما القانون فهو ما أختتمت به الآية بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] لتأتي الآية التي بعدها معطوفة عليها ، وتتضمن النهي عن نعت الشهداء بأنهم أموات إذ ورد قوله تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ] ( ).
ليكون من معاني الصبر وحب الله عز وجل للمسلمين بلحاظ الآية أعلاه وجوه :
الأول : خروج المسلمين للدفاع عن الإسلام والنبوة والتنزيل.
الثاني : سقوط القتلى من المسلمين في ميادين القتال في ملاقاة الذين كفروا .
الثالث : نعت الذين قتلوا من المسلمين بالشهداء ، والإقرار بأنهم أحياء عند الله وفي واسع رحمته .
وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات ..) ثم عطفت عليها الآية الأخرى بقوله تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ] ( ) لبيان لإقتران الصبر بحب الله وولايته ونصرته والبشارة ، وتستقرأ الولاية والنصرة من معاني ظرف المكان (مع).
– – – – – – – – –
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ …]( ) جاءت هذه الآية بأمرين :
الأول : في المندوبات والمستحبات وهو الأكل من الطيبات .
الثاني : وجوب الشكر لله عز وجل ، ومن الأسرار في هذه الآية أن الأمر الأول متعلق بالثاني والثاني مقيد بصدق العبادة .
ويمكن الجمع بين أول وآخر الآية بتقدير : يا أيها الذين آمنوا إن كنتم إياه تعبدون ) لتبين الآية أن النسبة بين الإيمان والعبادة هي العموم والخصوص المطلق ، فالإيمان إعتقاد بالقلب ونطق بالشهادتين ، أما العبادة فهو واجب متجدد يتقوم بأداء الصلاة اليومية وصيام شهر رمضان وأداء مناسك الحج ونحوها .
ويحتمل تعلق أداء الشرط (إن) ومصداق العبادة وجوهاً :
الأول : إرادة الأكل من الطيبات .
الثاني : تسخير وقرب الطيبات من المسلمين .
الثالث : الرزق الكريم من عند الله للمسلمين .
الرابع : الأمر بالشكر لله عز وجل .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة , وتقدير الآية على وجوه :
الأول : أشكروا الله على نداء الإيمان ومخاطبته لكم بالخطاب [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ].
الثاني : أشكروا الله على الطيبات إن كنتم إياه تعبدون .
الثالث : أشكروا الله على الطيبات التي أنعم بها عليكم إن كنتم إياه تعبدون .
الرابع : أشكروا الله على ما رزقكم إن كنتم إياه تعبدون .
الخامس : أشكروا لله لأن الشكر له مصداق العبادة ودليل عليها .
السادس : أشكروا الله على أمره وإرشاده وتعليمه وتأديبه لكم بالأكل من الطيبات .
السابع : أشكروا الله عز وجل على كل النعم التي تذكرها آية البحث .
ليشكر المسلمون الله عز وجل على ما أكلوا من الطيبات وما سيأكلون ، ويتخذوها مناسبة للدعاء والمسألة لدوام النعم ، قال تعالى [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ] ( ).
منافع الأكل من الطيبات
مع أن الأكل من المباحات وأن آداب الزهد تقتضي الإقتصاد والرضا باليسير من الطعام مؤاساة للفقراء وإعراضاً عن زينة الدنيا وحصانة من الإسراف ، جاءت هذه الآية بالأمر بالأكل من الطيبات .
وعن عبد الله بن مسعود (أنه أتى بضرع وملح فجعل يأكل ، فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم . فقال : لا أريد . فقال : أصائم أنت؟ قال : لا . قال : فما شأنك؟ قال : حرمت أن آكل ضرعاً أبداً . فقال ابن مسعود : هذا من خطوات الشيطان ، فاطعم وكفر عن يمينك) ( ).
وفيه بيان لمنافع مدرسة صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكيف كان أهل البيت والصحابة يبينون الأحكام ، ويمنعون من التفريط أو التشديد على النفس ، وكان المسلمون يتلقون ما يقولون بالقبول لأنه من رشحات سنن النبوة .
ولا يحرم شيء إلا بالدليل القطعي لأن الأصل هو الإباحة ، أما في العبادات فالأمر يختلف فلا يشرع شيء إلا بالدليل لأن العبادات توقيفية ، وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (أَلاَ هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ) ( ) والتنطع هو التكلف والمغالاة والإصرار على الرأي , والتعمق في القول والعمل .
وقد ورد في القرآن تحريم الخبائث في ذات الآية التي ترغّب بطلب الطيبات والإمتناع عن الحرام ، قال تعالى [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ] ( ) إن نعت الطيبات أعم من أن يختص بذات الطعام وأصنافه بل يشمل كيفية طلبه وتحصيل وجمع المال لإحراز وشراء الطعام ، فلابد من الكسب الحلال والإمتناع عن الحرام والظلم ، و(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من طلب الدنيا حلالا استعفافا عن المسألة وسعيا على أهله وتعطفا على جاره ، جاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر ، ومن طلب الدنيا حلالا مكاثرا لقي الله وهو عليه غضبان) ( ).
ولا يمنع من هذا العموم تقييد الآية بأن الطيبات مما رزق الله المسلمين لأن الكسب الحلال من الرزق ، إذ يفيد حرف الجر (من) في الآية وجوهاً :
الأول : التبعيض وهو إقتطاع جزء من الكل ، فليس كل الطيبات تؤكل إنما جزء منها , وهناك مسألتان :
الأولى : هل تدل الآية على لزوم التدبير والإدخار للأبناء والذرية أو لعموم المسلمين .
الثانية : تحث الآية على الإقتصاد في النفقات وإستخراج المعادن من الأرض لمنفعة الذراري والأجيال اللاحقة وحيث تباع بعشرات أضعاف سعرها اليوم .
أما بالنسبة للمسألة الأولى فالآية وإن كانت تبيح أكل الطيبات إلا أنها تدعو إلى التدبير والحكمة وعدم الإسراف ، وقال تعالى [إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ] ( )أي أعوانهم وأنصارهم ، وبمرتبة واحدة معهم من جهة الأذى وجلب الضرر وأسباب الفساد.
وقد ورد قوله تعالى [وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ] ( ) ويفيد الجمع بين الآيتين أعلاه أن التبذير أشد من إتباع خطوات ، وهو بذاته خطوة من خطوات الضلالة والفسوق ويترتب عليه أذى كثير .
وأما بالنسبة للمسألة الثانية ، فالجواب نعم ، فمن دلالات الآية أخذ الكفاية من الطيبات ، وبما لا يكون فيه تقتير على النفس والعيال أو إسراف .
الثاني : لبيان الجنس ، كما في قوله تعالى [الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] ( ) فيصدق على حرف الجر (من) في قوله تعالى [كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ] أنها للتبعيض ، ويصدق عليها أنها لبيان الجنس ، أي كلوا من أصناف الطيبات التي هيئها وسخرها لكم الله عز وجل .
الثالث : تأتي (من) بمعنى الباء ، كما في قوله تعالى [يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ] ( ) أي بطرف خفي ، والطرف العين .
أي من عين ضعيفة تغشاها الذل والهوان إذ يتعلق موضوع الآية أعلاه بالظالمين عندما يرون العذاب يوم القيامة .
ومن طبع الإنسان أنه يملّ من الطعام إذا كان مكرراً وإن كان طيباً إلا أن يرحمه الله ويلجأ إلى الشكر له تعالى على كل مرة يرزقه ذات الطعام .
وقد ورد في بني إسرائيل قوله تعالى [وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا] ( ) فمع أن كان ينزل عليهم من السماء المن والسلوى وهما نوعان من الطعام فقد وصفوه بأنه طعام واحد لتكراره والتشابه فيه كل يوم .
ليدل قوله تعالى [من طيبات ] على تفضيل المسلمين بتعدد الطيبات التي رزقها الله المسلمين ، وأنها أعم من طعام واحد ، إذ تشمل اللحوم والفواكه والحبوب واللبن وانواعه فيخرج من الأنعام بجنس حليب واحد ولكن يصنع منه الجبن والقيمر واللبن وغيرها وبوسائل بدائية ، وليس فيها مشقة أو تعب ولكن التغيير النوعي الذي يحدث آية من عند الله , كما أن الأمر من الله بأكل الطيبات والشكر عليه برزخ دون السأم في أكلها .
وأختتمت الآية بالأمر للمسلمين والمسلمات بالشكر لله على نعمة الطيبات لبيان أن الشكر مطلوب بذاته وأثره والمنافع التي تترتب عليه ، ومنها الغبطة والسعادة بأكل الطيبات وعدم إظهار الملل أو السأم من المتكرر منها ، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرضى بالقليل .
وعن عبد الله بن سلام قال (قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ كسرة من خبز شعير ، ثم أخذ تمرة ، فوضعها عليها ، ثم قال : هذه إدام هذه) ( ).
والإدام هو ما يؤكل مع الخبر كاللحم والسمن والخضروات ، فهل أكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا من الطيبات أم المراد اللحم ونحوه لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (اللحم سيد إدام الدنيا والآخرة ) ( ) الجواب هو الأول فذات الخبز من الطيبات .
وقد وردت نصوص كثيرة على لزوم الشكر لله عز وجل على نعمة الخبز , ليكون الشكر لله على أنواع الإدام من باب الأولوية .
وعبد الله ابن أم حرام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ” أكرموا الخبز ( ) .
ليكون في الحديث مصداق لآية البحث من حيث وفرة الطيبات عند المسلمين وشكرهم لله عز وجل عليها ، وعدم الإستخفاف بنعمة الخبز ، التي لا يعرف شأنها وعظمتها إلا المؤمن التقي والإنسان الذي يفقدها ، ويصبح في حال يتعذر معه أكل رغيف خبز .
ويحتمل متعلق خاتمة الآية [إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ]وجوهاً:
الأول : يا أيها الذين آمنوا إن كنتم أياه تعبدون.
الثاني :كلوا من طيبات ما رزقكم الله إن كنتم إياه تعبدون .
الثالث : أشكروا الله إن كنتم إياه تعبدوا .
الرابع : كلوا مما رزقكم الله إن كنتم إياه تعبدون .
والواو في [وأشكروا] تصح أن تكون عاطفة وإستئنافية والضمير في إياه يعود لله عز وجل لبيان أن الطيبات كلها من عند الله وإن جاءت بواسطة الهبة والهدية أو الصدقة أو الشراء عند الكسب وجمع الأموال ، لأن هذا الكسب والهبات من مصاديق الرزق في آية البحث بقوله تعالى [مما رزقكم] لبيان أن النعم كلها من عند الله عز وجل ، والشكر طريق لتوالي وإستدامة الطيبات وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ] ( ).
وفيه نكتة وهي أن قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) يدل بالدلالة التضمنية على أن عبادة الله مجلبة للرزق الكريم وأكل الطيبات والوفرة فيها.
والأمر من عند الله عز وجل بالأكل منها لأن قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا]نعمة عظمى من جهات :
الأول : نداء الإيمان .
الثاني : هداية المسلمين لأكل الطيبات .
الثالث : بيان قانون وهو الملازمة بين الإيمان ونزول الرزق الكريم .
الرابع : نعمة الأمر من عند الله بالأكل من الطيبات .
وكما جعل الله عز وجل الدنيا داراً لعبادته كما في قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) فان الله تعالى رزق المسلمين الطيبات ليشكروه ولتعمر الأرض بشكر المسلمين لله عز وجل .
وهل يمكن تقدير الآية : وما رزقكم الله الطيبات إلا لتشكروه) الجواب لا دليل على هذا التقدير ، وتحتمل النسبة بين أكل الطيبات والشكر لله المذكورين في آية البحث وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي , وأن الشكر يتعلق بأكل الطيبات .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق , وأن الشكر لله أعم من أكل الطيبات .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه , فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
الرابع : نسبة التباين بين الشكر لله وأكل الطيبات .
والصحيح هو الثاني أعلاه ، وموضوع الشكر الذي تذكره الآية أعم .
ومن إعجاز آية البحث أنها ذكرت نعماً متعددة والنسبة بين كل إثنتين منها هي العموم والخصوص المطلق وهي :
الأولى : عبادة الله عز وجل إذ أختتمت الآية بقوله تعالى [وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ]( ) والشكر لله من مصاديق العبادة، وفرد من أفرادها.
الثانية : الشكر لله.
الثالثة : قوله تعالى [مَا رَزَقْنَاكُمْ].
بلحاظ أن موضوع الشكر أعم من الرزق ، وإن كان الرزق الذي تفضل الله به أكثر وأعظم من شكر العبد لله عز وجل .
الرابعة : الطيبات , فالرزق أعم لأنه يشمل العافية في البدن والأموال والجاه وطول العمر والأولاد .
الخامسة : الأكل من الطيبات .
والمقصود من شكر المسلم على الأكل من الطيبات أعم من القضية الشخصية إذ يشمل وجوهاً :
الأول : شكر المسلم لله عز وجل لأكل الوالدين الطيبات .
الثاني : شكر المسلم لله عز وجل لأكله الطيبات .
الثالث : شكر المسلم لله عز وجل لأكل أولاده الطيبات .
الرابع : شكر المسلم لله عز وجل على أكل المسلمين والمسلمات الطيبات من الرزق ، وهو من رشحات قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) بتقريب أن من معاني الأخوة الإيمانية أن يشكر المسلم الله عز وجل على ما رزق أخوته ، فيكون سبباً لدوام النعم عليهم .
الخامس : شكر المسلمين لله على نعمة الطيبات للواحد منهم ، وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة الجمع ، ومع قلة كلمات آية البحث فان متعلق الشكر فيها من وجوه :
الأول : الشكر لله على نداء الإيمان وصيرورته سبباً للرزق الكريم والإنتفاع من هذا الرزق فقد يرزق الإنسان مالاً أو طيبات ولكن يتعذر عليهم الإنتفاع منها أو تكون هناك موانع دون هذا الإنتفاع.
الثاني : بيان الآية لقانون وهو أن هناك رزقاً كريماً لا يأتي للإنسان إلا بصفة الإيمان ، وفيه دعوة للعمل للتحقيق والتدبر فيما إختص الله به المسلمين ، وتتجلى بعض مصاديق في هذا الزمان بثروة النفط والغاز التي توجد أكثرها إستخراجاً وإحتياطاً في بلاد المسلمين ، ومناطق حول موضع البيت الحرام ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ] ( ).
ليكون من منافع الشكر على هذه النعمة أمور :
أولاً : إستدامة هذه النعمة .
ثانياً : البدل والعوض المناسب عند بيع النفط .
ثالثاً : الأمن والسلامة من الكساد .
رابعاً : الإنتفاع الأمثل من ثروة النفط والمعادن .
خامساً : تسخير هذه النعمة لعبادة الله وتعظيم شعائره ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
سادساً : الشكر لله عز وجل مقدمة لتعدد النعم الظاهرة والباطنة ، وبرزخ دون نضوبها .
الثاني : قيام المسلمين بالشكر لله عز وجل على أمره تعالى [كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ] فذات الأمر فضل ووعد منه تعالى ، وهو من مصاديق [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الطيبات والرزق الواسع ، فيأكل منها البر والفاجر ، ولكن الله عز وجل خصّ المؤمنين بأن جعل أكلهم منها إمتثالاً لأمره ، وطاعة له أمّا أكل الكافر منها فهو حجة عليه .
الثالث : الشكر لله عز وجل على عدم نفاذ الطيبات أو النقص فيها ، ويدل عليه لغة التبعيض في قوله تعالى [مِنْ طَيِّبَاتِ] ، وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين وتأكيد لإستدامة الأمن الغذائي وطرد للفزع والهلع والخوف من الفقر والعوز ،
وفي الآية تكذيب متقدم زماناً ومتجدد في كل آن لما يقال من النقص في الغذاء ، نعم تبعث الآية على العمل والكسب وإحياء الأرض وزيادة إنتاج الغذاء وإصلاح قنوات الري والموارد المائية وتسخير الوسائل العلمية والتثقيفية الحديثة بما يتناسب والزيادة الهائلة في عدد السكان ومحاربة الجفاف ، والأصل في هذا النمو السكاني أن تكون سبباً لزيادة شكر الله عز وجل وإخلاصهم في العبادة ، وهذا النمو آية من عند الله ، قال سبحانه [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
لقد جاءت الآية بأمرين :
الأول : الأكل من الطيبات .
الثاني : الشكر لله عز وجل .
وهل من ملازمة بينهما أم لا ، فلو لم يأكل المسلم من الطيبات هل يشكر الله عز وجل ، الجواب ، يجب أن يشكر المسلم الله عز وجل سواء أكل من الطيبات أو لم يأكل لأن موضوع الشكر أعم وهو مطلوب بذاته كما أنه بلغة للأكل من الطيبات ، ومن خصائص صيغة الجمع في آية البحث أنها تدعو المسلمين للشكر من جهات :
الأولى : شكر المسلمين لله عز وجل على أكل الفرد منهم الطيبات .
الثانية : شكر المسلمين على أكلهم مجتمعين الطيبات .
الثالثة : شكر المسلم لله عز وجل على أكل إخوانه المسلمين الطيبات من الرزق ، فقد يكون هو محروماً منها في يوم ما ولكن غيره من المسلمين يتنعم بها سواء في قريته وبلده أم في بلد واحد أخر ، وهذا الضرب من الشكر من مصاديق قوله تعالى [ انما المؤمنون أخوة]( ) كما يصح تقدير الآية : والشكر لله لأنكم إياه تعبدون .
لقد سأل إبراهيم عليه السلام الله عز وجل أن يريه كيف يحيي الموتى (عن ابن عباس قال : بلغني أن إبراهيم بينا هو يسير على الطريق إذا هو بجيفة حمار عليها السباع والطير قد تمزق لحمها وبقي عظامها ، فوقف فعجب ثم قال : ربّ قد علمت لتجمعنها من بطون هذه السباع والطير ، رب أرني كيف تحيي الموتى) ( ).
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين ليطمئنوا إلى إيمانهم بأن يشكروا الله عز وجل ، لأن الشكر من وجوه العبادة .
وتبين خاتمة آية البحث وجوهاً ومعاني من لفظ [السلم] المذكور في الآية إذ أنها تحذر من إتباع خطوات الشيطان من جهات :
الأولى : قبل الدخول في السلم .
الثانية : أثناء وعند الدخول في السلم .
الثالثة : بعد الدخول في السلم .
وفيه طرد للغفلة عن المسلمين ، ليكون من إعجاز القرآن قانون وهو إقتران الأمر والنهي في القرآن بمقدمات وأسباب العمل , وإزاحة الموانع التي تحول دون الإمتثال له .
فعندما يطرأ أمر أو واقعة عند المسلمين ينظرون إليها من جهة السلم وعدم تعارضها معه ، ومن جهة خطوات الشيطان ولزوم الإحتراز من إتباعها .
(وأخرج مسلم عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الشيطان يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس ، فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة ، فيقول : ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا . فيقول إبليس : لا والله ما صنعت شيئاً ، ويجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله ، فيقربه ويدنيه ويلتزمه ويقول : نعم أنت)( ).
قانون ملازمة الشكر للإباحة
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء ومن وجوه الإبتلاء فيها أمور :
الأول : حاجة الإنسان للأكل والشرب .
الثاني : رغبة الناس بالحيازة والتملك .
الثالث : حب الإنسان للطيبات وأكلها .
فلا يستطيع الإنسان معرفة أنواع الأكل وكيفية الإنتفاع منها لولا أن تفضل الله عز وجل بتسخيرها له وتهيئة مقدمات زراعتها وتكوينها وصناعتها , وهذه الطيبات من أسرار ورشحات قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) وتفضل الله عز وجل وجعلها قريبة من كل إنسان ، وعدم تقييد الأكل والإنتفاع منها بالمؤمنين .
ثم تفضل وأنزل آية أكل الطيبات بأن إبتدأت بنداء الإيمان ليكون المعنى على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا قد أكرم الله عز وجل الإنسان بالطيبات فكلوا منها وأشكروا لله .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بأن الله هو الذي خلق الطيبات وجعلها في متناول الإنسان مطلقاً البر والفاجر كلوا منها .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا إن الدنيا حلوة خضرة مليئة بالطيبات فكلوا منها وأنتم أحق بها .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا إن الطيبات من الطعام جزاء عاجل على الإيمان وحجة على الذين كفروا في النشأتين ، فيأكل المسلم الطيبات ويشكر الله عز وجل فيكون سبباً لدوامها , قال تعالى [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
ومن خصائص نداء الإيمان أنه دعوة للناس للهداية والرشاد لما فيه من الحسن الذاتي والترغيب بالفضل الإلهي ، لقد أكرم الله عز وجل الإنسان بأمور :
الأول : تفضل الله بالنفخ من روحه في آدم .
الثاني : أمر الله عز وجل للملائكة بالسجود لآدم ، قال تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ..] ( ).
الثالث : إقامة آدم وحواء في الجنة والأكل من ثمارها والتنعم بنعيمها ، قال تعالى [وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ..]( ).
ليكون من معاني آية أكل الطيبات أن الله عز وجل أنعم على الناس بسكنهم في الأرض ، وهو نعمة عظمى قبل أن تصل النوبة إلى مسألة ونعمة الخلافة فيها .
وإذ توجه الخطاب في الآية أعلاه إلى آدم وحواء وهما في الجنة للأكل من شجرها وثمارها ، فقد توجه الخطاب إلى المسلمين خاصة للأكل من الطيبات التي في الأرض لتكون مرآة لثمار جنة آدم ومقدمة للأكل الدائم من جنة الخلود .
وفي بيان فضل الله على المؤمنين في الآخرة ووصف حالهم في الجنة ورد في التنزيل [كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ..] ( ).
وكأن آية الطيبات تقول لهم ( كلوا من طيبات ما رزقناكم ) كي تشكروا الله عز وجل في الدنيا وفي الآخرة ، ومن شكرهم في الآخرة أنهم يرون ذات لون الفاكهة كالتفاح والرمان والخضروات فيقرون بأنه كان في الدنيا رزقاً من عند الله ، وعندما يأكلون يجدون أن الطعم يختلف وهو أفضل آلاف المرات مما يشابهه في الدنيا .
الرابع : هبوط آدم إلى الأرض بمرتبة الخلافة والنبوة .
الخامس : التكاثر في ذرية آدم وإنتشارهم في الأر ض ، ومن الإعجاز في آية البحث الإطلاق المكاني والزماني وتقديرها على وجهين :
الأول : يا أيها الذين آمنوا في أي زمان كلوا من طيبات ما رزقناكم .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا في أي موضع من الأرض كلوا من طيبات ما رزقناكم .
وفي الآية رد متقدم زماناً على الذين يقولون بنقص الغذاء وحدوث الفاقة عند أهل الأرض ، نعم قيدت الآية الأكل بوجوب الشكر لله عز وجل ، وهو أمر لا يقدر عليه الذين كفروا فهم يأكلون من الطيبات ولكنهم لا يشكرون الله .
ويحتمل المراد من الشكر في قوله تعالى [وَاشْكُرُوا لِلَّهِ] ( ) وجوهاً :
الأول : الشكر القولي .
الثاني : الشكر الفعلي .
الثالث : الشكر القولي والفعلي ، ومنه العمل الصالح .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث.
ويتعذر على الكافر الشكر لله عز وجل في أي وجه من الوجوه أعلاه لتخلفهم عن عبادة الله ، إذ قيدت الآية الشكر لله بعبادته بلحاظ أنه غني عن الشكر والعبادة , ولكنه سبحانه جعل عبادة الناس له علة لخلقهم وخلافتهم في الأرض وتسخير ما في السموات والأرض لهم .
وقد ورد ذات الأمر بالأكل إلى الأنبياء والرسل بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ ..] ( ) وبين الرسول والنبي عموم وخصوص مطلق ،فكل رسول هو نبي وليس العكس ، ولكن الآية أعلاه وردت بالمعنى الأعم والمفهوم اللغوي للرسول وإرادة كل نبي ورسول .
ليكون من معاني الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث أن المسلمين خلفاء الرسل ، وليكون من شكر المسلمين لله الذي تذكره آية البحث العمل الصالح ، وتوجه ذات خطاب الأكل من الطيبات إلى بني إسرائيل بقوله تعالى [وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ] ( ).
وتكرر هذا الخطاب في القرآن لبني إسرائيل للحجة والبرهان ، وهو من الشواهد والمصاديق لقوله تعالى [وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ] ( ).
ليكون من معاني آية البحث تفضيل المسلمين في الأكل من الطيبات بصفة الإيمان أي أنهم يشاطرون الناس الأكل من الطيبات مع الفارق من جهات :
الأولى : الأكل بصفة الإيمان ، وخصال الهدى والرشاد .
الثانية : الوعد من عند الله عز وجل بأنه سبحانه يرزق المؤمنين الطيبات ، فلا يأتي النداء على أمر غير موجود وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم فضلاً وعهداً من عندنا ).
الثالثة : مجئ الآية بصيغة الفعل الماضي [رزقكم] لتأكيد تحقق الرزق من عند الله عز وجل وعدم إنقطاعه بلحاظ توجه هذا الخطاب للمسلمين في كل يوم من أيام الحياة الدنيا ، ومن الآيات في نظم القرآن ورود الخطاب العام للناس جميعاً قبل آية البحث بأربع آيات في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ..] ( ).
فجاءت الآية أعلاه بالأمر الكريم والفضل العظيم ثم تعقبه النهي عن الغواية والضلالة وإرتكاب الفواحش ، ثم جاءت آية البحث خاصة بالمؤمنين لتكون شاهداً على تقيدهم بالنهي عن إتباع خطوات الشيطان ، لإقامة الحجة على الناس وبيان فضله سبحانه ، وتجلي الإعجاز في نظم القرآن .
وصحيح أن الدنيا دار إمتحان وإبتلاء إلا أن آية البحث تبين حقيقة وهي الجزاء العاجل على الإيمان , وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا إن الله يشكركم على الإيمان بأن رزقكم من فضله وأمركم بالأكل من الطيبات .
وهذا الجزاء من مصاديق ملكية الله عز وجل المطلقة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) فأبى سبحانه إلا التباين بين المؤمنين والكفار في كل عالم من العوالم الطولية ، الحياة الدنيا ، عالم البرزخ ، الآخرة ، فتتهيأ أسباب الرزق للناس مطلقاً وتقبل الدنيا على شطر منهم كبشر من غير أن يقيد إقبالها بالإيمان أو ما هو ضده ، فيأكل الناس من الطيبات ولكن المؤمنين يمتازون بأمور:
الأول : الأكل من الطيبات بأمر من عند الله ليكون قوله تعالى [كُلُوا] إذناً وإباحة من عند الله للمؤمنين من ملك الله عز وجل ، وهو من خصائص خلافة الإنسان في الأرض ورد الله عز وجل على الملائكة حين إحتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فمن علمه سبحانه أنه أباح للمؤمنين أكل الطيبات جزاء منه تعالى لهم على الهداية والإيمان .
ومن إعجاز القرآن إخباره بأن هذه الإباحة مصاحبة لوجود الإنسان في الأرض ، ولن تفارقه إلى يوم القيامة ، إذ يدخل آدم في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ] ( ).
والقرآن كتاب باق إلى يوم القيامة ، ويتجدد النداء الوارد في آية البحث [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] في مصداقه والمتلقي له من المسلمين ما دامت الحياة الدنيا ، فلما تفضل الله عز وجل وختم النبوة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه ملأ الأرض بالطيبات ، وجعل المسلمين أمة باقية إلى يوم القيامة تتنعم بأكل الطيبات بأمر وإباحة متجددة من عند الله وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ولم تقيد الآية موضع الطيبات لبيان وجوه :
الأول : ما على الأرض من الأشجار والثمار .
الثاني : ما يزرعه الإنسان من الحبوب والخضروات ، فيكون الزراع من مختلف الأجناس والملل ، ولكن الأمر والإذن بأكل الطيبات خاص بالمؤمنين .
ومن مصاديق الشكر لله عز وجل أن غير المسلم يزرع والمسلم هو الذي يأكل من ثمار وطيبات من غير أرضه وبلده ، كما في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] ( ) بلحاظ المعنى الأعم للآية وأن المراد من أهل البيت الحرام ليس سكان مكة على نحو الحصر ، بل يشمل المسلمين الذين يستقبلون البيت الحرام في صلاتهم ، والذين يحجون إليه كل عام ويطوفون حوله على مدار أيام السنة .
وبعد الأمر باباحة أكل الطيبات ورد الأمر من عند الله بالشكر له سبحانه ، ويحتمل في متعلقه وجوهاً :
الأول : شكر الله عز وجل على نعمة الأمر من عنده تعالى بالأكل من الطيبات بلحاظ أن هذا الأمر نوع هداية ورحمة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ] ( ) وفيه منع للحرج في الدين , وإتصال التنعم بالحياة الدنيا بالحلال , ومن غير إسراف لمجئ النهي عنه بقوله تعالى [وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ]( ).
لقد بينت هذه الآية أن الزهد لا يتعارض مع أكل الطيبات وأن العالِم وغيره والحاكم والمحكوم ، والذكر والأنثى من المسلمين يتساوون في الأكل من الطيبات .
الثاني : شكر الله عز وجل على الرزق الكريم الذي تفضل به على المسلمين لقوله تعالى [مِمَّا رَزَقَكُمْ]ودلالته على أن الطيبات وحضورها عند المسلمين بآية من عند الله .
الثالث : بيان الآية للتبعيض ووجود الزائد من الرزق الكريم عند المسلمين ، لقوله تعالى [مِمَّا رَزَقَكُمْ] فيأكل المسلمون من الطيبات وينفقون منها في سبيل الله ، وتبقى منها زيادة تؤكد لغة التبعيض في الآية .
الرابع : الشكر لله عز وجل على الملازمة بين أمور :
الأول : الهداية والإيمان .
الثاني : توجه الأمر من عند الله للمؤمنين بصفة الإيمان .
الثالث : الرزق الكريم من الطيبات .
الرابع : تفضل الله عز وجل بالأمر للمسلمين بالأكل من الطيبات .
الخامس : دوام الرزق الكريم من عند الله عز وجل .
