المقدمة
الحمد لله العزيز الحكيم الذي بشكره والثناء عليه تتوالى الخيرات وتتم الصالحات وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين .
الحمد لله الذي جعل القرآن ربيع القلوب , وملجأ الخائفين ونجاة للصالحين ، وتفضل وجعل تلاوته أمناً وحرزاً وواقية ، وبحراً للعلوم يغترف منه القارئ والدارس له ، والمذاكر فيه ، والسامع له ، من غير أن يكون هناك حد لنهلهم وإنتفاعهم منه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا] ( ).
الحمد لله الذي جعل بعض آيات القرآن قصيرة وأخرى طويلة ، فهي من الكلي المشكك في الطول أو القصر من حيث عدد كلماتها وحروفها في آية لم ترق عقول البشر إلى الإحاطة باسرارها وعلومها ، من غير أن يمنع هذا العجز العلماء عن التحقيق فيها ، وقد جاء الجزاء السابق في تفسير شطر من آية الدَين التي هي أطول آية في القرآن ,وعدد كلماتها مائة وثمانية وعشرون كلمة ، وعدد حروفها خمسمائة وأربعون حرفاً ، وفيها ثلاث وثلاثون ميماً).
ليكون مجموع كلماتها أكثر من ثلاث سور مجتمعات هي سورة الكوثر ، سورة النصر ، سورة العصر ، مع أن كل سورة منها تتألف من ثلاث آيات .
وجاء موضوع آية الدَين في مسألة قد تحدث في حياة المسلم ، بأن يكون طرفاً في التداين من جهات :
الأول : يكون المسلم دائناً .
الثاني : يكون المسلم مديوناً .
الثالث : يطلب من المسلم أن يكون كاتباً لعقد الدَين .
الرابع : يكون المسلم شاهداً على الدَين .
الخامس : تجلي معاني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياة المسلم لإصلاح معاملة التداين ، والمنع من الشطط فيه ، وفي التنزيل قال تعالى [يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى] ( ) فقد لا يكون المسلم طرفاً في معاملة تداين ، ولكنه يكون ساعياً فيها من جهات :
الأولى : تيسير أمر الدَين بين المسلمين .
الثانية : بيان موضوعية التداين بين المسلمين .
الثالثة : الحث على التداين والإقراض بين المسلمين .
الرابعة : الدعوة إلى كتابة الدَين وعدم التفريط فيها ، وهو الذي يتجلى بقوله تعالى [فَاكْتُبُوهُ] لتوجه الخطاب في الآية إلى جميع المسلمين والمسلمات وإن كانت القضية شخصية لقوله تعالى [فَاكْتُبُوهُ] إذ يتوجه الأمر في الآية لعموم المسلمين والمسلمات بدليل واو الجماعة فيه ، ومجئ المفعول به بصيغة المفرد في الدَين ، والضمير الهاء .
فلم تقل الآية (إذا تداينتم بديون فأكتبوها ) وهو من إعجاز القرآن وبعث التعاون والمناجاة بين المسلمين بالحق والهدى والصلاح في المسائل الشخصية ، إذ أن القضايا الشخصية إذا تترك وتعمل تكون كالعادة والسجية الأجانب فوات الثواب فيما يخالف أحكام الشريعة فيها ، وترتب الأذى عليها ، فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعاون الأمة في المسألة الخاصة التي تتعلق بفرد واحد أو فردين أو أفراد متعددين منهم .
ويكون تقدير آية الدَين بصيغة المفرد على وجوه :
الأول : يا أيها الذي آمن إذا داينت .
الثاني : يا أيها الذي آمن إذا تداينت .
الثالث : يا أيها الذي آمن إذا كتبت الدَين .
الرابع : يا أيها الذي آمن إذا شهدت على الدَين .
الخامس : يا أيها الذي آمن أأمر بالمعروف وأنه عن المنكر في الدَين والقرض.
وتفيد الآية معنى التعدد والغيرية بين طرفي الدَين ، والكاتب ، والشاهدين , إلا أن يدل دليل على قيام أحد طرفي الدَين بكتابته أو شهادة الكاتب , قال تعالى[وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( ).
الحمد لله العفو الذي ليس لعفوه حدّ أو منتهى ، وهو واسع المغفرة الذي يغفر كل الذنوب بمشيئته والذي إقترنت رحمته وعظيم عطائه بمغفرته ، فيجتهد العبد بالإستغفار ، ويرجو محو خطيئته فيتفضل الله عز وجل بالعفو عنه والإحسان إليه ، والإغداق عليه بشآبيب الرحمة بما ينسيه ذنبه وأثره ، ولكنه ليس نسيان إهمال وتقصير ، بل هو نسيان محمود , ومن فضل الله عز وجل للبحبوحة في رياض جزائه العاجل ، وبشارات الثواب العظيم الآجل .
الحمد لله الذي أبى إلا أن يخضع له كل شيء وتتصاغر لفطرته الجبال والأرضين ، صاحب الجبروت والكبرياء الذي يعلم ما في أعماق البحار وباطن الأرض ومنافع ذرات الهواء .
الحمد لله الذي يهدي من يشاء إلى سواء السبيل , لتستديم الحياة ويكون مصير المؤمنين من الأجيال المتعاقبة إلى الجنة خالدين فيها ، وتفضل وجعل كل آية من القرآن من مصاديق الصراط المستقيم ، وطريقاً للنجاح والفلاح .
الحمد لله الذي هدانا للدعاء ، وهو الذي يحب من دعاه ويستجيب لمسألته ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) ليكون كل من الدعاء والإستجابة له زيادة في الإيمان , وثقلاً في الميزان .
الحمد لله حمداً يغبطنا عليه الأولون والآخرون ، ويصاحبنا في كل ساعة من حياتنا ويلازمنا في القبر ، ويكون واقية من الخوف والفزع في يوم المحشر.
الحمد لله الذي جعل الحمد والشكر له واجباً عينياً على كل إنسان ، ثم تفضل وهدى الناس إليه ليفتح لهم أبواباً غير متناهية من الحمد كل باب يأتي فيه ومعه الرزق الكريم ، والسلامة والأمن وييسر لهم أمورهم , ويجذبهم إلى سبل الرشاد , وإلى الصراط المستقيم وسبل النجاة .
(وروي أنه نزل قوله تعالى [لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ]( )، فقال أبو جهل : هذا أمر قد وكل إلينا ، فإن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، فنزلت [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ]( )، يقول الله تعالى : يا ابن آدم تريد وأريد فتتعب فيما تريد ولا يكون إلا ما أريد)( ).
الحمد لله الذي أنعم علينا بصدور الجزء السابق وهو السادس والثلاثون بعد المائة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن ) وجاء في نداء الإيمان من الآية الثانية والثمانين بعد المائتين من سورة البقرة وهي أطول آية في القرآن ،وقد خصها المسلمون ومنذ أيام التنزيل باسم خاص بها وهو آية الدَين لأنها تضع القواعد والضوابط التامة للتداين والقرض بين المسلمين ، وهذه التسمية شاهد على تفقه المسلمين في أحكام الشريعة ومعرفتهم بخصائص آيات القرآن .
وأنعم الله عز وجل علينا ببيان لخصال التقوى التي يترشح التداين بين المسلمين عنها , والتي تترشح عن ذات التداين من غير أن يلزم الدور بينهما .
وتتضمن الأجزاء (135-136-137 ) بياناً لذخائر آيات النداء ، أي الآيات التي إبتدأت بـ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]وأسرار وروده فيها ، وبعثه المسلمين للعمل بمضامينها ، والأحكام الواردة فيها ولم تذكر موضوعيته في الآيات المعطوفة عليها ويرد في باب تفسيرها بالذات إن شاء الله .
وجاء هذا الجزء في تتمة بيان شذرات من كنوز نداء الإيمان في آية الدين ، ومعاني التقوى التي تندب المسلمين إليها ، وما دفعته هذه الآية من الأضرار الفادحة عن المسلمين ، وكل جملة من هذه الآية روضة ناضرة ينبعث منها طيب الترغيب بالعمل بأحكامها ، وتدعو للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيها من الإعجاز الذاتي والغيري ، ومنه ملائمتها لكل الأزمنة ، وأحكامها فوق العادات والأعراف ، والنزعات النفسية ، وهي قاهرة للتفريط والتعدي مجتمعين ومتفرقين ز
فقد ينوي أحد طرفي القرض التفريط كالمقترض ، والآخر يريد التعدي ، فجاءت الآية مانعة منهما معاً ، وهي تملي عليهما إتباع نهج الحق ، ليذوقا حلاوته ، ويشكرا الله عز وجل على منعهما من التفريط وضرره على صاحبه وعلى الطرف الآخر ، وكذا بالنسبة للتعدي ، ومن أسرار التكامل في الشريعة الإسلامية منع مقدمات الخلاف والخصومة في العقود والإيقاعات وسائر المعاملات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] ( ) .
ومن خصائص آية الدَين أنها وسيلة سماوية لإكتناز الصالحات من جهات :
الأولى : تلاوة آية الدَين .
الثانية : عمل المسلمين بأحكام آية الدَين .
الثالثة : مناجاة المسلمين وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بخصوص آية الدَين .
الرابعة : إتخاذ المسلمين آية الدَين واقية من الربا ، وسلاحاً لإستئصاله من الأرض ، وقد يأتي الربا بالإحتيال والتعامل والصيغ الوضعية وأنظمة المصارف ذات الربح الفاحش ، ولكنها لن تستمر ، فآية الدَين حصانة للمسلمين وهي باقية إلى يوم القيامة تفضح الربا , وتحذر وتمنع منه .
وعن أبي هريرة قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليأتين على الناس زمان لا يبقى أحد إلا أكل الربا ، فمن لم يأكله أصابه من غباره) ( ).
الخامسة : العمل بمضامين آية الدَين باب للثواب وجني الحسنات بالإمتثال لما فيها من سبل الصلاح ، ومن ذات التداين ، ونفعه وأثره, منها :
الأول : تلقي نداء الإيمان بالقبول والرضا والشكر لله عز وجل لما فيه من الشهادة للمسلمين بالإيمان , ومن خصائص هذه الشهادة العظمى إنتفاع المسلمين منها في الدنيا والآخرة ، وحضورها معهم في مواطن الآخرة ، ودفاعها عنهم .
وهل يجني المسلمون الحسنات من هذه الشهادة ، أم أن طريق جني الحسنات محصور بفعل العبد .
الجواب هو الأول ، وهذه آية في رحمة الله عز وجل بأنه يشهد للأنبياء والمؤمنين من المسلمين والأمم السابقة ليفوزوا بالثواب العظيم ، وسيبقى نداء الإيمان تزكية للمسلمين ، وتطهيراً وتنزيهاً لهم, ودعوة لهم لإجتناب الغيبة والإفتراء فيما بينهم .
وفي التنزيل [وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا] ( ).
الثاني : لقد فتح الله عز وجل للمسلمين بالتداين باباً للثواب العظيم من جهات :
الأولى : الأجر والثواب في الإقراض .
الثانية : الثواب في كتابة الدَين ، وهي من وجوه :
أولاً : التطوع لكتابة الدَين .
ثانياً : توثيق الدَين وتيسيره ، فقد يمتنع صاحب المال عن الإقراض في حال عدم كتابة ما له من الحق على المدَين .
ثالثاً : كتابة الدَين وشرائطه وتفاصيله بالعدل ومن غير زيادة أو نقصان ، وهل ينخرم من ثواب الكاتب شيء إذا كانت كتابته للعقد بأجرة وبدل ، الجواب لا، لأن تحري العدل والتنزه عن التحريف علة للثواب ، ليكون من إعجاز الآية أن الله عز وجل فتح للمسلمين باب التداين ، فصار سبباً لإستدامة المودة بين المسلمين ولينال أطراف متعددة الثواب فيه .
الثالثة : تنجز الثواب بالشهادة على الدَين ، وهو ثواب عظيم لما فيه من قيد العدالة ، ولزوم أداء الشهادة بالعدل ، وعدم التبديل والتحريف فيها .
الرابعة : مجئ الثواب للمدين عند الوفاء بالدَين في أجله ، و(عن انس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق( ).
ويستحب الدعاء لقضاء الدَين في حال ترتب الدَين في الذمة أو عدمه لأنه حسن في كل الأحوال ، وعن أبي سعيد الخدري قال (دخل رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم ذاتَ يَوم المسجدَ ، فإذا هو برجلٍ من الأنصار يقال له : أبو أُمامة – جالسا فيه ، فقال : يا أبا أُمامةَ ، مالي أراك جالسا في المسجد في غَير وقتِ صلاة ؟ قال : هُمُومٌ لَزِمَتْني ودُيُونٌ يا رسولَ الله .
قال : ألا أُعَلِّمُك كلاما إذا قلتَه أذْهَبَ الله عز وجل هَمّكَ ، وقضى عنك دَيْنك ؟ فقال : بلى يا رسول الله
قال : قل – إذا أصبَحتَ وإذا أمسَيْتَ – : اللَّهمَّ إني أعوذ بك من الهَمِّ والحَزَنِ ، وأعوذُ بك من العجْزِ والكَسَلِ، وأَعوذُ بك من البخْلِ والجُبْنِ ، وأعوذ بك من غَلَبَةِ الدَّيْنِ وقَهرِ الرجال ، فقلت ذلك ، فأَذهَبَ الله همِّي ، وقضى عني دَينْي) ( ).
وورد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قَالَ مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّاهَا اللَّهُ عَنْهُ , وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ) ( ).
الثالث : تدل شهادة الله عز وجل للمسلمين بالإيمان على حقيقة وهي أنهم يقرضون المال قربة إلى الله عز وجل , ويأخذه المقترض لينفقه في طاعة الله , ولا عبرة بالقليل النادر .
الرابع : يجتهد المدين بالدعاء وسؤال قضاء الدَين ، وهذا الدعاء من أسرار آية الدَين , وما فيها من الترغيب بالتداين بين المسلمين ، والدعاء للإقراض والإقتراض وقضاء الدَين .
ومن سبل تيسير قضاء الدَين الإستغفار ، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل همّ فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً ، ورزقه من حيث لا يحتسب) ( ).
ولم يختص هذا الجزء بآية الدَين ، فقد تضمن بيان موضوعية نداء الإيمان في آيات أخرى , ففيه بيان للإعجاز في نداء الإيمان في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ] ( ).
ومن الإعجاز أن نداء الإيمان ورد في سورة آل عمران سبع مرات وبدأ بالآية المائة منها ، وهي الآية أعلاه لبيان صيرورة المسلمين أمة عظيمة تخالط أهل الملل الأخرى من اليهود والنصارى وغيرهم ، فاذ جاءت هذه الآية بتحذير المسلمين من طاعة أهل الكتاب الذين هم أقرب الناس لهم ، فمن باب الأولوية لزوم إجتنابهم طاعة الذين كفروا .
وقد ورد النهي عن طاعتهم على نحو الخصوص بقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( ) وقد تقدم تفسير هذا الآية في الجزء الواحد والعشرون بعد المائة ، وسيأتي بيان موضوعية نداء الإيمان فيها في جزء لاحق من هذا التفسير إن شاء الله .
ولما أثنى الله عز وجل على المسلمين وجعلهم [ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) فانه أراد منهم حصر طاعتهم بأن تكون له سبحانه ولرسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه خير الدنيا والآخرة, قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ]( ).
ومن خصائص آيات النداء التي تبلغ تسعاً وثمانين آية كثرة ورود الأمر بتقوى الله فيها، فيرد الأمر بتقوى الله في آية الدين مرتين :
الأولى : الأمر الخاص للمقترض والذي عليه الحق بقوله تعالى[وَلْيَتَّقِ اللَّهَ].
الثانية : الأمر العام للمسلمين بتقوى الله بقوله تعالى[وَاتَّقُوا اللَّهَ] بالإضافة إلى حاجة الكاتب والشاهد للتسلح بالتقوى في كتابة العقد وتحمل وأداء الشهادة، والفترة التي بينها.
وسيأتي الجزء الواحد والأربعون بعد المائة بتفسير الآية (157) من سورة آل عمران بعد أن تضمنت هذه الأجزاء خصوص مضامين آيات النداء .
وأشرق هذا الجزء ببيان معاني نداء الإيمان ورشحاته في ثنايا مضامين قوله تعالى[ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
فجاء الأمر في هذه الآية بتمام التقوى والخشية من الله عز وجل لبيان أن التقوى جهاد في سبيل الله في العبادات والمعاملات وعالم الأخلاق.
الحمد لله الذي أنعم علينا بتوالي صدور أجزاء هذا السِفر الذي لم يرّ التأريخ له مثيلاً، وكله تأويل وإستنباط من ذات آيات القرآن وإستظهار لفرائد من ذخائر القرآن.
لقد شرّف الله عز وجل المسلمين بأن شملهم الخطاب العام للناس بوجوب عبادة الله كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ]( ) ثم تفضل الله سبحانه , ونادى المسلمين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] .
ترى هل النسبة بين الندائين هي العموم والخصوص المطلق , الجواب نعم، فالمسلمون شطر من الناس، ولكن الأمر الأهم في المقام هو بيان إستجابة المسلمين للنداء العام للناس جميعاً بالإيمان وعبادة الله، فخصهم الله عز وجل بالشهادة لهم بالإستجابة والإمتثال للنداء العام، ليكون من معاني نداء الإيمان وجوه :
الأول : الثناء على المسلمين لمبادرتهم للإستجابة لأمر الله بعبادته.
الثاني : دعوة الناس للإقتداء بالمسلمين في إيمانهم.
الثالث : بيان قانون وهو الملازمة بين الإيمان وفعل الصالحات .
الرابع : إستدامة الحياة الدنيا ببركة المسلمين وعبادتهم لله عز وجل، بلحاظ أن العبادة علة خلق الناس لقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، ليبقى نداء الإيمان شاهداً على تحقق مصداق عبادة الله من قبل الإنس، مع العقاب الأليم للذين يتخلفون عن الإيمان .
وإبتدأ هذا الجزء بتتمة تفسير ودلالات نداء الإيمان في آية الدَين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ]وما يترشح عنها من مصاديق التقوى وشواهد الخشية من الله في البيع والشراء والإقتراض وعالم الأسواق ، وبما يفيد الصلاح والرشاد .
وهذه الآية مدرسة في فقه المعاملات , وبرهان على صدق نزول القرآن من عند الله لأنها آلة سماوية لضبط الأسواق وتنظيم أمور المعاشات ودفع الحرج ورفع الغفلة ،وقد خصّ الله بها أهل الإيمان لأنها نعمة عظيمة ، ولكنها لم تحتجب وبركاتها عن عموم أهل الأرض ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
فصحيح أن الآية نزلت بالنداء للمسلمين وبعثهم على العمل بمضامينها بدليل أنها مع طولها وكثرة كلماتها إتصفت باتصال ذات صيغة الخطاب العام للمسلمين .
الحمد لله الذي جعل أجزاء التفسير تترى، وترى النور تباعاً وعلى نحو التوالي والتعاقب وأسالكم الدعاء في صدور الأجزاء بعلوم مستحدثة , وفي التنزيل[قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ]( ).
ومن فضل الله أني أقوم بنفسي بالتأليف والمراجعة والتصحيح، في سفر التفسير هذا وكتبي الفقهية والأصولية مع مواصلة البحث الخارج اليومي على فضلاء الحوزة العلمية يساعدني ولدان لي في التنضيد باتصال الليل بالنهار والتداخل بينهما في العمل , أسأل الله عز وجل القبول والأجر والثواب .
حرر في 18/ 5 / 2016
تجلي التقوى في آية الدَين
يطل علينا في هذا الجزء قانون عام وهو ( أن كل آية قانون في التقوى ) ( )، لبيان حقيقة وهي أن كل آية قرآنية دعوة للتقوى وشاهد على تقوى المسلمين ، وهي صرح يجذب الناس إلى الإسلام ويبين لهم سنن التقوى ويحببها إلى نفوسهم ، ونرتع في رياض آية الدَين من سورة البقرة( ) كشاهد على بعث الآية القرآنية على التقوى من وجوه :
الوجه الأول : إبتداء الآية بنداء الإيمان , وهو دليل على بلوغ المسلمين درجة الإيمان التي هي مقدمة للتقوى وشاهد عليه ، فان قلت بعد أن وصفت المسلمين بالذين آمنوا أمرتهم بتقوى الله بقوله تعالى في خاتمة ذات الآية [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ]مما يدل على أن التقوى مرتبة أعلى من الإيمان .
والجواب هذا صحيح ،ولكن التقوى تنبسط على حياة المسلم في نهاره وليله ، وفي عباداته ومعاملاته ، ففي كل ساعة يحتاج التقوى ويلزمه التقيد بسننها ، فكأن الآية تقول للمسلمين : يا أيها الذين آمنوا لقد اتقيتم الله فواظبوا على التقوى .
إن دخول المسلم في الإسلام من مصاديق التقوى , وشاهد على الدخول في منازل التقوى ، وتقدير فاتحة الآية بلحاظ التقوى على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا بوجوب التقوى والخشية من الله عز وجل .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا تعاهدوا التقوى فانها سبيل النجاة .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا أشكروا الله إذ فزتم بمرتبة التقوى مع توجه الخطاب والأمر بها إلى جميع الناس وفي كل الأزمنة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ] ( ).
ويحتمل الأمر في الآية أعلاه من حيث متعلقه والجهة التي يتوجه إليها وجوهاً :
الأول : إرادة المسلمين والمسلمات ، وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا اتقوا ربكم ) إذ يخاطب القرآن المسلمين ويأمرهم بالتقوى والتفاني في مرضاة الله ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوصي المسلمين بتقوى الله في كل خطبة يخطبها ، ويبين مصاديق التقوى ، وأنها تشمل العبادات والمعاملات ، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال (اتقِ الله حيثما كنت ، وأتبعِ السيئة الحسنة تمحُها ، وخالقِ الناس بخلق حسن) ( ).
الثاني : المقصود الناس أيام البعثة النبوية ، إذ تدعو الآية كفار قريش إلى الخشية من الله ونحوهم الكف عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد تجلي معجزاته خاصة وأنهم أهل ومجاوروا البيت الحرام ، وبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من بين ظهرانهم ومن أوسطهم وأشرفهم بيتاً ونسباً .
(عن ابن عباس قال : استقبل أبو سفيان في منصرفه من أحد عيراً واردة المدينة ببضاعة لهم ، وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبال فقال : إن لكم عليّ رضاكم إن أنتم رددتم عني محمداً ومن معه ، إن أنتم وجدتموه في طلبي أخبرتموه أني قد جمعت له جموعاً كثيرة ، فاستقبلت العير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقالوا له : يا محمد إنا نخبرك أن أبا سفيان قد جمع لك جموعاً كثيرة ، وأنه مقبل إلى المدينة ، وإن شئت أن ترجع فافعل . فلم يزده ذلك ومن معه إلا يقيناً { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } فأنزل الله { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا . . . } الآية) ( ).
الثالث : توجه الخطاب إلى أجيال المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً إبتداء من أيام نزول القرآن وإلى يوم القيامة ، لأن القرآن لم يخاطب ويأمر الذين ماتوا قبل نزوله بتقوى الله .
الرابع : إرادة الناس جميعاً من أيام آدم عليه السلام وإلى يوم القيامة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه للإتصال والنسبة الطولية بينها ، لبيان أن الأمر بتقوى الله خطاب يتغشى وجود الإنسان في الأرض ، وهو من أسرار خلافته , فيها فهناك نوع ملازمة بين خلق الإنسان وعمارته للأرض وبين وجوب خشيته وخوفه من الله وطاعته له ، ومن الإعجاز في آية الدَين التأكيد فيها على تقوى الله في مسألة التداين وكتابته وتفصيلاته بالعدل من جهة مقداره وأجله وموعد وفائه ، وفيه مسائل :
الأولى : تنمية وتقوية ملكة التقوى عند المسلمين والمسلمات .
الثانية : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفة قانون وهو أن المعاملات تستلزم التقوى ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الملازمة بين خلافة وعمل الإنسان وبين التقوى .
الصغرى : التداين من سنخية عمل الإنسان .
النتيجة : الملازمة بين التداين والتقوى .
الثالثة : بيان قانون وهو لزوم إستحضار التقوى في كل عمل يقوم به الإنسان ، وهو من أسرار صيغة العموم الإستغراقي في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ] ( ) وتأكيد فوز المسلمين بهذه النعمة وتقيدهم بسنن التقوى في المعاملات .
الرابعة : تجلي طاعة المسلمين والمسلمات لله عز وجل في أداء العبادات والفرائض من باب الأولوية القطعية ، فاذا كانوا يحرصون على طاعة الله والعمل بأوامره في المكاسب , فمن باب الأولوية أنهم يتعاهدون أداء العبادات والفرائض .
وإذا كانت تقوى الله في المعاملات مقدمة لطاعته في العبادات فهل يصح العكس أي أن التقوى من الله في العبادات مقدمة لطاعته في المعاملات , الجواب نعم , من غير أن يلزم الدور بينها , وفيه وجوه :
أولاً : تلك آية في إصلاح الإنسان لعبادة الله ، وبيان قانون وهو أن كل أمر عند الله نوع طريق للإمتثال لغيره من الأوامر القرآنية ، وجاءت قصص ومواعظ القرآن لبعث المسلمين على التقيد بالأوامر والنواهي ، وبعث الرغبة في نفوس المسلمين للعمل بها ، لذا تملأ السعادة والغبطة نفس المسلم عندما يؤدي فريضة أو يبادر إلى فعل مندوب في الشريعة .
ثانياً : تفقه المسلمين في المعارف الإلهية ، وإدراك التداخل بين أحكام الشريعة، وما فيها من المصلحة ودفع المفسدة.
ثالثاً : دعوة المسلمين للتعاون في أداء الواجبات، والمناجاة والإمتثال للأوامر الإلهية، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
رابعاً : بيان قانون من شعبتين :
الأولى : أداء الواجب واقية من فعل السيئات , ونوع طريق لإجتناب الحرام.
الثانية : الإمتناع عما نهى الله عز وجل عنه مقدمة لأداء الواجبات، وهو من الإعجاز في الجمع بينهما الذي يتجلى في قوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الوجه الثاني : يدل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ] على إتصاف المسلمين بالتقوى , ومسارعتهم في مسالكها بالتداين والإقتراض فيما بينهم ، ومن الإعجاز في إبتداء الآية بنداء الإيمان ، بيان صفات وخصائص هذا التداين بأن يكون في مرضاة الله , وعوناً على طاعته , وأداء الواجبات العبادية ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم من غير ربا وفائدة ربوية ) للتنافي بين الإيمان وأكل الربا أو دفع الفائدة الربوية أو كتابة المعاملة الربوية أو الشهادة عليها .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا تداينوا إذا كان تثبيت الإيمان في النفوس يستلزم التداين لأنه حينئذ يكون كالإنفاق في سبيل الله .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا لا تتداينوا بما يخالف وينافي الإيمان مثل التداين في المعاصي وفعل الفاحشة .
ويستقرأ هذا المفهوم من إبتداء آية البحث بنداء الإيمان ، ومن معاني التقوى عدم الإعانة على الإثم وفعل السيئات ، قال تعالى [وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ) والتداين في فعل السيئات من مصاديق الإعانة على الإثم .
ولو أراد شخص الإقتراض بسبب ديون ركبته لفعله الفواحش والإنفاق فيها , فهل يجوز إقراضه ، الجواب إذا كان قد تاب وظهرت توبته وإخلاصه , فيجوز حينئذ إقراضه .
فان قلت لو لم يتب إلى الله ، ولكن عدم إقراضه يؤدي إلى الإضرار به وإيداعه بالسجن مدة سنين طوال وفق قوانين وضعية ، يكون الترجيح حينئذ لدفع المفسدة ، مع موضوعية إمتناعه عن الإجهار بالمعاصي ورجاء توبته .
ومن إعجاز القرآن تضمن كل آية منه إمهال الناس والرفق بهم ، وسترهم ، وعدم فضحهم ، وتدل كل آية من القرآن على لطف الله عز وجل بالناس جميعاً ، ومن أسرار تسمية القرآن كلام الله [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ] ( ) أنه وسيلة سماوية مباركة تجذب الناس إلى مسالك الهدى والإيمان .
فحينما يسمع الكافر آيات القرآن يتدبر في كنهه وأسراره , ويتفكر في الآيات الكونية التي تحيط بهم ، ويبعث القرآن الإنسان على التأمل والتفكر في أسرار آياته .
وكما يفيد إبتداء الآية بنداء الإيمان شرطية التقوى في عقد الدَين والقبول والإيجاب فيه ، فان كل شطر وجملة من آية الدَين تدل على لزوم التقوى ، وصيرورتها سور الموجبة الكلية الذي يحيط بأفعال المسلمين عند الدَين ومقدماته وما بعده .
ولماّ آمن المسلمون بالله ورسوله والكتاب اليوم الآخر تفضل الله عز وجل عليهم بأمرهم بالتداين بينهم ، وبتعليمهم أن هذا التداين يتقوم بوفرة المال عند المسلمين ، بحيث يستطيع بعضهم الإقراض مما هو زائد عن مؤونته ، ولو دار الأمر بين الإنفاق والإقراض فأيهما يقدم ، كما لو كان عند مسلم مبلغ من المال يريد أن يتصدق به صدقة مستحبة ، فجاءه محتاج وسأله أن يقرضه هذا المال , ففيه جهات :
الأولى : دفع النفقه إلى الفقير والمسكين لأنهما أكثر حاجة .
الثانية : تقديم القرض ، لأنه أكثر ثواباً من الصدقة ولأن المقترض يعيد الدَين فينتفع منه مرة أخرى .
الثالثة : ليس من قاعدة كلية في المقام ، فيتعين الراجح والأصلح كحاجة الفقير للصدقة في قوته اليومي .
والمختار هو الثالثة ، وقد يجد الفقير من يتصدق عليه أو العكس يجد طالب القرض والدَين من يقرضه .
ويستطيع المقترض الصبر على القرض والحصول عليه , أما الفقير فلا يقدر على الصبر في طلب القوت , والملاك في الأمر هو التقوى سواء من صاحب المال أو من الفقير والمستدين .
الوجه الثالث : يدل موضوع التداين بين المسلمين على تحليهم بالتقوى وتقيدهم بآدابها لخلوه من الربا والفائدة المحرمة ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وتداينوا بينكم .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم من الربا وأهله ،وحاربوه بالإقتراض بينكم .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا من خصائص المؤمنين التداين بينهم .
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا أشكروا الله على آية الدَين لأنها واقية يومية من الربا ، وهي برزخ دون إدعاء الإضطرار إلى الإقتراض مع الفائدة ، وزاجر لأصحاب الأموال من تقييد الإقراض بالفائدة، ومن مصاديق قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ) أن شكر المسلمين على نعمة الديون سبب لكثرة المال الذي في أيديهم ، وفيه تيسير للإقراض بينهم ووفاء الدَين في أجله .
ولو أراد بعضهم الإقراض بالفائدة فلا يجد من يقترض منه أو أراد المحتاج الإقتراض مع الفائدة فانه يجد من يقرضه قرضة حسنة لا تترتب عليها فائدة أو إرهاق كاهله بأموال زيادة على القرض .
ومن خصائص القرضة الحسنة أنها فرع التقوى ، وشاهد عليه وتثبيت لها في النفوس والمجتمعات ، وبالتقوى يتعاهد المسلمون القرضة الحسنة ، وهي مرآة للتقوى وأمارة عليها ، ووسيلة لتعاهد الفرائض والعبادات ، وعدم الهّم بالفاقة أو الفائدة الربوية .
الوجه الرابع : من علامات التقوى التداين بين المسلمين إلى أجل مسمى من غير أرباح ربوية ، وهو أمر لم يحصل بين الناس ، ليكون خصلة حميدة يمتاز بها المسلمون , وفيه ترغيب للناس بالإسلام , ودعوتهم للهداية والصلاح , بلحاظ كبرى كلية من جهات :
الأولى : تجلي قانون عام وهو أن التداين من غير ربا هداية ورشاد .
الثانية : التداين من غير ربا إمتثال لأمر الله عز وجل , وتنزه عما حرمه , وفي التنزيل[وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ]( ).
الثالثة : فيه صلاح فهو حرب على الربا والشره ، الذي فيه ضرر على المقترض وعائلته .
الرابعة : التداين طريق مبارك لقضاء الحوائج ، وسبيل لنيل الثواب العظيم لأنه فرع التقوى , وبلغة للفوز برضا الله عز وجل .
ترى ماذا لو قالت الآية ( إذا تداينتم بدين فأكتبوه ) أي لم تذكر الأجل وتعيينه , الجواب إنه سبب لإختلال نظام معايش المسلمين والناس جميعاً ، إذ يكون حينئذ الدَين والقرض على وجوه :
الأول : الحاح المقرض من أجل إيفاء دينه بعد حصول القرض مباشرة ، فمثلاً بعد يومين أو ثلاثة يعرّف باللسان أو الفعل لإستيفاء دينه ثم بعدها بأيام يطالب المقرض صراحة ويظهر عقد الدَين .
الثاني : تراخي وتسويف المدين والمقترض ، فحتى لو صار عنده مال يكفي لقضاء الدَين وأمهله الدائن فانه لا يقوم بقضائه .
الثالث : حدوث الخلاف والخصومة بين الدائن والمدين , واللجوء إلى الحاكم لتقديم الشكوى .
وإن كانت الشريعة تتضمن الحكم في هذه المسألة فاذا كان المدين قادراَ على الوفاء فيجب عليه وفي حال العذر فيقدم العمل بقوله تعالى [وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ] ( ).
ليكون ذكر أجل الدَين في آية البحث من التقوى , وواقية مما هو ضد التقوى ومعالم الإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ] الواردة في خاتمة آية الدَين نفسها ، فمن التقوى ذكر أجل الدَين وخلوه من التشديد ومن الجهالة والغفلة ، وليكون التقيد به والوفاء في ذات الأجل من معاني التقوى .
وليكون من تعليم الله عز وجل للمسلمين في المقام وجوه :
أولاً : إشاعة التداين بين المسلمين .
ثانياً : نفي الريب والشك من الدَين في قلوب المسلمين ، فلا يخشى المسلم عدم إيفاء الدَين عند قيامه بالإقراض .
ثالثاً : حث المسلمين على إخراج الزكاة ودفع الحقوق الشرعية لأن سؤال الإقراض شاهد على الحاجة للمال .
رابعاً : إرادة قصد القربة بالتداين ، وهو من التقوى وتجديد المسلم لحبه لله عز وجل .
خامساً : تعليم المسلمين لزوم تعيين أجل الدَين وذكره في العقد من غير إستحياء أو حرج حتى لو كان الدائن غنياً وميسوراً ومبلغ الدَين قليلاً ، أو كان المدَين ذا شأن لا يناسبه أن يُشترط عليه تعيين أجل الوفاء بالدين فذكرت آية البحث تعيين أجل الدَين لرفع الحرج والمنع من الغرر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] ( ) أي ليس في أحكام الشريعة الإسلامية تضييق أو إبتلاء أو فتنة .
سادساً :صيرورة موضوعية للعدل في حياة المسلمين وتحبيب الإنصاف إلى نفوسهم .
سابعاَ : إكرام المسلمين للكاتب العدل والشاهد بالحق ، ليكون من إعجاز آية الدَين تنمية الأخلاق الحميدة عند المسلمين وإشاعة مفاهيم الصلاح بين الناس ، فتأتي ضوابط الكتابة والشهادة على الدَين في آية البحث لتكون العدالة والصدق والوفاء منهاجاً ثابتاً في سيرة المسلمين وصبغة جلية في معاملاتهم .
ومن الإعجاز في شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنطباع النهج الحسن في العبادات على سيرة المسلمين في المعاملات ، وكذا العكس، فان إتباع المسلمين للقواعد الشرعية في المعاملات عون لهم في أداء العبادات باتقان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] ( ) .
فمن كمال الدين إنتفاع المسلمين من معاملاتهم في عباداتهم وإتخاذهم التقيد بأحكام المعاملات وسيلة لتعاهد الصلاة والصيام والحج والزكاة والخمس ، وكذا فان تعاهد العبادات بذات الكيفية التي أمر الله بها وأدّاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم (صلّوا كما رأيتموني أصلّي) ( ) عصمة من الزلل والمعصية والظلم في المعاملات .
ليكون من الإعجاز في أداء المسلمين والمسلمات الصلاة كما أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إصلاح المجتمعات ، وبعث المسلمين للتداين وقضاء الحاجات فيما بينهم ، وصيرورة العدل والشهادة بالحق صبغة دائمة في أعمالهم ، فتكون مقدمة للتقيد بأداء العبادات وفق النهج الصحيح والتام من غير أن يلزم الدور بينهما ، وتعاهد أجل الدَين نوع طريق للتقيد بأوقات العبادات وكيفيتها .
ومما يتفضل به الله في تعليم المسلمين هدايتهم إلى مقدمات الواجب سواء الواجبة منها بالعرض أو المستحبة ، ومنها مقدمات الكتابة بالعدل , وتحمل الشهادة مع العزم على أدائها .
ثامناً : لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بالعقل وجعله آله التمييز بين الحق والباطل ، وهو وسيلة الهداية الذاتية جعله الله عز وجل حجة على الإنسان وسبيلاً لسوقه إلى الجنة والخلود في النعيم ، ومن خصائص العقل الميل إلى العدل والشهادة بالحق والنفرة من الباطل والكذب وشهادة الزور ، وهو من أسرار تفضل الله عز وجل بالنفخ في آدم من روحه ، قال تعالى [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ).
ومن بديع صنع الله الملازمة بين العقل والتقوى ، إذ يقود العقل إلى الإيمان والخشية من الله في السر والعلانية , ويبعث النفرة في النفس من فعل السيئات وإرتكاب المعاصي ومع سطوة العقل وسعة التصور الذهني فانه يتصاغر في طاعة الله ، ويجعل الجوانح والجوارح تتذلل في خشوع لمقام الربوبية ، ليرقى الإنسان في صيغ عبادته لله عز وجل من بين مراتب المخلوقات ، وهو من أظهر الشواهد على أهلية الإنسان للتقيد بسنن التقوى ، لذا يخاطب القرآن أصحاب العقول كما في قوله تعالى [وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ) لبيان موضوعية العقل في إتصاف أفعال العبد بصبغة التقوى .
وأخرج أحمد والبيهقي (عن رجل من أهل البادية قال : أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , فجعل يعلمني مما علمه الله ، فكان فيما حفظت عنه أن قال : إنك لن تدع شيئاً اتقاء الله إلا أعطاك الله خيراً منه) ( ).
والعقل آلة التعليم ووسيلة تلقيه عند الإنسان ، ليكون من تقدير الآية : ويعلمكم الله بعقولكم وليعي المسلمون ما يعلمهم الله عز وجل من الأحكام ، ومنها مضامين آية الدَين التي تتصف بالتعدد والكثرة لذا إبتدأت بنداء الإيمان لتكون موضوعية للعقل في التدبر فيها ، والتقيد بأحكامها .
ويتعلق تعيين آجال الديون بمخاطبة العقول في إختيار الأجل ومعرفة بعده أو قربه بلحاظ حساب الأيام والأشهر والسنوات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ] ( ) .
ومن منافع التداين بين الناس إستحضار يوم الحساب فيما بينهم، فتفضل الله عز وجل وجعل لهم إطلالة القمر ثم إتساعه وصيرورته بدراً وعودته إلى ليالي المحاق وغيبوبته فيها وسيلة لضبط الناس حسابهم والتراضي على أجل معين في الدَين وأوان قضائه .
ويكون هذا التعيين معلوماً عند أطراف الدَين , وهم :
الأول : صاحب المال , وهو المقرِض الذي يحب رجوع ماله إليه في أجله .
الثاني : المقترض الذي إستلف المال ، أو إشترى البضاعة والعين نسيئة .
الثالث : الكاتب الذي كتب عقد البيع أو القرض ، وهل من معاني العدل في قوله تعالى [وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ]إستحضار الكاتب لما كتبه والشهادة عليه عند الحاكم .
الجواب أما الإستحضار ، فلا يجب فهناك مائز بين الكاتب والشاهد ، وأما الشهادة عليه , فالجواب نعم إذ يؤيد الكاتب ما كتبه في حال الخلاف أو الخصومة , وهذه الشهادة والتأييد من مصاديق قوله تعالى [بالعدل] ويكون من وجوه تقدير الآية : وليشهد الكاتب على ما كتبه بالعدل .
الرابع : المدين الذي إقترض المال ، والذي يجب عليه الأداء في الأجل المدون من قبل الكاتب ، والمعلوم من قبل الشهود ، وجاءت آية البحث بتعليم كل واحد من أطراف الدَين بما يجب عليه في حفظ الحقوق .
ومن وجوه التقوى التوافق بين أطراف الدين في معرفة أجل قضائه ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ] أي من غير زيادة أو نقيصة في الأجل لتتغشى التقوى الكتابة والشهادة ، إبتداء وإستدامة .
وإذا كانت هناك ملازمة بين التقوى والعدل , فلابد أن يكون الكاتب مسلماً , والجواب بين التقوى والكتابة بالعدل عموم وخصوص مطلق ، فالتقوى أعم ثم أن الخطاب في الآية توجه إلى المسلمين بلزوم الكتابة بالعدل مما يدل على قيامهم على الكاتب وإطلاعهم على كتابة تفاصيل العقد ، ومنعهم الكاتب من الشطط .
وسيبقى ضبط أجل الدَين وأوان قضاء القرض بين المسلمين من علامات التقوى من جهات :
الأولى : إمتثال المسلمين لأمر الله عز وجل بكتابة وتوثيق الدَين والقرض والسلف .
الثانية : تعاون المسلمين في سبل مرضاة الله , والسعي إلى القرب من رحمته بطاعة أوامره ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
الثالثة : كتابة الدَين بالعدل والحق ، والتنزه عن التحريف والتغيير فيه ، مع غنى المسلمين عن هذا التحريف من وجوه :
الأول : إرادة الدائن قصد القربة إلى الله , وتعاهد طاعته .
الثاني : الأجر والثواب للدائن في القرض , وعند تأخر قضاء الدين .
الثالث : الأمر من الله بكتابة الكاتب تفاصيل وشرائط الدَين بالعدل والحق .
الرابع : السعة والمندوحة للمدين في قضاء الدَين ، فمع العسر يمهل ويوسع في الأجل وموعد القضاء .
الخامس : إرادة الأجر والثواب للكاتب والشاهد بالحق والعدل، لما في الكتابة بالعدل والشهادة بالحق من حفظ للحقوق وصيانة الأموال ، ومنع الغصب والظلم بين العباد .
ليكون من مصاديق خروج المسلمين للناس بلحاظ قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )إرتداء حلية التقوى في الدَين والقرض من وجوه :
الأول : كتابة الدَين مقدمة لمزاولة المسلمين التجارة ، وطلب المكاسب بسنن التقوى والصلاح ، ليكون من المعجزات الحسية المتجددة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إشاعة مفاهيم الصدق والأمانة في الأسواق ، ومنع الغبن أو غمط وتضييع الحقوق، وتتجلى هذه الحقيقة بسلامة أسواق المسلمين من الربا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) لتشع أنوار صحة معاملات المسلمين بين الناس , فتمنع من الفتن بينهم .
الثاني : يبين المسلمون للناس وعلى نحو يومي متجدد أموراً :
أولاً : التقيد بسنن التقوى في المعاملات .
ثانياَ : التقوى ليست مانعاً من الكسب والتجارة ، قال تعالى [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ] ( ).
ثالثاً : مع إختلاف الناس في الملل والنحل فانهم جميعاً محتاجون إلى التقيد بسنن الصدق والأمانة في المعاملات , فجاءت آية الدين لتأكيد تقيد المسلمين بهذه الخصال الحميدة ومقدماتها ، إذ أن الربا المحرم يشمل مقدمات التجارة , وذات التجارة وآثارها ، لبيان أن النهي عنه في القرآن رحمة ونعمة على الناس جميعاً , فاز المسلمون بها ، وهي تدعو الناس جميعاً للنهل والإنتفاع منها ، ولعمومات قوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( ) .
ولم تقل الآية (وأحل الله لكم البيع وحرم عليكم الربا )لبيان قانون وهو أن النعم العظمى التي تأتي من عند الله تتصف بالعموم وتتغشي أهل الأرض ، ومنها الآيات الكونية كما في قوله تعالى [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ (ابراهيم/32) وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ]( ).
وتبين الآيتان أعلاه نِعم عظمى على الناس جميعاً من جهات :
الجهة الأولى : تفضل الله عز وجل بخلق السموات ، وفيه تفصيل, إذ أن خلق كل سماء آية كونية لا يقدر عليه إلا الله عز وجل .
الجهة الثانية : نعمة الله على الناس بخلق الأرض لتكون مادة لخلق الناس وبثهم فيها ، وعمارتهم لها ، وصيرورتها وسيلة للرزق الكريم ، فيأتي لفظ [الأرض] مفرداً متحداً لتكفي لسكن وعيش اللامتناهي من أهل الأرض .
ولو كان أهل الأرض جميعاً من أيام أبينا آدم وإلى يوم القيامة عاشوا في زمان ووقت واحد , فهل تكفي الأرض لأمور :
الأول : إسكان أهل الأرض ، وهو على شعب :
الأولى : سكن أجيال الناس عموماً في الأرض على نحو أفقي وكلهم في طابق أرضي واحد مع التباين في السعة والضيق في السكن بحسب حالهم الواقعية في الدنيا .
الثانية : سكن أجيال أهل الأرض ببناء عمودي في الأرض ، كما هو حاصل في هذه الأزمنة .
الثالثة : إنتقال شطر من أهل الأرض للإقامة في الكواكب الأخرى .
الرابعة : إتخاذ الجبال وسفوحها محلاً لهذه السكنى الإفتراضية .
ويبتنى هذا التقدير على الأولى والرابعة أعلاه .
الثاني : إطعام وإعاشة أهل الأرض جميعاً في زمان واحد .
الثالث : تيسير الحاجات والمنافع للناس من غير الضروريات .
ويمكن تقدير مجموع أهل الأرض من الأجيال المتعاقبة بمئات المليارات من الناس ، بلحاظ أن سكان الأرض في هذه السنين تجاوز سبع مليارات ، وأن النمو العالمي إزداد في النصف الثاني من القرن الماضي .
والجواب أن الأرض مؤهلة لإسكان أجيال الناس كلها في وقت واحد مجتمعين ، وعلى نحو البناء الأفقي ، وهو ظاهر بالنسبة الضئيلة لإعمارهم المدن والقرى .
ولو إحتسبت مساحة المدن والقرى والإعمار من مجموع مساحة الأرض ، مع تقدير البناء العمودي في المدن والبلدان المتقدمة أفقياً بمساحة على الأرض مطابقة لكل طابق على نحو مستقل ، وأن كل فرد يشغل سبع أمتار مربعة .
وهذا الحساب أمر ممكن إجمالاً وعلى نحو التقدير التقريبي وقد يتبين فيه أن الإعمار وبناء البيوت السكنية نحو نسبة الواحد من أربعين ألف من مجموع الأرض ، خاصة مع كثرة الصحارى والجبال غير المأهولة في كل زمان ، مع لحاظ أن أهل الأرض في هذه الأزمنة أكثر بكثير منهم في الأزمنة السابقة وكذا بالنسبة لمعدل أعمارهم ، فان معدل أعمار أهل هذا الزمان هي الأطول بالنسبة لمن قبلهم ز
وفيه برهان على إمكان جمع الله عز وجل الناس يوم الحساب في المحشر .
ويدل قوله تعالى [اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ] على بقائهما ما دامت الحياة الإنسانية وأن الخلائق لو إجتمعت فانها عاجزة عن تغيير وجود أي منهما ، فتفضل الله عز وجل وذَكَر خلقهما وحده لأنه آية كونية مستديمة لا يقدر عليها غيره سبحانه .
ومن الإعجاز في هاتين الآيتين تكرار لفظ [سَخَّرَ لَكُمْ] أربع مرات ، كما ورد الجار والمجرور [لَكُمْ] فيهما مرة خامسة في قوله تعالى [رِزْقًا لَكُمْ] لبيان إكرام الله عز وجل للناس وسعة رحمته بهم مطلقاً .
ولم يذكر الله عز وجل هذه النسبة [لَكُمْ] بخصوص خلق السموات والأرض ، ولم يجعل الإنسان علة خلقهما ، أو خلق أحدهما , فلم تقل الآية : خلق السموات والأرض لكم ) وهو من إعجاز القرآن بأن خلق السموات والأرض أعم في موضوعه وغاياته , منها أن الملائكة والجن خلائق موجودة قبل آدم بآلاف السنين .
ويدل عليه قول الله تعالى للملائكة لما أراد خلق آدم وجعله خليفة في الأرض [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ]( )، وفيه حجة بأن الإنسان لم يخلق إلا في حال قدسية أحاطت به , من جهات:
الأولى : إخبار الله عز وجل لأهل السماء عن خلق آدم، وليس من فرق بين خلق آدم وبين إتخاذه خليفة إلا بلحاظ الصفة والفارق الزمني بينهما.
الثانية : سكن آدم عليه السلام في الجنة، وهذا السكن وعد ومقدمة لعودته والمؤمنين من ابنائه للبث الدائم فيها من غير وسوسة من إبليس، قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً]( ).
الثالثة : مخالطة آدم للملائكة وإقتباسه منهم التقوى، وإنتفاعهم مما علمه الله عز وجل، وعن ابن عباس قال : لقد أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يدخلها قال الله { إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } وقد كان فيها قبل أن يخلق بألفي عام الجن بنو الجان ، ففسدوا في الأرض ، وسفكوا الدماء ، فلما أفسدوا في الأرض بعث عليهم جنوداً من الملائكة ، فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور ، فلما قال الله { إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } كما فعل أولئك الجان فقال الله { إني أعلم ما لا تعلمون } ( ).
الجهة الثالثة : ذكرت الآيتان أعلاه من سورة إبراهيم تفضل الله عز وجل بانزال الماء والمطر من السماء .
ولم تقل الآية وأنزل من السماء مطراً ، بل ذكرت الآية الماء وبصيغة الماضي في نزوله، لبيان حقيقة نزول الماء من السماء ووجوده في البحار والأنهار قبل أن يصعد بعض مائه بخاراً وينزل مطراً وغيثاً.
ولم تقيد الآية نزول الماء بأنه للناس فلم تقل (ماء لكم) بل أخبرت عن نزول الماء كآية من الإرادة التكوينية , فتجمع الآية بين أصل وجود الماء والبحار في الأرض وبين نزول المطر في سائر أيام الحياة الدنيا ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ] ( ).
بينما ورد ذكر المطر في بيان حال المسلمين والتخفيف في الأحكام ، قال تعالى [وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ] ( ).
فان قلت ذكر خروج الثمرات للناس في الآية كمعلول لنزول الماء دليل على إرادة المطر من نزول الماء , والجواب خروج الثمرات أعم في أسبابه وعلته من نزول المطر ، فقد تنمو الأشجار من المياه الجوفية، ولتبين الآية أن الثمار والأعناب والحبوب موجودة في الأرض وكأنها من مقدمات خلافة الإنسان في الأرض ، وقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
ومن فضل الله تهيئة ما يحتاج الخليفة في الأرض .
ومن الإعجاز في المقام لزوم شكر الناس لله عز وجل على كل نعمة من هذه النعم العظيمة ، وتفضل الله عز وجل وذكّر الناس بها في القرآن لأمور :
الأول : بيان صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل .
الثاني : تذكير الله عز وجل الناس بالنعم التي تفضل بها عليهم ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا]( ).
الثالث : تأكيد حقيقة وهي أن القرآن تبيان للأمور والأشياء , وفيه ذكر لبديع صنع الله ، والنعم العظيمة التي أنعم على الناس ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
الرابع : دعوة الناس لعبادة الله وتذكيرهم بوجوب طاعته .
الخامس : حث الناس على شكر الله عز وجل على كل نعمة تذكرها هاتان الآيتان .
السادس : إستحضار ذكر الله عند رؤية أو سماع موضوع كل آية كونية ، إذ أن ذكر خلق السماوات والأرض آية إنحلالية تشمل آيات خلق الكواكب والشمس والقمر وسيرها , ودقة النظام الذي يضبط حركتها ، ويمنع من التصادم الكلي أو الجزئي بينها ، لذا ورد في آية أخرى قوله تعالى [وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ] ( ).
الجهة الرابعة : بيان الآية أعلاه من سورة إبراهيم لخروج الثمرات ونمو النباتات ، ومن الإعجاز في المقام أن الآية ذكرت الثمار لإرادة عموم ما يخرج من الأرض من الأشجار والحبوب والخضروات والنعم العظيمة التي تترشح عن نزول المطر ، والتذكير بالجفاف وأسباب الهلاك عند حبس السماء المطر .
وعن عبد الله بن مسعود قال (أن قريشا لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبطأوا عن الاسلام قال اللهم اعني عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابتهم سنة فحصت كل شيء حتى أكلوا الجيف والميتة حتى أن أحدهم كان يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع) ( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (يا معشر المهاجرين ، خمس إن ابتليتم بهن ونزل فيكم أعوذ بالله أن تدركوهن : لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعملوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم ، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم .
ولم يمنعوا الزكاة إلا منعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا ، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوهم من غيرهم وأخذوا بعض ما كان في أيديهم ، وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله إلا ألقى الله بأسهم بينهم) ( ).
