المقـــدمـــة
الحمد لله الكريم في عطائه الواسع في فضله وإحسانه ، الجواد في إنعامه وجوده ، الحمد لله الذي إبتدع الخلائق من غير مثال سابق , وفي التنزيل [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ] ( ) .
الحمد لله الذي تغشى حلمه وعفوه كل الناس , والذي يتجاوز عن الذنوب ويغفر الخطايا وصلى الله على سيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الحمد لله اللطيف الذي يُقرب العباد إلى مقامات الطاعة ويأمرهم المعروف بالدنو والإقتراب منهم , ويبعدهم عن المعصية , ويزجرهم عن المعاصي والسيئات , ويجعل بينهم وبينها برزخاً ، قال تعالى [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ) .
ولم تذكره الآية أعلاه بنبوته , وهو أحد الأنبياء ، وإنفرد بأن جاءت سورة من القرآن خاصة به , لبيان قانون وهو الإنتفاع الأعم من النعم الإلهية ، وترغيب المسلمين بها ، وهو من ذخائر إبتداء ثمان وثمانين آية من القرآن بنداء الإيمان وهو [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ].
الحمد لله الذي جعل من مصاديق ملكه المطلق للسموات والأرض لكل ضيق مخرجاً ، وعقب كل غم وهم سعة ومندوحة .
الحمد لله ذي المن والطول ، الذي أبى إلا الإنفراد باسم [المنان ] ومن يمّن على غيره من الناس يتعقبه الذم ويفوته الثواب، وكل منّ وسببه منقطع إلا منّ الله عز وجل , ومقدماته المتجددة.
ومن الآيات التي يتناول تفسيرها هذا الجزء من معالم الإيمان وهو السادس والثلاثون بعد المائة قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى] ( ) ومن ضروب قبح منّ الإنسان أن الخير الذي عنده من فضل الله عز وجل عليه ، وهو نوع إمتحان وإختبار ، ومنه لزوم التنزه عن المنّ والأذى .
إن الإنفاق والصدقات مرآة الإيمان في الحياة الدنيا , وضياء على الصراط يوم القيامة .
الحمد لله عدد خلقه وزنة عرشه ومداد كلماته .
الحمد لله في كل طلوع ومغيب للشمس , وكل إطلالة للهلال وغياب له في الشفق ، الحمد لله على كل آية من بديع خلقه ، وكل مصداق إعجازي في كل آية منها ، الحمد لله على سعة رحمته وتغشيها للخلائق فضلاً ونافلة من عنده سبحانه , ومن غير إستحقاق من أي فرد منها ليكون المنّ له وحده ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
الحمد لله على حجته البالغة التي تتجلى على كل مخلوق وفي كل آن .
الحمد لله الظاهر الذي جعل آياته الظاهرة أكثر من أن تحصى ، وكل آية نعمة على الخلائق مجتمعين ومتفرقين .
الحمد لله الذي لم تختص آياته بالبيان إنما جعل كل آية خزينة تترشح منها النعم ، وتفيض منها البركات ، وينهل منها كل جيل من الناس ، الحمد لله الباطن الذي جعل آياته الخفية سراً من أسرار الخلق التي لا يحيط بها إلا هو ، لذا تفضل سبحانه وإحتج على الملائكة بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
الحمد لله الغني والكافي والمغني والمعطي والجواد الذي يتغشى المؤمنين بكل اسم من أسمائه الحسنى لأنه علة لمفاتيح كنوز المعرفة , ومدد في النشأتين .
وبين هذا الجزء والجزء السابق وهو الخامس والثلاثون بعد المائة من التفسير عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من جهات :
الأولى : إتحاد موضوع نداء الإيمان .
الثانية : تضمن كل جزء منهما قوانين متعددة .
الثالثة : هذا الجزء والجزء السابق من أجزاء ( معالم الإيمان في تفسير القرآن ).
الرابعة : يتضمن كل جزء منهما تفسيراً لبضعة آيات من آيات النداء الواردة في سورة البقرة .
الخامسة : في كل جزء مقدمة من أكثر من خمس عشرة صفحة.
السادسة : كل جزء أقوم بتأليفه ومراجعته وتصحيحه بمفردي ليس من عون إلا من عند الله عز وجل [وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا]( ).
السابعة : يتضمن كل جزء تفسيراً لآيات من سورة البقرة تبدأ كل واحدة منها بنداء الإيمان .
أما مادة الإفتراق فمن جهات :
الأولى : التعدد الرقمي بين الجزئين ،فهذا الجزء هو السادس والثلاثون بعد المائة ، والجزء السابق هو الخامس والثلاثون بعد المائة.
الثانية : التباين بين الآيات التي يتضمن تفسيرها كل جزء منهما.
الثالثة : الإختلاف بين قوانين كل من الجزئين .
الرابعة : التباين في مضامين الأمر والنهي الواردة في كل من الجزئين .
وتضمن الجزء السابق تفسير ست آيات من آيات النداء , وهي:
الأولى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا… ( ).
الثانية : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ( ).
الثالثة : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ … ( ).
الرابعة : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى…( ).
الخامسة : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ … ( ).
السادسة : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً … ( ).
ليؤسس الجزء السابق لعلوم مستحدثة من تفسير القرآن، ويدعو العلماء إلى تثوير علم التأويل والتوسع في التحقيق، وإنشاء مدارس موضوعية وعلمية وعقائدية في رحاب التفسير.
ولم يكن بالحسبان التوسع في مباحث (نداء الإيمان) ولكنه من فضل الله ليكون هذا السِفر المبارك علامة تبدل نوعي في العلوم والتحصيل .
الحمد لله الذي أكرم المسلمين من بين الخلائق وخصهم بنداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] ليكون نوراً لهم بين الناس وصراطاً مستقيماً وسبيلاً إلى التوبة ، ومن الآيات إنتفاء البرزخ والحاجز بين أي إنسان وبين تلقي هذا الوسام السماوي الذي تفوح منه رائحة الجنة، ولا يأتي يوم تستطيع الخلائق مجتمعة أو متفرقة أن تمنع الإنسان من دخول الإسلام وتلقي هذا النداء الكريم في ذاته وأثره.
ولا يقدر المسلمون وحكامهم وقضاتهم وضع ضوابط لدخول الإنسان الإسلام ، فكما كان قوس النزول هو [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فان قوس الصعود هو قول العبد ( أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ) وتكفي الإشارة للمعذور كالأخرس ، ومع أن نداء الإيمان خاص بالمسلمين في أفراده النازلة من عند الله إلا أنه عيد للناس جميعاً ، لذا تبدأ كل سورة بقول (بسم الله الرحمن الرحيم ).
فمن رحمة الله عز وجل فيوضات نداء الإيمان ومضامين الآيات التي ورد فيها والعمل الصالح الذي ينبعث من أمور :
الأول : نداء الإيمان .
الثاني : إبتداء الآية بنداء الإيمان .
الثالث : الجمع بين نداء الإيمان ومضامين الآية القرآنية التي تبدأ به .
الرابع : الجمع بين نداء الإيمان ومضامين الآية المعطوفة على آية النداء .
لقد تكرر نداء الإيمان في القرآن لينقطع المسلمون إلى ذكر الله وينشغلوا عن إيذاء غيرهم، ويجتنبوا إيذاء غيرهم لهم، قال تعالى [فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً]( )، فلا تنقطع الإنذارات عن الذين كفروا , فكل آية في القرآن إنذار لهم، وكل فعل عبادي يؤديه المسلم دعوة لهم للإيمان وإنذار لهم من يوم الحساب.
ومن خصائص الآية القرآنية أنها إنذار متعدد للفرد والجماعة من الذين كفروا مع إقتران الترغيب بالإنذار، والوعد بالوعيد , والله وحده القادر على الجمع بين كل من :
الأول : البشارة في أمور الدنيا.
الثاني : الإنذار بالبلاء في الدنيا.
الثالث : الوعد الكريم في الآخرة .
الرابع : الوعيد بالعذاب في الآخرة.
الخامس : تنجز مصداق البشارة في الدنيا بآيات من فضل الله وواسع رحمته بالمسلمين والناس .
السادس : تحقق شواهد من إنذار الذين كفروا ببطش الله عز وجل بهم لإسرافهم وشدة ظلمهم ، قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ).
السابع : تفضل الله عز وجل بمقدمات البشارة في الدنيا ، وتقريب المؤمنين منها .
الثامن : تجلي أمارات البلاء والعذاب ليكف الذين ظلموا عن ظلمهم ويتوبوا إلى الله ، فمن قوانين الحياة الدنيا أن الله عز وجل يمهل الناس ، ويمدّ لهم ويجعل الإنذارات تتوالى عليهم ، وفي التنزيل [وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمْ الْعَذَابَ] ( )
وصحيح أن عدد آيات القرآن التي ورد فيها نداء [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] محدود إلا أن كل آية منه تتضمن ذات المعنى في مفهومها ودلالتها إذ نزل القرآن خطاباً ونداء للمسلمين والناس جميعاً .
ولكن المسلمين إختصوا بتلقيه بالقبول والتصديق والعمل بمضامينه ، ويمكن أن نؤسس قانوناً وهو تقدير نداء الإيمان في كل آية من القرآن , ويكون هذا التقدير متعدداً فيدخل على أول ووسط وآخر الآية .
ويمكن تقسيم آيات القرآن بحسب هذا اللحاظ إلى أقسام:
الأول : آيات نداء الإيمان .
الثاني : الآيات المعطوفة على نداء الإيمان .
الثالث : عامة آيات القرآن .
فمثلاً قوله تعالى [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ] ( ) فيكون موضوعها بتقدير تضمنها لنداء الإيمان على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا زين للناس حب الشهوات .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا زين للناس البنين .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا زين للناس القناطير المقنطرة من الذهب والفضة .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا زين للناس الخيل المسومة .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا زين للناس الأنعام .
السادس : يا أيها الذين آمنوا زينّ للناس الحرث .
السابع : يا أيها الذين آمنوا [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] .
الثامن : يا أيها الذين آمنوا الله عنده حسن المآب .
لقد ورد نداء الإيمان في إحدى عشرة آية من سورة البقرة , وقد تقدم بيان شذرات من ذخائر وعلوم نداء الإيمان في ست آيات منها( ) .
مع ورود تفسيرها في الأجزاء 17/26/28/30/31/36 من هذا السِفر المبارك .
وإبتدأ هذا الجزء ببيان مضامين وعلوم من قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( ) لبيان أن معاني الإيمان في الآية بلحاظ مضامينها من وجهين :
الأول : مصاديق الإيمان الثابتة في كل آية من آيات النداء وهو الإيمان بالله ورسوله والكتب السماوية النازلة , وخاتمها القرآن الذي أنزله الله عز وجل على سيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والإيمان بالملائكة واليوم الآخر .
الثاني : أفراد ووجوه الإيمان في القول والفعل بحسب آية النداء أعلاه , ومنها أمور :
أولاً : مجئ الرزق من عند الله عز وجل .
ثانياً : الوفرة والمندوحة في الرزق .
إذ تحتمل النسبة بين مقدار الرزق وحاجة المسلمين وجوهاً :
الأول : التساوي , وأن الرزق يأتي بمقدار الحاجة .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق وهو على شعبتين :
الأولى : الرزق أكثر وأعم من حاجة المسلم , والمراد من الأكثر أعلاه الزيادة ، أما الأعم فيأتي الرزق فيما يحتاج ويطلب المسلم وفيما لا يحتاج أو يطلب .
الثانية : حاجة المسلم أعم مما يأتيه من الرزق .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين الرزق والحاجة .
الرابع : التعدد والتبدل من جهات :
الأولى : ما يخص الفرد من المسلمين ، فمرة يكون الرزق أكثر من حاجته وأخرى بالعكس ، قال تعالى [يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ] ( ).
الثانية : ما يتعلق بعموم المسلمين ، تارة يأتيهم الرزق وافراً وفيه فضل ونافلة وأخرى يحصل القحط ونقص المؤون في ذات الجيل .
الثالثة : التباين الزماني بين أجيال المسلمين ، فترى جيلاً يتنعم بالطيبات ويكثر من النفقة على الذات والإنفاق وترى جيلاً لا يقدر على النافلة في النفقة .
الرابعة : الإختلاف والتباين بلحاظ المكان والمصر ، فمنهم من تترى عليهم أنواع الرزق ، ومنهم لا يأتيهم إلا القليل ، وهل من ملازمة في المقام بين الأنهار والأرض الخصبة وبين الرزق الكريم من جهة ، وبين الصحراء والقحط من جهة أخرى أي أن أهل السهل بسعة من الرزق دائماً وأهل الصحارى والبوادي في نقص وقحط دائماً ، الجواب ، لا دليل على هذه الملازمة .
وتدل آية البحث على الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه ، وهل هو خاص بالمسلمين الجواب لا، فمن خصائص الحياة الدنيا أن الرزق فيها أعم من الحاجة ، نعم تأتي أيام على الناس يشتد فيها البلاء ، لتكون مناسبة للإستغفار والدعاء ، والتنزه عن الكبائر والمعاصي التي تحجب الرزق .
ثالثاً : الإقرار قانون وهو أن الإنفاق في سبيل الله وإعانة الفقراء من الإيمان ، إذ أنه إمتثال لأمر الله عز وجل وإقرار بنزول القرآن من عند الله ، وتسليم بالحساب في اليوم الآخر ، قال تعالى [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ] ( ).
رابعاً : الشكر لله عز وجل على نعمة الرزق وتوالي وتعدد مصاديقه .
خامساً : الدعاء والمسألة من عند الله لطلب الرزق وزيادته .
سادساً : من إعجاز القرآن أنه ذكر يوم القيامة بأهواله وبيّن شطراً من مواطنه ومعالمه ومنه إنتفاء البيع والمكاسب والخلة والمودة، ليكون حجة وموعظة ودعوة للناس للسعي بجد وإجتهاد لملاقاة الله عز وجل ، وهو من الشواهد على سلامة القرآن من التحريف لقاعدة منع الجهالة والغرر ، فلا يفاجئ الإنسان بشدة الحساب وأنواع البلاء وطول العطش وكثرة الفزع يوم القيامة ، قال تعالى [رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ] ( ).
وورد حكاية عن هود عليه السلام في التنزيل [وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزيِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ] ( ).
ولا تختص الزيادة في الرزق بالمسلمين إذ أنها رحمة من عند الله لأهل الأرض جميعاً ، لينتفع منها الذي تصيبه وغيره بالواسطة لذا فان آية النداء أعلاه تضمنت الحث على الإنفاق من الرزق الكريم ولا يختص الإنفاق بالقريب أو الوجود مطلقاً فيشمل المعدوم من جهات :
الأولى : الإنفاق في ثواب الأموات وهو جائز بالإنفاق بين علماء الإسلام .
وسأل أحدهم عن أبيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إِنَّهُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَأَعْتَقْتُمْ عَنْهُ أَوْ تَصَدَّقْتُمْ عَنْهُ أَوْ حَجَجْتُمْ عَنْهُ بَلَغَهُ ذَلِكَ) ( ).
الثانية : الإنفاق على الذرية الذين لم يولدوا بعد بالإدخار وحبس العين والوقف الذري والمضاربة وما يسمى بالإستثمار طويل الأجل .
الثالثة : الصدقة الجارية والعمل الخيري ذو النفع العام .
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ( ).
وبلحاظ قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ] ( ).
ويمكن تسمية الحياة الدنيا بوجوه :
الأول : إنها دار الإيمان والإقرار بالعبودية المطلقة لله عز وجل.
الثاني : دار نداء الإيمان الذي نزل من السماء .
الثالث : الدنيا دار الإنفاق والبذل ، وفيه شاهد على المندوحة والسعة عند الناس .
الرابع : الدنيا دار الطيبات لقوله تعالى [أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ]وهذه الطيبات من مصاديق القوت في قوله تعالى [وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا]( ).
وعن ابن عباس و( ابن مسعود وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سماوات } .
قال : إن الله كان عرشه على الماء , ولم يخلق شيئاً قبل الماء ، فلما أراد أن يخلق أخرج من الماء دخاناً ، فارتفع فوق الماء ، فسما سماء ، ثم أيبس الماء فجعله أرضاً فتقها واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين . في الأحد والإِثنين ، فخلق الأرض على حوت وهو الذي ذكره في قوله [ن وَالْقَلَمِ] ( ) والحوت من الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح ، وهي الصخرة التي ذكرها لقمان؛ ليست في السماء ولا في الأرض ، فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض ، فأرسى عليها الجبال ، فالجبال تفخر على الأرض . فذلك قوله { وجعل لها رواسي أن تميد بكم }( ) . وخلق الجبال فيها ، وأقوات أهلها ، وشجرها ، وما ينبغي لها في يومين : في الثلاثاء ، والأربعاء ، وذلك قوله { أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض }( ) إلى قوله { وبارك فيها } يقول : أنبت شجرها ، وقدر فيها أقواتها ، يقول لأهلها { في أربعة أيام سواء للسائلين) ( ).
الخامس : الدنيا دار الرزق الكريم من عند الله لعموم الناس إذ أن قوله تعالى [مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ] يحتمل وجوهاً :
الأولى : مما رزقناكم كمسلمين .
الثانية : مما رزقناكم كبني آدم .
الثالثة : الفرد الجامع للوجهين أعلاه .
والمختار هو الثالثة أعلاه لبيان نكتة وهي أن الرزق يأتي للمسلمين على نحو متعدد ومبارك فيه فينالهم نصيبهم من الرزق ، كأفراد وأمة من الناس، ويأتيهم رزق ونافلة كمؤمنين , وهو من مصاديق نداء الإيمان .
وبين الناس والمسلمين عموم وخصوص مطلق .
فالمسلمون جزء من الناس وليس كلهم ، وهو من أسرار إبتداء آية الرزق والإنفاق هذه بنداء الإيمان.
وأيهما يأتي للمسلمين أولاً رزقهم الذي يشاطرون به عامة الناس والذي يصيب البر والفاجر، قال تعالى[كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( )، أم الذي يأتيهم كمسلمين، فيه جهات:
الأولى : الذي يأتي في البداية هو رزق الهدى والإيمان، وهو من شكر الله عز وجل العاجل للمسلمين على إيمانهم.
الثانية : يأتي رزق الخلق والإنسانية في البداية وهو الأصل.
الثالثة : ليس من قانون وقاعدة كلية في المقام.
الرابعة : التداخل في الرزق.
الخامسة : يأتي الرزق وأصنافه إلى المسلمين بالكيفية الأحسن والأنفع لهم مجتمعين ومتفرقين، والأنسب لمبادرتهم للإنفاق والبذل في سبيل الله و ويأتيهم دفعة وتدريجياً .
والمختار هو الخامسة أعلاه، وهو من فضل الله عز وجل , ومن مصاديق قوله تعالى[مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً]( ).
السادس : الدنيا دار خروج الخزائن من الأرض ، وبلحاظ إتصال وإستدامة مضامين الآية القرآنية فانها تدل على حقيقة , وهي أن خروج المعادن والفلزات من الأرض لا ينقطع إلى يوم القيامة .
إذ يتجدد نداء الإيمان في كل زمان , ويطل على أهل الأرض كل يوم وإلى يوم القيامة ، فتشرق الشمس لتعلن إبتداء يوم جديد ويتوجه نداء الإيمان إلى المسلمين والمسلمات ، فينفذ إلى شغاف القلوب بذاته وبدلالاته ومضامين آياته القدسية ، ليكون ذات نداء الإيمان من الرزق الكريم الذي تفضل الله عز وجل ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ].
الجواب نعم ، وقد يقال إنه إعتقاد لا يوهب شطر منه , الجواب يكون الإنفاق منه بالدعوة إلى الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
السابع : الدنيا دار ذم الكافرين ونعتهم بالظالمين لقانون خاتمة الآية [وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ].
الثامن : الدنيا دار التوبة وهي دار الرحمة والعفو ، وجاء القرآن ليرغب الناس بالأخلاق الحميدة , ويدعو إلى الصلاح ويزجر عن الفواحش والسيئات .
ومن خصائص نداء الإيمان أن كل فرد منه روضة علمية وبستان عقائدي يجذب القلوب , ويقوي البصيرة , ويثبت معالم الإيمان في النفوس والمجتمعات.
وما هذه الأجزاء من هذا التفسير الخاصة به إلا بداية وتأسيساً لعلوم يستقرئها العلماء في الأجيال القادمة في ذات القوانين التي تم أو يتم إستنباطها وإستقراؤها من نداء الإيمان في أجزاء هذا التفسير, ومان فيه من معاني التأويل الخاصة بذات آيات النداء لبيان قانون ظاهر للعقول والحواس ، وبرهان ساطع بأن ذخائر وعلوم القرآن من اللامتناهي من جهات :
الجهة الأولى : تعدد وكثرة نداءات الإيمان في القرآن ، وكل نداء منها له مفاهيم ودلالات من وجوه :
الأول : الدلالة اللفظية .
الثاني : معاني ودرر كل فرد من نداءات الإيمان , بلحاظ موضوع ذات الآية .
الثالث : المسائل المقتبسة من مضامين كل آية فيها نداء الإيمان .
الرابع : العلوم المستخرجة من الجمع بين نداءات الإيمان في القرآن .
الخامس : موضوعية وأثر نداء الإيمان عند المسلمين من جهة زيادة الإيمان والقيام بالعمل الصالح .
الجهة الثانية : عجز الخلائق عن إحصاء عدد تلاوة المسلمين لنداء الإيمان في صلواتهم وخارج الصلاة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( ).
بلحاظ الأعم لتعدد المثل والمصداق لعلوم القرآن , وبراهين آيات نداء الإيمان.
حرر في 10 / 4 / 2016
قانون إكرام المسلمين بنداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]
أولاً : إكرام المسلمين بنداء الإيمان ، وهذا الإكرام من وجوه :
الأول : إدراك كل مسلم أن له شأناً بين الخلائق , وأن الله عز وجل يتفضل عليه ويناديه كل يوم بنداء الإيمان ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة حينما قالوا [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) إذ إحتج الله عليهم بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
ومن علم الله عز وجل تجلي معاني الإيمان في الأرض ، وغبطة المسلمين والمسلمات بتوجه نداء الإيمان لهم لذا حينما وقعت معركة بدر في السنة الثانية للهجرة نزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين , وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منقطعاً إلى الدعاء والمسألة ليلة المعركة ، وورد عن الإمام علي عليه السلام قال ( كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي تلك الليلة ليلة بدر ، ويقول : اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تُعبد ، وأصابهم تلك الليلة مطر شديد ، فذلك قوله { ويثبت به الأقدام )( ).
الثاني : إطلاع ملائكة السموات على فضل الله عز وجل على المسلمين بنداء الإيمان ، وما يدل عليه من المنزلة الرفيعة لهم عند الله والخلائق ، وهل هو مما لا يعلمه الملائكة ساعة خلق الله لآدم, الجواب نعم فمن رشحات هذه النعم ما لم تره الخلائق في ماهيته وسنخيته , وهو من مصاديق الفضل الإلهي وقوله تعالى [ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ] ( ).
الثالث : توجه الخطاب من عند الله عز وجل للمسلمين على نحو العموم المجموعي كأمة واحدة ، وهو من مصاديق تشريفهم وعمومات قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذين يتوجه لهم نداء الإيمان هم خير أمة .
الصغرى : المسلمون توجه لهم نداء الإيمان .
النتيجة : المسلمون هم خير أمة .
الرابع : نزول نداء الإيمان من عند الله عز وجل بواسطة جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : سلامة نداء الإيمان من التحريف والتبديل والتغيير إلى يوم القيامة .
السادس : تعيين الذين يتوجه لهم نداء الإيمان في كل زمان ، فلا يقبل الترديد والخلط بين المسلمين وغيرهم .
السابع : تلاوة المسلمين لنداء الإيمان كل يوم ليزيدهم إيماناً , وفيه ثناء عليهم من جهات :
الأولى : ثناء المسلم على نفسه عند تلاوة أو سماع آية النداء .
الثانية : مدح المسلمين لأنفسهم كأمة متحدة عند تلاوة نداء الإيمان .
الثالثة : ثناء المسلمين على المسلم الواحد منهم .
الرابعة : ثناء المسلمين على المسلمات وبالعكس .
ثانياً : إشتراك المسلمات مع المسلمين بذات الجهة التي يتوجه لها نداء الإيمان ، وفي تلقيه بالقبول والإمتثال .
لقد جعل الله عز وجل حصة المرأة من الإرث نصف حصة وسهم الرجل سواء في الأبناء أو الأخوة ، قال تعالى [يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ]( ).
ثالثاً : شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة نداء الإيمان ، ومن هذا الشكر تلاوة آيات النداء , والتدبر في معانيها والغايات الحميدة منها .
ولكن جميع المسلمات يشتركن مع المسلمين في تلقي نداءات الإيمان بعرض واحد وتنبسط التكاليف عليهم جميعاً ، ولا يستثنى فرد إلا مع الدليل والعلة ، كما في سقوط الصلاة عن الحائض مدة الحيض مع أنها تقضي الصيام إن إتفق حيضها في شهر رمضان .
وهل يجوز للمرأة أخذ حبوب تحبس الحيض مدة شهر رمضان للفوز بصيام في وقته المحصور بين هلالين , الجواب نعم يجوز إذا لم تكن في البين أضرار جانبية عليها ، ولابد من بيان حقيقة وهي أن الإفطار أوان الحيض رحمة وتخفيف من عند الله ، وكذا بالنسبة للتقصير في الصلاة عند السفر مسافة شرعية .
وعن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليس من البر أن تصوموا في السفر وعليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها) ( ).
(عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه)( )
وهل ينطبق حديث الرخص على الحائض أيام شهر رمضان أم أن موضوعه مستقل ، الجواب هو الثاني , لدلالة نسبة الرخص إلى الله عز وجل , وحبس الحيض بالعلاج أمر شخصي مستحدث ولقاعدة نفي الحرج في الدَين .
الأولى : نداء الإيمان ثروة علمية وعقائدية في الأرض ذات صبغة سماوية ، فهو نازل من الجنة ليبقى أمانة في الأرض وداعية للناس لدخولها في عالم الآخرة ، وفي وصف أهل الجنان ورد في التنزيل [كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا] ( ).
الثانية : كل آية من آيات نداء الإيمان باعث على العمل الصالح وزاجر عن الفعل المذموم .
الثالثة : من خصائص نداء الإيمان العموم وأنه لا يستثني مسلماً أو مسلمة ، وقيل في الفلسفة ما من عام إلا وقد خصّ ، ولا دليل عليه في علوم القرآن , لذا جاءت الآيات بسور الموجبة الكلية مثل جميع , وكل , وكافة , قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا]( ).
ومن الآيات في نداء الإيمان أنه يطرق باب قلب كل مسلم ومسلمة ، ويدفع عنه الغفلة ، ويحرسه من آفة السهو والنسيان .
فمثلاً قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ] ( ) يدل على أمور :
الأول : وجوب الصلاة اليومية .
الثاني : وجوب مقدمات الصلاة لوجوب ذيها .
الثالث : حب الطهارة والتطهير ، ولزوم تعاهدها .
الرابع : بيان قانون دائم , وهو الملازمة بين الطهارة وأداء الفرائض .
الخامس : بيان خصائص الإيمان ومصاحبة التكليف له ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، قال تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى] ( ).
السادس : بيان أفعال الوضوء على نحو التفصيل والترتيب في آية قرآنية واحدة ، وفيه مسائل :
الأولى : إنه مصداق لقوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( ).
الثانية : هداية المسلمين إلى أداء العبادات على نحو صحيح ، ومن الإعجاز أن النبي قال (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) وفيه وجوه : أولاً : يدخل الوضوء في أمر النبي هذا .
ثانياً : الوضوء مقدمة للصلاة والقدر المتيقن من الحديث أعلاه هو ذات الصلاة وكيفيتها وأوقاتها .
ثالثاً : إكتفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالآية القرآنية أعلاه في بيان الوضوء .
رابعاً : هناك حديث أو أحاديث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تأمر المسلمين بأخذ الوضوء وكيفيته عنه .
خامساً : التباين الرتبي بين الصلاة والوضوء ، فالصلاة عمود الدَين ويلزم العناية بها ، فجاء حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتأكيد عليها .
سادساً : كان المسلمون يرون كيف يتوضأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتدافعون للأخذ من فضله .
سابعاً : بيان التخفيف في أحكام الوضوء والصحيح هو الوجه الأول أعلاه ويكون الوجه الرابع والسادس في طوله ، وتقدير الحديث : توضأوا للصلاة مثلما أتوضأ .
الثالث : ترغيب المسلمين بالوضوء .
الرابع : منع الخلاف والخصومة والشقاق بين المسلمين في كيفية الوضوء ، فمثلاً تمنع الآية من الإختلاف في تعيين حد غسل اليد ، فلا يأتي بعضهم ويقول أن العضد من اليد أو يقول بكفاية غسل الكفين لقوله تعالى [لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ] ( )إذ يكتبون بالأصابع فقيدت الآية الغسل إلى المرافق .
الخامس : منع التشديد على النفس في أفعال الوضوء ومقدماته المستحبة مثل المبالغة في الإستنشاق , والمضمضة , والتخليل بين الأصابع .
والنداء صيغة للتخاطب بين البشر , وهو وجه من وجوه التخاطب بينهم وطريقة للتنبيه والتفاهم ، لذا فان هناك أصواتاً وألفاظاً للنداء يشترك فيها كل الناس من غير أن تخضع لموازين وقواعد لغة مخصوصة .
والنداء طلب الإقبال والإلتفات ، وقد يأتي للتحذير فحينما تقول : يا سلمان فانه منصوب بفعل مقدر ، وتقديره : يا سلمان إنتبه أو أحذر أو : يا سلمان أقبل بحسب اللحاظ والحال والقرائن.
وبين النداء في القرآن وبين نداء الإيمان عموم وخصوص مطلق، إذ أن النداء في القرآن أعم ، إذ جاء بلفظ [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] عشرين مرة منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ) .
وقد ورد نداء للمسلمين والمسلمات يتضمن الأمر بالدخول في السلم والنهي عن إتباع خطوات الشيطان ، وكيف أن الشيطان عدو مبين لهم بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
ليكون أكل الحلال الطيب سور الموجبة الكلية الذي يشمل الناس جميعاً ، وهو من خصائص خلافة الإنسان في الأرض ، لقد إحتج الملائكة على هذه الخلافة لأن الإنسان [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
فاحتج الله عز وجل عليهم بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن علمه تعالى أنه يبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وينزل عليه القرآن , ويكون الناس معه على قسمين :
الأول : المؤمنون .
الثاني : عموم الناس .
وبين القسمين بلحاظ الآيتين أعلاه عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من جهات :
الأولى : توجه الخطاب في القرآن لهم جميعاً .
الثانية : نهي الله عز وجل لهم عن إتباع خطوات الشيطان .
الثالثة : بيان عداوة الشيطان للمؤمنين والناس جميعاً.
الرابعة : تجلي ظهور عداوة الشيطان لهم جميعاً .
أما مادة الإفتراق فمن وجوه :
الأول : نسبة العموم والخصوص في النداء الوارد في الآيتين .
الثاني : تلقي المسلمين النهي على نحو متعدد ، فمرة كبني آدم وأخرى كمسلمين ، وهو من فضل الله عز وجل عليهم ، ومصاديق شكره لهم على الإيمان .
الثالث :بيان شدة عداوة الشيطان للناس عامة وللمسلمين خاصة .
الرابع : جاء الأمر للناس بالأكل من طيبات الأرض حلالاً بينما تضمنت آية نداء الإيمان الأمر للمسلمين بالدخول في السلم والوئام.
الخامس : الأكل فعل أما الدخول في السلم فهو إعتقاد وقول وفعل .
السادس : الأصل في الأكل الإباحة , أما دخول المسلمين في السلم فهو واجب .
لقد جعل الله عز وجل الإنسان خليفة في الأرض ، ولابد من ترشح شواهد ومصاديق للإكرام في مسألة عمارة الإنسان للأرض ويحتمل وجوهاً :
الأول : إكرام الإنسان عامة مدة حياته في الأرض .
(عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله يقول : يا عبادي ، كلكم ضال إلا من هديت ، وضعيف إلا من قويت ، وفقير إلا من أغنيت ، فسلوني أعطكم ، فلو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم ، وحيكم وميتكم ، ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب أتقى عبد من عبادي ، ما زادوا في ملكي جناح بعوضة ، ولو أن أولكم وآخركم ، وحيكم وميتكم ، ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب أفجر عبد من عبادي هو لي ، ما نقصوا من ملكي جناح بعوضة ، ذلك بأني واحد ، عذابي كلام ، ورحمتي كلام .
فمن أيقن بقدرتي على المغفرة فلم يتعاظم في نفسي أن أغفر له ذنوبه ، ولو كثرت) ( ).
الثاني :تفضل الله عز وجل بإكرام التائب عن الذنب ، قال تعالى [قُلْ يَاعِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ]( ).
الثالث : إكرام المؤمنين من أهل الأرض خاصة بدليل توجه نداء الإيمان إلى المسلمين والمسلمات .
الرابع : إكرام الله عز وجل للناس من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، فأكثرهم إكراماً الأنبياء ثم الأدنى فالأدنى من أهل الإيمان .
والمختار هو الرابع أن الدنيا دار إمتحان وإختبار وأن رحمة الله عز وجل تتغش جميع الناس برهم وفاجرهم ويدل قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( ).
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
إبتدأت الآية بنداء الإيمان والمراد أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة , ليكون الخطاب في الآية إنحلالياً من جهات :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا .
الثانية : يا أيتها اللائي آمنّ أنفقن .
الثالثة : يا أيها الذي آمن أنفق .
الرابعة : يا أيها التي آمنت أنفقي .
الخامسة : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مجتمعين ومتفرقين , فيخرج المسلم زكاته ، ويدفع الصدقات المستحبة ، وتخرج من بيت مال المسلمين الحقوق والإعانات والديات المخصوصة التي ليس هناك من يدفعها وكذا دية الذي يقتل بالزحام والتدافع والإرهاب وعلى الجسر .
وجاءت آية البحث بالتبعيض من جهة الإنفاق من الرزق الكريم الذي أنعم الله عز وجل به على المسلمين لبيان أمور :
الأول : سعة الرزق ووفرة المال الذي يتفضل به الله عز وجل على المسلمين .
الثاني : البشارة من عند الله باستدامة الرزق الكريم للمسلمين.
الثالث : تجلي مصداق لإقرار المسلمين بأن الله هو الذي يرزقهم بالإنفاق في سبيله تعالى .
الرابع : من ضروب الشكر لله ، الشكر العملي ، ويتجلى بالإنفاق طاعة لله عز وجل .
لقد تقدمت آية من آيات نداء الإيمان تأمر المسلمين بالأكل من الطيبات والرزق الكريم الذي تفضل الله عز وجل به بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ..] ( ).
أمّا هذه الآية فجاءت بالأمر بالإنفاق من ذات الرزق الكريم الذي تفضل الله عز وجل به على المسلمين ، وجاءت آية أخرى بذكر الطيبات والإنفاق منها على نحو التعيين بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ..] ( ).
والنسبة بين الآيتين هي العموم والخصوص المطلق ، فآية البحث أعم ولا يختص الإنفاق فيها من الطيبات لذا تضمنت الإنذار من اليوم الآخر ، ومن العقاب يوم القيامة ، ومع وجود فترة طويلة بين موت الإنسان وبين قيام الساعة فان الآية لم تشر إلى هذه الفترة ، إنما ذكرت المبادرة إلى الإنفاق قبل يوم الحساب , وفيه مسائل :
الأولى : إرادة إنقطاع عمل الإنسان عند موته ، وفي الحديث عن رسول الله : إذا مات أحدُكم فقد قامتْ قيامتُه واعبدوا اللهَ كأنكم ترونه واستغفروه كلَّ ساعةٍ) ( ).
وهل يدل هذا الحديث على عدم وصول الثواب للمسلمين بعمل الحي , الجواب لا ، بدليل النصوص الواردة بجواز القضاء عن الميت كما في حج البيت الحرام ، ومنه ما ورد عن ابن عباس أن امرأة من خثعم سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة،
فهل يجزي أن أحج عنه؟
فقال : نعم ،
فقالت : فهل ينفعه ذلك؟
فقال (عليه السلام) : أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان يجزي؟
قالت : نعم،
قال : فدين الله أحق ) ( ).
وكذا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم(“إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ( ).
الثانية : بيان أن الجزاء التام ليس في عالم البرزخ إنما هو في يوم القيامة ،فاذا مات الإنسان يبقى إلى حين البعث والنشور .
الثالثة : بيان بعض صفات يوم القيامة وما يختص به من أسباب الخوف والفزع ، فهو يوم حساب بلا عمل .
الرابعة : لما بادر المسلمون لدخول الإسلام وللإيمان تفضل الله عز وجل وأمرهم بالإنفاق وأخبرهم بوجوب الإيمان باليوم الآخر وكيف أنه خال من البيع والشراء والمعاملات .
وليس من صلة إجتماعية تفيد النفع ودفع العذاب ، إنما الإيمان والإنفاق هو السبيل إلى رحمة الله عز وجل ونزول البركات .
الخامسة : تذكير المسلمين باليوم الآخر , وتأكيد قانون وهو عدم الغفلة عنه ، وهل الإنفاق في سبيل الله من الإقرار بعالم الآخرة ، الجواب نعم , فلذا إبتدأت الآية بنداء الإيمان , وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا بيوم لا بيع فيه أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه).
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بالله إعملوا ليوم القيامة .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا بأن رزقكم من الله أنفقوا مما رزقناكم.
الرابع : يا أيها الذين آمنوا بنزول القرآن من عند الله أنفقوا مما رزقناكم .
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : انا اول شفيع يوم القيامة وانا اكثر الانبياء تبعا)( ).
وعن أنس أيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى الله عليه وآله وسلم : (آتي يوم القيامة باب الجنة فأستفتح فيقول الخازن : من أنت ؟ فأقول : محمد ، فيقول : بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك)( ).
وورد لفظ البيع في الآية , وهو من الأضداد , والمراد منه المعنى الأعم ونفي العنوان الجامع لضروب البيع ومنها:
أولاً : البيع .
ثانياً : الشراء .
ثالثاً : الإجارة .
رابعاً : المضاربة .
خامساً: التجارة والكسب.
سادساً : المعاطاة، وهو البيع والشراء من غير إجراء صيغة القبول والإيجاب، كأن يدفع المشتري الثمن فيسلمه البائع السلعة، أو بالعكس، ومنهم من أطلق عليها الصيغة الفعلية للبيع في مقابل الصيغة اللفظية .
سابعاً : بيع السلف أو السلم، وهو بيع شئ كالحنطة أو التمر بصفات مخصوصة وفي الذمة، وكأنه مستثنى من عدم جواز بيع المعدوم.
وعن ابن عباس قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث ، فقال : من أسلف فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم ، إلى أجل معلوم ( ).
ثامناً : الشراء بالآجل، وبثمن للسلعة أكثر من قيمتها في الحال.
وفي الفلسفة يقولون أن المتناقضين لا يجتمعان , ليجتمعا في آية البحث بنفي البيع والشراء في لفظ واحد، وهو (لا بيع) بحيث يفهم التالي والمستمع إرادة الأضداد والمصاديق المتعددة منه وإرادة سور الموجبة الكلية لسائر المعاوضات وتعطيلها يوم القيامة.
الخامس : تقدير آية البحث : يا أيها الذين آمنوا بيوم لا خلة فيه أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي اليوم الذي لا خلة فيه) تبين الآية قانوناً وهو أن إيمان وتصديق المسلمين بيوم القيامة لا ينحصر بالمعنى الإجمالي بل يشمل التصديق بخصائص يوم القيامة ليكون المسلمون عن الذين قال الله تعالى فيهم [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ). فيندفع الخوف والحزن من جهات:
الأولى : صدق الإيمان.
الثانية : السعي الدؤوب ليوم القيامة.
الثالثة : التوقي عن الغفلة.
الرابعة : الإستعداد والتهيئ بالعمل الصالح لعالم الحساب.
الخامسة : الإجتهاد في الإنفاق في سبيل الله.
ولا تمنع آية البحث من الأخلاء والصداقة والصحبة، ولكنها تدعو إلى صيرورتها في مرضاة الله عز وجل لذا قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، لتكون هذه المؤاخاة من مصاديق نداء الإيمان، ومن الشواهد على تعاضد المسلمين للعمل ليوم ليس فيه خلة .
وليس من تعارض بين آية البحث وقوله تعالى[الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ]( )، إنما هو من المطلق والمقيد، ويدل عليه قوله تعالى في خطاب خاص للذين كفروا وإحتجاج إبراهيم عليه السلام على قومه[وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ]( )، وعن الإمام علي عليه السلام قال: خَلِيلانِ مُؤْمِنَانِ، وَخَلِيلانِ كَافِرَانِ، فَتُوُّفِّيَ أَحْدُ الْمُؤْمِنِينِ وَبُشِّرَ بِالْجَنَّةِ فَذَكَرَ خَلِيلَهُ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ، إِنَّ فُلانًا خَلِيلِي كَانَ يَأْمُرُنِي بِطَاعَتِكَ وَطَاعَةِ رَسُولِكَ، وَيَأْمُرُنِي بِالْخَيْرِ، وَيَنْهَانِي عَنِ الشَّرِّ، وَيُنَبِّئُنِي أَنَّي مُلاقِيكَ، اللَّهُمَّ فَلا تُضِلَّهُ بَعْدِي حَتَّى تُرِيَهُ مِثْلَ مَا أَرَيْتَنِي، وَتَرْضَى عَنْهُ كَمَا رَضِيتُ عَنِّي، فَيُقَالُ لَهُ: اذْهَبْ فَلَوْ تَعْلَمُ مَا لَهُ عِنْدِي لَضَحِكْتَ كَثِيرًا وَبَكَيْتَ قَلِيلًا ز
قَالَ: ثُمَّ يَمُوتُ الْآخَرُ فَتَجْتَمِعُ أَرْوَاحُهُمَا، فَيُقَالُ: لِيُثْنِ أَحَدُكُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، فَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: نِعْمَ الْأَخُ، وَنِعْمَ الصَّاحِبُ، وَنِعْمَ الْخَلِيلُ، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْكَافِرَيْنِ وَبُشِّرَ بِالنَّارِ ذَكَرَ خَلَيلَهُ، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ، إِنَّ خَلِيلِي فُلانًا كَانَ يَأْمُرُنِي بِمَعْصِيَتِكَ وَمَعْصِيَةِ رَسُولِكَ، وَيَأْمُرُنِي بِالشَّرِّ، وَيَنْهَانِي عَنِ الْخَيْرِ، وَيُخْبِرُنِي أَنِّي غَيْرُ مُلاقِيكَ ز
اللَّهُمَّ فَلا تَهْدِهِ بَعْدِي حَتَّى تُرِيَهُ مِثْلَ مَا أَرَيْتَنِي، وَتَسْخَطَ عَلَيْهِ كَمَا سَخِطْتَ عَلَيَّ، قَالَ: فَيَمُوتُ الْكَافِرُ الْآخَرُ، فَيُجْمَعُ بَيْنَ أَرْوَاحِهِمَا، فَيُقَالُ: لِيُثْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، فَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ: بِئْسَ الْأَخُ، وَبِئْسَ الصَّاحِبُ، وَبِئْسَ الْخَلِيلُ( ).
وتدل الآية الكريمة وإخبارها عن إنعدام الخلة والمودة يوم القيامة على بركات نداء الإيمان إذ يتغشى أجيال المسلمين المتعاقبة إلى يوم القيامة.
ترى ما هي الصلة بين وجوب الإنفاق وإنعدام الخلة يوم القيامة، الجواب قد تنفع الخلة والمودة والصداقة والنسب وصلات السبب الإنسان في قضاء حاجاته في الدنيا وقيام الآخرين باعانته وإسعافه ، أما في الآخرة فلا ينفع إلا الإيمان والعمل الصالح ، لذا إبتدأت الآية بنداء الإيمان ، وذكرت الإنفاق وهو من أبهى مصاديق العمل الصالح ، وحاجات الآخرة وشدة أهوالها أعظم بكثير مما في الدنيا ، وفي كل آن وموطن في الآخرة يكون الإنسان محتاجاً فليس من خليل يلجأ إليه ، وفي الخلة أطراف :
الأول : الذي يسعى للخليل .
الثاني : موضوع وسبب الخلة .
الثالث : الحاجة إلى الخلة .
الرابع : ذات الخليل .
الخامس : ما يقوم به الخليل للنفع والتدارك .
هذا في الدنيا أما في الآخرة فان الخلة معدومة ويحل بدلها ثواب الإنفاق ويكون أفضل وأنقى منها ، وإبتدأت الآية بنداء الإيمان لبيان أمور :
الأول : حضور الإنفاق بديل عن الخلة يوم القيامة .
الثاني : تقييد الإنفاق أنه في سبيل الله فلا يحضر يوم القيامة مع الإنفاق والصدقة إلا ما كان في سبيل الله ، ومن معاني الصدقة التصديق بالعالم الآخر ، والحاجة يومئذ إلى ما أنفقه العبد في حياته، قال تعالى [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا] ( ).
الثالث : كل فرد من الإنفاق والصدقة شاهد على إيمان المسلمين بالله واليوم الآخر ، فكما يتكرر النداء [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في القرآن فان وجوه إمتثال المسلمين من اللامتناهي ، لتكون الدنيا مع حضور هذا النداء روضة ناضرة تزدان بأنوار الإنفاق والصدقة وهل تختص صيغة الإيمان عند إنفاق المسلم بذاته أم هي أعم الجواب هو الثاني إذ يدل الإنفاق على وراثة المسلم الإيمان فيثاب الوالدان بإيمان ولدهما , ويثاب الولد بإيمان والديه , وفي قصة موسى والخضر ورد قوله تعالى [وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ] ( ).
ويثاب الأهل لعدم إمساكهم يد المنفق منهم ، وكذا يأتي الثواب للذين يأمرون بالإنفاق ، ويمنعون من البخل والشح وتعطيل الزكاة ، وهو من معاني النفع العظيم من الخلة الصالحة في الدنيا ، فصحيح أنه ليس من خلة في الآخرة إلا أن بركات الخلة الصالحة في الدنيا تتجلى في الآخرة لذا ذكرت الآية الشفاعة بعد الخلة ، فحينما يكون خليلك مؤمناً ، يدعو إلى الصلاح والحاجة لها وللإنفاق في مواطن يوم القيامة فانه يغنيك عن التفكير بالخلة يومئذ ، وهو من أسباب الأمن وإنتفاء الحزن عن المؤمن يوم القيامة.
الخامس : تقدير آية البحث : يا أيها الذين انفقوا من قبل أن يأتي يوم لا شفاعة فيه .
والشفاعة السؤال للغير ، يقال (وتشفّع له إليه فشفّعه واستشفعته – طلبت منه الشفاعة وشفّعه – أسعفه بالشفاعة) ( ).
والشفاعة من الشفع وهو المتعدد ضد الوتر وهو الفرد المتحد ، فيكون الإنسان بمفرده فيشفع له غيره فيصير وكأنه شفع والشفاعة في الإصطلاح سعي الشافع لجلب النفع ودفع الضرر عن المشفوع له وطلب التجاوز عن ذنبه .
وفي الشفاعة أطراف :
الأول : الشفيع ، وهو الذي يتولى السؤال .
الثاني : المشفوع له ، وهو الذي يحتاج إلى الشفاعة وتعود منافع الشفاعة له .
الثالث : الشفاعة والسؤال .
الرابع : موضوع الشفاعة .
الخامس : الذي يستشفع عنده , وهو الله عز وجل .
والشفاعة يوم القيامة حق وصدق ، وعليها الكتاب والسنة والإجماع ، قال تعالى [وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى] ( ).
وعن إنس قال (سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ألا إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ، ثم تلا هذه الآية { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم . . . } الآية) ( ).
وتدل الآية أعلاه على أن الشفاعة لا تطلب إلا من عند الله ، وليس للشفيع أن يشفع إلا باذنه تعالى ، وهل هذا الإذن مخصوص أم مطلق , الجواب هو الثاني ، فيشمل الإذن وجوهاً :
الأول : الشافع .
الثاني : المشفوع له .
الثالث : موضوع الشفاعة .
الرابع : أوان الشفاعة .
إذ أن مواطن الآخرة متعددة وبلحاظ أطراف الشفاعة الخمسة أعلاه فلا يكون غير الله تعالى مستشفعاً عنده ، فلا يشفع نبي عند ملك أو بالعكس إنما يتوجه سؤال الشفاعة لله عز وجل وحده , وهو من مصاديق قوله تعالى [لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ).
ولا تختص الشفاعة في عالم الآخرة ، بل قد تكون في الدنيا بفضل الله وتوجه الأنبياء والمؤمنين بالدعاء والمسألة إلى الله عز وجل ، لتكون الحياة الدنيا مرآة الآخرة .
وعن ابن عمر قال (لقي إبليس موسى فقال : يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وكلمك تكلماً إذ تبت؟ وأنا أريد أن أتوب فاشفع لي إلى ربي أن يتوب عليّ قال موسى : نعم . فدعا موسى ربه فقيل : يا موسى قد قضيت حاجتك , فلقي موسى إبليس قال : قد أمرت أن تسجد لقبر آدم ويتاب عليك . فاستكبر وغضب وقال : لم أسجد له حيًّا أسجد له ميتاً؟ ثم قال إبليس : يا موسى إن لك عليّ حقاً بما شفعت لي إلى ربك فاذكرني عند ثلاث لا أهلكك فيهن .
اذكرني حين تغضب فإني أجري منك مجرى الدم ، واذكرني حين تلقى الزحف فإني آتي ابن آدم حين يلقى الزحف . فاذكره ولده وزوجته حتى يولي ، وإياك أن تجالس امرأة ليست بذات محرم فإني رسولها ورسولك إليها)( ).
لقد كان موسى عليه السلام كليم الله , ويعلم إبليس هذه المنزلة فاراد الإنتفاع منها ، ومع غضب الله عز وجل على إبليس ونزول لعنة الله به ، فانه سبحانه لم يرد موسى في شفاعته بل أمره أن يسجد لقبر آدم طاعة لله وتكون له توبة عند الله ، ويتوجه تحذير وإنذار إبليس لموسى للمؤمنين من أهل الملل جميعها , وترد مضامينه في أحاديث السنة النبوية الشريفة، وقد أنعم الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعرضت عليه بعض مواطن الآخرة ، وكأنها حاضرة عنده فرأى أجيال الناس المتعاقبة من أيام آدم وإلى آخر الناس من ذريته حتى قامت القيامة عليهم ، وقد إجتمعوا في صعيد واحد لا يستطيع أحدهم التستر أو الإختفاء .
وأدركوا الحاجة إلى السعي والعمل وليس من عمل يومئذ ففزعوا إلى الشفاعة وإنطلقوا إلى أبيهم آدم الذي خلقه الله عز وجل ونفخ فيه من روحه وجعله خليفة في الأرض ، فوجدوه راكعاً ساجداً لله عز وجل منشغلاً بنفسه ، وكان العرق يتصبب من رؤوسهم وأبدانهم ، ويكاد لكثرته أن يملأ أفواههم ويجعلهم عاجزين عن الكلام (فَقَالُوا يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ وَأَنْتَ اصْطَفَاكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ قَالَ : لَقَدْ لَقِيتُ مِثْلَ الَّذِي لَقِيتُمْ انْطَلِقُوا إِلَى أَبِيكُمْ بَعْدَ أَبِيكُمْ إِلَى نُوحٍ.
{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ }( )
قَالَ فَيَنْطَلِقُونَ إِلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَام فَيَقُولُونَ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ)( ).
فلم يعرض عنهم آدم ولكنه إعتذر إليهم بالحق والصدق وبما جعلهم يقبلون عذره ، فليس من قول يومئذ إلا الحق والصدق ، إذ قال لهم : لَقَدْ لَقِيتُ مِثْلَ الَّذِي لَقِيتُم) إنه يوم تبلس فيه السرائر ، يوم تعرض الأعمال على الله عز وجل وأشار عليهم آدم بالذهاب إلى نوح وهو رسول من الرسل الخمسة أولي العزم ، , وإذ جاءوا لآدم بلحاظ أنه أبوهم ، فقال لهم : أذهبوا إلى أبيك بعد أبيكم ) فوصف آدم عليه السلام نوحاً بأنه الأب الثاني من بعده لأهل الأرض بلحاظ غرق الأرض بالطوفان ولم يبق فيها إلا نوح ومن كان معه في السفينة .
(عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان نوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها ، ثم جعل يعملها سفينة ويمرون فيسألونه فيقول : أعملها سفينة ، فيسخرون منه ويقولون : تعمل سفينة في البر وكيف تجري؟ قال : سوف تعلمون . فلما فرغ منها وفار التنور وكثر الماء في السكك خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حباً شديداً ، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه ، فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل ، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بين يديها حتى ذهب بها الماء ، فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أم الصبي) ( ).
فتوجه الناس إلى نوح وسبب هذا التوجه أمور :
الأول : الحاجة إلى الشفاعة .
الثاني : شدة الحال التي فيها الناس وما أصابهم من الفزع .
الثالث : رجاء رحمة الله عز وجل .
الرابع : طاعة لأمر آدم لهم .
وفي الحديث نكتة وهي أن الله عز وجل يأذن للناس بطلب الشفاعة من الأنبياء والأولياء ، ولكن الشفاعة لا تكون إلا بإذن الله عز وجل ، فسألوا نوحاً أن يشفع لهم عند الله عز وجل فهو الذي إصطفاه وعاش نحو ألفين وأربعمائة سنة ، وأنجاه في الفلك بمعجزة حسية عظيمة واستجاب دعوته بهلاك الكافرين كما ورد في التنزيل [لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا]( ).
ولكن نوحاً أجابهم بمثل ما أجابهم آدم عليه السلام إذ إعتذر إليهم وأشار إليهم أن يذهبوا إلى لإبراهيم عليه السلام خليل الله ولكنه يعتذر إليهم , ويطلعهم على إنشغاله بنفسه , ويشير عليهم بالتوجه إلى موسى عليه السلام لأن الله كلّمه تكليماً ، فتوجه الناس مع جهد إضافي وإتصال في تصبب العرق مع شدة العطش إلى موسى عليه السلام رجاء شفاعته وأن يكلم الله عز وجل مثلما كان يكلمه في الدنيا فوجدوه مشغولاً بنفسه ، وقال (ليس ذاكم عندي ، ولكن انطلقوا إلى عيسى ، فإنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى)( ).