ويتنعم الكافر بالدنيا وزينتها ، فأبى الله عز وجل أن يجعل المسلم في حسرة منها ، أو أن يصل به الزهد إلى حرمان النفس والأهل منها ، وهل يكون نداء الإيمان في هذه الآية حجة للعيال على الأب والزوج بالإنفاق في الطيبات وتهيئتها وإحضارها لهم، الجواب نعم ، خاصة وأن خطاب الذين آمنوا يشمل :
الأول : رب الأسرة الذي تجب عليه النفقة .
الثاني : الزوجة .
الثالث : الابن والبنت .
الرابع : الوالدان اللذان تجب نفقتهما على الابن .
ومن خصائص المؤمنين الذين أكرمهم الله عز وجل بنداء الإيمان لغة التبعيض الواردة في آية البحث من جهات :
الأولى : توجه النداء بالأكل من الطيبات إلى الذين آمنوا من بين عموم أهل الأرض ، ومن سعة رحمة الله وتغشيها للناس جميعاً عدم حصر الأكل من الطيبات بالذين آمنوا خاصة إذ أنها متيسرة للناس جميعاً .
الثانية : التبعيض في الطيبات التي تؤكل بقوله تعالى [كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ]للدلالة على كثرة الطيبات من اللحوم والفاكهة والثمار والخضروات والحبوب وما ينفصل عن الحيوانات من الطيبات كاللبن والبيض والعسل .
ومن إعجاز الترادف اللفظي في القرآن ورود لفظ (بطونها) مرتين في القرآن ويتعلق كل واحد منهما بالأكل من نتاج الحيوانات ، قال تعالى في الأنعام [نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا]( ) .
وفي النحل قال تعالى [يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ..]( ).
الثالثة : التبعيض في الرزق الكريم المأكول منه ، فمن إعجاز الآية أنها لم تقل ( كلوا من طيبات رزق الله ) لأنه يتضمن إحتمال بذل الوسع للكسب والتنافس فيه.
قانون الملازمة بين الأمر بالأكل ومنع الحرج
جاءت الآية بالتبعيض والحصر بالرزق الخاص للمؤمنين ، والإخبار عن صيرورة الطيبات ملكاً للمسلمين ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذي آمن كل مما رزقناك .
الثاني : يا أيها الذي آمن كل مما رزقك الله .
بلحاظ العموم والخصوص بين الوجه الأول والثاني أعلاه ، فيتنعم المسلم بما رزق الله عامة المسلمين ، ويتنعم بما رزقه الله على نحو الخصوص والتعيين .
الثالث : يا أيها الذي آمن كل مما رزق الله أباك وأمك وأخاك بالمعروف ، وجاء نفي الحرج في قوله تعالى [وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا]( ).
ومن الإعجاز في المقام بخصوص الصداقة أمور :
اولاً : ورود لفظ (صديق) في القرآن .
ثانياً : ورود كلمة [صَدِيقِكُمْ] مرة واحدة وبصيغة المفرد والإضافة إلى جماعة المسلمين ، مما يدل على تعدد صداقات الفرد الواحد من المسلمين ، إذ يكون صديقاً لهذا وذاك .
ثالثاً : رفع الحرج عن إزدياد أواصر الصداقة وبلوغها للمشاركة في الأكل والشرب مع الإحتراز من المحرمات .
رابعاً : لفظ الصداقة في الآية من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ( )].
خامساً : تحتمل النسبة بين مؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه والصداقة التي تذكرها هذه الآية وجوهاً :
1- التساوي وأن الأخوة بين الصحابة هي ذات معنى الصداقة التي تتضمنها هذه الآية .
2- نسبة العموم والخصوص المطلق ، وأن الأخوة بين المهاجرين والأنصار أعم وأوسع من لفظ [صديقكم] الذي تذكره هذه الآية .
3- نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
4- التباين ، فمعنى الأخوة الإيمانية غير الصداقة .
والمختار هو الأخير لذا فان آية نفي الحرج هذه ذكرت الأكل في بيوت الإخوان مثلما ذكرت الأكل في بيت الصديق ، ومن الإعجاز فيها أن لفظ ( إخوانكم ) جمع والمراد منه المتعدد ، أما لفظ [صديقكم ] فهو متحد لبيان السعة في الأخوة فيشمل جهات :
الأولى :الأخوة بالنسب .
الثانية : الأخوة بالرضاعة .
الثالثة : المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار بتعيين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الإعجاز مجئ آية [كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ] بصيغة الأمر ، أما بالنسبة لآية الأكل من بيوت الآباء والأمهات والإخوان وغيرها فجاءت بصيغة الإباحة ونفي الحرج ، لبيان قانون وهو أن الله عز وجل كفى المؤمنين وجعل رزقهم يتوجه إليهم على نحو التعيين ، فلا تصل النوبة إلى الحاجة إلى الأكل من بيوت الغير وإن كان ذي قرب وهو من عمومات قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
الرابع : يا أيتها التي آمنت كلي من طيبات ما رزقناكِ .
الخامس : يا أيتها التي آمنت كلي من طيبات ما رزقناكم ، والجمع بين الوجه الرابع والخامس من وجوه تعدد الفضل الإلهي على المسلمين ، لذا تجد البنت واجبة النفقة على أبيها ، وعندما تصبح زوجة تكون واجبة النفقة على زوجها من غير أن يسقط وجوبها على الأب بل يكون في طوله ، وهو من إكرام الله عز وجل للمرأة المسلمة ، وحفظ شأنها وحقها في الشريعة الإسلامية ، لتشكر الله بالتقوى والعفة .
السادس : يا أيتها اللائي آمنّ كلن مما رزقناكن ) , والتعدد في لفظ رزقناك لإرادة المفرد المذكر ، ورزقناكِ لإرادة المفرد المؤنث و(رزقناكم ) لإفادة جمع المذكر وعموم المسلمين و(رزقناكن ) لجمع النسوة من مصاديق آية الرزق هذه , ومن أسرار توجه الخطاب فيها للمسلمين بصبغة وصفة الإيمان .
وإن قيل من المسلمين من هو فقير لا يستطيع أكل الطيبات بينما جاءت الآية بذكرها على نحو التبعيض من عموم الرزق للمسلمين ، والجواب من جهات :
الأولى : تبين الآية قانوناً وهو لابد من أكل المسلم من الطيبات في أيام حياته ، وأن الفقر لا يحيط به على نحو الإطلاق في أيام حياته , قال تعالى[إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا]( ).
الثانية : في الآية بشارة للمسلم بزوال حال الفقر والفاقة .
الثالثة : لقد نزلت هذه الآية في أيام كان المسلمون فيها شديدي الحاجة والعوز ، لتكون بشارة السعة والغنى للمسلمين ، لذا يمكن القول بأن قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) أعم من النصر في ميدان القتال وحده بل يشمل فتح أبواب الرزق الكريم لهم ، وكأن فيه نصراً على الفقر أيضاً .
وجاءت آية البحث بالبشارة والإخبار عن صيرورتها أمراً واقعاً ، ونسب إلى الإمام علي عليه السلام أنه قال (لو كان الفقر رجلاً لقتلته) ولم يثبت مصدره.
وقيدت الآية أعلاه الدعاء بالرزق الكريم بالإيمان بالله واليوم الآخر ) لقد كان أهل مكة يجمعون الجيوش العظيمة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وهم في المدينة ، ولا دليل على تعطيل أحكام الآية القرآنية لفترة من الزمان ، خاصة في أيام النبوة والرسالة الخاتمة ، فتأتي الطيبات للمهاجرين والأنصار بفضل من عند الله ، وقد تقدم حديث (صخرة الخندق)( ) وكيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضربها ثلاث ضربات ، كل ضربة تضئ سماء المدينة أنواراً ليخبر عن بشارة بفتح بلاد الشام وفارس واليمن .
قصة عدي بن حاتم
ورد عن عدي بن حاتم في قصة عودته من الشام وحضوره بين يدي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه دخل عليه في مسجده وسلّم عليه فسأل عن إسمه ، قال : عدي بن حاتم ، فبادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأخذه إلى بيته وفيه غاية الإكرام ، فلقيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم امرأة كبيرة فاستوقفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوقف معها مما يدل على أنه ليس عنده حجّاب أو من يلزم الإستئذان منه للحديث مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقيد (كبيرة) في الحديث لبيان الحال ورفع الظنة .
فرأى عدي أن المرأة أطالت الوقوف مع النبي تتحدث معه في حاجتها وهو ينصت لها ، وكان عدي زعيم قومه وإتصل بالملوك والأمراء ، وابن كريم العرب فاستقرأ عدي مما شاهده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس بملك .
وكان بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتألف من غرف صغيرة ، كل غرفة لزوجة من زوجاته , وقال عدي (حَتّى إذَا دَخَلَ بِي بَيْتَهُ تَنَاوَلَ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوّةً لِيفًا ، فَقَذَفَهَا إلَيّ) ( ) وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه) ( ) وفيه أمور :
الأول : إفراغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لغرفة أحدى زوجاته عند قدوم الضيف معه ، وكما هي العادة في البيوت الصغيرة ونحوها في كل زمان .
الثاني : إتفاق وجود غرفة من غرف زوجاته فارغة ليس فيها أحد .
الثالث : توجيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمر لأحدى زوجاته بإفراغ غرفتها وهو على شعب :
الأولى : في كل مرة يعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكون غرفة إحدى زوجاته مهيأة لجلوسه .
الثانية : تهيئة غرفة إحدى الزوجات لإحتمال دخول ضيف مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : حالما يأتي الضيف يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إحدى زوجاته بافراغ بيتها ، كما لو كانت هي صاحبة تلك الليلة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا] ( ) .
الرابع : وجود غرفة خاصة في بيت النبي لإستقبال أهل بيته وأصحابه وضيوفه .
والمختار هو الأخير ، وفي الحديث وفد ثقيف الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورد عن أنس بن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنزل بني مالك في قبة له) .
مما يدل على وجود محل خاص لأضياف النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ولكن الذي يدل عليه حديث عدي حتى إذا دخل بيته ) أخص من القبة التي هي نوع خيمة , إنما يدل على وجود غرفة خاصة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مهيأة لإستقبال الضيوف والإستماع للمسائل , ولتوجيه الأوامر والنواهي .
مما يدل على أن ساعات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الليل والنهار مسخرة في سبيل الله .
وليس من دليل على حصر بيوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغرف زوجاته .
وعن عن زيد بن أرقم قال كان لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبواب شارعة في المسجد , فقال يوما سدوا هذه الابواب إلا باب علي قال فتكلم في ذلك ناس , فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فاني ما أمرت بسد هذه الابواب غير باب علي فقال فيه قائلكم واني والله ما سددت شيئا ولا فتحته ولكن أُمرت بشئ فاتبعته.
عن ابن عمر قال لقد أوتى ابن أبى طالب ثلاث خصال لان يكون لي واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم زوجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنته وولدت له , وسد الابواب إلا بابه في المسجد واعطاه الراية يوم حنين.
وعن أبى سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا علي لا يحل لاحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك) قال علي بن المنذر قلت لضرار بن صرد ما معنى هذا الحديث قال لا يحل لاحد يستطرقه جنبا غيرى وغيرك)( ).
لقد قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوسادة لعدي بن حاتم ولم يكن في البيت غيرها مما يدل على أنها مكان جلوس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وان الغرفة مجلس خاص به صلى الله عليه وآله وسلم فأبى عدي أن يجلس عليها حياء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وعن عدي (قُلْت : بَلْ أَنْتَ فَاجْلِسْ عَلَيْهَا) ( ) .
وظاهر كلام عدي أنه لم يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة أو الرسالة فلم يقل له أنت يا رسول الله أجلس عليها , فأجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل أنت , فجلس عليها عدي ونظر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كيف أنه يجلس وليس بينه وبين الأرض فراش لتتذكر أجيال وعوائل المسلمين الزهد الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقتبسوا المواعظ من مدرسة النبوة ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاقداً للمال بل كان ينفق في النهار المائتين والثلاثمائة ويبقى أهل بيت النبوة من غير عشاء أو نار توقد له .
فتحدث عدي بن حاتم مع نفسه بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليس بملك أو سلطان لأمور :
الأول : ليس من خصال الملوك تقديم غيرهم عليهم .
الثاني : جلوس النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الأرض.
الثالث : عدم توفر وسائل في البيت عدا وسادة واحدة .
ولما إستقر عدي في مجلسه قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا عدي بن حاتم ألم تكن ركوسياً ، والركوسية فرقة لها دين خاص ومذهب بين النصرانية والصابئية .
فقال عدي : بلى .
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أولم تكن تسير في قومك بالمرباع ( ).
قلت : بلى :
قال : فان ذلك لم يكن يحل لك في دينك .
قلت : أجل والله وأدرك عدي حينئذ ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسل من عند الله يعلم أحكام الملل الأخرى ، وأحوال الناس ، ولكنه بقى يسمع المزيد من البرهان الذي يدل على صدق نبوته .
ومنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنتقل من القضية الشخصية إلى العامة , ومن الزمن الماضي إلى المستقبل .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لعلك يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين (مَا تَرَى مِنْ حَاجَتِهِمْ فَوَاَللّهِ لَيُوشِكَنّ الْمَالُ أَنْ يَفِيضَ فِيهِمْ حَتّى لَا يُوجَدُ مَنْ يَأْخُدُهُ وَلَعَلّك إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِيهِ مَا تَرَى مِنْ كَثْرَةِ عَدُوّهِمْ وَقِلّةِ عَدَدِهِمْ فَوَاَللّهِ لِيُوشِكَنّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرَجُ مِنْ الْقَادِسِيّةِ عَلَى بَعِيرِهَا ( حَتّى ) تَزُورَ هَذَا الْبَيْتَ لَا تَخَافُ وَلَعَلّك إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِيهِ أَنّك تَرَى أَنّ الْمُلْكَ وَالسّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ وَاَيْمُ اللّهِ لَيُوشِكَنّ أَنّ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ قَالَ فَأَسْلَمْت)( ).
لقد إبتدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذكر حاجة المسلمين لبيان أثر هذه الحاجة في إمتناع شطر من الناس خاصة الوجهاء والأمراء عن دخول الإسلام فلما كان عدي يأخذ من قومه ربع ما يغنمون وأدرك أن الإسلام دين المساواة فيجتمع أمران الحاجة والمساواة دفعة واحدة مع التنزه عن الظلم والغزو بغير حق بحيث يحرم الأمراء من المرباع ونحوه مما يستأثرون به لأنفسهم .
كما في دخول قوم عدي الإسلام قبله ، فبيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما سيؤول إليه حال المسلمين من الغنى والثروة ، وفي الحديث برزخ دون اليأس والقنوط والإرتداد ، وليكون الحديث مرآة وإعانة للمسلمين للعمل بمضامين قوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( ).
وفي الحديث شاهد على الفاقة والفقر الذي كان يتصف به المسلمون الأوائل من المهاجرين والأنصار ، ومع هذا أظهروا أسمى معاني الثبات في مقامات الهدى والإيمان ، لقد إنتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيان حال الثراء والسعة الذي ينتظر المسلمين وبلوغهم مرحلة الإكتفاء وغنى النفس ، فالأصل أن الإنسان يحب جمع الأموال والإكثار منها بينما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عزوف المسلمين عن اللهث وراء الدنيا مع إقبالها عليهم بقوله (حتى لا يوجد من يأخذه) وهو من أسرار خلافة الإنسان في الأرض وإكرام الله عز وجل للمؤمنين على نحو الخصوص , ويبين حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم القطع بأمور :
الأول : إفاضة المال على المسلمين .
الثاني : مجئ الأموال إلى المسلمين بالحلال .
الثالث : بقاء المال فائضاً بين المسلمين .
ثم إنتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إحتجاجه على عدي بن حاتم إلى أمر آخر وهو قلة عدد المسلمين مع كثرة عدوهم من المشركين فالإنسان بفطرته لا ينحاز للفئة القليلة التي تكون في حال حروب وقتال مع الجماعة والأمة الكبيرة ، خاصة إن كان من علية القوم .
فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما يبعث الطمأنينة في نفس عدي بن حاتم بأنه ستخرج المرأة عما قريب من القادسية إلى حج بيت الله الحرام أو أداء العمرة من غير أن تخاف التعدي عليها ، وفيه بشارة فتح مكة ثم الكوفة وشيوع الأمن في عامة بلاد المسلمين لأن ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لطريق القادسية إلى البيت الحرام من باب المثال وليس التعيين والحصر ، ولأن القادسية كانت مدينة كبيرة معروفة عند الناس ثم صارت من مدن ونواحي مدينة الكوفة .
(ومن الكوفة إلى القادسية خمسة عشر ميلاً) ( ).
وقال ابن بطوطة (وكانت القادسية مدينة عظيمة افتتحها سعد ، وخربت فلم يبق منها الآن الا مقدار قرية كبيرة، وفيها حدائق النخل وبها مشارع من ماء الفرات، ثم رحلنا منها فنزلنا مدينة مشهد علي بن أبي طالب عليه السلام بالنجف، وهي مدينة حسنة في أرض فسيحة صلبة من أحسن مدن العراق وأكثرها ناساً وأتقنها بناء ولها أسواق حسنة نظيفة دخلناها من باب الحضرة، فاستقبلنا سوق البقالين والطباخين والخبازين، ثم سوق الفاكهة ثم سوق الخياطين والقيسارية ثم سوق العطارين ثم الحضرة)( ).
ويبين الحديث التغير النوعي في أحوال الناس وشأن الأمم فيها ، فبعد قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم من حولهم ، تكون تلك البلاد كلها ملكاً للمسلمين ، وهم الحكام فيها ، فلا يبقى هناك خطر أو ضرر على أهل المدينة أو مكة .
وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المرأة في السفر مع أنها ضعيفة وعاجزة عن القتال ، وهل يدل الحديث على جواز سفر المرأة من غير محرم إذا أمنت الطريق ، الجواب نعم بالنسبة للحج والزيارة .
ويتضمن الحديث بشارة إزاحة الذين كفروا وسلطانهم وأوثانهم عن البيت الحرام ، وهو الذي تحقق في فتح مكة في السنة الثامنة ، ويتضمن حث المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة على عمارة البيت الحرام ، وعدم حصرها بالحج لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر لفظ الزيارة وهو أعم من الحج بقوله(حتى تزور هذا البيت) وقد إقترحنا ربط عواصم العالم الإسلامي بمكة المكرمة والمدينة بشبكة سكك حديد حديثة ( ).
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمراً آخر قد يكون سبباً دون دخول عدي وأمثاله في الإسلام بأنهم يرون الملك والسلطان بأيدي غير المسلمين فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن عدياً سيدرك فتح العراق ، ومن الآيات أنه سكن في الكوفة ، وطال عمره .
وخرج عدي بن حاتم هو وأولاده مع الإمام علي عليه السلام في معركة صفين وكانت راية قبيلة طيّ معه ، وكان ختنه حابس بن سعد الطائي حاملاً لراية طيّ مع جيش معاوية ، وكان حابس قد ولاه عمر بن الخطاب قضاء حمص , وسأله كيف أنت صانع ، قال : أجتهد رأيي وأشاور جلسائي فقال إنطلق فلم يمض إلا يسيراً حتى رجع ، فقال أني رأيت رؤيا أحببت أن أقصها عليك ، قال هاتها ، قال رأيت كأن الشمس أقبلت من المشرق ومعها جمع عظيم , وكأن القمر أقبل من المغرب ومعه جمع عظيم .
فقال له عمر : مع أيهما كنت ، قال مع القمر ، فقال عمر : كنت مع الآية الممحوة ، لا والله لا تعمل لي عملاً أبداً , ورده فقتل في معركة صفين .
ومات عدي بن حاتم سنة سبع وستين للهجرة عن مائة وعشرين سنة بقرقيسيا , والتي تقع على نهر الخابور وتسمى اليوم البصيرة ، وتبعد أربعين كيلو متراً جنوب شرق مدينة دير الزور .
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى …] ( )
تضمنت هذه الآية بيان الحكم الجنائي بخصوص القتل ووردت بصيغة الجملة الخبرية لبيان أن القصاص أمر ثابت ومفروض من عند الله عز وجل .
ترى لماذا إبتدأت هذه الآية بنداء الإيمان , الجواب من وجوه:
الأول : إرادة الشهادة من عند الله للمسلمين بالإيمان .
الثاني : بعث السكينة في قلوب المسلمين لأن في شهادة الله لهم بالإيمان خير الدنيا والآخرة ، قال تعالى [وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا] ( ).
الثالث : دلالة شهادة الله للمسلمين بالإيمان على إمكان قيام المسلمين بأحكام القصاص وهذا القيام فرع السلطنة والحكومة .
لقد إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض لإفساد الإنسان في الأرض فجاءت آية البحث لمصاديق من رد الله عز وجل على الملائكة من وجوه :
الأول : وجود أمة مؤمنة بالله تتعاهد عبادته تعالى في الأرض .
الثاني : فرض الله القصاص في الأرض ، فاذا علم الملائكة أن الذي يعتدي ويقتل غيره يقتص منه أخوه الإنسان فأنهم يرضون بحكم الله لأنه من علم الله تعالى الذي لا يدركون غايته ، فقد يظن الملائكة أن عقاب القاتل منحصر بالدار الآخرة مما يؤدي إلى تمادي الناس بالقتل ، ففرض الله عز وجل القصاص على المسلمين حكاماً ومحكومين .
وبين المسلم وغيره في المقام عموم وخصوص مطلق فالمسلم حاكم ومحكوم ، يقتص من غيره بالحق ، ويقُتص منه إذا كان جانياً ، أما غير المسلم فيقتص منه إذا جنى على أحد مسلماً أو غير مسلم .
وقد تقدم في تفسير آية القصاص أعلاه أنها نزلت في حيين من العرب كان أحدهما أرجح من الآخر في العدد والقوة والطول ويظهرون هذا الطَول من وجوه :
أولاً : تزوج أفراد الحي الأقوى لنساء الأضعف بغير مهر .
ثانياً : قتل السيد منهم بالعبد من الفئة والحي الأقوى .
ثالثاً : القصاص عن قتل المرأة بقتل الرجل .
رابعاً : إذا قتل رجل من الحي ذي الطول يقتلون بدله رجلين من الأضعف .
خامساً : المضاعفة في قصاص جراحات الطرف الأقوى .
لبيان أن الإسلام حاجة للناس في زمانه وطريق للمساواة بينهم ، ليكون من إعجاز آية البحث أمور :
أولاً : بعث السكينة في نفوس المستضعفين .
ثانياً : إستئصال سلطان الشيطان والغرور من النفوس والمجتمعات .
ثالثاً : تجلي مصداق للمساواة في الإسلام .
رابعاً : بيان سر من أسرار خلافة الإنسان في الأرض وتقوم الخلافة بالعدل في الحكم والمساواة بين الناس .
الثالث: علم الملائكة بقانون تثبيت قانون القصاص في الحكم بين أهل الأرض إلى يوم القيامة ، لذا حينما إحتج عليهم الله عز وجل بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، خروا سجدوا وإلتجأوا إلى التسبيح والتهليل لمقام الربوبية [قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]( ).
فنزلت آية القصاص لتكون حرباً على الفساد من جهات:
الأولى : دلالة الآية على قانون وهو أن حكم القصاص أمر نازل من عند الله عز وجل.
الثانية : تجلي البيان والنص والتفصيل في الآية القرآنية كما في قوله تعالى[الْحُرُّ بِالْحُرِّ]( ).
الثالثة : سلامة آية القصاص من التحريف والتبديل إلى يوم القيامة، وهل تدل سلامة الآية الواحدة من القرآن على سلامته على نحو العموم المجموعي والإستغراقي من التحريف، الجواب نعم , وهو الأصل , خاصة وأن لآية القصاص خصوصية وهي تعلقها بالأحكام وشمولها للغني والفقير، وصاحب الشأن والجاه والحكم من غير فرق بين الناس، فلا يعمل أحد من المسلمين على تحريفها لأنها تتعلق بتشريع القصاص به أو بابنه ونحوه.
الرابعة : تنجز حكم القصاص، وعمل المسلمين به، ليكون فيه إنزجار عن القتل والتعدي بآلة القتل أو الجرح.
الخامسة : مصاحبة الخشية من القصاص للإنسان طيلة أيام حياته , ويحتمل موضوع وأوان هذه الخشية وجوهاً :
الأول : خشية أهل الفساد والتعدي من القصاص.
الثاني : خوف الحاكم من الظلم والتعدي الذي يؤدي إلى القصاص ، فقيامه بتنفيذ حكم القصاص بالقاتل والمعتدي لا يعني سلامته هو من حكم القصاص إن إرتكب ذات الفعل والتعدي.
الثالث : خشية كل إنسان من القصاص، لما فيه من نوع ملازمة شرطية بين الجناية والقصاص، فالذي يهّم بالقتل يستحضر القصاص، والذي يتلو آية البحث تنفر نفسه من التعدي والظلم والفساد، وهو من مصاديق إستئصاله من الأرض بفضل من الله عز وجل.
الرابع : إتعاظ كل إنسان من حكم القصاص، والشواهد في إقامته كشرع لله عز وجل، ومن الآيات التداخل والتقارب بين البلدان في هذا الزمان وإنتشار الخبر بينها بوسائل الإعلام الحديثة ليكون القصاص مناسبة للإتعاظ، والتنزه العام من الفساد.
ومن الآيات أن ذات حكم القصاص دعوة إلى الإيمان من جهات:
الأولى : إبتداء آية القصاص بنداء الإيمان لبيان أن هذا الحكم فضل ولطف من عند الله ، فمن الملكية المطلقة لله عز وجل للسموات والارض حكم القصاص .
الثانية : بيان حب الله عز وجل لعباده ، وعدم رضاه على إشاعة الظلم والفساد.
الثالثة : من خصائص الحياة الدنيا أنها دار الرحمة والعفو ، ومن رحمته في الدنيا بلحاظ حكم القصاص أمور :
الأول : عزوف الناس عن القتل والتعدي الذي يؤدي إلى القصاص إذ ينفر الإنسان بفطرته من الأمر والشيء الذي يجلب له الضرر ، ومنه القصاص الذي هو أشد الضرر من وجوه :
أولاً : تلف وزهق الروح عندما يكون القصاص بالقتل لقوله تعالى [النَّفْسَ بِالنَّفْسِ] ( ).
ثانياً : تقدم الجاني إلى القتل طوعاً وقهراً وإنطباقاً .
ثالثاً : ندم الجاني على إقدامه على الجناية ، وما سببته له من العقوبة.
رابعاً : سوء العاقبة بين الناس بأن يقاد الإنسان للقتل قصاصاً ، وفي دلالته ومفهومه تأكيد لرحمة الله عز وجل بإحتضار الميت بين أهله وأحبائه ، وهم يودعونه للإنتقال إلى عالم الآخرة .
وفي مفهومه مناسبة لحال الفخر والعز للمسلمين الذين يقتلون في سبيل الله فلذا وردت البشارة لهم بالمغفرة والرحمة والجنة الواسعة كما في قوله تعالى وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ.
وتدل الآية أعلاه في مفهومها على لزوم إجتناب الجناية والحكم بالقصاص إذ تضمنت الآية الثناء على الذين يقتلون في سبيل الله أو يموتون على الفراش , فهذا الموت أفضل وأحسن من القتل أو القود ، وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا بأن الله عز وجل يكتب ويفرض عليكم أحكاماً .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بأن القصاص حكم فرضه الله عليكم .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا بالقصاص في القتل .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا بالامتِنان للحكم بالقصاص .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا بلزوم الشكر لله عز وجل على نعمة الحكم بالقصاص .
السادس : يا أيها الذين آمنوا بالتساوي في مسألة القصاص من جهة الحرية والرق ، والذكورة والأنوثة .
السابع : يا أيها الذين آمنوا إجتنبوا إقامة القصاص عليكم .
الثامن : يا أيها الذين آمنوا بأن العفو عن حكم القصاص خير ورحمة .
التاسع : يا أيها الذين آمنوا بأنكم أخوة في الله عز وجل ، وأن القتل فيما بينكم يضركم جميعاً .
ليكون من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) أمور:
الأول : تنزه المسلمين عن قتل بعضهم بعضاً .
الثاني : إدراك المسلمين لحرمة المسلم عند الله وبين الناس ، وعن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَقَتْلُ مُؤْمِنٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا)( ).
الثالث : تلاوة المسلمين لآية القصاص ، وهذه التلاوة تذكير بأحكامها ، وهي من معاني الأخوة والآلفة بين المسلمين ، ولا يختص النفع من التلاوة بالذي يتلو الآية بل يشمل السامع وغيرهما .
فينوي شخص القتل ظلماً فيسمع آية القصاص فيتعظ ويعزف عن القتل والظلم ، سواء كان السامع مسلماً أو غير مسلم ، وهو من مصاديق العموم في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الرابع : من أبهى مواضيع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مضامين قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ] ( ) من جهات :
الأولى : تلقي المسلمين حكم القصاص بصيغة الإيمان ، وهو من فضل الله عز وجل .
الثانية : تعاون المسلمين في إقامة الحدود .
الثالثة : أمر المسلم لأخيه بإجتناب القتل والظلم مطلقاً .
الرابعة : الملازمة بين الإيمان وحكم القصاص ، وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم وعلى الذين من قبلكم القصاص) .
مثلما ورد هذا المعنى بخصوص فرض الصوم بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) .
وهل يمكن تقدير آية القصاص بذات المعنى وإرادة التقوى : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) الجواب نعم لإستقراء سنن التقوى من وجوه :
أولاً : تلاوة المسلمين لآية القصاص في الصلاة وخارجها .
ثانياً : تسليم المسلمين بأن آية القصاص أمر نازل من عند الله في مضامينه القدسية وفي ذات الحكم .
ثالثاً : فرض القصاص على المسلمين من مصاديق وسنن الخلافة في الأرض من وجوه :
1- حكم القصاص ونزوله من السماء تأكيد لإكرام الله سبحانه للمسلمين .