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالأمن والسكينة والغبطة في سكناهم الأرض ، قال تعالى [وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ] ( ) .
ولم تذكر الآية إنتفاع الحيوانات والدواب من نزول المطر والجواب على وجوه :
أولاً : المراد من الرزق هو ما يخص الناس ، أما الدواب فهي تأكل العلف ، والجواب قد ورد إطلاق لفظ الرزق للخلائق وذوي الأرواح مطلقاً ، قال تعالى [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا]( ).
وفي الآية أعلاه أخرج الترمذي عن زيد بن أسلم : أن الأشعريين أبا موسى وأبا مالك وأبا عامر في نفر منهم ، لما هاجروا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أرملوا من الزاد ، فأرسلوا رجلاً منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله ، فلما انتهى إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه يقرأ هذه الآية { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين }.
فقال الرجل : ما الأشعريون بأهون الدواب على الله . فرجع ولم يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لأصحابه : أبشروا أتاكم الغوث ولا يظنون إلا أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعده , فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجلان يحملان قصعة بينهما مملوءة خبزاً ولحماً ، فأكلوا منها ما شاؤوا ثم قال بعضهم لبعض : لو أنا رددنا هذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقضي به حاجته .
فقالا للرجلين : اذهبا بهذا الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا قضينا حاجتنا ، ثم إنهم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ما رأينا طعاماً أكثر ولا أطيب من طعام أرسلت به . قال : ما أرسلت إليكم طعاماً؟ فأخبروه أنهم أرسلوا صاحبهم .
فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ما صنع , وما قال لهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك شيء رزقكموه الله) ( ).
ثانياً : جاءت الآية خطاباً للناس ، وبياناً لفضل الله عليهم ، فذكرت خصوص رزقهم .
ثالثاً : التباين بين رزق الناس والحيوان ، والنسبة بينهما عموم وخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق ، ورزق الناس من الطيبات ، ويستطيعون السعي والضرب في الأمصار لجلبها، ويسخرون الدواب للزراعة والحراثة والسقي والحصاد ، وترزق الدواب بواسطة الإنسان في أحيان كثيرة لتكون طعاماً له .
رابعاً : جاءت الآية إحتجاجاً وتذكيراً للناس بنعم الله سبحانه عليهم .
خامساً : الدواب كالغنم والبقر والجمال والطير من مصاديق قوله تعالى [رِزْقًا لَكُمْ] فينزل المطر فتشرب منه الدواب وتأكل من الثمرات لتكون رزقاً للناس ، لتبين الآية تعدد وجوه الرزق الإلهي للناس .
والثمرات جمع ثمر ، وهو حمل الشجر ، ويجمع على ثمار وأثمار وثُمُر مثل كتاب وكتب ويقال (شجرٌ مثمر إذا أطلع ثمره، وشجر ثامر إذا أنضج) ( ).
وهل يدل عدم ذكر الدواب في الآية , بانها تصبح في يوم من الأيام تشرب سائلاً صناعياً , وتعتاش على أطعمة صناعية مما تخرج الأرض من المعادن .
الجواب نعم ، فهذا الأمر صار ممكناً أو قريباً في إمكانه في هذه الأزمنة ، والتسارع الفعلي ، ولكن صلته بهذه الآية ودلالتها عليه يستلزم قرينة أو أمارة ظاهرة .
سادساَ : الثمرات رزق عام للإنسان والحيوان إذ يأكل منها الطير والدواب ، قال تعالى في النحل [ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ] ( ).
سابعاً : إلحاق الحيوان بالإنسان في الرزق الكريم مما تنبت الأرض كما في قوله تعالى [وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ]( ).
وجاءت الآية بصيغة الماضي [فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ]( )، لبيان فضل الله عز وجل على الناس بأن هيئ لهم رزقهم قبل أن يولدوا ، فترى الإنسان يأكل من شجرة أو نخلة قد أكل منها أبوه وجده .
وجاءت الآية بصيغة الجمع لمنع الإنسان من الكسل والتفريط والخمول ، إذ أخبرت عن خروج الثمرات والأعناب والحبوب لعامة الناس وينالها الإنسان بالسعي .
ومن الإعجاز في قوله تعالى [رِزْقًا لَكُمْ] إنتفاء المنافس للناس في رزقهم ، فلا يأتي أفراد جنس أخر فيشاطروا الناس الخلافة في الأرض ويقتسموا معهم رزقهم .
لقد تضمنت آية الدين الإخبار العرضي عن حدوث التبايع بين المسلمين , وفيه مسائل :
الأولى : صيرورة المسلم في تجارته ومكاسبه داعية إلى الله عز وجل وإلى الإسلام ، وهل هو من الدعوة الصامتة ، الجواب لا ، إنما هو دعوة ناطقة ، فيتجنب المسلم الربا ويأبى كتابته أو الشهادة عليه ، لأن الله عز وجل نهى عنه ، وهو من أسرار مخاطبة المسلمين بنداء الإيمان عند زجرهم عن الربا ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ]( ).
الثانية : صدور المسلمين عن القرآن والسنة في المعاملات , وإقتباس دروس في التقوى والصبر فيها .
الثالثة : إشهار المسلمين الحرب على الربا في العالم بالتداين وإقراض بعضهم لبعض المال والبيع بالنسيئة من غير فائدة ربوية ،فان قلت إنما تأثر المسلمون بالمعاملات في البنوك التي سادت أرجاء الأرض إلا من رحم الله ، ويأتي الجواب من جهات :
الأولى : عدم إختصاص هذه الحرب بجيل من الناس أو خصوص أهل بلد معين .
الثانية : بيان القرآن لقانون من الإرادة التكوينية وهو حرمة أكل الربا .
الثالثة : التداين بين المسلمين من أظهر مصاديق الحرب على الربا من وجوه :
أولاً : التنزه عن الربا بين المسلم وأخيه المسلم , وأخرج أحمد عن رجل من بني سليط قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول : « المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ، التقوى ههنا ، وقال بيده إلى صدره ، وما توادَّ رجلان في الله فيفرق بينهما إلا حدث يحدث أحدهما والمحدث شر والمحدث شر والمحدث شر( ).
ثانياً : السلامة من الربا في معاملات المسلم مع أهل الملل والنحل الأخرى .
ثالثاً : صيرورة إجتناب الربا صفة تميز المسلمين بين الناس ، فان قلت هناك عدد من المسلمين يقترض بالربا أو يقرض المال بالفائدة عبر المصارف الحكومية أو الأهلية ، والجواب هذا صحيح ، وهم ليسوا من القليل حتى نقول لا أثر بالقليل النادر ، ومع هذا فالجواب من جهات :
الأولى : لا عبرة بفعل الذي يخالف الحكم الشرعي الظاهر والجلي في زمان المخالفة ، وهو من إعجاز أحكام القرآن بأن تمتنع أحكامه وسننه عن الغياب والإستتار .
الثانية : توالي محاربة آية الدَين وآيات النهي عن الربا لموضوع الربا وأخذ أو دفع الفائدة الربوية أو كتابتها أو الشهادة عليها .
الثالثة : لابد للفقيه من إيجاد خصوصية للمعاملات المصرفية من جهة أجرة الموظفين ونفقات البناء والأثاث والقرطاسية والأجهزة البديلة لها أو المساندة لها ،ولكنه يجب أن لا يرقى إلى مسالة الفائدة والأرباح الربوية من غير تفريط أو إغراء أو تغرير بالناس ، فمن المعاملات المصرفية ما تكون من أشد أنواع الربا في تأريخ الإنسانية ، ومنها ما يكون إستثماراً وقضاء للحوائج ومن خصائص الربا أنه مجلبة للضرر على أهل الأرض كلهم ، فلذا توعد الله عليه بالحرب منه سبحانه ومن رسوله ولزوم فعل ترك الربا وزجرهم عن أخذ الأرباح الربوية للديون بما فيها الأرباح التي ترتبت لهم قبل دخولهم الإسلام لقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ] ( ) .
وقيل لابد من البدائل بمصارف إسلامية ، وهذا أمر حسن وإنشاء هذه المصارف محمود ومبارك بشرط تقيدها بأحكام الشريعة الإسلامية في نظامها الأصلي ، وفي معاملات المصرف اليومية ووجود رقابة شرعية في إدارته [يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ]( )ولا يغلب عليها حب المال والرغبة بالإحتيال عليه .
والأهم في المقام هو عصمة المسلمين من المعاملات الربوية في المصارف ، ورجاء الفائدة الربوية من قصد الإيداع فيها .
الوجه الخامس : لقد كان العرب أمة أمية لا تحسن القراءة والكتابة : قال تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ] ( ).
(عن ابن عمر عن النبّي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال : إنّا أُمّة أُميّة لاتحسب ولا تكتب الشهر هكذا وهكذا وهكذا وعقد الإبهام في الثالثة والشّهر هكذا وهكذا وهكذا تمام ثلاثين ) ( ).
لتأتي آية الدَين بقوله تعالى [فَاكْتُبُوهُ] فيكون بشارة القضاء على الأمية بين المسلمين ، وهذا القضاء مقدمة لتلاوتهم القرآن والتدبر في معانيه القدسية وتدوينه وإستنساخه ، وكتابة السنة النبوية وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأفعاله المباركة لتبقى ثروة عند المسلمين ، وليس من أرقام قياسية في التأريخ مثل أرقام ورشحات الآية القرآنية ، فتنزل كلمة واحدة من عند الله هي [فَاكْتُبُوهُ] لتصبح الأمة الأمية أعظم الأمم بطلب العلم والسعي في إكتساب المعارف والآداب وإتخاذ القراءة والكتابة نوع طريق للتحلي بالأخلاق الحميدة، وفعل السنن الرشيدة ، ويكون من معاني قوله تعالى [فَاكْتُبُوهُ] وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا تعلموا الكتابة والقراءة .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا تعلم الكتابة حاجة لكم .
الثالث : البشارة للمسلمين بامامة الناس والإستعانة بالكتابة لتيسير أمور الحكم .
الرابع : بيان قانون وهو إتصاف المسلمين عن غيرهم في أمور الكتابة وتحرير الوثائق ، وتدوين آيات القرآن في المصاحف وغيرها فاذا كان المسلمون مأمورين بكتابة القرض القليل والدَين الصغير كما في قوله تعالى [وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا] ( ) فمن باب الأولوية القطعية أن يقوم المسلمون بكتابة آيات القرآن وتوثيقها على الورق ليكون عوناً لحفظها وبرزخاً دون تحريفها أو إدخال حرف زائد فيها أو إسقاط كلمة منها .
ومن الإعجاز في آية الدَين تعدد مادة كتب فيها من وجوه :
الأول : قوله تعالى (فَاكْتُبُوهُ) وجاءت لقاء فيه رابطة لجواب الشرط ولبيان حقيقة وهي ليس من فترة بين التداين وكتابة العقد ، مما يدل على حاجة المسلمين إلى إتقان الكتابة والقراءة ، لتدل الآية بالدلالة التضامنية على بعث المسلمين على تعلم الكتابة والقراءة وإعانة الابناء لتعلمهما وإتقانهما .
الثاني : قوله تعالى [وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ] هداية المسلمين لكيفية الكتابة وأنها تكون بحضور أطراف الدَين ، وتكون ذات الكتابة واسطة الألفة والمودة بين المسلمين ، وهو من مصاديق [بَيْنَكُمْ] فلا تحل الفتنة والخصومة والإختلاف بينكم إنما هي الكتابة والتوثيق والعلم.
ولقد إرتقت العلوم والتقنية في هذا الزمان , وهناك مسائل :
الأولى : هل تدل الآية على عدم جواز إعتماد نسخ جاهزة لعقود الدَين والقرض لأن الآية تفيد الملازمة بين التداين والكتابة التي ذكرت بصيغة المضارع [وَلْيَكْتُبْ] .
الجواب نعم ، والملاك هو أن تكون الكتابة مطابقة للتداين وصفات وتأريخ إبتداء الدَين وإجراء عقده وبيان متى يحل أجله .
الثانية : إذا كان الكاتب يملي على جهاز كومبيوتر مثلاً والجهاز يدون ما يملى عليه فهل يصح أنه كتابة من الكاتب الجواب نعم .
الثالثة : لو كان الدائن في بلدة والمدين في بلدة ، والكاتب في بلدة وكل من الشاهدين في بلدة فهل يصح العقد ، الجواب لابد من وحدة المجلس ، وهو الذي يدل عليه ظاهر الآية [وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ]نعم لو كان هناك نوع إتصال بين هذه الأطراف من غير لبس أو وهم وشك فالعقد صحيح .
الثالث : ذكر كاتب على نحو التعيين ببيان صفة الذي يتولى الكتابة تأكيد لشرط قدرته على كتابة تفاصيل العقد كاملة من غير أن يخطأ فيها ، فلابد أن يتأكد طرفا الدَين من أهلية الكاتب للكتابة ، لقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، وكأن الآية تدعو إلى التخصيص في العلوم والصناعات والمهارات .
الرابع : تقييد كتابة العقد بأنها بالعدل والصدق , وتقدير الآية بلحاظ لفظ بالعدل على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا بالعدل بلحاظ أن العدل والحكم بالحق مما يأمر به الله عز وجل ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ] ( ).
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا تعاهدوا العدل وحفظ الحقوق , للملازمة بينهما وبين الإيمان .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بالعدل ، وتتعدد معاني هذا التقدير من وجوه :
أولاً : إذا تداينتم من غير فائدة ربوية للتضاد بين العدل والربا ، فان قلت قد ذكر الله عز وجل البيع وجعله ضداً للربا في السنخية والحكم بقوله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( ) فلماذا يذكر التداين بما يقرن معه حرمة الربا ز
الجواب لقد أمضت آية البحث التداين بين المسلمين وبينّت حليته وندبت إليه ، وذكرت كتابته وتعيين أجله ، وكل فرد منها حرب على الربا في مفهومه ومزاولته في المبرز الخارجي ، والتقدير أعلاه على شعبتين :
الأولى : إذا داينتم بالعدل .
الثانية : إذا إستدنتم بالعدل .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين بالعدل ، وبما يكون موضوع الدَين هو مرضاة الله ، والسعي في طاعته مع السلامة من الرياء والإستكبار .
ثالثاً : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى بالعدل ) لبيان أن الدَين إذا تم يكون خالياً من الربا والفائدة الربوية، وليس فيه ذل وهوان وإستضعاف ، وإن بُعد وطال أجل قضائه ووفائه .
ومن معاني العدل في المقام عدم إستدانة المسلم من غير حاجة ومنها السعي والكسب والتدبير لقضاء الدَين .
وقيل المراد من قوله [بِالْعَدْل] في قوله تعالى [وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْل] أي بالحق وليس العدل الذي هو من مصاديق الحكم أو العدالة التي يوصف بها الشاهد ، ولا دليل على هذا التقييد ، والأصل هو الإطلاق , إذ تبين الآية حقيقة وهي أن الكاتب في الدَين والقرض كالحاكم والقاضي في حكمه ، ولزوم عدم ميله عن الحق والصدق وإعطاء كل ذي حق حقه بكتابة الدَين وتفاصيل القرض .
وتدعو الآية المسلمين إلى تنمية ملكة العدالة عند الكُتاب الذين يدونون المواثيق والعهود والوصايا والأوقاف والوكالات والقيمومة وعموم العقود والإيقاعات .
وهو من أسرار توجه الخطاب في الآية إلى المسلمين جميعاً بقوله تعالى [وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ].
رابعاً : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله وليكتب ) وتفيد الكاف في (كما علمه الله) التشبيه والتعليل والتأكيد ، فهي إخبار بأن الله عز وجل أقام الحجة على الكاتب بأن علمه طريق الكتابة بالعدل , وصيغ الإحسان للطرفين والجميع ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ] ( ) .
وتدل الآية على أمور :
الأول : ما علمه الله عز وجل للناس من وجوب عبادته والخشية منه تعالى .
الثاني : الأمر للناس عامة والمسلمين خاصة بتقوى الله .
الثالث : بيان حقيقة وهي أن الله عز وجل أمر الكتاب بتدوين الوثائق بالحق .
وعن سعيد بن جبير ({ كما علمه الله } قال : كما علمه الكتابة وترك غيره { وليملل الذي عليه الحق } يعني المطلوب) ( ).
الرابع : دعوة الكاتب للكتابة بالعدل والحق ولا يتبع الأهواء ففي الآية حذف وتقديرها على وجوه :
أولاً : وليكتب بينكم كاتب بالعدل وليس بالباطل .
ثانياً : وليكتب بينكم كاتب بالعدل والخصال الحميدة ، بلحاظ أن ذكر العدل من باب المثال الأمثل .
ثالثاً : وليكتب بينكم كاتب بالعدل وليس برأيه وظنه وإجتهاده.
رابعاً : وليكتب بينكم كاتب بالعدل لضرورة العدل في الكتابة .
وهل تتضمن آية الدَين ذاتها مصاديق من هذه التعليم ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : إبتدأت آية البحث بنداء الإيمان وهو مدرسة في التعليم والهداية والإرشاد .
الثانية : بيان أن تعليم الكتابة نعمة من عند الله بلحاظ موضوعية العقل والجوارح فيها ، وكل فرد منها فضل من عند الله .
الثالثة : إرادة نعمة إختصاص الكاتب بالكتابة .
الرابعة : من معاني الآية وقوله تعالى ( كما علمه الله ) أي : كما أمره الله .
ترى ما هي النسبة بين التعليم من عند الله والكتابة في قوله تعالى [وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ] وفيه وجوه :
الأول : نسبة التساوي بين التعليم في المقام وذات كتابة الدَين .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : التعليم من عند الله للكاتب أعم من ذات وكيفية الكتابة .
الثانية : الكتابة أعم من التعليم للكاتب المذكور في هذه الآية.
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء بين التعليم والكتابة وأخرى للإفتراق .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني ، لذا تتعدد معاني الكاف في [كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ] ويتعلق التعليم بأمور :
الأول : هداية الكاتب المسلم للإيمان لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]
الثاني : تعليم قانون خلو العقد من الربا والفائدة الربوية ، ولزوم عدم كتابة الكاتب للعقد الربوي ، فقد يفاجئ طرفا الربا بصبي كاتب يأبى أن يكتب هذا العقد لحرمة الربا وكتابته ، مع إغرائهما له بالأجرة والمال الكثير .
الثالث : من التعليم كتابة ذات عقد الدين ، وعدم التراخي والتكاسل والتسويف فيه ، فليس للكاتب أن يكتفي بالوعد بكتابة العقد ، أو أن يقول لطرفي الدَين : أنتما ثقة وعدول ولا تلزم الكتابة أو أن صلة الرحم التي بينكما مقدمة على كتابة الدَين .
الرابع : من التعليم أن كتابة الدَين عامة للناس جميعاً ، ولا تكون عدالة المدين علة لإعفائه من كتابة الدَين عليه ، لأن الله عز وجل قال [وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ] .
وبعد أن أمرت الآية المسلمين بأن يكتب بينهم كاتب مع إتصاف هذه الكتابة بالعدل والبيان والحق ذكرت مسألة أخرى مستقلة ، وهي [وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ]لبيان أن الأمر العام للمسلمين بكتابة الدَين لا يمنع من توجه التكليف إلى الكاتب والتذكير بنعمة الله عز وجل عليه بالكتابة وصيرورته طرفاً في العقد.
وتبين الآية المسؤولية الكبرى على الكاتب ولزوم تقيده بالأحكام الشرعية .
الخامس : ترغيب المسلمين بتعلم الكتابة لأنها نعمة من عند الله ومنع الغرور عند تعلم العلوم والإرتقاء فيها ، فهذا التعلم فضل من عند الله ، إذ أن الآية مطلقة ، وتقديرها على وجوه :
الأول : وليعمل الطبيب كما علمه الله ) في معالجة المرضى وصرف الداء والأذى عن الناس وفق أحكام الشريعة .
الثاني : وليعمل المهندس كما علمه الله ) من حسن التخطيط والبناء وعدم الغش فيه .
الثالث : وليقم العامل في المصنع بعمله باتقان .
الرابع : فليعمل الجندي والعسكري على حفظ النظام وبسط الأمن ، والمرابطة في الثغور ، ودفع العدو .
لقد أخبرت آية الدَين عن تعليم الله للكاتب ، لبيان أن الله عز وجل علّم كل ذي صنعة وعلم ، وعليه أن لا يكتم ما علّمه الله ، ولا يمنع الناس من الإنتفاع منه ، وتبين الآية نكتة وهي تفضل الله عز وجل بتعاهد سنن الحياة بتعليم الناس كل فرد في علمه وإختصاصه ليكون ها التعليم باباً لقضاء الحاجات وحائلاً دون الفتنة والخصومة بين الناس , وقد تفضل الله عز وجل وعلّم النحل لينتفع منه الإنسان, فيشكر المؤمنون الله , قال تعالى[وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ] ( ).
وهل يدل قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] على أن الله عز وجل هو الذي علّم المسلمين سبيل الدخول في الإسلام ، الجواب نعم ، وفي التنزيل [قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ] ( ).
الخامس : بيان وتقييد فعل الكاتب بأن يكون كما علّمه الله لقوله تعالى [وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ] وفيه نكتة إعجازية إذ تبين الآية قانوناً وهو أن الله علّم الكّتاب كيف يكتبون الديون بالعدل والحق ، وأن الحجة قد قامت عليهم .
وهل في الآية زجر عن تسخير العلم للحرام والإضرار بالناس ، الجواب نعم ، لتنهى الآية في مفهومها عن الأسلحة الفتاكة التي تبطش بالبشر من غير تمييز بين المقاتل وغيره ، كالأسلحة الجرثومية والكيمياوية والنووية ، وما قد يخرج منها في الأزمنة القريبة اللاحقة.
إن إستحضار الإنسان لذكر الله عند العمل بعلمه رادع عن تسخيره في غير مرضاة الله .
وقوله تعالى [كما علّمه الله] حجة على أهل العلم عامة بالعمل وفق قواعد الشريعة والسنن العقلائية ، وتشمل الآية العلماء في العلوم المختلفة من باب الأولوية القطعية , فلا تختص الآية بآداب وعلوم الشريعة ، لأن الكتابة عامة ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
وتتضمن الآية تنزيه أرباب الأقلام من كتابة الفواحش والدعوة إلى المنكرات والقبائح ، فلا يعلم نفع أو ضرر الكتابة إلا الله ، وكم من فتنة حدثت بسبب فتوى أو أمر أو نهي من عالم أو رئيس أو زعيم في أحقاب سالفة وأجيال سابقة ، وكأن الدهر طوى عليها ، والنسيان غلب عليها ، فيأتي بعضهم ويعلنها ويثيرها ويقدمها ، فتحصل الفتن والأضرار .
فجاءت آية البحث لتأكيد ضابطة وهي أن على الكاتب أن يكتب بما علمه الله ليس في مسألة التداين بل مطلقاً ، فسواء كان الكاتب عالماً يحرر فتوى , أو زعيماً يبين منهجاً , أو مفكراً يذكر مسألة ، وكذا كل عالم في إختصاصه فلابد أن يكتب بما فيه الهداية والرشاد ، وأن لا يتعارض مع قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
ومما علم الله عز وجل الكاتب هو التقوى والخشية من الله ، وجاءت الآية بالأمر بالتقوى للذي يملي الدَين على الكاتب ، فتترشح التقوى على ذات الكاتب لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
السادس : ورد ذكر مادة [كتب] في قوله تعالى [وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ] .
ومن إعجاز آية البحث توجه الأمر بالكتابة إلى المسلمين بصيغة الأمر والخطاب من جهات :
الأولى : فاكتبوه .
الثانية : أن تكتبوه .
الثالثة : ألا تكتبوها .
بينما جاء ذكر الكاتب بصيغة الغائب :
الأولى : وليكتب بينكم كاتب بالعدل .
الثانية : ولا يأب كاتب أن يكتب ، فلم تقل الآية ولا تأب أيها الكاتب أن تكتب .
الثالثة : ولا يضار كاتب ولا شهيد .
ومن العلوم المستحدثة في هذا الزمان علم النفس وإختصاص الطب النفسي , ويمكن إستقراء آيات كثيرة , كل واحدة منها تبعث السكينة في نفوس المسلمين من جهات :
الأولى : منطوق الآية القرآنية .
الثانية : مضامين الآية القرآنية وما فيها من الأحكام .
الثالثة : بعث الآية القرآنية المسلمين للعمل بما فيها من الأوامر والنواهي .
الرابعة : إمتلاء نفس المسلم بالسكينة عند العمل بمضامين الآية القرآنية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الخامسة : مجئ الثناء من عموم المسلمين لمن يعمل بأحكام الآية القرآنية وما فيها من السنن .
وورد في آية الدين قولان :
الأول : ما روي عن مجاهد أن الآية أنزلت في السّلم إلى أجل معلوم) .
الثاني : قاله قتادة (عن أبي حَسَّان الأعرج، عن ابن عباس، قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله وأذن فيه، ثم قرأ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } رواه البخاري) ( ).
والفرق بين الخبرين دلالة الأول على أن المسلم سبب لنزول آية الدَين ، أما الثاني فانه أعم إذ إستدل ابن عباس على صحة بيع المسلم والسلف بآية الدَين ، والمختار أن الآية أعم من بيع السلف وتشمل أموراً :
الأول : القرض الحسن .
الثاني : البيع بالنجوم والأقساط .
الثالث : البيع بالنسيئة .
الرابع : بيع السلف
والأصل فيها الأول ، لذا جاءت بلفظ الدَين .
ومن إعجاز ألفاظ القرآن ورود مادة (قرض) فيه إثنتي عشرة مرة كلها في إقراض الله عز وجل بالتصدق على الفقراء والمساكين والإحسان وقضاء الحوائج ، قال تعالى [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ] ( ) لتكون النسبة بين القرض والدَين في الإصطلاح عموم وخصوص مطلق، فالقرض أعم .
ترى لماذا لم تكن النسبة بينهما هي التساوي تبعاً للمعنى اللغوي ، الجواب لقد أراد الله عز وجل لعموم المسلمين والمسلمات الأجر والثواب في عمل الصالحات والمسارعة في الخيرات ، فمن لا يستطيع إقراض المال للأخرين فانه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويحسن إلى الناس ، فينال الأجر والثواب الذي يناله الذين يقرضون أموالهم بتنزه عن الربا .
وروى أن فقراء المهاجرين جاءوا إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (فقالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالدرجات العُلَى والنعيم المقيم. فقال: “وما ذاك؟” قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق! قال: “أفلا أعلمكم شيئًا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين”. قال: فقالوا: يا رسول الله، سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله. قال: “ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء”)( ).
ومن الإعجاز في المقام ترشح الثواب على كتابة المسلم لوثيقة الدَين وشهادة الشهود عليها .
ومن الآيات التي تبعث السكينة في نفس المسلم آية الدَين هذه إذ تبدأ بنداء الإيمان ، وهو عز وفخر لهم جميعاً ، وباعث للتوكل على الله في العمل بالقواعد التي فيها ، ثم تبين الآية أن التداين خير محض، وليس فيه ضرر على صاحب المال .
وكأن الآية تقول للمسلمين (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فالضمان على الله عز وجل في رجوع المال إلى الدائن ) وفي إعانة المدين على القضاء ، فان قلت من الناس من يقرض ماله فلا يقبضه مع كثرة المطالبة .
والجواب الضمان الذي نذكره أعلاه أعم من أن يختص بالوفاء بالدَين فقد يرد برزق كريم ، وخلق حسن ، ويأتي بالأجر العظيم في الآخرة ، يوم يغبط الناس جميعاً المسلم الذي قرّض المال قربة إلى الله ولم يرجع إليه ماله ، بعد إنقضاء الأجل ، أو حصل عارض دون ثبوت دينه ، كما لو مات المدين والشهود دفعة .
ومن خصائص آية البحث جعلها هذا الإحتمال نادراً وقليلاً من جهات :
الأولى : توجه النداء في الآية إلى المسلمين بصبغة الإيمان ، ومن معانيه في المقام تحذير المدين , وتوصيته بأمور :
أولاً : الإقتراض عند الحاجة .
ثانياً : الحرص على قضاء الدين في أجله .
ثالثاً : الوصية بالدَين الذي عليه ، بأن يذكر لورثته أن عليه ديناً لفلان قدره كذا .
الثانية : من خصائص المؤمن أنه يتوقع زيارة ملك الموت له وحضور الموت عنده كل ساعة ، وعن أبي سعيد الخدري (قال : اشترى أسامة بن زيد وليدة بمائة دينار إلى شهر ، فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر، إن أسامة لطويل الأمل . . . ! .
والذي نفسي بيده ما طرفت عيناي وطننت أن شفري يلتقيان حتى أقبض ، ولا رفعت طرفي وظننت إني واضعه حتى أقبض ، ولا لقمت لقمة فظننت أني أسيغها حتى أغص بالموت .
يا بني آدم إن كنتم تعقلون فَعِدُوا أنفسكم في الموتى ، والذي نفسي بيده { إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين } ) ( ).
الثالثة : مجئ الآية بالأمر بكتابة الدَين مما يكون وثيقة , ويجعل الكاتب شاهداً آخر .
الرابعة : تعدد الشهود على الدَين حتى إذا مات أحدهم كان للدائن إشهاد غيره باقرار صاحب الحق أو بإشهاد شاهد على الشاهد لمنع الجهالة والغرر ، كما أنه من أسرار قبول الشاهد الواحد في اليمين في الدَين .
لقد أراد الله عز وجل أن تكون كتابة الديون والعهود برزخاً دون التفريط , وحرباً على آفة النسيان وإجتثاثاً للربا المحرم ، فحينما قال الله تعالى [وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا] ( ) فانه سبحانه يسر مقدمات البيع وجعل الضوابط لإستدامته ، ومنع أسباب الملل أو السأم فيه ، وفي الديون والقروض التي هي في الغالب فرع البيع أو مقدمة له ، فاما أن يكون البيع بالنسيئة على نحو الكلي أو الجزئي في دفع المشتري الثمن ، وأما أن يكون القرض مقدمة ليعمل المقترض في التجارة .
وجاءت الآية بلزوم كتابة وتوثيق الدَين قلّ أو كثر ، وقد يتبادر إلى الذهن أن الأصل هو : ولا تسأموا أن تكتبوه وإن كان صغيراً ) ولكن الآية شاملة لأحوال الناس إلى يوم القيامة ، وللمعاملات والصلات بين الأقارب وذوي الأرحام والأصدقاء ،والجيران والمتباعدين .
فقد يمتنع صاحب الدَين الكثير عن كتابته وتدوينه ، بينما يكتب آخر القرض القليل ، فتضطرب الأسواق ، ويحصل الشك والخلاف وتظهر الكدورات الشخصية , وتتفشى الغيبة بأن فلاناً يكتب ديونه القليلة على الناس بينما لا يكتب أقرانه الديون الكبيرة ، والمبالغ الطائلة ، وقد ينفذ الربا وتوضع القيود والشروط اللاشرعية .
ومن الإعجاز في الآية بيان منافع العموم في كتابة الدَين فمع أن الخطاب في الآية من الخالق إلى المخلوقين ، ومن الرب إلى المربوبين الذين آمنوا بربوبيته المطلقة وصدقوا برسله وكتبه فانه سبحانه تفضل بالبيان المقرون بالترغيب بكتابة الدَين قليلاً أو كثيراً , صغيراً أو كبيراً مع ذكر الأجل وأوان قضاء الدَين ، وبينت الآية منافع الكتابة من جهات :
الأولى : في كتابة الدَين مطلقاً ( أقسط عند الله ) وإمتثال لأمر الله , وفيه رضاه سبحانه , وتوثيق للحقوق والمواقيت ومنع من التفريط ، وقد ورد ذات لفظ [أَقْسَطُ] في قوله تعالى [ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ] ( )، وهل يعني قوله تعالى [أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ] أي الفوز بالأجر والثواب , الجواب نعم .
الثانية : كتابة الدَين أقوم للشهادة أي أثبت للشهادة وفيها تأكيد لها .
وهي وسيلة للتذكير , وبرزخ دون الإختلاف والتردد والإمتناع عن أداء الشهادة عند الحاكم في حال النسيان والإختلاف ، وإذا إدّعى الشاهد نسيان مقدار أو أجل الدَين أو أنه كان مردداً عنده بين أقل أو أكثر من مقدار الدَين ، أو أقصر أو أطول في مدة أجل القضاء , فهل للحاكم أن يلح عليه للتذكر .
الجواب لا، وتأتي كتابة الدَين التي أمرت بها الآية لمنع هذا الإختلاف وللتخفيف عن الحاكم والقاضي ولصيرورة الحكم بالحق قريباً .
الثالثة : كتابة الدَين وإن كان قليلاً مانع من الإرتياب والشك لقوله تعالى [وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا ] ( ) فاذا كتب جنس وقدر الدَين وبيّن أجله يمتنع الشك .
وهناك مسألة وهي هل يتعلق قوله تعالى [وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا ] بخصوص القضية الشخصية في التداين التي تمت كتابتها ، الجواب لا، ليكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : وأدنى ألا ترتابوا في شخص الدائن أو المدين .
الثاني : أدنى الا ترتابوا في تعيين المدين .
الثالث : أدنى ألا ترتابوا في جنس وسنخية الدَين .
الرابع : أدنى ألا ترتابوا في أجل الدَين وأوان قضائه .
الخامس : أدنى ألا ترتابوا بأن التداين بينكم خال من الربا والربح المحرم .
السادس : أدنى ألا ترتابوا بأن آية الدَين معجزة تفوق عقول البشر من جهة دقتها وضبطها للمعاملات وإصلاحها للأسواق .
السابع : أدنى ألا ترتابوا بأن الناس يدخلون الإسلام ويمتنعون عن الربا ببركة آية الدَين وعمل المسلمين بها .
الثامن : ألا ترتابوا بالشهود وعدالتهم , فمن إعجاز آية الدَين وتأكيدها على كتابته الأمن والوقاية للشهود والمنع من غيبتهم والإفتراء عليهم ، لشهادة ذات الكتابة لهم ، بأن قولهم وشهادتهم مطابقة لما في العقد المكتوب .
والمراد من أدنى في الآية أي أحرى وأقرب إلى عدم الإرتياب والشك ، وفيه إعجاز ، وهو أن كتابة الدَين لا تمنع من الشك على نحو القطع والتمام ، إنما تمنع منه التقوى والخشية من الله ، لذا تكرر الأمر بالتقوى مرتين في آية الدَين ، وفي التنزيل [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ) .
ولم تقل الآية : أن تكتبوه قليلاً او كثيراً ، بل ذكرت الآية الصغر والكبر لإرادة الحق وللتغليظ والحث على قضاء الدَين والإخبار بالثواب على الإقراض وإن كان بالمال القليل , وهو تجارة رابحة في الدنيا , وفي عرصات الحساب يوم القيامة .
التاسع : أدنى أن لا ترتابوا بالأخوة الإيمانية فيما بينكم وموضوعية التداين في تثبيتها ، وبيان حقيقة وهي أن هذه الأخوة وسيلة مباركة لفعل الخير , ودفع الحرج عن المسلمين مجتمعين ومتفرقين .
العاشر : أدنى ألا ترتابوا بأن التداين بينكم طريق هداية لكم وسبب لجذب الناس إلى الإسلام , لما يرونه من الأخلاق الحميدة التي تتصفون بها .
الحادي عشر : بيان قانون وهو أن كل آية من القرآن تدفع الشك والإرتياب عن المسلمين في ذات الموضوع والحكم الذي تتضمنه ، وفي غيره بلحاظ أن رشحات ومنافع الآية القرآنية أعم منهما ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
الثاني عشر : من خصائص [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) السلامة من الإرتياب في عالم الأقوال والأفعال .
لقد أراد الله عز وجل أن يخرج المسلمون للناس بالأمن من الإرتياب وإعانة الناس على دفعه والتخلص منه ، لذا جاءت آيات القرآن بسنن التقوى , ومنها حرمة الغيبة والإفتراء لمنع الشك والريب الذي لا أصل له ، وكتابة الدَين والشهادة عليه من أسباب منع الأخلاق المذمومة وذكر الناس بسوء .
السابع : من وجوه ورود مادة (كتب) في آية الدَين ما جاء في قوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا] ( ) وتأتي [إِلاَّ] على عدة معان :
الأول : حرف إستفتاح أي يبدأ بها الكلام لتدل على تنجز ما بعدها ، وهي مركبة من همزة الإستفهام و(لا) النافية كما في قوله تعالى في ذم الذين كفروا والمنافقين [أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ] ( ).
الثاني : حرف غير عامل يفيد التنبيه والبعث على الفعل كما في قوله تعالى [أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ]( ).
الثالث : حرف تحضيض ، وهي مركبة من همزة الإستفهام و(لا) النافية ، وتأتي قبل الفعل المضارع كما في قوله تعالى [أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ]( ).
الرابع : حرف توبيخ ولوم وتأنيب وتأتي قبل الفعل الماضي مثل ألا صليت الفريضة .
الخامس : تأتي مركبة (أن) الناصبة للفعل المضارع و(لا) النافية كما في قوله تعالى بخصوص الطلاق [إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ] ( ) وورد لفظ [يُقِيمَا] ثلاث مرات في القرآن ، إثنتين في الآية أعلاه وواحدة في الآية التي بعدها .
وما ورد في آية البحث [أَلاَّ تَكْتُبُوهَا]من المعنى الخامس أعلاه ، ويكون [أَلاَّ تَكْتُبُوهَا] مصدراً مؤولاً في محل جر بحرف جر محذوف ، وتقديره : فليس عليكم جناح بعدم كتابتها .
وجاءت آية البحث بخصوص التجارة ، وفيها بشارة صيرورة المسلمين تجاراً ولهم أسواقهم الخاصة بهم ، ويعملون بالأسواق التي تجمعهم وغيرهم من أهل الملل والنحل .
ومثله وقع في باب الدفاع والقتال فقد زحف في معركة الخندق عشرة آلاف من المشركين على المدينة المنورة للإجهاز على الإسلام والمسلمين والثأر منهم لقتلى معركة بدر وأحد والذلة والمهانة التي لحقت برجالات قريش بعد كل من المعركتين وتجلي قلة مهابة قريش بين القبائل .
فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة بحفر خندق حول المدينة برأي سديد من سلمان الفارسي ، وعجز المشركون عن إقتحامه ، ومن عبره لقى حتفه أو إنهزم موليا ، إذ قتل الإمام علي عليه السلام عمرو بن ود العامري ، وهو من أبطال قريش المشهورين.
وكما عاش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت حصار شعب أبي طالب والذي إستمر لنحو سنتين فقد عاش أهل المدينة حصاراً إستمر لأكثر من عشرين ليلة مع خوف ورعب شديد لأنه لم يكن حصاراً إقتصادياً وحرباً بالمعاش ، إنما كان جزء من معركة ومقدمة للقتال لولا أن منّ الله عز وجل على المسلمين إذ قال تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
قال ابن إسحاق (وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق، حتى قال معتب بن قشير أخو بنى عمرو بن عوف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر .
وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط ! وحتى قال أوس بن قيظى : يا رسول الله إن بيوتنا عورة من العدو، وذلك عن ملأ من رجال قومه ، فأذن لنا أن نرجع إلى دارنا فإنها خارج من المدينة ) ( ).
ولقد بشّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين عندما كانوا محاصرين في معركة الخندق بكنوز كسرى وقيصر ، بوحي من عند الله عز وجل.
وبشرت آية البحث المسلمين بالتجارة والمكاسب الواسعة من جهات :
الأولى : دلالة لفظ تجارة على تصدي المسلمين لبيع الجملة والمفرد .
الثانية : دلالة آية البحث على كثرة البيع والشراء بين المسلمين لقوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً].
الثالثة : إخبار الآية عن إدارة المسلمين للتجارة والبيع والشراء ، وهو شاهد على تغشي الأمن بلاد المسلمين ، وعلى حسن سمتهم .
الرابعة : تفضل الله عز وجل بتهيئة مقدمات عصمة المسلمين من الربا ، فلا يضطرون للشراء ممن لا يبيع أو يشتري إلا بالفائدة الربوية ، فيستطيع المسلمون التعامل اليومي بينهم برداء التقوى إذ أن السلامة من الربا ذاتها من مصاديق التقوى والسعي لطلب رضا الله عز وجل .
الخامسة : دلالة ذكر التجارة الحاضرة بين المسلمين على وجود تجارة أخرى غير حاضرة ، وأعم من أن تكون متداولة بينهم , ومنها بيع النسيئة .
ومن الإعجاز في الآية أنها لم تخبر عن كراهة أو حرمة كتابة الديون التي تترشح عن التجارة اليومية الحاضرة بين المسلمين والإشهاد عليها , وإنما ترفع الحرج والجناح في عدم كتابتها .
فمن أراد أن يدون ويُشهد على التجارة اليومية الحاضرة فلا ضير عليه وبعد مجيء مادة (كتب) في آية البحث تسع مرات وردت هذه المرة بصيغة التخفيف وجواز عدم الكتابة بخصوص التجارة التي تكون يداً بيد ، وتجري على نحو التعاقب والتوالي ، فيتداخل دفع ثمن البضاعة السابقة من قبل المشتري مع إستلامه لجنس وبضائع جديدة أخرى ز
والمراد من قوله تعالى [تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ] أي ليس لها أجل معلوم ولا تستلزم الأجل ، لأنه ليس فيها دَين ولا نسيئة ولا سلف ، وهل تعني التجارة الحاضرة هو ما يكون فيها القبض في المجلس ، الجواب لا، إنما تتضمن البيع بالنسيئة أيضاًً ، ولكن مع كثرة التبايع في ذات العين الواحدة وفي غيرها .
وسميت التجارة (حاضرة) لأن العين المباعة والثمن حاضران أو هما بحكم الحاضر والتداول ، فمن يبيع يقبض ماله في الحال أو ينتظر مجئ الثمن له في ذات اليوم أو في أجل قريب ، وفيه نكتة وهي : يجب أن لا يعطل التداين أسواق المسلمين ، فلا يقرض المسلم ماله ثم يقعد لا يقدر على الكسب ، وفي قوله تعالى [وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا] ( ).
ورد عن ابن مسعود (قال : جاء غلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إن أمي تسألك كذا وكذا؟ فقال : ما عندنا اليوم شيء .
قال : فتقول لك اكسني قميصك ، فخلع قميصه فدفع إليه ، فجلس في البيت حاسراً ، فأنزل الله { ولا تجعل يدك مغلولة } الآية)( ).
وصحيح أن الآية أعلاه في الصدقة إلا أن آية البحث في التداين وبما يفيد لزوم إعمار أسواق المسلمين وسعة تجارتهم ، وفي التجارة اليومية الحاضرة عزٌ لهم ، وتشويق للناس لدخول الإسلام ، فبعد حال الفقر والجوع التي كان عليها المسلمون الأوائل صاروا أصحاب تجارة ومكاسب يومية ، وفيه دعوة لأهل الملل والنحل إلى حسن المعاملة مع المسلمين وترك محاربة الإسلام ، وفي قراءة تجارة حاضرة وجهان :
الأول : النصب ، وهي قراءة عاصم ، وهو المرسوم في المصحف ليكون لفظ تجارة خبر كان , أما اسمها فمضمر ، وتقدير الآية إلا أن تكون المداينة تجارة حاضرة .
الثانية : الرفع وبه قرأ القراء الآخرون , وتكون تجارة اسم كان أي إذا كان البيع والشراء بالنقد .
السادسة : تكرر لفظ كاتب في آية البحث ثلاث مرات ، ولم يرد في آية أخرى من القرآن ، نعم ورد مرة واحدة ولكن بصيغة النصب [كاتباً] في الآية التالية لها ، قال تعالى [وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ] ( ) .
ليكون من الإعجاز في آية البحث بيان موضوعية الكاتب والكتابة في المعاملات والديون ، لتدل الآية بالدلالة الإلتزامية على لزوم كتابة وتدوين آيات القرآن ، وكما نحرص على تفاصيل الدَين وبيان جنسه ومقداره وأجله فيجب من باب الأولوية القطعية العناية بكتابة حروف وكلمات القرآن وضبط ترتيب الآيات والسور .
قال تعالى في آية البحث [وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ] ولم يأت هذا النهي في أول أو وسط الآية بل جاء في آخرها , وفيه مسائل :
الأولى : إرادة الإطلاق في لزوم عدم الإضرار بالكاتب في كل أحوال العقد ، ولا يكره على ما فيه حرج أو أذى له .
الثانية : لزوم إجتناب توبيخ الكاتب .
الثالثة : النهي عن التشكيك بالكاتب ، ورميه بالتبديل والتغيير مع أنه لم يكتب إلا ما أُمر به .
وذكر أن قوله تعالى [وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ ] ناسخة لقوله تعالى [وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ]ولا دليل على هذا النسخ بين مضامين آية الدين , والحق بخلافه ، إنما يتوجه الشطر أعلاه من آية الدَين إلى الكاتب ليحثه على الإستجابة إلى طرفي الدَين لكتابته مع عدم الحرج والأذى عليه ، أما قوله تعالى [وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ] فمتوجه لطرفي الدَين وورثتهما وعموم المسلمين .
وعن ابن عباس في الآية قال (يَأْتِي الرَّجُلُ الرَّجُلَيْنِ فَيَدْعُوهُمَا إِلَى الْكِتَابِ وَالشَّهَادَةِ. فَيَقُولانِ: إِنَّا عَلَى حَاجَةٍ، فَيَقُولُ: إِنَّكُمَا قَدْ أُمِرْتُمَا أَنْ تُجِيبَا. فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَارِّهِمَا) ( ).
لقد أرادت الآية تنمية ملكة التقوى عند المسلمين بالتداين فيما بينهم وكتابة الدَين والإشهاد عليه وعدم إيذاء الكاتب أو الشاهد ، والإمتناع عن شتم أحدهما .
لقد ورد اللعن والطرد من رحمة الله للذين يكتبون الربا ويشهدون عليه مع أنهم لم يأكلوه ولم يُؤكلوه لغيرهم .
وعن عبد الله بن مسعود (قال : لا تحل صفقتان في صفقة ، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لعن آكل الربا ، وموكله ، وشاهديه ، وكاتبه)( ).
بينما جاءت آية البحث لتدافع عن كاتب عقد الدَين ، وتدعو المسلمين إلى إجتناب الغلظة معه أو الإضرار به أو شتمه ، وهو من مصاديق التقوى التي جاءت بها آية البحث ، فمع أن موضوعها في التداين وذكرته على نحو الجملة الشرطية ، ولكن التقوى والخشية من الله حاضرة في أذهان المسلمين وسيرتهم وأفعالهم وحسن معاملاتهم مع أرباب الصنائع .
قانون كل آية قانون في التقوى
يقال اتق يتقى ، ووقى يقي تقاة من الوقاية وطلب الأمن والسلامة وتفيد التقوى معنى الصدق والحيطة والحذر .
ولقد أنعم الله عز وجل على الإنسان وجعله خليفة في الأرض ، ورزقه الطيبات وسخّر له خلائق في الكون تكون عضداَ وعوناً له في خلافته ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )وتفضل وجعله كائناً محتاجاً ، لأن الحاجة ملازمة لعالم الإمكان وليس فيها إستثناء لبيان قانون وهو كل شيء محتاج إلى رحمة الله في إيجاده ووجوده وإستدامته ، ليكون الحاجة طريقاً إلى التقوى والخشية من عند الله وبرزخاً دون غرور وطغيان الإنسان ، ومع هذا فمن الملوك من صار طاغوتاً وأدعى الربوبية كما في غرور فرعون .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لي جبرئيل : ما أبغضت أحداً من عباد الله إلاّ أنا أبغضت عبدين أحدهما من الجنّ والآخر من الأنس،
فأما من الجنّ فإبليس حين أبى بالسجود لآدم وأما من الإنس ففرعون حين قال : أنا ربكم الأعلى،
ولو رأيتني يا محمد وأنا أدسّ الطين في فيه مخافة أن تدركه الرحمة) ( ).
وعن ابن عباس (أنه قال : كان فرعون يصنع لقومه أصناماً صغاراً ويأمرهم بعبادتها ويقول لهم : أنا رب هذه الأصنام،
وذلك قوله {أَنَا رَبُّكُمُ الأعلى}( )( ).
لقد أراد بعض الملوك تثبيت ملكة وإستقرار عرشه بأمتهان الناس ، واذلالهم وكأنهم عبيد عنده ، فأبى الله عز وجل إلا النصرة للناس جميعاً ورفع الحيف عنهم لأنهم عباده ، وخلقهم لطاعته والإقرار له بالربوبية المطلقة ، لذا تفضل بنزول القرآن الذي قطع طغيان ملوك الأرض ، ومنعهم من إدّعاء الربوبية وإهانة وإذلال عامة الرعية ، قال تعالى في ذم إبليس وخيبته [إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ] ( ) ومن خصائص آيات القرآن تنمية ملكة العبودية في النفوس من جهات :
الأولى : الذي يقرأ القرآن .
الثانية : الذي يستمع وينصت لآيات القرآن .
الثالثة : الذي يرى المسلمين في حسن سمتهم وإنقطاعهم إلى عبادة الله ، لقد قطعت صلاة الجماعة وصروح المساجد وعمارتها من المؤمنين دابر إدّعاء الربوبية من قبل عتاة الكفرة ، ومنعت آيات القرآن من صيرورة الملوك طواغيت .
ومن معاني التقوى طاعة الله ، وإجتناب معاصيها ، ومنها صون النفس عما يشفيها ويعرضها للبلاء في الدنيا والعذاب في الآخرة ، فطاعة العبد لله واقية بينه وبين غضب وعقاب الله عز وجل ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ ..] ( ) وهناك ملازمة بين الإيمان والتقوى ، ولا يبلغ الإنسان مراتب التقوى إلا بالإيمان ، ولا يصل العبد إلى الإيمان ودرجته إلا بالإسلام .
ومن أظهر معاني التقوى أمران :
الأول : إتيان العبد الصالحات بعقد القربة إلى الله .
الثاني : الإمتناع عما نهى الله عز وجل عنه ، وكل آية من القرآن تتضمن في منطوقها أو مفهومها أمراً أو نهياً وتدعو إلى الصلاح والإدخار إلى يوم الحسابة ، لذا فكل آية من القرآن مدرسة في التقوى ، من جهات :
الأولى : تأمر الآية بالفعل الواجب لتتضمن في دلالتها ومفهومها النهي والزجر عما هو خلاف ونقيض الواجب .
ويتجلى هذا النهي للمؤمنين لما يتصفون به من التقوى ، لذا فمن معانيها أنها الحذر والحيطة من إتيان خلاف المأمور به ومن جمع الباطل مع الحق والمعصية مع الطاعة .
الثانية : تأتي الآية القرآنية بصيغة الجملة الخبرية لتكون باعثاً على فعل الخيرات ومن الشواهد على تقوى المسلمين تلقيهم الخبر القرآن بحقيقة كنهه من الوجوب أو الحرمة ، فقد ورد قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) فأدركوا وجوب أداء فريضة الحج عليهم كبشر قبل أن يكونوا مسلمين ، ولما زيّن الله عز وجل الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن تفضل بالحكم القاطع بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا]( ).
ليكون من خصائص الخبر القرآني انه إمام في التقوى وصراط إلى الهدى ، لذا تفضل الله عز وجل وجعل المسلمين يتلون كل يوم قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) ومنه إتخاذ الخبر القرآني منهاجاً في الأمر والنهي والفعل والترك والحلال والحرام ، فقوله تعالى [فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ] ( ) جملة خبرية تعني قيام المسلمين بمنعهم من دخول الحرم ونزلت الآية أعلاه في السنة التاسعة للهجرة ، فخشي المسلمون تعطيل الأعمال وقلة التجارات بنفي المشركين عن المسجد الحرام ، فأنزل الله تعالى [وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] ( )، قال قتادة (فأغناهم الله تعالى بهذا الخراج : الجزية الجارية عليهم يأخذونها شهراً شهراً وعاماً عاماً ، فليس لأحد من المشركين أن يقرب المسجد الحرام بعد عامهم ذلك إلا صاحب الجزية أو عبد رجل من المسلمين ) ( ).
ولكن الآية أعم وليس لفضل الله عز وجل من حد في جهته وموضوعه ونفعه ، ولا يختص بمسألة الجزية ، ولم تفرض الجزية على المشركين من القبائل العربية الذين كانوا يأتون لحج بيت الله الحرام إنما يأتي فضل الله عز وجل والغنى المذكور في الآية أعلاه من وجوه:
الأول : تقيد المسلمين بسنن التقوى ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ] ( ).
الثاني : كثرة عدد المسلمين وتوليهم التجارة وتعاطيهم البيع والشراء ، ولقد كان نفر من المسلمين يذهبون للشام للتجارة مثل وجيه الكلبي .
الثالث : كثرة الفتوحات ، مجئ الغنائم للمدينة .
لذا ورد عن ابن عباس في الآية أعلاه (كان المشركون يجيئون إلى البيت ويجيئون معهم بالطعام يَتَّجِرون فيه ، فلما نهوا عن أن يأتوا البيت قال المسلمون : فمن أين لنا الطعام؟ فأنزل الله { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء } قال : فأنزل الله عليهم المطر وكثر خيرهم حين ذهب المشركون عنهم) ( ).