ويلاحظ التتابع والتعاقب في الرسل ، فكل رسول يشير على الناس بالذهاب إلى الذي هو بعده من الرسل الخمسة أولي العزم ، وقد أختلف في عددهم وأسمائهم ، ويدل هذا الحديث على ما ذهب إليه المشهور والمختار وأنهم خمسة وهم :
الأول : نوح عليه السلام .
الثاني : ابراهيم عليه السلام .
الثالث : موسى عليه السلام .
الرابع : عيسى عليه السلام .
الخامس : محمد عليه السلام .
ومع أن آدم عليه السلام رسول إلا أنه ليس من أولي العزم ، قال تعالى [وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا]( )، ومع هذا فقد توجه الناس له طلباً للشفاعة من جهات :
الأولى : لقد خلق الله عز وجل آدم من غير أن يكون في رحم.
الثانية : نفخ الله في آدم من روحه.
الثالثة : لبث آدم برهة من الزمن في الجنة , وإلتقى بالملائكة هناك .
الرابعة : آدم عليه السلام أبو البشر ، وكل الناس من ذريته هو وزوجه حواء .
الخامسة : مجئ الناس إلى آدم حسب الترتيب في الخلق، رجاء أن يشفع لهم، وهو الذي أشار عليهم بأول الرسل من أولي العزم وهو نوح عليه السلام .
ويلاحظ في الحديث أن كل رسول يمدح ويثني على الآخر ، ويذكر معجزته وما رزقه الله عز وجل من الآيات عسى أن تكون وسيلة للشفاعة، فلما جاءوا إلى موسى ، قال لهم : ليس ذاكم عندي ولكن انطلقوا إلى عيسى بن مريم فإنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فيقول عيسى ليس ذاكم عندي ولكن انطلقوا إلى سيد ولد آدم فإنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة انطلقوا إلى محمد فليشفع لكم إلى ربكم ( )، فيأتون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيفزع جبرئيل إلى الله عز وجل يسأله، فيقول الله عز وجل : ائذن له وبشره بالجنة، فينطلق به جبرئيل مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعتذر من الناس، ولم يبق في مكانه بل توجه بصحبة جبريل إلى موطن القرب من العرش، ليخر ساجداً قدر أسبوع من أيام الدنيا، شاكراً متضرعاً إلى الله عز وجل ، ومعه يزداد الأمل عند الناس بالشفاعة , فتأتيه الإستجابة من عند الله عز وجل يا محمد إرفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع فيرفع رأسه , ومع تفضل الله عز وجل عليه بالإستجابة والناس بانتظاره إلا أنه عاد للسجود قدر أسبوع لما رأى من نور ربه (فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ قَالَ فَيَذْهَبُ لِيَقَعَ سَاجِدًا فَيَأْخُذُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام بِضَبْعَيْهِ فَيَفْتَحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الدُّعَاءِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى بَشَرٍ قَطُّ( ).
وفيه مسألة أن الدعاء لم ينقطع في الآخرة، فهناك عموم وخصوص مطلق بين العمل والدعاء في المدة والأثر , فيتوجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشكر إلى الله والثناء عليه وذكر بعض نعمه العظيمة عليه في الدنيا والآخرة فيقول : أي رب خلقتني سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر حتى إنه ليرد علي الحوض أكثر مما بين صنعاء وايلة ) وايله مدينة العقبة في الأردن وتقع على ساحل البحر الأحمر (القلزم) وقيل هي القرية التي ذكرها الله عز وجل قوله تعالى [وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ]( )، لينفتح باب الشفاعة فيأتي النداء من بطنان العرش ليسمعه أهل المحشر، ادعو الصديقين فيشفعون، ثم يقال : أدعوا الأنبياء فيجئ النبي ومعه العصابة، والنبي ومعه الخمسة والستة والنبي ليس معه أحد )
لترى الخلائق عظيم منزلة النبي محمد بين الخلائق بلحاظ كثرة أعداد وأجيال أمته وثباتهم على الإيمان بتوجه نداء الإيمان لهم في كل زمان وهو يدعوهم للإستعداد ليوم المحشر ، وإصلاح أنفسهم لأمرين :
الأول : الفوز بشفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين والمسلمات.
الثاني : قيام المسلمين والمسلمات بالشفاعة .
وليس فيه تعارض أو تضاد ، ولكنه من سعة رحمة الله عز وجل يوم القيامة ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وأخّر تسعة وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة ( ).
وبعد الأنبياء وشفاعتهم لأتباعهم، يقال ادعوا الشهداء أي الذي قتلوا في سبيل الله، ولا يختص الأمر بشهداء الإسلام مثل شهداء أحد، فالمراد الشهداء من المسلمين منذ أيام أبينا آدم، وهل يدخل فيهم هابيل ابن آدم الذي قتله أخوه قابيل , فصحيح أن هابيل لم يقاتل في سبيل الله وليس من فئة كافرة آنذاك ولكنه كان متقياً قدم قرباناً فتقبله الله عز وجل منه دون قربان أخيه قال تعالى[وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ]( )، الجواب لا .
فالقدر المتيقن من الحديث إرادة الشهداء الذين قتلوا في سوح المعارك، وفي الجهاد والبذل والدفاع في سبيل الله ومحاربة الكفر وأقطاب الشرك.
وبعد أن يشفع الشهداء يقول الله عز وجل: أنا أرحم الراحمين إدخلوا جنتي من كان لا يشرك بي شيئاً، قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيدخل الموحدون من أجيال الناس كلها الجنة.
ليكون من أسرار الحديث أمور :
الأول : دعوة الناس جميعاً إلى التوحيد ونبذ الشرك وإتخاذ الند، ومن الإعجاز في المقام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقاتل من أجل التوحيد والإقرار بالعبودية لله عز وجل وحده.
وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله، ثم قرأ {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر})( ).
الثاني : البشارة للمسلمين وعموم الموحدين بأن الجنة مثواهم، وهو من مصاديق خطاب الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( )، وبيان صيغة العموم في بشارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : بيان عظيم منزلة الشهداء عند الله، ودخولهم الجنة بغير حساب وشفاعتهم لغيرهم.
الرابع : توجه أمر الله عز وجل إلى الملائكة بقوله تعالى(إدخلوا جنتي) وتفويض الإدخال في الجنة إلى الملائكة والأنبياء والأولياء من سعة رحمة الله عز وجل يوم القيامة، فكما يدخل الإنسان الإسلام بالنطق بالشهادتين فإن المؤمنين يدخلون الجنة بأمر الله عز وجل.
وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: فيجدون في النار رجلا ، فيقال له : هل عملت خيرا قط ، فيقول : لا غير أني كنت أسامح الناس في البيع ، فيقول الله : اسمحوا لعبدي كإسماحه إلى عبيدي ، ثم يخرج من النار آخر يقال له : هل عملت خيرا قط ، فيقول : لا ، غير أني كنت أمرت ولدي ، إذا مت فاحرقوني في النار ، ثم اطحنوني ، حتى إذا كنت مثل الكحل ، فاذهبوا بي إلى البحر ، فذروني في الريح . فقال الله : لم فعلت ذلك ؟ قال : من مخافتك . فيقول : انظروا إلى ملك أعظم ملك ، فإن لك مثله وعشرة أمثاله ، فيقول : لم تسخر بي ، وأنت الملك ؟ فذلك الذي ضحكت منه من الضحى)( ).
أي ذلك الذي ضحك منه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الضحى كما ذكر أول الحدبث أعلاه .
وذكرت المذاهب الإسلامية كلها الشفاعة، وهي رحمة من عند الله في الدنيا والآخرة، ولا يصح التبكيت والتنكيل ببعض المذاهب بخصوص الشفاعة وإن خالفك في الرأي وأيقنت من خطأ المبني الذي يذهب إليه، من جهة التوسعة أو التضييق فيها , نعم المدار على الدليل في المقام .
وقد ذكرت مادة الشفاعة في القرآن في نحو خمسة وعشرين موضعاً من القرآن .
وإبتدأت آية البحث بنداء الإيمان، وحث المسلمين على الإنفاق في سبيل الله ليكون وسيلة وإصلاحاً لهم للفوز بالشفاعة ولبيان أن الذين يحرمون من الشفاعة هم الكافرون بدليل خاتمة آية البحث [وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ] وبدليل التفسير الذاتي للقرآن، قال تعالى[الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ]( ).
لقد جاءت آيات القرآن بالبشارة بالشفاعة يوم القيامة مع وجود حد محدود لها من وجوه:
الأول : الخصال والصفات الكريمة للشافع.
الثاني : موضوع الشفاعة.
الثالث : المشفوع له، وأن لا يكون كافراً أو مشركاً، ليكون من معاني خاتمة آية البحث[وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ] على وجوه:
الأول : الذين يكفرون بالربوبية ويصرون على الإمساك عن الصدقات , ولا يقرون بالعبودية لله عز وجل .
الثاني : الكافرون بالرسالات والملائكة واليوم الآخر.
الثالث : الذين يمتنعون عن الإنفاق إستكباراً ومعصية، وأول من كفر إبليس إذ إمتنع عن السجود لآدم عليه السلام، وكذا الذي يكفر بأمر الله عز وجل بالإنفاق في سبيله، فيأبى الإنفاق , وهو من أسرار إختتام الآية بنعت الكافرين بالظالمين.
الرابع : إنذار المنافقين من الشح والصد عن سبيل الله، ومنع الناس من الإنفاق، قال تعالى[أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ]( ).
وتدعو خاتمة الآية العلماء إلى تتبع لفظ (الكافرين) ولفظ (الذين كفروا في القرآن) وكيف أنهم ظالمون بلحاظ مضامين الآية التي يرد فيها أحد هذين اللفظين ليكون هذا العلم من ذخائر القرآن التي تستنبط منها العلوم والأحكام .
وتقدير خاتمة آية البحث على وجوه:
الأول : والكافرون بالله هم الظالمون.
الثاني : والكافرون بالنبوة هم الظالمون.
الثالث : والكافرون بالملائكة هم الظالمون.
الرابع : والكافرون باليوم الآخر هم الظالمون.
الخامس : والكافرون بالتنزيل هم الكافرون.
السادس : والكافرون بأداء الفرائض هم الكافرون.
السابع : والكافرون الذين حجبوا عن أنفسهم تلقي نداء الإيمان هم الظالمون، قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
الثامن : والكافرون الذي يحكمون بغير ما أنزل الله هم الظالمون قال تعالى[وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ]( ) [ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( ) [ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ] ( ).
التاسع : والكافرون الذين يبيعون ويشترون في الحياة الدنيا ولا يشترون أنفسهم من العذاب في يوم لابيع فيه هم الظالمون .
العاشر : الكافرون بالشفاعة وسعة رحمة الله في الآخرة هم الكافرون .
وقيدنا الوجه اعلاه بالجمع بين أنكار الشفاعة وسعة رحمة الله في الآخرة فقد ينكر بعضهم الشفاعة إجتهاداً أو جموداً على النص والظاهر في هذه الآية مع أنها مقيدة ، إذ أن الكافر يجحد بيوم القيامة.
ويتجلى التباين بين موضوع أول آية البحث وخاتمتها، إذ إبتدأت بنداء الإيمان وأختتمت بذم الذين كفروا ونعتهم بأنهم الظالمون وفيه دعوة للعلماء لإستقراء المسائل منه، وحث للمسلمين باجتناب نعت بعضهم بعضاً بالظالمين ، إذ أكرمهم الله عز وجل بنداء الإيمان، وأثنى عليهم لإنفاقهم في سبيله وتسليمهم بالمعاد، وإستعدادهم له، مما يدل على التباين والتنافي بينهم وبين الذين كفروا في الاسم والمسمى .
ليكون من أسرار آية البحث ذكر خصائص يوم القيامة وأحوال الناس فيه وبيان قانون وهو أن الإنفاق في سبيل الله بديل وعوض عن البيع , وفيه غنى عن الخلة والمودة إذ أن لفظ الخلة مأخوذ من تخلل الأسرار بين صديقين.
ومن وجوه تسمية الإنسان أنه يأنس بغيره ويميل الأب إلى إبنه والزوجة إلى زوجها والبنت إلى أبيها ، وجاء القرآن بتأكيد الوصية بالوالدين ، وتخبر آية البحث عن نواميس الآخرة بأنه ليس من مودة وخلة تنفع الإنسان إلا عمله ومنه الصدقة ، وهي أقسام :
الأول : الصدقة الواجبة كالزكاة .
الثاني : الصدقة الواجبة بالعرض كالكفارة .
الثالث : الصدقة المستحبة .
ترى لماذا ذكرت الآية البيع , وقالت [لا بيع فيه ] الجواب قد يحرص الإنسان على ماله ، ويقتر على نفسه في الإنفاق لإرادة شراء حاجة أو عقار أو تجارة فذكرته الآية بأن المال يوم القيامة سبب للحساب ، ولكن الإنفاق مناسبة للأجر والثواب وواقية من العذاب.
ولم تكتف الآية بالأمر للمسلمين بالإنفاق ولم تقل أنفقوا مما رزقتم ، بل قالت [أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ] وفيه نكتة وهي أن الله عز وجل [هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] ( ) وهو الذي أنعم على المسلمين بالمال والعافية والجاه ، وتفضل فدعاهم للإكتفاء مما وهبهم ليكون هذا الإنفاق وسيلة لنماء المال وسبيلاً للثواب العظيم ، ليكون من معاني آية البحث صيرورة الإنفاق شكراً لله عز وجل من جهات :
الأولى : شكر الله عز وجل على نعمة الإيمان والهداية ، ومن مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
الثانية : شكر الله عز وجل على الرزق الكريم ،قال تعالى [وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا] ( ) .
الثالثة : بلوغ مراتب التقوى بالإنفاق والبذل في سبيل الله ،قال تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]( ).
الرابعة : شكر الله عز وجل على نعمة الرزق الكريم .
الخامسة : توجه المسلمين بالشكر لله عز وجل على تفضله بأمرهم مجتمعين ومتفرقين بالإنفاق في سبيل الله ، وإختصاصهم بهذه النعمة المباركة .
السادسة : الشكر لله عز وجل على نعمة الإنفاق والتمكن منه إستجابة لله عز وجل .
إن كل نداء إيمان في القرآن باعث على أداء الصلاة والشوق لأدائها جماعة , وهو زاجر عن تركها .
وأختتمت الآية بقانون وهو [وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ولم تقل الآية (والكافرون ظالمون ) بل أفادت الآية حصر الظلم بالذين كفروا ، كأن ليس من ظالمين غيرهم ، مع أن الظلم من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً لتؤسس الآية لقانون من وجوه :
الأول : الأصل في الكفر هو الظلم وأشد وجوه الظلم ، وفي وصية لقمان لإبنه ورد في التنزيل [إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ] ( ).
الثاني : النظر والتدبر في كل لفظ ( الظالمين ) في القرآن ومادة (ظلم) ومقدار تعلقه بالكفر والجحود .
الثالث : تبين الآية أن من الظلم ما هو أدنى مرتبة من الكفر من ضروب التعدي .
الرابع : تأكيد قانون وهو أن الإسلام نقيض الظلم , والدخول فيه أمان ونجاة من الظلم ، لذا إبتدأت الآية بنداء الإيمان ومن منافعه في المقام بعث السكينة في نفوس المسلمين والناس جميعاً .
الخامس : قانون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرب على الكفر والضلالة .
وخاتمة الآية بشارة للمسلمين بالأمن يوم القيامة لنجاتهم من الظلم ومن الوعيد الوارد في القرآن بخصوص الظالمين ، كما في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ]( ).
وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من قبل أن يأتي يوم لا خلة فيه.
الثالث : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من قبل أن يأتي يوم لا شفاعة فيه .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا إن الكافرين هم الظالمون .
وتبعث الآية المسلمين إلى الجهاد بالأموال والإنفاق في سبيل الله لمحاربة الكفر ، وتنزيه الأرض من الظلم الذي هو واهن وضعيف .
وحينما آمن المسلمون تفضل الله عز وجل وهداهم في آية البحث إلى أمور:
الأول : الثبات في مقامات الإيمان ، وهذا الثبات من أسرار تكرار النداء في القرآن مع تعدد مضامين الآيات التي ورد فيها .
الثاني : وجوب الإنفاق وملازمته للإيمان .
الثالث : بيان الحاجة للإنفاق ، وهذه الحاجة على قسمين :
أولاً : الحاجة للإنفاق في الدنيا للوقاية من الظلم ومحاربة مفاهيم الكفر والجحود ، والمنع من طغيان الظلم ، فقد يكون طغيانه برزخاً دون تدبر فريق من الناس بآيات الآفاق وأسرار النبوة .
ثانياً : الحاجة للإنفاق في الآخرة إذ تغيب الصلات , وتتعطل أسباب المودة والألفة التي كانت في الدنيا ، قال تعالى [يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ] ( ).
الرابع : تأكيد قانون إتصاف الكفر بأنه ظلم قبيح للذات والغير.
ووردت خاتمة الآية بصيغة الجمع ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : الكافر هو الظالم .
الثاني : الكافرة هي الظالمة .
الثالث : الكافرات هنّ الظالمات .
والظلم نوع مفاعلة إذ يتألف من أطراف :
الأول : الظالم الذي يقوم بفعل الظلم والتعدي .
الثاني : الظلم وهو ضرر محض .
الثالث : المظلوم الذي يقع عليه الظلم .
ترى كيف يكون ظلم الكافر , الجواب من جهات :
الأولى : ظلم الكافر لنفسه بإختياره الجحود , وإقامته على الضلالة .
الثانية : إصرار الكافر على الكفر ظلم لغيره وإشاعة لمفاهيم الكفر .
الثالثة : ظلم الكافر للمؤمنين بسنن الهدى والتقوى .
الرابعة : إغراء الكافر لذريته وغيرهم بفعل الفواحش .
الخامسة : ظلم الكافرين لأنفسهم في الدنيا بالحرمان من تلقي نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
السادسة : الكافرون هم الظالمون لأنهم ، وينفقون أموالهم في المعصية ومحاربة النبوة والتنزيل كما في كفار قريش ، إذ أنعم الله عز وجل عليهم بالغنى والثروة ببركة البيت الحرام , والأصل أن ينفق الإنسان ماله في سبيل الله .
وقد ورد قوله تعالى[وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ] فيكون نداء الإيمان في أول الآية دعوة للتوقي من ظلم الذين كفروا بأداء العبادات، ولا يتعارض هذا المعنى مع إرادة أن الذكر وأداء المسلمين الفرائض حرب على الكفر، وتوبيخ للكافرين، وهو من دلالات جمع الآية بين الأمر بالإنفاق للتهيئ ليوم القيامة .
قانون الملازمة بين الكفر والظلم
الكفر إعتقاد قبيح وكيفية نفسانية تتقوم بالجحود بالحق والصدق، والإصرار على الضلالة وخلاف علة خلق الإنسان، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ولقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل ليكون واقية من الكفر، وحرزاً من الغواية، ثم تفضل وبعث الأنبياء لدعوة الناس للإيمان، والعصمة من الكفر، وأنزل الكتب السماوية للإنذار من الكفر وسوء عاقبته.
ثم تفضل الله وأنزل القرآن وكل آية منه تبعث النفرة من الكفر وكل أمر أو نهي فيه حصن من الكفر، ومنه آية البحث من جهات :
الأولى : إبتدأت الآية بنداء الإيمان، وفيه ذم للكافرين الذين إمتنعوا عن واجب الإيمان، وأصروا على إختيار أقبح القبائح وأكبر الكبائر , وهو الكفر بالله.
الثانية : حرمان الذين كفروا أنفسهم من نداء الإيمان خسارة لهم في النشأتين، لقد أراد الله عز وجل لنداء الإيمان أن يجعل الدنيا بهيجة زاهية للمسلمين، ولكن الذين كفروا أرادوا الشقاء لأنفسهم.
الثالثة : تضمنت آية البحث الأمر بالإنفاق، وهو واقية من الكفر وسبب لرفعه ودفعه والحصانة منه.
الرابعة : بيان الملازمة بين الإيمان والإنفاق في سبيل الله، وإمتناع الذين كفروا من الإقرار بهذا القانون بأطرافه :
الأول : الإيمان.
الثاني : الإنفاق .
الثالث : قصر القربة الى الله تعالى في الإنفاق.
الرابع : الإنفاق من الطيب.
لقد أسست آية البحث لقانون دائم إلى يوم القيامة وهو نسبة التساوي بين الكفر والظلم، ومن خصائص هذا القانون أنه بسيط غير مركب ولا يستلزم إستنباطه الرجوع إلى عدة آيات والجمع بينها بل جاء بكلمتين في خاتمة آية البحث[وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ] بمعنى أن الظلم الحقيقي وأشد الظلم يتجلى بالكفر والجحود، لتكون هذه الآية من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، بلحاظ أن الإسلام واقية من الظلم وسبيل نجاة منه في الدنيا والآخرة.
وتدعو الآية الناس إلى الإستغفار ونبذ الظلم فيما بينهم، بلحاظ أن تركه تنزه عن محاكاة الكفار، وفي الحديث القدسي ( عن أبي ذر: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا .
يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني .
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها , فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه( ).
لقد إبتدأت آية البحث بنداء الإيمان ليفيد الجمع بينه وبين خاتمة الآية لزوم مجاهدة المسلمين للظلم، وهذه الحرب ليست بالسيف إنما تبدأ بالنفس وعصمتها من أوهام الضلالة، فبعد أن شهد الله عز وجل للمسلمين بالإيمان أنزل الآيات التي تثبت إيمانهم , ومنها آية البحث التي تبعث الفزع والخوف في نفس الكافر عند سماعه تلاوة المسلم لها، وهو من أسرار القراءة الجهرية في صلاة الصبح والمغرب والعشاء كل يوم من قبل كل مسلم وعلى نحو الوجوب العيني .
فمع ظلم الكافر فانه يتضاءل ويفزع عند سماعه آية البحث، لتكون مناسبة لدعوته إلى أمور :
الأول : إدراك الملازمة بين الكفر والظلم .
الثاني : التفكر في وجوب الإقلاع عن الكفر لأنه قبيح بذاته وتتفرع عنه القبائح .
الثالث : سوء عاقبة الكفر ، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
الرابع : لزوم التوبة والإنابة من الكفر، والنجاة من اللازم الضار بترك الملزوم المنكر .
الخامس : السعي للفوز بتلقي نداء الإيمان والإكرام الوارد في أول آية البحث, ليكون هذا السعي من معاني ودلالات إبتداء الآية بنداء الإيمان وإختتامها بذم الذين كفروا.
لقد إحتجت الملائكة على جعل خليفة في الأرض بانه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، ولم تذكر الكفر مع أنه أشد من الفساد وسفك الدماء، وفيه وجوه :
الأول : لم تظن الملائكة أن مخلوقاً يكفر بالله عز وجل، خاصة وأن الإحتجاج كان قبل معصية وإستكبار وكفر إبليس , قال تعالى [فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ]( ).
الثاني : إحتجت الملائكة بالأدنى للتأكيد على الأكثر ظلماً وتعدياً من باب الأولوية القطعية .
الثالث : حياء الملائكة من عند الله بذكر كفر وجحود الإنسان .
الرابع : لقد أخفى الله عز وجل عن الملائكة كفر فريق من الناس إكراماً لمرتبة الخلافة في الأرض .
الخامس : الكفر إعتقاد ، إنما إطلعت الملائكة على ما هو ظاهر من الأقوال والأفعال ، لذا قال الله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ومن معانيه حسب هذا اللحاظ أنها ذكرت الفساد والقتل فكيف إذا علمتم بكفر فريق من الناس وقتالهم للأنبياء وقتلهم عدداً منهم ومن المؤمنين.
قال تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
فمثلاً كانت العير وقافلة التجارة التي جاء بها أبو سفيان من الشام قبيل معركة بدر تتألف من ألف بعير محملة بالبضائع , وهي التي ذكرها الله سبحانه بقوله [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ] ( ) .
وحينما غيرت قافلة أبي سفيان طريقها وإتجهت إلى مكة دون أن يتعرض لها المسلمون , وقعت معركة بدر ولحقت جيش كفار قريش خسارة فادحة بقتل سبعين منهم وأسر المسلمين لسبعين آخرين ، ووقوع أموالهم غنائم في أيدي المسلمين فأختار أبو سفيان بقاء بضائع التجارة التي جلبها من الشام على حالها لم توزع على أهلها لتسخر لمعركة الثأر فكانت معركة أحد ، ليكون من مصاديق ظلم الكافرين أمور :
الأول : تسخير الكفار للأموال التي تحت أيديهم للظلم والجور والتعدي .
الثاني : إصرار الذين كفروا على الجحود والضلالة ، لبيان قانون وهو أن أفعال الكفر من الكلي المشكك ، إذ تكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، وقد أظهر كفار قريش وأعداء الإسلام أشد ضروب الكفر ، وفيه إنذار بتعجيل العذاب للكفار ، وقد ذكر القرآن قصة فرعون لتكون موعظة وعبرة ، وفي قوله تعالى [إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا] ( ).
قال مجاهد : لقد ذكر لنا أنه كان يأمر بالقصب فيشق حتى يجعل أمثال الشفار ، ثم يصف بعضه إلى بعض ، ثم يؤتى بحبالى من بني إسرائيل فيوقفن عليه ، فيجز أقدامهن حتى أن المرأة منهم لتضع بولدها ، فيقع بين رجليها ، فتظل تطؤه وتتقي به حد القصب عن رجليها لما بلغ من جهدها . حتى أسرف في ذلك وكان يفنيهم قيل له : أفنيت الناس ، وقطعت النسل ، وإنما هم خولك وعمالك ، فتأمر أن يقتلوا الغلمان عاماً ، ويستحيوا عاماً ، فولد هرون عليه السلام في السنة التي يستحيي فيها الغلمان ، وولد موسى عليه السلام في السنة التي فيها يقتلون ، وكان هرون عليه السلام أكبر منه بسنة ، فلما أراد الله بموسى عليه السلام ما أراد واستنقاذ بني إسرائيل مما هم فيه من البلاء ، أوحى الله إلى أم موسى حين تقارب ولادها { أن أرضعيه})( ).
الثالث : حمل الكفار المسلمين على القتال والمرابطة وتلقي الخسارة في النفوس والأموال .
الرابع : إغراء الناس بالنبوة وأهل الإيمان ، وهو من الظلم بالتسبيب والمباشرة لأن التحريض على الظلم والعدوان فعل قبيح بالذات والأثر .
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ).
بعد نداء الإيمان في هذه الآية جاء النهي للمسلمين جميعاً عن إبطال الإنفاق والصدقات ، وهذا الإبطال يكون على وجوه :
الأول : المنّ على الفقير كما لو أعطاه ثم ذكّره في يوم آخر بقوله
: ألم أعطك .
: ألم أنفق عليك .
: أتذكر حينما قضيت لك حاجتك .
الثاني : الأذى للفقير بالتعبير أو الإستهانة والإستهزاء , وكأن إعانته تجعله ذليلاً و وهو من الأذى (وعن ابن عباس : بالمنّ على الله تعالى والأذى لصاحبها )( ).
ومن أسرار بداية الآية بنداء الإيمان الثناء على المسلمين وإرادة بلوغهم أسمى مراتب الإيمان ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي] ( ).
وتعاهد الصدقات بعدم المن والأذى من كمال الدين والخلق الحميد ، وحينما آمن المسلمون بالله ورسوله تفضل عليهم الله وهداهم إلى فروع الدين ، وكمالات الإيمان وسبل النجاة يوم القيامة ومنها :
الأول : الإنفاق والبذل .
الثاني : جعل الإنفاق في سبيل الله .
الثالث : إرادة قصد القربة في الإنفاق .
الرابع : عدم إلحاق الأذى بالفقير أو المسكين والذي تتم مساعدته .
وتجعل الآية موضوعية للحالة النفسية للفقير ولزوم وعدم خدشه بالمن .
وفي الآية مسائل بلحاظ أطراف الصدقة من جهات :
الأولى : إرادة العفة والسخاء من المنفق ، وتنزهه عن تعيير غيره بالصدقة .
الثانية : تجلي مصداق لقوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، بالنسبة للفقير ، فالنهي الوارد في آية البحث عن المنّ عليه أو إيذائه يجعله في حال عز وفخر ، ليكون من إعجاز القرآن تلقي الفقير العون والمساعدة مع بقائه عزيزاً لأن هذا المساعدة بفضل من عند الله ، وفيها ثواب عظيم للمنفق .
وإذا قام شخص بالمنّ أو الأذى بعد التصدق فتكون آية البحث على وجوه :
الأول : الآية حجة على المنفق المنان .
الثاني : تبعث الآية الحسرة في قلب المنان لأن المنّ ينقص أو يمحو الثواب .
الثالث :مؤاساة الفقير وزيادة إيمانه لأن الله عز وجل نهى عن المنّ عليه أو إيذائه .
الثالثة : من أطراف الصدقة عموم المسلمين من غير المعطي والآخذ ، وتصلح آية البحث الصلات بينهم وتمنع من الكدورات والغضاضة في النفوس .
إن الصدقة التي تصل إلى الفقير رزق من عند الله عز وجل له ونعمة عليه ، فالمحسن والمنعم هو الله وينتفع المنفق من الصدقة وثوابها أعظم وأكثر مما ينتفع الفقير ، فمع كثرة وعظم النفع على النفق كيف يقوم بالمنّ أو الأذى .
ومع أن الصدقة هبة من الغني إلى الفقير ، ومن الذي يقدر عليها إلى من يفتقر لها فقد ذكرتها الآية بالإبطال [لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ] وتقدير الآية : لا تبطلوا ثواب صدقاتكم ) وهذا المعنى والتقدير لا يمنع من إرادة المعنى الظاهري وهو أن ذات الصدقة فضل ونعمة وشاهد على الإيمان بلحاظ أنها بقصد القربة إلى الله , وفيها تثبيت لسنن الإيمان في الأرض.
ولو منّ المسلم بصدقته فهل ينقص هذا من إيمانه أم يفوته ثواب الجواب هو الثاني بدليل أن الآية تخاطب المسلمين بصفة الإيمان ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد ، وتصديق ذلك في كتاب الله { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات } و { يمحق الله الربا ويربي الصدقات) ( ).
ومع ورود الآية بصيغة النهي إلا أنها تتضمن الثناء على المسلمين لأنها تنسب لهم الصدقات ، وتصفهم بالمتصدقين من منازل الإيمان لذا رحمهم الله عز وجل بهذه الآية التي نزلت من بطنان العرش لتكون هبة للمسلمين وتبين بأن موضوع الصدقة لا ينقطع بدفعها وإعطائها .
فعندما يخرج الإنسان الصدقة يظن أنه أحرز ثوابها ، فجاءت الآية بخصوص ما بعد الصدقة ولزوم عدم إيذاء المتصدق عليه ، وبين المن والأذى اللذين تذكرهما آية البحث عموم وخصوص مطلق ، فالأذى أعم من المنّ ويأتي المن باللسان أو أسارير الوجه أو حركة الأعضاء ولغة الإشارة , أما الأذى فيشمل الفعل والضرب أو البطش ، وحتى بالنسبة للّسان فان الأذى غير المن، لأن في الأذى جرحاً وإساءة .
ومن إعجاز القرآن التأكيد على أمور :
الأول : نزول الرزق من عند الله عز وجل .
الثاني : الإنفاق من رزق الله وبأمره سبحانه .
الثالث : يخلف الله عز وجل الإنفاق في الدنيا ، ويثيب عليه في الآخرة .
الرابع : لزوم تنزه المسلمين عن المن والأذى عند الصدقة .
وهذا المنّ والأذى من جهات :
الأولى : المنّ قبل دفع الصدقة .
الثانية : الأذى قبل دفع الصدقة ، فلا يساعد أو يعطي الفقير إلا بعد أن يذكره بتقصيره وأخطائه , وكيف أنه وصل إلى حال الفقر بسوء فعله أو بتخلفه عن السعي والكسب ، ومنه التسويف بالصدقة ، وإرجاء دفعها وتجديد موعد إعطائها .
وتقدير الآية : لا تبطلوا صدقاتهم بالمن والأذى قبل دفعها .
الثالثة :المن عند دفع الصدقة بكيفية الإعطاء وصيغته ، بينما تكون الصدقة مناسبة لسؤال الفقير للدعاء ، ورجاء المغفرة لأن الله عز وجل هو الذي يتلقى ويتقبل الصدقة .
الرابعة : الأذى عند دفع الصدقة بالغلظة في الكلام والتوبيخ، أو التشديد في الإعطاء أو الإملاء في كيفية الصرف والإنفاق ، وتقدير الآية : ولا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى عند إخراجها ودفعها للمستحق .
ويجب أن لا يكون المسلم الذي يأخذ الصدقة صاغراً ذليلاً عند قبضها ، لذا ورد قوله تعالى [لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا] ( ).
وفي قوله تعالى [لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ]( ) قال الكعبي ( اعتمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمرة القضاء وكانت معه في تلك العمرة أسماء بنت أبي بكر،
فجاءتها أُمّها قتيلة وجدّتها تسألانها وهما مشركتان،
فقالت : لا أعطيكما شيئاً حتّى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنّكما لستما على ديني، فاستأمرته في ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية،
فأمرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول هذه الآية أن تتصدّق عليهما فأعطتهما ووصلتهما)( ).
وهل يمكن إستقراء مسألة من آية التعفف أعلاه بأن من المنّ والأذى إنتظار سؤال المؤمن الفقير بلسانه وطلبوا العون والمساعدة الجواب لا ، إنما المنّ والأذى المقصود هل يصدر من المتصدق أو غيره .
الخامسة : المن بعد دفع الصدقة ، وهو المقصود الأظهر في آية البحث من لفظ [لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ] ومن المنّ أن يتصرف صاحب الصدقة , وكأنه الأعلى مرتبة من الذي أخذها ويظهر الإستغراب والدهشة إن طلب الفقير حقاً له أو سعى للتساوي مع صاحب المال .
السادسة : الأذى بعد دفع الصدقة , وأعطاء الزكاة , وهل التعبير من المنّ أم من الأذى , الجواب هو الثاني .
لقد ذكرت الآية المنّ والأذى والمتبادر إلى الذهن توجه النهي إلى المتصدق نفسه بدليل قوله تعالى [لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ] وهل يمكن التعدد بجهة الخطاب والموضوع , الجواب نعم ، إذ تتقوم الصدقة بأطراف :
الأول : المتصدق .
الثاني : المتصدق عليه .
الثالث : الصدقة .
ويمكن أن يتوجه النهي إلى كل من :
الأول : عيال المتصدق بأن لا يقوموا بالمنّ والأذى لذات المتصدق عليه أو عياله .
الثاني : عموم المسلمين ، فلا يتخذ بعضهم الصدقة سبباً للسخرية والإستهزاء .
الثالث : صدور الأذى من الذي يستقبل الصدقة ، أو ينعت صاحبها بالرياء أو طلب الدنيا .
وعن الحسن البصري قال (قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقاماً للناس فقال : يا أيها الناس تصدقوا أشهد لكم بها يوم القيامة ، ألا لعل أحدكم أن يبيت فصاله راو وابن عمه طاو ، ألا لعل أحدكم أن يثمر ماله وجاره مسكين لا يقدر على شيء ، الا رجل منح ناقة من ابله يغدو برفد ويروح برفد ، يغدو بصبوح أهل بيت ويروح بغبوقهم ، ألا إن أجرها لعظيم .
فقام رجل فقال : يا رسول الله عندي أربعة ذود . فقام آخر قصير القامة قبيح السنة يقود ناقة له حسناء جميلة فقال رجل من المنافقين كلمة خفية لا يرى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمعها : ناقته خير منه .
فسمعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم , فقال : كذبت هو خير منك ومنها ثم قام عبد الرحمن بن عوف فقال : يا رسول الله عندي ثمانية آلاف ، تركت أربعة منها لعيالي وجئت بأربعة أقدمها لله ، فتكاثر المنافقون ما جاء به ، ثم قام عاصم بن عدي الأنصاري فقال : يا رسول الله عندي سبعون وسقاً جذاذ العام ، فتكاثر المنافقون ما جاء به وقالوا : جاء هذا بأربعة آلاف وجاء هذا بسبعين وسقاً للرياء والسمعة فهلا أخفياها فهلا فرقاها .
ثم قام رجل من الأنصار اسمه الحجاب يكنى أبا عقيل فقال : يا رسول الله مالي من مال غير اني أجرت نفسي من بني فلان ، أجر الحرير في عنقي على صاعين من تمر ، فتركت صاعاً لعيالي وجئت بصاع أقربه إلى الله تعالى ، فلمزه المنافقون وقالوا : جاء أهل الابل بالابل ، وجاء أهل الفضة بالفضة ، وجاء هذا بتمرات يحملها ، فأنزل الله { الذين يلمزون المطوّعين . . . } الآية )( ).
وتحذر آية البحث من المنافقين والإنصات لهم , فمن خصائصهم تآزرهم وتعاونهم في الصد عن سبيل الله ، وجاءت هذه الآيات لبعث الخوف في نفوسهم , والمنع من تآزرهم ومناجاتهم بالباطل , قال تعالى[تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى]( ).
لقد تقدمت وفق نظم القرآن سبع آيات من آيات نداء الإيمان جاءت الأولى بصيغة النهي المتحد , ثم الأمر المتعدد [لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا] ( ).
وجاءت الآيات الستة التي بعدها بالأمر بصيغة (افعلوا) كما في قوله تعالى [ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] ( ) أو بلغة الجملة الخبرية كما في قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ] ( ) .
ثم جاءت آية البحث بصيغة النهي الملازم للفعل المأمور به ، وهو الصدقة والإنفاق والبذل ، وجاء النهي عن كيفية نفسانية مذمومة قد تصاحب الإنفاق وهو المنّ على المنفق عليه وإيذائه باللسان أو الفعل ، لبيان قانون وهو أن إبتداء الآية بنداء الإيمان شاهد على لزوم تعاهد الإنفاق بسنخية الإيمان قبل وعند وبعد الإنفاق لتأكيد حقيقة ، وهي أن هذا التعاهد لا يقدر عليه إلا المؤمنون ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي] ( ).
ولم تكتف الآية بالنهي عن المن والأذى بل أخبرت عن بطلان الصدقات والحرمان من ثوابها عند وصول المنّ على الفقير أو تلقي الأذى بسببها .
لقد شرعنا في هذا السِفر بعلم (سياق الآيات ) الذي تستقرأ منه ذخائر وعلوم لا تعد ولا تحصى .
وقد أنعم الله عز وجل علينا بصدور أجزاء بالصلة بين شطر من آية بشطر من الآية التي تجاورها( ) ويمكن إنشاء علم فرعي مستقل وهو سياق آيات النداء ، فآية النداء السابقة التي وردت قبل سبع وأربعين آية تتضمن الأمر بالإنفاق والصدقة بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ] ( ) لتأتي آية البحث فتنهى عن أمور يجب ألا تصاحب أو تتعقب الصدقة .
وذكرت الآية أعلاه الإنفاق ، أما آية البحث فذكرت الصدقات وتحتمل النسبة بينهما وجوهاً:
الأول : نسبة التساوي , وأن الصدقة هي ذاتها الإنفاق .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهي على شعبتين :
الأولى : النفقة أعم وأوسع من الصدقة .
الثانية : الصدقة أعم من النفقة .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه , فهناك وجوه للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
الرابع : نسبة التباين والإختلاف بينهما .
الخامس : إرادة تعدد وتباين النسبة بين الإنفاق والفرد الواحد من الصدقة ، وبين الإنفاق المتحد والصدقة المتعددة , لذا وردت الآية بصيغة الجمع ( صدقاتكم ) .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني ، لذا سميت آية الزكاة بآية الصدقات وهو قوله تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ] ( ).
وقد ورد لفظ [الصَّدَقَاتُ] في القرآن سبع مرات في ثلاث سور وهي : ورد مرتين في سورة البقرة وأربع مرات في سورة التوبة وواحدة في سورة المجادلة ، قال تعالى [يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ] ( ) ولم يرد لفظ [صَدَقَاتِكُمْ] إلا في آية البحث وهو جمع صدقة ، والمراد على وجوه :
الأول : ما يتصدق به المسلم .
الثاني : الصدقة التي تعطيها وتدفعها المسلمة .
الثالث : الصدقة التي يتبرع بها المسلمون مجتمعين .
الرابع : صدقة بيت المال على المتحد والمتعدد , وهل يدخل في المساعدات بين الدول , أم أن القدر المتيقن من الآية الصدقة الشخصية وصدقات الأفراد ، والمختار هو الأول ، وهو من الإعجاز في مجئ الآية بنداء الإيمان وصيغة الجمع من طرفين :
الأول : مجئ لفظ الصدقات بصيغة الجمع .
الثاني : توجه الخطاب للمسلمين على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي والبدلي .
وقد ورد لفظ [صَدُقَاتِهِنَّ] بقوله تعالى [وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ] ( ) أي مهورهن .
وعن عاد بن ربيعة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من نكح امرأة وهو يريد أن يذهب بمهرها فهو عند الله زان يوم القيامة) ( ).
وتنحل آية البحث إلى وجوه :
الأول : يا أيها الذي آمن لا تبطل صدقتك بالمن والأذى .
الثاني : يا أيها الذي آمن لا تبطل صدقاتك بالمن والأذى .
الثالث : يا أيتها اللائي آمنت لا تبطلي صدقاتك بالمن والأذى .
الرابع : يا أيتها اللائي آمنّ لا تبطلن صدقاتكن بالمنّ والأذى .
وينشطر كل وجه أعلاه إلى قسمين مرة بخصوص المنّ وأخرى بخصوص الأذى ، ترى لماذا جاءا في الآية مجتمعين , ولم يرد أحدهما ، أو يكون أحدهما في آية البحث والآخر في آية أخرى ،
الجواب من خصائص البيان القرآني وقوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ) أنه تعليم إرشاد وسبيل هداية , وسيبقى البيان القرآني مانعاً من الجهالة والغرر , لذا جاءت آيات نداء الإيمان بذكر فضل الله عز وجل على المسلمين ونسبة الطيبات والأموال التي في أيديهم إلى الله عز وجل , وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : لا تبطلوا صدقاتكم التي أنعم الله عز وجل عليكم بها.
الثاني : لا تبطلوا صدقاتكم التي هداكم الله لها .
الثالث : لا تبطلوا صدقاتكم التي تؤدونها بقصد القربة إلى الله عز وجل .
الرابع : تعاهدوا صدقاتكم بالتوقي والحصانة من المن والأذى .
ثم جاءت الآية بلغة تشبيه تتضمن التحذير بقوله تعالى [كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ] ( ) وقد يكون الرياء سبباً لزيادة الإحسان وليس للأذى والضرر , فكيف جعلته الآية مشبهاً به ، الجواب من جهات :
الأولى : إرادة الإلتقاء في بطلان الصدقات فان صدقة الذي يرائي الناس مع عدم إيمانه بالله واليوم الآخر باطلة ولا يترتب عليها الثواب .
فيكون التشبيه خاصاً بالبطلان ، وفيه نكتة وهي نفرة نفوس المسلمين من المن والأذى مع الصدقة وإستحضار المسلم الآية والحرص على عدم المن أو الأذى في كل مرة يتصدق فيها .
الثانية : جعل موضوع الصدقة مناسبة لبيان التباين والتضاد بين المسلمين وغيرهم ، لإتصاف المسلمين بالإيمان بالله واليوم الآخر ، وهو من أسرار إبتداء الآية بنداء الإيمان .
الثالثة : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفتهم لأمور :
الأول : وجوب الصدقة والإنفاق .
الثاني : التنزه عن المنّ وتعيير الفقير .
الثالث : إقتران الصدقة بالإمتناع عن الأذى ، وجعلت آية البحث هذا الإمتناع أمراً حصرياً .
الرابع : إحاطة المسلمين علماً بأن الرياء قبيح ذاتاً وعرضاً .
الخامس : تأكيد قانون وهو وجوب جعل الإنفاق خاصاً لوجه الله وطاعة له سبحانه ، لذا قال تعالى [أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ] ( ).
وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : الملازمة بين الرياء والكفر والجحود .
الثاني : من خصائص الكافر أنه لا ينفق إلى رياءً .
الثالث : بيان التعدد وإرادة الإستئناف من الواو في ولا يؤمن بالله فمن الذين كفروا من ينفق سراً ومن غير رياء ، ومنهم لا ينفق إلا رياء .
والصحيح هو الأول والثاني ، ومن إعجاز الآية الذاتي واللفظي تسميتها لما ينفقه المسلمون بالصدقات ، وما ينفقه الكفار بأنه مال .
والصدقات جمع صدقة وهو المال أو اللباس أو الطعام والأعيان التي تعطى للفقير والمسلمين تطوعاً بقصد القربة إلى الله عز وجل وليس بعنوان الفضل والمكرمة .
وتخبر آية البحث عن ورود ذكر الصفوان وهو مشبه به ، ويحتمل المشبه به في المقام وجهين :
الأول : إرادة الكافر المرائي الذي ينفق المال .
الثاني : المقصود ذات المال الذي ينفقه الكافر المرائي .
والصحيح هو الثاني .
فينفق المسلم ماله لإرادة المثوبة من عند الله والذي يتبع صدقته بالمن والأذى يحرم من ثوابها ، كما يحرم منه الكافر الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، ولا ينفق من ماله إلا للرياء وطلب الثناء والمدحة والشهرة بالإحسان بين الناس , وقد ينفق المنافق مكرهاً أو تورية .
لتبين الآية قانوناً وهو أن بطلان صدقة المسلم لا يكون إلا بالعرض ، أما بطلان صدقة الكافر فيكون بالذات والأثر ، فالأصل في صدقة المسلم هي القبول وترتب الثواب والأجر عليها إلا أن يأتي المن والأذى ، فتفضل الله عز وجل وأنزل آية البحث بنداء الإيمان لإحتراز وعصمة المسلمين من الموانع التي تحول دون قبولها.
ثم تضمنت الآية التفصيل والتشبيه الإضافي لحال الكافر بما يجعل المسلمين يتناجون للتوقي من المن والأذى المصاحبين للصدقة ، فيكون حال إنفاق الكافر كالتراب الذي يكون على صخر صلد أملس فيظنه الناظر أنه أرض مناسبة للبذر والزراعة والحرث ، فاذا هطل عليها المطر جرف الماء التراب من سطح الصخر والصفوان الصلد ، فظهر للناظرين أملس لا تنبت فيه زراعة , وفيه تحذير للمسلمين والناس جميعاً من الإفتتان بأثرياء الكفار الذين يتنعمون بالأموال رياء ، إنما هذه الأموال عديمة النفع في الآخرة ، فالمدار على الإيمان وإرادة قصد القربة إلى الله .
والصفوان : جمع صفوانة وهو ( الحجر الأملس سمي به لصفائه ) وقيل أنه ألين من الحجارة , وكلاهما يفيد معنى عدم إمكان البذر والزرع فيه ، لبيان أن عمل الكافر يذهب هباءً.
وأما الوابل فهو المطر الشديد والكبير القطر ، وله وقع وأثر بحيث يزيح التراب ويكشف الصخر , وقوله تعالى [فَتَرَكَهُ صَلْدًا] الصلد من الحجارة ما كان صلباً ليس بلين .
وجاء التشبيه في بطلان الصدقات بين كل من :
الأول : المسلم الذي يلحق صدقته بالمن .
الثاني : الذي يقرن نفقته بالأذى .
الثالث : الذي ينفق ماله رياء للناس .
و(عن شداد بن أوس ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من صلى مرائيا فقد أشرك ، ومن صام مرائيا فقد أشرك ، ومن تصدق مرائيا فقد أشرك . فقال عوف بن مالك : أفلا يعمد الله إلى ما كان له من ذلك فيقبله ويدع ما سوى ذلك ؟ قال : فقال شداد : أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : قال الله عز وجل : أنا خير شريك أو قسيم ، من أشرك بي فعمله قليله وكثيره لشريكي وأنا منه برئ ) ( ).
الرابع : نفقة الكافر الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر فالذي ينفق ماله تبطل صدقته ، وهل تشمل الآية المسلم الذي ينفق رياء الجواب لا، بلحاظ واو الجماعة في الآية إذ جمعت بين أمرين :
الأول : الرياء .
الثاني : الكفر والجحود ، إلا أن يقال الآية أعم , وتحمل على معنيين :
أولاً : ظاهر وهو إرادة الكافر الذي ينفق رياء .
ثانياً : الذي ينفق رياء مطلقاً سواء كان مسلماً أو غير مسلم ويكون تقدير الآية : كالذي ينفق ماله رئاء الناس , وكالذي ينفق ماله ولا يؤمن بالله واليوم الآخر .
والمختار أن الواو في الآية تفيد الجمع وأن الوجه ثانياً أعلاه لا دليل عليه ، لبيان قانون من فضل الله على المسلمين وهو أن الرياء في صدقة المسلم لا يبطلها ، وهو من أسرار إبتداء الآية بنداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فهذا الإيمان خصلة كريمة وكيفية نفسانية تمنع من إستحواذ الرياء على قصد نية المسلم على نحو السالبة الكلية ، فلابد أن يكون هناك قصد وإرادة الثواب في عمل المسلم .
وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا تصدقوا وأنفقوا فان الصدقة ملازمة للإيمان ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : المؤمنون يتصدقون .
الصغرى : المسلمون مؤمنون .
النتيجة : المسلمون يتصدقون .
فان قلت بعض المسلمين ليس عنده وافر مال يتصدق منه , والجواب من جهات :
الأولى : تبين الآية قانوناً وهو وجوب تصدق كل مسلم ، وتقدير الآية بصيغة الإنفراد : يا أيها الذي آمن تصدق ولا تبطل صدقتك بالمن والأذى .
الثانية : البشارة بأن كل مسلم يقدر في أيام من حياته على الصدقة ، قال تعالى [فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرً] ( ).
الثالثة : الصدقة أعم من أن تكون بالمال فتشمل الإحسان وصيغ المودة والرحمة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (الكلمة الطيبة صدقة ، وكل خطوة تخطوها إلى المسجد صدقة)( ).
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم ) ، فصحيح أن الآية ذكرت المن والأذى لكنه لا يفيد حصر البطلان به بل لبيان فرد راجح الحدوث , وأمر شائع بين الناس في الأزمنة المختلفة .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا تعاهدوا صدقاتكم وحافظوا عليها).
فلا يختص الأمر بالإنفاق والصدقة ، فلابد من الحرص على لوازم الصدقة ومنها تعقبها بالشكر لله عز وجل للتوفيق لأداء الصدقة وإجتناب المنّ والتعيير للفقير ، لبيان قانون وهو أن المن والأذى الذي يتعقب الصدقة يسبب الضرر الخاص والعام ، ويجعل الفقير لا يميل إلى قبول الصدقة , فيلاقي الويلات والشقاء ، أو يميل إلى الجناية والجريمة .
الرابع : إخبار المسلمين والمسلمات بأن كلاً من المنّ والأذى قبيح بذاته وأثره ، ففي الآية تأديب للمسلمين فاذا كان المن والأذى المصاحبين أو المتعقبين للصدقة منهياً عنهما ، فمن باب الأولوية القطعية حرمتهما بالذات ، وفي حال عدم الصدقة والإحسان.
وتؤكد الآية على حقيقة وهي أن المسلمين يتصدقون وينفقون من أموالهم في سبيل الله، وفي قوله تعالى[لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ] دلالة على إستجابتهم لأمر الله تعالى في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ]( )، وهو غاية الإكرام والتأديب والإصلاح.
لقد حارب القرآن النفاق، ووعد المنافقين بأشد العقاب، وجاءت آية البحث في ذم الرياء ولكن ليس من طائفة إسمها المراؤون مثلما هو حال المنافقين فان قلت ورد قوله تعالى [الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ]( ) .
الجواب جاءت هذه الآية في ذم الذين يسهون عن صلاتهم ويراءون الناس، والآيات مكية , والنفاق يحبط العمل، أما الرياء فلا يحبط الأعمال، ولكن الإحباط يتعلق بذات فعل الرياء.
ومن تفسير آية البحث في السنة النبوية ما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التحذير من الرياء .
وعن أبي سعيد الخدري قال : كنا نتناوب (1) النبي صلى الله عليه وسلم تكون له الحاجة أو يرسلنا لبعض الأمر ، فكثر المحتسبون من أصحاب النوب ، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر الدجال فقال : ما هذا النجوى ؟ ألم أنهكم عن النجوى، قال : قلنا يا رسول الله ، كنا نتذاكر المسيح الدجال فرقا منه ، قال : غير ذلك أخوف عليكم : الشرك الخفي ، أن يعمل الرجل لمكان الرجل)( ).
والرياء مصدر مشتق من الرؤية، بأن بعمل الإنسان ليراه غيره من الناس، ولا يقصد بعمله وجه الله، يقال راءى يرائي رياءً فهو مراء , وقد يرغب المسلم بأن يرى الناس حسن سمته وطاعته لله فلا يعني هذا أنه رياء لأنه كالضميمة وفي طول قصد القربة والإخلاص في عبادة الله، وقد تكون الغاية تعظيم شعائر الله ودعوة الناس للإقتداء به، ومن أجل دفع الظنة عن نفسه أو أن يأتي إطلاع الناس عليه بالعرض كالذي يؤدي صلاته في المسجد أو يصوم في اليوم الحار ويدمن على الحج.
وعن عبد الله بن الصامت قال أبو ذر : يا رسول الله : إن الرجل يعمل لنفسه ، ويحبه الناس ؟
قال : تلك عاجل بشرى المؤمن( ).
والرياء في العمل العبادي هو الذي يأتى به صاحبه ليراه الناس، أما السمعة فهي إخفاء العمل لله ثم التحدث به وإخبار الناس عنه وفي الرياء أطراف :
الأول : الفعل العبادي .
الثاني : إراءة الناس للفعل العبادي , ويسمى هذا الفعل المرائى به.
الثالث : الذين يحرص المكلف على رؤيتهم لفعله العبادي .
ومن إعجاز آية البحث أنها لم تنعت المسلمين بالمرائين، ولم تقل لهم لا تبطلوا صدقاتكم بالرياء بل جاءت بذم المرائين من غير المسلمين، ممن لا يؤمن بالله عز وجل واليوم الآخر، أما المسلمون فان الإيمان برزخ دون نعتهم بالرياء، لذا إبتدأت الآية بنداء الإيمان.
ولعل في الآية تأديباً للمسلمين بأن لا ينعت بعضهم بعضاً بالرياء، ولا أن تكون صدقة المؤمن سبباً لتبكيته وذمه , وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة التشبيه وذم الغير في الفعل المذموم، وكأن الآية تقول للمسلمين أنكم منزهون عن الرياء ولكن نحذركم من إلحاق الصدقات بالمن والأذى، ليكون هذا التنزه واقية من المن والأذى، وسبيلاً للإمتثال لما في الآية من النهي.
ويتضمن نداء الإيمان إكرام المسلمين ، وتتضمن آية البحث الثناء عليهم من جهات :
الأولى : إبتداء الآية بنداء الإيمان ، وما يدل عليه من مدح المسلمين , والشهادة لهم بالإيمان .
الثانية : إخبار الآية عن قيام المسلمين بالتصدق والإنفاق في سبيل الله .
الثالثة : يدل النهي [لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ] بالدلالة التضمنية على أن صدقات المسلمين لم تبطل ، نعم المراد من الآية مطلق الصدقات من عموم أجيال المسلمين المتعاقبة ، وفيه دعوة لسؤال الله عز وجل العفو والرحمة وقبول الصدقات ، قال تعالى [وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا] ( ).
الرابعة : الفصل والتمييز بين المسلمين وأهل الرياء بلحاظ النهي عن محاكاتهم ، ومن إعجاز القرآن تنبيه وتحذير المسلمين من التشبه بالذين كفروا ، قال تعالى [لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا] ( ).
الخامسة : ذم وتبكيت الذين كفروا والذين يقرنون مع الكفر والجحود مراءاة الناس والتزلف إليهم ، بدل إخلاص العبادة والعمل الصالح لله عز وجل ، مع سلامة المسلمين من هذا الذم .
وهذه السلامة من تلاوة آية البحث وما فيها من التبكيت للذين كفروا من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ومع أن الآية خاطبت المسلمين بنداء الإيمان وصيغة الجمع فانها ذكرت المشبه به المذموم والذي تحذر منه ومن محاكاته بفعله بصيغة المفرد [كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ] وهو من الإعجاز في آية البحث لبيان إحتراز المسلمين من الذين كفروا ومن التشبه بهم ، وجاءت الآية لتثبيت هذا الإحتراز والتأكيد الموضوعي له .
ومن وجوه التباين بين المؤمنين والكفار أن إنفاق المسلمين معوض إذ يتفضل الله عز وجل بالبدل والعوض مع الثواب العظيم العاجل والآجل ، أما بالنسبة للذين كفروا فقد قال الله تعالى [لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا]أي لا يستطيعون إرجاعه ، وهم محرومون من العوض من عند الله ، وتلك آية في قوانين الرزق الإلهي للناس بأن يأتي الخلف والعوض للمؤمن على إنفاقه ، ويبارك الله في رزقه ، بينما ينعدم العوض بالنسبة للكافر ، وفيه أمارة على زيادة أموال المؤمنين وإصابة الذين كفروا بالعوز والفقر مع تقادم السنين لأنهم ينفقون من غير عوض لذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ].
ومن معاني قوله تعالى [لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا] وجوه :
الأول : بيان حقيقة وهي أن الرزق من عند الله ، وأن الذي عند الكفار من الرزق هو من فضل الله ورحمته بالعباد .
الثاني : لو ترك الذين كفروا وشأنهم لم يستطيعوا الكسب والرزق والإنفاق .
الثالث : لا يقدر الذين كفروا على تعويض ما أنفقوا ، لتبين الآية قانوناً وهو أن الرزق على قسمين :
الأول : الرزق المكتوب من عند الله للعبد .
الثاني : الرزق الذي يأتي عوضاً عن الإنفاق والصدقة طاعة لله عز وجل .
أما القسم الأول فيشترك فيه الناس جميعاً ، قال سبحانه [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] ( ) وأما القسم الثاني أعلاه فان العوض والبدل خاص بالمؤمنين , وهو من فضل الله عز وجل ، قال تعالى [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ] ( ).
ولو قام المسلم بالمن أو الأذى مع الصدقة , فماذا يحصل بخصوص الرزق ، فيه وجوه :
الأول : إصابة رزق المسلم بالنقص .
الثاني : لا نقص في رزق المسلم ولكن العوض ومضاعفة الرزق تقل أو تنعدم .
الثالث : ليس من صلة بين مصاحبة الصدقة بالمن والأذى وبين مضاعفة الرزق ، وهو من فضل الله وسعة رحمته ، ومن منافع إبتداء آية البحث بنداء الإيمان .
وقد ورد الإطلاق في مضاعفة الرزق عند الإنفاق بقوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ) إلا أن يثبت وجود مخصص في البين لإطلاق الآية والنهي عن إبطال الصدقات بالمن والأذى لا يفيد حجب العوض والبدل ، وقد يؤدي هذا العوض بدلالة الآية بالدلالة التضمنية على توالي وإتصال قيام المسلمين بالتصدق والإنفاق .
وأختلف في الواو على قولين :
الأول : إنها لمطلق الجمع كالتثنية .
الثاني : الترتيب .
والمختار أن الواو قد تفيد الترتيب أو تدل على مطلق الجمع أو تفيدهما معاً ، ومنه آية البحث إذ أنها تفيد الترتيب والجمع ، فتحذر من المن وحده ، ومن الإفراط فيه حتى بلوغ مرتبة الأذى ، كما أنها تفيد النهي عن الأذى وحده الذي قد يصدر فجأة من غير أن يكون في البين منّ ، كما لو ظن المنفق أن الفقير جحد نعمته وأنه يستحق الإيذاء لعدم مقابلة الصدقة بالشكر ، مع أن الإيمان بالله واليوم الآخر الذي تذكره آية البحث يتضمن في معانيه أن الله هو الرزاق وأن الصبر على هذا الجحود سبب للثواب العظيم في الآخرة .
وليس من قاعدة كلية في المقام إنما المدار على الموضوع ولحاظ القرائن اللفظية والعقلية والشرعية والعرفية , وتفيد الآية وجوهاً :
الأول : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن .
الثاني : لا تبطلوا صدقاتكم بالأذى .
الثالث : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى .
ومع مجئ الآية بصيغة النهي عن المن والأذى فانها تتضمن الترغيب بالتصدق والإنفاق في سبيل الله فقوله تعالى [لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ]أي أكثروا من الصدقة والبذل في سبيل الله ويجب أن لا يصاحب هذا الإكثار المن والغرور والإيذاء للمحسن عليه أو لغيره ، ولعله من شرائط خلافة الإنسان في الأرض , وإكرام الله لخلقه .
لقد أراد الله عز وجل للحياة الدنيا أن تكون دار الإيمان ، والإنفاق في مرضاته بما يشيع مفاهيم الإيمان ويحببه إلى النفوس ، ويبعث الناس على التعاون لمنع الفساد في الأرض ، لأن ذات الصدقة حرب على الفساد ، فحينما إحتج الملائكة كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) فكان من علم الله عز وجل وجود أمة مؤمنة تتصدق وتنفق في سبيل الله ، وكل صدقة حرب على الفساد .
وهل المن والأذى اللذان تذكرهما آية البحث من الفساد الذي تذكره الآية أعلاه , الجواب لا، من جهات :
الأولى : إبتداء الآية بنداء الإيمان بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فهذا النداء شاهد على تعلق الموضوع بالمؤمنين الذي يعمرون الأرض بالصلاة وذكر الله ، الذين يدعو لهم الملائكة بكرة وعشياً .
الثانية : إخبار الآية عن قيام المسلمين بالصدقة والإنفاق ومنع المجاعة وشدة الفاقة .
الثالثة : لم تنه الآية عن فعل موجود فعلاً من المن والأذى ، إنما تنهى عن إحتمال مصاحبته للصدقات ، فلم تقل الآية : لِمَ تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) بل أخبرت عن موضوع الصدقات ، وأمضته , ونهت عن صدور المن والأذى .
الرابعة : مجئ الآية بالتشبيه الممتنع أصله إذ ذمت الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر .
الخامسة : تضمنت خاتمة الآية حرمان الذين كفروا بقوله تعالى [وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ].
فمن إعجاز الآية إبتداؤها بنداء الإيمان وحال المسلمين الزاهر والبهيج بافشائهم للصدقات لتختتم بالإخبار عن حرمان الذين كفروا من الهداية التي تأتي من عند الله ، لتدل خاتمة الآية في مفهومها على أمور :
الأول : بيان فضل الله بهداية المسلمين إلى منازل الإيمان .
الثاني : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة الهداية والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : يشمل الإيمان التصديق بكل آية من عند الله عز وجل ، ولا يختص الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإجمال فكل إيمان بمعجزة من معجزاته العقلية والحسية فيه ثواب , وهو من مصاديق الإيمان في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الرابع : دعوة المسلمين للشكر لله بلحاظ آية البحث على مسائل:
الأولى : الإيمان بالله واليوم الآخر والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : بلوغ مرتبة الإيمان والسلامة من النفاق .
الثالثة : تلقي نداء الإيمان من عند الله ، ومن الآيات تعدد وتكرار هذا النداء في القرآن ، لتترشح مسائل عديدة في كل مرة يرد فيها هذا النداء في القرآن ، منها :
الأولى : حث المسلمين على الشكر .
الثانية : هذا النداء واقية من الإرتداد .
الثالثة : بيان قانون وهو الإيمان واجب ومطلوب في كل ساعات العمر ، لذا ورد قوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ).
الرابعة : مناجاة المسلمين وتخاطبهم بصفة الإيمان , لشهادة الله عز وجل لهم , وفي التنزيل وكفى بالله شهيدا.
الخامس : إخبار الآية بقيام المسلمين بالتصدق من أموالهم .
السادس : نهي المسلمين عن إبطال صدقاتهم ، وذكرت الآية (المن والأذى ) كمبطل للصدقة ليكونا من باب المثال الجلي والسبب ذي الأثر الظاهر ، وهل هو مثل قوله تعالى [فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ] ( ) وما يدل عليه من المنع عن زجر أو ضرب الوالدين من باب الأولوية القطعية .
الجواب الفرق بينهما أن قول [أُفٍّ] أدنى مراتب العقوق ، فيكون النهي عما أظهر وأشد منه من باب الأولوية واللزوم , أما بالنسبة للنهي عن المن والأذى فهو من باب الفرد الأمثل .
السابع : إحتراز المسلمين عن إبطال صدقاتهم , وما ينفقون في سبيل الله عز وجل .
الثامن : تأكيد التباين بين المسلمين والكفار في الإيمان والقول والفعل .
ولقد جاءت آية البحث لتعليم وتأديب المسلمين فتضمنت ذم الذين كفروا وتخويفهم ووعيدهم وكأنها تقول لهم أنظروا إلى النعيم الذي فيه المسلمون إذ يتلقون نداء الإيمان من عند الله ، وهذا التلقي بشارة الأمن يوم القيامة بينما يتوجه إلى الذين كفروا الإنذار والتبكيت .
التاسع : إكرام المسلمين بمخاطبتهم بلغة التشبيه وبيان حال الذين كفروا ، إذ تأتيهم النعم كما ينزل المطر والغيث من السماء ولكنهم لا ينتفعون منها , ولا من ذات المطر الذي يصيب الله به البر والفاجر ’ فتكون عاقبتهم إلى خسران حتى مع توالي النعم .
العاشر : قيام المسلمين بتلاوة آية البحث وما فيها من الإنذار والوعيد للذين كفروا .
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ]( ).
قد تقدم في تفسير آية النداء السابقة إنشاء علم جديد هو (سياق آيات النداء ) وتضمنت الآية الحث على الإنفاق والصدقات ببيان اللازم وهو تنزه المتصدق عن المنّ والأذى ، أمّا آية البحث فتضمنت الحث على الإنفاق وتقييده بأنه من الطيبات ، وقد تقدم قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ…]( ).
كما ورد ذكر الطيبات أيضاً ولكن ليس في الإنفاق إنما في الأكل بتنعم الذات والعيال بالرزق الكريم بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ…]( ).
وورد كل فرد منهما بصيغة التبعيض [مِنْ طَيِّبَاتِ] مما يدل على أن الرزق الكريم من الطيبات يكون على وجوه :
الأول : يأكل المالك من الطيبات .
الثاني : ما ينفقه المالك من الطيبات .
الثالث : ما يبقى نافلة وزيادة من فضل الله عز وجل .
(عن يسار بن الحكم قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بز( ) من العراق ، وكان معطاء كريماً ، فقسمه بين الناس ، فبلغ ذلك قوماً من العرب ، فقالوا : نأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنسأله؟ فوجدوه قد فرغ منه ، فأنزل الله {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك}( ) قال : محبوسة { ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً} يلومك الناس {محسوراً} ليس بيدك شيء) ( ).
وتدل هذه الآيات على أمور :
الأول : البشارة بالرزق الواسع الكريم للمسلمين ، وأن الدنيا مقبلة عليهم .
الثاني : مجئ الرزق الكريم للمسلمين ، ليكون وسيلة لتثبيت سنن الإيمان في الأرض ، وتهذيب النفوس ، ولما إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) أجابهم الله عز وجل بأنه سبحانه يعلم ما لا يعلمون .
ومن علمه تعالى هداية المسلمين لكيفية الإنفاق الذي هو حرب على الفساد , وبرزخ دون سفك الدماء بلحاظ وجود أمة في الأرض , وهو المسلمون يتصفون بخصال حميدة وهي :
الأولى : تلقي فضل الله عز وجل بمناداتهم بنداء وصبغة الإيمان.
الثانية : طلب الرزق بالحلال , الذي يدل بالدلالة التضمنية على تفقههم في الدين .
الثالثة : الأكل من الطيبات على نحو الإقتصاد .
الرابعة : المبادرة إلى الإنفاق في سبيل الله بالمعروف .
الخامسة : إرادة قصد القربة إلى الله عز وجل في الإنفاق من جهات :
الأولى : ذات الإنفاق في سبيل الله مثل بناء المساجد وإعانة المرابطين، وطبع الكتب الإسلامية، وإعانة الفقراء.
الثانية : مقدار مبلغ الإنفاق.
الثالثة : كيفية الإنفاق.
الرابعة : التنزه عن المّن والأذى بلحاظ أن هذا التنزه أمر وجودي.
الخامسة : عدم التسويف في الإنفاق أو تأخيره عن أوانه.
السادسة : شكر المسلم لله عز وجل على توفيقه للإنفاق في سبيله .
السابعة : جاءت الآية بصيغة الجمع مما يدل على تعاون وتآزر المسلمين في الإنفاق .
الثامنة : الإنفاق في سبيل الله حرز من الغواية.
وقد جاءت الآيات بالتحذير من الشيطان بقوله تعالى [وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
فمن عداوة الشيطان للمسلم محاولة صده عن الإنفاق في سبيله الله، والوسوسة للإنسان للإنفاق والبذل في زينة الدنيا الخالية من الأجر والثواب.
التاسعة : حرص المسلم على إجتناب الإنفاق من الردئ والخبيث، إذ أن استحضار قصد القربة مقدمة وطريق لإنفاق الطيب والنافع .
وهل مناجاة المسلمين بالإنفاق من الطيبات، وبذل الكثير من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجواب نعم .
الثالث : وجوب الإنفاق في سبيل الله , والإمتناع عن البخل والشح .
الرابع : تقييد الإنفاق بأنه من الطيبات التي رزق الله عز وجل المسلم ، ومن خصائص نداء الإيمان إعلان تنزه المسلم عن كسب المال الحرام أو الإنفاق منه .
الخامس : النهي عن إعطاء الخبيث والردئ من الصدقة .
ويحتمل ذكر الطيبات في الآية وجوهاً :
الأول : الكسب الحلال .
الثاني : الطعام والنوع الجيد من المأكول والملبوس وغيرهما .
الثالث : الزراعات وما يخرج من الأرض من النبات والمعادن, وقيدت الآية الطيبات بأنها من المكاسب , والكسب تنمية لملكة العمل عند المسلمين .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا انفقوا مما أخرجنا لكم من الأرض .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لا تيمموا الخبيث منه تنفقون .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا لا تنفقوا ما لستم بأخذيه إلا أن تغمضوا فيه .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا اعلموا أن الله غني حميد .
السادس : أنفقوا مما كسبتم ولا تيمموا الخبيث منه .
السابع : أنفقوا مما كسبتم وأعلموا أن الله غني حميد .
الثامن : ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون , وأعلموا أن الله غني حميد .
لقد أكرم الله عز وجل المسلمين بنداء الإيمان ثم تفضل وأكرمهم بالإنفاق من الطيب , وهو الأمر الملائم للإيمان بالنسبة للمنفق والمنفق عليه .
ومن الإعجاز في الآية مراعاتها لموضوعية الزمان والمكان والحال ، وما يتعارف الناس على أكله وشربه , فجعلت الملاك هو أن يأخذ الإنسان الصدقة من غير تنفر نفسه منها قبل أو أثناء الأكل ، وورد في أسباب نزول الآية (عن البراء بن عازب في قوله { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } قال : نزلت فينا معشر الأنصار كنا أصحاب نخل ، كان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته وقلته ، وكان الرجل يأتي بالقنو والقنوين فيعلقه في المسجد ، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام .
فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر والتمر فيأكل ، وكان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص والحفش وبالقنو قد انكسر فيعلقه ، فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه } قال : لو أن أحدكم اهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذه إلا عن اغماض وحياء . قال : فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده ) ( ).
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نوعين من التمور أن يؤخذا في الصدقة , وهما الجعرور ولون الحبيق .
(عن عطاء قال : علق إنسان حشفاً في الاقناء التي تعلق بالمدينة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما هذا؟! بئسما علق هذا . فنزلت { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } )( ).
وفي الآية دروس أخلاقية ومواعظ , وتجعل موضوعية للسخاء والخلق الكريم في الإنفاق والبذل والعطاء ، وقد تحدث الإنسان نفسه عندما يهّم بالإنفاق بالحرص على الجيد وبالإنفاق من الردئ لقصد بيع الجيد على حاله أو الإنتفاع منه ساعة الشدة والفاقة ، والخوف من الفقر , وتأخر البدل , قال تعالى [إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي] ( ) .
فجاءت آية البحث لتبعث المسلم على الإنفاق من الطيبات والجيد من المأكول والملبوس ، وتمنع من إستحواذ النفس الشهوية وأسباب الحرص .
وتضمنت الآية الإخبار عن مصدرين للإنفاق :
الأول : الكسب الحلال للمسلمين .
الثاني : ما أخرجه الله عز وجل من الأرض للمسلمين من الزراعات والثمار .
وهل في الآية بشارة الثروة المعدنية وإستخرج النفط , الجواب نعم ، وهو الآية العظمى في هذا الزمان بذاته كرزق كريم وسبب للثورة الصناعية وإنتفاع الناس جميعاً منها ولوجوده وإستخراج أكثره في البلاد الإسلامية على نحو الخصوص ، فتجد دولة كبيرة مترامية الأطراف ليس فيها نفط ولا غاز ، وتجد دولة صغيرة كالقرية بالنسبة لتلك الدولة فيها النفط والغاز والإحتياطي منهما معاً أو من أحدهما .
وكأن آية البحث تحث المسلمين على الإنفاق من أموال النفط في سبيل الله ، وتعظيم شعائره ومن غير منّ أو أذى ، لأن آية نداء الإيمان السابقة نهت عنهما بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى].
[وَلاَ تَيَمَّمُوا] أي ولا تقصدوا وتسعوا إلى إنفاق الخبيث ، وقيل هو الحرام والمستقذر لقوله تعالى [وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ] ( ) ، ولكن معناه يستقرأ من موضوعه وهو الإنفاق من منازل الإيمان , فيراد منه الصنف الردئ من المأكول أو الملبوس كالأدنى من أصناف التمر أو الحبوب ، والآية تنبيه وتأديب في خصوص المال الذي تستخرج منه الزكاة .
وعن أبي سعيد الخدري (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعمل رجلا على خيبر ، فجاءه بتمر جنيب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أكل تمرك هكذا ، قال : لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاث ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فلا تفعل بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا) ( ).
والجنيب نوع جيد من أنواع التمور , والصاع مكيال المدينة لمعرفة مقدار الحبوب ويكون أربعة أمداد وكل مد نحو ثلاثة أرباع كيلو غرام ، فيكون الصاع نحو ثلاث كيلوات ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم إبتع : أي إشتر .
ويمكن إنشاء قانون وهو لنداء الإيمان في الآية موضوعية في بيان معنى الكلمات الواردة فيها ، فقد خاطبت الآية المسلمين بصفة الإيمان فان لفظ (الخبيث) فيها لا يحمل على الكسب الحرام ، إنما يحمل على النوع الردئ ، ومن الآيات أن هذا المعنى لا يقف عند نداء الإيمان بل يتجلى من جهات أخرى :
الأولى : الأمر للمسلمين بالإنفاق , ووردت الآية بصيغة الإطلاق [وَأَنفِقُوا]وهي قصيدة بقوله تعالى [وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
الثانية : تقييد الإنفاق بأنه من الطيبات ، ويحتمل لفظ الخبيث في الآية وجوهاً :
الأول : الخبيث ضد الطيب .
الثاني : الخبيث من الطيبات , والفارق رتبي .
الثالث : التباين الموضوعي بين الطيب والخبيث كما لو كان الأول حلالاً , والثاني حراماً .
والمختار هو الثاني لأن الآية في نظمها تتحدث عن الإنفاق من منازل الإيمان .
وعن عبد الله بن مسعود : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحبَّ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده، لا يسلم عَبْدٌّ حتى يُسلِمَ قلبُه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جارُه بوائقه”. قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟.
قال: “غَشَمُه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفقَ منه فيباركَ له فيه، ولا يتصدقُ به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث)( ).
والحديث عام ويتضمن إنذار الناس جميعاً من الحرام مع بيان عدم الإنتفاع منه سواء في الدنيا أو الآخرة .
الثالثة : قوله تعالى [مِنْهُ تُنفِقُونَ] أي أنكم تنفقون من الخبيث من منازل الإيمان ، وبقصد القربة , مما يدل على التنزه عن الحرام كسباً وإنفاقاً .
الرابعة : قوله تعالى [وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ] أي لا تأخذونه عندما يعطى لكم هدية أو صدقة أو شراء إلا مع كراهية شديدة وإغماض العين وكأن فيها قذى .
الخامسة : موضوعية أسباب النزول في معرفة مفهوم الكلمة والمراد منها ، وعن البراء بن عازب (قال: نزلت في الأنصار) ( ).
وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول :يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ) لبيان موضوعية نداء الإيمان من جهات :
الأولى : تفضل الله عز وجل برزق المسلمين .
الثانية : إكرام الله عز وجل للمسلمين بأن جعل الطيبات صفة لما رزقهم .
الثالثة : الوعد من عند الله عز وجل باتصال رزقهم من الطيبات .
فمن خصائص الآية القرآنية أنها غضة طرية إلى يوم القيامة ، ففي كل يوم تطل آية البحث على المسلمين لتشكر لهم إيمانهم ويتجلى هذا الشكر بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ولا يقف شكر الله للمؤمنين مجتمعين ومتفرقين بالنداء والوصف والشهادة لهم بأن يأتي شكر الله عز وجل من جهات :
الأولى : الثناء من عند الله عز وجل على المؤمنين .
الثانية : توثيق وذكر ومدح المؤمنين في القرآن , وهو الكتاب الباقي بين الناس ما دامت السموات والأرض .
الثالثة : دفع القرآن وآياته العذاب عن المسلم في حفرة القبر وعالم البرزخ ، وعن ابن عباس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني لأجد في كتاب الله سورة هي ثلاثون آية من قرأها عند نومه كتب له منها ثلاثون حسنة ، ومحي عنه ثلاثون سيئة ، ورفع له ثلاثون درجة ، وبعث الله إليه ملكاً من الملائكة ليبسط عليه جناحه ويحفظه من كل شيء حتى يستيقظ ، وهي المجادلة تجادل عن صاحبها في القبر ، وهي { تبارك الذي بيده الملك })( ).
الرابعة : حضور القرآن يوم القيامة شاهداً وشفيعاً وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (تعلموا القرآن فإنه شافع لأصحابه يوم القيامة ) ( ) .
الخامسة : توالي الرزق الكريم على المؤمنين ، وهو من الشكر العاجل لهم على الإيمان ، إذ أنه ينبسط على كل آنات اليوم والليلة ، كما في نية الصيام التي تستغرق ساعات اليوم كله من طلوع الفجر إلى سقوط قرص الشمس .
ليكون من معاني قوله تعالى [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى] ( ) مجئ الثواب العاجل للمسلمين على إيمانهم ، فينشغل المسلم بأمور الدنيا أو ينام الليل ، ولكن الثواب يأتيه في كل دقيقة وساعة من ساعات الليل والنهار ، وهو من مصاديق ومعاني نداء الإيمان والبشارة بالإنفاق من الطيبات .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا أشكروا لله وأنفقوا من طيبات ما كسبتم .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما كسبتم ) بلحاظ أن الله عز وجل يجعل كسب المؤمنين من الطيبات بالهداية إليه وتقريبه بلطف وتخفيف منه تعالى .
الرابع: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما أخرجنا لكم من الأرض . ويدل العطف في الآية على أن ما يخرج من الأرض غير الكسب الذي تذكره الآية ، وتحتمل النسبة بينهما وجوهاً :
أولاً : نسبة التساوي ، وأن الذي يكسبه المسلمون هو نفسه الرزق الذي يخرج من الأرض .
ثانياً : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : ما يخرج من الأرض أعم وأوسع مما يكسبه المسلمون .
الثانية : ما يكسبه المسلمون هو الأعم مما يخرج من الأرض .
ثالثاً : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء بين الكسب وما يخرج من الأرض , ومادة للإفتراق بينهما .
رابعاً : نسبة التباين وأن الذي يكسبه المسلمون هو غير الذي يخرج من الأرض .
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه لأن النبات والثروة المعدنية ونحوها من المكاسب التي أنعم الله عز وجل بها على الناس .
وتتجلى في هذا الزمان بعض أسرار العطف في الآية لأن ما يخرج من الأرض من نفط وغاز وحديد يتحول إلى المال والدينار والدرهم ومنه ينفق المسلمون ، ففي الغالب لا ينفق المؤمن النفط ونحوه وحتى الذهب حينما يستخرج من الأرض فانه تجري عليه عملية تنقية ، وهو فلز لين يستخرج من قيعان الأنهار في الغالب ، ويطلق عليه قبل تصنيعه التبر .
ومع هذا فان الآية لا تمنع من الإنفاق من ذات المستخرج من الأرض ومن الثمار والحبوب لذا يصح في الزكاة الإخراج من ذات العين التي بلغت النصاب وتتعلق بها الزكاة .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا لا تدخروا الخبيث والنوع الردئ من الطعام واللباس لأجل النفقة والصدقة ، وفي كفارة اليمين , قال تعالى [فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ] ( ).
وفي الآية تأديب للمسلمين وبشارة بامكان الإنفاق من الطيبات وعدم الوصول لعدم الإنفاق , أو للإنفاق من الخبيث لتكون الآية ومن باب الأولوية بشارة أكل المسلمين من الطيبات .
السادس : بيان آية البحث لحال العز التي عليها المسلمون فقد ضرب كفار قريش حصاراً على أهل البيت في مكة إبتداء من أول محرم من سنة سبع للبعثة النبوية وإستمر الحصار حتى السنة العاشرة (وقيل مكثوا في الشعب سنتين) ( ) .
وعلقت قريش صحيفة الحصار في سقف الكعبة , وشمل الحصار بني هاشم وبني المطلب مؤمنهم وكافرهم باستثناء أبي لهب الذي إنحاز إلى جانب قريش .
وقطعت الميرة والطعام عن أهل البيت ، ومنع الناس من معاملاتهم ومناكحتهم بسبب إعلان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبوته .
وأطلع الله عز وجل رسوله بأن ما في صحيفة قريش أكلته الأرضة، فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا طالب بالأمر لتتعظ قريش لأن هذا الإخبار من علامات النبوة ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية ، ولما رأت قريش الصحيفة إنحل أمر الحصار ولكنهم أصروا على الإقامة على الكفر ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ] ( ).
وخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ( مِنْ الْحَصْرِ وَلَهُ تِسْعٌ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَقِيلَ ثَمَانِ وَأَرْبَعُونَ سَنَةً وَبَعْدَ ذَلِكَ بِأَشْهُرٍ مَاتَ عَمّهُ أَبُو طَالِب ٍوَلَهُ سَبْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً) ( ).
وفيه شاهد بأن هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة حاجة وسبيل نجاة من القتل والفتنة العامة ، وقال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( )، وتوجه الأمر في الآية أعلاه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإخبار المؤمنين بالسعة والمندوحة في الهجرة ، وهو أولى بمضامين الآية التي نزلت من السماء بعد هجرته إلى المدينة ، لتكون هجرته من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
ووقعت معركة بدر في السنة الثانية للهجرة , والمسلمون في حال عوز وقلة مؤن ونقص في الأسلحة ، لتكون فيصلاً بين الحق والباطل ، وبين حال العوز والغنى عند المسلمين ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
السابع : يا أيها الذين آمنوا واظبوا على عدم تعمد إنفاق الخبيث والردئ ، إذ يفيد لفظ التيمم : التعمد والقصد وهذا القيد لبيان حقيقة وهي لا يكون عن المسلم يأكله أو ينفقه إلا النوع الردئ فحينئذ ينتفي الحرج من إنفاقه لعمومات قوله تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا] ( ).
ليكون من أسرار الآية وذكر القصد والعمد بانفاق الخبيث إتصال وإدامة الإنفاق في سبيل الله في الشدة والضيق ،قال تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ]( ).
الثامن : يا أيها الذين آمنوا إعلموا أن الله غني حميد ) ليكون من إعجاز الجمع بين أول وآخر الآية أمور :
الأول : بيان قانون وهو تأتي أمور مباركة مع الإيمان منها :
اولاً : العلم والفهم .
ثانياً : التفقه في الدين .
ثالثاً : الإرتقاء في المعارف الإلهية .
رابعاً : تنمية ملكة الإحتجاج عند المسلمين .
خامساً : يقظة وحذر المسلمين من المنافقين والكفار .
سادساً : سلامة المسلمين من الميل والركون والإنصات للظالمين.
ومن الإعجاز في آية البحث تكرار وتعدد صيغة التبعيض في الآية من جهات :
الأول : الأمر بالإنفاق بقوله تعالى[أَنفِقُوا] فالخطاب إستغراقي يشمل :
الأول : الأمة.
الثاني : أهل الخير : بأن يتبرعوا للفقراء منهم أو للفقراء في مصر آخر أو يقومون بإعانة أهل ونظام مصر آخر .
الثالث : الشركاء في التجارة والمضاربة بأن ينفقوا من المال المشاع بينهم.
الرابع : الإنفاق من قبل الجماعة والطائفة، سواء فيما بينهم ويمكن أن نسميه الإنفاق والصدقة الذاتية أو مع غيرهم .
الخامس : تعاون الأسرة في الإنفاق ، وكل فرد من الوجوه أعلاه من مصاديق قوله [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( )، بلحاظ أن كلاً من الجماعة والأسرة المسلمة أمة .
السادس : إنفاق الفرد الواحد ، ورب فرد واحد يعادل إنفاق جماعة وأمة في إحسانه وبذله بالمعروف ، وهو من عمومات قوله تعالى[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ]( ).
لذا تفضل الله عز وجل وندب المسلمين والمسلمات إلى الإنفاق بصيغة الثناء والمدح عليهم مع أنه سبحانه الغني الذي لا يحتاج إلى شئ لذا أختتمت الآية بقوله تعالى[أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ]( ).
رجحان كفة الآية القرآنية على الحديث القدسي
لقد جعل الله عز وجل القرآن الوثيقة السماوية الباقية في الأرض إلى يوم القيامة ليدعو الناس إلى سنن التقوى ، وكل آية منه حرب على الغواية والضلالة .
ونزل جبرئيل عليه السلام بالقرآن ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتغشاه التعرق ساعة النزول لثقل وطأة الآيات عند نزولها وعندما ينفصل عنه الوحي يقوم بأمور :
الأول : التبليغ بالآية أو الآيات التي نزلت عليه ، وطوبى لمن فاز بشرف الإستماع للآية القرآنية من فم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حال نزولها ، وكأنه يعانق جبرئيل ويسيح معه في السماء ، وكان بعض الوافدين للمدينة لدخول الإسلام يبقون يترقبون نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكيفيته ، وعندما يرونه يزدادون إيماناً .
الثاني : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض كتاب الوحي لتدوين الآية أو الآيات التي نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوضع الآية النازلة في موضع محدد بين آيتين مخصوصتين .
الرابع : تلاوة وتناقل المسلمين للآيات النازلة من عند الله عز وجل .
الخامس : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة الآيات في الصلاة اليومية وعلى المنبر وفي أوقات أخرى .
وهل هذه التلاوة من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم أنه من الأمور المباحة والعائدة إليه ، الجواب هو الأول ، لعمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
السادس : تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية، ويأتي هذا التفسير من جهات :
الأولى : يقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتفسير الآية إبتداءَ.
الثانية : إستشهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالآية القرآنية.
الثالثة : إجابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على سؤال الصحابة أو غيرهم عن تفسير الآية القرآنية ، وقد يأتي بعض كبار يهود المدينة ليسألوا عن آيات القرآن ، أو يكون هذا السؤال في طول إحتجاجهم وجدالهم .
الرابعة : علم مناسبة وأسباب نزول الآية القرآنية .
الخامسة : تقرير وإمضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتفسير أحد الصحابة للآية القرآنية .
وليس من آية قرآنية إلا وقد نزل بها جبرئيل عليه السلام من بين الملائكة , أما الحديث القدسي فقد ينزل به جبرئيل أو يكون بالوحي والإلهام من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو ينزل به ملك آخر غير جبرئيل .
ويحتمل الحديث القدسي وجوهاً :
الأول : الحديث القدسي من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الثاني : الحديث القدسي أرقى مرتبة من الوحي الذي تذكره الآية أعلاه .
الثالث : الحديث القدسي أدنى مرتبة من الوحي الذي تذكره الآية أعلاه .
والصحيح هو الأول فان الحديث القدسي من عمومات الوحي.
وهناك مسائل أخرى في الفرق بين القرآن والحديث القدسي منها :
الأولى : القرآن كلام الله المحصور بين الدفتين ، الذي شرّف الله عز وجل المسلمين بنزوله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, أما الحديث القدسي فهو من عمومات الوحي .
ولم يجمع الحديث القدسي في كتاب في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا في عهد الخلافة من بعده , وحينما كتبت السنة النبوية أدرج معها .
الثانية :يتعاهد المسلمون رسم القرآن وهو توثيقي ، لذا حينما تجد كلمة في القرآن خلاف صناعة الإعراب أو قواعد الإملاء في الزمان الحاضر فيجب أن تبقى على حالها [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
أما بالنسبة للحديث القدسي فان طبقات الرواة يتناقلونه ويروونه عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه , المتواتر والصحيح أو الضعيف سنداً .
الثالثة : الترغيب بحفظ آيات القرآن ، وفيه الثواب العظيم ، وهو صفة من صفات المسلمين .
(عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صفتي أحمد المتوكل مولده بمكة ومهاجره إلى طيبة ، ليس بفظ ولا غليظ ، يجزي بالحسنة الحسنة ولا يكافىء بالسيئة ، أمته الحمادون يأتزرون على أنصافهم ، ويوضئون أطرافهم ، أناجيلهم في صدورهم ، يصفون للصلاة كما يصفون للقتال ، قربانهم الذي يتقربون به إلي دماؤهم)( ).
فمن خصائص المسلمين حفظ القرآن عن ظهر قلب ، وفي كل زمان تجد طائفة منهم يحفظ كل واحد منهم القرآن كله أما حفظ آيات وسور من القرآن على نحو الموجبة الجزئية فهو أمر يشمل المسلمين جميعاً على نحو العموم الإستغراقي ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وحفظ المسلمين للقرآن في صدورهم من صفاتهم عند أهل ملل التوحيد السابقة (عن ثعلبة بن مالك أن عمر بن الخطاب أنه سأل أبا مالك عن صفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة وكان من علماء اليهود.
فقال : صفته في كتاب بني هرون الذي لم يغير ولم يبدّل أحد من ولد إسماعيل بن إبراهيم ومن آخر الأنبياء وهو النبي العربي الذي يأتي بدين إبراهيم الحنيف،
يأتزر على وسطه ويغسل أطرافه , في (عينيه) حمرة وبين كتفيه خاتم النبوّة مثل زر الحجلة،
ليس بالقصير ولا بالطويل،
يلبس الشملة ويجرى بالبلغة ويركب الحمار ويمشي في الأسواق،
معه حرب وقتل وسبي , سيفه على عاتقه لا يبالي مَن لقي مِن الناس،
معه صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان ولو كانت في عاد ما أهلكوا بالريح ولو كانت في ثمود ما أهلكوا بالصيحة.
مولده بمكّة ومنشأه بها وبدء نبوّته بها ودار هجرته يثرب بين جرّة ونخل (وسبخة) وهو أُمّي لا يكتب بيده،
هو بجهاد،
يحمد الله على كل شدة ورخاء،
سلطانه الشام،
صاحبه من الملائكة جبرئيل يلقى من قومه أذىً شديداً. ويحبّونه حبّاً شديداً ثمّ يدال على قومه يحصرهم حصر (الجرين)،
يكون له وقعات في يثرب،
منها له ومنها عليه،
ثمّ يكون له العاقبة يعدّ معه أقوام هم إلى الموت أسرع من الماء من رأس الجبل إلى أسفله،
صدورهم أناجيلهم قربانهم دماؤهم ليوث النهار ورهبان بالليل يرعب منه عدوه بمسيرة شهر،
يباشر القتال بنفسه حتّى يخرج ويكلم لا شرطة معه ولا حرس يحرسه ) ( ).
ولم يرد نص بحفظ الحديث القدسي .
الرابعة : وردت إسماء عديدة للقرآن في آياته وسوره منها :
الأول : القرآن ، قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ] ( )
الثاني : الكتاب , وفي التنزيل [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ]( ) .
الثالث : الفرقان , قال تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( ).
الرابع : الوحي .
الخامس : الذكر ، قال تعالى [ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنْ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ]( ).
السادس : كلام الله ، وورد هذا اللفظ ثلاث مرات في القرآن ، كلها تخص القرآن ، وتدعو إلى تقديسه وتعاهده وفشل وبطلان تحريفه ، قال تعالى [يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ] ( ).
السابع : أحسن الحديث ، ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا مرة واحدة بقوله تعالى [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ]( )، وتضمنت الآية القطع بتفضيله ، وهل يشمل هذا التفضيل الحديث القدسي , الجواب نعم فالقرآن أسمى مرتبة وأعلى شأناً .
الثامن : الحق ، قال تعالى [وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ]( ) وقد أوصل الزركشي في البرهان أسماء القرآن إلى خمس وخمسين إسماً , أما الفيروز آبادي فذكر ثلاثة وتسعين إسماً للقرآن .
ولم يرد لفظ الحديث القدسي في القرآن ولا في السنة ولا على لسان الصحابة إنما هو إصطلاح استقرائي جرى على ألسنة العلماء للتمييز الخاص بينه وبين الحديث النبوي , ويمكن أن القول أن الصلة بين الحديث القدسي والحديث النبوي هي إذا إجتمعا إفترقا وإذا إفترقا إجتمعا .
ومن أسرار تعدد أسماء القرآن أن لكل اسم دلالات ومعاني وتقتبس منه المسائل والسنن .
الرابعة : يتعبد المسلمون بتلاوة آيات القرآن ، وكل كلمة منه مناسبة للثواب وجني الحسنات المتعددة والمتكثرة بلحاظ ورود النص فيه بالإضافة إلى البركة ومضاعفة الأجر للتالي مع تقادم الأيام .
(عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من قرأ حرفاً من القرآن كتب الله له عشر حسنات : بالباء ، والتاء ، والثاء) ( ).
والله أكرم من أن يجعل الأمر منحصراً بهذه الحسنات العشرة بل يتفضل بزيادتها ومضاعفتها ، ولا تختص هذه الزيادة والمضاعفة بأيام التالي في الدنيا ، بل يبارك الله عز وجل فيها لتبعده عن النار.
ولم يرد دليل بخصوص الحديث القدسي من جهة مضاعفة الثواب لقارئه ، ومن الآيات أن لفظ التلاوة خاص بالقرآن فلا يشمل الحديث القدسي والحديث النبوي .
الخامسة : القرآن سور الموجبة الكلية المبارك الذي يجتمع تحت لوائه المسلمون ويصدرون عنه في الأحكام والسنن ، وقد جعله الله عز وجل [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) .
أما الحديث القدسي فهو إخبار عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في وقائع وحوادث خاصة .
السادسة : كل مسلم يحتاج القرآن في صلاته بلحاظ أن التلاوة في الصلاة واجبة (عن عبادة بن الصامت ، يبلغ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب) ( ).
وليس من وجوب لقراءة أو كتابة الحديث القدسي ، ولا يعتد بقراءته.
السابعة : لقد قسم القرآن إلى سور , وعدد سوره مائة وأربع عشرة سورة ، وكل سورة مقسمة إلى آيات ، وعدد آيات القرآن هو ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية ، تضئ ما بين المشرق والمغرب ، وتشع على قلوب المؤمنين فتزيدهم إيماناً .
وليس من إحصاء دقيق للأحاديث القدسية لتداخلها مع الحديث النبوي ، ولا تصل إلى معشار عدد آيات القرآن , ولم يقسم الحديث القدسي إلا على نحو ترتيب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وكل حديث منها مستقل بذاته .
الثامنة : جهة صدور القرآن هو من عند الله لفظاً ومعنى ، أما الحديث القدسي فهو صادر من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان شعبة من الوحي .
(عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم أنه قال : ألا وإني قد أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه) ( ).
لبيان أن النسبة بين الوحي والقرآن هي العموم والخصوص المطلق ولزوم العناية بالسنة وما فيها من تقييد أو توسعة أحكام الآية القرآنية وتخصيص السنة بالقرآن ، ومنه قوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا] ( ) فجاءت الآية مطلقة بذكر اليد من غير تقييد بموضع اليد وأي منهما ، وفيه وجوه :
الأول : تقطع اليد اليسرى .
الثاني : القطع لليد اليمنى.
الثالث : يكون القطع لليد التي تمت السرقة بها .
الرابع : يكون الخيار للإمام والحاكم وهو الذي يحدد القطع .
الخامس : فيه تفصيل بحسب الحال ومقدار وكيفية السرقة لإرادة التأديب والزجر .
السادس : يختار السارق اليد التي تقطع ، كما في ترتب الدية على الجاني في القتل فانه يعين صنف الدية , وهي مائة ناقة أو مائتا بقرة أو ألف شاة أو الف دينار ذهباً ، أو عشرة آلاف درهم فضة أو مائتا حلة .
وقد ورد الخبر بقطع اليد اليمنى وأختلف في موضع القطع وقيل أن القطع كان موجوداً كحكم في الجاهلية (إن أول من قطع الأيدي في الجاهلية قريش، قطعوا رجلا يقال له: “دويك” مولى لبني مُلَيح بن عمرو من خُزَاعة، كان قد سرق كنز الكعبة، ويقال: سرقه قوم فوضعوه عنده)( ).
وقيد القطع بما يكون قيمته ربع دينار ذهب أو أكثر ، وبه قال الإمام جعفر الصادق والإمام الشافعي ، وأستدل بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً ) ( ).
وقال (الإمام مالك بن أنس، رحمه الله: النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة، فمتى ما سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقها وجب القطع) ( ).
وقيل أن الثلاثة دراهم تعادل ربع دينار إذا كان الدينار إثنا عشر درهماً إذ أن قيمة الدينار بالدرهم متباين ومختلف.
ومنهم من ذهب إلى القول بالقطع في القليل والكثير ، في غير الذهب بلحاظ الإطلاق في آية السرقة [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا] ( ) .
وتنحل الآية إلى معنيين :
الأول : والسارق فاقطعوا يده .
الثاني : والسارقة فاقطعوا يدها ، والقائل باطلاق القطع في القليل والكثير داود الظاهري ونقل عن الحسن البصري وسعيد بن المسيب والزهري لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ) ( ).
ولكن الحبل يحمل على الحبل ذي القيمة , والمراد من البيضة أي التي توضع على الرأس لوقايته في القتال , وهي من الحديد .
ولكن النصوص بالتقييد ظاهرة في مقدار السرقة ، وفي تعيين موضع القطع ، ويمكن تأسيس قاعدة في الحكم الجنائي وهو لو دار الأمر بين الحكم المشدد أو المخفف , فالأصل هو الحكم المخفف ، وهو من عمومات قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ادرؤا الحدود بالشبهات) ( ).
ويبين القرآن الأحكام والمطلق والمقيد ، والعام والخاص ، ويرجع العلماء له ويصدر المسلمون جميعاً عنه ، وليس مثل هذا في الحديث القدسي .
التاسعة : على فرض حصول تعارض ونسخ بين الحديث القدسي والحديث النبوي ، فان المتأخر إذا كان صحيح السند ينسخ المتقدم وإن كان متواتراً ، وليس من نسخ لآيات القرآن بالحديث القدسي أو السنة النبوية ، نعم السنة تخصص العام في القرآن ،وقيل أن السنة تنسخ القرآن ، وعلى القائل أن يأتي بالشواهد ، وبالإمكان إحصاء مثل هذا النسخ كي يمكن الإستدلال على عدمه.
لقد جعل الله عز وجل القرآن مائدة السماء في الأرض ينهل منها الناس فيكون فيها الشفاء والصلاح والأجر والثواب من غير أن ينقص منها شيء ، قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
العاشرة : تعدد العلوم والقوانين المقتبسة من آيات القرآن ومضامينها موضوعاً وحكماً ، ومن الصلة بينهما والمناسبة في اللفظ المتحد ، الموجود في آيات متعددة وتجد خمس أو ست آيات أو أكثر معطوف بعضها على بعض ، بينها يأتي الحديث القدسي منفرداً في موضوعه على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الحادية عشرة : من أسرار القرآن أن كل كلمة منه معجزة بذاتها ومعجزة بالصلة والتداخل مع الكلمات الأخرى ، ولا تنقطع أو تنتهي معاني الإعجاز فيها ، ولا تقف عند حدود البلاغة واللغة بل هي متجددة تدعو العلماء للنهل من فيوضاتها .
الثانية عشرة : يولى المسلمون والمسلمات عنايتهم للآية القرآنية ، ويميزون بينها وبين السنة النبوية , وهم متسالمون على أن مرتبة القرآن هي الأسمى ، أما الحديث القدسي فهو متداخل مع السنة النبوية .
الثالثة عشرة : من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) أن كل مسلم ومسلمة يتلون آيات وسور القرآن كل يوم وعلى نحو الوجوب العيني في الصلاة اليومية ،وقد لا يعرف أكثر المسلمين الحديث القدسي ، ومصاديق منه ، ولا يجب عليهم تلاوته.
لقد جعل الله عز وجل القرآن خير صاحب ملازم للمسلمين بكلماته ورسمه وتلاوته ومعانيه ، فهو خير صديق وصحبته من مصاديق ما ورد في التنزيل [ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) بلحاظ أمور :
الأول : ذات القرآن صراط مستقيم .
الثاني : كل آية من القرآن صراط مستقيم .
الثالث : تلاوة الآية القرآنية صراط مستقيم .
الرابع : إستحضار المسلم للآية القرآنية عند الوقائع والشدائد صراط مستقيم .
الخامس : تهدي الآية القرآنية إلى الصراط المستقيم ، وهل منه الفصل والتمييز بين القرآن والحديث القدسي , الجواب نعم ، ويمكن القول أن القرآن يهدي إلى الحديث القدسي ، وكذا العكس ، أن الحديث القدسي يهدي إلى القرآن , ولكن مع التباين الرتبي الكبير بينهما .
السادس : القرآن من مصاديق الصراط في قوله تعالى [وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ] ( ) فيهدي القرآن إلى نفسه , وإلى الحديث القدسي والسنة النبوية , وهو بنفسه كاف عن الحديث القدسي , لأن الله عز وجل جعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
الرابعة عشرة : القرآن كلام الله عز وجل , وليس هو جزء من كلام أو كتاب آخر كالتوراة والإنجيل وإن إتحد معهما باسم الكتاب، أما الحديث القدسي فهو جزء من الحديث النبوي .
الخامسة عشرة : يعرض الحديث القدسي والحديث النبوي على القرآن لبيان صحة كل منهما دلالة وموضوعاً وحكماً .
ولا يعرض القرآن على غيره من الكتب والأحاديث ، فهو قطعي الصدور والثبوت .
وهناك قول شائع بانه ظني الدلالة ، ولا أصل لمعنى الظن هنا ، والمقصود من الصدور أي نزوله من عند الله عز وجل باللفظ والنص ، ومعنى الدلالة ما يدل عليه اللفظ القرآني والجملة والنص القرآني ، والمراد من الثبوت هو طريق وصول الآيات لنا إذ وصلت آيات القرآن لأجيال المسلمين بما هو أسمى مرتبة من التواتر وهو أعلى مراتب السنة في علم الرجال ، إذ يروي الحديث جماعة عن جماعة لا يتواطئون على الكذب مع الإختلاف في عدد الجماعة في كل طبقة .
وقد يقال أن بعض آيات القرآن ظنية الدلالة كما في قوله تعالى [وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ] وهل المسح ببعض الرؤوس أو جميعها .
ولا تصل النوبة إلى جعل إصطلاح خاص مقابل القطع والجزم بدلالة القرآن ، نعم تكون السنة بياناً وتفسيراً للقرآن .
كما أن الباء في [بِرُءُوسِكُمْ] لغة في التبعيض ، فلم تقل الآية (وأمسحوا رؤسكم) فالسنة النبوية في المقام تتمة لتفسير الآية والتفسير الأول ممن ذات الآية الكريمة , وأسميناه بالتفسير الذاتي للقرآن .
الخامسة عشرة : منكر القرآن وتنزيله كافر جاحد ، أما الذي ينكر الحديث القدسي فليس بكافر ، فقد يتعلق الإنكار بالسند أو الدلالة , كما أن الحدبث القدسي ليس منزل من عند الله بالنص والمعنى .
السادسة عشرة : يجب تلاوة القرآن كتنزيله من غير تغيير أو تبديل ، ولا تصح تلاوته بالمعنى والمفهوم إلا لإرادة البيان ، وفي الترجمة تكون موضوعية للأقرب فالأقرب في المعنى مع كتابة نص الآية القرآنية للحروف والكلمات ولو بحرف أصغر .
أما الحديث القدسي فتجوز روايته بالمعنى والدلالة وهو جزء من الحديث النبوي .
السابعة عشرة : لقد جعل الله عز وجل القرآن المعجزة العقلية الخالدة التي تتحدى الناس في كل زمان من جهة البلاغة وتشعب الدلالة ودقة الأحكام ، وإنتفاء التعارض بين آياته ، وليس في الحديث القدسي نوع تحد .
الثامنة عشرة : في القرآن بيان للأحكام وذكر الأحكام التكليفية الخمسة الوجوب ، الندب ، الإباحة ، الكراهة ، الحرمة .
قانون ذات الإيمان أمن وسلام
لقد خلق الله الإنسان وجعله خليفة في الأرض وسخر له الأشياء ، وأمره بالأكل من الطيبات فترى الملائكة والخلائق بديع صنعه تعالى ، وتفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء وأنزل الكتب والأحكام من السماء لتتولى معها شآبيب الرحمة على الناس ، ومن الآيات أن المعدوم ينتفع من الموجود من الناس ، إذ تكون عبادة وصلاح الإنسان سبباً لتغشي الرحمة من جهات :
الأولى : رحمة الله بذات المسلم .
الثانية : رحمة الله عز وجل بآباء المسلم ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)( ).
الثالثة : رحمة الله بولد وذرية المسلم ، وعن أبي الدرداء قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (في قوله : {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا} ،
قال : كان ذهباً وفضّة.
{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} ،
واسمه كاشح،
وكان من الأتقياء. ذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر منهما صلاح،
وكان بينهما وبين الأب الذي حُفظا به سبعة آباء)( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : إن الله ليفلح بفلاح الرجل المؤمن ولده وولد ولده،
ويحفظه في دويرته ودويرات حوله فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله، ثم ذكر الغلامين، فقال: ” وكان أبوهما صالحا ” ألم تر أن الله شكر صلاح أبويهما لهما) ( ).
ومن رحمة الله عز وجل في الأرض نزول نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وعدم إختصاصه بأعيان مخصوصين من البشر ، إذ أن باب الإسلام مفتوح لكل إنسان ليس من حجاب أو برزخ أو شرط للتوبة والإنابة .
وليس بين التنزيه عن الكفر والظلم الذي يرد في قوله تعالى [وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ ] وبين الإيمان إلا النطق بالشهادتين ، وليس من قوة في الأرض تحول دون نطق أي أنسان ذكراً كان أو أنثى حراً أو عبداً بكلمة التوحيد هذه ، وهو من مصاديق الرحمة العامة بالناس في الأرض ، ومن عمومات قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
ومن فضل الله عز وجل في خلافة الإنسان في الأرض إقتران الآيات بالأمن والعز ، وليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) وجوه :
الأول : ليعبدونِ فتنزل عليهم البركات .
الثاني : ليعبدونِ فيأتيهم الرزق الكريم .
الثالث : ليعبدونِ فيكونوا في آمن وسلام .
الرابع : ليعبدونِ فتغبطهم الخلائق يوم القيامة .
لقد بشر القرآن المؤمنين بأنهم [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) والخوف كيفية نفسانية تعكس حال الخشية من وقوع مكروه ، ويمحو الله عز وجل المكروه ويزيح مقدماته ، ويبدله للمؤمنين بالأمر الحسن .
ومن الدلائل والبشارات في المقام نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الذي يصاحب المسلمين إلى يوم القيامة ، ولا تختص هذه المصاحبة بالأحياء منهم بل تشمل الأموات في عالم البرزخ ويوم النشور .
ويمكن إستنباط المسائل التي تدل على الأمن من مضامين كل آية ورد فيها نداء الإيمان ، وتأسيس علم جديد في كل آية هو ( الآية آمن ) من جهات :
الأولى : الأمن في الآية للمسلم على نحو القضية الشخصية .
الثانية : الأمن في الآية للمسلمين على نحو القضية النوعية .
الثالثة : الأمن في الآية للمسلمين في الدنيا .
الرابعة : الأمن في الآية للمسلمين في عالم البرزخ .
الخامسة : الأمن في الآية للمسلمين في الدار الآخرة .
ويمكن تأسيس قانون وهو كل آية من القرآن من مصاديق الأمن من الخوف والسلامة من الحزن ، قال تعالى [فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
ولا تختص رشحات الأمن التي في ثنايا نداء الإيمان بالمسلمين بل هي عامة وشاملة للناس جميعاً .
ليكون تقدير النداء على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا بأن خطاب الله عز وجل لكم بالإيمان آمن وواقية من الحزن ، قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إجعلوا هذا النداء رحمة لكم .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا بأنكم [ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن أسرار نداء الإيمان أنه يبعث الطمأنينة في نفوس الناس عامة ، إذ لا ملازمة بين جهة الخطاب وبين الأمن والطمأنينة ، فالصلة بينهما على وجوه :
الأول : الطمأنينة مساوية لجهة الخطاب .