2- تقيد المسلمين بحكم وسنن القصاص من التقوى فان قلت إنما تضمنت الآية الأمر بالقصاص ووجوبه ، والجواب من خصائص الأوامر والنواهي القرآنية وجود أمة تمتثل لكل فرد منها في كل زمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ] ( ).
3- تعاون المسلمين لإقامة حكم القصاص في الأرض .
4- ترغيب آية البحث بالعفو عن القصاص والقود من علامات التقوى والخصال الحميدة ، قال تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ( ).
5- الأجر والثواب بحكم القصاص والذي يبدأ بتلاوة آية البحث.
رابعاً : الإتحاد والتشابه بين المسلمين والمؤمنين وأهل الملل في الأزمنة السابقة .
خامساً : الملازمة بين التقوى والإقتصاص من الجاني ، والقود من القاتل .
سادساً : التساوي وعدم التعدي في القصاص ، فلا يقتل الرجل بالمرأة ، ولا الحر بالعبد ، وقد إنقطعت أيام العبيد والرق وأصبح الناس كلهم أحراراً ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحكام الكفارات والثواب في عتق الرق وأمهات الولد ونحوه.
ومن معاني الفصل والتمييز بين الحر والعبد توجه المسلمين والمسلمات لشكر الله عز وجل على نعمة الحرية , ويمكن تأليف مجلدات خاصة في الفرق بين الحر والعبد ، وخصائص كل واحد منهما والعناء الذي كان يلاقيه العبيد سواء بالحق أو بالظلم والجور .
ومن الآيات أن الذين أبتليوا بوقوع الرق عليهم ، إنما هو بما كسبت أيديهم وإصرارهم أو إصرار آبائهم على الكفر ومحاربة الإسلام .
سابعاً : لقد جاءت آية القصاص بعد آيات تتضمن معاني وسنن التقوى , وتبعث عليها وتزجر عن القبائح ، فتبين الآية السابقة لها خصال البر والصلاح بقوله تعالى [وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ…] ( ).
ويدل حكم القصاص على كل فرد من أفراد البر في الآية أعلاه من وجوه :
الأول : إبتداء آية البحث بالنداء بصفة الإيمان ليكون من وجوه الإيمان في آية البحث بلحاظ الآية السابقة أمور :
أولاً : الإيمان بالله عز وجل .
ثانياً : التصديق باليوم الآخر وأنه حق ، ليكون العمل بأحكام القصاص رجاء الثواب يوم القيامة والإنزجار من القتل والتعدي .
ثالثاً : تسليم المسلمين بوجود الملائكة وأنهم خلق كريم مسكنهم السماء ومنقطعون إلى التسبيح والذكر ، لا يعتدون ولا يظلمون ، إن ذكر الآية السابقة لآية القصاص للملائكة دعوة للمسلمين للإقتداء بهم وتعلم الدروس من حسن سمتهم ، وقد نزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معارك الإسلام الأولى ، لبناء قواعد الإسلام .
رابعاً : تصديق المسلمين بالكتب السماوية النازلة من عند الله على الأنبياء إذ ورد اللفظ [الكتاب ] في الآية السابقة لإرادة الجنس .
ويمكن تأسيس إصطلاح في علم النطق وهو سور الموجبة من ذات اللفظ ، فيدخل فيه اسم الجنس الجامع لأفراده ، قال تعالى (فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) ( ).
وجاءت الكتب السماوية بحكم القصاص ليفيد تصديق المسلمين بها مسائل :
الأولى : حكم القصاص موجود في الأرض قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : جهاد الأنبياء لتثبيت حكم القصاص والذي لم تثن له الوسادة فانه يقوم بتبليغ الحكم بانتظار بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للعمل بمضامينها ، وهو من مصاديق بشارة الأنبياء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : وراثة المسلمين للأنبياء وما جاءوا به من الأحكام والسنن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابعة : بيان مصداق لمجئ القرآن بما يحتاجه الناس إلى يوم القيامة , ومنه الأحكام الجنائية التي تستأصل الظلم والفساد من الأرض .
ولو قتل رجل امرأة عمداً ففيه وجوه :
الأول : لا يُقتل الجاني قوداً حتى يؤدي أولياء المرأة نصف ديته له ، بلحاظ أن دية المرأة نصف دية الرجل .
الثاني : يُقتل الرجل بالمرأة ، وليس بينهما فضل ، قاله ابن جريج .
الثالث : تخيير أولياء المرأة بين إختيار قتله مع دفعهم نصف ديته ، وبين قبول الدية .
والمختار هو الثالث ، وهو المستقرأ من قوله تعالى [وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى] ( ) لبيان التفصيل والفصل بينها وبين الرجل وفيه نكتة وهي أن الذي يقاد بالمرأة لا ينتفع من نصف ديته لأنه يقتل وتكون أرثاً لورثته ، وبقاؤه أفضل وأحسن لهم ، وهو سبب للرزق الكريم .
وذكرت الآية مسائل :
الأولى : الإبتداء بنداء الإيمان ، وفيه بعث للعمل بأحكام القصاص ، وترغيب به ،وعدم النفرة منه , وتدل الآية على أن من لوازم الإيمان الملازمة بين الفرض والكتابة ، فكل ما فرضه الله على المسلمين إنما هو حاجة لهم وسبيل هداية ورشاد .
الثانية : وجوب التساوي في القصاص وعدم التعدي أو التفريط فيه ، فمن التعدي أن يقتل الحر بالعبد مثلاً ، ومن التفريط ترك الحاكم القصاص في حال العمد , ومع طلب ولي الدم له .
الثالثة : التفصيل بأن يقتل الحر إذا قتل حراً ، ويقتل العبد إذا قتل عبداً ، وتقتل الأنثى إذا قتلت أنثى .
وهل يفيد هذا التفصيل الحصر أم أنه من باب المثال ،الجواب جاءت الآية لبيان الأهم وصفات الناس العامة والأكثر إبتلاء في المقام ، فلم تذكر الآية القتل إذا وقع بين المسلم والكتابي أو غيره ، لبيان موضوعية الحرية ، والقبح الذاتي للقتل , وهي نوع واقية للإنسان من القتل بفضل من عند الله ، قال تعالى [وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ] ( ) .
الرابعة : جواز العفو عن القصاص والرضا بالدية وهي نوع جزاء وبدل ومؤاساة وعقوبة تتضمن الزجر للجاني وغيره وتنقسم الدية إلى قسمين :
الأول : دية النفس .
الثاني : دية ما دون النفس .
ولا يجوز قتل الذمي المستأمن والمعاهد وتجب معه الدية (عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا) ( ).
وهل يشمل المعاهد الذمي في بلاده كأهل الغرب الجواب نعم ، والتغليظ في حرمة قتله أشد من المعاهد لأنه ليس مستأمناً فقط بل آمن ومطمئن .
وأجناس الدية ستة وهي :
الأول : مائة من الأبل , وهو الأصل في دية المسلم ، ويجوز البدل عند غلاء أو إنعدام الإبل .
الثاني : ألف دينار ، وكل دينار مثقال ذهب عيار ثمان عشرة حبة .
الثالث : عشرة آلاف درهم فضة ، وكل درهم (2،52) غرام من الفضة ، وهناك أقوال أخرى في وزن الدرهم .
الرابع : ألف شاة .
الخامس : مائتا بقرة .
السادس : مائتا حلة .
ومن أسرار إبتداء آية القصاص بنداء الإيمان تفضل الله عز وجل بالإخبار عن عدم قتل المؤمن لأخيه المؤمن إلا خطأ ، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً] ( ).
وفي الجهة التي تقوم بدفع الدية وجوه :
الأول : في القتل العمد إذا رضي ولي المقتول بالدية فتجب في مال القاتل على نحو الخصوص لأنه أقدم على القتل عمداً ، وفي الدية سلامة لرقبته ونجاة له من القتل .
الثاني : تجب الدية على العاقلة في حال القتل الخطأ وشبه العمد .
الثالث : تخرج الدية من بيت المال إذ لم يكن عند القاتل مال ، وليس من عاقلة ميسورة تستطيع الدفع عنه لقاعدة دم المسلم لا يذهب هدراً .
وكذا يتحمل بيت المال دفع الدية لمن يقتل في زحام أو على جسر أو في مناسك الحج , وكان الفقهاء يذكرون الطواف فقط ، وفي هذا الزمان إتسعت وتبدلت الحال .
وهل يتولى بيت المال دفع دية الذين يقتلون ويصابون في التفجيرات والعمليات الإرهابية , الجواب نعم , مع عدم التوصل إلى معرفة الجاني .
ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا الحر بالحر .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا العبد بالعبد .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا الأنثى بالأنثى .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا من عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا أداء إليه باحسان .
السادس : يا أيها الذين آمنوا فمن عفي له من أخيه شيء ذلك تخفيف من ربكم .
السابع : يا أيها الذين آمنوا فمن عفي له من أخيه شيء ذلك رحمة .
الثامن : يا أيها الذين آمنوا فمن إعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم .
التاسع : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص فمن إعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ) لبيان قانون وهو حرمة تعدد القتل أو الإنتقام من غير الجاني ليكون الإعتداء المنهي عنه في آية البحث على وجوه :
الأول : قتل غير الجاني ثأراً وإنتقاماً كأخيه أو أحد أفراد عمومته .
الثاني : قتل الحر بالعبد ، والذكر بالأنثى من غير أن تدفع له نصف ديته .
الثالث : القتل من دون إذن الحاكم ، لأن القصاص حكم ولابد من أن يسمع الحاكم أو القاضي بيانه .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فان وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله فان الامام ان يخطئ في العفو خير له من ان يخطئ في العقوبة) ( ).
الرابع : عندما يرضى ولي المجني عليه بالدية فعليه باتباع المعروف ، ويتجلى المعروف في المقام من جهات :
الأولى : إجتناب التشديد على الجاني .
الثانية : عدم الزيادة في الدية ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من زاد بعيراً في إبل الدّيات وفرائضها فمن أمر الجاهلية) ( ).
الثالثة : عدم الإشتراط بإحضار الدية في الحال عند تعذر إيجادها ، فبعد أن يرضى ولي المقتول بالدية يعمل بالمعروف والإحسان .
وظاهر الآية الكريمة [فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ]تعلق إتباع المعروف والأداء باحسان لخصوص القاتل , وتقدير الآية : فالقاتل الذي عفي عنه له من دية أخيه المقتول شيء فعليه إتباع بالمعروف وأداء إلى ولي المقتول بإحسان .
وعن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى (” فمن عفى له من أخيه شئ فأتباع بالمعروف وأداء اليه بإحسان ” قال : ينبغي للذي له الحق ان لا يضر أخاه اذا كان قادرا على الدية ، وينبغي للذي عليه الحق ان لا يماطل أخاه اذا قدر على ما يعطيه ، ويؤدى اليه بإحسان ، قال : يعني اذا وهب القود اتبعوه بالدية إلى أولياء المقتول لكي لا يبطل دم إمرئ مسلم).
ومن معاني إبتداء آية القصاص بنداء الإيمان التأكيد على لزوم تعاهد الأخوة الإيمانية بين :
الأول : القاتل والمقتول .
الثاني : القاتل وولي المقتول .
الثالث : الأخوة بين المقتول ووليه .
الرابع : إستدامة المودة بين أولياء المقتول وأولياء القاتل .
الخامس :التصدق من الدية في أعمال البر والصلاح في ثواب المجني عليه .
وهل يصح القول بأن من وجوه تقدير : وأداء إليه بإحسان أي وأداء من ولي المقتول إلى المقتول بالإنفاق في ثوابه ) الجواب لا دليل عليه لأن موضوع الآية يتعلق بالصلة والمعاملة بين الأحياء ، ومن أسرار إبتداء الآية بنداء الإيمان أمور :
الأول : تأكيد حكم القصاص في الملل السماوية السابقة وفي التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام ورد قوله تعالى [وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ..] ( ).
الثاني : بيان وراثة المسلمين للأحكام التي جاء بها الأنبياء السابقين ، ليكون من عمومات قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ) وبشارة الأنبياء ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإقامة المسلمين حكم القصاص ، ومن معاني [وَمُنذِرِينَ] في الآية أعلاه إنذار الناس من القتل العمد ومن سفك الدماء لأن القصاص ينتظرهم .
الثالث : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفة أن القصاص حكم ملازم للإيمان .
الرابع : بيان قانون وهو نزول حكم القصاص من السماء .
الخامس : صيرورة الأحكام الجنائية مقدمة للعمل بالفرائض ، لذا جاءت بعد آية القصاص بخمس آيات آية فرض الصيام وبذات صيغة الإيمان بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ..] ( ).
وأختتمت آية القصاص بالإنذار والوعيد بالعذاب الأليم لمن يعتدي بعد [ذلك] والمراد من اسم الإشارة للبعيد هنا وجوه :
الأول : بعد تشريع حكم القصاص ، لأن القود من القاتل ذاته عذاب أليم .
الثاني : بعد تنفيذ حكم القصاص : فليس لأولياء المقتول الجناية على غيره من أوليائه ، وكذا ليس لأولياء المقتص منه الإنتقام والبطش من ولي الدم لأنه إختار القصاص , وهذا المعنى من أسرار إبتداء آية القصاص بنداء الإيمان ، ليكون من معانيه تعاهد كل مضامين هذه الآية .
الثالث : بيان القصاص بخصوص العمد ، وهو الذي تبينه السنة النبوية , ولكن التقييد مستقرأ من :
الأول : آيات القرآن ، قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحق ..] ( ) فظاهر الآية إرادة القتل العمد من النهي الوارد في قوله تعالى [َلاَ تَقْتُلُوا].
الثاني : السنة النبوية القولية .
الثالث : السنة النبوية الفعلية إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بدفع الدية عند القتل الخطأ ، ليكون تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى عن عمد .
الرابع : نزول الحكم بالقصاص زاجر عن إرتكاب القتل عن عمد ، فيكون من معاني [من بعد ذلك] أي من بعد نزول حكم القصاص على نحو الوجوب .
الخامس : من بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومجيئه بأحكام القصاص وأداء الفرائض .
السادس : من بعد التعيين والمساواة في القصاص .
وبخصوص قوله تعالى [وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ] ( ) ورد (عن أنس : أن الربيع كسرت ثنية جارية ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أخوها أنس بن النضر : يا رسول الله تكسر ثنية فلانة؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أنس كتاب الله القصاص) ( ).
السابع : من بعد إقامة حكم القصاص على بعض الأفراد سواء مما رأيت كيف يقتص منه أو سمعت أو قرأت عنه ، ومن خصائص العاقل الإتعاظ بغيره .
الثامن : بعد عفو ولي الدم عن القصاص ورضاه بالدية ، فيجب على الجاني ألا يعتدي على أهل المقتول ، وهل من الإعتداء الكلام القبيح وذكر المقتول بما يكره أولياؤه , الجواب نعم , لتعدد مراتب التعدي , وتدخل فيه مراتب أدنى بحسب الشأن والعرف .
التاسع : النهي والزجر عن قيام الجاني بعد العفو عنه بالقيام بالقتل مرة أخرى ، وفيه دعوة للجاني للتوبة واللجوء إلى الإستغفار ، وهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة حينما أخبروا عن إفساد الإنسان في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) فمن علمه تعالى أنه إذا قام الإنسان بالقتل فيكون الأمر على وجوه :
أولاً : القصاص وقتل الجاني .
ثانياً : دفع الدية إن رضي ولي المقتول .
ثالثاً : التوبة والإنابة والإستجابة بالإستغفار .
رابعاً : مع تكرار التعدي ينزل العذاب الأليم بالذي يصر على الإعتداء .
العاشر : التعدي من قبل أولياء المجني عليه بأن يرضوا بالدية ثم يعتدوا ، ولا يختص هذا الإعتداء بقتل الجاني .
والتعدي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، ومن الآيات أن النهي عن التعدي لا يختص بمن قبض الدية او قام بالعفو سواء ندم عليه أو لم يندم ، فيشمل أبناء العمومة وغيرهم ، ومن كان صغيراً أوان الجناية ثم كبر ، والذي لم يستطع البطش والإنتقام ، ثم تهيأت له مناسبة للقتل غيلة .
الحادي عشر : من التعدي المماطلة بدفع الدية وعدم الأداء باحسان ، ومن الإعجاز في الآية أنها ذكرت لفظ [الإحسان] وهو اسم جامع للخير , فلا يختص بأوان الدفع بل يشمل كيفية ومحل وأوان الدفع , واللطف عند دفع الدية ، وقد ورد بخصوص دفع أهل الذمة الجزية بقوله تعالى [حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] ( ).
الثاني عشر : من التعدي إبتغاء الفتنة من طرف آخر غير الجاني وأولياء المقتول ، باثارة العصبية ولغة التعيير والإنتقاص من أولياء المقتول لأنهم لم يأخذوا بالثأر أو لأنهم رضوا بالدية ولكنهم لم يستلموا شطراً منها .
الثالث عشر : من التعدي الحكم بغير ما أنزل الله في المقام ، كما لو كان القاتل من ذوي الشأن .
الرابع عشر : التهديد والوعيد للجاني بعد الرضا بالدية وتقييده بالدفع ، قال تعالى [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( ).
وتبين الآية أن التعدي قبيح ذاتاً ، وهو قبيح بالعرض والأثر.
لقد جاء نداء الإيمان قبل خمس آيات ، وهو يتضمن فرض القصاص في القتلى بذات الصيغة واللفظ (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) ترى لماذا تقدمت آية القصاص على آية الصيام في نظم القرآن ، الجواب فيه وجوه :
الأول : بيان موضوعية الأحكام الجنائية في الإسلام ، ولزوم عدم التفريط فيها .
الثاني : الدلالة على أن حكم القصاص سبب لبعث السكينة في النفوس وإشاعة الأمن بين الناس ، وهو مقدمة لأداء الفرائض.
الثالث : إقامة الحجة على الناس بأن الإسلام يحكم بالحق ، ويدعو إلى الحق , ومنه أداء فريضة الصيام .
وورد بين الآيتين ذات أمر الكتابة والفرض بقوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ] ( ).
ومن إعجاز نظم الآيات ورود لفظ [كُتِبَ عَلَيْكُمْ] خمس مرات في القرآن , وكلها في سورة البقرة ، إبتدأت إثنتان منها بنداء الإيمان وهما آية القصاص( ) والصيام( ) .
وفرض القصاص أعم من أن يختص فيما بين المسلمين ، وقتل المسلم لأخيه المسلم ، بل هو عام مما يقع في سلطة دولة الإسلام ، لذا يدفع أهل الكتاب الجزية ليكونوا في ذمة الإسلام ، نعم في هذا الزمان أستحدثت عناوين جديدة من المواطنة ونحوها يتساوى فيها الناس أمام القوانين الوضعية .
ووردت الأخرى في آية ليس فيها نداء الإيمان( ) .
وتتضمن آية البحث ترغيب المسلمين بالصيام والإمساك عن الطعام طاعة لله عز وجل ، وجاءت الآية مطلقة في فرض الصيام ولكنها مقيدة من جهات :
الأولى : ذات آيات الصيام التي تتعقب هذه الآية فحالما أختتمت هذه الآية ورد قوله تعالى [أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ] وفيه وعد من عند الله عز وجل بتخفيف أداء الصيام على المسلمين مجتمعين ومتفرقين .
الثانية : تعيين القرآن لإبتداء الصوم كما في قوله تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ).
الثالثة : بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأوان ومدة الصيام الواجب ، وذكر ما فيه من الثواب والأجر .
وعن ابن عباس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تصوموا قبل رمضان ، وصوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن حالت دونه غيامة فأكملوا ثلاثين) ( ).
الرابعة : تفسير وبيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمصاديق من قوله تعالى [كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] وعن دغفل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( كان على النصارى صوم شهر رمضان ، وكان عليهم ملك فمرض ، فقالوا : لئن شفاه الله لنزيدن ثمانية أيام ، ثم كان عليهم ملك بعده ، فأكل اللحم فوجع ، فقالوا : لئن شفاه الله لنزيدن ثمانية أيام ، ثم كان عليهم ملك بعده ، فقال : ما ندع من هذه الأيام أن نتمها ، ونجعل صومنا في الربيع ففعل ، فصارت خمسين يوما) ( ).
الخامسة : أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بصيام شهر رمضان ، وترك ما كانوا يصومونه قبله .
السادسة : السنة التقريرية بأن يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صيام المسلمين لشهر رمضان ويحثهم عليه .
ومن معاني إبتداء الآية بنداء الإيمان وجوب تعاهد أجيال المسلمين لفريضة الصيام إذ يتوجه ذات النداء إلى أجيال المسلمين المتعاقبة .
ويحتمل توجه النداء من جهة المرة والتكرار وجوهاً :
الأول : يتوجه النداء والأمر بالصيام مرة إلى كل جيل وطبقة من المسلمين .
الثاني : توجه النداء والأمر بالصيام إلى كل مسلم ومسلمة عند بلوغهما سنّ التكليف .
الثالث : توجه الأمر بالصيام إلى المسلمين عند بداية شهر رمضان .
الرابع : عند كل ليلة من ليالي شهر رمضان وإلى حين طلوع فجرها .
الخامس : توجه نداء الإيمان مقروناً بالأمر بالصيام إلى المسلم والمسلمة كل يوم من أيام حياتهما .
السادس : توجه النداء للمسلمين مجتمعين ومتفرقين في كل ساعة من ساعات اليوم والليلة .
والصحيح هو الأخير ، وتكون الوجوه الأخرى في طوله ، وهو من فضل الله عز وجل ليكون الثواب متجدداً كل يوم .
ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ) فحتى لو لم تذكر الآية فرض الصيام على الذين من قبلنا فانه يجب على المسلمين الصيام .
الثاني : يا أيتها اللائي آمنّ كتب عليكن الصيام كما كتب على الذين من قبلكن .
الثالث : يا أيتها اللائي آمنّ كتب عليكن الصيام كما كتب على اللائي من قبلكن .
الرابع : يا أيها الذي آمن كتب عليك الصيام كما كتب على الذين من قبلكم .
الخامس : يا أيتها التي آمنت كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم .
السادس : يا أيتها التي آمنت كتب عليكِ الصيام كما كتب على اللائي من قبلك .
هذا على فرض أن الصيام كتب على المؤمنين من أهل الملل السماوية ولم يختص بالأنبياء دون أممهم , بلحاظ أن الأنبياء كلهم من الذكور .
والصوم على وجوه متعددة :
الأول : الصوم الواجب بالذات ، وهو صيام شهر رمضان .
الثاني : الصوم الواجب بالعرض مثل صوم النذر وصوم العهد .
الثالث : الصوم المستحب ، وفيه نصوص عديدة (عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) ( ).
وقد جاءت هذه الآية بصيغة الجملة الخبرية ( كتب عليكم ) التي تتضمن الأمر والفرض , ووردت آية القصاص بذات الصيغة ، بينما سبقتها آية نداء أكل الطيبات بصيغة الأمر الجامع على وزن [افعلوا ] وفيه آية إعجازية تتجلى بالتباين بينهما من جهات :
الأولى : الأكل من الطيبات عام وشامل للمسلمين على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي .
الثانية : حكم القصاص نادر ، ويتعلق بالقضية الشخصية فقد يمر الأسبوع والشهر والسنة على المسلمين وليس من حال قتل متعمد بينهم ، وإن كان حكم القصاص أعم من أن يختص بالمسلمين .
الثالثة : إنحصار أوان الصيام بشهر رمضان مع الرخصة للمريض والمسافر ، قال تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] ( ).
لقد جاءت خمس آيات متتالية تخص فريضة الصيام ,وواحدة منها تتعلق بالدعاء وإستجابة الله عز وجل له ، ليكون وجودها بين آيات الصيام ذا دلالات من وجوه :
الأول : ترغيب المسلمين بالصيام ، وهذا الترغيب نحو تخفيف عنهم .
الثاني : حث المسلمين على الدعاء والإنتفاع الأمثل من مناسبة شهر رمضان والصيام فيه للإجتهاد بسؤال الرغائب والحاجات في الدنيا والآخرة .
الثالث : بيان قانون وهو أن باب الدعاء مفتوح لمن يصوم والذي يعجز عن الصوم ، فلذا وردت آية الدعاء بصيغة العموم بقوله تعالى [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي] ( ) فلم تقل الآية وإذا سألك الذين آمنوا أو سألك الصائمون .
الرابع : تخفيف وطأة الإمساك عن الأكل والشرب عن المسلمين والمسلمات بالإنقطاع إلى الدعاء ، وهو غنيمة عظيمة تتجلى منافعها في الدنيا والآخرة .
الخامس : بعد آية الدعاء جاء قوله تعالى [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ] ( ) لبيان لزوم عدم التفريط بفريضة الصوم ، فليس هناك عبادة أو عمل بديلاً لها .
السادس : بيان رأفة الله عز وجل بالناس جميعاً ، إذ أن رحمة الله عز وجل قريبة منهم ، وأن التخلف عن أداء فريضة الصيام ليس برزخاً دون سماع الله عز وجل لدعاء العبد ، لما في هذا الدعاء والمسألة من الإقرار بالربوبية الله عز وجل ، قال تعالى [لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولاً] ( ).
ومن بين ثلاث عشرة مرة ورد فيها لفظ [كُتِبَ] في القرآن تكرر في هذه الآية لبيان الملازمة بين وجود الإنسان في الأرض ووجوب الصيام ، وهو الذي تدل عليه أخبار صيام آدم عليه السلام .
(عن زر بن حبيش قال: سألت ابن مسعود عن ايام البيض # ما سببها وكيف سمعت؟ قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول ان آدم لما عصى ربه تعالى ناداه مناد من لدن العرش يا آدم اخرج من جواري فانه لا يجاروني أحد عصاني، فبكى وبكت الملائكة .
فبعث الله عز وجل إليه جبرئيل فاهبطه إلى الارض مسودا فلما رأته الملائكة ضجت وبكت وانتحبت , وقالت: يا رب خلقا خلقته ونفخت فيه من روحك واسجدت له ملائكتك بذنب واحد حولت بياضه سوادا فنادى منادي من السماء ان صم لربك اليوم فصام فوافق يوم الثالث عشر من الشهر فذهب ثلث السواد .
ثم نودي يوم الرابع عشر أن صم لربك اليوم فصام فذهب ثلثا السواد ثم نودي يوم الخامس عشر بالصيام فصام فاصبح وقد ذهب السواد كله , فسميت أيام البيض للذي رد الله عز وجل فيه على آدم من بياضه .
ثم نادى مناد من السماء يا آدم هذه الثلاثة أيام جعلتها لك ولولدك من صامها في كل شهر فكأنما صام الدهر) ( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (صام نوح الدهر إلا يوم الفطر والأضحى ، وصام داود نصف الدهر ، وصام إبراهيم ثلاثة أيام من كل شهر صام الدهر وأفطر الدهر) ( ) .
وفي الآية دلالة على إختتام النبوة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن كتابة وفرض الصوم منحصر بالمسلمين ومن قبلهم من الأمم .
وتبين الآية أن الصيام فرد إضافي للإيمان بالله ورسوله ، فلا يقف الدخول في الإسلام عند النطق بالشهادتين بل لابد من أداء الفرائض العبادية التي ورد وجوبها بالأمر وبصيغة الجملة الخبرية.
ترى لماذا تكرر لفظ [كُتِبَ]في آية البحث , الجواب من وجوه:
الأول : إكرام المسلمين ، فلما إبتدأت آية البحث بنداء الإيمان تفضل الله وخاطبهم بتكرار لفظ [كُتِبَ] وصحيح أن الفرد الآخر منهما يتعلق بالأمم السابقة إلا أنه يخص المسلمين من جهات :
الأولى : إخبار المسلمين بقانون توجه الأمر بالصيام إلى الأمم السابقة .
الثانية : وراثة المسلمين لسنن الملل السالفة .
الثالثة : بيان خلافة المسلمين لشرائع الأنبياء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الرابعة : دلالة تعاهد المسلمين لفريضة الصيام على تفضيلهم على الأمم السابقة .
الخامسة : توجه المسلمين بالشكر لله عز وجل على تلقيهم وجوب الصيام مثلما كُتب على الأنبياء السابقين .
وهل الإخبار الوارد في آية البحث عن فرض الصيام على الأمم السابقة من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ) .
الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن ، والشواهد على أن قصص الأنبياء والأمم السابقة في القرآن أعم من أن تأتي بصيغة القصة والخبر ، فتشمل ما يرد بنداء وخطاب للمسلمين ومنه لغة التشبيه في فرض الصوم بين المسلمين والأمم السابقة ، وفيه وعد من عند الله عز وجل للمسلمين على شكره لهم على أدائهم فريضة الصيام لذا ورد قوله تعالى [وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ] ( ) ،كما جاءت النصوص من السنة النبوية بالأجر والثواب على الصيام ، وكيف أن ذات شهر ومضان مناسبة للمغفرة ، وتقييد للشياطين بالإغلال .
الثاني : تأديب المسلمين بأن أداء الفريضة رحمة من الله عز وجل بهم .
الثالث : إرادة ثناء المسلمين على الأمم السابقة ممن تعاهدوا الصيام .
الرابع : إكرام المسلمين بنزول فرض الصيام عليهم خاصة ، فلم يتلقوه إرثاً من الأمم السابقة ، بل كتبه الله عز وجل عليهم كمسلمين .
الخامس : نزول فرض الصيام على المسلمين في القرآن الكتاب الباقي إلى يوم القيامة سالماً من التحريف والتغيير والتبديل .
وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم صيام شهر رمضان .
وفي تفضيل المسلمين في المقام مسائل :
الأولى : إختصاص المسلمين بصيام شهر رمضان , وتعاهدهم له .
الثانية : سلامة فريضة الصيام من الزيادة أو النقصان مع تعاقب أجيال المسلمين ، وليس من سبيل للإجتهاد في مقابل النص فيه .
الثالثة : صيرورة فريضة الصيام مناسبة لتهذيب النفوس والصلاح .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا كتب الصيام على الذين من قبلكم ) وفيه شاهد على بعثة الأنبياء السابقين وأن الصيام لم يفرض على الأمم السابقة إلا بواسطة الأنبياء لبيان جهادهم في سبيل الله ، وقيامهم بتبليغ الأحكام الشرعية ، ووجود أمة تعمل بالأوامر والنواهي التي يأتون بها من عند الله .