ومن خصائص الآية القرآنية أنها تدعو إلى تقوى الله ، وهذا أمر مستقرأ من كون الآية كلام الله عز وجل الذي أنزله ليكون مصاحباً لخليفة في ألأرض وشاهداً على صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودليلاً هادياً للناس جميعاً ، لقد توالى الأنبياء على الناس يخرجون بين ظهرانيهم يدعونهم إلى عبادة الله عز وجل ، وأول أنسان هبط إلى الأرض حاملاً للواء النبوة وهو آدم عليه السلام ، ولم تنقطع النبوة في الأرض إلا عند إكتمال نزول آيات القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] ( ) أي أن أهل الأرض لا يحتاجون نبياً آخر بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضل الله وحفظ القرآن من التحريف والتبديل والتغيير ليكون أماماً مصاحباً للناس يقود الذين يصدرون عنه إلى دار الخلود.
وتدعو الآية القرآنية إلى التقوى وتحث عليها وتندب المسلمين لها، ومن أسرار القرآن مجئ الآية القرآنية بالبشارة أو الإنذار ، وكل فرد منها يندب المسلمين إلى التقوى ويحث عليها ، ويمنع من الغفلة عنها ، وفي التنزيل [يُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ] ( ).
الثالثة : قد تتضمن الآية القرآنية صيغة الشرط ، فتكون باعثاً للمسلمين للعمل بأحكامه ، ومن إعجاز القرآن تعدد معاني لغة الشرط في القرآن فيشمل البعث على العمل كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ]( ) وتبين الآية أعلاه منافع التقوى وكيف أن فيها خير الدنيا والآخرة .
ويشمل الزجر والنهي عن الفعل الذي يبعد المسلم عن مقامات التقوى ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ] ( ).
ليرقى المسلمون إلى مراتب الفطنة والحيطة والحذر من طاعة الذين كفروا ، فيجتنبوا الركون إليهم وإتخاذهم بطانة كيلا يكون كل فرد منهما مقدمة لطاعتهم والإنصات لهم .
لذا قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ( ).
والخبال نقيض التقوى وبرزخ دونها .
الرابعة : تلاوة الآية القرآنية مصداق للتقوى وسبيل للفلاح وطريق للنجاح ، وهو من أسرار وجوب قراءة القرآن في كل ركعة من الصلاة الواجبة والمندوبة ، لينال المسلمون مرتبة التقوى في الصلاة من وجوه :
الأول : تهيئة وأتيان مقدمات الصلاة العقلية والشرعية ومنها الوضوء والطهارة للوقوف بين يدي الله عز وجل ، قال سبحانه [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ]( ).
الثاني : الوقوف بين يدي الله للصلاة مصداق جلي للتقوى .
الثالث : يتجلى للخلائق خمس مرات كل يوم مصداق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
وفيه برهان متكرر لإحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) عندما إحتجوا على جعل الإنسان خليفة في الأرض .
ليكون تقوى المسلمين وعده للناس للهداية والإيمان وبيان إتحاد سنخية التسبيح والتعظيم لله عز وجل بين الخلائق ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (صوت الديك صلاته ، وضربه بجناحيه سجوده وركوعه ثم تلا هذه الآية : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم })( ) .
الرابع : إتيان المسلمين الصلاة جماعة بشوق وإخلاص ، هذا الشوق من اسمى مراتب التقوى لدلالته على أمور :
أولاً : تسليم المسلمين بأن الله عز وجل يعلم ما في نفوسهم ، وفي التنزيل [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ).
ثانياً : سلامة المسلمين والمسلمات من النفاق ، وهو إخفاء الكفر مع إظهار الإيمان .
ويطرد الشوق إلى الصلاة لذاتها الرياء ، وهي وواقية من الخداع والغش .
(أخرج أحمد بن منيع في مسنده بسند ضعيف عن رجل من الصحابة . أن قائلاً من المسلمين قال : يا رسول الله ما النجاة غداً قال : لا تخادع الله قال وكيف نخادع الله؟ قال أن تعمل بما أمرك به تريد به غيره ، فاتقوا الرياء فإنه الشرك بالله ، فإن المرائي ينادي به يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة اسماء : يا كافر ، يا فاجر ، يا خاسر ، يا غادر . ضل عملك ، وبطل أجرك ، فلا خلاق لك اليوم عند الله ، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع ، وقرأ آيات من القرآن { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً }( ) الآية و { إن المنافقين يخادعون الله }( ) الآية( ).
ثالثاً : تجلي الشوق إلى الصلاة على جوانح وجوارح المسلمين وعالم الأقوال والأفعال لذا تراهم في صفوف متراصة في كل صلاة يومية .
الخامس : فوز المسلمين بدعاء الملائكة لهم بزيادة الهدى والإرتقاء في سلم التقوى واليقين عند رؤيتهم يؤدون صلاتهم في أوقاتها ، وهو من الإعجاز في الإرادة التكوينية فيحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض بالدليل ، وهو الإفساد في الأرض وقتل النفس بغير حق فيتفضل الله عز وجل ويأمر آدم وذريته بأداء الصلاة لتكون شاهداً على التنزه عن الفساد ، وبرزخاً دون الإفساد .
وورد ذكر اسم الجلالة [الله] في آية البحث ست مرات لبيان فضله وإحسانه في نزولها , وما فيها من الأحكام والسنن , وفيه بعث على العمل بمضامينها .
(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة أُسري بي الى السماء رأيت تحت العرش سبعين مدينة كل مدينة مثل دنياكم هذه سبعين مرة مملوءة من الملائكة يسبحون الله ويقدّسونه ويقولون في تسبيحهم : اللهم أغفر لمن شهد الجمعة، اللهم أغفر لمن اغتسل في الجمعة ) ( ).
بشارة سيف بن ذي يزن بالنبي ( ص )
لقد أظهر الذين كفروا أشد صنوف العداوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام وحالما يؤمن الفرد بمعجزات النبوة يتوجه له الأذى منهم دفعة وتدريجاً ، وكان جانب الإغراء ضعيفاً ونادراً ، وفيه شاهد سطوة كبار الكفار من قريش وتوليهم شؤون الحكم والمبادرة في مكة ، فمن المعجزات في أحوال مكة أنها لم تقع تحت حكم الدول العظمى آنذاك مثل ، دولة الروم وهرقل , ودولة الفرس وكسرى .
وكان وكيل كسرى يحكم في اليمن ، وفيه قصة من بدائع تأريخ الأمم والشعوب ودلالة على حاجة الناس لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وأثر ومنافع بعثته على الناس [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ]( ).
فقد إحتل جيش الحبشة اليمن وطال وجودهم فيها وإنتزع أبرهة سلطان الحكم فيها من سيف بن ذي يزن بن عامر بن أسلم من أذواء اليمن وعاش بين(516-574)م وقيل أخذ الأحباش زوجته وهي أم ابنه معد يكرب ثم أعادوها .
فخرج سيف إلى قيصر ملك الروم وأستنصره على ملك الحبشة، وقال له إبعث من تشاء على ملك اليمن ، وكيلاً لك أي أنه أراد إزاحة أبرهة والأحباش عن اليمن ، ولكن ملك الروم إمتنع وقال : الحبشة على دين النصارى فلا أدخل معهم بحرب بسبب موضوع اليمن .
وكان ملك الروم وجيشه منشغلين بالحرب مع كسرى وجيشه كما يدل قوله تعالى[الم * غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ]( )، على وجود خصومة ومعارك بين الدولتين فلا يصح أن يفتح عليه باباً للقتال مجهولاً في ماهيته ومدته وأثره، كما أنه يجتنب محاربة النصارى، خصوصاً وأنه قد يحتاج إلى مساعدتهم في قتاله مع دولة كسرى.
فرجع سيف بن ذي يزن وذهب إلى الحيرة وقدم على النعمان بن المنذر ملك الحيرة فاستنجد به وشكى له، فقال أمهلني حتى أفد على كسرى وأخذه معه، وأدخله معه على كسرى الذي كان تاجه كبيراً مرصعاً بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ والذهب والفضة في نسق بديع من عمال مهرة، ولثقل التاج لا يستطيع كسرى وضعه على رأسه إذ أن عنقه لا يتحمله إنما يكون معلقاً في سقف إيوان مجلسه بسلسلة من ذهب يتدلى على موضع كرسي الملك، ومغطى بالقماش والستائر لا ترفع عنه إلا إذا لبسه كسرى، الذي يأتي فيدخل رأسه في التاج فترفع الستائر عنه، فمن يدخل إليه يبرك من هيبته ولما دخل سيف بن ذي يزن برك له خاصة وأنه جاء محتاجاً أمراً عظيماً وقال:
أيُها الملك غلبتْنا على بلادنا الأغربة.
فقال كسرى: أيّ الأغربة ؟ الحبشة أم السند. قال: الحبشة، فجئتك لتنصرَني عليهم، وتخرجهم عني، وتكون لك بلادي ، فأنت أحب إلينا منهم.
فقال: بعدت أرضك من أرضنا، وهي أرض قليلة الخيْر، إنما بها الشاء والبعير، وذلك مما لا حاجة لنا به، فلم أكن لأورّط جيشاً من فارس بأرض العرب، لا حاجة لي بذلك. فأجيز بعشرة آلاف درهم، وكساه كسوة حسنة)( ).
فلم يعتذر سيف عن قبولها لأنه جاء لأمر عظيم وطلب النصرة والمدد بجيش بل قبضها ولكنه قام بنثرها بين الناس، وقريباً من قصر الملك، فأخذ العبيد والصبيان والنساء يلتقطون الدراهم الفضية، فأخبر كسرى بالأمر فلم ينتقم منه، وأدرك أنه ذو شأن وأنه ملك من ابناء الملوك.
فبعث إليه كسرى وسأله عن فعله ونثره الهدايا التي أعطاها إياه، فقال: إن جبال أرضي في اليمن ذهب وفضة وهو الذي تدل عليه الإستكشافات في هذا الزمان ليبعث الشوق في نفسه لإحتلالها، إنما جئث إستصرخ الملك لنجدتي، ودفع الظلم عنا، وأحياناً يستنجد أهل اليمن بغيرهم، ويقومون بترغيبه بدخول بلادهم ومحاربة عدوهم في أرضهم، ويجدون من ينصرهم، ويتحمل الخسائر الفادحة بسببهم ولا يخرج بفوائد ومنافع تساوي معشار قتلى جنوده.
ففكر كسرى في الأمر جلياً وأدرك أن مجيء سيف ليس خدعة أو إستدراجاً أو لإضعافه في قتاله وحربه مع ملك الروم , فقال لسيف(أقم عندي حتى أنظر في أمرك. فأقام عنده)( ) أي أن سيفاً صار ضيفاً على كسرى.
فجمع كسرى مرازبته وقادة جيشه وأهل المشورة عنده، وعرض عليهم ما جاء به سيف، ويظهر أن ملوك ذلك الزمان كانوا يعتمدون المشورة، ولا يتعجلون في الحكم، كما ورد في بلقيس ملكة سبأ في اليمن، حينما جاءها كتاب نبي الله سليمان[يَاأَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ]( )، وحينما إستشار كسرى كبار رجال دولة .
قال أحدهم: أيها الملك في السجون رجال كثيرون محكوم عليهم بالقتل فأبعثهم للقتال في اليمن ، فان هلكوا نالوا ما حكمت به عليهم، وإن ظهروا في بلاد اليمن وطردوا الأحباش منها ، صار الملك لك ، وإزداد حكمك وأتسع سلطانك وخافك عدوك لأنك ستقاتله من أكثر من جهة وبلاد.
فأخذ كسرى بقوله وأمر بأحضار المساجين ، فكان عددهم ثمانمائة ، وقال ابن قتيبة : كانوا سبعة آلاف وخمسمائة) ( ).
وكونهم أكثر من ثمانمائة هو الأقرب بالإضافة أن الملك لا يكتفي بارسال السجناء الذين قد ينقلبوا ويرجعوا لمحاربته ، فلابد أنه أرسل معهم من حاشيته وجنوده المخلصين , وقد نقل المؤرخون أن عدد السفن التي ركبوها كانت ثماني سفائن .
ولا يرجح أن تحمل كل سفينة ألفاً من المقاتلين وخيلهم وعدتهم ومؤونهم ، نعم لابد أن سيفاً بن ذي يزن كان عنده رجال وجنود متهيئين للوثوب مع جيش كسرى القادم لهم بالسلاح والمؤون كما سيأتي بيانه .
فنظر الملك إلى أفضل المسجونين حسباً وبيتاً وهو وهرز من الديلم فأختاره قائداً للجيش وكان ذا سن، وغرقت في البحر سفينتان ، ووصلت ست سفن كان فيها القائد وهرز وسيف بن ذي يزن , ولابد أنهما إختاروا السفينة الأكثر أمناً وكان مع وهرز ابن له يسمى نوزاذ لا يعلم هل كان معه في السجن أم إلتحق به عندما صار قائداً للجيش ، والأظهر هو الثاني، لأصالة الحرية وعدم السجن.
ولما نزلوا إلى اليابسة وإطمأنوا سأل وهرز سيف بن ذي يزن، قال: ما عندك من قوة وجيش وأعتدة ومؤون وأموال فقال سيف: ما شئت من رجل عربي، وفرس عربي أصيل.
وطلب سيف الملازمة بينه وبين القائد وهرز , وقال له : إما أن نموت جميعاً أو نظهر جميعاً .
فقال له القائد وهرز : أنصفت وأحسنت .
فأخبر سيف قومه بنبأ قدومه مع جيش فارس وندبهم للقتال، فانحاز له كثير من قومه وأخبر مسروق بن أبرهة بقدوم الجيش والمدد مع سيف بن ذي يزن، فقام مسروق بجمع جيوشه من الحبشة، وتقابل الجيشان إذ جاء (مسروق بن أبرهة في مائة ألف من الحبشة، وأوباش اليمن فتواقفوا للحرب)( ).
وليس من دعوة للصلح أو المهادنة بينهما ، وكل واحد يريد أن يستولي على ملك اليمن ، وكان وهرز يبعث ابنه نوزاذ على جريدة خيل ، أي جماعة خيالة ليس فيهم راجل لإرادة مناوشة العدو، ومعرفة كيفية قتالهم ، والإنسحاب الفوري بعد المناوشة ، فلا يصح أن يأخذوا معهم رجّاله لأنهم لا يلحقون بالخيل هجوماً وأنسحابه، فيكون مصيرهم القتل , فتقوى معنويات العدو، إذا بدأت المعركة بقتل عدد من جيش العدو .
فخرج إليهم نوزاذ وناوشهم ، ولكنهم إستدرجوا وأحاطوا به ولم يستطع النجاة والعودة إلى الجيش وإلى أبيه فقتله جيش الحبشة فغضب وهرز ، وإزداد سخطاً عليهم وأصر على قتالهم ، وكان بامكان وهرز إرسال غير ابنه لإحتمال قتله ، ولكنه أرسله لمسائل :
الأولى : الوثوق بما يصفه ابنه من حال القوم .
الثانية : بيان التضحية وتقديم الابن لبعث الحماس عند أفراد الجيش.
الثالثة : الإحتراز من الضرر والغيلة والكذب ، وعندما أرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحدهم لأخذ صدقات بني المصطلق .
قال ابن إسحاق (أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بَعَثَ إلَيْهِمْ بَعْدَ إسْلَامِهِمْ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ ، فَلَمّا سَمِعُوا بِهِ رَكِبُوا إلَيْهِ .
فَلَمّا سَمِعَ بِهِمْ هَابَهُمْ فَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنّ الْقَوْمَ قَدْ هَمّوا بِقَتْلِهِ وَمَنَعُوهُ مَا قِبَلَهُمْ مِنْ صَدْقِهِمْ فَأَكْثَرَ الْمُسْلِمُونَ فِي ذِكْرِ غَزْوِهِمْ حَتّى هَمّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِأَنْ يَغْزُوَهُمْ فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ قَدِمَ وَفْدُهُمْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ .
فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ سَمِعْنَا بِرَسُولِك حِينَ بَعَثْته إلَيْنَا ، فَخَرَجْنَا إلَيْهِ لِنُكْرِمَهُ وَنُؤَدّيَ إلَيْهِ مَا قِبَلَنَا مِنْ الصّدَقَةِ فَانْشَمَرَ رَاجِعًا ، فَبَلَغْنَا أَنّهُ زَعَمَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَنّا خَرَجْنَا إلَيْهِ لِنَقْتُلَهُ وَوَاللّهِ مَا جِئْنَا لِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ وَفِيهِمْ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتّمْ})( ).
وقال وهرز أروني ملكهم أي مسروق.
ولم يعرفوا ولم يكونوا يعرفوا الملك الحبشي ، ولكنهم إستطاعوا تعيينه بالصفات ، إذ رأوا رجلاه وعاقداً تاجه على رأسه وبين عينيه ياقوتة حمراء ، ومن الغفلة في الحرب أن يلبس القائد رتبته، ويقوم بأفعال تحدد موضعه مثل توجيه الأوامر بالإشارة الظاهرة , وعبر الأجهزة التي يلتقطها العدو ويحدد معها موضعه.
فقال وهرز : نعم ، أي أنه أكد حدسهم وظنهم بأنه الملك فلبثوا برهة من الزمن ، ثم قال أعلام هو ؟ أي كيف حاله الآن وماذا يفعل وأي شيء يركب ، قالوا قد تحوّل على فرس ، فقال أتركوه أي لا تهيجوه ولا ترموه فيحترس ويحذر منكم .
فلبثوا وقتاً طويلاً ، ثم قال وهرز : علام هو ؟
قالوا : قد تحول من الفرس وركب البغلة .
فقال : ابنة الحمار ذلّ وذلّ حكمه، إني سأرميه)( ).
وتحتمل هذه الرمية وجوهاً :
الأول : إصابة الملك الحبشي نفسه , وهو على شعبتين :
الأولى : جرح الملك .
الثانية : قتل الملك .
الثاني : إصابة أحد القادة أو الخيول من حوله .
الثالث : وقوع السهم في البغلة التي يركبها الملك .
الرابع : تذهب الرمية سدى ولا تصيب أحداً ، لذا قال القائد وهرز لجنوده : إذا رأيتم أصحابه وقوفاً ولم يتحركوا عندما أرميه فاثبتوا حتى أوذنكم) ( ) وأمركم بالهجوم أو أي أمر آخر.
لأن وقوفهم يدل على عدم إصابة الملك .
وإذا رأيتم جنود العدو (قد إستداروا ولاثوا به) ( ) أي إلتجأوا إليه والتفوا حوله وأحاطوا به .
فمعنى هذا أني أصبت الرجل فاحملوا عليهم ) أي لأنهم في حال إرباك وإنكسار مفاجئ وليس عندهم قائد .
ثم أوتر قوسه أي علق عليها وَتَرَها وجعلها جاهزة للرمي وقيل لا يقدر على وترها غيره من شدتها ثم أمر بحاجبيه فعصبا له ، ثم وضع قوسه نشابة فمغط فيها حتى إذا ملأها أرسلها ، فصك بها الياقوتة التي بين عيني القائد مسروق.
فنفذت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه ، وتنكس عن دابته وإستدار الجند ينظرون إلى ملكهم بحال من الذهول والحيرة وأحاطوا به فحملت عليهم خيل وهرز يقتلون بهم ، وفّر الباقون على وجوههم طلباً للنجاة .
قال ابن إسحاق (أن وهرزَ أوتر قوسه ثم مَعَطَ فيها حتى إذا ملأها أرسلَ نشابتهَ فأصابت مسروق بن أبرهةَ) ( ).
فتوجه وهرز إلى صنعاء ليدخلها حتى إذا وصل بابها ورآى لابد من خفض الراية من أجل الدخول فقال : لا تدخل رايتي منكسة أبداً ، إهدموا الباب ، فهدموا باب صنعاء ، فدخلها ورايته مرفوعة بين يديه.
وكتب إلى كسرى يخبره بأنه ضبط اليمن , وأخرج من كان فيها من الحبشة , وبعث إليه بالأموال والخراج ، فكتب إليه كسرى يأمره بأن يكون سيف بن ذي يزن ملكاً على اليمن وأرضها ، وفرض عليه كسرى جزية وخرجاً يؤدى إلى كسرى كل عام بوقت معلوم ، خاصة وأنه سبق وأن قال لكسرى عندما جاء يستصرخه (ما جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهب وفضة) ( ).
ومن خصائص هذا الخراج بقاء الملك والجهة التي تدفعه في حاجة وسعي لتدبيره في أوانه .
وهو برزخ دون إشعال الفتن والحروب التي تستلزم الأموال والمؤون وتعطيل التجارات والزراعات ، أما وهرز ففيه قولان :
الأول : طلب كسرى بن قباذ من وهرز الإنصراف والعودة إليه.
الثاني : بقي وهرز في اليمن حاكماً(قَالَ ابن هِشَامٍ : ثُمّ مَاتَ وَهْرِز ، فَأَمّرَ كِسْرَى ابنهُ الْمَرْزُبَانَ بْنِ وَهْرِز عَلَى الْيَمَنِ ثُمّ مَاتَ الْمَرْزُبَان فَأَمّرَ كِسْرَى ابنهُ التّيْنُجان بْنَ الْمَرْزُبَانِ عَلَى الْيَمَنِ ، ثُمّ مَاتَ التّيْنُجان.
فَأَمّرَ كِسْرَى ابن التّيْنُجان عَلَى الْيَمَنِ ، ثُمّ عَزَلَهُ وَأَمّرَ بَاذَانَ فَلَمْ يَزَلْ بَاذَانُ عَلَيْهَا حَتّى بَعَثَ اللّهُ مُحَمّدًا ( النّبِيّ ) صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ) ( ) .
وهذا القول هو الأرجح وحينما وصل كتاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وآله وسلم إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام قام بتمزيق الكتاب ، وكتب إلى باذان الذي هو في اليمن، أنه بلغني أن رجلاً من قريش خرج بمكة يزعم أنه نبي فسر إليه فاستتبه فان تاب وإلا فابعث لي رأسه).
ولكن باذان لم يسر بجيش إلى المدينة , وإمتناعه هذا من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ويمكن تأسيس قانون منه ، وهو أن الأمراء لا يطيعون الملوك إذا أمروهم بقتال النبي, وهو من وجوه تفضيل النبي محمد ومعجزة له صلى الله عليه وآله وسلم.
ترى لماذا إمتنع باذان عن السير إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم , فيه وجوه :
الأول : فضل الله عز وجل في بعث الفزع والخوف في قلوب أعداء الإسلام ، وعن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قال : أعطيت ما لم يعط أحد من أنبياء الله قلنا يا رسول الله ما هو؟ قال : نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل لي تراب الأرض طهوراً ، وجعلت أمتي خير الأمم)( ).
وفي رواية أبي أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : فضلت على الأنبياء بأربع : أرسلت إلى الناس كافة ، وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً ، فأينما رجل أدركه من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره ، ونُصِرْتُ بالرعب مسيرة شهر يقذفه في قلوب أعدائي)( ).
ليفيد الجمع بين الحديثين أعلاه تقييد الأول للثاني .
وأن قطع المسافة بين المدينة وصنعاء أقل من شهر ، مما يدل على أن الرعب ملأ قلب باذان وجيشه .
الثاني : خشية بأذنان من قطع البراري والصحاري إلى المدينة.
الثالث : بلوغ الأمصار وتعدد إنتصارات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، ليكون من معاني قوله تعالى[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( )، أي جلياً عند المؤمنين فيزيد إيمانهم، وعند الكافرين فتمتلأ قلوبهم بالخوف.
الرابع : كثرة أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الناس الإسلام خاصة وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعث رسالته إلى كسرى بعد صلح الحديبية في شهر جمادي الأولى من السنة السابعة للهجرة بيد الصحابي عبد الله بن حذافة السهمي وكان يتقن الفارسية.
الخامس : بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسالته إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام في شهر جمادى الأولى من السنة السابعة للهجرة، ولم يكن في الرسالة جرح أو ذم لكسرى ، فقد كان نص الرسالة هو :
(بسم الله الرحمن الرحيم، من محمّد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتّبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّداً عبده ورسوله .
وإنّي أدعوك بدعاء الله، وإنّي رسول الله إلى النّاس كافّة لأُنذر (مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحقَّ القَوْلُ عَلى الكافرين) ( )، فأسلمْ تسلمْ، وإن تولّيت فإنّ إثم المجوس عليك) ( ) .
وقدم النبي اسمه ويدل تقديم اسم المرسِل على اسم المرسَل إليه على أن الرسالة من العالي إلى الداني ولعله من أسباب إثارة كسرى، مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكرمه ولقبه بأنه عظيم الفرس ، وفيه حجة على كسرى أنه إذا أسلمت تسلم معك الأمة كلها ، ولو أسلم كسرى هل يبقى في سلطانه .
الجواب نعم ، ويدل عليه ما سيأتي من وعد النبي له إذا آمن, كما يكون له العمر المديد ،ويحفظ ملكه في ذريته ببركة الإسلام وآيات القرآن ، ولكان ممن توجه له النداء الكريم [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ولكنه أبى فكان من مصاديق خاتمة كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه (فان أبيتَ فان أثم المجوس عليك) فلم يمنع جحوده بالرسالة دخول أهل فارس الإسلام ، كما بيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلاوة الإيمان ، وأنه علة لتلقي السلام والأمن من البلاء والقتال في الدنيا ،والفزع والخوف في الآخرة .
لقد بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسائله إلى كسرى وغيره من ملوك الأرض ومنهم قيصر ملك الروم والمقوقس ملك مصر والمنذر بن ساوي ملك البحرين، في السنة السابعة للهجرة وفي وقت صار الإسلام فيه منيعاً ، وحقق المسلمون إنتصاراً وفتحاً في صلح الحديبية .
ومع هذا فحينما وصل خبر تمزيق كسرى لرسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فرح المشركون في مكة والطائف وتناقل وأفشى المنافقون الخبر .
وبنى المشركون الآمال الخبيثة على نصب كسرى العداء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا : كفيتم الرجل) .
أي جاء ملك ذو جيش قوي لا يستطيع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون صده ، ولكن الله عز وجل قال [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
وقيل أن كسرى توعد باذان صاحب صنعاء قائلاً له ( ألا تكفيني أمر رجل قد ظهر بأرضك يدعوني إلى دينه ؟! لتكفينه أو لأفعلن بك)( ) .
وبعث باذان عامل كسرى على صنعاء برجلين جلدين إلى الحجاز ليأتيا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدهما قهرمانه، وآخر اسمه خرخرة، وبعث معهما كتاباً إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأمره فيه بالإنصراف معهما إلى كسرى، فخرجا ووصلا إلى مدينة الطائف، ووجدا رجلاً من قريش في أرض الطائف إذ كانت لقريش بساتين وزراعات في الطائف فسألاه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم , فقال لهما: هو بالمدينة وفرح المشركون بالنبأ.
ودخل الرجلان المدينة ، ووصلا إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن يريا حاجباً فطمعا فيما جاءا إليه ، وكانا قد حلقا لحاهما وفتلا شاربيهما ، فكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم النظر إليهما، وبدأ بهما وبمظهرهما الخارجي ولزوم أن يكون كما أمر الله .
( فقال لهما : ويلكما من أمركما بهذا.
قالا: أمرنا ربنا – يعنيان كسرى .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” ولكن ربى أمرنى بإعفاء لحيتي وقص شاربي)( )، وهذا الحديث مما يستدل به حرمة حلق اللحية، وهو ضعيف سنداً.
ثم قال لهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنصرفا اليوم وإرجعا حتى تأتيني غداً) ، ليريا سلطان الإسلام في المدينة وتفاني المسلمين حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإقامة المسلمين الصلاة.
وهو من الإعجاز في فرض الصلاة خمس مرات في اليوم، إذ يرى القادم إلى ثغر الإسلام، وعموم بلاد المسلمين تقوى وصلاح المسلمين ومعاملاتهم ذات الصبغة الأخلاقية الحميدة المترشحة عن القرآن والسنة ، ومعها يتطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمر الله عز وجل ومعجزة حسية عظيمة بهلاك عدوه.
وكان العرب يأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشكون له خوفهم من ملك قيصر في الشام وكسرى في العراق عندما يذهبون للتجارة فيها .
(فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده).
وهذا الإنباء من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم المتجددة كل يوم، فنشأ صرح الإسلام على أنقاض تلكما الدولتين، ولم يقم لهما حكم بعده أبداً، وهو شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق إلا عن الوحي إذ لا يظن أحد من أهل زمان النبوة أن أعظم دولتين على الأرض تندثران على نحو فوري، ويصيبهما المحو دفعة واحدة وإلى يوم القيامة، وهذا المحو نعمة على الناس، ومن مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) فأوحى الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه تعالى سلط على كسرى ابنه شيرويه فقتله .
وفي مسألة إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل كسرى أقوال أخرى:
الأول : عندما جاء الرجلان من قبل باذان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب له النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً قال فيه (إنّ اللّهَ قَدْ وَعَدَنِي أَنْ يُقْتَلَ كِسْرَى فِي يَوْمِ كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا فَلَمّا أَتَى بَاذَانَ الْكِتَابُ تَوَقّفَ لِيَنْظُرَ .
وَقَالَ : إنْ كَانَ نَبِيّا فَسَيَكُونُ مَا قَالَ . فَقَتَلَ اللّهُ كِسْرَى فِي الْيَوْمِ الّذِي قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ . قَالَ ابن هِشَامٍ : قُتِلَ عَلَى يَدَيْ ابنهِ شِيرَوَيْه ، وَقَالَ خَالِدُ بْنُ حِقّ الشّيْبَانِيّ :
وَكِسْرَى إذْ تَقَسّمْهُ بَنُوهُ … بِأَسْيَافٍ كَمَا اُقْتُسِمَ اللّحّامُ
تَمَخّضَتْ الْمَنُونُ لَهُ بِيَوْمٍ … أَنّى وَلِكُلّ حَامِلَةٍ تِمَامُ) ( ).
الثاني : لقد نزل الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (في شهر كذا وكذا في ليلة كذا وكذا من الليل سلط عليه ابنه شيرويه فقتله): فدعاهما فأخبرهما.
فقالا: هل تدرى ما تقول ؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من هذا، فنكتب عنك بهذا , ونخبر الملك باذان؟ قال: ” نعم أخبراه ذاك عني، وقولا له: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى وينتهى إلى الخف والحافر، وقولا له: إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملكتك على قومك من الأبناء” أي أبناء الفرس الذين في اليمن.
ثم أعطى خرخرة منطقة فيها ذهب وفضة كان أهداها إليه بعض الملوك.
فخرجا من عنده حتى قدما على باذان فأخبراه الخبر فقال: والله ما هذا بكلام ملك، وإني لارى الرجل نبيا كما يقول، وليكونن ما قد قال، فلئن كان هذا حقا فهو نبي مرسل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا.
فلم ينشب باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه: أما بعد، فإني قد قتلت كسرى، ولم أقتله إلا غضبا لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم ونحرهم في ثغورهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك، وانطلق إلى الرجل الذى كان كسرى قد كتب فيه فلا تهجه حتى يأتيك أمرى فيه) ( ).
وفيه نكتة وهي أن سلطان باذان لن يكون مطلقاً في اليمن إنما هو خاص بابناء فارس الذين في اليمن.
ولما رآى باذان صدق إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن مقتل كسرى وهو أمر نادر في تأريخ ملوك فارس أن يقتل الولد أباه الملك ، ويتربع على العرض محله دخل باذان وأقطاب حكومته الإسلام ، وأسلم معهم الكثير من أهل اليمن.
وحينما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم اسلام باذان ورجاله فرح فرحاً شديداً ، وشكر الله عز وجل ، وعندما جاء وفد منهم بعث معهم الإمام علي عليه السلام لتعليمهم سنن التوحيد وأداء الفرائض وأحكام الحلال والحرام ، وأقر بأذان بمقامه وكرسيه ثم بعث لهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معاذ بن جبل.##
الثالث : ورد عن أبي بكرة أن رجلاً من أهل فارس أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , فقال النبي له : إن ربي قد قتل الليلة ربك.
الرابع : بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً من قبله إلى كسرى هو عبد الله بن حذافة السهمي ، وبعث دحية الكلبي إلى قيصر بكتابه يدعوه إلى الإسلام.
(وروى في حديث دِحية بن خليفة أنه لما رجع من عند قيصر وجد عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسل كسرى، وذلك أن كسرى بعث يتوعد صاحب صنعاء ويقول له: ألا تكفيني أمر رجل قد ظهر بأرضك يدعوني إلى دينه، لتكفينه أو لافعلن بك.
فبعث إليه، فقال لرسله: ” أخبروه أن ربي قد قتل ربه الليلة ” فوجدوه كما قال)( ) ، والضمير الهاء في فوجدوه يعود لباذان صاحب صنعاء.
الخامس : ما ورد عن أبي هريرة قال ( أقبل سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ” إن في وجه سعد خبرا ” فقال: ” يا رسول الله هلك كسرى ” فقال: ” لعن الله كسرى، أول الناس هلاكا فارس ثم العرب “)( ) .
والمراد من فارس في الحديث أي سلطان وملك فارس ومن العرب سلطان وملك كبار الكفار من قريش , ويمكن الجمع بين هذه الأخبار ومجئ إخبار سعد تصديقاً للوحي وعند إشاعة نبأ مقتل كسرى في الأمصار ، ليكون فيه خزي للمشركين الذين أملوا بعث كسرى جيشاً لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أن كسرى وقيصر يتجنبان التوغل في صحراء الجزيرة العربية لأسباب :
الأول : الخوف وشدة عطش أفراد الجيش ، فليس من ماء في الجزيرة إلا ماء الآبار يتزود منه الذين يقطعون الصحراء فرادى ، وجماعات قليلة ، وليس جيوش عظيمة ، وبين كل بئر وبئر مسافة ليست بالقليلة ، فقد تصل إلى ثلاثين أو أربعين كيلو متراً وقد يصلون إلى البئر فيجدون ماءها قد نضب , وهي التي تسمى القليب, وقد يقوم العرب والبدو بنزح ماء البئر مكراً قبل وصول الجيش له.
والملوك والأمراء يتوقعون هذا , ويحسبونه من غدر العرب , وكأنهم يريدون من العربي السكوت والخضوع لغزوهم .
الثاني : الخشية من قيام العرب بطم الآبار وإخفائها وإفساد ماءها كيلا ينتفع منه الجيش الغازي وبطبيعة العرب أنهم يكرهون الأمرة والسلطنة عليهم ، إذ إعتادوا على طبع مخصوص وحياة فردية مستقلة في الجزيرة ، وإن كان بعضهم يتمنى في أيام من حياته وعندما ينزل به الظلم ويتعرض للتعدي والغزو والنهب أن يكون هناك سلطان وحكومة مركزية تنتزع حقه .
فتفضل الله عز وجل على العرب بدولة الإسلام من بينهم قال تعالى[هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
فحرم الإسلام الثأر والغزو عصبية والوأد ، ونزل تشريع القصاص قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( )، العدل من غير أن تنخرم رغبة العربي بالإستقلال , وفيه مسائل :
الأولى : إنه من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : فيه تخفيف عن المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ) .
الثالثة : فيه ترغيب للناس بدخول الإسلام .
الرابعة : بيان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتأكيد قانون من الإرادة التكوينية ، وهو أن أحكام الشريعة الإسلامية إنما هي نازلة من عند الله عز وجل .
الثالث : نفاذ مؤن الجيش في الصحراء ، لبعد المسافة ومشاق الطريق وتعذر الشراء وجمع الحبوب والفواكه والمؤون في الطريق .
الرابع : يتخذ جيش الفرس أو الروم الخيل والبغال رواحل في مسيرهم ولا تستطيع تحمل قطع الصحارى ، فمن مصاديق قوله تعالى [أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ] ( ) , قطع المسافات الطويلة في الصحراء .
الخامس : الخشية من قيام العرب بالإغارة الليلية على الجيش ، فقد يظهر لهم الأعراب في النهار الإكرام ومعاني الرضا ، ولكنهم يهجمون عليهم في الليل لأنهم دخلوا أرضهم ، وطمعاً بما عندهم من المؤن.
السادس : قلة المنافع من إحتلال أرض الجزيرة الجرداء والصحارى القاحلة وصعوبة التواصل مع العاملين فيها .
السابع : رجحان قيام العرب بالثورات المتتالية لكراهيتهم لتولي غيرهم الحكم عليهم ، ولذا تراهم يحفظون أنسابهم وقبائلهم ويكثر النسابة بينهم ، والأسباب المتقدمة من أسرار ومقدمات بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وغلب سيف بن ذي يزن على اليمن وفتك بمن بقي من الأحباش ، وبقر بطون الحوامل ، والظلم قبيح في ذاته وعاقبته , وجاء الإسلام لمنع مثل هذا البطش ، وكانت مدة ملك الحبشة لليمن إبتداء من دخول أرباط لها إلى أن قتل وهرز مسروق بن أبرهة اثنتين وسبعين سنة ، توالى فيها على الحكم أربعة هم أرباط وأبرهة ويكسوم بن أبرهة ومسروق بن أبرهة .
وقال (سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ الْحِمْيَرِيّ :
يَظُنّ النّاسُ بِالْمَلْكَيْنِ … أَنّهُمَا قَدْ الْتَأَمَا
وَمَنْ يَسْمَعْ بِلَأْمِهِمَا … فَإِنّ الْخَطْبَ قَدْ فَقُمَا
قَتَلْنَا الْقَيْلَ مَسْرُوقًا … وَرَوّيْنَا الْكَثِيبَ دَمَا
وَإِنّ الْقَيْلَ قَيْلُ النّاسِ … وَهْرِز مُقْسِمٌ قَسَمَا
يَذُوقُ مُشَعْشَعًا حَتّى … يُفِيءَ السّبْيَ وَالنّعما
قَالَ ابن هِشَامٍ : وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . وَأَنْشَدَنِي خَلّادُ بْنُ قُرّةَ السّدُوسِيّ آخِرَهَا بَيْتًا لِأَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُهَا لَهُ . قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَقَالَ أَبُو الصّلْتِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الثّقَفِيّ قَالَ ابن هِشَامٍ : وَتُرْوَى لِأُمَيّةِ بْنِ أَبِي الصّلْتِ :
لِيَطْلُبَ الْوِتْرَ أَمْثَالُ ابن ذِي يَزَنَ … رَيّمَ فِي الْبَحْرِ لِلْأَعْدَاءِ أَحْوَالَا
يَمّمَ قَيْصَرَ لَمّا حَانَ رِحْلَتُهُ … فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ بَعْضَ الّذِي سَالَا
ثُمّ انْثَنَى نَحْوَ كِسْرَى بَعْدَ عَاشِرَةٍ … مِنْ السّنِينَ يُهِينُ النّفْسَ وَالْمَالَا
حَتّى أَتَى بِبَنِي الْأَحْرَارِ يَحْمِلُهُمْ … إنّكَ عَمْرِي لَقَدْ أَسْرَعَتْ قِلْقَالَا
لِلّهِ دَرّهُمْ مِنْ عُصْبَةٍ خَرَجُوا … مَا إنْ رَأَى لَهُمْ فِي النّاسِ أَمْثَالَا
بِيضًا مَرَاربةً غُلْبًا أَسَاوِرَةً … أُسْدًا تُرَبّبُ فِي الْغَيْضَاتِ أَشْبَالَا
يَرْمُونَ عَنْ شُدُفٍ كَأَنّهَا غُبُطٌ … بزَمْخرٍ يُعَجّلُ الْمَرْمِيّ إعْجَالَا
أَرْسَلْتَ أُسْدًا عَلَى سُودِ الْكِلَابِ فَقَدْ … أَضْحَى شَرِيدُهُمْ فِي الْأَرْضِ فُلّالَا
فَاشْرَبْ هَنِيئًا عَلَيْك التّاجُ مُرْتَفِقًا … فِي رَأْسِ غُمْدان دَارًا مِنْك مِحْلَالَا
وَاشْرَبْ هَنِيئًا فَقَدْ شَالَتْ نَعَامَتُهُمْ … وَأَسْبِلْ الْيَوْمَ فِي بُرْدَيْك إسْبَالَا
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لاقَعْبان مِنْ لَبَنٍ … شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالَا
قَالَ ابن هِشَامٍ : هَذَا مَا صَحّ لَهُ مِمّا رَوَى ابن إسْحَاقَ مِنْهَا ، إلّا آخِرَهَا بَيْتًا قَوْلُهُ
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لاقَعْبان مِنْ لَبَنٍ )( ).
ووفد وجهاء العرب من الحجاز والحيرة وغيرها على سيف بن ذي يزن مهنئين .
وكان سيف بن ذي يزن (516-574) م ملكاً على صنعاء وما حولها .
وعندما ظهر سيف بن ذي يزن على الأحباش في اليمن في السنة الثانية لميلاد رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم , وهو من بركات إشراقة نور وجهه على الأرض , كما في نصر العرب في معركة ذي قار , ورحع إلى الحكم في اليمن زاره جدّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عبد المطلب بن هاشم مع وفد من قريش منهم أمية بن عبد شمس ، وعبد الله بن جدعان ،وخويلد بن أسد مهنئين له بطرد الأحباش من اليمن .
وإستأذن عبد المطلب من سيف بن ذي يزن بالكلام فقال له : إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنا لك) ( )، لبيان أن للكلام عند الملوك صيغة خاصة تتقوم بالثناء والإطراء عليهم وذكر محاسنهم وسعة ملكهم ، وتكون خالية من الذم والتقبيح والتعريض والإساءة والجدال وإملاء الرأي وكثرة السؤال ، وتتصف بالتفاؤل والأمل ، وتمتنع عن التشاؤم .
ولكن فوق كل هذا الموعظة بلزوم طاعة الله والخشية من عقابه ، فسواء رضي الملك بها أم لم يرض , فلها الأولوية ، وفيها تعظيم لشعائر الله ، والحديث في حضرة الملوك من أهم ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مع الحفاظ على النفس وإجتناب جلب الأذى والضرر ، لذا نزل القرآن بالحث عليه قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وتبين آيات القرآن جهاد وإحتجاج موسى عليه السلام بين يدي فرعون ودعاؤه له ولقومه للإسلام ، وكان فرعون يدّعي الربوبية ، ويسميه قومه الرب ، فأستكبر وسأل موسى على نحو الإستفهام الإنكاري [قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى] ( ) أي بإشراك هارون معه. أجابه موسى عليه السلام قال [رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى] ( )
وتكلم عبد المطلب جد النبي ’ بحضرة ذي يزن فأثنى عليه كملك ومدح آباءه .
وأقر له بأنه ملك العرب ورأسها الذي تنقاد إليه ثم عرّفه بالوفد الذي معه ورفعة شأنه والغاية التي جاءوا من أجلها .
لبيان أن عبد المطلب إمتدح الملك أولاً ، وأثنى عليه ثم عرّج على مدح نفسه وآبائه وأصحابه قائلاً (أهل حرم الله وسدنة بيته أشخصنا إليك الذي أبهجنا بكشف الكرب الذي فدحنا فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة .
فقال له سيف وأيهم أنت أيها المتكلم , فقال أنا عبد المطلب بن هاشم . قال : ابن أختنا قال نعم قال أدنه فأدناه ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال لهم مرحبا وأهلا قد سمع الملك مقالتكم ، وعرف قرابتكم ، وقبل وسيلتكم ، وأنتم أهل الليل والنهار فلكم الكرامة ما أقمتم ، والحباء إذا ظعنتم .
ثم أنهضوا إلى دار الضيافة والوفود فأقاموا شهرا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم بالانصراف) ( ).
ثم فطن الملك وذكر وجودهم عنده فارسل على عبد المطلب ، وإنفرد به وأدنى محله وأباح له سراً إطلع عليه في الكتاب والعلم المكنون الذي توارثه ملوك اليمن ، وحجبوه عن غيرهم ، فسأله عبد المطلب عن هذا السر ما هو فقال الملك سيف بن ذي يزن :
(إذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة ، كانت له الإمامة ، ولكم به الزعامة إلى يوم القيامة.
ثم قال هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد اسمه محمد يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه ، وقد ولدناه مرارا والله باعثه جهارا وجاعل له منا أنصارا ، يعز بهم أولياءه ، ويذل بهم اعداءه ، ويصرف بهم الناس عن عرض .
ويستفتح بهم كرائم أهل الأرض يعبد الرحمن ويدحر الشيطان ويخمد النيران ويكسر الأوثان .
قوله فصل ، وحكمه عدل ، يأمر بالمعروف ويفعله ، وينهي عن المنكر ويبطله) ( ).
وأدرك عبد المطلب أن الصفات التي ذكرها الملك تنطبق على شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان عمره سنتين أو ثلاث سنوات وأنه كفله هو وعمه أبو طالب ، إلى جانب علامات النبوة التي صاحبت ولادته صلى الله عليه وآله وسلم .
فأخبر عبد المطلب الملك بهذه الأمور وصدق بشارته ، فقال الملك ، إن الذي قلت , فاحفظه وأحذر عليه من أعدائه , وقال أن أيديهم لا تصل إليه .
وقال (ولولا أني أعلم ان الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير يثرب دار ملكي فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق ان بيثرب استحكام امره وأهل نصره وموضع قبره)( ).
لقد أخبر الملوك بأن دار حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو يثرب أي المدينة المنورة ، ويدل الإخبار عن كون قبره في المدينة على أمور :
الأول : علو الشأن والرفعة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته .
الثاني : طاعة المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي التنزيل [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثالث : بيان حقيقة وهي أن يوم مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا فاجعة ومصيبة عظمى .
الرابع : يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الى الرفيق الأعلى ، والسيادة لحكم الإسلام في المدينة وما حولها .
الخامس : صيرورة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مزاراً وإلى يوم القيامة ، ومن الإعجاز أن الملايين من المسلمين يفدون إلى المدينة المنورة كل عام لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي) ( ).
ولما وصل كتاب شيرويه إلى باذان بنبأ قتل كسرى وتوليه الحكم وعلى نحو موافق لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جانب ما نقل له الناس من معجزاته أيقن أنه نبي وأن لا طاقة له بحربه وقتاله .
قال الزهري (فلما بلغ ذلك باذان بعث بإسلامه وإسلام من معه من الفرس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فقالت الرسل من الفرس لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إلى من نحن يا رسول الله ؟ قال : أنتم منا وإلينا أهل البيت
قال ابن هشام : فبلغني عن الزهري أنه قال : فمن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : سلمان منا أهل البيت) ( ).
ويحتمل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أنتم منا وإلينا) في جهة الخطاب وجوهاً :
الأول : إرادة الرسل الذين بعثهم باذان من المسلمين .
الثاني : المقصود أولاد الفرس الذين بقوا في اليمن وبين قبائلها وصاروا مسلمين .
الثالث : إرادة عموم الفرس .
الرابع : المراد كل فارسي في بلاد العرب .
الخامس : المراد كل مسلم من غير العرب ويقطن في البلاد العربية .
السادس : إرادة كل مسلم غير عربي ، فهو قرشي ومن أهل البيت بالإنتماء وليس بالولاية وحده ، والمختار هو الثاني والثالث والرابع ويلحق بها الخامس والسادس .
ولم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( أنتم مني وإلي) لأن المقام مقام النسب والإنتماء القبلي فلذا جعلهم من أهل البيت وفيه نكتة وهي توصية أهل البيت وعموم المسلمين وإلى يوم القيامة بهم وبالعناية بهم .
وفيه دعوة للفرس وغيرهم لإكرام أهل البيت والإقتداء بهم والصدور عن أمرهم وفق الكتاب والسنة وهو من مصاديق ما أخرجه الطبراني (عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني لكم فرط وإنكم واردون عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين .
قيل : وما الثقلان يا رسول الله؟ قال : الأكبر كتاب الله عز وجل. سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم ، فتمسكوا به لن تزالوا ولا تضلوا ، والأصغر عترتي وأنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض ، وسألت لهما ذاك ربي فلا تقدموهما لتهلكوا ، ولا تعلموهما فإنهما أعلم منكم ) ( ).
ولم تكن بشارة سيف بن ذي يزن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحدها ، بل جاءت البشارات بالكتب السماوية السابقة ، وتناقلتها الرهبان والقديسون وتوارثوا صفاته صلى الله عليه وآله وسلم وعلامات زمان نبوته ، فلابد أن تكون عند الملوك في خزائنهم لأنهم يعملون على توارث الحكم وجعلهم العلوم وأخبار المغيبات وحوادث الدهر تركة لابنائهم .
وتأتي البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عامة لا يمكن منع وتحقق مصداقها حتى وان صارت نفرة عند بعض نفوس الملوك منها لأنه يدعو إلى التوحيد وعبادة الرحمن وإقامة العدل ، ويبقى الملوك في عروشهم إن إختاروا الإسلام ، أو إكتفوا بأداء الجزية إن كانوا من أهل الكتاب ، قال تعالى [إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ] ( ) وهل من موضوعية لبشارة سيف بن ذي يزن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمجئ وفد نصارى نجران إلى المدينة المنورة وطلبهم الصلح مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورضاهم بالجزية ، الجواب لا يبعد هذا .
وقول سيف إنه من (الكتاب المكنون والعلم المخزون)( )، لا يمنع من إطلاع أهل الكتاب عليه ، أو مجئ البشارات لهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من طرق أخرى ، بل أنها تصل إليهم من باب الأولوية القطعية .
(عن ابن جريج قال : بلغنا أن نصارى نجران قدم وفدهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم السيد ، والعاقب ، وهما يومئذ سيدا أهل نجران .
فقالوا : يا محمد فيم تشتم صاحبنا؟ قال : من صاحبكم؟! قالوا : عيسى ابن مريم تزعم أنه عبد . قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أجل إنه عبد الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه . فغضبوا .
وقالوا : إن كنت صادقاً فأرنا عبداً يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه ، لكنه الله . فسكت حتى أتاه حبريل فقال : يا محمد { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم. . . }( ) .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا جبريل إنهم سألوني أن أخبرهم بمثل عيسى . قال جبريل { إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } فلما أصبحوا عادا فقرأ عليهم الآيات)( ).
إن تعدد البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنتشارها في الأمصار وبين أهل الملل من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) ليس من باب الإستصحاب القهقري، ولكن لأن هذه البشارات فرع النبوة ومقدمة لها ومن مصاديق قوله تعالى[وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( )، ومنها البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإنذار من الصدود عن دعوته ومحاربته ، وفيه دعوة كريمة للتصديق ببعثته ونصرته ، والإمتناع عن الإنصات لأهل الشك والريب عندما تتجلى معجزات نبوته.
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ] ( ).
ورد لفظ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في سورة آل عمران سبع مرات ولم يرد في النصف الأول من السورة إلا في آخر آية منه , وهي الآية أعلاه التي يتزين هذا الجزء ببيان موضوعية نداء الإيمان فيها ، ثم وردت المرات الستة الأخرى في النصف الثاني من السورة .
وأختتمت السورة بالآية المائتين منها , وهي من آيات النداء , وهو قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
لقد جاءت آيات كثيرة من سورة آل عمران بخصوص الإحتجاج على أهل الكتاب وبيان أحكام الشريعة , ومنها كيفية أداء حج بيت الله الحرام , وجاءت آية البحث بنهي المسلمين عن طاعتهم , وبصيغة الجملة الشرطية ، وهو من الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن بأن يتبع المسلمون لغة الشرط للنهي في آية البحث ، وقد تتخذ ذات الصيغة للأمر بحسب الموضوع والقرائن ، كما في قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا] ( ) أي أن الآية تأمر بالصبر وبالخشية من الله , والتقيد بطاعته .
وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال (كان بين هذين الحيين من الأوس والخزرج قتال في الجاهلية فلما جاء الإسلام اصطلحوا وألّف الله بين قلوبهم , فجلس يهودي في مجلس فيه نفر من الأوس والخزرج فأنشد شعراً قاله أحد الحيين في حربهم ، فكأنهم دخلهم من ذلك .
فقال الآخرون : قد قال شاعرنا كذا وكذا . . . فاجتمعوا وأخذوا السلاح ، واصطفوا للقتال ، فنزلت هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب } إلى قوله { لعلكم تهتدون }( ) .
فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى قام بين الصفين ، فقرأهن ورفع صوته ، فلما سمعوا صوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن أنصتوا له وجعلوا يستمعون ، فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضاً ، وجثوا يبكون)( ).
لقد نزلت الآية بعد قيام شاس بن قيس باثارة الفتنة بين الأوس والخزرج ، ولو حصلت هذه الفتنة بين الأنصار فمن باب الأولوية القطعية أن تحدث بين المهاجرين والأنصار ، إذ تكون أسهل حينئذ ، لذا نزلت آية البحث لتمنع من الفتنة بين الحيين من الأنصار ، وتقطع الطريق على أولئك الذين يبغون الفتنة بين عموم المسلمين .
ويبين الحديث أعلاه صفحة مشرقة وعلم وعلماً ، لبيان السنة للقرآن وتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآياته بأن يبادر حالماً نزلت الآية إلى حلّ النزاع بين طائفتين من الأنصار ، وفيه دعوة لعلماء الإسلام والأمراء والزعماء إلى الإستعانة بآيات القرآن في إصلاح المجتمعات وإعانة الآيات في الهداية إلى عبادة الله .