الثاني : الطمأنينة أعم وأوسع من جهة الخطاب .
الثالث : التساوي بين جهة الخطاب والطمأنينة .
وليس من قاعدة ثابتة في المقام ، أما بالنسبة لنداء الإيمان فان الطمأنينة أعم وأوسع من جهة الخطاب ، لتتغشى أهل الأرض جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
ويدعو نداء الإيمان الناس إلى الأمن ويحث عليه ، وفيه تنمية لملكة السلم والأمن عند المسلمين ، وكل نداء إيمان في القرآن حث للمسلمين على عدم إيذاء الآخرين ، وهو من عمومات قاعدة لا ضرر ولا ضرار ، ليكون نداء الإيمان دعوة للناس للإسلام ، بالذات والعرض ، أما الذات فانه يخاطب المسلمين بصفة البيان ويندبهم إلى الأمن ، وأمّا بالعرض فان تقيد المسلمين بسنن الإيمان ترغيب للناس بدخول الإسلام .
الفرق بين صلاة الفريضة والنافلة
قد يأتي حكم بالعرض على الواجب , فالصلاة واجبة وهناك صلوات أخرى مستحبة مثل صلاة النافلة وبينها وبين صلاة الفرائض اليومية عموم وخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء من جهات :
الأولى : صدق اسم الصلاة على كل من فريضة الصلاة ونافلتها.
الثانية : إتحاد وتشابه أفعال الصلاة ، أركاناً وواجبات وأجزاء .
الثالثة : إتحاد المقدمة للصلاة وهو الوضوء أو غسل الجنابة ، أما مع تعذر الماء فالتيمم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ]( ).
الرابعة : إرادة قصد القربة .
الخامسة : تلاوة القرآن في كل من صلاة الفريضة والنافلة .
السادسة :الصلاة حرب على النفاق , وبرزخ دون محاكاة الذين كفروا التي تحذر منها آية البحث .
السابعة : وجوب ستر العورة والطهارة من الحدث في كل من صلاة الفريضة والنافلة .
أما مادة الإفتراق فمن جهات :
الأولى : التباين في الحكم التكليفي بين الوجوب والإستحباب .
الثانية : تعيين أوقات مخصوصة لصلاة الفريضة ، وأكثر صلوات النافلة فيها مندوحة وسعة في الوقت ، وتعيين وقت فضيلة وجواز لصلاة الفريضة .
الثالثة : عدم جواز ترك صلاة الفريضة بأي حال من الأحوال ، بخلاف النافلة .
الرابعة : وجوب صلاة الفريضة عن قيام إلا مع العذر كالمرض والعجز فتصح عن جلوس .
أما صلاة النافلة فتصح عن جلوس إبتداء ومن غير عذر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي نافلة الليل أحياناً عن جلوس , فالقيام ركن في صلاة الفريضة إلأا مع العذر .
الخامسة : إستقبال البيت الحرام شرط في صلاة الفريضة ، أما في النافلة فيرخص للمسافر الصلاة على دابته وفي السيارة والطائرة حيث توجهت به .
السادسة : القصر في صلاة الفريضة دون النافلة , قال تعالى [وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ]( ).
السابعة : جواز إتيان صلاة الفريضة في الأوقات المكروهة بخلاف كثير من النافلة .
الثامنة : مضاعفة وكثرة ثواب الفريضة بالنسبة للنافلة .
التاسعة : قضاء الفرض دون كثير من النافلة .
العاشرة : إستحباب إتيان صلاة الفريضة جماعة .
الحادية عشرة : تعيين أوقات صلاة الفريضة بلحاظ آيات كونية معلومة كما في قوله تعالى [فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ] ( ).
الثانية عشرة : نزول الأمر الإلهي بوجوب صلاة الفريضة كما في قوله تعالى [وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ]( ).
الثالثة عشرة : الإتيان بالأذان والإقامة للفرائض اليومية الخمسة بخلاف النافلة .
الرابعة عشرة : جبر النافلة للفريضة من دون العكس .
الخامسة عشرة : التباين والتعدد في الاسم بين صلاة الفريضة وصلاة النافلة من أسرار تفقه المسلمين في الدين , ومعرفتهم أحكام التنزيل .
ومن فضل الله عز وجل أن نداء الإيمان يقرأ في صلاة الفريضة والنافلة , وتكون ذات الصلاة شاهداً على صلاح المسلمين وتقيدهم بالعبادات وما فيه مرضاة الله والتسليم لأمر الله والإقرار بربوبيته المطلقة , وأن مقاليد الأمور بيده سبحانه , والرضا بقضائه ورجاء ثوابه .
ومن الإعجاز في فريضة الصلاة أنها وسيلة مباركة لعلوم التفسير، وطريق للتدبر في آيات القرآن وتأويلها ، إذ يترشح التدبر في معاني ودلالات آيات القرآن عن قراءتها في الصلاة طوعاً وقهراً خاصة مع حال الخشوع والخضوع لله عز وجل الذي تختص به .
وقد تكون الصلاة مكروهة مكاناً أو زماناً كالصلاة في المطبخ، أو صلاة النافلة بعد صلاة العصر , أو محرمة كما في صلاة الحائض, ولكن قراءة المسلمين لنداء الإيمان متصلة ومتجددة لتفيض عليهم بالبركة .
تقسيم جديد للصحابة
يمكن تقسيم جديد للصحابة , وفق باب الجهاد فيكون على وجوه :
الأول : الصحابة وأهل البيت الذين لاقوا الأذى في مكة قبل الهجرة .
الثاني : الصحابة الذين شاركوا في القتال تحت لواء وإمامة رسول الله ، ولم يغادروا ميدان المعركة إلا بعد إنتهاء المعركة , ويمكن تقسيمه إلى جهات :
الأولى : الصحابة الذين شاركوا وقاتلوا في معركة بدر.
الثانية : الصحابة الذين قاتلوا في معركة أحد.
وهل تنقسم هذه الجهة إلى ذكر الفريق الذي ثبت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والفريق الذي إنهزم أثناء المعركة كما جاء في قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ]( )، الجواب لا.
الثالثة : الذين إشتركوا ورابطوا في معركة الخندق.
الرابعة : الصحابة الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للعمرة وحضروا صلح الحديبية.
الخامسة : الصحابة الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمراء في السرايا.
الثالث : الصحابة ممن أسلم في مكة المكرمة قبل الهجرة .
الرابع : الصحابة من المهاجرين .
الخامس : الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة .
السادس : الصحابة الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة الأولى .
السابع : الصحابة الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة الثانية .
الثامن : الذين أستشهدوا في معارك الإسلام , ويمكن تقسيمه إلى أقسام منها :
أولاً : الذين إستشهدوا بحضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المعركة.
ثانياً : الذين صلى عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم , كما في شهداء أحد , وينقسم إلى شعبتين :
الأولى : الذين صلى عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرادى .
الثانية : الذين صلى عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم جماعة .
ثالثاً : تقسيم الشهداء بحسب معارك الإسلام مثل: شهداء بدر، أحد، الخندق، حنين.
رابعاً : الذين ماتوا خارج المعركة بسبب شدة جراحهم , مثل سعد بن معاذ .
خامساً : الذين أثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الشهداء .
وهم على شعب:
الأولى : الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل المعركة.
الثانية : الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثناء المعركة والقتال في غير المعركة التي إستشهدوا فيها.
الثالثة : الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المعركة التي أستشهدوا فيها.
الرابعة : الذين مدحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد إستشهادهم .
وجملتهم على ما ذكره ابن إسحاق ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان فمن الاوس أحد عشر رجلا: أسيد بن حضير أحد النقباء، وأبو الهيثم بن التيهان بدرى أيضا، وسلمة بن سلامة ابن وقش بدرى، وظهير بن رافع، وأبو بردة بن نيار ، ونهير بن الهيثم بن نابى بن مجدعة بن حارثة، وسعد بن خيثمة أحد النقباء، بدرى وقتل بها شهيدا، ورفاعة بن عبد المنذر بن زنير نقيب بدري، وعبد الله بن جبير بن النعمان بن أمية بن البرك بدري، وقتل يوم أحد شهيدا أميرا على الرماة، ومعن بن عدى بن الجد بن عجلان بن الحارث ابن ضبيعة البلوى حليف للاوس شهد بدرا وما بعدها وقتل باليمامة شهيدا، وعويم بن ساعدة شهد بدرا وما بعدها.
ومن الخزرج اثنان وستون رجلا: أبو أيوب خالد بن زيد، وشهد بدرا وما بعدها ومات بأرض الروم شهيدا، ومعاذ بن الحارث، وأخواه عوف ومعوذ وهم بنو عفراء بدريون، وعمارة بن حزم شهد بدرا وما بعدها وقتل باليمامة، وأسعد بن زرارة أبو أمامة أحد النقباء، مات قبل بدر، وسهل بن عتيك، بدرى، وأوس بن ثابت بن المندر بدري، وأبو طلحة زيد بن سهل، بدري، وقيس بن أبى صعصعة عمرو بن زيد بن عوف ابن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن كان أميرا على الساقة يوم بدر، وعمرو بن غزية، وسعد بن الربيع أحد النقباء شهد بدرا وقتل يوم أحد، وخارجة بن زيد شهد بدرا وقتل يوم أحد.
وعبد الله بن رواحة أحد النقباء، شهد بدرا وأحدا والخندق، وقتل يوم مؤتة أميرا، وبشير بن سعد، بدري، وعبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه الذى أرى النداء، وهو بدري.
وخلاد بن سويد بدرى أحدى خندقي، وقتل يوم بنى قريظة شهيدا، طرحت عليه رحى فشدخته، فيقال إن رسول الله صلى الله عيله وآله وسلم قال: ” إن له لاجر شهيدين “.
وأبو مسعود عقبة بن عمرو البدري.
قال ابن إسحاق: وهو أحدث من شهد العقبة سنا ولم يشهد بدرا.
وزياد بن لبيد، بدري، وفروة بن عمرو بن وذفة وخالد بن قيس بن مالك بدري، ورافع بن مالك أحد النقباء، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق، وهو الذي يقال له مهاجري أنصاري، لانه أقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة حتى هاجر منها، وهو بدري قتل يوم أحد، وعبادة بن قيس بن عامر بن خالد بن عامر بن زريق بدري، وأخوه الحارث بن قيس بن عامر بدري أيضا.
والبراء بن معرور أحد النقباء وأول من بايع فيما تزعم بنو سلمة، وقد مات قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأوصى له بثلث ماله فرده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ورثته. وابنه بشر بن البراء، وقد شهد بدرا وأحدا والخندق ومات بخيبر شهيدا من أكله مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تلك الشاة المسمومة، رضى الله عنه، وسنان بن صيفي
ابن صخر بدري ، والطفيل بن النعمان بن خنساء بدرى، قتل يوم الخندق، ومعقل بن المنذر بن سرح بدرى، وأخوه يزيد بن سنان المنذر بدري، ومسعود بن زيد بن سبيع، والضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بدرى، ويزيد بن خذام بن سبيع، وجبار بن صخر [ بن أمية ] بن خنساء بن سنان بن عبيد بدري، والطفيل بن مالك بن خنساء بدري.
وكعب بن مالك، وسليم بن عامر بن حديدة بدري، وقطبة بن عامر بن حديدة بدري، وأخوه أبو المنذر يزيد بدري أيضا، وأبو اليسر كعب بن عمرو بدري، وصيفى ابن سواد بن عباد.
وثعلبة بن غنمة بن عدى بن نابى، بدري واستشهد بالخندق، وأخوه عمرو بن غنمة بن عدى، وعبس بن عامر بن عدى، بدرى، وخالد بن عمرو بن عدي بن نابي، وعبد الله بن أنيس حليف لهم من قضاعة.
وعبد الله بن عمرو بن حرام أحد النقباء، بدرى واستشهد يوم أحد، وابنه جابر بن عبد الله، ومعاذ بن عمرو بن الجموح بدري، وثابت بن الجذع، بدرى وقتل شهيدا بالطائف، وعمير بن الحارث بن ثعلبة بدرى، وخديج بن سلامة حليف لهم من بلى، ومعاذ بن جبل شهد بدرا وما بعدها ومات بطاعون عمواس في خلافة عمر بن الخطاب.
وعبادة بن الصامت أحد النقباء شهد بدرا وما بعدها، والعباس بن عبادة بن نضلة، وقد أقام بمكة حتى هاجر منها، فكان يقال له مهاجري أنصاري أيضا، وقتل يوم أحد شهيدا .
وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم حليف لهم [ من بنى غصينة ] من بلى وعمرو بن الحارث بن لبدة ، ورفاعة بن عمرو بن زيد بدري، وعقب بن وهب بن كلدة حليف لهم بدري , وكان ممن خرج إلى مكة فأقام بها حتى هاجر منها، فهو ممن يقال له مهاجري أنصاري أيضا، وسعد بن عبادة بن دليم أحد النقباء، والمنذر بن عمرو نقيب بدري أحدي وقتل يوم بئر معونة أميرا وهو الذى يقال له: أعتق ليموت.
وأما المرأتان فأم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو ابن غنم بن مازن بن النجار، المازنية النجارية.
قال ابن إسحاق: وقد كانت شهدت الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم , وشهدت معها أختها وزوجها زيد بن عاصم بن كعب، وابناها حبيب وعبد الله.
وابنها حبيب هذا هو الذى قتله مسيلمة الكذاب حين جعل يقول له: أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ فيقول: نعم.
فيقول: أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول: لا أسمع.
فجعل يقطعه عضوا عضوا حتى مات في يديه، لا يزيده على ذلك، فكانت أم عمارة ممن خرج إلى اليمامة مع المسلمين حين قتل مسيلمة، ورجعت وبها اثنا عشر جرحا من بين طعنة وضربة.
والاخرى أم منيع أسماء ابنة عمرو بن عدي بن ناب بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة رضى الله عنها( ).
الثامن : الصحابة من عموم الأنصار , فيدخل فيهم الذين لم يحضروا بيعتي العقبة , وهم الأكثر عدداً ممن حضروها.
التاسع : الذين حضروا معركة بدر .
العاشر : الذين حضروا معركة أحد .
الحادي عشر : الصحابة الذين حضروا معركة الخندق .
الثاني عشر : صحابة الفتح أي فتح مكة .
وقد يتكرر اسم الصحابي في عدد من هذه الوجوه , وهو فخر له , وقد صاحبوا نزول نداء الإيمان وما يبعثه في النفوس من الغبطة والفرح , والإعانة على العمل .
قانون كل آية قرآنية بشارة
الحمد لله الذي جعل الدنيا دار بشارة , ومن فضل الله عز وجل في خلافة الإنسان في الأرض أن الدنيا دار البشارة تتوالى فيها البشارات للناس متحدين ومتفرقين وفي الليل والنهار بتقدم رسالة الأنبياء بالبشارة والإنذار .
وتوارث أتباع الأنبياء أنباء بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحاربته الكفر ، وقهره الكفار ، وهو الذي تجلى في معركة بدر وأحد والخندق إلى أن تحقق فتح مكة من غير قتال يذكر .
كان يهود المدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب من أسد وغطفان وجهينة وعذرة يستفتحون عليهم ويستنصرونهم يدعون عليهم باسم نبي الله فيقولون : اللهم ربنا انصرنا عليهم باسم نبيك وبكتابك الذي تنزل عليه الذي وعدتنا أنك باعثه في آخر الزمان , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ] ( ).
قانون تعدد وجوه البشارة
ويمكن تقسيم البشارة إلى أقسام :
الأولى : البشارة في الآيات الكونية كالسحاب والمطر ، وطلوع الشمس ، وإطلالة الهلال .
الثانية : البشارة في بعثة الأنبياء والمرسلين ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( ).
الثالثة : البشارة بالكتب السماوية النازلة ، وإن طرأ التحريف على الكتب السماوية السابقة فان القرآن بقي سالماً من التحريف ، وهو من معاني المعجزة العقلية لخصوص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والمعجزة هي الأمر الخارق للعادة , المقرون بالتحدي , السالم عن المعارضة .
ترى ما هي النسبة بين بشارات الكتب السماوية السابقة وبشارات القرآن , تحتمل وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي , وهي على جهتين :
الأولى : التساوي بين بشارات القرآن وبشارات كل كتاب سماوي سابق .
الثانية : التساوي بين بشارات القرآن وبشارات كل كتاب سماوي سابق في نزوله كالتوراة والإنجيل .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين:
الأولى : بشارات الكتب السماوية السابقة أعم من بشارات القرآن .
الثانية : بشارات القرآن أعم وأكثر من بشارات الكتب السماوية السابقة .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين بشارات الكتب السماوية السابقة وبشارات القرآن .
الرابع : التباين بين بشارات القرآن وبشارات الكتب السماوية السابقة .
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثاني أعلاه .
نداء الإيمان حرب على النفاق
الإيمان نية وقصد وقول وعمل في طاعة الله , وهو تصديق بالجوانح والقلب ، وإقرار باللسان ، قال تعالى [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ]( ).
ويتقوم الإيمان بأمور , النطق بالشهادتين , والإنتساب للإسلام, والعزم على أداء الفرائض والإمتناع عن المحرمات , والتنزه من النفاق .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بدايات دعوته ينادي : قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا ) ( ) ومن خصائص الإيمان أنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، لذا جاء (نداء الإيمان) في بدايات آيات تتضمن الأمر أو النهي أو الشرط ليزداد المسلمون إيماناً ويتنزهوا عن النفاق .
والنفاق لغة مصدر نافق ، يقال نافق ينافق نفاقاً ومنافقة .
والنفق : سرب في الأرض له منفذ من جهة أخرى .
والنافقاء : أحدى جحرة اليربوع يكتمها ويظهر غيرها ويجعله رقيقاً تورية فاذا أُتي من جهة الفتحة الظاهرة ، ضرب برأسه النافقاء فانتفق وخرج ) ( ).
والنفاق في الإصطلاح هو إظهار الإسلام مع إبطان الكفر سمي المنافق به لأنه يدخل في الإسلام من باب , ويخرج من باب وسرب آخر .
لذا قال [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ] ( ) أي المارقون والخارجون عن جادة الهدى والإستقامة .
وأيهما أكثر شراً وأذى الكافرون أم المنافقون ، الجواب قد يكون الكافر أكثر شراً ويجهز الجيوش على المسلمين ، وقد يكون المنافق أكثر أذى وضرراً ويسعى لإيقاع الفتنة بين المسلمين ويتناجى عدد منهم باغتيال وقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما حدث عند العودة من واقعة تبوك ، وكان حذيفة بن اليمان لا يصلي على المنافق إذا مات ، لما علّمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
(وقال حذيفة لا تقوم الساعة حتى يسود كل قبيلة منافقوها) ( ) ومات حذيفة في السنة السادسة والثلاثون للهجرة .
وجاء نداء الإيام في القرآن سلاحاً ضد النفاق ووسيلة سماوية لمنع المنافقين من الإضرار بالإسلام ، ولدعوتهم إلى التوبة والإنابة .
وهل نداء الإيمان من مصاديق قوله تعالى في ذم المنافقين [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ]( ) الجواب نعم .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه التباين بين الذين آمنوا وبين المنافقين، ليكون خطاب [يا أيها الذين آمنوا] في شطر من الموارد خاصاً بالمؤمنين ، وفيه ذل وفضح للمنافقين , ويمكن تقسيم النفاق إلى أقسام :
الأول : النفاق في الإعتقاد ، ويسمى النفاق الأكبر ، ومنه الجحود الخفي بالربوبية وبرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : النفاق القولي الذي يخرج على اللسان كما في قوله [وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا] ( ).
الثالث : النفاق العملي .
وهذا التقسيم بياني وإستقرائي وإلا فان اللسان والجوارح تبين ما يضمره الإنسان في نفسه ، وعن عبد الله بن عمرو : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها . إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر) ( ).
لقد ورد نداء الإيمان في القرآن لإستئصال خصال النفاق ولوقاية المسلمين منها ويدعو المسلمين للولاية والنصرة فيما بينهم ، فمن خصائص إتحاد الخطاب من عند الله للمسلمين بصفة الإيمان ، إستدامة الألفة والمودة بين المسلمين .
لذا جاء الأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بانذار المنافقين بصيغة البشارة ، فمع أن الغالب في معناها هو السرور والبهجة فانها حزن وألم للمنافقين , وكأن البشارة بالألم في مقابل تظاهر المنافقين بالإيمان وإخفائهم الكفر والضلالة ، وتعاونهم وتآزرهم بمكر مع الذين كفروا ، قال تعالى [بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] ( ).
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالشأن والفلاح بنداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]وينفذ نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إلى شغاف القلوب ليجعل المسلم يتناجى مع نفسه هل هو مؤمن في قراره نفسه فينال شرف تلقي هذا النداء وهو من مصاديق [بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ] ( ).
وعن جابر قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات) ( ).
وكذا بالنسبة لنداء الإيمان في التطهر والوقاية من النفاق ففي كل مرة يقرأ او يستمع المسلم للفظ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] فانه يحذر من النفاق وتنفر نفسه منه بالإضافة إلى أن كل مضمون من مضامين آيات النداء سبيل للسلامة والإحتراز من النفاق ، وهو من الإعجاز الغيري في آيات النداء مجتمعة ومتفرقة .
لقد ظهر النفاق مع تنامي قوة الدولة الإسلامية ، والأصل أن تكون النسبة طردية فكلما إزداد المسلمون قوة ومنعة إتسع النفاق وظهر بوجوه ولباس متعدد ، فتفضل الله عز وجل ومنع مثل هذا الأصل بأن نزل نداء الإيمان في آيات كثيرة من القرآن ، وهو يبعث المسلمين على العمل في طاعته ، وينهاهم من خصال النفاق الظاهرة والخفية كما تضمنت آيات القرآن الذم والوعيد للمنافقين ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( ).
وجاءت آيات القرآن بالإخبار عن شهادة أعضاء وجوارح الإنسان عليه ، قال تعالى [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ) .
(عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : يا نبي الله إني أسألك بوجه الله بم بعثك ربنا؟ قال : بالإسلام . . . قلت : وما آيته؟ قال : أن تقول { أسلمت وجهي لله } وتخليت ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة . كل مسلم على مسلم محرم أخوان نصيران ، لا يقبل الله من مسلم أشرك بعدما أسلم عملاً حتى يفارق المشركين إلى المسلمين ، ما لي آخذ بحجزكم عن النار . ألا إن ربي داعيّ ، ألا وإنه سائلي هل بلغت عبادي؟ وإني قائل : رب قد أبلغتهم ، فليبلغ شاهدكم غائبكم . ثم أنه تدعون مقدمة أفواهكم بالفدام ، ثم أوّل ما يبين عن أحدكم لفخذه وكفه .
قلت : يا رسول الله هذا ديننا؟ قال : هذا دينكم وأينما تحسن يَكْفِكَ)( ).
نعم يستر الله عز وجل المؤمن في الآخرة كما ستر عليه في الدنيا ، ويجعله يقر بذنوبه عند ربه ثم يغفرها الله عز وجل ليكون نداء الإيمان حاضراً وشفيعاً يوم القيامة ، وسبباً للبركة ، وهل تقبل شهادة المنافق في الخصومات .
الجواب قد ورد نداء الإيمان في مسألة الشهادة في الحقوق ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ] ( ).
فقيدت الآية الشهادة بأمور :
الأول : التعدد في الشهادة وأن لا يقل عدد الشهود عن إثنين أو رجل وامرأتين .
الثاني : إنتساب الشهود للإسلام ، وكل واحد منهم مسلم .
الثالث : أهلية الشاهد لتلقي نداء الإيمان ، إذ تبين هذه الآيات موضوعية الإيمان في الشهادة لأنها تتقوم بالخشية من الله عز وجل بالغيب خاصة وان المشهور عليه ميت ، وليس حاضراً حتى يصدّق أو يكذّب وينفي الشهادة .
الرابع: العدالة وحسن السمت والسيرة لقوله تعالى [ذَوَا عَدْلٍ].
وفي باب الشهادة على الطلاق ورد قوله تعالى [فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ] ( ) لبيان موضوعية التعدد في الشهود , ومن أسرار هذا التعدد وجوه :
أولاً : بيان كثرة المؤمنين العدول وتصديهم للشهادة .
ثانياً : الشهادة أمانة في تحملها وأدائها .
ثالثاً : تحمل الشهادة بصفة الإيمان حرب على النفاق .
رابعاً : حضور التقوى في معاملات المسلمين ، وخشيتهم من الله في الحقوق والمعاملات عامة .
خامساً : كل شاهد يكون رقيباً على نفسه وعلى غيره .
سادساً : الملازمة بين الإيمان والعدالة إلا ما خرج بالدليل ، ويدل على هذه الملازمة إبتداء آية الشهادة على الوصية بنداء الإيمان.
الخامس : تقييد الشهادة بالبلوغ والعقل لقوله تعالى [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ] ( ) والتعدد في الشهود مصداق للبينة التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر) ( ).
وفي بيان خصال العادل ووجوه العدالة حين سئل الإمام جعفر الصادق (بما يعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى يقبل شهادته لهم وعليهم ؟ قال: أن يعرفوه بالستر والعفاف، والكف عن البطن والفرج واليد واللسان ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار، من شرب الخمر، والزنا، و الربا، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف وغير ذلك. والدال على ذلك كله والساتر لجميع عيوبه – حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وغيبته، ويجب عليهم توليته، وإظهار عدالته في الناس –
التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن، وحافظ على مواقيتهن بحضور جماعة المسلمين وأن لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم إلا عن علة.
وذلك أن الصلاة ستر وكفارة للذنوب، ولو لم يكن ذلك لم يكن لأحد أن يشهد على أحد بالصلاح، لأن من لم يصل فلا صلاح له بين المسلمين، لأن الحكم جرى فيه من الله ومن رسول الله صلى الله عليه وآله بالحرق في جوف بيته. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا صلاة لمن لا يصلي في المسجد مع المسلمين إلا من علة. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا غيبة إلا لمن يصلي في بيته ورغب عن جماعتنا. ومن رغب عن جماعة المسلمين وحجب على المسلمين غيبته، وسقطت بينهم عدالته، ووجب هجرانه، وإذا رفع إلى إمام المسلمين أنذره وحذره فان حضر جماعة المسلمين وإلا احرق عليه بيته، ومن لزم جماعتهم حرمت عليهم غيبته، وثبتت عدالته بينهم .
قانون كل آية تنزيه من النفاق
ويمكن تأسيس قانون وهو (كل آية من القرآن تنزيه من النفاق ) ويحتمل موضوع التنزيه من النفاق في الآية القرآنية وجوهاً:
الأول : إتحاد جهة وموضوع التنزيه من النفاق .
الثاني : تعدد جهات التنزه من النفاق في كل آية قرآنية .
الثالث : التفصيل , فمن الآيات ما تتحد فيها جهة التنزيه من النفاق والموعظة في لزوم هجرانه والعصمة منه ، ومنها ما تتعدد فيها هذه الجهات.
والمختار هو الثاني ، فكل شطر من الآية القرآنية يدعو المسلمين والمسلمات للتنزه من النفاق وإبطان الكفر , وهو من الإعجاز الغيري للقرآن بتهذيبه للنفوس وإصلاحه للمجتمعات .
وقد تقدم أن يوم معركة أحد هو يوم فرقان وفيصل بين الإيمان والكفر وإلى يوم القيامة .
وتحتمل الآية القرآنية وجوهاً :
الأول : من آيات القرآن ما هي فيصل بين الإيمان والكفر ، ومنها ما لا صلة لها بموضوع الفصل والبيان والتمييز بينهما ، إنما تفرق الآية بين الحق والباطل أو تتضمن الكشف والبيان .
الثاني : كل آية قرآنية فيصل بين الإيمان والكفر .
الثالث : لا صلة لآيات القرآن بالفصل والفيصل بين المؤمنين والذين كفروا ، بدليل أن آية البحث تخاطب المسلمين بصفة الإيمان , وتتوجه آيات من القرآن إلى الذين كفروا بالذم والتوبيخ .
الرابع : القدر المتيقن من الفرقان بالنسبة للمسلمين هو أن القرآن كله فرقان بلحاظ العموم المجموعي لآياته ، قال تعالى في الثناء على نفسه والإخبار عن عظيم منزلة القرآن [وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ]( ).
وعن ابن عباس قال (الفرقان جماع اسم التوراة والإِنجيل والزبور والفرقان) ( ).
الخامس : قد جاء النص القرآني بأن يوم بدر [يَوْمَ الْفُرْقَانِ]( ) ، إذ تقابل المسلمون بإمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الذين كفروا , وفي أول معركة في تأريخ الإسلام ، فاجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء وقال (اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني)( ).
قانون السنة مدد للإمتثال للأوامر والنواهي القرآنية
لقد تفضل الله عز وجل وجعل السنة النبوية مرآة للوحي ورشحة من رشحاته , وقد علمنا أن القرآن كلام الله أنزله بواسطة الملك جبرئيل يلقيه على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمانة في النص والكلمات والحروف من غير تغيير أو تبديل ، وأثنى الله عز وجل على جبرئيل ووصفه بالأمين .
وعن معاوية بن قرة قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجبريل : ما أحسن ما أثنى عليك ربك { ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين }( ) فما كانت قوتك وما كانت أمانتك؟ قال : أما قوّتي فإني بعثت إلى مدائن لوط وهي أربع مدائن ، وفي كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري , فحملتهم من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب ، ثم هويت بهم فقتلتهم ، وأما أمانتي فلم أومر بشيء فعدوته إلى غيره) ( ).
والقرآن والسنة والإجماع على أن السنة النبوية شعبة من الوحي ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يتكلم أو يفعل إلا بأمر الله عز وجل .
ومن خصائص القرآن أن لفظه ومعناه من عند الله , وأما الحديث القدسي فأن أصله صادر من عند الله ولكن لفظه من عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يحكيه عن الله عز وجل.
ويدل عليه أحياناً قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال الله تعالى مع أنه ليس بقرآن , و(عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله تبارك وتعالى يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء) ( ) .
وبما ان هذا القول ليس مما بين الدفتين فهو إذن حديث قدسي وليس قرآناً ، ومن الحديث القدسي ما ورد عن قتادة : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى : (إني افترضت على أمتك خمس صلوات ، وعهدت عندي عهداً أنه من حافظ عليهن لوقتهن أدخلته الجنة في عهدي ، ومن لم يحافظ عليهن فلا عهد له عندي)( ).
وعن شداد بن أوس الأنصاري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إذا ابتليت عبداً من عبادي مؤمناً فحمدني على ما ابتليته ، فإنه يقوم من مضجعه كيوم ولدته أمه من الخطايا ، ويقول الرب عز وجل : إني أنا قيدته وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك ) ( ).
لذا قيد بأنه قدسي للفصل والتمييز بينه وبين الحديث النبوي الذي هو بإذن من الله عز وجل ولكن لفظه ومعناه من عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتأكيد أن كلامه وحي [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) ومنهم من قسم الحديث النبوي إلى قسمين :
الأول : الحديث التوقيفي : وهو الذي يأتي معناه ومضمونه بالوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببيانه وتفصيله .
الثاني : الحديث التوفيقي وهو الذي إجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم باستنباطه من القرآن في معرفته من ظاهر وثنايا آيات القرآن ، فيقر الوحي ما كان صحيحاً منه ويكون سبباً لمنع غيره من الإستنباط .
ولا دليل على هذا التقسيم وما فيه من التكلف ، وهو مخالف لمنطوق الآية أعلاه ، ثم على فرض وجود هذا التقسيم فليأتوا بأمثلة كثيرة متعددة ، ولا عبرة بالخبر الواحد أو النادر بالإضافة إلى إمكان تأويله كما في حديث تأبير النخيل وقد تقدم بيانه ( ).
ولما كانت السنة النبوية شعبة من الوحي فان الله عز وجل تفضل وجعلها تفسيراً للقرآن يجري على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه دعوة للمسلمين لإستقراء علوم بيانية من السنة النبوية وبما يمنع من سوء التأويل والتحريف في التفسير .
ومن معاني هذا القانون الجمع بين الآية القرآنية والحديث النبوي ، والتدبر في وجوه تفسير الحديث للآية القرآنية ، ومن خصائص هذا العلم أمور:
الأول : بيان وتفسير الحديث النبوي الواحد لآيات قرآنية متعددة.
الثاني : تفسير الآية القرآنية بآيات قرآنية متعددة .
الثالث : التقييد لإطلاق وعموم الآية القرآنية على فرض ثبوت هذا التقييد , واللفظ المطلق هو الذي يدل على شائع في جنسه أو يأتي بصيغة التعريض أو التنكير في مقام الإثبات , ومن غير قيد لفظي .
كما في لفظ (صَلَوَاتٌ ) و(وَرَحْمَةٌ) في قوله تعالى [أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ] ( ).
ومن أمثلة تقييد السنة لإطلاق القرآن قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ]( ) فلم تقيد الآية أعلاه لفظ الوصية ولكن السنة النبوية قيدته بأنه بمقدار الثلث أو أقل .
(عن سعد بن أبي وقاص : أنه مرض مرضاً أشفي منه فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوده فقال : يا رسول الله إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلا ابنة أفأتصدق بالثلثين؟ قال : لا . قال : فالشطر . . . ؟ قال : لا . قال : فالثلث . . . ؟ قال : الثلث والثلث كثير ، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) ( ).
كما جاء تقييد آخر بالوصية من جهة الكيف والموضوع , فقد ورد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (الإضرار في الوصية من الكبائر) ( ).
وهذا قيد آخر للوصية فقد تكون الوصية بالثلث ، ولكنها تجلب الضرر على الورثة أو شطر منهم .
ومن تقييد السنة وبيانها للحكم القرآني قوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا] ( ) إذ أخبر النبي محمد صلى اله عليه وآله وسلم بأن القطع بربع دينار ذهب فصاعداً .
ويبين هذا القانون حاجة المسلمين لتدوين ومعرفة السنة النبوية والتفقه في علوم الحديث، وعلم الرجال والدراية، وقد بذل العلماء الوسع في هذه الأبواب وأحصوا الأحاديث النبوية، وترجموا لرجال الحديث، وبينوا طبقاتهم لينال رجال سلسلة الخلود بين الناس إلى يوم القيامة , بما تحملوه من رواية الحديث التي هي من أعظم الشهادات في التأريخ ولزوم التنزه فيها من الكذب والتحريف والزيادة والنقصان، قال تعالى[وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] ( ).
ومن الإعجاز في علوم القرآن والسنة أن التحقيق في السنة النبوية ليس بالأمر العسير أو الشاق فلقد تولى الثقات من المسلمين نقل وتوارث الأحاديث النبوية مثلما تعاهدوا الآيات القرآنية كتابة ورسماً وتلاوة، وحرصوا إلى إيصالها لمن بعدهم ذرية وطلبة وأتباعها، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]( ).
وموضوعية الثقة في المقام من جهات:
الأولى : معرفة الذي يؤخذ منه الحديث من الطبقات المتعددة، فلابد أن يكون عادلاً ثقة في نفسه وكلامه وسيرته.
الثانية : تلقي الحديث ولحاظ كلماته ومعانيه ودلالاته، مع الإحاطة بعلوم اللغة العربية على نحو الإجمال.
الثالثة : حفظ الحديث والذي يحتاج إلى ملكة خاصة.
الرابعة : تدوين الحديث، لمنع السهو والنسيان فيه , ومن الآيات في المقام أن طلاب الحديث ليس لهم حصر، ومنتشرون في كل بلد، ويقصدون أهله مع التمييز والتمايز والترجيح بينهم بعد أن أسس أهل البيت والصحابة لهذا العلم، وقد شاء الله عز وجل أن يسكنوا الأمصار ويأتيهم الناس لسماع الحديث وأخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتفسير الآيات وأسباب نزولها، والوقائع التي جرت في الأيام الأولى للإسلام .
ومن خصائص الحديث النبوي أنه عون ومدد للمسلمين في الإمتثال للأوامر والنواهي القرآنية , فحينما يقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني اصلي ( )، فان هذا الحديث بيان لكيفية الصلاة، وترغيب للإمتثال لأوامره تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ]( ) .
وإخبار عن وجوب الصلاة وعدم الإستكبار عن أدائها، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو سيد الخلائق كان يتعاهدها، ولبيان أن محاكاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته من جهات:
الأولى : أوقات الصلاة اليومية.
الثانية : المبادرة إلى الصلاة حال دخول وقتها.
الثالثة : أداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة جماعة.
الرابعة : التفصيل في القراءة الجهرية والإخفاتية، بأن تكون القراءة في صلاة الصبح والمغرب والعشاء جهرية، والقراءة في صلاة الظهر والعصر إخفاتية.
الخامسة : إتباع قراءة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الحروف والكلمات ومخارجها، والوقف ، والمد، والمختار أن كثيراً من المحسنات اللفظية في القراءة في هذا الزمان لم يثبت سندها عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كخروج حرف الضاد من إحدى حافتي اللسان وما يحاذيه من الأضراس العليا من الجهة اليسرى أو اليمنى , إذ المدار على صحة النطق وليس موضع اللسان وإن كان تعيين موضعه وكيفية حركة الكفين مقدمة ونوع طريق لنطق الحروف بالصيغة الصحيحة.
السادسة : تدارك السهو والنسيان في الصلاة، وكيفية أداء صلاة القضاء وقد ورد (عن أنس بن مالك قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فقال : من يكلؤنا الليلة؟ فقلت : أنا . فنام، ونام الناس ، ونمت ، فلم نستيقظ إلا بحرِّ الشمس . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيها الناس إن هذه الأرواح عارية في أجساد العباد ، فيقبضها إذا شاء ، ويرسلها إذا شاء) ( ).
السابعة : عدد ركعات كل فرض من الصلوات اليومية .
الثامنة : أجزاء كل ركعة من الصلاة.
التاسعة : ترتيب أفعال الصلاة، وعدم جواز تقديم المؤخر على المقدم ، فمثلاً في الحج يصح تقديم الساهي والناسي الذبح على الرمي، والحلق على الذبح، وعن جابر بن عبد الله ( أن رجلا ، قال : يا رسول الله ذبحت قبل أن أرمي ، فقال : ارم ولا حرج ، فقال آخر : يا رسول الله ، حلقت قبل أن أذبح ، قال : اذبح ولا حرج ، فقال آخر : طفت قبل أن أرمي يا رسول الله ، فقال : ارم ولا حرج) ( ).
أما في الصلاة فلا يجوز تقديم السجود على الركوع، وإن فعل المصلي بطلت صلاته سواء كان تقديمه هذا عن سهو أو عن عمد .
ومن الإعجاز في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العبادية أنه لم يقدم يوماً فعلاً من أفعال الصلاة في غير محله، فلم يقدم القراءة على تكبيرة الإحرام، ولا الركوع على القيام ، ولا السجود على الركوع، ولا التسليم على التشهد.
العاشرة : كيفية الركوع والسجود، ووضع اليدين والقدمين مع لحاظ التباين بين الواجب والمستحب.
الحادية عشرة : إفتتاح الصلاة بتكبيرة الإحرام بقول (الله أكبر).
الثانية عشرة : قراءة سورة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة مع قراءة سورة أو آيات من سورة أخرى.
إن محاكاة المسلمين والمسلمات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته من مصاديق قوله تعالى[حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى]( ).
ولمّا خاطب الله عز وجل المسلمين بنداء الإيمان تفضل عليهم بصلاة الجماعة لتكون شاهداً يومياً على صدق إيمانهم ، وإستحقاقهم بفضل الله لتلقي نداء الإيمان ، وليكون تلاوة كل نداء للإيمان مصداق له في الواقع اليومي للمسلمين .
ومن خصائص صلاة الجماعة أنها تثبت سنن الإيمان ، وتهدي إليها ، وتنمي ملكة التقوى عند المسلمين ، وفيها بعث للعمل بمضامين كل آية من آيات نداء الإيمان .
قانون تعاهد الصدقات
لما أنعم الله عز وجل على المسلمين وجعلهم [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) فانه تفضل وفتح عليهم باب الصدقات والإنفاق في سبيل الله لما فيه من المنافع العظيمة في الدنيا والآخرة ، ولا يستطيع أحد أحصاء هذه المنافع إلا الله عز وجل فنهى وأنذر من إبطال الصدقات لبيان أن موضوع الصدقة لا ينحصر بإخراجها ودفعها للمستحق بل هو متصل ، ويتقوم تعاهد الصدقة بالتنزه عن إرادة الذل والإستضعاف للمتصدق عليه ، وعن المراءاة ، ترى ما هي النسبة بين المنّ الذي تذكره الآية والمراءاة ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق فالمن أعم ، لقد أراد الله عز وجل للصدقة والإنفاق أن يكونا حرباً على الرياء ، وتنزهاً عن النفاق ، فتفضل ونهى عن المنّ السابق أو المصاحب أو اللاحق لهما ، لتكون الصدقة مقدمة للإنقطاع إلى طاعة الله وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) فمن منافع تعاهد الصدقة تغشي المسلمين برحمة الله ودفع الفتنة والأذى عنهم .
وتقدير الآية : أوقعوا الأذى عن أنفسكم بعدم تعقب الصدقة بصدور الأذى منكم لتكون الحياة الدنيا روضة للمؤمنين وخالية من الأذى فلا يصل إلى الفقير ويدفع عن الغني ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
لقد أنشأت آية البحث صرحاً من المفاهيم الأخلاقية الحميدة عند المسلمين منذ أيام التنزيل وإلى يومنا هذا ، فترى كثيراً من المسلمين ينفق ويعطي وهو يحرص على كتمان عطائه وإنفاقه وعدم إلحاقه بالأذى رجاء الأجر والثواب ، وليكون مصداقاً لقانون وهو وجود ممتثل للآية القرآنية في كل زمان ، وتدعو آية البحث إلى أمور:
الأول : التقيد بسنن الإيمان لإبتدائها بنداء الإيمان .
الثاني : بيان قانون وهو من خصال المؤمنين مسائل :
الأولى : التصدق وإعانة الفقراء (عن أنس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أعان أخاه في حاجته وألطفه كان حقا على الله أن يخدمه من خدم الجنة) ( ).
الثانية : التنزه عن فعل ما يبطل الصدقة كالمنّ والتعيير والأذى والرياء وإخبار الناس عن صدقته ، ولو كان هذا الإخبار لدفع الظنة عن نفسه فهل يجوز , الجواب نعم , إلا إذا كان فيه أذى للفقير لقاعدة تقديم الأهم على المهم وتعدد صيغ دفع الظنة من غير أذى للغير .
الثالثة : إرادة قصد القربة في الصدقة والنفقة ، وهذا القصد حرز من فعل الضد والنقيض مما يبطل الصدقة .
الرابع : الشهادة للمسلمين بأنهم يخرجون الزكاة ويتصدقون من أموالهم ، وأن هذه الصفة مصاحبة لهم إلى يوم القيامة ، وفيه بشارة إلى كل جيل من المسلمين بلحاظ أن قوله تعالى [لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ] خطاب متوجه إلى كل مسلم ومسلمة وفي كل زمان وإلى يوم القيامة .
وهل تشمل الآية صدقة الأموات ، كما لو كانت تقول للمسلم: لا تبطل صدقة أبيك بالمن والأذى على الفقير الذي أعانه أبوك في حياته .
الجواب نعم تخاطب الآية المسلم بخصوص صدقة أبيه بلحاظ الإطلاق في معنى صدقاتكم ، ولكن المن والأذى الصادر من الابن لا يضر أبيه وثوابه ، قال تعالى [وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى] ( ) ولكن هذا المنّ قد يحرم الابن مما يترشح عليه من ثواب صدقة أبيه .
وقد ورد لفظ [لاَ تُبْطِلُوا] مرتين في القرآن ، إذ ورد ذات النهي مع نداء الإيمان بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ] ( ).
وبين الأعمال التي تذكرها الآية أعلاه وبين الصدقات عموم وخصوص مطلق ، فالأعمال أهم .
ليكون النهي عن المنّ والأذى مرتين ، الأولى على نحو التعيين في آية البحث والثانية على نحو الأجمال في الآية أعلاه ، وقد لا يعلم المسلم أن المنّّ والأذى للفقير يبطل الصدقة أو ينقض ثوابها لإمكان التفكيك بين فعل الصدقة وبين ما يتعقبها ، فقطعت آية البحث الخلاف والخصومة بين المسلمين في مسألة كلامية تتعلق بثواب الأعمال ، لتخبر على أن صدقة المسلم نعمة عظمى عليه ، وباب لجلب المصلحة ودفع المفسدة لذا يجب عليه أن يحافظ عليها بعدم تعقبها بالمن أو الأذى للفقير .
ونسب إلى ابن عباس في الآية قوله تعالى [لا تُبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى]قال (بالمنّ على الله تعالى والأذى لصاحبها) ( ).
لقد إبتدأت الآية بنداء الإيمان وفيه شهادة من عند الله عز وجل على هداية وصلاح المسلمين وإقرارهم بأن ما في أيديهم من النعم والخيرات من عند الله عز وجل وأنه قادر على كل شيء ، وقد ورد في ذم قوم قوله تعالى [يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ]( ) وورد في سبب نزول الآية أعلاه عن ابن عباس قال (جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا رسول الله، أسلمنا وقاتلتك العرب، ولم تقاتلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن فقههم قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم”. ونزلت هذه الآية) ( ).
قانون منافع عدم تيمم الخبيث في الصدقة
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بان جعل كل واحد منهم ذكراً أو أنثى يتلو قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) عدة مرات في اليوم وعلى نحو الوجوب العيني ، ومنه بلحاظ آية البحث أمور :
الأول : تعاهد الإيمان ، قراءة الآية أعلاه بقصد القربة إلى الله وصيغة القرآنية .
الثاني : الإيمان بالله واليوم الآخر صراط مستقيم فاز المسلمون ببلوغه وإنتهاجه السير في ضيائه .
الثالث : الإنفاق في سبيل الله صراط مستقيم وبناء في الدنيا وإدخار للآخرة .
لقد ذكرت آية البحث جهتين من الإنفاق :
الأولى : ما كسب المسلمون .
الثانية : ما يخرجه الله عز وجل من الثمار والأعناب والمعادن للمسلمين .
ولقد نسبت الآية الكسب للمسلمين بقوله تعالى [مَا كَسَبْتُمْ] ونسبت الإخراج من الأرض إلى الله عز وجل ، فهل من تباين بينهما ، الجواب لا ، ويدل عليه إتحادهما بالأمر بالإنفاق منهما .
وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : أنفقوا من طيبات ما كسبتم من رزق الله .
ثانياً : إنفقوا من طيبات ما كسبتم بإذن الله .
ثالثاً : أنفقوا من طيبات ما كسبتم شكراً لله عز وجل .
رابعاً : أنفقوا من طيبات ما جعلكم الله تكسبونه ، وهذا الكسب من لطف الله بالمسلمين .
خامساً : أنفقوا من طيبات ما أخرجنا لكم من الكسب ومما أخرجنا لكم من الأرض .
ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) تفضل الله عز وجل بهداية المسلمين إلى الإنفاق الذي هو من مصاديق الأخوة الإيمانية وإشاعة مفاهيم الإعانة بين المسلمين والناس جميعاً، وعن ابن عمر أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قال : ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام)( ).
ويبعث ذكر الإنفاق وتقييده في الآية بالطيبات المسلمين على التنزه من الحرام ، فاذا كان الإنفاق من النوع الردئ مكروهاً ومنهياً عن تبييت النية بحصر الإنفاق به ، فمن باب الأولوية القطعية إجتناب الحرام والكسب بالباطل والمعاملات الربوية إقراضاً أو إفتراضاً .
لذا قيدت الآية الإنفاق بأنه من الطيبات لتنزيه المسلمين عن المعاملات المحرمة، وعن صيرورتها طريقاً ومادة للإحسان والإنفاق، فان يمتنع الإنسان عن الحرام خير له من الإنفاق منه (عن ابن موسى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ قَالَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ قَالَ يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ قَالَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَفْعَلَ قَالَ يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ قَالَ أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ يَأْمُرُ بِالْخَيْرِ أَوْ بِالْعَدْلِ قَالَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَفْعَلَ قَالَ يُمْسِكُ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهُ لَهُ صَدَقَةٌ)( ).
وهل الأمر بالمعروف المذكور في الآية أعلاه من الإنفاق في قوله تعالى [أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ]أم أنه أمر آخر .
الجواب الأمر بالمعروف من الإنفاق والبذل والإحسان إلا أن القدر المتيقن من المراد في الآية هو التصدق بالمال والأعيان لقيد الطيبات وقوله تعالى [وَمِمَّا أَخْرَجْنَا]وفيه نكتة وهي منع المسلم من الإكتفاء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فكل فرد له ثوابه وأجره ومنافعه ولا يغني عن الآخر في مورده ، ويدل عليه أيضاً النهي عن صيرورة إنفاق الخبيث والردئ هو الغاية والقصد الذي يكون إنفاق على وجوه :
الأول : إنحصار الإنفاق بالردئ مع وجود النوع أو الجنس الجيد والحسن .
الثاني :الجمع بين الإنفاق بين الجيد والردئ .
الثالث : الإنفاق من الردئ ولكن ليس عن قصد حصر الإنفاق به ، كما لو إتفق عدم وجود وتوفير غيره ساعة الإنفاق .
الرابع : العزم على عدم إنفاق غير الردئ سواء توفر الجيد أو لم يتوفر .
الخامس : الإنفاق من الردئ لتعذر إنفاق غيره .
والمراد في الآية النهي عن الأول والرابع أعلاه .
وهو من إعجاز الآية بأن تضمن النهي فيها أمرين :
الأول : النهي عن العزم على إنفاق الخبيث بقوله تعالى [وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ].
الثاني : النهي عن الإنفاق من الخبيث بقوله تعالى [مِنْهُ تُنفِقُونَ].
ومن منافع إجتناب إنفاق الخبيث الدلالة على التقوى وطاعة الله ، قال تعالى [لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ] ( ).
ومن منافع النهي عن إنفاق الخبيث الوعد من عند الله للمسلمين بأن يرزقهم الطيبات يأكلون منها ويتنعمون بها وينفقون منها ، وتقدير الآية : ولا تيمموا الخبيث لأن الله عز وجل يرزقكم الفضل والنافلة من الطيبات وهو الذي تدل عليه ذات آية البحث ولغة التبعيض بقوله تعالى [أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ] إذ يدل على التبعيض فيها على زيادة الرزق على مقدار الحاجة بأقصى وأكثر حالاتها وهو الذي يدل عليه الأمر من عند الله [كُلُوا].
وفي الآية تنبيه برد المال الحرام إلى أهله سواء كان غصباً أو رباً أو نهباً أو سرقة فيجب رد المال إلى صاحبه ، وإن كان ميتاً فيرد إلى ورثته ، إلا مع الضرر والخشية على النفس من رد المال فحينئذ إن أمكن رده بالواسطة وطريقة خفية والضابطة فيه عدم جلب الضرر على النفس أو الغير بهذا الرد ومع تعذره وتجلي أمارات على الضرر في حال الرد والعجز عن معرفة صاحب المال والوصول إليه، فيجوز التصرف به ، وهو من أسرار تقييد النهي عن التصرف بالخبيث بلفظ [تيمموا] فلم تقدم هذه الصدقة إلا بعد حصور العذر ، وهو من معاني الإعجاز في لفظ [الخبيث ] في الآية لأنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، فمنها يراد منه النوع الردئ ، ومنها ما يكون من المال الحرام والنهب .
لقد أنعم الله عز وجل على الفقراء في آية البحث فلا يأتيهم المال إلا طيباً وحلالاً ، وتقدير الآية : أنفقوا من طيبات ما كسبتم للذين لم يكسبوا .
وتبعث الآية المسلمين لدفع الزكاة أو الخمس مما يخرج من الأرض من المعادن ومن الركان أو الكنز والنقود القديمة مما دعن في الأجيال الغابرة، ومن مصاديق تفسير السنة السنوية للقرآن في المقام قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)( ) من جهات:
الأولى : إبتداء آية البحث بنداء الإيمان لبيان أن المسلمين يشتركون في تلقي نداء الإيمان وهو أعظم وأحسن هبة وصدقة ، فليس من مسلم إلا وقد تفضل الله عز وجل عليه بنداء الإيمان ، وهو الصدقة العظمى فلا يظن بعضهم أنه يتصدق على غيره ولا يتصدق عليه لذا أختتمت الآية بقوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ] ( ).
الثانية : بيان حقيقة وهي ان الناس محتاجون ، وتلازم الحاجة عالم الإمكان والإنسان من الممكنات ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
الثالثة : تدعو الآية لمشاركة المسلمين جميعاً بأكل الطيبات ، ليكون هذا الأكل من رشحات نداء الإيمان ، فكما توجه النداء في آية البحث إلى المسلمين والمسلمات جميعاً فكذا يأكل واحد منهم من الطيبات وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ].
أي ليأكل أخوانهم المسلمون من ذات الطيبات ، وعلى المعنى الأعم للآية ووصول الصدقات لغير المسلمين فأن الآية من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
فمن رحمة الله عز وجل أن يأكل الناس من الطيبات بأمر الله عز وجل النازل على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آية البحث .
وقد ورد النص بصيغة العموم في إعطاء الصدقة والإحسان وعن عبد الله بن عمرو وهو جالس في ظل الكعبة والناس مجتمعون فسمعته يقول بينما نحمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر إذ نزل منزلا فمنا من يضرب خباءه إذ نادى مناديه الصلاة جامعة فاجتمعنا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبنا فقال إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا لله عليه أن يدل أمته على ما يعلمه خيرا لهم وينذرهم ما يعلمه شرا لهم وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها وإن آخرها سيصيبهم بلاء وأمور ينكرونها تجئ الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم تنكشف ثتجئ الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه ثم تنكشف فمن سره أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فليدركه موته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه) ( ).
وهل في الآية دلالة على أن العقارات والأواني والمقتنيات الخاصة ليس فيها زكاة الجواب لا، إذ أن موضوع الآية الإنفاق من الطيبات وبينه وبين عموم النفقة والزاد عموم وخصوص مطلق .
وقد تقدم أن المختار هو أن حرف الجر في قوله تعالى [مِنْ طَيِّبَاتِ]يراد منه التبعيض والجنس لتعم القليل والكثير والمتعدد في نوعه والضابطة فيه هو أنه من الفضل والنافلة والزائد عما يأكله وينتفع منه ذات المالك ، وهو لا يتعارض مع قوله تعالى [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ] ( ) مع التقيد بمضامين آية البحث وهي تعيين الخبيث المنهي عنه بأنه لا يؤخذ إلا مع الإغماض والكراهية ، وتحتمل لغة الخطابة [وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ] ( ) وجوهاً :
الأول : إرادة عموم المسلمين والعطف في الخطاب على نداء الإيمان الوارد في أول آية البحث [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ].
الثاني : إرادة ذات المنفق الذي يعطي الصدقة والعين للفقير وتقدير الآية : ولست بآخذه إلا أن تغمض فيه .
الثالث : المقصود الأسرة والعائلة المسلمة ، فالذي ينفق ينظر هل تتخذ عائلته هذه الصدقة كالذرة مؤونة وطعاماً .
الرابع : إرادة العرف العام السائد ، فلا يعطى الفقير ما تجتنب أكثر العوائل والأسر مثل هذا الطعام والنفقة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية الكريمة لتؤسس هذه الآية لقانون دائم وهو إتصاف فعل الصدقة بالقبول والرضا عند أكثر الناس كيلا يتعارض إستلام الفقير لها مع مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وتكون الصدقة من وجوه الإيمان الذي يتحلى به المسلمون ، وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تنفقوا مما لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ) .
لقد أختتمت آية البحث بثلاثة من الأسماء الحسنى [اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ] وفيه آية في تفقه المسلمين في المعارف الإلهية خاصة وأن الآية تصاحبهم في صلاتهم وحياتهم اليومية ويتلونها جهرة وإخفاتاً .
فمع أن الله عز وجل هو الغني عن الخلائق فانه يتفضل ويرغّب المسلمين بالإنفاق من الطيبات ، ولم يجعل له حداً أعلى لأن الحسنة بعشرة أمثالها والنفقة مضاعفة أضعافاً كثيرة ، بينما ذكرت الآية الحد الأدنى وهو أن لا تكون النفقة مما تعافه النفس ، ولا يقتنيه الإنسان إلا مع الكراهة .
لقد أراد الله عز وجل بعث السرور والغبطة في نفس الفقير عندما تأتيه الصدقة ، وهذا السرور من الإعجاز والأسرار في مضاعفة ثواب الإنفاق في قوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ).
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (إن أحب الأعمال إلى الله بعد الفرائض إدخال السرور على المسلم)( ).
لبيان قانون وهو أن ثواب الصدقة لا يختص بمقدارها وكمها بل يشمل وجوهاً :
الأول : كيفية الصدقة لذا فان صدقة السر أكثر ثواباً .
الثاني : التنزه عن المنّ على الفقير أو إيذائه عند الصدقة أو بعدها ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى] ( ).
الثالث : تقييد الإنفاق والصدقة بأنه من الطيبات ، ومن أسرار هذا التقييد أن تكون النفقه ذات نفع خاص وعام ، لذا لم تأت الآية بخصوص الصدقة بل شملت الإنفاق مطلقاً ، وبينه وبين الصدقة عموم وخصوص مطلق .
بعد أن إبتدأت آية البحث بنداء الإيمان ذكرت أمرين :
الأول : الإنفاق من المكاسب .
الثاني : الإنفاق مما تخرج الأرض .
وبينهما عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من جهات:
الأولى : إتحاد لغة الخطاب .
الثانية : توجه كل من الأمرين إلى المسلمين والمسلمات في كل زمان .
الثالثة : صبغة الإنفاق والبذل والصدقة .
وأما مادة الإفتراق فمن جهات :
الأولى : نسبة الكسب إلى المسلمين ونسبة إخراج كنوز الأرض إلى الله عز وجل ، وحتى بالنسبة للثمار فانها لا تنبت وتنمو إلا بإذن الله .
الثانية : يأتي الكسب بالسعي والجهد وبذل الوسع ، بينما ذكرت الآية إخراج ما في الأرض بفضل الله ، ولا يتعارض مع بذل الجهد فيه .
الثالثة : تبين الآية أن الله عز وجل تفضل وإدخر للناس ثروات وذخائر في الأرض وتحتمل لغة الخطاب أخرجنا لكم وجهين :
الأول : تخرج لعموم الناس الثروات من الأرض ، وينتفع منها المسلمون مثل باقي أهل الأرض .
الثاني : إرادة الآية خروج كنوز ونعم وثمرات خاصة بالمسلمين ولا تعارض بين الوجهين ، وكلاهما من فضل الله ومصاديق الآية الكريمة وسعة رحمة الله .
وفيه حجة على المسلمين بأن الله عز وجل تفضل عليهم بالنعم المتعددة لينفقوا منها ويسخروا جزء ً يسيراً منها في سبيل الله .
ويحتمل العطف في آية البحث بالواو في [ومما أخرجنا] وجوهاً:
الأول : يا أيها الذين آمنوا بأن الذي أخرج لكم ما في الأرض هو الله عز وجل .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما أخرجنا لكم .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا انفقوا من طيبات ما أخرجنا لكم .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم مما أخرجنا لكم من الأرض .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ثم مما أخرجنا لكم من الأرض .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وتصلح الواو في المقام للعطف والجمع والترتيب والإستئناف .
وبعد أن جاءت الآية بنداء الإيمان والأمر بالإنفاق من الطيبات والأمر بالإنفاق مما أخرج الله من الأرض ، إنتقلت الآية إلى النهي في ذات موضوع الإنفاق ، ويدل عليه تكرار مادة أنفق في الآية [انفقوا][منه تنفقون] .
وإذا كان النوع ردئ يغمض فيه ويؤخذ على غضاضة ،فان الطيبات تؤخذ برضا وسعادة ، وتمنع الجناية ، وفيها دفع للضرر فقد يختار الفقير الصبر على الجوع والعوز على قبض الخبيث ، ومن معاني اسم [الغني ] الوارد في خاتمة الآية بلحاظ آية البحث وجوه:
الأول : إن الله عز وجل هو الغني الذي جعل المسلمين يصلون إلى درجة الإيمان .
الثاني : من غنى الله عز وجل خطابه للمسلمين باسم الذين آمنوا ، فلا يقدر أحد أن يتغشى أجيال المسلمين المتعاقبة بثناء وشرف عظيم إلا الله عز وجل .
الثالث : الله عز وجل هو الغني الذي يثيب المسلمين على هدايتهم وإيمانهم ، وهل يثيبهم على نداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]الذي هو فضل منه تعالى ، الجواب نعم ، وهذا الثواب غير ما يترشح عن تلاوة المسلمين للنداء .
الرابع : من غنى الله عز وجل أنه يجمع للمسلمين أموراً :
أولاًُ : الإيمان والتصديق بربوبته وآياته وأنبيائه وكتبه.
ثانياً : الشهادة من عند الله للمسلمين بالإيمان .
ثالثاً : شهادة الملائكة والخلائق للمسلمين بالإيمان تبعاً لشهادة الله ، وفي التنزيل [ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ] ( ).
رابعاً : حضور شهادة الله للمسلمين يوم القيامة .
خامساً : شهادة الله عز وجل للمسلمين بفضل ولطف ونافلة منه تعالى فقد قال تعالى في خطاب تنبيه وتحذير للأعراب [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ] ( ).
سادساً : تفضل الله عز وجل برزق المسلمين الطيبات .
سابعاً : الأمر من عند الله للمسلمين بالإنفاق من الطيبات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] ( ) فلا يقدر على رزق الطيبات والأمر بالإنفاق منها ودلالة هذا الأمر على الوعد الكريم بالعوض والبدل إلا الله عز وجل .
وقد لا تصل النوبة للعوض لأن كل فرد من الطيبات يأتي للمسلمين إبتداء وهبة من الله تعالى ، وتقدي الآية على جهات : الأولى : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم بما أنتم مؤمنون .
الثانية : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم لأنكم مؤمنون .
الثالثة : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما كسبتم لأن الإنفاق ملازم للإيمان والوثوق بأن الله يتفضل بالبدل والعوض الحاضر واللاحق المتصل والشامل للعوالم الطولية الحياة الدنيا وعالم البرزخ ويم القيامة .
الرابعة : يا أيها الذين آمنوا بأن الطيبات التي جاءتكم وتأتيكم هي من عند الله عز وجل .
الخامسة : يا أيها الذين آمنوا بأن الله عز وجل هو الذي يخرج لكم الثمرات وخزائن من الأرض ، ومن معاني قوله تعالى [وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً] ( ) أن الله عز وجل يحفظ الإنسان في نفسه وفي كسبه ورزقه , والنعم التي تفضل بها عليه إلى حين أجله.
السادسة : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من المتعدد من الأنواع والأصناف التي رزقكم الله ، وإجتنبوا الإكتفاء بواحد منها ، بدليل أن الآية الكريمة تحث على الإنفاق من الكسب , ومما أخرجت الأرض .
وهل يمكن الجمع بين الكسب والسعي وإخراج الله للمسلمين الخيرات من الأرض لإستقراء قانون وهو ( إذا لم يعمل ويكسب المسلمون فان الله عز وجل يرزقهم ويخرج لهم الخيرات من الأرض الجواب لا ، إلا أن يشاء الله , لأن الكسب والسعي والضرب في الأرض مما أمر الله عز وجل به قال تعالى [عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ]( ).
قانون القبح الذاتي للمن والأذى
موضوع آية البحث هو الصدقات , ولكن إبتداءها بنداء الإيمان يدل على المعنى الأعم لموضوع الآية والمسائل والأحكام المستقرأة منها ، وهو من إعجاز القرآن ، وبقاء علم تأويل آياته كنزاً تستخرج منه الجواهر والعلوم إلى يوم القيامة .
لقد تضمنت الآية ذم المن ّ, وهو تعداد ضروب الفعل والإحسان، ويأتي من وجوه :
الأول : صدور تقصير وخطأ من الفقير .
الثاني : تخلف الفقير عن الشكر لله على الإحسان .
الثالث : رغبة المنفق بالإستطالة على الفقير .
الرابع : إتخاذ المن أو الأذى مناسبة للرياء ، كما لو أراد المنفق مراءاة قوم أو جماعة بأن يظهر منّه أو يؤذي الفقير أو غيره من أرحامه .
ومنه ذكر الإنفاق من غير حضور الفقير ، وهل يدخل في الغيبة إذا كان هذا الذكر يؤذي الفقير لو علم به ، الجواب لا , فصحيح أن الغيبة هي ذكر الإنسان بما يكره ، ولكن القدر المتيقن منها هو ذكر الخصال والصفات المذمومة التي يؤذيه ذكرها .
وبين المنّ والغيبة نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
أما النسبة بين الأذى والغيبة فهي العموم والخصوص المطلق ، فالأذى أعم وهو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة فتدخل فيه الغيبة ، كما لو أعطى الفقير صدقة وإذا غاب عنه ذكره بسوء في نسبه أو أسرته أو فعله ، فيدخل هذا الذكر بمصاديق قوله تعالى [لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى] فقد آذى وإستغاب الفقير بسبب الصدقة ، أي أنها صارت سبباً للغيبة والأذى ، وهو من الإعجاز في لفظ [لاَ تُبْطِلُوا] .
ومن منافع آية البحث تهذيب المنطق وإصلاح أفعال المسلمين وجعلهم يتناجون بالإحسان الخالي من المن والأذى ، وتبين الآية قانوناً وهو من الإحسان الإمتناع عن المن والأذى ، ترى لماذا لم تقل الآية ( ولا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) الجواب لبيان مسألة من جهات :
الأولى : إحتمال صدور المن والأذى من المنفق .
الثانية : ظهور المنّ من المنفق , وصدور الأذى من متعلقيه وأهله أزاء الفقير أو أهل الفقير ، ومن الشعر العربي ما فيه تعيير للطرف الآخر، وما صار سبباً للفتنة ، فجاءت آية البحث لقطع ومنع مقدمات الفتنة بين المسلمين ولبيان صدق نزول القرآن من عند الله لأنه يدعو إلى الأخلاق الحميدة والسنن الرشيدة .
ويبين حقيقة وهي لزوم عدم إختلاط العمل الصالح بشائبة الأذى , ولتهذيب العادات ولغة الخطاب , قال تعالى[وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَى أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا] ( ).
الثالثة : تلقي الفقير المن والأذى من غير المنفق ممن رأى أو سمع بالصدقة والإحسان ، لذا تفضل الله عز وجل وأوصى بصدقة السر ، قال تعالى [إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]( ).
وجاءت النصوص المتعددة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باستحباب صدقة السر وأفضليتها والترغيب فيها .
(عن معاوية بن حيدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال إن صدقة السر تطفىء غضب الرب) ( ).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم (سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه : الإمام العدل، وشاب نشأ في عبادة الله عزّ وجلّ، ورجل قلبه معلّق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا عليه وتفرّقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها فقال: إنّي أخاف الله تعالى، ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لم تعلم يمينه ما ينفق شماله، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)( ).
ولو كان من شأن التصدق أن يعرض مقدار الصدقة على الكاتب والمحاسب فهل هذا العرض يغير سنخيتها من صدقة السر إلى العلانية كما في قوله تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً]( ) الجواب لا ، ولكن لابد من البيان وتوصية هؤلاء بلزوم السر وكتمان الصدقة .
الرابعة : صدور المن وحده من المنفق والمحسن دون الأذى ، فهو يحترز من الأذى أو أن الصلة بينه وبين الفقير محصورة بساعة الصدقة فيظهر منه المن .
الخامس : ليس من منّ في الصدقة ، ولكن يأتي الأذى إلى الفقير أو المسكين بسببها .
السادسة : صدور المن والأذى ليس بسبب الصدقة بل بسبب وموضوع آخر كما لو كان التعدي في المعاملة أو العمل أو صلات القربى وأسباب قطع الرحم .
السابعة : صدور المن من الفقير على المنفق وغيره في أمور أخرى ، كما لو قال إن أبي هو سبب ما عند المنفق من المال والثروة ، أو أني أنجيت هذا المنفق من شدة ، ولم يجازني بعطية مناسبة ، فان قلت يرد على هذا المعنى نسبة الصدقات إلى ذات لزوم عدم إبطالها إلى المنفقين بقوله تعالى [لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ].
والجواب المراد من الصدقات أعم من ذات فرد الصدقة لأن مثل هذا القول مما يحول دون إستدامة وتوالي الصدقة ليكون من معاني الآية ما هو أعم من الثواب ، فيشمل ذات الصدقات ، أي إتقوا الله لا تمنعوا من توالي الصدقة والمعروف بينكم .
والتقدير : يا أيها الذين آمنوا لا تعطلوا الصدقات بينكم ، لما في جريان وإستمرار الصدقات بين المسلمين من النفع العظيم العاجل والآجل ، ويناسبهما التشبيه الوارد في الآية ، إذ أن الكفار يعطون من أموالهم رياء , وتتعطل بينهم الصدقات وإن لم يكن هناك منّ أو أذى لإنتفاء المشروط بانتفاء شرطه الذي قصد القربة ولا يصح إلا مع الإيمان .
ليتعلق القبح الذاتي بأمور :
الأول : إقتران المنّ بالصدقة .
الثاني : مصاحبة الأذى للصدقة بحيث يدرك الإنسان أن عدم الصدقة خير من تعقب الأذى والشر لها .
الثالث : إجتماع المن والأذى مع الصدقة .
وصحيح أن موضوع الآية خاص بالصدقات إلا أن إبتداءها بنداء الإيمان شاهد على قبح المنّ والأذى مطلقاً ، فلا يصح للإنسان أن يمنّ على غيره ، ولما في الدنيا ملك لله عز وجل ، وهو سبحانه المنّان ، وفي التنزيل [وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ]( ).
قانون منافع الإنفاق من الطيبات
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الطيبات ، إذ تحيط بالإنسان من جهاته الأربعة , وتأتيه بالغيث والمطر وذات جريانه وتعاقب الشمس والقمر من تلك الطيبات ، وهو مقدمة للطيبات إذ تحتاج الزراعات ونمو النباتات لضياء الشمس ونور القمر , ودلت آية البحث على أن الرزق الكريم يأتي من باطن الأرض ومن فوقها وإذا كان الكسب محدوداً ومعلقاً على مقدار وكيفية الكسب وفضل الله في نمائه ، فان بركات ما يخرج من الأرض غير متناهية ، ليكون قوله تعالى [طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ] على جهات :
الأولى : إنه من عطف العام على الخاص ، بلحاظ أن ما يخرج من الأرض أكثر وأعظم .
الثانية : إنه من عطف القليل على الكثير , كما لو قلت : غرفت من النهر والبحر ، فما يخرج من الأرض هو الكثير ويأتي بالكسب وبدونه ، ولكنه لا يتحقق إلا بفضل الله عز وجل .
الثالثة : إنه من عطف غير المتناهي بالمتناهي فلا يعلم خزائن الأرض إلا الله عز وجل .
وكما يتعدد التبعيض في الإنفاق في الطيبات ، فكذا يتعدد التبعيض فيما يخرج من الأرض .
(عن خيثمة قال : قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إن شئت أعطيناك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم يعط نبي قبلك ، ولا يعطاه أحد بعدك ، ولا ينقصك ذلك مما لك عند الله شيئاً ، وإن شئت جمعتها لك في الآخرة قال : اجمعها لي في الآخرة ، فأنزل الله { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً })( ).
الرابعة : إنه عطف المتصل الدائم على المنقطع الزائل ، إذ تتخلل الكسب فترات من الإنقطاع , ففيه أطراف :
الأول : الكاسب .
الثاني : مادة الكسب .
الثالث :المكسوب منه .
وقد يأتي الإنقطاع من ذات الكاسب بالمرض ونحوه من الموانع الذاتية أو الخارجية أو يأتي من مادة الكسب او من المكسوب منه ، فيسعى الإنسان في الطلب دون أن يجد ما ينفعه أو يتعذر عليه بيعه، وفي كل الأحوال ينقطع الكسب بموت الإنسان .
الخامسة : إنه من عطف الممدود والواسع في أنحاء الأرض على المحدود والمحصور في موضعه , وهو من الإعجاز في مجئ الكسب بصيغة الخطاب ، والإخبار عما يخرج من الأرض كاسم جنس ، لذا قال تعالى [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ]( ).
السادسة : إنه من عطف الذي يأتي إبتداء من عند الله على الذي يجتهد المسلم في تحصيله وجمعه .
وتبعث هذه المسائل والمعاني المسلمين مجتمعين ومتفرقين على الدعاء ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) ويأتي الدعاء بلحاظ آية البحث من جهات :
الأولى : سؤال المسلمين الله عز وجل لثباتهم على الإيمان وإتباع نهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : الدعاء لرزق المسلمين وبعثهم على الإنفاق في سبيل الله ، وعن عمر بن الخطاب قال ( سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : الأعمال بالنيّات , وإنما لكل امرئ ما نوى , فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله , ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها , فهجرته إلى ما هاجر إليه) ( ).
(عن علي بن جعفر وعلي بن موسى، عن موسى بن جعفر، عن آبائه عليهم السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله أغزى عليا في سرية وأمر المسلمين أن ينتدبوا معه في سريته , فقال رجل من الانصار لاخ له: اغز بنا في سرية علي لعلنا نصيب خادما أو دابة أو شيئا نتبلغ به .
فبلغ النبي صلى الله عليه وآله قوله: فقال: إنما الاعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، فمن غزا ابتغاء ما عند الله عز وجل فقد وقع أجره على الله عز وجل، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالا لم يكن له إلا ما نوى) ( ).
ومن منافع الإنفاق بلحاظ مضامين آية البحث وجوه :
الأول : حث المسلمين على الإنفاق من منازل الهداية والتقوى، وهو من معاني إبتداء الآية بنداء الإيمان.
الثاني : تعاضد وتعاون المسلمين في الإنفاق، فمن أسرار مجئ الآية بصيغة الجمع , مسائل :
الأولى : الإنفاق على نحو القضية الشخصية .
الثانية : الأمر بالإنفاق .
الثالثة : النهي عن الإمتناع والتسويف في الإنفاق , والإرجاء في إخراج الزكاة والحقوق الشرعية الأخرى .
وكل من الأمر الوارد في المسألة الثانية , والنهي الوارد في المسألة الثالثة أعلاه من مصاديق قوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ) .
وبين المعروف والإنفاق عموم وخصوص مطلق، فالمعروف أعم، وكذا بين ما ينهى عنه وبين والشح عموم وخصوص مطلق، فما ينهى عنه أعم وأكثر.
ويمكن تقسيم الإنفاق تقسيماً إستقرائياً إلى جهات :
الأولى : تقسيم منافع الإنفاق وفق العوالم ، وهو على وجوه :
الأول : منافع الإنفاق في الحياة الدنيا ، وهو من وجوه :
أولاًُ : إنتفاع المنفق من البذل والعطاء .
ثانياً : النفع الحسي الذي يصيب المنفق عليه .
ثالثاً : إنتفاع المجتمع من الإنفاق الخاص والعام .
رابعاً : بقاء الإنفاق تركة وإرثاً عند الأبناء والأجيال اللاحقة .
الثاني : منافع الإنفاق في عالم البرزخ بأن يدفع الإنفاق عن صاحبه سؤال منكر ونكير والحساب الإبتدائي ، وفيه نص صريح بموضوعية فعل الخير والمعروف والإحسان في دفع العذاب عن المؤمن في القبر ، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال(والذي نفسي بيده ، إنه ليسمع خفق نعالهم حين يولون عنه ، فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه ، والزكاة عن يمينه ، والصوم عن شماله ، وفعل الخيرات والمعروف والإحسان إلى الناس من قبل رجليه ، فيؤتى من قبل رأسه ، فتقول الصلاة : ليس قبلي مدخل ، فيؤتى عن يمينه ، فتقول الزكاة : ليس من قبلي مدخل ، ثم يؤتى عن شماله ، فيقول الصوم : ليس من قبلي مدخل ، ثم يؤتى من قبل رجليه ، فيقول فعل الخيرات والمعروف والإحسان إلى الناس : ليس من قبلي مدخل .
فيقال له : اجلس ، فيجلس وقد مثلت له الشمس للغروب ، فيقال له : ما تقول في هذا الرجل الذي كان فيكم ؟ يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فيقول : أشهد أنه رسول الله جاءنا بالبينات من عند ربنا ، فصدقنا واتبعنا ، فيقال له : صدقت ، وعلى هذا حييت ، وعلى هذا مت ، وعليه تبعث إن شاء الله ، فيفسح له في قبره مد بصره ، فذلك قول الله عز وجل :[ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ]( ) .
فيقال: افتحوا له بابا إلى النار، فيفتح له باب إلى النار، فيقال : هذا كان منزلك لو عصيت الله عز وجل ، فيزداد غبطة وسرورا، ويقال له : افتحوا له بابا إلى الجنة ، فيفتح له ، فيقال : هذا منزلك، وما أعد الله لك ، فيزداد غبطة وسرورا ، فيعاد الجلد إلى ما بدأ منه .
وأما الكافر ، فيؤتى في قبره من قبل رأسه، فلا يوجد شيء، فيؤتى من قبل رجليه فلا يوجد شيء، فيجلس خائفا مرعوبا، فيقال له: ما تقول في هذا الرجل الذي كان فيكم؟ وما تشهد به؟ فلا يهتدي لاسمه، فيقال: محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول: سمعت الناس يقولون شيئا، فقلت كما قالوا، فيقال له: صدقت، على هذا حييت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، فذلك قوله عز وجل[وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا]( ).
فيقال : افتحوا له بابا إلى الجنة ، فيفتح له باب إلى الجنة ، فيقال له : هذا كان منزلك وما أعد الله لك لو أنت أطعته ، فيزداد حسرة وثبورا .
ثم يقال له : افتحوا له بابا إلى النار ، فيفتح له باب إليها ، فيقال له : هذا منزلك وما أعد الله لك ، فيزداد حسرة وثبورا) ( ).
الثالث : منافع الإنفاق يوم القيامة ، وهي من اللامتناهي ، وفيها مصداق من مصاديق رحمة الله يفوق حد التصور الذهني ، فلا يستطيع الناس أن يدركوا كم وكيف وطول مدة المنافع الأخروية التي تترشح عن الإنفاق في الدنيا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا]( ).
فلا يقدر على الثواب على الإنفاق ومضاعفته سبعمائة ضعف مع نافلة وزيادة غير محدودة فيها إلا الله عز وجل .
الثانية : تقسيم منافع الإنفاق على نحو القضية الشخصية من وجوه :
الأول : النفع الذي يأتي لشخص المنفق بالبركة في رزقه والنماء في ماله ، لذا تكون الزكاة نماء وزيادة للمال مع أنها إخراج وإنفاق من ذات المال .
الثاني : النفع المترشح على المنفق عليه بسبب الإنفاق من جهة قضاء حاجته والتخفيف عنه ومواساته، وإعانته في أداء واجباته العبادية وخلو قلبه من الهم والحزن الذي يأتي طوعاً وقهراً بسبب الجوع والفقر .
الثالث : بعث المسلمين للإنفاق ومحاكاة المحسن في عمله وإحسانه ، وفي التنزيل [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ) .
الرابع : ترغيب الناس في الإسلام لأنه دين التراحم والتعاطف وهو النظام الذي ينشر المودة والألفة والمحبة بين الناس .
الخامس : يبعث الإنفاق والصدقة بين المسلمين الفزع والخوف في قلوب المشركين ، وهو من عمومات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ).
فمن إعجاز هذه الآية أنها تأمر المسلمين بالإنفاق وتذكرهم بالآخرة ، لتكون الصدقات والبذل في سبيل الله ولو على نحو القضية الشخصية بإعانة الفقير في قوت يومه سبباً لخوف الذين كفروا من المسلمين , فأختتمت الآية بقوله تعالى [وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ] لخوفهم من الحق ومسالك الهدى .
الثالثة : تقسيم منافع الإنفاق وفق قانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
لقد تضمنت آية البحث الأمر للمسلمين بالإنفاق بقوله تعالى [أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ]( )ثم ذكّرت بيوم القيامة وكيف أنه خال من البيع والشراء وتنعدم فيه الخلة والصداقة وأسباب الوفاء والغيرة والحمية لأن[الأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ]( ).
لينحل الأمر في الآية إلى وجوه :
الأول : قيام المسلم بالإنفاق والصدقة من ماله .
الثاني : سعي المسلم في الصالحات .
الثالث : أمر المسلم غيره بالصدقة والإنفاق .
الرابع : إجتهاد المسلم في الترغيب بالإنفاق، وعن سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الدال على الخير كفاعله)( ).
الخامس : إستجابة المسلمين للأمر بالإنفاق والصدقة ، وهو من مصاديق إبتداء آية البحث بنداء الإيمان , وتقديره على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا أءمروا بالإنفاق .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا تعاونوا بالأمر بالإنفاق .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنا إجتهدوا ببيان منافع الإنفاق في سبيل الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا إستجيبوا للدعوة للإنفاق .
خامساً : يا أيها الذين آمنوا تعاونوا في الإنفاق العام والخاص ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
وهل يجب تحصيل مقدمات الإنفاق , كالعمل من أجل الإنفاق الجواب لا ، لعدم وجوب مقدمة فعل الخير ، ولكن إن تهيأت المقدمة يلزم الفعل ، كما في الحج ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) فلا يجب تحصيل الإستطاعة ، ولكن إن توفرت وإنتفى المانع وجب حج بيت الله الحرام .
سادساً : يا أيها الذين آمنوا إمتنعوا عن البخل والشح وحبس الزكاة والحقوق الشرعية .
سابعاً : يا أيها الذين آمنوا تعاونوا لإزالة الموانع والأسباب التي تحول دون الإنفاق والصدقة .
ثامناً : يا أيها الذين آمنوا تفقهوا في أمور الإنفاق ، ومنه وجوه :
الأول : صيرورة الإنفاق في سبيل الله .
الثاني : قصد القربة إلى الله في الإنفاق .
الثالث : العلم الإجمالي بمقادير النصاب في الزكاة والخمس .
الرابع : معرفة أصناف الذين يستحقون الصدقة , وفق الكتاب والسنة, وهو من التفقه في الدين .
الخامس : التمييز بين الصدقة الواجبة كالزكاة , وصدقة التطوع والحرص على إتيان كل منهما .
السادس : كيفية الأمن والسلامة من المن والأذى المصاحبين للإنفاق .
السابع : الإنتفاع الأمثل من الإنفاق ، ليشمل :
أولاً : إنتفاع المنفق من النفقة ، قال تعالى [وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابن السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا] ( ).
ثانياً : كيفية إستفادة الفقير من الصدقة , فقد تكون سبباً لنمو ماله بلحاظ ما فيها من البركة لأنها إمتثال لأمر الله الوارد في آية البحث .
ثالثاً : إنتفاع المسلمين من الصدقة الشخصية , وتعاونهم في الإنفاق العام .
وقد إعتنى الإسلام بالمرأة وحثها على الصدقة ، وفي التأريخ الإسلامي دروس في نفقات الناس وإعمارهن للمساجد ، وفي كل قرية وبلدة من بلاد المسلمين هناك شواهد على فضل النساء في الصدقات ، ومنهن ما يتفوقن على أقران لهن من الرجال في هذا المضمار مع أن موارد النساء أقل بكثير من موارد الرجال، وحتى في الإرث تكون حصة المرأة نصف حصة الرجل، قال تعالى[لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ]( ).
ولا ينخرم هذا المعنى بتولي الزوج الإنفاق على زوجته .
وورد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (يا معشر النساء تصدقن فإني أراكن أكثر أهل النار فقلن : ولم ذلك يا رسول الله ؟ قال : ( تكثرن اللعن وتكفرن العشير)( ).
لتخرج المسلمة بالتخصيص من العذاب وأسبابه ، قال تعالى [ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
وصحيح أن الآية أعلاه جاءت بخصوص نزول العذاب بالقوم الكافرين الجاحدين بالنبوات إلا أنها تفيد الإطلاق بدليل ورود اسم الإشارة للتشبيه [كَذَلِكَ] في خاتمة الآية .
وأخبرت آية البحث بأنه ليس من بيع وشراء ولا خلة ولا شفاعة يوم القيامة , ولكن الصدقة نافعة منجية.
وهو من إعجاز القرآن , فيعتني الإنسان بالكسب والمعاملات التجارية ويسعى في تعاهد الخلة والصداقة , وقد يزهد في الإنفاق والبذل , فجاءت آية البحث لتنمية ملكة إدراك الحاجة إلى الإنفاق والعطاء في سبيل الله من جهات:
الأولى : إبتداء آية البحث بنداء الإيمان , وتقديره: يا أيها الذين آمنوا بالنفع العظيم من الإنفاق، ومن إعجاز الآية أن موضوعها هو عالم الآخرة ولكنها تدل على أن منافع الإنفاق تتغشى أيام الدنيا والآخرة.
الثانية : بيان آية البحث لأوليات سنخية عمل المسلم في الدنيا، وتقديم الإنفاق، وإذا كان البذل والصدقة نوع عوض وبديل عن البيع والخلة في الآخرة، فهل يكون بديلاً عنهما في الدنيا .
الجواب نعم، فهو عشيرة وعز وفخر، ولكن نواميس الدنيا تستلزم السعي والكسب لحاجات الدنيا والآخرة، ثم أن الخلة والصداقة والود على أقسام :
الأول : الخلة في مرضاة الله، ومنه قوله تعالى[وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ]( ).
الثاني : الخلة والصداقة لأمور اللهو واللعب، وهو من مصاديق قوله تعالى[لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ]( ).
الثالث : الخلة بين الظالم وأعوانه ، إذ تقع البراءة بينهم يوم القيامة من جهات :
الأولى : تبرء التابع من المتبوع، وفيه وجوه:
الأول : تبرء الرئيس من جميع المتبوعين.
الثاني : تبرء أمير الجناح والطائفة من أتباعه.
الثالث : تبرء العريف ممن هو دونه.
الرابع : تبرأ الرؤساء والعرفاء من جميع المتبوعين، قال تعالى[إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ]( ).
الثانية : تبرء وذم أتباع الظالمين منهم يوم القيامة، قال تعالى[وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا]( ).
ويتجلى التباين بين المسلمين والذين كفروا بالذات والعرض، فإذ تقطعت الأسباب بين الذين كفروا كما تذكر الآية أعلاه، فإن الإنفاق سبب كريم لدوام الخلة بين المسلمين يوم القيامة ، لذا أستثنيت الخلة بين المؤمنين من نفيها الوارد في آية البحث.
ويدل قوله تعالى(أنفقوا مما رزقناكم) على حقيقة من جهات:
الأول : في رزق المسلمين مجتمعين ومتفرقين نافلة وفضل.
الثاني : كما كتب الله عز وجل على المسلمين الفرائض العبادية والأحكام، منها قوله تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( )، فانه سبحانه كتب للمسلمين زيادة في رزقهم .
وتحتمل النسبة بين الزيادة في الرزق وبين الإنفاق المأمور به في آية البحث وجوهاً:
أولاً : نسبة التساوي ، وأن ذات الزيادة عن المؤونة والحاجة خاصة بالإنفاق بلحاظ أنه سبيل للنجاة في الآخرة .
ثانياً : نسبة العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين :
الأولى : الزيادة في الرزق أعم وأكثر من الإنفاق، لتبقى عند المسلم نافلة من الرزق كماً وكيفاً .
الثانية : الإنفاق في سبيل الله أعم من النافلة والزيادة في الرزق لأن الإنفاق نوع إمتحان وإختبار وإصلاح للأمة، وواقية من العذاب الأليم.
ثالثاً : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما.
رابعاً : نسبة التباين، والإختلاف بين النافلة في الرزق والإنفاق.
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه .
الثالث : تعدد موارد وجهات الرزق ومجئ الأموال للمسلمين من جهات :
الأولى : الإطلاق في قوله تعالى ( مما رزقناكم ) ، فالرزق اسم جنس له مصاديق متكثرة من المال والحبوب والتجارة والهبات والمعاوضة والإرث والذخائر .
الثانية : ذكر ما أخرج الله عز وجل من الأرض من الثمار والمعادن والملذات.
الثالثة : مجئ الآية بصيغة عطف الخاص على العام ، الذي يأتي للدلالة على موضوعية الخاص والإعتناء به، وتمييزه عن غيره، فذكر ما أخرجت الأرض لبيان أمور :
أولاً : ما يخرج من الأرض فضل عظيم من عند الله عز وجل.
ثانياً : من نعم الله عز وجل على المسلمين والناس ما يخرج لهم من الأرض.
ثالثاً : حث المسلمين على الدعاء والمسألة لسؤال إخراج كنوز من الأرض، وكثرة الأشجار والنخيل والثمار .
ومن الإعجاز في عطف الخاص على العام في القرآن تعدد العلوم والمسائل المستنبطة من كل فرد منه، وتجدد هذا الإستنباط إلى يوم القيامة .
ومنه قوله تعالى[مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ]( )، فذكر الله عز وجل الملائكة على نحو العموم الإستغراقي ثم خص جبرئيل بالذكر لأنه من كبار الملائكة , ولأن جبريل نزل بالقرآن، وميكال ينزل بالرزق من عند الله.
ومنه قوله تعالى[يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( )، وهذا التفضيل من مصاديق النعمة .
وقد يكون فرد ومصداق من النعم من الرزق الذي ذكرته آية البحث ويكون مما أخرجه الله عز وجل من الأرض مثل الثمار ومثل الذهب والفضة .
لذا فمن معاني الآية التداخل بين العام والخاص , ومن الآيات أن الذي يخرج من الأرض من الفلزات والمعادن يحتاج إلى جهد وعمل وتصفية ليكون سعره أضعاف قيمته عند إخراجه من الأرض ، فتكون النسبة في ذات العين وثمنها كالذهب والنفط الأسود بين [ما رزقناكم ] وبين [ما أخرجنا لكم] هو العموم والخصوص المطلق ، إذ يتحول النفط إلى صناعات ومشتقات .
ومن معاني العطف بين العام والخاص في الآية بين الرزق كمعطوف عليه ، وبين ما يخرج من الأرض كمعطوف أمور :
الأول : تعدد مصاديق الرزق التي تتفرع عما يخرج من الأرض.
الثاني : بعث المسلمين للدعاء وترغيبهم فيه بلحاظ أن مضامين آية البحث كالثمار الدانية والكنوز المتدافعة من باطن الأرض تدعو المسلمين لسؤال الله عز وجل لينهلوا منها ، ويتنعموا ببركاتها .
الثالث : تذكير المسلمين بالنعم التي تفضل الله عز وجل بها عليهم ، ليشكروا الله عز وجل عليها ، فصحيح أن الآية جاءت بخصوص الإنفاق إلا أن موضوعها أعم إذ تتضمن الإخبار عن توالي النعم على المسلمين وتواليها من فضل الله عز وجل .
الرابع : بيان التعدد والإطلاق عندما يكون الموضوع هو الرزق من عند الله ، لبيان أنه يأتي للمسلمين والناس من فوق رؤوسهم وعن أيمانهم وشمالهم , ومن تحت أرجلهم .
الخامس : تبين الآية قانوناً ثابتاً وجلياً لكل إنسان وهو أنه يمشي على كنز , وينام على كنز , لتكون كنوز الأرض من اللامتناهي ، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى في آية البحث [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ] ( )إذ يتوجه الخطاب لكل جيل من المسلمين وإلى يوم القيامة مما يدل على عدم نفاد الرزق ، وتقوم الساعة وفي الأرض كنوز تستخرج بعد لمجئ التبعيض في قوله تعالى [مِنْ الأَرْضِ] قال تعالى[مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ]( ).
ومن الإعجاز في الآية :
أولاً : المنع من الإقتتال على كنوز الأرض ففيها وفي كثرتها مندوحة وسعة.
ثانياً : إبطال القول بنفاد كنوز الأرض ، وهذا المعنى لا يتعارض مع التدبير في إستخراجها وعدم الإسراف في إنفاقها ، فصحيح أن كنوز الأرض لا تنقطع , ولكن منها ما ينضب ويجف كما في ثروة النفط والإحتياطي منه , لبيان عظيم قدرة الله وبديع صنعه .
ثالثاً : توزيع كنوز وخزائن الأرض في البقاع والأمصار المختلفة ، لتكون آية للناس ودعوة للإيمان وبين حقبة وأخرى من السنين تنكشف ثروات في باطن الأرض , وتظهر في بلاد فقيرة ليعم الثراء أو تكون سبباً لقدوم المستثمرين وطالبي الأرباح ، وفيه حث على الصبر , ودعوة لسؤال الثروة العامة .
رابعاً : حث المسلمين جميعاً على الدعاء لإخراج الكنوز لهم من الأرض .
خامساً : من مصاديق ما يخرج من الأرض الثمار والأعناب والنخيل ، ولو خرجت الثمار في بلد غير إسلامي ووصلت للمسلمين في بلادهم كما لو جاءت من الصين إلى مصر فهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ] ( ) .
الجواب نعم لأصالة الإطلاق في لفظ الأرض في الآية ولأنها باقطارها وقاراتها ملك طلق لله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى بخصوص إبراهيم [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ] ( ) وتدل عليه المصاديق الكثيرة والمختلفة في هذا الزمان .
قانون إحصاء مضامين آيات النداء
الإحصاء علم قديم مصاحب للحياة الإنسانية , وإن كان على نحو بدائي وشخصي فيحسب الإنسان ما عنده من الأنعام أو النقود أو اللباس ثم يقسمها بحسب الموضوع والحال .
والإحصاء أحد فروع الرياضيات , وليس من حصر لتطبيقاته ويدخل في كل العلوم , وتتقوم به الحياة السياسية والإقتصادية ، إذ أن التخطيط فرع منه .
وتميل بعض الدول إلى تقليص عدد الوزارات ولكن أكثرها تحرص على إبقاء وزارة خاصة للتخطيط ، وقد ورد ذكر الإحصاء في مواطن عديدة من القرآن منها قوله تعالى [وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ]( ) وفي قصة أهل الكهف جاء قوله تعالى [ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا]( ).
ولقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) ومنها علم الإحصاء ولا تزال مصاديقه الخاصة المستنتجة من علوم القرآن قاصرة على مثل الجمع والضرب والكشف والبيانات من جهات :
الأولى : السنن العقائدية.
الثانية : الملل السابقة.
الثالثة : إحصاء حروف وكلمات وآيات القرآن.
الرابعة : عدد سور القرآن، وعدد آيات كل سورة.
الخامسة : تقسيم آيات القرآن حسب الموضوع، وإحصاء الآيات التي تخص كل موضوع ، ولا مانع من مجيء الآية الواحدة في أكثر من موضوع بحسب اللحاظ.
والنسبة بين منهج التفسير الموضوعي للقرآن وبين الإحصاء الموضوعي لآيات القرآن هو العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق إذ يتناول التفسير الموضوعي الربط بين أسماء السورة الواحدة وذكر ما جاء في فضلها، وأسباب ومحل نزولها، وعدد آياتها وما يجمع موضوعات السورة، والمناسبة والصلة بين آياتها ز
أما علم الإحصاء فهو أعم في لغة الأرقام والجمع والتقسيم , والوجوه والنظائر، وشموله لكل آيات وسور القرآن.
السادسة : المقارنة بين سور القرآن من جهة عدد آيات كل سورة، وأسرار التباين في أعدادها، ونحوها من أسرار النظام الرقمي للقرآن.
السابعة : دراسة مقارنة بين آيات القرآن من جهة عدد كلماتها، فمثلاً آية الدَين من سورة البقرة( )، هي أطول آية في القرآن.
وأطول سورة من جهة عدد الآيات والكلمات هي سورة البقرة وعدد آياتها 286 آية، وأقصر سورة هي سورة الكوثر وعدد آياتها ثلاث آيات وكذا سورة العصر، وسورة النصر، ويلاحظ أن عدد كلمات آية الدين أكثر من كلمات هذه السور مجتمعات , ولكن كل سورة لها من المعاني والدلالات ما هو متجدد حتى يوم القيامة .
ومع أن سورة الشعراء تأتي بالمرتبة الثانية من جهة التسلسل في عدد آيات السور، إذ أن عدد آياتها هو 227 آية ولكن عدد كلمات وحروف سور متعددة أكثر منها، فعدد آيات سورة النساء هو 176 أما عدد حروفها فهو 15937 أي نحو ثلاثة أضعاف عدد حروف سورة الشعراء.
التاسعة : إحصاء الآيات التي لها أسباب نزول، وقد يذكر المفسرون حادثة كسبب لنزول عدة آيات، ولابد من التحقيق فيه بلحاظ :
الأول : جهة الصدور، وهو الذي ذكر سبب النزول للآية من قبل الصحابي أم التابعي أم تابعي التابعين.
الثاني : سند خبر سبب النزول، فمنها تنسب إلى ابن عباس مثلاً ، من غير ذكر رجال السنة ، مع فارق زماني طويل بين الراوي والمفسر وبين أيام ابن عباس .
وولد عبد الله بن عباس في حصار شعب أبي طالب قبل خروج بني هاشم منه وقيل إنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين وكان ابن ثلاث عشرة سنة يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم( ).
ومات ابن عباس بمدينة الطائف سنة ثمان وستين أيام ابن الزبير الذي أخرجه من مكة إلى الطائف .
الثالث : وثاقة وترجمة رجال السند وفق علم الرجال .
الرابع : دلالة الخبر، ومناسبته لمضمون الآية موضوعاً وحكماً .
العاشرة : إحصاء الكلمات المتكررة في الآية الواحدة مرتين أوثلاث أو أربع مرات ودلالة هذا التكرار وورد لفظ ( أنهار ) أربع مرات في قوله تعالى [مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى]( ).
الحادية عشرة : إحصاء المرات التي ذكر فيها اسم الجلالة (الله) في القرآن ، وهو عدد الآيات التي ذكر فيها اسم الجلالة، وورد في آية واحدة سبع مرات، وهي آخر سورة من سورة المزمل [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثانية عشرة : دراسة ورود العدد سبعة في القرآن ومضاعفاته.
الثالثة عشرة : تقسيم القرآن إلى سور مكية وعددها 86 سورة ، وسور مدنية وعددها (28) سورة ، وما تتصف به السور المكية من لغة التخويف والوعيد، وما يتجلى في السور المدنية من بيان الأحكام والسنن .
الثناء في النداء
وآيات النداء ثناء الله عز وجل على نفسه من جهات :
الأولى : لا يقدر على الشهادة لأجيال المسلمين المتعاقبة بالإيمان إلا الله عز وجل وحده بلحاظ أن نداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] يستغرق كل المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
الثانية : تأكيد قانون قرآني وهو مجئ أمر أو نهي بعد نداء الإيمان وشمول كل منهما المسلمين جميعاً ، وفيه شاهد على بلوغ المسلمين مراتب من الفقاهة بحيث يتقيدون بالأحكام الشرعية الواردة في آيات النداء .
الثالثة : تعضيد نداء الإيمان للمسلمين للعمل بمضامين آيات النداء ، فلا يعلم المدد والعون الذي يبعثه هذا النداء في نفوس المسلمين للإمتثال لما في آيات النداء من الأحكام ، ولا يختص الأمر بها ، إذ تنبسط منافع نداء الإيمان على كل آيات القرآن .
ويمكن تأسيس علم جديد خاص في إحصاء وسائل نداء الإيمان يتقوم بأمور :
الأول : إحصاء الأوامر التي وردت في آيات النداء البالغة تسعاً وثمانين آية من مجموع آيات القرآن التي تبلغ ستة آلاف ومائتين وستاً وثلاثين آية .
الثاني : إحصاء النواهي الواردة في آيات نداء الإيمان .
الثالث : آيات نداء الإيمان التي يجتمع فيها الأمر والنهي .
الرابع : عدد الآيات المعطوفة على كل آية من آيات النداء مع ذكرها .
الخامس : صيغة الجملة الشرطية التي وردت في آيات النداء وهي على أقسام :
الأول : إختصاص آية النداء بجملة شرطية , وهو على شعبتين :
الأولى : الجملة الشرطية المتحدة ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا] ( ).
الثانية : الجملة الشرطية المتعددة كما في ذكر الوضوء للصلاة والتيمم عند تعذر الماء ، قال تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ]( ).
الثاني : مجئ آية النداء بالشرط مع الأمر .
الثالث : إجتماع الشرط ودلالة النهي في آية النداء كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ] ( ).
الرابع : ورود الشرط مع النهي والأمر في آية النداء ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ).
ومن وجوه الإحصاء في المقام لغة العدد من جهات :
الأولى : عدد الأوامر في آيات النداء .
الثانية : عدد النواهي في آيات النداء .
الثالثة : موضوع أوامر آيات النداء .
الرابعة : موضوع النواهي في آيات النداء .
الخامسة : الأوامر العبادية في آيات النداء .
السادسة : الصلة الموضوعية والحكمية بين مضامين آيات النداء وهي على وجوه :
الأول : الصلة بين أوامر آيات النداء .
الثاني : الصلة بين نواهي آيات النداء .
الثالث : الصلة بين الجمل الشرطية الواردة في آيات النداء .
الرابع : الصلة بين أوامر ونواهي آيات النداء .
الخامس : الصلة بين شروط وأوامر آيات النداء .
السادس : الصلة بين شروط ونواهي آيات النداء .
لقد إحتل علم الإحصاء مكانة في العلوم وصار مدخلاً للدراسات وإستقراء المسائل ، وقد جعل الله عز وجل القرآن[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) ولابد أن أسرار وذخائر علم الإحصاء في القرآن وأن المسائل التي تستنبط منه شواهد على إعجازه .
قانون الملازمة بين الكفر والظلم
تدعو خاتمة الآية العلماء إلى تتبع لفظ (الكافرين) ولفظ (الذين كفروا) في القرآن وكيف أنهم ظالمون بلحاظ مضامين الآية التي يرد فيها أحد هذين اللفظين ليكون هذا العلم من ذخائر القرآن، التي تستنبط منها العلوم والأحكام.
وكما نعتت آية البحث الكافرين بأنهم ظالمون ، جاءت آية أخرى بوصفهم بالفاسقين ، قال تعالى [وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( ) ويفيد الجمع بين أول وآخر الآية[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا … وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ) مسائل:
الأولى : يبعث نداء الإيمان الطمأنينة في نفوس المسلمين بنجاتهم من الكفر والضلالة .
الثانية : نداء الإيمان تنزيه من الظلم والجور والتعدي .
الثالثة : تكون بداية الأمن أو الظلم من النفس فاذا آمن الإنسان بالله عز وجل لا شريك له دخلت السكينة إلى قلبه ، لذا تجد التداخل اللفظي بين الإيمان والأمن .
ومن يؤمن بالله يصدّق بالتنزيل وبعثة الأنبياء والمعجزات التي جرت على أيديهم ، ومنها المعجزة العقلية الخالدة وهو القرآن ، وما فيه من الأوامر والنواهي .
الرابعة : دعوة المسلمين للحرب على الكفر ومفاهيمه ونجاة الناس من براثن الكفر بهدايتهم إلى سواء السبيل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وتتجلى وجوه من هذه الرحمة بجهاد المسلمين في سبيل الله ، وإقامتهم البرهان على وجوب عبادة الله وإتيانهم بالحجة على لزوم نبذ الشرك والظلالة .
لقد جاءت آيات الإيمان بوجوب نبذ الربا والتنزه عن أكله ، فمن باب الأولوية القطعية لزوم ترك الناس الكفر والضلالة ، لقد صار جلياً بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الكفر ظلم للذات والغير وهو الذي تدل عليه خاتمة آية البحث , ومن وجوه ظلم الذين كفروا بلحاظ آية البحث أمور :
الأول : ظلم الكافرين لأنفسهم بسوء إختيار الكفر والجحود ، ومن الإعجاز في آية البحث أنها لم تقل (والظالمون هم الكافرون) لأن النسبة بين الظلم والكفر هي العموم والخصوص المطلق ، فكل كافر هو ظالم وليس العكس .
الثاني : ظلم الكافرين بعد إستعدادهم لليوم الآخر .
الثالث : من الظلم الإعراض عن آيات الإنذار والوعيد , وبيان أهوال يوم القيامة .
ومن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلامة المسلمين من الإعراض عن يوم القيامة ، ومن مصاديق هذه السلامة وجوب تلاوتهم لآيات القرآن خمس مرات في اليوم وإنبساط هذه التلاوة على آنات اليوم بصيغة إعجازية عند صلاة الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء إلى جانب تلاوة المسلمين القرآن في صلاة النافلة وفي خارج الصلاة ، وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعن زيد بن الأخنس , قال : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تنافس إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار ويتبع ما فيه ، فيقول رجل : لو أن الله أعطاني ما أعطى فلاناً فأقوم به كما يقوم به، ورجل أعطاه الله مالاً فهو ينفق منه ويتصدق به .
فيقول رجل : لو ان الله أعطاني كما أعطى فلاناً فأتصدق به . قال رجل : أرأيتك النجدة تكون في الرجل؟ قال : ليست لهما بعدل ، إن الكلب يهم من وراء أهله)( ).
الرابع : الكافرون هم الذين إمتنعوا عن الإيمان وكفروا بنداء الإيمان والمضامين القدسية في آيات النداء ، ومن الإعجاز في تعدد وكثرة آيات النداء , وكل آية منها دعوة للمنافقين والكافرين للتوبة والإنابة , وتبكيت للذين منعوا أنفسهم من التنعم بنداء الإيمان , وإستحقوا بهذا المنع صفة الكافرين .
الخامس : التعدي على الحرمات ، وعدم التقيد بسنن التقوى المتوارثة ووجوه العفة والطهارة ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( ).
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
من خصائص الآية أعلاه أنها تجمع بين أمور :
الأول : الأمر العام بتقوى الله والخشية منه .
الثاني : إرادة التقوى مطلقاً في كل الأفعال والأقوال , وفي السر والعلانية .
الثالث : ترك الأرباح التي ترتبت وتترتب على الربا .
الرابع : إختتام الآية بالجملة الشرطية ولزوم تعاهد صبغة الإيمان.
لقد جاءت آية النداء السابقة بالأمر بالإنفاق من فضل الله ونعمه المتوالية بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ]( ).
ليكون معنى اتقوا الله الوارد في آية البحث بلحاظ الأحكام التكليفية على وجوه :
الأول : إتقوا الله في لزوم أداء الفرائض والواجبات .
الثاني : من تقوى الله المبادرة إلى إتيان المستحبات .
الثالث : ترك التشديد على النفس، أو حرمانها من المباحات .
الرابع : من تقوى الله التنزه عن المكروهات , وما هو مذموم شرعاً وعقلاً .
الخامس : تتقوم تقوى الله باجتناب ما حرم من الذنوب والمعاصي ، قال تعالى[وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ]( ).
ومن معاني الجمع بين آية البحث وآية نداء الإيمان السابقة لها والمذكورة أعلاه بالإنفاق من الطيبات ومن الكسب الحلال ، وليس من الربا والمال الحرام، بلحاظ أن ذكر الربا وأرباحه من باب المثال الأمثل وليس الحصر فيما يتعلق بسنخية مال الإنفاق.
وإذا كان الإنسان ينفق من مال حلال ومال حرام، فهل هو من الذين [خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا]( )، الجواب نعم , وجاءت آية البحث لتنزيه المسلمين من هذا الخلط، لذا تفضل الله وجعل أولها نداءً مباركاً يجذب قلوب المسلمين إلى طاعته، وينمي في صدورهم حب العمل الصالح، والنفرة من العمل القبيح.
ومن معاني الجمع بينها بيان قانون وهو أن التوبة لا تصل إلى الحاجة إلى الربا وأرباحه في المعيشة والإنفاق لدلالة قوله تعالى[أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ]( )، بالدلالة التضمنية على الكفاية وتحصيل المؤونة الشخصية والعائلية والعامة من الرزق الحلال لتكرر لغة التبعيض في الآية أعلاه .
لقد حارب الإسلام الوأد والغزو بين القبائل ، ومنع من العادات المذمومة ، ولا يمكن قهر هذه العادات إلا بالتنزيل ، نعم قد يأتي بعض المنع بالسنة النبوية ، ولكن بلحاظ أن السنة فرع الوحي والتنزيل وقد واجه الإسلام الربا وأخذ المال زيادة على القرض بغير حق ، ولم يكن هذا الصراع والحرب أمراً سهلاً ، إذ أن قبائل وعوائل كانت تتعاطى الربا ويتسالم الناس على أنه معاملة في التجارة والكسب .
ونزل قوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( ) وجاءت الآيات بالعذاب الأليم لمن يعود إلى أكل مال الربا وإتخاذه وسيلة للكسب ، لبيان قانون وهو أن الإسلام دين الإنسانية والنظم الإقتصادية السلمية التي تساهم في بناء مجتمع صالح ذي خلق حميد ، تتقوم عاداته بالهداية والصلاح والرشاد .
وحينما يحجب النهي في القرآن عن الربا المال والفائدة التي تأتي من الربا بترك معاملته , فهل يأتي غيره وبديل له للمسلم من ضروب الرزق , الجواب نعم , لأن هذا الترك طاعة لله , وهو أمر وجودي .
وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الله بن مسعود قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيها الناس إنه ليس من شيء يقربكم من الجنة ويبعدكم من النار إلا قد أمرتكم به ، وإنه ليس شيء يقربكم من النار ويبعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه ، وأن الروح الأمين نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله واجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعاصي الله ، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته)( ).
وفي الحديث حجة في قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ الرسالة وكفاية أحكامها للمسلمين في أمور الدين والدنيا ، وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الملازمة بين عمر الإنسان ورزقه ، وأنه لا يغادر الدنيا إلا بعد أن يأتيه رزقه كاملاً غير منقوص ، وأن الإجمال في الطلب لا يقلل من الرزق ومقداره ، لتكون من معاني الحديث دعوة المسلمين لأداء الفرائض وإتيان الواجبات العبادية ، والتنزه عن أكل مال الحرام , ومنه الربا .
وتضمن الحديث أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتقوى الله قبل بحثهم على الإجمال في الطلب وينهاهم عن طلب الرزق بالمعصية ومنها الربا والسرقة والغصب والنهب , ليكون هذا الحديث من مصاديق الآية الكريمة .
وورد في أسباب نزول الآية عن ابن جريج أنه (كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن مالهم من ربا على الناس وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع ، فلما كان الفتح استعمل عتاب بن أسيد على مكة ، وكانت بنو عمرو بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة ، وكانت بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية ، فجاء الإِسلام ولهم عليهم مال كثير ، فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم ، فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإِسلام ، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد .
فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنزلت { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا } إلى قوله { ولا تظلمون} فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عتاب , وقال : إن رضوا وإلا فأذنهم بحرب) ( ).
وفيه أن الولاة كانوا يكتبون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاوى والخصومات والمسائل وأن جوابه حكم وقانون ، ويتفضل الله عز وجل وينزل الآية القرآنية تعضيداً لحكم النبي ، وتثبيتاً للقوانين ذات الموضوعية في حياة الناس ، ولا يتوقع أحد أن الربا يكون موضوعاً للحرب والقتال إذ خيرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ترك أموال الربا وبين الحرب والقتال .
وكان الربا في الجاهلية على قسمين :
الأول : في العين والنقود وإقراض المال إلى أجل ، فاذا حان الأجل ، ولم يكن عند المدين مال ضاعفه عليه وأنساه في الأجل ، وعندما يعود له في الأجل , ولم يكن عنده مال يضاعفه مرة أخرى ويؤخره في الأجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] ( ).
الثاني : التضعيف في سن وعمر الناقة ونحوها من الدواب ، فعندما يحين الأجل يقول الدائن تقضيني أو تزيدني ، فان لم يكن عنده حوّله إلى سنّ التي فوق ما تم القرض عليه ، فان كانت إبنة مخاض عمرها سنة واحدة جعلها إبنة لبون عمرها سنتان ، ثم حقةّ ، ثم جذعة .
وأصل القرض للإعانة والإرفاق ، وقضاء حاجة المقترض , أما الربا ففيه وجوه :
الأول : إرادة منفعة المقرض نفسه .
الثاني : مجئ الأرباح على المال من غير عمل وتجارة وكسب .
الثالث : الإضرار بالمقترض ، ليكون الربا خلاف قاعدة (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ).
الرابع : التنافي بين الأخوة الإسلامية وبين الربا .
وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ , وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ( ).
ومن البديع في المقام أن كل كلمة وجملة من الحديث أعلاه تدعو إلى نبذ وترك الربا .
إذ أن الربا ظلم وأذى ، وفيه حرمان من ثواب قضاء حاجة المسلم ، وليس في فرج للكربة إنما يحدث الربا كربة جديدة عليه ، وليس فيه شكر لأنه تحميل للمسلم ديوناً إضافية ، فاذا كان المقترض عاجزاً عن دفع أصل الدين , فمن باب الأولوية ظهور عجزه عن دفع ضعفه إلا أن يتفضل الله عز وجل عليه بآية من فضله وإحسانه , ليقتطع منه المربي , فقطع الله عز وجل عليه هذا القطع الظالم .
لقد إبتدأت آية البحث بنداء الإيمان لجذبهم إلى مضامين الآية وتذكيرهم بأن القرآن كلام الله ، ونازل من عنده وانه أحكام وأوامر ونواهي وكما أن قصص القرآن أحسن وأفضل القصص ، كما ورد في قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ] ( ) فان أوامر ونواهي القرآن أحسن الأوامر والنواهي لأن فيها خير الدنيا والآخرة.
وبعد نداء الإيمان جاء الأمر العام للمسلمين بتقوى الله والخشية منه في السر والعلانية .
ترى ما هي الصلة بين الأمر بتقوى الله , والأمر بترك ما بقي من الربا، فيه وجوه :
الأول : تقوى الله سور جامع لعمل الصالحات .
الثاني : ملكة النفوس حرز من أكل مال الربا للتضاد بينهما .
الثالث : تبعث التقوى النفرة في النفوس من الربا .
وهذه النفرة من وجوه :
الأول : العزوف عن أخذ القرض بالربا والربح الزائد .
الثاني : إجتناب المسلم والمسلمة الشهادة على مال الربا .
الثالث : النفرة من الذي يقرض المال بالربا والربح .
الرابع : رفض المسلم كتابة العقد الربوي وشرائطه , وصيغ التواطئ فيه .
ومع قلة كلمات الآية الكريمة فانها قدمت الأمر بتقوى الله على ترك ما بقي من مال الربا ، وفيه مسائل :
الأولى : تقوى الله والخشية منه واقية من المعاملات الربوية ، وحرز من المعاملات الباطلة مطلقاً ، ومن رحمة الله بالمسلمين أن يأتي الأمر العام بتقوى الله في المسألة الخاصة للزجر عن فعل السيئات .
الثانية : تتم معاملة الربا بين طرفين مُقرض يطلب الفائدة ، ومقترض يدفع الزيادة على القرض .
وطوائف من المسلمين ليس عندهم مال للإقراض وطلب الربا عليه .
فتضمنت الآية الأمر بتقوى الله ليقوم المسلمون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثالثة : تأكيد الواجبات العبادية للمسلمين .
والربا من أقسام المعاملات ، وينقطع أمره عند المسلم بتركه والتعفف عنه ولكنه يبقى محتاجاً إلى التقوى والخشية من الله عز وجل في السر والعلانية ، فجاءت الآية بأمر المسلمين بالتقوى ، وهو على أقسام :
الأول : الأمر للمسلمين على نحو العموم المجموعي بتقوى الله ، أي أنهم أمة تخشى الله ، فيتوجهون إلى الصلاة في أوقاتها ، ويتنزهون عن الظلم والتعدي مطلقاً ، سواء فيما بينهم ، أو بينهم وبين الناس عموماً .
الثاني : الأمر الخاص لكل مسلم بتقوى الله والتحلي بالتقوى ، وإتخاذها زينة في القول والعمل ، قال تعالى [وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ] ( ).
الثالث : من التقوى تعاون المسلمين بينهم بطاعة الله , فكل مسلم يستطيع النهي عن أكل مال الربا فالذي يهّم بالربا يرى الناس من حوله يذمون الربا وتنفر نفوسهم من صاحبه ، فتعافه نفسه لإدراكه الغلظة في إجتماع النهي الشرعي عنه وكره الناس له .
الرابعة : بيان الملازمة بين دخول الإسلام وبين التقوى ، إذ يتوجه الخطاب والأمر من عند الله عز وجل إلى كل مسلم ومسلمة بتقوى الله عز وجل ، لتكون الدنيا دار السعي في الصالحات ومناسبة لإكتناز الحسنات .
الخامسة : تأكيد حب الله عز وجل للمسلمين ، وهدايتهم إلى ما فيه نجاتهم في الدنيا والآخرة بتقوى الله .
ومن إعجاز القرآن مجئ الخير بالإمتثال للأوامر الإلهية ، وما يفوت المسلم من النفع الدنيوي الظاهر تأتيه أضعاف منه بطاعة الأوامر الإلهية قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
لقد تقدم الأمر بالتقوى قبل الأمر بترك أموال الربا لإرادة إشاعة أخلاق المتقين في الأرض ، ومحاربة المسلمين للربا في الأرض بالخشية من الله ، وكل فعل عبادي سبيل إلى تثبيت التقوى في النفوس والمجتمعات ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
والربا لغة هو الزيادة على ذات الشيء وحصولها فيه ، يقال فلان أربى على فلان في المرتبة والدرجة أي زاد عليه ، ويقال ربا الشيء ، إذا زاد وكثر في ذاته أو على غيره .
وتسمى الرابية المرتفعة لزيادتها وإطلالتها على غيرها مما إستوى من الأرض .
لذا يقال للمرابي مربي ، لمضاعفته ماله الذي له على غريمه في الحال أو الأجل وإطالة مدة الدين ، وأما معنى الربا في الإصطلاح فهو أخذ الزيادة والربح على القرض والدين عند الزيادة في أجله ، وجاء في نظم القرآن بعد قبل ثلاث آيات : الذين يأكلون الربا [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ] ( ) ليعرف الناس والخلائق يوم القيامة آكل الربا بصفاته الخاصة وهو قيامه كالمصروع , وليس فيه صرع فيعذُر أو يرحم من قبل الخلائق ، إنما هو كالذي يتلاعب به الشيطان وعن ابن عباس (آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يُخْنَق) ( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام في حديث : لا تسلموا على آكل الربا لان التسليم من المسلم تطوع، والرد عليه فريضة،)( ) .
ويمكن تأليف مجلدات خاصة بالربا من وجوه :
الأول : الآيات القرآنية التي تحرم الربا وتبعث النفرة منه .
الثاني : تأكيد السنة النبوية على حرمة الربا .
الثالث : علة تحريم الربا .
الرابع : الأضرار المترشحة عن الربا .
الخامس : الربا في الجاهلية .
السادس : جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والصحابة في المنع من الربا .
السابع : فضل الله في منع الربا .
الثامن : مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) بخصوص حرمة الربا .
التاسع : لماذا حرم الإسلام الربا .
العاشر : الربا في خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ,وذكره له في حجة الوداع .
الحادي عشر :نزول آية في حرمة الربا من بين آخر آيات القرآن نزولاً .
الثاني عشر : المعاملات المصرفية في هذا الزمان .
الثالث عشر : تعاون المسلمين للقضاء على الربا .
الرابع عشر : الوعيد على أكل الربا ، وهو على قسمين :
الأول : الوعيد الدنيوي ، فبعدة آية البحث جاءت آية الإنذار لأهل الربا بقوله تعالى [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ]( ) .
لبيان وجوب التوبة من الربا وإلا فالحرب والقتال بسبب الإصرار على إتيان ما حرم الله .
ولما نزلت هذه الآيات قالت بنو عمرو وكانوا يأكلون الربا بل نتوب إلى الله فانه ليس لنا يدان بحرب الله ورسوله ، وقبلوا بقبض رؤوس أموالهم من بني المغيرة الذي شكوا العسرة وأعلنوا عدم قدرتهم على وفاء حتى رأس المال وسألوا إمهالهم إلى أن يدركوا الغلات ، فأبى بنو عمرو بالجمع بين سقوط الربا والزيادة على القرض وبين تأجيل أصل القرض فنزل قوله تعالى [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ] ( ).
وتضمنت الآية البيان بقوله تعالى [وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : إرادة الذين كانوا يتعاطون الربا في الجاهلية فما بقي من مال الربا لا يجب رده إليه ويحرم عليه المطالبة به وأخذه ، ولو قرّض زيد شخصاً آخر مائة دينار وعند حلول الأجل أعطاه عشرين ديناراً ويبقى القرض وفق قواعد الربا مائة دينار , ونزلت حرمة الربا فلا يعطيه إلا ثمانين ديناراً ، وإن كانت العشرون المدفوعة لزيد في أيام الجاهلية .
وهذه المعاملات شائعة في هذا الزمان بحيل متعددة ، وصكوك ذات صيغة قانونية وإن كان القانون الوضعي يحرم المعاملات الربوية أي أن الحيلة مركبة على الشريعة وعلى القانون وعلى الإشخاص وقد إكتوى كثير من الناس منه ، ومات بعضهم كمداً وحسرة ، فهو يعلم أن الزيادة القهرية التي تؤخذ منه حرام شرعاً وباطل قانوناً ، وهو من مساوئ الربا والإعجاز في نزول القرآن بحرمته .
الثانية : تنزيه مجتمعات المسلمين من التعاطي بالربا ، إذ أنه مفاعلة بين طرفين :
الأول : الذي يقترض المال مع الرضا بالربا والزيادة فيه .
الثاني : صاحب المال الذي لا يقرضه إلا مع الزيادة والربا ، ليدل قوله تعالى [وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا] ( ) أي ترك المعاملات الربوية والقرض الربوي حتى مع الحاجة إليه .
لقد أراد الله عز وجل إماتة الربا بين المسلمين ، وهو من أسرار إبتداء الآية بالنداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]لتكون حياة المسلمين خالية من الأدران في المعاملات والمكاسب المحرمة التي تجلب الضرر ، ومن قبح الربا أنه مجلبة للّعنة على أطرافه فمع أن آخذ الربا محتاج للمال , ويتحمل وزر الزيادة الربوية ظلماً وبغير حق إلا أن اللعنة تتوجه إليه وكذا بالنسبة للشاهد والكاتب فليس لهما نفع في المعاملة الربوية ، وقد تقدم الحديث عن علي عليه السلام أنه قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صاحب الربا، وآكله، وكاتبه، وشاهده) ( ).
وصاحب الربا هو المقرض للمال والطالب للزيادة الربوية فيه, أما آكله فهو الذي يأخذ المال بالربا والزيادة ليكون ضرر الربا عليه أكثر من إنتفاعه منه .
ومن إعجاز القرآن أمور :
الأول : تعلق الحرمة بالمعاملة الربوية ، وعدم إختصاصها بصاحب المال الذي يصر على طلب الزيادة والفائدة عليه .
الثاني : تعدد الآيات التي تحرم الربا وتمنع منه .
فمن إعجاز نظم القرآن وبيان حرمة الربا والتشديد فيها ورود لفظ [ الربا] خمس مرات في أربع آيات متتالية , منها ثلاثة في آية واحدة بقوله تعالى [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) .
ومع صدور أكثر من مائة وثلاثين جزء من هذا السفر لم أذكر أربع آيات متتاليات بهذه السعة والكثرة من الكلمات إلا نادرا، ولكن موضوع وترتيب هذه الآيات أمر معجز بذاته وسياقه ، بالإضافة إلى مجئ الآية التي بعدها بإعلان الحرب من الله عز وجل ومن رسوله على الذين يصرون على الربا، وهل يعني قوله تعالى[فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ]( ) أنكم إن لم تتركوا الربا ينزل الله ملائكته لقتال أهل الربا أو نزول آيات أخرى في حرمة الربا وذم اهله .
الجواب لا دليل عليه ، إنما نزل الملائكة لقتال المشركين ، أما القرآن فذات آياته وسوره ليس فيها زيادة محتملة .
إنما تكون الحرب من الله عز وجل على وجوه :
أولاً : إبتلاء أهل الربا بنقص البركة .
ثانياً : فضح أهل الربا .
ثالثا ً : الحرب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أهل الربا هي حرب من الله عز وجل ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
رابعاً : إرادة نبذ المسلمين لأصحاب الربا .
خامساً : إرادة حرب الله في الآخرة ، ويكون تقدير الآية فان لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله في الآخرة ، وحرب من رسوله في الدنيا وهل يمكن أن يقال وحرمان من شفاعته في الآخرة , الجواب قد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله: عن ابن عمر قال : كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقال : إني ادخرت دعوتي شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ، فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ، ثم نطقنا بعد ورَجَوْنا)( ).
نعم قد جاءت الآية بالحرب من الله ورسوله ولعل منها حجب الشفاعة , وفيه إنذار إضافي وزاجر أخروي عن الربا .
ولا تعارض بين هذه الوجوه إلا أن حرب الله عز وجل على أصحاب الربا لا تختص بعالم الآخرة لأصالة الإطلاق ولأن الدنيا من ملك الله عز وجل ، وفي التنزيل [فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى]( ).
سادساً : تشريع القتل لمن يصر على أكل مال وربح الربا .
الثالث : إبتداء الآية بنداء الإيمان ، وفيه ترغيب للمسلمين والمسلمات بالتقيد بما فيها من الأوامر والنواهي ، ولا ينحصر موضوع الترغيب بإجتناب المعاملة الربوية بل يشمل النهي عنه .
الرابع : دعوة المسلمين للإمتثال لأمر الله بترك الربا بالإقراض الخالص لوجه الله ومن غير فائدة .
لذا يأتي بعد أربع آيات قوله تعالى في أطول الآيات [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ ….]( ).
أي إذا تداينتم من غير ربا بدليل نداء الإيمان الوارد في الآية ، ولبيان التفصيل والفصل بين كل من :
الأول : الدين والقرض .
الثاني : الربا وأخذ الفائدة المحرمة .
الثالث : كتابة الدين من غير فائدة ربوية .
بحث بلاغي
من ضروب البلاغة عطف الخاص , وهو اللفظ الخاص الذي يدل على فرد واحد من العام على العام وهو اللفظ المستغرق لجميع الإفراد الصالحة لمعنى ذات اللفظ مثل لفظ الأيام ، لخصوصية في الخاص تميزه عن غيره من أفراد العام المتكثرة ، فيذكر العام ثم يؤتى بالخاص .
ومنه قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ]( ) فعطف الحج وهو الخاص على الناس , بيان يتقوم أداء الحج برؤية الهلال، وجاءت آية البحث بالأمر بتقوى الله وعطفت عليه النهي عن أكل الربا , فهل هو من عطف الخاص على العام ، أم أن القدر المتيقن منه إتحاد صيغة الأمر أو النهي بين العام والخاص .
الجواب هو الأول ، ويمكن تأسيس علم بتفرع العام والخاص من جهتين :
الأولى : عطف النهي على الأمر .
الثانية : عطف الأمر على النهي .
وهذا العلم متكرر في القرآن وله دلالات عقائدية منها أن من معاني التقوى الخشية والخوف من الله والإمتناع عن فعل المعصية كما يمكن تأسيس علم إستقرائي آخر باب العطف العام من جهات :
الأولى : عطف الأمر الخاص على الأمر العام .
الثانية : عطف النهي الخاص على الأمر العام ، مثل قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ).
الثالثة : عطف النهي الخاص على النهي العام .
الرابعة : عطف الأمر العام على النهي الخاص ، كما في قوله تعالى [وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ]( ) ومنه[وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ]( ) وقوله[وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ]( ).
وجاءت آية البحث من الجهة الثانية أعلاه لأن ترك الربا موضوع خاص، أما الأمر بتقوى الله فهو عام ، ومنه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ] ( ) ومنه قوله تعالى في خطاب لآدم وحواء [فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ]( ).
الخامسة : عطف الأمر المتعدد على النهي المتعدد .
السادسة : عطف الأمر المتعدد على الأمر المتحد .
السابعة : عطف الأمر المتحد على الأمر المتعدد .
الثامنة : عطف النهي المتحد على الأمر المتعدد ، كما في قوله تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا] ( )وكما في قوله تعالى [فَاذْكُرُوا آلاَءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ]( ) وقوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا]( ).
التاسعة : عطف المجمل على المفصل .
العاشرة : عطف المفصل على المجمل ، ومنه الآية أعلاه ، فبينات من الهدى والفرقان مفصل وفيصل في وصف القرآن معطوف على المجمل.
قد يأتي العطف بمعنى السؤال والطلب من الأنبياء والمسلمين لله عز وجل كما في عطف السؤال العام على طلب العفو الخاص , ومنه ما ورد في التنزيل [وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا] ( ).
ترى ما هي النسبة بين نداء الإيمان والتقوى ، فيه وجوه :
الأول : نسبة التساوي وأن تقوى الله هي ذاتها الإيمان .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : التقوى أعم من الإيمان ، لذا ورد الأمر بتقوى الله في آية البحث بعد نداء الإيمان .
الثانية : الإيمان أعم من التقوى .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين الإيمان والتقوى .
الرابع : نسبة التباين الموضوعي وأن التقوى غير الإيمان .
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه بلحاظ أن التقوى مرتبة أسمى وأعلى من الإيمان .
ولم تقل الآية : يا أيها الذين أتقوا الله آمنوا) لأن التقوى ملكة نفسانية تتجلى بالتقيد بالأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنة ، وليكون من خصائص المتقين العمل بمضامين قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
أما النسبة بين الإيمان وبين ترك الربا فهي نسبة العموم والخصوص المطلق ، إذ أن ترك الربا من خصال المؤمنين ، لذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى (إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) لبيان التنافي والتضاد بين الإيمان وبين ترك الربا .
لتفيد الآية حقيقة وهي تغليظ وشدة نهي المسلمين عن الربا , من جهات :
الأولى : إبتداء الآية بنداء الإيمان وصيرورة ترك الربا موضوعاً ومادة للآية الكريمة .
الثانية : سبق الأمر بتقوى الله للأمر بترك الربا وأرباحه .
الثالثة : من معاني الأمر بتقوى الله في الآية بلحاظ مسألة الربا أمور :
الأول : لزوم ترك مقدمات الربا .
الثاني : في الربا المنهي عنه أطراف .
أولاً : الذي يقترض ويطلب المال الربوي .
ثانياً : مال الربا والربح الزائد على القرض .
ثالثاً : رأس المال غير المحرم في الأخذ وقضاء الدين .
رابعاً : المرُبي الذي يعطي المال الربوي .
خامساً : الشاهد على الربا .
سادساً : الكاتب لعقد الربا . ومن التقوى التنزه عن المعاملة الربوية , والطمع بأرباحه , فهي سحت .
الثالث : طلب الرزق الحلال، والكسب غير المنهي عنه.
الرابع : السعي في الصالحات، واللجوء إلى سلاح الدعاء لنيل الرغائب.
الخامس : تعاون المسلمين لمنع الربا، ومنه التعاون في التداين وتيسير القرض والتقيد بأحكامه وآدابه وأوان قضائه، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ…]( ).
السادس : لزوم إستحضار تقوى الله في الأوامر والنواهي، فأكل الربا أمر خاص قد يقع بين دائن ومدين، فجاء الأمر بتقوى الله لتأكيد ضرره على المسلمين في حال تعاطيه، ولبيان وجوب خشية المسلمين من الله عز وجل في السر والعلانية، والأمور الخاصة والعامة في العبادات والمعاملات.
ومن إعجاز القرآن توثيقه لقانون وهو التقوى وصية الأنبياء لأقوامهم، وبها أمروا وأمروهم، وقد ورد في التنزيل:
قوله تعالى[إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ]( )،
قال تعالى[إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ]( ).
قال تعالى[إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ]( ).
قال تعالى[وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
قال تعالى[إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلاَ تَتَّقُونَ]( ).
قال تعالى[إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ]( ).
وعن علقمة عن عبد الله بن مسعود : قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آكل الربا ومؤكله – قال علقمة : وشاهديه وكاتبه . قال: انما نحدث بما سمعنا) ( ).
و(قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يكثر أن يقول لأصحابه هل رأى أحد منكم رؤيا , فيقص عليه ما شاء الله أن يقص وإنه قال لنا ذات غداة إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني وإنهما قالا لي انطلق وإني انطلقت معهما وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر هاهنا فيتبع الحجر فيأخذه فما يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود إليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الاولى قلت لهما سبحان الله ما هذان .
قالا لي : انطلق انطلق قال فانطلقت فأتينا على رجل مستلق لقفاه وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه ثم يتحول إلى الجانب الآخر فليفعل به مثل ما فعل المرة الاولى قلت سبحان الله ما هذان .
قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على رجل مثل بناء التنور فاطلعنا فيه فإذا رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا , قلت لهم ما هؤلاء .
قالا لي انطلق انطلق فانطلقت فأتينا على نهر فإذا في النهر رجل سابح وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يسبح ما سبح ثم يأتي الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجرا قلت لهما ما هذان .
قالا لي انطلق انطلق فانطلقت فأتينا على رجل كريه المرأى كأكره ما أنت راء رجلا وإذا هو عند نار له يحشها ويسعى حولها قلت لهما ما هذان قالا لي انطلق انطلق فانطلقنا فأتينا على روضة فإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط .
قال فانطلقنا فأتينا على دوحة عظيمة لم أر دوحة قط أعظم منها ولا أحسن قالا لي أرق فيها فارتقينا فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فأتينا باب المدينة واستفتحنا ففتح لنا فدخلناها فتلقانا فيها رجال شطر كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء , قالا لهم اذهبوا فقعوا في ذلك النهر وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحيض في البياض فذهبوا فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم وصاروا في أحسن صورة قالا لي هذه جنة عدن وهذاك منزلك قلت لهما بارك الله فيكما ذراني فادخله .
قالا لي أما الآن فلا وأنت داخله , قلت لهما فإني قد رأيت منذ الليلة عجبا فما هذا الذي رأيت قالا لي أما إنا سنخبرك , أما الرجل الاول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فهو الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه وعينه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه ذاك الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق .
وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل التنور فهم الزناة والزواني وأما الرجل الذي في النهر يسبح ويلقم الحجارة فاه فهو آكل الربا وأما الرجل الذي عند النار يحشها ويسعى حولها فهو مالك خازن جهنم وأما الرجل الذي في الروضة الطويل فإنه إبراهيم وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة .
فقال بعض المسلمين يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين وأما القوم الذين كان شطر منهم قبيح فإنهم قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتجاوز الله عنهم) ( ).
وعلى فرض صحة سند الحديث فموضوعه مستقل وليس هو من حديث الإسراء وعروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء بجسده وروحه والذي حصل في مكة المكرمة وقبل الهجرة .
ومع إبتداء الآية بنداء الإيمان فانها أختتمت بصيغة الجملة الشرطية [إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]وفيه وجوه :
الأول : نسبة التساوي بين النداء بلفظ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] وبين خاتمة الآية إن كنتم مؤمنين .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق وهو على شعبتين :
الأولى : لفظ الذين آمنوا أعم من لفظ [مُؤْمِنِينَ].
الثاني : لفظ [ المُؤْمِنِينَ] أعم من لفظ الذين آمنوا .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه , فهناك مادة للإلتقاء ، وأخرى للإفتراق بين الذين آمنوا وبين المؤمنين .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الأول بدليل قوله تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ] ( ).
وقد يقال بافادة ظاهر الآية التساوي بينهما ، ولكنها تبين أن اسم المؤمن يستلزم التقوى والصبر في طاعة الله والتنزه عن الظلم والتعدي وأكل المال الحرام .
والنسبة بين أكل المال بالباطل وبين الربا هو العموم والخصوص المطلق، فأكل المال بالباطل أعم وأوسع ، ترى لماذا لم تأت الآية بصيغة النهي عن أكل المال بالباطل ، قال تعالى [وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ]( ).
لقد أرسل الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً بشآبيب الرحمة وسنن الصلاح والمنع من الضلالة والغواية ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ويمكن تأسيس قاعدة وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذين آمنوا لا يأكلون الربا .
الصغرى : كل مسلم من الذين آمنوا .
النتيجة : المسلم لا يأكل الربا .
ترى لماذا جاءت الآية بصيغة الجمع في لغة الخطاب , والخاتمة شرطية [إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]والجواب من وجوه :
الأول : الآية إنحلالية على جهات :
الأولى : يا أيها الذي آمن ذر ما بقي من الربا إن كنت مؤمناً .
الثانية : يا أيتها التي آمنت ذرِ ما بقي من الربا إن كنتِ مؤمنة .
الثالثة : يا أيتها اللائي آمنّ ذرن ما بقي من الربا إن كنتن مؤمنات .
الثاني : دعوة المسلمين للتعاون والتآزر في السلامة من أكل مال الربا .
الثالث : إرادة قيام المسلمين بالأمر بالمعروف وطلب الرزق الحلال والنهي عن المعاملات الربوية .
الرابع : مجيء الجملة الشرطية بمعنى التأكيد على مضامين الآية.
الخامس : بيان النسبة بين الذين آمنوا، وبين المؤمنين .
ويحتمل متعلق خاتمة الآية وما فيها من صيغة الشرط جهات:
الأولى : إرادة تقوى الله لأنها الأصل، وتقدير الآية: وإتقوا الله إن كنتم مؤمنين.
الثانية : المقصود بيان الملازمة بين الإيمان وترك الربا، وتقدير الآية : وذروا الربا إن كنتم مؤمنين.
الثالثة : إرادة المعنى الأعم وأن متعلق الشرط هو تقوى الله وترك الربا .
ولا تعارض بين هذه الوجوه، ليكون من معاني الجمع بين تقوى الله وترك الربا أمور:
الأول : من تقوى الله إجتناب ما نهى عنه، أخذ المال الربوي مما نهى الله عز وجل عنه.
الثاني : تتضمن الآية حرمة أكل الربا والمعاملات الربوية إبتداء وإستدامة، ولزوم العصمة من غلبة الطمع وطغيان إفتناء المال بأي طريق، وهذه العصمة فرع التقوى، ورشحة من رشحاتها، فتفضل الله عز وجل وجعلها أمراً لازماً ومصاحباً للمسلمين .
ومن إعجاز القرآن ورود آية أخرى بخصوص حرمة الربا والإمتناع عن كسب المال بسببه ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
وتلتقي آية البحث والآية أعلاه مع قلة كلمات كل منهما بوجوه :
الأول : نداء الإيمان .
الثاني : النهي عن أكل مال الربا .
الثالث : الأمر بتقوى الله .
الرابع : صيغة العموم في النداء والخطاب .
وصحيح أن لفظ [تَأْكُلُوا] في الآية من باب المجاز والنقل من الأكل المادي وقظم الطعام إلى جمع المال ، فان لها دلالات وهي أن الربا وإن كان مضاعفاً فان خاتمة وعاقبة الأكل التلف والزوال ، ومن النكات في المقام أن الإنسان لا يستطيع أن يأكل إلا بمقدار قليل .
فان الأضعاف المضاعفة من الربا تذهب سدى ، أو تبقى للوارث ويكون المغنم له , والوزر على الذي جمعها بالحرام .
ويدل لفظ الأكل على تلف أموال الربا , وإن نمت وزادت أو ذهبت إلى الوارث .
فان قلت أكل الربا حالة قليلة في مجتمعات المسلمين ، فلماذا توجه الخطاب في الآية إلى عموم المسلمين والمسلمات خاصة وأن أكثرهم لا يملك المال الذي يقدر أن يرُبى فيه ، والجواب من جهات :
الأولى : جاء الأمر بتقوى الله بعد نداء الإيمان ، وموضوع التقوى أعم ويتعلق بالعبادات والمعاملات والأحكام .
الثانية : نهي المسلمين عن أكل الربا ، وعن أخذ المال بالربح والفائض وعن الشهادة على الربا وكتابة عقده ، لذا جاء الحديث النبوي باللعنة عليهم جميعاً .
الثالثة : بعث النفرة في نفوس المسلمين من الربا .
الرابعة : بيان قانون في الشريعة الإسلامية وهو حرمة الربا .
الخامسة : منع طرو الربا والإتجار به في التصور الذهني للمسلم غنياً كان أو فقيراً .
السادسة : زجر المسلمة عن ترغيب زوجها أو أخيها أو إبنها على أكل مال الربا .
السابعة : لقد أرسل الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً , قال سبحانه [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) فمن عموم رسالته إخبار الناس بأن الربا محرم ومنهي عنه .
الثامنة : دعوة المسلمين إلى الكسب الحلال والرضا بالقليل من الكسب المشروع .
التاسعة : دعوة المسلمين للتدبر في البركة التي تأتي عن طريق الكسب الحلال , والسعي في مرضاة الله .
العاشرة : بيان قانون وهو أن الأكل الحلال لا يختص بالمسلمين بل هو حاجة لكل إنسان ، وهو مقدمة للتفكر في الخلق وبديع صنع الله .
الحادية عشرة : بيان حقيقة وهي أن أكل الربا من خطوات الشيطان ، والشواهد على عداوته للناس عامة والمسلمين خاصة ، ومنها بلحاظ أكل الربا مسائل :
الأولى : مال الربا سحت يترشح عند الأذى في البدن وعالم الأفعال.
الثانية : المعاملة الربوية من خطوات الشيطان , وقد قال الله تعالى[وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ].
الثالثة : إشاعة المعاملات الباطلة بين الناس، وأسباب قلة البركة.
الرابعة : تعاطي الربا معصية لله عز وجل.
وأول من عصى الله عز وجل إبليس، وهو يحب أن تشيع المعصية بين الناس، فجاءت آية البحث لفضحه وخزيه وصيرورة المسلمين أمة تتنزه عن الربا , وتؤكد في سيرتها للناس جميعاً أن الربا حرام ومعاملة مكروهة بذاتها وآثارها، فلو كان الناس جميعاً يزاولون فعلاً فيه ضرر قد لايلتفتون إلى ضرره العام والخاص، ولكن حينما يأتي النهي عن الربا من عند الله، ويمتثل المسلمون لهذا النهي فان الناس يدركون ضرر الربا , وهو من الشواهد على خروج المسلمين للناس برداء التقوى، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
تفسير [وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ]
هل الأمر بالإنفاق من الطيب ، وترك البذل والصدقة من الخبيث من عمومات قوله تعالى [قُلْ لاَ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ] ( ).
الجواب نعم لأن ثواب الإنفاق من الطيب مضاعف وبهيج وواقية من الفزع والخوف يوم القيامة .
وورد عن جابر قال (أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزكاة الفطر بصاع من تمر، فجاء رجل بتمر رديء فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن رواحة لا تخرص هذا التمر ، فنزل هذا القرآن { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض….} الآية)( ).
وقرأ عبد الله بن مسعود ( ولا تأمموا ) وقرأ عبد الله بن عباس (ولا تيُمموا ) بضم التاء والمراد التعمد وقصد عين الخبيث كما لو عُزل الردئ من المال ليكون زكاة وخمساً وصدقة .
والضابطة أن الخبيث المنهي عنه في الإنفاق عدم قبوله كحق أو دَين أو جاءكم هدية إلا مع التسامح وعدم الرضا القلبي، ولو كان عليه زكاة من نصاب وأخرج من الخبيث والصنف الردئ ولكن بضعف ما يجب عليه فهل يتغير النهي والحكم بلحاظ كثرة الكمية ، وأنه لو بيعت هذه الكمية في السوق لكانت بثمن مقدار الأصل من الصنف الجيد .
الجواب لا، إنما ورد النهي عن ذات الخبيث الردئ وإن زاد مقداره ليكون من إعجاز الآية إرادة إكرام المسلم الفقير ، ومنع الغضاضة عن المحتاج, والسائل فلما تفضل الله عز وجل وجعل المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) منع من تلقيهم للخبيث والردئ من مال الصدقة ، ليكون من دلالات الآية أن الله يتكفل رزق الفقراء بإمتناع المسلمين عن إنفاق الخبيث، وبما يتفضل به على المنفِق والمنُفَق عليه .
ويتوجه الخطاب والنهي[وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ]( ) إلى عموم المسلمين, ومن معاني ومفهوم الآية وجوه:
الأول : إن الله عز وجل يرزقكم الجيد والنفيس .
الثاني : ينعم الله عليكم بالمال الطيب الحلال .
الثالث : إنفاق الطيب والجيد من الشكر لله عز وجل .
الرابع : إنفاق الطيب والحسن مناسبة للثواب العظيم بالإمتثال للأمر المتعدد والنهي ، أما الأمر المتعدد فمن جهتين :
الأولى : عام , وهو وجوب الزكاة والإنفاق ، قال تعالى [الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً] ( ).
الثانية : خاص وهو الإنفاق من الطيب والجيد الذي يبعث الغبطة والسرور في نفس الفقير ، فيشكر الله عز وجل للمنفق إنفاقه وإحسانه وإدخاله السرور على أخيه .
(عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن أحب الأعمال إلى الله بعد الفرائض إدخال السرور على المسلم) ( ).
قانون خواتيم آيات نداء الإيمان
من إعجاز القرآن معاني ودلالات خواتيم آيات القرآن من جهات :
الأولى : معنى وتأويل كل خاتمة من خواتيم آيات كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
فخاتمة الآية [وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ] قانون مستديم في مضمونه وموضوعه وحكمه , فبينما إبتدأت الآية بخطاب للمسلمين والمسلمات وتضمنت أمرهم بالإنفاق والبذل في سبيل الله أختتمت بذم الذين كفروا ونعتهم بأنهم ظالمون ، لبيان أن حرمان النفس من التحلي بالإيمان ومن الإنفاق في سبيل الله ، ومن الإقرار باليوم الآخر كفر وظلم للنفس والغير .
الثانية : الجمع بين نداء الإيمان وبين خاتمة آية النداء , وكل فرد منهما موضوع مستقل قائم بذاته , تقتبس منه المسائل والمواعظ والعبر .
الثالثة : الجمع بين خاتمة آية النداء وبين كل كلمة وجملة من ذات الآية واستنباط المسائل منها .
الرابعة : دلالات الجمع بين خواتيم آيات النداء بلحاظ الجامع المشترك بينها ، وهو ختمها لآيات النداء ، فتجمع كل خاتمتين منهما لإيجاد المسائل المشتركة بينهما ، وهذا العلم فرع سياق الآيات الذي أصدرنا أجزاء خاصة به , كما يتجلى في تفسير كل آية في هذا السفر . وهو لا يمنع من إستقراء العلوم الخاصة بآيات نداء الإيمان والصلة بينهما .
وتأتي أحياناً خاتمة نداء الإيمان بصيغة الجملة الشرطية التي تبعث على العمل بمضامين ذات الآية ، وما في القرآن من الأوامر ، وتأتي أيضاً بصيغة التخويف والإنذار والوعيد للذين كفروا ، وبه أختتمت أول آيات نداء الإيمان وفق نظم القرآن ، وهو قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ).
لبيان التضاد بين المؤمنين والكافرين في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فتتوجه نداءات الإيمان للمؤمنين , وتأخذ بأيديهم في سلم الإمتثال للأوامر الإلهية ، وهو رفعة وعلو متصل ومتجدد ، بينما يعرض الذين كفروا عن نداءات الإيمان ، ويعزفون عن مضامينها القدسية .
ومن خصائص مضامين نداء الإيمان البلاغة ، ومجيؤها بصيغة تفوق لغة التخاطب بين الناس لبعث الشوق في النفوس للإنصات لها ، والتدبر في معانيها وإستقراء المواعظ منها .
لقد نفخ الله عز وجل من روحه في آدم ، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله خلق آدم من تراب ، ثم جعله طيناً ، ثم تركه حتى إذا كان حمأ مسنوناً خلقه وصوّره ، ثم تركه حتى إذا كان صلصالاً كالفخار ، وجعل إبليس يمر به فيقول : لقد خلقت لأمر عظيم ، ثم نفخ الله فيه من روحه ، فكان أوّل شيء جرى فيه الروح بصره وخياشيمه ، فعطس فلقنه الله حمد ربه .
فقال الرب : يرحمك ربك . ثم قال : يا آدم اذهب إلى أولئك النفر فقل لهم وانظر ماذا يقولون؟ فجاء فسلم عليهم فقالوا : وعليك السلام ورحمة الله ، فجاء إلى ربه فقال : ماذا قالوا لك وهو أعلم بما قالوا له؟ قال : يا رب سلمت عليهم فقالوا وعليك السلام ورحمة الله قال : يا آدم هذه تحيتك وتحية ذريتك .
قال : يا رب وما ذريتي؟! قال : اختر يدي ، قال : أختار يمين ربي ، وكلتا يدي ربي يمين . فبسط الله كفه فإذا كل ما هو كائن من ذريته في كف الرحمن عز وجل) ( ).
ونداء الإيمان نوع إتصال وصلة مع خلق الإنسان وتذكير له بنعمة الخلق ولزوم الشكر لله عليها بالإيمان , ليكون من معاني النداء حث المسلمين والناس على الشكر لله على نعمة الخلق , ويتجلى هذا الشكر بالإيمان ، وهل هو شاهد على شكر الله عز وجل للمسلمين على إيمانهم , الجواب نعم من غير أن يلزم الدور بينهما ، وكأن خاتمة آية النداء بالوعيد من العقاب العاجل للذين كفروا على حرمانهم أنفسهم من تلقي النداء بالتصديق والقبول والعمل بمضامينه .
وتأتي آية النداء بالأمر لعامة المسلمين والمسلمات بالدخول في السلم لتختتم بالتحذير والإنذار من أمور :
الأول : إتباع خطوات الشيطان .
(عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ان الله عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا إنه قال لي كل ما نحلته عبادي فهو حلال لهم وإني خلقت عبادي حنفاء فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا .
وإن الله عز وجل نظر إلى أهل الارض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وإن الله عزوجل أمرني أن أحرق قريشا فقلت يا رب إذا يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة , قال إنما بعثتك لابتليك وأبتلي بك وقد أنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه في المنام واليقظة فأغزهم سنغزك وأنفق ينفق عليك وابعث جيشا نمدك بخمسة أمثالهم وقاتل بمن أطاعك من عصاك ثم قال أهل الجنة ثلاثة إمام مقسط ورجل رحيم رقيب القلب لكل ذي قربى ومسلم ورجل غني عفيف متصدق وأهل النار خمسة الضعيف الذي زبر له الذين هم فيكم تبعا الذين لا يبتغون أهلا ولا مالا ورجل إذا أصبح أصبح يخادعك عن أهلك ومالك ورجل لا
يخفى له طمع وإن دق إلا ذهب به والشنظير الفاحش وذكر البخل والكذب) ( ).
الثاني : بيان القبح الذاتي للسيئات والفواحش بلحاظ أنها من خطوات الشيطان .
الثالث : بيان قانون دائم وهو عداوة الشيطان للإنسان بقوله تعالى [إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ]ومن البيان والوضوح في عداوته للمسلمين جهات :
الأولى : محاولة الشيطان حجب الناس عن الإنصات لنداء الإيمان .
الثانية : إرادة إفتتان الناس بما يشغلهم عن التكاليف العبادية .
الثالثة : إغواء فريق من الناس بمفاهيم الكفر والجحود .
الرابعة : عدم إصغاء فريق من الذين كفروا لإنذارات القرآن والسنة النبوية .
الخامسة : محاولة عدم إنتفاع الناس الأمثل من نداء الإيمان , فالأصل هو الإتحاد في جهة التلقي بين نداء الإيمان والنداء العام للناس كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) .
ومن الآيات أن النداء العام أعلاه هو أول نداء في نظم القرآن لبيان قانون وهو أن الأصل في نداءات القرآن العموم والدعوة إلى عبادة الله , فليس من برزخ أو حاجب بين الله عز وجل وبين خلقه .
وتجلى هذا الأمر في القرآن بدعوة الناس للهدى والإيمان ، ولو كان الناس كلهم مؤمنون , فهل يبقى نداء الإيمان أم يستبدل بلفظ [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] الجواب هو الأول ، إذ أن الإيمان مرتبة سامية وتلقي المسلمين النداء بصيغة الإيمان عز ورفعة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
فمن فضل الله عز وجل على المسلم أن يتوجه له الخطاب والنداء من عند الله مرة بصيغة الإنسانية وأنه واحد من البشر , وأخرى بالشهادة له بالإيمان ، وقد ورد الأمر من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ] ( ) لبيان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يلتقي مع الناس بصفة البشرية .
ولمقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الله لم تقل الآية (قل إنما أنا ابن آدم مثلكم ) لبيان أن نبوته للناس جميعاً ، وأخرج ابن سعد (قال رجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : متى استنبئت؟ قال : وآدم بين الروح والجسد) ( ) .
وحينما قالت الآية أعلاه [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ ] ( ) إستجاب المسلمون لهذه الدعوة فجاءهم النداء من عند الله عز وجل بالشكر على نعمة الإيمان بالخطاب [َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] ثم تفضل الله عز وجل بتوجيه الأوامر والنواهي لهم ، وكل فرد منها طريق إلى اللبث الدائم في النعيم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) وعلة تلاوة كل مسلم ومسلمة له عدة مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني .
ومن خصائص الإنسان إفتخاره ببعض الثوابت سواء كان متحداً أو متعدداً ، فالفرد والجماعة والأمة لهم مشتركات يتعاهدونها ويفتخرون بها شرعاً وعقلاً أو عرفاً ، ويفتخر المسلمون والمسلمات بنداء الإيمان وتشريفهم وإختصاصهم به .
ومن الآيات التي يتضمنها هذا الجزء قوله تعالى [َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وفيها أمر بالتقوى ، وهو من أعظم الأوامر في الحياة الدنيا شاء الله أن يجعله في القرآن هبة للمسلمين ويقرنه بنداء الإيمان ، وتعقبه نهي عن أكل مال الربا مما يدل على شدة قبح الربا وحرمة معاملته وسوء عاقبته وتنافيه مع التقوى والخشية من عند الله عز وجل.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن الربا وإن كثر فان عاقبته تصير إلى قل)( ).
ليكون من معاني الحديث أعلاه وجوه :
الأول : بيان الملازمة بين الحرمة والضرر الفادح.
الثاني : صيرورة الذين يجمعون المال بالكسب الحرام في حال حسرة وخوف متجدد من الخسارة وضياع الأموال .
الثالث : بعث السكينة في نفوس المسلمين لإختيارهم نهج الإيمان ، ورضاهم حتى في حال قلة المال .
الرابع : تنمية ملكة القناعة عند المسلمين والإكتفاء بالطيبات والرضا بالقليل .
الخامس : بيان التباين بين الرزق الحلال والكسب الحرام ، ففي الأول البركة والنماء ، وفي الثاني النقص والإبتلاء في الدنيا والحساب في الآخرة .
السادس : دعوة المسلمين والناس جميعاً إلى مصداق عملي لقبح السحت من المال الذي نهى الله عز وجل عنه ، فقد يظن الإنسان أن الربا تجارة مربحة وزيادة في المال فتفضل الله عز وجل بالنهي عنه ، وجاء الحديث أعلاه بعث اليأس في النفوس من إحتمال الزيادة في الربا .
وقد ينمو ويزداد المال بالربا وجني الأرباح من القروض فجاء الحديث أعلاه لمنع إفتتان الناس بالمرابي ولإخبارهم بأن تلك الزيادة إلى زوال ، وأن مال الربا وإن إزداد فلابد أن أموال الربا إلى تضاؤل ونقص ، وفيه آية بأن مقدار وسنخية الرزق وتعاهد الأموال وزيادتها أو نقصها لا يتم وفق الأسباب الطبيعية والمعاملات التجارية وحرص وفطنة صاحبها أو بالعكس , ولكن تعاهد ونماء المال يكون بالتقوى والصلاح وإرادة الكسب الحلال , وفيه حث للمسلمين على تحصين النفوس والأموال بالدعاء وسؤال الله سبحانه .
ومن خصائص الدعاء أنه علة لمجئ الرزق الكريم ، وزيادته والسلامة في البدن والسرب ، وتيسير المضاربة وسبل التجارة ، ولا يلزم الدعاء في ذات الرزق المخصوص ، فيكفي إجتهاد الإنسان في الدعاء على نحو الإجمال [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ومن الإعجاز في خواتيم آيات النداء تأكيدها لنداء الإيمان في أول الآية ، ودعوتها المسلمين لإكرامه وتلقيه كنعمة من عند الله , وشكر لله عز وجل عليه بحسن الإمتثال للأوامر الإلهية .
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
قد تقدم أن هذه الآية تسمى آية الدًين لأنها تتضمن أحكام التداين بين المسلمين ، وفيه تنمية لملكة الإقراض عند المسلمين ، وقضاء حوائجهم ، وهو من مصاديق التآخي والمودة بين المسلمين .
ذكرت الآية أحكام القرض وقد وردت قبل أربع آيات وفق نظم القرآن آية الأمر بترك ما بقي من الربا ليفيد الجمع بينهما مسائل :
الأولى : صحة القرض وحرمة الربا .
الثانية : الأجر والثواب بالقرض ، والإثم والعقاب والربا .
الثالثة : السلامة من الأذى بالقرض وترتب الضرر ومضاعفة الدَين بالربا , والأذى أدنى مرتبة من الضرر.
الرابعة : رضا وسكينة المقترض في الدَين ,ودبيب الحزن والأسى والخوف إلى قلب آخذ مال الربا ويدخل الحزن إلى بيته ونفوس عياله سواء قضى مال الربا أم لم يقضه .
الخامسة : من القبائح في الربا أن المدين يتحمل الوزر والإثم حتى مع مضاعفة الأرباح عليه .
وعن الحارث عن الإمام علي عليه السلام : أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا ، وموكله ، وشاهديه ، وكاتبه ، والمحلل له ، والواشمة والموشومة ، ومانع الصدقة ) ( ).
وموكله أي الذي يقوم بالإقراض ويستوفي الربا والمنفعة الزائدة عليه .
أما المحلل له فهو الذي طلق أمراته ثم جاء برجل يتزوجها ثم يطلقها ليعود لها الأول .
والواشمة هي التي تفعل الوشم بأن تغرز الجلد بابرة ثم يحشى بلون أزرق أو أسود كنوع زينة دائمة في البدن .
ليعود الضمير الهاء في المحلل له إلى المحلل , ولا صلة له بموضوع الربا إذ يتضمن الحديث النهي عن أمور وعن مقدماتها وهي :
الأول : الربا .
الثاني : تحليل المطلقة .
الثالث : الوشم .
وللقرض منافع كثيرة وهي على جهات :
الأولى : منافع القرض في الدنيا للمُقرض .
الثانية : ثواب القرض في الدنيا للمقرض .
الثالثة : الفوائد المترشحة عن القرض في الأمور المعاشية والإقتصادية للفرد والمجتمع .
الرابعة : الثواب العظيم للقرض في الآخرة .
وعن إنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (رأيت ليلة أسري بي مكتوباً على باب الجنة ، الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر ، فقلت : يا جبريل ، ما بال القرض أفضل من الصدقة؟ قال : لأن السائل يسأل وعنده ، والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة) ( ).
لبيان موضوعية قضاء حاجة المحتاج عند الله ، وهو من أسباب التراحم بين الناس ، وقد تفضل الله عز وجل وجعل الدنيا دار الرحمة ، وليس من حصر لمصاديق الرحمة التي يتفضل بها على الناس ، سواء ما يأتيهم دفعة أو تدريجياً , وبالذات أو الواسطة , أو بصرف البلاء والحرج والضيق ومن الآيات أن القرض دفع للحاجة , وصلة كريمة ومقدمة ووسيلة للعمل, ونوع مودة .
(عَنْ قَيْسِ بْنِ رُومِىٍّ قَالَ كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ أُذُنَانٍ يُقْرِضُ عَلْقَمَةَ أَلْفَ دِرْهَمٍ إِلَى عَطَائِهِ فَلَمَّا خَرَجَ عَطَاؤُهُ تَقَاضَاهَا مِنْهُ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ فَقَضَاهُ فَكَأَنَّ عَلْقَمَةَ غَضِبَ فَمَكَثَ أَشْهُرًا ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ أَقْرِضْنِى أَلْفَ دِرْهَمٍ إِلَى عَطَائِى قَالَ نَعَمْ وَكَرَامَةً يَا أُمَّ عُتْبَةَ هَلُمِّى تِلْكَ الْخَرِيطَةَ الْمَخْتُومَةَ الَّتِى عِنْدَكِ. فَجَاءَتْ بِهَا .
فَقَالَ أَمَا وَاللَّهِ إِنَّهَا لَدَرَاهِمُكَ الَّتِى قَضَيْتَنِى مَا حَرَّكْتُ مِنْهَا دِرْهَمًا وَاحِدًا. قَالَ فَلِلَّهِ أَبُوكَ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا فَعَلْتَ بِى. قَالَ مَا سَمِعْتُ مِنْكَ. قَالَ مَا سَمِعْتَ مِنِّى قَالَ سَمِعْتُكَ تَذْكُرُ عَنِ ابن مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُقْرِضُ مُسْلِمًا قَرْضًا مَرَّتَيْنِ إِلاَّ كَانَ كَصَدَقَتِهَا مَرَّةً . قَالَ كَذَلِكَ أَنْبَأَنِى ابن مَسْعُودٍ) ( ) .
ولكن الحديث أعم إذ أنه لا يختص بذات العين ، فيصدق عليه تحقق القرض وإن كان بمال ونقود وأعيان غير التي أقرضها له في المرة السابقة ، وهذا الحديث دعوة للمسلمين للتنزه من الربا ، وبيان أن منافع القرض وتجدده عظيمة وتتغشى الحياة الدنيا والآخرة .
وإبتدأت آية البحث بنداء الإيمان ثم الجملة الشرطية [إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ] فلم لم تبدأ الآية ببيان منافع وفوائد القرض مع أن الكتاب والسنة يحثان عليه، الجواب قد جاء ذكر هذه المنافع بنداء الإيمان الذي في أول الآية .
ويكون من وجوه تقديره على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا إن الله سبحانه يثيب على القرض .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بحرمة الربا وترك الربح المتولد عن الربا .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا بالأوامر والنواهي الواردة في القرآن.
الرابع : يا أيها الذين آمنوا بأن أحكام القرض والدَين نازلة من عند الله عز وجل .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا بكتابة الدَين والشهادة عليه بالحق .
السادس : يا أيها الذين آمنوا بوجوب التقيد بأحكام ومضامين آية الدَين .
السابع : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر إقرضوا المحتاج.
الثامن : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر أقضوا الدَين في أجله .
وهذا المعنى لا يتعارض مع قوله تعالى (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) ( ) .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين فاكتبوا مقدار الدَين.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين فاكتبوا أجله .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين ليكتب بينكم كاتب بالعدل .
وهل موضوع الكاتب بالعدل خاص بالدَين والقرض أم هو مطلق ، الجواب هو الثاني ، إنما ورد ذكر الدَين لخصوص موضوعه في آية البحث ولتنمية ملكة الكتابة والتوثيق بين المسلمين في المعاملات .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا ليكتب بينكم كاتب بالعدل ) لبيان الإطلاق في إستحباب الكتابة والعناية بها وجعلها وثيقة في المعاملات والعقود فيكتب عقد النكاح وإيقاع الطلاق ، والولادات والأنساب والوصايا والأوقاف والهبات ونحوها ، فالكتابة هنا من عمومات قاعدة (لا ضرر ولا ضرار ) والمنع من ضياع الحقوق الخاصة والعامة بعد وفاة المالك ، وإدعاء بعض الورثة أنه لم يسمع الوصية ، ولم يعلم بها .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا إذا تعاقدتم بعقد فاكتبوه بلحاظ أن النسبة بين العقد والدَين هي العموم والخصوص المطلق , فالعقد أعم وأوسع ، فالأمر الإلهي بكتابة الدَين والقرض تنمية لملكة الكتابة عند المسلمين .