وتبين آية البحث حاجة الناس إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تثبيت الفرائض .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام لعلكم تتقون ) وفي لغة الرجاء في الآية وجوه :
الأول : فرض الصيام على المسلمين طريق للتقوى , والخشية من عند الله عز وجل.
الثاني : بيان أن فرض الصيام على المسلمين خير محض .
الثالث : أداء المسلمين للصيام مقدمة للتحلي بملكة التقوى .
الرابع : ذات أداء الصيام مصداق للتقوى ، ويكون تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام لتصوموا ، بلحاظ أن الصوم ذاته تقوى .
الخامس : أداء الصيام باعث على إتيان الفرائض العبادية الأخرى .
وعن عتبة بن فرقد السلمي( ) قال : (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( اذا جاء شهر رمضان فتحت أبواب الجنة و غلقت أبواب النار و صفدت الشياطين , ونادى مناد يا طالب الخير هلم , ويا طالب الشر اقتصر حتى ينسلخ الشهر) ( ).
وليس من حصر لمصاديق التقوى التي تترشح عن الصيام وهي من وجوه :
الأول : ما يترشح على الفرد من المسلمين بصيام المؤمنين عامة .
الثاني : النفع العام الذي يأتي للأمة بصيامها .
الثالث : إنتفاع الأمة من صيام الفرد الواحد منهم .
الرابع : إنتفاع عامة الناس من صيام المسلمين .
فان قلت القدر المتيقن من الآية رجاء تقوى المسلمين أنفسهم, الجواب نعم ، ولكن فيوضات هذه التقوى كثيرة ومتعددة , وصلاح وتقوى المسلمين من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
لبيان قانون وهو تعدد وكثرة مصاديق رحمة الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , في التنزيل ، وفي أفعال المسلمين وأدائهم الفرائض العبادية ، ليكون تقدير قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] بلحاظ غير المسلمين على وجوه :
الأول : لعلكم تتقون فيدخل الناس الإسلام ، إذ تفضل الله عز وجل وجعل الإنسان يميل بفطرته إلى الهدى والإيمان .
الثاني : لعلكم تتقون فيشيع الصلاح في الأرض .
الثالث : لعلكم تتقون الفساد في الأرض ، ليكون أداء المسلمين للصيام من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة عندما قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
الرابع : لعلكم تتقون وتخشون الله عز وجل في الصلات والمعاملة فيما بينكم ، ومع الناس كافة .
الخامس : لعلكم تتقون بقصد القربة في العبادة والمعاملة .
السادس : لعلكم تتقون وتأمرون الناس بالأمر بالمعروف وتنهون عن المنكر .
السابع : لعلكم تتقون بحسن الصبر والمرابطة ، إذ أن الصيام مدرسة الصبر .
ترى ما هو المراد والمفروض في قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ] ( ) الجواب من وجوه :
الأول : إرادة العزم على الحكم بالقصاص عند القتل أو الجرح والتعدي عمداً ، وكما لو كتب في الدستور والقوانين الوضعية .
الثاني : المقصود تنجز القصاص والأمر به عند وقوع القتل .
الثالث : المقصود التآزر والتعاون للعمل بحكم القصاص مع موضوعية العفو .
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق الآية .
لقد ورد لفظ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ]في القرآن مرتين :
الأولى : في فرض القصاص( ) .
الثانية : آية الصيام( ) .
أما لفظ [كُتِبَ عَلَيْكُمْ] فقد ورد خمس مرات في القرآن باضافة ثلاث آيات إلى الآيتين أعلاه ، واحدة في كتابة الوصية ، وإثنتين في القتال وفرضه أحدهما خطاب للمسلمين والآخر في بني إسرائيل إذ ورد حكاية عن أحد أنبيائهم بعد أن سألوا تعيين أحدهم ملكاً للقتال في سبيل الله ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا] ( ).
(وأخرج عبد بن حميد عن أبي عبيدة قال : كان في بني إسرائيل رجل له ضرتان ، وكانت إحداهما تلد والأخرى لا تلد ، فاشتد على التي لا تلد فتطهرت ، فخرجت إلى المسجد لتدعو الله فلقيها حكم بني اسرائيل – وحكماؤهم الذين يدبرون أمورهم – فقال : أين تذهبين؟ قالت : حاجة لي إلى ربي . قال : اللهم اقض لها حاجتها فعلقت بغلام وهو الشمول ، فلما ولدت جعلته محرراً ، وكانوا يجعلون المحرر إذا بلغ السعي في المسجد يخدم أهله ، فلما بلغ الشمول السعي دفع إلى أهل المسجد يخدم ، فنودي الشمول ليلة ، فأتى الحكم , فقال : دعوتني؟ فقال : لا ، فلما كانت الليلة الأخرى دعي ، فأتى الحكم فقال : دعوتني؟ فقال : لا ، وكان الحكم يعلم كيف تكون النبوة , فقال : دعيت البارحة الأولى؟ .
قال : نعم . قال : ودعيت البارحة؟ قال : نعم . قال : فإن دعيت الليلة فقل لبيك وسعديك والخير في يديك والمهدي من هديت ، أنا عبدك بين يديك مرني بما شئت .
فأوحي إليه ، فأتى الحكم فقال : دعيت الليلة؟ قال : نعم ، وأوحي إلي . قال : فذكرت لك بشيء؟ قال : لا عليك أن لا تسألني . قال : ما أبيت أن تخبرني إلا وقد ذكر لك شيء من أمري ، فألح عليه وأبى أن يدعه حتى أخبره .
فقال : قيل لي : إنه قد حضرت هلكتك وارتشى ابنك في حكمك ، فكان لا يدبر أمراً إلا انتكث ولا يبعث جيشاً إلا هزم ، حتى بعث جيشاً وبعث معهم بالتوراة يستفتح بها فهزموا ، وأخذت التوراة فصعد المنبر وهو آسف غضبان ، فوقع فانكسرت رجله أو فخذه فمات من ذلك ، فعند ذلك قالوا لنبيهم : ابعث لنا ملكاً وهو الشمول بن حنة العاقر) ( ).
لقد أراد الله عز وجل بعث السكينة في نفوس المسلمين بأن ما كتبه وأوجبه عليهم إنما هو مفروض على غيرهم من الموحدين من الملل السابقة .
ويفيد الجمع بين الآيات أن القتال وسيلة وليس غاية بذاته ، وسيلة لبعث الأمن والسلامة من التعدي العام على الخاص ، وواقية من إستيلاء الذين كفروا على السلطان وآله الحكم بما منع من تعظيم شعائر الله في الأرض ، وهو حرز من إستحواذ الشيطان على القلوب .
منافع فرض الصيام
لقد فرض الله سبحانه الصيام على المسلمين في السنة الثانية للهجرة تلك السنة المباركة التي حصل فيها النصر في معركة بدر بمدد وعون من عند الله ، وقد تفضل ونسب النصر له سبحانه بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )وقيد ( وأنتم أذلة ) حجة وتذكير وتوثيق باق إلى يوم القيامة ، فلا يستطيع أحد أن يقول لو لم ينصر الله المسلمين يوم بدر لإنتصروا بقوتهم وعدتهم وشجاعتهم.
ويدل قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ]على التباين بين فريضة الصيام وبين صيام التطوع ، وما كان لعلة مثل صوم الكفارة ز
وقد ورد لفظ [فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ] ( ) مرتين في القرآن الأولى في كفارة قتل الخطأ ، والثانية في كفارة الظهار ، إذا قال الرجل لإمرأته أنتِ عليّ كظهر أمي ثم أراد أن يطأها .
ومن الإرادة التكوينية تعدد كثرة المنافع في الفريضة العبادية ولا يحصي هذه المنافع والفوائد إلا الله عز وجل ، ويمكن تقسيم منافع الصيام إلى قسمين :
الأول : المنافع الدنيوية ، وهي كثيرة منها :
الأولى : الصيام مصداق لطاعة وعبادة المسلمين لله عز وجل.
الثانية : في الصيام إصلاح للمجتمعات .
الثالثة : زيادة حال الخشوع والخضوع عند المسلم .
الرابعة : تنمية ملكة الصبر عند المسلمين مجتمعين ومتفرقين .
الخامسة : الصيام مناسبة لإستجابة الدعاء .
السادسة : في الصيام تنزه عن الظلم , وإمتناع عن الغيبة .
السابعة : إرادة صيام جوارح المسلم .
الثامنة : في الصحة سلامة من الأدران والأمراض ، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صوموا تصحوا) ( ).
وفي كل يوم يتجلى لأطباء الأبدان فوائد للصيام منها تخفيف الوزن , ونقاء الجلد , وإصلاح الأنسجة , وطرد السموم من البدن , وقلة الألم , والإسترخاء , وتنمية الذاكرة , وتقوية جهاز المناعة .
والصيام طريق وقاية لأمراض الكبد والسكري ، وقد تفضل الله عز وجل , وقال [وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ] ( ).
التاسعة : تثبيت معاني الأخوة الإيمانية بين المسلمين .
العاشرة : ذات الصيام وعاء زماني للإستغفار ، وواقية من فعل الذنوب .
الحادي عشرة : شهر رمضان آمن وحصن من غواية الشيطان وعندما قال الله سبحانه [وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ] ( ) تفضل وأنعم على المسلمين بشهر رمضان للوقاية الذاتية من الغواية ، وصفّد الشياطين في شهر رمضان .
الثانية عشرة : الصيام حرز وتدبير ، لذا قال النبي محمد صلى الله عليه آله وسلم (الصوم جنّة) ( ) أي سلاح .
الثاني : المنافع الأخروية : الصيام طريق للخلود في النعيم ، لذا إبتدأت آية فرضه بنداء الإيمان , ليكون من معانيه وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا بأن الموت حق , وأن الجنة والنار حق .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا الصيام حق وصدق .
ومن الآيات أن الصيام شفيع للمسلم والمسلمة يوم القيامة .
(عن عبد الله بن عمرو : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفِّعْني فيه ، قال : فيشفعان ) ( ).
ومن خصائص الصيام وجود باب للجنة خاص بالصائمين إكراماً لهم , وهو مناسبة ليتعارف أهل الصيام من الأجيال المتعاقبة والبلدان المتباعدة ، ويكون تعارفهم بصيغ الشكر لله عز وجل .
وعن سهل بن سعد (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : للجنة ثمانية أبواب ، فيها باب يسمى الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة ، لا يدخل معهم أحد غيرهم يقال : أين الصائمون؟ فيدخلون منه ، فإذا دخل آخرهم أغلق ، فلم يدخل منه أحد زاد ابن خزيمة : ومن دخل منه شرب ، ومن شرب لم يظمأ أبداً) ( ).
وتختص فريضة الصيام بشهر رمضان من كل سنة , ولكن المسلمين يتلون آيات الصيام كل يوم في الصلاة وخارجها لبيان تجدد الثواب لهم بهذه التلاوة ، ولتكون مقدمة لصيام شهر رمضان القادم والشكر لله عز وجل على نعمة صيام شهر رمضان الفائت .
منافع القصاص
القتل من أفدح الأشياء ضرراً وأشدها على النفوس ، فيُقتل شخص ولكن الذين يتألمون والذين يفزعون يخافون لا يحصي عددهم إلا الله ، وتبقى حادثة القتل يذكرها الناس فيصاب بالحزن والخوف أغلب الذين يستمعون إليها أو يقرأونها ، لذا جاءت الآية التالية لبيان النفع من القصاص بقوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ] ( ) .
فاذا أردتم منع القتل والفزع والخوف منه فعليكم بالقصاص والقود من الجاني كي يمتنع القتل ، ويطمئن المستضعفون بأنهم إذا قتل واحد منهم فان الجزاء هو قتل الجاني ، وفيه بعث للطمأنينة والسكينة في نفوس المسلمين عند أداء الصلاة , والفرائض الأخرى .
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً لمنع الفوضى ، وإستئصال الجريمة ، وقطع الغزو والثأر , والغاية من القصاص ليس البطش والإنتقام من الجاني ، إنما لسيادة الأمن في المجتمع , وليعيش المسلمون حياة طيبة ، وليأكلوا مما رزقهم الله .
لذا جاءت الآية بالحث على العفو وحكم القصاص مقدمة لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ] ( ).
ومن الإعجاز في قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ]( ) لغة التنكير في لفظ الحياة لإفادة العموم والتعدد في مصاديق الحياة ، ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : ولكم في القصاص حياة إيمانية دائمة .
الثاني : ولكم في القصاص حياة طمأنينة .
الثالث : ولكم في القصاص حياة تؤدون فيها الفرائض والواجبات .
الرابع : ولكم في القصاص حياة وطول عمر , وسلامة من القتل غيلة أو قصاصاً .
لقد منع حكم القصاص من الإيغال بالدماء والإسراف بالقتل ظلماً أو ثأراً ، ويتقوم حكم القصاص بأمور :
الأول : فرض حكم القصاص كما في آية البحث .
الثاني : تنفيذ حكم القصاص بذات الآية التي كان القتل بها أو بالمناسب والأخف .
الثالث : العفو عن الجاني وهو على أقسام :
الأول : الإنتقال من حكم القصاص إلى قبول الدية .
الثاني : العفو على نحو الجزئية باسقاط شطر من الدية .
الثالث : العفو التام عن الجاني , وترك القصاص وإسقاط كامل الدية .
ويحتمل قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ]( ) وجوهاً :
الأول : إرادة تنفيذ القصاص ، وهو القدر المتيقن الظاهر .
الثاني : يدخل قبول الدية في الحكم بلحاظ أنه دليل على القصاص.
الثالث : شمول العفو للحكم ، فعفو ولي الدم عن الجاني لا يتعارض مع حكم الآية , وإرادة الحياة من القصاص .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، فكلها من مصاديق الآية وتقديرها ، كتب عليكم القصاص ولكم في تشريع وحكم القصاص حياة وإن إنتقلتم للبديل ) ، لأن قبول الدية أو العفو من قبل ولي الدم وليس من قبل السلطان .
فحتى مع العفو يبقى الإنسان خائفاً من الإقدام على القتل لأن حق القصاص بيد ولي المقتول ولأن هذا الحكم باق إلى يوم القيامة ، وإن تم تعطيله في فترات من الزمان ، وتطالب منظمات وجهات وأشخاص بمنع عقوبة الإعدام .
وبين الإعدام والقصاص عموم وخصوص مطلق ، فالإعدام أعم في موضوعه وكيفيته وقد يحكم بالإعدام على الشخص لجنايات متعددة مما ليس فيه سفك الدماء ، أما القرآن فخص القتل فقط بالقصاص ، وجعل في تنفيذه سعة ومندوحة وأثنى على الذين يعفو بقوله تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ( ) وأن كان موضوع الآية أعلاه خاصاً .
وقد بيناه مفصلاً في بيان مستقل( ) ووصفت الآية أحكام آية القصاص بأنها [تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ) ترى لماذا لم تقل الآية : تخفيف ورحمة من ربكم) الجواب من جهات :
الأولى : إرادة التخفيف عن المسلمين والرحمة لهم ولعامة الناس.
الثانية : بين الرحمة والتخفيف عموم وخصوص مطلق من وجوه:
أولاً : الموضوع .
ثانياً : المتعلق .
ثالثاً : الأثر .
رابعاً : العاقبة .
الثالثة : تأكيد قانون وهو أن قانون القصاص ذو نفع عام للمسلمين في عالم الآخرة من وجوه :
أولاً : تلاوة المسلمين لآية القصاص هذه .
ثانياً : عمل المسلمين بأحكام آية القصاص .
ثالثاً : تعاون وتعاضد المسلمين للعمل بأحكام آية القصاص .
رابعاً : قيام المسلمين بالتعاون والتعاضد لتنجز وإنفاذ حكم القصاص .
خامساً : تآزر المسلمين في إجتناب علة حكم القصاص وهو القتل ، فمن يهّم بالقتل منهم يجتهدون في موعظته وإنذاره من عذاب الدنيا والآخرة ، ويسعون في إصلاح ذات البين حتى يزيلوا الكدورة والغضاضة التي تسبب الوعيد والهمّ بالقتل ، وهو من الشواهد على إمتثالهم للنهي الوارد في قوله تعالى [وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ).
الرابعة : كل آية قرآنية ، وكل حكم نازل من السماء هو رحمة.
الخامسة : الإذن بالدية والقبول بها تخفيف ورحمة .
السادسة : كل من العفو والقبول بالدية والأداء باحسان رحمة من عند الله ، وهو مصداق للتراحم بين المسلمين والناس جميعاً.
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( )
تبين الآية موضوعية الدخول في الإسلام والثبات في مقامات الإيمان ، وعدم الإنقياد للنفس الشهوية والإصرار على العصبية .
ومن الإعجاز في الآية أنها واقية من الإرتداد خاصة عند إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، وفي التنزيل [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
فان قلت وردت الآية بخصوص الدخول في الإسلام فهل تتضمن لزوم البقاء فيه ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : دلالة الأمر بالدخول على عدم الخروج أو مغادرة منازل الهدى والرشاد .
الثانية : من إعجاز الآية أن الذي يدخل الإسلام لا يغادره ، ومن أسرار تسمية ترك الإسلام بالإرتداد بعث النفرة من هذا الترك ، وتأكيد قبحه الذاتي والغيري .
الثالثة : مجئ آية البحث بالنهي عن إتباع خطوات الشيطان ووروده متعقباً للأمر بالدخول في الإسلام .
والمراد من الدخول في السلم أعم من الدخول في الإسلام لأن الآية تخاطب الذين آمنوا وتدعوهم إلى الدخول في السلم. ومن الإعجاز مجئ الآية بصيغة سور الموجبة الكلية [كافة] ليكون كل مسلم سلماً لنفسه وسلماً لغيره ، وناشراً للأمن والسلام .
وهو من أسرار رد الله عز وجل على إنكار الملائكة بث الناس في الأرض وإشاعتهم الفساد ، إذ قال الله سبحانه [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ليكون جوابه للملائكة دعوة لهم إلى التدبر والتفكر في صلاح المسلمين وعبادتهم لهم , وإشاعتهم للسلم والأمن .
لقد وردت الآيات بحث المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ ..]( ).
وتضمنت آية البحث الأمر للمسلمين بالدخول في السلم على نحو العموم الإستغراقي ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله أدخلوا في السلم كافة .
الثاني : يا أيتها اللائي آمنّ أدخلن في السلم كافة .
الثالث : يا أيها الذي آمن أدخل في السلم .
ويبين الأمر العام للمسلمين بدخول السلم حاجتهم وحاجة الناس للسلم ، والسلم في الأرض من مصاديق ملك الله عز وجل لها وقوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) فهو ملك تصرف وتدبير ، ومن خصائصه الرحمة بالناس ، والعفو عنهم ، ودعوتهم للسلم من وجوه :
الأول : بيان وجوب الإيمان ، إذ أن السلم فرع الإيمان بلحاظ خشية المؤمن من الله عز وجل .
الثاني : تقريب المسلمين والناس من السلم والتآلف ونبذ الإقتتال ، قال تعالى [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
الثالث : صيرورة المسلمين أسوة حسنة للناس في الدخول في السلم .
الرابع : حث المسلمين على التدبر في معاني ووجوه السلم والعمل به .
ومن إعجاز آية البحث أنها دعوة لمعرفة منافع السلم ، وهل يستطيع الناس عدّ منافع الإيمان أو فوائد الدخول في السلم الجواب لا .
ومن منافع السلم والأمر بالدخول فيه على إرادة معناه كضد للحرب والقتال وجوه :
الأول : تفقه المسلمين في الدين ومعرفة أحكام الحلال والحرام .
الثاني : إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية .
الثالث : التسليم بأن الله عز جل يحب المسلمين والناس جميعاً ، ولكن الذين كفروا حجبوا عن أنفسهم هذه النعمة ، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار .
الرابع : التقيد بآداب وأحكام السلم ترغيب للناس لدخول الإسلام ، ومانع من نفرتهم منه .
الخامس : نبذ المسلمين العصبية وسلامتهم من إستحواذ النفس الغضبية .
السادس : بيان قانون وهو ميل المسلمين الدائم للسلم ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] ( ).
السابع : إجتناب المسلمين لمواطن الإقتتال بين الناس ، وعدم الدخول في حلف يقود إلى القتال أو هو مترشح عن القتال .
الثامن : بيان مصداق من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ] ( ) لبيان أن دخول المسلم في السلم عام من جهات:
الأولى : السلم فيما بين المسلمين أنفسهم , ترى ما هي النسبة بين السلم وبين قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ) الجواب نسبة العموم والخصوص المطلق ، فالإعتصام بحبل الله والتمسك بأحكام الشريعة أعم من الدخول في السلم ، وهو من مصاديقها.
وقد تقدم في تفسير هذه الآية [أدخلوا في السلم كافة] أن لفظ كافة لا يثنى ولا يجمع ، فلا يصح القول كافات ولا كافين ، مثلما لا تصح تثنية أو جمع خاصة وعامة ( ) .
والمراد من لفظ كافة الجميع ، وهو من ألفاظ سور الموجبة الكلية ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً] ( ) . وبعد مجئ الأمر في آية البحث للمسلمين بالدخول في السلم ، ورد نهي المسلمين عن إتباع خطوات الشيطان , وعن إنتهاج القبيح من الأفعال ، وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان .
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن المسلمين يعلمون بخطوات الشيطان وأنها ليست خافية عليهم ، فلا ينهاهم الله عز وجل إلا عن أمر معلوم وجلي لتنزهه تعالى عن التكليف بما لا يطاق ، قال تعالى [لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا] ( ).
ويريد الشيطان أن يوقع الناس في المعاصي ، وينغمسوا في مستنقع الرذيلة ، فيجعل خطواته ظاهرة للناس لجرهم إليها ويقوم بتزيين المعصية , وبث الغفلة عن سوء عاقبتها بلحاظ أن الغفلة أمر وجودي بعد أن رزق الله عز وجل الإنسان العقل .
والمراد من الشيطان في الآية كل متمرد فاجر ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ولا تتبعوا خطوات إبليس .
الثاني : ولا تتبعوا خطوات شياطين الجن .
الثالث : ولا تتبعوا خطوات شياطين الإنس ، قال تعالى [شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا] ( ).
لقد أظهر إبليس الحسد لآدم وإمتنع عن طاعة الله عز وجل حينما أمر الملائكة بالسجود لآدم ، فصار هذا الإمتناع غواية وسبباً في سعيه لإفتتان الناس ، وفي التنزيل [ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ] ( ) .
وهل تخلف أكثر الناس عن الشكر الوارد بقوله تعالى [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ] ( ) بسبب ما قاله إبليس ، الجواب لا ، إنما هو من البيان الإلهي لحال الناس ، وفيه دعوة للمسلمين للصبر والإجتهاد في الشكر لله والأمر بالشكر له سبحانه والنهي عن الجحود والصدود عن سبيله سبحانه .
وخاطبت الآية المسلمين والمسلمات على نحو الخصوص بقوله تعالى [وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ] ( ) لأن الشيطان يستدرج الإنسان لما فيه أذاه وضرره في الدنيا والآخرة فهو لا يدعو إلا للشر والضلالة , وما يكون بذاته قبيحاً يترشح عن القبح والأذى .
فيدعو الشيطان إلى الكفر بالربوبية والنبوة والكتاب ، وقد نجّى الله عز وجل المسلمين منه ، وجعلهم في واقية منه بالإيمان ، ومن بركات الإيمان نهي الله عز وجل لهم عن خطوات الشيطان الأخرى .
إذ يرّغب الشيطان بالذنوب الكبيرة منها والصغيرة فان عجز عن بعضها جاء للإنسان من جهة أخرى ، فيزين له شرب الخمر ليكون مقدمة ونوع طريق للفواحش ومعاصي عديدة ، ويطمعه في الدنيا فيقرض المال بالربا والفائدة المحرمة ، وتميل النفس إلى الوطئ والجماع ، فيسعى الشيطان في تهيئة مقدماته ، ويحتمل إغواء الشيطان للإنسان وجوهاً :
الأول : يبدأ الشيطان بتقريب الصغائر من الذنوب إلى الإنسان .
الثاني : يقوم الشيطان بتزيين الكبائر للإنسان لتغمسه في النار.
الثالث : يسعى الشيطان لجرّ الإنسان إلى الذنوب الكبيرة والصغيرة .
الرابع : يرى الشيطان ميل وهوى الإنسان فيقربه من الحرام بخصوص ما يهوى .
الخامس : يعلم الشيطان بعزوف الإنسان عن محرمات عديدة وعدم ميله لها , فيجتهد الشيطان وجنوده لإفتتانه بها .
والصحيح هو الثالث والرابع والخامس أعلاه ، فليس من رحمة عند الشيطان للإنسان .
لقد نفخ الله عز وجل من روحه في آدم , ليكون هذا النفخ واقية من إغواء الشيطان ثم تفضل الله عز وجل وأنزل الكتب السماوية , وكل فرد منها حرز من إتباعه وزاجر عن الغواية والضلالة .
ثم أنزل القرآن الله كتاباً جامعاً للأحكام فاضحاً لحبائل الشيطان وكل آية شهاب متجدد يحرق الشيطان ، ويمنع من وصوله إلى المسلم ، قال تعالى في بيان بديع صنعه في السماء [وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلاَّ مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ] ( ).
وقال ابن عباس (إن الشهب لا تَقْتُل ، ولكن تحرُق وتخبل وتجرح من غير أن تقتل)( ).
وتتضمن آية البحث الإخبار عن وجود خطوات للشيطان وتتصف هذه الخطوات بالقبح الذاتي وهي كالمرض المعدي والداء الأليم ، فتفضل الله عز وجل وحذر المسلمين منه .
وبينما ذكرت الآية المسلم بصيغة المفرد لم تذكر ما يفعله الشيطان بصيغة المفرد ، فلم تقل الآية ( ولا تتبعوا خطوة الشيطان) لإرادة الإخبار عن تعدد ضروب المنكرات والذنوب التي سار عليها الشيطان وخطها للإيقاع ببني آدم .
وعن سهل بن سعد قال : (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ) ( ).
لتبين الآية مصداقاً للإبتلاء في الحياة الدنيا يتجلى بالنواهي ولزوم الحصانة والعصمة من السيئات , وفيه نكتة وهي أن الإمتناع عن فعل السيئات أمر وجودي , وليس عدمياً إذ أنه يتقوم بتعاهد سنن التقوى ، والتنزه عن إتباع نهج الشيطان .
وأختتمت الآية بتأكيد عداوة الشيطان للمسلمين ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان .
الثاني : يا أيها المسلم لا تتبع خطوات الشيطان .
الثالث : يا أيتها المسلمة لا تتبعي خطوات الشيطان .
الرابع : يا أيتها اللائي آمنّ لا تتبعن خطوات الشيطان .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوة الشيطان بلحاظ أن النهي إنحلالي , فكما يشمل النهي كل مسلم ومسلمة ، فكذا يتضمن الزجر عن إتباع كل خطوة من خطوات الشيطان .
ومن لطف الله عز وجل بالمسلمين والمسلمات في القرآن بيان علة الحكم ، وإختتام الآية القرآنية بما يكون مدداً لهم في الإمتثال لما فيها من الأوامر والنواهي .
وأختتمت آية البحث بقانون باق ومتجدد إلى [إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ] ( ) يتعلق بعداوة الشيطان للمسلمين بقوله تعالى [إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] .
و(عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : بين أذني الدجال أربعون ذراعاً ، وخطوة حماره مسيرة ثلاثة أيام ، يخوض البحر كما يخوض أحدكم الساقية ، ويقول : أنا رب العالمين ، وهذه الشمس تجري باذني أتريدون أن أحبسها؟ فتحبس الشمس حتى يجعل اليوم كالشهر والجمعة ، ويقول : أتريدون أن أسيرها؟ فيقولون : نعم . فيجعل اليوم كالساعة .
وتأتيه المرأة فتقول : يا رب أحي لي أخي وابني وزوجي ، حتى انها تعانق شيطاناً وبيوتهم مملوءة شياطين ، ويأتيه الأعرابي فيقول : يا رب أحي لنا ابلنا وغنمنا ، فيعطيهم شياطين أمثال ابلهم وغنمهم سواء بالسن والسمة ، فيقولون : لو لم يكن هذا ربنا لم يحي لنا موتانا؟! ومعه جبل من فرق وعراق اللحم حار لا يبرد ، ونهر حار ، وجبل من جنان وخضرة ، وجبل من نار ودخان يقول : هذه جنتي ، وهذه ناري ، وهذا طعامي ، وهذا شرابي .
واليسع عليه السلام معه ينذر الناس يقول : هذا المسيح الكذاب فاحذروه لعنه الله .
ويعطيه الله من السرعة والخفة ما لا يلحقه الدجال ، فإذا قال : أنا رب العالمين . قال له الناس : كذبت ، ويقول ، اليسع : صدق الناس . فيمر بمكة فإذا هو بخلق عظيم فيقول : من أنت؟ فيقول أنا ميكائيل بعثني الله لأمنعه من حرمه ، ويمر بالمدينة فإذا هو بخلق عظيم ، فيقول من أنت؟ فيقول : أنا جبريل بعثني الله لأمنعه من حرم رسوله .
فيمر الدجال بمكة فإذا رأى ميكائيل ولى هارباً ويصيح ، فيخرج إليه من مكة منافقوها ومن المدينة كذلك ، ويأتي النذير إلى الذين فتحوا القسطنطينية ، ومن تآلف من المسلمين ببيت المقدس قال : فيتناول الدجال ذلك الرجل فيقول : هذا الذي يزعم أني لا أقدر عليه فاقتلوه ، فَيُنْشَر ثم يقول : أنا أحييه قم ولا يأذن الله لنفس غيرها .