وفي إفتتاح آية البحث بنداء الإيمان مسائل :
الأولى : تذكير المسلمين بإيمانهم بالله وتصديقهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : وجوب إستحضار ذكر الله والإقرار بالعبودية له سبحانه.
الثالثة : دعوة المسلمين للتعاون في التوقي من طاعة بعضهم للذين يريدون لهم الإرتداد ، فمن أسرار نداء الإيمان وجوب قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بخصوص موضوع آية البحث : وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا تناجوا بعدم طاعة أهل الكتاب بخصوص أسباب الإرتداد .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا كونوا كالبناء المرصوص في الإحتراز من مقدمات الإرتداد .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا شدوا عضد بعضكم بعضاً في الثبات في مقامات الإيمان , عن ابي موسى عن النبي (قَالَ : إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا) ( ).
رابعاً : اتقوا الله مجتمعين ومتفرقين , فالتقوى وقاء وحرز من الإرتداد .
خامساً : يا أيها الذين آمنوا إمنعوا أي فرد منكم من طاعة فريق من أهل الكتاب بما يؤدي إلى الإرتداد له أو لغيره ، بلحاظ صبغة العموم في الآية الكريمة .
وهل تعني الآية النهي عن المضاربة والشراكة مع أهل الكتاب أو العمل بالإجارة عندهم ، كالبائع في المتجر أو العامل في المصنع الذي يعود لفرد أو جماعة من أهل الكتاب أو من خصوص الفريق الذي يسعى بقوله وفعله لإرتداد المسلمين .
الجواب لا ، وهو من التشديد على النفس إنما تصاحب آية البحث المسلم الذي يشاركهم التجارة , والعامل الذي يعمل عندهم ، ليكون بحصانته وإحترازه داعياً إلى الله وسبباً لبعث اليأس والقنوط في نفوس الذين يريدون الإضرار بالإسلام .
وتبين الآية لزوم الإمتناع عن طاعة الذين كفروا ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذي لا يطيع فريقاً من أهل الكتاب لا يرتد عن الإسلام .
الصغرى : المسلمون لا يطيعون فريقاً من أهل الكتاب .
النتيجة : المسلمون يمتنعون عن الإرتداد .
ومن مصاديق هذا الإمتناع إشراقة آية البحث على قلوب وجوانح المسلمين كل يوم ، وإن كانت الشمس تشرق مرة واحدة في كل يوم عند الصباح وباشراقتها تصح تسمية الوقت بأنه صباح وليس مساءاً أو ليلاً ، فان آية البحث تشرق كل ساعة على المسلمين في كل جيل من أجيالهم ليستنيروا بضيائها , ويكونوا في مأمن من الغفلة .
وفي كل مرة تأتي ذات الجملة الشرطية [إِنْ تُطِيعُوا]أي أن المسلمين في كل مرة لا زالوا ممتنعين عن طاعة أهل الكتاب ، مما يدل بالأولوية على إمتناعهم وتنزههم عن طاعة الذين كفروا ، ليدل قوله تعالى [إِنْ تُطِيعُوا] في مفهومه بأن المسلمين لم يطيعوا فريقاً من أهل الكتاب ، ولن يطيعوهم إلى يوم القيامة بدلالة بقاء ذات آية البحث في رسمها وشرطها وتحذيرها .
وتبين الآية أمراً وهو أن قوماً يريدون فتنة المسلمين , ويحتمل وجوهاً :
الأول : إختصاص هذا الأمر بأيام النبوة لوجود فريق من أهل الكتاب في المدينة , وإتصال كفار قريش مع أهل الملل , لعملهم بالتجارة ولقوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
الثاني : المقصود عموم البلدان التي يختلط فيها المسلمون مع أهل الكتاب وغيرهم من أهل الملل .
الثالث : إفادة الآية التحذير والتنبيه الدائم للمسلمين في كل زمان من طاعة أهل الكتاب والذين كفروا .
والصحيح هو الأخير لأصالة الإطلاق ، وعموم خطابات القرآن وتوجه نداء الإيمان إلى كل مسلم ، وهل يشمل النداء المسلم المنفرد والمسلمات , الجواب نعم ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها الذي آمن إن تطع فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوك بعد إيمانك كافراً .
ثانياً : يا أيتها التي آمنت إن تطيعي فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوك بعد إيمانكِ كافرة ).
ثالثاً : يا أيتها اللائي آمن إن تطعن فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكن بعد إيمانكن كافرات .
وهناك مسألتان :
الأولى : هل يصح تقدير الآية : يا أيها الذي آمن إن تطع فرداً من الذين أوتوا الكتاب يردوك بعد إيمانك كافراً ).
الثانية : هل يصح تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فرداً من الذين أوتوا الكتاب يردكم بعد إيمانكم كافرين .
أما الأولى فنعم إذ تتضمن الآية معنى القضية الشخصية وإحتمال إفتتان أحد المسلمين بغيره من غيرهم ، لذا فان صيغة الجمع في الآية بطرفيها إنحلالية ، إذ تحذر كل مسلم من الفتنة وطاعة غير المسلمين مما يكون فيه نوع إرتداد .
وأما المسألة الثانية فالجواب هو النفي ولا يقدر شخص واحد فتنة المسلمين مجتمعين , لتكون عصمتهم في هذا الأمر من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن إعجاز آية البحث أنها لم تنسب الفعل وترتب أثر الإرتداد على فعل غير المسلمين بل تعلق موضوعها بذات المسلمين ولزوم عصمتهم من طاعة غيرهم وبيان الضرر الفادح في هذه الطاعة على فرض وقوعها ، وهل فيه شاهد على أن شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ناسخة للشرائع السابقة .
الجواب لا دليل عليه وإن كانت هي ناسخة ، إذ يأتي الرسول لينسخ بعض أحكام شريعة الرسول السابق كما ورد لسان عيسى بخصوص نسخه لشريعة موسى على نحو الموجبة الجزئية ومصداقاً لقوله تعالى [وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ] ( ).
وإدعى الزركشي الإجماع على نسخ شريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للشرائع السابقة( ) .
ويتعلق النسخ بالفروع وليس بالأصول والثوابت في كل شريعة وأمة كالتوحيد والتصديق بالنبوة والتنزيل ، قال تعالى [وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ] ( ) ومن عبادة الله عز وجل تعاهد الإيمان وطاعة الله ورسوله في العبادات والمعاملات واليقظة والفطنة لإجتناب الإرتداد الظاهر والخفي .
وقد تكررت في القرآن مسألة فرض الصلاة على الأنبياء السابقين ويلحق بهم أنصارهم وأتباعهم من أصحابهم والتابعين منها ما ورد في شعيب إذ جاء حكاية عن قومه [قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ]( ).
كما ورد في الثناء على اسماعيل قوله تعالى [وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ]( ).
وجاء حكاية عن عيسى عليه السلام [وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا] ( ) فحينما قرب ترتيب النبوة والرسالات إلى زمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاء القرآن بالإخبار عن الأمر لعيسى بالزكاة ليكون مقدمة لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بدفع الزكاة ، وهل يعني أن الزكاة من النسخ في الشرائع ، وأن عيسى جاء بها من عند الله ، فتفضل الله وجعلها باقية في الإسلام الجواب لا، فالزكاة ملازمة للصلاة ولعله مما يدل عليه القربان الذي تقرب به ولدا آدم عليه السلام بلحاظ عدم وجود فقير في البيت آنذاك ، قال تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ] ( ) .
الجواب لا ، لأن الزكاة وأداءها لا يؤدي إلى القتل ومقدماته فمن خصائص الزكاة أنها حرب على الفساد وبعث للنفرة في النفوس من الجريمة .
ولما إحتجت الملائكة على خليفة في الأرض أجاب الله عز وجل بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علمه تعالى تشريع الزكاة وجعلها واجباً ، وصيرورتها سبيلاً للسلامة من الفساد والقتل بغير حق ، وتبين آية البحث أن طاعة الذين يفتنون المسلمين في دينهم مقدمة للإرتداد وهذه المقدمة حرام من جهتين :
الأولى : الحرمة الذاتية فلا يصح طاعتهم .
الثانية : الحرمة العرضية ، فلا تصح طاعة المسلمين للذين يريدون فتنتهم في دينهم .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها حذرت المسلمين بلفظ(إن تطيعوا فريقاً) وفيه مسائل:
الأولى : تأكيد وجوب طاعة الله ورسوله.
الثانية : لما أظهر المسلمون التقيد بسبل طاعة الله ورسوله تفضل الله عز وجل وأنزل آية البحث لبيان قبح طاعة الذي يريد أن يصدهم عن طاعة الله ورسوله.
الثالثة :تلقي المسلمين الأوامر والنواهي من عند الله عز وجل.
الرابعة : تفقه المسلمين في أمور الدين، ومعرفتهم لأحوال الناس.
الخامسة : إنذار الناس من محاولة السعي لإرتداد نفر من المسلمين.
السادسة : تولي الله عز وجل بنفسه تنبيه وتحذير المسلمين من الإرتداد والذين يسعون بالباطل , قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ]( ).
السابعة : إلقاء اليأس والقنوط في نفوس أعداء الإسلام من إرتداد المسلمين .
الثامنة : تبعث آية البحث الخوف والرعب في قلوب الذين كفروا بسبب عصمة المسلمين من الإرتداد، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ).
التاسعة : دعوة الناس للإسلام، والتصديق بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقانون وهو ثبات المسلمين في منازل الإيمان جذب للناس لدخول الإسلام.
العاشرة : إبتداء آية البحث بنداء الإيمان تزكية للمسلمين وباعث للطمأنينة في نفوسهم بالوقاية من الإرتداد ومقدماته إذ ذكرت الآية لزوم تنزه المسلم عن طاعة الذين يسعون لإرتداده لتدل على وجوب إجتناب أسباب ومقدمات الإرتداد.
الحادية عشرة : صيرورة المسلمين في حال حذر وحيطة للحفاظ على مبادئ وأحكام الإسلام.
الثانية عشرة : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لوقايتهم مجتمعين ومتفرقين من آفة الإرتداد.
الثالثة عشرة : تجلي الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوجوب الصلاة على كل مسلم ومسلمة وجوباً عينياً خمس مرات في اليوم , لما فيها من طرد للشك والريب في المعجزات من نفوسهم , ويمكن تأسيس قانون من جهات :
الأولى : كل فريضة من فرائض الإسلام واقية من الإرتداد.
الثانية : أداء المسلم للفريضة كالصلاة والصيام والحج والزكاة تثبيت للإيمان في نفسه، وهو من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , إذ يكون العمل العبادي لكل مسلم برهاناً على نزول القرآن من عند الله , ووجوب الإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأخرج الثعلبي عن ابن عباس أن عبد الله بن سلام ، وأسداً وأسيدا ابنيْ كعب ، وثعلبة بن قيس ، وسلاماً ابن أخت عبد الله بن سلام ، وسلمة ابن أخيه ، ويامين بن يامين ، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله إنا نؤمن بكتابك وموسى والتوراة وعزير ، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل آمنوا بالله ورسوله محمد ، وكتابه القرآن ، وبكل كتاب كان قبله ، فقالوا : لا نفعل . فنزلت { يا أيها الذين آمنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل } قال : فآمنوا كلهم ( ).
الثالثة : من الإعجاز في الفرائض الإسلامية توجه الخطاب فيها إلى كل مسلم ومسلمة على نحو التساوي وتكرار أدائها وتعلقها بالشواهد الكونية , قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ]( ) .
فتفضل الله عز وجل وجعل الحج بعرض ومرتبة واحدة مع حاجة الناس للعناية برؤية الهلال وتتبع منازله وحساب الأيام والأشهر والسنوات , مما يدل على موضوعية الحج في إستدامة الحياة الدنيا، خاصة وأنه مفروض على الناس جميعاً، وأول من حج البيت الحرام آدم وحواء، ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وتتضمن آية البحث وجوهاً:
أولاً : في الآية تنبيه وتخويف.
ثانياً : تتضمن آية الشرط الزجر والنهي عن طاعة المسلمين للذين كفروا.
ثالثاً : دعوة المسلمين للتعاون في إجتناب طاعة الذين يريدون غوايتهم وضلالتهم.
رابعاً : إصلاح المسلمين لإجتناب مقدمات الإرتداد، وقطع الطريق على أسبابه الخارجية.
الثالثة : بيان التباين والتضاد بين طاعة الله، والطاعة بخلاف الكتاب والسنة.
الرابعة : مجيء الثناء على المسلمين والشهادة لهم بالإيمان في أول وآخر الآية مع قلة كلماتها وتضمنها النهي عن الإنقياد إلى الذين يأمرون بخلاف أمر الله ورسوله، وفيه وجوه:
أولاً : كل فرد من الثناء على المسلمين في الآية مدد وعون لهم في العصمة من طاعة غيرهم في غير مرضاة الله.
ثانياً : من شرائط الإيمان الإمتناع عن طاعة أهل الريب والشك، وهو من الإعجاز في لغة التبعيض في آية البحث، بقوله تعالى(فريق من)، وقد ورد قوله تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
لبيان أن النسبة بين الآية أعلاه وبين آية البحث هي العموم والخصوص من وجه , فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق، وقد يقال أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق بلحاظ إرادة ذم الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن وردت آية البحث بالتبعيض والجزئية، وقد قال تعالى[وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا]( ) .
وكان بعضهم يعلن تصديقه بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو يحث الناس على دخول الإسلام، ولكنه يتخلف عنه أو أنه دخله لاحقاً، كما ورد قوله تعالى[وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ]( ).
ومفهوم الآية : يا أيها الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب كيلا يردوكم بعد إيمانكم كافرين ) .
وهل تدل الآية على جواز طاعة فريق آخر من الذين أوتوا الكتاب , الجواب لا، إنما تذكر الآية لفظ فريق بلحاظ خصال التي قد تؤدي طاعتها والإنصات لها ومحاكاتها إلى الإرتداد , ولبيان قانون وهو وجود فريق من الذين أوتوا الكتاب لا يسعون إلى إرتداد المسلمين وحملهم على ترك فريضة الصلاة والصيام والحج والزكاة , وفيه دعوة للمسلمين إلى عدم السخط أو الحنق على أهل الكتاب .
ومن الإعجاز أن هذا المعنى والحقيقة موجودة في كل زمان منذ أيام النبوة ومن الوثائق التأريخية في الإسلام الصحيفة التي كتبها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في عهد ومواعدة فيما بين المسلمين , وبينهم وبين واليهود عند دخوله المدينة مهاجراً مما يدل على دقة النظام ودولة القانون المترشحة عن أحكام القرآن والسنة يومئذ .
قال ابن إسحاق (وكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتابا بين المهاجرين والانصار ووادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم :
بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم انهم أمة واحدة من دون الناس المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وذكر كذلك في بنى ساعدة وبنى جشم وبني النجار وبني عمرو بن عوف وبني النبيت وبني الاوس .
وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ولا ينصر كافر على مؤمن وأن ذمة الله واحدة يجبر عليهم أدناهم .
وأن المؤمنين بعضهم موالى بعض دون الناس وأن من تبعنا من يهود فان له النصر والاسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم وأن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن من دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء أو عدل بينهم وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا .
وأن المؤمنين يُبئ بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله وأن المتقين على أحسن هدى وأقومه وأنه لا يجبر مشرك مالا لقريش ولا نفسا ولا يحول دونه على مؤمن وأنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة فانه قود يد إلا أن يرضى ولي المقتول وأن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه .
وان لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا ولا يؤويه وأن من نصره أو آواه فان عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل وانكم مهما اختلفتم فيه من شئ فان مرده إلى الله والى محمد وان اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين وأن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم بنى النجار مثل مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فانه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
وذكر مثل ذلك ليهود بني النجار وبني الحارث وبني ساعدة وبني جشم وبني الاوس وبني ثعلبة وبني الشطبة وأن جفنة بطن من ثعلبة وأن بطانة يهود كأنفسهم وان البر دون الاثم وان موالى ثعلبة كأنفسهم وانه لا يخرج منهم أحد إلا باذن محمد وانه لا ينجحر عن ثأر جرح وانه من فتك فبنفسه إلا من ظلم وان الله على أبر هذا وان على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم وان بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وان بينهم النصح والنصيحة والبر دون الاثم وانه لن يؤثم أمرؤ بحليفه وان النصر للمظلوم .
وان يثرب حرام جوفها لاهل هذه الصحيفة وان الجار كالنفس غير مضار ولا آثم وانه لا تجار حرمة إلا باذن أهلها وانه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو استجار يخاف فساده فان مرده إلى الله والى محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وان الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره وانه لا تجار قريش ولا من نصرها وان بينهم النصر على من دهم يثرب وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فانهم يصالحونه ويلبسونه وانهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فانهم لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين على كل انسان حصتهم من جانبهم الذى قبلهم .
وان يهود الاوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لاهل الصحيفة مع البراء المحض من أهل هذه الصحيفة وان البر دون الاثم لا يكتسب كاسب إلا على نفسه وان الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره وانه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم ولا آثم وان من خرج آمن , ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم , وان الله جار لمن بر واتقى ومحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
وجاءت هذه الآية بصيغة الجملة الشرطية [إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ] لبيان التعليق وقد يقع موضوع جملة الشرط أو لا يقع فأخبرت الآية التالية عن إستحالة وقوعه ، لتكون بقوله تعالى [وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ) لتكون الآية أعلاه نعمة عظمى بذاتها وحكمها وصلتها مع نداء الإيمان في الآية السابقة لها ، وهي آية البحث ، أو في الآية التي بعدها .
ليكون تقدير الجمع بين آية البحث والآية أعلاه المعطوفة عليها بحرف العطف الواو في [وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ] على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا كيف تكفرون ) لبيان أنه لا سبيل إلى كفر المسلمين ، فقد أحكم الله عز وجل طرق هدايتهم وأغلق عنهم مسالك الإرتداد ، فكما يتفضل الله ويأمر المسلمين بطاعتهم وينهاهم عن الإرتداد والزيغ والهوى من الإقتراب منهم ومخالطة عقولهم أو الدبيب إلى نفوسهم .
كما في قصة نبي الله يوسف عليه السلام ، قال تعالى [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ).
إذ يتفضل الله عز وجل ويبعد عنه مقدمات المعصية وذات المعصية بلحاظ أنها مستجيبة لله سبحانه , والفحشاء الزنا ، وفي السوء قولان :
الأول : السوء الشهوة .
الثاني : السوء عاقبة الملك العزيز ( ).
ومعنى السوء أعم من الأول : أما الثاني فهو بعيد ، وهل هذا الصدق للسوء والفاحشة بخصوص واقعة امرأة العزيز وقضية عين أم أنه مطلق يتغشى أيام وحياة يوسف كلها ، الجواب هو الثاني لذا وردت الآية باسم الإشارة (كذلك) وفيه دعوة للمسلمين للسؤال والدعاء من جهات :
الأولى :صرف السوء والفحشاء عن الذات .
الثانية : دفع السوء والفحشاء عن الذرية والأبوين والإخوان .
الثالثة : صرف السوء والفحشاء عن عموم المسلمين .
الرابعة : توبة الذي خالط السوء والفحشاء .
الخامسة : دعاء المسلمين بتنزيه الأرض من السوء والفحشاء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
ليكون من معاني رحمة الله في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعاء المسلمين في كل زمان لتنقية سلوك الناس وتخفيف كاهلهم من الذنوب وإزاحة عقبة في طريق هدايتهم .
وكذا بالنسبة لآية البحث والآية التالية إذ يتفضل الله فيأمر ذات الإرتداد بالإبتعاد عن المسلمين .
لذا جاءت الآية أعلاه من سورة يوسف بصيغة العموم ، وأنه من عباد الله المخلصين الذين يجتهدون في طاعة الله عز وجل لترغيب المسلمين بضروب العبادة والتقيد بالأحكام التكليفية من الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ) والتي جاء في سورة يوسف ذاتها صيرورة إخبار القرآن عن عصمة يوسف من المعاصي وصرفها ومقدماتها عنه دعوة للمسلمين للإرتقاء في سلم التقوى .
وعن الإمام علي عليه السلام قال : التقوى هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والإستعداد ليوم الرحيل).
لقد تقدم قانون (وجوب طاعة الله) ( )، إذ خلق الله الإنسان ليمتثل لأوامره، وليس من وقت وآن ما إلا وفيه تكاليف على الناس، ومن الآيات أن التكاليف عامة وتؤدى على نحو الوجوب العيني من غير فرق بين الرئيس والمرؤوس، والغني والفقير، وهو من مصاديق توجه نداء الإيمان إلى المسلمين والمسلمات بعرض واحد , ومن غير مائز بين المسلمين الأوائل ولا الذين يأتون في آخر الزمان , وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
فتجب الصلاة على كل واحد منهم، على كل حال، وبذات الكيفية التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله ’: صلوا كما رأيتموني أصلي ( )، وكالصيام الذي يستثنى منه المريض والمسافر، ثم لابد من القضاء للمسافر، عند رجوعه من السفر بعد شهر رمضان، وقضاء المريض إذا تعافى من مرضه، قال تعالى[كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( ).
ليشكر الصائم الله عز وجل على نعمة العافية ونعمة أداء الصيام، لتكون فريضة الصيام على وجوه :
الأول : الصيام مقدمة للعافية .
الثاني : إنه علة للصحة والمعافاة .
الثالث : الصيام شاهد على التقوى والسلامة من الأمراض .
الرابع : ترشح الصحة عن أداء الصيام , وعن رسول الله ’ قال صوموا تصحوا ) .
وهو آية من عند الله بأن ينعم على العبد بالسلامة من الأدران كي يعبد الله بالكيفية التي يريدها سبحانه فيكون للعبد الأجر والثواب في النشأتين .
وجاءت آية البحث لتمنع من الموانع التي تحول دون عبادة الله، لتكون هذه الآية نعمة عظمى وهي مقدمة ومصاحبة لطاعة العبد لله عز وجل .
وإذا كانت طاعة الذين كفروا برزخاً دون عبادة الله فهل طاعة الله برزخ دون طاعة الذين كفروا وأهل الكتاب , الجواب نعم لذا إبتدأت آية البحث بنداء الإيمان , ليكون على وجوه :
الأول : نداء الإيمان باعث على طاعة الله.
الثاني : من خصائص نداء الإيمان أنه تذكير بلزوم تعاهد عبادة الله ، والخشية منه.
الثالث : تكرار نداء الإيمان في القرآن تنمية لملكة التقوى .
الرابع : نداء الإيمان برزخ دون طاعة المسلم لغير المسلم، فما دام المسلم يتلقى الخطاب السماوي ومنه آية البحث بلزوم طاعة الله بذات سنخية الإيمان وتخبره بأن الله لا يرضى أن تجتمع طاعة غيره مع عبادته، وهو من مصاديق عبودية الناس المحضة لله عز وجل .
ويمكن تشريع قانون وهو كل فريضة عبادية واقية للمسلم من طاعة غير الله ورسوله.
وقد تفضل الله عز وجل وجعل العبادات على أقسام :
الأول : العبادات البدنية وهي الصلاة والصيام.
الثاني : العبادات المالية وهي الزكاة والخمس والكفارات.
الثالث : العبادات البدنية المالية كالحج، لما فيه من الإنفاق وقطع المسافة إلى البيت الحرام وأداء مناسك الحج كالطواف والسعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، والوقوف في عرفة ومزدلفة ورمي الجمرات، والمبيت في منى , ليكون من معاني نداء الإيمان في آية البحث وجوه:
الأول : يا أيها الذين آمنوا بأن أداء الفرائض برزخ دون طاعة فريق من أهل الكتاب.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بأن أداء الفرائض واقية من الإرتداد.
الثالث : يا أيها الذين آمنوا تعاهدوا الفرائض العبادية فانها حرز من الإرتداد، وكفاية لشرور عداوة الشيطان وأوليائه.
الرابع : نداء الإيمان تشريف وشاهد على سعي المسلمين في مسالك الكمالات الإنسانية، فتفضل الله عز وجل وحذرهم من طاعة غيره.
لقد أراد الله عز وجل دعوة الناس للإسلام بامتناع المسلمين عن طاعة فريق من أهل الكتاب، وهو من الإعجاز الغيري لآية البحث بأن من الغايات الحميدة لها ترغيب الناس بالإسلام، وسلامتهم من الأضرار الفادحة، بلحاظ أن طاعة المسلمين لغيرهم مجلبة للضرر من جهات:
الأولى : لحوق الضرر بشخص المسلم في عباداته وأموره المعاشية والدنيوية، إذ أن آية البحث من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثانية : الإضرار بمبادئ الإسلام، وتأويل الأحاديث، وحصول حال من التراخي وسعي بعضهم لدبيب التحريف إلى أحكام الشريعة، لذا إبتدأت آية البحث بنداء الإيمان لمنع التفريط بهذه الأحكام إلى يوم القيامة .
الثالثة : طاعة المسلمين لغيرهم سبب لتخلف الناس عن طرق الهداية والرشاد، لذا فان آية البحث رحمة بالناس جميعاً إذ تتضمن توقي وحذر المسلمين من طاعة غيرهم من أهل الكتاب وكذا الذين كفروا بالأولوية القطعية، لتكون هذه الآية من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن خصائص آية البحث تغشي صيغة الجمع لكل مضامينها القدسية، إذ إبتدأت بنداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وهو أعظم وأوسع نداء، إذ نزل من عند الله، وليس من أمة أكثر عدداً من الذين يتوجه لهم هذا النداء بلحاظ أعدادهم غير المتناهية والتي تستمر إلى يوم القيامة من غير فترة أو إنقطاع .
فاذ كانت هناك فترة من الرسل بين بعثة الأنبياء والمرسلين فتأتي سنوات تكون فيها الأرض خالية من النبي ليتبع الناس شريعة الرسول السابق، ختم الله عز وجل النبوة والرسالات ببعثة النبي محمد ’ ليتوارث المسلمون الصدور عن القرآن إلى يوم القيامة، وتضمن القرآن زجرهم عن طاعة فريق من أهل الكتاب ممن يريد لهم الإرتداد، أو يترشح طوعاً وإنطباقاً عن هذه الطاعة لأنها مقدمة للإخلال بالواجبات والفرائض العبادية.
وجاءت صيغة الجمع بالنهي الوارد عن طاعة فريق من أهل الكتاب للتحذير من الأفكار والأوهام التي تسئ إلى الإسلام.
ثم قالت الآية (يردوكم) والرد رجوع ونكوص من بعد تقدم وإرتقاء لبيان قبح الإرتداد، ولزوم إجتناب أسبابه مطلقاً، كما جاء التنبيه والتحذير في قوله تعالى[إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
وقد جاء النهي عن الإرتداد على لسان موسى × لبني إسرائيل كما ورد في التنزيل [يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( )، والمراد التحذير من الإنسحاب والتقهقر في القتال الذي يؤدي إلى الإنخذال.
كما يحتمل الإرتداد في الآية أعلاه الرجوع عن الإيمان والإسلام من أحد طريقين :
الأول : يبعث الخوف من الجبارين بني إسرائيل على الرجوع إلى مصر، وقيل أنهم همّوا بأن يقدموا على أنفسهم رئيساً ويرجعوا إلى مصر، وقيل : لما حدثهم النقباء بحال الجبابرة رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا : ليتنا متنا بمصر . وقالوا : تعالوا نجعل علينا رأساً ينصرف بنا إلى مصر( ).
الثاني : الإرتداد والإمتناع عن قتال الجبارين سبب للإرتداد عن الإسلام .
فخفف الله عز وجل عن المسلمين وجعلهم يبلغون منزلة الإيمان ثم أمرهم بتعاهدها من غير قتال أو حرب، إنما باجتناب طاعة غيرهم ممن يريد الإضرار بهم وبالإسلام .
وفي كل زمان كان الأنبياء وأصحابهم يواجهون قوماً جبارين، ولكن ما أن يبدأ القتال حتى يصاب الذين كفروا بالرعب، ويولون الأدبار .
ومن أسرار نداء الإيمان ترشح معان إضافية له بلحاظ موضوع الآية التي أفتتحت به، ليفيد في آية البحث معنى الوقاية والإحتراز والحق أن هذا الإحتراز ملازم للإيمان , لأن الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، ولكنه ورد في آية البحث خاصاً بمسائل :
الأولى : لزوم تعاهد المسلمين الإقامة في منازل الإيمان.
الثانية : إجتناب المسلمين طاعة فريق من أهل الكتاب .
الثالثة : دعوة المسلمين للتوكل على الله , وفيه الأمن في النشأتين, قال تعالى[وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ]( ).
وهل تعني الآية جواز طاعة فريق آخر منهم، الجواب لا، إنما تبين الآية حال أهل الكتاب وان منهم فريقاً لا يبغون إيذاء المسلمين أو الإضرار بهم، وجاءت الآية بصيغة التعيين الإجمالي لطفاً من عند الله بالمسلمين وأهل الكتاب، ولبيان الإعجاز الغيري للقرآن بتفرع التفصيل عن الإجمال، وتقريب الأمور الوجدانية بالشواهد الحسية في فعل طائفة من الناس تريد إغواء نفر من المسلمين , فتأتي آية البحث لتحذر أجيال المسلمين إلى يوم القيامة ممن يريد الضرر بهم وبالإسلام، كما ورد في أسباب النزول وأن التآلف بين المسلمين ساء بعض أهل الحسد والمنافقين فسعوا لإثارة الفتنة بين الصحابة بعصبية القبلية وذكر الأنصار بالإمتثال بين الأوس والخزرج .
وعن السدي في الآية : نزلت في ثعلبة بن عنمة الأنصاري وكان بينه وبين أناس من الأنصار كلام ، فمشى بينهم يهودي من قينقاع ، فحمل بعضهم على بعض حتى همت الطائفتان من الأوس والخزرج أن يحملوا السلاح فيقاتلوا . فأنزل الله { إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } يقول : إن حملتم السلاح فاقتتلتم كفرتم( ) .
قانون عدم طاعة المسلمين لغيرهم
من أسباب وعلل تسمية الإنسان أنه يأنس بغيره ، وهذا الإستئناس من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، ويكون الناس في الطاعة فيما بينهم على وجوه :
الأول : الذي يطيع غيره كطاعة الولد لأبيه والجندي لآمره .
الثاني : الذي يطاع من الغير كالملك والسلطان .
الثالث : الذي يطيع ويطاع ، وهو على شعبتين :
الأولى : الطاعة الذاتية الخاصة التي تكون بين فردين كل واحد منهما يطيع الآخر في مسائل .
الثانية : الطاعة الغيرية بأن يكون الطائع لزيد مثلاً غير الذي يطيعه زيد .
وهل من شخص لا يطيع ولا يطاع ,الجواب لا، إذ أن فرد الطاعة من الإبتلاء في الحياة الدنيا , والشواهد على حاجة الإنسان, وزاجر له عن الغرور والتكبر , فتفضل الله عز وجل بجعل طاعة المسلمين له سبحانه ولرسوله الكريم الذي لم يطع غير الله ، ولو أجريت إحصائية في تأريخ الإنسانية لتبين أن أكثر من يطاع من قبل الناس هو رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء من جهة كثرة المسلمين الذين يطيعونه أو من جهة العبادات والمعاملات والقول والفعل ، ليفوز المسلمون بالأجر والثواب العظيم ، قال تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ] ( ) وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يأمر أو ينهى إلا بأمر الله عز وجل , وفي طاعته كفاية وغنى عن طاعة غيره ، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم (من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبّني أحبّه الله)( ).
والغنى عن طاعة فريق من أهل الكتاب عون للمسلمين ومقدمة لطاعتهم لله ولرسوله , وبرزخ دون الشك والريب والفتور والتهاون في أداء العبادات وعمل الصالحات .
وفي الآية أعلاه شاهد على أن الذي ورد بالسنة الصحيحة سنداً يعمل به وإن لم يكن مذكوراً في القرآن ، ولو كان الحديث معارضاً للقرآن ففي نقله وسنده نوع ضعف يستلزم التأويل بما يكون موافقاً للقرآن ، وهو من أسرار خلو القرآن من الزيادة أو النقيصة أو تبديل الحروف وبعض الكلمات ، ليكون الرجوع إلى القرآن والصدور عنه من مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين العز ، ولم ينالوا مراتب هذا العز بجهودهم وفطنتهم وكسبهم إنما هو بفضل من الله ، إذ كانت كل آية من القرآن إماماً للأخذ بأيدي المسلمين في سلّم العز صعوداً وإرتقاءً , وتتجلى إمامة آية البحث للمسلمين في آية البحث من جهات :
الأولى : خطاب الإيمان الذي يتصدر آية البحث , وكأن الآية تقول : يا أيها المسلمون والمسلمات إتبعوني وأعملوا بالأحكام الواردة بعد مناداتكم بالإيمان ، وهل يمكن القول أن الآية تستصرخ المسلمين وتدعوهم لأخذ الحائطة للدين .
الجواب نعم إذ أن مضامين آية البحث نوع جهاد وقهر للنفس الشهوية والميل إلى المهادنة والإنصياع لغير المسلم بغير حق .
وعن جابر بن عبد الله قال ( إن عمر أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إنّا نسمع أحاديث من يهود (قد أخذت بقلوبنا) أن نكتب بعضها؟
فقال : أمتهوكون أنتم كما تهوّكت اليهود والنصارى لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حياً ما وسعه إلاّ اتباعي) ( ).
إن قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]ذاته جهاد في سبيل الله سواء عند إختيار الإيمان إبتداء أو البقاء عليه وإستدامة تجلي مصاديق الإيمان في القول والفعل ، فلابد من الثبات على الإيمان .
ولا تختص إستدامة الإيمان بتعاهده وحده بل تشمل الإقامة على الفرائض والعبادات والتقيد بالأوامر والنواهي في القرآن ، ومنها عدم طاعة فريق من أهل الكتاب والذي تذكره آية البحث , ويحتمل قوله تعالى [إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا] وجوهاً :
الأول : إنه من الأمر الذي يفيد الوجوب .
الثاني : إنه من الأمر الذي يتضمن الإستحباب .
الثالث : إنه من النهي والمنع .
الرابع : إنه فرد جامع للأمر والنهي .
والمختار هو الأخير فان الله عز وجل يأمر المسلمين بالإمتناع عن طاعة فريق من أهل الكتاب ، وفي ذات الوقت يتضمن الأمر النهي عن طاعة الذين كفروا ، وهل هو من إجتماع الضدين , الجواب لا، وإن كان إجتماعهما في الإرادة التكوينية والنواميس الشرعية أمر ممكن ، ولكن معنى إجتماعهما هو تقدم الأمر وصيرورة النهي في طول الأمر وليس في عرضه أو أنه منفصل عنه .
وعن ابن عباس (من أطاع شيئاً فقد عبده) ( ).
ولكن بين الطاعة والعبادة عموم وخصوص مطلق ، فالطاعة أعم وليس كل طاعة هي عبادة ، ولا تفيد آية البحث هذا فلا يمكن تقديرها : يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من أهل الكتاب فقد عبدتموهم ) .
وإن كان الإرتداد وترك الإيمان الذي تؤكده آية البحث أمراً قبيحاً وفيه العذاب الأليم ، ولكن لا تصل النوبة إلى العبادة لذا تفضل الله عز وجل بنداء الإيمان للشهادة للمسلمين بالإيمان المستديم.
ومن معاني النداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] تجديد الدعوة للمسلمين كل يوم بعدم الإنقسام إلى فرق وطوائف وفيه حث للمسلمين بإجتناب التفرق إلى مذاهب , وتأتي آية البحث لتدل في مفهومها على وجوب طاعة المسلمين لله عز وجل وعدم الإنصياع لغيرهم .
ومن فضل الله عز وجل إقتران الأوامر والنواهي القرآنية بعللها فذكرت الآية الضرر الفادح المترشح عن طاعة فريق من أهل الكتاب بأنها خسارة وطريق إلى الخلود في النار ، ولم تقل الآية إن تطيعوا فريقاً من أهل الكتاب ترتدوا عن دينكم ) لبيان أن تلك الطاعة ليست إرتداد ولكنها مقدمة للأرتداد ، مما يدل أنها لا تبدأ بمفاهيم الإرتداد ، إنما يأتون بصيغ من التشكيك والريب ولا تدل آية البحث على أن الإيمان عند المسلمين قد يتزلزل أو أن الإرتداد قريب من فريق منهم ، إنما جاءت آية البحث لبيان أمور :
الأول : تأكيد إيمان المسلمين .
الثاني : الثناء على المسلمين والمسلمات لإيمانهم .
الثالث : الشكر من الله عز وجل للمسلمين على إيمانهم .
الرابع : بيان حقيقة وهي أن المسلمين لم يطيعوا فريقاً من أهل الكتاب .
الخامس : دلالة الآية بالأولوية على سلامة المسلمين من طاعة الذين كفروا .
السادس : أهلية المسلمين لجهاد ومحاربة مفاهيم الكفر والضلالة.
السابع : بعث المسلمين للحيطة والحذر والسلامة من الغفلة وإستدامة حال الإسترخاء ، وفي ذم المنافقين والتنبيه على ضررهم ، ورد قوله تعالى [هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] ( ).
ومن خصائص هذا السِفر والتفسير باب تقدير الآية والجمع بين أولها وأوسطها على نحو الإستقلال ، أو أولها وآخرها , أو وسطها وآخرها .
فهل يصح تقدير آية البحث : يا أيها الذين آمنوا إن فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ) الجواب لا، فهذا التقدير باطل وفيه تعد وظلم للمسلمين ، إنما جاءت الآية بصيغة الجملة الشرطية فلا يجوز محو الشرط فيها ، وهو من التحريض في المعنى والمضمون ، إذ تنفي آية البحث كل يوم وإلى يوم القيامة الإرتداد بلحاظ إبتدائها بالنداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]وهو من الدلالات التي تستقرأ منها البراهين , ويكون تقدير الآية بلحاظ نداء الإيمان على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا اثبتوا في منازل الإيمان .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إن الله عز وجل يُشهدكم بأنكم لم تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا تعاهدوا عدم طاعة فريق من الذين أوتوا الكتاب .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا لا يستطيع الناس أن يردوكم كافرين) فاذا كان المسلمون ممتنعين عن طاعة فريق من الذين أوتوا الكتاب فان إمتناعهم عن طاعة الذين كفروا أظهر وأبين وأسهل ، وتقسم آية البحث الناس إلى أقسام :
الأول : المسلمون ، وجاءت الآية بنعتهم بصفة الإيمان [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ].
الثاني : أهل الكتاب من اليهود والنصارى .
الثالث : الكفار .
ولم تكتف الآية بهذا التقسيم بل شهدت للمسلمين بالإيمان ليكون كل واحد منهم وصبره في مقامات الهدى حجة على الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
وذكرت الآية الوجهين الأول والثاني لبيان بقاء الإسلام إلى يوم القيامة وهو من دلائل إبتداء الآية بنداء الإيمان ، والذي يتضمن معنى سلامتهم من طاعة أهل الكتاب .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين طاعته وعبادته والإنقياد لأوامره ولم يرض أن يشاركه أحد في العبادة وصار المسلمون كالحرم العبادي الذي لا يجوز نفاذ العدو إليه .
ليبقى المسلمون في مأمن من التحريض والتبديل في أمور :
الأول : عصمة القرآن من التحريف والتبديل .
الثاني : تخلف يدّ التحريف والتبديل عن الوصول إلى عبادات المسلمين ، مع أنها ليست إجمالية بل تتصف بالدقة والضبط من جهات :
الأولى : أصناف العبادات على نحو التعيين في الاسم والمسمى كالصلاة والصوم والزكاة والحج ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ).
الثانية : تعيين أوقات العبادات كالصلاة والصيام والحج وفق الظواهر الكونية ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً]( ).
ومن الآيات أن هذه الظواهر لا تقبل الخطأ ولا الترديد فهي عون للمسلمين في وحدتهم ، وسبب لتعاهدهم أداء العبادات في وقت واحد ، وعدم صيرورتها سبباً للخلاف وتتبدل أحوال الكون عدة مرات في اليوم ، ليشكر المسلمون الله عز وجل على هذه النعمة بالصلاة في كل فرد من هذه التبدل اليومي وأداء الصيام ثلاثين يوماً متتالية في كل سنة فيما بينها هلالين معلومين وهما هلال رمضان وهلال شوال ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ) وكذا بالنسبة لأداء الحج في وقت مخصوص من شهر ذي الحجة.
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) بلحاظ أن تقيد المسلمين بعبادة الله علة ظاهرة لدوام الخلق والحياة على الأرض .
الثالثة : بيان أركان وأجزاء كل عبادة بما فيه تجدد وحدة المسلمين في كل زمان ، وليس من شيء أبهى من تقوم هذه الوحدة بعبادة الله والخشية منه .
الرابع : نزول أمر الله عز وجل للمسلمين بالإقتداء بالنبي محمد الذي حرص على التقيد بأداء العبادات بشرائطها وعلى نحو متكرر في اليوم والشهر والسنة ، ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين لعدم مخالفته في أداء العبادات كما ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم (خذوا عني مناسككم)( ). ومن معاني إبتداء آية البحث بناء الإيمان أمور :
الأول : تصديق المسلمين بالفرائض العبادية التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إيمان المسلمين بوجوب محاكاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أعماله العبادية من غير زيادة أو نقصان ، قال تعالى [كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) ، (عن ابن عباس في قوله[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ]( )، قال : نزلت هذه الآية في رهط من الصحابة قالوا : نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان .
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك فقالوا : نعم . فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لكني أصوم أفطر ، وأصلي وأنام ، وأنكح النساء ، فمن أخذ بسنتي فهو مني ، ومن لم يأخذ بسنَّتي فليس مني .
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في مراسيله وابن جرير عن أبي مالك في قوله[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ] قال : نزلت في عثمان بن مظعون وأصحابه ، كانوا حرموا على أنفسهم كثيراً من الشهوات والنساء ، وهمَّ بعضهم أن يقطع ذكره ، فنزلت هذه الآية) ( ).
الثالث : إمتناع المسلمين عن طاعة غيرهم من أهل الملل والنحل، وتدل آية البحث على كفاية الكتاب والسنة لحاجات ورغائب المسلمين في الدنيا والآخرة.
فمن خصائص آية البحث أنها لم تقل بأن طاعة المسلمين لفريق من الذين أوتوا الكتاب تؤدي بهم إلى التحريف والتبديل في الدَين ، بل قالت بأن هذه الطاعة تؤدي بهم إلى أمرين :
الأول : الإرتداد . الثاني : الكفر .
وبين التحريف والإرتداد عموم وخصوص مطلق ، فالإرتداد أعم , وهو تحريف وليس كل تحريف إرتداد .
وكذا ذات النسبة بين الكفر والإرتداد ، إذ أن الكفر أشد وأقبح مراتب الإرتداد ، لتكون آية البحث من نعم الله عز وجل على المسلمين ، وأسباب نجاتهم في الدنيا والآخرة .
وإذا كانت آية البحث وآيات القرآن تفيد القطع بعدم إرتداد المسلمين فلماذا تضمنت الآية ذكر الإرتداد والكفر عند طاعة فريق من أهل الكتاب ، وقد يقال إرتداد بعض المسلمين وليس جميعهم ، فقد يقع الإرتداد من بعضهم ، فيكون المسلمون على شعب :
الأولى : الذين لم ولن يطيعوا فريقاً من الذين أوتوا التوراة أو الإنجيل .
الثانية : طائفة من المسلمين يطيعون فريقاً من الذين أوتوا الكتاب على نحو السالبة الجزئية .
الثالثة : لولا آية البحث لأطاعت طائفة من المسلمين فريقاً من الذين أوتوا الكتاب ، خاصة عند حصول الشقاق والصراع بين مذاهب المسلمين وتجرأ بعضهم بنعت أحدهم أو طائفة منهم بالكفر بغير حق مع أنهم يقفون بين يدي الله خمس مرات ويصومون معهم شهر رمضان ويحجون البيت الحرام بذات الأفعال والمناسك التي أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ولا أصل لهذا النعت والقول وما يتفرع عنه وتدل عليه آية البحث التي تنزه المسلمين جميعاً من الركون للظالمين ومن طاعة غير الله بما يخالف أوامره سبحانه ، كما أن هذا النعت المحرم على فرض حصوله لا يدفع أي طائفة من المسلمين للمعصية ، وآية البحث تنفي هذا النعت وتحرم وصف الذي ينطق بالشهادتين بالكفر ، إذ أنها تشهد له كل صباح ومساء بأنه مسلم وأنه من الذين آمنوا وأنه معصوم من طاعة فريق من الناس التي قد تبعده عن طاعة الله ورسوله .
آية البحث والتقية
تبين الآية الضابطة الكلية في صلة المسلمين بأهل الكتاب ، وهو شرط عدم سعيهم لحمل المسلمين على طاعتهم ، وإن سعوا في هذا الأمر فيجب على المسلمين الإمتناع عن طاعتهم , وكيفية هذا الإمتناع من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
وهل تدخل فيه التقية أم أن آية البحث تدل على خروجه بالتخصيص من أحكام التقية ، الجواب هو الأول ، ولكن التقية ليست مطلقة في موضوعها وزمانها ومكانها بل هي نوع ضرورة وحاجة وإكرام تقدر بقدرها وسبل دفع الضرر ، قال تعالى [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً]وبين الولاية والطاعة عموم وخصوص مطلق فالولاية أعم ، لذا جاءت الآية أعلاه بالنهي عن الأعم ليدخل فيه الخاص , وقال ابن القيم (التقية أن يقول العبد خلاف ما يعتقده لاتقاء مكروه يقع به لو لم يتكلم بالتقية) ( ).وقال القرطبي : والتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم) ( ).
والمختار أن التقية أعم في موضوعها وتجوز عند الضرر بمراتب أدنى أو في حال الخشية والخوف من الضرر ، قال تعالى [مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ] ( ) وقد تكون التقية بين المسلمين وغيرهم للألفة والمداراة والصلات الإجتماعية والتجارة .
قال أبو الدرداء (إنَّا لَنَكْشرُ فِي وُجُوهِ أقْوَامٍ وَقُلُوبُنَا تَلْعَنُهُمْ”)( ).
ترى ما هي النسبة بين مضامين آية البحث بالنهي عن طاعة غيرهم وبين التقية , الجواب هو العموم والخصوص المطلق إذ أرادت آية البحث للمسلمين الجهاد في إجتناب طاعة غيرهم فلا تصل النوبة إلى التقية ، والتقية رخصة عند الإضطرار والحاجة أما عدم طاعة غير المسلمين فهو قانون دائم ، فلا تصل النوبة إليها إلا في حالات نادرة تتقوم بعدم طاعة المسلم لغيره قبلها وبعدها ، أي أن الآية الكريمة أرادت أن تكون التقية على وجوه :
الأول : التقية أمر عرضي طارئ .
الثاني : إختصاص التقية بالأمر الظاهر .
الثالث : تقع التقية على نحو القضية الشخصية .
لذا جاءت الآية أعلاه بصيغة الإستثناء والمفرد بقوله تعالى [إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ].
ومن الإعجاز في أسباب نزول الآية أعلاه هو الإجماع على نزولها في قصة عمار بن ياسر مع جلالة منزلته وشأنه .
و(عن ابن عباس قال : لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهاجر إلى المدينة ، قال لأصحابه : تفرقوا عني ، فمن
كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل ، ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل ، فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض ، فالحقوا بي .
فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت ، فأصبحوا بمكة فأخذهم المشركون وأبو جهل ، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى ، فجعلوا يضعون درعاً من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه ، فإذا ألبسوها إياه قال : أحد . . أحد . . وأما خباب ، فجعلوا يجرونه في الشوك .
وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقيةً ، وأما الجارية ، فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدها فأدخل الحربة في قلبها حتى قتلها ، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار ، فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبروه بالذي كان من أمرهم ، واشتد على عمار الذي كان تكلم به .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت : أكان منشرحاً بالذي قلت أم لا؟ قال : لا . قال : وأنزل الله { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } )( ).
والمدار على عموم المعنى لا على سبب النزول ، فأحكام آية التقية أعلاه وبيان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تفسيرها باقية إلى يوم القيامة ، وهو لا يتعارض مع مضامين آية البحث بعدم طاعة فريق من أهل الكتاب خاصة , وأن الآية أعلاه وواقعة تعذيب عمار بن ياسر وقتل أمه وأبيه كان من قبل الكفار عبدة الأصنام وليس من قبل طائفة أو فريق من أهل الكتاب .
ولم تأمر آية البحث المسلمين بالحرب والقتال أو حمل فريق من أهل الكتاب على طاعتهم ، وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : عدم طاعة الذين آمنوا لفريق من أهل الكتاب .
الثاني : طاعة فريق من أهل الكتاب للمسلمين ، فلابد من موضوع للطاعة بين الفريقين ، ولما نهى الله عز وجل عن طاعة المسلمين لغيرهم فأن الآية تدل في مفهومها وفق هذه القاعدة على طاعتهم للمسلمين .
الثالث : المدار في طاعة المسلمين لفريق من أهل الكتاب هو ما كان فيه إرتداد عن الإسلام أو يكون مقدمة لهذا الإرتداد وضرب من ضروبه وإن كان في ركن أو فرع من فروع الإسلام , ومنه إتخاذهم خاصة ووليجة ذات قول مسموع , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]( ).
ولو كان عند المسلم زوجة كتابية نصرانية أو يهودية وكانت تمنعه من أداء فريضة حج بيت الله ، فهل أداء الحج من مصاديق الإمتثال لآية البحث وعدم طاعة فريق من الذين أوتوا الكتاب ، الجواب نعم، ويجب أداء فريضة الحج وعدم الإصغاء إليها حتى مع إحتمال ورجحان الطلاق ، قال تعالى [وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ]( )، وهو من إعجاز آية البحث ، سواء كانت زوجته لا تصبر على فراقه مدة الحج ، أو لأنها تريد صده عن أداء الفريضة أو تحرص على عدم إنفاقه المال في الحج .
ومن باب الأولوية في الجهاد في أيام النبوة والتنزيل إذ كان بعض الصحابة متزوجين من أهل الكتاب مثل حذيفة وطلحة والجارود بن المعلى .
والمختار جواز الزواج من الكتابية اليهودية أو النصرانية ، وهي في قسم الليالي مع المسلمة سواء .
ليكون من إعجاز آية البحث إزاحة الموانع التي تحول دون جهاد المسلمين ، ومنه تهيئة مقدمات أداء المسلمين الفرائض والعبادات ، وان كان المسلم يعمل أجيراً عند الكتابي وهذا يمنعه من صلاة الجماعة لتعارض وقت أدائها مع العمل وشرائط عقد الإجارة فهل هو من طاعة الكتابي الذي نهت عنه آية البحث الجواب لا ، فمن الإعجاز في أداء صلاة الجماعة أن إستحبابه المؤكد ملازم لكل فريضة من الفرائض اليومية الخمسة التي تتغشى النهار وأطرافه وفي كل يوم .
وكما جعل الله عز وجل نداء الإيمان حرباً على الفرقة بين المسلمين ، فكذا قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]فانه دعوة قرآنية متجددة لتعاهد المسلمين لوحدتهم ، وواقية سماوية من الفرقة والإختلاف والشقاق .
ومن سنخية المجتمعات الإئتلاف ثم التفرق والوحدة إلى الإختلاف على نحو جزئي وجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون إئتلافاً محضاً وسوراً جامعاً لكل المسلمين وحرزاً من الفرقة والإختلاف ، وليس من حصر لمصاديق وأفراد هذا الحرز.
ويحتمل بلحاظ آيات القرآن من وجوهاً :
الأول : مجموع آيات القرآن حرز من الفرقة والإختلاف .
الثاني : القدر المتيقن إختصاص آيات من القرآن بالنهي عن الفرقة ، كما في قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا].
الثالث : كل آية قرآنية تتضمن النهي عن الفرقة في منطوقها أو مفهومها دعوة لتعاهد المسلمين العبادات والفرائض ، وهي حرز من الإختلاف والفرقة بينهم .
الرابع : كل آية قرآنية واقية وحرز من الإختلاف والشقاق بين المسلمين ، وبأستثناء الوجه الثاني أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق الوقاية والعصمة من الإختلاف والفرقة بين المسلمين ، ومنها آيات النداء التي تدل على حقيقة وهي أن ذات النداء سلاح لوحدة المسلمين بالإضافة إلى مضامين آياته وبعثها المسلمين على التقوى والخشية من الله عز وجل ، ومنها آية البحث التي تفيد في دلالتها نهي المسلمين عن طاعة غيرهم لإرادة إستدامة وحدتهم بقيد طاعة الله عز وجل والوقاية من مفاهيم الكفر والضلالة .
ومع قلة كلمات آية البحث فقد شهدت مرتين للمسلمين بالإيمان وتكرار الشهادة هذا من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
(إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد ، وتصديق ذلك في كتاب الله { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات }( ). و { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } )( ).
إذ إبتدأت الآية بنداء الإيمان ، وتشريف المسلمين باختصاصهم بالبعث على إتيان الصالحات بقصد القربة إلى الله ثم شهدت للمسلمين مرة أخرى بالإيمان بقوله تعالى [يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ] ( ) وفي الإخبار المتعددة عن إيمان المسلمين في آية البحث بشارة توقي وسلامة المسلمين من طاعة فريق من أهل الكتاب .