السادس : يا أيها الذين آمنوا ليكتب بينكم بالعدل ، لبيان موضوعية العدل وتبيان الحق في القرض وغيره وعدم الزيادة أو النقيصة فيه .
الوجه السابع : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله ) ليكون الخطاب في الآية إنحلالي يتوجه للمسلمين جميعاً .
فالذي عليه الحق يذكره على نحو التعيين , والآخرون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويدعون إلى عدم التحريف والتبديل في المكتوب عما هو واقع وحال سواء زمان أعطاء القرض وترتب الدَين على المدين وزمن كتابة الدَين أو عند قضاء الدَين أو المدة التي بينهما ، ومن خصائص نداء الإيمان في المقام أموراً :
أولاً : منع الإستكبار والترفع عن كتابة الدَين .
ثانياً : حرص الكاتب على تدوين الحق والحقائق والشرائط كما هي,
(عن كثير بن عبد الله المزني عن ابيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمون عند شروطهم الا شرطا حرم حلالا أو شرطا احل حراما) ( ) .
وكثير بن عبد الله المزني ضعيف (وقال الشافعي أنه ركن من أركان الكذب )، وأقر يحيى بن معين بأن لجده صحبة إلا أنه قال : كثير ضعيف الحديث .
ولكن الحديث روي بطرق متعددة منها عن أنس بن مالك( ) وعن عائشة( ) باختلاف في اللفظ، وعن أبي هريرة( ) بالقول المسلمون عند شروطهم فيما وافق الحق .
ولا تصل النوبة فيه إلى أن الحديث المسند الضعيف والمرسل الصحيح يقوي بعضهما بعضاً .
وجاءت الآية بلفظ [إِذَا تَدَايَنتُمْ] وفيه وجوه :
أولاً : التداين بين فردين من المسلمين .
ثانياً : التداين بين الجماعات والقرى .
ثالثاً : القرض بين المدن والأمصار .
رابعاً : القرض بين المنشآت والمعامل بما يفيد التعاون والتكافل في الصناعات والزراعات .
خامساً : القرض بين الدول .
سادساً : القرض بين الدولة والفرد .
وكما يرهق الربا والفوائد على القرض كاهل الفرد والأسرة فانه يؤذي الدول ويربك إقتصادها ويجعلها عرضة للفتن ، وهذا المعنى من أسرار مجئ الآية بصيغة الجمع في النداء وصيغة الخطاب ولبعث الرأفة ونبذ الخصومات والإقتتال بين الشعوب بين الناس وميلهم إلى القرض الحسن .
سابعاً : إرادة القرض قصير أو دائم الأجل .
ومن إعجاز نظم القرآن مجئ آية التداين وكتابة الدَين بعد الأمر بترك مال الربا ، لتبدأ مع الإسلام صفحة جديدة في باب المعاملات , تتقوم بأمور:
الأول :السلامة من أكل المال بالباطل .
الثاني : تسليم المسلم بأن إقراضه غيره لا يجلب له أموالاً إضافية لا أصل لها في الشرع .
الثالث : صيرورة الغبطة مرتكزاً عند المسلمين في حال الإستدامة ، لعدم ترتب الضرر على الدَين بفوائد قد تؤدي إلى الفقر والفاقة .
الرابع : شيوع قضاء الحاجات بين المسلمين ، فمتى ما أدرك صاحب المال حرمة الربا , وترتب الثواب العظيم على القرض وإعانة الآخرين فانه لا يتردد في الإقراض من ماله الخاص .
لقد تحدثت آية البحث عن التداين لبيان تنزههم عن أكل الربا بما ورد في آية النداء السابقة ، كما جاءت آيات أخرى ببيان حرمة الربا ، وجاءت السنة النبوية بتأكيد حرمته وسوء عاقبته ، قال تعالى [وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ] ( ).
(عن عمرو بن الأحوص . أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ، ثم قال : أي يوم أحرم ، أي يوم أحرم ، أي يوم أحرم . فقال الناس : يوم الحج الأكبر يا رسول الله . قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ، ألا لا يجني جان إلا على نفسه .
ألا ولا يجني والد على ولده ولا ولد على والده ، إلا إن المسلم أخو المسلم فليس يحل لمسلم من أخيه شيء إلا ما أحل من نفسه ، ألا وإن كل ربا في الجاهلية موضوع ، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون غير ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله ، وإن كل دم في الجاهلية موضوع وأول دم أضع من دم الجاهلية دم الحارث بن عبد المطلب كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل .
ألا واستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك ، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً}( ) ألا وإن لكم على نسائكم حقاً ، ولنسائكم عليكم حقاً . فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ، وإن حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن)( ).
ولا ينحصر موضوع آية البحث بالدَين والقرض بل يشمل سائر المعاملات كالبيع والشراء والإجارة إذا كان الثمن أو بعضه مؤجلاً أو أن تسليم العين هو المؤجل كما في بيع السلف .
وقيدت الآية التداين بأنه [إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى] وفيه مسائل:
الأولى : بيان موضوعية تعيين الأجل في القرض لقاعدة نفي الحرج في الدَين وليعلم الإنسان أوان قضاء دينه , ويتطلع صاحب المال إلى إستيفاء ماله في ذات الأجل , ويحدد رغائبه.
الثانية : بعث السلم على العمل والكسب من أجل قضاء الدَين , وهناك أدعية مأثورة لقضاء الدَين .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرفع صوته في آخر الليل ويقول (اللهم، رب السموات السبع ورب العرش العظيم، إله كل شيء، ورب كل شيء، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته اللهم، أنت الأول الذي ليس قبلك شيء، وأنت الآخر الذي ليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدَين، وأغننا من الفقر) ( ).
ويحتمل الحديث وجوهاً :
الأول : لا يدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدعاء قضاء الدَين إلا عندما يكون قد إستدان من غيره .
الثاني : إرادة تنمية ملكة الدعاء عند المسلمين .
الثالث : تعليم المسلمين دعاء قضاء الدَين ، فاذا ما إستدان أحدهم فان الله عز وجل ييسر له قضاء دينه لأنه قدّم الدعاء والمسألة , ونعم المقدمة الدعاء .
الرابع : من أدعية النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل ليلة دعاؤه لقضاء الدَين .
الخامس : دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمته ، وكان بعضهم يستدين من اليهود في المدينة .
وباستثناء الوجه الأول فان الوجوه الأخرى كلها صحيحة .
الثالثة : ضبط المسلمين للآجال والتواريخ وسير القمر والشمس ، قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ] ( ).
وكان بعض العرب إذا رأى الهلال قال (لا مَرْحَباً بمُحِلِّ الدَّيْن مُقَرِّب الأَجَل) ( ) مما يدل على أن الديون كانت إلى آجال معلومة على حساب الأيام والأشهر ، فجاء القرآن لتثبيت هذه القاعدة وبيان حقيقة أن دخولهم الإسلام لا يعني الإفراط في الثقة ، فكان يفزعون من الهلال ، ويدعون من إقتراب أوان قضاء الدَين للربا والزيادة فيه ، ومضاعفة مقداره عند العجز عن إيفائه .
وإذا كان الإنسان غير قادر على أداء أصل المال فيمد له في الأجل مع مضاعفة مقدار الدَين فمن باب الأولوية أن يكون عاجزاً عن الدفع والقضاء إلا أن يرزقه الله من واسع رحمته وعظيم فضله ، وإن قضى الدَين والربا فانه يبقى في ضائقة وحرج فنزل القرآن بما يجعل المسلمين في غبطة وسكينة تكون مقدمة للإنقطاع لذكر الله وبناء الأسرة المسلمة بقوانين التقوى والصلاح .
وقد يظن بعضهم إنحصار وقضاء حاجته بالمال الربوي ، فجاءت آية البحث لتطرد هذا الظن بلحاظ كبرى كلية ، وهي ما من شيء حرمه الله وفيه نفع وخير ، كما أن تعاطي الربا سبب لنزول اللغة من عند الله عز وجل .
ويدل النهي عن أكل مال الربا على الوعد من عند الله عز وجل بقضاء الحوائج بالقرض أو بدونه ولا يعلم أبواب فضل الله عز وجل إلا هو سبحانه .
الرابعة : منع الخصومة والشقاق بين المسلمين بسبب الإختلاف في أوان قضاء الدَين ، فالأصل أنه مصداق للتعاون والتكافل بين المسلمين ، وإقرار بفضل الله عز وجل ، أمّا الدائن فيشكر الله عز وجل بصيرورة الناس محتاجين إليه وإلى ما رزقه الله , وأما المدين فانه يسأل الله عز وجل قضاء دينه وإبراء ذمته وإزاحة وطأة الديون عنه ، فلا يصح أن تكون الديون سبباً للإختلاف والنزاع بين المسلمين , فبينت الآية لزوم تعيين أجل الدَين وإستثنت آية الدَين التجارة الحاضرة المتكررة والتي تكون يداً بيد .
الخامسة : عناية المسلمين بالوقت والزمن ، ولزوم الإنتفاع منه في طاعة الله ، وعدم تضييع آنات الليل أو النهار باللهو .
وورد عن بريدة أنه قال (كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ اتته امرأة فقالت اني تصدقت علي امي بجارية وانها ماتت قال وجب اجرك وردها عليك الميراث قالت يا رسول الله انه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها قال صومي عنها قالت يا رسول الله انها لم تحج افأحج عنها قال حجي عنها)( ) .
وعن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله ان أمي ماتت , وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها .
قال لو كان على أمك دين أكنت قاضيه , قال نعم , قال : فدين الله احق ان يقضى) ( ) .
لبيان حقيقة وهي إذا كان الإنسان يجتهد في قضاء دَينه , وقد خفف الله عن المسلم بإسقاط الربا والزيادة الربوية التي لا أصل لها ، فمن باب الأولوية أن يجتهد في طاعة الله عز وجل ويقضي ما عليه من ديون لله والتي تتجدد كل يوم بالصلاة ، وكلما أهل على الناس هلال شهر رمضان بأداء فريضة الصيام , وتتجدد الدعوة لحج بيت الله الحرام كل عام .
الخامس : بيان مصداق لقانون الكمال في أحكام الشريعة الإسلامية ، وشاهد لقوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ) فمن كمال الدَين بلحاظ أول آية البحث أمور :
الأول : ترغيب المسلمين بالتداين فيما بينهم (عن أبي مسعود البدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : حوسب رجل ممن كان قبلكم فلم يوجد له من الخير شيء إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسراً ، وكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر , قال الله : نحن أحق بذلك تجاوزاً عنه)( ).
الثاني : بيان أحكام التداين .
الثالث : حرمة الزيادة والربا على القرض وهل يدل لفظ [إِذَا تَدَايَنتُمْ] على خلو الدَين والقرض من الربا ، الجواب نعم ، وهو من أسرار إبتداء آية البحث بنداء الإيمان ، وتقدير الآية على وجوه منها :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا بنزول آيات حرمة الربا من عند الله :
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا بوجوب ترك ما بقي من الربا .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا بالثواب العظيم على الدَين والقرض .
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا بأن الأوامر الإلهية تشمل العبادات والمعاملات والأحكام .
الرابع : من كمال الدين التداين بين المسلمين وضبط أجل الدَين ومقداره كتابة , مع الشهادة عليه .
ومن إتمام النعمة في آية البحث أمور :
الأول : تلقي المسلمين نداء الإيمان .
الثاني : مجئ الآية بصيغة الجملة الشرطية [إِذَا تَدَايَنتُمْ] مما يدل بالدلالة التضمنية على عدم وجوب الإقراض من المال لخاص ، فان قلت قد جاءت ذات الصيغة في الإنبعاث إلى الصلاة بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ] ( ) .
والجواب قد ثبت وجود الصلاة في آيات أخرى وفي السنة النبوية بالإضافة إلى ان الوضوء مقدمة للصلاة أي هناك غيرية ونوع تفصيل وتعدد بين الوضوء والصلاة .
الثالث : البشارة بالسعة والمندوحة عند المسلمين وإمكان إقراض بعضهم بعضاً والصبر لحين حلول الأجل لقضاء الدَين ، ولا ينحصر الصبر به بل إن تعتذر على المدين القضاء عند حلول الأجل فعلى الدائن الصبر ، قال تعالى [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ]( ).
الرابع : من تمام النعمة في آية البحث الفوز بالأجر والثواب بالتداين في كل يوم صدقة بمثله .
الخامس : التداين بين المسلمين حرب على الربا ومناسبة لمناجاة المسلمين بالحث على القرض ، وإتخاذه وسيلة لدفع الحرج ومنع الضرر عنهم .
وتبين الآية حقيقة وهي أن الله عز وجل علّم المسلمين كيف يكتبون العقود والديون ، وهو من أسرار إبتداء الآية بنداء الإيمان لتأكيد إقتران هذا التعليم بالإيمان بالله عز وجل ورسوله .
ومع نزول الوحي والتنزيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتأخذ وتقتبس الأمة منه , وتعمل بمضامينه أخبرت الآية عن حصول التعليم للمسلم من عند الله عز وجل ، وكأن هذا التعليم وحي , وهو من إعجاز القرآن الغيري بأن تكون أوامره ونواهيه كأنها نازلة على كل مسلم ومسلمة .
ووردت الآية بصيغة التذكير (كاتب) ويحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة خصوص الرجل .
الثاني : المقصود كتابة الرجل أو المرأة , إنما ورد لفظ التذكير للغالب .
الثالث : تقديم كتابة الرجل ، وعند تعذره أو الصعوبة والمشقة فيه تتولى المرأة الكتابة ، كما في الشهادة وقوله تعالى في آية البحث [فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ] ( ).
والمختار هو الثاني ، فان قيل هل يصح تقدير الآية : وليكتب بينكم كاتب أو كاتبة بالعدل , وهل المرأة المسلمة مؤهلة في المقام للكتابة بالعدل , الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : المدار على التقوى والخشية من عند الله ، قال تعالى [وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ] ( ) .
الثانية : مثلما يتوجه نداء الإيمان للرجال المسلمين ويتوجه للمسلمات ، فكذا بالنسبة لكتابة العقود بالعدل والحق , لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
الثالثة : تختلف كتابة العقد عن الشهادة عليه بوقوع الكتابة أوان العقد والقرض فليس من إحتمال لنسيان المرأة .
الرابعة : تتم كتابة الدَين بإملاء المدين , وإن كان المدين امرأة , وموضوعية الإملاء في المقام أكبر .
الخامسة : قد تكون أطراف العقد والدَين كلها من النساء , المقرضة والمقترضة والكاتبة والشاهدة .
ومن إعجاز الآية أنها إبتدأت بنداء الإيمان , والخطاب لعموم المسلمين والمسلمات وقيدت الشهادة على الديون بقوله تعالى [شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ]ولكنها لم تقيد صفة الكاتب ، فلم تقل : وليكتب بينكم كاتب منكم) وفيه مسائل :
الأولى : إستقراء التقييد من نظم الآية وذكر لفظ بالعدل وأن الكاتب يكتب كما علّمه الله .
الثانية : إرادة دفع الحرج عن المسلمين بجواز كتابة غير المسلم مقدار وأجل الدَين .
كما في الشهادة على الوصية ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ] ( ) لبيان جواز شهادة غير المسلم عند تعذر وجود المسلمين حين الوصية في السفر ونحوه لمنع تضييع الحقوق .
الوجه الثامن : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا ليكتب بينكم كاتب بالعدل كما علّمه الله ) وهناك مسألتان :
الأولى :لماذا توجه الخطاب للمسلمين والمسلمات بكتابة الكاتب.
الثانية : ما هي النسبة بين لفظ [كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ] ولفظ العدل بقوله تعالى [كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ].
أما الأولى فان أطراف الدَين والقرض مسلمون وكتابته تخصهم بالذات والأثر لذا ذكرت الآية لفظ [وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ] و( بين ) ظرف مبهم يتبين معناه عند إضافته إلى إثنين أو أكثر .
وأما الثانية فان النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق وأن ما علمه الله للمسلم الكاتب أعم من مسألة العدل في كتابة الدَين ، إذ يشمل التعليم هنا وجوهاً :
اولاً : الإرتقاء إلى مرتبة الإيمان .
ثانياً : تلقي نداء الإيمان .
ثالثاً : التدبر في معاني نداء الإيمان والمواعظ المستقرأة منه .
رابعاً : تعلم القراءة والكتابة ، فالتعليم هنا من مصاديق قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ] ( ).
والكتابة والتدوين بالبنان توثيق رسمي للحقائق ، وما يدور في الأذهان وتسجيل للوقائع والأحداث ، وحفظ لآيات القرآن والسنة النبوية (وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قيدوا العلم بالكتاب ) ( ).
وتبين الآية أن الأصل في الكتابة هنا كتابة الحق وعدم الزيادة أو التحريف أو النقيصة فيه ، وهو من البشارات على سلامة القرآن من التحريف بأن يعلّم الله عز وجل الكتاب بتدوينه ورسمه من غير زيادة أو نقصان .
لقد جاءت الآية بالتأكيد على لزوم كتابة الدَين والقرض كما هو وتعيين أجله المتفق عليه من غير تبديل أو تغيير ، ولزوم إستحضار الدائن والدَين والكاتب الصدق العدل ، مما يدل بالأولوية القطعية على وجوب عناية المسلمين جميعاً والكتّاب على تدوين المصحف من غير تغيير أو تبدل في حروفه أو كلماته أو رسمه وقد خفّف الله عز وجل عن الناس في هذه الأزمنة بآلات الطباعة والصناعة التقنية الحديثة في طبع وإستنساخ ملايين النسخ من نسخ المصحف .
وفي كتابة الكاتب للدين والقرض وجوه :
أولاً : الوجوب , وقد يقال بأن ظاهر الآية وجوب الكتابة على الكاتب ، ولكن عند التدبر فيها يتبين توجه الخطاب للمسلمين كافة عند التداين والإقتراض بين طرفين .
ثانياً : الوجوب عند إنحصار الأمر بكاتب مخصوص ، فهو كالواجب الكفائي بأن يجزي كتابة أحدهم ، وإن إمتنع الجميع يؤثمون , وكالواجب العيني عند حصر الكتابة بشخص واحد .
ثالثاً : قيام الكاتب بتدوين الدَين أمر مستحب ، ولا دليل على الوجوب على الكاتب في المقام ، إنما يتوجه الأمر إلى طرفي القرض وعموم المسلمين ، وهل يصح أن يكون الكاتب أحد طرفي القرض الجواب نعم ، ليكون معنى [وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ] على وجوه :
أولاً : ليملل الذي عليه الحق للكاتب .
ثانياً : ليملل الذي عليه الحق لصاحب الحق عندما يكتب .
ثالثاً : ليكتب الذي عليه الحق بالعدل ، ولا يبخس منه شيئاً .
رابعاً : ليملل الذي عليه الحق للشاهد الذي يكتب إذ يجوز أن يكون أحد الشهود كاتباً .
خامساً : ليملل الذي عليه الحق لوكيله أو إبنه ومن سيرثه , وقد يكون الدَين بالكلام واللفظ فيقر المطلوب على نفسه في وصيته وفي ميثاق خاص .
والإملال والإملاء بمعنى واحد , يقال أمليت الكتابة وأملته إملالاً ، وفي التنزيل [فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً] ( ) وهل يصح تقديرها : ليملل الذي عليه الحق على نفسه ) أي يقوم بكتابة الديون بالإملاء على نفسه ، الجواب لا ، لأن الإملاء نوع مفاعلة ، وفيها أطراف :
الأول : الذي يملي ، وينطق بما يلزم كتابته .
الثاني : الإملاء ، وهو الفاظ معينة تتعلق بموضوع خارجي .
الثالث : الذي له الحق والدَين .
وبين الإملاء مطلقاً وأملاء الدَين عموم وخصوص مطلق فقد يملي الإنسان واقعة أو مسألة أو حكماً ، وإلى الأن يقال في اليمن : كتب القاضي .بالنفقة أي فرضها .
الرابع : الذي يملى له الحق والدَين .
الخامس : موضوع الإملاء , وهو على جهات :
الأولى : مقدار الدَين والقرض على نحو الدقة وبما يمنع من الخلاف والإختلاف ، ففي هذا الزمان يشترط ذكر نوع العملة للتباين في قيمة عملات البلدان .
الثانية : ذكر الدائن بالاسم والصفة التي لا تقبل الترديد والتعدد ، وكذا ذكر المدين لقاعدة نفي الجهالة والضرر ، ولمنع اللبس .
الثالثة : ذكر الأجل بصفة ثابتة تمنع الترديد مثل هلال شهر ذي القعدة ، وليس موسم الحصاد أو جني الثمار .
الوجه التاسع : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا ليملل الذي عليه الحق ) إبتدأت آية البحث بنداء الإيمان , والأصل فيه توجه الخطاب للمسلمين والمسلمات عموماً .
ومن إعجاز القرآن الإنتقال من الخطاب العام إلى الموضوع الخاص إذ إنتقلت الآية إلى مسألة التداين بين المسلمين للترغيب فيه ، فقد يتقيد الناس بحرمة الربا ، ولكن شطراً منهم يمتنع عن إقراض الغير وأن الدَين خال من المنافع المادية في الدنيا ، وإذا لم يكن عند المقترض مبلغ الدَين عند حلول الأجل يكون التأجيل والإرجاء لحين الإستطاعة على قضائه لقوله تعالى [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ] ( ) .
وعن ابن عباس في الآية أعلاه قال نزلت في الربا أي بخصوص قضاء رأس المال وأصل القرض (عن ابن سيرين . أن رجلين اختصما إلى شريح في حق ، فقضى عليه شريح وأمر بحبسه ، فقال رجل عنده : إنه معسر ، والله تعالى يقول { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } قال : إنما ذلك في الربا إن الربا كان في هذا الحي من الأنصار ، فأنزل الله { وإن كان ذوعسرة فنظرة إلى ميسرة } وقال { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها })( ).
ولكن النصوص وردت بامهال المدين المعسر ، وفيه الأجر والثواب منها ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من أنظر معسرا كان له على الله في كل يوم صدقة بمثل ما له عليه حتى يستوفي حقه) ( ).
والمختار أن الآية أعلاه مطلقة في الدَين ، ولكن مع التقييد في أصل القرض بأن يكون له راتب وعطاء أو عنده غلة يرجو قطفها ، أو دَين من غيره أو مال غائب يأمل وصوله ومع تعذر ما كان يرجو يتولى بيت المال الدفع عنه ، كما يجوز أن يحتسب الدَين من الزكاة ، إلا أن يكون قد أنفق القرض في معصية الله . فعليه أن يسعى لقضائه بنفسه .
ويحتمل شخص الذي يملي الحق على الكاتب وجوهاً:
الأول : صاحب المال ، وهو الدائن للوثوق والإطمئنان .
الثاني : الذي عليه الحق والدَين .
الثالث : عامة المسلمين لوجوه :
أولاً : مجيء الآية بصيغة العموم والنداء للمسلمين جميعاً .
ثانياً : إملاء الدَين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ثالثاً : أنه من الدعوة إلى الصلاح , ونبذ النزاع والشقاق بلحاظ أن توثيق الدَين خير محض ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ]( ).
فجاءت الآية بالوجه الثاني أعلاه لوجوه :
أولاً : البيان والوضوح .
ثانياً : عدم إتكال كل طرف على الآخر .
ثالثاً : منع الحرج والإستحياء في كتابة الدَين ، فلا تصل النوبة إلى طلب صاحب المال من المدان كتابة وتوثيق الدَين وأجله .
رابعاً : من شكر المدان لله عز وجل ثم للدائن المبادرة إلى كتابة الدَين .
خامساً : بعث السكينة والطمأنينة في نفس الدائن .
سادساً : العلم بمقدار وأجل الدَين من قبل ورثة الدائن والمدين.
سابعاً : حث المدان على السعي لقضاء الدَين في أجله وأوانه وعدم المماطلة أو التسويف فيه مع القدرة والإمكان ، وعلى الدعاء وسؤال الله عز وجل الرزق الكريم للتوفيق لأداء الدَين .
و(عن عبد الله بن جعفر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وآله وسلم :إنّ الله عزّ وجلّ مع الدائن حتّى يقضي دينه مالم يكن فيما يكره الله عزّ وجلّ قال : فكان عبد الله بن جعفر يقول لخازنه : أذهب فخذ لنا بدين فإني أكره أن أبيت ليلة إلاّ والله عزّ وجلّ معي منذ سمعت هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) ( ).
وورد عن أبي هريرة قال: كان المؤمن إذا توفي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم سأل هل عليه دين؟ فإن قالوا : نعم . قال : هل ترك وفاء لدينه؟ فإن قالوا: نعم. صلى عليه، وإن قالوا : لا . قال : صلوا على صاحبكم ، فلما فتح الله علينا الفتوح قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن ترك ديناً فإليّ، ومن ترك مالاً فللوارث)( ).
لقد نقل القرآن الناس من مجتمع الربا والفائدة على القرض إلى التداين بلا أرباح أو فوائد، وفي قيد للنفس الشهوية عند الإنسان ولا يمكن أن يتم هذا الأمر إلا بقوة تغلب حال الطمع والحرص في المجتمع المسلم على نحو العموم الإستغراقي، ومن المشاق في المقام وجود أهل ملل أخرى يتعاطون الربا، فجاءت الآيات لمنع المسلم أن يكون طرفاً في تلك المعاملات الربوية من جهات:
الأولى : إقراض المال بالفائدة الربوية.
الثانية : إقتراض وإستدانة المال بالفائدة الربوية.
الثالثة : الشهادة على المعاملة الربوية.
الرابعة : القيام بكتابة القرض الربوي وأرباحه، كما يمتنع المسلمون عن الترغيب بالقرض الربوي، وهل هذا الإمتناع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أم لابد لمصداق ومبرز خارجي للأمر والنهي.
الجواب هو الأول بلحاظ أن هذا الإمتناع أمر وجودي يحدث عن قصد وإستجابة لأمر الله، وخشية منه تعالى، فحينما حرم الله الربا بقوله تعالى[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( )، فإن مقدماته حرام، وهو من مصاديق مجيء آية البحث بنداء الإيمان، وكذا آية الإمتناع عن الربا بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( ).
فلم يقف المسلمون عند الإمتناع عن أكل الربا بل صاروا يتعاونون في كتابة وتوثيق الدين، ومن أسرار هذا التعاون المناجاة بالقرض والتداين من غير ربا وأرباح، فيكون نداء الإيمان في أول آية البحث من أفراد هذه المناجاة , ليكون من خصائص ومنافع الجمع بينه وبين الأمر بكتابة المدين عقد القرض وجوه :
الأول : ترغيب عامة المسلمين بالقرض.
الثاني : إعانة المسلمين بعضهم لبعض في تقديم يد العون للمحتاج إقتراضاً أو صدقة، وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)( ).
الثالث : شهادة عدد من المسلمين على القرض ومعاملته على نحو الإجمال بأحد وجوه :
أولاً : إقراض فلان للناس.
ثانياً : إقتراض فلان من الناس.
ثالثاً : تعيين المدائن والمدان.
الرابع : تنزيه مجتمعات المسلمين عن أكل مال الربا، إذ أن إنشغال المدين بكتابة الدَين برزخ دون أكل الربا.
الخامس : بعث النفرة في نفوس المسلمين من الربا.
ولمّا حرّم الله الربا فإن كتابة المدين مقدار وأجل الدَين، وتعيين صاحب المال الذي إشتغلت الذمة له بالمال شكر لله عز وجل على نعمة القضاء على الربا، تلك النعمة التي تتغشى المسلمين جميعاً من جهات:
الأولى : سلامة المسلمين وأسواقهم من المعاملات المحرمة، فإن قوله تعالى[وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا]( )، يدل بالدلالة التضمنية على أن حرمة الربا مستديمة ومصاحبة لوجود الإنسان من أيام أبينا آدم وإلى يوم القيامة، وتثبيت حرمته في الشريعة الإسلامية وتقيد المسلمين بإحكامه شاهد على حاجة الناس لشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكيف أنها مرآة للأوامر والنواهي والبشارات والإنذارات التي جاء بها الأنبياء السابقون، قال تعالى[قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ]( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إني أولى الناس بعيسى بن مريم ، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي ، وإنه خليفتي على أمتي ، وأنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه ، رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ، عليه ثوبان ممصران ، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل ، فيدق الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويدعو الناس إلى الإسلام ، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام .
ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال ، ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل ، والنمار مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، وتلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم ، فيمكث أربعين سنة ، ثم يتوفى ، ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه)( ).
الثانية : تنشيط أسواق المسلمين ومعاملاتهم التجارية بالسلامة من الربا، وتحميل المقترض ديوناً إضافية قد تكون أكثر من ربحه في تجارته أو مساوية له، فيتعرض للخسارة والإفلاس.
الثالثة : بيان المائز الذي يتصف به المسلمون في المعاملات التجارية إذ أن إمتناعهم عن الربا من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بلحاظ كبرى كلية وهي أن الإمتناع عن أكل مال الربا تعفف وصلاح .
الرابعة : بيان قانون للناس ، وهو أن المسلمين يمتنعون عن الربا طاعة لله عز وجل ، وفيه دلالة على إستعدادهم للتضحية بأموالهم في سبيل الله ، وهو سبب لبعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا .
الخامسة : يجعل شطر من الناس الأولوية في عنايتهم للمال وجمعه والمحافظة عليه وكيفية نمائه ، ويبعث إمتناع المسلمين عن الربا والفوائد على القروض على الناس للتدبر في كنه الحياة الدنيا ، والتدبر في الخلق وأسرار تنزه المسلمين عن أكل المال الربوي وإتصافهم بالتفكر في عظيم قدرة الله ، قال تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ( ) وكذا بالنسبة للترغيب بالتداين والإقراض عن أكل مال الربا فانه ليس باطلاً إنما فيه خير الدنيا والآخرة .
وتأتي آية البحث بإملاء مقدار الدَين والقرض لتأكيد تسالم المسلمين على حرمة الربا ، وجهادهم في الإمتناع عنه ، وهل الإمتناع عن الربا من مصاديق الجهاد بالأموال في قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ).
الجواب لا دليل عليه ، إذ أن القدر المتيقن من الجهاد بالأموال هو إنفاقها في سبيل الله ، وتفضل الله عز وجل على المسلمين بنهيهم عن الربا ليكون إنفاقهم وصدقاتهم من المال الحلال .
الوجه العاشر : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا ليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ) من الإعجاز في القرآن أن يأتي نداء الإيمان ثم يتعقبه الأمر للمسلمين بتقوى الله ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ] ( ) لبيان أن النسبة بين الإيمان والتقوى عموم وخصوص مطلق ، وأن التقوى أخص وأسمى وأرفع مرتبة في سلم الهداية وسبل اليقين .
ويأتي الأمر من الله للمسلمين بتقوى الله في أمور الدين والدنيا , وفي القول والعمل ، وتضمنت آية البحث الأمر بالتقوى في التدوين وعالم الكتابة .
فاذا كانت كتابة القرض القليل تستلزم حضور التقوى والعدل والإنصاف فمن باب الأولوية القطعية حضورها في علوم القرآن وأحاديث السنة النبوية وعند كتابة التأريخ والوقائع والأحداث خصوصاً وأن هذه الكتابة قد تبقى أحقاباً وتكون شهادة ومصدراً ، ومن التقوى تنقية كتب المسلمين عن التأويل غير الصحيح ، وعن الأحاديث الموضوعة وقيدت الآية التقوى بأنها تقوى الله والخشية منه ، مع التذكير بأن الله عز وجل هو الرب والخالق والرزاق .
وورد لفظ [رَبِّهِ] في القرآن ستاً وسبعين مرة تبدأ بخصوص آدم بقوله تعالى [فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ] ( ).
ويحتمل الأمر بالتقوى في الآية وجوهاً :
الأول : إرادة تقوى الله والخشية منه بخصوص كتابة وتدوين الدَين والقرض .
الثاني : تثبيت شرائط الدَين من غير تسويف أو نقيصة في الديَن أو زيادة في مدة الأجل .
الثالث : تقوى الله في الإنتفاع من القرض وعدم التفريط به .
الرابع : الخشية من الله ، وبذل الوسع لقضاء الدَين في أوانه .
الخامس : شكر الله عز وجل على نعمة الإستدانة وقضاء الحاجة من غير ربح أو ربا .
السادس : شكر الدائن وعدم إيذائه .
السابع : الحرص على أداء الفرائض العبادية طاعة لله عز وجل وإتخاذ هذا الأداء وسيلة لقضاء الدَين ورجاء لزيادة الرزق والنماء في المال .
الثامن : الإنفاق في سبيل الله ، ولو على نحو صرف الطبيعة والمسمى .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق آية البحث ، ترى هل ظاهر الآية هو التقوى بخصوص كتابة الدَين بدليل قوله تعالى [وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا] ( ) .
الجواب لا ، إنما هو من عطف العام على الخاص .
ويمكن تأسيس قانون وهو لو دار الأمر في أمور التقوى والعبادة بين عطف الخاص على العام أو بالعكس وبين إرادة فرد مخصوص ، الجواب هو الأول ، فلا تختص التقوى المأمور بها بالمدين وعدم البخس والنقص من مقدار الدَين أو تبديل أجله وأوانه بل تشمل تنمية ملكة التقوى .
ولم يرد لفظ [يَبْخَسْ] في القرآن إلا في آية البحث ويأتي عدم بخس الدائن بلحاظ آية البحث من جهات :
الأولى : دلالة نداء الإيمان على تنزه المسلم المدين عن بخس وإنقاص حقوق الآخرين ، قال تعالى [وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ] ( ) لتأتي الأولوية القطعية والتغليظ في لزوم البخس في المقام من وجوه :
أولاً : تفضل الدائن بالإقراض ، وتأجيل أوان قضاء الدَين.
ثانياً : خطاب آية البحث للمدين بصيغة الإيمان .
ثالثاً : مجئ آية البحث بالأمر للمدين بأن يتقي الله ويخشاه عند كتابة الدَين .
رابعاً : تعاون المسلمين في منع بخس المدين حق الدائن ، وهذا التعاون من رشحات توجه نداء الإيمان في الآية لعموم المسلمين بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ].
وهذا من الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن بأن يأتي فيه الأمر محاطاً بالشرائط والأمارات والقرائن التي تساعد في الإمتثال له ، وتبعث النفرة في النفوس في ذات آية الأمر .
ويعود الضمير في [وَلْيَتَّقِ ]و [وَلاَ يَبْخَسْ] إلى المدين الذي عليه الحق ، وهو من عطف العام على الخاص ، فبعد أن جاءت الآية بارادة الدائن والمدين والمؤمنين بقوله تعالى [وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ]توجه الأمر إلى المدين لأمور :
أولاً : الزجر عن إنكار الحق والدَين ، سواء كانت كتابته أوان القرض وإجراء العقد وتسليم المال أو بعده .
ثانياً : جاءت الآية لتوصية المدين بالتقوى وتثبيت ما عليه من حق .
ثالثاً : إرادة النهي عن الجحود ببعض صفات الدَين والقرض .
رابعاً : صيرورة القرض والدَين مناسبة لعصمة المسلمين من بخس وتضييع حقوق الناس .
الثانية : لفظ ( تداينتم ) في الآية ودلالته على لزوم رد قضاء الدَين ، وبيان التباين بين القرض والصدقة ، ومن فضل الله عز وجل أن يكون موضوع المال عنده على وجوه :
أولاً : تفضل الله بالرزق الواسع للمسلمين .
ثانياً : ندب المسلمين إلى الإنفاق في سبيل الله .
ثالثاً : وجوب الزكاة عند إجتماع شرائطها ، قال تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ] ( ).
رابعاً : بيان أحكام وتفاصيل الزكاة والخمس وتعيين موارد الصرف وأصناف المستحقين ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ …]( ).
خامساً : عدم حصر الإنفاق في سبيل الله بالواجب منه بالذات ، فيشمل الواجب بالعرض كالكفارات والإنفاق المستحب الذي ليس له حد في الموضوع والمقدار والأوان والكيف ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالثة : الأمر من عند الله بكتابة وتوثيق الدَين بقوله تعالى [فاكتبوه ] ومن أسرار صيغة الجمع في الأمر بالكتابة أنها وظيفة المسلمين جميعاً على نحو مخصوص ، فيتوجه الخطاب في الآية إلى طرفي الدَين لقوله تعالى [إذا تداينتم] وعندما يتخلف الطرفان عن كتابته يجوز لعموم المسلمين كتابته والحضور للشهادة بعد تحملها ، وهو من إبتداء الآية بصيغة النداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ].
الرابعة : لفظ [بينكم]لإرادة معنى الأخوة الإيمانية .
وتقدير الآية وليكتب بينكم كمؤمنين كاتب بالعدل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
ترى لماذا لم تقل الآية ( وليكتب الدَين) أو (ليكتب بينكم الدَين)
الجواب لبيان أولوية الأخوة الإيمانية التي تتقوم بالتقوى , ومعاني الرحمة والرأفة بين المسلمين على مسألة الدَين والقرض .
الخامسة : مجيء آية البحث بالأمر بتقوى الله على وجهين :
الأول : الأمر الخاص بتقوى الله , ويتعلق بالذي عليه الحق والدَين والذي ورد في بدايات الآية , ولا ينخرم معنى الأمر بمجئ الآية بصيغة الجملة الخبرية [وَلْيَتَّقِ اللَّهَ]
الثاني : الأمر العام للمسلمين بتقوى الله الذي ورد في آخر الآية بقوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ] لتتضمن الآية كتابة الدَين والشهادة عليه وبيان قواعد وقوانين الشهادة في الإسلام لبيان حقيقة وهي حتى لو بخس ونقّص المدين من الحق بالكتابة أو باللسان فان شهادة الشهود بينة وحجة .
وعن عبد الله بن عمرو عن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إِلاَّ فِى الْقَسَامَةِ) ( ) ليكون الأمر بتقوى الله للذي عليه الديَن مكرراً مرتين في آية البحث مرة بارادته على نحو التعيين ثم مرة أخرى لكونه واحداً من المسلمين ، ومن أسراره البشارة للذي عليه الدَين فقد يكون شاهداً على الديَن إذ تشترط العدالة ، وقد يكون دائناً ويلزم المدين والذي عليه الحق له ألا يبخس حقه.
السادسة : الأمر للمدين بأن [وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا]أي من حق الدائن ولو كان مالاً ربوياً لما سماه الله في الآية [الْحَقُّ] لأن الفائدة الربوية سحت وحرام .
وهل يمكن تأسيس قانون وهو ما كان حقاً للإنسان فان الله عز وجل يأتي به أو بعوضه , الجواب نعم .
وتعريف الحق هو إختصاص بعين أو أمر بالدليل الشرعي وما فيه مصلحة أو تكليف .
ومن أسماء الله عز وجل الحق ، وفي التنزيل [فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ ..] ( ).
وكلام الله عز وجل حق وأوامره ونواهيه حق وبشاراته ووعده حق ، وإنذاراته ووعيده حق وصدق ، ومنه النهي عن أكل مال الربا والأمر بكتابة الديَن والقرض ، ومن الإعجاز أن أطول آية في القرآن إبتدأت بنداء الإيمان ، وفيه فخر للمسلمين وبيان لحقيقة وهي موضوعية نداء الإيمان ، وكأنه موجود في كل آية من آيات القرآن .
السابعة : تأكيد لزوم كتابة المدين الحق وما تشتغل به ذمته بالذات أو بالواسطة ، فان لم يقم بكتابته يكتبه عنه وكيله ، أو وليه مع العذر مما يدل على موضوعية كتابة الدَين ، وعدم الإكتفاء الحافظة والذاكرة سواء بالنسبة لطرفي الديَن أو الشهود .
وقد يطرأ السهو أو النسيان على أحد طرفي الدين أو كلاهما , وكم من صاحب دين نسى مقدار دينه أو مدين لمن لا يعرف ما عليه من الدَين ، وفي هذه الحالة ما هو الحكم ، الجواب ، على وجوه :
أولاً : مع معرفة أحد الطرفين بمقدار وأجل الدَين أحدهما أو كلاهما فعليه البينة ، ومع عدم وجود البينة يتوجه اليمين للمنكر ، وله أن يرد اليمين على مدع مقدار وأجل الدَين .
ثانياً : عند نسيان الطرفين يؤتى بالشهود ، ويكون الحكم وفق قولهما ، لذا قيدت آية البحث بأنهم من رجالكم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ] ( ) وهل موضوع الوصية أهم وأولى من موضوع الدَين والقرض ، لذا أكدت الآية أعلاه الشهادة بأمور :
الأول : شاهدان من الرجال .
الثاني : إتصاف الشاهدين بالعدالة وهي ملكة قول الحق والتنزه عن الباطل والحرام .
الثالث : كون الشاهدين من المسلمين .
الجواب لا ، ولكن القرآن يفسر بعضه بعضاً ، وبدليل أن الآية أعلاه أجازت شهادة آخران من غير المسلمين سواء كانا من أهل الكتاب أو من غيرهم عند تعذر وجود الشاهدين من المسلمين .
فان قلت إشترطت آية الوصية شاهدين من الرجال بينما أجازت آية البحث شهادة امرأتين بدل رجل واحد ، والجواب إرادة هذه البدلية في عموم الشهادة ، وللتخفيف عن المسلمين وعدم ذكره في آية الوصية لتقدم موضوعه ولتعلق آية الوصية بالضرب في الأرض والسفر ومن النادر أن تكون النساء معهم وإلا فتجوز شهادتها على الوصية لإطلاق الأدلة .
ثالثاً : المصالحة حسب القرائن، وقاعدة دوران الأمر بين الأقل والأكثر، فلا يجب في القضاء إلا الأقل الذي يجمع عليه الطرفان , ويستحب الأكثر.
الثامنة : التأكيد على الشهادة ولزوم استحضار الشهود لموضوعها وتفاصيلها الإجمالية التي تمنع من الجهالة والغرر، إذ ذكرت الآية علة البدلية بشهادة إمرأتين بدل أحد الشاهدين وهي مسألة التذكير بين الشاهدتين , بقوله تعالى[أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى] مع تأكيد ذات الشرط وهو العدالة ورضا الطرفين بالذين يتحملون الشهادة، وفيه تنمية لملكة الشهادة بالحق والصدق عند المسلمين، مما يدل على أن مسألة القروض بين المسلمين تتقوم بها حياتهم وهي من وجوه صلاحهم، وعكوفهم على طاعة الله وتعاهد صلاة الجماعة فتكون أيامهم مقدمة لحالهم في الجنة بقوله تعالى[وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ]( )، فالإقراض والدَين الخالي من الربا والفائدة الربوية برزخ دون حصول الكدورة والغل فيما بينهم.
ويدل ظاهر الآية وإبتداؤها بنداء الإيمان على جواز شهادة النساء في الحال والعقود كالبيع والإجارة والإقامة والضمان وفي الولادة والرضاع والإجماع والمختار على عدم جواز شهادتهن في الحدود والقصاص للإحتياط في الدماء والفروج، ولأن العلة [أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى] .
وأستدل عليه بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أليس شهادة المرأة مثل شهادة الرجل.
لذا أختلف في حجة خبر الواحد، ولكن هناك إختلاف بين الشهادة على أمر فيه مفاعلة بين طرفين كالقرض والدَين، وبين رواية الحديث وعدالة الراوي والخشية والحيطة عند عامة المسلمين من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الوجه الحادي عشر : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم ليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً ) لقد إبتدأت الآية بنداء الإيمان لبيان حقيقة وهي أن من خصال المؤمنين أموراً :
الأول: التداين والتعاون لقضاء الحوائج ، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تناجشوا،
وكونوا عباد الله إخواناً،
المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله،
ولا يحقره التقوى ههنا وأشار بيده إلى صدره حسب إمرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) ( ).
الثاني : وجود كتّاب مسلمين يكتبون العقود والمواثيق بالعدل والحق ، وبلحاظ عموم نداء الإيمان ، وإستغراقه لكل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يتبين كثرة الكتّاب العدول ، وفيه نكتة وهي دلالة الآية على سلامة القرآن من التحريف ، فاذا كان المسلمون يكتبون الدَين والقرض وإن قلّ بالحق والصدق من غير زيادة أو نقيصة ، فمن باب الأولوية القطعية أنهم يكتبون آيات وسور القرآن كما أنزلت ، ويستنسخونها في كل مكان من غير تحريف أو تبديل .
ومن الإعجاز أن العمل بآية البحث مصاحب لأيام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يدل على حرص أهل البيت والصحابة على كتابة آيات القرآن كتنزيلها وأنهم يكتبون لأنفسهم ولغيرهم ، وتحتمل النسبة بين كتابة وحفظ الآيات عن ظهر قلب وجوهاً :
أولاً : كتابة آيات القرآن تعضيداً وتوثيق لحفظ المسلمين لها في صدورهم , وقد تقدم وصف المسلمين بأن (أناجيلهم في صدورهم) ( ).
وعن ابن عباس (إنه سأل كعب الأحبار كيف قد نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة ، فقال كعب : نجده محمد بن عبد الله ، يولد بمكة ويهاجر إلى طابة ، ويكون ملكه بالشام ، وليس بفحاش ولا سخاب في الأسواق ، ولا يكافىء بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ، أمته الحمادون يحمدون الله في كل سراء ، ويكبرون الله على كل نجد ، ويوضئون أطرافهم، ويأتزرون في أوساطهم ، يصفون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم ، دويهم في مساجدهم كدوي النحل ، يسمع مناديهم في جوّ السماء)( ).
ثانياً : حفظ المسلمين للقرآن و ظهر قلب تعضيد , وتثبيت وتأكيد لما مدون في المصاحف .
ثالثاً : التعضيد المتبادل بين كتابة وحفظ القرآن ، وكل منهما أصل .
والمختار هو الثالث ، وهو شاهد يومي متجدد من أيام التنزيل على سلامة القرآن من التحريف ، فاذ يعتني المسلمون بكتابة الدَين والقرض ، فان دين الله وآيات القرآن أولى أن تكتب لوجوب قراءة كل مسلم ومسلمة لها خمس مرات في اليوم .
وإذا كانت وثيقة الدَين الواجبة تنقطع وينتهي أثرها والحاجة إليها بقضاء الدَين ، فان الحاجة إلى كتابة القرآن وتلاوة آياته متجددة في كل زمان ومكان ، ويدرك كل مسلم ومسلمة لزوم بقاء كتابة القرآن ميراثاً لأبنائهم .
الثالث : تقديم الأخوة الإيمانية على مسألة الدَين والقرض فلولا هذه الأخوة لما حصل التداين بين المسلمين ، لذا يجب أن يشكر الدائن والمدين الله عز وجل على هذه النعمة من جهات :
الأولى : تفضل الله عز وجل بالرزق الكريم على المسلمين .
الثانية : قضاء حاجة المحتاج . الثالثة : الثواب العظيم للدائن .
الرابعة : نزول الفضل والمدد من عند الله عز وجل .
الخامسة : التداين تثبيت لسنن الأخوة بين المسلمين ، فمن الإعجاز في قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ) أنه قانون وأصل وباعث للعمل الأخوي بين المسلمين ، كما أن أفعال المسلمين شاهد عليه وتجديد لموضوعه ، وحجة بين الناس على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتجلى هذا الصدق بسيرة المسلمين , لتكون أفراد هذه السيرة من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
فان قلت كيف تكون هذه الحجة العظيمة بسيرة ونهج المسلمين ، الجواب قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الوجه الثاني عشر : وتتضمن الآية عطف الخاص على العام ، فالتقوى في قوله تعالى [فليتق الله]هو الأعم .
ويعود الضمير (الهاء) في [يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا]إلى الحق والدَين من جهات :
الأولى : بيان مقدار الدَين بما يمنع الترديد واللبس .
الثانية : ذكر اسم الدائن على نحو الحصر والتعيين ، وقد يكون الدائن متعدداً ، فيذكرون جميعاً ، كما لو كانوا شركاء ، ولو كان المال مضاربة فيذكر اسم صاحب المال وعدم الإكتفاء باسم العامل الذي يتولى القرض والدَين إلا مع الإذن من قبل المالك , وبما يمنع من الغبن والجهالة والغرر.
الثالثة : تعيين أوان قضاء الدَين والأجل المسمى بتأريخ وأوان معروف عند الجميع وبما لا يقبل التعدد .الرابعة : بيان الأوصاف الخاصة للدَين .
وحينما أمر الله عز وجل بعدم بخس شيء من الدَين فهل يدل على العون والمدد من عند الله للمدين على القضاء , الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في إفتتاح آية البحث بنداء الإيمان .
ومن أسرار الوضوح وعدم اللبس والبخس في كتابة وثيقة الدَين مسائل : الأولى : بعث الطمأنينة في نفس الدائن .
الثانية : منع الفرقة والإختلاف بين المسلمين .
الثالثة : عدم إنشغال المسلمين عن أداء الفرائض .
الرابعة : سلامة المسلمين من الكدورة والغضاضة فيما بينهم .
الخامسة : إلتقاء المسلمين في صلاة الجماعة والجمعة بقلوب مطمئنة وأخوة إيمانية , وهل هو من عمومات قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى] ( ) .
الجواب إنه من مقدمات المحافظة على الصلاة .
السادسة : مجئ الثواب للمدين من وجوه :
أولاً : شكر المدين لمن له الحق ببيان تفاصيل القرض .
ثانياً : طاعة المدين لله عز وجل بكتابة الدَين وإملاء الحق كاملاً .
ثالثاً : إمتثال المدين لقوله تعالى في آية البحث [وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا].
رابعاً : الإقرار بالعالم الآخر ، ووقوف الناس بين يدي الله للحساب فلإن يمتنع المدين عن بخس شيء من الدَين في الدنيا خير له من الكشف الأخروي وشهادة الجوارح عليه وتحمل أوزار البخس يوم القيامة .
فمن معاني إبتداء الآية بنداء الإيمان هو : يا أيها الذين آمنوا بيوم الحساب لا تبخسوا من الحق والدَين شيئاً.
ويطلق لفظ الشئ على كل ما يصح الإخبار عنه سواء كان موجوداً حسياً أو عقلياً وله ماهية أو في عالم التصور .
والنسبة بين الشيء والموجود من الخلائق هي العموم والخصوص المطلق , فالشيء أعم لشموله للموجود والمعدوم والمتصور في الذهن ، وقال تعالى [وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا] ( ).
ووردت الآية بالتنكير [شيئاً] لإرادة الكثير والقليل من الحق والدَين ، وفيه بعث للفطنة وطرد للغفلة عن المسلم ، فاذا كان حريصاً على ضبط حق غيره من الناس فمن باب الأولوية أنه يضبط ما لله عز وجل عليه من دين متجدد كل يوم في الفرائض والعبادات ، وفيه دعوة للمسلم لحفظ حقوقه وعدم تضييعها أو نسيانها ، ليكون من إعجاز آية الدَين والتداين أنها تنمي ملكة حفظ الحقوق عند المسلم ، وتجعله يحرص على أداء ما لله عليه من دَين , ومنه صيام شهر رمضان .
وكأن الآية تقول للمسلم أموراً :
الأول : لا تبخس من حق الله عليك شيئاً .
الثاني : عدم بخس حق الله رحمة بالعبد ، لأن الله سبحانه [غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( ).
الثالث : لا تبخس من حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليك ، ومن حقه إتباع سنته ومحاكاته في أدائه الصلاة والصيام والحج وغيرها من المناسك ، وإجلاله وإكرامه والصلاة عليه ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( ).
والآية أعلاه هي الآية الوحيدة من بين آيات الإيمان التي جاء النداء في وسطها وباقي الآيات الثمانية والثمانين وورد النداء في أولها ، ولم يرد لفظ [صَلُّوا] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، لتنمية ملكة العمل بمضامين آيات النداء عند المسلمين ، فاذا كان الله عز وجل بنفسه يصلي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذا الملائكة عظيم خلقهم وكثرة عددهم وإتخاذ السماء مسكناً لهم فلابد أن يصلي المسلمون على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لبعث الشوق في نفوس المسلمين للعمل بأحكام كل آية ورد فيها نداء الإيمان سواء كانت أوامر أو نواهي .
الثاني عشر : يا أيها الذين آمنوا إن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فيملل وليه بالعدل ) .
وورد لفظ [العدل] معرفاً بالألف واللام ست مرات في القرآن ، وجاء في كل مرة مجروراً بالباء ، ومنها مرتان في آية البحث للدلالة على كتابة الدَين والقرض بالعدل ، وهل يختص تقييد الكتابة بالعدل بالدَين الجواب لا، إذ أنه يشمل أموراً :
الأول : كتابة حقوق الناس .
الثاني : إستحضار العدل وتعيين الحق وعدم الميل عنه عند كتابة الوصية، وقد تكون الحاجة إلى العدل في كتابتها أكثر من شطر من الديون ، فلذا أكدت آية الوصية على الإشهاد , وجاء القرآن بجواز شهادة غير المسلم على الوصية والإكتفاء بشهادته بعد يمينه وإن لم تكن هناك وصية مكتوبة .
الثالث : كتابة العقود والإيقاعات وإن كان صاحب المال سفيهاً أو ضعيفاً .
ومن إعجاز آية الدَين التفصيل بشمول كتابة الدَين حتى بالنسبة للذين يعجزون عن الكتابة لوجود الأولياء لهم ، وإرادة عدم تضييع حق الدائن ، والمنع من ضياع مال السفيه والضعيف .
والمراد من الضمير (الهاء) في [فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ] على وجوه :
الأول : ولي السفيه الذي عليه الدَين والحق .
الثاني : ولي الضعيف الذي عليه الديَن والحق .
الثالث : ولي الذي لا يستطيع إملاء الدَين والحق .
ونسب إلى ابن عباس والربيع بأن المراد من الهاء هو ( ولي الحق وهو صاحبه) ( )، ولكنه بعيد وخلاف نظم الآية والسياق الموضوعي فيها ، ولعل نسبة القول أعلاه إلى ابن عباس لم تثبت ولم يذكر سنده إذ تبين الآية قانوناً وهو أن الذي إشتغلت ذمته بالدَين والمال هو الذي يكتب مقداره وأجله مع علم وإطلاع الدائن وحضوره أيضاً ، وإرادة الفورية في كتابة الدَين ، إذ تبين بدايات الآية عدم وجود فترة أو مدة بين التداين وبين كتابته بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ]من جهات :
الأولى :دلالة نداء الإيمان على لزوم المبادرة إلى الإمتثال إلى أمر الله عز وجل ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( ).
الثانية : دلالة الجملة الشرطية ( إذا تداينتم ) على كتابة الدَين.
الثالثة : مجئ الفاء في [فاكتبوه] فلم تقل الآية [واكتبوا] وإن كانت الواو كحرف عطف لا تنفي الفورية , وتفيد ( الفاء ) كحرف عطف الترتيب والتعقيب كما في قوله تعالى [فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ] ( ).
يا لهفَ زيّابةَ للحارث ال … صّابحِ فالغانمِ فالآيبِ) ( ).
أي ان الذي غار على القوم صباحاً غنم وكسب المغانم فآب أي رجع .
وتبعث الآية السكينة في نفس صاحب المال بأنه لو كان غريمه سفيهاً أو ضعيفاً أو ناقص العقل فان الحق لا يضيع ، وهل تحتمل كتابة الولي للدين وجوهاً :
الأول : الوجوب حتى على القول باستحباب كتابته من قبل الذي عليه الحق للأولوية .
الثاني : الإستحباب لعموماته سواء كان الدَين على الذات أو على الموّلى عليه .
الثالث : الإباحة لعدم تعلق الدَين بالذات .
والصحيح هو الثاني ، وإن جاءت الآية بصيغة الأمر [فليملل] وتبين الآية حقيقة وهي أن القصور في طرف المدين لا يمنع من تثبيت حق الدائن ، وفيه دعوة للورثة لقضاء دَين الميت من تركته , وعدم الإستحواذ عليها ، قال تعالى [مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ]( ).
وتكرر في الآية لفظ [بالعدل] وورد في المرة السابقة متعلقاً بالكاتب بأن يكتب بالعدل كما في قوله تعالى [وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ] بينما جاء في هذه المرة متعلقاً بالولي بأن يكون إملاؤه بالعدل ، وفيه مسائل :
الأولى : إرادة تكرار حضور العدل ، فعندما يكون الدَين على السفيه والضعيف فان الخطاب بالعدل ووجوبه يتوجه إلى الكاتب وإلى الولي .
الثانية : تبين الآية أن ولي السفيه ونحوه طرف ثالث مثلما هو الكاتب ، فلذا أمره الله عز وجل بأن يكون عادلاً في ذكر مقدار الدَين وأجله وصفاته وشرائطه التي يتقوم بها مع تعيين الدائن والمدين في إملائه للكاتب .
الثالثة : تضمنت الآية الأمر إلى الذي عليه الحق بتقوى الله لتكون خصائص كتابة الدَين على السفيه ونحوه على وجوه :
الأول : إملاء الولي بالعدل .
الثاني : إتصاف الولي بالتقوى عند كتابة الدَين .
الثالث : تقيد الكاتب بشرائط العدل .
الرابع : تثبيت حق الدائن ، وعدم الإضرار بالسفيه ونحوه ليكون من عمومات قوله تعالى [أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا] ( ).
والسفه ضعف الرأي وخفة العقل ، وعدم المبالاة بما كان وما يترتب على الفعل من العواقب ، وهو في الشريعة التصرف في المال باسراف ، وإنفاقه في وجوه التبذير والعجز عن التدبير فيه ، قال تعالى [وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ] ( ) وقد يكون السفه في الدَين والعقيدة الذي قد يؤدي إتباع خطوات الشيطان ، والإصرار على الباطل وملازمة السيئات .
قال تعالى [وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ] ( )، و(عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه الله وسلم قال : بين يدي الساعة سنون خداعة ، يتهم فيها الأمين ، ويؤتمن المتهم ، وينطق فيها الرويبضة . قالوا : وما الرويبضة ؟ قال : السفيه ينطق في أمر العامة) ( ).
ومن إعجاز الآية أنها جمعت بين السفيه والضعيف والأحمق والصبيان وغير الرشيد ، وينطبق لفظ الضعيف على الصبي الذي لا يفطن إلى العواقب , وليس لهم شأن في المجتمع , وفي التنزيل [وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ] ( ).
ومن معاني قوله تعالى [لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ]وجوه :
الأول : الأخرس .
الثاني : الأحمق .
الثالث : العاجز .
الرابع : الذي لا يحسن الإملاء ،وضبط صفات الدَين عند الإملاء على الكاتب .
والسفيه الذي لا يحسن أخذ حقه ولا إعطاء حقوق الغير , ويجوز الحجر عليه من قبل الأب أو الوصي أو الحاكم ، ولكن الآية لم تذكر الحجر بمعناه الأعم ، إنما ذكرت موضوع الدَين والكتابة على السفيه .
لبيان عدم الملازمة بين النيابة في إملاء وكتابة الدَين عن السفيه وبين الحجر فمع الإقرار بالإملاء عن السفيه فانه لا يستلزم الحجر عليه .
ومن الإعجاز في هذا التباين ما تجلى في هذا الزمان أنه قد يكون الإملاء نيابة عن العاقل الرشيد للإختصاص في القوانين الوضعية وتعدد الشرائط فيها ، فيخشى الإنسان أن تكون هناك ثغرة في العقد المكتوب تفرض عليه شرطاً جزائياً أو تضيع حقه ، فيستعين بالحاذق الفطن والمحامي والوكيل القانوني ، ليتجلى الإعجاز في آية البحث بورود القيود من جهات :
الأولى : الأمر بكتابة الدَين بقوله تعالى (فاكتبوه) ولو دار الأمر بين إرادة الكتابة الإجمالية المتحدة في كل زمان أم لحاظ وموضوعية كل زمان ومكان والشرائط الوضعية .
الجواب هو الثاني مع بقاء الثوابت الشرعية في الكتابة من جهة حرمة الربا والتبديل والزور في مقدار الدَين أو اسم صاحبه أو أجله .
الثانية : منع حصول الغبن والغفلة والجهالة بسبب القوانين الوضعية ، وأنظمة القبائل ونحوها ، فمن إعجاز الآية أنها سلاح متقدم لدفع الضرر في باب القرض والإستدانة في أي زمان ومكان وفي أي نظام سياسي أو مالي .
لقد نزلت آية الدَين والمسلمون منقطعون إلى العبادة متوجهون إلى ساحات الجهاد حريصون على الدفاع عن بيضة الإسلام والمرابطة ، قال تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ] ( ) قد فات عدد من المسلمين الإشتراك في معركة بدر ، فانتظروا بلهفة قدوم جيش المشركين في معركة أحد ، وفيه دلالة على تحليهم بالتقوى ، وكان إذا قام أحدهم بفعل أو خديعة ومكر ينزل القرآن في فضحه ، ولم تكن عندهم أموال كثيرة للتداين وإشاعته بينهم ، ولكن آية البحث نزلت لأجيال المسلمين المتعاقبة ، أيضاً .
ومن خصائص الآية القرآنية ملائمتها لكل حال ، لذا فان آية البحث حصن من الخديعة والضرر المترشح عن الأنظمة الطارئة وكثرة البنود والتفرعات فيها .
الثالثة : تأكيد آية البحث على نفاذ أحكامها في كل زمان ومكان لتكون شاهداً على قانون ملائمة أحكام القرآن , وما فيه من الأوامر والنواهي لكل زمان ، وهذا النفاذ من تجليات نداء الإيمان الذي تبدأ به الآية إذ يطل على الأرض في كل يوم وكل ساعة وتسمعه الخلائق وتعلم بوجود أمة تتلقاه بالقبول والعمل ، وفيه ترغيب للناس بدخول الإسلام لأنه دين التوثيق والوثاقة والعهود والإحسان ومنع الضرر بالجهالة والنسيان والحيلولة دون الضرر بحرمة الربا أو ترتب فائدة على القرض .
الرابعة : لزوم تحلي الذي يُملي الدَين ومقداره وأجله بالتقوى والخشية من الله ، لتكون التقوى في المقام على وجوه :
الأول : ملكة دائمة .
الثاني : التحلي بالتقوى في العبادات ، وترشحها على المعاملات ، وعند كتابة الدَين والقرض .
الثالث : حلول التقوى عند الذي يملي الدَين ساعة إملائه لمجئ الآية بأمره بتقوى الله بقوله تعالى [وليتق الله].
الرابع : صيرورة تحلي الذي عليه الحق بالتقوى ساعة كتابة الدَين ملكة دائمة .
ولو تعارضت التقوى مع القواعد الوضعية وما في القوانين الحديثة من التفرعات ، فالأصل هو التقوى التي تتقوم في المقام بعدم بخس الناس أشياءهم .
وهو من الإعجاز في ذكر الآية للتقوى مرتين ، وذكرها كحال ملازم للإنسان عندما يملي أو يكتب الحقوق .
لقد تكرر لفظ ( بالعدل ) ليكون صفة ملازمة وعرض دائم في الكتابة وذكر الولي من باب المثال الأعم ، فتشمل الآية أفراداً :
الأول : الوكيل إذ يجب أن يكتب بالعدل ويذكر الحق وصفات الدَين .
وهل تجب كتابة أصله وسببه كما لو كان قسطاً متبقياً من صفقة شراء الجواب لا يجب إلا مع إرادة أحد الطرفين أو إذا كان في ترك كتابته إحتمال للضرر والجهالة .
الثاني : الوصي والقيم الذي يقوم بشؤون المدين أو بخصوص مال القرض .
الثالث : عامل مال المضاربة الذي يتولى البيع والشراء في مال المالك .
الرابع : صالح المؤمنين الذي يتولى أمر كتابة الدَين .
الخامس : النائب والمحامي الذي هو بمرتبة الوكيل .
ويستقرأ من آية البحث قانون من جهات :
الأولى : لزوم إتصاف المسلمين بالعدل وإختيارهم قول الحق .
الثانية : بالعدل تعمر الديار ويستمر الإحسان بين الناس .
الثالثة : التقيد بالعدل حرب على الربا ، وهو من مصاديق خطاب ووعيد الله عز وجل لآكلي الربا الذي ورد قبل ثلاث آيات بلحاظ نظم القرآن بقوله تعالى [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ] ( ) .
ليتبين رأس المال بكتابة الدَين من قبل الكاتب العدل بإملاء المديون فلا يقدر الدائن أن يفرض زيادة تغريراً أو خديعة ، فمثلاً يدعّي أنه لا يأكل الربا , ولكنه يحمل المبلغ فائدة ومقداراً إضافياً بادعاء الزيادة في رأس المال وأصل الدَين كذباً ، فتكون كتابته بالعدل التي أمر الله عز وجل بها في آية البحث واقية من هذا الإدعاء وبرزخاً دون الهّم به .
فتكون آية البحث رحمة بالدائن الذي تحدثه نفسه بالزيادة الربوية وتحتمل هذه الرحمة وغلق باب الهم بفرض الزيادة على القرض كذباً وزوراً بخصوص مصاديق قوله تعالى في آية النداء السابقة [اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) وجوهاً :
الأول : ترك دعوى فرض زيادة على القرض في حال عدم كتابته من التقوى والخوف من الله عز وجل .
الثاني : إنه من عمومات قوله تعالى [وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا]ليفيد أيضاً تنقية النفس من الهّم بالربا , والتنزه عن أكل ماله بالخداع أو التضليل وغيره .
الثالث : إنه من خصال الإيمان في قوله تعالى [إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وإن كان القدر المتيقن من الثاني أعلاه هو ترك المال الربوي الذي لم يستلم بعد إلا أن الجمع بين كلمات الآية وكيف أنها تبدأ بنداء الإيمان ، وتختتم بشرطية الإيمان ، وتأكيد قانون وهو أن إنصاف المسلمين بأنهم المؤمنون يملي عليهم التنزه عن الطمع بالربا حتى في التصور الذهني ليثيبهم الله عز وجل [وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ]( ).
بحث فقهي
من كتاب الشهادات في رسالتنا العملية (الحجة) في أحكام العبادات والمعاملات يشترط في الشاهد أمور :
الأول : الكمال بالبلوغ والعقل فلا يترتب الأثر والحكم بشــهادة الصبي وقيل بقبول من بلغ عشــر سنين وكان مميزاً وشــهد بالقتل قبل ان يرجع الى اهله.
(مسألة 1) لا موضوعية لشهادة المجنون، نعم تقبل شهادة المجنون الأدواري بشرط افاقته ساعة تحمل الشهادة وعند ادائها.
(مسألة 2) لا تقبل شهادة من غلب عليه السهو والنسيان والغفلة.
الثاني: الإسلام فتقبل شهادة المسلم وان كان مخالفاً في الفروع , وتقبل شهادة المسلم على غيره.
الثالث: العدالة وهي ملكة الإجتناب عن الكبائر , ومنها الإصرار على الصغائر، وترك منافاة المروءة الدالة على عدم المبالاة في الدِين.
(مسألة 3) لا تقبل شهادة مجهول الحال فضلاً عن الفاسق، كما لا تقبل شهادة منكر ضرورة من ضروريات الدين.
(مسألة 4) كل عادل ارتكب كبيرة مع العمد والإختيار تسقط عدالته ولا تقبل شهادته الا بعد التوبة وحصول ملكة العدالة.
(مسألة 5) لا تقبل شهادة القاذف ولا فاعل الغناء، وتوبة القاذف ان يكذب نفسه عند من سمع ذلك منه او عند الحاكم الشرعي.
(مسألة 6) لا بأس باقتناء الحمام للأغراض الصحيحة غير المنهي عنها شرعاً، ويحرم اتخاذه آلة للهو وتضييع الوقت والرهان والمفسدة.
(مسألة 7) تقبل شهادة ذوي الحرف المكروهة كالقصاب وبائع الطعام وكذا من كان عمله الحجامة والحياكة ونحوها كما تقبل شهادة ذوي العاهات الخبيثة كالجذام والبرص والسرطان.
الرابع: طهارة المولد فلا تجوز شهادة ولد الزنا الثابت شرعاً على الأقوى , إلا مع إشتهاره بالإيمان والورع , ويتجلى بتعاهده لصلاة الجماعة.
الخامس: ارتفاع التهمة، والريب والظنة التي تمنع من الشهادة وما يلحق بها على وجوه:
الأول: جر النفع للنفس بالشهادة ، سواء كان النفع عيناً أو منفعة أو حقاً.
الثاني: دفع الضرر عن النفس.
الثالث: صاحب العداوة والخصومة في شهادته على عدوه، اما لو شهد له فتقبل شهادته.
الرابع: شهادة المتسول الذي يسأل الناس بكفه في مجامع الناس واسواقهم وابواب دورهم.
الخامس: شهادة المتبرع بالشهادة في حقوق الناس الخاصة، اما شهادته في حقوق الله تعالى والحقوق العامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا بأس بها وان كانت تبرعاً.
(مسألة 8) الصلة النسبية لا تمنع من قبول الشهادة وان كان قريباً كالأب لولده وعليه , والولد لوالده , والأخ لأخيه وعليه، وكذا سائر الأقرباء مطلقاً.
(مسألة 9) لا تقبل شهادة الولد على والده على الأقوى وهو المشهور.
(مسألة 10) تقبل شهادة الزوج لزوجته وعليها وكذا تقبل شهادة الزوجة لزوجها وبالعكس.
(مسألة 11) تقبل شهادة الصديق لصديقه وعليه، كما تقبل شهادة الضيف.
(مسألة 12) الأحوط عدم قبول شهادة الأجير لمن استأجره الا اذا كان عند الأداء مفارقاً لعمله عنده، او مع الأمارات والقرائن المعتبرة التي تدل على عدم موضوعية تلك الاجارة في الشهادة.
(مسألة 13) المناط في الشرائط المعتبرة في الشهادة حال الأداء لا حال التحمل فلو تحمل فاقداً للشرط فاداها جامعاً لها تصح شهادته الا بالنسبة للجنون الأدواري فيشترط الإفاقة عند التحمل والأداء.
(مسألة 14) لا يتوقف تحمل الشهادة على الإستشهاد واستدعاء من المشهود له او عليه فاذا سمع ما تصح الشهادة به كالإقرار والعقد والإيقاع ونحوها، تقبل الشهادة بما سمع وكذا لو رأى ما تصح الشهادة فيه كالقتل والجناية.
(مسألة 15) تجب الشهادة على من توقف اقامة الحق على شهادته ، ومع عدم توقف الحق عليه فهــو في ســعـة ومندوحــة يتخير بين الإقــامة والسكوت.
(مسألة 16) كل فاسق تاب لا يترتب عليه آثار العدالة بعد التوبة بلا فصل ما لم يحصل ما يدل على حصول ملكة العدالة.
خصائص الشهادة
(مسألة 17) موضوعية اليقين والعلم القطعي في الشهادة , ولا فرق فيه بين ان يتحقق بالحواس الظاهرية، وما يستلزم العلم به الرؤية البصرية فلا يصح للسامع ان يشهد فيه، ولو حصل العلم برياضات خاصة وما لم يكن متعارفاً فلا تصح.
(مسألة 18) كل ما حصل به العلم ولم يردع عنه الشرع تجوز الشهادة به في كل مورد حصل للشاهد العلم بالمشهود به من دون اختصاص بمورد دون آخر.
(مسألة 19) لو كان موضوع الشهادة مركباً فلا تصح الشهادة الا بما أفاد القطع به ، فلو كان يعلم بالسبب دون المَسبب فلا يشهد الا على الأول، وكذا العكس لو كان يعلم بالمسبب دون السبب فلا يشهد الا على ما علم يقيناً به.
(مسألة 20) وجود ورقة مدونة فيها شهادة الشهود وموقعة باختامهم لا تكفي عند الحاكم، الا مع القرائن التي تفيد اليقين والعلم بصحتها وعدم احتمال التأويل والإكراه ونحوه، وكذا لا يعتمد على مضمون ورقة يجدها الشاهد، فلو وجد ورقة بعد موت الميت , وفيها وصية فلا تثبت بها الوصية من غير بينة او امارة وقرينة معتبرة , أو إقرار من الورثة بصحتها وقبولها .
(مسألة 21) اذا سمع الاعمى صوتاً وعلم بصاحبه تجوز شهادته فيه تحملاً واداءً، وكذا لو شهد الاصم فعلاً، وكذا الاخرس ان عرف الحاكم اشارته ولو بواسطة مبيّن عدل لها.
(مسألة 22) لو غلب على الشاهد السهو او النسيان لعارض من مرض او غيره لا يجوز الاعتماد على شهادته.
(مسألة 23) تقبل شهادة النساء في النكاح ان كان معهن رجل، ولا تقبل شهادتهن في القصاص، كما تقبل شهادتهن في الحقوق المتعلقة بالاموال كالخيار والشفعة والاجل وفسخ العقد المتعلق بالمال.
(مسألة 24) كل ما يعسر اطلاع الرجال عليه غالباً كالولادة والعذرة والحيض وعيوب النساء الباطنية كالقروح والجروح في الفرج والقرن والرتق تجوز شهادة النساء وحدهن فيه، اما ما هو ظاهر كالعمى والعرج فتقبل شهادة الرجال والنساء فيه منفردات ومنضمات , كما يعتمد التقرير الطبي من طبيبين بشرط الحذاقة والصدق المهني .
(مسألة 25) الشهادة ليست شرطاً في العقود والايقاعات عدا الطلاق والظهار، نعم هي مستحبة في العقود والايقاعات خصوصاً النكاح والعتق.
(مسألة 26) الشهادة تتكون من قسمين:
الأول: تحملها: كما لو حضر ليسمع صيغة الطلاق , وهو ليس بواجب اذا دعي اليه.
الثاني: اداؤها: اذا طلب منه , وهو واجب كفائي مع عدم الضرر، وقد يكون احياناً واجباً عينياً.
(مسألة 27) لو دعي للاستشهاد فتجب الشهادة حينئذ اذا دعي لها عند الحاكم، اما لو سمع او رأى عرضاً من غير ان يدعى الى تحمل الشــهادة، فهو بالخيار ان شاء شهد عند الحاكم، وان شاء امتنع الا عندما يكون احد المتخاصمين ظالماً للآخر فيجب اداء الشهادة مع عدم الضرر.
في الشهادة على الشهادة
(مسألة 28) تقبل الشهادة على الشهادة في حقوق الناس عقوبة كانت كالقصاص او غيرها كالطلاق والنسب والاموال كالدَين والقرض ومنه موضوع آية البحث , وعقود المعاوضات , والغصب , وعيوب النساء التي لا يطلع عليها الرجال غالباً ونحوها.
(مسألة 29) لا تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود ولا في التعزيرات سواء كانت حقاً لله محضاً كما في شرب الخمر، او مشتركاً وفيه حق للآدمي كالقذف والسرقة، فلا تقطع اليد بالشهادة على الشهادة، نعم يؤخذ حق الآدمي بها.
(مسألة 30) على الحاكم ان يدفع الحد عن المسلم والمسلمة ما دامت شبهة في البين، وليس فيه تفريط او إغراء على المعصية , ولكن لاصالة البراءة ولعدم ثبوت الجناية .
(مسألة 31) يختص القبول بخصوص الشهادة على الشهادة المباشرة فقط فلا أثر أو حجة بالثالثة وما بعدها، أي لا تقبل الا شهادة من سمع من الشاهد الاصل , ويمكن ان نسميه اصطلاحاً الشهادة بالواسطة والذي يؤديها الشاهد الفرع.
(مسألة 32) يجري في الشهادة الفرعية ما يجري في الشهادة الاصل من العدد والاوصاف فيجب شاهدان ثانويان عن شاهد الاصل، ويجوز ان يشهدا معاً على شهادة كل شاهد من شاهدي الاصل.
(مسألة 33) يجوز ان يشهد شاهد فرع مع شاهد أصل على شهادة شاهد الاصل الثاني، كما يجوز ان يشهد اثنان على شهادة امرأة فيما تجوز شهادتها عليه.
(مسألة 34) الاقوى ان المرأة لا تكون شاهد فرع حتى فيما تقبل شهادتان فيه , لما ورد في آية البحث[أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى]( ).
(مسألة 35) لا تقبل شهادة الفرع الا اذا كان الشاهد الاصل معذوراً عن الحضور لعذر مقبول شرعاً او عقلاً او عرفاً.
(مسألة 36) لو شهد شاهد الفرع وانكرها شاهد الاصل فلا يعتمد على تلك الشهادة اصلاً وفرعاً.
(مسألة 37) يشترط في شاهد الفرع ما يشترط في شاهد الاصل من العــدالة ونحــوها، ولو تحمــل الفرع الشــهادة في حال اجتماع الشرائط في كل منهــما، ثم فســق الاصل وأدى الفــرع الشــهادة حكم بها الحاكم.
القسامة واللوث
(مسألة 39) القسامة وهي الأيمان المكررة تقسم على أولياء الدم , ويمين جماعة يقسمون على الشيء او يشهدون , كما لو قُتل رجل وليس من بينة عادلة على تحديد هوية القاتل، فيأتي اولياء المقتول فيتهمون شخصاً بقتله مستدلين بامارة ولون على قيامه بالقتل خصت في الإصطلاح بايمان الدماء مع اللوث وهو امارة يحتمل معها صدق المدعي فيما ادعاه من القتل كما لو وجد الى جانب المقتول سلاح شخصي يعرف صاحبه، او ان القتيل موجود في دار قوم وما لا يدخله غيرهم، او ان يشهد عدل واحد على القاتل.
(مسألة 40) تختلف القسامة عن غيرها من الدعاوى بامور:
1- انها خاصة في الدماء.
2- ان اليمين فيها متوجه ابتداء الى المدعي اما في غيرها من الدعاوى فاليمين متوجه الى المنكر.
3- كثرة الذين يحلفون في الدعوى مع ان الأصل في البينة شاهدان عدلان.
4- الحلف فيها لإثبات حق الغير وعلى أمر لم يشهده.
5- اليمين في القسامة على اولياء المجني عليه خاصة دون غيرهم.
(مسألة 41) الحكمة في القسامة هو ردع الفاجر والمعتدي من قتل غيره اذا وجده وحيداً وليس من شهود، فشرعت القسامة لتكون زاجراً له، فهي احتراز وردع قضائي وارتقاء في عالم الحكم لم تستطع القوانين الوضعية بلوغ مرتبته او ادراك فلسفته.
(مسألة 42) لو لم يحلف اولياء المقتول , وكان اللوث بجماعة كما لو وجد القتيل في بيتهم او بين ظهرانيهم فانه يحلف المدعى عليه قسامة خمسين رجلاً ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً، ولا قود ولا دية عليهم حينئذ.
(مسألة 43) لا تثبت القسامة الا مع اللوث، وهو امارة وقرينة يظن بها صدق المدعي كوجود رجل يحمل سلاحاً ملطخاً بالدم عند قتيل في دمه اما لو وجد القتيل ولم يسيل منه الدم فليس حمل السكين لوثاً الا ان تكون آلة للقتل من غير خروج دم، كما لو وجد قتيل في دار جماعة او في قريتهم ولا يطرقها غيرهم او بين جماعة لا يتعارف مجيء غيرهم عندهم.
(مسألة 44) لو وجد القتيل في قرية وكانت القرية مما يطرقها اهلها، فلابد من قرينة تفيد معنى ثبوت العداوة بين القتيل وبين اهل القرية لتحقق اللوث او الأمارة الدالة عليها كما لو انه دخل القرية للتجارة , وكانت معه اموال كثيرة وتعرضت للسرقة ونحوه مما يفيد الظن المعتبر.
(مسألة 45) الأقوى ثبوت اللوث بشهادة جماعة النساء وكذا الفساق، مع عدم رجحان التواطؤ على الكذب، ولا يثبت اللوث بشهادة الصبيان وبشهادة غير المسلم وان كان مأموناً في مذهبه الا اذا بلغ حد التواتر والشياع المفيد للاطمئنان.
(مسألة 46) لا يثبت اللوث بالتصوير الحديث الفيديو ونحوه اذا كان يحتمل اجراء التحريف والتغيير فيه.
(مسألة 47) القسامة خمســون يميناً يحلفون بالله تــعالى في صـورة القتل العمــد وعليه الإجماع، وكذا في القتــل الخطأ على الأقوى احتياطاً في الدماء، وذهب جماعة الى القول بانها في الخطأ خمسة وعشرون يميناً.
(مسألة 48) يحلف المدعي واقاربه كلاً منهم يميناً واحداً اذا كان عددهم خمسين ولو كانوا اقل يكرر عليهم اليمين حتى يبلغ خمسين فلو كان عددهم خمسة وعشرين يكرر كل منهم اليمين , ولو امتنع بعض اقارب المقتول عن اليمين تكرر على الباذل منهم حتى اتمام العدد خمسين.
(مسألة 49) تثبت القسامة في الأعضاء ايضاً بحسب نسبتها من النفس.
(مسألة 50) لا تصح القسامة الا مع علمهم بالحال وحصول الظن عندهم فكونهم من اولياء المقتول لا يكفي في الحلف فلابد انهم يعلمون بالعداوة مثلاً، او بموضع القتل ونحوه من الأمارات.
(مسألة 51) يجوز ان لا يحلف بعض اولياء المقتول تنزهاً واحتياطاً، فالقسامة واليمين ليس واجباً عليهم.
(مسألة 52) لو امتنع المدعي وولي المقتول عن اليمين فمع وجود اللوث يحلف المدعى عليه قسامة خمسين رجلاً ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً، والا اغرموا الدية اذا وجد القتيل بين اظهرهم، أي لابد من يمين المدعى عليه كي لا يدفع الدية في حال عدم يمين المدعي قسامة.
(مسألة 53) اذا وجد الإنسان مقتولاً في الطرقات العامة او في المسجد الأعظم او نتيجة التدافع والتزاحم في صلاة الجمعة او في رمي الجمرات او في عرفة او على جسر او محل عام كالمتنزه فديته من بيت المال، والضابطة الكلية هي ان المقتول وجد في مكان عام غير منحصر بشخص أو جماعة وليس من لوث في البين.
(مسألة 54) تثبت القسامة مع اللوث في الأعضاء أيضاً كقطع اليد والرجل، والأقوى ان قسامة الأعضاء ستة ايمان , ومن الفقهاء من قيد القسامة بالقتل .
في الخبر عن الصادق عليه السلام: “ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحبس في تهمة الدم ستة ايام فان جاء اولياء المقتول ببينة وإلا خلى سبيله” .
الا ان جماعة لم يعملوا بها وقالوا بان الحبس عقوبة عاجلة لم يثبت موجبها، ولكن هذا الحبس ليس عقوبة بل انه حجز احترازي احتياطاً في الدماء( ).
(مسألة 55) تكون الدية في قتل العهد والخطأ، وإذا حلفت القسامة على قتل الخطأ ففيه الدية.
أما بعد إذا حلفوا على أن القتل عمد، ففيه قولان:
الأول : يثبت القول والقصاص إلا مع المانع.
الثاني : ثبوت الدية، وهو المختار وعن أبي ليلى وهو تابعي ثقة أن سهل بن أبي سلمة أخبره أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قيل وطرح في فقيراء عين فأتى يهود فقال أنتم والله قتلتموه فقالوا والله ما قتلناه ثم أقبل من قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ثم أقبل هو وحويصة وهو أخوه أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل فذهب محيصة ليتكلم وهو الذي كان بخيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر كبر وتكلم حويصة ثم تكلم محيصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أن تدوا صاحبكم أو تؤذنوا بحرب وكتب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فكتبوا أما والله ما قتلناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن تحلفون
وتستحقون دم صاحبكم قالوا لا قال فتحلف لكم يهود قالوا ليسوا مسلمين فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده فبعث إليهم بمائة ناقة حتى دخلت عليهم الدار قال سهل لقد ركضتني منها ناقة حمراء)( ).
وعدم ثبوت القول أيضاً لعمومات(إدرؤا الحدود بالشبهات)( )، وعن أحد الصحابة من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أٌر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية.
النسبة بين القرض والربا
والنسبة بين القرض والربا هي العموم والخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من وجوه :
الأول : تعلق كل من القرض والربا بالمال والمنافع .
الثاني : كل من القرض والربا معاملة وعقد بين طرفين فلا يتم أي منهما في طرف واحد .
الثالث : هناك طرف يعطي المال وآخر يستلمه .
الرابع : تعيين الأجل لإعادة المال ، فقد ورد في آية الدَين [إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ]لبيان قانون وهو أن ترك المسلمين الربا وإمتناعهم عنه لا يعني التفريط في معاملة القرض وعدم كتابته أو تعيين أجله كما كان يعين أوان دفع مال الربا .
فمن إعجاز الآية أنها شكر من الله للمسلمين لتركهم الربا بأن يجعلوا ضابطة كلية بينهم في القرض بما يمنع من الضرر وتضييع الحق .
الخامس : في كل من القرض والربا طرفان أحدهما عنده المال والآخر محتاج له .
السادس : كتابة مقدار كل من القرض والربا .
أما مادة الإفتراق فمن وجوه :
الأول : خلو القرض من الفائدة المحرمة .
الثاني : عندما يحين أوان قضاء القرض , ولا يملك المقترض مقداره ، ومن لا يقدر على قضائه يُمهل وينظر إلى أجل آخر .
أما في الربا فيضاعف القرض عليه .
الثالث : ترغيب القرآن والسنة بالقرض ، وتحريم القرآن والسنة للربا .
الرابع : في القرض قضاء للحاجة ، وهو سبيل للعمل وقيام المقترض بالسعي والإنتفاع الأمثل من القرض ، أما بالنسبة للربا فهو حمل ثقيل يرهق المقترض .
الخامس : ثناء الناس على الذي يُقرض ماله ، ونفرتهم من المربي .
السادس : من مصاديق الأمر بالمعروف الحث على الإقراض ، ومن مصاديق النهي عن المنكر الزجر عن المعاملات الربوية .
السابع : الأجر والثواب لكاتب القرض والشاهد عليه ، بينما يأتي الذم واللعنة لكاتب الربا والشاهد عليه .
الثامن : تعدد الآيات التي تنهى عن الربا ، وتبين سوء عاقبته ، قال تعالى [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ] ( ).
التاسع : دلالة القرآن والسنة على التباين والتضاد بين البيع والربا .
العاشر : صحة القرض شرعاً وعقلاً , وضلالة وقبح مبنى ومرتكز الربا .
الحادي عشر : في القرض إمهال للمعسر ، إما في الربا فيضاعف مقدار القرض على المعسر .
الثاني عشر : إذا أمهل صاحب المال المقترض ففيه الأجر والثواب ، أما في الربا فان المربي يضاعف المال عند تأجيل أوان قضائه .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا كَانَ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ وَمَنْ أَنْظَرَهُ بَعْدَ حِلِّهِ كَانَ لَهُ مِثْلُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ) ( ).
الثالث عشر :القرض مقدمة للعمل , وتيسير للحاجات , والربا تعطيل للأعمال بتراكم ومضاعفة الديون .
وقد ورد القرض في قوله تعالى [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا] ( ) والقرض هنا الصدقة والإنفاق في سبيل الله ، وهل يدخل معه القرض والدَين , الجواب نعم , إذا كان بقصد القربة وإرادة الثواب وإنتفاع المقترض منه في المعيشة وطاعة الله .
علم جديد رشحات ساعة التنزيل
و (عن زيد بن أسلم قال : لما نزلت[مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا] ( )، جاء أبو الدحداح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله ألا أرى ربنا يستقرضنا مما أعطانا لأنفسنا ، وإن لي أرضين احداهما بالعالية والأخرى بالسافلة ، وإني قد جعلت خيرهما صدقة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : كم من عذق مدلل لأبي الدحداح في الجنة) ( ).
وهذا الحديث ليس من أسباب النزول إنما هو من رشحات النزول فلذا يمكن تأسيس علم جديد إسمه (الأثر المتعقب لنزول الآية القرآنية )ويختص بالنفع العاجل المتفرع عن نزول الآية القرآنية من جهات :
الأولى : كيفية تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنزول الوحي وتصبب العرق منه في اليوم شديد البرودة .
الثانية : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ بالآية أو الآيات التي تنزل عليه حالما ينفصل عنه الوحي ويغادره الملك .
الثالث : ذكر شواهد من تلقي المسلمين لنزول آيات القرآن .
الرابع : النسبة بين أسباب نزول آيات القرآن وبين رشحات التنزيل .
الخامس : تلقي المسلمين لنزول الآية القرآنية على تصديقهم بالتنزيل على نحو الإطلاق ، فكل مسلم يرى كيفية نزول الآية القرآنية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤمن بأن القرآن الذي بين الدفتين نازل من عند الله عز وجل ، وهو من الإعجاز الذاتي للقرآن بأن يكون نزول الآية القرآنية سبباً للتصديق بنزول القرآن كله.
إن نزول كل آية قرآنية عيد للملائكة ، وفخر وعز لأجيال المسلمين المتعاقبة ، لذا ينزل الملائكة مع السور والآيات القرآنية .
روى ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (أنزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ سورة الأنعام صلى عليه أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من الأنعام يوماً وليلة) ( ).
ولا تختص مصاديق هذا النعم بساعة التنزيل وحدها بل تشمل وجوهاً :
الأول : أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكتاب الوحي بتدوين وكتابة الآية القرآنية النازلة .
الثاني : قيام أهل البيت والصحابة الذين يسمعون آيات القرآن النازلة بنقلها إلى غيرهم في ذات الساعة واليوم .
ومن إعجاز القرآن الغيري سؤال الصحابة بعضهم لبعض عما أنزل من آيات القرآن .
الثالث : تدارس الصحابة لآيات القرآن النازلة والتدبر في معانيها ودلالتها .
الرابع : عناية المسلمين الأوائل بأسباب النزول والأشخاص والوقائع التي نزلت فيها الآية القرآنية .
الخامس : غبطة وسعادة كل مسلم ومسلمة في أجيالهم المتعاقبة عند تلاوة أو سماع الآية القرآنية .
صحيح أن كل آية قرآنية نزلت في ساعة مخصوصة ، وكان جبرئيل يتدارس مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن كل سنة مرة ، وفي السنة التي غادر فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى دارسة مرتين ، إلا أن طراوة وحلاوة نظم ومعاني الآية القرآنية متجددة في كل زمان ، وحتى المسلم الواحد يشكر في كل مرة يسمع فيها الآية القرآنية أنه يسمعها لأول مرة ، وهذا الشعور من رشحات وأسرار التنزيل ، ومن مصاديق الإعجاز الغيري للقرآن .
ومنها أن نزول الآية القرآنية مناسبة للشروع بعمل عبادي عام او تشريع نهي خاص ، كما في آية البحث إذ إنها أمرت بكتابة الدَين والقرض والشهادة عليه .
وتنزل الآية القرآنية بحرمة الربا وإسقاط ما بقي من الفوائد الربوية ، وبذات نداء الإيمان والأمر بتقوى الله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا ] ( ).
ونزلت هذه الآية في بني عمرو بن عوف من ثقيف وبني المغيرة من بني مخزوم .
فكان لمسعود بن عمرو الثقفي ولإخوته ربا عند بني المغيرة بن عبد الله ، فلما دخل الفريقان الإسلام ، طالبت ثقيف بارباحها الربوية ، فقال بنو المغيرة وهم قوم خالد بن الوليد ما تعطي الربا في الإسلام ، فاختصوا إلى أمير مكة الذي نصبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت الآية أعلاه( ) فكتب النبي صلى الله عليه وآله إليهم بواسطة أمير مكة عتاب بن أسيد بلزوم ترك الربا كما سيأتي بيانه بعد صفحات .
وقد تكون أسباب النزول رسالة أو كتاب يأتي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه بيان وتثبيت للأحكام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )ليكون لزوم قيام الحكام باقرار هذا الحكم وإتخاذه فيصلاً ، فقد يحرص المربي على أخذ الفائدة كونها شرطاً في العقد , وتمت برضا آكل مال الربا .
وورد عن السدي خبراً أخر بأن (نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ، ورجل من بني المغيرة ، كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى ناس من ثقيف من بني ضمرة وهم بنو عمرو بن عمير ، فجاء الإِسلام ولهما أموال عظيمة في الربا ، فأنزل الله { وذروا ما بقي } من فضل كان في الجاهلية { من الربا })( ) وعنه نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية (يسلّفان في الربا إلى بني عمرو بن عمير ناس من ثقيف ولهما أموال عظيمة في الربا،
فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم «وإنّ كلّ ربا من ربا الجاهليّة موضوع وأوّل الربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطلب .
وكلّ دم من دم الجاهليّة موضوع وأوّل دم أضعه دم ربيعة بن الحرث ابن عبد المطلب كان مُرضعاً في بني ليث قتله هذيل) ( ).
وعن عطاء : نزلت هذه الآية في العباس بن (نزلت هذه الآية في العبّاس بن عبد المطلب وعثمان بن عفّان وكانا قد أسلفا في التمر،
فلما حضر الجداد قال لهما صاحب التمر : لا يبقى ما يكفي عيالي إن أنتما أخذتما حقّكما كلّه فهذا لكما أن تأخذا النصف وتؤخّرا النصف وأضعف لكما فقبلا،
فلمّا جاء الرجل طلبا الزيادة،
فبلغ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنهاهما وأنزل الله هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما.)( ).
ولا تعارض بين هذه الأخبار ، ويمكن الجمع بينهما من وجوه :
الأول : الربا معاملة شائعة بين قريش وثقيف .
الثاني : وجود أعناب وبساتين لقريش في مدينة الطائف وهي مسكن ثقيف والتي تبعد عن مكة نحو ثمانين كيلوا متراً
الثالث : كانت قريش تشتري الثمار والحبوب من ثقيف بالسلف، وكان العباس بن عبد المطلب يعصر الأعناب ويضعها في بئر زمزم لتحلية ماءه .
الرابع : كانت قريش أهل تجارة وعندهم أموال كثيرة وهو الذي تدل عليه رحلاتهم المتكررة إلى الشام في الصيف وإلى اليمن في الشتاء لجلب البضائع ، وقد وثقها القرآن لإقامة الحجة عليهم قال سبحانه [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( )، وفيه شاهد على الضرر العام الذي يترتب على الربا من جهات :
الأولى : الحالة الإجتماعية ووقوع عدد من الناس كالأسرى في ديون الربا .
الثانية : الحالة الإقتصادية بتعطيل الأعمال ، وإعتماد صاحب المال على الربح من غير عمل وجهد .
الثالثة : إنشغال طائفة من المسلمين بمضاعفة الديون عليهم ، وقد يتخلفون عن الجهاد ويقصرون في المرابطة ومدتها .
الرابعة : تعطيل القرض وما فيه من الثواب العظيم ، وقد تقدم الخبر عن عمرو بن الأحوط انه شهد حجة الوداع فقال(ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع ، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، وأول ربا موضوع ربا العباس)( ).
الخامسة : كثرة الخصومات والخلافات بين المسلمين بعضهم مع بعض وبين المسلمين وغيرهم ، وقد أراد الله عز وجل لهم التفقه في الدَين وأداء الفرائض العبادية ليكون النهي عن الربا من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] ( ) لأن معاملات البيع والشراء والقرض من السلم , أما الخلاف والشقاق فيأتي بالعرض كما في فرض زيادة ربوية على القرض .
ومن الآيات أن المسلمين يتلون الآية القرآنية ويستحضرون أسباب نزولها فيتدبرون من معانيها ، ويتقيدون بأحكامها ، وتكون قريبة منهم عند الإبتلاء بذات موضوع الآية .
حكم كتابة الدَين
ويحتمل قوله تعالى[فَاكْتُبُوهُ] وجوهاً :
الأول : إرادة وجوب كتابة الدَين والقرض بعد لفظ (فاكتبوه) على الوجوب وهو الأصل في الأمر .
الثاني : الإستحباب والندب في كتابة الدَين، للقرائن وبه قال أبو سعيد الخدري والحسن البصري .
ولأن القدر المتيقن من الكتابة هو الوثوق، والمنع من النسيان .
الثالث : نسخ وجوب الكتابة، بقوله تعالى[فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا]( ).
والمختار أن الكتابة مستحبة , وقد تكون واجبة بالعرض والعنوان الثانوي , وهناك صور يكون فيها شهود متعددون بما يمنع من الإخفاء أو التستر والنسيان ونحوه .
وهل يمكن تأسيس قسم جديد من أقسام الأحكام التكليفية وهو البرزخ بين الوجوب والندب الجواب لا دليل عليه وقد قال بعض الأصوليين بتقسم الوجوب الى قسمين :
الأول : الفرض.
الثاني : الواجب.
ويدل الأمر الإلهي (فاكتبوه) على إرتقاء المسلمين إلى مرتبة الأمة التي تكتب وتوثق، وهو من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإذا كان الدين والقرض يكتب كثيراً كان أو قليلاً فمن باب الأولوية القطعية أن تكتب وتوثق آيات القرآن، وتكتب السنة النبوية القولية والفعلية، وهو من الآيات في علوم القرآن.
ويدل الأمر الإلهي للمسلمين بكتابة الدَين على أمور :
الأول : أهلية المسلمين للكتابة والتوثيق وتحريهم الدقة والضبط في الكتابة.
الثاني : تقيد المسلمين بأحكام وآداب كتابة الدَين.
الثالث : عدم إستكبار المسلمين أو بعضهم عن كتابة الدَين ومقدار القرض .
الرابع : ضبط المسلمين للمواقيت والآجال، لتكون كتابة الدَين من مصاديق قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ]( )، وتقدير الآية : قل هي مواقيت لكم والآجال ديونكم بلحاظ أن المسلمين شطر من الناس.
الخامس : عزم المسلمين على التقيد بآجال الديون، من غير تسويف.
السادس : تنمية ملكة التوثيق عند المسلمين، وكتابة عقود البيع والشراء وما فيه قبول وإيجاب، وكذا بالنسبة للإيقاعات من طرف واحد، كالوقف والطلاق، والهبة على القول بكفاية الإيقاع بالهبة وعدم إشتراط قبول الموهوب له لقاعدة السلطنة وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم :الناس مسلطون على أموالهم، ولأن رفض الموهوب له الهبة , إذا تم فهو أمر آخر خارج موضوع الهبة لا يتحقق معه إنتقال للمال والعين الموهوبة.
ويتوجه الأمر بكتابة الدَين إلى كل من :
الأول : الدائن الذي يقرض غيره.
الثاني : المدين الذي تشتغل ذمته بالدَين .
الثالث : الشهود على الدَين لإعانتهم , ولا تختص الشهادة بالدَين لقوله تعالى في آية البحث [وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ]( ).
وفي كتابة الدَين أطراف:
الأول : الذي عليه الدَين، إذ ذكرت آية البحث أنه هو الذي يملي مقدار الدَين الذي عليه، وأوان قضائه.
الثاني : الدائن الذي له المال، فلابد أن يكون حاضراً عند كتابة الدَين أو أنه يطلع عليه أوان القرض أو إستدامته، للمنع من الإضرار بسبب آفة النسيان.
الثالث : الكاتب الذي يكتب الدَين، ومن أعجاز الآية ورود مادة (كتب) فيها تسع مرات، منها ثلاث مرات بلفظ (كاتب) ولم يرد لفظ كاتب في أي آية أخرى من القرآن , وورد بصيغة النصب ( كاتباً ) في الآية التالية , ولم يرد في غيرها , لبيان موضوعية الكتابة في العقود , قال تعالى ( اوفوا بالعقود ) .
الرابع : الشاهد المتعدد لقوله تعالى في آية [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ]( ).
الخامس : الولي على فرض قصور المدان أو كان ضعيف العقل أو عاجزاً عن إملاء مقدار الدَين وهل يدخل المترجم مع الولي في قوله تعالى[فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ]. الجواب لا، للتباين بين الولاية والترجمة.
تسمية شهر رجب( )
قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ] ( )
والأشهر الحرم أربعة هي رجب منفرد , وشهر ذو القعدة وذو الحجة ومحرم سرد متصلة .
وجمع رجب أرجاب ورجبات .
وكان العرب أيام الجاهلية يعظمون هذا الشهر ويحرمون فيه القتال والإغارة والقتل ، وسموّه رجب لأنه يرجّب أي يعظم والأرجح أن تعظيم العرب لشهر رجب من بقايا حنيفية ابراهيم لأنهم ذوو شدة ويرغبون بالثأر على نحو القضية الشخصية والعامة ، كما لو قُتل من القبيلة أحد أبنائها ، فانهم يطلبون أي فرد من قبيلة القاتل وكذا بالنسبة للغزو وإذا حانت لهم فرصة يحرصون على عدم تضييعها , ولكنهم يتقيدون بحرمة شهر رجب فلا يثأرون .
ويدل على هذا المعنى إخبار الآية أعلاه بتقييد عدة الشهور بأنها عند الله وان أربعة حرمة عنده سبحانه مما يدل على أمور :
الأول :عدم النسخ في عدد الشهور .
الثاني : إستدامة حكم الأشهر الحرم إلى يوم القيامة .
الثالث : حرمة النسئ ، قال تعالى [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ]( ) أي كانوا في الجاهلية يؤخرون في الحرمة من الشهر الحرام إلى شهر آخر وهو تحريف وتبديل لحكم الله أو أنهم يؤخرون السنة أحد عشر يوماً ، فيكون محرم في شهر صفر ، ويتأخر الحج كل سنتين شهراً وكان الذي يناديه بالنسئ في الموسم من بني كنانة وقال شاعرهم :
ألسنا الناسئين على مَعَدٍّ … شهور الحل نجعلُها حَراماً ( ).
وحج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شهر ذي الحجة فقام خطيباً في الناس [ في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال : أيها الناس إن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ، أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم] ( ).
ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم منع التحريف في أفراد الزمان وحساب الشهور والأيام , وحتى يومنا , ويومكم هذا , وهل فيه دلالة بالأولوية على سلامة القرآن من التحريف , الجواب نعم .
والنسبة بين الأشهر الحرم وأشهر الحج هي العموم والخصوص من وجه فمادة الإلتقاء شهرا ذي القعدة وذي الحجة فكل واحد منهما من الأشهر الحرم ومن أشهر الحج .
أما مادة الإفتراق فهو شهر رجب ومحرم من جهة الأشهر الحرم , وشهر شوال الذي هو من أشهر الحج وليس من الأشهر الحرم ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ] ( ).
الرابع : عدم وجود إستثناء أو حالة خاصة تخرج بالتخصص أو التخصيص عن الإطلاق في حرمة الأشهر الأربعة وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ويدل على هذا المعنى أن حرمة هذه الأشهر من أيام نبوة إبراهيم عليه السلام تسمية شهر رجب (رجب مضر) لأن قبيلة مضر كانت تعظمه وتبالغ في صيانته من التعدي والظلم ، ومضر الجد السابع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو مضر بن نزار بن مَعد بن عدنان ، ويرجع نسب عدنان إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام .
ومن أسماء شهر رجب :
الأول : رجب منصل الأسنَة .
(وعن مهدي بن ميمون ، قال : سمعت أبا رجاء العطاردي ، يقول : لما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمعنا به لحقنا بمسيلمة الكذاب لحقنا بالنار ، قال : وكنا نعبد الحجر في الجاهلية ، فإذا وجدنا حجرا هو أحسن منه نلقي ذاك ونأخذه ، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من تراب ، ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه ، ثم أطفنا به قال : وكنا في الجاهلية إذا دخل رجب نقول : جاء منصل الأسنة( ) لا ندع حديدة فيها سهم ولا حديدة في رمح إلا انتزعناه فألقيناه) ( ) .
الثاني : الحرم لحرمته من قديم الزمان .
الثالث : المقيم لثبوت وإستدامة حرمته .
الرابع : المصلى لعلو شأن شهر رجب بين الشهور .
الخامس : الشهر المفرد لأنه شهر حرام لا يتصل به شهر حرام آخر ، بخلاف الثلاثة الحرم الأخرى ، إذ أنها متصلة يتعقب أحدها الآخر ، وذات التسمية له في الإسلام .
السادس : العتيرة لأن العرب كانت تذبح فيه ذبيحة تسمى العتيرة, وتعتر أي تذبح , وتسمى أيضاً الرجبية وقد أبطلها الإسلام ، عن نبيشة ، قال : سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية فمن رجب فما تأمرنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذبحوا لله في أي شهر ما كان وبروا لله وأطعموا( ).
السابع : المبري .
الثامن : المعشعش .
التاسع : الأصم ، لأن العرب لا يسمعون فيه قعقعة السلاح ، ووردت ذات التسمية على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص شهر ذي الحجة ( )، وبالإسناد عن أبي سعيد الخدري قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا إن رجب شهر الله الاصم، وهو شهر عظيم، وإنما سمي الاصم لانه لا يقارنه شهر من الشهور حرمة وفضلا)( ).
العاشر : الأصب لأن رحمة الله تصب فيه .
الحادي عشر : الشهر الحرام لحرمته .
الثاني عشر : رجم : لأن الشياطين ترجم فيه .
الثالث عشر : مفصل الآل ، أي الجواب عن الأعشى في ديوانه .
الرابع عشر : رجب لتعظيمه وترك القتال فيه .
الخامس عشر : رجب مضر ، وقد تقدم بيانه .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخل رجب قال : أللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان .
ونقل عن ابن حجر تقسيمه الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فضائل شهر رجب إلى قسمين :
الأول : الأحاديث الضعيفة : وعددها أحد عشر حديثاً .
الثاني : الأحاديث الموضوعة وعددها واحد وعشرون حديثاً .
ومن الضعيفة : أن في الجنة نهر يقال له رجب .
ومنها رجب شهر الله وشعبان شهري ورمضان شهر أمتي .
(وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق الزهري عن عروة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية من المسلمين ، وأمر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي ، فانطلقوا حتى هبطوا نخلة ، فوجدوا فيها عمرو بن الحضرمي في عبر تجارة لقريش في يوم بقي من الشهر الحرام ، فاختصم المسلمون فقال قائل منهم : هذه غرة من عدوّ وغنم رزقتموه ، ولا ندري أمن الشهر الحرام هذا اليوم أم لا .
وقال قائل : لا نعلم اليوم إلا من الشهر الحرام ولا نرى أن تستحلوه لطمع أشفقتم عليه ، فغلب على الأمر الذين يريدون عرض الدنيا فشدوا على ابن الحضرمي فقتلوه وغنموا عيره .
فبلغ ذلك كفار قريش وكان ابن الحضرمي أوّل قتيل قتل بين المسلمين والمشركين ، فركب وفد كفار قريش حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة .
فقالوا : أتحل القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل الله عز وجل [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ]( )، إلى آخر الآية . فحدثهم الله في كتابه : إن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان ، وإن الذين يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك ، فمن صدهم عن سبيل الله حين يسخمونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكفرهم بالله وصدهم للمسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصلاة فيه ، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين وفتنتهم إياهم عن الدَين ، فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم عقل ابن الحضرمي وحرم الشهر الحرام كما كان يحرمه ، حتى أنزل الله عز وجل [بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ]( ).
وأخرج عن الزهري ومقسم قالا : لقي واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي أوّل ليلة من رجب وهو يرى أنه من جمادى فقتله ، فأنزل الله { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه . . . } الآية . قال الزهري : فكان النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا يحرم القتال في الشهر الحرام ، ثم أحل بعد)( ).
(وأخرج أحمد والباوردي وابن مردويه عن أبي حمزة الرقاشي عن عمه – وكانت له صحبة – قال : كنت آخذاً بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أوسط أيام التشريق أذود الناس عنه فقال : يا أيها الناس ، هل تدرون في أي شهر أنتم ، وفي أي يوم أنتم ، وفي أي بلد أنتم؟ قالوا : في يوم حرام ، وشهر حرام ، وبلد حرام ، قال : فإن دماءكم وأموالكم واعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه .
ثم قال : اسمعوا مني تعيشوا ، ألا لا تتظالموا ألا لا تتظالموا ، إنه لا يحل مال امرىء إلا بطيب نفس منه ، ألا أن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة .
وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب كان مسترضعاً في بني ليث فقتله هذيل ، ألا وإن كل ربا كان في الجاهلية موضوع ، وإن الله قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب ، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض .
ألا وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق الله السموات والأرض ، منها أربعة حرم ذلك الدَين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ، ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، إلا إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكنه في التحريش بينهم ، واتقوا الله في النساء فانهن عوان عندكم لا يملكن لأنفسهن شيئاً ، وإن لهن عليكم حقاً ولكم عليهن حقاً أن لا يوطئن فرشكم أحداً غيركم ، ولا يأذن في بيوتكم لأحد تكرهونه ، فإن خفتم نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وإنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها وبسط يديه .
وقال : اللهمَّ قد بلغت ألا هل بلغت ، ثم قال : ليبلغ الشاهد الغائب فإنه رُبَّ مبلغ أسعد من سامع) ( ).
( وفي خبر ضعيف عن الرضا، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: رجب شهر الله الاصب يصب الله فيه الرحمة على عباده، وشهر شعبان تشعب فيه الخيرات، وفي أول يوم من شهر رمضان يغل المردة من الشياطين ويغفر في كل ليلة سبعين ألفا .
فإذا كان في ليلة القدر غفر الله بمثل ما غفر في رجب وشعبان وشهر رمضان إلى ذلك اليوم إلا رجل بينه وبين أخيه شحناء فيقول الله عز وجل أنظروا هؤلاء حتى يصطلحوا) ( ).
وكان الإمام علي عليه السلام يعجبه أن يفرغ الرجل نفسه أربع ليال من السنة: أول ليلة من رجب، وليلة النحر، وليلة الفطر، وليلة النصف من شعبان)( ) .