فيقول : أليس قد أمتُّك ثم أَحْيَيْتُك؟ فيقول : الآن ازددت فيك يقيناً ، بشرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انك تقتلني ثم أحيا باذن الله ، فيوضع على جلده صفائح من نحاس فلا يحيك فيه سلاحهم ، فيقول اطرحوه في ناري ، فيحوّل الله ذلك الجبل على النذير جناناً ، فيشك الناس فيه ويبادر إلى بيت المقدس ، فإذا صعد على عقبة أفيق وقع ظله على المسلمين فيوترون قسيهم لقتاله ، فاقواهم من برك أو جلس من الجوع والضعف ويسمعون النداء : جاءكم الغوث . فيقولون : هذا صوت رجل شبعان .
وتشرق الأرض بنور ربها ، وينزل عيسى ابن مريم ويقول : يا معشر المسلمين احمدوا ربكم وسبحوه ، فيفعلون ويريدون الفرار ، فيضيق الله عليهم الأرض فإذا أتوا باب لد في نصف ساعة فيوافقون عيسى ، فإذا نظر إلى عيسى يقول : أقم الصلاة . فيقول الدجال : يا نبي الله قد أقيمت الصلاة . . . ؟! فيقول : يا عدو الله زعمت انك رب العالمين فلمن تصلي؟ فيضربه بمقرعة فيقتله ، فلا يبقى أحد من أنصاره خلف شيء إلا نادى : يا مؤمن هذا دجَّال فاقتله ، فيمتعوا أربعين سنة لا يموت أحد ولا يمرض أحد ، ويقول الرجل لغنمه ولدوابه : اذهبوا فارعوا وتمر الماشية بين الزرعين لا تأكل منه سنبلة ، والحيات والعقارب لا تؤذي أحداً ، والسبع على أبواب الدور لا يؤذي أحداً ويأخذ الرجل المدَّ من القمح فيبدره بلا حرث فيجيء منه سبعمائة مد .
وقد يتجلى هذا المعنى في هذا الزمان بالثورة التقنية ليكون هناك إنسان آلي يصاحب الماشية في الرعي ، ويدفع عنها ، وكذا بالنسبة للزراعة والتكاثر والتوالد بما يسمى التوالد الجنسي وإنتاج أمشاج وحدوث إخصاب وتتوالد لا جنسياً وما يسمى بالتكاثر الخضري بالحصول على نبات جديد من أحد أجزاء النبتة الأم مثل الأوراق أو الساق أو البراعم أو الجذر .
ولم يقف إرتقاء العلم في هذا الباب وهو يتسامى بسرعة ومنه إحتمال تعطيل آلة السم عند الحيات والعقارب بذاتها أو عند التوالد ليكون مصداقاً ومعجزة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه .
فيمكثون في ذلك حتى يكسر سد يأجوج ومأجوج ، فيموجون ويفسدون ويستغيث الناس فلا يستجاب لهم ، وأهل طور سينا هم الذين فتح الله عليهم فيدعون ، فيبعث الله دابة من الأرض ذات قوائم ، فتدخل في آذانهم فيصبحون موتى أجمعين ، وتنتن الأرض منهم فيؤذون الناس بنتنهم أشد من حياتهم ، فيستغيثون بالله ، فيبعث الله ريحاً يمانية غبراء ، فيصير على الناس غماً ودخاناً وتقع عليهم الزكمة ، ويكشف ما بهم بعد ثلاث وقد قذف جميعهم في البحر ، ولا يلبثون إلا قليلاً حتى تطلع الشمس من مغربها .
وجفت الأقلام وطويت الصحف ، ولا يقبل من أحد توبة ، ويخر إبليس ساجداً ينادي : إلهي مرني أن أسجد لمن شئت ، وتجتمع إليه الشياطين فتقول يا سيدنا إلى من تفزع؟ فيقول : إنما سألت ربي أن ينظرني إلى يوم البعث وقد طلعت الشمس من مغربها وهذا الوقت المعلوم .
وتصير الشياطين ظاهرة في الأرض حتى يقول الرجل : هذا قريني الذي يغويني , فالحمد لله الذي أخزاه ، ولا يزال إبليس ساجداً باكياً حتى تخرج الدابة فتقتله وهو ساجد .
ويتمتع المؤمنون بعد ذلك أربعين سنة لا يتمنون شيئاً إلا أعطوه حتى تتم أربعون سنة بعد الدابة ، ثم يعود فيهم الموت ويسرع فلا يبقى مؤمن ، ويبقى الكفار يتهارجون في الطرق كالبهائم حتى ينكح الرجل أمه في وسط الطريق يقوم واحد عنها وينزل واحد ، وأفضلهم يقول : لو تنحيتم عن الطريق كان أحسن ، فيكون على مثل ذلك حتى لا يولد أحد من نكاح ، ثم يعقم الله النساء ثلاثين سنة ، ويكونون كلهم أولاد زنا شرار الناس عليهم تقوم الساعة) ( ).
وتقدير الصلة بين نداء الإيمان وخاتمة الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا إن الشيطان لكم عدو مبين .
الثاني : يا أيها الذي آمن إن الشيطان لك عدو مبين .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا إن الشيطان لكل واحد منكم عدو مبين ، بلحاظ أنه يعادي المسلمين على نحو العموم المجموعي فلا تختص عداوته لهم كأفراد بل تشمل الأمة مجتمعة ، فيبعث أسباب الشك بالنبوة والتنزيل ، ويسعى لتعضيد أهل الريب .
الرابع : يا أيتها اللائي آمنّ إن الشيطان لكنّ عدو مبين .
ومن إعجاز القرآن ورود قوله تعالى [وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) ثلاث مرات في القرآن ( ).
ترى ما هي النسبة بين خطوات الشيطان ، وبين عداوة الشيطان في قوله تعالى [إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فعداوة الشيطان أعم من خطواته التي يريد فيها إغواء المسلم .
ولقد بدأت عداوة الشيطان للإنسان منذ أن خلق الله عز وجل آدم وحواء فتفضل الله وحذرهما من عداوته ، وما تجلبه من الضرر البالغ عند إتباع خطواته ، كما في خطاب الله عز وجل لآدم وحواء [أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) .
إذ تبين الآية أعلاه أن الله عز وجل تفضل وخاطب حواء وآدم بذات الخطاب الذي خاطب به آدم ، ليجمع سبحانه المسلمين والمسلمات بمناداتهم وتحذيرهم في آية البحث من عداوة الشيطان .
وأخبر القرآن عن عداوته للناس جميعاً ، وتضمن تحذيرهم منه ومن عداوته ، وكان الأنبياء ينذرون أبناءهم والناس منه ومن شره وأذاه ، وجاء حكاية عن يعقوب في وصيته ليوسف عندما قصّ رؤياه عليه , قال [قَالَ يَابُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
وجاء النهي عن إتباع خطوات الشيطان معطوفاً على الأمر بدخول المسلمين في السلم ، ليكون هذا الدخول واقية من غواية الشيطان والإفتتان بحب زخارف الدنيا .
وجاءت آية أخرى من آيات النداء خاصة بالنهي عن إتباع خطواته ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ] ( ) لبيان لزوم أخذ المسلمين الحيطة والحذر من [شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ] ( ).
ومن الدخول في السلم قوله تعالى [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ] ( ) بلحاظ أن الفعل أسلم من معاني السلم وهو سعي وبلغة إليه ، ليفيد الجمع بين آية البحث والآية أعلاه أن الإحسان من مقامات الإيمان وبقصد القربة من مصاديق الدخول في السلم وأن عاقبته الأمن الدائم والخلود في النعيم في الدار الآخرة ، ومن الدخول في السلم المناجاة بكف الأذى ، وعدم الإضرار بالغير ، ومنه مقابلة السيئة بالإحسان ، قال تعالى [وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ] ( ) .
ليكون من معاني العموم ولفظ [كافة]في الآية كظم المسلمين غيظهم ، والإمتناع عن الثأر والبطش أو التحريض على أحدهما ، لذا بدأت آية البحث بنداء الإيمان لتحث المسلمين على منع إستحواذ النفس الغضبية أو الشهوية عليهم ، لبيان أن الدخول في السلم يفيد الإيمان أي بما ورد في القرآن والسنة من قواعد السلم ، وحرمة التعدي ، وهل كلمة القصاص ، وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ] ( ) من السلم أم أن الموضوع مختلف ز
الجواب هو الأول بدليل قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ) فسمى الله عز وجل المسلمين اصحاب العقول لأنهم إتخذوا الإسلام منهاجاً وطريقاً ، وفي القصاص سلم وأمن للمجتمعات كافة ، ومن السلم إشاعة الإحسان والإنفاق في سبيل الله والكلمة الطيبة وحسن السمت ، قال تعالى [وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ]( ).
وقوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] حرب على تقسيم المسلمين إلى مذاهب وفرق , وتأكيد لحرمة نعت بعض المذاهب الإسلامية بالشرك أو النفاق ، وتدعو الآية المسلمين جميعاً إلى حرمة تكفير بعضهم بعضاً أو إتخاذ السيف والقتل العشوائي والمجازر لمحاربة طائفة منهم أو للإنتقام من أي فرقة من الناس .
نعم ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التحذير من الشرك الأصغر ، وقد ورد بصيغة الخطاب والشهادة للمسلمين بالإيمان .
(عن محمود بن لبيد ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر . قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال : الرياء ، يقول الله يوم القيامة : إذا جزي الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء)( ).
من منافع الدخول في السلم
يأتي السلم بمعنى الوئام والوفاق ، وبمعنى الصلح وبمعنى الإستسلام ، والسّلف ، ومنه بيع السَّلم ، وهو عقد يقبض بموجبه البائع الثمن عاجلاً ولا يستلم المشتري العين إلا آجلاً ، كما في بيع الحنطة وإستلام ثمنها وهي لم تحصد بعد .
( والسلَمِ الإسْلَامُ ) ( ).
وذهب جمع من المفسرين إلى أن المراد من السلم في الآية هو الإسلام والدخول العام فيه من غير تخيير بين أحكامه وشرائعه .
ولكن الآية أعم في موضوعها ، نعم لا يصح تفريط البعض بالواجبات العينية مثل الصلاة والصيام والزكاة والحج إذ يتوجه الخطاب فيها إلى كل مسلم ومسلمة , فلا يصح الإختيار والترديد فيها .
ولفظ السلم في الآية يشمل أداء الواجبات العبادية وإصلاح النفوس والإمتناع عن التعدي والظلم .
فلا يظلم المسلم أخاه المسلم ، ولا يضر غيره ذمياً كان أو معاهداً أو مستأنساً أو إنساناً مستقراً في بلده وقريته .
لقد جاءت آية البحث بـأمر وهو الدخول في السلم ، وينحل إلى أمور :
الأول : لزوم تعاهد المسلمين لصيغة الإيمان ، وعقيدة التوحيد .
الثاني : عمل المسلمين بأحكام وسنن الإيمان .
الثالث : حرص المسلمين على عدم إشاعة الفساد والقتل في الأرض .
الرابع : ميل المسلمين إلى الصلح والمهادنة .
الخامس : الأمر للمسلمين بعدم الإنقسام إلى طوائف ومذاهب وحصول الخصومة والتناحر بينها .
السادس : بيان الوجه المشرق للإسلام , وأنه سلام وخير محض .
السابع : منع إثارة الفتنة بين المسلمين ، قال تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( ) فليس لفرد أو جماعة التحريض ومحاولة إيقاد نار الخصومة والخلاف .
الثامن : إتخاذ المسلمين جانب الحيطة والحذر ، ودفع مقدمات الخروج عن حال السلم ومنازل الإيمان ، ومن تلك المقدمات إتخاذ البطانة الفاسدة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ( ).
ومن السلم في الآية العناية بالأسرة والمجتمع وإقامة الحدود ، وتهيئة مقدمات الكسب والرزق الحلال ، وإجتناب عسكرة البلاد، وصيرورة الناس في إنذار دائم من غير حاجة قصوى ، وأمارة وقرائن على الإحتراز ، قال تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً]( ).
لقد أرادت آية البحث تعاون المسلمين رجالاً ونساءاً من أجل إشاعة السلم وحفظه وتعاهد الأمن ليكون السلم مناسبة ووعاء لأداء الفرائض والعبادات ، وهو من أسرار مجئ الآية بالنداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] بلحاظ أن الإيمان قول وعمل وأنه على وجوه :
الأول : الإيمان سلم .
الثاني : السلم والأمن طريق إلى الإيمان والهداية .
الثالث : الإيمان مقدمة للسلم والأمن .
الرابع : إقتران ومصاحبة السلم للإيمان .
الخامس : الدخول في السلم تثبيت للإيمان ، ومناسبة لإكتناز الحسنات ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ] ( ).
وآية البحث من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )من جهات :
الأولى : الأمر للمسلمين بالدخول في السلم .
الثانية : أهلية وصلاح المسلمين للدخول في السلم .
الثالثة : لغة العموم في دخول المسلمين السلم ، فليس لأحدهم التخلف عن الدخول فيه ، وفي الآية دعوة للمسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب الدخول في السلم ليحث ويأمر بعضهم بعضاً بالسلم والتحلي بالأخلاق الحميدة والنهي عن الظلم والتعدي وهو خلاف السلم .
وهل يشمل الأمر في الآية المنافقين والمنافقات , الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن لأن في الدخول في السلم حرباً على النفاق واقية من الرياء والأخلاق المذمومة والعصبية القبلية ، فحينما فرض الله عز وجل حكم القصاص بصيغة الجملة الخبرية [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ] ( ) جاء الأمر بالدخول في السلم بصيغة الأمر والوجوب [ادْخُلُوا ..] لبيان أن السلم واقية من القتل العمد وما يترشح عنه من الحكم بالقصاص .
وتتضمن الآية أموراً وعلى نحو الترتيب :
الأول : نداء الإيمان .
الثاني : الأمر بالدخول في السلم .
الثالث : العموم في هذا الدخول , وشموله للمسلمين والمسلمات جميعاً بدليل سور الموجبة الكلية [كافة] .
الرابع : النهي عن إتباع خطوات الشيطان .
الخامس : بيان عداوة الشيطان للمسلمين .
السادس : وصف عداوة الشيطان بأنها ظاهرة وجلية ، إذ إبتدأت من إمتناعه عن السجود لآدم ، وإغرائه آدم وحواء بالأكل من الشجرة التي منعهما الله منها .
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على سلامة المسلمين من عبادة الشيطان ، فقد ورد قوله تعالى [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ] ( ).
وقد فاز المسلمون بأمرين :
الأول : عبادة المسلمين لله عز وجل بدليل مخاطبة الآية لهم بصفة الإيمان .
الثاني : الأمن والسلامة من فعل السيئات ، وفي ذم الشيطان وبيان عداوته خاطب الله عز وجل الناس جميعاً بالقول [وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
وتقدير الآية بلحاظ جهة المخاطبين على وجوه :
الأول : يا أيها الذي آمن أدخل في السلم .
الثاني : يا أيها الذي آمن أدخل في السلم أنت والمسلمين جميعاً .
الثالث : يا أيتها التي آمنت أدخلي في السلم .
الرابع : يا أيتها اللائي آمنّ أدخلن في السلم .
الخامس : يا أيها الذي آمن لا تتبع خطوات الشيطان .
منافع الحصانة من إتباع خطوات الشيطان
يرد في القرآن مادة (تبع) بمعاني متعددة ، وبصيغة الأمر منها إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباع الأنبياء والمرسلين ، وملة إبراهيم كما في قوله تعالى [فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا] ( ), وإتباع التنزيل والأحكام الواردة في آيات القرآن وإنتهاج سبيل المؤمنين .
وجاء بصيغة النهي بموارد متعددة ، ولكنه لم يرد بلفظ [لا تتبعوا] إلا مرة واحدة في قوله تعالى [اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ] ( )وأخبر القرآن عن تبرأ الرئيس والمرؤوس من الكافرين بعضهم من بعض والإحتجاج والمغالطة بينهم يوم القيامة بقوله تعالى [تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا] ( ).
ووردت آية البحث بنهي المسلمين والمسلمات عن إتباع خطوات الشيطان لأمور :
الأولى : الوقاية من الآثام والسيئات .
الثانية : السلامة من الذنوب .
الثالثة : تعاهد الحسنات التي تترشح عن الدخول في السلم .
الرابعة : تبين الآية بالدلالة الإلتزامية أن إتباع خطوات الشيطان يكون عائقاً دون دخول كافة المسلمين في السلم أو أنه يمنع من تحقق الغايات الحميدة منه .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذي آمن لا تتبع خطوات الشيطان ) بلحاظ إنحلال النداء والخطاب التكليفي للمسلمين بتوجهه إلى الإفراد ، فكل مسلم يستحضر آية البحث عند مداهمة الفتنة والإفتتان ، وهو من عمومات قوله تعالى [بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ] ( ).
الثاني : يا أيتها التي آمنت لا تتبعي خطوات الشيطان إنه لك عدو مبين ) وفيه آية بأن الله عز وجل يكرم المرأة المسلمة فيؤديها بسنن العفة ويحصنّها من شر وإغواء الشيطان ، لتتعاهد أداء الفرائض والسنن ، ومن خطوات الشيطان الترغيب بالإمتناع ن الأمر بالمعروف ومحاولة تعطيل أحكامه لذا فمن معاني قوله تعالى [وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ] لزوم تعاهد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثالث : يا أيتها اللائي آمنّ لا تتبعن خطوات الشيطان بلحاظ أن نداء : يا أيها الذين آمنوا سور جامع للمسلمين والمسلمات ، وأن كل مسلمة مكلف مستقل يتوجه لها الأمر والنهي .
ونداء الإيمان عون للمسلمين والمسلمات مجتمعين ومتفرقين للوقاية والعصمة من إتباع إغواء الشيطان ، وهو مدد للحصانة من فعل السيئات .
وينحل النهي عن إتباع خطوات الشيطان إلى وجوه :
الأول : النهي عن التعاون والتآزر في إتباع خطوات الشيطان.
الثاني : النهي عن تهيئة مقدمات إتباع الشيطان في فسقه وضلالته .
الثالث : نهي المسلمين عن مدح الذي يتبع خطوات الشيطان أو الثناء عليه ، فهو سبب لجلب الضرر لنفسه ولغيره ، لتكون وجوه النهي هذه من مصاديق دخول المسلمين في السلم ، وصيرورة حياتهم دعة وآمناً وسلاماً ، وإتخاذهم أيامها بلغة إلى النعيم في الآخرة بالوقاية من إرتكاب السيئات ، وهو من أسرار مجئ هذه الآية بالجمع بين نداء الإيمان والأمر بالدخول في السلم والنهي عن إتباع خطوات الشيطان .
ومن مباحث علم الأصول وجوب المقدمة لوجوب ذيها ، وحرمة المقدمة لحرمة ذيها ، فلما أمرت آية البحث المسلمين بالدخول في السلم فانها تدعو في كل يوم إلى مقدمات ولوازم هذا الدخول وتحث عليه ، وأختتمت بالنهي عن إتباع خطوات الشيطان ، لتتضمن النهي عن مقدمات لإتباع الشيطان , ليبقى المسلم في جهاد يومي مع نفسه ويستحضر سنن التقوى في قوله وفعله .
وهو من معاني إبتداء آية البحث بنداء الإيمان لما فيه من الدلالة على التكليف الوارد فيها .
ومن أسرار آية البحث والتداخل الموضوعي فيها أنها تضمنت أموراً :
الأول : نداء الإيمان .
الثاني : الأمر للمسلمين بالدخول في السلم .
الثالث : عدم الإستثناء من الدخول في السلم ، وذكر في الفلسفة أن كل عام يخص ، ولا دليل عليه في علوم القرآن ، إذ تبين الآية لزوم دخول كل المسلمين والمسلمات في السلم ، وعدم تخلف أو خروج أحدهم إذ أن قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ] ( ) يعني مسائل :
الأولى : الدخول في السلم وإتيان سنن الإيمان .
الثانية : إستدامة هذا الدخول .
الثالثة : عدم مغادرة المسلمين لمقامات وأحكام السلم إلا بمغادرة الدنيا .
وقد يكون تخفيف في أداء العبادات كما في إستثناء المريض المسافر من الصيام ، وكما في تقييد حج بيت الله الحرام بالإستطاعة كما في قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ) ولكن الدخول في السلم جاء مطلقاً ليشمل الرجال والنساء وذوي الأعذار مما يدل على موضوعية في بناء صرح الإسلام وعلى إمكان كل مسلم ومسلمة الدخول فيه ، لعمومات قوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]( ).
الرابع : نهي المسلمين عن إتباع خطوات الشيطان ، ومحاكاته في ضلالته وحينما نهى الله عز وجل المسلمين عن هذا الإتباع فلابد أنهم قادرون على الإمتناع عن إتباعه من جهات :
الأولى : ما رزق الله عز وجل الإنسان من الفعل .
الثانية : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : نزول القرآن جامعاً للأحكام وكل آية من القرآن تدعو إلى التوقي من حبائل الشيطان .
(وعن رسول الله صلى عليه وآله وسلم : إن هذا القرآن سبب . طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم ، فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا بعده أبداً) ( ).
الرابعة : بيان السنة النبوية ، وهي المصدر الثاني للتشريع .
الخامسة : إختتام آية البحث بالإخبار بأن الشيطان عدو مبين للمسلمين .
وقد أخبر القرآن عن عداوة الشيطان الجلية والواضحة لكل من :
الأول : آدم وحواء .
الثاني : المسلمون .
الثالث : الناس جميعاً .
قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
وتقدير قراءة آية البحث على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا كافة .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا كافة إن الشيطان لكم عدو مبين .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا أدخلوا في السلم أن الشيطان لكم عدو مبين .
الخامس : لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين .
والوجه الأخير أعلاه يصح فيه الخطاب للمسلمين وأهل الكتاب والكفار ، لأن القرآن جاء بتحذير الناس جميعاً من عداوة الشيطان .
ومن الآيات أن الدخول في السلم واقية من إتباع خطوات الشيطان طريق ومصداق للدخول في السلم .
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( )
إبتدأت الآية بنداء الإيمان والمراد أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ليكون الخطاب في الآية إنحلالياً من جهات :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا .
الثانية : يا أيتها اللائي آمنّ أنفقن .
ا-لثالثة : يا أيها الذي آمن أنفق .
الرابعة : يا أيتها التي آمنت انفقي .
الخامسة : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مجتمعين ومتفرقين فيخرج المسلم زكاته ، ويدفع الصدقات المستحبة ، وتخرج من بيت مال المسلمين الحقوق والإعانات والديات المخصوصة التي ليس هناك من يدفعها وكذا دية الذي يقتل بالتزاحم والإرهاب وعلى الجسر.
وجاءت آية البحث بالتبعيض من جهة الإنفاق من الرزق الكريم الذي أنعم الله عز وجل به على المسلمين لبيان أمور :
الأول : سعة الرزق ووفرة المال الذي يتفضل به الله عز وجل على المسلمين .
الثاني : البشارة من عند الله باستدامة الرزق الكريم للمسلمين .
الثالث : تجلي مصداق لإقرار المسلمين بأن الله هو الذي يرزقهم بالإنفاق في سبيله تعالى .
الرابع : من ضروب الشكر لله ، الشكر العملي ، ويتجلى بالإنفاق طاعة لله عز وجل .
ومن معاني الكفر والظلم في قوله تعالى [وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]بلحاظ ذات آية البحث أمور :
الأول : الكفر والجحود بالربوبية .
الثاني : الإصرار على عبادة الأوثان وإتخاذ الشريك والند لله عز وجل في العبودية وفي العبادة ،قال تعالى [فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] ( ).
والند هو النظير والشبيه ، ليكون معنى الشرك هو عبادة الأوثان والإعتقاد بأن غير الله يخلق ويحيي ويميت وله التصرف في الكون ويجب إطاعته ، وهناك تضاد وتناقض بين الإيمان وأداء الصلاة وبين الشرك ، فمن يقف بين يدي الله عز وجل خمس مرات في اليوم لا يجوز نعته بأنه مشرك .
وكان الذين كانوا يخفون الكفر ويعلنون الإيمان فئة قليلة بين المسلمين فسماهم الله عز مجل المنافقين ولم يسمهم بالمشركين . الثالث : الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن النازلة من عند الله عز وجل ، وعدم التدبر في معانيها ودلالاتها .
الرابع : الذين ينكرون المعاد ، ولا يؤمنون بيوم الحساب ، وفي التنزيل [وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ]( ).
وليس من نبي إلا وهو يحذر قومه ويدعوهم للإيمان بالله واليوم الآخر ، قال تعالى [وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ]( ).
ونزل القرآن ليكون حرباً على الدهريين ومنكري المعاد إلى يوم القيامة ، فيتعاقب الناس في الدنيا ويرحلون إلى عالم البرزخ ليشهد عليهم القرآن بالإيمان أو الجحود ، وتتجلى مصاديق من قوله تعالى [وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]في عالم البرزخ ويوم القيامة ، وهو من إعجاز القرآن ببقاء مضامين ومعاني آياته إلى يوم القيامة .
الرابع : الإعراض والصدود عن الأمر الإلهي بالإنفاق من الرزق ، لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار الإحسان والرحمة بين الناس .
ومن معاني قوله تعالى [وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ] تجدد أفراد الظلم الصادرة من الذين كفروا ، وإصرارهم على الباطل، وهل تدل الآية على أن الكافرين يعلمون أنهم ظالمون ، الجواب نعم ، قال تعالى[بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ]( ).
ومن خصائص نداء الإيمان تنزيه الناس عن الكفر، ودعوتهم للتوبة والإنابة .
الخامس : إبتدأت الآية به وأختتمت بقانون يتعلق بظلم وجحود الكافرين ليكون من مصاديق الكفر المذموم ، الجحود بنداء الإيمان والمضامين القدسية التي جاءت معه في هذه الآية الكريمة .
ومن معاني نداء الإيمان منع الظالمين من الإستحواذ على أمور السلطنة ، وإن وصلوا إليها فان هذا النداء يصيبهم بالخوف والفزع ويكون سلاحاً لإزاحتهم منها ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ).
السادس : الكفر بأن يوم القيامة ليس فيه بيع أو خلة أو شفاعة ، فيظن الكافرون أن نواميس الآخرة مثل الدنيا أو أن الآباء الصالحين يشفعون للذرية الكافرة ، فجاءت آية البحث بالثناء على المسلمين لإيمانهم بيوم القيامة وأنه عالم الحساب وليس فيه شراء للنفس أو دفع للعذاب بالعوض والبدل .
وتضمنت هذه الآية نفي الشفاعة في الآخرة بقوله تعالى [وَلاَ شَفَاعَةٌ] بينما وردت قوله تعالى [لاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى] ( ) ليكون من المطلق والمقيد ، وتقدير آية البحث ( ولا شفاعة لمن إرتضى الله ).
وكذا بالنسبة لقوله تعالى [وَلاَ خُلَّةٌ]إذ أنه مقيد ويتضمن الإستثناء بقوله تعالى [الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ]( ).
ولم يرد لفظ الأخلاء في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان أن الناس في غفلة ولم يستحضروا موضوعية اليوم الآخر في صلاتهم وصداقاتهم إلا المتقين ، ويتجلى ذات الأمر في الآخرة .
وقد ورد قوله تعالى [قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ] ( )ولم تذكر الشفاعة معهما مع إتحاد الموضوع بين الآية أعلاه وآية البحث من جهة الأمر بالإنفاق .
فان قلت ذكرت الآية أعلاه الصلاة , ولم تذكر في آية البحث ، الجواب بل ذكرت في آية البحث إذ تضمن موضوعها نداء الإيمان ليكون من معانيه وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا باقامة الصلاة .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بلزوم الجمع بين الصلاة والإنفاق .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا بحضور الصلاة والإنفاق يوم القيامة .
وتتضمن الآية أعلاه التوسعة في حكم الإنفاق في آية البحث ، ويكون تقديرها (أنفقوا مما رزقناكم سراً وعلانية )ولم يذكرها هذا التفصيل في آية البحث تخفيفاً عن المسلمين والمسلمات حينما ترد الآية بصيغة الأمر والوجوب ، ولأن الإيمان سور جامع وباعث للإنفاق المتكرر في السر والعلانية .
وليس من بيع وشراء في عالم الآخرة ، قال تعالى [وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( ).
نعم ورد ذكر البيع في الآخرة بحضور الإيمان والعمل الصالح كبيع وتجارة رابحة ، قال تعالى [فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] ( ).
قانون كل آية بيان للأوامر والنواهي في القرآن
من إعجاز القرآن وجهان :
الأول : تجلي مصاديق كل أمر من أوامر القرآن في آياته ، فتتضمن آيات القرآن مصاديق لقوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( ) من جهات :
الأولى : معاني ودلالات حرف العطف الذي تبدأ به الآية أعلاه , ومنها لزوم عدم مغادرة المسلم الدنيا إلا بصيغة الإسلام والثبات على الإيمان .
إذ إختتمت الآية السابقة لآية [وَاعْتَصِمُوا]بقوله تعالى [وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ).
الثانية : كل نهي في القرآن طريق هداية للإعتصام والتمسك بحبل الله .
الثالثة : توجه الأمر بالإعتصام بحبل الله إلى المسلمين على وجوه :
أولاً : العموم الإستغراقي ، وإرادة إستغراق وتعدد الأمر بعدد أفراد المسلمين .
ثانياً : توجه الأمر للمسلمين كأمة واحدة ، فيكون كل فرد منهم جزء من موضوع الأمر .
ثالثاً : إرادة المفرد من المسلمين ، وتعلق الحكم به ، وتقدير الآية وأعتصم بحبل الله .
رابعاً : إنتفاء التراخي والفتور في مسألة الإعتصام بحبل الله لدلالة الأمر على الفورية .
وهل الإعتصام في المقام من الكلي المتواطئ فيكون المسلمون فيه بمستوى وعرض واحد ، أو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، الجواب هو الأول ، وهو لا يتعارض مع حكم الإستطاعة لقوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا] ( ).
الثاني : بيان القرآن لمصاديق النهي الوارد فيه ، فيأتي مثلاً قوله تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( ) ثم تأتي آيات القرآن لتبين مصاديق أمور :
الأول : قبح الركون للذين ظلموا ، وهو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
الثاني : الظلم الذي يتصف به , فتارة يكون طاعة بظلم كما في النهي الوارد في قوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ).