لتدل الآية بالأولوية القطعية على عدم طاعتهم للذين كفروا، وقد تكرر لفظ [يسر] في سورة الإنشراح فاستبشر النبي صلى الله عليه وآله بنزوله.
(عن جابر بن عبد الله قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن ثلثمائة أو يزيدون ، علينا أبو عبيدة بن الجراح ، ليس معنا من الحمولة إلا ما نركب فزوّدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جرابين من تمر ، فقال بعضنا لبعض : قد علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أين تريدون وقد علمتم ما معكم من الزاد ، فلو رجعتم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فسألتموه أن يزوّدكم ، فرجعنا إليه .
فقال : إني قد عرفت الذي جئتم له ، ولو كان عندي غير الذي زوّدتكم لزوّدتكموه . فانصرفنا ، ونزلت { فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً } فأرسل نبي الله إلى بعضنا ، فدعاه ، فقال : أبشروا فإن الله قد أوحى إليّ [فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا] ( )، وإن يغلب عسر يسرين) وكذا في آية البحث فان نعت المسلمين بالمؤمنين مرتين في آية البحث شاهد على عصمتهم من طاعة غيرهم.
ولم يطق المنافقون معاني الصبر والتقوى التي يتحلى بها المسلمون وأظهروا الشك والريب ولم يعلموا أن عصمة المسلمين من طاعة غيرهم حرب على النفاق .
لقد أرادوا المهادنة والموادعة المقرونة بالتفريط في المبادئ والتقصير في الإمتثال للأحكام الشرعية ، فنزل القرآن بالأمر للمسلمين بالتحلي بالتقوى وبفضح المنافقين ، قال تعالى [إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
وهل يستلزم عدم طاعة فريق من أهل الكتاب التوكل على الله فيه وجهان :
الأول : عدم طاعة المسلمين لفريق من أهل الكتاب أمر عدمي لا يحتاج التوكل على الله .
الثاني : إنه أمر وجودي يستلزم التوكل على الله .
والصحيح هو الثاني ، وهو جهاد في سبيل الله ويمكن تأسيس قانون وهو كل نهي في القرآن أمر وجودي يترتب على الإمتثال له الأجر والثواب , وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا تتنافى طاعة فريق من أهل الكتاب مع إيمانكم .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إن الله عز وجل يحبكم وينهاكم عما يجلب سخطه وغضبه .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا بعدم جواز طاعة فريق من أهل الكتاب .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا إجتهدوا في التوقي فريق من أهل الكتاب .
وكما يستلزم أول آية البحث الشكر لله عز وجل على توجيه النداء من لدنه للمسلمين ونعتهم بالمؤمنين به تعالى وبرسله وكتبه وباليوم الآخر ، فان خاتمة الآية تستلزم الشكر منهم أيضاً لما فيها من وصف المسلمين بالمؤمنين ، وتؤكد أنهم لم يرتدوا وتطل آية البحث المسلمين بذات صيغة المضارع كل يوم لتخبر أن المسلمين في واقية وحرز من طاعتهم .
وتبعث آية البحث اليأس والخوف في نفوس الذين كفروا من وجوه :
الأول : لقد لجأ كفار قريش إلى فريق من أهل الكتاب يسألونهم عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهل هي مذكورة في الكتب التي بين أيديهم ، فأنكر بعضهم هذا الذكر ، فجاءت آية البحث لنهي المسلمين عن طاعتهم ، وعدم الإلتفات إلى ما يقولون ، وفيه عقوبة عاجلة لهم .
وهل يمنع النهي عن طاعة فريق من أهل الكتاب في وعظهم وإنذارهم الجواب لا ، ليكون قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ] ( ) إنذاراً وتبكيتاً لهم وإخباراً بأن الله علم ما في نفوسهم وما يرومون من أمرهم أو نهيهم للمسلمين فتفضل وأخبر أجيال المسلمين المتعاقبة مما يضمرون للمسلمين من أسباب الضرر ، مما جعل الذين كفروا في حيرة وإرباك ، إذ غلقت آية البحث عنهم طريقاً لبث الجدال بين المسلمين ، ومن الإعجاز في ضروب العبادة والمناسك في الإسلام أن كل فرد منها يتصف بأمور :
أولاً :ترشح أداء العبادة عن الإيمان وبلوغ المسلم درجة من التقوى تجعله يقبل على أداء الفرائض قربة إلى الله .
ثانياً : من خصائص المسلمين تقيد كل واحد منهم ذكراً أو أنثى بأتيان كل الفرائض على نحو العموم الإستغراقي .
ثالثاً : أداء المسلم العبادة طاعة لله ورسوله .
رابعاً : كل فرض عبادي يؤديه المسلم هو واقية له من طاعة غير المسلمين .
ومن الإعجاز في الفرائض العبادية أنها تبعث النفرة في نفوس المسلمين من الإنصات إلى غيرهم في أمور العقيدة والدين .
فتفضل الله وأمر المسلمين بالصلاة خمس مرات في اليوم ، وتتكون كل صلاة من عدة ركعات ، نعم صلاة الصبح ركعتان ، والإتيان أقل الجمع .
ويجب قراءة القرآن في كل ركعة وإذ يكون الحد لأدنى للقراءة في الركعة الواحدة منها وهو سورة الفاتحة وسورة أخرى أو ثلاث آيات منها وما تيسر من القرآن ، فليس من حد من طرف الكثرة ، مع لحاظ التخفيف عن المأمومين في صلاة الفريضة .
وعن عبد الله بن السائب (قَرَأَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وآله وسلم الْمُؤْمِنُونَ فِى الصُّبْحِ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ عِيسَى ، أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ) ( ).
وجاء ذكر موسى في الآية الخامسة والأربعين منها ، قال تعالى [ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ] ( )وجاء بعده ذكر عيسى بقوله تعالى [وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ]( ).
وصل أعرابي خلف إمام صلاة الصبح ، فقرأ سورة البقرة وكان عند الأعرابي حلجات له ، ففاتته لطول الوقت الذي إستغرقته الصلاة ، فلما كان فجر اليوم الثاني ذهب إلى المسجد فقرأ إمام المسجد سورة الفيل فقطع الأعرابي الصلاة وولى وهو يقول ، أمس قرأت البقرة فلم تفرغ إلى نصف النهار واليوم تقرآ الفيل ما أظنك تفرغ منها إلى نصف الليل .
ولم يرد الخبر من مصدر معتبر ، وهو ضعيف موضوعاً ودلالة ، وإذا كان المراد التعريض بالإمام الذي يطيل القراءة فلابد أن يكون التعريض بالحجة والبرهان .
خامساً : تعاهد المسلمين للفرائض العبادية باعث لليأس في نفوس أعدائهم من الركون إليهم والإنصات لهم ، قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ] ( ).
وهل تدل آية البحث على تعاهد المسلمين للفرائض ، الجواب نعم ، بدليل إختتام الآية بالشهادة للمسلمين بالإيمان ، وتقدير خاتمة الآية : يردوكم بعد إيمانكم الذي أنتم عليه الآن كافرين ) .
وهذا المعنى متجدد في كل زمان ومكان فأينما كان المسلمون فهم يقومون في رياض الإيمان ، وتنفر نفوسهم من مفاهيم الكفر .
لقد تضمنت الآية في دلالتها إكتفاء المسلمين بطاعة الله ورسوله ، وفيه بعث للتدبر في آيات القرآن وأستنباط الأحكام منها واللجوء إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسؤاله عن السائل الإبتلائية ، لذا ورد لفظ (يسألونك) في القرآن خمسة عشرة مرة وفيه دلالة على إستغناء المسلمين بالقرآن والنبوة عن سؤال غيرهم ، قال تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ] ( ) ليكون تأديب المسلمين لليتامى بأجتناب طاعة الذين كفروا على وجوه :
أولاً : إصلاح اليتامى وإرشادهم لأداء العبادات والإقامة عليها ، وتعاهد سلامتهم من فعل السيئات والمعاصي ، ليكون من معاني [خَيْرٌ] في الآية أعلاه أن إصلاحهم خير لأنفسهم وللمسلمين جميعاً ، ولبناء اليتامى عندما يكبرون ويتزوجون .
ثانياً : الحرص على إجابة أسئلة اليتامى .
رابعاً : مخالفة المسلم لليتيم ، وهذه المخالفة من جهات :
الأولى : خلط طعام اليتيم مع طعام الوصي عليه ، فيأكلون جميعاً من غير حرج ، وعن ابن عباس ({ وإن تخالطوهم } قال : المخالطة أن يشرب من لبنك وتشرب من لبنه ، ويأكل في قصعتك وتأكل في قصعته وتأكل من ثمرته { والله يعلم المفسد من المصلح } قال : يعلم من يتعمد أكل مال اليتيم ومن يتحرج منه ولا يألو عن اصلاحه { ولو شاء لأعنتكم } يقول : لو شاء ما أحل لكم ما أصبتم مما لا تتعمدون) ( ).
الثانية : المخالفة في المسجد ، وتدارس القرآن .
الثالثة : مشاركة اليتامى في المكاسب بما يحفظ حقوقهم ، وهذا الحفظ من خصائص الأخوة .
الرابعة : إعانة اليتامى في أمورهم بما فيه الصلاح والملاك في المخالطة هو الأخوة الإيمانية ، فقدوا آباءهم ، فتفضل الله عز وجل بتعويضهم بأخوة كثيرين بصيغة الإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن معاني إختلاط المسلمين باليتامى منهم وقايتهم من طاعة الذين يريدون لهم الضلالة والفسوق لبيان قانون وهو تعضيد آيات القرآن للأحكام الواردة في آية البحث ومن وجوه تعضيدها في آية السؤال عن اليتامى وجوه :
الأول : توجه المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال عن كيفية التصرف مع اليتامى ، وظاهر الآية هو أعم من الوصية وإرادة أموالهم لأصالة الإطلاق من جهة السؤال واليتامى ، وشطر من اليتامى ليس لهم أموال لذا تتضمن الآية في دلالتها مدّ يد العون لهم .
وفي أسباب النزول ورد عن ابن عباس (عن قوله:” ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم”، قال: لما نزلت “سورة النساء”، عزل الناس طعامهم فلم يخالطوهم. قال: ثم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إنا يشقُّ علينا أن نعزل طعام اليتامى وهم يأكلون معنا! فنزلت:” وإن تخالطوهم فإخوانكم” قال ابن جريج، وقال مجاهد: عزلوا طعامهم عن طعامهم وألبانهم عن ألبانهم وأدْمهم عن أدْمِهم، فشقّ ذلك عليهم، فنزلت:” وإن تخالطوهم) ( ).
ولكن معنى الآية أعم وهي باقية إلى يوم القيامة ومن إعجازها الدلالات والغايات العقائدية ومنه حصانة اليتامى من أفكار الضلالة وصيغ الريب التي يبثها المنافقون والفاسقون .
لتكون واقية للمسلمين من طاعة غيرهم على وجوه :
الأول : كل آية قرآنية واقية للمسلمين من طاعة غيرهم ، لما فيها من البيان والحكمة ، قال تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الثاني : سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واقية من طاعة غيرهم .
الثالث : كفاية القرآن والسنة لأمور الدين والدنيا .
بحث أصولي
من خصائص القرآن تضمنه الأوامر والنواهي ، وبها تتقوم الحياة الإنسانية في الأرض لأنها سر العبادة، التي هي علة إستدامة الحياة في الأرض وكما يفيد الأمر في القرآن الوجوب إلا أن يدل دليل على الإستحباب، فان النهي يدل على الحرمة إلا مع الدليل أو القرينة على الكراهة وبيان القبح الذاتي للفعل المنهي عنه.
وإذا كان دفع المفسدة مقدماً على جلب المصلحة، فهل التقيد بالنهي الوارد في القرآن مقدم على الأمر فيه، الجواب لا، وهو قياس مع الفارق , وفيه مسائل :
الأولى : الإمتثال للأمر والنهي في القرآن بعرض واحد.
الثانية : تقديم الأوامر العبادية ولزوم التقيد التام بها.
الثالثة : كل أمر أو نهي في القرآن علم قائم بذاته.
الرابعة : إجتناب ما نهى الله عنه مقدمة لفعل الواجب، وإتيان ما أمر الله به مقدمة لإجتناب ما نهى الله عنه .
ومن إعجاز القرآن أن كل أمر أو نهي فيه يتصف بأمور :
أولاً : النزول من عند الله عز وجل ليس للملك والنبي فيه إلا النقل بأمانة والتبليغ باجتهاد، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( ).
ثانياً : سلامة الأوامر والنواهي القرآنية من التحريف والتبديل والتغيير .
ثالثاً : التبيان لكل أمر أو نهي في القرآن بما لا يقبل الترديد أو الإختلاف في التأويل , وقد ورد لفظ (تأويل) و(تأويله) خمس عشرة في القرآن، منها ثمان مرات في سورة يوسف وحدها، وفيه دعوة للتدبر في قصصها وإستنباط المواعظ منها، وتتصف بانها جاءت خاصة بقصة نبي من الأنبياء، قال تعالى[وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ]( ).
رابعاً : وجوه أمة عظيمة تعمل بالأوامر والنواهي القرآنية كل يوم من أيام الدنيا ومن حين نزولها في القرآن، فمن الإعجاز فيها قيام المسلمين بالإمتثال للأمر والنهي القرآني حال نزوله، ليس من فترة بينه وبين عملهم به، ومن الآيات أنهم يتسابقون بالإمتثال له، ويقوم بعضهم بنقل هذه الأوامر والنواهي إلى إخوانه وعائلته حالما تنزل الآية أو يسمع بنزولها، وتكون هذه الآيات على وجوه :
الأول : مجئ آية قرآنية تفيد الأمر من عند الله , وهو على شعب:
الأولى : الأمر المتحد .
الثانية : الأمر المتعدد في موضوعه , كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثالثة : توجه الأمر إلى شخص النبي محمد , وهو على قسمين :
أولاً : إرادة أمر خاص , ومنه قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا]( ).
ثانياً : المقصود من الأمر للنبي محمد أفراد الأمة , وعموم المسلمين .
الثاني : الآية التي تتضمن النهي من عند الله، قال تعالى[وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً]( ).
الثالث : الآية التي تجمع بين الأمر والنهي، وهو على شعبتين :
الأولى : تقدم الأمر على النهي في ذات الآية كما في قوله تعالى[وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا]( ).
الثانية : تقدم النهي على الأمر، كما في قوله تعالى[فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا]( ).
الرابع : نزول آية تتضمن في مفهومها الأمر أو النهي أو هما معاً.
ويأتي النهي القرآني بصيغة الجملة الطلبية (لا تفعل) الذي يفيد الحرمة إلا مع القرينة التي تدل على الكراهة، وترد بلغة المفرد كما في قوله تعالى [وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، أو بلغة الجمع كما في قوله تعالى[وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا]( )، [وَلاَ تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ]( ).
ويأتي النهي بصيغة الجملة الخبرية وثبوت نون الفعل كما في قوله تعالى[لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ]( ).
وقد يرد النهي في القرآن بصيغة النفي، وهو كثير في القرآن كما في قوله تعالى [مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ]( )، وفيه نكتة وهي الإخبار عن قانون لزوم عمارة المساجد ، ودعوة للمسلمين للعمل بمضامينه , وزجر الكفار وبعث الفزع والخوف في نفوسهم.
قانون تعاهد الإيمان
من أسرار نداء الإيمان وتعدده وتكراره في القرآن ومجيئه في إفتتاح آياته تثبيت الإيمان في نفوس المسلمين ،وصيرورته عقيدة ثابتة في الأرض ، فلقد عاد الزمان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى بداياته , وما فيه من قواعد الهدى والإيمان ، فكما رفع إبراهيم واسماعيل قواعد البيت الحرام ليحج إليه الناس كما في قوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَاسماعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ) فانه ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رفعت قواعد الإيمان لتبقى مناراً وصرحاً مضيئاً إلى يوم القيامة .
وتفضل الله عز وجل وأنزل القرآن لتكون كل آية منه لبنة مباركة وركناً من الأركان الكثيرة المتعددة لهذا الصرح ، ويتضمن الأوامر والنواهي التي تحفظ المؤمنين في نفوسهم وإيمانهم وأفعالهم ذات صبغة الهدى ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ] ( ).
ومن خصائص الأمر القرآني أنه يتضمن في مفهومه النهي عما هو ضده وكذا بالنسبة للنهي في القرآن فانه يفيد البعث لفعل الصالحات .
ويتفضل الله عز وجل ويأتي بالأمر أو النهي بصيغة الجملة الخبرية والجملة الشرطية وكأنهما في ذات المعنى وبلغة الإنشاء وصيغة (إفعل) في الأوامر ، وصيغة ( لا تفعل ) في النواهي .
ومنه آية البحث التي جاءت بصيغة الجملة الشرطية لبيان قانون وهو أن المسلمين يحرصون على الثبات في مقامات الهدى والإيمان ويتعاهدون فعل الصالحات .
ويتلقون الجملة الشرطية النازلة من السماء بالقبول والرضا ، والعمل بمضامينها ، ولقد إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) فمن علم الله عز وجل تعاهد المسلمين للإيمان وإجتنابهم طاعة غير الله وإن جاء النهي عن طاعة غيره بصيغة الشرط .
لقد إختص الله عز وجل المسلمين لنفسه فتفضل بقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) فكان من مصاديق الخير والأحسن في المقام تنزههم عن طاعة غير الله ورسوله .
والآية واقية من حسد أهل الكفر والضلالة ، وباعث لليأس والقنوط في قلوب المنافقين , ودعوة لهم للتوبة والإنابة .
وهل في الآية إنذار ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : إنذار المسلمين بأن طاعتهم لغيرهم من أهل الملل سبب لجلب الضرر ، لتكون آية البحث من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) بتقريب أن الله عز وجل يحذر المسلمين من طاعتهم لغيرهم فيكون هذا التحذير سبباً لدفع الأذى عنهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
ومن خصائص الإيمان التآخي والألفة بين المسلمين لذا تفضل الله عز وجل بآية البحث لمنع المشادة والشحناء بينهم والتي تأتي من طاعتهم لغيرهم ، سواء بطاعة فريق من المسلمين لغير المسلمين ، أو بطاعة كل فريق وطائفة من المسلمين لفريق من غير المسلمين , ومن أسرار ورود لفظ فريق في آية البحث أخذ المسلمين الحائطة باجتناب طاعة الطوائف والفرق المختلفة من غيرهم ، والمنع من الظن بأن بعض هذه الطوائف تريد نفع المسلمين بخلافها مع غيرهم .
نعم لا تمنع الآية من الألفة وحسن العشرة مع أهل الكتاب والإقتباس منهم في العلوم وجواز الشركة والمضاربة معهم في التجارات والصناعات وعقود البيع والشراء ، ولا تحث على دوام النفرة منهم والعزلة عنهم ، إنما تدعو لعدم طاعتهم والإنصات لهم في أمور الدين والعقيدة .
فيرى الكتابي المسلمَ يتعاطى معه في أمور المال والمكاسب بصيغ الحق والإنصاف مع السلامة من الربا أكلاً وتأكيلاً ، ولكنه يجتنب طاعته ويدرك أن هذه الصيغ والإجتناب بأمر من عند الله عز وجل في القرآن , الذي يكون حضوره في المعاملات شاهداً على صدق تنزيله .
وجاء زمان العولمة وتداخل الحضارات وتقارب الشعوب والإتصال اليومي بين أهل المشرق والمغرب مع عجز الحكومات والسلاطين عن فرض قيود على هذا الإتصال أو تعيين سنخيته ، ولكن القرآن وأحكامه حاضرة في هذا الإتصال ولها موضوعية في كيفية سلوك المسلمين والمسلمات في هذا الإتصال ، وفيه شاهد على حاجتهم لآية البحث ، إذ يتقوم إتصالهم بأهل الملل والنحل بالتنزه عن طاعتهم .
فان قلت يشمل الإتصال عبر شبكة الأنترنيت صبيان المسلمين والقلم مرفوع عنهم , كما ورد عن الإمام علي عليه السلام قال (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ الصَّغِيرِ حَتَّى يَبْلُغَ وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الْمُصَابِ حَتَّى يُكْشَفَ عَنْهُ) ( ).
فهل يترك الصبي المسلم في نافذته المفتوحة على العالم أم يتم تعليمه بمضامين آية البحث ولو على نحو الإجمال .
الجواب هو الثاني ، وهذا التعليم من تعاهد الإيمان ومصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوظائف المستحدثة على الآباء والأمهات وعموم المسلمين ، وفيه دعوة للناس جميعاً إلى الإيمان والصلاح ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فيرى أهل الملل والنحل كيف أن الصبي من ابناء المسلمين يحترز من طاعة غير المسلمين ، وتنفر نفسه مما يخالف التنزيل ، فيتساءلون ويتفكرون في الأمر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ]( ).
وهل يأتي الأجر والثواب للصبي من المسلمين بتلقي مضامين آية البحث وتعلمها وإحترازه من طاعة غير المسلمين مع عدم وجود برزخ وحواجز بينه وبينهم في شبكات التواصل , الجواب نعم ، فلا ملازمة بين رفع القلم عن الصبي ومسألة جني الحسنات ، فما أن يبلغ الصبي المسلم سن التكليف إلا وقد إمتلأت صفحته من فعل الصالحات والتقيد بالأوامر والنواهي القرآنية ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) عندما أنكروا خلافة الإنسان في الأرض بسبب فساده فيها .
فصار الملائكة يرون بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كيف ان صبيان المسلمين يجتنبون طاعة غير المسلمين عن وعي وقصد وليس عن هوى ونزغات الطفولة ، ليكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا أنتم وابناؤكم فريقاً من الذين أوتوا الكتاب .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إمنعوا ابناءكم ذكوراً وأناثاً من طاعة الذين كفروا والذين أوتوا الكتاب .
الثالث : يا أيتها المؤمنات إمنعن ابناءكن عن طاعة فريق من الذين أوتوا الكتاب .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا وابناء الذين آمنوا لا تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب .
ومن مصاديق نداء الإيمان ولغة العموم فيه دعوة المسلمين والمسلمات للتعاون في وقاية ابنائهم من إتباع الذين أوتوا الكتاب والذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ]( ) ليكون فعل كل مسلم وكل صبي من ابناء المسلمين معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
وقد ورد تعليم الصبيان الصلاة في سن السابعة مع أنها ليست من التكاليف والواجب لحديث الرفع .
وفي علم الأصول أختلف في الأمر بالأمر بالشيء , هل هو أمر بذات الشيء حتى يكون المأمور الثاني مأموراً من الأول أو لا ، ولا تصل النوبة في المقام إلى هذا المبحث إذ أن آية البحث حاكمة وتدعو المسلمين وابناءهم لعدم طاعة غيرهم .
لقد تفضل الله عز وجل على المسلمين بزوال آثار القبلية وضغائن الجاهلية , وحفظهم في وحدتهم وتآخيهم , فجاءت آية البحث لتعاهد هذه الوحدة بقيد الإيمان والتقوى , والوقاية من دبيب العصبية وغلبة النفس الشهوية والغضبية بينهم .
وهل يمكن القول أن حاجة المسلمين لآية البحث في هذه الأزمنة وتقارب الأمم وتلاقح المفاهيم وحضور الأفكار المتناقضة عند الأفراد والجماعات طوعاً وإنطباقاً بالإعلام السريع والذي يدخل كل بيت في الجملة هي أكثر من حاجة أجيال المسلمين السابقة لها ، وإختلاط المسلمين في محل إقامتهم مع غيرهم من أهل الملل والنحل.
وأن حاجتهم في آخر الزمان ستكون أكثر من حاجتهم لها في هذا الزمان والإنفتاح بين عموم أهل الأرض ، الجواب من إعجاز القرآن أن أهل كل الزمان يدركون بأن حاجتهم للقرآن وآياته أشد من غيرهم ، وفيه باعث لتعاهد آياته والصدور عنه ، وفيه شاهد على ملائمة الآية القرآنية لكل زمان ، وإمكان العمل بها في كل موضع ومصر من أمصار الأرض .
لقد جاء الأمر الإلهي إلى أهل الكتاب باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ] ( ) وتضمنت آية البحث حث المسلمين على دعوة أهل الكتاب والناس للتفكر في آيات القرآن , والعمل بمضامينها .
وتبين الآية حقيقة وهي أن أهل الكتاب فرق وطوائف لقوله تعالى [فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ] ( ) بينما تذكر المسلمين كأمة واحدة تتلقى الخطاب القرآني والثناء من عند الله عز وجل , بدليل إبتداء الآية بنداء الإيمان .
فمن أسرار خلافة الإنسان في الأرض وعذوبة الإيمان دلالة النداء من عند الله على الثناء والمدح للمسلمين ، ولم تذكر الآية الذين كفروا ولزوم عدم طاعتهم لأن آية أخرى جاءت بهذا المعنى وبذات نداء الإيمان ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( ) لبيان تعدد التكاليف على المسلمين في الموضوع الواحد وأهليتهم لتحمل أمانة التنزه عن طاعة غير الله ورسوله ، وفي آية البحث حذف , وتقديره من وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب وأن أغروكم بالمال والمناصب والجاه .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا الذين أوتوا الكتاب لأن الأصل هو محاكاتهم لكم في طاعة الله عز وجل ورسوله .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لقد جعل الله لكم في القرآن كفاية وفخراً وعزاً ، فلا تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا من يدعو للفسوق وشرب الخمر ويعمل بالربا .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا حافظوا على إيمانكم بعدم طاعة فريق من الذين أوتوا الكتاب ، لتكون آية البحث من مقدمات الإمتثال لأمر الله في قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى] ( ).
السادس : يا أيها الذين آمنوا لا تطيعوا الذين لم يصدقوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع : يا أيها الذين آمنوا إجتنبوا الإرتداد بالتوقي من طاعة فريق من الذين أوتوا الكتاب .
وحينما جاءت آية البحث بالنهي عن طاعة أهل الكتاب ذكرتهم بصفة [الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ] لبيان أن موضوع التحذير من طاعتهم لا يخص ذات الكتب السماوية السابقة بل بصفة الإنتساب للكتب السماوية .
وفي ذكر الآية لفريق من الذين أوتوا الكتاب بيان لحقيقة وهي أنهم على فرق مختلفة وأن طاعة المسلمين لهم تجعلهم يتحدون في إيذاء المسلمين ، وإن ترك المسلمين لطاعتهم دعوة لهم للرجوع إلى التنزيل والتدبر في بشارات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية السابقة .
وبينما تضمنت آية قرآنية من ذات سورة آل عمران النهي عن طاعة الذين كفروا بصيرورة هذه الطاعة سبباً للخسارة بقوله تعالى [فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( ) ذكرت آية البحث عاقبة طاعة الذين أوتوا الكتاب بقوله تعالى [يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ] ( ) أي أن طاعتهم أشد ضرراً على المسلمين والناس جميعاً لما فيها من التحريف والتبديل بالسنن .
ولما جاءت آية البحث بصيغة الجملة الشرطية فأنها بينت جواب الشرط , وفيه جهات :
الأولى : الإرتداد بعد الإرتقاء , والنكوص بعد التقدم .
الثانية : مغادرة مقامات الإيمان السامية ، وما فيها من السكينة والطمأنينة والأمن لقوله تعالى [يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ] .
الثالثة : صيرورة الذي يطيع فريقاً من الذين أوتوا الكتاب كافراً وإن نال مرتبة الإيمان .
ليكون من الإعجاز في لغة الخطاب التبعيض في الآية وذكرها لفريق من أهل الكتاب إفادة ذم هذا الفريق وبيان إضرارهم بأنفسهم وسعيهم للإضرار بالمسلمين ، وقد ورد الثناء على فريق من أهل الكتاب بقوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا] ( ) .
وهل تختص الآية بأيام التنزيل , الجواب لا ، فموضوع الآية وما فيها من التنبيه والتحذير مستمر ومتجدد إلى يوم القيامة لذا إبتدأت بنداء الإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ] ( ) ليكون الإفتتان من الأضداد فكل فريق يفتن الآخر ويفتتن به .
فجاءت آية البحث لسلامة المسلمين من الإفتتان بغيرهم ، وللأمن والسلامة من فتنة الناس لهم في دينهم ، وفي الآية مسائل :
الأولى : تنمية ملكة الإقامة على الإيمان , والحرص على البقاء في منازل الهدى .
الثانية : بعث المسلمين على الصبر في أداء الفرائض والعبادات .
الثالثة : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة الهداية والإيمان .
الرابعة : تأكيد قبح الإرتداد وسوء عاقبته , وقد تقدم في الجزء السادس والستين من هذا التفسير وبخصوص هذه الآية أنها تجعل النفوس تنفر من الإرتداد وموضوعه ،وقد ذكرنا فيه ثمانية عشر وجهاً لمعنى الكفر الوارد في آية البحث ( ).
الهجرة إنذار لكفار قريش
الهجر : ضد الوصل .
والتهاجر : التقاطع ) ( ) .
ويقال : هاجر الرجل أي غادر أهله وقومه وأرضه وسمُوا المهاجرين لأنهم تركوا أوطانهم وأهليهم وأموالهم وبلادهم ، وقصدوا دار الغربة فنالوا شرف الدنيا والآخرة ولم يلبثوا إلا سنوات قليلة حتى خرجوا للأمصار أئمة وقادة وحاملين لراية التوحيد ودعاة للإسلام ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومبشرين بالثواب العظيم للمؤمنين في الآخرة.
ولقد أثنى الله عز وجل على المسلمين بقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ليبدأ كل من التفضيل في الآية أعلاه وخروج المسلمين الحميد للناس من حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكل فرد من هذا التفضيل والخروج معلق على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتنتظره الملائكة والخلائق حتى إذا ما بعث إزدانت الأرض والسماء بسناء الإيمان , وتحمل المسلمين الأوائل الأذى في جنب الله عز وجل من مصاديقها ، وكذا قيامهم بالهجرة لأن هذه الهجرة نوع طريق لبناء صرح دولة الإسلام ، وهداية الناس إلى الرشاد .
وقيل الهجرة أنواع منها الهجرة لطلب المعاش والكسب ، أو لطلب العلم ، ولكنها لا تصلح لمعنى الهجرة الإصطلاحي ، ففي طلب الرزق ورد لفظ الضرب في الأرض والسعي ، قال تعالى [إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ] ( ).
وتأتي الهجرة على أقسام :
الأول : الهجرة فراراَ بالدين كما في هجرة لوط عليه السلام ، قال تعالى [إِنِّي مهاجر إِلَى رَبِّي]( ).
الثاني : الهجرة من أجل الجهاد في سبيل الله .
الثالث : الهروب من البلد طلباً لسلامة الدين والنفس مجتمعين.
الرابع : ترك الأوطان للنجاة من القوم الظالمين .
الخامس : الهجرة للسلامة في الدين والجهاد في سبيل الله ، وكانت هجرة المسلمين جامعة لهذه الوجوه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) مما بعث الخوف في منتديات الظالمين ، وهو من عمومات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ) .
فينوي رؤساء الكفر من قريش إيذاء أحد الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما أن يصبح الصباح ويلتئم جمعهم حول البيت الحرام حتى يبلغهم خبر هجرته ومغادرته مكة ، هو وعدد من الشباب معه ومنهم من كان يخفي إيمانه ولم يصله أذى قريش .
وتتصف قريش بالخبرة الواسعة بتأريخ القبائل والأمم فأدركوا ديارهم ستخلوا منهم بموتهم وبالهجرة المتعاقبة للابناء والشباب نذير شؤم لهم .
وأن المهاجرين من قريش وعموم أهل مكة قد يجتمعون في الغربة ثم يعودون فاتحين ، وهو الأمر الذي يحدث في كل زمان وإلى يومنا هذا بأن يهرب أصحاب الرأي والقبيلة المغايرة لسنخية الحاكم ، فيبتلوا بالأذى من الغربة والوحشة ، فيرجعون ليقاتلوا بضراوة وشدة ، بينما إعتاد الظالمون على حياة الدعة ، كما حدث في معركة بدر وإنتصار المسلمين فيها مع ضعفهم وقلة عددهم والنقص في أسلحتهم ورواحلهم ومؤنهم ، وهو مصداق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ].
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
بعد أن جاءت أول آية من آيات النداء في سورة آل عمران في الآية المائة منه ، جاءت آية النداء الثانية في هذه السورة بعدها بآيتين لا تفصل بينهما إلا آية واحدة هو قوله تعالى [وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ…] ( ) .
لتدل الآية أعلاه وإبتداء آية البحث بنداء الإيمان على قانون عصمة المسلمين من وجوه :
الأول : سلامة وحصانة المسلمين من إطاعة الذين كفروا .
الثاني : نجاة المسلمين من الإرتداد بفضل من الله تعالى .
الثالث : عصمة المسلمين من الكفر .
الرابع : تعاهد المسلمين لسنن التقوى ، قال ابن مسعود في آية البحث : ( أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر) ( ) .
الخامس : رجاء المسلمين لنزول رحمة الله ، والفوز بالثواب من عنده تعالى , ومن الآيات أن ثواب التقوى يتغشى أيام الحياة الدنيا و( قال الثوري : إنما سموا المتقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى) ( ).
ومع سعة معاني التقوى وشمولها للأوامر والنواهي والأحكام التكليفية الثلاث الأخرى إلا أن التعريف أعلاه غير تام ، ومن أظهر معاني التقوى الخشية من الله عز وجل ، فجاءت آيات عديدة تأمر المسلمين والناس بأن يتقوا الله ، وعدم حصر الأمر بها بالمسلمين , ومنها قوله تعالى [لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ] ( ).
ومنها آية البحث ، ومنها [وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ] ( ).
ونداء الإيمان نعمة عظمى من عند الله تتدلى أغصانها في كل بيت وتكون قريبة من كل إنسان، وتتراءى ثمارها لكل إنسان وإن كانت مداركه العقلية ضعيفة بانشغاله بأمور الدنيا لأن هذه الأمور من مواضيع نداء الإيمان ، لذا جاءت آيات النداء بحث المسلمين على الأكل من الطيبات كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ] ( ) .
وتتضمن هذه الآيات الإنفاق من الطيبات ومن الرزق الذي تفضل به الله عز وجل ، وترك الإنفاق من الخبيث والردئ وغير الجيد من الثمار والأعيان بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ…] ( ) .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها لم تكتف بعدم الإنفاق من الخبيث بل إشترطت الإنفاق من الطيبات ، فلو جاء النهي عن إنفاق الردئ وحده لتوقف بعضهم عن الإنفاق من رأس ، فابتدأت الآية بنداء الإيمان ثم ذكرت الإنفاق وعلى نحو متكرر :
الأول : إبتداء الآية بنداء الإيمان دعوة للمسلمين للتعاون بينهم، وتعاهد معاني الأخوة الإيمانية التي تتقوم بقضاء الحاجة وبذل الوسع في دفع الحرج والضيق عن المسلم.
ومن الآيات في المقام وجوه:
أولاً : إعانة فرد من المسلمين لجماعة منهم.
ثانياً : مساعدة جماعة من المسلمين لطائفة منهم.
ثالثاً : إقراض أحد المسلمين لعدد منهم.
رابعاً : تعاهد الإقراض والتداين بين المسلمين مجتمعين ومتفرقين.
وعن ابن عمر قال: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته , ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)( ).
الثاني : الإنفاق من الطيبات التي كسبها المسلمون بأيديهم ، ومن أسرار البيان والتعيين في قوله تعالى [ما كسبتم ] منع الشح والبخل وحجب الحقوق الشرعية بالتمسك بالكسب لأنه جاء عن جهد وتعب وعناء , فلا يريد صاحبه إعطاءه لمن لم يعمل على جمعه ، ولم يعلم أن للفقير موضوعية بهذا الجمع والكسب بفضل من عند الله ، أي أن الله عز وجل يجعل في رزق المسلم زيادة لتكون نصيباً وسهماً للفقراء في كسبه , وهو الذي يدل عليه مفهوم قوله تعالى [أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ] ( ) .
فيتفضل الله عز وجل برزقكم ليأمركم بالإنفاق والبذل في سبيله تعالى .
الثالث : تعيين الإنفاق بأنه من الطيبات على نحو الحصر تنمية لملكة الأخوة بين المسلمين في السراء والضراء، وسبب لبعث الخوف في قلوب المشركين، وفيه ترغيب للناس بدخول الإسلام.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من نفّس كربة من كرب المسلم في الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب الآخرة، ومن ستر عورة مسلم في الدنيا ستر الله عورته في الدنيا والآخرة، ومن يسر على معسر في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)( ).
الرابع : عدم الإكتفاء بالإنفاق من طيبات الكسب والسعي، فلابد من الإنفاق من الثمار والمعادن وجاءت الآية بصيغة الماضي(ومما أخرجنا) .
وتقدير الآية ومما أخرجنا وما سنخرجه وسوف نخرجه لكم من الأرض، ففي كل يوم يصدق على المسلم أنه نال في الأمس القريب والبعيد مما أخرج من الأرض، وكذا يناله في يومه وأيامه اللاحقة، ويصح في القراءة النوعية وفق تعاقب الأجيال بأن الأجيال السابقة من المسلمين أخرج الله عز وجل لهم من كنوز الأرض، وكذا بالنسبة للجيل الحاضر المعاصر، وسوف تفوز أجيال المسلمين بالرزق الكريم للإنفاق في سبيل الله , وإعانة الفقراء والإقراض والتداين بين المسلمين , وتيسير الحوائج , ويدل قوله تعالى[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ] على السعة في أرزاق المسلمين , وهدايتهم لصيغ الإحسان بينهم .
الخامس : من معاني النهي عن إنفاق الخبيث والردئ أنه لا يصلح في الإعانة في جهاد المسلمين في سبيل الله، وهو خلاف قوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( )، فرباط الخيل والسلاح لا يأتي به الخبيث ثمناً أو بدلاً وعوضاً .
وفي خبر ضعيف عن (عن جابر قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوم غزاة ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. قالوا: وما الجهاد الأكبر ؟ قال : مجاهدة العبد هواه)( ).
لبيان قانون وهو أن الدنيا دار إمتحان وإختبار ، وأن حال الإنسان في السلم والحضر وميدان العمل لا تقل من جهة الإبتلاء عن هيئة الحرب والقتال ، فهو في صراع مع هواه ، وعليه التغلب على النفس الشهوية وإجتناب الظلم للأدنى وغيره ، وهذا العموم في مصارعة الهوى من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ).
وقد ورد بخصوص الآية أعلاه أنها منسوخة بقوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] ( ) .
ولكن هذا النسخ على فرض وقوعه جهتي , إذ أن حق التقوى يتعلق بما يجب في حق الله عز وجل لبيان قانون وهو : لا يستطيع كل مسلم ومسلمة تعاهد تمام التقوى , وفي كل فعل وحال شخصية أو نوعية .
ومن وجوه الجمع بين الآيتين أعلاه أن المسلم ينوي بذل الوسع في تقوى الله , ويجتهد في طاعته والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإمتناع عما نهى عنه ، ومنها من حالات أن المراد من حق تقاة الله هو حد الإستطاعة .
فلا يصح القول بالنسخ التام بين الآيتين ، وأن التقوى قدر الإستطاعة تحل بديلاً عن [اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ]من جهات :
الأولى : مجئ لفظ حق تقاته تأكيداً وبياناً لنوع تقوى المأمور به في الصناعة النحوية مفعول مطلق , وتقاة : مضاف إليه ، وهو مضاف والهاء في [تقاته] مضاف إليه .
الثانية : لم يعطف على قوله تعالى [حق تقاته] إلا التأكيد على مغادرة الدنيا ، بالثبات على الإسلام وسنخية الإيمان ، بينما تعدد المعطوف على الإستطاعة في التقوى بقوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسمعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ] ( ).
وكل فرد منها من مراتب التقوى العالية , وهي :
الأول : الإنصات لآيات القرآن , والإستماع للسنة النبوية والعمل بمضامين كل منهما .
الثاني : التقيد التام بطاعة الله ورسوله .
الثالث : الإنفاق في سبيل الله ، وإعانة الفقراء والمحتاجين , ومع الخشية من الله عز وجل لابد من الإنفاق والتقرب إليه بالبذل والعطاء .
ليكون الإنفاق والبذل وإخراج الزكاة من الطيب والنوع الجيد من الثمار والحبوب والأموال والإمتناع عن إنفاق الردئ والخبيث من التمر والثمار وغيرها من تقوى الله حق تقاته ، فلا يحدثن المسلم نفسه هل أنفق من النوع الطيب أم من الردئ ، بل يتجه للإنفاق من الطيب والنوع الحسن .
(عن عوف بن مالك قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه عصا ، فإذا اقناء معلقة في المسجد قنو منها حشف ، فطعن في ذلك القنو , وقال : ما يضر صاحبه لو تصدق بأطيب من هذه ، إن صاحب هذه ليأكل الحشف يوم القيامة .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { أنفقوا من طيبات ما كسبتم }( ) يقول : تصدقوا من أطيب أموالكم وأنفسه { ولستم بآخذيه } قال : لو كان لكم على أحد حق فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه فذلك قوله { إلا أن تغمضوا فيه } فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم؟ وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه ، وهو قوله { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون }( )) ( ).
فمن الناس من لم ينفق حتى الخبيث ولا يخرج نصيباً للفقراء من كسبه ، فلما جاء الإسلام فرض الزكاة والخمس وأمر بالصدقات وندب إليه ، فمال جماعة إلى إخراج الردئ والخبيث ليس عن معصية ، ولكن ظناً منهم بصدق مسمى الإنفاق عليه لأنه إخراج للمال ، وبذل من الكسب , وهذا الإخراج بالقياس إلى حال ما قبل الإسلام من الإحسان .
فتفضل الله عز وجل وبيّن للمسلمين أن التقوى والخشية من الله تتجلى بانفاق الطيب والنوع الحسن ثم تفضل الله عز وجل وبين سنخية المنفق والتصدق به بقوله تعالى في كفارة اليمين والحلف [فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ] ( ).
الثالثة : من معاني [مَا اسْتَطَعْتُمْ] بذل الوسع في التقوى لبلوغ مرتبة حق تقاته بلحاظ قدرة المكلف لقانون التوافق والتناسب بين التكليف والقدرة الشخصية ، قال تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]( ).
الرابعة : من معاني [مَا اسْتَطَعْتُمْ] أي في ضروب ووجوه التقوى ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : فأتقوا الله ما استطعتم في العبادات وأداء الفرائض ، وهو أيضاً على وجوه منها :
أولاً : ما استطعتم في أداء الفرائض في أوقاتها .
و(عن مالك بن الحويرث ، قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلينا .
سأَلنا عمن تركنا في أهلنا , فأخبرناه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما رفيقا .
فقال : ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكبركم) ( ).
ثانياً : ما استطعتم في المستحبات المصاحبة وذات صيغة الجزئية من الفرائض كما في تعاهد صلاة الجماعة ، لأن هذا التعاهد نوع تقوى وخشية من الله عز وجل .
ثالثاً : ما أستطعتم في أداء العبادات بأركانها وأجزائها كاملة .
رابعاً : ما أستطعتم في النفقة في الدَين لأن هذا النفقة من تقوى الله.
خامساً : ما أستطعتم بالسعي في محاكاة رسول الله في أداء الفرائض والواجبات والمستحبات ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
(عن أنس قال: كان رجل من الأنصار مريضًا، فجاءه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يَعودُه، فوافقه في السوق فسلَّم عليه، فقال له: “كَيْفَ أنْتَ يَا فُلانُ ؟” قال بخير يا رسول الله ، أرجو الله أخاف ذنوبي .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : “لا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ إلا أعْطَاهُ اللهُ مَا يَرْجُو , وآمَنَهُ ممَّا يَخَافُ) ( ).
وكل من الرجاء والخوف من التقوى , وكأن لفظ التقوى من الأضداد ويجمع المتباين والمتفرق والملاك حضور ذكر الله عند الهّم بالفعل وعن ذات الفعل والتفكر بتدبير الأمور والمبادرة إلى الإستغفار ورجاء فضل الله .
ترى لماذا يلزم أن تبلغ تقوى المسلمين غايتها القصوى , فيه وجوه :
الأولى : لا تتقوم العبادة إلا بقصد القربة وصدق اليقين ، ولما تفضل الله عز وجل وجعل علة خلق الناس العبادة بقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) أخبر في آية البحث بلزوم التقوى والإخلاص في العبادة , لبيان سنخية العبادة المثلى , التي تكون شاهداً يومياً متجدداً على قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ].
الثانية : تحلي المسلمين بالتقوى سبب ومناسبة لإنتشار الإسلام وسيادة أحكامه في الأرض .
الثالثة : التقوى واقية من الظلم والتعدي .
ولما تفضل الله وأخبر عن الصبغة الحميدة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانها رحمة وخير محض للناس جميعاً بقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) جاءت آية البحث بما يتضمن كفّ المسلمين أيديهم عن الناس .
الرابعة : لقد تقدم قبل آيتين آية من آيات النداء تنهى المسلمين عن طاعة فريق من أهل الكتاب وتتضمن بيان سوء عاقبة طاعتهم ، وأنها تؤدي إلى الإرتداد ، لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ] ( ) وجاءت آية البحث لوقاية المسلمين من طاعتهم لغيرهم بما يضر في إيمانهم ، وتتجلى هذه الوقاية بتقوى الله والخشية منه سبحانه .
الخامسة : تدل الآية على مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشريعة المتكاملة وأنه خاتم الأنبياء لأنه يدعو إلى تمام التقوى ، وبلوغ المسلمين اسمى معاني الخشية من الله في أنفسهم وأفعالهم وعباداتهم .
إكرام آية حق تقاته للمسلمين
لقد جعل الله عز وجل الدنيا ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم روضة ناضرة وبستاناً , وأمر جاء في القرآن فاكهة ذات نكهة طيبة تكون طريقاً للعبور إلى بر الأمان في النشأتين ، ولم ينحصر التنعم بظلال أحكام الإسلام بالرجال من المؤمنين بل شمل النساء ، فأعطى الإسلام للمرأة منزلة عظيمة ، وهو من أسرار دخول النساء من قريش الإسلام ، ومنهن من بادرت إلى دخول الإسلام قبل أبيها أو أخيها أو زوجها ، وتلك معجزة حسية في نبوة محمد ، وتحملن الأذى والتعذيب ، وشاركن في الهجرة من مكة إلى الحبشة في تلك القرون السابقة ، والطرق الترابية المكشوفة والبواخر ، ذات الألواح البالية ، ثم شاركت جماعة منهم في الهجرة إلى المدينة .
وجعلت الشريعة الإسلامية للمرأة حق إختيار الزوج مع لزوم الإنفاق عليها ، وحسن معاشرتها وإجتناب ظلمها ، وتوجه نداء الإيمان إلى المسلمات بعرض واحد مع المسلمين ، وإكرام الإسلام المرأة بأن أجاز لها حق التملك والبيع والشراء والإجارة والتعلم بل فرض عين عليها .
وكما هدم الإسلام حصون الوثنية وقضى على عبادة الأصنام فانه نقض ما كان سائداً من عادات تتضمن ظلم المرأة والتي تبدأ من الوأد وقتلها في الصغر ، ومن تبقى على قيد الحياة ليس لها سهم في الميراث وكأنهم يقولون لها : أشكري منا عدم وأدك في المهد وأرضي بالحرمان من التركة ، فجعل لها الإسلام حصة ثابتة في التركة أماً أو بنتاً أو أختاً أو زوجة ، قال تعالى بالنسبة للأولاد [لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ] ( ).
لتكون حصتها من التركة مقدمة لعملها في التجارة ,وتصرفها في مالها بما تراه مناسبة خاصة وأن الإنفاق عليها مكفول بالشريعة إذ يتحمله الزوج ، فهي كبنت يأتيها الأرث من الأب ، وكزوجة ينفق عليها الزوج .
ليكون الأمر من عند الله للمرأة في آية البحث ببلوغها غاية التقوى حاجة من جهات :
الأولى : أداء المرأة المسلمة لعبادتها على الوجه الأتم والأكمل .
الثانية : الملازمة بين التقوى والعفة ، وتتجلى هذه الملازمة بشواهد في كل زمان ، إذ أن العفة فرع التقوى والخشية من الله عز وجل .
الثالثة : تقوى المرأة سبيل صلاح لابنائها ، وبناء لصرح الإيمان في المجتمعات ، لموضوعيتها في تربيتهم ولإقتدائهم بها وإقتباسهم من محاسن أفعالها .
الرابعة : تعاضد المسلمين والمسلمات فيما بينهم في سبل التقوى ، والإجتهاد في طاعة الله ، فقوله تعالى [اتَّقِ اللَّهَ]يتضمن وجوهاً :
الأول : وجوب تقوى وطاعة كل مسلم ومسلمة لله عز وجل .
الثاني : بعث المسلمين للمسارعة في الخيرات ، وجني الحسنات ، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الثالث : تعاون المسلمين فيما بينهم في مسالك التقوى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) فتتجلى الأخوة في المقام من جهات :
الأولى : إنما المؤمنون أخوة بخصال التقوى .
الثانية : غنما المؤمنون أخوة بالتعاون في سبل التقوى ، قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ).
فمن الإعجاز في الآية أعلاه أنها تذكر التقوى بالخصوص , وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا تعاونوا على البر .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا تعاونوا على التقوى .
ويفيد حرف الجر (على ) الإستعلاء , والمراد مرادفته لحرف الجر اللام و(في) وغيرهما .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : تعاونوا في البر والتقوى إذ تأتي (على) بمعنى (في ) كما في قوله تعالى [وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا]( ).
الثاني : تأتي (على) بمعنى التعليل , ويكون معنى الآية ( وتعاونوا للبر والتقوى ) لهداية الله لكم بالتعاون فيما بينكم ، فتكون سنخية التعاون المأمور به هو التعاون في البر والتقوى , ومن تعاون المسلمين بإجتناب طاعة الذين يريدون الإضرار بالإسلام .
الثالث : تأتي (على ) بمعنى (مع) كما في قوله تعالى [وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ] ( ).
ليكون تقدير الآية : تعاونوا فيما بينكم في أمور الدين والدنيا ويكون تعاونكم مع السعي للبر والصلاح والتلبس برداء التقوى ، ليكون حجاباً دون فعل المعاصي وطاعة الذين كفروا .
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية التنزه عن المعاملات المحرمة كالربا ، وأكل المال بالباطل .
الرابع : تأتي (على ) بمعنى الباء ، كما في قوله تعالى [وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] ( ) وكما لو قلت إستعن على الصبر أي إستعن بالصبر .
ليكون تقدير الآية : وتعاونوا بالبر والتقوى ، لتكون إعانة المسلم لأخيه بقصد القربة ورجاء الأجر والثواب ، وليصبح كل من البر والتقوى سيلة وصيغة لإعانة المسلم لأخيه ولتلقي المسلم المعونة من أخيه ومقدمة للتعاون في سبل الصلاح .
فتتجلى معاني التقوى والشكر لله عز وجل في ظاهرة أفعال المسلمين ، وهذا التجلي من مصاديق قوله تعالى [اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ]( ).
الخامس : يأتي (على) بمعنى الاسم , وليس حرفاً للجر كما لو قلت [هبط من على الجبل] أي من فوق الجبل فهل يكون من معان (على) في المقام الاسم ، الجواب لا.
ويحتمل اسم التفضيل في (حق تقاته) وجوهاً :
الأول : إرادة بذل المسلمين الوسع، في محبة الله والتفاني في طلب رضاه .
الثاني : الآية إنحلالية، وفيها دعوة لكل مسلم للإجتهاد في سبل الصلاح والعفة والعصمة من المعاصي .
الثالث : إستحضار المسلمين لذكر الله عز وجل في كل فعل يقومون به.
الرابع : المقصود الكم والكيف في صيغ التقوى التي يجب أن يتحلى بها المسلمون، ومن الكيف هو إجتهاد المسلمين في طاعة الله وبذلهم الوسع في الخشية منه .
الخامس : حث المسلمين على بلوغهم مجتمعين اسمى مراتب التقوى ، فمثلاً إذا جاء شهر رمضان تناجوا فيما بينهم للصيام وتدارسوا القرآن , وحث بعضهم بعضاً على التحلي بالتقوى وأظهروا التسامح ومعاني العفو والود بينهم وهجروا الشحناء والكدورات .
وعن ابن عباس ( قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجود الناس بالخير ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه جبريل كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ ، يعرض النبي صلى الله عليه وسلم عليه القرآن ، فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة)( ).
وتقدير الجمع بين أول وآخر الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) وفيه مسائل :
الأولى : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين بهدايتهم إلى قانون من الإرادة التكوينية , وهو باب إستدامة الإيمان الخاص والعام.
ليكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذي آمن لا تمت إلا وأنت مسلم ) فتصاحب الآية المسلم في ليله ونهاره لأن كل إنسان يدرك أن الموت قد يباغته في أي دقيقة من آنات حياته .
وليس لزيارته كيفية مخصوصة ، وقد تطول ساعة الإحتضار ، وقد تنعدم فلا يكون بين مداهمة الموت وقبض الروح آن ما يستطيع معه الوصية والإخبار عن ديونه وتوديع الأهل والتوبة والإستغفار, وينفرد المسلم بأن معه كنز الدنيا والآخرة وسبيل المرور على الصراط يوم القيامة ، وهو قوله تعالى [وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] .
ترى لماذا لم تقل الآية ولا تموتن إلا وأنتم مؤمنون ) الجواب إرادة التخفيف عن المسلمين ، وتفضل الله عز وجل بالرضا عنهم عند مغادرة الدين بالإسلام ، والقليل من الصالحات ليبارك بها .
وفي الآية أمر لملك الموت بأن يرأف بالذي ينطق بالشهادتين عند قبض روحه .
عن البراء بن عازب ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار ، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله ، وكان على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكث به في الأرض ، فرفع رأسه فقال : استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً.
ثم قال : إنَّ العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأنَّ وجوههم الشمس ، معهم أكفان من كفن الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان . فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء وإن كنتم ترون غير ذلك ، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها ، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ، فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على الأرض ، فيصعدون بها فلا يمرون على ملإٍ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الطيب؟! فيقولون : فلان بن فلان بأحسن اسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا ، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا ، فيستفتحون له فيفتح لهم ، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي به إلى السماء السابعه ، فيقول الله : اكتبوا كتاب عبدي في عليين واعيدوه إلى الأرض ، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى ، فتعاد روحه في جسده .
فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك؟ فيقول : ربي الله . فيقولان له : ما دينك؟ فيقول : ديني الإِسلام . فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول : هو رسول الله . فيقولان له : وما عملك؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت . فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة ، فيأتيه من روحها وطيبها ، ويفسح له في قبره مد بصره.
ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول : ابشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد . فيقول له : من أنت ، فوجهك الوجه يجيء بالخير؟! فيقول : أنا عملك الصالح فيقول : رب أقم الساعة ، رب أقم الساعة حتى ارجع إلى أهلي ومالي .
قال : وإن العبد الكافر إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا ، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح ، فيجلسون منه مد البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب ، فتفرق في جسده فينتزعها كما يتنزع السفود من الصوف المبلول ، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملإٍ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الخبيث؟! فيقولون : فلان بن فلان بأقبح اسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا ، فيستفتح فلا يفتح له ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تفتح لهم أبواب السماء } .
فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى ، فتطرح روحه طرحاً ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { ومن يشرك بالله فكأنما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق }.
فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان ، فيجلسانه فيقولان له : من ربك؟ فيقول : هاه هاه . . . ! فيقولان له : ما دينك؟ فيقول : هاه هاه لا أدري . . . ! فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول هاه هاه لا أدري . . . ! فينادي مناد من السماء : إن كذب عبدي فافرشوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار ، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف في أضلاعه ، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح ، فيقول : ابشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : من أنت فوجهك الوجه ، يجيء بالشر؟! فيقول : أنا عملك الخبيث . فيقول : رب لا تقم الساعة ( ).
الثانية : تأكيد سنة الله عز وجل في الحياة الدنيا وعمارة االإنسان للأرض بأنه لابد وأن يغادرهما والناس في وقت واحد ، فليس من ترتيب ونجوم في مغادرة الدنيا وأهلها ، وكما جاء الإنسان إلى الدنيا من غير إرادة منه ، فانه يفارقها طوعاً وقهراً ، وفضل الله عز وجل المسلمين بأن أمرهم بتعاهد الإيمان إلى حين مغادرة الدنيا .
الثالثة : إرادة الوعد من عند الله عز وجل للمسلمين ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون لتنجوا من عذاب القبر و(عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما عمل آدمي عملاً قط أنجى له من عذاب القبر من ذكر الله) ( ).
ويتقوم الإسلام بذكر الله فيدل قوله تعالى [وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( )على أن المسلم يفارق الدنيا وقد صلى في ذات اليوم الذي مات فيه .
وهو من الإعجاز في إنبساط الصلوات اليومية الخمسة على أوقات النهار والليل ، ليكون من معاني قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى] ( ) أي لا تغادر أيها المسلم الدنيا إلا بأداء الصلاة في ذات اليوم الذي تصلي فيه الصلاة اليومية لتكون هذه الصلاة شاهداً على أنه لم يمت إلا وهو مسلم .
ثانياً :لن يرضى الله للإنسان إى بأن يموت على الإسلام فأمر المسلمين به لأنهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا ما دمتم آمنتم بالله ورسوله فلا تموتن إلا وانتم مسلمون .
رابعاً : لا تموتن إلا وأنتم مسلمون كي تدخلوا في الآخرة الجنة التي [أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) فان قلت بين الإسلام والتقوى عموم وخصوص مطلق ، فالإسلام أعم , ولم تقل الآية أعلاه (أعدت للمسلمين ) .
والجواب تضمنت آية البحث حث المسلمين على التقوى وبلوغ اسمى مراتبها .
وفيه نكتة وهي أن تلبس المسلم بالتقوى في أيام حياته علة لنيله الثواب في الآخرة إذا غادر الدنيا متمسكاً بمبادئ الإسلام .
الرابعة : إقامة الحجة على الذين كفروا .
ومع إبتداء الآية بالشهادة للمسلمين بالإيمان ، فان الله عز وجل خفف عنهم ورضي منهم أن يموتوا على الإسلام وفيه نكتة ، وهي أن التلبس في الحياة الدنيا بالإيمان يجعل المسلم لا يغادره ليجتهد المسلم في طاعة الله عز وجل طيلة أيام حياته .
الخامسة : بيان موضوعية قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ] ( ) إرادة صدور الفتوى والحكم والرأي من المسلمين بصيغة الإيمان وخالصة من أسباب الشك والريب التي تأتي بها بطانة السوء قبل الصدور أو أثناءه أو بعده ، وتجاهرها باللوم عند حدوث خطأ أو أذى وإن لم يكن عن عمد وقصد أو نقص .
فمن خصائص هذه البطانة أنها تستعيد الوقائع والأحداث بما يفيد إدعاء الحاجة إليها وإلى مشورتها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ( ).
السادسة : لقد أنعم الله عز وجل على الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاهتدى المسلمون إلى إتباعه ونصرته بفضل من الله عز وجل ، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
ووردت الآية أعلاه في وصية إبراهيم لبنيه ، ووصية حفيد النبي يعقوب وهو اسرائيل لبنيه ومنهم يوسف عليه السلام ، ويدل التشابه والإتحاد بكلمات خاتمتها وخاتمة آية البحث على قانون : وهو أن المسلمين ورثة الأنبياء ، ولبيان مرتبتهم في الأجيال المتعاقبة للناس ، وفيه دلالة على أن الشرائع التي أنزلت على الأنبياء موجودة في القرآن وأحكام الإسلام .
وجاء ذكر إبراهيم ويعقوب لبنيه من باب المثال لبيان قانون من جهات :
الأولى : الوصية بالموت على الإسلام قانون ثابت في حياة الأنبياء .
الثانية : بيان قانون وهو أن الأنبياء لم يموتوا إلا وهم مسلمون ). وهل تدل الآية أعلاه على أن أولاد الأنبياء الصلبيين لا يموتون إلا وهم مسلمون .
الجواب نعم ، لأن وصية النبي التي ترد في القرآن حق وصدق ولابد من ترتب الأثر عليها بفضل من الله عز وجل .
ومن الشواهد عليه توبة أخوة يوسف ودعاء يعقوب النبي لهم ، عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك،
قال : إنّ الله عزّ وجل لمّا جمع ليعقوب شمله خلا ولده نجيّاً،
فقال بعضهم لبعض : أليس قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ وما لقي منكم يوسف؟
قالوا : بلى،
قال : فإنْ أعَفَوا عنكم ولكن كيف لكم بربّكم،
فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جنب أبيه قاعد.
قالوا : يا أبانا أتيناك في أمر لم نأتك في مثله قط،
ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله،
حتى حرّكوه،
والأنبياء (عليهم السلام) أرحم البريّة،
فقال : ما لكم يا بَنيَّ؟
قالوا : ألست قد علمت ما كان منّا إليك،
وما كان منّا إلى أخينا يوسف؟
قالا : بلى،
وقالوا : أفلستما قد عفوتما،
قالا : بلى،
قالوا : فإنّ عفوكما لا يغني عنّا إنْ كان الله لم يعفُ عنّا،
قال : فما تُريدون يا بَني؟
قالوا : نُريد أن تدعو الله فإذا جاء الوحي من عند الله بأنّه قد عفا عنا صُنْعَنا قرّت أعيُننا واطمأنّت قلوبنا،
وإلاّ فلا قرّة عين لنا في الدنيا أبداً،
فقام الشيخ واستقبل القبلة وقام يوسف خلف أبيه،
وقاموا خلفهما أذلّة خاشعين،
فدعا يعقوب وأمّن يوسف فلم يجب فيهم عشرين سنة.
قال صالح المرّي : يخيفهم،
حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبرئيل على يعقوب فقال : إنّ الله تبارك وتعالى بعثني إليك أُبشّرك،
فإنّه قد أجاب دعوتك في وِلدك،
وإنّه قد عفا عمّا صنعوا،
فإنّه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوّة،
وذلك الذي ذكرت وقصصتُ عليك ( ).
الثالثة : مصاحبة وصية الموت على الإسلام الإنسان في وجوده في الأرض وعمارته لها , وصيرورة الأمر بالتسليم والإنقياد لأمر الله تركة كريمة للأنبياء , ولتكون مقدمة لتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أنها من أبهى مصاديق الإنقياد لأمر الله عز وجل .
الرابعة : إقامة الحجة على الناس بوصية الإسلام , ومن معاني الجمع بين خاتمتي الآيتين بيان تفضيل المسلمين على الأمم الأخرى فاذ جاءت وصية ابناء الأنبياء بواسطة آبائهم الأنبياء لينقلوا الوصية ذاتها إلى ابنائهم وأعقابهم فان الله تفضل على أجيال المسلمين إذ تولى توصيتهم وأمرهم بنفسه بالموت على التسليم والإنقياد له ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ووصى بها إبراهيم بنيه لاتموتن إلا وأنتم مسلمون ).
الثاني : وصى إسحاق بنيه يا بني لا تموتن إلا وأنتم مسلمون .
الثالث : ووصى اسماعيل بنيه يا بني لا تموتن إلا وأنتم مسلمون, وتصدقون بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : ووصى يعقوب بنيه يا بني لا تموتن إلا وأنتم مسلمون .
والمراد من الضمير (الهاء) (ووصى بها ) أي كلمة التوحيد والإسلام .
وتأتي آية البحث لتتضمن معنى : ووصى الله المسلمين لا تموتن إلا وأنتم مسلمون .
ومن معاني الصراط المستقيم الإسلام ، ليكون من أسرار قراءة سورة الفاتحة في الصلاة اليومية دعاء المسلمين بأن لا يموتوا إلا على الإسلام .
ويقرأ المسلم والمسلمة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) ليكون من معانيه :
الأول : إهدنا الصراط المستقيم بتلقي نداء الإيمان .
الثاني : إهدنا الصراط المستقيم بالثبات في مقامات الهدى والإيمان .
الثالث : إهدنا الصراط المستقيم بالموت على الإسلام .
الرابع : إهدنا الصراط المستقيم بالمناجاة فيما بيننا .
الخامس : إهدنا الصراط المستقيم بتلاوة آية البحث , وما فيها من الحث على التقوى .
السادس : إهدنا الصراط المستقيم بالإجتهاد بالتقوى ونيل اسمى المراتب والفوز بأعلى درجات الثواب وأكثر جزاء للحسنات بفضل من عند الله .
السابع : إهدنا الصراط المستقيم بالدعاء للموت على الإسلام بلحاظ أن الدعاء من مصاديق الصراط المستقيم ، وهو مقدمة للفوز بمصاديق منه ، فقوله تعالى [الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] اسم جنس له مصاديق من جهات :
الأولى : تعدد أفراد الصراط المستقيم في الدنيا وفي باب العبادات والمعاملات والأحكام .
الثانية : ذات القرآن صراط مستقيم , ليكون من إعجاز القرآن أنه يهدي لنفسه ، ويرغب الناس بتلاوته والعمل بمضامينه ، وعن النواس بن سمعان (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ضرب الله صراطاً مستقيماً ، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة .
وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتفرقوا . وداع يدعو من فوق : الصراط فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب , قال : ويحك . لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه .
فالصراط الإِسلام ، والسوران حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق واعظ الله تعالى في قلب كل مسلم) ( ).
وأخرج ابن الأنباري عن ابن مسعود (قال : إن هذا الصراط محتضر تحضره الشياطين . ياعباد الله هذا الصراط فاتبعوه ، { والصراط المستقيم } كتاب الله فتمسكوا به) ( ).
وتحتمل موضوعية الآية القرآنية في سنخية الصراط المستقيم وجوهاً :
الأول : كل آية من القرآن صراط مستقيم .
الثاني : الآية القرآنية جزء من الصراط المستقيم .
الثالث : لا تكون للآية القرآنية موضوعية في تحقق الصراط المستقيم إلا بالجمع بينها وبين آيات القرآن الأخرى .
الرابع : من معاني الجمع بين الآيات , وظاهر الخبر أعلاه أن القرآن بمجموعه صراط مستقيم .
وباستثناء الوجه الثاني أعلاه فان الوجوه الأخرى من معاني الصراط المستقيم ، وكل آية قرآنية هي صراط ، قال تعالى [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( ) والمراد صلاة الصبح وما فيها من تلاوة القرآن .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون) ( ).
ليكون الحديث أعلاه من مصاديق تفسير آية البحث من جهات :
الأولى : إرادة نداء الإيمان وشهادة الملائكة للمسلمين بالإيمان ، وهذه الشهادة معاينة يومية متجددة ، وهي من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة الذين إستفهموا بصيغة الإنكار [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) .
الثانية : لم تمر الأحقاب حتى صار الملائكة يشهدون في الصباح والمساء إقامة المسلمين الصلاة بصيغة الإيمان .
الثالثة : لقد تفضل الله عز وجل وأمر بالإشهاد على عقود البيع والشراء والتداين بين المسلمين , بشاهدين عدلين , كما في قوله تعالى [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى] ( )، وتفضل سبحانه أمر طوائف من الملائكة لا يعلمها إلا هو أن تشهد على صلاة المسلمين مجتمعين في صلاة الجماعة أو متفرقين بصلاة الفرادى كل يوم .
ويكون من مصاديق نداء الإيمان : يا أيها الذين آمنوا إن الملائكة يشهدون لكم بالإيمان في الصباح والمساء .
ويمكن إستنباط قوانين كلامية من ذات منطوق وألفاظ الآية من جهات :
الأولى : التقوى واقية للإيمان، فلقد أمر الله المسلمين بالإجتهاد في سبل التقوى لتعاهد الإيمان، والسلامة من الإرتداد الذي يسعى إليه أعداء الإسلام كما في قوله تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( ).
الثانية : يمكن تسمية الحياة الدنيا بأنها (دار التقوى) لدلالة آية البحث على وجوب التقوى، فصحيح أن النداء فيها توجه للمسلمين والمسلمات إلا أن الأصل فيه إرادة الناس جميعاً لقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
الثالثة : ترشح الواجبات العقائدية عن التقوى، وتقومها بقصد القربة الذي هو مرآة للتقوى .
الرابعة : إفتتاح آية البحث بنداء الإيمان تشريف وتكليف ، فمن ضروب الإبتلاء الحسن في الحياة الدنيا أن التكليف بالعبادات وفعل الصالحات إكرام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )وبيان بأن الملائكة إحتجوا على جعل الإنسان خليفة وينال الشرف العظيم بالتكاليف مع أنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
ليكون نداء الإيمان ذاته جواباً على الملائكة ودعوة لهم لكتابة الحسنات للمسلمين ، والذب والدفاع عنهم بما يؤدي إلى تعاهد الإيمان في الأرض ، لذا نزلت الملائكة لنصرة المسلمين في معارك الإسلام الأولى .
وورد في معركة بدر قوله تعالى [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال (لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَصَبْنَا مِنْ ثِمَارِهَا فَاجْتَوَيْنَاهَا وَأَصَابنا بِهَا وَعْكٌ , وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَبَّرُ عَنْ بَدْرٍ .
فَلَمَّا بَلَغَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَقْبَلُوا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَدْرٍ وَبَدْرٌ بِئْرٌ فَسَبَقَنَا الْمُشْرِكُونَ إِلَيْهَا فَوَجَدْنَا فِيهَا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ وَمَوْلًى لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ , فَأَمَّا الْقُرَشِيُّ فَانْفَلَتَ وَأَمَّا مَوْلَى عُقْبَةَ فَأَخَذْنَاهُ .
فَجَعَلْنَا نَقُولُ لَهُ كَمْ الْقَوْمُ , فَيَقُولُ هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ : كَمْ الْقَوْمُ .
قَالَ هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ .
فَجَهَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْبِرَهُ كَمْ هُمْ فَأَبَى .
ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ كَمْ يَنْحَرُونَ مِنْ الْجُزُرِ .
فَقَالَ عَشْرًا كُلَّ يَوْمٍ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْقَوْمُ أَلْفٌ كُلُّ جَزُورٍ لِمِائَةٍ وَتَبِعَهَا , ثُمَّ إِنَّهُ أَصَابنا مِنْ اللَّيْلِ طَشٌّ( ) مِنْ مَطَرٍ فَانْطَلَقْنَا تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ( ) نَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا مِنْ الْمَطَرِ .
وَبَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ , وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْفِئَةَ لَا تُعْبَدْ , قَالَ فَلَمَّا أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى الصَّلَاةَ عِبَادَ اللَّهِ .
فَجَاءَ النَّاسُ مِنْ تَحْتِ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَرَّضَ عَلَى الْقِتَالِ ثُمَّ قَالَ إِنَّ جَمْعَ قُرَيْشٍ تَحْتَ هَذِهِ الضِّلَعِ الْحَمْرَاءِ مِنْ الْجَبَلِ فَلَمَّا دَنَا الْقَوْمُ مِنَّا وَصَافَفْنَاهُمْ إِذَا رَجُلٌ مِنْهُمْ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ يَسِيرُ فِي الْقَوْمِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَلِيُّ نَادِ لِي حَمْزَةَ وَكَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ وَمَاذَا يَقُولُ لَهُمْ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنْ يَكُنْ فِي الْقَوْمِ أَحَدٌ يَأْمُرُ بِخَيْرٍ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ .
فَجَاءَ حَمْزَةُ فَقَالَ هُوَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَهُوَ يَنْهَى عَنْ الْقِتَالِ , وَيَقُولُ لَهُمْ يَا قَوْمُ إِنِّي أَرَى قَوْمًا مُسْتَمِيتِينَ لَا تَصِلُونَ إِلَيْهِمْ وَفِيكُمْ خَيْرٌ يَا قَوْمُ اعْصِبُوهَا الْيَوْمَ بِرَأْسِي وَقُولُوا جَبُنَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَسْتُ بِأَجْبَنِكُمْ .
فَسَمِعَ ذَلِكَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ : أَنْتَ تَقُولُ هَذَا وَاللَّهِ لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُ هَذَا لَأَعْضَضْتُهُ قَدْ مَلَأَتْ رِئَتُكَ جَوْفَكَ رُعْبًا .
فَقَالَ عُتْبَةُ إِيَّايَ تُعَيِّرُ يَا مُصَفِّرَ اسْتِهِ سَتَعْلَمُ الْيَوْمَ أَيُّنَا الْجَبَانُ .
قَالَ فَبَرَزَ عُتْبَةُ وَأَخُوهُ شَيْبَةُ وَابنهُ الْوَلِيدُ حَمِيَّةً فَقَالُوا مَنْ يُبَارِزُ فَخَرَجَ فِتْيَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ سِتَّةٌ .
فَقَالَ عُتْبَةُ لَا نُرِيدُ هَؤُلَاءِ وَلَكِنْ يُبَارِزُنَا مِنْ بَنِي عَمِّنَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُمْ يَا عَلِيُّ , وَقُمْ يَا حَمْزَةُ , وَقُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ .
فَقَتَلَ اللَّهُ تَعَالَى عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابنيْ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ وَجُرِحَ عُبَيْدَةُ فَقَتَلْنَا مِنْهُمْ سَبْعِينَ وَأَسَرْنَا سَبْعِينَ .
فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ قَصِيرٌ بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَسِيرًا .
فَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ مَا أَسَرَنِي لَقَدْ أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ مَا أُرَاهُ فِي الْقَوْمِ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ أَنَا أَسَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَقَالَ : اسْكُتْ فَقَدْ أَيَّدَكَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَلَكٍ كَرِيمٍ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَسَرْنَا وَأَسَرْنَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْعَبَّاسَ وعَقِيلًا وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ) ( ).
وهل يمكن إحتساب نداء الإيمان [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] حكماً مستقلاً قائماً بذاته .
الجواب نعم ، وهو من ذخائر علوم القرآن ، وكنوزه التي تقترب من متناول أي إنسان ، فمن خصائص الكنوز أنها مدخرة وبمأمن من وصول الأيدي إليها ، وقد يهلك صاحب الكنز والخزينة فلا يعلم أحد موضعه ، والمراد من الكنز والركاز في الإصطلاح الشرعي ، هو ما أدّخره الناس من الأجيال السابقة سواء في أيام الإسلام أو الجاهلية ، وما قبل الإسلام ، كما لو وجد في قبورهم ومنازلهم وقلاعهم وأطلالهم .
(عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِى الرِّكَازِ الْخُمُسَ) ( ).
ومنهم من قيد الركاز بأنه مدفون أيام الجاهلية على نحو الحصر , قال الجواهري ( والرِكازُ: دفينُ أهلِ الجاهلية، كأنَّه رُكِزَ في الأرض رَكْزاً) ( ) .
لإفادة أن النسبة بين الكنز والركاز هو العموم والخصوص المطلق ، فالكنز أعم .
والمختار هو أن النسبة بينهما في المقام هي التساوي .
ومن خصائص كنز نداء الإيمان أمور :
أولاً : صبغة القرآنية، إذ تفضل الله عز وجل وخاطب المسلمين والمسلمات بالقول(يا أيها الذين آمنوا).
ثانياً : كنز نداء الإيمان كلي طبيعي يشترك فيه المسلمون جميعاً، ولهم أن يفتخروا بأنهم ورثوا كنزاً عظيماً، ويورثونه بالذات من غير نقص أو تحريف فيه.
ثالثاً : كل فرد من نداء الإيمان في القرآن كنز مستقل بذاته.
رابعاً : ليس من حاجب أو مانع يحول دون نهل وإغتراف المسلمين من ذخائر كنز نداء الإيمان.
خامساً : لا يختفي أو يضيع كنز الإيمان، بل يتلاقفه المسلمون يداً بيد.
سادساً : كنز نداء الإيمان هبة من عند الله عز وجل تدعو المسلمين للشكر له سبحانه على هذه النعمة العظيمة، وهو من مصاديق النعمة في قوله تعالى[وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أن نداء الإيمان مصداق لكل فرد مما أنعم به الله عز وجل على المسلمين من جهات:
الأولى : قوله تعالى(إذكروا) وتلاوة نداء الإيمان ذكر لله للقرآنية، ولتجديد صفة الإيمان.
الثانية : نداء الإيمان نعمة من عند الله على المسلمين جميعاً، وهل يصح تقدير الآية: وإذكروا نعمة الله عليكم بنداء الإيمان، الجواب نعم، من وجوه:
أولاً : نزول نداء الإيمان من عند الله.
ثانياً : مجيء نداء الإيمان في أول الآيات بإستثناء آية واحدة جاء في وسطها , وهو قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( ).
ولم يرد لفظ (يصلون) ولفظ (وسلموا) في القرآن إلا في آية البحث.
ثالثاً : ورد لفظ(وإذكروا نعمة الله) خطاباً موجهاً للمسلمين في آيات قال تعالى[وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ]( )، في بيان لقانون من الإرادة التكوينية وهو أن الله خص المسلمين بنعمة عظيمة ومنها نداء الإيمان.
الثالثة : نداء الإيمان مما أنزل الله عز وجل المسلمين من الكتاب، لصبغة القرآنية فيه، وتقدير(وما أنزل عليكم من الكتاب)
وجاءت الآية التالية لآية البحث لتبدأ بالأمر للمسلمين بالإعتصام بحبل الله بقوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( )
ومن إعجاز القرآن الغيري أن المسلمين والمسلمات جميعاً وفي كل زمان يتلون هذه الآية ويستحضرونها في الوجود الذهني ، وتدخل في المناهج الدراسية لعموم بلدان المسلمين لإقرارهم جميعاً بالحاجة إلى وحدة المسلمين بالتقيد بأحكام القرآن وإتباع سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويكون قوله تعالى [مَا اسْتَطَعْتُمْ] في طول آية البحث وليس في عرضها أو نَسخاً لها , ليكون تقدير الجمع بينهما على وجوه :
الأول : اتقوا الله ما استطعتم لبعث المسلمين على التقوى والخوف من الله , والمبادرة إلى طاعته في العبادات والمعاملات والأحكام .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إجتهدوا في سبل التقوى كماً وكيفاً .
الثالث : اتقوا الله حق تقاته ما استطعتم من جهة لزوم بلوغكم اسمى المراتب التقوى .
وهو من الشواهد المتجددة لقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) من جهات :
الأولى : إكرام المسلمين بمجئ آية التقوى هذه بصفة الإيمان وإبتدائها بنداء الإيمان وما فيه من الشهادة للمسلمين بنيل مرتبة الإيمان ، فتفضل الله عز وجل وأمرهم بالتقوى ، ليكون الترتيب الإعتقادي المبارك على وجوه :
أولاً : الإسلام والنطق بالشهادتين .
ثانياً : الإيمان والإقرار بالقلب والجوانح .
ثالثاً : بلوغ مرتبة التقوى في القول والعمل .
الثانية : تلقي المسلمين أمر الله عز وجل بالتقوى بالقبول وإرتداء لباس وحلة التقوى ، والمبادرة إلى العمل .
الثالثة : تقوى المسلمين مرآة لصدق إيمانهم .
الرابعة : خروج المسلين للناس بالتقوى ، وحب الله والشوق إلى لقائه بلحاظ عدم إختصاص التقوى بالخشية والخوف من الله فتشمل حب الله والإجتهاد بالشكر له تعالى .
قانون الملازمة بين خلق الإنسان والتقوى
من بديع صنع الله عز وجل أن يجعل ذات الوقاية للإنسان حرزاً وعلاجاً له ، فتكون التقوى برزخاً دون إرتكاب السيئات ، وإن أخطأ الإنسان وفعل المعصية فان التقوى قاطعة لها , ومانعة من الإستمرار بها ، كما تتجلى بالإستغفار بلحاظ أنه من مصاديق التقوى . وليس من حصر لمصاديق التقوى العامة والخاصة ، ومن أبهى وجوهها الإخلاص في عبادة الله , لذا قال الله عز وجل [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) .
وبين التقوى والعبادة عموم وخصوص مطلق , فالعبادة لب التقوى وأصل صرحها المستديم ، وفيه وجوه :
الأول : تؤدي التقوى إلى العبادة وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )بلحاظ أن التقوى صراط مستقيم وتؤدي إلى الخير والبركة والنفع في النشأتين .
الثاني : التقوى هي عبادة الله ، فلا يصدق على الإنسان أنه متق إلا إن كان عابداً لله عز وجل , منزهاً عن إتخاذ الشريك .
الثالث : تفرع التقوى عن العبادة والإنشغال بها ، لأنها تنمي ملكة التقوى والخشية من الله .
(سأل عمر بن الخطاب أبيّ بن كعب عن التقوى، فقال له: أما سلكت طريقًا ذا شوك؟ قال: بلى , قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت، قال: فذلك التقوى.
وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال:
خل الذنوب صغيرها … وكبيرها ذاك التقى …
واصنع كماش فوق أر … ض الشوك يحذر ما يرى …
لا تحقرن صغيرة … إن الجبال من الحصى …
وأنشد أبو الدرداء يومًا:
يريد المرء أن يؤتى مناه … ويأبى الله إلا ما أرادا …
يقول المرء فائدتي ومالي … وتقوى الله أفضل ما استفادا …)( ).
إن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (اتَّق الله حَيْثُما كُنْتَ)( ) أعم من ظرفية المكانية فيشمل عالم القول والفعل والنية والعزم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خصوصاً مع تداخل البلدان وتقريب البعيد والإتصال بالهاتف بين الذي في مشرق الأرض والذي في مغربها .
فقد تأتي التقوى بالنصيحة من البعيد ، والأمر والنهي بواسطة الإعلام والعبرة والموعظة بما تنقله الريح والإعلام المرئي والمسموع في ساعة وقوع الحدث ، وكأن الإنسان حاضر في البلدان المتعددة في ذات الوقت من غير أن يحصل عنده إرباك وخلط ، وهو من مصاديق نعمة العقل وعمومات قوله تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( ) مما يلزم التقوى فهي الأحسن والأبهى والزينة التي تظهر البهجة بين الناس .
وهل هذا الحضور وتقارب وتداخل البلدان في الأخبار والأنباء من مصاديق عموم الأرض في آية الخلافة بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
الجواب نعم، فمن فضل الله عز وجل على الناس في هذا الزمان كثرة التنقل في الأرض والإنتفاع من بركاتها ، وتسخير الوسائط لإخراج كنوزها .
ليتجلى شكرهم لله عز وجل على هذه النعم بالإيمان والإنفاق في سبيل الله مما يخرج من الأرض من الثمار والمعادن لذا توجه الأمر في القرآن إلى المسلمين بقوله تعالى [أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ] ( ).
ليكون من معاني الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وأنفقوا من طيبات ما كسبتم ) وبين التقوى وإنفاق الطيبات عموم وخصوص مطلق ، فالتقوى أعم إذ أن الإنفاق في سبيل الله من سنن التقوى ومصاديق طاعة العبد لله عز وجل .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله فان ما كسبتم فضل ولطف وإحسان من عند الله عز وجل ، ومن خصائص التقوى أنها سبب في أمور :
أولاً : زيادة الرزق .
ثانياً : سهولة ويسر نيل الرزق .
ثالثاً : صيرورة المكاسب قريبة من المؤمنين .
رابعاً : خروج الثمرات والكنوز من الأرض , وعدم إمتناعها أو ذهابها .
خامساً : من مصاديق التقوى الشكر لله بالإنفاق ، وكذا فان هذا الشكر سبب لزيادة الرزق والمباركة فيه ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ) ليكون من معاني أمر الله للمسلمين بالإنفاق إرادة زيادة رزق المنفق والمنفق عليه ، إلى جانب أن الإنفاق في سبيل الله طريق لثبات مفاهيم الإيمان والتقوى ، وأداء الفرائض بأوقاتها .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم واتقوا الله ربكم .
ليكون من معاني الملازمة بين خلق الإنسان والتقوى حضورها في الإنفاق من جهات :
الأولى : إرادة قصد القربة إلى الله بالإنفاق .
الثانية : الإقرار بأن الرزق نعمة وفضل من عند الله .
الثالثة : الصلة بين الإنفاق والشكر لله على وجوه :
أولاً : شكر المسلم لله عز وجل سبب لمبادرته للإنفاق .
ثانياً : ذات الإنفاق شكر لله عز وجل ومرآة له .
ثالثاً : غبطة المسلم على التوفيق للإنفاق .
رابعاً : شكر المسلم لله عز وجل على نعمة الإنفاق .
خامساً : قيام المُنفق عليه بالشكر لله عز وجل على نعمة الإنفاق ووصول النفع إليه .
الرابعة : الإنفاق في سبيل الله شاهد على التقوى ، وهو سبيل لتثبيتها في النفوس وواقية من الإنقطاع إلى الدنيا وزينتها ، فان قلت إن قاعدة الملازمة بين خلق الإنسان والتقوى لا تتغشى الناس جميعاً لأن شطراً من الناس إختاروا الكفر والجحود , ومنهم من ركب جادة النفاق والفسق .
والجواب لقد ترك هؤلاء ما يجب عليهم في الإرادة التكوينية ، وأصروا على مخالفة ما تأمرهم به عقولهم من وجوب عبادة الله وملازمة التقوى وعدم الإنفكاك بينها وبين عالم الأفعال في الدنيا ، إذ يمكن تسمية الحياة الدنيا (دار التقوى ) لذا جاء خطاب القرآن بالتقوى إلى الناس جميعاً , ويتضمن وجوهاً :
الأول : الأمر بالتقوى سواء بذكرها بالاسم وعلى نحو التعيين كما في قوله تعالى [يَابني آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ] ( ).
الثاني : الحث والندب إلى الأعمال الصالحة التي هي مرآة للتقوى ، وصلاح للسرائر كما في بيان علة الخلق بقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثالث : بيان منافع التقوى ، وما يترشح عنها من النعم الظاهرة والخفية ، قال تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
الرابع : مجئ القرآن بالنواهي التي تدل على لزوم التنزه عما هو ضد التقوى والخشية من الله .
الخامس : بيان القرآن للثواب العظيم للتقوى في الآخرة ، قال تعالى [إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ] ( ) .
السادس : مجئ السنة النبوية بسنن التقوى في العبادات والمعاملات , وتتجلى التقوى في السنة النبوية من جهات :
الأولى : السنة القولية ، وكل قول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو مرآة للتقوى ويدعو إليها .
الثانية : السنة الفعلية ، وكل فعل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من التقوى والخشية من الله , ودعوة لتقوى الله , قال تعالى[لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
الثالثة : السنة التقريرية وإمضاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأقوال والأفعال التي تصدر من أهل البيت والصحابة بصبغة التقوى .
الرابعة : السنة الدفاعية التي تتقوم بالتقوى .
الخامسة : السنة التدوينية ، وهي رسائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملوك عصره وكذا رسائله إلى أمراء الأقطار الإسلامية كرسائله إلى أسيد بن عتاب أمير مكة أو إلى أمير اليمن أو البحرين.
وفي مدة شهر تقريباً بين شهر ذي الحجة من السنة السادسة للهجرة وأوائل شهر محرم من السنة السابعة للهجرة بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبع رسائل إلى الملوك والحكام في زمانه بغية نشر الإسلام ، ودعوة الناس للفوز بنعمة الدخول فيه ، ولإخبار الملوك بحقيقة ومعجزات النبوة ، ولإقامة الحجة عليهم فأرسل إلى :
الأول : رسالة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيصر ملك الروم ، وقام بنقلها دحية بن خليفة الكلبي .
الثانية : رسالة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى كسرى ملك فارس وحملها عبد الله بن حذافة السهمي .
الثالثة : رسالة إلى النجاشي أصحمة ملك الحبشة ، نقلها عمرو بن أمية الضمري .
الرابعة : رسالة إلى المقوقس ملك مصر ، حملها حاطب بن أبي بلتعة اللخمي .
الخامسة : رسالة إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين ، نقلها إليه العلاء بن الحضرمي ، واسمه عبد الله بن عباد بن أكبر بن ربيعة ، ثم ولاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البحرين ، وإنتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى وهو على ولايته ،وبقي والياً للبحرين إلى أن مات أيام عمر بن الخطاب سنة أربع عشرة .
السادسة : رسالة إلى هودّة بن علي ملك اليمامة حملها سليط بن عمرو العامري .
السابعة : رسالة إلى الحارث بن أبي شجر الغساني ، حملها شجاع بن وهب الأسدي .
السادسة : السنة الحكمية، وهي سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحكم بين المتخاصمين، والفصل في المنازعات، لتكون كل واقعة منها قانوناً وتشريعاً تتفرع عنه الأحكام .
ومن الإعجاز في السنة النبوية تجلي معاني التقوى في كل فرد منها لأنها شعبة من الوحي، لتكون سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأقسامها باعثاً للمسلمين على التقوى والصلاح، ويكون تقدير آية البحث : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته باتباع سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن وجوه إيمان المسلمين أنهم يسلمون بأن السنة النبوية من الوحي، وأنها من عند الله عز وجل لقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
ومما يتصف المسلمون به هو وصية المسلم لابنائه بالتقوى، ولا تختص هذه الوصية بحال الإحتضار، فما أن ينشأ الولد حتى ينمي عنده أبوه التقوى فيصحبه إلى المسجد، ويراه كيف يحرص على أداء عباداته بأوقاتها، ويلجأ إلى شكر الله على نعمه , ويتخذ من هذا الشكر ملاذاً.
ومنهم من قال أن التقوى هي خشية الله والخوف من عذابه، ولكنها أعم موضوعاً ودلالة، بدليل قوله تعالى [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ]( ).
ومن الإعجاز عدم حصر الثواب على التقوى بخصوص قيد (حق تقاته) وبلوغ أعلى مراتب اليقين إنما يأتي الثواب على ذات التقوى ومراتب متعددة منها، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( )، لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين فهو سبحانه يأمرهم بأعلى واسمى مراتب التقوى ولكنه ينجيهم ويرزقهم بغير حساب لمسمى التقوى، وفيه بعث للفزع والخوف في قلوب أعداء الإسلام ، قال تعالى [بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ] ( ).
ويتضمن قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ]أفعالاً :
الأول : الفعل الماضي [آمَنُوا] للدلالة على صدق إيمان المسلمين وشهادة الله عز وجل لهم به ، وفيه بشارة للذي يدخل الإسلام ، فما أن ينطق بالشهادتين حتى يقبل الله عز وجل إسلامه ويشهد له بالإيمان ليبشره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن بالنعم العظيمة التي تصاحب الإيمان .
الثاني : فعل الأمر [اتَّقُوا]وفيه دعوة للمسلمين للإجتهاد في سبل الإيمان ، وبذل الوسع في طاعة الله وعدم مغادرة منازل الذكر في الوجود الذهني باللفظ والتفكر ببديع صنع الله وعظيم قدرته , ومن التقوى العمل بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ]( ) .
والتقوى طريق للفوز بحب الله للعبد والخشية منه سبحانه باب للرزق الكريم وواقية من عذاب يوم القيامة , ومن حب الله عز وجل للمسلمين أمره لأن تكون تقواهم وخشيتهم منه تامة وكاملة تتغشى عالم الأقوال والأفعال الخاصة والعامة بقوله تعالى [اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] .
(عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري . . . ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) ( ).
ولله عز وجل ملك السموات والأرض وبيده خزائنها وكنوزها وأراد للناس حياة كريمة في الدنيا ، واللبث الدائم في نعيم الآخرة بقيد التقوى والصلاح ، فأمر المسلمين بأسباب الفوز بالخير في النشأتين .
ولم يغلق باب الإسلام على أحد من الناس ، ولا تستطيع الخلائق كلها أن تغلق هذا الباب يوماً أو ساعة من نهار ، وتلك نعمة عظمى على المسلمين وغيرهم ، وحجة على الذي يتخلف عن الهدى والإيمان .
ويطل القرآن في كل يوم على الناس يدعوهم للإيمان ، وينفذ نداء الإيمان إلى شغاف القلوب ليثبت المسلمين في مقامات الإيمان ويدعو عموم المسلمين إلى الهدى والرشاد ، فبينما يصر فريق من الناس على الكفر والجحود يأمر الله عز وجل المسلمين بالتقوى وأن تكون الطاعة له على نحو الإطلاق ، وليكون قوله تعالى [حق تقاته] من مصاديق سور الموجبة الكلية مثل لفظ [جميع]و[كافة]مع إتصافه بخصوصية زائدة من جهات:
الأولى : توجه الخطاب إلى كل المسلمين والمسلمات .
الثانية : حث المسلمين والمسلمات لبلوغ أعلى مراتب التقوى .
الثالثة : حضور التقوى في كل فعل من أفعال المسلمين لتعلم الخلائق كلها أن الدنيا (دار التقوى) وأن سننها مصاحبة لوجود الناس إلى يوم القيامة لبقاء شريعة الإسلام وتلاوة آيات القرآن ما دام البشر يعمرون الأرض .
وهناك ملازمة بين العقل والتقوى ، وكل واحد منهما يدعو إلى الآخر ، ويقود الإنسان إليه ، وهو من سبل الهداية التي تفضل الله عز وجل بها على الناس .
وتقدير الجمع بين أول وآخر الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) .
الثالث : الفعل المضارع فكما تضمنت آية البحث الفعل الماضي [آمنوا] وفعل الأمر [اتقوا] فان الآية أختتمت بالفعل المضارع تموتّن وهو مجزوم وعلامة جزمه حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة ، أما النون الواردة فيه فهي نون التوكيد لا محل لها من الإعراب : والواو فاعل ، أي أن المراد من الواو في [ولا تموتن]عموم المسلمين والمسلمات ، فيجب أن يغادروا الحياة الدنيا على الإسلام .
ومن الإعجاز في خلق الإنسان أمور :
الأول : حتمية مغادرة الدنيا إلى عالم الآخرة وصحيح أن أعمار الناس من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة إلا أن الفارق فيها نسبي ، لذا يمكن أن يقسم الكلي المشكك إلى قسمين :
أولاً : الكلي الذي يكون بين أفراده فارق ضئيل .
ثانياً : الكلي الذي بين أفراده فوارق كثيرة ومتعددة .
وأعمار الناس من القسم الأول أعلاه فلا يعيش إنسان خلاف المتعارف ولا يعمر بعض الأفراد إلا على نحو النادر الذي لا يخرج عن المألوف ليستعيد كل إنسان معالم الحساب بالإضافة إلى إنذارات الموت التي تظهر على الإنسان من علامات الكبر كالشيب ، وأمارات الموت كالمرض المقعد ،وورد في دعاء زكريا في التنزيل [قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَن الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا] ( ).
الثاني : تفضل الله برزق الإنسان العقل والقدرة على التدبير والتفكر والإستقراء ، وكل فرد منها يقود إلى الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
الثالث : مصاحبة نعمة النبوة للوجود الإنساني في الأرض ، وصحيح أن عدد الأنبياء مخصوص إختارهم الله عز وجل لأفضل منزلة وأشرف رسالة وعددهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبي إلا أن الناس جميعاً ينتفعون من النبوة وأشخاص الأنبياء وسيرتهم وسنتهم ، وحال النبوة بين الناس على وجوه :
أولاً : الذين عاصروا الأنبياء وسمعوا منهم , ومن الآيات في المقام أن أول شخصين عاشا في الأرض هما نبي وهو آدم وزوجه حواء التي إستمعت له وصدقت بنبوته ، ولم يقطنا الأرض إلا بعد أن عاشا في الجنة برهة من الزمن .
(عن ابن إسحاق، قال: لما فرغ الله من مُعاتبة إبليس، أقبل على آدم وقد علّمه الاسماء كلها فقال [يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِاسمائِهِمْ]( )، إلى قوله [إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ].
قال: ثم ألقى السِّنةَ على آدم – فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة، وغيرهم من أهل العلم، عن عبد الله بن عباس وغيره – ثم أخذ ضِلَعًا من أضلاعه من شِقِّه الأيسر، ولأم مكانه لحمًا، وآدم نائم لم يهبَّ من نومته، حتى خلق الله من ضِلَعه تلك زوجته حوّاء، فسوّاها امرأة ليسكن إليها.
فلما كُشِف عنه السِّنة وهبّ من نومته، رآها إلى جنبه، فقال – فيما يزعمون والله أعلم-: لحمي ودمِي وزوجتي، فسكن إليها. فلما زوّجه الله تبارك وتعالى، وَجعل له سكنًا من نفسه، قال له، قبيلا “يا آدم اسكنْ أنتَ وزوجك الجنة وكلا منها رغدًا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرةَ فتكونا من الظالمين”)( ).
وقال تعالى [اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا] ( ) والمراد آدم وحواء وإبليس .
وأخرج ابن عساكر عن مجاهد قال ( إن الله لما أهبط آدم وحواء قال : اهبطوا إلى الأرض ، فلدوا للموت ، وابنوا للخراب .
وأخرج ابن المبارك في الزهد عن مجاهد قال : لما أهبط آدم إلى الأرض قال له ربه عز وجل : ابن للخراب ، ولد للفناء .) ( )ولم يرفع الحديث .
ثانياً : أتباع الأنبياء ممن لم يروهم ولكن آياتهم بلغتهم فآمنوا بها ، وهو من نعمة العقل من جهات :
الأولى : قيام طائفة من المؤمنين وغيرهم بنقل معجزات الأنبياء إلى غيرهم والمراد من لفظ [وغيرهم] أعلاه أنه قد يقوم غير المسلم بنقل أخبار النبوة والمعجزات الخارقة للعادة التي تجري على يد النبي ، فيؤمن الناس بما يسمعون منه مع إصرار غير المسلم على الكفر والجحود .
الثانية : تلقي الناس معجزات الأنبياء بالقبول والتصديق , ويتجلى بمعجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية وهو القرآن إذ يؤمن بها الملايين من الناس في كل زمان .
الثالثة : تعاهد المسلمين لأداء الفرائض , وتوارثهم حفظ القرآن, وجهادهم وإجتهادهم لسلامته من التحريف , وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
ثالثاً : أتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جيل التابعين وتابعي التابعين ، ممن لم يروه ، ولكنهم آمنوا به وصدقوا برسالته فأكرمهم الله عز وجل بأن جعلهم بعرض واحد مع أهل البيت والصحابة في تلقي نداء الإيمان .
الثانية :بلوغ المعجزة والآية للذين لم يحضروها أو لم يكونوا من أهل زمانها .
وعن ثابت البُناني عن أنس بن مالك، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : متى ألقى أخواني، قالوا : يا رسول الله ، ألسنا إخوانك، قال : بل أنتم أصحابي، وإخواني الذين أمنوا بي ولم يروني، وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المقبرة ، فقال : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، وددت أني قد رأيت إخواننا ، قالوا : يا رسول الله ، ألسنا إخوانك .
قال : بل أنتم أصحابي ، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد ، وأنا فرطهم على الحوض ، قالوا : يا رسول الله ، كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك، قال : أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله ، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء ، وأنا فرطهم على الحوض ، فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال ، أناديهم ألا هلم ألا هلم ، فيقال : إنهم بدلوا بعدك ، فأقول : فسحقا فسحقا فسحقا ( ).
وفرطهم أي سابقهم، والمتقدم لهم ليسقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمته على الحوض يوم الحشر ورود في أحاديث أخرى بصيغة الخطاب(انا فرطكم) عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : أنا فرطكم بين أيديكم ، فإن لم تجدوني ، فأنا على الحوض ، والحوض ما بين أيلة إلى مكة ، وسيأتي رجال ونساء بآنية وقرب ( ).
والحوض مجمع الماء، وفي وصف حوض النبي في الآخرة ورد عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حوضي ما بين أيلة إلى صنعاء ، له ميزابان ، إحداهما من ذهب والآخر من فضة ، آنيته عدد نجوم السماء ، أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، وريحه أطيب من المسك ، من شرب منه لم يظمأ أبدا ( ).
والميزاب قناة أو انبوب يسيل بواسطته الماء، وينقل به من موضع إلى آخر، ومنه الميزاب الذي يصب به ماء الأمطار من السقف إلى الأرض.
أما الغر فهو جمع الأغر الذي تكون بجبهته غرةّ وبياض، أما المحجلة أي الخيل التي في أرجلها بياض عند الحافر وكأنه الحجل، ودهم ،جمع أدهم وهو الأسود، والبهم جمع بهيم وهو الأسود الخالص.
وفي الحديث دعوة للصحابة لتعاهد سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم التفريط فيها فهم الواسطة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتابعين وتابعي التابعين، ولا يعلم أثر ونفع هذا الحديث في حفظ سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية ومناهج التقوى إلا الله عز وجل .
وهل للحديث النبوي موضوعية في حفظ وتثبيت آيات وسور القرآن الجواب نعم، وبلحاظ أن هذا الحديث من مصاديق الوحي، وقوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، فانه من أسباب حفظ القرآن .
خاصة وأن سلامة القرآن من التحريف تتجلى بأمور :
الأول : ترتيب سور القرآن المائة والأربع عشرة سورة .
الثاني : حفظ موضع كل آية في ذات السورة التي هي منها، فلا تكتب آية من سورة في سورة أخرى من القرآن.
الثالث : نظم آيات كل سورة، وعدم تقدم آية على التي قبلها سواء يجمع بينها موضوع متحد، أو يوجد عطف بينهما , أو أن كل واحدة منهما في موضوع مستقل .
الرابع : حفظ كلمات كل آية من آيات القرآن.
الخامس : تعاهد رسم حروف وكلمات القرآن.
السادس : الفصل بين (ما بين الدفتين) وبين السنة النبوية , ومنها الحديث القدسي.
السابع : قيام المسلمين بالإنصات للإمام في الصلاة , ولغيره ممن يقرأ القرآن , مع تصحيح اللحن ودفع الخطأ بقراءة الكلمة أو الحركات .
ومن فيوضات القرآن أن أمماً من الناس تعلموا العربية من أجل قراءة القرآن وبالقرآن وكثير من علماء قواعد اللغة العربية من الموالي وغير العرب، وهو من فضل القرآن على اللغة العربية .
وعن جابر بن عبد الله قال : اجتمع قريش يوماً فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر ، والكهانة ، والشعر ، فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعاب ديننا ، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا : ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة قالوا : أنت يا أبا الوليد .
فأتاه , فقال : يا محمد أنت خير أم عبد الله . أنت خير أم عبد المطلب .
فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت ، وإن كنت تزعم أنك خير منهم , فتكلم حتى نسمع لك ، أما والله ما رأينا سلحة قط اشأم على قومه منك ، فرقت جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعبت ديننا ، وفضحتنا في العرب . حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً ، وأن في قريش كاهناً ، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف .
يا أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً ، وإن كان نما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوّجك عشراً .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فرغت : قال : نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم { حم، تنزيل من الرحمن الرحيم ، كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون }( ) حتى بلغ { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عادٍ وثمود }( ) .
فقال عتبة : حسبك . . ! ما عندك غير هذا؟ قال : لا . فرجع إلى قريش فقالوا : ما وراءك؟ قال : ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمون به إلا كلمته .
قالوا : فهل أجابك؟ قال : والذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً مما قال ، غير أنه قال { أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } قالوا : ويلك يكلمك الرجل بالعربية وما تدري ما قال؟ قال : لا . والله ما فهمت شيئاً مما قال غير ذكر الصاعقة( ).
الثامن : فضل الله عز وجل في حفظ القرآن وسلامته من التحريف والنقص ، ويتجلى بالوعد الكريم منه تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) فلا تستطيع قوة أن تمحو القرآن أو تضعف من أثره في إصلاح النفوس ودوام سنن التوحيد وضروب العبادة في الأرض والتي يدعو إليها القرآن بكرة وعشياً .
ولما قال الله تعالى في خاتمة البحث [وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] فانه سبحانه حفظ القرآن كتاباً سماوياً في أيدي المسلمين ويجري على ألسنتهم في الليل والنهار ويعملون بأحكامه ليكون إماماً لهم يجذبهم إلى سنن الإيمان مع خشية من الله ويحجبهم عن الغواية وإتباع الهوى ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
ويغادر كل جيل من الناس الحياة الدنيا ، ولكن القرآن وقراءته باقيان ، وكذا قراءتهم له ، ويحضر معهم يوم القيامة ليشهد لفريق من الناس وهم المؤمنون بتلاوته وإكرامه والعمل بمضامينه القدسية ، ويشهد على الذين أعرضوا عنه .
وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن هذا القرآن شافع مشفع وماحل مصدق من جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعل خلفه ساقه إلى النار ) ( ) .
ومن خصائص نداء الإيمان شموله للتصديق والإيمان بنزول القرآن من عند الله عز وجل ،وهو أصل في بلوغ المسلمين مرتبة الإيمان ، وفوزهم بتوجه هذا النداء إليهم وما كان أحد يعلم ببلوغ المسلمين مرتبة الإيمان إلا بالقرآن وآياته .
وتكرر النداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]في سور القرآن عشرات المرات لتثبيت آياته في الأرض ، وبعث المسلمين للعمل بأحكامها والتوجه بالشكر لله عز وجل على بلوغهم مرتبة الإيمان ، وهذا الشكر واقية من الإرتداد والتكاسل عن أداء الفرائض والواجبات.
لقد أمرت آية البحث المسلمين بالتقوى وأختتمت بالأمر بالموت على الإسلام ، وظاهره الرضا من عند الله عز وجل من المسلمين على إسلامهم حتى وإن لم يبلغوا مراتب التقوى بلحاظ أنها مرتبة أعلى من مرتبة الإسلام ، ولكن عند التدبر يتبين ان الآية تتضمن حث المسلمين على التقوى ، وأن لا يفارقوا الدنيا إلا بلباس التقوى والتقيد بسننها في السر والعلانية .
وعن أنس بن مالك قال :كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “الإسلام علانية، والإيمان في القلب” قال: ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات، ثم يقول: “التقوى هاهنا، التقوى ها هنا) ( ).
ومنهم من فسر الآية بهذا المعنى أي إن تخلفتم عن مراتب التقوى فحافظوا على سنن الإسلام ، وغادروا الدنيا بلباس الإيمان.
(عن طاوس { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } وهو أن يطاع الله فلا يعصى ، فإن لم تفعلوا ولم تستطيعوا { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون })( ).
والمختار أن الواو في [ولا تموتن] للإستئناف وبيان أن المسلم ساعة الإحتضار ودنو الموت ينشغل بإعلان الثبات على الشهادتين ، ويتلو آيات من القرآن ويسلم أمره إلى الله ، ويقر بالعالم الآخر .