وأخرى يكون أدنى مرتبة مثل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً ..]( ).
الثالث : الظالمون الذين تحذر الآية أعلاه من الركون إليهم ومن الإعجاز في القرآن مسائل :
الأولى : يأتي القرآن بأمر يكون تفسيراً لأمر بشيء آخر ، وكذا العكس ، وليس من دور بينهما ، فكل واحد منهما بيان وتفسير للأمر الآخر .
الثانية : يأتي النهي عن شيء في القرآن فيكون تفسيره وبيانه بنهي آخر ، وكذا العكس .
الثالثة : يأتي النهي عن شيء في القرآن فيكون تأكيداً للأمر بفريضة أو فعل شيء كما في قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ ..] ( ) فهذا النهي مفهوم للأمر بالصبر والمرابطة والقتال .
الرابعة : لزوم التدبر في كل آية قرآنية بخصوص تفسيرها للأوامر والنواهي القرآنية ، فعندما تتلو أي آية قرآنية تجتهد في معرفة وجوه تفسيرها للأوامر أو النواهي المذكورة في آيات أخرى ، لتكون الآية على وجوه :
الأول : الآية تفسير لأمر قرآني .
الثاني : الآية تفسير وبيان لنهي وارد في القرآن .
الثالث : الآية تفسير لأكثر من أمر قرآني .
الرابع : الآية تفسير لأكثر من نهي وارد في القرآن .
الخامس : الآية تفسير لأمر ونهي في القرآن .
وهذا القانون علم مستحدث ومن مصاديق التفسير الذاتي للقرآن .
وهل نداء الإيمان وقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] من بيان الأوامر والنواهي القرآنية , الجواب نعم ، وتقديره على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا بكل أمر ونهي نازل في القرآن .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بأن الله يأمر وينهى ويجب العمل بما أمر به وإجتناب ما نهى الله .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا بكل أمر وكل نهي وارد في القرآن ، وتتفرع هذه الوجوه إلى آلاف الوجوه , منها بخصوص الصلاة :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا بوجوب إقامة الصلاة ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ).
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا بالفرائض اليومية الخمسة .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا بوجوب تلاوة القرآن في الصلاة .
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة لكم في أداء الصلاة ، وقد قال (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) ومسألة الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سيالة في كل الأوامر ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
خامساً : يا أيها الذين آمنوا بأوقات كل فرض من الصلاة .
سادساً : يا أيها الذين آمنوا باستحباب صلاة الجماعة .
سابعاً : يا أيها الذين آمنوا بأفعال الصلاة من التكبيرة والقيام والركوع والسجود .
ثامناً : يا أيها الذين آمنوا بالثواب العظيم للصلاة .
قانون نداء الإيمان تعريض بالكافرين
التعريض : التلميح ويقابل التصريح , يقال : عرض يعرض تعريضاً .
وهو في الإصطلاح اللفظ الذي يدل على أمر وقصد ولكن حسب المفهوم وليس المنطوق والوضع الحقيقي ، وقد ورد في القرآن بخصوص خطبة النساء , قال تعالى [وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ ..]( )، والمراد الإشارة والتلميح بالكلام من غير ذكر لفظ النكاح وما يراد منه صراحة ، وغالباً ما يكون في المرأة التي في العدة سواء كانت عدة طلاق أو وفاة لإخبار الرجل بعرضه ورغبته الزواج منها ، ولتكون بالخيار عند خروجها من العدة وجاءها خاطب آخر ، لتكون من معاني الآية والتعريض في الآية إكرام المرأة والتوسعة عليها في الإختيار ، ومنع الجهالة والغرر أو الغبن ، كما لو قال الرجل : إني أريد الزواج أو أن المرأة التي أرغب فيها تتصف بكذا وكذا من الخصال الحميدة التي تدرك المرأة المخاطبة أنها محرزة عندها ، أو يقول إني راغب فيك على سنة الله ورسوله من غير أن يصل الأمر إلى العهد أو العقد .
وبين الكفاية والتعريض عموم وخصوص مطلق ، فكل تعريض هو كناية وليس العكس ، لأن الكناية لفظ مجازي لإرادة المعنى بالعرض , وورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ان في المعاريض لمندوحة عن الكذب) ( ).
وأستشهد على التعريض بما ورد في التنزيل [وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ]( ) .
وصحيح أن الآية وردت بصيغة الجملة الخبرية في اللفظ ولكنها ليس من التعريض إنما ورد الدعاء بالمعنى وإرادة نوح المعنى الأعم في دعائه بمعنى أنه لا يختص بابن واحد من أبنائه ، وفيه نكتة وهي أن نوحاً يبين حاجة لرحمة الله ويسأله سبحانه لنفسه وعياله وللمؤمنين .
وعن ابن عباس في الآية أعلاه قال (اعطى الله نوحاً عليه السلام في السفينة خرزتين أحدهما بياضها كبياض النهار والأخرى سوادها كسواد الليل ، فإذا أمسوا غلب مواد هذه بياض هذه ، وإذا أصبحوا غلب بياض هذه سواد هذه على قدر الساعات الاثني عشر ، فأول من قدر الساعات الاثني عشر لا يزيد بعضها على بعض نوح عليه السلام في السفينة ليعرف بها مواقيت الصلاة ، فسارت السفينة من مكانه حتى أخذت إلى اليمين فبلغت الحبشة ، ثم عدلت حتى رجعت إلى جدة ، ثم أخذت على الروم ، ثم جاوزت الروم فأقبلت راجعة على حيال الأرض المقدسة .
وأوحى الله إلى نوح عليه السلام : أنها تستوي على رأس جبل فعلت الجبال لذلك ، فتطلعت لذلك وأخرجت أصولها من الأرض وجعل جودي يتواضع لله عز وجل ، فجاءت السفينة حتى جاوزت الجبال كلها ، فلما انتهت إلى الجودي استوت ورست ، فشكت الجبال إلى الله فقالت : يا رب إنا تطلعنا وأخرجنا أصولنا من الأرض لسفينة نوح ، وخنس جودي فاستوت سفينة نوح عليه .
فقال الله : إني كذلك من تواضع لي رفعته ، ومن ترفع لي وضعته ، ويقال : إن الجودي من جبال الجنة . فلما أن كان يوم عاشوراء استوت السفينة عليه وقال الله : يا أرض ابلعي ماءك بلغة الحبشة ، ويا سماء أقلعي أي أمسكي بلغة الحبشة ، فابتلعت الأرض ماءها وارتفع ماء السماء حتى بلغ عنان السماء رجاء أن يعود إلى مكانه ، فأوحى الله إليه : أن ارجع فإنك رجس وغضب . فرجع الماء فملح وحم وتردد فأصاب الناس منه الأذى ، فأرسل الله الريح فجمعه في مواضع البحار فصار زعاماً مالحاً لا ينتفع به .
وتطلع نوح فنظر فإذا الشمس قد طلعت وبدا له اليد من السماء ، وكان ذلك آية ما بينه وبين ربه عز وجل أمان من الغرق ، واليد القوس الذي يسمونه قوس قزح ، ونهى أن يقال له قوس قزح لأن قزح شيطان وهو قوس الله ، وزعموا أنه كان يمتد وتروسهم قبل ذلك في السماء ، فلما جعله الله تعالى أماناً لأهل الأرض من الغرق نزع الله الوتر والسهم ، فقال نوح عليه السلام عند ذلك : رب إنك وعدتني أن تنجي معي أهلي وغرق ابني ، و{ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح }( ) يقول : إنه ليس من أهل دينك إن عمله كان غير صالح .
قال : اهبط بسلام منا . فبعث نوح عليه السلام من يأتيه بخبر الأرض ، فجاء الطير الأهلي وقال : أنا . فأخذها وختم جناحيها فقال : أنت مختومة بخاتمي لا تطير أبداً ينتفع بك ذريتي . فبعث الغراب فأصاب جيفة فوقع عليها ، فاحتبس فلعنه فمن ثَمَّ يقتل في الحرم ، وبعث الحمامة وهي القمري فذهبت فلم تجد في الأرض قراراً ، فوقعت على شجرة بأرض سبا فحملت ورقة زيتون فرجعت إلى نوح فعلم أنها لم تستمكن من الأرض ، ثم بعثها بعد أيام فخرجت حتى وقعت بوادي الحرم ، فإذا الماء قد نضب وأول ما نضب موضع الكعبة ، وكانت طينتها حمراء فخضبت رجليها ، ثم جاءت إلى نوح فقالت : البشرى استمكن الأرض فمسح يده على عنقها ، وطوّقها ، ووهب لها الحمرة في رجليها ، ودعا لها ، وأسكنها الحرم ، وبارك عليها فمن ثم شفق بها الناس .
ثم خرج فنزل بأرض الموصل وهي قرية الثمانين لأنه نزل في ثمانين ، فوقع فيهم الوباء فماتوا إلا نوح وسام وحام ويافث ونساؤهم وطبقت الأرض منهم ، وذلك قوله { وجعلنا ذريته هم الباقين })( ).
ويمكن تأسيس باب علم جديد في تفسير كل آية قرآنية إسمه ( الآية تعريض بالكافرين ) وهو الذي ورد ( ) في الجزء السابق في تفسير الآية [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ].
ومن خصائص نداء الإيمان التجلي والوضوح بإرادة فريق من الناس دون آخر وبيان خصائص الذين يشملهم نداء الإيمان من غير لبس أو ترديد ، ولم يخطر في أذهان الناس أن نداءً ينزل من السماء يكون فيصلاً بينهم إلى يوم القيامة فقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] خطاب متجدد يطل على أهل الأرض كل يوم يتوجه إلى واحد منهم وهو المؤمن ويعزف ويحجب عن الكافر والجاحد ، وهذا الحجب خسارة له في الدنيا والآخرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ] ( ).
فمن وجوه الحسرة في الآية أعلاه حرمان الذين كفروا من تلقي نداء الإيمان والتدبر في معانيه ، ولا يختص هذا الحرمان بذات الحجب بل يشمل أموراً :
الأول : إفاضات نداء الإيمان .
الثاني : ترشح السكينة عن نداء الإيمان .
الثالث : إقتران نداء الإيمان بالبركة .
الرابع : بعث نداء الإيمان المسلم على العمل الصالح ، والإمتثال لما في مضامين آية النداء أي الآية التي يرد فيها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] والآيات المعطوفة عليها .
ويتجلى العطف المتعدد في سورة آل عمران ، إذ تأتي عدة آيات معطوفة على آية النداء ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا…] ( ) وآية [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا ..] ( ) التي يستمر معها عطف ست آيات إلى أن يرد النداء التالي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ …] ( ).
ومن معاني التعريض بالكافرين والذي يتجلى بنداء الإيمان مضامين ذات آية النداء , ففي كل آية يبدأ ويرد فيها نداء الإيمان مضامين قدسية تفيد العز والرزق الكريم والبشارة للمؤمنين سواء جاءت هذه المضامين بصيغة الأمر أو النهي .
ويمكن أن يكون هذا الباب جزءً من تفسير كل آية من آيات القرآن ، ليكون ذكر مناسبة التعريض بالكافرين على وجوه :
الأول : إنه رحمة بالمؤمنين ودعوة لهم للشكر لله عز وجل للنجاة من هذا التعريض .
الثاني : دعوة المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهات :
الأولى : المناجاة بين المؤمنين والمؤمنات بتعاهد الإيمان .
الثانية : بيان فضل الله عز وجل بالهداية إلى الإيمان .
الثالثة : الإجتهاد في جذب الناس إلى منازل الإيمان .
الرابعة : بيان قبح الكفر وحرمان النفس من نداء الإيمان .
الثالث : نداء الإيمان رحمة بالكافرين ، وهو من أسرار التنزيل وعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بلحاظ أن التعريض بالكافرين رحمة بهم وإلحاح عليهم بالتوبة بلحاظ إضافته إلى الآيات الكونية ومعجزات النبوة والآيات في ذات الإنسان التي تدعو إلى الإنابة والإيمان .
الرابع : نداء الإيمان حجة على أهل الأرض , وهذه الحجة برزخ دون إشاعة الإفساد فيها ، فما زال نداء الإيمان يدفع الناس عن إرتكاب الفواحش والإصرار عليها ، فان قلت إنه خاص بالمسلمين ، والجواب نعم ولكن منافعه عامة سواء بالإتعاظ منه بالذات أو من سيرة المؤمنين .
ويأتي نداء الإيمان يوم القيامة بأبهى حلة ليكون شفيعاً وشهيداً للمؤمنين من جهات :
الأولى : توجه النداء للذين آمنوا باب للثواب لهم .
الثانية : شهادة نداء الإيمان بنزوله من عند الله ليتوجه للمؤمنين , ومن الإعجاز أن هذا النداء ينزل مرة واحدة ولكن الذين يتوجه لهم من اللامتناهي ،إذ يأتون متعاقبين في كل زمان ، ومن الآيات أن كل قرن من المسلمين أكثر عدداً من الذي سبقه ، وأعم وأوسع في سكناه وإنتشار أهله في الأرض ، وهو الذي يتجلى بوضوح في هذا الزمان حتى لا تكاد مدينة تخلو من مسجد أو أكثر يذكر المسلمون فيه الله عز وجل مما يستلزم الشكر لله عز وجل .
وهل هذا التوسع من مصاديق تعريض بالكافرين ، الجواب نعم حتى وإن كان الكافرون أيضاً يزدادون عدداً وإنتشاراً في الأرض ، قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( ).
قانون نداء الإيمان فرقان
لقد جعل الله عز وجل القرآن صراطاً مستقيماً ، وشهد له بأنه كلامه الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتختتم به الكتب السماوية ، ويبقى سالماً من التحريف والتبديل إلى يوم القيامة ، وتفضل الله عز وجل بتعدد أسماء القرآن للدلالة على سمو مرتبته بين الكتب ، وعظيم منزلته بين الخلائق ، وفيه نكتة وهي أن لكل اسم للقرآن دلالات متجددة إلى يوم القيامة وأم أسمائه( القرآن ) .
وأختص به من بين الكتب السماوية كلها ، وورد بهذا اللفظ ثمانياً وستين مرة في القرآن في آية علمية وتثبيت لمعاني القراءة والتلاوة في الأرض ولزوم تعاهد المسلمين لقراءته في الصلاة اليومية ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( )ومن أسماء القرآن الكتاب والذكر والتنزيل والوحي ، ومنها الفرقان وإشترك بهذا الاسم كل من :
الأول : القرآن كما في قوله تعالى [وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ]( ).
الثاني : ما أنزل الله عز وجل من الوحي والآيات على موسى عليه السلام ، قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ] ( ).
الثالث : معركة بدر وما فيها من الفصل والفرقان بين الحق والباطل ، قال تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
الرابع : إرادة منهاج العمل ومقدمات الصلاح وملكة الفصل والتمييز بين الحلال والحرام والتقريب إلى الطاعة وسبل النجاة في الدنيا والآخرة والنفرة من المعصية ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ] ( )..
ومن معاني الفرقان النصر ، لذل قيل في تفسير قوله تعالى [يوم الفرقان ] أي يوم النصر
وجاءت الآية أعلاه بنداء الإيمان وشرط التقوى للفوز بمرتبة حضور الفرقان ومصاديقه ، ومن الإعجاز في لفظ [الفرقان] وروده سبع مرات في القرآن مع تعدد معانيه ودلالاته ، وتسمى سورة من القرآن سورة الفرقان وتبدأ بعد البسملة بقوله تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا] ( ) وتحتمل تسمية القرآن بالفرقان وجوهاً :
الأول : إرادة سور وآيات القرآن على نحو العموم المجموعي فالإيمان به وبتنزيله من عند الله مائز بين الإيمان والكفر .
الثاني : المقصود آيات الأحكام في القرآن , والتي تبين التكاليف وتفرق بين الحلال والحرام ، وتبين الفرائض والسنن .
الثالث : خصوص الآيات التي تكون فيصلاً بين الحق والباطل في الإعتقاد والقول والفعل .
الرابع : كل آية من القرآن هي فرقان وفيصل بين الحق والباطل .
الخامس : الشطر من الآية القرآنية فرقان وفيصل بين الهدى والضلالة , (والفُرْقان: البُرْهان) ( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق ودلالات تسمية القرآن بالفرقان ، وفي الحديث (محمدٌ فَرْقٌ بين الناس أَي يَفْرُقُ بين المؤمنين والكافرين) ( ) أي بين الذين يؤمنون بالله والنبوة والذين يجحدون بالله والبنبوة .
وكل آية في القرآن تفرق بين المؤمنين ، والقرآن فرق بين الناس يوم القيامة ، وقال الراجز :
(ما شاء ربي كانا)
( منزِّلُ الفرقانا )
( مُبيِّناً تبيانا ) )( ).
وتحتمل موضوعية نداء الإيمان في مسألة الفرقان وجوهاً :
الأول : تجلي معاني العز للمسلمين في كل نداء نازل بصفة الإيمان ، ومصاحبة العز لهم في اليوم والليلة بتلاوتهم لآيات النداء .
الثاني : دلالة نداء الإيمان في مفهومه على الفصل والتمييز بين الناس بلحاظ الإيمان والكفر ، فقد ينغمس الناس بالأمور المعاشية والمعاملات , ويكون التمييز والتفاخر والمقامات على أساس الغنى والجاه والسلطان ، فتأتي تلاوة نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وما يتصف به من صفة التنزيل فيصلاً وناسخاً لمعاني وضروب التمييز الدنيوية .
الثالث : يبعث نداء الإيمان المسلمين على التسابق في فعل الصالحات ، وما يدل على صدق إيمانهم ، مما يدل على أنه أصل تتفرع عنه مصاديق كثيرة كل يوم تملأ الأرض بسنن التوحيد وتنمي ملكة الهداية بين المسلمين ، وتجعل الدنيا حلوة بهيجة بأداء التكاليف ، وهو من وجوه إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) عندما إستنكروا جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) لأنه [وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
إذ يدل نداء الإيمان على حضوره بين الناس وترغيبهم بالإسلام وبالزجر عن الكفر وعن القتال والقتل بسبب الكفر ، ويكون طريق الكافر إلى الخلود في الجحيم من جهات :
الأولى : قتل الكافر للمؤمن .
الثانية : قتل المؤمن للكافر ، لأن مغادرة الإنسان الدنيا على كفره سبب لخلوده في النار ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] ( ).
حضور النداء عند الأحتضار
وهل يحضر (نداء الإيمان) عند المسلم ساعة إحتضاره الأرجح نعم، لأنه تلاوة وتدبر وعمل له، ويكون حضوره على وجوه:
الأول : الشهادة للمسلم بالإيمان.
الثاني : البشارة للمسلم بحسن القول.
الثالث : تأكيد مضامين آية البحث وإخبارها عن فوز المسلم بالمغفرة من عند الله.
الرابع : حضور نداء الإيمان عند المؤمن ساعة إحتضاره من قوله تعالى[وَرَحْمَةٌ] الوارد في آية البحث.
الخامس : حضور نداء الإيمان عند المسلم ساعة إحتضاره تخفيف من وطأة الموت ودفع للشدة التي تتصف بها سكراته.
السادس : تجلي ثواب تلاوة المسلم لنداء الإيمان وهو في ساعة الإحتضار بحضور نداء الإيمان عنده، وبيان عدد المرات التي تلاه فيها.
السابع : الثناء على المسلمين لأنهم لم يلتفتوا لسعي الذين كفروا في منعهم عن الإنبعاث للدفاع والجهاد في سبيل الله، وتأكيد بطلان سعيهم هذا.
الثامن : بيان المائز بين المؤمن والكافر في ساعة الإحتضار، فيحضر عند المؤمن ليبعث الطمأنينة في نفسه، ويجعله يقبل على الموت وعالم الآخرة برضا، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، بلحاظ أن ساعة الإحتضار ودنو الموت من أسباب الخوف فيدفعه نداء الإيمان، وتلاوة نداء الإيمان بصيغة القرآنية والعمل بمضامين آياته التي جاء فيها من العمل الصالح، قال تعالى[الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً]( ).
إن تقسيم كيفية القراءة في الصلاة اليومية من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنن التشريع فيها وفيه مسائل :
الأولى : عند أوان صلاة الصبح يتبادل الملائكة الليل والنهار الصعود والنزول إلى الأرض وتدوين أعمال بني آدم ، قال تعالى [إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( ).
ليكون المسلمون والمسلمات بأدائهم الصلاة وتلاوتهم التنزيل على نحو الوجوب العيني سبباً لإدامة الحياة الإنسانية على الأرض ونزول البركات لقوله تعالى في علة الخلق [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثانية : إتيان الصلاة الجهرية في أوقاتها سكينة وعدم إنشغال بالدنيا ، فيقترن التدبر بالآيات ومضامينها القدسية من قبل القارئ والسامع مع المستمع .
الثالثة : بيان عز الإسلام بالقراءة الجهرية وفضل الله على المسلمين في تلاوتهم للقرآن خشية منه تعالى ومن غير خوف من بني آدم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وعلة الجهر بالصلاة في المغرب والعشاء والصبح والإخفات في الظهرين هو الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقول الله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) وعلة القراءة الجهرية أن الإنسان في الصبح والمغرب والعشاء صيرورة المسلم أقل إنشغالاً بأمور الدنيا ويودع النهار أو يستقبله بذكر الله , وتتبادل الملائكة النزول والصعود . (وأخذ الحجاج أعرابيا سرق ، فأمر بضربه ، فلما قرعه السوط قال : يا رب شكرا حتى ضرب سبعمائة سوط ، فلقيه أشعب فقال له : تدري لم ضربك الحجاج سبعمائة سوط ؟ قال : لا ، قال : لكثرة شكرك ، فإن الله يقول : { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ }( ) ، قال الأعرابي : وهذا في القرآن ؟ قال : نعم ، فقال : يا رب لا شكرا فلا تزدن ، أسأت في شكري فاعف عني ، باعد ثواب الشاكرين مني .
وسمع أعرابي إماماً يقرأ : { وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا َ }( ) قرأها بفتح التاء ، فقال : ولا إن آمنوا أيضا – يقصد أن اللواط محرم – فقيل له : إنه يلحن وليس هكذا يقرأ ؟ فقال : أخروه قبحه الله لا تجعلوه إماما ؛ فإنه يحل ما حرم الله ) ( ).
قانون كل نداء باعث للإيمان
من إعجاز القرآن أنه في كل مرة يرد فيها نداء الإيمان تجد هناك فرداً من أفراد الإيمان في مضامين ذات الآية التي ورد فيها ، وقد تتعدد أفراد ومصاديق الإيمان في ذات آية النداء والآية او الآيات المعطوفة عليها ، ففي قوله تعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا .. مصاديق من الإيمان التي تتناسب مع نداء الإيمان الوارد في أولها منها :
الأول : دلالة النهي عن التشبيه بالذين كفروا على العصمة من الكفر والسلامة من الضلالة .
الثاني : بيان قانون وهو من خصائص المسلمين الإنبعاث للدفاع كما في معركة أحد إذ صار ثلاثة ألاف من المشركين على مشارف المدينة وهم غزاة وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع فنزل قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الثالث : القتل في سبيل الله لقوله تعالى [وَمَا قُتِلُوا]فنهي الآية عن التشبه بالكفر في نوع وماهية الكلام عن الغزاة يدل على إرادة المسلمين بالغزو .
الرابع : تصديق المسلمين بأن الموت والحياة أمران بيد الله, وحياة أو موت الإنسان فرع ملك الله عز وجل للسموات والأرض ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ] ( ).
الخامس : من مصاديق الإيمان الإقرار بأن الله عز وجل أحاط بأعمال العباد علماً ، وأن المسلمين ينالون النعيم لقوله تعالى [وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] لأن من معانيه أن الله عز وجل يرحم المسلمين ويأخذ بأيديهم نحو فعل الصالحات .
فلذا بعد أن أختتمت آية البحث بهذا القانون جاءت بعدها البشارة بالمغفرة والرحمة لعموم المسلمين سواء من قتل في سبيل الله أو مات على فراشه لقوله تعالى [وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ].
بحث أصولي
ينقسم العموم إلى أقسام :
الأول : العموم الإستغراقي ويتصف بالإتحاد في مرتبة الإنشاء والموضوع إلا أنه يتحد ويتعدد في مرتبة الواقع والإنطباق فيكون بحسب أعداد أفراد العام فقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] ( )فان شهر رمضان عام إستغراقي يتحلى بعدد أيام الشهر التي تبلغ ثلاثين يوماً إذا كان الشهر تاماً أو تسعة وعشرين إذا كان ناقصاً .
فيكون كل يوم تكليف خاص بالصيام وأفراده غير إرتباطية مع كفاية النية الواحدة لتمام الشهر, ولا يجب تجديد نية الصوم كل يوم، وفي رسالتنا العملية الحجة( ).
(يجوز في شهر رمضان ان ينوي لكل يوم نية على حدة، ويجوز الإجتزاء بنية واحدة للشهر كله، وان ينوي الصوم جملة ويجدد النية لكل يوم)( ).
وقد تكون أفراد العام الإستغراقي من الكلي المتواطئ كما في المثال أعلاه أو قد تكون من الكلي المشكك الذي تكون أفراده متباينة في ذاتها وكيفيتها وأجزائها ، كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] فمن الصلاة ما هو أربع ركعات كصلاة الظهر والعصر والعشاء ، ومنها ثلاث ركعات وهي صلاة المغرب ، ومنها ركعتان كصلاة الصبح .
الثاني : العموم المجموعي ويراد منه أفراد العام مجتمعة ومتحدة في القصد والغاية والماهية ، فيكون الإتحاد في مراتب الإثبات والثبوت ، وأن المراد موضوعاً متحداً ، كما في الإيمان بالأنبياء إذ أن عددهم هو مائة وأربعة وعشرون ألفاً ، لم يذكر منهم في القرآن إلا خمسة وعشرين نبياً منهم ثمانية عشر ذكروا في موضع من القرآن بقوله تعالى [وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ *وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ] ( ).
ويضاف لهم في ذات الآيات أعلاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن القرآن نزل على صدره فهو خاتم الأنبياء ، ولذكره بصيغة الضمير في هذه الآيات بقوله تعالى [رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ] وتقدير الآية إن ربك يا محمد حكيم خبير .
وسبعة من الأنبياء ذكروا في آيات أخرى ، هم إدريس وهود وشعيب وصالح وذو الكفل والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليهم السلام أجمعين كما تبين الآية أعلاه العناية في الجملة بأسماء آباء الأنبياء ، إذ أنها تشير إلى أن إبراهيم والد إسحاق ، وأن يعقوب هو ابن إسحاق .
كما بينت السنة النبوية أسماء آباء عدد من الأنبياء ، فاسم والد رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو عبد الله واسم والد إبراهيم هو آزر وذكر أنه عمه وليس أباه ، وأن والد موسى هو عمران ، وبيّن القرآن أن هارون هو أخو موسى ، وأن يحيى هو ابن زكريا لقوله تعالى [يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى]( ) .
وذكر القرآن اسم مريم أم عيسى مع ذكر أبيها بقوله تعالى [وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا] ( ) لبيان شأنها عند قومها ، ولمنع الإفتراء عليها من جهة النسب كما أُفترى عليها في معجزة ولادة عيسى عليه السلام .
الثالث : العموم البدلي وهو تعلق الحكم بالأفراد بلحاظ الإتحاد في صرف وجود الطبيعة المشتركة بينهم , وملاكه أن كل فرد يحمل ذات الصفات هو موضوع للحكم ، وكل مؤمن هو مسلم ومن قتل في سبيل الله يكون خالداً في النعيم فيشمل الذي يقتل بالسيف أو غيره ، ومهاجماً كان أو صابراً ومات في ساحة المعركة أو خارجها .
ويحتمل قوله تعالى [يا أيها الذين آمنوا] وجوهاً :
الأول : إرادة المسلمين والمسلمات على نحو العموم الإستغراقي وأن النداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] متوجه إلى كل المسلمين فرداً فرداً ، في آن وزمان وموضوع متحد أو متعدد، وكل واحد منهم يتلقى الخطاب والنداء على نحو مستقل .
الثاني : توجه النداء للمسلمين والمسلمات كأمة متحدة يكون الجامع بينهم هو الإيمان بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيكون كل فرد منهم جزءً من الأمة في تلقي النداء وليس موضوعاً مستقلاً قائماً بذاته .
الثالث : يتضمن نداء الإيمان معنى العموم البدلي ، وتعلق الحكم بالفرد من المسلمين إبتداء ، وكل واحد منه خطاب مستقل وإلى يوم القيامة لتكون أعداد كل نداء قرآني [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] من اللامتناهي ، ثم يضرب هذا اللامتناهي بتسعة وثمانين عدد نداءات الإيمان في القرآن ، وهو من إعجاز القرآن ومن أسرار هذه الكثرة الخارقة للتصور الذهني هداية المسلمين إلى سبل الفلاح ، وإقامة الحجة على الناس في تجدد الدعوة إلى الإيمان في كل زمان وبيان حقيقة وهي أن القرآن معجزة عقلية في ذاتها وموضوعها وأثرها .
قانون من يأتي لقتل النبي يدخل الإسلام
لقد سخّرت قريش بعض الأشرار لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقاموا بإغرائهم بالمال ، فمثلاً كان عمير بن وهب الجمحي ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهم في مكة قبل الهجرة ويلقون منه شدة وعناء ، وعندما خرجت قريش إلى معركة بدر خرج معهم إبنه وهب بن عمير فوقع في الأسر ، فلم ينتقم منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
(قال ابن إسحاق: وعمير بن وهب، أو الحارث بن هشام، هو الذى رأى عدو الله إبليس حين نكص على عقبيه يوم بدر وفر هاربا , وقال: إنى برئ منكم إنى أرى ما لا ترون، وكان إبليس يومئذ في صورة سراقة بن مالك بن جعشم أمير مدلج) فأخذ صفوان بن أمية يحرضه بمكر على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال عمير (أَمَا وَاَللّهِ لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيّ لَيْسَ لَهُ عِنْدِي قَضَاءٌ وَعِيَالٌ أَخْشَى عَلَيْهِمْ الضّيْعَةَ بَعْدِي ، لَرَكِبْت إلَى مُحَمّدٍ حَتّى أَقْتُلَهُ فَإِنّ لِي قِبَلَهُمْ عِلّةً ابْنِي أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ , فَاغْتَنَمَهَا صَفْوَانُ وَقَالَ عَلَيّ دَيْنُك ، أَنَا أَقْضِيهِ عَنْك ، وَعِيَالُك مَعَ عِيَالِي أُوَاسِيهِمْ مَا بَقُوا ، لَا يَسَعُنِي شَيْءٌ وَيَعْجِزُ عَنْهُمْ , فَقَالَ لَهُ عُمَيْرٌ فَاكْتُمْ شَأْنِي وَشَأْنَك ، قَالَ أَفْعَلُ)( ).
ورحل عمير بن وهب الجمحي إلى المدينة حاملاً سيفه وهو ينوي قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولما أدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باذن منه سأله عن علة مجيئه ، لتتجلى معالم التصرف والصلات والعفو النبوي على الناس ومنهم الذين كفروا ، فلم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم , بتقييده , ولم يخيره بين الإيمان والقتل ، بل تركه يدخل عليه , وسأله ما جاء بك يا عمير ؟
قال : جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا إليه .
قال : فما بال السيف الذي في عنقك .
قال قبحها الله من سيوف ، وهل أغنت شيئاً ) ( ) .
وفي جوابه خذا أمارة على إصراره على الكفر ووضع اللوم على السيوف والمؤن في خسارتهم وهزيمتهم يوم بدر .
(قَالَ اُصْدُقْنِي ، مَا الّذِي جِئْتَ لَهُ ؟ قَالَ مَا جِئْتُ إلّا لِذَلِك ، قَالَ بَلْ قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ فِي الْحِجْرِ ، فَذَكَرْتُمَا أَصْحَابَ الْقَلِيبِ مِنْ قُرَيْشٍ ، ثُمّ قُلْت : لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيّ وَعِيَالٌ عِنْدِي لَخَرَجْتُ حَتّى أَقْتُلَ مُحَمّدًا ، فَتَحَمّلَ لَك صَفْوَانُ بِدَيْنِك وَعِيَالِك ، عَلَى أَنْ تَقْتُلَنِي لَهُ وَاَللّهُ حَائِلٌ بَيْنَك وَبَيْنَ ذَلِكَ .
قَالَ عُمَيْرٌ أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ قَدْ كُنّا يَا رَسُولَ اللّهِ نُكَذّبُك بِمَا كُنْت تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السّمَاءِ وَمَا يَنْزِلُ عَلَيْك مِنْ الْوَحْيِ وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يَحْضُرْهُ إلّا أَنَا وَصَفْوَانُ فَوَاَللّهِ إنّي لَأَعْلَمُ مَا أَتَاك بِهِ إلّا اللّهُ .
فَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ وَسَاقَنِي هَذَا الْمَسَاقَ ثُمّ شَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقّ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ . وَأَقْرِئُوهُ الْقُرْآنَ وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ فَفَعَلُوا ( ).
وفي الحديث أمور :
أولاً : كان عمير بن وهب حاضراً في معركة بدر مع الذين كفروا ، وبعثوه قبل القتال ليحرز لهم المسلمين ويحصي عددهم ، وقالوا له (أحرز لنا أصحاب محمد ) ( ) أي أنهم لم يسموهم المسلمين ، فأكرمهم الله عز وجل وسماهم بتسمية خاصة وهي : المهاجرون والأنصار , لتبقى وثيقة شرف نازلة من السماء , وناداهم في القرآن بلفظ ( يا أيها الذين آمنوا ) .
وجال عمير بن وهب بفرسه حول عسكر المسلمين ثم رجع إليهم ( احزر لنا أصحاب محمد , قال : فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال : ثلاث مائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون) ( ) .
وفيه آية بأن المسلمين منكشفون للعدو وليس عندهم ما يخفون وأنهم لم يتصدوا بالنبال والسهام والحجارة والعيون والخيل التي تجول معسكرهم .
إذ يدل ضبط عمير لعدد المسلمين على قربه ودنوه منهم فقد كان عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً , وأنه صار على مقربة منهم يسمع كلامهم كما سيأتي من بيانه لصفاتهم ، إذ أنه لم يكتف بما بعثه إليه كبار رجالات قريش من معرفة عدد المسلمين ، بل قال أمهلوني حتى أنظر : هل لهم كمين أو مدد ؟
فضرب في الوادي وأبعد في فرسه , فلم ير شيئاً فأخبرهم ولكنه قال : (قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ؟ فروا رأيكم) ( ). عن ابن إسحاق( )
فكان كالرائد الذي يتقدم قومه ليطلع على مواطن الكلأ ومساقط المطر فيتقدمهم ليوفر عليهم السعي وبذل الجهد والتعرض إلى الهلاك في الصحراء الموحشة ويصدق معهم رجاء نجاتهم وسلامتهم .
والرائد لغة هو الذي يتقدم الجماعة ليتدبر في أمورها ويتبصر في الأحداث وما يجلب لها المصالح , ويدفع عنها الأضرار .
ولم تكتف قريش يوم بدر ببعث عمير وما جاء به من الخبر ، فبعثوا أبا سلمة الجشعمي فطاف بالمسلمين وهو على فرسه ورجع ليخبر قريشاً بما إستقرأه من جهات :
الأولى : أخبر عن عدم كثرة عدد المسلمين .
الثانية : تأكيد النقص في أسلحة ومؤن المسلمين .
الثالثة : تحذير وإنذار قريش من قوة عزيمة المسلمين ، إذ قال (وَاَللّهِ مَا رَأَيْت جَلَدًا ( )، وَلَا عَدَدًا ، وَلَا حَلْقَةً وَلَا كُرَاعًا . وَلَكِنّي وَاَللّهِ رَأَيْت قَوْمًا لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَئُوبُوا إلَى أَهْلِيهِمْ قَوْمًا مُسْتَمِيتِينَ لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا مَلْجَأٌ إلّا سُيُوفُهُمْ زُرْقُ الْعُيُونِ كَأَنّهُمْ الْحَصَى تَحْتَ الْحَجَفِ ( ).
ثُمّ قَالَ أَخْشَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ كَمِينٌ أَوْ مَدَدٌ . فَصَوّبَ فِي الْوَادِي ثُمّ صَعِدَ ثُمّ رَجَعَ إلَيْهِمْ ثُمّ قَالَ لَا كَمِينَ وَلَا مَدَدَ فَرَوْا رَأْيَكُمْ) ( ).
ثانياً : دخول فرد من أفراد العدو على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حال حضوره المدينة ، ومن غير أن ينزع سلاحه مع أن بعض الصحابة أرادوا الأخذ بحمالة سيفه ، لمعرفتهم بخبثه ومكره .
ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إستمرار وصول الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسهولة ويسر حتى بعد أن كثر أصحابه ودانت له الأمصار , لذا نزل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ).
ثالثاً : إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن علوم الغيب إذ أنعم الله عز وجل عليه فاطلعه على مقدمات وعلة مجئ عمير على نحو التفصيل وقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم باخباره بها .
رابعاً : إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مؤاخذة عمير على سوء نيته وقصده مع ما في هذه المؤاخذة من العبرة والتخويف لمن يروم ذات المكر , ويسعى لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم , والتعدي على الحرمات .
خامساً : دخول عمير الإسلام , وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في الحال بأمور :
الأول : إرشاد عمير لأحكام الشريعة من أداء الفرائض وسنن الحلال والحرام .
الثاني : تعليم عمير القرآن وتلاوته والتسليم بأنه كتاب الله .
الثالث : إطلاق ابن عمير من الأسر ، ترى لماذا لم يشترط النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخوله الإسلام مثل أبيه كي يطلق سراحه .
الجواب تتجلى البراهين والحجج البالغة التي تدعو الناس إلى الإسلام والمعجزات التي تبين صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولزوم إقتداء الابن بأبيه في إرادة سبل الخير والصلاح .
ولم يقعد عمير في المدينة فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المغادرة إلى مكة مما يدل على بلوغه مرتبة تعلم أحكام الشريعة وآيات القرآن .
إذ أقرّ بشدة إيذائه للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه وأراد أن يرجع إلى مكة يدعو الناس إلى الإسلام ، فلم يخش النبي صلى الله عليه وآله وسلم إرتداده أو الخوف على نفسه من القتل بل أذن له , ليكون داعية إلى الله ورسوله ، وكان صفوان بن أمية يأمل قيام عمير بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقول (أَبْشِرُوا بِوَقْعَةٍ تَأْتِيكُمْ الْآنَ فِي أَيّامٍ تُنْسِيكُمْ وَقْعَةَ بَدْرٍ ) ( ) .
فأرجع الله عز وجل كيده إلى نحره , وكفّ عمير الذي أخذ يدعو الناس إلى الإسلام , ويؤذي من خالفه , وسعي ليكون سبباً في زجر كفار قريش ومنعهم من معركة أحد والخندق ، ولكنهم أصروا على القتال ، فلم تمر الأيام حتى تم فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة .
ليكون كيد الكفار وإرادتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق قوله تعالى [وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ]( ) , لقد جعل الله عز وجل رسوله الكريم في حجاب مستور , وأمن متصل وسلامة من الكيد .
لقد أراد كبار الكفار العزة في الدنيا ونسوا الآخرة ، فأبى الله إلا أن يذكرهم بالتباين والتضاد بين الكفر والعز ، ويخبرهم بأن الدنيا دار متاع وجعلها الله مزرعة للآخرة فتفضل وحفظ نبيه الكريم من أسباب الكيد والمكر ، ليكون حفظ شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة ونوع طريق لحفظ دعائم الإيمان في الأرض ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ] ( ) .
والمكر هو التدبر والحيلة لصرف الغير عما يريده ، وهو مذموم ، إن كان في الشر ، ومحمود إذا كان لجلب الخير للذات والغير , قال تعالى [قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ويدل لفظ المكر على أن كفار قريش يبذلون الوسع في الإضرار بالنبوة والإسلام , وتفيد صيغة الجمع في الآية أعلاه معنى تآزر الذين كفروا لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
و(تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق – يريدون النبي صلى الله عليه وسلم – وقال بعضهم : بل اقتلوه ، وقال بعضهم : بل أخرجوه . فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك ، فبات علي رضي الله عنه على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى لحق بالغار .
وبات المشركون يحرسون علياً عليه السلام يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوه علياً عليه السلام رد الله مكرهم فقالوا : أين صاحبك هذا؟ قال : لا أدري . . . ! فاقتصوا أثره ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا : لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال)( ).
وتدل الآية أعلاه من سورة الأنفال على أمور :
الأول : إرادة الكفار شدّ وثاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسجنه في مكة ، وما فيه من الإنتقاص من شأنه بظنهم ، ومنعه من دعوة الناس للإسلام في البيت الحرام ومكة والمشاعر وغيرها .
الثاني : سعي الكفار للسخرية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإيذائه بما فيه الإستخفاف به , ومحاولة إعراض الناس عنه .
الثالث : من معاني [لِيُثْبِتُوكَ] إرهاق النبي بالجراحات وجعله عاجزاً عن السعي بين الناس لنشر مبادئ الإسلام ، وبعث الناس للإعراض عن دعوته .
الرابع : إرادة الكفار قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها ذكرت القتل على نحو النص والتصريح بما يمنع من اللبس وإحتمال المجاز والإجمال فيه ، ومنه خبر عمير وإرادته قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المدينة وبعد واقعة بدر على أن موضوع قتله لا يختص بعزمهم على قتله في مكة ليلة مبيت الإمام علي عليه السلام في فراشه بل كانت محاولات إغتياله متعددة .
لقد ظن كبار كفار قريش أن سلطانهم وشأنهم بين القبائل وإزدهار تجارتهم إلى زوال بسبب إتساع الإسلام ، وهو من عمومات ما ورد في آية البحث [يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ] فاختاروا قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لظنهم بأن هذا القطع يؤدي إلى دوام رفعتهم وعزهم ، ولم يعلموا بانحصار العز بالإيمان وأن الله عز وجل كتب وفرض ظهور الإسلام ، وهو المستقرأ من قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( ) وكتب أي فرض وإلى الآن يقول أهل اليمن كتب القاضي بالنفقة أي فرض.
وفرض الصيام على المسلمين فرع إقامة دولة الإسلام ، وإنتفاء المكر والكيد والإضرار بهم من قبل الذين كفروا .
أما قوله تعالى [أَوْ يُخْرِجُوكَ] ففيه وجوه :
الأول : إرادة إخراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ، بلحاظ أن أهلها يميلون إليه لمعرفتهم بأمانته وصدقه ونسبه الشريف بينهم , وكانوا يسمونه قبل البعثة ( الصادق الأمين) .
الثاني : نفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة طريداً مما يبعث النفرة في النفوس من الإصغاء إليه حسب ظنهم .
الثالث : إرادة موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في البيداء عند خروجه من مكة .
الرابع : صيرورة إخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة نوع طريق لقتل بعض العرب له .
الخامس : إتخاذ قريش إخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة ومقدمة لقتله ، وبعث شخص خلفه ليقتله أو يقومون بتحريض الناس على قتله مع تبرأهم من دمه .
وإشتد مكر قريش بعد معركة بدر وأدركوا أن قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوفر عليهم تجهيز الجيوش لقتال المسلمين , وسقوط القتلى وتحمل أعباء نفقات الحرب .
وفيه مكر أعم من إتفاقهم على إختيار فرد من شباب كل قبيلة لقتله ليلة الفراش ، وتفرق دمه بينهم ، فقد أرادوا في إخراجهم من مكة قتله من دون أن يدفعوا الدية لبني هاشم لعدم معرفة قاتله أو لأن قاتله غريب عنهم ، وربما قام الذين حرضوا على قتله بطلب ديته والتباكي عليه ، وهو من عمومات مكرهم .
ودخل رجل من الأعراب إلى منزل أبي سفيان ليعرض نفسه بأنه الأنسب لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قد وجدت أجمع الرجال قلبا وأشده بطشا وأسرعه شدا فان أنت قويتنى خرجت إليه حتى أغتاله ومعي خنجر مثل خافية النسر فأسوره ثم آخذه في غبر وأسبق القوم عدوا فاني هاد بالطريق خريت .
قال أنت صاحبنا فأعطاه بعيرا ونفقة وقال اطو أمرك فخرج ليلا فسار على راحلته خمسا وصبح ظهر الحرة صبح سادسة)( ).
وكان كلام أبي سفيان ودعوته لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع نفر من قريش ، ومع هذا جاء أعرابي ليعلن تطوعه بالأمر مما يدل على شيوع أنباء سعي قريش لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الأعرابي بيت أبي سفيان لإرادة السرية وإخفاء الأمر ، وعدم إنكشافه , ولعل فيه قرينة على صيرورة عدد المسلمين في مكة كثيراً ، وأنهم يحيطون بأخبار مكة , وما يعزم عليه الكفار ويبعثون بهذه الأخبار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة .
وهل يصدق عليهم أنهم عيون أو جواسيس لأنهم يبعثون الأخبار ، الجواب لا ، إنما هذا البعث من الدفاع عن النفس وعن العقيدة ، وهو من أفراد الجهاد في سبيل الله .
ترى لماذا قطع الأعرابي مسافة نحو خمسمائة كيلو متراً بين مكة والمدينة في خمسة أيام ، الجواب من وجوه :
أولاً : خشية الأعرابي من إنكشاف أمره .
ثانياً : إشتراط أبي سفيان عليه قطع المسافة بين مكة والمدينة بسرعة ، للحيلولة دون تراخيه وميله إلى الإنصراف عن أمر قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن هناك فارقاً وبوناً شاسعاً بين نية القتل والإقدام عليه ، لذا تفضل الله عز وجل وشرّع القصاص بقوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ) .
فاذا نوى شخص قتل شخص آخر إستحضر حكم القصاص وأدرك أنه يقتل أيضاً قصاصاً فيمتنع عن القتل ، فيكون حكم القصاص في القتل حياة لمن ينوي الجناية , ولمن يصير مجنياً عليه لولا فضل الله بهذا الحكم .
وحالما دخل الأعرابي المدينة سأل وهو على راحلته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأين يجده ، فلم يسأل عن بيته مما يدل على أن الذين كفروا يعلمون بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثير التنقل بين أرجاء المدينة لنشر معالم الإيمان وبيان سنن الأحكام ، ولم يخش من إحتجاج واليهود أو غيرهم ممن كان مقيماً في المدينة المنورة .
وجاء خبر الأعرابي هذا ونحوه ليؤكد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخف من محاولات قتله لحسن توكله على الله عز وجل ، لذا قال أبو سفيان في التحريض عليه وعلى قتله بأنه يمشي في الأسواق للإخبار المقرون بالحنق عن تنقله بين الناس لتبليغ الرسالة ونشر مفاهيم الصلاح والتقوى .
فدله المسلمون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان في مسجد بني عبد الأشهل
( فلما رأه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن هذا ليريد غدراً والله تعالى حائل بينه وبين ما يريد ) ( ) .
وهو من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يكتف بالإخبار عن إرادته الغدر وتحريض الصحابة على القبض عليه ومنعه من الوصول إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي قطع بأن الله عز وجل يدفع ضرره ويحول بينه وبين ما يريد من الضرر والمكر به وبالإسلام والتنزيل، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
فسعى الأعرابي إلى الإعتداء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجذبه أسيد بن حضير فسقط الخنجر في يديه , وقال : دمي دمي ، فأخذه أسيد , قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أصدقني من أنت ؟ قال الأعرابي : وأنا آمن .
ومع أن المسلمين أمسكوا به في الجرم المشهود وان العلم بإسمه ونسبه في تلك الساعة ليس متعذراً , ولا أثر له في إقامة حكم السيف عليه ، فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجابه : نعم لك الأمان .
فأخبره الأعرابي بأمره والمال الذي جعله له أبو سفيان فخلى عنه , ولم يعاقبه .
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحبسه عند أسيد بن حضير ، ولم يستمر الحبس والحجز بل دعاه النبي في صباح اليوم الثاني ، وقال : قد أمنتك فاذهب حيث شئت أو خير لك من ذلك .
قال الأعرابي : وما هو الذي هو خير لي من إطلاق سراحي ونجاتي من القتل ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال الأعرابي (أشهد أن لا إله إلا الله وأنك أنت رسول الله، والله يا محمد ما كنت أفرق من الرجال، فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت ثم اطلعت على ما هممت به، فما سبقت به الركبان ولم يطلع عليه أحد، فعرفت أنك ممنوع، وأنك على حق، وأن حزب أبى سفيان حزب الشيطان.
فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتبسم.
وأقام الأعرابي أياماً في المدينة ثم استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخرج من عنده ولم يسمع له بذكر) ( ) ليرجع إلى أهله بشموله وذريته بنداء الإيمان .
ولم تنقطع محاولات قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد فتح مكة وإنحسار أثر المنافقين بل إستمرت حتى السنين الأخيرة من حياته صلى الله عليه وآله وسلم , وقد مات مسموماً ، ففي كتيبة خيبر أهدت زينب بنت الحارث امرأة سلام بن يشكم له شاة مشوية وجعلت فيها السم .
وسألت أي اللحم أحب إليه , قالوا : الذراع ، فأكثرت من السم في الذراع ، وحالما تناول من الذراع أخبره بأنه مسموم , فلفَظ تلك الأكلة، وجمع اليهود وسألهم فأقروا بسم الشاة .
وقال له النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ ؟ ” قَالُوا : أَرَدْنَا إنْ كُنْت كَاذِبًا نَسْتَرِيحُ مِنْك وَإِنْ كُنْت نَبِيّا لَمْ يَضُرّك) ( ).
وأحضرت ذات المرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم , فقالت : أردت قتلك ، فقال ما كان الله ليسلطك عليّ , وإحتجم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الكاهل وأمر من أكل منها , فاحتجم ومات بعضهم.
وأختلف في قتلها أو عدمه على وجوه :
أولاً : ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم المرأة وشأنها ، فقد ( قالوا ألا تقتلها : قال : لا ) ##.
ثانياً : لم يعاقب النبي صلى الله عليه وآله وسلم المرأة اليهودية التي أرادت سمه بأي عقوبة .
ثالثاً : قيام النبي بقتل المرأة التي أرادت سمه .
رابعاً : لم يرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذه المرأة إلا بعد أن مات بشر بن البراء بن معرور فارسل إليها وسألها : ما حملك على الذي صنعت ، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقتلت .
خامساً : دخول المرأة التي أرادت سم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام ، فتركها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقتلها ، ويدل عليه حديث الجب ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : الإسلام يجب ما كان قبله) ( ).
وورد هذا الحديث عن عمرو بن العاص في قصة إسلامه وأنه إشترط على النبي أن يبايعه على أن يغفر ما تقدم من ذنبه لكثرة إضراره بالمسلمين في مكة ولحوقه بهم في الحبشة ومحاولة إغراء النجاشي بهم .
والمختار هو الخامس أعلاه ، ومن العلماء من مال إلى الوجه الرابع أعلاه .
وفي طريق العودة من معركة تبوك حاول المنافقون قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكيدة عند العقبة ، وكان حذيفة يقود الناقة التي عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعمار يسوقها وقيل بالعكس ، ولما إعترض المنافقون وعددهم إثنا عشر رجلاً ليزاحموا ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويلقوها في الوادي ، صرخ بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فولوا منهزمين ، وكانوا ملثمين وقد عرفوهم بركائبهم .
فان قلت قد يكون وجودهم في العقبة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محض صدفة أو شوقاً ورغبة بالإقتراب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
والجواب قد ورد عن أبي الطفيل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر منادياً أن ينادي : أن رسول الله أخذ بالعقبة فلا يأخذها أحد) ( ).
لإقامة الحجة عليهم وتحذير أصحابه المقربين من خبث ومكر المنافقين ، وفيه زجر للمنافقين عن القيام بمحاولة القتل لأن الله عز وجل حافظ ومنجي النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وفي التنزيل [فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًاوَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ( ).
وروى البيهقي عن أبي البختري عن حذيفة بن اليمان قال : كنت آخذاً بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقود به وعمار يسوقها – أو أنا أسوق وعمار يقود به – حتى إذا كنا بالعقبة إذا باثني عشر راكبا قد اعترضوه فيها، قال: فأنبهت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فصرخ بهم فولوا مدبرين.
فقال لنا رسول الله: ” هل عرفتم القوم ؟ ” قلنا: لا يا رسول الله قد كانوا متلثمين، ولكنا قد عرفنا الركاب.
قال: ” هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة .
وهل تدرون ما أرادوا ؟ ” قلنا: لا.
قال: ” أرادوا أن يزحموا رسول الله في العقبة فيلقوه منها “.
قلنا: يا رسول الله أولا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم ؟ قال: ” لا، أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمدا قاتل بقومه، حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم “.
ثم قال: ” اللهم ارمهم بالدبيلة ” قلنا: يا رسول الله وما الدبيلة ؟ قال: ” هي شهاب من نار تقع على نياط قلب أحدهم فيهلك) ( ).
والظاهر مجئ الترديد أو أنا أسوق وعمار يقود به ) من قبل أحد رجال سلسلة السند ، وليس من قول حذيفة نفسه , وذكر السيوطي عن البيهقي بإسناده الخبر عن حذيفة بن اليمان من غير ترديد , قال : كنت آخذاً بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقود به وعمار يسوقه) ( ).
وبقي المسلمون بعد إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى يسألون حذيفة عن المنافقين وأسمائهم ، وكان بعض الصحابة يسأله هل أنا من المنافقين للتوقي والحذر .
الوجه الثالث : لقد أختتمت الآية أعلاه بقوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]وإبتدأت الآية التي بعدها ببيان مصداق لنصرة الله عز وجل للمسلمين في جهادهم , ولا يتعلق هذا المصداق بذات المؤمنين وأسباب النصرة التي تتوالى عليهم من عند الله عز وجل بل يتعلق بنصرتهم من جهة إصابة عدوهم بالوهن والخذلان .
ومن الدلائل على أن هذا الخذلان والوهن من نصرة الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إخبار الآية عن تفضل الله عز وجل بنفسه بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ].
ولم تقل الآية (سوف نلقي ) ولا (سيلقي الملائكة ) أو ( وأمرنا الملائكة بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا).
ومن إعجاز القرآن الأمر الإلهي للملائكة بضرب وجوه الذين كفروا , مع تجلي إختصاص ونسبة إلقاء الرعب في قلوبهم إلى الله عز وجل لقوله تعالى [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( ).
ونزلت الآية أعلاه في معركة بدر التي سبقت في زمانها معركة أحد بثلاثة عشر شهراً , وفي نزولها ورد عن ابن عباس قال (إن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير ويقاتلوا عليها نزلوا على الماء يوم بدر فغلبوا المؤمنين عليه ، فأصاب المؤمنين الظمأ فجعلوا يصلون مجنبين ومحدثين؟
فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن فقال لهم : أتزعمون أن فيكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنكم أولياء الله وقد غلبتم على الماء وأنتم تصلون مجنبين ومحدثين؟ حتى تعاظم ذلك في صدور أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي ، فشرب المؤمنون ، وملأوا الأسقية ، وسقوا الركاب ، واغتسلوا من الجنابة ، فجعل الله في ذلك طهوراً وثبّت أقدامهم ، وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة ، فبعث الله المطر عليها فلبدها حتى اشتدت وثبت عليها الأقدام .
ونفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين وهم يومئذ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، منهم سبعون ومائتان من الأنصار وسائرهم من المهاجرين .
وسيد المشركين يومئذ عتبة بن ربيعة لكبر سنه .
فقال عتبة : يا معشر قريش إني لكم ناصح ، وعليكم مشفق لا أدخر النصيحة لكم بعد اليوم ، وقد بلغتم الذي تريدون وقد نجا أبو سفيان فارجعوا وأنتم سالمون ، فإن يكن محمد صادقاً فأنتم أسعد الناس بصدقه ، وإن يك كاذباً فأنتم أحق من حقن دمه . فالتفت إليه أبو جهل فشتمه وفج وجهه , وقال له : قد امتلأت أحشاؤك رعباً . فقال له عتبة : سيعلم اليوم من الجبان المفسد لقومه .
فنزل عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، حتى إذا كانوا أقرب إلى أسنة المسلمين قالوا : ابعثوا إلينا عدتنا منكم نقاتلهم . فقام غلمة من بني الخزرج فاجلسهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال : يا بني هاشم أتبعثون إلى أخويكم – والنبي منكم – غلمة بني الخزرج؟
فقام حمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبيدة بن الحارث ، فمشوا إليهم في الحديد فقال عتبة : تكلموا نعرفكم ، فإن تكونوا أكفاءنا نقاتلكم .
فقال حمزة : أنا أسد الله وأسد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فقال له عتبة : كفء كريم . فوثب إليه شيبة فاختلفا ضربتين فضربه حمزة فقتله .
ثم قام علي بن أبي طالب عليه السلام إلى الوليد بن عتبة فاختلفا ضربتين فضربه علي عليه السلام فقتله .
ثم قام عبيدة فخرج إليه عتبة فاختلفا ضربتين , فجرح كل واحد منهما صاحبه , وعن علي عليه السلام : عمدت إلى شيبة فقتلته ، وأختلف الوليد وعبيدة ضربتين فأثخن كل واحد منهما صاحبه ، قال : فحملنا على الوليد فقتلناه ) ( ) .
ولعل في الخبر سهواً من النساخ بالنسبة لذكر الوليد في آخر الحديث , وأن المقصود هو عتبة أبو الوليد وليس الوليد .
فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم , فقال : اللهم ربنا أَنْزَلْتَ عليَّ الكتاب وأمرتني بالقتال ووعدتني النصر ولا تخلف الميعاد ، فأتاه جبريل عليه السلام ، فأنزل عليه { ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين } ( ) .
أوحى الله إلى الملائكة { إني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } ( ) فقتل أبو جهل في تسعة وستين رجلاً ، وأسر عقبة بن أبي معيط فقتل صبراً ، فوفى ذلك سبعين وأسر سبعون)( ).
وفيه بيان ودليل على أن القلوب وما يعتريها أمر خاص بالله عز وجل ، وهو من مصاديق تفضله بالنفخ من روحه في آدم ليتبوأ منزلة الخليفة في الأرض ، ومن أسرار إنفراد الله عز وجل بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا أنه من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) في رد الله عز وجل على الملائكة عندما قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) فمن علمه تعالى أمور:
أولاً : إصلاح قلوب العباد لطاعته .
ثانياً : نقاء قلوب المؤمنين من درن الشك والريب .
ثالثاً : تفضل الله عز وجل بفضح المنافقين الذين يبطنون الكفر مع إظهارهم الإسلام .
رابعاً : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بالكيف والمقدار والكم والزمان الذي يختاره الله بما يصرف أذاهم وضررهم عن الإسلام والمسلمين .
خامساً : بعث السكينة وتنمية الطمأنينة في قلوب المسلمين .
سادساً : توجه الإنذار للذين كفروا على نحو الإتصال والتجدد ، وهو من مصاديق ومعاني جهر المسلمين بتلاوة آيات القرآن في الصلاة اليومية ليتعظ الناس ، وتكون هذه التلاوة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن مصاديق اسم الله [َ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] أن نصرته للمؤمنين طريق لتنمية ملكة الصبر , وتثبيت التقوى عندهم بلحاظ صيرورة كل واحد من الصبر والتقوى شرطاً لتحقيق النصر للمؤمنين ، وفيه وجوه :
الأول : تحقق نصر المسلمين حتى مع عدم إحراز قيد الصبر والتقوى .
الثاني : الملازمة بين بلوغ مرتبة الصبر والتقوى ونيل النصر على الذين كفروا .
الثالث : كفاية التحلي بإحدى صفتين ، صفة الصبر أو التقوى لنزول الملائكة للنصرة .
سابعاً : قرب نصر الله وسرعة نزوله , وحضوره وأدراك المسلمين والمسلمات لهذا القانون ، وهذا الإدراك ومعاني اليقين في المقام من مصاديق [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]( ) ومن الشواهد على قوله تعالى [إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ] ( ) .
بحث فقهي : نعمة صلاة الجماعة
تشريع صلاة الجماعة والندب إليها وإستحبابها من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وقال المالكية والإمامية والشافعية وبعض الحنفية بأنها سنة مؤكدة.
وبوجوبها على الأعيان قال مشهور الحنفية والحنابلة ، مع القول بصحة صلاة المنفرد ولو بغير عذر ، وقيد الظاهرية صحة الصلاة بحضور الجماعة مع إنتفاء العذر ، قال ابن حزم مسألة (ولا تجزئ صلاة فرض أحدا من الرجال إذا كان بحيث يسمع الاذان أن يصليها الا في المسجد مع الامام، فان تعمد ترك ذلك بغير عذر بطلت صلاته، فان كان بحيث لا يسمع الاذان ففرض عليه أن يصلى في جماعة مع واحد إليه فصاعدا ولابد، فان لم يفعل فلا صلاة له الا ان لا يجد أحدا يصليها معه فيجزئه حينئذ الا من له عذر فيجزئه حينئذ التخلف عن الجماعة) ( ).
ولا يخلو من التشديد على النفس ، وقد وردت الأحاديث المتواترة والمستفيضة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتفضيل وترجيح صلاة الجماعة التي تفيد الندب والإستحباب لصحة المفضول أيضاً (قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ) و(عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى ، فأبعدهم ، والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام في جماعة أعظم أجرا من الذي يصليها ، ثم ينام) ( ).
بالإضافة إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى أشخاصاً يصلون بانفراد فلا ينهاهم ، و(عن أبي سعيد الخدري ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبصر رجلا يصلي وحده ، فقال : ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه) ( ).
ويدل هذا الحديث على أمور :
الأول : إستحباب الجماعة .
الثاني : صحة صلاة المنفرد .
الثالث : عدم توجيه اللوم لمن تخلف عن الجماعة وحضر ليصلي في المسجد منفرداً ، فقد يمنعهم مثل هذا اللوم عن المجىء للمسجد للصلاة إن فاتته الجماعة في أول أوقات الصلاة .
الرابع : جواز إقامة الصلاة في المسجد مرتين أو أكثر .
الخامس : الصلاة جماعة من معاني الأخوة بين المسلمين وكل فرد منهم يتصدق على صاحبه بالحضور معه في الصلاة ، وهو من أسرار مضاعفة الأجر والثواب في صلاة الجماعة بالنسبة للمنفرد .
السادس : عدم توجه الأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأحد أصحابه مع المنفرد , كما أن حديثه لا يدل على وجوب الصلاة معه ، إذ صدر الحديث على نحو الندب الإجمالي والترغيب في أمور :
الأول : الصلاة وهي خير محض .
الثاني : أداء الجماعة بدل صلاة المنفرد .
الثالث : الصدقة والأجر في أداء صلاة الجماعة .
وهل يدل الحديث على جواز إعادة صلاة الفريضة , الجواب لا ، لعدم وجود أمر تكليفي بتجديد الأداء وعدم إختصاص كلام النبي (ألا رجل) بالذين يسمعون كلامه ، فمن معانيه أيضاً :
ألا رجل لم يصل فيصلي معه صدقة .
وكذا : ألا رجل يدخل المسجد، ولم يصل بعد فيشاركه الصلاة .
ليكون من مفاهيم الحديث ترغيب الذي تفوته الصلاة في المسجد بالذهاب إليه لأداء الصلاة وأن إنقضاء الجماعة الراتبة فيه لا يعني العزوف عنه ، وعن صلاة تلك الفريضة فيه .
وإحتج القائلون بوجوب الجماعة بصلاة الخوف في قوله تعالى [وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ …] ( ) والحجة بأن الله عز وجل أمر بصلاة الجماعة في أشد الأوقات حرجاً وخوفاً كما في صلاة الخوف , فمن باب الأولوية أن تؤدى جماعة في حال السعة والمندوحة .
$$
قانون الصلة بين آيات نداء الإيمان في القرآن
لقد ورد نداء الإيمان في تسع وثمانين آية من بين ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية في القرآن ، لتكون النسبة المئوية لها قليلة جداً ، وتحتمل الصلة بينها وجوهاً :
الأول : التداخل الموضوعي بين آيات نداء الإيمان .
الثاني : ليس من صلة بين آيات النداء , فكل آية منها مستقلة بذاتها وموضوعها .
الثالث : التفصيل ، فهناك آيات تتداخل مع غيرها من آيات النداء وأخرى مستقلة بذاتها .
الرابع : حصر الإتحاد بحسب الموضوع والحكم فتتصل آيات النداء التي تتضمن الرزق مثلاً .
الخامس : موضوعية التوالي والتعاقب فيتصل موضوع آية النداء اللاحقة بالآية السابقة لها .
والمختار هو الأول أعلاه ويكون الرابع والخامس في طوله ، وهو علم جديد يستلزم التحقيق ، ويفتح آفاقاً من العلم ، وتستنبط منه ذخائر عقائدية وتشريعية , فمثلاً الصلة بين قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ]( ) وبين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ] ( ) من وجوه نأخذ وجهاً واحداً من هذه الصلة ، وهو صلة وأشكروا لله ) بآية القصص :
الأول : من مصاديق الشكر لله الذي تذكره الآية أعلاه أمور:
أولاً : التنزه عن القتل .
ثانياً : إتخاذ الأكل من الطيبات واقية من إشاعة الظلم والقتل.
ثالثاً : إنشغال المسلمين بالشكر لله عز وجل حرز من القتل وباعث للنفرة في النفوس منه .
رابعاً : الحكم بالقصاص من أسرار التكليف في الحياة الدنيا ، وكما أباح الله عز وجل الطيبات للمسلمين والناس ، فانه أمر بالحكم بالقصاص والذي يدل على لزوم الفصل بين الناس في المنازعات عامة من باب الأولوية القطعية ، فاذا كان الأمر الإلهي يخص القود من الجاني ، فمن باب الأولوية حفظ النفوس والحقوق ، ورد الأمانات وقضاء الديون , وإنتزاع الحق والمال من الظالم والمعتدي .
الثاني : دعوة المسلمين والمسلمات للشكر لله عز وجل على أمور :
أولاً : نزول آية القصاص .
ثانياً : إبتداء آية القصاص بنداء الإيمان .
ثالثاً : دلالة الأمر بالقصاص على تولي المسلمين شؤون الحكم والفصل بين الناس ، وإذ أن الآية القرآنية باقية إلى يوم القيامة في رسمها وتلاوتها وأحكامها فان آية القصاص بشارة إستدامة حكم الإسلام ، ولزوم الشكر لله عليه في كل زمان .
رابعاً : شكر أهل المجني عليه لله عز وجل على نعمة القصاص وقود الجاني ، وحتى إذا قبل ورثة المجني عليه الدية فانهم يشكرون الله عز وجل على إنتزاع حقهم من الجاني ، وإن أخذ الدية في القتل العمد لم يتم إلا برضاهم وإختيارهم .
الثالث : مجئ الآية التالية لآية القصاص ببيان أن القصاص نعمة عظمى ، وحياة للمؤمنين ليكون مقدمة ووسيلة لدوام عبادة الله في الأرض أي [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ] ( ) لتعبدوا الله عز وجل .
الرابع : شكر المسلمين لله عز وجل على نزول الحكم بالقصاص من عنده سبحانه ، وعلى نحو الفرض والوجوب.
الخامس : التساوي بين المسلمين في حكم القصاص نعمة عظمى .
السادس : ذكر آية القصاص بقبول الدية بدلاً من القود لقوله تعالى [فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ] ( ).
السابع : إرشاد آية البحث الجاني وعصبته إلى دفع الدية والإمتناع عن المدافعة .
الثامن : الشكر لله عز وجل على نعمة التخفيف منه تعالى ، بالإذن بالدية والعفو والرحمة الإلهية بنجاة الجاني من القود برضا أهل المجني عليه بالدية .
التاسع : الإنذار والوعيد على التعدي والظلم والجور ، فمن إعجاز الآية أنها لم تنذر المسلمين من التخلف عن العمل بأحكام آية القصاص بل جاء زجراً عن التعدي والظلم لبيان حقيقة وهي أن في حكم القصاص حياة من وجوه :
الأول : تعاهد المسلمين لحكم القصاص سبب لإستدامة الحياة لأنه من عبادة الله والعمل بالأوامر والنواهي الإلهية ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) .
الثاني : حرص المسلم والمسلمة على إجتناب القتل وسفك الدماء ، وهو من أسرار خلافة الإنسان في الأرض وإحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) فمن علمه تعالى عزوف المسلمين عن القتل طاعة لله عز وجل ، وخشية من العقوبة في الدنيا والعقوبة في الآخرة .
الثالث : سلامة المسلم من القتل ، لأن الذي ينوي قتله يخشى القصاص ، وليس من حكم وقانون يضبط سلوك الإنسان ويصون الدماء مثل آية القصاص هذه ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بان تنزل عليه آية من الله عز وجل فتحفظ الناس ، وتنظم الصلات وتمنع من التعدي والظلم بينهم ، وهو من معاني إبتداء الآية بنداء الإيمان .
الرابع : نجاة المسلم من القصاص والقود لقتله لغيره .
الخامس : حب المسلم للنكاح وكثرة الأولاد لإدراكه أنهم في مأمن من القتل والظلم والتعدي ، مما يستلزم الشكر لله عز وجل على نعمة الطمأنينة في الإنجاب وعدم طغيان الغيرة ، فلا يمتنع من الزواج خشية زواج زوجته غيره عند القتل ، وإن تزوج فان الغيرة إذا صاحبته تؤذيه .
وذكر أن هدبة بن خشرم العذري قتل زيادة بن زيد العذري ، وأرجئ حكم القصاص وأودع السجن لحين يبلغ ابن زيادة ، وعرضت عليه عشر ديات بدل واحدة عن قتل أبيه , ولكنه أبى إلا القود لذم وتبكيت هدبة لهم في شعره.
وكانت زوجته من أجمل النساء وذكر أنها قالت لهم قبل أن يقاد ( إن لهدبة عندي وديعة ، فأمهله حتى آتيه بها ، فأمهل مع كثرة الناس ، فذهبت إلى السوق وسألت قصاباً أن يعطيها شفرته إعارة وناولته درهمين ، وقربت من حائط ، وأعطت وجهها للجدار ، وأرسلت ملختها على وجهها ، وجدعت أنفها من أصله وقطعت شفتيها ، ثم ردت الشفرة وعادت إلى مكان القود ووصلت إلى هدية وقالت : يا هدية أتراني متزوجة بعدما ترى ،قال : لا ، الأن طابت نفسي بعد الموت ، وقال النوفلي ( فحدثني أبي قال: حدثني رجل من عذرة عن أبيه قال: إني لببلادنا يوماً في بعض المياه، فإذا أنا بامرأة تمشي أمام وهي مدبرة، ولها خلق عجيب من عجز وهيئة، وتمام جسم، وكمال قامة، فإذا صبيان قد اكتنفاها يمشيان، قد ترعرعا، فتقدمتها، والتفت إليها، فإذا هي أقبح منظر، وإذا هي مجدوعة الأنف، مقطوعة الشفتين، فسألت عنها فقيل لي: هذه امرأة هدبة، تزوجت بعده رجلاً، فأولدها هذين الصبيين) ( ).
وتتجلى منافع القصاص في القصة أعلاه بأمور :
الأول : نفرة النفوس من القتل .
الثاني : الحسرة والأسى على المقتول والقاتل .
الثالث : إقرار القاتل بلحقوق اليتيم بأبناء القتل ، وصيرورة إمرأته أرملة ، وإنقطاع سبب للرزق عليهم .
الرابع : لحوق الأذى والأسى بأهل المقتول والقاتل الذي يقاد للمصيبة من جهات :
الأولى : الحزن والأسى على المقتول ، فكما يتأذى ويتحسر ذووا المقتول فان ذوي القاتل والناس جميعاً يتألمون لمصيبة القتل والأجل المنخرم بالتعدي والظلم .
وهو من الإعجاز في نفخ الله عز وجل في آدم وسكنه الجنة وصيرورته خليفة في الأرض ، فالخلافة أعم من الحكم , إنما تشمل دفع القتل وإجتنابه والنفرة منه .
ولقد حدث القتل في أيام آدم وبين إبنيه ، فبعد النعيم في الجنة والسكن مع الملائكة والإلتقاء اليومي بهم هبط آدم إلى الأرض ليرى قتل أحد ولديه للآخر ، قال تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ]( ).
وفي حديث ابن مسعود عن ناس من الصحابة أن آدم غاب عن ولديه بالذهاب إلى مكة ينظر إليها (فقال آدم للسماء : احفظي ولدي بالأمانة فأبت ، وقال للأرض فأبت ، وقال للجبال فأبت ، فقال لقابيل , فقال : نعم ، تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك . فلما انطلق آدم قربا قرباناً ، وكان قابيل يفخر عليه فقال : أنا أحق بها منك ، هي أختي وأنا أكبر منك وأنا وصي والدي ، فلما قربا قرب هابيل جذعة سمينة ، وقرب قابيل حزمة سنبل .
فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها فأكلها ، فنزلت النار فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل ، فغضب وقال : لأقتلنك حتى لا تنكح أختي . فقال هابيل { إنما يتقبل الله من المتقين ، إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك } يقول : إثم قتلي إلى إثمك الذي في عنقك) ( ).
الثانية : نفرة النفوس من القتل وسفك الدماء .
الثالثة : الحزن والأسى المتجدد كل يوم وليلة عند أولياء المقتول فهو أب للأولاد ، وأخ لآخرين وابن لأبوين أو آباء بلحاظ الأجداد الأربعة أو الأجداد الثمانية .
بحث فقهي
إذا تعدد البطون المتوارثة ، فيكون الترتيب هكذا :
الأول : الأبوان ، الأب والأم .
الثاني : الأجداد الأربعة ، الأبوان للأب والأبوان للإم .
الثالث : الأجداد الثمانية للأبوين .
وتكون هذه المسألة إبتلائية في الارث عند الحروب أو الأوبئة إذا مات الإنسان عنده تركة وقد مات أبواه وأجداده الأربعة قبله ولم يبق وارث له إلا أجداده الثمانية , فتكون النسب في الارث هي :
تقسيم الورثة
الميت
الأب
أب الأب أم الأب
جد الأب جدة الأب أبو أم جدة الأب
لأبيه لأبيه الأب لأمه
الأم
أب الأم أم الأم
أبو أب أم أب أبو أم جدة الأم
الأم الأم الأم لأمها
وبعد الدين والوصية تكون التركة وتقسيم المال بين الأجداد بالتفاضل من جهات :
الأولى : ثلثا المال للأجداد من طرف الأب، وثلث المال للأجداد من طرف الأم.
الثانية : تقسم التركة بين الأجداد من جهة الأب [لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ].
الثالثة: تقسم تركة الأجداد من طرف الأم بينهم بالتساوي للذكر مثل الأنثى.
بحث نحوي
النداء من صيغ المخاطبة وفيه أطراف :
الأول : المنادي وهو الذي يصدر منه النداء .
الثاني : أداء النداء .
الثالث : موضوع النداء .
الرابع : المنادي وهو الذي يتوجه له النداء .
الثالث : موضوع النداء وتنقسم حروف النداء إلى أقسام :
الأول : ما ينادي به القريب مثل الهمزة : أزيد ، وأي مثل أي ولدي صلّ ، فتدرك أن ولده قريب منه وهو يحثه على الصلاة.
ومع أن الله عز وجل قريب من عباده فلا ينادي سبحانه إلا بلفظ النداء (يا) فيقال يا الله ، وهمزة الوصل يجب أن تقطع عند النداء وقد تحذف أداء النداء ، ويؤتى بدلها بميم مشددّة مفتوحة في الآخر ، فتقول [اللَّهُمَّ] كما ورد في التنزيل [قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ] ( ).
الثاني : ما ينادى به للقريب والبعيد كالرف (يا) .
وقد يحذف حرف النداء من الكلام إذا كان معناه ظاهراً من سياق ومعنى الجملة .
وقد جاءت أكثر أدعية الأنبياء بحذف الياء كما في دعاء إبراهيم [رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ]( ).
وقد ورد حرف النداء (يا) في آيتين وهما قوله تعالى [وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا]( )وقوله تعالى [وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُونَ]( ).
الثالث : حرف النداء الذي يؤتى به للبعيد مثل (أيا) و(هيا) مثل : هيا عبداً أمن بالله .
وقد تستعمل أداء النداء للبعيد في نداء القريب مثل : أي أخي لا تبعد في السفر .
فأي تستعمل للنداء القريب ولكن جاءت هنا لنداء البعيد لغرض بلاغي وكأن البعيد قريب لحضوره في الوجود الذهني .وعن الإمام علي عليه السلام قال : رُبَّ بعيداً أقرب من قريب وقريب أبعد من بعيد)( ).
ولا يدخل حرف النداء على المعرف بأل ، فاذا نودي قبله بكلمة (أيها ) للمذكر ، وأيتها للمؤنث .
قانون نداء الإيمان من ولاية الله
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بولايته ونصرته وعونه لهم ، وتحتمل النسبة بين الولاية ونداء الإيمان وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي وأن الولاية هي ذاتها نداء الإيمان .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق وهو على جهتين :
الأولى : الولاية أعم من نداء الإيمان .
الثانية : نداء الإيمان أعم من الولاية .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
الرابع : نسبة التباين وإستقلال موضوع كل منهما .
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه .
لقد أراد الله عز وجل للمؤمنين العز والرفعة في الدنيا ، قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) ومن مصاديق العز الذي أنعم الله عز وجل به على المسلمين ولايته لهم ، وتثبيت هذه الولاية في كتابه الباقي في الأرض إلى يوم القيامة سالماً من التحريف وهو القرآن ، ليكون ذكرها فيه وعداً من الله عز وجل للمؤمنين وسبيل نجاة للمسلمين .
ويمكن تقسيم ولاية الله عز وجل إلى أقسام :
الأول : ولاية الله العامة للناس جميعاً بأن يتغشاهم برحمته ويبسط لهم الرزق ، ويمنعهم من الهلكة ، ويدفع عنهم الفناء ، قال تعالى [وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمْ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ]( ).
الثاني : ولاية الله للمؤمنين بأن يتفضل الله عز وجل عليهم بالهداية والفضل العظيم ويصرف عنهم الضرر، قال تعالى [وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ].
الثالث : الولاية الشخصية للمؤمن بأن ينعم الله عز وجل عليهم بنعم خاصة يدرك عند التدبر فيها إنفراده بها من بين أقرانه ، فيشكر الله عز وجل عليها ، فكما أثبت العلم الحديث البصمة الخاصة لليدين والعين ، وقد تتبين أمور أخرى مشابهة في بدن الإنسان وأعضائه ، فكذا بالنسبة لرحمة الله بالعبد إذ يتنعم الناس جميعاً برحمة وولاية الله .
وما من إنسان إلا وله صنوف من الرحمة الإلهية , لم تكن عند غيره من بني آدم وإلى يوم القيامة وهو مما يحتج به الله عز وجل يوم القيامة على الناس .
ويختص المؤمنون بنعم أخرى لذا إذا وقع القتال بين المؤمنين والذين كفروا يكون النصر للمؤمنين ، ومما إختص الله سبحانه به المسلمين والمسلمات من وجوه الولاية نداء الإيمان , وتوجه الخطاب الإلهي لهم في القرآن بصيغة الإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل لنداء الإيمان أن يكون سبباً ومناسبة للنجاة والفلاح من جهات :
الأولى : كل نداء إيمان في القرآن .
الثانية : الأوامر والنواهي التي تأتي مع نداء الإيمان .
الثالثة : تعدد نداءات الإيمان في القرآن .
الرابعة : توجه نداء الإيمان إلى كل مسلم ومسلمة .
ويكون تقدير النداء بلحاظ نداء المفرد : يا أيها الذي آمن ، ويا أيتها التي آمنت .
ليكون عدده من اللامتناهي وما لا يحصيه إلا الله عز وجل لأنه مجموع نداءات الإيمان مضروبة في عدد المسلمين والمسلمات في كل أجيالهم من حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى يوم القيامة .
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( )بلحاظ أن فرداً واحداً من نعم الله يعجز المسلمون والناس عن عده وحسابه .
ومن مصاديق الولاية أن يكون العبد من أولياء وأحباء الله من جهات :
الأولى : الإقرار بالتوحيد والربوبية المطلقة لله عز وجل .
الثانية : التصديق بالأنبياء والكتب السماوية النازلة على نحو العموم الإستغراقي .
الثالثة : الإقرار باليوم الآخر وعالم الجزاء .
الرابعة : التقيد بالفرائض والعبادات .
الخامسة : أداء الصلاة في أوقاتها ، وصيام شهر رمضان وأداء الزكاة والقيام بحج بيت الله الحرام ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
السادسة : الإقامة على ذكر الله والإكثار من التسبيح والتهليل .
السابعة : الخشية من الله عز وجل في السر والعلانية ، والتقيد بآداب التقوى ، قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ).
الثامنة : المبادرة إلى التوبة والإكثار من الإستغفار وبين الذكر والإستغفار عموم وخصوص مطلق .
التاسعة : الإحسان والرفق في القول والعمل .
العاشرة : التمسك بأحكام الشريعة ، والعمل بمضامين القرآن وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ).
الحادية عشرة : الحب في الله والبغض في الله , وعدم إتخاذ أعداء الله أولياء .
الثانية عشرة : نصرة دين الله والدفاع عن بيضة الإسلام .
الثالثة عشرة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابعة عشرة : التنزه عن النميمة والغيبة .
الخامسة عشرة : قراءة القرآن ، وتعلم أحكامه ، وتعليمه للناس تلاوة وتأويلاً , لذا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) ( ).
السادسة عشرة : تعاهد الأخوة الإيمانية .
البسملة مرآة الإيمان
من إعجاز القرآن أن في كل آية منه بياناً لمصاديق منها سواء في منطوق أو مفهوم الآية القرآنية , الأمر الذي يستلزم تأليف مجلدات للتحقيق والتدبر في معاني الإيمان الواردة في كل آية قرآنية إبتداء من البسملة التي في سورة الفاتحة ، ليكون تقديرها بلحاظ نداء الإيمان على وجوه منها :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا قولوا بسم الله الرحمن الرحيم .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا بالإبتداء بالبسملة في كل عمل .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا بأن البسملة نماء في الرزق ، وأنها مكتوبة على الورق والشجر ، وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (ما من زرع على الأرض ، ولا ثمار على أشجار إلا عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم هذا رزق فلان بن فلان ، وذلك قوله تعالى { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين })( ).
رابعاَ : يا أيها الذين آمنوا بأن البسملة سلاح في النشأتين .
خامساً : يا أيها الذين آمنوا ببسم الله الرحمن الرحيم .
سادساً : يا أيها الذين آمنوا أكثروا من قول : بسم الله الرحمن الرحيم وأجعلوها فاتحة لأعمالكم .
سابعاً : يا أيها الذين آمنوا بأن البسملة حرز من الشيطان .
ثامناً : يا أيها الذين آمنوا بأن البسملة واقية من المرض , وشافية من كل داء.
تاسعاً : البسملة باب للثواب للقارئ والسامع ، والمعلم والمتعلم ، وعن ابن عباس قال (سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : «خير الناس وخير من يمشي على جديد الأرض المعلّمون؛ فكلما خلق الدين جدّدوه. أعطوهم ولا تستأجروهم، فتحرجوهم فإن المعلّم إذا قال للصبي : قل : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، فقال الصبي : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كتب الله براءة للصبي، وبراءة لأبويه وبراءة للمعلّم من النار) ( ).
العطف على نداء الإيمان
جاء نداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] في تسع وثمانين آية من القرآن، أي بنسبة 1/70 من مجموع آيات القرآن، وهي نسبة قليلة , ولكن هذا النداء يتغشى آيات القرآن كلها بمعناه ودلالته، كما أن الآيات المعطوفة على آيات النداء أكثر منها، فقد تجد في القرآن سبع أو ثمان آيات تعطف على ذات آية النداء ليضفي معنى إضافياً على مضامين هذه الآيات ويفتح كنوزاً من العلوم وأسرار التأويل لتدعو لغة العطف في القرآن العلماء إلى إستقراء علوم متجددة في التفسير، وتبين جوانب من إعجاز القرآن وكيف أنه معجزة عقلية أبهرت العرب مع أنهم أهل الفصاحة والبلاغة وتتصف لغة العطف على آيات النداء بعدم الإختصاص بالبلاغة أو بالعرب الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم، فهي ذخائر من العلم تجذب أهل الأرض إلى القرآن , وتجعلهم يتفكرون في دلالات آياته.
وحينما تعطف آيات على نداء الإيمان يمكن تقدير هذا الآيات بالجمع بين كل شطر منها وبين نداء الإيمان مع جعل موضوعية لنداء الإيمان في تفسير كل واحدة منها وبيان مضامينها، والعطف بين الآيات أعم من أن ينحصر بحروف العطف، فقد يأتي باتحاد صيغة الخطاب بين الآيتين المتجاورتين فمثلاً ورد النداء في قوله تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( ).
وعطفت عليها ست آيات , وهي الآيات (150-155) من سورة آل عمران بلحاظ حروف العطف أو صيغ الخطاب وإبتدأت الآية التي بعدها بحرف الإضراب (بل) بقوله تعالى[بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ]( )، وبالإضافة إلى تقدير هذه الآية بالعطف على مضامين آية النداء أعلاه تكون قراءتها وتقديرها على وجهين:
الأول : يا أيها الذين آمنوا بل الله مولاكم) لبيان الملازمة بين الإيمان والولاية، فلما إهتدى المسلمون إلى سبيل الرشاد تغشتهم ولاية الله، وأحاطهم فضله، وصاروا في كنف رحمته.
وفيه ترغيب للناس بالإيمان، وبيان قانون وهو حضور المدد من عند الله للمسلمين مجتمعين ومتفرقين في كل آن، وتقدير الجمع بين الآيتين بصيغة المفرد يا أيها الذي آمن الله مولاك) وفيه قهر للذين كفروا، وبعث لليأس في نفوسهم لعصمة المسلمين بالولاية عن طاعتهم، وولاية الله للمؤمنين تشمل الحياة الدنيا والآخرة فيجتنب المسلمون طاعة المشركين والكفار ليتقربوا إلى الله بأداء الفرائض والنوافل ويفوزوا بالنعيم الدائم في الآخرة.
الثاني :يا أيها الذين آمنوا الله خير الناصرين) وفيه شاهد على نصرة الله عز وجل للمسلمين، وتفضله بالمدد عليهم , ومن نصرته لهم بلحاظ آية النداء العصمة من طاعة الذين كفروا وقد بيناه مفصلاً ( ) .
وهكذا بالنسبة للآيات الخمسة الأخرى المعطوفة على آية النداء أعلاه، لتتجلى المفاهيم والسنن من هذا الجمع وبين كل فرد منها إشراقات علمية تستلزم الغوص في بحار نظم الآيات وقانون (العطف على آيات النداء) وما يدل عليه من علوم هي غير العلوم التي يتضمنها تفسير ذات الآية القرآنية.
ولا تنحصر دلالات نداء الإيمان العامة بلحاظ عطف الآيات عليه بل إن موضوعه وأثره ظاهران في مضامين ومعاني كل آية من القرآن بمعنى أنه نزل خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في المنطوق أو المفهوم.
تقسيم آيات النداء
ويمكن تسمية الآيات التي تتضمن النداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] بآيات (نداء الإيمان) وتقسيمها بحسب اللحاظ إستقرائياً , منه تقسيمها كما تقدم إلى قسمين:
الأول : الآيات التي تبدأ بالنداء , وهي ثمان وثمانون آية .
الثاني : آية النداء التي يكون النداء في وسطها , وهي آية واحدة ، وهو قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( )، وفيه إكرام خاص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعث للمسلمين للمواظبة على هذه الصلاة.
ويمكن تقسيمها تقسيمات أخرى لعموم الفائدة منها :
الأول : آيات نداء الإيمان التي تتضمن الأمر , وهي على قسمين :
أولاً : ما يفيد معنى الوجوب ، كما في قوله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ] ( ).
ويحتمل وجوب الوضوء من جهات :
الأولى : إنه من المبحث الأصولي مقدمة الواجب واجب .
الثانية : دلالة الآية أعلاه على الأمر ووجوب الوضوء بذاته ولزوم الإمتثال .
الثالثة : إجتماع الجهتين الأولى والثانية أعلاه .
والصحيح هو الأولى ، ويتجلى وجوب الوضوء عند القيام إلى الصلاة ، ولا مانع من الإستدلال به لبيان وجوب المقدمة لوجوب ذيها بلحاظ تقييد الآية أعلاه بأداة الشرط ( إذا ).
ثانياً : الأمر الذي يفيد الندب والإستحباب ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ] ( ) وآيات النداء التي تفيد الوجوب هي الأكثر والأعم.
الثاني : آيات النداء التي تتضمن النهي , وهي على قسمين :
أولاً : آيات النداء التي تتضمن المنع والحرمة ، وهي كثيرة كما في آية البحث التي تنهى عن محاكاة الكفار في النهي والصدود عن سبيل الله ، وكما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( ).
ثانياً : آيات النداء التي تفيد الكراهة كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ] ( ).
الثالث : آيات النداء التي جاءت بصيغة الشرط ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا]( ).
الرابع : آيات النداء التي تأمر المسلمين بطاعة الله ورسوله في العبادات والمعاملات والأحكام , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ] ( ).
الخامس : آيات النداء التي وردت بخصوص العبادات كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ]( ).
السادس : آيات النداء التي تخص المعاملات منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ] ( ).
السابع : آيات نداء الإيمان التي تخص ميادين القتال ومقدمات الدفاع كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ]( ) ومنها [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا]( ) و[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ]( ).