وتقدير خاتمة الآية على وجوه :
الأول : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون متقون .
الثاني : ولا تموتن إلا وأنتم تتقون الله حق تقاته .
الثالث : ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون بأن الموت حق ، ولا يأتي للإنسان إلا وفق ما كتب الله له ، وفي التنزيل [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( ).
الرابع : تقدير الآية يا أيها الذين آمنوا إستعدوا للموت بالثبات على الإسلام والسلامة من الإرتداد ، وفي التنزيل [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ]( ).
الخامس : تقدير الآية : يا أيها الذي آمن بالله ورسوله لا تموتن إلا وأنت مسلم .
ومن وجوه إبتلاء الإنسان في الحياة الدنيا بخصوص الأجل وأوان موته :
أولاً : عدم معرفة الإنسان أجله ، وأوان مفارقة روحه الجسد.
ثانياً : إمتناع الإختيار الخاص والعام في تعيين أوان أجل الإنسان ودفع الموت فيعجز الإنسان عن تأخير أجله وكذا يتخلف الناس عن دفع الموت عن أحدهم وقد تمنى كثير من الملوك والأغنياء أن ينتقل الموت إلى أحد أتباعهم وأعوانهم ، ومن الأعوان من تمنى أن يصيبه الموت الذي حضر للملك لينجو شخص الملك ولكن دون جدوى ، قال تعالى [وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا] ( ) .
وفي قوله تعالى [فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا] ( )عن ابن عباس قال ({ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا } قال: نعد أنفاسهم في الدنيا)( ) .
وعن الإمام محمد الباقر عليه السلام في الآية أعلاه قال (كل شيء حتى النفس) ( ).
ثالثاً : إحتمال طرو الأجل وحضور الموت في أي ساعة من ساعات العمر ، وفي قصيدته اللامية (البردة) ( ) التي مدح بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال كعب بن زهير :
كلُّ ابن أنثَى وإنْ طالتْ سلامتهُ … يوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُ) ( ).
السادس : يا أيها الذين آمنوا لا تموتن إلا وأنتم مسلمون) بإرادة البشارة من عند الله للمسلمين ، ويكون لفظ [لا تموتن] جملة خبرية بأن الله عز وجل لا يقبض أرواح الذين آمنوا إلا وهم يقيمون على الإسلام يؤدون الفرائض والمناسك ، ليتكرر نداء الإيمان ويتوجه الخطاب لكل جيل وطبقة من المسلمين والمسلمات بأنهم لن يموتوا إلا على الإسلام ، فمن معاني خاتمة الآية أمور :
أولاً : مغادرة المسلم الدنيا بصبغة الإيمان .
ثانياً : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين في ثباتهم على الإسلام إلى حين الموت .
ثالثاً : البشارة للمسلمين بدخولهم عالم الآخرة ومواجهة ظلمة القبر بالثبات على الإيمان .
وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا يميتكم الله إلا وأنتم مسلمون ).
ولو دار الأمر بين حصر معنى الآية بصيغة الأمر وحدها أو صيغة الجملة الخبرية أو هما معاً ، الجواب هو الأخير مع إمكان حمل الآية على المعنى المتعدد ، ليكون في الآية بعث لليأس في قلوب الذين كفروا بقطعها بأن المسلمين والمسلمات لا يرتدون أبداً ، ولتصير هذه العاقبة الكريمة جزاء من عند الله عز وجل للمسلمين على تقواهم ، وشكراً لهم ساعة زيارة الموت لكل واحد منهم .
وهو من أسرار إخبار آيات القرآن عن كون الموت أمراً وجودياً يحضر عند الإنسان ، قال تعالى [حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ ..] ( ).
وليكون من وجوه تقدير الآية : ولن تموتوا إلا وأنتم مسلمون ، والموت من خلق الله وهو مسخر لإرادته مستجيب لأمره , قال تعالى [خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ] ( ) وكأن خلق الموت قبل الحياة ليدرك وظيفته بأن لا يحضر عند المسلم إلا وقد إستقر بقوله وعمله في منازل الهدى والإيمان ، لذا تفضل الله عز وجل وفتح باب التوبة للمسلمين والناس جميعاً ليكون طريقاً لزيارة ملك الموت على الإيمان والهدى .
ومن الآيات أن ملك الموت لا يزور الإنسان إلا مرة واحدة تكون فيصلاً وخاتمة لحياته ، لتبقى روح الحياة بالقرآن حية نابضة بالقرآن ، وهو من مصاديق تسمية القرآن بالروح بقوله تعالى [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا] ( ) .
ليتصف المسلمون بنعمة ومائز وهو أن مع أرواحهم التي في أجسادهم هناك روح سماوي مصاحب لهم وهو القرآن يقيهم المهالك ويكون برزخاً بينهم وبين الشيطان فلا يصل إلى المسلم إلى حين رحيله عن الدنيا .
لتتجلى موضوعية آيات القرآن في ثبات المسلم على الإيمان ، وعدم مغادرته الدنيا إلا مع الإسلام ، ويكون تقدير الآية على وجوه :
أولاً : القرآن روح معكم فلا تموتن إلا وانتم مسلمون .
ثانياً : فلا تموتن إلا وانتم مسلمون لأن القرآن معكم .
ثالثاً : فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون لذب القرآن عنكم ، وصيرورة تلاوته الواجبة والمستحبة برزخاً دون الكفر والضلالة .
وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ليأتي ملك الموت فيقبض روح المسلم ، ولكن لا سلطان له على الروح التي هي معه وهو القرآن ، فيدخل معه القبر من جهات :
الأولى : شهادة القرآن على تصديق المسلم بنزوله من عند الله عز وجل .
الثانية : تلاوة المسلم للقرآن في الصلاة وخارجها .
الثالثة : إتخاذ المسلم القرآن روحاً وحياة إيمانية .
الرابعة : دفاع القرآن عن المسلم في القبر ، وعن ابن عباس قال (ضرب بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر ، فإذا هو بإنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر) ( ).
ومن معاني الجمع بين أول وآخر الآية [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]فلّما إهتدى المسلمون وآمنوا بالله ورسوله تفضل الله بالوعد لهم بالموت على الإسلام والتقوى وفيه مسائل :
الأولى : تفضل الله عز وجل بالجزاء على دخول الإسلام جزاءّ عاجلاً في الحياة الدنيا بالموت على الإيمان .
الثانية : مصاحبة بشارة الموت على الإسلام للمسلمين في حياتهم اليومية ، ليكون إختصاص المسلمين بهذه الصحبة من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثالثة : بعث السكينة في نفوس ابناء المسلمين لحسن عاقبة آبائهم في الآخرة ، لأن الموت على الإسلام مقدمة للأمن يوم القيامة ، وهومن مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ) بلحاظ أن الموت بصبغة الإسلام يعني أداء الفرائض العبادية والمبادرة إلى فعل الخيرات .
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً تلازمه الحاجة ، وليس من حصر لموضوع هذه الحاجة فهي في كل شيء من حياة الإنسان وأسباب إستدامتها ، ومنها بخصوص الموت الذي تذكره آية البحث في خاتمتها وجوه :
الأول : عجز الإنسان عن معرفة أوان أجله وساعة مغادرته الدنيا ، فهو علم إختص الله عز وجل به لنفسه رحمة بالعباد .
فان قلت سوف يصل العلم الحديث إلى تحديد تقريبي شبه دقيق لمدة بقاء أي أنسان في الحياة بعد إجراء فحوص طبية دقيقة عليه , الجواب قد يأتي الموت للإنسان على نحو منخرم وبحوادث مفاجئة ، قال تعالى [وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ] ( ).
الثاني : مجئ الموت في أوانه قهراً ، ولا يقدر الإنسان عن تأخيره أو دفعه عنه .
نعم ورد في الحديث أن الأنبياء يُخبرون بساعة الموت بعد أن يروا الثواب الذي أعده الله عز وجل لهم ، وفيه شاهد على إكرام الله عز وجل لهم ، وأن نعيم الآخرة وقصور الجنان لم تخطر على أوهام البشر .
وعن عبد الله بن عمرو عن أبي مويهبة ، مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : طرقني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة ، فقال : يا أبا مويهبة انطلق استغفر فإني قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلقت معه فلما بلغ البقيع .
قال : السلام عليكم يا أهل البقيع ، ليهن لكم ما أصبحتم فيه لو تعلمون ما أنجاكم الله منه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها .
ثم قال : يا أبا مويهبة ، إن الله خيرني أن يؤتيني خزائن الأرض والخلد فيها ، ثم الجنة وبين لقاء ربي عز وجل فقلت : بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن هذه الأرض والخلد فيها ثم الجنة ، قال : كلا يا أبا مويهبة ، لقد اخترت لقاء ربي عز وجل , ثم إستغفر لأهل البقيع , ثم انصرف ، فلما أصبح بدأه شكواه الذي قبض فيه صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
ويكون تقدير الآية بلحاظ المفرد والجمع على وجوه :
أولاً : يا أيها الذي آمن اتق الله ) في خطاب للمسلم المنفرد ، لتكون التقوى حاضرة عند المسلم في حال وحدته وحال إجتماعه مع غيره من المسلمين وأهل الملل الأخرى ، فيكون المسلم مدرسة قائمة بذاتها في التقوى تتجلى في قوله وعمله ، وعن معاذ بن جيل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (يا معاذ، أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن”)( ).
ولم يكن أمر الله عز وجل بالتقوى خاصاً بالمسلمين بل هو خطاب ووصية عامة لجميع الناس منذ أن خلق الله عز وجل آدم ، وهذه الوصية حصن من الفساد ، وواقية من الإفساد والقتل بغير حق لذا إستشهد بها هابيل عندما همّ أخوه قابيل بقتله ، كما ورد في التنزيل [قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ] ( ).
ثانياً : يا أيتها التي آمنت اتقِ الله ) بلحاظ كبرى كلية وهي توجه نداء الإيمان الذي جاء في أول الآية للمسلمين والمسلمات بعرض واحد.
وهل تدرك المسلمة هذه الحقيقة أم تظن توجه نداء الإيمان إلى الرجال من المسلمين دون النساء , أو أنها تدركه ولكن ليس على نحو الموجبة الكلية والتقيد بأحكامه مثلما يجب على الرجل ، الجواب هو الأول ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) لمبادرة المسلمة للقيام بوظائف الإيمان وتعاهد طاعة الله والخشية منه في الغيب ، ويكون إيمان أغلب المسلمين والمسلمات بالوراثة ويتوجه لهم النداء بلفظ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]وفيه آية عظمى وهبة لا يقدر عليها إلا الله بأن يتفضل ويحتسب لأجيال المسلمين المتعاقبة ذات مرتبة الذين تلقوا النداء أيام الدعوة وبدأ الرسالة .
(عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : متى ألقى إخواني ؟ قالوا : يا رسول الله ، ألسنا إخوانك ؟ قال : أنتم أصحابي ، وإخواني الذين آمنوا بي ، ولم يروني) ( ).
وفي الحديث مسائل :
الأولى : بيان مرتبة المسلمين الذين يأتون بعد إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
الثانية : إخبار كل مسلم ومسلمة أن النبي صلى اله عليه وآله وسلن أخ لهم ، وهو تشريف لهم ، ومصداق لقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
الثالثة : شمول المسلمات في كل زمان بذات مرتبة الأخوة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : إرادة بيان مسألة وهي أن المسلمين والمسلمات ملحقون بأهل البيت وآل محمد بفضل من الله ورسوله ، وهل يشمل حديث الأخوة هذا ما ورد عن عمر بن الخطاب قال ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة ما خلا سببي ونسبي ، وكل ولد أب فإن عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة ، فإني أنا أبوهم وعصبتهم ) ( ) .
الجواب لا ، إنما المراد منه يومئذ النسب الحقيقي , والسبب الفعلي بالمصاهرة .
ثالثاً : يا أيتها اللائي آمنّ اتقين الله .
إذ تتجلى في القرآن وجوه وشواهد كثيرة من إكرامه للمرأة ، ويأتي هذ الإكرام على وجوه :
أولاً : النساء جميعاً بلحاظ الخلق والنشأة واللطف بهن ولزوم تقيدهن بسنن التقوى ، قال تعالى [وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ] ( ).
ثانياً : موضوعية دخول المرأة الإسلام في أيامه الأولى ز
لقد نزل القرآن وسط مجتمعات جاهلية لا تقيم للمرأة وزناً ، ولا تجعل لها شأناً لأن الشأن يدور مدار السيف والغزو وحفظ الذات والمبادرة إلى البطش قبل أن يتعرض الفرد والجماعة إلى الغزو والإنتقام المباغت .
فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليتوجه إلى الرجال والنساء مجتمعين ومتفرقين في الدعوة إلى الله ، ومن الآيات أن خديجة بنت خويلد من أول من أسلم ، وأن أول شهيدة في الإسلام هي امرأة وهي سمية أم عمار بن ياسر .
وعن عفيف الكندي قال (كنت امرأ تاجراً، فقدمت أيام الحج، فأتيت العباس، فبينا نحن عنده إذ خرج رجلٌ يصلي ، فقام تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت معه تصلي، وخرج غلام فقام يصلي معه، فقلت: يا عباس، ما هذا الدين ؟ إن هذا الدين ما أدري ما هو ؟ .
قال : هذا محمد بن عبد الله، يزعم أن الله أرسله به، وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب، آمن به.
قال عفيف: فليتني كنت آمنت يومئذ فكنت أكون أربعاً ! ( ).
ثالثاً : تجلي إكرام المرأة بأحكام القرآن .
لقد كانت المرأة قبل الإسلام تعاني من الذل والهوان في المجتمعات البدائية وحتى المتحضرة، ومنهم من جعلها أصل آلام البشر، وصودرت حقوقها، ومنعت من الميراث، وشاعت الرذيلة، وتغشى الإنحطاط بعض بقاع الأرض , وصار الوأد عادة غير مذمومة حتى ليستغرب الإنسان عند قراءة أحوال المرأة في الأزمنة البالية كيف حصل التكاثر بين الناس , وأكرم الله المرأة بقوله[وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]( )، لما فيه من التوثيق والوعيد والزجر عن قتل المرأة.
ولم تقيد الآية أعلاه الوأد بخصوص قريش , لتتضمن في دلالتها رفع الحيف عنها في أقطار الأرض .
ويأبى الله إلا وجود أمة في كل زمان تتصف بالعفاف والطهارة وتحافظ على نواميس الأخلاق[سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً]( ).
وفي أوربا قبل قرون مثلاً تضمن القانون المدني لنابليون الذي حكم فرنسا في بداية القرن التاسع عشر , حق الوصاية على المرأة سواء كانت عزباء أو متزوجة , وجعل القاصرين ثلاثة :
الأول : الصبي .
الثاني : المجنون .
الثالث : المرأة .
وكانوا يتفاخرون بهذا القانون وبقي إلى سنة 1938, إذ عدّل وصارت المرأة ذات شخصية قانونية مع بعض القيود على المرأة المتزوجة، منها مسؤوليتها عن ديون زوجها .
وجاء القرآن بالثناء على المرأة باشراكها بنداء الإيمان وما يترشح عنه من التكاليف , وحث المسلمين والمسلمات على الإنفاق وجعل ملاك التفضيل أوان الإنفاق , وهل هو قبل الفتح أو بعده، قال تعالى[لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا]( ).
(عَنْ أَبِى أُذَيْنَةَ الصَّدَفِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : خَيْرُ نِسَائِكُمُ الْوَدُودُ الْوَلُودُ الْمَوَاتِيَةُ الْمُوَاسِيَةُ إِذَا اتَّقَيْنَ اللَّهَ وَشَرُّ نِسَائِكُمُ الْمُتَبَرِّجَاتُ الْمُتَخَيِّلاَتُ وَهُنَّ الْمُنَافِقَاتُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْهُنَّ إِلاَّ مِثْلُ الْغُرَابِ الأَعْصَمِ) ( ).
ومن النساء من أنفقت قبل الهجرة النبوية الشريفة كما في إنفاق أم المؤمنين خديجة أموالها في سبيل الله، ومن النساء من أنفقن قبل فتح مكة الذي تم بفضل الله في السنة الثامنة للهجرة.
وهناك بلحاظ الآية أعلاه مسائل :
الأولى : كانت هجرة المسلمات إلى الحبشة وإلى المدينة من الجهاد في سبيل الله الذي تذكره الآية أعلاه .
الثانية : هل ما أنفقته المسلمات في طريق الهجرة من الإنفاق قبل الفتح الذي تذكره الآية أعلاه .
الثالثة : من المسلمات من هاجرن مع أزواجهن , فهل لهن ذات المرتبة في الجهاد، أم أن كل واحدة منهن تابعة لزوجها .
والجواب على المسألة الأولى أن هجرة المسلمات من الجهاد في سبيل الله، لأنه أعم من القتال بالسيف، قال تعالى[لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]( ).
وأما بالنسبة للمسألة الثانية فان الانفاق في طريق الهجرة من البذل والعطاء في سبيل الله , وإن كان إنفاقاً على الذات وفي الأكل والشرب الذي ينفقه الإنسان على نفسه حتى في حال الحضر .
وأما بالنسبة للمسألة الثالثة فان ثواب المرأة في الهجرة والإنفاق ذاته سواء كانت متزوجة ومصاحبة لزوجها أو كانت هجرتها بنفسها.
وقد هاجرت أربعة من النسوة مع أزواجهن إلى الحبشة في الهجرة الأولى لها .
أما في الهجرة الثانية فقد هاجرت (ثماني عشرة امرأة احدى عشرة قرشيات وسبعا غرباء وبعثت قريش في شأنهم إلى النجاشي مرتين , الاولى عند هجرتهم والثانية عقيب وقعة بدر وكان عمرو بن العاص رسولا في المرتين ومعه في احداهما عمارة بن الوليد وفى الاخرى عبدالله بن ابى ربيعة المخزوميان( ) .
وقد سجلت النساء اسمى معاني الجهاد من جهات :
الأولى : إسلام النساء من قريش وأهل مكة خفية وعلانية .
الثانية : قيام بعض النساء من أهل يثرب (المدينة ) بالمشاركة في مبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة أواسط أيام التشريق قبل هجرته إلى مكة , وكأن بيعتهن هذه دعوة من عوائل ونساء المدينة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقدوم إليهم ، وعدم الخشية من قيام النساء بتغليظ قلوب الرجال وصدهم عن الجهاد والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان الذين حضروا بيعة العقبة الثانية من الأنصار ثلاثة وسبعين رجلاً ومعهم إمرأتان هما (نسيبة بنت كعب أم عمارة إحدى نساء بنى مازن بن النجار , واسماء بنت عمرو بن عدى بن نابي إحدى نساء بنى سلمة وهى أم منيع)( ).
الثالثة : قيام المؤمنات بالهجرة والخروج من مكة إلى عالم مجهول تعاهداً للدين وحفاظاً على العقيدة وفراراً بالتقوى ، لتكون كل واحدة منهن مشروع شهادة وداعية إلى الله عز وجل في كل زمان وإلى يوم القيامة ، وكانت هجرتهن على قسمين :
القسم الأول : الهجرة إلى الحبشة ، وتكررت مرتين ، وفي الهجرة الأولى هاجرت أربع نسوة مع أحد عشر رجلاً (وروى الواقدي أن خروجهم إليها في رجب سنة خمس من البعثة، وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلا وأربع نسوة، وأنهم انتهوا إلى البحر ما بين ماش وراكب،
فاستأجروا سفينة بنصف دينار إلى الحبشة.
وهم: عثمان بن عفان، وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الاسد، وامرأته أم سلمة بنت أبى أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة العنزي، وامرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبى رهم، وحاطب بن عمرو، وسهيل بن بيضاء، وعبد الله بن مسعود) ( ).
قال ابن إسحاق (ثم خرج جعفر بن أبى طالب ومعه امرأته اسماء بنت عميس، وولدت له بها عبد الله بن جعفر) ( ) .
وقيل أن خروج جعفر بن أبي طالب كان في الهجرة الثانية إليها ، أما الهجرة الأولى , فكانت عند دخول بني هاشم في شعب أبي طالب محاصرين إقتصادياً وإجتماعياً .
ولمّا إشتد البلاء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المسلمين من أصحابه مع إصرار كبار رجلات قريش على الإضرار بهم , أشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة .
قال ابن إسحاق (فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنْ الْبَلَاءِ . وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْعَافِيَةِ . بِمَكَانِهِ مِنْ اللّهِ وَمِنْ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ وَأَنّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِمّا هُمْ فِيهِ مِنْ الْبَلَاءِ .
قَالَ لَهُمْ لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، فَإِنّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ . وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ حَتّى يَجْعَلَ اللّهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمّا أَنْتُمْ فِيهِ فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ وَفِرَارًا إلَى اللّهِ بِدِينِهِمْ .
فَكَانَتْ أَوّلَ هِجْرَةٍ فِي الْإِسْلَامِ ) ( ) وفيه مسائل :
الأولى : لم تكن العلة التامة لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالهجرة رؤيته لما يلاقونه من الأذى يومئذ ، إنما أمرهم بالوحي لقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الثانية : لا تختص الهجرة إلى الحبشة بسلامة الصحابة الذين هاجروا بل تتجدد في كل زمان وإلى يوم القيامة .
لقد رفع إبراهيم واسماعيل قواعد البيت الحرام وطلبا من الناس حجه وعمارته ، قال تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَاسماعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا]( ).
وكانت هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف ثم المدينة وهجرة أصحابه إلى الحبشة ثم المدينة بناء لصرح الإسلام ، وبعث لليأس في نفوس الكافرين من إرتداد المسلمين حتى في حال الإكراه والقمع والبطش ، لأن الهجرة سبيل للخروج عن سلطان الذين كفروا .
ومن أسرار قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) قانون وهو إستحالة إستيلاء ملك أو سلطان على ملك الأرض كلها ، فلابد من وجود قرى وأمصار وأراضي وجبال وكهوف خارج سلطانه ، وسلطان ملوك الأرض متفرقين ومجتمعين إلى جانب إحتمال وجود حاكم عادل في الأرض في ذات الوقت الذي يريد بعضهم الإضرار بالمسلمين .
وكأن الآية أعلاه تشير على المسلمين ببناء دولتهم وبالهجرة بسلامة الدين وأمانة الإيمان عند الحاجة إلى الهجرة .
لقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالهجرة بالوحي من عند الله لتكون هذه الهجرة عوناً ومدداً للمسلمين والمسلمات في كل زمان , وآية تبعث الفزع في قلوب رؤساء الكفر بأن المسلمين قد يختارون الهجرة لسلامة دينهم وأنفسهم , ثم يرجعون بالسلاح والعزم على الجهاد ، وفي التنزيل [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ).
الثالثة : مما ورد أعلاه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ما يصيب أصحابه من البلاء ، وما هو فيه من العافية .
ولكن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بلاء شديد في نفسه وأهله وبني هاشم عموماً ،لم ينج من بلاء وعذاب الذين كفروا منهم أحد , نعم كان أبو لهب في صف المشركين .
وأخرج عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي عند الكعبة ، وجمع من قريش في مجالسهم ) ( ).
أي أنه كان يتحداهم ويدعوهم في ذات الوقت إلى الإسلام ، ويقيم عليه الحجة فلم يطيقوا الأمر مع أن صلاته في بيت الله الحرام ، فلم يصبروا وأظهروا حنقهم وغيظهم .
( فقالوا : أيكم يقوم إلى جزور بني فلان ويأتي بسلاها (وسلا الجزور هو الوعاء الذي يكون فيه الولد) ( ).
لقد إتفقوا على وضعه بين كتفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا سجد فانبعث أحدهم وهو عقبة بن أبي معيط فجاء به ووضعه بين كتفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في هيئة وحال السجود ، فأخذوا يضحكون ويتمايلون بعضهم على بعض من شدة الضحك ، ونعمة إظهار السخرية ، فذهب أحد من الناس إلى فاطمة عليها السلام وهي صغيرة ، فأقبلت تسعى حتى أزاحت سلا الجزور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم أقبلت عليهم تسبهم .
فلما قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاته ، وهو في المسجد الحرام رفع يديه بالدعاء وقال (اللهم عليك بقريش ثلاثا ثم سمى اللهم عليك بعمرو بن هشام يعني أبا جهل , وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة , والوليد بن عتبة , وأمية بن خلف , وعقبة ابن أبي معيط , وعمارة بن الوليد .
قال ابن مسعود فلقد رأيتهم صرعى يوم بدر) ( ).
فلم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عافية بل كان صابراً على أذى شديد كل يوم إلى أن عزموا على قتله في فراشه مجتمعين ، فأذن الله له بالهجرة ، ليكون من معاني ودلالات أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة وجوه:
أولاً : نجاة أصحابه وعدم إغراء كفار قريش بهم .
ثانياً : إخبار أهل الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وجاءت هجرتهم للحبشة لأن فيها ملكاً على دين النصرانية لا يرضى بالظلم , وعنده البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : خروج المسلمين من مكة برزخ دون إكراههم على الإرتداد .
رابعاً : بيان تقوى المسلمين الأوائل ، وصدق إيمانهم وتضحيتهم وبذلهم في سبيل الله .
خامساً : بعث الفزع والخوف في قلوب كفار قريش لأن هجرة المسلمين الأوائل شاهد على طاعتهم لله ورسوله ، وإختيارهم سلامة الدين , وتقديمها على الإستقرار في الوطن وحياة الرغد بين الأهل .
سادساً : هجرة الصحابة إلى الحبشة مقدمة لهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وخروجه من مكة .
سابعاً : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا إذ يفاجئون كل ليلة بهجرة جماعة من المسلمين وهم يتحدون مشاق الطريق وأهوال الغربة , بقاعدة تقديم الأهم على المهم , والأهم هو التعاهد الشخصي والنوعي للإسلام .
ثامناً : بيان مصداق إعجازي من السنة النبوية , وتأديب المسلمين على طاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
القسم الثاني : الهجرة إلى المدينة , وهي الهجرة العظمى في التأريخ , وبداية بناء صرح دولة الحق والهدى , إذ هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه لها , كما جاءها الذين هاجروا إلى الحبشة , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ) .
وهاجرت المؤمنات جماعات ومنفردات , ومع الأزواج أو الإخوان أو الابناء , ونزل القرآن لتوثيق هجرتهن , , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا] ( ) .
وكانت هناك قصص وصفحات جهادية لهجرة المؤمنات , وخرجت بعضهن مهاجرة بمفردها لتقطع مسافة نحو خمسمائة كيلو متراً بين مكة والمدينة , وهل يكتب أجر الهجرة لسمية أم عمار مع أنها لم تدرك أيام الهجرة إذ قتلها عتاد كفرة قريش في مكة قبل الهجرة , الجواب نعم لأن فضل الله على المؤمنين عظيم .
وجاءت الآية بصيغة جمع المذكر ، وهي إنحلالية وتقديرها على وجوه :
أولاً : يا ايتها اللائي آمن إتقين الله حق تقاته ، فصحيح أن الرجال قوامون على النساء ، ولكنهم في العبادات ووجوب الإجتهاد بتقوى الله بمرتبة واحدة ، وفيه إكرام وتشريف للمرأة مطلقاً ، وللمرأة المسلمة خاصة .
ثانياً : يا ايها الذي آمن إتق الله حق تقاته ) لبيان أن تعاهد عامة المسلمين لسنن التقوى لا يعفي أي فرد منهم من التقيد بأحكامها .
ومن خصائص صيغة الجمع في المقام أن المسلمين مجتمعين ومتفرقين يشدون عضد الفرد منهم في مسالك التقوى ليكون فريدة زمانه في الخشية من الله .
ثالثاً : يا ايتها التي آمنت إتقِ الله حق تقاته ) .
ومن خصائص الإسلام أن خطاباته تتوجه للمسلمين والمسلمات جميعاً ويتلقى كل واحد منهم هذه الخطابات وهو يدرك أنها تكليف له ، فيبادر إلى التقيد بها ، لتبين الآية ماهية الدنيا ، وأنها دار عمل وجهاد ، وقهر للنفس الشهوية وحرب على الميل الذاتي للهوى والإسترخاء والتسويف في العبادات والمناسك .
وتكون التقوى على وجوه :
الأول : تعاهد الإيمان الذي تضمنت آية البحث الشهادة للمسلمين به ، فقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]دليل على بلوغ المسلمين مراتب التقوى , وليكون تقدير آية البحث : يا أيها الذين آمنوا لقد إتقيتم الله فاتقوه حق تقاته ).
فمن معاني مجئ نداء الإيمان في أول آية البحث الشهادة للمسلمين والمسلمات بتقوى الله عز وجل لأن الإيمان من مراتب ودرجات التقوى , ويكون وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : كل من آمن متق .
الصغرى : المسلم آمن بالله ورسوله .
النتيجة : كل مسلم متق .
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالإيمان ليكون طريقاً مستقيماً للإقامة في الجنان , وتفضل وأمرهم في آية البحث بالإجتهاد في سبل التقوى والإرتقاء في منازلها ليكون من معاني آية البحث أنها بشارة المقام الكريم في الآخرة ، قال تعالى [وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ] ( ).
والتقوى من خصال المؤمنين وهي مصاحبة لوجود الإنسان في الأرض ، إذ إبتدأت التقوى بآدم وحواء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَعلم آدم الاسماءَ كُلَّهَا] ( ) ومن أبهى هذه الاسماء بعد اسماء الله الحسنى معالم التقوى وصيغ طاعة الله والخشية منه سبحانه .
لقد أراد الله عز وجل للناس إنتظام أمورهم وحسن معاشهم وضبط تجارتهم وخلو أسواقهم من الحرام والسحت والمعاملات الربوية فدعاهم إلى التقوى ، وأمرهم بها وحبّبها إلى نفوسهم وزيّن لهم مسالكها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
وتفضل الله عز وجل بأمر المسلمين بتمام التقوى شاهد على كفاية أحكام القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي لبلوغ المسلمين اسمى وأعلى مراتب التقوى ، وهو من الدلائل على الكمال والتمام في الشريعة الإسلامية ومصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي] ( ) .
لقد تضمنت الآية السابقة لآية البحث وفق ترتيب آيات القرآن نفي الكفر عن المسلمين بقوله تعالى [وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ] ( ) مع بيان علة هذا النفي من جهات :
الأولى : الإعتصام بالله عز وجل وحسن التوكل عليه .
الثانية : تلاوة القرآن على المسلمين وتلاوتهم لها وفي قوله تعالى [وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ] مدرسة يومية للتقوى .
الثالثة : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته الجامعة المانعة ، الجامعة لأحكام الحلال والحرام , والمانعة من الضلالة والغواية ، إذ ورد في الآية أعلاه قوله تعالى [وَفِيكُمْ رَسُولُهُ] مما يدل على حضور سنته الدائم مع المسلمين في كل زمان .
وكل جهة من هذه الجهات من رشحات نداء الإيمان , وفرائد التقوى وتثبيتها في نفوس المسلمين , وهي واقية من طاعة الذين كفروا .
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
إبتدأت الآية بنداء الإيمان لأمور :
الأول : الثناء على المسلمين ، وبيان أن من الأولوية في حياة الإنسان الإيمان بالتنزيل ، ونيل وسام تلقي نداء الإيمان .
الثاني : إمتثال المسلمين للأوامر الإلهية , وكأن الآية تقول : يا أيها الذين آمنوا وصدقوا بالقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم )، وهو من الإعجاز في نداء الإيمان للملازمة بين الإيمان والعمل ، وتجلي مصاديق الإيمان في عمل وسيرة المسلمين والمسلمات ، فما دام المسلمون آمنوا بالله ورسوله , فلابد أن يعملوا بسنن الإيمان ويتجنبوا ما نهى الله عز وجل عنه .
الثالث : بيان قانون وهو أن دخول المسلمين الإسلام يجعلهم أمة واحدة في مقابل الأمم الأخرى ، ولكن هذا لا يعني الحرب والإقتتال والعداوة بين الأمم ، ويدل عليه نهي آية البحث عن إتخاذ نفر من الأمم الأخرى بطانة ووليجة إذ أنه يفيد في مفهومه إجراء المعاملات وحسن الصلات مع الملل والأمم الأخرى ، ولكن من غير أن يستحوذوا على شؤون المسلمين .
وجاءت آيات القرآن لمنع نفاذ أهل الشك والريب إلى مصادر القرار والأمر عند المسلمين .
ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) أنه ليس من أمة تتلقى الأوامر والنواهي في المعاملات وشؤون الحياة اليومية من عند الله عز وجل إلا المسلمين ، وفيه مصداق لخلافة الإنسان في الأرض بأن يتفضل الله عز وجل فيتلطف بالمؤمنين بربوبيته المطلقة ومن أرسله من الأنبياء والمعاد فيهديهم إلى تحصين دولتهم ، وسلامة نفوسهم وإرشادهم إلى إزاحة الموانع التي تحول دون إختيار الأحسن والأمثل في القول والعمل ، وفيه نكتة وهي لما آمن المسلمون بالله عز وجل توالت عليهم الأوامر والنواهي ، ولم تأتهم دفعة وهو من أسرار نزول القرآن نجوماً .
فان قلت يختص الصحابة بهذا التوالي والتعاقب ، أما جيل التابعين ومن بعدهم فأنهم يعملون بالقرآن وأوامره ونواهيه جملة واحدة ، وهذا صحيح وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يتلقى الجيل الأول من المسلمين آيات القرآن على نحو التدريج في ثلاث وعشرين سنة ، فمثلاً فرض الصيام والزكاة في السنة الثانية من الهجرة , وتكون أيام حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه :
الأول : قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين سنة من عمره الشريف قبل النبوة ، وكان مدتها يتصف بالأمانة والصدق ونحوه من مقدمات النبوة .
الثاني : في سن الأربعين تفضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً ورزقه النبوة وآتاه الرسالة ليكون مفتاحاً وبداية لمصاديقه اليومية المتكثرة لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الثالث : بعد مضي ثلاث عشرة سنة على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وملاقاته أشد الأذى هو وأهل بيته وأصحابه إذ أصر رؤساء الكفر من قريش إلى الإضرار بهم هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة والتي كانت تسمى ( يثرب ) وتحتمل هذه الهجرة وجوهاً :
أولاً : وقعت الهجرة بمشورة من أصحاب النبي وأهل بيته بعد إشتداد الأذى عليهم وسقوط عدد منهم قتلى .
ثانياً : جاءت الهجرة بعد بيعة وفد الأوس والخزرج للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتين ، كل واحدة منهما في موسم الحج فصار اسمهما : بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية .
ثالثاً : لم تتم الهجرة إلا بوحي وأمر من عند الله عز وجل .
رابعاً : عزم الكفار على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
خامساً : قام كفار قريش بإخراج النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه قهراً من مكة , قال تعالى[وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
والصحيح هو الثالث أعلاه , وتكون الوجوه الأخرى في طوله , لبيان معجزة تتجدد منافعها وفوائدها كل يوم ، وهي معجزة هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة .
لتبين الآية شدة أذى كفار قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ تذكر أن مكرهم وكيدهم له مقدمة وعلة لمقاصد خبيثة يرومونها من وراء هذا المكر ، بلحاظ أنه أعم من الحبس في الوثاق المستقرأ من قوله تعالى [لِيُثْبِتُوكَ]وغير إرادة قتله وإخراجه لمجئ لام التعليل والغاية في [لِيُثْبِتُوكَ]
وهل يمكن القول بأن هجرة عدد من الصحابة إلى الحبشة زادت من أذى قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب نعم ، فلذا تفضل الله عز وجل بدفع الضرر عنه ، وبأمره بالهجرة في ساعة همهم بقتله ، لبيان معجزة حسية أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ز
فكثير من الأنبياء قتلوا لدعوتهم قومهم إلى عبادة الله ، وتفضل الله عز وجل ونجّى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من القتل .
ومن الإعجاز في المقام أن القتل والإغتيال كان قريباً منه في كل يوم من أيام حياته ، وسواء في ميادين القتال أو في الحضر ، ودنو المنافقين منه وإمكان وصول الكفار إليه ، إذ لم يكن عنده حرس أو حجّاب ، وهو معجزة يومية أخرى ، يدركها ويقر بها كل من إطلع على سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأدراكها الناس يومئذ وكانت سبباً بأسلام أفواج منهم , ومن شواهد الإعجاز الغيري لقوله تعالى[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
وأنعم الله على أجيال الناس بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُ اللَّهُ] في الآية أعلاه لما فيها من نجاته من بطشهم وعزمهم على قتله .
وعن ابن عباس في الآية أعلاه قال (تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال بعضهم : بل اقتلوه ، وقال بعضهم : بل أخرجوه . فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك ، فبات علي عليه السلام على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون علياً رضي الله عنه يحسبونه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ز
فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوه علياً عليه السلام رد الله مكرهم فقالوا : أين صاحبك هذا؟ قال : لا أدري . . . ! فاقتصوا أثره ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا : لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال) ( ).
وليس من حصر لمعاني ووجوه مكر الله في الآية أعلاه إذ أن بركاته متصلة إلى يوم القيامة ، لذا تفضل الله عز وجل , وختم الآية بقوله تعالى (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ).
وهل نزول وتعدد نداء الإيمان من مكر الله الوارد في الآية أعلاه , الجواب نعم ، خاصة وأن هذا النداء نزل في الآيات والسور المدنية بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويدل عليه قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ] ( ).لبيان صحة دخول الأمم في الإسلام وإجتهاد المسلمين في العمل بمضامين آيات النداء وتحليهم بالتقوى ، وإمتناعهم عن إتخاذ بطانة من غيرهم .
وصحيح أن الآية أعلاه وردت بخصوص الخروج إلى معركة بدر وإرادة قتال المشركين يومئذ إلا أنها تدل بالدلالة التضمنية ومن باب الأولوية بأن خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بيته وبلده الحرام مكة كان بأمر , ووحي من عند الله كما تدل عليه أخبار السنة النبوية .
الرابع : بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة عشر سنوات في المدينة المنورة ، وقد ورد عن ابن عباس أنه قال (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأربعين سنة ، فمكث بمكة ثلاث عشرة يوحى إليه ، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين ، ومات وهو ابن ثلاث وستين) ( ).
وورد عن أنس ما يفيد أنه لبث في مكة عشر سنين من مدة النبوة إذ قال في وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم (كان ربعة من القوم ليس بالطويل ولا بالقصير ، أزهر اللون ، أمهق ، ليس بأبيض ولا آدم ، ليس بجعد قطط ، ولا بالسبط ، رجل ، نزل عليه وهو ابن أربعين سنة ، فلبث بمكة عشر سنين ينزل عليه ، وبالمدينة عشر سنين ، ثم توفي وهو ابن ستين سنة ، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء) ( ) .
ويحمل كلام أنس على عنايته بالعشرة وطرحه للكسر ، وهي لغة كانت معتمدة عند العرب , لذا قال توفي وهو ابن ستين سنة .
وورد عن الإمام الباقر عليه السلام قال : (قال: قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وهو ابن ثلاث وستين سنة في سنة عشر من الهجرة فكان مقامه بمكة أربعين سنة، ثم نزل عليه الوحي في تمام الاربعين، وكان بمكة ثلاث عشرة سنة، ثم هاجر إلى المدينة وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، فأقام بالمدينة عشر سنين) ( ).
وتبين آية البحث وهي آية البطانة حب الله عز وجل للمسلمين , وهل شهادة الله عز وجل لهم بالإيمان في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]من مصاديق قوله تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ] ( ) .
الجواب نعم ، لدلالة هذا النداء المبارك على إتباع المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتبين كل آية من القرآن حب الله عز وجل للمسلمين سواء إبتدأت بنداء الإيمان أو عطفت على إحدى آيات النداء ، أو جاءت على نحو مستقل ، إذ تتجلى معاني الإيمان في كل آية من آيات القرآن ، وهو من أسرار تكرار نداء الإيمان ومجيئه تسعاً وثمانين مرة في القرآن .
وبعد إبتداء آية البحث بنداء الإيمان وما فيه من معاني الفخر والعز جاء النهي [لاَ تَتَّخِذُوا] وليس من فاصلة بين نداء الإيمان وبين النهي ، مما يدل على مسائل :
الأولى : بيان التنافي بين الإيمان وإتخاذ بطانة ووليجة من غير المؤمنين .
الثانية : تأكيد التضاد بين الإيمان والكفر .
الثالثة : من خصائص دوام الإيمان مجئ النواهي عما يخالفه ويتعارض معه .
الرابعة : بيان قانون وهو إقتضاء الإيمان الإنزجار عن القبيح من القول والفعل .
الخامسة : دلالة كل نهي في القرآن على حسن سمت المسلمين وأهليتهم لإتخاذ الإيمان منهاجاً في القول والفعل .
السادسة : دعوة المسلمين لمعرفة الأمر المنهي عنه من منازل الإيمان ، فهناك فرق بين المرور على النهي من غير تدبر وتفكر ، وبين الوقوف عند النهي ورؤيته بعين الهداية والإيمان إذ يتجلى معه معاني الحيطة والحذر من موضوع النهي كما في آية البحث التي تنهى المسلمين عن إتخاذ الوليجة والخاصة والمشاور ممن هم أدنى منهم ، ليدخل فيه العبيد والإماء وإن كانوا مسلمين لما في نفوسهم من أمارات الضعف والوهن والنقص .
وقيدت الآية النهي ببيان سنخية وصفة الذين نهى الله عز وجل المسلمين عن إتخاذهم بطانة بقوله تعالى [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] أي لا يمتنعون عن الإضرار بكم ، وإحداث الإرباك في صفوفكم بسوء المشورة والتحريض على الشر والترغيب بالقبيح من الأفعال , عن قصد وعمد أو بدونه .
ولما إحتجت الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض لأنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) تفضل الله عز وجل وأنزل آية البحث وإبتدأت بنداء الإيمان لإخبار الملائكة بأن الإيمان واقية من الفساد ، ومن مقدماته .
فتفضل الله عز وجل ونهى المسلمين عن إتخاذ وليجة ممن لا يتورع عن الدعوة إلى الفساد لترى الملائكة كيف أن النهي في القرآن يصلح أمة عظيمة ، ويمنع من الفساد والضلالة ، ويبعث اليأس والقنوط في نفوس الذين كفروا فان نعت الملائكة الإنسان بأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، ففي كل زمان هناك أمة تتنزه عن الفساد ، وتقتص من الذي يقتل بغير حق ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
وفيه شاهد على أن نداء الإيمان واقية من الفساد وسلاح لدفع الفساد ، ومقدمة لإزاحته من الأرض ، وهو باعث لنفرة النفوس منه ، وتقدير آية البحث على وجوه :
الوجه الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ) من غير تقييد بصفة مذمومة للبطانة إلا أنهم أدنى رتبة من المسلمين.
وهل هذا التقدير خلاف منطوق الآية إذ أنها قيدت المنهي عن إتخاذهم بطانة بأنهم يسعون في الإضرار بالمسلمين عن علم أو جهالة الجواب لا، لآن الآية تحذير وإنذار , وتدل في مفهومها على إتخاذ البطانة على أمور :
الأول : عدم إتخاذ بطانة ووليجة , ففي القرآن والسنة نور وهدى وضياء في أمور الدين والدنيا .
الثاني : إتخاذ بطانة من المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) إذ يتناجون ويتشاورون فيما بينهم .
الثالث : إتخاذ بطانة متعددة من المسلمين وغير المسلمين .
الرابع : تقييد البطانة المنهي عنها , وهي التي تسعى للإضرار بالمسلمين من بين أظهرهم لموضوعيتها في القرار والفصل وإن لم يكن على نحو المباشرة وحدها ، ولكن بالتسبيب أيضاً .
والمختار هو الثاني ، فيحتاج الإنسان المشورة وبث السر والمحاورة والتذاكر , والناس بالناس ، وفي أسباب نزول الآية ذكر أنها نزلت في قوم من الأنصار كان بينهم وبين جماعة من اليهود جوار وحلف في زمن الجاهلية ، فأستمروا عليه بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودخولهم الإسلام، ومنهم في المقام كعب بن الأشرف ، وأبو رافع بن أبي العقيق اللذان كانا يؤذيان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت الآية .
من خصائص نداء الإيمان تثبيت ملكة الهدى في نفوس المسلمين مجتمعين ومتفرقين ، لذا تفضل بتكراره في القرآن , ليكون عوناً وعضداً لهم في العمل والسعي في مسالك الإيمان وسبل الرشاد ، ومن منافع نداء الإيمان وقوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] أمور :
الأول : إنه بشارة ووعد كريم من عند الله بالرزق الكريم للمسلمين .
الثاني : نداء الإيمان خزينة من العلوم , تملي على المسلمين الإقتباس منه ، وهذا الإقتباس على جهات :
الأولى : ذات كلمات النداء .
الثانية : معاني ودلالات نداء الإيمان .
الثالثة : المضامين القدسية لآية النداء ، وهو الذي جاء بها هذا الجزء والأجزاء الثلاثة التي سبقته في آية علمية مستحدثة لإستقراء كنوز القرآن .
الرابعة : حال العز والفخر المقرون بالزهد والخشوع لله الذي يبعثه نداء الإيمان في نفوس المسلمين عند تلاوته أو سماعه ومطلق الأوقات .
فمن أسرار تكراره في القرآن رسوخه في الوجود الذهني للمسلم والمسلمة ، وحضوره الدائم في عالم الأقوال والأفعال فيستحضر المسلم نداء الإيمان ويدرك أنه موجه له فيبادر إلى فعل الصالحات ، ويهم بفعل السيئة ، فيتجلى أمامه نداء الإيمان ليكون عصمة له وزاجراً عن فعلها ، وهو من عمومات البرهان في قوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ] ( ) لبيان أن هذا البرهان نعمة رزقها الله يوسف عليه السلام في ساعة الإفتتان ليبقى رحمة عند المسلمين وآية باطنة , وحاضرة في أذهان وأفعال المسلمين ، ومنه عالم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو منهاج الأنبياء , إتخذه المسلمون حرزاً وطريقاً وسبيل نجاة ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه باعث على التقوى وواقية من الفسوق والضلالة , ومنه آية البحث إذ ورد فيها نداء الإيمان لينجو المسلمون من فعل السيئات والأخطاء التي ترتكب بسبب إتخاذ البطانة والأصفياء من غيرهم ممن لا يريد نفعهم .
وقد تريد هذه البطانة الغيرية نفع المسلم أو المسلمين الذين يتخذونها خاصة ومحلاً للسر وبث النوايا ، فليس من ملازمة بين كون الإنسان غير المسلم وإرادة الإضرار بالمسلمين ومن الناس بفطرته يمتنع عن الإضرار بالناس وخاصة بمن يدنيه ويقربه ويتخذه خاصة ،ولكنه مع هذا يضر المسلمين من حيث لا يعلم ، إذ تتقوم خيارات المسلمين بسنن التقوى ويصدرون عن القرآن والسنة ، وفيه علوم مستحدثة ومستقرأة وتنمية لملكة العدالة والحكمة والنظر الثاقب مما يمتاز به المسلمون , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الوجه الثاني : تقدير آية البحث : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم فقد أكرمكم الله بنداء الإيمان .
ومن مصاديق الإيمان التي يتضمنها نداء الإيمان بعد الإيمان بالله ورسوله وكتبه وملائكته واليوم الآخر ، التصديق والإقرار بنزول كل آية من آيات القرآن من عند الله ، وما فيها من نهي المسلمين عن إتخاذ وليجة من غيرهم .
لبيان قانون وهو أن الإيمان فيصل حتى في باب البطانة والخاصة ، لتكون التقوى حاضرة في منتديات المسلمين ومجالسهم العامة والخاصة .
ومن أسرار آية البحث أنها بشارة إقبال المسلمين على أمور الحكم والتجارة ، ولابد من العصمة من الضرر الذاتي الذي يأتي من سوء المشورة وعدم كتمان السر .
ويتضمن نداء الإيمان في آية البحث تحذير المسلمين ، وأخذ الحائطة لقتالهم العدو المشرك , والدفاع عن بيضة الإسلام ، قال تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ] ( ) لتدل الآية أعلاه بالدلالة التضمنية على عدم جواز إتخاذهم بطانة .
وتسمى الآية أعلاه آية السيف , وقيل أنها نسخت نحو مائة آية من القرآن ، ولا دليل عليه ، إنما القدر المتيقن إرادة المشركين من قريش ومجاوري البيت الحرام والذين أصروا على قتال المسلمين ، وهجموا على المدينة في معركة بدر وأحد والخندق .
ومن مصاديق النهي عن إتخاذ المشركين بطانة وخاصة قوله تعالى [كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ] ( ).
إن إجتناب إستنباط المسلمين وليجة من غيرهم شكر لله عز وجل على إكرامهم بنداء الإيمان ورجاء للتوفيق في مسالك الهدى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( ).
ومن الزيادة في المقام إصلاح المسلمين لمقامات البطانة ، فيكون بعضهم لبعض وليجة وخاصة تتصف بالأمر بالمعروف وصيغ التقوى، وتزجر عن الظلم والتعدي والفحشاء .
(عن الهرماس بن زياد قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على ناقته ، فقال : إياكم والخيانة ، فإنها بئست البطانة ( )، وإياكم والظلم ، فإنه ظلمات يوم القيامة ، وإياكم والشح ( )، فإنما أهلك من كان قبلكم الشح ، حتى سفكوا دماءهم ، وقطعوا أرحامهم )( ) .
الوجه الثالث : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم فانه يتعارض مع نداء الإيمان وما فيه من الشرف العظيم .
من معاني نداء الإيمان أنه باعث على فعل الصالحات ، وسبيل نجاة للمسلمين في النشأتين ، مما يملي عليهم تلقيه بالقبول والرضا ، وهو من مصاديق الأمانة في الأرض ، قال تعالى [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً]( ).
وتفضل الله عز وجل وهدى المسلمين للإيمان ، ثم أنهم عليم ببيان تعاهد مقامات التقوى بالإمتناع عن إتخاذ بطانة وخاصة من غيرهم ، وجاء ذكر البطانة من باب البيان والمثال ، وللدلالة على نهج المسلمين المستقيم ، وإحترازهم من الخبال وفساد الرأي .
الوجه الرابع : يا أيها الذين آمنوا لقد بارك الله فيكم وجعلكم أمة عظيمة فلا تصل النوبة بكم لإتخاذ أصفياء من غيركم .
ومن منافع نداء الإيمان أمور :
أولاً : إقتباس المسائل والعلوم من نداء الإيمان من جهات :
الأولى : الإقتباس من ذات نداء الإيمان وألفاظه .
ومن خصائص كلام الله تعدد معانيه القدسية وإن جاء بصيغ الألفاظ التي يتخاطب بها البشر، ويفرح الإنسان عندما يثني عليه الملك أوالرئيس أو رب العمل، ويبقى يفتخر بهذا الثناء، أما الذي ينال وساماً من الدولة وجهات ذات شأن فإن الفخر يلازمه وابناءه، ويحمل ويظهر الوسام بغبطة وسرور لأنه شهادة وإمتياز، وجاء نداء الإيمان ليكون أعظم وسام في تأريخ الإنسانية، من وجوه:
الأول : نداء الإيمان ثناء من عند الله على المسلمين والمسلمات.
الثاني : كثرة الذين ينالهم هذا الوسام.
الثالث : غبطة وسعادة المسلمين بهذا النداء.
الرابع : إنقطاع أثر كل وسام في الدنيا إلا وسام نداء الإيمان فإنه باق إلى يوم القيامة وحاضر في ساعات الحساب , وقد ينال الجندي وساماً من القائد , ثم يصير حسرة وندماً .
الخامس : نداء الإيمان واقية من الضرر والفزع من أهوال يوم القيامة، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
السادس : قد تكون أوسمة الدنيا ومدح الملوك والتقرب إليهم وبالاً على أصحابها، وسببا للبطش بهم والإنتقام منهم من ذات الملوك أو من أعدائهم , ومن يأتي بعدهم بديلاً عنهم، والشواهد على هذا كثيرة وفي كل زمان وبلد حتى يستبشر الذين لم ينالوا من تلك الأوسمة لأنهم براء منها، وهو من عمومات قوله تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ) .
ففي زمان يتمنى جماعة تلك الأوسمة ويغبطون أصحابها ثم لم يلبثوا أن يرضوا ويسعدوا لأنها لم تصبهم , ويتفاخرون بعدم السعي في أسبابها أو الحصول عليها .
أما وسام نداء الإيمان فهو نعمة ظاهرة وباطنة تتجلى منافعها في كل حين، وهو خير محض.
الثانية : معاني الإكرام التي يتضمنها نداء الإيمان من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ) .
ولم يرد لفظ [أَتْقَاكُمْ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، ومن الإعجاز فيها أنها لم تحصر خطابها بالمسلمين والمسلمات إنما توجهت إلى الناس جميعاً الموجود والمعدوم لبيان أن المسلمين فازوا بمرتبة الإكرام من عند الله لتحليهم بالتقوى .
ويدل على هذا الإكرام تفضل الله تعالى بمخاطبتهم بصفة الإيمان والشهادة بثبوتها عندهم ، ومصاحبتها لهم ، ليكون إكرام الله لهم ضياءً وواقية من المعاصي ، وحرزاً من التعدي عليهم ، وفيه دعوة للمسلمين للصلات الحسنة مع الناس وعدم العزلة عنهم، وتتقوم هذه الصلات بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وليس إتخاذهم بطانة تكون هي الآمرة والناهية ولكن عن طريق خفي ومبطن غير ظاهر ، إذ تقوم البطانة بالمشورة وترغب بفعل مخصوص وتحذر من غيره ، وتتولى تزيين بعض الأمور مما لم ينزل الله بها سلطاناً.
الثالثة : كل نداء إيمان بصيرة في ذات موضوع آيته، وضياء يشع نوره على الآيات التي تتعقبه والتي تسبقه، إنه يستنهض المسلمين للعمل بمضامين آياته، ويبعث الشوق في نفوسهم للإمتثال لأحكام هذه الآيات، وفيه تنمية لملكة الإمتثال لكل آيات القرآن وما فيها من الأوامر والأحكام والسنن .
وهل هذا الشوق أمر إختياري يبتدعه الإنسان أم هو إنطباقي قهري من فضل الله، الجواب هو الثاني، فمن ذخائر نداء الإيمان أنه جذب لمنازل التقوى وباعث للشوق في نفوس المسلمين للعمل بأحكام وسنن آيات النداء.
ثانياً : ومن منافع نداء الإيمان أنه فيصل سماوي مبارك للمسلمين عن غيرهم من غير أن يجعل عندهم غروراً أو أستكباراً لتقوم هذا الفصل بخشوع وخضوع المسلمين لله عز وجل .
ثالثاً : نداء الإيمان باعث على الصبر في طاعة الله وأداء التكاليف من غير كلل أو ملل ، قال تعالى [اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ).
رابعاً : نداء الإيمان حرز لحفظ كلمات وآيات القرآن ، وفيه دعوة للمسلمين لتعاهد أحكام القرآن ومضامين آيات النداء .
خامساً : بعث المسلمين على العمل بآيات القرآن، وما فيها من الأوامر والنواهي .
سادساً : الإخبار عن بقاء شرائع الإسلام , ومعالم الإيمان إلى يوم القيامة فلابد من وجود أمة مؤمنة تتلقى نداء (يا أيها الذين آمنوا) كل يوم من أيام الدنيا من جهات :
الأولى : من معاني نداء الإيمان : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله محمد، ونزول القرآن من عند الله .
الثانية : إختتام النبوات بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ] ( ).
الثالثة : تأكيد فضل الله عز وجل في حفظ المسلمين والمسلمات في نفوسهم ودينهم، ومن مصاديق ووجوه هذا الحفظ نداء الإيمان، ليكون قوله تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] من مصاديق قوله تعالى[فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًاوَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
الوجه الخامس : يا أيها الذين آمنوا إن نداء الإيمان يغنيكم عن إتخاذ بطانة من دونكم) .
وليس من حصر لفيض وبركة نداء الإيمان وحضوره عند المسلمين في عباداتهم ومعاملاتهم، ومنها :
الأولى : إنه خاصة وعضد للمسلمين .
الثانية : إنه صاحب كريم في الليل والنهار، يقودهم إلى سبل الهدى والرشاد .
الثالثة: يحجب نداء الإيمان من مسالك الغواية .
الرابعة : يصرف نداء الإيمان عن المسلمين الغفلة ويدفع عنهم الجهالة، قال تعالى في الثناء على القرآن[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
ليكون من خصائص القرآن أنه برزخ بين الجهالة والعلم، بين الغفلة والفطنة ، فقد إنقطعت في نزوله سني الغفلة والجهالة، وإبتدأت حياة العلم والفقاهة وملاقاة الحتوف من أجل إثبات الحق، وإعلاء كلمة التوحيد وإزاحة مفاهيم الشرك والضلالة التي تصاحب الجهالة والغفلة العامة .
فجاء نداء الإيمان لتخلع الأرض رداء الغفلة العالي وترتدي حلة الإيمان البهيجة، وتصبح رياضاً ناضرة تُسقى بنداء الإيمان فتعمر معه القلوب بشذى الهدى، وتتوجه الأبدان إلى عبادة الله عز وجل وفق ما نزل في القرآن وما بينه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
الوجه السادس : إن قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ] سور حافظ للمسلمين وواقية من الخبال وحصانة من الشحنات والخصومات فيما بينهم ، إذ أنها أمن من الفساد الذي يترشح عن إستبطان الذين كفروا وأبى الله إلا سلامة المسلمين من الخبال والإختلال في الرأي والقرار ، وتكون هذه السلامة بلحاظ كلمة الخبال على وجوه :
أولاً : سلامة المسلمين من إختلال العقول ، ومن فقدان الإتزان، فتفضل وحذرهم من الخاصة والوليجة التي تؤدي إلى الضرر وتبعث أسباب الفرقة والفتنة بين المسلمين .
وتبث روح الضعف والوهن بين صفوفهم ، قال تعالى في خطاب للمسلمين [خُذُوا حِذْرَكُمْ] ( ) .
ثانياً : عصمة المسلمين من الإضطراب وسوء الإختيار ، ومن الآيات في المقام أن أداء المسلمين الصلاة خمس مرات في اليوم واقية من الخبال والفساد ، لذا لم تقل الآية بأن البطانة غير الصالحة تؤدي إلى دبيب الخبال إلى المسلمين ، إنما بينت المقاصد السيئة والأثر الضار لتلك البطانة بأنها طريق للخبال عن قصد أو بدون قصد ، فجاء نداء الإيمان في أول آية البحث للبشارة بحصانة المسلمين من الخبال ، وهل تستقر هذه الحصانة حتى في حال إتخاذهم بطانة من دونهم .
الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ويدل عليه ما ورد في آية البحث [وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ] أي أن المسلمين لم يصابوا بحال العنت مما يوده ويتمناه هؤلاء في قلوبهم وأصل العنت التشديد ، والمراد منه الضيف أي أن هؤلاء الذين هم أدنى منكم وقريبون منكم إنما يتمنون شدة الأذى والضرر لكم ويسعون للإيقاع بكم ويطلعون المشركين على أسراركم .
ثالثاً : تجلي بركات نداء الإيمان في آية البحث بمناجاة المسلمين في التقوى والحصانة في باب البطانة والسعي للإكتفاء الذاتي في الإستشارة وإفشاء السر ، وبيان المقاصد والخطط الخاصة والعامة .
ومن خصائص نداء الإيمان بعثه المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتكون كل آية مدخلاً وتعييناً لموضوع ومسألة في الأمر والنهي ، وهو من الشواهد على إمامة القرآن وأنه قائد يأخذ بأيدي المسلمين في سبل الفلاح .
رابعاً : لا يختص النهي الوارد في الآية باستبطان الذين كفروا وإتخاذهم خاصة فالمورد لا يخصص الوارد ، أي أن المدار على عموم اللفظ والمعنى وليس خصوص موضوع التنزيل ، إذ تتضمن آية البحث أموراً :
الأول : ثناء الله عز وجل على المسلمين والمسلمات وتفضله بمناداتهم وخطابهم .
الثاني : مجئ النداء من عند الله بالشهادة للمسلمين بصبغة الإيمان ويدل نداء الإيمان على حقيقة وهي تنزه المسلمين عن الخبال والإضطراب في التفكير، وقواعده ، فقد أنزل الله عز وجل آية البحث ليبقى المسلمون في حصن وأمن من الخبال والعنت والضيق والشدة.
الثالث : بعد أن إبتدأت آية البحث بنداء الإيمان جاءت أداة النهي (لا) لبيان أن المسلمين أهل للتقيد بالنواهي التي من عند الله ، وهذا التقيد منى خصائص المؤمنين ، ليكون من معاني الآية مسائل :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا بأن الله يأمر وينهى , ويجب الإمتثال لأوامره .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا بوجوب الحذر والإبتعاد عن الذين لا يأتون إلا بالخبال وبث الإرباك.
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا بأن آية البحث رحمة ومدرسة في أمور الدين والدنيا .
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا بأن الخبال قبيح بالذات والأثر ، وتحتمل الآية في مفهومها وجوهاً :
الأول : دعوة المسلمين للإمتناع عن إتخاذ خاصة ومستشارين من غيرهم .
ويحتمل الضمير في [يَأْلُونَكُمْ] وواو الجماعة في [وَدُّوا]وجوهاً:
الأول : البطانة والخاصة التي يتخذها المسلمون من غيرهم .
الثاني : الطائفة التي يتخذ منها المسلمون البطانة .
الثالث : عموم الذين هم من دون وغير المسلمين ، وأدنى منهم مرتبة .
والصحيح هو الثالث أعلاه لأصالة الإطلاق ، ولأن البطانة بعض وشطر منهم بدليل حرف الجر في (من دونكم) الذي يفيد التبعيض ، ومن الإعجاز في صيغة العموم هذه مسائل :
الأولى : مجئ النهي في الآية للصفة والنعت العام ، ومن منافعه أخذ المسلمين الحائطة من غيرهم على نحو العموم ، ولا يميل بعض المسلمين إلى جماعة منهم , ويظن أنهم يختلفون عن أقرانهم واصحابهم فلا يألون الخبال والفوضى للمسلمين , ولا يرجون الضيق والشدة لهم , وحتى على فرض وجود من لا يريد الإضرار بالمسلمين فان الآية تخبر عن عدم الحاجة إليه .
وتفضل الله عز وجل وهدى المسلمين إلى بيان قانون ، وهو إتصاف الذين كفروا بالحسد للمسلمين ، وتمني أذاهم ، وآية البحث من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) والأذى أدنى مرتبة من الضرر ، فيتفضل الله عز وجل بدفع العنت والضيق والضرر عن المسلمين .
الثانية : بلوغ المسلمين مراتب سامية وشؤون الحكم وصيرورتهم في حاجة إلى البطانة والخاصة وحتى لو لم تكن البطانة حاجة فان تزاحم الأعمال عند المسلمين وسعيهم في الميادين المتعددة يجعلهم يميلون إلى الإستشارة والبطانة .
وكأن الآية تقول للمسلمين إن الله عز وجل أنعم عليكم بالجاه والشأن والسلطان فأشكروا له سبحانه بالإمتناع عن إتخاذ بطانة وخاصة من الذين كفروا .
الثالثة : من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) عزوفها عن إتخاذ الذين كفروا بطانة ، فلا يخرجون للناس بمعاني الخبال وصيغ التشويه التي تصدر من البطانة والخاصة , وكأنها صادرة من المسلمين.
الرابعة : بيان قانون وهو وجوب تنزه الذين آمنوا عن إتخاذ بطانة من الذين كفروا .
وهل تحذر الآية من المنافقين وتدعو المسلمين للإمتناع عن إتخاذهم وليجة للفظ العموم في قوله تعالى [مِنْ دُونِكُمْ] ولأن المنافقين والمنافقات أدنى رتبة من الذين آمنوا لإبطانهم الكفر في ذات الوقت الذي يظهرون فيه الإيمان ، الجواب نعم , فان قلت قد ذكرت شمول نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] للمنافقين , وهذا صحيح ولكن الإفتراق والتفصيل وظهور القرينة يخرج المنافقين بالتخصيص من المؤمنين ويمكن أيضاً شمولهم بذات النداء بزجر المنافقين عن إتخاذ المنافقين والمنافقات بطانة وخاصة ، فيشير المنافق على صاحبه بأمر فيه نكوص وقنوط ويأس ، فتأتي آية البحث لتدعوه لعدم الإسستماع لما يقوله صاحبه في النفاق ، ليكون من الإعجاز في آية البحث أنها تبعث الفرقة والخصومة والخلاف بين المنافقين .
وقد أظهر المنافقون الود للذين كفروا وكانوا ينصتون لهم ، فجاءت الآية لتدعو المنافقين إلى عدم الميل إلى الذين كفروا ، وتحثهم على عدم إتباع أقوالهم أو محاكاة أفعالهم .
فمن خصائص آية البحث أمور :
الأول : التحذير من إتخاذ المنافقين بطانة .
الثاني : زجر المنافقين عن إتخاذ المنافق والمنافقة خاصة وبطانة ، ولو كانت المنافقة زوجته أو أخته .
الثالث : منع المنافقين من إتخاذ الكافرين وليجة وخاصة .
الرابع : بعث اليأس والقنوط في نفوس المنافقين من التأثير في قرار المسلمين .
الخامس : نهي المنافقين عن صيرورتهم بطانة للذين كفروا .
ويتلو المنافق هذه الآية ويعلم بأن الله حذر المسلمين منه ، وأن الذي يحذر منه قد وقع مثلاً ، بأن نزلت الآية التي تحذر منه ومن عموم المنافقين ، قال تعالى [يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ]( ) .
وقد يأمل المنافق عدم كشف المسلمين لسره ، وما تنطوي عليه نفسه من الضلال والإقامة على الكفر ، ويتقرب للمؤمنين ليتخذوه وليجة وخاصة ، وليفوز باصطفائهم وإستشارتهم له ، فيرى العكس.
فمن خصائص المسلمين المبادرة للإمتثال لمضامين الآية القرآنية حال نزولها ، فيعرضون عن المنافق ويتجهزون للقتال من غير أن يخبروه ويضربون في الأرض للتجارة من غير أن يعلم المنافق ماهية سفرهم , والجهة التي يقصدون .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد غزو قبيلة أو بلدة ورّى بغيرها إلى أن جاءت غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة ، فقام بالإخبار عن الجهة التي يريد ليستعد المسلمون ويأخذوا أهبتهم لأن المسافة طويلة ، وفي حديث عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ : أَنّ أَبَاهُ عَبْدَ اللّهِ وَكَانَ قَائِدَ أَبِيهِ حِينَ أُصِيبَ بَصَرُهُ قَالَ سَمِعْت أَبِي كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلّفَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَحَدِيثَ صَاحِبَيْهِ قَالَ مَا تَخَلّفْت عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطّ ، غَيْرَ أَنّي كُنْت قَدْ تَخَلّفْت عَنْهُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَكَانَتْ غَزْوَةً لَمْ يُعَاتِبْ اللّهُ وَلَا رَسُولُهُ أَحَدًا تَخَلّفَ عَنْهَا ، وَذَلِكَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إنّمَا خَرَجَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ ، حَتّى جَمَعَ اللّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوّهِ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ وَلَقَدْ شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ الْعَقَبَةَ ، وَحِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَا أُحِبّ أَنّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ هِيَ أَذْكَرَ فِي النّاسِ مِنْهَا .
قَالَ كَانَ مِنْ خَبَرِي حِينَ تَخَلّفْت عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنّي لَمْ أَكُنْ قَطّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنّي حِينَ تَخَلّفْت عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَ وَاَللّهِ مَا اجْتَمَعَتْ لِي رَاحِلَتَانِ قَطّ حَتّى اجْتَمَعَتَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ .
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَلّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إلّا وَرّى بِغَيْرِهَا ، حَتّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ فَغَزَاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِي حَرّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا ، وَاسْتَقْبَلَ غَزْوَ عَدُوّ كَثِيرٍ فَجَلّى لِلنّاسِ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهّبُوا لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ وَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ بِوَجْهِهِ الّذِي يُرِيدُ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ تَبَعِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وىله وَسَلّمَ كَثِيرٌ لَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ يَعْنِي بِذَلِكَ الدّيوَانَ يَقُولُ لَا يَجْمَعُهُمْ دِيوَانٌ مَكْتُوبٌ .
قَالَ كَعْبٌ فَقَلّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيّبَ إلّا ظَنّ أَنّهُ سَيَخْفَى لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنْ اللّهِ وَغَزَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتْ الثّمَارُ وَأُحِبّتْ الظّلَالُ فَالنّاسُ إلَيْهَا صُعْرٌ فَتَجَهّزَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَتَجَهّزَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَجَعَلْت أَغْدُو لِأَتَجَهّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ حَاجَةً فَأَقُولُ فِي نَفْسِي ، أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَرَدْت ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتّى شَمّرَ النّاسُ بِالْجِدّ .
فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ غَادِيًا ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جِهَازِي شَيْئًا ، فَقُلْت : أَتَجَهّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمّ أَلْحَقُ بِهِمْ فَغَدَوْت فَصَلُوا لِأَتَجَهّزَ فَرَجَعْت وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا ، ثُمّ غَدَوْت فَرَجَعْت وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتّى أَسْرَعُوا ، وَتَفَرّطَ الْغَزْوُ فَهَمَمْت أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ وَلَيْتَنِي فَعَلْت ، فَلَمْ أَفْعَلْ وَجَعَلْت إذَا خَرَجْت فِي النّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ، فَطُفْت فِيهِمْ يُحْزِنُنِي أَنّي لَا أَرَى إلّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النّفَاقِ أَوْ رَجُلًا مِمّنْ عَذَرَ اللّهُ مِنْ الضّعَفَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ حَتّى بَلَغَ تَبُوكَ ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ يَا رَسُولَ اللّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ .
فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ : بِئْسَ مَا قُلْت وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا عَلِمْنَا مِنْهُ إلّا خَيْرًا ؛ فَسَكَتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ . فَلَمّا بَلَغَنِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَدْ تَوَجّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ ، حَضَرَنِي بَثّي ، فَجَعَلْت أَتَذَكّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخْطَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَدًا وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ كُلّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي ؛ فَلَمّا قِيلَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَدْ أَظَلّ قَادِمًا زَاحَ عَنّي الْبَاطِلُ وَعَرَفْت أَنّي لَا أَنْجُو مِنْهُ إلّا بِالصّدْقِ فَأَجْمَعْت أَنْ أَصْدُقَهُ وَصَبّحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، وَكَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ ، فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمّ جَلَسَ لِلنّاسِ فَلَمّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلّفُونَ فَجَعَلُوا يَحْلِفُونَ لَهُ وَيَعْتَذِرُونَ وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا ، فَيَقْبَلُ مِنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَلَانِيَتَهُمْ وَأَيْمَانَهُمْ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللّهِ تَعَالَى ، حَتّى جِئْت فَسَلّمْت عَلَيْهِ فَتَبَسّمَ تَبَسّمَ الْمُغْضَبِ ثُمّ قَالَ لِي : ” تَعَالَهُ ” ، فَجِئْت أَمْشِي ، حَتّى جَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ .
فَقَالَ لِي : مَا خَلّفَك ؟ أَلَمْ تَكُنْ ابْتَعْت ظَهْرَك ؟ ” قَالَ قُلْت : إنّي يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَللّهِ لَوْ جَلَسْت عِنْدَ غَيْرِك مِنْ أَهْلِ الدّنْيَا ، لَرَأَيْت أَنّي سَأَخْرُجُ مِنْ سُخْطِهِ بِعُذْرٍ وَلَقَدْ أُعْطِيت جَدَلًا ، لَكِنْ وَاَللّهِ لَقَدْ عَلِمْت لَئِنْ حَدّثْتُك الْيَوْمَ حَدِيثًا كَذِبًا لَتَرْضَيَنّ عَنّي ، وَلَيُوشِكَنّ اللّهُ أَنْ يُسْخِطَك عَلَيّ وَلَئِنْ حَدّثْتُك حَدِيثًا صِدْقًا تَجِدُ عَلَيّ فِيهِ إنّي لَأَرْجُو عُقْبَايَ مِنْ اللّهِ فِيهِ وَلَا وَاَللّهِ مَا كَانَ لِي عُذْرٌ وَاَللّهِ مَا كُنْت قَطّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنّي حِينَ تَخَلّفْت عَنْك .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ” أَمّا هَذَا فَقَدْ صُدِقْت فِيهِ ، فَقُمْ حَتّى يَقْضِيَ اللّهُ فِيك فَقُمْت ، وَثَارَ مَعِي رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ ، فَاتّبَعُونِي فَقَالُوا لِي : وَاَللّهِ مَا عَلِمْنَاك كُنْت أَذْنَبْت ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا ، وَلَقَدْ عَجَزْت أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِمَا كَانَ كَافِيَك ذَنْبَك اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لَك ، فَوَاَللّهِ مَا زَالُوا بِي حَتّى أَرَدْت أَنْ أَرْجِعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَأُكَذّبَ نَفْسِي ، ثُمّ قُلْت لَهُمْ هَلْ لَقِيَ هَذَا أَحَدٌ غَيْرِي ؟ قَالُوا : نَعَمْ رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَ مَقَالَتِك ، وَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَك ؛ قُلْت : مَنْ هُمَا ؟ قَالُوا : مُرَارَةُ بْنُ الرّبِيعِ الْعَمْرِيّ ، مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، وَهِلَالُ بْنُ ( أَبِي ) أُمَيّةَ الْوَاقِفِيّ ؛ فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ فِيهِمَا أُسْوَةٌ فَصُمْت حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي ، وَنَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَنْ كَلَامِنَا أَيّهَا الثّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ فَاجْتَنَبَنَا النّاسُ وَتَغَيّرُوا لَنَا ، حَتّى تَنَكّرَتْ لِي نَفْسِي وَالْأَرْضُ فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ الّتِي كُنْت أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً فَأَمّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا ، وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا ، وَأَمّا أَنَا فَكُنْت أَشَبّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْت أَخْرُجُ وَأَشْهَدُ الصّلَوَاتِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ بِالْأَسْوَاقِ وَلَا يُكَلّمُنِي أَحَدٌ ، وَآتِي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَأُسَلّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصّلَاةِ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي ، هَلْ حَرّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدّ السّلَامِ عَلَيّ أَمْ لَا ؟ ثُمّ أُصَلّي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النّظَرَ فَإِذَا أَقْبَلْت عَلَى صَلَاتِي نَظَرَ إلَيّ وَإِذَا الْتَفَتّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنّي ، حَتّى إذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْت حَتّى كَوّرْت جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ . وَهُوَ ابن عَمّي ، وَأَحَبّ النّاسِ إلَيّ فَسَلّمْت عَلَيْهِ فَوَاَللّهِ مَا رَدّ عَلَيّ السّلَامَ فَقُلْت : يَا أَبَا قَتَادَةَ ، أَنْشُدُك بِاَللّهِ هَلْ تَعْلَمُ أَنّي أُحِبّ اللّهَ وَرَسُولَهُ ؟ فَسَكَتَ .
فَعُدْت فَنَاشَدْته ، فَسَكَتَ عَنّي ، فَعُدْت فَنَاشَدْته فَسَكَتَ عَنّي ، فَعُدْت فَنَاشَدْته ، فَقَالَ اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَوَثَبْت فَتَسَوّرْت الْحَائِطَ ، ثُمّ غَدَوْت إلَى السّوقِ فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِالسّوقِ إذَا نَبَطِيّ يَسْأَلُ عَنّي مِنْ نَبَطِ الشّامِ ، مِمّا قَدِمَ بِالطّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ مَنْ يَدُلّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ؟ قَالَ فَجَعَلَ النّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إلَيّ حَتّى جَاءَنِي ، فَدَفَعَ إلَيّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسّانَ ، وَكَتَبَ كِتَابًا فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ فَإِذَا فِيهِ :
أَمّا بَعْدُ فَإِنّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنّ صَاحِبَك قَدْ جَفَاك ، وَلَمْ يَجْعَلْك اللّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِك . قَالَ قُلْت حِينَ قَرَأْتهَا : وَهَذَا مِنْ الْبَلَاءِ أَيْضًا ، قَدْ بَلَغَ بِي مَا وَقَعْت فِيهِ أَنْ طَمِعَ فِيّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ .
قَالَ فَعَمَدْت بِهَا إلَى تَنّورٍ فَسَجَرْته بِهَا . فَأَقَمْنَا عَلَى ذَلِكَ حَتّى إذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنْ الْخَمْسِينَ إذَا رَسُولُ رَسُولِ اللّهِ يَأْتِينِي ، فَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَأْمُرُك أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَك ، قَالَ قُلْت : أُطَلّقُهَا أَمْ مَاذَا ؟ قَالَ لَا ، بَلْ اعْتَزِلْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا ، وَأَرْسَلَ إلَى صَاحِبَيّ بِمِثْلِ ذَلِكَ .
فَقُلْت لِامْرَأَتِي : الْحَقِي بِأَهْلِك ، قَالَ وَجَاءَتْ امرأة هِلَالِ بْنِ أُمَيّةَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ هِلَالَ بْنَ أُمَيّةَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَائِعٌ لَا خَادِمَ لَهُ أَفَتَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ ؟ قَالَ ” لَا ، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبَنّكِ ” ؛ قَالَتْ وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا بِهِ مِنْ حَرَكَةٍ إلَيّ وَاَللّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إلَى يَوْمِهِ هَذَا ، وَلَقَدْ تَخَوّفْت عَلَى بَصَرِهِ . قَالَ فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي : لَوْ اسْتَأْذَنْت رَسُولَ اللّهِ لِامْرَأَتِك ، فَقَدْ أَذِنَ لِامرأة هِلَالِ بْنِ أُمَيّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ قَالَ فَقُلْت : وَاَللّهِ لَا أَسْتَأْذِنُهُ فِيهَا ، مَا أَدْرِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِي فِي ذَلِكَ إذَا اسْتَأْذَنْته فِيهَا ، وَأَنَا رَجُلٌ شَابّ ، قَالَ فَلَبِثْنَا بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ فَكَمَلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا ، ثُمّ صَلّيْت الصّبْحَ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا ، عَلَى الْحَالِ الّذِي ذَكَرَ اللّهُ مِنّا ، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْنَا الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيّ نَفْسِي ، وَقَدْ كُنْت ابْتَنَيْت خَيْمَةً فِي ظَهْرِ مَبْلَغٍ فَكُنْت أَكُونُ فِيهَا إذْ سَمِعْت صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَيّ فَهُوَ سَلْعٌ يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ ، أَبْشِرْ قَالَ فَخَرَرْت سَاجِدًا ، وَعَرَفْت أَنْ قَدْ جَاءَ الْفَرَجُ .
قَالَ وَآذَنَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ النّاسَ بِتَوْبَةِ اللّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلّى الْفَجْرَ فَذَهَبَ النّاسُ يُبَشّرُونَنَا ، وَذَهَبَ نَحْوَ صَاحِبَيّ مُبَشّرُونَ وَرَكَضَ رَجُلٌ إلَيّ فَرَسًا . وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ ، حَتّى أَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ فَكَانَ الصّوْتُ أَسْرَعَ مِنْ الْفَرَسِ ، فَلَمّا جَاءَنِي الّذِي سَمِعْت صَوْتَهُ يُبَشّرُنِي ، نَزَعْت ثَوْبِي ، فَكَسَوْتهمَا إيّاهُ بِشَارَةً وَاَللّهِ مَا أَمْلِكُ يَوْمَئِذٍ غَيْرَهُمَا ، وَاسْتَعَرْت ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتهمَا ، ثُمّ انْطَلَقْت أَتَيَمّمُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَتَلَقّانِي النّاسُ يُبَشّرُونَنِي بِالتّوْبَةِ يَقُولُونَ لِيَهْنِكَ تَوْبَةُ اللّهِ عَلَيْك ، حَتّى دَخَلْت الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النّاسُ فَقَامَ إلَيّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ ، فَحَيّانِي وَهَنّانِي ، وَ وَاَللّهِ مَا قَامَ إلَيّ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ . قَالَ فَكَانَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةِ .
قَالَ كَعْبٌ فَلَمّا سَلّمْت عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَالَ لِي ، وَوَجْهُهُ يُبْرِقُ مِنْ السّرُورِ أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرّ عَلَيْك مُنْذُ وَلَدَتْك أُمّك ” ، قَالَ قُلْت : أَمِنْ عِنْدِك يَا رَسُولَ اللّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ؟ قَالَ ” بَلْ مِنْ عِنْدِ اللّهِ .
قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إذَا اسْتَبْشَرَ كَانَ وَجْهُهُ قِطْعَةَ قَمَرٍ . قَالَ وَكُنّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ . قَالَ فَلَمّا جَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ مِنْ تَوْبَتِي إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي ، صَدَقَةً إلَى اللّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَمْسِكْ عَلَيْك بَعْضَ مَالِك ، فَهُوَ خَيْرٌ لَك ” . قَالَ قُلْت : إنّي مُمْسِكٌ سَهْمِي الّذِي بِخَيْبَرِ وَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ اللّهَ قَدْ نَجّانِي بِالصّدْقِ وَإِنّ مِنْ تَوْبَتِي إلَى اللّهِ أَنْ لَا أُحَدّثَ إلّا صِدْقًا مَا حَيِيت وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ النّاسِ أَبْلَاهُ اللّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْت لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِمّا أَبْلَانِي اللّهُ وَاَللّهِ مَا تَعَمّدْت مِنْ كِذْبَةٍ مُنْذُ ذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى يَوْمِي هَذَا ، وَإِنّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللّهُ فِيمَا بَقِيَ .
وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { لَقَدْ تَابَ اللّهُ عَلَى النّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثّلَاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا } إلَى قَوْلِهِ { وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ }( ).
قَالَ كَعْبٌ فَوَاَللّهِ مَا أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيّ نِعْمَةً قَطّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ كَانَتْ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَوْمَئِذٍ أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْته ، فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الّذِينَ كَذَبُوا ، فَإِنّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي الّذِينَ كَذَبُوهُ حِينَ أُنْزِلَ الْوَحْيُ شَرّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ قَالَ { سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنّ اللّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }( ). { وَعَلَى الثّلَاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا } وَلَيْسَ الّذِي ذَكَرَ اللّهُ مِنْ تَخْلِيفِنَا لِتَخَلّفِنَا عَنْ الْغَزْوَةِ وَلَكِنْ لِتَخْلِيفِهِ إيّانَا ، وَإِرْجَائِهِ أَمْرَنَا عَمّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ ( ).
لقد كان المنافقون حاضرين بين ظهراني المسلمين، يقفون معهم في الصلاة، ويخرجون معهم إلى الغزو حتى اذ رأوا أذى أذاعوه وأظهروا الذم والسأم من الأوامر والنواهي التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله وآله وسلم ، وكانوا يطلعون على أفعال المسلمين ويشاركون فيها ويقومون خفية بأخبار الكافرين بها .
لذا تتضمن الآية الكريمة التحذير من إتخاذ المنافقين وليجة وخاصة ، وعن أبي سعيد الخدري (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أعلام المنافق : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمنته خانك) ( ).
ومن إعجاز القرآن فضح وبيان سوء فعل المنافقين وذمهم ، وتحذير المسلمين منهم ، قال تعالى [لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ] ( ).
ومن خصائص المنافقين ونحوهم التقرب والتودد لذوي الشأن من المسلمين للإضرار بالإسلام من منازل البطانة والوليجة ، فجاءت آية البحث لتحذرهم وعموم المسلمين ، كي يكون الزجر عن إتخاذ المنافقين بطانة من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي قوله تعالى [يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ]( ) روي عن عروة : أن رجلاً من الأنصار يقال له الجلاس بن سويد قال ليلة في غزوة تبوك : والله لئن كان ما يقول محمد حقاً لنحن شر من الحمير . فسمعه غلام يقال له عمير بن سعد وكان ربيبه فقال له : أي عم ، تب إلى الله .
وجاء الغلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره ، فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه فجعل يحلف ويقول : والله ما قلت يا رسول الله . فقال الغلام : بلى ، والله لقد قلته فتب إلى الله ، ولولا أن ينزل القرآن فيجعلني معك ما قلته ، فجاء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسكتوا فلا يتحركون إذا نزل الوحي ، فرفع عن النبي فقال { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر } إلى قوله { فإن يتوبوا يك خيراً لهم }( )، فقال : قد قلته وقد عرض الله عليّ التوبة فأنا أتوب ، فقبل ذلك منه ، وقتل له قتيل في الإِسلام فوداه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاه ديته فاستغنى بذلك وكان همَّ أن يلحق بالمشركين ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للغلام : وعت أذنك )( ).
ترى لماذا لم تقل الآية ( لا تتخذوا بطانة من غيركم) بدل من دونكم ، والجواب إرادة النهي عن إتخاذ الأعم بطانة فيشمل :
الأول : الذين كفروا .
الثاني : المنافقون .
الثالث : العبيد والإماء .
الرابع : الزوجة الكتابية على القول بجواز الزواج منها ،وهو المختار .
الخامس : العاملون عند المسلمين من غيرهم .
السادس : الشركاء مع المسلمين في المضاربة والتجارة ، فتكون طول المعاشرة سبباً لإتخاذهم خاصة ، وإصطفائهم بالأسرارء والعزائم والنوايا .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها إبتدأت بنداء الإيمان ثم نهت المسلمين عن إتخاذ بطانة من دونهم ثم بينت صفات هذه البطانة والوليجة على نحو متعدد وهي :
الأولى : إرادة الدخلاء من غير المسلمين والمنافقين والمشركين وغيرهم (عن ابن سعد بن معاذ الأنصاري . أن هذه الآية أنزلت فينا { فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا }( )، خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال : من لي بمن يؤذيني ويجمع لي في بيته من يؤذيني؟ فقام سعد بن معاذ فقال : إن كان منا يا رسول الله قتلناه ، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا فاطعناك . فقام سعد بن عبادة فقال : ما بك يا ابن معاذ طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن عرفت ما هو منك . فقام أسيد بن حضير فقال : إنك يا ابن عبادة منافق تحب المنافقين .
فقال محمد بن مسلمة فقال : اسكتوا أيها الناس ، فإن فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وهو يأمرنا فننفذ لأمره . فأنزل الله { فما لكم في المنافقين فئتين . . . } الآية ) ( ).
الثانية : تثبيت قانون إلى يوم القيامة وهو النهي عن البطانة والخاصة الأدنى مرتبة من المسلمين ، وتدل الآية في مفهومها على التكافؤ بين المسلمين ، وهو من أسرار إبتدائها بنداء الإيمان .
الثالثة : بيان صفات هذه البطانة بما يمنع من اللبس والترديد , ويحصن المسلمين من الجدال والخلاف والخصومة في مسألة البطانة ، فلا يقدر بعض الأمراء أن يتخذ بطانة تضر بالإسلام لأنها تجتهد في الرياء والتزلف له , مع إضرارها بالإسلام والمسلمين ، وحينما يحتجون عليه لا يستمع لهم لأنه يرى ما تظهره هذه البطانة والخاصة من الولاء وبذل الجهد في خدمته ، وهذه الصفات هي :
الأولى : هذه البطانة من دون المسلمين وأقل منهم مرتبة ودرجة، ومن الإعجاز في إبتداء الآية بنداء الإيمان أمور :
أولاً : بيان التساوي بين المسلمين في تلقي خطاب النهي عن الخاصة الأدنى .
ثانياً : دعوة المسلمين إلى التسليم بأن المقصود من البطانة الأدنى ليس المسلم ، وإن كان أدنى مرتبة في التعليم أو الجاه أو النسب والولاء ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ).
ثالثاً : دعوة المسلمين للتعاون والتآزر للإحتراز من إتخاذ بطانة أدنى .
رابعاً : تنبيه المسلمين إلى أن موضوع الخاصة والوليجة من مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن الإعجاز الذاتي للقرآن أن تلاوة آية البحث دعوة سماوية متجددة للمسلمين للإمتناع عن إتخاذ خاصة وأمناء للسر من غيرهم .
وعن أنس بن مالك قال (عن : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : جاءني جبرئيل فقال لي: يا أحمد الاسلام عشرة أسهم وقد خاب من لا سهم له فيها:
أولها شهادة أن لا إله إلا الله وهي الكلمة . والثانية الصلاة وهي الطهر،
والثالثة الزكاة وهي الفطرة، والرابعة الصوم وهي الجنة، والخامسة الحج وهي الشريعة،
والسادسة الجهاد وهو العز، والسابعة الامر بالمعروف وهو الوفاء، والثامنة النهي عن المنكر وهو الحجة، والتاسعة الجماعة وهي الالفة، والعاشرة الطاعة وهي العصمة. قال:
قال حبيبي جبرئيل، إن مثل هذا الدين كمثل شجرة ثابتة، (1) الايمان أصلها، والصلاة
عروقها، والزكاة ماؤها، والصوم سعفها، وحسن الخلق ورقها، والكف عن المحارم ثمرها،
فلا تكمل شجرة إلا بالثمر، كذلك الايمان لا يكمل إلا بالكف عن المحارم .) ( ).
خامساً : تفضل الله عز وجل بنهي المسلمين عن إتخاذ بطانة من غيرهم شكرا لهم على الهداية إلى الإسلام .
سادساً : لما إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض بقوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) أجابهم الله عز وجل بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علمه تعالى أنه يحجب المسلمين عن إتخاذ بطانة أدنى منهم .
وهل حجب الله البطانة السيئة من الوصول إلى منازل القرار عند حكام المسلمين ، الجواب نعم .
وآية البحث من مصاديق هذا الحجب إذ تبعث اليأس في نفوسهم من بلوغ مرتبة الخاصة عند المسلمين ، فلا يسعون في الوصول إلى مرتبة الخاصة عند المسلمين ، وهو من عمومات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ) ومن مصاديق نداء الإيمان في المقام أن فيه غنى عن البطانة من الأدنى من المسلمين .
وهو مقدمة لإتخاذ الحكمة لباساً ، ويكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا إتخذوا بطانة من بينكم .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا يشترط في بطانتكم الإيمان .
وإذ تنهى الآية المسلمين عن إتخاذ بطانة من دونهم ، فهل تنهى المسلمين عن صيرورتهم بطانة لغيرهم ، الجواب لا ، وتتضمن الآية في مفهومها دعوة الناس لإتخاذ المسلم خاصة ووليجة وتقريبه بالمشورة والرأي .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا تعاهدوا الإيمان باجتناب إتخاذ بطانة من غيركم .
وفي قوله تعالى [مِنْ دُونِكُمْ] وجوه :
أولاً : إكرام المسلمين وبيان مصداق لقوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ثانياً : بعث النفرة في نفوس المسلمين من إتخاذ وليجة من أهل الملل الأخرى .
ثالثاً : من إعجاز القرآن تضمن ذات النهي علته ، فالأصل هو النصر والمغايرة بين الفعل وعلته بلحاظ أنه معلول لعلة ولكن آية البحث ذكرت علة النهي في ذات النهي لتقول للمسلمين كيف يكون من هو دونكم وليجة وخاصة لكم ، وهو متخلف عنكم في الإيمان والبصيرة .
رابعاً : تتضمن آية البحث البشارة للمسلمين بالسعة في الرزق والولاية والحكم وصيرورة بعضهم أمراء وحكاماً وحاجتهم إلى البطانة ، أو رغبتهم فيها ، فجاءت الآية مقدمة لسلامة المسلمين من مكر المنافقين ونحوهم .
وإرادة السعة هذه لا تمنع من إطلاق الآية إذ يميل الإنسان بطبعه لإتخاذ خاصة ووليجة وصاحب يفشي له سره ويطلعه على آماله ويشكو له همومه .
لقد أثنى الله عز وجل على المسلمين ونعتهم بأنهم أصحاب العقول ، قال تعالى في خطاب للمسلمين [ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ) وقال [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ) لبيان أن البطانة الصالحة عون للمسلمين في إيمانهم وصلاحهم وسعيهم إلى اللبث الدائم في الجنان .
خامساً : قد يخشى جيل من المسلمين من إلحاق الأذى بالإسلام في أجيال لاحقة ، ويخافون على أولادهم في دينهم وأنفسهم ، فجاء قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ] ( ) بشارة إستدامة رفعة وعز المسلمين في كل زمان .
فحالما يطل على الأرض جيل من المسلمين فان آية البحث تشرق عليهم بما يبعث السكينة في نفوسهم ، ليكون من خصائص آية البحث إذهاب الحزن عن المسلمين من جهات :
الأولى : خصوص الأجيال السابقة من المسلمين إبتداء من أيام النبوة والصحابة .
الثانية : إبتلاء الأحياء من المسلمين بالسكينة والطمأنينة لأنهم هم الأعلى بين الناس ، قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
الثالثة : عدم الخشية أو الخوف على الأجيال اللاحقة من المسلمين ، ليكون من معاني قوله تعالى [فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) .
عدم الخوف في الآية على الإيمان الذاتي ، وعلى إيمان الأولاد والذرية ، فلا يتخذون بطانة من دونهم تسبب زلل الأقدام .
الرابعة : عدم الحزن على الآباء والمسلمين الأوائل إذ أنهم تقيدوا بمضامين آية البحث وإجتنبوا إتخاذ غيرهم وليجة وخاصة ، وما فيه من طاعة لله عز وجل .
الخامسة : الأمن والنجاة يوم القيامة من العذاب الذي يترشح عن إتخاذ المنافقين والكافرين وليجة ، وما يأمرون به من أسباب الضلالة والغواية لذا قال تعالى في آية البحث [لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] أي لا يقصرون في طلب خبالكم .
والخبال : الفساد والإرباك وإختلال الأمور ، وسوء التصرف ومخالفة الفطرة وموازين العقل .
ومن الإعجاز في نظم القرآن عدم ورود لفظ [خَبَالاً] في القرآن إلا مرتين ، إذ ورد مرة أخرى بقوله تعالى [لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ] ( ) لبيان أن آية البحث تحذر من المنافقين .
ومن إتخاذهم خاصة ، وإصفياء ، إذ أنهم يسعون في فتنة المسلمين ، وذكرت الآية أعلاه [وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ] .
فهل يعني هذا أن فريقاً من المسلمين إتخذوا المنافقين وليجة وبطانة ، الجواب لا .
ونزلت الآية أعلاه بخصوص غزوة تبوك وتخلف عدد من المنافقين عنها (عن الحسن البصري قال : كان عبد الله بن أبي ، وعبد الله بن نبتل ، ورفاعة بن زيد بن تابوت ، من عظماء المنافقين وكانوا ممن يكيد الإِسلام وأهله ، وفيهم أنزل الله تعالى { لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور } إلى آخر الآية) ( ) والآية أعم في موضوعها .
إنما جاءت آية البحث والنهي عن إتخاذ المسلمين بطانة من دونهم لأمور :
الأول : التحذير من إستمرار الإستماع إلى المنافقين .
الثاني : إرادة مناجاة المسلمين فيما بينهم وعدم الإنصات إلى أقوال المنافقين لأنها تبنى على المكر وتنطوي على الشر لصدورها عن خبث سريرة .
الثالث : تفقه المسلمين في الدين وإدراك قبح الإنصات للكفار والمنافقين فيما يدّعون لأنهم يبثون لغة الشك والريب .
الرابع : بعث الخوف والفزع في قلوب المنافقين لأن الله عز وجل نهى المسلمين عن إتخاذهم بطانة وخاصة ، قال تعالى [يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ] ( ).
الخامس : يفيد الجمع بين الآيتين حجب مقدمات إتخاذ المنافقين والكفار بطانة ، إذ أن الإستماع لهم مقدمة لإتخاذهم خاصة ووليجة والمراد من قوله تعالى [سَمَّاعُونَ لَهُمْ] على وجوه :
الأول : الإصغاء لما يقول المنافقون .
الثاني : الإستماع للمنافقين في حسابهم وظنهم في الوقائع ومستقبل الأيام ،وينبع هذا الظن من نفوس تبطن الكفر والضلالة ، فقد يكون هذا الظن مرآة لما يبطنون ، فورد قوله تعالى [وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ] لنهي المسلمين من مخالطة الكفار والمنافقين والإستماع لهم بخصوص الوقائع والأحداث , فمن عادتهم بث روح الهزيمة وإرادة الضعف والهوان ، وهو يتعارض مع خصائص المسلمين من حال العز والشأن وعدم الخشية من الله عز وجل .
لقد كانت علة خروج آدم وحواء من الجنة أكلهما من شجرة نهاهما الله عز وجل عنهما ، كما في قوله تعالى [آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ) ووقع هذا الأكل لوسوسة من إبليس وإغراء له بالخلود وكان آدم يأمن سكن نفسه لكل أحد من سكان الجنة فأطمأن لإبليس في دعواه النصيحة .
شفاعة القرآن
لقد جعل الله عز وجل الآية القرآنية مدرسة في التقوى من جهات :
الأولى : من العلة الغائية لنزول الآية القرآنية أنها سبب وطريق للتقوى .
الثانية : تجذب الآية القرآنية التالي والسامع لها إلى منازل التقوى لما فيها من البشارة والإنذار .
الثالثة : إدراك المسلمين لوجود الآية القرآنية بين ظهرانيهم في الليل والنهار ، فلم تفز أمة بصاحب مثل فوز المسلمين بصحبة آيات القرآن لهم ، وتأتي الصحبة بمعنى الرفقة والإقتران والملازمة وطول المصاحبة .
وورد عن يوسف عليه السلام [يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ] ( ) لبيان أن الصحبة قد تكون بلحاظ المكان أو الزمان . وصحبة القرآن سعادة وسكينة وهداية وتتصل بالإطلاق والشمول إذ أنها صحبة مكانية وزمانية غير منقطعة ولا تستطيع الخلائق أن تفصل بين المسلم والقرآن .
وعن ابن عباس (قال: ” سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال: “الحال المرتحل”. قال: يا رسول الله، ما الحال المرتحل؟ قال: “صاحب القرآن يضرب في أوله حتى يبلغ آخره، وفي آخره حتى يبلغ أوله) ( ).
والآية القرآنية بطانة كريمة وفيها نجاة من الحسرة في الدنيا ، ومن خصائص صحبة القرآن أنه مانع في القبر من عذابه ، لذا سميت سورة الملك بالمانعة وللقرآن موضوعية في الشفاعة يوم القيامة من وجوه :
أولاً : شفاعة القرآن لقرائه وحفظته ، وعن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إقرؤا القرآن فانه يأتي مشفعاً لأصحابه ( ).
ثانياً : سلامة اهل القرآن من عذاب النار ، ليكون الإخبار عن هذه السلامة بشارة في الدنيا ، وسكينة في الآخرة (عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” لو أن القرآن جُعِل في إهابٍ ثم ألقي في النار ما احترق “)( ).
والإهاب : جلد الحيوان قبل أن يدبغ ، أي أن المسلم الذي يقرأ القرآن لا تمس جسده النار ، وفيه ترغيب بحفظ آيات القرآن والحرص على عدم نسيانها أو التفريط بحفظها لأنها خزينة ، وثروة ، وتركة تنفع صاحبها في النشأتين .
ثالثاً : شفاعة أهل القرآن لغيرهم يوم القيامة ، إذ تترشح بركات القرآن على حملته في الآخرة , وتتجلى لأهل المحشر المنافع العظيمة للقرآن ، وبما يبعث الحسرة في نفوس الكافرين لصدودهم عن كلام الله وإعراضهم عنه .
وعن الإمام علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قرأ القرآن فحفظه واستظهره أدخله الله الجنة ، وشفعه في عشرة من أهل بيته ، كلهم قد وجبت لهم النار ).
ليكون من معاني الحديث دعوة المسلمين إلى الترغيب بتلاوة القرآن داخل البيوت لأن عمارتها بتلاوته في الليل والنهار سبيل كريم لنجاتهم يوم القيامة , ويتمنى كل إنسان يوم القيامة أن ينعم عليه الله عز وجل بمن يشفع له وينجيه من أهوال يوم القيامة وعذاب النار ، وإذا يأذن الله عز وجل له بالشفاعة المتعددة وفي أهل بيته بالذات سواء أعانوه على قراءة القرآن ، وهيأوا له مقدمات تلاوته وتدارسه وحفظه أو لا ، إذ يخبر الحديث في ظاهره بأنهم حتى لو كانوا من أصحاب الكبائر لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : كلهم قد وجبت لهم النار).
رابعاً :إكرام الله عز وجل للقرآن بارتقاء صاحبه وحامله في منازل الجنة يوم القيامة ، لبيان أن كل مرة يتلو فيها المسلم القرآن يكسب ربحاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ] ( ).
و( عن بريدة قال: كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: ” تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة ” . قال: ثم سكت ساعة، ثم قال: ” تعلموا سورة البقرة، وآل عمران، فإنهما الزهراوان، يُظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو فرْقان من طير صَوافّ .
وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك. فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك ، وإن كل تاجر من وراء تجارته ، وإنك اليوم من وراء كل تجارة .
فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين، لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟ .
فيقال: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال: اقرأ واصعد في دَرَج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هَذًّا كان أو ترتيلا) ( ).
وحينما يتلو المسلم القرآن في الصلاة هل يكون من حملة القرآن ويفوز بشفاعة القرآن له يوم القيامة أم لابد من القراءة والحفظ خارج الصلاة بلحاظ أن القراءة في الصلاة واجب عيني على كل مسلم ومسلمة .
الجواب هو الأول ، لتكون الصلاة اليومية من المصاديق الخاصة لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) فيؤدي المسلم الصلاة إمتثالاً لأمر الله وقوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] ( ).
ليجعل الله عز وجل يوم القيامة مشفوعاً له وشافعاً وفيه ترغيب بالصلاة وبيان قانون من الإرادة التكوينية ، وهو مصاحبة الثواب لكل أمر من الله وإمتثال له ، وكذا يأتي الثواب عند طاعة الله في إجتناب ما نهى عنه سبحانه، ولا يختص هذا الثواب بعالم الآخرة بل يشمل الحياة الدنيا .
وهل يشفع القرآن للمسلم في الدنيا ، الجواب نعم , إن الله عز وجل يكرم قارئ القرآن في الدنيا ، ويدفع عنه أسباب الأذى والضرر ، لأن القرآن واقية منها ، وهذه الوقاية من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( )أي الأصوب والطريقة المثلى سواء فيما يخص الذات أو الغير لذا ورد عن (أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : من جمع القرآن متعه الله بعقله حتى يموت) ( ).
والقدر المتيقن من شفاعة القرآن هو عالم الآخرة من حين مغادرة الروح الجسد ، وإدخال الميت عالم القبر بدليل ما ورد عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : (اقرؤا القرآن فانه يجئى يوم القيامة شفيعا لاصحابه) ( ).
وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة لا يألونكم خبالاً) .
أي لا يقصرون في بعث الفتنة بين المسلمين، والسعي في إزاحة النفرة من الفساد , فأبى الله عز وجل إلا تثبيت هذه النفرة في نفوس المسلمين، ونداء الإيمان وتكراره في القرآن من مصاديق هذا التثبيت والإستدامة ليترشح عنه تهذيب المنطق، وسلامة إختيار الفعل بالصدور عن القرآن والسنة .
ولا يألون أي لايقصرون كما في قول زهير بن أبي سلمى المزني :
سَعَى بَعْدَهُمْ قَوْم لِكَيْ يُدْرِكُوهُم … فلم يفعلوا ولم يُلِيمُوا ولم يَأْلُوا( ).
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ودوا ما عنتم ) أي يريدون لكم المشقة والعناء ومن غير أن تتخذوهم بطانة، فاذا صاروا خاصة ووليجة بثوا سمومهم .
وروى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً ) فسره الحسن بن أبي الحسن ، فقال أراد عليه السلام ، لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم ولا تنقشوا في خواتيمكم (محمداً)( ).
بدليل مجئ الآية بصيغة الفعل الماضي (ودوا ماعنتم) بينما جاءت الجملة التي قبلها بصيغة المضارع، لا يألونكم، لبيان أن قصد الخبال والفساد يظهر عند إتخاذهم بطانة ومشاركتهم في العزائم والنوايا .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة قد بدت البغضاء من أفواههم) أي تظهر الكراهية لمبادئ الإسلام، وأداء الفرائض على فلتات ألسنتهم، كما قال تعالى[وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ]( ).
ولم تذكر الآية متعلق البغضاء لتفيد الإطلاق فتشمل بغضهم للنبوة والتنزيل والإسلام والدعوة إلى الله .
ومن وجوه تقدير الآية : قد بدت البغضاء من أفواههم لكم كمسلمين).
الرابع : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ما تخفي صدورهم أكبر وأشد من البغضاء لكم) .
وظاهر الآية العطف بين صفات البطانة المنهي عنها، وإن لم يأت حرف العطف (الواو) ونحوه بينها، ويستقرأ العطف بين صفات البطانة من نظم وسياق الآية، كما في قوله تعالى[فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لاَ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ]( ).
وفي الآية إنذار للمسلمين من اتخاذهم الذين دونهم بطانة، وبيان أن آية البحث رحمة وخير محض .
وتحتمل الآية وجهين :
الأول : إشتراط إجتماع الصفات التي تذكرها الآية في النهي عن هذه البطانة .
الثاني : كفاية صفة واحدة مما ورد في الآية , وهي :
الأولى : من دونكم .
الثانية : لا يألونكم خبالاً، ولا يقصرون في فتنتكم.
الثالثة : ودوا ما عنتم وتمنوا لكم المشقة والعناء .
الرابعة : ظهور معاني البغضاء على ألسنتهم .
الخامسة : إضمارهم الحسد والعداوة للمسلمين.
والفارق بين الوجهين في المقام صغروي، إذ أن الآية تنهى عن طائفة من الناس تتصف بهذه الصفات.
ويكفي بيان وظهور صفة واحدة منها مع إحتمال الصفات الأخرى، إذ أن مضامين الآية من عالم الغيب من جهات مثل سعيهم في إضطراب وإرباك المسلمين بد توليهم مقام الوليجة والبطانة، ولا يعلم ما تخفيه صدورهم إلا الله، قال تعالى[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ).