المقدمــــة
الحمد لله الذي خلق كل شيء ، وجعل أمور الخلائق كلها بيده رحمة ورأفة بها .
الحمد لله الذي بمشيئته تقوم السموات والأرض وينتظم الكون ، وتجري الشمس والقمر وتمر علينا الرياح وينزل الغيث . فنستحضر في الوجود الذهني آيات القرآن التي تبين فرائد الإعجاز في اللامتناهي من آيات النعم الكونية
الحمد لله الذي جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )، ليشكره الناس تعالى على هذه النعمة بذاتها وعلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبما سخر سبحانه للناس من النعم العظيمة التي يعجز الناس عن إحصائها وإن إجتمعوا .
ومن أسرار هذه النعم أنها عامة وخاصة ، وفي كل زمان هناك نعم على أهله لم يرها غيرهم من أهل الدنيا ، وهناك نعم على أي إنسان لا تكون عند غيره يعرفه بها الملكان الحافظان، كما يحدد شخصه في العلوم المختبرية ببصمة اليد والعين والحامض النووي ونحوها.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، ويتوالى الفضل والإحسان منه تعالى ، الحمد لله الذي جعل كل آية من القرآن نعمة متجددة في كل زمان وليس بينها وبين الناس من برزخ أو حاجب ، وهو من خصائص خلافة الإنسان في الأرض بأن جعل الله عز وجل كلامه يصل إلى كل إنسان ذكراً أو أنثى ، وهل هو من الشواهد على تكليف الكفار بالفروع كتكليفهم بالأصول , الجواب نعم .
والآية القرآنية نعمة من جهات :
الأولى : نزول الآية القرآنية من عند الله عز وجل .
الثانية : قيام جبرئيل وهو من رؤساء الملائكة بتنزيل الآية القرآنية .
الثالثة : إختصاص نزول الآية القرآنية بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو سيد الأنبياء فلم ولن ينزل القرآن على غيره من البشر .
الرابعة : نزول القرآن نجوماً ومتفرقاً فيحاط أهل السماء علماً بنزول الآية القرآنية بعد إنتظار طويل، ويمتلئون غبطة بنزولها .
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله عز وجل إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاء، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبرائيل (عليه السلام) ( ).
الخامسة : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما ينزل من القرآن على أهل بيته وأصحابه وقيامهم بحفظ الآيات وتدوينها في ثلاث وعشرين سنة ليتدبر الناس في معانيه، ويتعظوا من أسباب نزوله التي تبقى حاضرة عند المسلمين إلى يوم القيامة , قال تعالى[وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً]( ).
السادسة : تلاوة المسلمين آيات القرآن في الصلاة اليومية الخمسة على نحو الوجوب العيني على كل مسلم ومسلمة إلا في حال صلاة الجماعة فيتولى الإمام القراءة عن المأمومين.
وقيل في الفلسفة ما من عام إلا وقد خصّ ، ولكنه ليس من قاعدة كلية في المشيئة الإلهية وفي العبادات والمستحبات ، والأوامر والنواهي ، فليس من صلاة تكون خالية من قراءة القرآن , إذ أراد الله عز وجل بالصلاة حفظ القرآن وسلامته من التحريف ، وكذا العكس بأن يحفظ الله عز وجل الصلاة بتلاوة القرآن ، ولا يستلزم الأمر الدور بينهما لأن الحافظ هو الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
فلا يعلم ما في الصلاة والتلاوة من أسباب الحفظ وكيفيته المثلى إلا الله عز وجل ومن مضامين هذا الجزء المبارك من التفسير وهو الأربعون بعد المائة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) ويبدأ بموضوعية نداء الإيمان قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا] ( ) فليس من إستثناء من الطرفين:
الأول : تلقي جميع الذين آمنوا لنداء الإيمان .
الثاني : شمول النساء جميعاً بالسلامة من صيرورتهن إرثاً ، فليس من إستثناء أو تخصيص في الآية , وإذا أعطى الله سبحانه يعطي بالأتم والأحسن والأكمل .
ومن أسرار العموم وعدم الإستثناء في أحكام آية البحث قطع السبيل أمام الإجتهاد المخالف للنص , وقصد الإنتقاء وإرادة التمييز في الأحكام ، ومنع العلماء من إيجاد عذر لبعض الملوك والرؤساء والأغنياء في الإستثناء من أحكام الآية ، ليكون الإطلاق في أحكامها رحمة بالمسلمين عامة وبالمسلمات خاصة وإلى يوم القيامة .
السابعة : الآية القرآنية نعمة في موضوعها ومنهاجها وأحكامها ، ويمكن تأسيس قانون وهو كل آية قرآنية فيها أحكام، إن لم تكن في منطوقها ففي مفهومها والعلوم المستقرأة منها .
الثامنة : إعجاز الآية القرآنية في بلاغتها نعمة ورحمة وسبيل هداية للناس وبناء قواعد الإسلام في مكة والمدينة وأطراف الجزيرة ، وسر يبعث على زيادة الإيمان في كل زمان.
ومن علوم القرآن بلاغته ، وتؤلف المجلدات بخصوص بلاغة القرآن ، ولكن فيه بلحاظ الآية القرآنية الواحدة وجوه محتملة:
الأول : موضوع الإعجاز البلاغي للقرآن هو إجتماع آيات القرآن .
الثاني : كل آية قرآنية معجزة بلاغية في ذاتها .
الثالث : بعض آيات القرآن معجزات بلاغية، وبعضها ليس فيها إعجاز بلاغي.
الرابع : تحقق مصداق الإعجاز البلاغي للقرآن بالجمع بين كل عدد مخصوص من آيات القرآن بحسب الجوار بينها، ووحدة سنخية الموضوع أو الحكم .
وباستثناء الوجه الثالث أعلاه فان الوجوه الأخرى من مصاديق الآية بالإضافة إلى أن كل شطر منها معجزة ، وكذلك يترشح عن جمعها مع غيرها من آيات القرآن معجزة بلاغية أخرى ، وهو نعمة عظمى على المسلمين والناس.
وقد أسسنا في هذا التفسير المبارك علم سياق الآيات والصلة بين الآية القرآنية والآيات القرآنية الأخرى ، وبدأت بصلة الآية بالآيات المجاورة لها .
ومن تجليات الإعجاز في المقام صدور أجزاء من هذا التفسير خاصة بالصلة بين شطر من آية بشطر من الآية المجاورة لها ( ).
لبيان الإعجاز في كل جزء من الآية القرآنية ثم الإعجاز بصلة مع جزء من آية أخرى ، وتأكيد حقيقة وهي أن علوم القرآن من اللامتناهي ، وهي آية نشكر لله عز وجل عليها ، وأدعو المسلمين والمسلمات إلى شكر الله عز وجل على هذه النعمة العظمى بالإظهار الإجمالي للإعجاز في كلمات الآية القرآنية , ونسأل الله أن يقوم العلماء بالأجيال التالية بإثارة العلوم من قانون سياق الآيات .
الحمد لله على هذه النعمة التي تأتي من تأسيس متجدد لعلوم بلاغية وعقائدية وكلامية من القرآن .
لقد جاء هذا الجزء والأجزاء الخمسة السابقة خاصة بتفسير نداء الإيمان الذي ورد في القرآن تسعاً وثمانين مرة ، وهو [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]، ومع ورود لفظ النداء في الآية مطلقاً من جهة الإيمان ، فلم يذكر متعلق الإيمان إلا أنه ينصرف إلى المسلمين والمسلمات الذين آمنوا بالله ورسوله ، والمراد الإيمان بالله وأن له الربوبية المطلقة ولا معبود سواه ، قال تعالى [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا]( ).
وفي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل عن الإيمان قال (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وتؤمن بالجنة والنار والميزان ، وتؤمن بالبعث بعد الموت ، وتؤمن بالقدر خيره وشره) ( ).
الحمد لله الذي جعل نداء الإيمان حرزاً سماوياً مصاحباً للمسلمين والمسلمات مجتمعين ومتفرقين، يحق لهم الإفتخار به وإستحضاره في الوجود الذهني والواقع العملي، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ويحتمل وجوهاً:
الأول : بلوغ المسلمين مراتب (خير أمة) ( ) بنداء الإيمان.
الثاني : نداء الإيمان مقدمة لإستدامة بقاء المسلمين في مرتبة (خير أمة) بين الناس.
الثالث : خروج المسلمين للناس بنداء الإيمان.
الرابع : نداء الإيمان من رشحات بلوغ المسلمين مرتبة (خير أمة) وصدق إيمانهم وقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، والأصل أن نداء الإيمان فضل من عند الله عز وجل، ونعمة على أهل الأرض عامة والمسلمين خاصة، وهو باب لدفع البلاء والآفات السماوية والأرضية عن الناس، قال تعالى[وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا]( ).
وكل آية قرآنية رحمة من عند الله بالناس في نزولها ورسمها وصبغة القرآنية التي تتصف بها، وتلاوة المسلمين لها، لذا فإن علم التفسير نوع مرآة لبيان علوم القرآن، وسؤال عملي ورجاء لرحمة الله وجلب الحسنات بصحبة القرآن والذخائر العلمية فيه، ونزول الآية القرآنية من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فيما تفضل به من الإحتجاج على الملائكة.
الحمد لله الذي جعل قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] شهادة من عنده لكل مسلم ومسلمة، يعلم بها أهل السموات والأرض، وهو من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض بأن تتقوم هذه الخلافة بالإيمان، وشهادة الله عز وجل للمسلمين بالإيمان التي تدل على رضاه عنهم، وهو أعظم الغنى في الدنيا ليكون من معاني[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] أي (أغنى أمة أخرجت للناس) بلباس التقوى.
وهل يملي نداء الإيمان على المسلمين التحلي بخصال الصلاح والإصلاح الجواب نعم، إذ تتجلى إرادة الصلاح من نعتهم بأنهم(خير أمة) ويستقرأ قصد الإصلاح بخروجهم للناس بالهدى , والعصمة من الضلالة والفسوق.
اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وإرزقنا إتباع هدي ونهج النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى[ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
اللهم لك الحمد أن جعلت الإيمان بنبوته مقترناً بالإيمان بوجوب العبودية المطلقة لك، وجاءت مرتبة النبوة متعقبة لتحلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإخلاص العبودية لله عز وجل .
وعن عطاء قال : وبينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُعلم التشهد فقال رجل وأشهد أن محمدا رسوله وعبده , فقال النبي صلى الله عليه و سلم قد كنت عبدا قبل أن أكون رسولا.
قل وأشهد أن محمداً عبده ورسوله( ).
وليس من حصر للنعم ومصاديق الرحمة التي جاءت بها نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي متجددة إلى يوم القيامة ، ومنها كنز نداء الإيمان الذي ينهل منه المسلمون معاني التقوى والصلاح ، ولا يعلم عدد الذين إنتفعوا من قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إلا الله عز وجل.
وتقع مصاديق هذا الإنتفاع في كل ساعة من ساعات الحياة الدنيا ، ويتغشى أقطار الأرض كلها ، ومنه هذا الجزء من التفسير، وما فيه من الفرائد الكلامية والعلمية المستقرأة من ذات نداء الإيمان في معناه ودلالته وموضوعيته في ذات الآيات التي إبتدأت به ، وعددها ثمان وثمانون آية .
وقد إختص هذا الجزء ببيان موضوعية نداء الإيمان في تفسير آيتين هما :
الأولى : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ…]الآية ( ).
وهي أول آية من سورة النساء يرد فيها نداء الإيمان ، وتسمى سورة النساء بسورة الفرائض , كما تسمى سورة الطلاق بسورة النساء الصغرى .
الثانية : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ…]الآية( ).
ومن خصائص القرآن حضوره يوم القيامة , وهذا الحضور على وجوه :
الأول : الشهادة للمسلمين والمسلمات بالتصديق به وبنزوله من عند الله ويتبادر إلى الذهن أن الشهادة في المعاملات خاصة بالناس كما في قوله تعالى [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ] ( ) أما يوم القيامة فيشهد للمؤمنين الملائكة والتنزيل والأمكنة وأفراد الزمان ، وفيه بعث لفعل الصالحات .
الثاني : الشهادة للمسلمين والمسلمات بأداء الصلاة اليومية وتلاوة آيات القرآن في الصلاة .
وهل ثواب المسلم الأعجمي الذي يتعلم قراءة القرآن أكثر من ثواب العربي الذي يتقن اللغة، أم أن ثوابهما واحد في المقام، أم أن ثواب العربي هو الأكثر .
الجواب ليس من مقارنة في المقام لأن كلاً منهما يضاعف الله عز وجل له الحسنات أضعافاً كثيرة فحد هذه المقارنة القصور الذهني عند الإنسان ، وفضل الله أعم وأكبر من ألا تحيط به العقول أو أن يدرك كنهه الناس وإن إجتمعوا ، فليس لطرف الكثرة حد أو منتهى.
الثالث : صيرورة القرآن سبيلاً لنيل المراتب العالية في الآخرة بفضل من الله عز وجل.
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِى الدُّنْيَا فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا) ( ).
ويتلو المسلم آيات القرآن على نحو متكرر ومتعدد فيعيش أيام حياته وهو يقرأ سورة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة اليومية، وسورة الفاتحة سبع آيات فهل يرتقي المسلم سبع مرات لتلاوته لسورة الفاتحة أم يرتقي بعدد مرات قراءة هذه السورة ، الجواب هو الثاني .
وفيه نكتة وهي أن إرتقاء المسلم متصل ومتجدد بسلالم ودرجات لا يحصي عددها إلا الله عز وجل ، فان قلت قد يستطيع المسلم حساب عدد آيات الفاتحة التي تلاها في الصلاة بحساب سني عمره وإسقاط سني ما قبل التكليف وأدائه الصلاة ، ثم يضربها بعدد أيام السنة وهي (365) يوماً فيتبين له المجموع.
والجواب هذا صحيح , ولكن تلاوة المسلم لآيات سورة الفاتحة أعم من أن يختص بصلاة الفريضة إذ يشمل :
الأول : قراءة سورة الفاتحة في صلاة النافلة .
الثاني : تعلم سورة الفاتحة في الصغر وفي المدرسة .
الثالث : تلاوة سورة الفاتحة في صلاة النوافل .
الرابع : قراءة المسلم والمسلمة لسورة الفاتحة خارج الصلاة .
وقد تقدم مبحث أيهما أكثر قراءة المسلمين للقرآن في الصلاة أم خارجها ، والمختار أن قراءتهم للقرآن في الصلاة هو الأكثر ( ).
الخامس : إنصات المسلم لقراءة الإمام في صلاة الجماعة , ولو قرأ الإمام إخفاتاً كما في صلاة الظهر والعصر فهل يكتب للمأموم ذات الثواب ويكون موضوعاً ومرتبة في الإرتقاء يوم القيامة كما في الحديث النبوي أعلاه .
الجواب نعم ، وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين باحتساب ذات الصالحات بالأصالة والنيابة الشرعية , وقبل ان تأتيها مضاعفة الأجر والحسنات .
السادس : مجئ الأجر والثواب للميت بسبب قراءة الحي لسورة الفاتحة إهداء أو بسبب البنوة والنسب .
( مرّ عيسى إبن مريم عليه السلام على قبر فرأى ملائكة العذاب يعذبون ميتاً ، فلما إنصرف من حاجته مرّ على القبر فرأى ملائكة الرحمة معهم أطباق من نور ، فتعجب من ذلك ، فصلى ودعا الله تعالى فأوحى الله تعالى إليه : يا عيسى ، كان هذا العبد عاصياً ومذ مات كان محبوساً في عذابي ، وكان قد ترك امرأة حبلى فولدت ولداً وربته حتى كبر ، فسلمته إلى الكتاب فلقنه المعلم بسم الله الرحمن الرحيم ، فاستحيت من عبدي أن أعذبه بناري في بطن الأرض وولده يذكر اسمي على وجه الأرض ( ).
السابع : قيام المسلم بتعليم غيره سورة الفاتحة.
الثامن : كتابة وتدوين المسلم لسورة الفاتحة .
ترى ما هي درجات الإرتقاء في الجنة التي تأتي بسبب نداء الإيمان ، الجواب من وجوه :
الأول : تلاوة نداء الإيمان ، وصحيح أن الحديث النبوي أعلاه ذكر الآية القرآنية، والمتبادر هو قراءة المسلم لتمام الآية إلا أنه لا يمنع من إرادة شطر الآية وخصوص نداء الإيمان ، بإطلاق الكل وإرادة الجزء , وسعة فضل الله .
وقد ورد ذكر لفظ القرآن والمراد منه الخصوص والجزء منه (عن أبي الدرداء قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { إن قرآن الفجر كان مشهوداً}( )، قال : يشهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار ) ( ).
ويأتي الأجر من عند الله بالمعنى الأعم والأوسع ، حتى في باب القراءة ، فيأتي الثواب على قراءة كل حرف منه .
و (عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ حرفاً من القرآن كتب الله له به حسنة . لا أقول {بسم الله } ولكن باء ، وسين ، وميم ، ولا أقول {الم}( )، ولكن الألف ، واللام ، والميم) ( ).
الثاني : تلقي المسلم نداء الإيمان إرثاً كريماً من والديه، وممن سبقه في الإيمان وهو أعظم ميراث وسبب مبارك لتعاهد ونماء ميراث المال.
الثالث : تعاهد المسلم لنداء الإيمان والإقرار بأنه تنزيل من رب العالمين.
الرابع : العمل بمعاني ومفاهيم نداء الإيمان فقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] مدرسة كلامية وأخلاقية وتأديب للمسلمين والمسلمات , ودعوة لهم ليكونوا بالمراتب العالية التي خصّهم الله عز وجل بها إذ شهد لهم مجتمعين ومتفرقين بالإيمان والهدى.
الخامس : عمل المسلمين بمعاني ودلالات نداء الإيمان، وصدور المسلم عن هذا النداء في العبادات والمعاملات فمثلاً يترقب المسلمون هلال شهر رمضان كل عام بشوق وعناية خاصة للبدء بأداء فريضة الصيام لقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ…]( )، ويكرم المسلمون زوجة المتوفى منهم، ويعطونها حقها في الميراث، ولا يضيقون عليها لأن الله عز وجل حذرهم، وقال[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ]( )، ليصير نداء الإيمان ضابطة سماوية للصلات بين المسلمين، وتبتنى وفق قواعد سماوية ثابتة الى يوم القيامة
ومن أسرار هذه أجزاء نداء الإيمان هذه أنها ليست تفسيراً تاماً وفق منهجيتنا لذات الآية القرآنية كما في تفسير آيات سورة البقرة وشطر من آل عمران التي جاءت الأجزاء المائة والإثنان والثلاثون الأولى بتفسيرها .
إنما تبين هذه الأجزاء موضوعية نداء الإيمان وهو [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] في مضامين الآية التي ورد فاتحة لها ، وأسرار بعثة المسلمين للعمل بها ، والأمتثال للأوامر والنواهي التي ترد فيها .
وتسمى الواجبات العبادية الفرائض والتكاليف لما فيها من المشقة في الأداء وإنتظار أوقاتها والصبر عليها ، والتكليف هو إلزام فيه مشقة وصعوبة .
ولا يخلو نعت الواجبات العبادية بالتكاليف من إشكال ، إذ أن كل واجب عبادي رحمة وما أن يقدم العبد على أدائه بقصد القربة إلى الله عز وجل حتى يجد فيه اللذة ويلمس منه شآبيب العز وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، أي أن المؤمنين ينالون مرتبة العزة والرفعة بأداء العبادات.
(عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : يصبح على كل سُلامى( )، من أحدكم صدقة ، فكل تسبيحه صدقة، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهي عن المنكر صدقة ، ويجزىء من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى.
وأخرج البزار وأبو يعلى عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : على كل ميسم من الإِنسان صدقة كل يوم . فقال بعض القوم : إن هذا لشديد يا رسول الله ومن يطيق هذا؟ قال: أمر بالمعروف ونهي عن المنكر صدقة ، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة ، وإن حملك على الضعيف صدقة ، وإن كل خطوة يخطوها أحدكم إلى الصلاة صدقة) ( ).
وقد يقال في أداء الفرائض مشقة، والجواب إنها أفعال عبادية واجبة على الإنسان ، وما يقترن بها من الأنس والغبطة للتوفيق للأداء أعظم وأكبر ، ثم على فرض وجود مشقة فيها فانها جهتية فلا يصح ان يستحوذ موضوعها على إسم العبادات وتسمى بالتكاليف وإن كان الإسم غير المسمى ، ولكنه مرأة للمسمى ، كما أن التكليف في العبادات ليس علة غائية لأدائها ، وإنما هو رشحة ومصاحب كريم فيه الثواب والأجر.
وقد يقال بأن علة تسمية العبادات بالتكاليف للقول بأنه لا ثواب إلا بمشقة ، ولا دليل على هذه القاعدة ، ولا تكون سبباً لتسمية العبادات بالتكاليف .
وجاء نداء الإيمان ليجعل الفرائض رياضاً ناضرة ، وأداءها نزهة للنفس وتنقية للبدن ، وطرداً للدرن والكدورة ، ومن خصائص صيغة الجمع في المقام تعاون المسلمين لتخفيف المشقة في إتيان الفرائض .
ومن الإعجاز في السنة العبادية حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أداء الصلوات اليومية الخمسة جماعة في الحضر والسفر، وقيامه بالإمامة بنفسه .
وهل في تولي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمامة في الصلاة تخفيف عن المسلمين في أدائها ، وبعث الشوق في نفوسهم لإتيانها بذات الكيفية التي أداها ، الجواب نعم ، ويحتمل موضوع هذا الشوق سعة وضيقاً وجوهاً :
الأول : القدر المتيقن بعث الشوق في نفوس الصحابة الذين يؤدون الصلاة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : عموم أهل البيت والصحابة رجالاً ونساءً سواء من حضر الصلاة أو من لم يحضر ، للعلم الإجمالي عندهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام في الصلاة .
الثالث : إرادة عموم المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، والصحيح هو الأخير أعلاه ، إذ أن إمامة النبي في كل فرض من الصلاة درس وتعليم وإرشاد إلى الحرص على إتيان الصلاة برغبة، ليكون من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) أمور :
الأول : الحرص على أداء الصلاة .
الثاني : إتيان مقدمات الصلاة .
الثالث : إنتظار أوقات الصلاة ، وهو من مصاديق المرابطة في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ]( ).
الرابع : أداء الصلاة جماعة ، ورجاء مضاعفة الأجر والثواب فيها ، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع و عشرين درجة) ( ).
الخامس : تحلي المسلمين بالتقوى والزهد في الدنيا بالعزوف عن زينتها في أوقات الصلاة للمبادرة إلى أدائها جماعة.
السادس : تنمية ملكة الأخوة بين المسلمين بصلاة الجماعة ، ومن الإعجاز في الصلاة مطلقاً وخصوص صلاة الجماعة أمور :
الأول : الصلاة مصداق للأخوة الإيمانية .
الثاني : في الصلاة تشريعا وأداءاً تأكيد لفضل الله عز وجل في بيان وتثبيت معاني الأخوة الإيمانية كل يوم .
الثالث : الصلاة مرآة للأخوة بين المسلمين .
الرابع : تذّكر الصلاة المسلمين بالأخوة الإيمانية .
الخامس : الصلاة برزخ دون أكل المال بالباطل بين المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ] ( ).
السادس : صلاة الجماعة عنوان الألفة والمودة بين المسلمين , وباعث للإستحياء في النفوس من التعدي على مال الغير .
السابع : تبعث الصلاة على النفرة من ضدها ، إذ تتقوم بالخشوع والخضوع لله عز وجل والتسليم بالحق والعدل ، والوقوف بين يدي الله للحساب ، أما أكل المال بالباطل فهو ضد للصلاة .
الثامن : الصلاة شاهد يومي على نداء الإيمان ، ولما تفضل الله عز وجل بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]جاءت الصلاة قوساً للصعود وإستجابة يومية للنداء ومصداقاً له .
التاسع : الصلاة مطلقاً وصلاة الجماعة خاصة مصداق عملي لنداء الإيمان ، وحضوره الدائم في الأرض بصيغته السماوية بجهاد وتقوى المسلمين ، وتقدير الجمع بين نداء الإيمان وآية المحافظة على الصلاة ( يا أيها الذين آمنوا حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) ( ).
فنزل النداء بصيغة الجمع ليتوجه إلى المسلمين وهم جماعة في حال الخشوع والخضوع لله عز وجل ، ليتعاهد المسلمون نداء الإيمان بأفضل وأبهى كيفية , وتكون صلاة الجماعة مناسبة للدعاء والمسألة وتفضل الله عز وجل بالإستجابة .
لقد أراد الله عز وجل بنداء الإيمان الناس جميعاً ، لتوجه التكليف لهم جميعاً بالإيمان ، ولكن الذين كفروا حجبوا عن أنفسهم نعمة هذه الصفة والمرتبة ، ونعمة تلقي هذا النداء ، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار ، ومن الآيات أن هذا التلقي متعدد من وجوه :
الأول : نزول كل فرد من أفراد نداء الإيمان، والتي تبلغ تسعاً وثمانين نداء .
الثاني : إرادة كل مرة يتلو فيها المسلم نداء الإيمان , فمن الإعجاز أن المسلم يقرأ نداء الإيمان وهو يعلم أنه مخاطب ومنادى به .
الثالث : سماع المسلم لنداء الإيمان ، ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) إدراك المسلم أنه مقصود بنداء الإيمان وبالأوامر والنواهي الواردة في آياته وأحكام الآيات المعطوفة عليها .
الرابع : إتخاذ المسلمين نداء الإيمان مادة وموضوعاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الخامس : نداء الإيمان عهد وميثاق للأخوة بين المسلمين ، ولقد آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار ، وأبى الله عز وجل إلا أن تبقى نعمة الأخوة متصلة ومستمرة بين المسلمين ، فتجلى بنداء الإيمان ودلالته على بقاء معاني الأخوة بين المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة من جهات :
الأولى : شمول المسلمين والمسلمات في كل طبقة وجيل بالأخوة الإيمانية.
الثانية : إستحضار المسلمين لنداء الإيمان عند حدوث فتنة وإقتتال بينهم.
وهل يختص هذا الإستحضار بطرفي أو أطراف القتال , الجواب لا، إنما يشمل المسلمين والمسلمات جميعاً ويعضد نداء الإيمان في المقام قوله تعالى[وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثالثة : تلاوة المسلمين لنداء الإيمان .
الرابعة : نداء الإيمان تذكير لأجيال المسلمين بالأخوة بينهم، وهل تختص هذه الأخوة بأبناء البلد الواحد أم الجيل الواحد، الجواب لا، لتكون هذه الأخوة أعم من الأخوة النسبية مثلما هي أعظم منها .
ومن الإعجاز أنه لم يرد لفظ (فاصلحوا) في القرآن إلا في هاتين الآيتين إذ ورد فيهما ثلاث مرات لتأكيد وجوب الأمر بالصلح بين المسلمين وأن هذا الوجوب عيني على كل مسلم ومسلمة، كل فرد حسب شأنه وبما يستطيع من الأمر بالمعروف والدعوة إلى الإصلاح ووقف الإقتتال.
وإذا قامت به طائفة أو جمع فهل يسقط عن الباقين كما في الواجب الكفائي، الجواب لا، إلا أن يتم الصلح ، وهو من أسرار تكرار لفظ فاصلحوا.
ومع إصرار وبغي إحدى الطوائف على الأخرى، وقيدت الآيتان الصلح بأنه بالعدل، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا ( إن طائفتان من المؤمنين إقتتلوا فاصلحوا بينهما)( ).
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا (إن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله)( )، وفيه دعوة للمسلمين لقطع دابر البغي والتعدي والظلم، فمتى ما أدركت أي طائفة منهم أن بغيها يؤدي إلى إجتماع المسلمين على قتالها فانها تمتنع عن البغي والإصرار على التعدي .
ليكون من معاني نداء الإيمان تعاهد ذات الإيمان والأخوة الإيمانية بين المسلمين، فيتم الصلح بين المسلمين قبل أن تصل النوبة إلى البغي، وإن تعدت طائفة بالبغي تقاتَل من قبل المسلمين حتى ترجع إلى أمر الله .
وفيه دلالة على منع تلك الفئة الباغية من الظلم والبغي على نفسها بالضلالة والإرتداد , لإجتماع المسلمين على قتالها ، بل لابد أن ترجع إلى أمر الله عز وجل، وتسلم بالحق والإنصاف، وتعود إلى طاعة الله ورسوله .
وفيه تنبيه للمسلمين بأن البغي لا يمنع من إعطاء الحق والإنصاف حتى لتلك الطائفة الباغية ثم جاء قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ]( )، لبيان وجوب الصلح بين المسلمين مطلقاً حتى وإن لم تصل النوبة إلى الإقتتال بينهم ليكون نداء الإيمان عنوان الوئام والوفاق , وسبباً للمودة وإستدامة المحبة بينهم، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( ).
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا من سنن الإيمان الصلح وعدم إستمرار القتال بين المسلمين.
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا يجب أن يكون الصلح بالعدل قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ] ( )، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة ، قيام ليلها ، وصيام نهارها) ( ).
وفي عهده لمالك الأشتر قال الإمام علي عليه السلام : ولا يكونن المحسن والمسئ عندك بمنزلة سواء فإن في ذلك تزهيدا لاهل الاحسان في الاحسان , وتدريبا لاهل الاساءة على الاساءة والزم كلا منهم ما ألزم نفسه( ).
والنسبة بين نداء الإيمان ومؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار هي العموم والخصوص المطلق، فنداء الإيمان هو الأعم الأكبر من جهات :
الأولى : نزول نداء الإيمان من عند الله عز وجل، وتعدد هذا النزول .
الثانية : توجه نداء الإيمان لكل المسلمين والمسلمات من أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلى يوم القيامة وشمولهم به .
الثالثة : إتحاد صبغة الأخوة الإيمانية بين المسلمين مع التعدد في السكن ودار الإقامة، فالمسلم الذي في المشرق أخ للمسلم الذي في المغرب.
الرابعة : تلاوة المسلمين لنداء الإيمان كل يوم من أيام الحياة الدنيا .
ومن الإعجاز الغيري للقرآن وجود مصاديق واجبة ومستحبة للأخوة الإيمانية بين المسلمين والمسلمات متجددة كل يوم , منها أداؤهم الصلاة جماعة وفرادى والتوجه إلى ذات القبلة ، وهي الكعبة الشريفة شرطاً في الصلاة، ولا تصح إلا به لأن الله عز وجل يقول [وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ]( )، ويسقط إستقبالها مع العجز , كالمريض غير القادر على الإستقبال ومع الضرورة وشدة الخوف ، ويسقط في أداء النافلة في السفر في السيارة والطائرة ونحوهما.
ومن مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ) وجود نداء الإيمان بين ظهراني الناس إلى يوم القيامة يقتبسون منه أنوار الهداية ، ويحول بينهم وبين إنتشار المعاصي وشيوع الفواحش وسفك الدماء .
لقد خلق الله عز وجل الأرض وسخّرها وما فيها للناس وثبتها بالجبال رواسي وأوتاداً ، قال تعالى [وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ] ( ).
(عن ابن جريج في الآية قال : بلغني أن الله تعالى لما خلق السموات والأرض والجبال قال : إني فارض فريضة ، وخالق جنة وناراً ، وثواباً لمن أطاعني وعقاباً لمن عصاني فقالت السماء : خلقتني فسخرت فيَّ الشمس والقمر ، والنجوم والسحاب والريح والغيوم ، فانا مسخرة على ما خلقتني ، لا أتحمل فريضة ، ولا أبغي ثواباً ولا عقاباً .
وقالت الأرض ، خلقتني وسخرتني فجرت فيَّ الأنهار ، فأخرجت مني الثمار ، وخلقتني لما شئت ، فأنا مسخرة على ما خلقتني ، لا أتحمل فريضة ، ولا أبغي ثواباً ولا عقاباً ، وقالت الجبال : خلقتني رواسي الأرض ، فأنا على ما خلقتني ، لا أتحمل فريضة، ولا أبغي ثواباً ولا عقاباً ، فلما خلق الله آدم عرض عليه ، فحمله{إنه كان ظلوماً}( ) ظلمه نفسه في خطيئته { جهولاً } بعاقبة ما تحمل ) ( ).
ونزل نداء الإيمان على نحو متعدد في القرآن ، ليكون كالجبال الرواسي في تثبيت الإيمان في القلوب وعموم الأرض ، فكل نداء نعمة عظمى على أهل الأرض تعاهدها المسلمون لينهلوا من ذخائرها ، وينال الناس من فيوضاتها ، وإذ أعطى الله عز وجل فانه يعطي بالأتم والأوفى والأعم ، ومنه ورود نداء الإيمان تسعاً وثمانين مرة في القرآن ، لذا أفردنا أجزاء مخصوصة لرياض نداء الإيمان ونفعه العظيم في تعاهد الإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( )بلحاظ حفظ المسلمين والمسلمات بنداء الإيمان ، وتثبيت إيمانهم ، ودعوة الناس به للتوبة والإنابة ، وهو واقية يومية من الشرور ومقدمات الضلالة ، ويأتي هذا الجزاء في بيان موضوعية نداء الإيمان في ثلاث آيات من القرآن كلها من سورة النساء( ) .
وتختتم الآية الأخيرة منها بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا]( ).
حرر في الخامس من شهر أيلول 2016
الثالث من شهر ذي الحجة 1437هـ
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا] ( )
هذه الآية أول آية من سورة النساء يرد فيها نداء الإيمان ، مع أنها التاسعة عشرة في نظم السورة , ومن أسباب نزول الآية أنه كان إذا مات الرجل تولى أولياؤه شؤون إمرأته ، وصاروا أحق بها ، فإذا أراد أحدهم الزواج منها تزوجها ، وإذا أرادوا تزويجها إختاروا لها زوجاً وليس لها الإمتناع ، ولا لأهلها الإحتجاج ، وإن شاءوا عضلوها وتركوها من غير زوج أو ترجع عليهم مهرها وصداقها من زوجها الميت، وقد يطلب منها بذل مال غير المهر معه , مع أنها إستحقت المهر بالدخول .
ويدل إبتداء هذه الآية بنداء الإيمان على عموم الإبتلاء بالمسألة الواردة فيه ، ولزوم تعاون المسلمين لاستئصال هذا الفعل والعادة المذمومة , كما ينفي الظن بأن المسألة خاصة بزمان التنزيل ، وحاجة الناس إلى الإنتقال من عصر الجاهلية والتعسف على المرأة في نكاحها , وتولي شأنها بنفسها إذا كانت ثيباً قد فقدت زوجها ،
إذ تخاطب الآية المسلمين والمسلمات في كل زمان وتنهاهم مجتمعين ومتفرقين عن الإستحواذ والولاية بغير حق على المرأة ، وهو تشريع فريد لم يشهده التأريخ ، ولو صدر من أوامر الملوك والسلاطين فلا يتم الإمتثال الأتم له ، إذ يخشى سطوة السلطان من هو قريب منه ، وتطاله أحكامه وعماله وقد ينقض الأمر بموت الملك أو مجئ دولة أخرى ، وقد يرغب الملك بالغاء التشريع من أجل بقائه في ملكه، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
أما الحكم الذي تأتي به الآية القرآنية فهو معصوم من النقض والمحو ، وهو من مصاديق سلامة القرآن من التحريف من جهات :
الأولى : بقاء ذات الرسم القرآني .
الثانية : تلاوة المسلمين للآية القرآنية كل يوم ، وهل هذه التلاوة من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ) الجواب نعم ، وفيها حفظ لنداء الإيمان ورسمه وموضوعه .
الثالثة : حرص المسلمين على العمل بمضامين الآية القرآنية سواء كانت أمراً أو نهياً ، وورد في هذه الآية النهي عن تعطيل رحم المرأة بغير حق , وفيه حجة على حقها في إختيار الزوج , شاهد على إكرام الإسلام للمرأة ونيلها الحقوق بالقرآن والسنة بما لم تنله في الشرائع والأحكام الأخرى على مرّ التأريخ .
ولقد تعاهد القرآن المرأة من حين ولادتها إذ تفضل الله عز وجل وحرم الوأد وقتل البنت عند الولادة وفي الصغر ، قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ]( ).
وعن أبي هاشم الصوفي قال :
أردت البصرة يوماً ، فجئت إلى سفينه أركبها ..
وفيها رجل ، معه جارية ، فقال لي الرجل : ليس ها هنا موضع.
فسألته الجارية أن يحملني ، ففعل ..
فلما سرنا دعا الرجل بالغداء فوُضع ..
فقالت الجارية : ادع ذاك المسكين ليتغدى معنا ..
فجئت على أنني مسكين ..
فلما تغدينا قال : يا جارية هاتِ شرابك ، فشرب ..
وأمرها أن تسقيني ..
فقالت : يرحمك الله إنَّ للضيف حقاً ، فتركني ..
فلما دبَّ فيه الشراب ..
قال : يا جارية هاتِ عودك ، وهاتِ ما عندك ..
فأخذت العود ، وغنَّت ..
ثم التفت إلي فقال : أتحسن مثل هذا !!..
فقلت : عندي ما هو أحسن منه ..
فقال : هات ما عندك ..
فقلت : أَعوذُ بِاللهِ مِنَ الشَيْطَانِ الرَّجِيْم ، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ، وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ، وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ، وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ، وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ }( ) ..
حتى بلغ { وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ }( )..
قال : فجعل الرجل يبكي بكاءً شديداً ..
فقال : يا جاريه اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى ..
ثم ألقى ما معه من الشراب ، وكسر العود ..
ثم دعاني ، فاعتنقني ، وجعل يبكي ويقول :
يا أخي أترى أنَّ الله يقبل توبتي ؟!..
فقلت : { إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }( ) .
فتاب ..
واستقام ..
وتبدل حاله ..
قال : وصاحبته بعد ذلك أربعين سنة حتى مات ..
فرأيته في المنام فقلت له : إلى ما صرت ؟!..
فقال : إلى الجنه ..
قلت : بماذا ؟!..
قال : بقراءتك علي { إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ }..)( ) أي بانصاتي له واتعاضي من القراءة .
وتبين آيات القرآن التكامل في أحكام الشريعة في الأصول والكليات ،وفي الفروع والجزئيات والأمور الثابتة والمتجددة والأشياء الطارئة وليس من باب من أبواب الحكم في القرآن إلا وقد تجلت فيه رحمة الله عز وجل بالمرأة ، وبيّن لزوم العناية بها ، ومنه شمولها بنداء الإيمان إذ يتوجه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إلى الرجال والنساء من المسلمين ، وتكون المرأة في عرض ومرتبة واحدة مع الرجل في تلقيه والبعث على العمل بمضامينه ،وهو من الشواهد على قوله تعالى [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى]( ).
وليس من قاعدة ثابتة في مراتب العمل بآلاء هذا النداء ومضامين آياته ، فقد تفوق المرأة الرجل بالعمل فيه ، وتدعو الرجال للإمتثال لأمر الله عز وجل وتجذب الناس بالنصح والأسوة الكريمة إلى العمل بأحكام آيات النداء .
وعن أنس بن مالك قال (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغزو بام سليم ونسوة من الانصار معه إذا غزا فيسقين الماء ويداوين الجرحى) ( ).
فان قلت تتضمن آية البحث زجر الرجال عن الإستحواذ على المرأة التي مات زوجها , والجواب تشمل رحمة الله في الآية وأسرار النداء فيها النساء من جهات :
الأولى : منع النساء من تحريض الرجال على فرض الولاية الزائفة على المرأة التي فقد زوجها ، والغيرة مشتقة من التغير والغير لإرادة تغير وتبدل القلب ، وهيجان النفس الشهوية أو الغضبية لإرادة الإختصاص والإنفراد بالشيء ومنع مشاركة الغير له .
وظهرت الغيرة عند سارة زوجة إبراهيم عليه السلام بعدما زوجته من هاجر وحين ولدت له إسماعيل ، فأمر الله عز وجل إبراهيم أن ينقل هاجر من الشام إلى مكة حيث محل البيت الحرام لتكون بعيدة من سارة .
وقد أنعم ألله عز وجل على المسلمين بآية البحث ليبقى المؤمنون والمؤمنات في مساكنهم ومدنهم مع التنزه عن الغيرة والحسد ، وهل تلاوة نداء الإيمان وآية البحث من مصاديق هذا التنزه الجواب نعم ، وهو من بركات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقوله تعالى [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ) ووراثة المرأة بعد وفاة زوجها ونكاح إبنه من زوجة أخرى لها من الضلال الذي تذكره الآية أعلاه .
الثانية : تنزيه المسلمات من الحسد والغيرة والخشية من نكاح الأرملة لزوج آخر بعد فقد زوجها .
الثالثة : بيان حقيقة وهي أن كل إمرأة قبل الإسلام عرضة لهذا الحكم الجائر.
الرابعة : دعوة المسلمات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتسريح المرأة المتوفى عنها زوجها ، وجعلها تختار ما فيه نفعها ومصلحتها ، قال تعالى [الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا]( ).
الخامسة : ترغيب الناس بالإسلام ، إذ أن مضامين الآية عامة تشمل كل إمرأة مات عنها زوجها ، فتنتفع المنافقة أيضاً من هذا الحكم وفيه دعوة للتوبة .
السادسة : إحاطة النساء من أجيال المسلمين المتعاقبة علماً بفضل الله عليهن في أنفسهن وأمهاتهن وأرحامهن.
و(جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : يا رسول الله ، من أحق الناس بحسن الصحبة ؟ ، قال : أمك ، قال : ثم من ؟ ، قال : أمك ، قال : ثم من ؟ ، قال : أبوك ) ( ).
السابعة : لقد جاءت الشريعة الإسلامية بحق المرأة في الميراث وقد تتساوى مع الرجل مع إتحاد المرتبة أحياناً، أو تكون أقل من الرجل كما في قوله تعالى [يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ الْأُنثَيَيْنِ] ( ) وقد تكون حصة الزوجة من الإرث أكثر من حصة كل ولد من أبناء الميت , بينما يكون لها فرض ، وهو الثمن مع وجود الولد ، والربع مع عدمه لقوله تعالى [وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ] ( ).
ومن الإعجاز العددي لإلفاظ القرآن عدم ورود لفظ الثمن إلا مرة واحدة في الآية أعلاه ، وعدم ورود الربع إلا مرتين في ذات الآية , وفيه مسائل :
الأولى : بيان قانون وهو أن هناك حقوقاً تختص بها المرأة في الإسلام , لا يزاحمها فيه أحد .
الثانية : دعوة المسلمين لإنصاف الزوجة أيام حياة زوجها وبعد مماته .
الثالثة : إكرام المرأة بعدم جعلها إرثاً ، لقاعدة نؤسسها وهي الوارث لا يكون إرثاً .
الرابعة : بعث السكينة في نفس المرأة بحفظ مالها بالأصل وما يأتيها بالميراث .
الخامسة : ترغيب النساء بالزواج وعدم العزوف عنه ، وحثهن على الإنجاب ، قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ] ( ).
ومن أسرار نداء الإيمان ووروده في آية البحث أن موضوعها لا يختص بزمن النزول مما يدل على أنه قاهر للنفس الشهوية ، ومانع من إستحواذ النفس الغضبية والإرادة السبعية التي تبتنى على الشدة والغلظة وقهر الطرف الآخر بالقوة ، إذ تبعث الآية النفرة في نفوس المسلمين والمسلمات من الظلم والتعدي وإستحلال المرأة بغير حق ، وفي التنزيل [تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا] ( ).
وجاءت الآية بالنهي عن وراثة النساء بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا] ( ) والمراد النهي عن وراثة ذات المرأة والتصرف المطلق في شؤونها ، وليس ما يأتي من الإرث من طرفها .
فالمراد من الآية النهي عن صيرورة المرأة ميراثاً كما يورث المال ، وأبى الله عز وجل إلا إكرام الإنسان مطلقاً بصفته خليفته في الأرض ، قال تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ).
ولكن موضوع الآية أعم ويشمل عادات أهل الجاهلية من العرب ، وقد يقوم غير العرب بما هو أشد من تلقي زوجة الميت إرثاً وكان الفراعنة يدفنون المرأة مع زوجها ويزودونها بالطعام والشراب ، ويكون معها العبيد لأنهم يظنون أن السيد والمالك سيحيى في القبر ، ويقومون بخدمته .
وإلى زمن قريب كان أهل إحدى الملل تحرق الزوجة طوعاً أو كرهاً إذا توفى زوجها محاكاة لإحدى الآلهة عندهم وإسمها ستي إذ أحرقت نفسها لأنها لم تستطع الصبر على إهانة أبيها داكش لزوجها شيفا ، وفي هذا الحرق تؤكد المرأة عفتها .
وظن الإغريق أن سبب هذه العادة البغيضة هو زجر النساء عن دس السم لأزواجهن من كبار السن , خاصة أرباب المال , وذكرت واقعة في سنة 316 ق. م إذ مات جندي في جيش أيومنيس فتعاهدت زوجتاه على حرق نفسيهما مع حرق جثته .
ويجري الدفن عندهم بعد يوم من الوفاة ، إذ تلبس المرأة بدلة زفاف أو ملابس جميلة ولا يجوز أن تلبس ملابس حداد كما يقومون بالباس الزوج الميت لباس الزفاف ، وتربط المرأة بالنعش قبل أن يحرق كيلا تفر وتنهزم من شدة حرارة النار ، وفي مناطق لهم يتخذ الرجال الحراب الطويلة لمنع المرأة من الهرب من النار .
وإذا مات الملك تقوم عدة زوجات بحرق أنفسهن معه ، وقيل صارت إحدى النساء وصية على عرش إبنها في نيبال في سنة 1799 عندما تنازل زوجها عن الملك ليتفرغ للنسك والعبادة ، ولكنه عاد إلى الحكم في عام 1804 ثم قتله أخوه عام 1806 غيلة .
وأجبرت أرملته التي كانت وصية على العرش على قتل نفسها بطريقة الستي .
وجاء الإسلام ليندب المسلمين والناس في كل مكان إلى إكرام المرأة وحفظ حقوقها ، والمنع من الإستحواذ عليها ليصل الإسلام إلى تلك الأصقاع ويرى الرجال والنساء تجليات قانون [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) , والإقتباس من أحكام الإسلام , وسننه في العبادات والمعاملات ، وهل كان لها أثر مبارك وإنتشاراً في المدن التي كان شطر من أهلها يحرقون الزوجة مع زوجها ، وإمتناعهم عن هذه العادة البغيضة , الجواب نعم .
وقد يرى بعضهم إنتفاء التعارض بين الإسلام والإستحواذ على المرأة إرثاً أو عقلها ومنعها من الزواج ، فابتدأت الآية بنداء الإيمان لوجوه :
الأول : تستصرخ الآية المسلمين وتبين لهم التضاد بين الإيمان وقهر المرأة مطلقاً ، وليس التي توفى عنها زوجها فحسب ، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
الثاني : بيان حقيقة وهي أن أعباء تنزيه المجتمعات عن عقل المرأة لا يقدر عليها إلا المسلمون بإيمانهم وتقواهم .
وهل مضامين الآية من مصاديق الصبر والمصابرة في آية النداء السابقة والتي أختتمت بها سورة آل عمران وهي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو الصبر في سوح الوغى وعند لمعان السيوف .
الجواب هو الأول إذ تدفع الآية عن المسلمين الطمع فيما نهى الله عنه .
الثالث : تأكيد قانون وهو لزوم حضور الإيمان في العبادات والمعاملات , والعمل بأحكامه في أمور العائلة والمنزل .
والعضل لغة الحبس والمنع والتضييق الشديد (عن الزهري في الآية قال : نزلت في ناس من الأنصار كانوا إذا مات الرجل منهم فأملك الناس بامرأته وليه ، فيمسكها حتى تموت فيرثها . فنزلت فيهم) ( ) ،ولكن موضوعها أعم إذ كانت بعض قريش وغيرهم يتخذ هذه العادة .
(قال أبو إمامة بن سهل بن حنيف : لما توفي أبو قيس بن الأسلت ، أراد ابنه أن يتزوج امرأته ، وكان لهم ذلك في الجاهلية ، فنزلت الآية في ذلك ، وذكر النقاش : أن اسم ولد أبي قيس محصن) ( ).
وخلف أبو عمرو بن أمية وهو من قريش على إمرأة أبيه قبل الإسلام وإسم أبي عمرو هو ذكوان بن أمية ، فولدت من أبي عمرو مسافراً وأبا معيط ، وكان لها من أمية قبل أن يموت أبو العيص وغيره ، فكان أبو العيص أخا مسافر وأبي معيص لأمهما ، وهو عمهما من جهة الأب .
وكان من عادات بعضهم أن الإبن الأكبر هو أحق بامرأة أبيه عند موته ، فاذا ألقى عليها ثوبه صارت إرثاً له ، إلا إذا ذهبت إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ثوبه فلا سبيل له عليها ، فنزلت كلمة واحدة من القرآن وهي [لاَ يَحِلُّ لَكُمْ] فنقضت هذه العادات وهدمت السجايا الباطلة التي ما أنزل الله بها من سلطان .
ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلامة الأرحام من إختلاط المياه، وتعاهد قدسية الأب في شخصه وما نكح من النساء ، فتلقاه المسلمون بالقبول وسادت هذه الأحكام الجزيرة بأيام وأشهر معدودات ، قال تعالى [وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً] ( ).
(عن البراء قال : لقيت خالي ومعه الراية قلت : أين تريد؟ قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده ، فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله) ( ) وفيه نكتة وهي وجوب التقيد بالنواهي القرآنية ، وليس كل نهي يلزم عدم التقيد به ضرب العنق والقتل ، وليدل الحديث على أن الزواج من إمرأة الأب كبيرة ، وأنه لا يجب التراخي والتسامح في تنفيذ أحكام هذا النهي حال نزوله .
ومن الآيات في المقام نزول تحريم أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين لأنهن أمهاتهم ، قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] ( ).
إذ ترد الأوامر والنواهي في باب الأحكام بصيغة الإيمان ليكون نعت المسلمين بالمؤمنين على وجوه :
الأول : إنه ثناء على المسلمين وفخر لهم بين الناس .
الثاني : هذا النداء مقدمة وبشارة الأمن من وحشة وظلمة القبر ومن الفزع يوم القيامة , قال تعالى[لاَ يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ]( )، لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين والمسلمات بنداء الإيمان، وتفضل وأنزل البشارة على الإيمان في آيات عديدة، منها قوله تعالى[يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
وعن البراء بن عازب قال : خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ وَكَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا .
ثُمَّ قَالَ إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ قَالَ فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ .
وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ قَالَ فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ يَعْنِي بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ فَيَقُولُونَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى قَالَ فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ رَبِّيَ اللَّهُ فَيَقُولَانِ لَهُ مَا دِينُكَ فَيَقُولُ دِينِيَ الْإِسْلَامُ فَيَقُولَانِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ فَيَقُولُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَيَقُولَانِ لَهُ وَمَا عِلْمُكَ فَيَقُولُ قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ قَالَ فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ قَالَ وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ لَهُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ فَيَقُولُ رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي قَالَ وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمْ الْمُسُوحُ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ , فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَغَضَبٍ قَالَ فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنْ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ فَيَقُولُونَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ
{ لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } ( ).
الثالث : إنه من اللطف الإلهي في تقريب المسلمين لسبل الطاعة وصيغ الإمتثال للأوامر والنواهي من عند الله عز وجل .
الرابع : بيان قانون وهو تلقي المسلمين والمسلمات مجتمعين ومتفرقين المدد والعون من عند الله .
الخامس : ترغيب المسلمين للإمتثال لأمر الله عز وجل ، وجعلهم يتذوقون عذوبة العزوف عما نهى الله عز وجل ورسوله عنه ، ومن يمتنع عن وراثة المرأة يرحمه الله عز وجل [وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ] ( ).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب ، والجمع بين الأختين( ).
وأخرج إبن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال : كان الرجل إذا توفي عن امرأته كان ابنه أحق بها ، أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمه ، أو ينكحها من شاء . فلما مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته ، ولم ينفق عليها ولم يورثها من المال شيئاً .
فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فذكرت ذلك له فقال : ارجعي لعل الله ينزل فيك شيئاً . فنزلت { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء . . . } الآية . ونزلت { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً }( ).
وعن مقاتل بن حيان أن إبنه قيس وليس محصناً هو الذي ألقى ثوبه على زوجة أبيه فتزوجها ولم يدخل بها فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم واشتكت عنده.
وفيه دلالة على إمكان وصول النساء الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبث شكواهن له، وكأنهن يشتكين إلى الله عز وجل، من جهات :
الأولى : حضور النساء عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع التسليم بأنه رسول من عند الله.
الثانية : عدم إجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يأتيه الوحي.
الثالثة : تفضل الله عز وجل بالإخبار بسماعه للشكوى التي ترد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى[قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا]( )،
ولم يرد لفظ (ترثوا) في القرآن إلا في آية البحث وبصيغة النهي والزجر لأفادته البشارة بانقطاع هذه العادة المحرمة شرعاً والقبيحة عقلاً، وهو من دلالات إبتداء آية البحث بنداء الإيمان والشواهد على أن نزوله تنزيه للأرض من التعدي على الحرمات وأحكام الشريعة الثابتة، وفي التنزيل [وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ]( ).
الرابعة : نفرة النفوس من وراثة المرأة .
الخامسة : صيرورة المرأة مشتكية عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم تستطع النساء قبل الإسلام الشكوى ، وليس من جهة يشتكين عندها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( )فصارت المرأة تصل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسأله وتبث همها وتصبح وارثاً , وتتصذق , وينزل القرآن باكرامها عدم التعدي على حقوقها .
والمراد من النساء في قوله تعالى[أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا] أي عين النساء وتحويل نكاح المرأة التي مات زوجها إلى إبنه، فان قلت تنفر النفوس من هذا التحويل فكيف عملوا به، والجواب من وجوه :
الأول : لقد عبد القوم الأصنام، وتقربوا لها زلفى، وهو أمر أشد من مسألة وراثة الزوجة .
الثاني : جريان العادة بين الناس يبعد النفرة منها.
الثالث : ليس كل العرب يرث النساء , ومنهن من تكون كبيرة ومسنة.
ويدل مجئ النساء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم للشكوى على تلقيهن نداء الإيمان بالرضا والعمل بسنن الإيمان .
لقد تضمنت آية البحث أموراً :
الأمر الأول : إبتدأت الآية بنداء الإيمان ، وفيه وجوه :
أولاً : إكرام وتشريف المسلمين والمسلمات بنعتهم بصفة الإيمان وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إني قد أحببت فلانًا، فأحبه، فينادي في السماء، ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض، فذلك قول الله، عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا })( ).( )
ثانياً : من خصائص الإيمان التصديق بأن أحكام النكاح عقود لازمة تترتب عليها أحكام تكليفية ووضعية .
ثالثاً : شمول النساء بنداء الإيمان ، مما يلزم المسلمين تهيئة أسباب ومقدمات طاعتهن لله وأدائهن الوظائف العبادية ، قال تعالى [وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ] ( ) .
وتدل الآية أعلاه في مفهومها على حرمة إتخاذ المرأة إرثاً .
رابعاً : نداء الإيمان نوع طريق مبارك للتقيد بالعمل بمضامين آيات النداء ،ويحتمل وجوهاً :
الأول : كل نداء طريق للعمل بأحكام الآية التي ورد فيها أمراً أو نهياً أو شرطاً أو هي مجتمعة معاً بحسب الآية .
الثاني : تعلق نداء الإيمان في آية بمضامين آية قرآنية أخرى من آيات النداء .
الثالث : يبعث نداء الإيمان المسلم للعمل بمضامين الآيات المعطوفة على آية النداء .
الرابع : تجتمع نداءات الإيمان في القرآن لبعث المسلم على العمل بمضامين أي آية من آيات النداء .
الخامس : حضور نداءات الإيمان التسعة والثمانين للإمتثال والعمل بمضامين كل آية من آيات القرآن .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وهو من الإعجاز والسعة في ذخائر نداء القرآن ، والعلوم التي تترشح عنه .
ومن خصائص نداء الإيمان بعثه الغبطة والسعادة في قلوب المسلمين والمسلمات ، والحزن والأسى والخوف في قلوب الذين كفروا ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ) .
الجواب نعم ، لأنه نوع توبيخ وإنذار لهم ، وحجة عليهم في لزوم الإيمان وإتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أحكام الحلال التي جاء بها ، ومن وجوه الجمع بين نداء الإيمان والآية أعلاه : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بـ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
وتوجه هذا النداء للمسلمين والمسلمات .
وقد يبتلى الإنسان مسلماً أو كتابياً أو كافراً بالجوع والفقر والفاقة ، وقد يقع في شدة وضيق ، فيكون نداء الإيمان مؤنساً للمسلم يذكره بلزوم التوكل على الله والإنتفاع الأمثل من إيمانه بالدعاء ورجاء الجزاء والفضل العاجل من عند الله سبحانه.
وقد يزول هذا الفقر والشدة والضيق عن المسلم قبل أن يقع في الواقع أو ينزل به ، وهو لا يعلم ما كان مكتوباً عليه من الضرر ، وهو من منافع الإيمان ، ومصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
فمن خصائص الآية أعلاه ومعاني المحو والإثبات أنها فرع رحمة الله بالخلائق كافة .
وهل يمحى أم يثبت الإيمان ، الجواب هو الثاني ، وهو الذي يدل عليه نداء الإيمان ليكون من وجوه تقدير الجمع بين الآية أعلاه ونداء الإيمان وجوه :
الأول : يمحو الله الكفر ويثبت الإيمان .
الثاني : يمحو الله الظلم ويثبت العدل بنداء الإيمان .
الثالث : يمحو الله العناد والجحود ويثبت أداء الفرائض العبادية بنداء الإيمان .
الرابع : يمحو الله الضرر عن المسلمين وينزل النعم عليهم بنداء الإيمان ، ونداء الإيمان من مصاديق جذب المسلمين إلى منازل التوبة في قوله تعالى [وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا]( ).
الخامس : يا أيها الذين آمنوا يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.
وعن إبن عباس قال (كان أبو رومي من شر أهل زمانه ، وكان لا يدع شيئاً من المحارم إلا ارتكبه ، فلما غدا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فلما رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بعيد قال : مرحباً بأبي رومي ، وأخذ يوسع له المكان ، فقال : يا أبا رومي ، ما عملت البارحة.
قال : ما عسى أن أعمل يا نبي الله؟ أنا شر أهل الأرض .
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله قد حول مكتبك إلى الجنة ، فقال { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) ( ).
وهل نزل نداء الإيمان ليمحو الله السيئات عن المسلمين ، ويكتب لهم الحسنات ، الجواب نعم , من وجوه :
الأول : تلاوة المسلم لنداء الإيمان ، وفي كل حرف يتلوه عشر حسنات ، وعدد حروف نداء الإيمان خمسة عشر حرفاً .
الثاني : ترشح ثواب تلاوة المسلم للقرآن على السامع ، وهو من مصاديق ومعاني قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
ومن الإعجاز الغيري لنداء الإيمان بعثه السامع له على التحلي بخصال الهدى والإيمان .
الثالث : مجئ ثواب التلاوة لآباء الذي يتلو القرآن ودخول شآبيب الرحمة إلى قبر الميت منهم .
الرابع : تغشي البركة والرحمة لعيال وذرية تالي نداء الإيمان .
الخامس : بقاء ومصاحبة نداء الإيمان للذرية بتلاوة الأب أو الأم لنداء الإيمان ، وهذه المصاحبة غير ثواب قيام ذات الذرية بتلاوة نداء الإيمان ، ليكون من معاني نداء الإيمان إنه حرز للمسلم متقدم زماناً على ولادته ، وهو ملازم في طفولته وصباه بتلاوة والديه له ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ] ( ).
الأمر الثاني : تعقب النهي لنداء الإيمان ، وكأن الآية تخاطب المسلمين والمسلمات ما دمتم آمنتم بالله ورسوله فلابد أن تجتنبوا ما يحرم عليكم.
ترى لماذا لم تقل الآية : يحرم عليكم أن ترثوا النساء ، بل ذكرت النهي بصيغة عدم الحلية بقوله تعالى [لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ]( )، الجواب من جهات :
الأولى : بيان قانون وهو تفقه المسلمين في الدين وتلقيهم نداء الإيمان بالقبول والرضا .
الثانية : عدم ميل نفوس المسلمين إلا إلى ما أحل الله عز وجل لهم .
الثالثة : تبعث الآية المسلمين على إختيار الحلال والمباح في المناكح والأكل والشرب والسكن وغيرها .
الرابعة : النهي الوارد في آية البحث مقدمة للنهي بالمعنى الأعم ، والقطع بالتحريم على نحو النص والتعيين بعد آية البحث بأربع آيات بقوله تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ).
لقد ورد النهي للمسلمين والمسلمات جميعاً في أجيالهم المتعاقبة بالحرف(لا) وهو أم أدوات النهي، وليس من قوة في الكون تحكم المليارات من المسلمين بحرفين هما(لا) ويكونا حجة على غيرهم من الناس إلا عظمة قدرة وسلطان الله عز وجل ، وهو من مصاديق [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( )، وفيه مسائل:
الأولى : إنه برهان على تجلي مصاديق قوله تعالى [أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( ).
الثانية : إنه من الشواهد على إيمان المسلمين والمسلمات وتلقيهم حرف النهي بالإمتثال والإنزجار برضا وقبول وغبطة بأن أكرمهم الله عز وجل بالنواهي .
الثالثة : بيان مصداق لإتصاف المسلمين بالحكمة وإتباع المنهاج العقلي السليم بطاعة الله عز وجل، فتنزل الآية التي تتضمن نداء الإيمان فتشرئب أعناقهم، وينصتون بأسماعهم ليكون هذا الإنصات مصداقاً وشاهداً على الإستجابة، ومقدمة للإمتثال، وتأتي الصلاة لتلزمهم بتلاوة آية النداء والنهي، وتكون مناسبة للإنصات المتجدد وتذكيراً بوجوب العمل بمضامينها، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذكرى* سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى]( ).
الرابعة : فيه شاهد بأن الله عز وجل لم يخلق الخلائق ويتركها وشأنها أو أنها تجري في نظام ثابت وإن كان هذا النظام من عنده تعالى وبمشيئته سبحانه بل هو فرع قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، وكل الخلائق والأكوان حاضرة عنده سبحانه ومنقادة لأمره .
الخامسة : فيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضل الله عز وجل بهداية القلوب إلى القرآن والعمل بمضامين آياته .
السادسة : بيان الإعجاز الغيري للقرآن فينزل حرفان لتعمل بهما أجيال المسلمين إلى يوم القيامة .
السابعة : ترتب الثواب العظيم على نزول حرفين من القرآن بلحاظ تلاوتهما والعمل بأحكام النهي الذي يدلان عليه .
الثامنة : إنذار الذين كفروا لحرمانهم أنفسهم من العمل بالأوامر القرآنية ، وإجتناب ما نهى الله عز وجل عنه .
وحينما إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض ، لأنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) أقام الله عز وجل عليهم الحجة بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علمه تعالى نزول القرآن بالنواهي التي تحول دون صيرورة الفساد وسفك الدماء صيغة وصفة ملازمة لأهل الأرض ، ليكون من مصاديق الآية أعلاه وجوه:
الأول : لا يعلم ما نهي الله عنه إلا هو سبحانه .
الثاني : لا يعلم منافع وبركات النواهي التي جاء بها الأنبياء إلا الله عز وجل .
الثالث : الله وحده يعلم كيف أن النواهي حجة على الذين كفروا وسبب في إستئصالهم ، قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ] ( ) .
الرابع : لا يعلم ثواب التقيد بالنواهي التي تنزل من عنده تعالى إلا هو سبحانه .
الخامس : لا يعلم أحد بأن الله عز وجل جعل المسلمين [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
لتتعاهد التنزيل إلى يوم القيامة ، وتتنزه عن الفساد وقتل النفس التي حرم الله .
كما جاء القرآن بالأوامر التي تبعث في مفهومها على إجتناب ما نهى الله عز وجل عنه كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] ( ) فان الصلاة واقية وزاجر من فعل السيئات ، وباب للعفو والمغفرة .
والأصل في الأمر هو الوجوب , وهو المشهور والمختار ، وخالفت طائفة وقالت بالأمر حقيقة في الندب , والنهي حقيقة في الكراهية .
وقد يأتي الأمر فيحمل على الندب والإستحباب بقرينة صارفة ، كما في قوله تعالى [وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ] ( ) إذ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إبتاع ولم يشهد ، وكما في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (كنتُ نَهَيتُكُم عن زِيَارَةِ القُبُورِ فَزُورُوهَا فإنها تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ) ( ).
ومنهم من فرق بين الندب والإرشاد ، وأن المندوب يرجى فيه ثواب الآخرة ، أما الإرشاد فهو لمنافع الدنيا .
وأستدل على الإرشاد بقوله تعالى [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ]( ) ولا أصل لهذا القول إذ يأتي الثواب بالعمل بمضامين الآية أعلاه من وجوه :
الأول : تلاوة الآية القرآنية ، وهذا الشطر من آية الدَين التي هي أطول آية في القرآن وأكثرها كلمات ، وتبدأ بنداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ]( ).
الثاني : القيام باشهاد الشهود إستحباباً وإمتثالاً لأمر الله عز وجل .
الثالث : الحرص على إختيار الشهود العدول , والتقيد بمضامين الآية والشرط والحصر الوارد فيها بقوله تعالى [مِنْ رِجَالِكُمْ].
الرابع : إرادة تثبيت معاني الأخوة بين المسلمين ، وتجلي مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )خاصة وأن الشهادة على العقود تمنع من الخلاف والخصومة والإنكار .
وهل تكون الشهادة باباً لكشف عيوب العين المبتاعة أو الغبن ونحوه فيها ، الجواب نعم ، وهو مانع من الضرر والجهالة ، وواقية من الربا والفائدة الربوية ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] ( ).
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية ورود اللعنة من الشاهد في المعاملة الربوية بعرض واحد مع المربي ، إذ ورد عن الإمام علي عليه السلام قال (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن آكل الربا ، وموكله ، وشاهديه ، وكاتبه) ( ).
الأمر الثالث : بيان آية البحث لصيغة وسنخية وراثة النساء وهي الكره والنفرة من قبل ذات النساء ، ومن مواساة المرأة بفقد زوجها تركها وشأنها في إختيار الزوج من جديد أو لا ، وإذا إختارت الزواج فأمرها بيدها ما دامت بالغة رشيدة ثيباً .
لقد تلقت المسلمات نزول القرآن بالتصديق وبايعهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة، كما بايع نساء مكة يوم الفتح ، ومن المؤمنات من شاركت بالجهاد والدفاع عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة مثل أم عمارة نُسيبة بنت كعب بن عمرو وأختها إذ شهدتا القتال مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان مع أم عمارة زوجها وولدها حبيب بن زيد ، وعبد الله بن زيد ودافعت أم عمارة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد مع من بقي حوله من أهل بيته ونفر من أصحابه .
وعن (أُمّ سَعْدِ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ كَانَتْ تَقُولُ دَخَلْتُ عَلَى أُمّ عُمَارَةَ فَقُلْت لَهَا : يَا خَالَةُ أَخْبِرِينِي خَبَرَك ؛ فَقَالَتْ خَرَجْتُ أَوّلَ النّهَارِ وَأَنَا أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ النّاسُ وَمَعِي سِقَاءٌ فِيهِ مَاءٌ فَانْتَهَيْتُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ وَالدّوْلَةُ وَالرّيحُ لِلْمُسْلِمِينَ .
فَلَمّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ انْحَزْتُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقُمْت أُبَاشِرُ الْقِتَالَ وَأَذُبّ عَنْهُ بِالسّيْفِ وَأَرْمِي عَنْ الْقَوْسِ حَتّى خَلَصَتْ الْجِرَاحُ إلَيّ .
قَالَتْ فَرَأَيْتُ عَلَى عَاتِقِهَا جُرْحًا أَجْوَفَ لَهُ غَوْرٌ ، فَقُلْت : مَنْ أَصَابَك بِهَذَا ؟ قَالَتْ ابْنُ قَمِئَةَ أَقْمَأَهُ اللّهُ لَمّا وَلّى النّاسُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَقْبَلَ يَقُولُ دُلّونِي عَلَى مُحَمّدٍ ، فَلَا نَجَوْتُ إنْ نَجَا ، فَاعْتَرَضْتُ لَهُ أَنَا وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَأُنَاسٌ مِمّنْ ثَبَتَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَضَرَبَنِي هَذِهِ الضّرْبَةَ وَلَكِنْ فَلَقَدْ ضَرَبْته عَلَى ذَلِكَ ضَرْبَاتٍ , وَلَكِنّ عَدُوّ اللّهِ كَانَ عَلَيْهِ دِرْعَانِ) ( ).
وكانت أم عمارة تذب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف ، وترمي بالقوس وجرحت إثني عشر جرحاً بين طعنة وضربة سيف ، وقيل أن هذا العدد من الجراحات كان في معركة اليمامة( ) .
ليكون حجة على الذين كفروا من قريش وهم عشيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين جاءوا ليقتلوه , وليوقفوا توالي نزول القرآن الذي يفضح عبادة الأوثان ، ويبين قبحها ، ويدعو إلى عبادة الله عز وجل وحده .
وعن عمر بن الخطاب ذكر أم عمارة فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد يقول : ما التفت يميناً ولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني ) ( ).
وعندما سئلت أم عمارة عن نساء المشركين يوم أُحد هل كن يقاتلن معه أزواجهن فأنكرت الأمر بشدة (هل كن نساء قريش يومئذٍ يقاتلن مع أزواجهن؟ فقالت: أعوذ بالله، ما رأيت امرأة منهن رمت بسهمٍ ولا بحجر، ولكن رأيت معهن الدفاف والأكبار، يضربن ويذكرن القوم قتلى بدر، ومعهن مكاحل ومراود، فكلما ولى رجلٌ أو تكعكع ناولته إحداهن مروداً ومكحلةً , ويقلن: إنما أنت امرأة! ولقد رأيتهن ولين منهزماتٍ مشمراتٍ , ولها عنهن الرجال أصحاب الخيل، ونجوا على متون الخيل يتبعن الرجال على الأقدام، فجعلن يسقطن في الطريق.
ولقد رأيت هند بنت عتبة، وكانت امرأة ثقيلة ولها خلقٌ، قاعدةً خاشيةً من الخيل ما بها مشيٌ، ومعها امرأة أخرى، حتى كرّ القوم علينا فأصابوا منا ما أصابوا، فعند الله نحتسب ما أصابنا يومئذٍ من قبل الرماة ومعصيتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ) ( ).
ولم تكف أم عمارة عن القتال عند إصابتها بالجراحات العديدة وبعد إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى بل خرجت يوم اليمامة مع إبنها عبد الله لقتال مسيلمة الكذاب .
وقيل قطعت يدها يومئذ ، وكان مسيلمة قد قتل ولدها حبيب ، إذ أحضره قومه عنده فقال له : أتشهد أن محمداً رسول الله .
فيقول : نعم , فيقول مسيلمة : أتشهد أني رسول الله .
فيقول : لا أسمع .
فجعل مسيلمة يقطعه عضواً عضواً حتى مات .
لقد جعل الله عز وجل المرأة تنوء بأعباء الحمل والولادة على كره منها , قال تعالى [وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا] ( ) .
ومن أسرار إستدامة خلافة الإنسان في الأرض شوق المرأة إلى الزواج والحمل.
وتتجلى شواهده في كل بلدة وقرية سواء بالنسبة للتي تتزوج وتنجب الأولاد أو بالنسبة للتي تحرم من النكاح أو منه ومن الإنجاب ، وبذل الزوجين الوسع في العلاج والدعاء رغبة بالولد وتجلى هذا القانون حتى في حياة الأنبياء كما ورد حكاية عن زكريا في التنزيل[قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا]( )، ولم يرد لفظ العظم في القرآن إلا في الآية أعلاه.
ووصفت الآية أعلاه من سورة الأحقاف حال المرأة بالحمل بأنه على كراهية منها , وفيه مسائل:
الأولى : عدم التعارض بين الشوق والرغبة بالحمل وبين كره حال الحمل.
الثانية : المراد من الكره في المقام الأذى الذي تلاقيه المرأة، وفيه دعوة للرجال والنساء مطلقاً للرأفة بالمرأة عند الحمل، وهل فيه دعوة لأطباء الأبدان وعلماء النفس بدراسة حال الحامل وفق الآية أعلاه وكيفية التخفيف عنها خاصة بالنسبة للنساء اللاتي يتولين القيام بأعمال وظيفية يومية.
الثالثة : زجر الرجل عن الخصومة مع زوجته عند إظهارها الأذى والألم وحتى الأسى عند الحمل.
الرابعة : تفضل الله عز وجل بشكر المرأة المسلمة لحملها وإنجابها الأولاد المسلمين بأن منع من صيرورتها إرثاً.
الخامسة : ترغيب المرأة بالحمل حتى مع كراهيته لذا تتضمن الآية وجوب بر الوالدين، وقال تعالى[وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا *وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا]( ).
فاراد الله عز وجل أن لا يكون نوع إكراه في نكاحها ، عند وفاة زوجها ، فأبتدأت آية البحث بنداء الإيمان ، وفيه دعوة للمسلمين للرأفة بالمرأة ، والتعاون في العناية بها ، وإصلاحها للولادة وإنجاب أولاد مؤمنين يرثون الفرائض العبادية .
وورد عن عبد الله بن مسعود في تفسير الآية قال (لا ترثوا النساء كفعل الجاهلية) ( ).
وقيدت الآية الحمل بالكره والنفرة ولو كانت المرأة لا تكره وراثة إبن الزوج لزوجها ، وإلقائه رداءه عليها لتكون زوجته فهل يحل هذا الفعل ، الجواب لا ، من جهات :
الأولى : إرادة الفرد الغالب وهو الإكراه .
الثانية : لابد من مهر في النكاح .
الثالثة : حرمة نكاح الإبن لزوجة أبيه .
الرابعة : بيان الأضرار المترتبة على وراثة المرأة بالإكراه .
الخامسة : عدم حصر موضوع الإكراه في الإستحواذ على المرأة بذاتها ، ليكون تقدير قوله تعالى [لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا]( )، على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً على ذات المرأة .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً على عامة النساء .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً لقبح الإكراه في النكاح .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً أو طوعاً .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا المرأة لأنه لا يكون إلا كرهاً في ذات يوم وفاة الزوج أو بعده .
السادس : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً على أهل المرأة التي يتوفى عنها زوجها .
السابع : يا أيها الذين آمنوا لا يحل للمؤمنين أن يرثوا النساء كرهاً .
الثامن : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء فليس فيه غبطة لهن .
الأمر الرابع : بعد النهي عن وراثة عين المرأة والتصرف المطلق في نكاحها من قبل أهل المتوفى ، تفضل الله عز وجل ونهى المسلمين عن عضل ومنع المرأة من النكاح بقوله تعالى [وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ] ( ).
وورد ذات اللفظ مرة أخرى في القرآن بقوله تعالى [وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ] ( ).
لبيان أكرام المرأة مطلقاً في الإسلام سواء تلك التي تتزوج فلابد من رضاها بالنكاح ومقدار المهر أو التي يتوفى عنها زوجها أو التي تطلق فلا يجوز حبسها عن الزوج والتضييق عليها .
وأخرج إبن جرير عن إبن زيد قال : كان العضل في قريش بمكة، ينكح الرجل المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه ، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد ، فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها ) ( ).
ومن العضل وجوه :
الأول :المنع والحبس .
الثاني : التضييق , وضيق عليه أي حيل بين الإنسان وبين ما يريد.
الثالث : عدم تطليق المرأة ، وعدم تركها (ولا يكون العَضْلُ ألاّ بعد التزويج) ( ).
الرابع : العسر ، ويقال (دَاءٌ عضَالٌ : أعْيَا الأطِباءَ فأعضلَهُم: أي غَلَبَهم. وهو عُضْلَةُ من العُضَل: أي دَاهِيَةٌ من الدَواهي) ( ).
وتحتمل آية البحث وجوهاً :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً .
الثاني : لا يحل لكم أن تعضلوا النساء .
الثالث : لا يحل لكم أن ترثوا النساء وتعضلوهن في ذات الوقت.
الرابع : لا يحل لكم أن تعضلوا النساء كرهاً.
إن إجتماع الحبس والتضييق على المرأة ووراثة أهل الزوج الميت لها أمور شديدة تبعث الأذى والحسرة والجزع في النفس ، وقد أراد الله عز وجل للمسلمين والمسلمات الإكرام والكرامة والعز في الدنيا.
ولا يختص ضرر العضل وحبس المرأة عن النكاح بها أو بمعشر النساء خاصة بل يشمل عالم الرجال وعموم أفراد المجتمع لذا فان قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]نوع طريق لإصلاح مجتمعات المسلمين وتهذيبها .
ومن معاني قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) الإتحاد والوفاق في التوجه إلى الدفاع عن بيضة الإسلام وتعضيد النساء للرجال في المصابرة والمرابطة في الثغور ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
وهل ترك وراثة المرأة وعضلها من الصبر الذي تذكره الآية أعلاه ، الجواب نعم ، وهو مقدمة للمصابرة والمرابطة
لقد تكرر النهي في آية البحث من جهات :
الأولى : لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً .
الثانية : لا تعضلوهن .
الثالثة : لا يحل لكم أن ترثوا النساء وتعضلوهن ، فجاء نداء الإيمان سوراً جامعاً للجهات الثلاثة أعلاه ، وشاهداً على بلوغ المسلمين مرتبة الإمتثال والكف عن وراثة النساء أو عضلهن .
ومن أسرار مجئ نداء الإيمان في هذه الآية أمور :
أولاً : بعث المسلمين للعمل بالنهي المتعدد في آن واحد .
ثانياً : كشف حقيقة وهي أن وراثة المرأة أو عضلها ظلم يتناقض مع الإيمان .
ثالثاً : الثناء على المسلمين ، فلو دار الأمر عندهم بين الإيمان وضده فأنهم لا يختارون إلا مناهج الإيمان .
رابعاً : بيان قانون وهو إشراقة الأرض بإكرام المرأة مع بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورفع الحيف عن النساء ليكون من شكرهن لله عز وجل المبادرة إلى الإيمان والتقيد بالفرائض العبادية .
خامساً : لقد أراد الله عز وجل للمسلمين حسن التأديب والنشأة في الصغر وفي البيت والمحلة ، فتفضل وجعل للمرأة حق إختيار الزوج .
سادساً : ترغيب المسلمين بالتنزه عن حبس المرأة ومنعها من الزواج ، ومن تكون عنده إمرأة يعضلها فان ذات الأمر قد يتكرر على أهله وأخواته .
سابعاً : بيان ثبات المسلمين في مقامات الإيمان بتقيدهم بالنواهي المتعددة في الموضوع المتحد ، وإتخاذهم نداء الإيمان عضداً ومدداً ومواساً .
قانون معجزات النبوة بهجرة صحابة إلى الحبشة
لقد بادر المهاجرون والأنصار إلى التصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولم يكن في هذا التصديق منافع ومصالح دنيوية ، فليس من أموال عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا دولة فيها مناصب وجاه ، بل كان الصحابة يتعرضون إلى شتى صنوف الأذى والتعذيب ، حتى أمر النبي طائفة منهم بالهجرة إلى الحبشة مع بعد المسافة وأهوال الطريق ، ولولا المعجزة لا يتصور أحد أن ثلاثة وثمانين مسلماً وثماني عشرة إمرأة من أهل مكة يتركونها ليقطعوا المسافات الطويلة بين مكة والحبشة مشياً وفي السفن ليقيموا في بلاد غريبة وعلى ملة أهل الكتاب ، فتتجدد معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق المهاجرين وعند وصولهم للحبشة من جهات :
الأولى : سلامة المهاجرين من أذى قريش ، فما أن علم كفار قريش بخروج الدفعة الأولى من المهاجرين وعددهم أحد عشر رجلاً وأربع نسوة من المسلمين في شهر رجب من السنة الخامسة للبعثة النبوية حتى خرجوا في طلبهم بغية ردهم ، ولكن المهاجرين حينما وصلوا إلى الشعيبة وهي مرفأ مكة قبل جدة ، وجدوا سفينتين تريدان الإبحار إلى الحبشة فركبوا فيهما بأجرة نصف دينار .
وبعد أن رحلوا وصل كفار قريش إلى المرفأ يطلبونهم , فلم يدركوهم ورجعوا خائبين ، لتكون هذه الخيبة مقدمة وإنذاراً لخيبتهم عندما يخرجون بالجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فان قلت لماذا ذكر معنى الخيبة في رجوع الذين كفروا منكسرين من أحد كما في قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) ولم يذكر هذا المعنى عند رجوعهم فارين في معركة بدر ، الجواب لقد كانت خيبتهم وخسارتهم في معركة بدر جلية وظاهرة ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الثانية : ثبات المسلمين على دينهم وإيمانهم في الحبشة مع أنها دار أهل كتاب , ولم يرتد منهم إلا واحد ، فتزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم زوجته أم حبيبة فيما بعد , لتخلد في القرآن بنيلها مرتبة أم المؤمنين , قال تعالى[النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ).
الثالثة : تيسير أمر السفر والإقامة بفضل من عند الله عز وجل .
الرابعة : صيرورة المهاجرين إلى الحبشة دعاة إلى الإسلام بالإخبار عن المعجزات العقلية والحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتخاذهم آيات القرآن إماماً من وجوه :
أولاً : الآية القرآنية شاهد على صدق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : كل آية قرآنية رسول للنبوة .
ثالثاً : إخبار الآية القرآنية للسامع بأن الله عز وجل بعث خاتم النبيين في مكة وأنزل عليه كلامه ، ومن معاني ورشحات نفخ الله الروح في آدم كما في قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( )إستدامة سنن التوحيد في الأرض ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولقد رحل المهاجرون في الدفعة الثانية إلى الحبشة ، ليقرأوا القرآن ويؤدوا الصلاة في الحبشة .
ويمكن تأسيس علم مستقل هو معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحبشة فان قلت لم يذهب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجنة ولم يرها ، فكيف تكون له معجزات فيها الجواب ليس من ملازمة بين الحضور والمعجزة ، فمكان وزمان المعجزة العقلية أعم .
وهو من خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجليات إعجاز القرآن في كل زمان ومكان ، ويحتمل حوار وإحتجاج جعفر الطيار مع النجاشي وجوهاً:
الأول : هذا الإحتجاج معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن مادته وموضوعه القرآن والإحتجاج بآياته .
الثاني : إنه فرع معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودليل عليها .
الثالث : ليس من صلة بين المعجزة وإحتجاج جعفر الطيار .
والصحيح هو الأول والثاني مجتمعين .
لقد بعث كفار قريش وفداً إلى النجاشي ليعيد لهم المهاجرين وزودوا الوفد بهدايا وأرشدوا إلى كيفية التصرف ، والترقي في الإتصال بحواري النجاشي والتودد لهم ، وأقناعهم بلزوم إعادة المسلمين إلى ديارهم ، ولكنهم عجزوا عن إقناع النجاشي وعادوا خائبين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
وعن إبن عباس (قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة يخاف على أصحابه من المشركين ، فبعث جعفر بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وعثمان بن مظعون في رهط من أصحابه إلى النجاشي ملك الحبشة ، فلما بلغ المشركين بعثوا عمرو بن العاص في رهط منهم ، وذكروا أنهم سبقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى النجاشي .
فقالوا : إنه قد خرج فينا رجل سفه عقول قريش وأحلامها ، زعم أنه نبي وأنه بعث إليك رهطاً ليفسدوا عليك قومك ، فأحببنا أن نأتيك ونخبرك خبرهم .
قال : إن جاؤوني نظرت فيما يقولون ، فلما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأتوا إلى باب النجاشي فقالوا : استأذن لأولياء الله؟ فقال : ائذن لهم فمرحباً بأولياء الله ، فلما دخلوا عليه سلموا فقال الرهط من المشركين : ألم تر أيها الملك انا صدقناك وانهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيى بها؟ . فقال لهم : ما يمنعكم أن تحيوني بتحيتي؟ .
قالوا : إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة . فقال لهم : ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ قالوا : يقول عبد الله ورسوله ، وكلمة من الله ، وروح منه ألقاها إلى مريم ، ويقول في مريم : إنها العذراء الطيبة البتول .
قال : فأخذ عوداً من الأرض فقال : ما زاد عيسى وأمه على ما قال صاحبكم هذا العود ، فكره المشركون قوله وتغير لون وجوههم ، فقال : هل تقرأون شيئاً مما أنزل عليكم؟ قالوا : نعم . قال : فاقرأوا وحوله القسيسون والرهبان وسائر النصارى ، فجعلت طائفة من القسيسسن والرهبان كلما قرأوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق) ( ).
الأمر الخامس : من خصائص نداء الإيمان مجيؤه بما يفيد إكرام وبيان خصال المسلمين الحميدة ، وبعثهم على التفقه في الدين ، فهو مدرسة عقائدية تطرد الغفلة عن المسلمين وتجعلهم يرتقون في سلم المعارف، لقد حرمت آية البحث على الإبن وضع يده على زوجة أبيه وصيرورتها إرثاً محضاً , ثم تفضل الله عز وجل ببيان المقصود من وضع اليد ، وكيف أنه قبيح شرعاً وعقلاً ليكون من معاني نداء الإيمان منع المسلمين من العناد والإصرار أو الجدال في الإمتثال وعدمه .
فلا يقول أحدهم لماذا هذا المنع ، أو أن هذا التحريم يجلب لنا الأذى والخسارة أو نحن نقاتل في سبيل الله والنساء في البيوت فلماذا تسلب حقوقنا المتوارثة في النساء .
كما تمنع الآية المنافقين والذين في قلوبهم مرض من الإفتراء والتحريض على أحكام الإسلام ، وليكون عز المرأة المسلمة توبيخاً وتبكيتاً للمنافقين والذين كفروا ، قال تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
لقد جاءت الآية برفع الحيف عن المرأة وإن كانت قاعدة في البيت ، وفيه شاهد بأن الله عز وجل لن يؤخر بيان الحق ودفع الظلم وإن كان من المجاهد في سبيل الله ، فلابد أن يعلم كل مسلم بلزوم عدم تجاوز الحدود ، وهو من خصائص علوم التأديب والإصلاح في القرآن ، وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي) ( ).
وبينت الآية سبب عضل وحبس المرأة عن النكاح أو تركها كالمعلقة بأنه الطمع في مالها ولإرادة استرداد المهر منها عند موت زوجها .
وعن إبن عباس قال (كان الرجل إذا مات أبوه أو حميمه كان أحق بامرأة الميت ، إن شاء أمسكها أو يحبسها حتى تفتدي منه بصداقها ، أو تموت فيذهب بمالها . قال عطاء بن أبي رباح : وكان أهل الجاهلية إذا هلك الرجل فترك امرأة ، يحبسها أهله على الصبي تكون فيهم ، فنزلت { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } ) ( ).
ويعني حبس المرأة على الصبي تعطيل رحمها ، وبقاءها من غير زوج إلى حين أن يكبر الصبي مع فارق العمر بينهما ، وقد تصل إلى سن اليأس قبل بلوغه ، فنجّى الله عز وجل النساء من العادات الجاهلية التي تجلب الأذى وتمنع من التناسل والتكاثر مع حاجة الإسلام إلى هذا التكاثر .
ومن معاني قوله تعالى [لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ] ( )هجران الزوج لأمرأته مع تركها في عصمته حتى تموت ليرثها ويستولي على مالها ومهرها تركة ، وهل هذا الإستيلاء علة تامة لحبس المرأة عن الزواج .
الجواب لا ، إنما ورد من باب علة الفرد الغائب والعادة المتبعة ، وليكون من باب الأولوية القطعية حرمة عضل المرأة عندما لا يكون لها مال يورث .
وجاءت الآية بصيغة الجمع في الخطاب وفيه مسائل :
الأولى : موافقة صيغة النداء العام للمسلمين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الثانية : تذكير المسلمين بخصال الإيمان بالتنزه عن الظلم داخل الأسرة وخارجها ، فقد يظن بعضهم رفع القلم عن الإنسان في بيته وصلاته مع عياله , والمندوحة في التصرف بشؤونهم ، وأحياناً يترك الإنسان العنان للسانه داخل البيت في الغيبة أو الإفتراء ، وكأن الحديث داخل البيت مع العائلة مستثنى من عمومات حرمة الغيبة، فنزلت آية البحث لبيان أحكام الأسرة .
الثالثة : بيان وجوب تعاون المسلمين في الإمتثال الشخصي والنوعي لمضامين آيات القرآن , ومنها النواهي الواردة فيها .
الرابعة : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين أشركوا برؤية المسلمين وهم يتخلون عن زخرف الدنيا ، وعن الظلم .
فمن إعجاز القرآن نزول آية تنهى عن وراثة النساء كرهاً ، لتكون من مصاديق [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( ) من جهات :
الأولى : سلامة الأسرة المسلمة من الظلم والجور .
الثانية : تقوم الصلات الإجتماعية بالعدل والتقيد بأحكام القرآن.
الثالثة : نفاذ القرآن وسننه إلى بيوت المسلمين .
الرابعة : خلو بيوت المسلمين من الكدورة والغضاضة .
الخامسة : إعانة المسلمات للمسلمين في مقدمات الجهاد .
السادسة : إنتفاء مسألة صد النساء للرجال عن الخروج للقتال عند المسلمين ، فعندما ترى المسلمة أن القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينصفانها ويذّبان عنها فانها تكون كالمقاتلة في سبيل الله .
السابعة : دخول نساء المشركين الإسلام ، وتخلصهن من العادات والتقاليد الجاهلية التي تتضمن عضلهن والإضرار بهن .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن .
قال ابن عباس : كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل ، وله امرأة كان قريبه من عصبته أحق بها من نفسها ومن غيره ، فإن شاء تزوجها من غير صداق ، إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت ، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها ولم يُعطها شيئًا ، وإن شاء عَضَلهَا وضيَّق عليها لتفتدى منه بما ورثت من الميت ، أو تموت فيرثُها ، وإن ذهبت إلى أهلها قبل أن يُلقِيَ وليُّ زوجها ثوبَه عليها فهي أحق بنفسها . فكانوا على ذلك في أول الإسلام ، حتى توفي أبو قَيس بن الأَسْلتَ الأنصاري ، وترك امرأته « كبشة بنت معن الأنصارية .
فقام ابنٌ له من غيرها فطرح ثوبه عليها ، تم تركها ولم يقربها ، ولم ينفق عليها ، يضارّها لتفتدى منه ، فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله؛ إن أبا قيس تُوفي ووَرِثَ نكاحي ابنُه ، وقد أضرَّ بي وطوّل عليّ ، فلا هو ينفق عليّ ولا يدخل بي ، ولا يخلي سبيلي .
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : « اقعدي في بيتك حتى يأتَي فيك أمرُ الله , قالت : فانصرفتُ وسمعت بذلك النساءُ في المدينة فأتين النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسجد الفضيخ ، فقلن : يا رسول الله : ما نحن إلا كهيئة كبشة ، غير أنه لا ينكحنا الأبناء ، ونكَحَنا أبناء العَم .
فنزلت الآية . فمعنى الآية على هذا : لا يحل لكم أن تجعلوا النساء يُورثن عن الرجال كما يُورث المال( ).
الثاني : يا أيها الذي آمن لا تعضل المرأة لتذهب ببعض الذي آتيتها.
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ، بلحاظ أنه قد يجتمع جماعة من ذوي قربى الميت على زوجته لعضلها وحبسها والتضييق عليها .
الرابع : يا أيتها اللائي آمنّ لا تعضلنها لتذهبوا ببعض ما آتيتموها .
الخامس : يا أيها الذي آمن لا تعضلها لتذهب ببعض ما آتيتها.
السادس : يا أيها الذي آمن لا تعضلهن لتذهب ببعض ما أتيتموهن ) .
بلحاظ قد يحبس فرد واحد من الأسرة المرأة ليأخذ منها جميع ما أعطوها من المهر والنفقة والهبات وغيرها ، خاصة مع تبدل الحال وإختلاف الأسعار ، فقد يهب بعضهم قطعة أرض أو بستان أو راحلة لأن قيمتها قليلة ، ولكنها بعد مرور الأيام ترتفع إرتفاعاً حاداً، وقد تحصل الندامة عند الواهب أو ورثته ويميلون لإسترداد الهدية والهبة ، فتأتي عادة وراثة المرأة لتكون سبباً للإسترداد .
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية أن الذي يتبرع لبناء مسجد وأمر خيري عام في سبيل الله لا تطرأ عليه الندامة , ويكون ورثته وذريته من بعده شاكرين لأنعم الله ويتخذون هذا التبرع مناسبة للفخر والعز وثبات الإيمان .
ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنتفاع ذرية الذي يتبرع لبناء مسجد والقيام بالإنفاق في سبيل الله من هذا التبرع بزيادة الهدى والثبات في مقامات الإيمان ، وهو من مصاديق صفة الجريان في الصدقة الجارية أي من وجوهها فيض البركة على الأهل والأولاد .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) ( ).
الأمر السادس : لقد جاءت الآية مطلقة في نداء الإيمان ، لم يستثن من المسلمين رجل أو إمرأة ، كما يشمل الخطاب المنافقين لأنهم نطقوا بالشهادتين ويظهرون الإيمان ، فيشملهم وجوب التقيد بالنهي الوارد في الآية .
وهل يتلقى المنافقون هذا النهي بالرضا , الجواب لا، فهم يتقيدون به ، ولكنهم [ إِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ]( ).
ليكون من إعجاز الأوامر والنواهي القرآنية فضح وتبكيت المنافقين ، وهذا الإيذاء مقدمة لعذابهم في الآخرة وتحذير منه ، ودعوة للنجاة منه ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( ).
لقد نهى الله عز وجل عن وراثة المرأة وعن حبسها والتضييق عليها ، ثم تفضل الله عز وجل وإستثنى خصوص النساء اللائي يرتكبن فاحشة ظاهرة جلية ، ويحتمل لفظ الفاحشة في الآية وجوهاً :
الأول : المراد الزنا ( )، أي إذا رأى زوجها منها الزنا فلا بأس أن يضارها ويضيق عليها ، لأنه نوع طريق لتأديبها وحبسها عن الفاحشة ، ولإمكان أخذ الحق منها وخلعها .
وهل يتعارض هذا الأمر مع إقامة الحد ، الجواب لا ، فاذا ثبت الزنا يقام الحد .
ومن إعجاز الآية أنها تشمل أحوالاً متعددة منها :
الأولى : أيام إقامة الحدود .
الثانية : زمان تعطيل الحدود وعدم تحقق الرجم على المحصنة عند ثبات البينة .
الثالثة : تعذر البينة على وقوع الزنا الذي هو إدخال فرج في فرج محرم شرعاً , وهي شهادة أربعة رجال عدول .
الرابعة : غياب الأمارة على الزنا , وإنتفاء الدليل عليه .
الخامسة : سيادة القانون الوضعي .
الثاني : المراد من الفاحشة النشوز والخروج عن طاعة الزوج التي بينت في الشريعة .
الثالث : المراد بذاءة اللسان وقبيح القول، والتعدي اللفظي على الزوج والأهل .
وقد ورد ذات لفظ الفاحشة بخصوص المطلقات بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ]( ).
ومن الفاحشة في الآية أعلاه القذف أو السرقة أو الربا في تجارة أو قيام الزوجة بالتعدي والكلام الفاحش مع الأصهار، حيث يسقط حقها في السكن وتخرج من البيت، ولكن موضوع آية البحث أعم وفي قراءة أبي بن كعب (إلا أن يفحشن عليكم) ( ).
وصحيح أن اللفظ متحد في الآيتين بقوله تعالى[يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ] إلا أن الموضوع مختلف , وإذا إختلف الموضوع تباين الحكم.
وان جئن بالفاحشة فهل يحق عضلهن وحبسهن والتضييق عليهم الجواب لا، إنما المراد الرجوع ببعض ما أعطين وهو الخلع أي تفتدي المرأة نفسها بالبدل كي تطلّق .
وقال الطبري : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة”، فيحل لكم حينئذ الضرارُ بهن ليفتدين منكم( ) .
ومن إعجاز نظم الآية ورود الأمر بمعاشرتهن بالمعروف والحسنى حتى بعد إتيان الفاحشة مما يدل على أن الفاحشة ليست زنا والزنا فرد نادر، وإثباته أمر غاية في الصعوبة، وجاءت الآية للنهي عن الفعل المنكر ، والمختار أن المراد من الفاحشة أعم من الزنا إنما هو ما يستحق عدم إستدامة المعاشرة بالمعروف , وهو من مصاديق النهي عن المنكر , وقوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وقد يلجأ بعضهم إلى ضرب المرأة مع كرهه لها أو عدمه أو من أجل إنتزاع ما دفعه لها من المهر ، فنهى الله عز وجل عنه وأمر بمعاشرتهن بالحسنى.
الرابع : الفاحشة هنا شكاسة الخلق , وسوء العشرة، وإظهار الشماتة والضجر والملل من غير سبب.
الأمر السابع : بعد تقديم الآية لنداء الإيمان وتعقبه بالنهي المتعدد، جاء الأمر من عند الله للمسلمين بقوله تعالى [وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ] ( ) وهو آية في الإلتفات وفق الإصطلاح البلاغي لكنه إلتفات من النهي إلى الأمر ، وقد يأتي بالعكس .
ومن الإعجاز أن كلاً منهما دعوة للمسلمين للإصلاح ونشر شآبيب الرحمة داخل البيوت وخارجها ، وفي المدينة والريف والبادية ، فبعد النهي العام للمسلمين عن وراثة أو حبس المرأة جاء الأمر للمسلمين بالتقيد بآداب الإسلام بحسن العشرة مع الزوجة .
ويمكن تأسيس علم جديد في السنة النبوية ، وهو سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأسرة وأحكامها وتسميتها السنة الأسرية أو السنة المنزلية وهي غير السنة الدفاعية والتقريرية والتدوينية .
وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا عاشروهن بالمعروف ) فبعد ورود نهيان في الآية جاء أمر في ذات الموضوع وكل فرد من الأمر والنهي من لوازم الإيمان، ومصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
والمعروف هو الذي جاء به القرآن والسنة بالندب إليه ، وما تعارف عليه المؤمنون في معاملاتهم مع عوائلهم ونسائهم، وما ترضاه المروءة ومصاديق الإنصاف والتفقه والإجمال في الخطاب وعدم التعدي في القول صيغة وألفاظاً وفي الفعل، وعدم ضربهن وهل من المعاشرة بالمعروف تحسين الهيئة واللباس , الجواب نعم .
لقد خاطب الله عز وجل المسلمين في آية البحث بنداء الإيمان , وفيه شاهد على تحملهم أعباء تثبيت الإيمان في النفوس ومن محاسن المعاشرة بالمعروف تعاهد الأسرة الصلوات في أوقاتها والانقطاع إلى الدعاء، وإستحضار سنن وآداب الشريعة في القول والفعل , قال تعالى[وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا]( ).
نعم سوء المعاشرة ليس عذراً للتخلف عن أداء الفرائض في أوقاتها، فلابد من إتيان الصلاة والفرائض الأخرى كالصيام والزكاة في أوقاتها على أي حال، وهذا الأداء سبب لإزالة الضغائن، وهو مقدمة لحسن المعاشرة، وانتفاء القسوة في المعاملة.
ترى ما المقصود بالضمير المتصل (هن) للغائبات , فيه وجوه :
الأول : المراد اللائي يتوفى أزواجهن عنهم، لأن موضوع الآية خاص بهن .
الثاني : عموم الزوجات.
الثالث : إرادة الزوجة والمطلقة والأرملة .
الرابع : إرادة الأخت والبنت والأم.
وباستثناء الوجه الأخير فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق آية البحث، لبيان لزوم الإحسان للزوجة في كل أحوالها فانها كالوديعة .
وهل يمكن القول بالتفصيل وتعدد المعنى المراد من الضمير(هن) في الآية ويكون تقدير الآية : وعاشروا اللائي يتوفى أزواجهن بالمعروف فان كرهتم الزوجة مطلقاً) الجواب لا دليل على هذا التفصيل، وليس من سبب للجوء إلى الحصر في الضمير (هن).
وتقدير قوله تعالى [وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ] على وجوه :
أولاً : وعاشرهن بما أنتم مؤمنون.
ثانياً : وعاشروهن من حيث أنعم الله عليكم بالإيمان .
ثالثاً : وعاشروهن بالمعروف والحسن من الصلات والمعاملة عندكم كمؤمنين .
رابعاً : وعاشروهن بالمعروف الوارد في القرآن والسنة .
خامساً : وعاشروهن بالمعروف الذي يأتي بالثواب معه .
سادساً : وعاشروهن بالإحسان المعروف الذي تسكن إليه الطباع.
سابعاً : وعاشروهن بالمعروف حسب حالكم وشأنهم .
ثامناً : وعاشروهن بما يأمر به ويحسنه الشرع .
تاسعاً : وعاشروهن بالمعروف من طاعة الله، وما يقربكم إليه تعالى بالإحسان إلى الزوجة والرأفة بها.
عاشراً : لقد ورد في القرآن الثناء على المسلمين نعتهم بأنهم يأمرون بالمعروف كما في قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ]( )، ليكون من معاني الآية، وعاشروهن بما تأمرون به الناس من سبل الطاعة.
الحادي عشر : وعاشروهن بأمرهن بأداء الفرائض والإمتناع عن المعاصي.
ومن خصائص نداء الإيمان أنه باعث على حسن العشرة وطيب المخالطة ، فهو شاهد على بلوغ المسلمين مراتب الإيمان , ومن لوازم التقوى السعي في مرضاة الله ومداراة الناس بالأخلاق الحميدة ، وفي التنزيل [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
ومن معاني نداء الإيمان الإقتداء بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحسن عشرته مع أزواجه ، ومدحه لهن ، وعن عائشة (كَانَ يَتَّكِئُ فِي حِجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ) ( ).
(وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذبح الشاة فيقول أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة) ( ).
(وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ وَهُوَ صَائِمٌ)( ).
(وكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا) ( ).
وفيه شاهد على العدالة حتى مع الأسرة ، ومنع للغبن والحيف ، ولا يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج لسفر وبعض نسائه غير راضية ، وعن النبي محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائكم) ( ).
وفيه شاهد بأن السنة النبوية بيان وتفسير للقرآن بأن جاء نداء الإيمان في هذه الآيات التي تنهى المسلمين عن ظلم وعضل المرأة بالملازمة بين كمال الإيمان وحسن الخلق ، وأن الفضل في الإحسان والصلاح يتجلى بالعناية بالنساء .
وعن الإمام (علي بن أبي طالب عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الرجل ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم ، وإن الرجل ليكتب جبارا ، وما يملك إلا أهل بيته)( ).
ومن خصائص نداء الإيمان أنه دعوة للمسلمين لحسن الخلق مع العيال وحث للنساء بالأخلاق الحميدة الحسنة مع الأزواج والخشية من الله والعقاب بالنار يوم القيامة من الخيانة وسوء الخلق معهم ، فكما تقول الآية [وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ] ( ) فان مفهومها خطاب للنساء هو (وعاشرنهم بالمعروف )
مع لزوم طاعة المرأة لزوجها فيما يرضى الله ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
الأمر الثامن : بعد النهي المتعدد عن الإستحواذ على زوجة الميت بغير حق ، والأمر بحسن معاشرة النساء ، تفضل الله عز وجل باحتجاج وتأديب بصيغة الجملة الشرطية ، ليفتح الباب لعلم مستقل في إصلاح النفوس ، وهو البيان والبعث على العمل بصيغة الجملة الشرطية ، وفيه شاهد على أن المسلمين يتلقون آيات القرآن بعقولهم ويتدبرون في معانيها ، إذ قال الله عز وجل [فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا] ( ).
والكراهية كيفية نفسانية ، وليس من حصر لأسبابها ، وقد تكون ظاهرة للطرف المكروه وغيره ، وقد لا تكون ظاهرة ولكن يمكن إستقراؤها فجاءت الآية مطلقة سواء تعلق سبب الكراهية بذات المرأة كما لو كانت دميمة ( ).
وهل يحتمل أن يكون الكره بسبب تخلفهن عن وظائف الإيمان ، الجواب نعم ، إذ أن تقدير الآية هو : يا أيها الذين آمنوا إن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل فيه خيراً كثيراً ).
لبيان إمكان التوبة والإصلاح والصلاح ، ومن معاني نداء الإيمان في آية البحث أنه يمنع من البطش والإنتقام بسبب الكراهية خاصة في الصلات مع الأسرة ، ويتجلى الحلم عند الزوج بالإعراض والصفح عن الأذى مع الدعوى إلى التقوى التي تتجلى بنداء الإيمان ، وتقديره في الآية على وجوه :
أولا : يا أيها الذين آمنوا لا تكرهوا المؤمنة منهن .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا لا تكرهوهن عصبية وحمية .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا لا تكرهوهن بسبب فعل غيرهن كالتعدي الذي قد يصدر من بعض أهلهن ، قال تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] ( ).
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا إن كرهتموهن فلا تظلموهن .
خامساً : يا أيها الذين آمنوا لا ملازمة بين الكراهية والطلاق فكره الزوج لإمرأته ليس علة تامة للطلاق .
إذ تتعلق الكراهية بأمر حال من قول أو فعل ، ولكن قد يأتي من الزوجة نفع في قادم الأيام ، وقد تلد أولاداً صالحين ، وكم من إنسان كره زوجته لبعض الطباع فطلقها ، وتزوج غيرها فرآى ما هو أشد غضاضة وأذى .
ومن أسرار ورود نداء الإيمان في آية البحث تأديب المسلمين على التنزه من الظلم داخل البيوت وفي المعاملات الأسرية ، وتجد أحوال الناس متباينة بخصوص حياتهم اليومية في البيوت وخارجها ، فأراد الله عز وجل للمسلمين والمسلمات السعادة في بيوتهم ، وصيرورة البيت نوع طريق للسعادة الأخروية ، وهو سبب لإستقامة الحال ، وعمارة المسكن ، وإنتظام حياة الأبناء والصلاح في الجوار .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لَا يَفْرَكُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ) ( ) فقد تنفر النفس من طباع مخصوصة ، ولكن هناك طباع وخلق حميد آخر يترشح عن الإيمان يكون فيه تخفيف ودعوة للصبر ، وهو بذاته خير وطريق للخير .
وهناك مسألتان :
الأولى : ما هي النسبة بين نداء الإيمان وخاتمة آية البحث .
الثانية : ما هي النسبة بين النهي الوارد في الآية وبين خاتمة الآية.
أما بخصوص المسألة الأولى فالنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، إذ أن موضوع نداء الإيمان أعم في مضامينه ودلالاته ونفعه وأثره ،وهو سور الموجبة الجزئية الذي يتغشى صلات ومعاملات المسلمين ، ومع الإيمان يأتي الخير الكثير لذا قيدت الآية مجيؤه بأنه من عند الله عز وجل , بقوله تعالى [وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا] ( ).
ومن الإعجاز في قانون خاتمة آية البحث أنه لم يحصر الكراهية وترشح الخير عنها بذات المرأة بل يشمل الأشياء والأمور المكروهة مطلقاً ، ويكون تقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا عسى أن تكرهوا شيئاً من أمور العيال أو المعاش أو العمل ويجعل الله فيه خيراً كثيراً .
ثانياً : يا أيها الذي آمن عسى أن تكره شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً لك وللمسلمين .
ثالثاً : يا أيتها التي آمنت عسى أن تكرهي شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ) .
فقد تكره المرأة زوجها بسبب طباعه وسوء خلقه أو تعديه وظلمه لها أو لغيرها من الناس ، فجاءت هذه الآية لتدعوها إلى الصبر عليه عسى أن يرزقها الله عز وجل منه ولداً صالحاً .
الأمر التاسع : من الإعجاز في آية البحث إبتداؤها بنداء الإيمان وإختتامها بقانون من الإرادة التكوينية ، وهل نداء الإيمان من الإرادة التكوينية أيضاً .
الجواب نعم ، للملازمة بين خلافة الإنسان في الأرض وبين إيمان أمة من الناس في كل زمان ، فعندما إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض لإفساده فيها , وسفكه الدماء أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
ومن علم الله عز وجل وجود أمة مؤمنة في كل زمان ، ومنه بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن ليصبح المسلمون [ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ومن مصاديق إسم التفضيل في الآية أعلاه إستدامة وبقاء المسلمين بخصال الإيمان إلى يوم القيامة ، ويجعل الله لهم الخير الكثير في النساء مع كراهيتهم لهن ، كما جعل الخير الكثير في القتال مع أنه كره لهم ، قال تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.
وجاءت الآية بصيغة الترجي (عسى) لبيان الإحتمال وليس القطع والعموم في مجئ الخير من المرأة المكروهة ، وللبعث على الدعاء للصلاح , وإتباع منهاج النبوة .
فعسى ان تكره المرأة ، ويكون في بقائها والسكوت عنها أذى ، وفي التنزيل في خطاب من عند الله عز وجل لنساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم [عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ] ( ).
وفي قوله تعالى [فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا]( ) مسائل :
الأولى : عدم الملازمة بين الكراهية والخير الكثير فقد تُكره المرأة وليس فيها خير كثير ، ولكن الآية تدعو للصبر على النساء والتريث في مسألة الطلاق والفراق ، فلذا ورد بخصوص الناشز وعدم التعجيل بفراقها قوله تعالى [وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً] ( ).
ووردت الآية أعلاه في نداء سورة النساء وبعد خمس آيات من سورة البحث , ليكون من إعجاز القرآن مجئ الآيات المتعاقبة التي تنظم شؤون الأسرة وتمنع من الشطط والحيف والظلم فيها .
الثانية : ذكر صدور ووقوع الخير الكثير من المرأة على نحو الترجي , وذكر أن عسى من الله واجبة .
وأن الرجاء في حق الله تعالى ممتنع لأن مقاليد الأمور كلها بيده سبحانه ، وهذا صحيح ولكن الآية تبين فضل الله عز وجل على المسلم عند تحليه بالصبر على المكروه ، وتحمله الأذى في مرضاة الله بالمعاشرة الحسنة , وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا عاشروهن وإن كرهتموهن ).
الثالثة : التذكير بفضل الله بأن ينسخ الأمر المكروه بالحسن ويغير ما في القلوب بالدعاء والصدقة من العباد وإبتداء من فضل الله ، وعن النواس بن سمعان قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن ، إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك قال : والميزان بيد الرحمن يرفع أقواما ويضع آخرين ) ( ).
الرابعة : بعث المسلمين للتفقه في الدين ومعرفة قانون من الإرادة التكوينية ، وهو أن الله عز وجل يغير ويقلب حال المسلمين بأن يجعل في الأمر المكروه نفعاً عظيماً وخيراً جزيلاً .
الخامسة : دعوة المسلمين للصبر والتأسي وعدم التعجل في الفعل المرتكز إلى الكراهة .
السادسة : بيان مصداق لمنافع نداء الإيمان الذي ورد في بداية آية البحث بأن يجعل الله عز وجل الخير الكثير في المكروه ، وهل هذا القانون خاص بالمؤمنين أم أنه عام للناس جميعاً ، فيه وجوه :
الأول : إنه عام للناس وهو من مصاديق رحمة الله عز وجل بالناس في الدنيا .
الثاني : إختصاص المسلمين بنعمة مجئ الخير الكثير من الأمر المكروه .
الثالث : القدر المتيقن في المقام هو ما يذكره القرآن والسنة مثل بقاء المرأة في البيت مع كره الزوج لها ، وهذا الكره ليس دائماً بسبب خصال قبيحة عندها ، بل قد يتعلق بذات الزوج وأحواله ومزاجه .
فيكون من الخير الكثير تنمية ملكة الصبر عند المسلم وتطلعه إلى الخير الكثير .
والمختار أن هذا القانون مطلق ، وهو أن الإنسان قد يكره شيئاً ولكن الله يدخر فيه نفعاً عظيماً وخيراً كثيراً ، ولكن الإنسان لا يعلم بمصلحته ونفعه ، ويجهل علوم الغيب ، فجاء قوله تعالى [فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا] ( )من كنوز علم الغيب أطلع الله عز وجل بالمسلمين ، قال تعالى [تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ] ( ).
وتؤسس هذه الآية لعلم من ذخائر الإيمان في الحياة الدنيا ، وتفتح الآفاق أمام المسلين والمسلمات وتجعل أيام الحياة ذات بهجة ونضارة فحتى في الأمور المكروهة فان الخير قريب من المسلمين يتعلق بالصبر والدعاء والإستغفار يصير هذا الخير قريباً مضاعفاً ، وهل ينفع الدعاء لذات الشخص الداعي أم ينفعه وغيره ، الجواب هو الأخير .
وعن أبي الدرداء قال (عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا ، قال الملك : ولك بمثل) ( ).
وجاء الحديث أعلاه بلفظ المسلم وليس المؤمن لإرادة المعنى الأعم وكفاية الشهادتين في تحقق صدق الدعاء صدوراً والجهة المقصودة لإرادة فضل الله في الإستجابة ، والمراد من الملك في الحديث هو الملك الموكل بالصبر نفسه إذ يقوم بالتأمين والدعاء لذات الصبر .
وذكرت الآية مجئ الخير الكثير في المكروه مع الصبر عليه بقيد أن يكون في مرضاة الله ، ويتجلى هذا القيد بإبتداء الآية بنداء الإيمان ، وتقدير خاتمة الآية .
يا أيها الذين آمنوا عسى ان تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً) ولم تذكر الآية متعلق الخير في الآية ، وفيه وجوه :
أولاً : إرادة الخير الكثير للذي يصبر على الزوجة المشاكسة .
ثانياً : يعطي الله الخير الكثير للذي يسرح المرأة إذا توفى زوجها من غير أن تحبس في البيت .
ثالثاً : يكون الخير لذات المرأة .
رابعاً : إنبساط الخير على المسلمين والمسلمات من القضية الشخصية ، فيصبر المسلم على الزوجة ويعاشرها بالمعروف وسنن التقوى ، فينتفع المسلمون منه ، وفي التنزيل [وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] ( ).
خامساً : ترشح الخير على الأولاد وأفراد الأسرة .
سادساً : إرادة السعة في الرزق ، ومن معاني الخير المال , قال تعالى [وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ] ( ).
سابعاً : بعث المسلمين على فعل الخير بالصبر وتحمل المكروه في جنب الله ، قال تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ] ( ) وقيل هي النوافل، ولكن الآية أعم ولا تختص بالعبادات بل تشمل المعاملات والأحكام .
قانون تعدد جهات نداء الإيمان
ومن الإعجاز في نداء الإيمان توجهه إلى جهات متعددة في آن واحد :
الأولى : توجه الخطاب القرآني إلى الذي ينزل عليه وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الحصر والتعيين فلم ينزل القرآن على غيره من البشر، وقد إنقطع برحيله إلى الرفيق الأعلى نزول القرآن .
وفي علوم القرآن مبحث هو آخر آيات القرآن نزولاً، وأوان نزولها قبل أيام معدودة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أقوال منها:
الأول: آخر آية نزلت وهي[وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( )، ورد عن إبن عباس وسعيد بن جبير .
الثاني : إنها آية النهي عن الربا بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، عن إبن عباس .
الثالث : أخرج أبو عبيد في فضائله عن ابن شهاب قال : آخر القرآن عهداً بالعرش آية الربا وآية الدين .
الرابع : آية الدين هي آخر آيات القرآن نزولاً ، وهو قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا]( ).
وعن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين .
وأخرج الطيالسي وأبو يعلى وابن سعد وأحمد وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أوّل من جحد آدم أن الله لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذار إلى يوم القيامة فجعل يعرض ذريته عليه ، فرأى فيهم رجلاً يزهر .
قال : أي رب من هذا؟ قال : هذا ابنك داود . قال : أي رب كم عمره؟ قال : ستون عاماً.
قال : رب زد في عمره .
فقال : لا إلا أن أزيده من عمرك . وكان عمر آدم ألف سنة ، فزاده أربعين عاماً .
فكتب عليه بذلك كتاباً وأشهد عليه الملائكة ، فلما احتضر آدم وأتته الملائكة لتقبضه قال : إنه قد بقي من عمري أربعون عاماً . فقيل له : إنك قد وهبتها لابنك داود . قال : ما فعلت .
فأبرز الله عليه الكتاب وأشهد عليه الملائكة ، فكمل الله لآدم ألف سنة ، وأكمل لداود مائة عام ( ).
الخامس : آخر آية نزلت قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
السادس : ما ورد عن البراء بن عازب قال : آخر سورة نزلت: “براءة”، وآخر آية نزلت: [يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ] ( ) .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن محمد بن المنكدر قال : سمعت جابر بن عبد الله قال: دخل عَلَيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنا مريض لا أَعْقِل، قال: فتوضأ، ثم صَبَّ عَلَيّ -أو قال صبوا عليه -فَعَقَلْتُ فَقُلت: إنه لا يرثني إلا كلالة، فكيف الميراث ؟ قال: فنزلت آية الفرائض.
أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة، ورواه الجماعة من طريق سفيان بن عُيَيْنة، عن محمد بن المُنْكَدر، عن جابر، به. وفي بعض الألفاظ: فنزلت آية الميراث: [يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ]الآية ( ).
الثانية : توجه الخطاب لأهل البيت والصحابة الذين عاصروا نزول آيات القرآن وكانوا يتابعون نزولها يوماً بيوم، ومن لم يحضر عند النبي في آحد الأيام يسأل غيره من الصحابة هل نزل قرآن هذا اليوم أو يسأله في اليوم التالي، هل نزل قرآن يوم أمس، وكانوا يتدارسون آيات القرآن .
وعن عبد الله بن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعلم معانيهن والعمل بهن ( ).
ومن الإعجاز في النداء والخطاب القرآني أنه مدد وعون للمسلمين للإمتثال بالمضامين التي يأتي بها، وفي ذات الخطاب القرآني تثبيت لمعاني الإيمان في نفوس المسلمين، وترغيب للناس بالإسلام، وبعث للخوف في نفوس الذين كفروا.
ومن الآيات أن هذا الخوف ليس مجرداً بذاته إنما هو نوع تقريب إلى مقامات الإيمان، بمعنى يخاف الذين كفروا ليكون خوفهم سبيلاً للتوبة والإنابة , ودعوة ليختاروا الأمن بتلقي الخطاب القرآني إذ أنه من مصاديق قوله تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
ويمكن تشريع علم مستقل هو الخطاب القرآني والصحابة) لبيان بعثه لهم للصبر وصدق الإيمان وتنمية ملكة التقوى عندهم، ونداء الإيمان حرب على النفاق وبرزخ دون الخيانة.
وبين الخطاب القرآني ونداء الإيمان عموم وخصوص مطلق إذ أن قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فرع ومصداق للخطاب القرآني، ويختص أهل البيت والصحابة بخصوصية في ذات نداء الإيمان، لأنهم أول من آمن ثم تبعهم التابعون وأجيال المسلمين، وتقدير نداء الإيمان بالنسبة لهم على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا قبل أجيال المسلمين اللاحقة.
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله وتبعكم الناس ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ] ( ).
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا في زمن النبوة.
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا وفزتم برؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصلاة بامامته، والسماع منه.
خامساً : يا أيها الذين آمنوا فحاربكم كفار قريش ونحوهم .
سادساً : يا أيها الذين آمنوا تلقوا نداء الإيمان واجعلوه تركة للذين بعدكم .
لقد نزل نداء الإيمان ليبقى يضيء دروب الهداية للمسلمين، فهو شمس ساطعة في النهار والليل تنفذ إلى شغاف القلوب، ومن خصائص نداء الإيمان تنزيه الأرض من الكفر ، وإزاحته عن منازل الرياسة والحكم في الأرض .
الثالثة : توجه الخطاب القرآني إلى المسلمين والمسلمات ، وهو من أسرار النداء[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وما فيه من الفضل العظيم على المسلمين والمسلمات بان يتلقوا الخطاب بعرض واحد ليس من فارق بين غني وفقير، وبين ملك وعامة الناس، وبين الرجل والمرأة.
وعن أبي أمامة (قال عيّر أبو ذر بلالا بأمه فقال يا ابن السوداء وأن بلالا أتى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فأخبره فغضب فجاء أبو ذر ولم يشعر فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم) فقال ما أعرضك عني إلا شئ بلغك يا رسول الله قال أنت الذي تعير بلالا بأمه .
قال النبي صلى الله عليه وآله و سلم والذي أنزل الكتاب على محمد أو ما شاء الله أن يحلف ما لأحد على أحد فضل إلا بعمل إن أنتم إلا كطف الصاع) ( ).
ويتجلى مصداق هذا التساوي في العبادات الواجبة وجوباً عينياً على كل مسلم ومسلمة كما في الصلاة والوقوف فيها بين يدي الله عز وجل، فلا يعف الملك عن بعض أفراد الصلاة، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلي ( )، لبيان أنه يؤدوا الصلوات الخمس من غير نقصان، فمن باب الأولوية أن يؤديها عموم المسلمين كما أداها.
وعن عطاء قال : وبينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم التشهد فقال رجل وأشهد أن محمدا رسوله وعبده فقال النبي صلى الله عليه و سلم قد كنت عبدا قبل أن أكون رسولا قل وأشهد أن محمداً عبده ورسوله( ).
وتتجلى المساواة في تلقي الخطاب القرآني بأداء المسلمين الحج، وتقييده بالإستطاعة وإرتداء المسلمين جميعاً لباس الإحرام لينادوا جميعاً (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك).
ومن الإعجاز أن السلطان والملك والغني يشعرون بالعز وتملأ نفوسهم السكينة لأنهم يلتقون مع الفقراء وعامة المسلمين بذات اللباس والنداء وأداء المناسك .
ومما يتفاخر به الملوك أداؤهم فريضة الحج ، ونعت أحدهم بالحاج ، لتكون أيام الموسم أواناً لإزالة الفوارق بين المسلمين مثلما هي دعوة للأخلاق الحميدة، وبرزخ دون الأخلاق المذمومة لقوله تعالى[الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ]( ).
ولبيان قانون وهو قد تأتي الآية القرآنية بصيغة الجملة الخبرية ولكنها تتضمن معنى الأمر أو النهي، ويدرك المسلمون هذه الحقيقة، ويتلقون الأحكام ذات الصبغة الخبرية بالقبول والإمتثال المتجدد في كل زمان، كما في قوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
إذ تبين الآية أعلاه أن الحج واجب على كل إنسان، ولكن المسلمين يتعاهدونه ويؤدونه من غير أن يكرهوا أهل الملل الأخرى على أدائه لأن الآية صريحة بوجوبه العيني على كل مكلف من البشر خاصة وأن الذين كفروا كانوا يحجون البيت، واستمروا بالحج حتى بعد بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقيام المسلمين بأداء مناسك الحج , قبل أن يمنعوا.
ويمكن الإستدلال بالآية أعلاه على وجوب الفروع على الذين كفروا كوجوب الأصول عليهم، ومن الآيات أن الله عز وجل زجر المسلمين عن إجبار غيرهم لحج البيت لقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
ليكون من مفاهيم الآية أعلاه أمور :
أولاً : منع المشركين والكفار من أداء الحج.
ثانياً :حث الذين كفروا على دخول الإسلام.
ثالثاً : عدم جواز إكراه غير المسلمين على حج بيت الله الحرام .
رابعاً : بيان حقيقة وهي أن المشرك إذا أدى الحج فانه لا يقبل منه الحج، وفي التنزيل[قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( ).
خامساً : نهي أجيال المسلمين المتعاقبة والملوك والحكام عن ترغيب غير المسلمين بحضور موسم الحج من أجل جلب الأموال وما يسمى بالسياحة.
إذ تتضمن الآية الوعد من عند الله عز وجل بالغنى والثروة للمسلمين، وهل ثروة النفط في هذا الزمان من مصاديق الوعد في الآية أعلاه، الجواب نعم.
وقد أفتتحت الآية بنداء الإيمان ليتعاهد المسلمون والمسلمات جميعاً أحكام الحج، وسلامة البيت الحرام ، وعماره.
ولم تقل الآية (وإن أصابتكم عيلة) بل قالت[وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً] ليأتي الفضل الإلهي حالما يخشى المسلمون الجوع والفاقة والحاجة، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
وهل يشمل نداء الإيمان غير المسلمين، الجواب الأصل هو نعم، فليس من مائز رتبي بين نداء العموم(يا أيها الناس) وبين نداء الخصوص(يا أيها الذين آمنوا) إلا من جهة حجب غير المؤمنين عن أنفسهم نداء الإيمان بإصرار على الجحود بالنبوة والتنزيل، ويمكن تقدير نداء الإيمان على وجوه:
الأول : يا أيها الناس آمنوا بالله ورسوله.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا ويؤمنون.
الثالث : يا أيها الذين آمنوا قد يلحق بكم الناس في الإيمان.
الرابع : يا أيها الذين آمنوا بما يجب عليهم وعلى الناس.
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بنداء الإيمان ليكون حجة على الذين كفروا، ودعوة لهم للتدبر في منافع الإيمان في الدنيا والآخرة، وذات نداء الإيمان خير محض، ونفع متجدد في كل ساعة من ساعات الدنيا، وهو حاضر يوم القيامة .
وهل يدرك الناس هذا القانون، الجواب نعم، وهو من مصاديق قوله تعالى في وصف القرآن[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( ).
لقد قدمت آية البحث النهي بعد نداء الإيمان ، وتوجه الخطاب فيها إلى المسلمين والمسلمات في كل زمان ، وهو من الشواهد على حب الله لهم ، وحينما زجرهم الله عن وراثة عين المرأة فهل كفل الله عز وجل الرزق للمسلمين سواء في النكاح أو المال ، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز الغيري للنواهي القرآنية .
ويبين مجئ نداء الإيمان في آية البحث تعلق الإيمان بأحكام الأسرة، ولزوم صحة عقود النكاح بما يؤمن المنبت الكريم والذرية الصالحة، ورفع الغبن عن النساء والمستضعفين.
ولا تروق هذه الأحكام لرؤساء الكفر الذين يسخرون الناس لخدمتهم ويتخذون منهم عبيداً وخولاً، فيقومون بشن الحروب على الإسلام وغزو المسلمين في عقر دارهم.
وفي التأريخ شواهد كثيرة على ثورة أصحاب الأموال وكبار الإقطاع على المصلح الذي يريد عتق العبيد ورفع الحيف عن المستضعفين، وإن إنتصر هذا المصلح فانهم يعملون على تقويض سلطانه وعودة أيامهم، ومن المصلحين والحكام من يهاب هؤلاء ولا يتعرض لسلطانهم وإن كان الظلم فيه جلياً واضحاً.
ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مجئ آية قرآنية بحكم شرعي عام يتغشى حياة المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، على نحو متساو، وتبين أن الناس سواء في الحكم الشرعي، إنما يكون التفاضل بالإمتثال للأمر والنهي الوارد في الكتاب والسنة، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : الناس سواء كأسنان المشط , وإنما يتفاضلون بالعافية والمرء يكثر بإخوانه المسلمين ولا خير في صحبة من لا يرى لك مثل الذى ترى له عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء ( ).
قانون نسخ الإسلام للعادات المذمومة
لقد نسخت أحكام الشريعة الإسلامية الشرائع السابقة، ليدل هذا النسخ من باب الأولوية على نسخها للعادات والأعراف الإجتماعية التي لا أصل لها في الشرائع السماوية السابقة.
ويمتاز هذا النسخ عن غيره في تأريخ الإنسانية كلها بالبقاء والدوام، فلا يطرأ عليه تغيير أو تحريف برسم الحرف القرآني أو بعالم الأفعال، ولا يستطيع الناس أن يجعلوا أحكام هذا النسخ وراء ظهورهم، إذ أن آيات القرآن حاضرة في حياة المسلمين برسمها وتلاوتها والمسارعة للعمل بأحكامها.
وهو من الإعجاز في وجوب قراءة القرآن في كل صلاة من الصلوات اليومية الخمسة، وفي هذه القراءة مسائل :
الأولى : بيان مصداق لعبادة المسلمين لله عز وجل، وتجدد هذا المصداق خمس مرات في اليوم شكراً لله عز وجل، وليكون شاهداً على إنتفاء الغفلة عن المسلمين والمسلمات .
الثانية : تأكيد المسلمين كل يوم بصيغة العبادة لقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]( ).
ومن الإعجاز أن إقامة الصلاة وقراءة القرآن مصداق لكل فرد وبرهان ورد في الآية أعلاه .
فالذين يقيمون الصلاة كل يوم كما أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم (خير أمة)، ويخرجون للناس بالعبادة الحق والصدق.
والصلاة دعوة فعلية للتوبة والإنابة، وفيها تذكير بعالم الآخرة، والجزاء يوم القيامة ، وفي الصلاة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر بالقول والفعل، أما القول فهو تلاوة آيات القرآن فيها، ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه تتضمن الأمر أو النهي في منطوقها أو مفهومها.
فيتجلى مصداق قوله تعالى[تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] ( )، كل يوم على نحو الإنطباق والتحقق اللازم بالوجوب العيني على المسلمين بتلاوة كل واحد منهم آيات القرآن في الصلاة، ليكون تقدير آية (خير أمة) على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا كنتم خير أمة بإقامة الصلاة اليومية.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا (كنتم خير أمة أخرجت للناس) ( )، بإقامة الصلاة وتلاوة القرآن .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف في تلاوة آيات القرآن، وما فيها من الأوامر في العبادات والمعاملات والأحكام.
الرابع : يا أيها الذين آمنوا كنتم خير أمة تنهون عن المنكر بالتقيد بأداء الصلاة، وتلاوة آيات القرآن التي تنهى عن المنكر والفعل القبيح ومنه وراثة المرأة كرهاً، وصيرورتها إرثاً، لقد أراد أهل الجاهلية بوراثة المرأة أموراً :
الأول : الإستحواذ على النساء .
الثاني : صيرورة المهر والنكاح كالملك، فاذا ما تزوج أحدهم إمرأة صارت ملكاً له ولأولاده، فلا تنفر نفوسهم من كثرة نساء أبيهم لأنهن قد يصبحن أزواجاً لهم، فترى أحدهم عنده أخ من أبيه من زوجة ثانية وإبن له من ذات زوجة أبيه إذا تزوجها بعد وفاته وهل كانت وراثة الإبن لزوجة الأب سبباً لسم أو قتل الإبن لأبيه، الجواب لم يرد في التاريخ ما يدل عليه.
الثالث : منع المرأة من المطالبة من ميراث الزوج، وحرمانها حقها، لأنها تكون بالذات إرثاً.
الرابع : الحيلولة دون رجوع زوجة الميت إلى أهلها، إنما تبقى في بيت الزوجية، يختار أهله ما يفعلون بها، أما النكاح للأبناء أو الأقارب، أو تركها بلا بعل .
الخامس : الإستيلاء على ما عند الزوجة من المال، بأن تدفعه عوضاَ وبدلاً لحريتها وإختيارها للزوج المناسب لها، أو أخذه منها مع إبقائها زوجة للإبن.
الثالثة : تذكير المسلمين بلزوم الإمتثال لأحكام وسنن القرآن فيقرأ المسلم الآية القرآنية ، ويتعظ منها ويسعى للعمل بمضامينها، وتنفر نفسه من المعصية بخصوص مضامين الآية، ومطلقاً، بلحاظ قانون وهو تنمية الآية القرآنية لملكة التقوى عند المسلمين، وهو من مصاديق قوله تعالى[الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الرابعة : موضوعية نداء الإيمان في تعاهد المسلمين والمسلمات لقراءة القرآن بشوق ورغبة وعزيمة لتكون هذه القراءة مرآة إسلامية لقوله تعالى [يَايَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ] ( ).
بحث أصولي
لقد ورد النهي بقوله تعالى [لاَ يَحِلُّ] والنهي ضد الأمر كما أن الحرمة ضد الوجوب ، والنهي لغة المنع والزجر عن الشيء وطلب الكف عنه .
ويأتي بالفعل والقول ، وقد فاز المسلمون بأن جاءهم النهي بالتنزيل من عند الله عز وجل ، فليس من شيء أعظم بركة من تلقي الأمر والنهي من الله عز وجل ، لذا تفضل الله سبحانه وجعل مقدمته بنداء الإيمان ، وقد ورد في القرآن في وصف قوم من الأمم السالفة [كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ] ( )، ونداء الإيمان دعوة للمسلمين للمناجاة بترك المنكر ، فان قلت ورد قوله تعالى [إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( )، وليس في نص الآية أعلاه ما يدل تناهي المسلمين فيما بينهم عن المنكر ، والجواب من مصاديق الإثم المنكر , ومن مفاهيم المناجاة بالبر والتقوى هو التناهي عن المنكر لأن هذا التناهي والإنتهاء عن المنكر أمر وجودي وليس عدمياً ، وإذا جاء نور الإيمان زال وإنهزم ظلام الكفر والضلالة .
وأختلف في النهي وقول (لا تفعل) هل يستلزم الإستعلاء في النهي وتوجه النهي إلى الأدنى رتبة ، ولا موضوعية لهذا الإختلاف في نواهي القرآن ، إذ أنها تأتي من الرب إلى عبيده المربوبين ، ومن الخالق إلى المخلوقين ، فلابد من التمييز في مباحث علم الأصول بين الأوامر والنواهي التي تأتي من عند الله ورسوله وبين الأوامر والنواهي فيما بين الناس ، وأن تجعل موضوعية وشأناً لعلم الكلام في مباحث علم الأصول .
وقيل أن علم الأصول هو الدليل على الإجتهاد والعلمية ولا أصل لهذا القول ، إنما يتعلق دليله علوم القرآن والفقه .
وقد يأتي النهي بصيغة الأمر بالإمتناع عن الفعل مثل : دع ، أترك ، ذر ، إبتعد ، إمتنع ، إجتنب .
وأما أدوات النهي فأكثرها إستعمالاً (لا) وبها جاءت آية البحث للبيان والوضوح ومنع الإختلاف.
وقيل أن سبب أو علة تخليص (لا) الناهية للفعل المضارع إلى الإستقبال ، هو أنها نقيضة ( لتفعل ) المخلصة للحال ، فان قلت لا تفعل الآن ، فعلى سبيل معنى تقريب المستقبل إلى الحال ) .
ولا دليل على هذا القول ، وليس من تناقض خاص بين لا ، واللام في لتفعل بلحاظ زمن الإستقبال والحال ، إنما هو فرع التضاد بين الأمر والنهي مطلقاً .
وتفيد (لا) النهي في الحال المستقبل ، وهو من إعجاز القرآن ، فليس ثمة برهة وطائفة من الزمان بين نزول الأمر أو النهي القرآني وبين تقيد المسلمين به .
وعن البراء قال (مرَّ بي عمي الحارث بن عمرو، ومعه لواء قد عقده له النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت له: أي عم، أين بعثك النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
قال: بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه)( ).
ومن معاني نداء الإيمان أنه يبعث المسلم على العمل بمضامين الأمر أو النهي في آياته في الحال والمستقبل ، ويجعل نداء الإيمان والعمل بمضامينه إرثاً وتركة لأبنائه وذريته .
ويتوجه النهي إلى جهات :
الأولى : إرادة المخاطَب ، وهو الأكثر في اللغة وصيغ الخطاب .
الثانية : الغائب ، وهو أيضاً كثير ، ولكنه أقل من إستعمال النهي للمخاطَب ، وإن جعله الرضي متساوياً مع المخاطَب من طرف الكثرة .
الثالثة : إرادة نهي الإنسان لنفسه .
وجاء نداء الإيمان موجهاً للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، ولكن مضامين الأمر والنهي التي جاء بها أعم من أن تختص بهم فهي موجهة إلى الناس جميعاً ، فقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا] ( ) عام يشمل الناس في أجيالهم المتعاقبة لبيان مصداق لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بدعوة الناس للإقتداء بالمسلمين في أحكام النكاح وزجرهم عن الفعل البغيض بوراثة زوجة الأب المتوفى .
قانون نداء الإيمان بحر الحسنات
وتأتي الحسنات للمسلم باتخاذه نداء الإيمان ضياءً ومنهاجاً ودستوراً ، فان قلت يأتي الثواب للمسلم بقراءة أي آية أو شطر آية من القرآن ، وليس نداء الإيمان وحده الذي هو شطر آية ومقدمة لموضوع ودليل عليه .
الجواب هذا صحيح ، وكل كلمة وأمر ونهي في القرآن باب لجلب الحسنات وجني الثمار على نحو متحد مع ثواب غيره من مضامين آيات القرآن ومغاير له .
أي تكون النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه ، ليغترف المسلم من الحسنات في تلاوته لنداء الإيمان , ويتفضل الله سبحانه بمضاعفتها وهذه المضاعفة من وجوه :
الأول : مضاعفة ذات حسنات التلاوة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا] ( ).
الثاني :مجئ الحسنات لك بسماع الغير لتلاوتك .
الثالث : تحقق الوعد من عند الله عز وجل بمضاعفة ذات الأجر والحسنات ، بقوله تعالى [وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ).
الرابع : مجئ الحسنات بفضل ورحمة من عند الله عز وجل ، وهو أعم من الوعد الذي تفضل بذكره في الآية أعلاه .
الخامس : ترشح الحسنات للمسلم عن دلالته الناس على فعل الخير .
السادس : زيادة الحسنات بالدعاء والصدقة وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ] ( ).
السابع : تفضل الله عز وجل بمضاعفة حسنات المؤمن بعد وفاته.
الثامن : زيادة الحسنات بالصالحات التي يفعلها الإبن والبنت ) فان قلت قد ورد الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص دعاء الإبن( ).
ويمكن تسمية هذا القانون بإسم آخر وهو (حسنات نداء الإيمان) وتحتمل هذه الحسنات وجوهاً :
الأول : حسنات نداء الإيمان غاية تطلب بذاتها ، بأن يتلو المسلم النداء وهو يرجو الثواب من عند الله عز وجل على هذه التلاوة .
الثاني : إتخاذ نداء الإيمان بلغة لغايات كريمة أخرى .
الثالث : جعل نداء الإيمان وتلاوته حرزاً وواقية .
الرابع : ذات نداء الإيمان دعوة إلى الله عز وجل , ومقدمة للدعوة إليه سبحانه .
الخامس : يهدي نداء الإيمان لما فيه الحسنات سواء بالقول أو العمل ، وهو من أسرار إبتداء ثمان وثمانين آية من القرآن بنداء الإيمان .
السادس : نداء الإيمان حسنة بذاته ، والمراد من الحسنة هنا إسم الجنس وليس الأمر المتحد.
ومن خصائص الحسنة أنها ناسخة وماحية للسيئة بفضل ورحمة من عند الله ، ومن مصاديق هذه الرحمة نسبة محو وإذهاب السيئة ، والذنب والإثم إلى ذات الحسنات بقوله تعالى [إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ] ( ) لبعث المسلمين على السعي في الصالحات واللجوء إلى الإستغفار ، وفيه إزاحة لليأس والقنوط من النفوس ونقض لما يشبه قول المتنبي :
الهجر أقتل لي مما أراقبه … أنا الغريق فما خوفي من البلل( )
وعن (واثلة بن الأسقع ، يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : قال الله تبارك وتعالى : أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء) ( ).
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)( ).
ومن الإعجاز في نداء الإيمان أنه من تقوى الله وشاهد على بلوغ المسلمين مراتب التقوى ، ونداء الإيمان حسنة تتبع السيئة فتزيحها وتمحوها .
وهو من الأخلاق الحميدة في تلاوته ونطقه والعمل بأحكامه ويهدي القارئ والسامع إلى الأخلاق الحميدة .
وإذا كانت الحسنة تمحو السيئة ، فهل تحبط السيئة الحسنة , الجواب لا ، ولا تمحو السيئة الحسنة وأنىّ تمحوها والله عز وجل يضاعف الحسنة بعشرة أضعافها على نحو دفعي ، ثم يتفضل الله عز وجل بنماء هذه الأضعاف ، كما في قوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ).
إنما ورد الإحباط بخصوص الذين كفروا وإختيار الإقامة على الجحود ، قال تعالى [لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ] ( ) وفيه إنذار للمسلمين من الإرتداد , وتدل الآية أعلاه في مفهومها بأنه مع الإسلام ، وتلقي نداء الإيمان فلا حبط للصالحات التي عملها المسلم ، وهو من بركات نداء الإيمان ، إذ أنه بعث للمسلمين مجتمعين ومتفرقين لتعاهد الإيمان .
وفي الحديث القدسي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحكي عن الله عز وجل (قال اذنب عبد ذنبا فقال اللهم اغفر لي قال يقول الله تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا علم أن له ربا يغفر الذنوب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب ذنبا فقال اللهم اغفر لي قال يقول تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبا علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب قال ثم عاد فأذنب ذنبا فقال اللهم اغفر لي .
فقال تبارك وتعالى أراه قال أذنب عبدي ذنبا علم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب اعمل ما شئت فقد غفرت لك .
عن يحيى الباهلي وهو بن زرارة بن كريم بن الحارث عن أبيه عن جده الحارث قال أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بعرفة فقلنا يا نبي الله استغفر لي غفر الله لك قال غفر الله لكم فاستدرت إلى الجانب الآخر لكي يخصني بشئ دون القوم فقلت يا نبي الله استغفر لي غفر الله لك , قال غفر الله لكم إذا قيل للرجل غفر الله لك ما يقول ) ( ).
فان قلت قد ورد عن أبي مليح قال ( كنا مَعَ بُرَيْدَةَ فِي غَزْوَةٍ فِي يَوْمٍ ذِي غَيْمٍ فَقَالَ بَكِّرُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) ( ).
وفي الحديث حث على تعاهد صلاة العصر، والمراد من العمل في الحديث أعلاه أمر خاص يتعلق بثواب تلك الصلاة ، وأختلف في تعيين الصلاة الوسطى في قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ]( ).
وورد النهي المطلق عن وراثة النساء ومجئ هذا النهي بعد نداء الإيمان مباشرة مما يدل على موضوعيته في بناء صرح دولة الإسلام .
ومن أسرار عموم نداء الإيمان وتوجهه للمسلمين والمسلمات زجر النساء من أهل الزوج الميت أو غيرهم عن التحريض على وراثة المرأة التي مات زوجها ، وهل تدل الآية على إختصاص الذكور من المسلمين بنداء الإيمان بلحاظ أنهم الذين يتزوجون النساء كما في زواج الإبن من إمرأة أبيه عند وفاته .
الجواب لا ، إنما ذكرت الآية وراثة النساء ولم تذكر خصوص النكاح ، فلم تبدأ الآية بنداء الإيمان وتقول : يا أيها الذين آمنوا لا تنكحوا ما نكح آباؤكم )، وورد هذا الحكم من غير نداء إيمان في قوله تعالى [وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً] ( ) .
وبين الآية أعلاه وآية البحث عموم وخصوص مطلق ، إذ أن الآية أعلاه أعم في موضوعها ودلالتها فلا تختص بوراثة المرأة ، فقد تتزوج إمرأة الأب زوجاً آخر ثم يفارقها فيريد إبن المتوفى الزواج منها ، أو أنها تذهب لأهلها عند موت زوجها ثم يسعى الإبن للزواج منها، فنهت الآية عنه .
ويتحد موضوع الآيتين في علة الحكم ، ليكون تقدير آية البحث : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً).
ومن معاني صيغة الجمع في الآية المنع من التعيير على ترك هذه الوراثة ، ليصبح التعيير بعد نزول الآية على العمل بهذه العادة أو الهّم بها .
وهو من الإعجاز في إبتداء الآية بنداء الإيمان بأن ينقطع دابر مسألة وراثة ذات المرأة الذي يتوفى عنها زوجها حال نزول آية البحث وإلى يوم القيامة ، وهو من إعجاز القرآن إذ تنفرد أحكامه بأمور :
أولاً : إمتثال المسلمين لأحكامه حالما تنزل الآية القرآنية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) فليس من تعليق في الأحكام التي وردت في آية البحث .
ومن إعجاز آية البحث مجيؤها بصيغة المضارع ليبقى المسلمون في يقظة وحيطة ، ويأتيهم الثواب بنزول النهي من عند الله وتقيدهم بأحكامه ، ويكون إمتناعهم عن وراثة النساء أمراً وجودياً، وفيه الأجر والثواب .
ثانياً : التجلي والوضوح وإنتفاء اللبس والترديد في أحكام هذه الآية، فيستطيع أي مسلم ومسلمة معرفة المعنى العام للحكم الشرعي سواء كان ناطقاً بالعربية أو بغيرها ، فليس من شك أو وهم يترشح عن ترجمة القرآن ، ليكون نداء : يا أيها الذين آمنوا) متوجهاً لكل مسلم بغض النظر عن لغته ولهجته .
وتتعدد لهجات العرب في أمصارهم المختلفة ، ولكن لغة القرآن هي سور الموجبة الكلية الجامع لهم ، والذي يحول دون إبتعاد لهجاتهم عن اللغة العربية ، وهو من الشواهد على فضل القرآن على العربية وأهلها ، وكيفية ضبطها .
ثالثاً : بيان وتفسير أحكام القرآن بعضها لبعض وإنتفاء التعارض بينها ، وهو من الإعجاز في أحكام القرآن، وأسباب سلامته من التحريف ، وفيه منع من إتباع الأهواء.
رابعاً : ملائمة أحكام القرآن لكل زمان ، ودوام الصلة بين آياته والوقائع والحوادث .
خامساً :تلاوة كل مسلم ومسلمة لآياته عدة مرات كل يوم على نحو الوجوب العيني، وبالإجهار والإخفات ، لتكون هذه التلاوة حفظاً للقرآن، وطريقاً للصدور عنه في القول والفعل .
وورد لفظ [َلاَ يَحِلُّ] في القرآن أربع مرات ، كلها في أحكام النكاح والطلاق ، وجاءت واحدة منها خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ] ( ).
وتبين الآية موضوع النهي في وراثة النساء بأنه يكون بالإكراه بقوله تعالى [لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا] ( ).
ومن معاني هذا النهي في آية البحث لزوم حضور مسألة الحلال والحرام في الحياة الزوجية ومعاملة النساء وعدم الإضرار بهن .
فانت قلت قد لا تكون هذه الوراثة بالإكراه ، وقد ترغب بعض النساء التي يموت أزواجهن بالزواج من أبنائهم ، والجواب من جهات :
الأولى : أرادت الآية بيان الفرد الغالب وشمول النهي للعموم.
الثانية : المراد من قوله تعالى [كَرْهًا] أعم من أن يختص بذات النساء , فيشمل النفرة العامة من هذه الوراثة وهي خلاف الحنيفية الإبراهيمية .
الثالثة : عدم دخول نكاح المرأة في الميراث إنما يتعلق الميراث بالأعيان والأموال وليس بالأزواج .
الرابعة : بيان تعدد موارد النهي في الآية ، فيشمل ذات النساء ، وإباحة فروجهن بغير حق ، ولا يختص حكم وراثة زوجة الميت في أيام الجاهلية بأبنائه ، بل يشمل أولياءه وأقاربه الذين يرثونه .
(قال ابن عباس كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاؤا تزوجها أحدهم وإن شاؤا زوجوها من غيرهم وإن شاؤا منعوها التزوج , فنزلت الآية في ذلك , فمعنى الآية على هذا لا يحل لكم أن تجعلوا النساء يورثن عن الرجال كما يورث المال) ( ).
الخامسة : دعوة المسلمين للتفقه في الدين والإمتناع عن ميراث ما ليس الحق ، وهل وراثة المرأة الواردة في هذه الآية من مصاديق قوله تعالى [وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا] ( ) .
الجواب لا ، لتقييد الآية أعلاه للأمر المذموم بأنه ميراث من الميت ولكنه من نصيب الغير ، كما في حرمان النساء والصبيان من الميراث ، لبيان الضرر والحرمان الذي كان يلحق المرأة قبل الإسلام من وجوه :
أولاً : زواج إبن الميت من زوجة أبيه كرهاً .
ثانياً : ترك المرأة التي يموت زوجها بلا زوج ، ومنعها من النكاح.
ثالثاً : العضل والتشديد على المرأة حتى تنفق مالها من أجل الإذن لها بالزواج .
رابعاً : منع المرأة والصبيان من الإرث .
خامساً : مسك المرأة في العصمة مع الإعراض عنها وهجرانها في المضجع ، وتكون الغاية من مسكها هو ميراث مالها أو بذلها له من أجل الطلاق .
وعن الزهري في آية البحث قال ( نزلت في ناس من الأنصار كانوا إذا مات الرجل منهم فأملك الناس بامرأته وليه ، فيمسكها حتى تموت فيرثها . فنزلت فيهم .
وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم في الآية قال : كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله ، فكان يعضلها حتى يتزوّجها أو يزوجها من أراد ، وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها ، ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها . فنهى الله المؤمنين عن ذلك) ( ).
ولا تختص عادة نكاح زوجة الأب المتوفى بأهل يثرب , ومن أسرار بقايا الحنيفية الإبراهيمية وجوار البيت الحرام تنزه أهل مكة عن بعض العادات القبيحة التي كانت موجودة آنذاك , ولكن قريشاً قبل الإسلام فعلوا ما هو أشد وإختاروا عبادة الأصنام ، وظنوا وهماً أنها وسيلة تقربهم إلى الله زلفى .
وإتخذت بعض القبائل صنماً خاصاً بها فكان سواع لهذيل ، ويغوث لمراد , واللات في مدينة الطائف ، والصنم (ود) لكلب في دومة الجندل ، ويعوق لهمدان ، ونسر لحمير ، وقيل كان لقريش أصنام ، هي مناة واللات والعزى وهبل وصنم مناة هو أقدمها ، وكان منصوباً بقديد بين مكة والمدينة , ويبعد وادي قديد عن مكة نحو 15 كم .
وقد إجتازه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة من مكة إلى المدينة ومر به على أم معبد وإسمها عاتكة بنت كعب الخزاعية حيث مساكن خزاعة .
(فأرادوا القرى فقالت: والله ما عندنا طعام ولا لنا منحة ولا لنا شاة إلا حائل.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببعض غنمها فمسح ضرعها بيده ودعا الله وحلب في العس حتى أرغى، وقال: إشربي يا أم معبد.
فقالت: إشرب فأنت أحق به ) ( ).
وشربوا جميعاً منها فرأت أم معبد معجزة حسية جلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وجاءت قريش تعدو خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا بلغوا أم معبد قالوا : أرأيت محمداً ، وذكروا لها أوصافه ، وعرفت أنهم يبغون الشر والضرر ، وقد مالت نفسها إلى المعجزة ، فأرادت إقامة الحجة عليهم ، فقالت : ما أدري ما تقولون ، قدمنا فتى حالب الحائل .
أي أنها أبت أن تجيبهم بخصوص هيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي ذكروها مع أنها مطابقة لما ذكروا ، وأنه لا يأتي على الطريق إلا أفراد، وقد يمر اليوم واليومان لم يأت لأم معبد أحد ، خاصة وأنها في حال فقر ومجاعة .
قالت قريش : فذاك الذي نريد ، ويبين هذا الحديث أن المعجزة مصاحبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حله وترحاله ، في دار الإقامة والهجرة ، ولبيان قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أي محل يحل فيه ، هناك أناس يؤمنون بنبوته بما فيه هجرته القصيرة إلى الطائف.
(عن جابر قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر مهاجرين فدخلا الغار، إذا في الغار جحر فألقمه أبو بكر عقبه حتى أصبح، مخافة أن يخرج على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء.
فأقاما في الغار ثلاث ليال ثم خرجا حتى نزل بخيمات أم معبد، فأرسلت إليه أم معبد) ( ).
ولقد أكرم الله عز وجل المؤمنات اللائي بادرن لدخول الإسلام بأن جاءت آيات القرآن برفع الوأد مع بيان حرمة قتل البنات في الصغر ، قال تعالى [وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ] ( )، وفي الآية بلحاظ إكرام الإسلام للمرأة وجوه :
الأول : توثيق القرآن لوأد البنات وقتلهن بغير حق ، وكان الوأد يقع على طريقتين :
الأولى : الوأد ساعة ولادة البنت ، فعندما يحين أوان الولادة ويدافع الطلق المرأة تبتعد قليلاً خارج البيوت ، وتحفر حفرة وتجلس بجوارها فان ولدت بنتاً ألقتها في الحفرة، وإن كان المولود ولداً جاءت به تحمله.
وهل يدل هذا الفعل على عدم وجود قابلة عند العرب آنذاك وأنما المرأة تلاقي الطلق بنفسها وبمفردها الجواب لا .
الثانية : تترك البنت حتى يكون عمرها خمس أو ست سنوات فيأخذها أبوها ويدفنها حية في التراب .
ولقد كانت قريش أهل تجارة وإختلاط بالأمم الأخرى مثل الروم والفرس وبلاد اليمن ، وفي مأمن من غزو القبائل عليهم في الجملة لأنهم سدنة ومجاروا البيت الحرام ومع هذا ووردت الأخبار بأن بعض رجالات قريش كانوا يأدون البنات، مما يدل على حاجتهم لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهة العبادة والإصلاح الإجتماعي، وإكرام وحفظ النفس الإنسانية، وتكون حرمة الوأد في الإسلام من مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( ).
الثاني : تبين آيات القرآن كراهية العرب لولادة البنات ، قال تعالى [وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ] ( ).
وبين الآية أعلاه وآية الوأد عموم وخصوص مطلق ، إذ تتضمن الآية أعلاه الإخبار عن الترديد بين الإبقاء على البنت مع الزهد فيها، وبين دفنها حية في الأرض.
وجاءت آيات القرآن بالنهي عن قتل الأبناء وعن القتل مطلقاً من غير حق ، وبيان أنه من الكبائر.
(عن ابن مسعود قال: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي الذنب أكبر؟ قال أن تجعل لله نداً وهو خلقك قلت: ثم أي؟ قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك .
قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك: فأنزل الله تصديق ذلك{والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون })( ).
ومن إعجاز القرآن عدم وقوف آياته عند التوثيق والإخبار بل تأتي ببيان الحكم ، وما يجب على المسلمين فعله ،فتنقض الفعل المحرم وتثبت الحلال والواجب ، وهو من وجوه التكامل في أحكام الإسلام ، والشواهد على أن القرآن مدرسة الأجيال ، وكل مسلم ومسلمة يحملان وثيقة التخرج من أروقة حوزته ، وحازوا ذخائر العلوم بتلاوة آياته والتدبر في معانيها ودلالاتها بأداء الصلاة والفرائض الأخرى وإستقراء المسائل منها، فأفعال وكيفية الصلاة علم مستقل ليس من السهل إتقانه إلا بفضل الله ، وكذا أداء الصيام والحج ودفع الزكاة ، وكل فعل من هذه التكاليف العبادية دليل على إكرام الإسلام للمرأة، وهو حرب على الوأد أو جعل البنت مستضعفة وذليلة في حال الإبقاء عليها حية .
الثالث : توجه نداء الإيمان إلى المسلمة بعرض واحد مع توجهه إلى المسلم ، وقد يقال أن مجئ النداء بصيغة المذكر للتغليب لا يكفي حجة في المقام بشمول المرأة به وإن كان أمراً معروفاً في اللغة ، نعم الإستشهاد بقول المتنبي :
وَمَا التأنيثُ لاسم الشمسِ عَيْبٌ … ولا التذكيرُ فخرٌ للهلال( )
أمر ليس بحجة من جهات :
الأولى : إنه قول شاعر وليس بدليل في العقائد .
الثانية : التباين في الموضوع بين الشمس والقمر في الإسم .
الثالثة : يرد ذكر القمر في موضوعه بأمر خاص ، ولا يتعدى المعنى إلى الشمس إلا بدليل ، للتغاير بينهما ، لذا تفضل الله عز وجل بذكرهما معاً في آيات مخصوصة ، قال تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ] ( ) .
إنما الدليل في المقام هو إشتراك الرجل والمرأة في الأحكام التي ترد في آيات القرآن إلا ما خرج بالدليل ، وورد فيه التخصيص وإرادة الرجال أو النساء أو طائفة من المسلمين على نحو التعيين.
وجاءت السنة النبوية لتأكيد هذا الإشتراك وكونه من البديهيات.
الرابع : مجئ القرآن بذكر المسلمات والمؤمنات على نحو الخصوص وتوجه الخطاب لهن ،وبعثهن على السعي في مرضاة الله، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ويمكن تشريع قوانين متعددة متعلقة بشأن وصبر وجهاد المرأة في الإسلام ، فأول من أسلم خديجة بنت خويلد والإمام علي عليه السلام ، وقد أسلمت خديجة في اليوم الثاني للبعثة النبوية وكانت أول ناصر بالمال للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ سخرت أموالها في الدعوة إلى الله وإعانة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
(وقال الخطيب: أخبرنا محمود بن العكبري أخبرنا أبو طالب عبد الله بن محمد حدثنا أبو سعيد البصري قال: مررت بالبصرة فإذا الناس مجتمعون في منحل طحان فنظرت كما ينظر الغلمان فإذا بشيخ فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا خراش خادم أنس له مائة وثلاثون سنة قال: فزحمت الناس ودخلت وهم يكتبون عنه فأخذت قلماً من يد رجل وكتبت هذه الثلاثة عشرة حديثاً في فضل علي وذلك في سنة اثنتين وعشرين ومائتين وأنا ابن اثنتي عشرة سنة)( ).
وأول شهيد في الإسلام إمرأة وهي سمية، وكان زوجها ياسر العنس أبو عمار بن ياسر قدم من اليمن فحالف أبا حذيفة بن المغيرة، فقام أبو حذيفة بتزويجه أمة له وهي سمية (فولدت له عماراً فأعتقه أبو حذيفة) ( ).
والأصل في الإسلام أن يتبع الولد أشرف الأبوين فالبشر يختلفون عن الدواب في المقام إذ أن ولد الدابة كالبقرة والناقة يتبع أمه.
ومن مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ) وأشرف الأبوين لعمار هو أبوه ياسر وهو حر ، وهذه نعمة أخرى على المسلمين والناس بجعل نيل الولد الحرية هي المقدمة والأولى في تعيين صنف وطبقة الإنسان ، ليتدبر بالآيات ولا يحارب النبوة .
وليس من شيء في الدنيا أثمن من الإيمان ومن الحرية ، وقد جمعهما الإسلام للمسلمين ، وتفضل الله عز وجل وجعلهما مجتمعين ومتفرقين قريبين من الناس جميعاً، ليس بينهم وبينها إلا كلمة التوحيد.
وعن عبد الله بن جعفر الطيار قال (مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بياسر وعمار وأم عمار وهم يؤذون في الله تعالى فقال لهم : ” صبراً يا آل ياسر , صبراً يا آل ياسر , فإن موعدكم الجنة”)( ).
لقد قام كفار قريش بالباس ياسر العنسي وسمية وبلال وخباب وصهيب وعمار دروع الحديد ، ووضعوهم في الشمس لتصهرهم ، وقام أبو جهل بطعن سمية بحربة فقتلها.
وفيه نكتة وهي أن كفار قريش كانوا حريصين على منع النساء من دخول الإسلام، ومن ولادة أبناء مسلمين وهم يعرفون مدى أثرهن في المجتمعات وجذب الأولاد والإخوان إلى الإسلام لدلالة إيمان المرأة بالأولوية على لزوم إيمان الرجال الذين أكثر إطلاعاً على المعجزات وأقرب إلى الإستقلال بالإختيار .
قانون متعلق نداء الإيمان
جاء قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ثناء على المسلمين بصفة الإيمان، وأنهم هم المؤمنون في زمان التنزيل ولم يذكر النداء متعلق الإيمان، ولكنه مستقرأ من ذات النداء ومن آيات القرآن، ليكون من معاني النداء دعوة المسلمين والناس جميعاً إلى الرجوع إلى آيات القرآن لإستقراء مصاديق الإيمان، وتتجلى فيها من جهات :
الأولى : الإيمان بالله عز وجل والتسليم باسمائه فيكون معنى الإيمان على وجوه كثيرة بعدد أسماء الله وصفاته الحسنى وورد(عن إبن عباس وإبن عمر قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن لله تسعة وتسعين إسماً مائة غير واحد ، من أحصاها دخل الجنة)( ).
وأخرج أبو نعيم عن محمد بن جعفر قال : سألت أبي جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء التسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة؟ فقال : هي في القرآن ، ففي الفاتحة خمسة أسماء . يا الله ، يا رب ، يا رحمن ، يا رحيم ، يا مالك.
وفي البقرة ثلاثة وثلاثون اسماً : يا محيط ، يا قدير ، يا عليم ، يا حكيم ، يا علي ، يا عظيم ، يا تواب ، يا بصير ، يا ولي ، يا واسع، يا كافي ، يا رؤوف ، يا بديع ، يا شاكر ، يا واحد ، يا سميع ، يا قابض ، يا باسط ، يا حي ، يا قيوم ، يا غني ، يا حميد ، يا غفور ، يا حليم ، يا إله ، يا قريب ، يا مجيب ، يا عزيز ، يا نصير ، يا قوي ، يا شديد ، يا سريع ، يا خبير.
وفي آل عمران : يا وهَّاب ، يا قائم ، يا صادق ، يا باعث ، يا منعم ، يا متفضل.
وفي النساء : يا رقيب ، يا حسيب ، يا شهيد ، يا مقيت ، يا وكيل ، يا علي ، يا كبير.
وفي الأنعام : يا فاطر ، يا قاهر، يا لطيف ، يا برهان.
وفي الأعراف : يا محيي ، يا مميت.
وفي الأنفال : يا نعم المولى ، يا نعم النصير.
وفي هود : يا حفيظ ، يا مجيد ، يا ودود ، يا فعال لما يريد.
وفي الرعد : يا كبير ، يا متعال.
وفي إبراهيم : يا منَّان ، يا وارث.
وفي الحجر : يا خلاق.
وفي مريم : يا فرد .
وفي طه : يا غفّار .
وفي قد أفلح : يا كريم .
وفي النور : يا حق ، يا مبين .
وفي الفرقان : يا هادي .
وفي سبأ : يا فتَّاح .
وفي الزمر : يا عالم .
وفي غافر : يا غافر ، يا قابل التوبة ، يا ذا الطول ، يا رفيع .
وفي الذاريات : يا رزاق ، يا ذا القوة ، يا متين .
وفي الطور : يا بر .
وفي اقتربت( ): يا مليك ، يا مقتدر .
وفي الرحمن : يا ذا الجلال والإِكرام ، يا رب المشرقين ، يا رب المغربين ، يا باقي ، يا مهيمن .
وفي الحديد : يا أول ، يا آخر ، يا ظاهر ، يا باطن .
وفي الحشر : يا ملك ، يا قدوس ، يا سلام ، يا مؤمن ، يا مهيمن، يا عزيز ، يا جبار ، يا متكبر ، يا خالق ، يا بارىء ، يا مصوّر ( ).
فيكون تقدير نداء الإيمان على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا بالله إلها أحداً واحداً لا شريك له.
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا بالله رب العالمين .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا بالله هو الرحمن في الدنيا والآخرة .
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا بالله هو الرحيم الذي يتغشى الخلائق برحمته .
خامساً : يا أيها الذين آمنوا بالله هو المالك لكل شئ، وفي التنزيل[لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ]( ).
سادساً : يا أيها الذين آمنوا بأن الله أحاط بكل شئ علماً .
سابعاً : يا أيها الذين آمنوا بأن الله هو القادر على كل شيء، ولا تستعصي عليه مسألة، وفي التنزيل[إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
ثامناً : يا أيها الذين آمنوا بأن الله هو العليم وهو سبحانه عالم بما كان وما سيكون، وهو سبحانه العالم بالظاهر والباطن والموجود والمعدوم، ويتصف علم الله عز وجل باقترانه بالمشيئة المطلقة، بذات المعلوم من الخلائق .
تاسعاً : يا أيها الذين آمنوا بأن الله هو الحكيم في إرادته ومشيئته وفي أفعاله وأقواله، ويأتي بالأشياء بتمام الحكمة وكمال العدل والإحسان، والله عز وجل هو الحاكم المطلق، وله الحكم وحده سبحانه.
عاشراً : يا أيها الذين آمنوا بان الله هو العظيم الذي له صفة العظمة والقدرة، والذي تهابه الخلائق، وفي التنزيل[فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ]( ).
الحادي عشر : يا أيها الذين آمنوا بأن الله عز وجل هو التواب الذي يغفر ذنوبكم، ويعفو عن خطاياكم وهو الذي يدعو الناس جميعاً للتوبة والإنابة، ويقربهم إليها، ويقربها منهم بالآيات والبراهين، والمواعظ .
وهكذا بالنسبة لأسماء الله الحسنى مع إمكان شرح تفصيلي لمعاني ودلالات كل إسم بما يفيد إيمان المسلمين والمسلمات بهذه الدلالات، إذ يستلزم تقدير نداء الإيمان بلحاظ أسماء الله الحسنى تأليف مجلدات متعددة.
الثانية : يا أيها الذين آمنوا بالملائكة وأنهم موجودون وهم عباد مطيعون لله عز وجل، خلقهم الله من نور، مسكنهم السماء، ولهم هيئات عظيمة، ومنهم من له عشرات الأجنحة ولجبرئيل وهو من رؤساء الملائكة ستمائة جناح.
وعن إبن عباس أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن الجنة لتعد وتزين من الحول إلى الحول لدخول شهر رمضان .
فإذا كانت أول ليلة من شهر رمضان هبت ريح من تحت العرش يقال لها المثيرة ، تصفق ورق الجنة وحلق المصاريع ، يسمع لذلك طنين لم يسمع السامعون أحسن منه ، فيثب الحور العين حتى يشرفن على شرف الجنة ، فينادين : هل من خاطب إلى الله فيزوّجه؟
ثم يقول الحور العين : يا رضوان الجنة ما هذه الليلة؟ فيجيبهن بالتلبية ، ثم يقول : هذه أول ليلة من شهر رمضان ، فتحت أبواب الجنة على الصائمين من أمة محمد ، ويا جبريل أهبط إلى الأرض فاصفد مردة الشياطين وغلهم بالأغلال( ) ، ثم اقذفهم في البحار حتى لا يفسدوا على أمة محمد حبيبي صيامهم .
ويقول الله عز وجل في ليلة من شهر رمضان لمناد ينادي ثلاث مرات : هل من سائل فاعطيه سؤله؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ من يقرض المليء غير المعدم؟ والوفي غير الظلوم؟
قال : وله في كل يوم من شهر رمضان عند الإِفطار ألف ألف عتيق من النار كلهم قد استوجبوا النار ، فإذا كان آخر يوم من شهر رمضان أعتق الله في ذلك اليوم بقدر ما أعتق من أول الشهر إلى آخره .
وإذا كان ليلة القدر يأمر الله جبريل فيهبط في كبكبة من الملائكة إلى الأرض ومعهم لواء أخضر ، فيركز اللواء على ظهر الكعبة وله ستمائة جناح ، منها جناحان لا ينشرهما إلا في تلك الليلة ، فينشرهما في تلك الليلة فتجاوز المشرق إلى المغرب ، فيحث جبريل الملائكة في هذه الليلة فيسلمون على كل قائم وقاعد ومصل وذاكر ، يصافحونهم ويؤمنون على دعائهم حتى يطلع الفجر .
فإذا طلع الفجر ينادي جبريل : معاشر الملائكة الرحيل الرحيل . . . فيقولون : يا جبريل فما صنع الله في حوائج المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فيقول جبريل : نظر الله إليهم في هذه الليلة فعفا عنهم وغفر لهم إلا أربعة . قلنا : يا رسول الله من هم؟ قال : رجل مدمن خمر ، وعاق لوالديه ، وقاطع رحم ، ومشاحن ، قلنا : يا رسول الله ما المشاحن؟ قال : هو المصارم .
فإذا كانت ليلة الفطر( ) سميت تلك الليلة ليلة الجائزة ، فإذا كانت غداة الفطر بعث الله الملائكة في كل بلاد ، فيهبطون إلى الأرض فيقومون على أفواه السكك ، فينادون بصوت يسمع من خلق الله إلا الجن والإِنس .
فيقولون : يا أمة محمد اخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل ويعفو عن العظيم ، فإذا برزوا إلى مصلاهم يقول الله للملائكة : ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ فتقول الملائكة : إلهنا وسيدنا جزاؤه أن يوفيه أجره .
فيقول : فإني أشهدكم يا ملائكتي أني قد جعلت ثوابهم من صيامهم شهر رمضان وقيامه رضاي ومغفرتي . ويقول : يا عبادي سلوني ، فوعزتي وجلالي لا تسألوني اليوم شيئاً في جمعكم لآخرتكم إلا أعطيتكم ، ولا لدنياكم إلا نظرت لكم ، فوعزتي لأسترن عليكم عثراتكم ما راقبتموني ، وعزتي لا أخزيكم ولا أفضحكم بين يدي أصحاب الحدود انصرفوا مغفوراً لكم ، قد أرضيتموني ورضيت عنكم . فتفرح الملائكة ويستغفرون بما يعطي الله هذه الأمة إذا أفطروا من شهر رمضان ( ).
وهل يلزم الإيمان بتفاصيل حالات الملائكة مثلاً أنهم لا يأكلون ولا يشربون وطعامهم التسبيح وأنهم يتصفون بحسن الهيئة والمنظر والحياء، وأنهم يطوفون بالبيت المعمور، وأنهم لا يوصفون بالذكورة أو الأنوثة، وما موكل به كل ملك مثل حمل العرش، والنزول بالوحي، ومقادير الرعد والمطر والموكلون بالجبال، والقائمون على الزراعات والثمار والأرزاق، والذين يتولون قبض الأرواح، وسؤال العبد عند دخوله القبر.
الجواب القدر المتيقن هو ما ورد في القرآن والسنة من صفاتهم منها طاعتهم التامة والمطلقة لله عز وجل قال سبحانه [وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ]( ).
ومن رشحات إيمان المسلمين والمسلمات بالملائكة توالي نزول جبرئيل عليه السلام بآيات القرآن ونزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر وأحد والخندق وحنين، وفي التنزيل بخصوص معركة بدر[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
الثالثة : يا أيها الذين آمنوا بالنبوة، وأن الله عز وجل بعث الأنبياء وسائط رحمة بينه وبين الناس، ومن الآيات أن هؤلاء الأنبياء بشر وكل واحد منهم جاء في قومه ويتكلم بلسانهم، وتجري على يديه المعجزة التي تناسب زمانه ، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ]( ) .
وهل يلزم معرفة الأنبياء باسمائهم، الجواب لا، وعدد الأنبياء هو مائة وأربعة وعشرون ألف نبي، وتفضل الله عز وجل بذكر عدد منهم في القرآن وهم :
1- النبي آدم عليه السلام .
2- النبي نوح عليه السلام .
3- النبي هود عليه السلام .
4- النبي إدريس عليه السلام .
5- النبي صالح عليه السلام .
6- النبي ابراهيم عليه السلام .
7- النبي إسماعيل عليه السلام .
8- النبي إسحاق عليه السلام .
9- النبي لوط عليه السلام.
10- النبي يعقوب عليه السلام .
11- النبي يوسف عليه السلام .
12- النبي موسى عليه السلام .
13- النبي هارون عليه السلام .
14- النبي داود عليه السلام .
15- النبي سليمان عليه السلام .
16- النبي أيوب عليه السلام .
17- النبي زكريا عليه السلام .
18- النبي يحيى عليه السلام .
19- النبي الياس عليه السلام .
20- النبي اليسع عليه السلام .
21- النبي يونس عليه السلام .
22- النبي شعيب عليه السلام .
23- النبي ذو الكفل على قول أنه نبي قال تعالى[وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنْ الأَخْيَارِ]( ).
24- النبي عيسى عليه السلام .
25- النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الأنبياء من نالوا مرتبة الرسالة وعددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر، وبين النبي والرسول عموم وخصوص مطلق، فكل رسول هو نبي ، وليس العكس .
ومن مجموع الرسل خمسة أولوا العزم وهم نوح، وإبراهيم ، وموسى، وعيسى عليه السلام، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : يا أيها الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ نزول النداء خاصاً للمسلمين والمسلمات .
فان قلت قد ورد في الجهة الثالثة أعلاه أن متعلق الإيمان هو التصديق بالأنبياء جميعاً ، ويدخل معهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو خاتمهم ، الجواب نعم ، هذا صحيح ، ولكن لموضوعية التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ذات ودلالات النداء ذكرناه هنا على نحو الخصوص .
وهل ذكر الجهة الرابعة هذه من عطف الخاص على العام ، الجواب نعم ولكن موضوعه أعم وكأنه من عطف المبين على المجمل , والمتعين على العام من وجوه :
أولاً : لابد من ذكر الذين آمنوا للشهادتين ، والنطق والتسليم لله عز وجل بالإلوهية المطلقة والإقرار برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فكل فرد يتوجه له نداء الإيمان يقول :
أشهد أن لا إله إلا الله .
وأشهد أن محمداً رسول الله .
وإذا كان الإيمان الإجمالي يكفي بخصوص نبوة الأنبياء السابقين ، فهل يكفي الإجمال في الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب لا ، فلابد من إتباعه والعمل بسنته ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) ومن وجوه الإيمان هذه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين ، فلا نبي بعده .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بأن الله أنزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن نداء الإيمان هو من كلام الله .
الثالث :يا أيها الذين آمنوا [إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] ( ).
الرابع : يا أيها الذين آمنوا بأن كلام النبي وحي .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا بوجوب نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : يا أيها الذين آمنوا بشفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة ، وعن أنس (سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ألا إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ، ثم تلا هذه الآية { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم . . . }( ) الآية ) ( ).
السابع : يا أيها الذين آمنوا بلزوم الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العبادات وأداء الفرائض ، وقد ورد(عن ايوب عن ابى قلابة ثنا أبو سليمان مالك بن الحويرث قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلوا كما رأيتموني اصلى) ( ) .
و(عن جابر ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على راحلته يوم النحر يقول : لتأخذوا عني مناسككم) ( ).
وهل يفيد الحديثان أعلاه الحصر بذات الصلاة ومناسك الحج ، الجواب لا ، لإرادة المعنى الأعم في العبادات كلها ، وقد ورد في الصيام وأوانه مثلاً عن حذيفة قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثلاثين ، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثلاثين) ( ).
وورد عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب (قال : إنا صحبنا أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وانهم حدثونا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن أغمى عليكم فعدوا ثلاثين ، فإن شهد ذو عدل فصوموا وافطروا وانسكوا) ( ).
فهل يدل هذا الحديث على كفاية الشاهد الواحد العدل بلحاظ أن الهلال من الموضوعات , الجواب لا ، إنما المراد من الحديث هو شاهدان عدلان .
ومن الإعجاز في آية البحث أن النهي فيها لا يستلزم شاهدين فحالما يتلو المسلم الآية يدرك الحكم ويتقيد به ويدعو إلى العمل بأحكامه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ) .
فمن إعجاز آيات القرآن عدم وجود الواسطة بين الأحكام التي تتضمنها آياته وبين المسلمين والمسلمات ، لينهلوا منها لحاجات الدنيا والآخرة ، وتنير لهم دروب الرشاد ، وتطرد عنهم الغفلة ، وتمنع من الضلالة وسوء المسلك والعاقبة .
الثامن : يا أيها الذين آمنوا إقتدوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أداء النوافل وحسن السمت ، وأصل السمت هو الطريق ثم أستعير للهيئة وتحري الخير .
التاسع : يا أيها الذين آمنوا بأنكم أمة محمد ، وأهل شريعته والقائمون على العمل بالسنن التي جاء بها .
ثانياً : لقد حفظ الله عز وجل النبوات السابقة كلها بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وجاء القرآن ببيان قصص الأنبياء وما لاقوه من الأذى والكيد ، ومن مصاديق تفضيل نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم على النبوات التي قبلها توثيق القرآن لتلك النبوات ، وبقاء ذكر الأنبياء في الأرض إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( )، ومن مصاديق الحسن في هذه القصص بيان أحوال الأنبياء وتلاوة المسلمين للآيات التي يرد فيها ذكرهم ، ومنها ما ذكرت أحوال النبوة وما لاقاه الأنبياء وأصحابه في التبليغ من الأذى والضرر ، قال تعالى وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
ثالثاً : ترتب الأجر والثواب على إتباع سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يختص الأمر بالنسخ بين الشرائع بل مطلقاً ، فيأتي الثواب على الصلاة التي تحاكي وتشابه صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى صيام شهر رمضان وعلى حج بيت الله الحرام .
ولا يختص الثواب بذات المكلف الذي يؤدي الفريضة و (السَّمْت: الطريق، وربما جُعل القصد سَمْتاً. يقال: فلان على سَمْتٍ صالح، أي على طريقة صالحة. وسلكَ فلان لسَمْتَ فلان، إذا اقتدى به ) ( ).
رابعاً : لقد أراد الله عز وجل أن يكون الإسلام هو الديانة الباقية إلى يوم القيامة ، فلذا تفضل سبحانه بنداء الإيمان ليكون تعاهداً لسنن التقوى التي جاء بها الأنبياء جميعاً .
ومن الإعجاز في النبوة وجود ثوابت يشترك فيها جميع الأنبياء تتقوم بالخشية من الله عز وجل .
الخامسة : من وجوه متعلق نداء الإيمان : يا أيها الذين آمنوا بالكتاب المنزل من عند الله عز وجل ، ومن الإعجاز في القرآن ذكر الكتاب على وجوه متعددة منها :
أولاً : إرادة جنس الكتاب مطلقاً ، وهل يشمل الكتاب ما ينزل على الملائكة الجواب نعم ، قال تعالى [مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ] ( ).
(عن أبي موسى رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : الحاج يشفع في أربعمائة من أهل بيته ، ويخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) ( ).
ثانياً : الكتاب الذي يأتي به الملائكة من الوحي إلى الأنبياء ، وما ينزل من اللوح المحفوظ ، قال تعالى[كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ]( ).
ثالثاً : إرادة الكتب التي أنزلت على أنبياء مخصوصين مثل صحف إبراهيم ، والتوراة التي أنزلت على موسى ، والزبور الذي أنزل على داود والإنجيل الذي أنزل على عيسى .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزول القرآن بتسمية اليهود والنصارى بأهل الكتاب ، قال تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ]( ) ووردت تسميتهم بلفظ [أُوتُوا الْكِتَابَ]في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ]( ) وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ…]( ).
رابعاً : يرد معنى الكتاب في التنزيل ويقصد به القرآن ، قال تعالى [كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] ( ).
خامساً : يرد لفظ الكتاب في القرآن، ويراد منه التوراة[وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ]( )، بلحاظ نزوله على خصوص النبي موسى عليه السلام.
سادساً : المراد من الكتاب الوحي النازل من عند الله على عيسى عليه السلام هو الإنجيل وفي التنزيل حكاية عن عيسى[قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا]( ).
السادسة : يا أيها الذين آمنوا باليوم الآخر ، لقد جعل الله عز وجل المعاد حقاً ، والجنة حقاً , والنار حقاً ، ولابد للمؤمنين في كل زمان من التصديق بالمعاد.
ومن أسرار تسمية اليهود والنصارى أهل الكتاب أن الجامع المشترك بينهم وبين المسلمين هو إتباع الكتاب السماوي والتصديق باليوم الآخر ، وأن الله عز وجل يبعث من في القبور .
وفي التنزيل [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا]( ).
ومن خصائص نداء الإيمان إستحضار المسلم لليوم الآخر في الوجود الذهني ليكون باعثاً للعمل الصالح، وزاجراً عن العمل القبيح.
وجاءت آيات القرآن بالإخبار عن إجتماع الإيمان والعمل الصالح ، وصيرورتهما طريقاً إلى الأمن وعدم الخوف من أهوال الآخرة ، ومن الحزن عما فات في الدنيا، وجاءت بالبشارة لهم بالمقام الكريم في الجنة ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
الثالث : ذكر موضوع عدم الحلية وهو وراثة ذات النساء ، وهو من مصاديق البيان والوضوح في القرآن بتعيين الأمر المحرم والمنهي عنه .
قانون نداء الإيمان عز للمرأة
لقد أكرم الله عز وجل المسلمين رجالاً ونساءاً بنزول نداء الإيمان من السماء ، وتفضله بالإخبار بأنه كلامه سبحانه ، فهو الذي يخاطبهم بصفة الإيمان ، وهو [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى]( ).
ويكون إكرام وعز المرأة في نداء الإيمان على وجوه :
أولاً : النداء السامي الكريم للمسلمين الرجال بالإيمان ، وعنهم أب وأخ وإبن المرأة ، فما يأتيهم من العز والثواب العظيم بهذا النداء يلحق المرأة ، ويكون فخراً لها ، وهو عمومات قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) من جهات :
الأولى : ترشح معاني الأخوة بين الرجال والنساء في الإسلام .
الثانية : تقوم هذه الأخوة بالإيمان .
الثالثة : إرادة الأخوة بين المؤمنات بما يمنع من إعانة النساء على الإضرار بالمرأة ، فبلحاظ آية البحث تنهى أقارب الزوج الميت من النساء حث الإبن على الزواج من إمرأة أبيه ، وتدو الآية المؤمنين إلى القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بخصوص معاملة المرأة وعدم المنع من زواجها .
الرابعة : نزول الثواب العاجل , والبشارة بالثواب العظيم في الآخرة على الأخوة والتآخي في الله , وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (أن رجلا زار أخا له في قرية أخرى فأرصد الله له على مدرجته ملكا فلما أتى عليه قال أين تريد قال أريد أخا لي في هذه القرية , فقال هل له عليك من نعمة تربها قال لا غير أني أحببته في الله تعالى قال فإني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحببته فيه) ( ).
ثانياً : شمول نداء الإيمان لذات النساء وبعرض واحد مع الرجال ، وهل يتبادر إلى ذهن المسلمة عندما تتلو أو تسمع نداء الإيمان أنها مقصودة به ، الجواب نعم ، وتقديره يا أيتها التي آمنت ، وهو من إعجاز القرآن الغيري بأن يتبادر إلى الذهن إرادة المنفرد من لفظ العموم في الخطاب العام .
ثالثاً : دعوة نداء الإيمان عموم النساء لدخول الإسلام ، والفوز بتلقي خطاب الإكرام والتشريف من عند الله عز وجل .
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بأن نفخ من روحه في آدم فكان هذا النفخ سر بعث الحياة فيه ، قال تعالى [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ).
ليكون هذا النفخ من أسرار ميل الناس لسنن التوحيد ، ونفرتهم من الشرك والضلالة ، فان قلت من الناس من يقاتل على إصراره على الشرك ويحارب الأنبياء والذين آمنوا لأنهم يعبدون لله ، فهل يدل هذا الأمر على عدم نفرة نفسه من الشرك الجواب لا ، فتلك النفرة من رشحات نفخ الروح في آدم ، وهو من مصاديق رحمة الله عز وجل بالناس ، وقوله تعالى في البسملة [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ) وإبتداء القرآن بها ، لبيان إحراز أصل نشأة الأرواح على التوحيد .
ومن الآيات في بداية الدعوة الإسلامية دخول البنت قبل أبيها ، والأخت قبل أخيها الإسلام أحياناً، وفيه شواهد كثيرة مع أن نداء الإيمان لم ينزل في مكة بعد ، ومنهن من هاجرت من مكة إلى المدينة بمفردها ، وقطعت تلك الجبال والبراري شوقاً إلى رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل ام كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، بن ذكوان بن أمية بن عبد شمس وكانت قد أسلمت بمكة ، وبايعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما كان في مكة وقيل أن يهاجر إلى المدينة ، وبعد صلح الحديبية الذي تم في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة .
وفي مدة الصلح وفي السنة السابعة للهجرة خرجت أم كلثوم من مكة ماشية على قدميها مع تدافع الأخطار عليها من جهات :
الأولى : مشقة الطريق .
الثانية : خروجها بمفردها وهي إمرأة لبيان إستحقاق المسلمات نداء الإيمان .
الثالثة : الإفتقار إلى الزاد في الطريق ، فكانت تخشى أن تأخذ معها الطعام كيلا يفتضح أمرها ويحبسها أهلها .
الرابعة : عدم وجود الراحلة إذ خرجت مشياً على قدميها مع أن أهلها في سعة .
الخامسة : الخوف من السلب والسبي وقطاع الطرق وإن كانت من قريش .
السادسة : الخوف من لحوق أهلها بها ، فيردونها وقد يقومون بحبسها وتعذيبها .
السابعة : إحتمال رد سول الله صلى الله عليه وآله وسلم لها عملاً بعمومات صلح الحديبية مع قريش بأن يرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يأتيه من قريش مسلماً من غير إذن قريش ، وألا ترد قريش من يرجع إليها من المسلمين , مع توقف الحرب والقتال بين الطرفين عشر سنوات .
لقد كان أهل أم كلثوم يظنون أنها خرجت إلى حائط لهم في الطائف ، وفيه سعة وفسحة من الوقت لها أن تقطع مسافة من الطريق إلى المدينة .
وتفضل الله عز وجل عليها إذ رآها رجل وهي تقطع الطريق في البيداء ، فهاله الأمر فسألها بنخوة ، أين تريدين ؟ وهي مسلمة صاحبة فطنة وعلى درجة من الحذر والحيطة فسألته عن نسبه , فقال رجل من خزاعة : فأطمئنت لأن خزاعة دخلت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد صلح الحديبية .
فقالت : أنا إمرأة من قريش ، أريد اللحوق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا علم لي بالطريق إلى المدينة .
فأركبها على البعير وصار يقوده من غير أن يكلمها بكلمة واحدة ، ولا يلتفت إليها ، وإذا وصل مكان للنزول أناخ البعير ثم تنحى عنها ، حتى إذا نزلت جاء إلى البعير فقيده بشجرة ، ويجلس إلى فيء الشجرة بعيداً عنها .
وإذا أرادا الرواح قرب لها البعير وأدار رأسه كيلا ينظر إليها عند الركوب ، حتى إذا إستوت على البعير قاده ، وإستمر الحال لعدة أيام في الطريق إلى أن وصلا المدينة .
وفي اليوم الثاني لوصول أم كلثوم المدينة قدما أخواها الوليد وعمارة ابنا عقبة، وسألا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يفي لهما بالشرف الذي تم الإتفاق عليه في صلح الحديبية بأن يعيد لهم من يأتي من مكة مسلماً مهاجراً الى المدينة، و(قالا: يا محمد ف لنا بشرطنا وما عاهدتنا عليه. وقالت أم كلثوم: يا رسول الله أنا امرأة وحال النساء إلى الضعفاء ما قد علمت، فتردني إلى الكفار يفتنوني في ديني ولا صبر لي؟ فقبض الله العهد في النساء في صلح الحديبية)( ).
وأنزل الله عز وجل قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ]( ) .
والإمتحان هو أن يحلفن بالله ما خرجن من بلادهن وأرضهن إلا حبا لله، وحباً للإسلام، وما خرجن نشوزاً أو بغضاَ لزوج أو طمعاً في دنيا، إنما أردن مرضاة الله، فاذا فعلن قبل منهن الإسلام.
وعن عكرمة قال: يقال لها ما جاء بك عشق رجل منا ، ولا فرار من زوجك ، ما خرجت إلا حباً لله ورسوله( ).
ولا دليل على إيراد مسألة العشق في الإمتحان إنما يكفي المعنى الأعم من نفي بغض الزوج .
وخطب أم كلثوم بعد وصولها إلى المدينة كل من :
الأول : زيد بن حارثة .
الثاني : عبد الرحمن بن عوف .
الثالث : الزبير بن العوام .
الرابع : عمرو بن العاص .
فاستشارت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاشار عليها بزيد بن حارثة فتزوجته وولدت له زيد بن زيد، ورقية .
ومما روته أم كلثوم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول (ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس ، فيقول خيرا ، أو ينمي خيرا) ( ).
وأنتفعت من العز الذي جاء به الإسلام للمرأة جهات :
الأولى :عموم العز لكل مسلمة وإلى يوم القيامة .
الثانية : بعث السكينة في مجتمعات المسلمين .
الثالثة : عز المرأة المسلمة نوع طريق لهداية الأسرة وبناء القيم الإجتماعية فيها .
الرابعة : إنتفاع النساء عموماً من العز الذي منحه الإسلام للمرأة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
لقد صار للمرأة بنزول القرآن شأن في الأسرة وفي السياسة والمشورة وميدان العمل ، وفي الموروث الشعبي ، ينقل عن الإمام علي عليه السلام قوله : شاوروهن وخالفوهن ) ولا أصل لهذا القول ، ولعله موضوع لغرض بعث النفرة في نفوس النساء ، وإلا فقد ورد القرآن باستحباب الأخذ بمشورة المرأة إذا كان فيها سداد ، وقد ورد في قصة إبنة شعيب مع موسى قوله تعالى [قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ] ( ).
وورد عن إبن عباس أنه قال (خرج موسى عليه السلام خائفاً جائعاً ليس معه زاد حتى انتهى إلى ماء مدين وعليه أمة من الناس يسقون ، وامرأتان جالستان بشياههما ، فسألهما ما خطبكما[قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ]( )، قال : فهل قربكما ماء قالتا : لا . . . إلا بئر عليها صخرة قد غطيت بها لا يطيقها نفر قال : فانطلقا فأريانيها . فانطلقتا معه فقلب بالصخرة بيده ، فنحاها ثم استقى لهما سجلاً واحداً فسقى الغنم .
ثم أعاد الصخرة إلى مكانها ، ثم تولى إلى الظل فقال [رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ]( )، فسمعتا ما قال ، فرجعتا إلى أبيهما فاستنكر سرعة مجيئهما ، فسألهما فاخبرتاه فقال لإِحداهما : انطلقي فادعيه فأتته فقالت [إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا]( )، فمشت بين يديه فقال لها : امشي خلفي ، فإني امرؤ من عنصر إبراهيم لا يحل لي أن أنظر منك ما حرم الله علي ، وارشديني الطريق .
[فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ]( )، قالت إحداهما : يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين}( )، قال لها أبوها : ما رأيت من قوّته وأمانته؟ فأخبرته بالأمر الذي كان قالت : أما قوّته فإنه قلب الحجر وحده ، وكان لا يقلبه إلا النفر . وأما أمانته فإنه قال : امشي خلفي وارشديني الطريق ، لأني امرؤ من عنصر إبراهيم عليه السلام، لا يحل لي منك ما حرمه الله تعالى . قيل لابن عباس. أي الأجلين قضى موسى عليه السلام؟ قال : أبرهما وأوفاهما .
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خرج موسى عليه السلام خائفاً جائعاً ليس معه زاد حتى انتهى إلى ماء مدين وعليه أمة من الناس يسقون ، وامرأتان جالستان بشياههما ، فسألهما ما خطبكما؟ { قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير } قال : فهل قربكما ماء قالتا : لا . . . إلا بئر عليها صخرة قد غطيت بها لا يطيقها نفر قال : فانطلقا فأريانيها . فانطلقتا معه فقلب بالصخرة بيده ، فنحاها ثم استقى لهما سجلاً واحداً فسقى الغنم ، ثم أعاد الصخرة إلى مكانها ، ثم تولى إلى الظل فقال : { رب إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير } فسمعتا ما قال ، فرجعتا إلى أبيهما فاستنكر سرعة مجيئهما ، فسألهما فاخبرتاه فقال لإِحداهما : انطلقي فادعيه فأتته فقالت : { إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا } فمشت بين يديه فقال لها : امشي خلفي ، فإني امرؤ من عنصر إبراهيم لا يحل لي أن أنظر منك ما حرم الله علي ، وارشديني الطريق .
{ فلما جاءه وقص عليه القصص . . . ، قالت إحداهما : يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين } قال لها أبوها : ما رأيت من قوّته وأمانته؟ فأخبرته بالأمر الذي كان قالت : أما قوّته فإنه قلب الحجر وحده ، وكان لا يقلبه إلا النفر . وأما أمانته فإنه قال : امشي خلفي وارشديني الطريق ، لأني امرؤ من عنصر إبراهيم عليه السلام ، لا يحل لي منك ما حرمه الله تعالى . قيل لابن عباس رضي الله عنهما . أي الأجلين قضى موسى عليه السلام؟ قال : أبرهما وأوفاهما( ).
كما يدل على جواز أخذ مشورة المرأة مفهوم قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ( ) إذ جاء النهي عن إتخاذ الذي هو أدنى من المؤمنين وليجة وخاصة ومستشاراً كالمنافق والكافر والفاسق ، مما يدل على أن المؤمنة غير مشمولة بهذا النهي .
ومن إعجاز القرآن الإخبار عن إتحاد السنخية بين المنافقين ذكوراً وأناثاً ، وجاء التحذير من المنافقين بعرض واحد مع المنافقين، قال تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ] ( ).
ومن مصاديق عز المرأة المسلمة بعثها على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وصيرورتها داعية إلى الله ، وهو من مصاديق قراءة كل مسلمة ومسلمة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
ويترشح العز من نداء الإيمان على المرأة مطلقاً ، والمسلمة خاصة من جهات :
الأولى : تلاوة المسلمة لنداء الإيمان ، وإدراكها لشمولها بذات النداء ، وأنها مقصودة به .
الثانية : حرص المرأة المسلمة على التقيد بآداب وأحكام آيات نداء الإيمان .
الثالثة : بعث نداء الإيمان المرأة المسلمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابعة : تأديب المرأة المسلمة لابنها وغيره بنداء الإيمان .
إن إرتقاء المسلمة لمرتبة المؤدب في مرضاة الله عز وجل في النشأتين ، قال تعالى [مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ] ( ).
ويحتمل موضوع نداء الإيمان بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : إنه أسمى مراتب الكلام الطيب ، وفي التنزيل [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثًا] ( ).
الثاني : تلاوة نداء الإيمان من العمل الصالح .
الثالثة : نداء الإيمان نوع طريق ومقدمة للعمل الصالح .
الرابعة : نداء الإيمان واقية وحرز من المكر الذي يقوم به الذين كفروا ، وزهو من مصاديق مكر الله في قوله تعالى [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
الخامس : نداء الإيمان بشارة الثواب للمسلمين وإنذار بالعقاب الإليم للذين كفروا .
آيات النداء : وعددها تسع وثمانون آية .
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ]( ).
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا]( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ).
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا]( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا]( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً]( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ]( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ] ( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( ).
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ]( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً]( ).
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ]( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ]( ).
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( ).
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا]( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ]( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ]( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ] ( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( )
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ( )
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) ( )
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ( ))
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( )
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ))
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( )
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ( ))
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ( )
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا( )
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا( ))
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( )
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ( )
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( )
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا] ( )
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ] ( )
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا( )
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ] ( )
ومن آيات النداء ما تعقب النداء فيها حرف :
-من ،ما ،هل ،لم، لِ ،لَ
) َ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( )
)[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( )
)[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( )
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ] ( )
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ] ( )
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ] ( )
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا] ( )
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] ( )
)[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( )
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا] ( )
)[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا] ( )
)[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ] ( )
)[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ] ( )
)[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( )
)[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( )
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( )
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( )
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( )
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ( ).
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( )
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنْ الآثِمِينَ( )
آيات ورد فيها بعد النداء نهي :
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ] ( ).
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( )
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ] ( )
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنْ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُور( )ِ
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ( )
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ( )
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ( )
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا ]( ).
)[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ] ( )
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ] ( )
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( )
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا] ( )
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ( ).
[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا] ( )
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ]. ( )
قانون نداء الإيمان أمن
لقد أكرم الله عز وجل الأنبياء والناس جميعاً بجعل بيت له في الأرض ، يلوذ به الناس ، ويطوفون حوله ، كما يطوف الملائكة حول البيت المعمور في السماء الرابعة .
وهل بيت الله الحرام من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) الجواب نعم ، ليكون آمناً من الآفات والبلايا والفناء بالإقتتال .
وهل كان الملائكة يقصدون هذا الفناء باحتجاجهم على جعل الإنسان خليفة في الأرض [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) الجواب نعم ، وتقدير الآية : ويسفك الدماء فينزل البلاء والفناء بعموم أهل الأرض ، فتفضل الله عز وجل وأخبرهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علمه تعالى إختصاص نزول البلاء بمحل الجحود والفسوق ، ليكون موعظة لغيرهم من أهل القرى .
ومن علم الله عز وجل نزول القرآن بما يجعل أجيال الناس المتعاقبة تتعظ مما أصاب الذين كفروا من البلاء الأليم , قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ).
وجاء نداء الإيمان هبة من عند الله عز وجل للناس جميعاً ليكون واقية وموعظة وسبيل صلاح من وجوه :
الأول : التنزه عن الفساد في الأرض .
الثاني : الإمتناع عن إشاعة القتل في الأرض .
الثالث : السلامة من الهلاك والفناء .
وقد تفضل الله عز وجل وجعل السنة تفسيراً وبياناً للقرآن ، وهي تعضيد له , ومن وجوه بيان السنة للقرآن مصاديق تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنداء الإيمان من جهات :
الأولى : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ المسلمين بنداء الإيمان من البيان والتفسير ، فعندما تنزل آية فيها نداء الإيمان يبادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوتها على المسلمين والأمر بكتابتها وتدوينها .
ولم يكتب نداء الإيمان إلا في الآيات التي أنزل خاصاً بها ، وهو من مصاديق سلامة القرآن من التحريف .
الثانية : السنة النبوية الفعلية تفسير ومصداق لنداء الإيمان إذ تبين معنى النداء ودلالاته ومنافعه .
الثالثة : تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مضامين آيات نداء الإيمان بالإمتثال الأحسن والأتم ، ليكون هذا الإمتثال باعثاً للمسلمين للعمل بمضامين قوله تعالى [كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
الرابعة : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنداء المسلمين والمسلمات بصيغة وصبغة الإيمان ، وترغيب المسلمين بالأخوة الإيمانية بينهم ، وتقّوم الصلات والمعاملات بينهم بنداء الإيمان ورشحاته المباركة .
الخامسة : جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم موضوعية لنداء الإيمان في السنة القولية والفعلية .
السادسة : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنداء الإيمان ، وقراءته وآياته في الصلاة ، وذكره على المنبر ، وإتخاذه شاهداً في الأحاديث النبوية .
لقد أراد الله عز وجل لنداء الإيمان أن يكون أمناً وسلامة لأهل الأرض ودعاهم سبحانه للتحلي بخصال الإيمان , والنهل من معاني ودلالات نداء الإيمان الذي هو ثروة وثورة من جهات :
الأولى : إطلالة نداء الإيمان على أهل الأرض ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو كنز مدخر نزل في القرآن ليبقى تشع أنواره إلى يوم القيامة لتكون سبل الهداية ذات ضياء ذاتي وعرضي.
الثانية : دعوة نداء الإيمان المسلمين لتعاهد الإيمان ومفاهيمه ومعانيه القدسية ، وهذا النداء مدد خاص لكل مسلم ودعاء لكل المسلمين .
الثالثة : نداء الإيمان حرز وأمن لكل مسلم ومسلمة .
الرابعة : نداء الإيمان واقية من إستحواذ النفس الشهوية .
وهو من أسرار تلاوة القرآن في الصلاة على نحو الوجوب العيني على كل مسلم ومسلمة ، ففي كل مرة تداهم الشهوة والطمع أو الشح والبخل النفس يأتي نداء الإيمان , فيكون حرزاً وواقية منها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
ومن خصائص خلافة الإنسان في الأرض تعدد أسباب ومقدمات ومصاديق ومنافع الأمن والأمان في ذات الخلافة وحياة الناس في الأرض ليكون هذا الأمن مقدمة لتوجه الناس لعبادة الله ، وكذا فان عبادة الله ذاتها أمن وأمان ومقدمة للأمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) وهل يمكن القول أن الدنيا (دار الأمن ) الجواب نعم .
وكل آية كونية وآية قرآنية آمن وأمان لأهل الأرض ودعوة للوئام وباعث على الإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) بلحاظ أن الأمن مقدمة ووعاء لإستدامة الحياة الدنيا .
وليتلقى الناس في كل زمان نداء الإيمان الذي هو أمن نازل إلى الأرض ، وعهد من عند الله للمسلمين والمسلمات بالصفح والتراحم والعفو ، قال تعالى في الثناء على المسلمين والهداية إلى الإقامة في النعيم الدائم [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ] ( ).
قانون الإيمان بلغة
لقد زيّن الله الحياة الدنيا بالآيات الكونية في السماء والأرض ، وسير وحركة الأفلاك ، وتعاقب الليل والنهار ، وتبادل الأيام على الناس وتغير أشخاص وأجيال ليكون من زينة وجهاد الدنيا مضامين قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ).
ويحتمل الإيمان بلحاظ قانون زينة الدنيا وجوهاً :
الأول : الإيمان فرع زينة الدنيا ، إذ تتدافع الآيات عند حواس الإنسان ، وفي الوجود الذهني ليهتدي إلى الإيمان بالله والملائكة والنبوة والكتاب واليوم الآخر .
الثاني : ليس من ملازمة وصلة موضوعية بين نداء الإيمان وزينة الدنيا .
الثالث : نزول نداء الإيمان من عند الله شاهد على تنزه المسلمين عن اللهث وراء زينة الدنيا ..
الرابع : يجعل نداء الإيمان المسلمين يسخرون زينة الدنيا في مرضاة الله سبحانه.
الخامس : شهادة الله عز وجل للمسلمين بالإيمان مقدمة لنزول النعم عليهم ، وأخراج الأرض كنوزها لهم .
السادس : نداء الإيمان دعوة للمسلمين لشكر الله عز وجل على أمور :
أولاً : الهداية والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : عدم الإعراض عن الآيات التي جاء بها النبي من عند الله عز وجل , قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
ثالثاً : توالي النعم ومباهج الدنيا على المسلمين ، ومن الآيات الحسية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنتقال المسلمين في بضع سنين من الهجرة النبوية إلى المدينة من الفقر والفاقة وشدة الحاجة إلى الغنى والثروة ، وأبى الله عز وجل إلا أن يذكر فضله عليهم وأن هذا التبدل السريع للضد لا يتم إلا بمعجزة .
وصار عبد الرحمن بن عوف من أغنى الصحابة ، وهو قدم للمدينة مهاجراً لا يملك شيئاً ، وأتى له يوماً (بطعام وكان صائما فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني ، كفن في بردة إن غطى رأسه بدت رجلاه، وإن غطى رجلاه بدا رأسه، وأراه قال: وقتل حمزة هو خير مني ، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا.
وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا.
ثم جعل يبكى حتى برد الطعام) ( ).
وكان مصعب بن عمير قبل الهجرة مدللاً من قبل أمة ، يلبس أحسن الثياب التي تميزه بين شباب مكة ، ليذهب مع أصحاب بيعة العقبة إلى المدينة يقرأ عليهم القرآن ويفقههم في الدين ، ويدعو أهل المدينة من الأوس والخزرج إلى الإسلام ، ويستشهد يوم أحد بعد أن ذّب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس عنده كفن يستر بدنه كله .
وفي رواية خباب : قال لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم غطوا بها رأسه ، وأجعلوا على رجليه الإذخر).
رابعاً : شكر المسلمين لله عز وجل باتخاذهم نداء الإيمان برزخاً دون الإفتتان بزينة الدنيا .
السابع : الإيمان زينة للدنيا ، وعلة للبهجة فيها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) بتقدير من وجوه :
أولاً : ذات الجن والأنس زينة في الدنيا .
ثانياً : عبادة الناس لله عز وجل زينة في الدنيا ،ومن الإعجاز في المقام تعدد وجوه العبادة .
ثالثاً : نداء الإيمان ثروة ورحمة ووسيلة للأمن والأمان في الأرض ، إذ يحرص المسلمون على التقيد بآداب وسنن نداء الإيمان وفيه بيان لقانون وهو تعدد وجوه الأمن والأمان التي جاءت بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول القرآن ، ويحتمل نداء الإيمان في المقام وجوهاً :
الأول : نداء الإيمان أمن وأمان للذين يقومون بتلاوته .
الثاني : يبعث نداء الإيمان السكينة في نفوس الذين يستمعون له لأنه دعوة للهدى ، وكم من إنسان سمع نداء الإيمان فانصرف عنه الغضب والشدة .
الثالث : يدل نداء الإيمان على وجود أمة أكرمها الله عز وجل بالشهادة لها بالإيمان .
الرابع : نداء الإيمان حجة على الذين كفروا ، ودعوة لهم للهداية والصلاح ، ومن مفاهيم نداء الإيمان بلحاظ إرادة عموم الناس :
الأول : يا أيها الناس كونوا من الذين آمنوا .
الثاني : يا أيها الناس إقتبسوا من الذين آمنوا .
الثالث : يا أيها الناس كونوا مثل الذين آمنوا في صيغ الهداية .
الرابع : يا أيها الناس إجعلوا أنفسكم ممن يتلقى نداء الإيمان .
الخامس : نداء الإيمان من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وباستثناء الوجه الثاني أعلاه فان الوجوه الأخرى تبين حقيقة وهي أن نداء الإيمان لطف من عند الله بالمسلمين ، وسبيل للإنتفاع الأمثل من زينة الدنيا .
قال تعالى [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً] ( ) وجاء نداء الإيمان لتسخير المال وتربية الأولاد في سبيل الله ، وجعل الفاني بلغة للباقي الدائم ، وقد يتباهى الإنسان بماله ، وبكثرة ولده ، أو بمراتبهم وشأنهم ، فجاء نداء الإيمان ليكون تفاخر المسلمين ببلوغ درجة الإيمان ، وتفضل الله عز وجل بالشهادة له بالتقوى والتصديق بالنبوة والتنزيل ، وهذه الشهادة زينة الدنيا ، يجب تعاهدها ، وليس من ثروة أعظم منها .
وتفضل الله عز وجل وجعل المسلمين والمسلمات بمرتبة واحدة في هذه الشهادة لتعمهم زينة الدنيا ، ولا يكيد بعضهم ببعض في التنافس على مراتب الإيمان ، فهي ليست مثل كراسي الحكم ، وجمع الأموال والتفاوت فيه ، بل كل المسلمين بعرض واحد في تلقي نداء الإيمان الذي هو زينة الدنيا , ومن خصائصه أنه يحضر يوم القيامة فلا خير في زينة للدنيا تكون منقطعة بأدائها ، أو تكون سبباً للحساب أو نزول العقاب في الآخرة ، أما نداء الإيمان فهو زينة الدنيا والآخرة ، وهو من مصاديق السكينة التي يتفضل بها الله على المؤمنين لتطمئن قلوبهم ، ويؤدون العبادات بخشوع وخضوع لله عز وجل .
وعن الإمام علي عليه السلام (أن رجلاً قال له : ألا تخبرني عن البيت أهو أول بيت وضع في الأرض؟ قال : لا ، ولكنه أول بيت وضع للناس فيه البركة والهدى ، ومقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمناً ، ثم حدث أن إبراهيم لما أمر ببناء البيت ضاق به ذرعاً فلم يدر كيف يبنيه ، فأرسل الله إليه السكينة – وهي ريح خجوج ولها رأسان – فتطوّقت له على موضع البيت ، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة فبنى إبراهيم ، فلمّا بلغ موضع الحجر قال لاسماعيل : اذهب فالتمس لي حجراً أضعه ههنا .
فذهب إسماعيل يطوف في الجبال ، فنزل جبريل بالحجر فوضعه ، فجاء اسماعيل فقال : من أين هذا الحجر؟! قال : جاء به من لم يتكل على بنائي ولا بنائك ، فلبث ما شاء الله أن يلبث ثم انهدم فبنته العمالقة ، ثم انهدم فبنته جرهم .
ثم انهدم فبنته قريش ، فلما أرادوا أن يضعوا الحجر تشاحنوا في وضعه فقالوا : أول من يخرج من هذا الباب فهو يضعه ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل باب بني شيبة ، فأمر بثوب فبسط ، فأخذ الحجر فوضعه في وسطه ، وأمر من كل فخذ من أفخاذ قريش رجلاً يأخذ بناحية الثوب فرفعوه ، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده فوضعه في موضعه) ( ).
وهل نداء الإيمان من مصاديق كتاب الأبرار في قوله تعالى [كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ] ( ) الجواب نعم ، فهو شهادة من عند الله للمسلمين بأنفسهم والناس باتخاذ الإيمان منهجاً وسبيلاً ، لتتدلى أغصان وظلال نداء الإيمان على المسلمين والمسلمات ، وتكون برزخاً وحاجباً دون الإفتتان بزينة الدنيا .
فذات نداء الإيمان زينة وبهجة متجددة إلى يوم القيامة وهو باعث للعمل الصالح ، وعن (عبد الله بن بُسْر يقول: جاء أعرابيان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال أحدهما: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: “مَنْ طال عمره وحسن عمله”)( ).
قانون موضوعية نداء الإيمان في التكامل في الإسلام
ويمكن تقسيم التكامل في الشريعة الإسلامية إلى أقسام :
الأول : التكامل في أحكام الشريعة .
الثاني : التكامل والبيان في آيات القرآن .
الثالث : تجلي التكامل في الدين والنهج وطرق الهداية ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( ).
الرابع : التكامل في كل حكم شرعي بالذات على نحو مستقل .
الخامس : التكامل في ذات الأثر والنفع في أحكام الشريعة , ولقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بنداء الإيمان ، وهي بلحاظ التكامل في الإسلام على وجوه :
الأول : توجه نداء الإيمان لكل المسلمين والمسلمات فلا يستثنى أحد من الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذا النداء التشريفي ، وهو من تجليات اللطف والفيض الإلهي في القرآن ، ومصاديق قوله تعالى [وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] ( ).
الثاني : تعدد نداء الإيمان في القرآن ، ومجيئه تسعاً وثمانين مرة في القرآن ، وله في كل مرة منها معان ووجوه :
أولاً : المعنى العام لنداء الإيمان .
ثانياً : المعنى الخاص بلحاظ الآية التي ورد فيها .
ثالثاً : الغايات الحميدة من نداء الإيمان بخصوص آيات النداء .
الثالث : صيرورة نداء الإيمان نوع طريق ومادة لوحدة المسلمين وإصطباغ الصلات بينهم بصبغة الوئام والتآخي , وهذا الوئام مقدمة لبلوغ المسلمين مراتب التقوى .
الرابع : نداء الإيمان حجة وبرهان على معاني الأخوة بين المسلمين برداء التقوى ، ومن التكامل بلوغ أسمى المراتب الخاصة بموضوع ذات التكامل ، ولكن التكامل في الإسلام أخص وأعظم مرتبة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) إذ تتجلى معاني الصراط بالتكامل ، ويتجلى التكامل بالصراط المستقيم من غير أن يلزم الدور بينهما .
فجاء نداء الإيمان باعثاً إلى التكامل وشاهداً عليه ، وهل هو من نتائجه , الجواب نعم ، لأن نداء الإيمان أعظم شهادة في الأرض فهو إخبار من عند الله عز وجل على بلوغ المسلمين مراتب الكمال والتكامل ، لما فيه من الشهادة الخاصة والعامة ، إذ يشهد نداء الإيمان لكل مسلم ومسلمة كأمة بالإيمان والصلاح ، ويشهد للمسلمين كأمة بالإيمان الذي هو أبهى وأعظم ما في الأرض ، قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] ( ).
وتبين الآية أعلاه مصاديق كون المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ] من وجوه وأمور كل واحد منها يدل على الحاجة إلى نداء الإيمان وكيف أنه يبعث على العمل بمضامين الآية وهي :
الأول : الأمر بالمعروف وهو المنهاج والسنة التي جاء بها الأنبياء، وتحملوا من أجلها الأذى والضرر ، ومنهم من قاتله قومه لأنه يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ، وفي التنزيل [وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] ( ) وفي التنزيل [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا]( ).
وعن كعب في حديث طويل (قال أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام في التوراة يا موسى يصوم محمد وأمته شهرا في السنة وهو شهر رمضان وأعطيهم بصيام كل يوم منه أن يتباعدوا من النار مسيرة مائة عام وأعطيهم بكل خصلة من التطوع كأجر من أدى فريضة وأجعل له فيها ليلة للمستغفر فيها مرة واحدة صادقا إن مات في ليلته أو شهره أجر ثلاثين شهيدا يا موسى ويحج محمد وأمته بلدي الحرام فيحجون حجة آدم وسنة إبراهيم فأعطيهم ما أعطيت آدم وأتخذهم كما اتخذت إبراهيم ويزكى محمد وأمته فأعطيهم بالزكاة زيادة في أعمارهم وأعطيهم في الآخرة المغفرة والخلود في الجنة يا موسى إني وهاب أسأل من عبدني اليسير وأعطيه الجزيل يا موسى نعم المولى أنا أعطيهم فرضا وأسألهم قرضا ولا تفعل الأرباب بعبيدها ما أفعل يا موسى إن فعالي لا توصف يا موسى ورحمتي لأحمد وأمته يا موسى إن في أمته رجالا يقومون على كل شرف ينادون بشهادة أن لا إله إلا الله فجزاؤهم علي جزاء الأنبياء رحمتي عليهم نازلة وغضبي بعيد منهم لا أسلط عليهم بين أطباق الثرى دودا ولا منكرا ولا نكيرا يروعهم يا موسى رحمتي لأمة محمد قال إلهي من علي قال لا أحجب التوبة عن أحد منهم يقول لا إله إلا الله بقلبه ولسانه بسره قال فخر موسى ساجدا فقال اللهم اجعلني من هذه الأمة فقيل إنك لن تدركهم يا موسى إن كنت تريد أن
أقرب مجلسك يوم القيامة فلا تنهرالسائل واليتيم يا موسى ان أحببت أن لا تدعوني أيام حياتك بدعوة إلا أجبتك يوم القيامة فعليك بحسن الخلق قال موسى فما جزاء من أطعم مسكينا ابتغاء وجهك قال يا موسى آمر مناديا ينادي على رؤس الخلائق إن فلان بن فلان من عتقاء الله من النار) ( ) .
ليكون من معاني [خَيْرَ أُمَّةٍ] فوزهم بالثواب العظيم يوم القيامة ، فلا يختص تفضيل المسلمين بلحاظ أفعالهم إنما يشمل إكرامهم بتلقي نداء الإيمان وعملهم بمضامينه وحسن عاقبتهم .
وهل يدعو نداء الإيمان إلى الأمر بالمعروف , الجواب نعم ، فمن رشحات الإيمان بذل الوسع لجذب الناس للإيمان ، وجعلهم في ولاية الله وولاية رسوله ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ] ( ).
وقال الإمام علي عليه السلام (من أراد الغنى بغير مال والكثيرة بغير عشيرة فلينتقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة فمن تحقق عزه بالله لم يقدر أحد أن يذله , وأنظر قضية الرجل الذي أمر هارون الرشيد بالمعروف فحنق عليه فقال أربطوه مع بغلة سيئة الخلق لتقتله فلم تقض فيه شيئاً ثم قال إسحنوه وطينوا عليه البيتة ففعلوا فرؤي في بستان فأتى به .
فقال له من أخرجك من السجن فقال الذي أدخلني البستان فقال ومن أدخلك البستان فقال الذي أخرجني من السجن فعلم هارون أنه لم يقدر على ذله فأمر هارون أن يركب على دابة وينادي عليه ألا أن هارون أراد أن يذل عبداً أعزه الله فلم يقدر) ( ).
الثاني : النهي عن المنكر , وجاءت آية [وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] بصيغة الجمع [خَيْرَ أُمَّةٍ] وهو إنحلالي على من جهات :
الأولى : قيام المسلمين مجتمعين بالنهي عن المنكر ، والزجر عن الكفر والجحود .
الثانية : إتخاذ المسلمين نداء الإيمان وسيلة مباركة للنهي عما حرم الله عز وجل , ومنه ما ورد في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا] ( ).
الثالثة : قيام كل مسلم ومسلمة بالنهي عن المنكر في بيته ومحل عمله , وفي الحضر والسفر .
ومن إعجاز آية [خَيْرَ أُمَّةٍ] تقييد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالشروط والقيود من إستماع المتلقي ، وعدم الضرر على النفس والمال والمتعلقين .
فهل يعني إرادة الملازمة بين بلوغ المسلمين مرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ] وبين الإطلاق في النهي عن المنكر من غير تقييد بخصوصية وشرائط ، الجواب لا ، لإتصاف القرآن بمجئ المطلق والمقيد فيه بالإضافة إلى التقييد بالسنة النبوية كما في تحديد السنة لمقدار وقيمة المسروق الذي يجب فيه القطع وتعيين موضع القطع من اليد بقوله تعالى[وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا]( )، فقيدت مطلق اليد، والحد الأدنى للسرقة التي يصح فيها القطع وهو ربع دينار ذهب , والدينار مثقال ذهب عيار ثمان عشرة حبة .
وتفصل السنة النبوية مجمل القرآن كما في بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعدد ركعات كل فريضة يومية، وذكره لمقدار نصاب الزكاة، وتعليمه المسلمين مناسك الحج .
لقد جاء القرآن بالعناية بالنفس ، وتنزيهها عن فعل المنكر قال سبحانه في خطاب بعض الأمم [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ] ( )وقال سبحانه [لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ]( ).
الرابعة : من مصاديق ولزوم الإيمان الصبر ، ولا حصر أو حد أدنى للمسائل والأمور التي يحتاج بها المسلم والإنسان مطلقاً الصبر ، ويمكن تسمية الحياة الدنيا بأنها (دار الصبر) لأنه لا ينفك عن الإنسان في أمور حياته وشؤونه الخاصة .
الخامسة : الإيمان بالله عز وجل شرط لنيل مرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ] وبه يتقوم هذا الوصف المبارك ، وهل في آية [خَيْرَ أُمَّةٍ] تقديم وتأخير هو [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تؤمنون بالله وتَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ] ( ) .
الجواب نعم ، وهو لا يتعارض مع الأصل ، وهو عدم التقديم والتأخير ، ومن دلالات هذا التعدد وذكر الأصل ، والتقدير بيان النكات العقائدية والعلمية لكل منهما ، بلحاظ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرع الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ، وأمارة عليه .
وإن قلت قد يقوم إنسان بالأمر بالعمل الصالح كالإحسان للآخرين والنصح والإنفاق في علاج المرضى والحث على إعانة الفقراء ، وينهى عن الفحشاء والربا وشرب الخمر ، ولكنه ليس بمؤمن فجاء ذكر إتصاف المسلمين بالإيمان بالله لبيان قيامهم فعل الصالحات والأمر والنهي بقصد القربة إلى الله تعالى وطاعة له سبحانه والبيان تلقي المسلمين الأمر والنهي بالقبول والرضا لأن الحلال هو الإيمان بالله ، إذ يتقوم الأمر بالمعروف بأطراف :
الأول : الأمر بالمعروف .
الثاني : ذات المعروف والعمل الصالح .
الثالث : المأمور بالمعروف والعمل الصالح .
وكذا النهي فانه يتقوم بأطراف ثلاثة ، فجاءت آية البحث لبيان طرف رابع وأصل يتقوم به كل من الأمر والنهي وهي الإيمان بالله .
فتفضل الله عز وجل بنداء الإيمان ليكون دعوة للمسلمين لتعاهد الأمر والنهي بصفتهم مؤمنين بالله عز وجل , ويصدر عنهم كل أمر ونهي عن الإيمان , وتقدير آية [خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) بلحاظ نداء الإيمان على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا( كنتم خير أمة ) بتوجه نداء الإيمان لكم , وفيه مسائل بلحاظ قانون التكامل في الإسلام :
الأولى : بلوغ المسلمين مرتبة التكامل في سبل الهدى بنداء الإيمان .
الثانية : نداء الإيمان باعث على أداء المسلمين للأفعال العبادية باتقان .
الثالثة : نداء الإيمان دعوة للتكامل في الإسلام .
الرابعة : نداء الإيمان شاهد على إتصاف المسلمين بالتكامل في عقيدتهم .
ويصح تقدير قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ] ( )على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا اليوم أكملت لكم دينكم .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا بنداء الإيمان أكملت لكم دينكم .
ثالثاً : اليوم أكملت لكم دينكم بنداء يا أيها الذين آمنوا .
ومن معاني قانون التكامل في الإسلام حث المسلمين على الشكر لله عز وجل على نعمة التكامل التي لا تبلغها أمة إلا بإذن ومشيئة ولطف، وتوفيق من عند الله ، ليكون هناك نوع ملازمة بين الإيمان والتكامل في الدين , والتحلي بالإخلاق الحميدة .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) .
لقد إحتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) لأنه يفسد في الأرض ويقتل النفس التي حرم الله بغير حق ، فتفضل الله وإحتج على الملائكة بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ليبقى الملائكة في حال خضوع وخشوع ورصد لمصاديق علم الله عز وجل في خلافة الإنسان ، وتجليات الإرادة التكوينية .
ومن مصاديق علم الله عز وجل في الآية أعلاه عدم ترك الناس وشأنهم عند إنقطاع النبوة بانتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، بل بقي المسلمون والمسلمات يدعون الناس إلى الهدى والإيمان ، ويحثونهم على الصلاح ، ويقيمون أمام أبصارهم الفرائض العبادية .
وهل يرقى المسلمون إلى مرتبة الأنبياء في خروجهم للناس الجواب لا ، إذ أن النبوة مرتبة خاصة لا يرقى إليها الناس ، وفيها تشريف وإكرام للناس جميعاً ، ولكن المسلمين يخرجون للناس بمناهج النبوة والحكام التي جاء بها الأنبياء من عند الله ، وتقدير قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بلحاظ خروج المسلمين على وجوه :
أولاً : كنتم خير أمة أخرجت للناس بالقرآن .
ثانياً : كنتم خير أمة أخرجت للناس باتباع ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : كنتم خير أمة أخرجت للناس بأحكام الإسلام .
رابعاً : كنتم خير أمة أخرجت للناس بأدائكم الفرائض فيقتبس منكم الناس .
خامساً : كنتم خير أمة أخرجت للناس بتلاوتكم القرآن .
فان قلت قد ورد في ذات آية [خَيْرَ أُمَّةٍ]( ) ذكر صفات المسلمين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله ، والجواب هذا صحيح , ولكن خروج المسلمين للناس أعم في موضوعه، وهو رشحة من رشحات الإيمان ، وهل إتباع المسلمين الواجبات العبادية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما لو قام المسلم بأداء الصلاة وأظهر أنه صائم وممسك عن الطعام في شهر رمضان .
القدر المتيقن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القيام والتلبس بهما بالقول أو الفعل ، لكن الدعوة إلى الله عز وجل أعم ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ) .
ويشمل الخطاب في الآية أعلاه المسلمات في عموم الأمر والجزئية من الأمر ، ومصداق الإمتثال .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف ) لبيان قانون وهي أن الآية التي تجمع بين الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي [خَيْرَ أُمَّةٍ] ولا تجتمع هذه الخصال إلا بالإسلام والتصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل يدل نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] على أن المسلمين خير أمة ولابد من التحلي بأخلاق وخصائص الإيمان ، الجواب لا تعارض بين الأمرين فكل منهما يدل على إرتقاء المسلمين لمنازل الرفعة لذا تفضل الله عز وجل وقال [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
قانون بقاء نداء الإيمان
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا داراً لإمتحان عباده , وتفضل وجعل الإيمان والهدى أقرب إليهم ، وأسرع إلى قلوبهم ، وليس من برزخ يمنع من وصولهم إلى مقامات الفلاح ، فأنعم على الناس بآيات كونية وبعثة متتالية للأنبياء ونزول متعاقب للكتب السماوية إلى أن تفضل بنزول القرآن كتاباً [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ] ( ) وخصّه الله بنعمة عظمى وهي سلامته من التحريف وإلى يوم القيامة ، وفيه بشارة بأن نداء الإيمان الوارد في القرآن باق مع الناس ما دامت الحياة الدنيا .
لقد أنزل الله عز وجل قوله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]وعلى نحو متعدد وفيه مسائل :
الأولى : تأكيد قانون وجود أمة مؤمنة بالله ورسوله في كل زمان ، ليكون هذا النداء بشارة من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته وأمته .
الثانية : بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بذل الوسع في جهاده في سبيل الله , وقيامه بتلاوة آيات القرآن وأحكام الشريعة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ..] ( ).
الثالثة : إطلالة تسع وثمانين نداء للإيمان على المسلمين في كل ساعة من ساعات الدنيا .
ومن أسرار مجئ نداء الإيمان بلغة الأمر والنهي والشرط وتعدد موضوعاته وشمولها للعبادات والمعاملات إحاطته بالمسلمين مجتمعين ومتفرقين ، وحضوره عند كل مسلم ومسلمة في كل فعل يقومان به، ليقتبسا من أنواره ، ويتزودا من علومه ومفاهيمه ، فيأتي نداء الإيمان بالصبغة الإيمانية العامة والأمر بالتقوى وعلى نحو متكرر منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] ( ).
ومن معاني ومضامين بقاء نداء الإيمان أمور :
الأول : بقاء آيات النداء كاملة.
الثاني : سلامة ما بين الدفتين من الزيادة أو النقيصة .
الثالث : حفظ نظم القرآن ، وترتيب آياته ، وضبط أسماء وتوالي سوره ، ولا يضر تعدد أسماء السورة بتعاهدها ، ومن السور ما وردت أسماء متعددة لها بالحديث النبوي ، كما في سورة الفاتحة ، فسماها النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحمد ، والحمد لله رب العالمين ، والفاتحة وغيرها .
(وورد عن سعد بن المعلى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) ( ).
ومن أسرار بقاء نداء الإيمان ملائمته لكل آية من آيات القرآن ، وكل شطر منها ليكون موضوعاً لعلم مستقل تستنبط منه المسائل ويرتع في رياضه طلاب المعرفة .
ترى كيف يبقى نداء الإيمان إلى يوم القيامة ، الجواب يبقى بفضل الله وبمشيئته ورحمته بالناس ، ولا يعلم سبل بقائه المتكثرة والمتجددة إلا الله سبحانه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا]( ).
ومن الإعجاز أن نداء الإيمان من كلمات الله من جهات :
الأولى : ذات قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]كلام لله عز وجل ، ولو كان من عند البشر لما جاءت الشهادة للمسلمين والمسلمات بالإيمان على نحو الإطلاق والعموم ، ولا يهب نداء الإيمان ولا يقدر عليه إلا الله سبحانه .
لذا فان نزوله عيد لأهل الأرض عامة والمسلمين خاصة ومن خصائص النعم الإلهية أنها إذا نزلت لا تغادر الأرض .
الثانية : إنه شهادة ومدد للمسلمين .
الثالثة : نزول جبرئيل بنداء الإيمان ، وقد أثنى الله عز وجل عليه بقوله تعالى [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ] ( ) ليكون نداء الإيمان من مصاديق الضمير الهاء في الآية أعلاه ، ويمكن تقدير الآية أعلاه على كل شطر من أي آية من آيات القرآن مثلاً :
الأول : نزل ببسم الله الرحمن الرحيم الروح الأمين .
الثاني : نزل بالحمد لله الروح الأمين .
الثالث : نزل بالحمد لله رب العالمين الروح الأمين .
الرابع : نزل بقوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]الروح الأمين .
الخامس : نزل بقوله تعالى [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]الروح الأمين وهكذا .
ومنه نزل بـ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الروح الأمين .
ويمكن تأسيس قانون وهو أن نداء الإيمان نزل ليبقى ، وهذا البقاء من جهات :
الأولى : رسم نداء الإيمان الذي تميل إليه نفوس المؤمنين ويتنعم بصرهم به , فيكون واقية من النظر إلى ما حرّم الله عز وجل ، قال تعالى [ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) ليكون من إعجاز نداء الإيمان أمور :
الأول : نداء الإيمان من حدود الله .
الثاني : يبعث نداء الإيمان على التقيد بحدود الله .
الثالث : نداء الإيمان شاهد على حدود الله وبيان لها .
الرابع : من ثمرات التقيد بحدود الله حكماً وعملاً تلاوة نداء الإيمان .
الثانية : صبغة القرآنية لنداء الإيمان ، فهذه الصبغة حد من حدود الله , وتقديرها على وجوه :
أولاً : لا تتعدوا نداء الإيمان فهو باق إلى يوم القيامة .
ثانياً : نداء الإيمان شاهد على حدود الله .
ثالثاً : مضامين آيات نداء الإيمان من حدود الله فلا تعتدوها ، ومن الإعجاز مجئ هذه المضامين بالأمر والنهي ولغة الشرط كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] ( ).
رابعاً : تلاوة نداء الإيمان من حدود الله التي يحرم التعدي عليها.
وتتجلى السلامة من التعدي على نداء الإيمان كحد من حدود الله من وجوه :
الأول : إقامة الصلاة ، وتعاهد أوقاتها ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الثاني : تلاوة نداء الإيمان في الصلاة اليومية ، ولا يلزم تلاوته في كل صلاة ، إلا أنه من الكلي في المعين , والطبيعي الكلي إذ تقرأ آيات وسور من القرآن .
الثالث : السعي لتلقي نداء الإيمان , والحرص على عدم الحرمان منه .
الرابع : عدم التفريط بنداء الإيمان رسماً وتلاوة وعملاً .
الخامس : نداء الإيمان دعوة سماوية للمسلمين للتقيد بالأحكام والقواعد الشرعية ، وعدم الخروج على حدود الله .
الثالثة : نداء الإيمان كلام الله الذي أنزله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
الرابعة : لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً ممكناً محتاجاً ، إذ أن الحاجة ملازمة لعالم الإمكان ، وجاء نداء الإيمان ليكون نعمة على كل إنسان ذكراً أو أنثى إذ يبين لهم دروب النجاة ، ويهديهم إلى طرق الرشاد.
الخامسة : نداء الإيمان حكم من عند الله عز وجل , وتتصف أحكام الله عز وجل بالبقاء والثبات ، وعدم طرو التغيير عليها .
السادسة : نداء الإيمان محكم وليس متشابهاً .
ويشهد نداء الإيمان للمسلم على صدق إيمانه وإرادته قصد القربة في عمله وسعيه في مرضاة الله ، كما أنه يشهد على تخلف الذين كفروا عن واجبهم بلزوم الإيمان ، وإمتناعهم عن التصديق بالنبوة والتنزيل .
كما يشهد للذي تلاه وسمعه من المؤمنين ، لتكون الصلاة موضوعاً متجدداً للشهادة للمسلم ، وهو من أسرار وجوب قراءة القرآن , بتقريب أن الله عز وجل جعل المسلمين يقرأون القرآن كل يوم لتشهد لهم آياته ، ومنها نداء الإيمان .
وهل يشهد نداء الإيمان على خصوص تلاوة المسلم له وللآيات التي جاء فيها أم مطلقاً ، الجواب إنه يشهد للمسلم في قراءته لكل آية من القرآن لأن هذه القراءة من الشواهد على الإيمان ، كما أنه يشهد على الذين يتخلفون عن واجب التلاوة بلحاظ تكليف الكفار بالفروع كتكليفهم بالأصول ، وهو المختار والمشهور شهرة عظيمة .
فنداء الإيمان شاهد على الناس كل يوم ، وشهيد لأعمالهم في ساعة من ساعات الحياة الدنيا ، وهو من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان بلوغ الشريعة مراتب الكمال .
ونداء الإيمان من مصاديق قوله تعالى [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ] ( ) وهو شاهد على ولاية الله عز وجل للمسلمين ، وسبيل لنجاتهم من الغي والضلالة ، وهو بذاته نور يدعو المسلمين والناس جميعاً له وللعمل بمضامينه القدسية .
وورد في التنزيل بخصوص عيسى عليه السلام قوله تعالى [مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ).
لبيان شهادة الأنبياء على قولهم ، وكيفية تلقيهم النبوة والتنزيل في الحياة الدنيا ، وليحضر الأنبياء يوم القيامة شهوداً .
ونزل نداء الإيمان ليصاحب المسلمين والناس جميعاً بلحاظ بقاء الشريعة الإسلامية وسلامة القرآن من التحريف إلى يوم يبعثون .
ومن معاني قانون بقاء نداء الإيمان إفاضة البركات من هذا النداء وصيرورته سبباً للتوبة والإنابة ، وطريقاً لهداية الناس ، وإصلاحهم وزاجراً من الكفر والجحود ، إنه هبة من الله للناس جميعاً وللمسلمين خاصة .
فما أن صدّق المهاجرون والأنصار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى نزل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وعلى نحو متعدد ومتوال وإستمر نزوله إلى آخر سور القرآن نزولاً وهي سورة المائدة إذ نزل فيها ست عشرة مرة ، وهي أكثر سورة القرآن في عدد نزول نداء الإيمان كما أنها إبتدأت به بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ] ( ) .
قانون نداء الإيمان شاهد وشهيد
لقد إختص الله عز وجل الإنسان من بين الخلائق بالخلافة في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) وفيه دليل على نزول النعم مع الإنسان وتغشيها له ، وعدم إنقطاعها عنه ، ومن آيات الخلافة أن النعم والرزق الكريم الذي تفضل به الله على الناس في كل زمان أكثر واعظم من حاجاتهم ورغائبهم ، وكل نعمة شاهد وحجة على الناس بلزوم عبادة الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) بتقريب أن الله عز وجل يفيض بالنعم على الناس ليعبدوه ، ويضاعف عليهم النعم عند عبادتهم له من غير أن يلزم الدور بينهما ، لتعدد وكثرة مصاديق النعم التي يتفضل بها الله عز وجل على الناس بلحاظ عموم الناس والأمة والطائفة والجماعة والأسرة والفرد الواحد من الناس .
فكما تفضل الله عز وجل ونفخ من روحه في آدم فانه سبحانه أحاط كل إنسان بنعم خاصة به ، وهل تدل تلك العلامات الخاصة مثل بصمة العين واليد والأذن والحامض النووي .
الجواب نعم ، فانها أمارات على قانون وهو مجئ نعم خاصة لكل إنسان ينفرد بها من دون الناس من أيام آدم عليه السلام وإلى يوم القيامة ، إلى جانب تغشيه بالنعم العامة .
وهل نداء الإيمان من النعم العامة أو الخاصة ، الجواب إنه على وجوه :
الوجه الأول : نداء الإيمان من النعم العامة على جميع الناس إذ يكون شاهداً للمسلم وبشارة ولغيره داعياً إلى الله وإنذاراً وترغيباً ، وتلك آية في خلافة الإنسان في الأرض ، إذ تجتمع الشهادة مع البشارة ، ويجتمع الإنذار مع الترغيب ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل يكون نداء الإيمان شاهداً على الذين كفروا .
الثانية : هل إنذار الذين كفروا بنداء الإيمان رحمة بهم .
أما الأولى فالجواب نعم ، إذ أن نداء الإيمان شاهد على الناس جميعاً ، وتحتمل شهادة الإيمان بلحاظ شهادة الملائكة في قوله [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] ( ) وجوهاً :
الأول : شهادة نداء الإيمان أكبر من شهادة الملائكة .
الثاني : إرادة النساء في كل من الشهادتين .
الثالث : شهادة الملائكة أكبر من شهادة نداء الإيمان .
وليس من مقارنة في المقام إلا أن شهادة الملائكة تأتي على نحو التفصيل , وبين شهادة نداء الإيمان وشهادة الملائكة عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء على جهات :
الأولى : الشهادة بإذن الله عز وجل .
الثانية : الشهادة بالحق والصدق .
الثالثة : الشهادة للمؤمن بايمانه ، والشهادة على الكافر بجحوده.
الرابعة : تجدد وبقاء الشهادة إلى يوم القيامة .
الخامسة : مجئ فضل الله على كل من الشهادتين ، وسواء كانت الشهادة بفعل الخير أو الشر ، بمضاعفة الحسنات على فعل الخير ومحو الآثام على السيئات .
وأما مادة الإفتراق فمن جهات :
الأولى : إختص ملك اليمين والشمال بالشهادة على الإنسان .
الثانية : يشهد الملائكة لنداء الإيمان وتلاوة المسلم له .
الثالثة : نداء الإيمان نعمة من عند الله عز وجل على المسلمين ليشهد لهم الملائكة بالصلاح والتقوى .
الرابعة : شهادة الملائكة على الإنسان وإخبار القرآن بهذه الشهادة ترغيب للناس بنداء الإيمان ، وحث لهم للمبادرة على تلقيه، ويتقوم هذا التلقي بالنطق بالشهادتين ، وأما المسألة الثانية فالجواب نعم ، فان نداء الإيمان رحمة بالذين كفروا من وجوه :
الأول : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا (دار الرحمة) قال تعالى [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( ).
الثاني : إيمان أمة من الناس رحمة بأنفسهم وسبب لرحمة غيرهم من الناس ، ويميل الإنسان بطبعه إلى المحاكاة أو العناد ، فجاء نداء الإيمان دعوة للناس لمحاكاة المسلمين في إيمانهم ، وزاجراً عن العناد والإصرار على الكفر والجحود ، وهل شهادة نداء الإيمان خاصة بعالم الآخرة وحضوره في عرصات الحساب الجواب لا .
الثالث : ذات نداء الإيمان أمر بالمعروف ونهي عن المنكر .
لقد أمر الله عز وجل المسلمين بالقيام بالأمر والنهي ، وتفضل عليهم بتنزيل آيات القرآن لتكون كل آية أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر في رسمها وتلاوتها وحفظ المسلم لها ، وفيه دعوة للذين كفروا لدخول الإسلام ، والصدور عن القرآن لقانون يدركه الإنسان بفطرته وهو ليس من سوء شر مع الإنقياد للقرآن وإتباع أوامره ونواهيهم وفيه شاهد على أن كل مسلم ومسلمة يقومان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدة مرات في اليوم بتلاوة آيات القرآن في الصلاة وما فيها من الأوامر والنواهي .
وفي الثناء على القرآن قال[يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
الرابع : من مفاهيم نداء الإيمان الترغيب بالتوبة ، وتقريب الناس إلى مقامات الإيمان ، فليس بين الإنسان وبين تلقي هذا شرف هذا النداء النازل من عند الله إي النطق بالشهادتين .
حيث تتوجه له الأوامر والنواهي لحصانته وعصمته من الرذائل.
لقد تضمنت آية البحث النداء المبارك والنهي المتعدد , والأمر والشرط ، ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا ) إذ أن ذات نداء الإيمان وتوجه للمسلمين علم مستقل بذاته تترشح عن أسباب الصلاح ويدعو إلى التدبر والتفكر في خلق الناس وسبل هداية فينزل النداء من عند الله مخاطباً المسلمين وتسلم من أدران الضغائن .
والأصل أن يكون هناك متعلق لموضوع النداء ، كما هو في آيات النداء ، ولكن ذات النداء وحده يصلح موضوعاً تاماً ومفيداً تستنبط منه المسائل والمواعظ وهو ضياء سماوي يدرك به الناس الحقائق ويميزون به بين الحق والباطل .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء ) ، وفيه بيان لقانون وهو سلامة المسلمين من الطمع المخالف لأحكام الشريعة ، ومن التعدي على الغير .
وقال عبد الرحمن بن السلماني (في قوله { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن } قال : نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية ، والأخرى في أمر الإسلام قال ابن المبارك { أن ترثوا النساء كرهاً } في الجاهلية { ولا تعضلوهن } في الإسلام) ( ).
ولكن الآية إبتدأت بنداء الإيمان مما يدل على تحريم كل من وراثة المرأة أو عضلها في الإسلام ودلت الأخبار وأسباب النزول على وجود كل منهما أيام الجاهلية ، وليس من ناه عنهما .
ومن خصائص الإيمان حرمة نكاح المشركة قال تعالى [وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ] ( ) .
لتفيد آية البحث أن النهي الوارد في آية البحث رحمة بالمسلمات وبرزخ دون الحسرة والألم عند كل مسلمة في صباها وأيام زواجها خشية أن يموت زوجها ، وتقهر على الزواج من إبنه وقريبه أو أن تترك ارملة ، قال تعالى [فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ] ( ) .
وتمنع آية البحث من الفتنة بين المسلمين ، وتحول دون حدوث ما يوقع الخلاف والشقاق بينهم وما يؤدي إلى الإنشقاق عن القيام بالدفاع عن بيضة الإسلام وعن أداء الفرائض والعبادات .
ويدل مفهوم قوله تعالى [لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ] ( )على إفادة الحلية في أمور من جهتين :
الأولى : الإرث .
الثانية : خصوص النكاح وفق أحكام الشريعة .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً )، وفيه دعوة للمسلمين لترك الأمر المنهي عنه وعدم الإتيان به ، باختيار الطرف الأخر أو باكراهه ، إذ تبين الآية أن وراثة النساء نوع مفاعلة أطراف :
أولاً : الذي يرث المرأة .
ثانياً : موضوع الميراث والذي يعني الإستحواذ وإنتقال الملكية من الميت إلى الحي وفي التنزيل [وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ] ( ).
ثالثاً : المرأة التي قد تورث بسبب وفاة زوجها فتكون في مصيبة متعددة من جهة وفاة الزوج ومن جهة وقوعها إرثاً وترجو رحمة الإبن والوريث .
لقد نهى الله عز وجل المسلمين أن يرثوا النساء لتكون الجنة هي الميراث الذي يستقرون به رجالاً ونساً، قال تعالى [تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا]( )، وإذا كانت المرأة ترضى بأن تكون ميراثاً فهل يصح ويحل الجواب لا ، فلا يحق للمسلمة التي يموت أو يقتل أو يستشهد زوجها أن تكون أرثاً ولكن خاطبت الآية جميع المسلمين والمسلمات وفيه مسائل :
الأولى : شمول النداء العام للمسلمين ذات المسلمة التي يتوفى عنها زوجها ويغادرها بطلاق قهري .
الثانية : بيان قانون وهو أن المرأة لا ترضى أن تكون إرثاً ، خاصة المسلمة إذ رزقها الله عز وجل العز والفخر والتفقه في الدين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن ، ولوقوع النكاح باختيار ومهر وحلاوة وعذوبة خاصة ، وهو من العز الذي جاء به الإسلام للمرأة .
الثالثة : إكرام المرأة المسلمة باطلاعها على الأمور التي تخصها والتي تشمل عموم المسلمين .
الرابعة : إعانة المرأة المسلمة بنصر المسلمين والمسلمات لها جميعاً لرفع الظلم والحيف عنها ، لذا ترى تحقق المصداق الواقعي للحكم القرآني حال نزوله .
الخامسة : إخبار الناس جميعاً بفضل الله عز وجل على المرأة المسلمة ، ورأفته بها ، لتكون شاكرة له سبحانه بتعاهد الإيمان ، وإصلاح الذرية لمقامات التقوى والصبر في مرضاة الله ، وثبت في علم الأصول أن شكر النعم واجب .
وهل في المنع من وراثة النساء نعمة على الأبناء والذراري من الذكور والإناث أم أنه خاص بذات النساء اللائي الجواب هو الأول.
الرابع : يا أيها الذين آمنوا لا تعضلوا النساء .
لقد أرسل الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في زمان يستحوذ فيه الرجال على كل شيء حتى صاروا يقتلون البنت وهي صبية ويرثون الزوجة بذاتها وعينها , ويتولون أمر نكحتها بغير الحق بأن ينكحها إبن زوجها المتوفى وهناك عادات أشد قبحاً وضرراً عند قبائل وأمم أخرى ، لذا تفضل الله عز وجل وجعل رسالته للناس جميعاً ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( ) لإرادة إستصال ما يخالف أحكام الشريعة السماوية من الأرض ويمنع من بقاء العادات التي تخالف قواعد وقوانين خلافة الإنسان في الأرض.
فان قلت هذا الإستحواذ من مصاديق لفظ الخلافة وإنصرافه إلى الذكور بدليل قول الملائكة في إحتجاجهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) ولم تقل الآية : أتجعل فيها من تفسد فيها وتسفك الدماء ) أو ( أتجعل فيها من يفسدن فيها ويسفكن الدماء ).
الجواب من جهات :
الأولى : تجلي الإعجاز بلفظ خليفة الشامل للذكر والأنثى .
الثانية : ليس من ملازمة بين الخلافة والإستحواذ على أمور الغير .
الثالثة : مجئ القرآن ببيان ما يجب على الناس وكيف أنهم متساوون في أصل الخلق والنشأة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
الرابعة : مجئ نداء الإيمان الشامل للمسلمين والمسلمات والذي يجعلهم بمنزلة واحدة من جهة التكليف .
وعلى فرض إختصاص لفظ الخلافة في الأرض بالذكور ، أو بخصوص النبوة وأشخاص الأنبياء أو إرادة آدم عليه السلام وحده ، فان الأنبياء جاءوا بالوحي والتنزيل الذي يتضمن إنصاف وإكرام المرأة ، ومنه عدم حلية صيرورة عين المرأة إرثاً .
ومن الآيات في المقام أن حواء خلقت مع آدم في الجنة وعاش معاً في رياضها ، وأكلا من ثمارها ، وإختلطت مع الملائكة ، وهبطت وآدم معاً إلى الأرض ، قال تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) لإرادة البشارة والأمن لمن آمن وأصلح من سواء من الذكور أو الأناث .
فجاء نداء الإيمان لجذب الناس إلى الإيمان ، وبعث المسلمين على إتباع الهدى والسعي الحثيث إلى الأمن يوم القيامة ، بالتنزه عن الطمع والإستحواذ على المرأة وحقوقها بغير حق .
الوجه الثاني : نداء الإيمان نعمة عامة على كل المسلمين والمسلمات في ذاته وموضوعه ، وهو ضياء لهم ونور يسطع ليكشف لهم وللناس إيمانهم ، فلما أمر الله عز وجل المسلمين بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ) فانه سبحانه أخبر الناس جميعاً بأن المسلمين الأمة التي تعمل الخير والمعروف وتجتنب المنكر والقبيح ، لصدور الأمر والنهي من مقامات القول والعمل به .
لقد إدخر الله عز وجل نداء الإيمان لأجيال المسلمين المتعاقبة ، فهو كنز لا ينفد ، ومثال لخزائن العرش واللوح المحفوظ بأن ينهل كل جيل من المسلمين ، وتحتمل خزائن نداء الإيمان مع قيام كل جيل من المسلمين بالنهل من علومها وجني الحسنات والأجر والثواب منها وجوهاً :
الأول : بقاء ذات الخزائن من غير زيادة أو نقيصة .
الثاني : الزيادة والكثرة في خزائن وذخائر كنوز الإيمان .
الثالث : إصابة خزائن نداء الإيمان بالنقص مع عمل المسلمين بمضامينها .
والصحيح هو الثاني ، فكما يعمل المسلمون بمعاني كنوز القرآن تزداد كماً وكيفاً بفضل من عند الله عز وجل ، وتكون مقدمة وسبباً لتعاهد المسلمين لمضامين نداء الإيمان .
ولما كان نداء الإيمان نعمة على المسلمين فهل ينتفع الناس من هذه النعمة الجواب نعم ، إذ يصبح المسلمون أسوة للناس جميعاً .
فمن الإعجاز في قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( )صيرورة إقتداء المسلمين بالنبي محمد صلى لله عليه وآله وسلم غاية بذاته ، وهو بلغة ومقدمة لغيره ، ويكون تقديره على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا إقتدوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتبعوا نهجه المبارك فهو [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا كونوا أئمة للناس في سبل الصلاح .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا أنتم أسوة للناس في عمل الصالحات التي تتجلى بالقرآن وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ليكون من الإعجاز في إيمان المسلمين أنه برهان وآية تدعو الناس للهدى ، وهو حجة عليهم في كل يوم من أيام الحياة الدنيا .
الوجه الثالث : نداء الإيمان نعمة عظمى على كل مسلم ومسلمة، وتقديره بالنسبة للفرد المسلم : يا أيها الذين آمن ، وتقديره بالنسبة للمسلمة يا ايتها التي آمنت .
وتحتمل هذه النعمة وجوهاً :
الأول : إختصاص نداء الإيمان بالبالغين ذوي الرشد من المسلمين والمسلمات ، بلحاظ شرط التكليف في العمل بمضامين وأحكام نداء الإيمان .
الثاني : شمول غير البالغين من المسلمين وذراريهم بنداء الإيمان.
الثالث : تعلق موضوع نداء الإيمان بالبالغين من المسلمين والمسلمات وبغير البالغ بمقدار آن ما قبل البلوغ لتحقق مصداق صيغة الماضي في نداء الإيمان ، فقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]يتوجه للبالغين من المسلمين بلحاظ أنهم آمنوا قبل البلوغ من غير أن تصل النوبة إلى الدقة العقلية .
الوجه الرابع : نداء الإيمان نعمة على الأرض والسماء ، فهو آية عظمى من الإرادة التكوينية على الأرض والسماء وما فيهن بالبركة وضياء بطنان العرش ليكون مظهر علة لإستدامة وجودها بعبادة الناس لله عز وجل وإقامة المسلمين الصلاة في أرجاء الأرض وتلاوة التنزيل فيها .
لقد جاء بعد نداء الإيمان نهي المسلمين عن وراثة النساء كرهاً ، ولو كانت المرأة كتابية أو كافرة فهل يشملها حكم النهي إذ أنها خارجة بالتخصص لعدم حرمة غير المسلمة في هذا الحكم ، الجواب هو الأول .
وتفيد الآية عدم جواز وراثة النساء كرهاً ، وهو من إعجاز القرآن وموضوعية صيغة العموم والخصوص فيه ،، ومن الإعجاز ورود آية البحث في سورة النساء ، فليس من سورة إسمها سورة المسلمات أو المؤمنات بل وردت سورة عظيمة من القرآن إسمها سورة النساء وعدد آياتها مائة وستة وسبعون آية ، وتتضمن آخر آية منها ذكر النساء أيضاً كوارث ومستحق للإرث وليس المرأة بالذات إرثاً ، قال تعالى [وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ]( ).
وهل كون المرأة إرثاً , وصيرورتها وارثاً من المتضادين اللذين لا يجتمعان ، الجواب لا ، للتباين الموضوعي ، وكان بعض العرب يعضل المرأة كزوجة الأب المتوفى حتى تبذل مالها من أجل إختيار الزوج الذي تريد أو الزوج الملائم لها ، فجاء الإسلام بابطال ما فيه ضرر على المرأة وإثبات ما هو حق لها .
ويدل ذكر النساء في الآية على أن وراثتها كعين حرام في الإرادة التكوينية ، وأن الأنبياء جميعاً جاءوا بحرمة جعل المرأة إرثاً لتنزل آية من القرآن فيبقى هذا الحكم في الأرض إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق تفضيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن تعضلوا ( )النساء كرهاًً .
وقد ورد ذات النهي في حالات الطلاق كما في قوله تعالى [وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ] ( ) لبيان قانون وهو حرمة عضل المرأة مطلقاً سواء عند وفاة الزوج أو طلاقه لها أو مطلقاً ، لقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام وللمنع من تعطيل الأرحام , ولو كانت المرأة كتابية فهل يشملها حكم حرمة العضل , الجواب نعم , لأصالة الإطلاق وجواز نكاح الكتابية , وهو المختار .
وذكرت أسباب لنزول الآية أعلاه , منها ما ورد عن معقل بن يسار (كانت لي أخت فأتاني ابن عم لي فانكحتها إياه ، فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة ، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب ، فقلت له : يا لكع أكرمتك بها وزوجتكما فطلقتها ثم جئت تخطبها ، والله لا ترجع إليك أبداً ، وكان رجلاً لا بأس به ، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها .
فأنزل الله تعالى { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن }( ) قال : ففي نزلت هذه الآية . فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه .
وفي لفظ : فلما سمعها معقل قال : سمعاً لربي وطاعة ، ثم دعاه فقال : أزوجك وأكرمك .) ( ).
وذكر أن إسمها (جميلة بنت يسار أخت معقل بن يسار المزني،
كانت تحت أبي البدّاح عاصم بن عدي بن عجلان) ( ).
لقد تكرر لفظ [وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ] مرتين في القرآن لبعث المسلمين على التفقه في الدين ، وإستحضار أحكام الحلال والحرام في المعاملة مع المرأة ، وهل يختص النهي الوارد في الآية أعلاه بذات المطلق أو هو وعصبته الجواب لا ، إنما الآية أعم إذ يتوجه الخطاب المقرون بالنهي إلى المسلمين والمسلمات ، وهو من أسرار مجئ نداء الإيمان في بداية البحث ، وقد يتحد المطُلق والعاضل ، وقد يتغايران أو يجتمعان كما لو كان العاضل متعدداً .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها المطلق لا يحل لك أن تعضل النساء .
الثاني : يا أيها المطلق لا يحل لك أن تعضل المرأة إذا طلقتها .
الثالث : يا أيها المسلم لا يحل لك أن تفضل النساء .
الرابع : يا أيها المسلمة لا يحل لك أن تعضلي النساء ليكون من أسرار ورود نداء الإيمان في آية البحث تقيد المسلمين جميعاً بالنهي الوارد في الآية وإدراكهم لما يحل لهم وما لا يحل .
وتستنهض الآية المسلمين للمنع من التضييق على المرأة وحبسها ومنعها من الزواج بعد الطلاق ، ولتكون آية البحث من مصاديق وتفسير قوله تعالى [وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ] ( ).
الخامس : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهن ).
من إعجاز القرآن بيان القرآن للحسن الذاتي للمأمور به ، والقبح الذاتي للمنهي عنه , وجاءت آية البحث بذكر العلة الغائية من وراثة عين النساء والتضييق عليهن , وبينت الآية أن القصد من عضل المرأة أمر زهيد فلا يجوز معصية الله عز وجل بسبب متاع قليل ، وقد لا يكون عند المرأة ما يستأثر به الذي يرثها .
ويحتمل متعلق معلول الإستيلاء على ما عند المرأة من المال ونحوه وجوهاً :
الأول : المقصود العضل والحبس , فتكون الواو في [وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ] للإستئناف ، وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً مطلقاً , سواء لتذهبوا ببعض ما أتيتموهن أو لا .
الثاني : المقصود وراثة النساء كرهاً ، ويكون في الآية تقديم وتأخير ، وتقديرها : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً لتذهبوا ببعض ما أتيتموهن ولا تعضلوهن ).
الثالث : إرادة الجمع وأن الواو في قوله تعالى [وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ] للعطف فتكون غاية وراثة النساء كرهاً وحبسهن ومنعهن من الزواج هو التضييق عليهن والإستحواذ على تركتهن وما بقي من مهرهن .
والصحيح هو الثالث أعلاه .
ومن الإعجاز الغيري للآية القرآنية أنها تتضمن الأمر بشئ للبعث على إتيانه , وإتيان ما هو مثله ومن ذات سنخيته ، وتتضمن النهي عن شيء لبيان قبحه ، وبعث النفرة في النفوس مما هو مثله أو أشد منه .
وتبين الآية حرمة وعدم حلية أمور :
الأول : سلب حقوق المرأة المتوفى عنها زوجها .
الثاني : حبس المرأة المتوفى عنها زوجها ، والتضييق عليها .
الثالث : إرادة الإستحواذ على مهر المرأة المتوفى عنها زوجها ، وحملها على دفع أموالها من أجل أن تترك وشأنها في إختيار الزوج ، وتؤسس الآية لقانون من جهات :
الأولى : زجر المسلم عن الإستيلاء على مال الغير .
الثانية : منع المسلم من جعل التضييق على الغير طريقاً للإستحواذ على ماله وحقه عيناً أو إعتباراً .
الثالثة : لا يحل للمسلم التشديد والتضييق على الإنسان بغية جعله يتنازل عن حقه ويسقط ما له في ذمة غيره سواء ذات الذي يقوم بالتشديد أو غيره .
الرابعة : حرمة وراثة حق نكاح المرأة التي يتوفى عنها زوجها . وقيد عنها أعلاه لبيان أنها في عصمته لحظة وفاته .
الخامسة : بيان قانون وهو أن وفاة الزوج طلاق قهري ، تكون المرأة بعده في حلّ من أمرها .
السادسة : بيان قانون وهو أن المهر ملك طلق للزوجة لا يسترد منها ، ولا تكره على إرجاعه .
السابعة : قانون إكرام الزوجة وعدم التعدي على حقوقها .
الثامنة : تأكيد قانون وهو تقوم الصلات الزوجية بمسائل الحلال والحرام .
التاسعة : دعوة النساء لشكر الله عز وجل على نعمة سلامتهن من وراثة أهل الميت لهن ، وما فيها من الشماتة والأذى وأسباب الحسرة ، وليس من حصر لوجوه هذا الشكر الذي يتعلق بالنفس والذرية ونشر مفاهيم التقوى .
العاشرة : بيان رحمة الله بالنساء ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحاجتهن لهذه البعثة .
السادس : يا ايها الذين آمنوا عاشروهن بالمعروف ) وفي مجئ نداء الإيمان في الآية نكتة وهي أن العشرة بالمودة والإحسان أمر وجودي يستلزم القصد والعزم ، وفيه الأجر والثواب لمجيئه عن أمر من الله عز وجل وإستجابة لأمره، قال تعالى [لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا] ( ).
وكأن تقدير الآية على وجوه:
أولاً : وعاشروهن بالمعروف طاعة لله عز وجل .
ثانياً : إن الله يأمركم أن تعاشروا النساء بالمعروف والإحسان .
ثالثاً : من خصال الإيمان معاشرة النساء بالمعروف .
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا إياكم من معاشرة النساء بما يخالف المعروف , من التضييق عليهن وإيذائهن وتقييدهن وضربهن .
خامساً : لزوم إقتران المعاشرة بالمعروف بالزواج ، فصحيح أن النكاح حكم وضعي ، وعقد لازم بقبول وإيجاب إلا أن أحكاماً تكليفية تترتب عليه .
ومن خصائص نداء الإيمان أنه عون ومدد من السماء لمعاشرة المسلم لزوجته بالمعروف ، وعدم إيذائها ، إذ أن نداء الإيمان شهادة وتكليف وإخبار من الله عز وجل للملائكة والخلائق بأن المسلمين يعاشرون أزواجهم بالمعروف ، وتقابل المسلمات الإحسان بمثله وبالطاعة لله ورسوله ثم للزوج .
وفيه بيان ومصداق لقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا]( ).
قال تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ) .
ومن الإعجاز آن آية ( حرمت عليكم ) معطوفة على آية البحث التي تبدأ بنداء الإيمان لمجئ حرف العطف الواو في الآية العشرين ، والآية الحادية والعشرين من سورة النساء ثم مجئ آية تضمنت العطف بصيغة الخطاب الموجه إلى الذين آمنوا ليكون تقدير الآية على وجوه منها :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا حرمت عليكم أمهاتكم ) فلا يصح أن ينكح المسلم أمه التي ولدته ، ولا تختص الحرمة بالنكاح والوطئ بل تشمل الغمز والنظر بشهوة ونحوه .
وإبتدأت آية التحريم بالأمهات لعظيم منزلتهن ولزوم إكرامهن ، والأم هي الوعاء الذي أنجب الولد سواء أرضعته وأحتضنته أو لا، ويشمل لفظ الأم الجدة للأب والأم وإن علت .
ليكون وعاء للحمل حتى الولادة ، فاذا كانت الأم بالرضاعة تحرم على الولد الذي أرضعته لقوله تعالى [وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ]فكذا بالنسبة للتي تغذي من لحمها ودمها لأشهر متتالية .
وهل يشملها قوله تعالى [إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ] ( ) الجواب نعم ، ولكنه لا يفيد الحصر بها إنما الأصل بالأمومة لصاحبة البويضة واللائي تنقل لها البويضة تلحق بها .
والمختار أن ميراث الولد يكون لصاحبه البويضة فهي ترثه ويرثها.
وهل يصح تقدير الآية : حرمت عليكم أمهاتكم اللائي ولدنكم ممن نقلتهم إلى أرحامهن) الجواب نعم على فرض القول بالحرمة وهو المختار ، إذ أن هذه المسألة علمية ومستحدثة ، ولكن شرائط الحرمة جلية فيها ليكون من أسرار نداء الإيمان تفقه المسلمين في الدين وإختيار سبل الرشاد في المعاملات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( )ويكون التعلم في المقام من جهات :
الأولى : تعليم الإنسان حرمة نكاح الأمهات وتقيده بها وأدراك ملائمتها للفطرة .
الثانية : الإرتقاء في الطب ونقل البويضة إلى رحم إمرأة أخرى ، وقد يكون هذا الباب من العلم لم يطرأ على التصور الذهني للناس قبل إكتشافه ونجاحه بمائة عامة أو أكثر وستأتي علوم بعد مائة عام أو حتى أقل أو أكثر لم تطرأ على أذهان الناس من أهل هذا الزمان ، وهو من مصاديق الآية أعلاه .
الثالثة : التفقه في الذين والتوسعة والتضييق بالحكم بلحاظ العلوم المستحدثة .
ليكون نداء الإيمان علة وسبباً للتفقه في الدين وإقامة الأحكام الشرعية والتقيد بمضامينها ، وتوارثها ، وهذا التوارث من أسرار تجدد توجه نداء الإيمان لأجيال المسلمين إلى يوم القيامة .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا حرمت عليكم بناتكم ) والبنت فرع الإنسان , ومن رزق الله عز وجل له ، وجزء منه ، ولا يحل للمسلم أن ينكح إبنته أو يتمتع بها بما حرم الله , أو ينظر لها أو يلمسها بشهوة .
ولا تختص حرمة نكاح البنت بالصلبية , إنما تشمل البنت وإن نزلت أي تحرم الحفيدة وبنات الحفيدة أيضاً.
وجاءت الآية بصيغة الجمع , وهي إنحلالية , وتقديرها على جهات :
الأولى : يا أيها الذي آمن حرمت عليك أمك .
الثانية : يا أيها الذي آمن حرمت عليك إبنتك .
الثالثة : كما يصح قراءتها : يا أيتها التي آمنت حُرم عليك إبنك بلحاظ دلالة حرمة الأمهات ، على تحريم الإبن على أمه ،فيتوجه الخطاب التكليفي إلى الأم بعرض واحد مع توجهه إلى الإبن .
الرابعة : يا أيتها التي آمنت حُرم عليك أبوك ) لدلالة حرمة البنات على تحريم الآباء عليهن بلحاظ أن الوطئ والنكاح نوع مفاعلة بين طرفين .
فلذا فان الحرمة هي إمتناع من الطرفين , وكل من الأب والبنت مكلف مستقل ، وهو من أسرار شمول نداء الإيمان للنساء بعرض واحد مع الرجال .
وجاء الفعل حرمت بصيغة المبني للمجهول للدلالة على أن الذي يحرم هو الله عز وجل، وهذا التحريم من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ويمكن تشريع قانون وهو ليس من تحليل أو فرض أو تحريم في القرآن إلا هو من عند الله عز وجل , لأن كل كلمة منه هي كلام لله سبحانه .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا حرمت عليكم أخواتكم ) لإتحاد الأصل وسنخية الفرع ، ووحدة الدم واللحم .
ومن الآيات نشوء الإنسان بين أمه وأخته وتتربى البنت في كنف أبيها بخلوهما في الليل والنهار داخل أسوار البيت ليس معهما أحياناً إلا الله , وفي التنزيل [مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا]( ).
وهل يصح تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تحّل لكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم .. ) الجواب نعم .
ولكن لفظ (حرمت) يفيد التأكيد والعموم في الأفعال الشهوية ، بينما قوله تعالى [لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا] ( ) لأنه قضية شخصية وتشمل معنى أعم من النكاح والمال والإستحواذ على الزوجة وإرثها .
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا حرمت عليكم عماتكم ..) لبيان أن أخت الأب لها شأن ومنزلة عند أبناء أخيها ، ويجب عليهم إكرامها.
خامساً : يا أيها الذين آمنوا حرمت عليكم خالاتكم ) بلحاظ أن الخالة بمنزلة الأم ، وهل في هذا التحريم ترغيب بالزواج من إبنة العمة وإبنة الخالة ، وكذا بعث الشوق في نفس البنت للزواج من إبن العمة وإبن الخالة .
الجواب نعم , مع السعة والمندوحة في النكاح من الأباعد .
سادساً : يا أيها الذين آمنوا حرمت عليكم بنات الأخ ) وفيه توثيق لصلات الرحم وإثبات للأنساب .
وفصّل في الآية بين الصلات النسبية والسببية ، ولأن بنت الأخ كالبنت في معاني الرحم .
لقد أبى الله عز وجل إلا أن تحضر معالم الإيمان في حياة المسلمين اليومية ، وصيرورة المسلم يميز ويختار في كل فعل وفق أحكام الشريعة ، ومنه سنن وضوابط النكاح بما يمنع من دنس الأرحام ، ومن ضياع الحقوق .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين التناسل والتكاثر حسب قواعد السماء ، وما يؤدي إلى تثبيت أحكام الإسلام إلى يوم القيامة , وهو نوع طريق لقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وليكون من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، تعاهد قدسية النكاح، والتقيد بضوابطه .
ومن إرتكب معصية زواج إحدى محارمه كأمه أو إبنته أو أخته ففيه قولان :
الأول : إنه زنا ، أي أن عقد الزواج لا موضوعية له في المقام ، فيقام عليه حد الزنا ، ما دام عالماً بالتحريم ، ولا يلحق الولد به في العقد ، وعن الإمام الصادق عليه السلام (قال : إذا زنى الرجل بذات محرم حدّ حد الزاني ، إلا أنه أعظم ذنبا)( )، لبيان أنه زنا , إتحاد الحد مع التباين النسبي في الذنب ذي السنخية المتحدة .
وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل والمالكية ، وقال الشافعي : يجب عليه الحد إذا علم بذلك لأن هذا العقد لم يصادف محله .
الثاني : منهم من خالف وقال بالتفصيل وهو إذا أتى ذات محرم كالأخت والبنت فان كان بعقد فعليه التعزير والعقوبة الشديدة ، وإن كان بغير عقد فحده حد الزنا ، وبه قال سفيان الثوري وأبو حنيفة الذي قال بأن الولد يلحق به ويجب عليه الحد وإن أقر بعلمه بأنها عليه حرام ، وإحتسب ذات العقد شبهة تسقط الحد . ( )ولعله يقصد الجهالة بالحكم , وظنه بأن العقد يجيزه .
وهو خلاف دلالة قوله تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ..] ( ) وما ذهب إليه مشهور المسلمين .
وذهب أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة إلى القول الأول أعلاه .
ومع قبح وحرمة هذا الوطئ فانه ليس من الردة أو الشرك وإن كان مستحلاً لذات العرض ، نعم هو كبيرة وتستحق الحد
وتحرم أم الزوجة وأن علت نسباً او رضاعة سواء كان دخل بالزوجة أو لم يدخل .
تحرم على الزوج إبنة زوجته وإن نزلت بشرط الدخول بالأم سواء كانت البنت في حجره أم لم تكن في حجره.
حرمت عليكم أي حرمة النكاح عقداً ووطئاً .
ويحرم من الرضاع مثل الذي يحرم من النسب لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ) ( ).
وتحرم أمهات النساء بنفس العقد وإن لم يتم الدخول ونسب إلى أكثر الفقهاء .
والربائب : جمع ربيبة ، وهي بنت الزوجة من غير الزوج وسميت به لتربيته لها .
وطرأت مسألة جديدة وهي نقل الحمل في رحم إمرأة أخرى فهل تحرم هذه المرأة إذا وضعته الجواب نعم ، ومن باب الأولوية للرضاعة .
وقيل لم يفرق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين زوجين ولكن الناس فارقوهن .
ومن الإعجاز في الإرادة التشريعية تحريم أربعة عشر ضرباً من النساء على المكلف , وهن على قسمين :
الأول : سبعة من جهة النسب وهن :
الأولى : الأمهات.
الثانية : البنات .
الثالث : الأخوات .
الرابعة : الخالات .
الخامسة : العمات .
السادسة : بنات الأخ .
السابعة : بنات الأخت .
الثاني : سبعة من جهة السبب , وهن :
الأولى : الأمهات من الرضاعة .
الثانية : الأخوات من الرضاعة .
الثالثة : أمهات النساء .
الرابعة : بنات النساء بشرط الدخول بالنساء .
الخامسة : زوجة الإبن .
السادسة : زوجة الأب .
السابعة : الجمع بين الأختين .
ومن الإعجاز أن هذا التحريم مذكور في آية واحدة هي الثالثة والعشرين من سورة النساء المذكورة أعلاه , باستثناء تحريم زوجة الأب ، فقد جاء في الآية السابقة لها ، وعطفت عليها هذه الآية ، قال تعالى [وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً] ( ) .
وقيد من أصلابكم لإزالة الشبهة في زوجة الولد المتبنى (عن عطاء أن هذه نزلت حين نكح النبي امرأة زيد بن حارثة فقال المشركون في ذلك فنزل : وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم )( ).
يحرم على المكلف الزواج من :
أولاً : أمه .
ثانياً : جدته لأبيه .
ثالثاً : جدته لأمه وتدخل الجدة في صنف الأم .
رابعاً : إبنته , وفي الحديث المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي) ( ).
خامساً : إبنة إبنه أي تحرم عليه أي أنثى تنتمي إليه بالولادة أو بالواسطة لصدق إسم البنت ، وليس من الشرائع من أيام أبينا آدم ما يجيز زواج الأم أو البنت .
وتأبى فطرة الإنسان ذكراً أو أنثى زنا المحصنة لما فيها من التعدي والظلم في مسألة النسب ، وإختلاط المياه بغير حق , وقد ورد عن قوم فرعون إجهار النسوة بذم إمرأة العزيز لأنها راودت يوسف عليه السلام عن نفسه , وإمتنع عنها .
ورد في التنزيل [وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ).
وجاء ذكر النسوة بصيغة التنكير مما يدل على حقيقة وهي مع أن لفظ [نِسْوَةٌ] جمع قلة فانه يبين حال الناس ، وسنخية المجتمع برفض وإنكار زنا ذات البعل .
وهل من خصوصية لمقام زوجها والنعم التي تتغشى زوجته ، الجواب نعم ، ولكنه لا يتعارض مع دلالة الآية على رفض أهل مدينة فرعون الزنا مع انه إدعى الربوبية ، وقد ورد في التنزيل عنه [فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى]( ) لتدل هذه الآيات بالأولوية القطعية على أن المجتمعات كلها تنكر الزنا .
وقد ورد إنكار النسوة بخصوص ذات المراودة وهي مقدمة محتملة للزنا وظاهر الآية رجحان عدم وقوع الزنا لدلالة الآية على عدم إستجابة يوسف عليه السلام لها ، وهو دليل على أن قوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ] ( )على أنه لم يهم بها بقصد الزنا لأنها تراوده .
(ويقال راودت الجارية فلاناً عن نفسه أي حاولت منه الوطئ والجماع ) ( ).
ليكون من الإعجاز في تأريخ النبوة أن أهل البلد مع كفرهم وجحودهم بالربوبية والنبوة يقرون بنزاهة وطهر النبي ، لذا كان أهل مكة مع شدة حربهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسمونه (الصادق الأمين) لحسن سمته , ولأنه لا يعرف الكذب أو الخيانة وليكون هذا الوصف حجة وسبباً لتلقي عامة الناس آيات التنزيل بالقبول .
سادساً : أخته , لأبيه أو لأمه , أو لهما معاً .
سابعاً : بنات الأخت من الأبوين , أو من الأب وحده , أو من الأم .
ثامناً : بنات الأخ .
تاسعاً : بنت وحفيدة الأخت.
عاشراً : إبنة بنت الأخ.
حادي عشر: العمة , وهي أخت الأب لأبويه أو لأحدهما.
ثاني عشر : الخالة , وهي أخت الأم لأبويها أو لأحدهما .
ثالث عشر : أم الزوجة .
رابع عشر : جدة الزوجة لأمها.
خامسة عشر : جدة الزوجة لأبيها وإن لم يدخل بها.
سادس عشر : بنت الزوجة المدخول بها ويتجلى قيد الدخول بقوله تعالى [وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ]( ).
سابع عشر : زوجة الأب .
ثامن عشر : زوجة جده .
تاسع عشر : زوجة إبنه .
عشرون : زوجة الحفيد .
حادي والعشرون : أخت زوجته ما دام عقد الزوجية للنهي عن الجمع بين الأختين ، قال تعالى [وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ] ( ).
ثاني وعشرون : الأم من الرضاعة .
ثالث وعشرون : بنات المرضعة ولادة مع تحقق شرائط الرضاعة، والتي تتقوم بأثبات اللحم وشد العظم ، ومع الشك في تحققه عند الرضيع يتحقق الرضاع بيوم وليلة , أو بحسب عدد الرضعات (يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ)( ).
رابع وعشرون : الجمع بين الآختين الرضاعتين ، والمختار كراهة الرضاعة لإبن الغير , وبما ينشر الحرمة إلا عند الضرورة والحاجة لقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : إنما الرضاعة من المجاعة)( ).
(ورووا عن الإمام علي عليه السلام وزيد بن ثابت، أنه يجوز العقد على الام ما لم يدخل بالبنت، وجعلوا قوله: ” من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ” راجعا إلى جميع من تقدم من أمهات النساء، والربائب ) ( ).
أي يكون التقدير : وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ) .
والربائب: جمع ربيبة وهي بنت الزوجة من غيره ، مأخوذ من تربيته لها ، ومعناها مربوبة ، كما تقول ذبيحة في محل مذبوحة ، والإطلاق يشمل التي يتولى تربيتها وكانت في حجره أو لم تكن لأنه إذا سمي رابها لأنه قيد غالب .
ويطلق لفظ الفاعل والمفعول بلحاظ ما سيقع على نحو القطع يقال : هذا مقتول ، وهو لم يقتل بعد ، وإذا أوصى الميت وهو لم يمت ولكنه في مرض الموت أو أنه يحتضر .
والأمهات بالنسب والرضاعة يحرمن على زوج البنت بذات العقد عليها ، سواء دخل بها أو لم يدخل لإطلاق التحريم في الآية [وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ] ( ).
ويمكن تقدير قراءة آية التحريم بالمفهوم بالنسبة لنشر الحرمة بخصوص النساء (حرمت عليكن).
ترى ما هي موضوعية نداء الإيمان في هذا التحريم المتعدد , فيه وجوه :
الأول : إكرام المسلمين بتفضل الله عز وجل باخبارهم عن الحكم الشرعي الثابت بخصوص النكاح إباحة وحرمة ، أمّا الحرمة فتتجلى في آية البحث .
وأمّا الحلية فتتجلى في مفهوم الآية , وآيات منها قوله تعالى [فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً] ( )ومن السنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية والأسرية .
الثاني : تولي المسلمين مقامات الإمامة بين الناس في باب النكاح إختباراً وكيفية , وتتجلى هذه الإمامة بتحلي المسلمين بالعمل باحكام الحلية والحرمة في الزواج .
الثالث : تنمية ملكة صلة الرحم عند المسلمين ونشر معاني المودة بينهم بالعفة والطهارة والعمل بالإمتناع عن نكاح المحارم .
الرابع : تعاهد المسلمين لطهارة الأرحام , وعدم إختلاط المياه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامس : من معاني نداء الإيمان الثناء على المسلمين لتقيدهم بأحكام آية [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ..] ( ) وفيه شاهد على مسائل :
أولاً : للنكاح قواعد وقوانين منذ أيام أبينا آدم الذي رأى أولاده وأحفاده ، إذ عمّر طويلاً ومات وعمره ألف سنة .
(عن ابن عباس قال : لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أوّل من جحد آدم أن الله لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذار إلى يوم القيامة فجعل يعرض ذريته عليه ، فرأى فيهم رجلاً يزهر قال : أي رب من هذا؟ .
قال : هذا ابنك داود . قال : أي رب كم عمره؟ قال : ستون عاماً قال : رب زد في عمره . فقال : لا إلا أن أزيده من عمرك . وكان عمر آدم ألف سنة ، فزاده أربعين عاماً ، فكتب عليه بذلك كتاباً وأشهد عليه الملائكة .
فلما احتضر آدم وأتته الملائكة لتقبضه قال : إنه قد بقي من عمري أربعون عاماً . فقيل له : إنك قد وهبتها لابنك داود . قال : ما فعلت . فأبرز الله عليه الكتاب وأشهد عليه الملائكة ، فكمل الله لآدم ألف سنة ، وأكمل لداود مائة عام ) ( ).
أي أن الله عز وجل أتم لآدم تمام عمره ، وأحتسب هبته لداود وهي أربعون سنة فلم يقبض روح داود حتى استوفاها ، وفيه بيان لفضل الله عز وجل على الأنبياء خاصة والمؤمنين عامة , وبعث للمسلمين للدعاء والمسألة لإطالة أعمارهم لإكتناز الحسنات وبث روح الإيمان بين الناس ، ويكون هذا الدعاء والإستجابة له من مصاديق [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) من جهات :
الأولى : قيام المسلمين بالدعاء لإطالة أعمارهم فليس من أمة تتجه للدعاء وسيلة لأطالة الأعمار ، وتسليم بأستجابة هذا الدعاء ، إلا اهل الإيمان ، وهو من مصاديق قول آية المحو وقوله تعالى [ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ]( ).
الثانية : إجتهاد المسلمين مجتمعين ومتفرقين بعمل الصالحات ، ويكون الذي أمدّ الله بعمره أسوة لغيره ومصداقاً للإمتثال للأمر بالمسارعة في الخيرات الوارد في قوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الثالثة : توارث المسلمين الصلاح ، والإنقطاع إلى العبادة والدعاء .
الرابعة : تنمية ملكة الدعاء عند المسلمين في الأمور الظاهرة والخفية ، والأمر الحال والآجل ، وأسرار الحياة والموت .
فمن منافع قوله تعالى في الثناء على القرآن [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( )أن القرآن يهدي المسلمين إلى آداب الدعاء وسؤال طول العمر وإستدامة الرزق والنماء فيه .
ثانياً : حمل المسلمين للواء الإمتثال لأحكام الشريعة إلى يوم القيامة ، وإقتباس الناس منهم .
ثالثاً : دعوة الناس لدخول الإسلام ، بتجلي معاني الهداية والرشاد في سنن الإسلام .
رابعاً : الآية مصداق للإعجاز بأن تأتي كلمتان من القرآن لتكون ضابطة كلية تصاحب المسلمين في حياتهم الإجتماعية والأخلاقية .
خامساً : بيان وجوب برّ الأم والعناية بها ، إذ إبتدأت الآية بالإخبار عن حرمتها على الإبن في النكاح والتمتع والنظر بشهوة ومقدمة الحرام في المقام حرام.
ويمكن تقدير آية التحريم على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا حرّم الله عليكم أمهاتكم .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا حرم الله عليكم بناتكم .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا حرم الله عليكم أخواتكم .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا حرم الله عليكم عماتكم .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا حرم الله عليكم خالاتكم .
السادس : يا أيها الذين آمنوا حرم الله عليكم بنات الأخ .
السابع : يا أيها الذين آمنوا حرم الله عليكم بنات الأخت .
الثامن : يا أيها الذين آمنوا حرم الله عليكم أمهاتكم اللائي أرضعنكم.
التاسع : يا أيها الذين آمنوا حرم الله عليكم أخواتكم من الرضاعة .
العاشر : يا أيها الذين آمنوا حرم الله عليكم أمهات نسائكم .
الحادي عشر : يا أيها الذين آمنوا حرم الله عليكم ربائبكم اللائي في حجوركم من نسائكم اللائي دخلتم بهن .
الثاني عشر : يا أيها الذين آمنوا حرمت عليكم ربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فان لم تكونوا دخلتم بنسائكم فلا جناح عليكم في ربائبكم .
الثالث عشر : يا أيها الذين آمنوا حرم الله عليكم حلائل أبنائكم الذين من أصلابكم .
الرابع عشر : يا أيها الذين آمنوا حرم الله عليكم أن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف .
الخامس عشر : يا أيها الذين آمنوا إن الله كان غفوراً رحيماً للناس ومنهم الذين يتقيدون بأحكام التحريم في هذه الآية .
فمن إعجاز الآية أنها تبدأ بالخطاب للمسلمين والمسلمات ، وتتضمن التحريم المتعدد ثم البشارة بالعفو والمغفرة .
وآية التحريم هي أكثر آيات القرآن ورد فيها نهي وتحريم كماً وكيفاً ، إذ تضمن تحريم ثلاث عشرة صنفاً من النساء، فان قلت قد إستبان الكم والكثرة في التحريم في الآية ، فاين هو الكيف ، الجواب إرادة ضروب التمتع والنكاح والوطئ والغمز والنظر واللمس بشهوة .
ومن إعجاز الآية أنها تمنع من الهّم بالمنكر في هذا الباب ، ومن أنواع المفاعلة في الفعل القبيح ، فلا يهم المسلم بأمه أو أخته وما ورد في اللآية من ضروب التحريم ، ولا يجد منها إلا العفة والطهارة والتقيد بأحكام التحريم .
قال تعالى [وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ] (سمّى المراضع أمهّات جريا على لغة العرب ، وما هنّ بأمّهات حقيقة . ولكنهنّ تنزّلن منزلة الأمّهات لأنّ بلبانهنّ تغذّت الأطفال ، ولما في فطرة الأطفال من محبّة لمرضعاتهم محبّة أمّهاتهم الوالدات) ( ).
ولكن الأمر لا ينحصر بالجري على لغة العرب ، بل أن القرآن يبين حكماً ويشرع قانوناً في الإرادة الوضعية أن اللائي يرضعن يصبحن أمهات , وأن لفظ الأم أعم من أن يختص بالولادة , وهل فيه باب للتوسعة في الأم مثل طفل الأنابيب ونقل الجنين إلى رحم أمرأة أخرى .
الجواب نعم ، ولو أخذت خلية الطفل من إمرأة وصار ولداً فهل يكون لها إبناً وتنشر الحرمة بينه وبين بناتها , الأقرب نعم .
وقوله تعالى [اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ]ليس تقييداً ، ولا لدفع وهم أن المراد الأمهات ، فقد تقدم ذكرهن ، ولكن الوصف جاء للبيان والتأكيد والإخبار بترتب الأثر على الرضاع في تكوين الإنسان ونشأته .
وهل تدل الآية على كراهية الرضاع لما فيه من التشديد والتوسعة في لفظ الأمومة ونشر حرمة النكاح بما يتعدى النسب إلى الرضاع .
الجواب لا ، وقد تكون هناك منافع عظيمة بالرضاع ، وصلة الأخوة فيه ، وكانت رضاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه ترتيبية :
الأول : إرتضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أمه ثلاثة أيام .
الثاني : أرضعته ثوبية مولاة أبي لهب لمدة أربعة أشهر فقط .
الثالث : أرضعته حليمة السعدية بنت أبي ذؤيب .
وأولادها : عبد الله , أنيسة , شيماء التي قامت بحضانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد إلتمس عبد المطلب لحفيده مرضعة لما أتم سبعة أيام من ولادته , وأخذت النساء ترد على آمنة بنت وهب أمه وكانت قد سمعت هاتفاً وهي نائمة ، أن أردت أن ترضعي ولدك فعليك بنساء بني سعد حليمة السعدية ، وكانت كلما تأتيها إمرأة تسألها عن إسمها وقومها .
وأصاب في تلك السنة أطراف مكة القحط والجدب والغلاء إلا مكة فانها أخصبت ببركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الشاعر :
خير الأنام الهاشمي محمد .. .. من نوره نار الجحيمة تخمد
وعن إبن عباس قال (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشكو أن مولاه زوجه وهو يريد أن يفرق بينه وبين امرأته فحمد الله واثنى عليه , ثم قال ما بال اقوام يزوجون عبيدهم أماءهم ثم يريدون ان يفرقوا بينهم الا انما يملك الطلاق من يأخذ بالساق) ( ).
وفي الحديث مسائل :
الأولى : المراد من الذي يأخذ بالساق هو الزوج , كناية عن أخذه بساقها عند وطئها .
الثانية : بيان حق العبد في الإسلام ، فكما تجب عليه الفرائض على نحو الوجوب العيني مثلما تجب على مولاه وعلى الحر مطلقاً فانها تجب عليه أيضاً ، وفيه تنمية لملكة الأخوة الإيمانية بين المسلمين ودعوة لهم لتلقي نداء الإيمان بالعمل بصيغة الأخوة والمناجاة بالخير والصلاح والمبادرة إلى المعروف ، قال تعالى [وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( ).
الثالثة : إمكان وصول العبد إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسؤاله مع وجود أصحابه ، وعدم خشية العبد من زجر النبي وآله أو أصحابه أو بطش مولاه .
الرابعة : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإجابة بالحق والعدل وهي إلى صالح العبد دون مولاه ، وورد في رواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما سأله المملوك (صعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنبر ، فقال : يا أيها الناس ، إنما الطلاق بيد من أخذ بالساق ) ( ).
شروط إنتشار الحرمة في الرضاع
الأول : أن يكون اللبن الذي يرتضعه المرتضع من وطئ شرعي بنكاح أو ما يلحق به ، كملك اليمين أو تحليل الإماء أو وطئ الشبهة، فلا تنشر الحرمة بما لو در اللبن من غير نكاح كما لو كان من الزنا، وقيل كذا لو كان من دون وطئ ، وقيل لا تنشر الحرمة فيما اذا درّ اللبن من غير ولادة ولو مع الحمل بالوطئ الشرعي ، وفيه تردد لصيغة الشرعية ، وعن الإمام الصادق عليه السلام : لبن الحرام لا يحرّم الحلال ) ( ) .
وكان من عادة العرب قصد مكة والنزول بنواحيها ، وخرجت حليمة مع نساء بني سعد للإلتقاط من نبات الأرض ما يقتاتون به ، قالت حليمة كنا نقيم اليوم واليومين والثلاثة ، ولم نفطر إلا على الماء ، وكنا شاركنا المواشي في مرعاها .
(قالت حليمة فيما أن ذات ليلة حسنت حال حليمة ونزل بها الرخاء عندما تولت رضاعة النبي ، وقال الحارث زوج حليمة لها : أتعلمين يا إبنة أبي ذؤيب أنك حملت نسمة مباركة ) .
وكانت مدة حضانة النبي في قبيلة بني سعد خمسة أعوام زارته أمه فيها ثلاث مرات ، وتعاهدت شؤونه حليمة السعدية وأعتنت به خير عناية لما رأت من البركات ، ولما بلغ عمره ست سنوات خرجت به أمه إلى يثرب لزيادة أخواله من بني النجار وزيارة قبر زوجها عبد الله وعند عودتها إلى مكة مرضت في الطريق وتوفيت في الأبواء ، قال تعالى [أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى] ( )إذ أصبح قبل السابعة من عمره يتيم الأبوين وأحاطه جده عبد المطلب بالرعاية , وأحبه أكثر من ولده .
(عن قتادة قال: لما كان يوم فتح هوازن جاءت جارية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أنا أختك، أنا شيماء بنت الحارث.
فقال لها: ” إن تكوني صادقة فإن بك منى أثرا لا يبلى ” قال: فكشفت عن عضدها( )
فقالت: نعم يا رسول الله وأنت صغير فعضضتني هذه العضة.
قال: فبسط لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رداءه ثم قال: ” سلى تعطى واشفعي تشفعي) ( ).
ونشأ النبي في رعاية جده عبد المطلب ولم ير حليمة ولا أحد من أولادها حتى وقعت معركة حنين و(إن المسلمين هجموا على خبائها فصاحت يا معشر المسلمين أتهجمون على أخت نبيكم ؟ قالوا: ومن أنت قالت:
أنا شيماء بنت حليمة أخت نبيكم من الرضاعة , فذهبوا بها الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألها فقالت: نعم أنا أختك قال: وهل لك علامة ؟ قالت: نعم عضة عضضتنيها على كتفي فكشفت عن كتفها والاثر موجود فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : نعم إنها اختي .
فقال المسلمون: المعذرة اليك واليها يا رسول الله هذا اعتذار المسلمين لما هجموا على خيمة شيماء وهم لا يعرفونها فما اعتذار أهل الكوفة لما هجموا على خيمة زينب وهم يعرفونها وقائلهم يقول علي بالنار) .
وقال أيضا : انظرن ما أخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة ) يريد ما رضعه الصبي فعصمه من الجوع ( ).
ويستفاد من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أنما الرضاعة من المجاعة ) مسألتان :
الأولى : إحتمال إرادة كراهة رضاعة غير الأم , مع عدم الحاجة لها .
الثانية : بيان أحكام الرضاع وشرطية نشر الحرمة بما ينبت اللحم والعظم ويكون له الأثر .
أختلف في مدة الرضاع ، قال مالك وابو حنيفة بكفاية رضعة واحدة فاذا حصل الرضاع قليله أو كثيره ثبت التحريم لعمومات قوله تعالى [وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ] ( )
ولكن الآية ظاهرة بتحقق صدق الأمومة والأخوة من الرضاعة ، والآية مقيدة بذات لفظها , ولم تقل (اللائي أرضعنكم هن أمهاتكم ) .
وقال أهل الظاهر باشتراط ثلاث رضعات وإستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لَا تُحَرِّمُ مِنْ الرَّضَاعِ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ) ( ) رواه مسلم ، ولكن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، فان نفي نشر الحرمة بالمصة والمصتين لا يدل على نشرها بالثلاث ، فلابد من الرجوع إلى دليل آخر .
ولعل القدر المتيقن من الحديث هو بيان المندوحة في الحكم ، ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا رضاع بعد الحولين، وإنما الرضاع ما أنبت اللحم وأنشر العظم ( ).
وقال الشافعي واحمد باشتراط خمس رضعات لحديث عائشة : كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات فتوفى رسول الله وهن فيما يقرأ من القرآن ) ( ).
ولكن ذكرت ناسخاً ومنسوخاً في القرآن مع أن المسألة عامة البلوى .
الرضعة لا يشترط فيها الإشباع على قول أحمد بن حنبل يرجع في تفسيرها إلى العرف أن يلتقم الطفل الثدي ويمصه ثم يطلقه .
من حديث إبن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أريد على إبنة حمزة فقال : أنها لا تحل لي إنها إبنة أخي من الرضاعة ويحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم .
وفي رواية عن عائشة قال : (فَجَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الْقُرَشِيّ ثُمّ الْعَامِرِيّ وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا كُنّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا وَكَانَ يَأْوِي مَعِي وَمَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ وَيَرَانِي فُضُلًا وَقَدْ أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ مَا قَدْ عَلِمْت فَكَيْفَ تَرَى فِيهِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ” أَرْضِعِيهِ ” فَأَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا مِنْ الرّضَاعَةِ فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَأْمُرُ بَنَاتِ إخْوَتِهَا وَبَنَاتِ أَخَوَاتِهَا أَنْ يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبّتْ عَائِشَةُ أَنْ يَرَاهَا وَيَدْخُلَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ ثُمّ يَدْخُلَ عَلَيْهَا .
وَأَبَتْ ذَلِكَ أُمّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ أَزْوَاجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنّ أَحَدًا بِتِلْكَ الرّضَاعَةِ مِنْ النّاسِ حَتّى يَرْضَعَ فِي الْمَهْدِ , وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ وَاَللّهِ مَا نَدْرِي لَعَلّهَا كَانَتْ رُخْصَةً مِنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِسَالِمِ دُونَ النّاسِ) ( ).
وعن عائشة (خمس رضعات متفرقات مشبعات يحرمن ذلك).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : إذا ملك الرجل والديه أو أخته أو عمته أو خالته أو بنت أخيه أو بنت أخته وذكر أهل هذه الآية من النساء عتقوا جميعاً ، ويملك إبن عمه وإبن أخيه وإبن أخته والخال ، ولا يملك أمه من الرضاعة ولا أخته ولا عمته ولا خالته إذا ملكهن عتقهن .
شروط الرضاع
الأول : حصول اللبن من وطئ جائر شرعاً .
الثاني : عدم إعتبار بقاء المرأة في حبال الرجل .
الثالث : شرب اللبن بالإمتصاص من الثدي .
الرابع : حياة المرضعة ، وأنها ليست ميتة أوان رضاعة الصبي من ثديها .
الخامس : المرتضع في أثناء الحولين .
السادس : الكمية .
وفي رسالتنا العملية الحجة ذكرنا المسألة التالية :
مسألة 283 : إذا كان المرتضع بنتاً فتحرم على:
الأول : الفحل لأنه يصبح لها أباً.
الثاني : تحرم على ابيه لأنه يصبح لها جداً.
الثالث : تحرم على اخوة الفحل لأنهم اعمامها.
الرابع : تحرم على ابنائه لأنها تصبح اختاً لهم بالرضاعة، وان كانوا من زوجة غير التي ارضعتها , ولم تكن حية وقت الرضاعة.
الخامس : تحرم على ابناء المرضعة النسبيين لأنهم يصبحون اخوتها من الأم، فلو كان للمرضعة اولاد وهي قد تزوجت ثلاثة وارضعت بنتاً من لبن الفحل (الزوج) الثاني، فان اولاد المرضعة من الازواج الثلاثة بالولادة يصبحون جميعاً اخوة بالرضاعة للمرتضعة.
نعم اولادها الرضاعيون من الزوج الأول والثالث لا يكونون اخوة لها بالرضاعة لاشتراط اتحاد الفحل في نشر الحرمة.
السادس : تحرم على الاخوة الرضاعيين من نفس صاحب اللبن وان كانوا ارتضعوا من ثدي زوجة اخرى، فلو ان امرأته ارضعت بنتاً وبعد اربعين سنة ارضعت زوجة اخرى له ولداً بشرائط الرضاعة فان البنت تصبح اخته وتنشر الحرمة بينهما.
ويدل قوله تعالى [وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ] ( )على إباحة الرضاعة في الإسلام , وأنه جائز في الأصل , والآية برزخ دون تحريمه وهو إرتضاع الطفل من لبن أمرأة غير أمه في الحولين أي السنتين الأولين من عمره ، وقد يكون عن حاجة مثل موت الأم أو عدم إدرار ثديها ، أو أسباب وأمور عرضية أخرى ، وأن قلّ الإبتلاء في رضاع غير الأم في هذا الزمان , بانتاج الحليب المجفف ونحوه .
آية المحرمات
يمكن تقسيم المحرم نكاحهن في الشريعة تقسيماً إستقرائياً إلى :
الأول : محرمات بالنسب , وهي الأكثر في أفرادها في الواقع كالأم والبنت .
الثانية : المحرمات بالمصاهرة والسبب كزوجة الإبن ، وزوجة الأب وأم الزوجة ، وبنت الزوجة المدخول بها .
الثالثة : المحرمات بالرضاع , قال تعالى [وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ] ( ) .
ولم يأخذ الإسلام بالتبني , وتسمى القرابة الإصطناعية , وأهدر الإسلام التبني , ولم يجعل أحكاماً خاصة مما يعني حلية الزواج ، قال تعالى [مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ] ( ) .
الرضاع بفتح وكسر الراء إسم من الأرضاع ، وهو معنى الثدي وشرب لبنه , وفي الإصطلاح هو مصّ الرضيع في الحولين من ثدي إمرأة عن نكاح شرعي .
وتمنع الآية القرآنية [وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ] ( )من إنكار الرضاعة والترفع والتكبر عن الذين يصلون للإنسان بصلة الرضاعة ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأسوة والإمام في بيان صلة الرضاعة والإكرام فيها ، ففي واقعة حنين أكرم أخته شيماء بنت الحارث وأمها حليمة السعدية التي ارضعت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال عن بنت الحمزة حين ارادوها له : أنها إبنة أخي من الرضاعة
(عن أم حبيبة بنت أبى سفيان، قالت: يا رسول الله إنكح أختي بنت أبى سفيان .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” أو تحبين ذلك ؟ ” قلت: نعم لست لك بمخلية وأحب من شاركني في خير أختى.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ” فإن ذلك لا يحل لى “.
قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبى سلمة، وفى رواية: ” درة بنت أبى سلمة ” قال: ” بنت أم سلمة ؟ ” قلت: نعم.
قال: ” إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثوبية، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن “.
زاد البخاري: قال عروة: وثويبة مولاة لابي لهب أعتقها فأرضعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فلما مات أبو لهب أريه بعض أهله بشر خيبة، فقال له: ماذا لقيت ؟ فقال أبو لهب: لم ألق بعدكم خيرا، غير أنى سقيت في هذه بعتاقتى ثويبة.
أشار إلى النقرة التى بين الابهام والتى تليها من الاصابع.
وذكر السهيلي وغيره: أن الرائى له هو أخوه العباس.
وكان ذلك بعد سنة من وفاة أبى لهب بعد وقعة بدر.
وفيه إن أبا لهب قال للعباس: إنه ليخفف على في مثل يوم الاثنين.
قالوا: لانه لما بشرته ثويبة بميلاد ابن أخيه محمد بن عبد الله أعتقها من ساعته، فجوزي بذلك لذلك ) ( ).
ومع أن الأصل في إرضاع المرأة لإبن غيرها الإباحة فقد تأتي الأحكام التكليفية الأخرى بالعرض ، فقد يجب إذ توقفت حياة الصبي عليه ويكره الإرتضاع من اليهودية والنصرانية ، وليس المشركة ، ويكره الإرتضاع من الزانية .
ولا مانع من دراسة موضوعه وإجراء تحليلات مختبرية , ومسح في أنماط السلوك يستمر لعشرات السنين , وبدراسات مقارنة على أفراد مخصوصين يشملهم الموضوع .
الرابعة: الحرمة المترشحة عن الحمل والولادة بالأسباب العلمية الحديثة.
السن الذي يثبت فيه التحريم بالرضاع
الكتاب والسنة والإجماع على ثبوت التحريم بالرضاع في خصوص الحولين ، قال تعالى [وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ] ( ) فالآية ظاهرة في تمام الرضاعة بالحولين .
والحول : الحيلة وهو القوة , والحول السنة .
قال لبيد :
إلى الحول ثم إسم السلام عليكم
ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر( )
وورد عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي , وكان قبل الفطام( ) .
وعن إبن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم( ).
عن يحيى بن سعيد ، أن أبا موسى قال في رضاعة الكبير : « ما أراها إلا تحرم، فقال ابن مسعود : انظر ما تفتي به الرجل ؟ فقال أبو موسى : فما تقول أنت ، فقال ابن مسعود : لا رضاعة إلا ما كان في الحولين . فقال أبو موسى : لا تسألوني عن شيء ما كان هذا الحبر بين أظهركم ، قال أحمد : ورواه أيضا إبراهيم النخعي في الحولين( ).
وعن إبن عباس : لا رضاع إلا في الحولين( ) .
وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن الرضاعة من المجاعة يدل على إرادة الحولين .
وقال أبو حنيفة أن التحريم يثبت إلى ثلاثين شهراً ، وإستدل بقوله تعالى [وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا] ( ) ولكن الآية تفيد وفق السبر والتقسيم وبيان المناط إسقاط مدة الحمل القهري ، ولم يأخذ صاحباً أبي حنيفة وهما أبو يوسف الأنصاري يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري, ولي قضاء بغداد توفى سنة 182 هـ ،والثاني محمد بن الحسن .
وهل في الآية أعلاه إعجاز وإخبار عن حصول الحمل في المستقبل بواسطة الأنابيب والمختبرات بأقل من مدة التسعة أشهر وحتى الستة أشهر ليتسع حكم ومدة الرضاع رأفة بالصبي ولحاجته للعناية به مدة أطول .
الجواب نعم ، ليكون القرآن ملائماً للأزمنة المختلفة ويتضمن إخباراً سماوياً عن الإرتقاء العلمي وتحدياً للناس بأن العلوم والإكتشافات تبقى محدودة ضمن بديع صنع الله .
وبثبوت التحريم في الحولين في الرضاعة قال مالك والشافعي وأحمد وصاحبي أبي حنيفة .
(عن الإمام الصادق عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا رضاع بعد فطام ، ولا وصال في صيام ، ولا يتم بعد احتلام ولا صمت يوما إلى الليل ولا تعرب بعد الهجرة ولا هجرة بعد الفتح ولا طلاق قبل نكاح ، ولا عتق قبل ملك ، ولا يمين للولد مع والده ، ولا للمملوك مع مولاه ، ولا للمرأة مع زوجها ولا نذر في معصية ، ولا يمين في قطيعة) ( ) .
أي أن الصبي إذا شرب من لبن المرأة بعد الفطام فلا ينشر هذا الرضاع الحرمة .
وقال أبو حنيفة بكفاية الرضعة الواحدة ، ولعله عمل بأطلاق الآية [وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ] ويجاب بأن المطلق يحمل على المقيد وان الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعيين رضعات معلومات يقيده , ولا تصل النوبة إلى الإطلاق وتقييده بل ذات الآية تفيد البيان إذ أنها تذكر المرضعات بصفة الأمهات ، وبين الأم والمرضعة عموم وخصوص مطلق ، فكل أم بالرضاعة هي مرضعة وليس العكس .
أما ما إستدل به داود الظاهري عن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان ).
ومفهومه بأن الثلاثة تحرم فان الإستدلال بالمفهوم مشروط بعدم مخالفته للمنطوق وجاءت السنة والنصوص بخلافه .
السعوط : أن يصب اللبن في فم الرضيع من إناء وغيره .
الوجور : صب اللبن في حلق الصبي صباً من غير الثدي , ومنه صب الدواء في فم المريض .
وقال بثبوت التحريم به ابو حنيفة والشافعي وأحمد ، والشعبي والثوري وبه قال مالك في الوجور بلحاظ أن الدماغ جوف للمتغذي كالمعدة , ومشهور الإمامية عدم ثبوتها به .
ومذهب داود لا يثبت به التحريم لأنه ليس برضاع .
ولو عمل اللبن جبناً ثم أطعم للصبي المرتضع لا يثبت به التحريم لتغير الموضوع والقدر المعين في نشر الحرمة , وبه قال أبو حنيفة وقال بالتحريم به الشافعي وأحمد .
وتدل الآية [وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ] ( ) في ظاهرها على وجوب إرضاع الوالدة لولدها , ولكن السنة القولية والفعلية تفيد معنى الإستحباب في هذه الآية من جهات :
الأولى : رضاعة غير الأم للصبي من غير منع وزجر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو من السنة التقريرية .
الثاني : مجي القرآن بالتسليم بالأمومة والأخوة من الرضاعة .
الثالث : تضمن الآية أعلاه تقييد الرضاعة بإرادة إختيار إكمال الرضاعة .
إن قوله تعالى [وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا] ( ) بالجمع بينه وبين قوله تعالى [وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ] ( ) يفيد بأن أقل الحمل ستة أشهر ، والمراد من الحولين أربعة وعشرون شهراً هلالياً .
ويحمل العامان على تمام وإكمال الإرضاع كما يدل عليه قوله تعالى [وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ] ( ).
وسأل رجل الإمام علي عليه السلام ( إني تزوجت جارية سليمة بكراً ، لم أر منها ريبة ، وإنها ولدت لستة أشهر .
فقرأ علي عليه السلام { والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ والدة بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أولادكم فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ ءَاتَيْتُم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }( ) .
وقرأ { وَحَمْلُهُ وفصاله ثَلاَثُونَ شَهْراً}( ) فالحمل ستة أشهر ، والرضاع سنتين ، والولد ولدك . وقال وكيع : هذا أصل ، إذا جاءت بولد لأقل من ستة أشهر ، لم يلزمه فيفرق بينهما) ( ).
ولا تصل النوبة إلى التفريق بين الزوجين لطرو إحتمال الشبهة ، وهل يحتمل أن يأتي العلم الحديث بما ينقص من أيام الحمل خاصة الأنابيب ونحوها ، الجواب نعم ، لبيان الإعجاز في قوله تعالى [وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا] ( ) إذ تكون مدة الحمل أقل من المتعارف وهو تسعة أشهر .
وهل يمكن أن يرتقي العلم بحيث يستغني الصبي عن الحليب قبل الحولين ، الجواب نعم ، كما لو صار حول واحد يكفي للرضاعة فهل يبقى شرط الحولين في الرضاعة ، أم يكون الملاك قاعدة إذا تغير الموضوع بتبدل الحكم الجواب هو الأول ، إذا يبقى النص والحكم القرآني ثابتاً إلى يوم القيامة ، كما أن التغيير وقصر مدة الحمل أو الرضاع أو هما معاً يكون على نحو الموجبة الجزئية ويبقى أهل الحكم على حاله .
أما بالنسبة للوجوه التي أوردها الفخر الرازي إشكالاً في الآية ، فهي أمر غريب وأشد ركاكة .
أما الأول وخلو الآية من التصريح بذكر الفاعل ، فمن المسلمات أن الحلية والتحريم في القرآن لا تكون إلا من عند الله عز وجل لأن القرآن كلامه سبحانه ، ولبيان قانون وهو من خصائص [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) نزول التحريم لهم من عند الله لتكون نسبة جهة الصدور المبارك ، ونزوله من عند الله مدداً وعوناً للمسلمين للتقيد بمضامين النهي .
وينقسم الفعل بلحاظ فاعله إلى قسمين :
الأول : الفعل المعلوم كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) فلما كانت أسباب النصر متعددة وإحتمال نسبة المسلمين النصر لأنفسهم , وعلل وضعية ومقدمات في الميدان .
ذكرت الآية إسم الله عز وجل وأنه هو الذي نصر المسلمين فلا يقول بعض المؤمنين في أي زمان أو مكان أن الملائكة نصرونا على نحو العلة التامة ، إنما نزل الملائكة مدداً للمسلمين بأمر من عند الله , قال تعالى [يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ).
الثاني : الفعل المبني للمجهول وهو الذي لم يذكر في ذات الجملة فاعله ولغرض ما من وجوه :
أولاً : الإيجاز والإختصار .
ثانياً : العلم بمعرفة السامع بانصراف الكلام وتعيين الفاعل .
ثالثاً : الخوف على الفاعل .
رابعاً : الجهل بالفاعل .
خامساً : الخوف من الفاعل.
سادساً : إرادة التعريض والتلميح .
سابعاً : إرادة التعظيم والإكرام .
ثامناً : المقصود الذم والترفع عن ذكر الفاعل .
تاسعاً : بيان حقيقة وهي إختصاص الفعل بفاعل واحد.
عاشراً : تقدم ذكر الفاعل في جملة سابقة بما لا يؤدي البناء للمجهول إلى الجهالة أو الغرر أو الترديد .
وجاء الفعل المبني للمجهول في الآية من الوجه الثاني والسابع والتاسع أعلاه .
مع خصوصية لعلوم القرآن سواء في النزول أو الموضوع أو على الأصول والتأريخ كما في قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( )، لبيان إنفراد الله عز وجل بالإتيان بأحسن القصص، وتأكيد قانون وهو وجود أحسن القصص في القرآن وآياته ، ويكون حسنها على وجوه:
الأول : الحسن المقتبس من التنزيل من عند الله.
الثاني : صبغة القرآنية التي تختص بها القصة القرآنية.
الثالث : تلاوة المسلمين للآية القرآنية.
الرابع : الأجر والثواب بقراءة القصة القرآنية بلحاظ أن في كل حرف منها عشرَ حسنات.
الخامس : التدبر في الآية القرآنية.
السادس : إستقراء المسائل والأحكام من القصة القرآنية.
السابع : بقاء قصص القرآن مصاحبة للناس من غير زيادة أو نقيصة إلى يوم القيامة.
الثامن : صيرورة قصص القرآن نوع طريق لهداية الناس إلى سبل الرشاد، وهي من عمومات قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
وتعدد وجوه الإهتداء بالقصة القرآنية، منها:
أولاً : التسليم بأن قصص القرآن نازلة من عند الله.
ثانياً : التصديق ببعثة الأنبياء والرسل وفي التنزيل [قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] ( ).
ولم يرد لفظ [قُلْ آمَنَّا] إلا في الآية أعلاه , لبيان قانون من جهات :
الأولى : يتفضل الله عز وجل بأن يأمر نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ [قُلْ ].
الثانية : شهادة الله عز وجل للمسلمين بالإيمان .
الثالثة : تفضل الله عز وجل بأمر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليشهد للمسلمين بالإيمان ، وهو من مصاديق نداء الإيمان ، وتكرر قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] تسعاً وثمانين مرة في القرآن .
الرابعة : البشارة من عند الله عز وجل بالرأفة والرحمة بالمسلمين وزجر الناس عن إيذائهم ، وإنذار من يتعدى عليهم ، والشهادة الواردة في الآية أعلاه من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ).
الخامسة : إخبار المسلمين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً عن إيمان المسلمين .
السادسة : صدور الكلام والشهادة والإقرار من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نيابة عن المسلمين ، وهو تشريف عظيم بأن يكون النائب عنهم خاتم النبيين وسيد المرسلين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
السابعة : ترغيب الناس بدخول الإسلام لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشهد لكل مسلم ومسلمة بالإيمان .
الثامنة : بيان تفقه المسلمين في الدين .
ثالثاً : الإتعاظ بقصص الأنبياء، وصبرهم في جنب الله.
رابعاً : تلاوة آيات القصص القرآنية هداية ورشاد.
خامساً : بذل المسلم الوسع للإقتداء بالأنبياء ، قال تعالى[فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
لقد توجهت الآية بالخطاب للمسلمين الذكور، لتدل في مفهومها على التوجه للمسلمات( )، أيضاً للتساوي بالتكليف بين الرجل والمرأة إلا ما خرج بالدليل , وليس من دليل إستثناء في المقام.
وتحتمل الصلة بين القرآن والإجماع وجوهاً :
الأول : يحتاج الإجماع القرآن .
الثاني : حاجة القرآن للإجماع .
الثالث : تعدد وجوه الحاجة بين القرآن والإجماع .
الرابع : التباين النسبي، فمرة يحتاج القرآن الإجماع، وأخرى يحتاج الإجماع القرآن .
والصحيح هو الأول ، فلا يحتاج القرآن الإجماع , سواء في البيان أو الإستدلال أو ثبوت صبغة القرآنية ، ولا يتعلق العمل بمضامين الآية القرآنية بالإجماع .
ويدل قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، على إستقراء معاني موضوعية دليل الإجماع على آيات القرآن وأستدل على حجية الإجماع بقوله تعالى[وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا]( ).
وقال إبن كثير : ( والذي عول عليه الشافعي ، رحمه الله، في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تَحْرُم مخالفته هذه الآية الكريمة، بعد التروي والفكر الطويل , وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها)( ).
ولكن الآية أعلاه لم تذكر الإجماع أو تحققه إنما إبتدأت بالإنذار من مخالفة ومعاداة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أن الشقاق هو العداوة، فجاءت الآية بصيغة الإنذار والوعيد، الموجه إلى الذين كفروا لقيامهم بعداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومخالفة سبيل المسلمين ، فهي لم تذكر نهج المؤمنين وحده، وفي أسباب نزول الآية .
ورد عن إبن عباس قال : إن نفراً من الأنصار غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ، فسرقت درع لأحدهم ، فأظن بها رجلاً من الأنصار ، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال : إن طعمة بن أبيرق سرق درعي . فلما رأى السارق ذلك عمد إليها , فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته : إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده ، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا نبي الله إن صاحبنا بريء ، وإن سارق الدرع فلان ، وقد أحطنا بذلك علماً ، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس ، وجادل عنه فإنه إن لا يعصمه الله بك يهلك .
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس، فأنزل الله {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله}( ) يقول : بما أنزل الله إليك إلى قوله{خواناً أثيماً}( ) ثم قال للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً{يستخفون من الناس}( ) إلى قوله {وكيلاً} يعني الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين ، ثم قال{ومن يكسب خطيئة . . . }( ). يعني السارق والذين جادلوا عن السارق.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: كان رجل سرق درعاً من حديد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم طرحه على يهودي، فقال اليهودي : والله ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طرحت عليّ. وكان الرجل الذي سرق له جيران يبرئونه ويطرحونه على اليهودي ، ويقولون : يا رسول الله إن هذا اليهودي خبيث يكفر بالله وبما جئت به ، حتى مال عليه النبي صلى الله عليه وسلم ببعض القول ، فعاتبه الله في ذلك فقال { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً ، واستغفر الله } بما قلت لهذا اليهودي { إن الله كان غفوراً رحيماً } ثم أقبل على جيرانه فقال {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم } إلى قوله { وكيلاً } ثم عرض التوبة فقال { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ، ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه}( ).
فما أدخلكم أنتم أيها الناس على خطيئة هذا تكلمون دونه { ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً } وإن كان مشركاً { فقد احتمل بهتاناً } إلى قوله {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى}( ) قال : أبى أن يقبل التوبة التي عرض الله له وخرج إلى المشركين بمكة ، فنقب بيتاً يسرقه ، فهدمه الله عليه فقتله( ).
ولا تصل النوبة إلى حصول الإجماع والذي تختلف في تحققه إختلافاً كثيراً ، ولم يستدل به أيام النبوة ثم أيام الصحابة، بينما عمل المسلمون والمسلمات بمضامين آية البحث في ذات الساعة التي أنزلت فيها .
ولم يغادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن صار المسلمون يتلون الآية مع العمل بمضامينها وأحكامها.
وورود صيغة التحريم ومادة (حرّم) في مواضع عديدة من القرآن يبين قانون نسبة التحريم إلى الله عز وجل إلا ما خرج بالدليل والقرينة الصارفة، وقد ورد في خطاب من عند الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يحرم ما أحلّ الله له، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ]( )، وجاء الثناء على النبي محمد بالإذن بالتحريم المقيد بالوحي والسنة بقوله تعالى[وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وعن عروة بن الزبير عمن حدثه : أن رجلاً من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرم الله عليه والذي أحل له ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يحل لك الطيبات ، ويحرم عليك الخبائث ، إلا أن تفتقر إلى طعام لك فتأكل منه حتى تستغني عنه .
فقال الرجل : وما فقري الذي يحل لي ، وما غناي الذي يغنيني عن ذلك؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا كنت ترجو نتاجاً فتبلغ من لحوم ماشيتك إلى نتاجك ، أو كنت ترجو غنى تطلبه فتبلغ من ذلك شيئاً ، فاطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه . فقال الأعرابي : ما غناي الذي أدعه إذا وجدته؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أرويت أهلك غبوقاً من الليل فاجتنب ما حرم الله عليك من طعام ، وأما مالك فإنه ميسور كله ليس فيه حرام( ).
وورد قوله تعالى[كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ]( )، وذات الطعام هو الحلال، وهو متخلف عن تحليل نفسه، إنما سخره الله للناس، والله عز وجل هو الذي أحلهّ لبني إسرائيل إكراماً لهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ]( ) .
ثم ذكرت الآية إستثناء بأن تحريم إسرائيل وهو النبي يعقوب عليه السلام لحوم الإبل على نفسه، إنما كان بسبب المرض وعلة، وعن إبن عباس في الآية قال : حرّم على نفسه العروق . وذلك أنه كان يشتكي عرق النسا ، فكان لا ينام الليل .
فقال: والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد ، وليس مكتوباً في التوراة وسأل محمد صلى الله عليه وسلم نفراً من أهل الكتاب فقال : ما شأن هذا حراماً؟ فقالوا : هو حرام علينا من قبل الكتاب فقال الله {كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل}( ) إلى { إن كنتم صادقين}( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن قول الله ( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه)( ) قال: إن إسرائيل كان إذا أكل لحوم الابل هيج عليه وجع الخاصرة، فحرم على نفسه لحم الابل، وذلك من قبل أن تنزل التوراة، فلما انزلت التوراة لم يحرمه ولم يأكله( ).
وخلافاً لما قال الرازي فان قوله تعالى[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ] نص على أمور:
الأول : التأبيد، أي الحرمة المؤبدة .
الثاني : تجدد الحرمة كل ساعة، وهو المستقرأ من عطف الآية على نداء الإيمان، ومن أسرار صيغة البناء للمجهول في الآية .
الثالث : لغة العموم وشمول أجيال المسلمين المتعاقبة لحرمة نكاح المحارم، ففي كل زمان يطل على الناس عامة والمسلمين خاصة الأمر بتحريم نكاح المحارم.
الرابع : من أسرار تلاوة المسلمين آية التحريم صيرورتها جزءً من الواقع اليومي للمسلمين والمسلمات، ووعلماً حاضراً في البيت والعمل والمسجد والسوق ، وأكثر ما يحتاجه المسلمون في البيوت بلحاظ أن الآية زاجر عن فعل الحرام .
فلا دليل على تقسيم التحريم الوارد في الآية إلى المؤبد والمؤقت ولولا أصالة صحة النسخ لقلنا باحتمال أن بعض الكلمات هنا ليس من كتابة وتدوين الفخر الرازي .
إذ يتولى الرد في ذات الموضع وقبل شطرين على الكرخي( )، بالقول: وإذا كانت هذه الأمور معلومة بالضرورة كان إلقاء الشبهات فيها جاريا مجرى القدح في البديهيات وشبه السوفسطائية ، فكانت في غاية الركاكة ، والله أعلم ( ).
وليس من تقسيم في الحرمة إلى مؤبد ومؤقت , ولم يقل أحد بهذا من المسلمين أو غير المسلمين، بلحاظ لغة التخاطب .
فتدل الآية في ظاهرها على التأبيد والإستدامة في حرمة الأمهات والبنات والأخوات واللائي ذكرتهن الآية، وحرمة اللائي ذكرت في آية أخرى، كما في قوله تعالى[وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ]( ).
ومن خصائص ورود نداء الإيمان في هذه الآيات إرتقاء المسلمين إلى القطع بارادة تأبيد والحرمة , ومن أسرار نداء الإيمان في المقام تسليم المسلمين والمسلمات العام بأن بالحرمة المؤبدة لنكاح المحارم اللائي ذكرتهن آية البحث .
ليكون كل مسلم ومسلمة وفهمهم لمعنى الآية القرآنية، وتفقههم في أحكام الحلال والحرام من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ) .
وأما قول الرازي : وثالثها : أن قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم } خطاب مشافهة فيخصص بأولئك الحاضرين ، فاثبات هذا التحريم في حق الكل إنما يستفاد من دليل منفصل ( ).
فلا أصل لهذه الشبهة تنزيلاً وشرعاً وعقلاً , إذ نزل القرآن خطاباً للمسلمين إلى يوم القيامة، وهو من الإعجاز في مفاهيم نداء الإيمان، وعطف هذه الآية على آية النداء في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ]( )، فلا تختص أحكام القرآن بطائفة من المسلمين دون أخرى، ولا أهل زمان دون غيرهم.
وماذا يقصد (باولئك الحاضرين) هل إرادة الصحابة أيام نزول الآية أم إرادة الحاضرين في زمان التنزيل ، وجاءت السنة النبوية لتأكيد هذا الحكم بالإمتثال والتفسير والتلاوة , وهو من أسرار تلاوة القرآن في كل ركعة من ركعات الصلاة .
وفي تلاوة المسلم للقرآن في الصلاة بلحاظ هذه المسألة وجوه :
الأول : تلقي التالي للآية القرآنية , والسامع لها للآية القرآنية مشافهة , ومن خصائص القرآن أنه غض طري في كل زمان .
الثاني : إقرار التالي للآية القرآنية والسامع لها بالحكم والأمر والنهي الوارد في الآية .
الثالث : شوق المسلم للآية القرآنية وما فيها من الأحكام، ولم يسأل أحد من المسلمين في أي زمان أو مكان عن دليل منفصل للعمل بآية التحريم هذه , والشبهة التي يوردها الرازي في المقام تجري في أحكام كثيرة جاءت بذات صيغة الخطاب سواء في العبادات أو المعاملات وأحكام تكليفية نافذة الى يوم القيامة، ولا يقول هو أو غيره بذات الشبهة .
وأما قول الرازي : ورابعها : أن قوله إخبار عن ثبوت هذا التحريم في الماضي ، وظاهر اللفظ غير متناول للحاضر والمستقبل فلا يعرف ذلك إلا بدليل منفصل) ( ).
ومن معاني الفعل الماضي أنه صالح للأزمنة الثلاثة ، كما في قوله تعالى [وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ).
لذا قيل (كان و(مازال) أختان وجاز إستعمال أحدهما محل الأخرى ، ولكنه ليس قاعدة كلية ، وبينهما عموم وخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق ، فاذا جاء الفعل الماضي في الأحكام فالمراد منه الإستدامة والإستمرار وعدم الإنقطاع ، وهو من مصاديق سلامة الشريعة الإسلامية من النسخ ، ويمكن تسميته الفعل الماضي المستمر لأنه في مقام التشريع والحكم ، ومن خصائص نداء الإيمان التساوي بين المسلمين في أجيالهم المتعاقبة في تلقي الحكم الشرعي والإمتثال له .
وقال الرازي وخامسها ( أن ظاهر قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم } يقتضي أنه قد حرم على كل أحد جميع أمهاتهم وجميع بناتهم ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، بل المقصود أنه تعالى قابل الجمع بالجمع ، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد ، فهذا يقتضي أن الله تعالى قد حرم على كل أحد أمه خاصة ، وبنته خاصة ، وهذا فيه نوع عدول عن الظاهر) ( ) وليس في الآية عدد من الظاهر فمن إعجاز القرآن مجئ صيغة الجمع وإنحلالها إلى الأفراد ، فحتى على القول بالنظر إلى الآية بصيغة الجمع فان إسم الأمهات لا يصدق على أي مسلم إلا بخصوص نساء معلومات وهن أمة التي ولدته وأم أبيه وأم أمه وإن علت .
وكذا بالنسبة لقوله تعالى [وَبَنَاتُكُمْ]أي يحرم على كل مسلم أن ينكح بنتاً له .
وقال (وسادسها : أن قوله : { حرمات } يشعر ظاهره بسبق الحل ، إذ لو كان أبدا موصوفا بالحرمة لكان قوله : { حرمات } تحريماً لما هو في نفسه حرام ، فيكون ذلك إيجاد الموجود وهو محال ، فثبت أن المراد من قوله : { حرمات } ليس تجديد التحريم حتى يلزم الاشكال المذكور ، بل المراد الاخبار عن حصول التحريم) ( ).
ولكن جاء الفعل في الآية بصيغة الماضي (حرمت) مما يدل على سبق وتجديد الحرمة ، ولم تقل الآية (يحرم عليكم) .
وليس هو من إيجاد الموجود ، إنما هو بيان وتأكيد للحكم الإلهي الموجود من أيام أبينا آدم عليه السلام ، ومن خصائص لغة القرآن الإعجاز في الإيجاز والإختصار مع إستيفاء المعنى وتمام الدليل .
وتحرم على المرتضع من النساء :
الأولى : المرأة التي أرضعته بشرائط الرضاعة لأنها صارت أمه لقوله تعالى [وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ] ( ) وتشمل صفة الأم أم المرضعة وأن علت نسبية كانت أو رضاعية لأنها تكون جدة له .
الثانية : بنات المرضعِة ولادة لأنهن أخواته من الرضاعة .
الثالثة : بنات أولاد المرضعة ذكوراً كانوا أو أناثاً لأنه يكون عمهن أو خالهن من الرضاعة.
الرابعة : أخوات أمه التي أرضعته لأنهن خالاته بالرضاعة .
الخامسة : عمات وخالات المرضعة لنفسها أو لأبيها أو لأمها نسبيات أو رضاعيات .
السادسة : أم صاحب اللبن لأنها تصبح جدة للمرتضع .
السابعة : أخوات صاحب اللبن النسبية والرضاعية لأنهن يصبحن عمات المرتضع .
الثامنة : عمات وخالات صاحب اللبن النسبية والرضاعية .
ويفيد الجمع بين الآيتين [وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ] ( ) و[وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ] ( ) جواز رضاعة الغير ولم ينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرضاعة وهو نفسه إرتضع من غير أمه ، وجاء القرآن بالنسبية بالأمومة والأخوة من الرضاعة .
تنشر حرمة نكاح المرتضعة على رجال :
أولاً : صاحب اللبن الذي إرتضعته , لأنه صار أباها بالرضاعة .
ثانياً : أولاد صاحب اللبن بالنسب أو الرضاعة لأنهم أخوتها .
ثالثاً : أحفاد صاحب اللبن بالنسب أو الرضاعة لأنها تكون عمتهم أو خالتهم .
رابعاً : أولاد المرتضعة ولادة وأولادهم نسباً أو رضاعة .
خامساً : أخوة صاحب اللبن نسباً ورضاعة لأنهم أعمامها من الرضاعة .
سادساً : أعمام وأخوال صاحب اللبن لأنهم يكونون أعمام وأخوال أبيها .
سابعاً : لا يجوز أن يتزوج أبو المرتضع أو المرتضعة بنات المرضعة النسبية وإن نزلت .
ثامناً : لا يجوز أن يتزوج أبو المرتضع أو المرتضعة بنات صاحب اللبن النسبية ، وكذا الرضاعية على الأحوط .
تاسعاً : لا تحرم أخوات المرتضعة على صاحب اللبن .
عاشراً : لا تحرم المرضعة وبناتها وأقاربها على أخوة المرتضع والمرضعة , ولا تحرم عليهم بنات صاحب اللبن وسائر أقاربه .
حادي عشر : لا بأس بأن ترضع المرأة طفل إبنها ، ولكن تحرم عليه بنات عمه وبنات عماته لأنه يصبح عماً وخالاً لهن .
وقد ورد قانون مدة الرضاع في قوله تعالى [وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ].
أي في حكم الله والشريعة الباقية إلى يوم القيامة ، فالآية وأن جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تتضمن الإنشاء والحكم ، والحول مأخوذ من التحول والإنقلاب ، يقال حال الشيء مما كان عليه يحول , فالحول لأنه إنقلب من الوقت الأول والثاني .
فان ولدت لتسعة أشهر فالرضاعة أحد وعشرون شهراً ، لتكمل ثلاثين شهراً كما في قوله تعالى [وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا] ( ) وقال قتادة والربيع (فرض الله على الوالدات أن يرضعن أولادهن حولين ثم أنزل الرخصة بعد ذلك فقال لمن أراد أن يتم الرضاعة يعني إن هذا منتهى الرضاع , وليس فيما دون ذلك حد محدود و إنما هو على مقدار صلاح الصبي و ما يعيش به) ( ) .
ترى هل تحرم زوجة الولد على أبيه من الرضاعة , فلو رضع (زيد) من لبن زوجة (حسن) , وتزوج (زيد) (هنداً ) ثم فارقها بطلاق أو موت فهل يحق لأبيه بالرضاعة (حسن) أن يتزوجها ، الجواب لا ، لما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ) ( ).
وكأن تقدير آية البحث بلحاظ الحديث النبوي أعلاه : حرمت عليكم حلائل أبنائكم من الرضاعة ) .
وإن قيل لم تذكر آية [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ…] ( ) مسألة حرمة نكاح زوجة الإبن بالرضاعة ، والجواب أن أحكام الرضاعة أعم من أن تختص بها آية [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ…] ( ) إذ تشمل السنة النبوية التي توسع الحكم ، فمثلاً لم تذكر الآية حرمت عليكم بنت الأخ أو بنت الأخت من الرضاعة ، ومع هذا حينما قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينكح بنت عمه الحمزة قال : إنها إبنة أخي من الرضاعة .
وقد أرتضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحمزة من ثويبة مولاة لأب (قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فَالْتَمَسَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ الرّضَعَاءَ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ إنّمَا هُوَ الْمَرَاضِعُ . قَالَ وَفِي كِتَابِ اللّهِ سُبْحَانَهُ { وَحَرّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ }( ) وَاَلّذِي قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ ظَاهِرٌ لِأَنّ الْمَرَاضِعَ جَمْعُ مُرْضِعٍ وَالرّضَعَاءُ جَمْعُ رَضِيعٍ وَلَكِنْ لِرِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ مَخْرَجٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا حَذْفُ الْمُضَافِ كَأَنّهُ قَالَ ذَوَاتَ الرّضَعَاءِ وَالثّانِي أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالرّضَعَاءِ الْأَطْفَالَ عَلَى حَقِيقَةِ اللّفْظِ لِأَنّهُمْ إذَا وَجَدُوا لَهُ مُرْضِعَةً تُرْضِعُهُ فَقَدْ وَجَدُوا لَهُ رَضِيعًا ، يَرْضَعُ مَعَهُ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ الْتَمَسُوا لَهُ رَضِيعًا ، عِلْمًا بِأَنّ الرّضِيعَ لَابُدّ لَهُ مِنْ مُرْضِعٍ .
مُرْضِعَاتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ
وَأَرْضَعَتْهُ – عَلَيْهِ السّلَامُ – ثُوَيْبَةُ قَبْلَ حَلِيمَةَ . أَرْضَعَتْهُ وَعَمّهُ حَمْزَةَ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ جَحْشٍ ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَعْرِفُ ذَلِكَ لِثُوَيْبَةَ وَيَصِلُهَا مِنْ الْمَدِينَةِ ، فَلَمّا افْتَتَحَ مَكّةَ سَأَلَ عَنْهَا وَعَنْ ابْنِهَا مَسْرُوحٍ ، فَأُخْبِرَ أَنّهُمَا مَاتَا ، وَسَأَلَ عَنْ قَرَابَتِهَا ، فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَيّا . وَثُوَيْبَةُ كَانَتْ جَارِيَةً لِأَبِي لَهَبٍ) ( ) ، وفيه آية في التكامل في الشريعة الإسلامية .
وقد ذكرت في رسالتي العملية دراسة مسألة فتح شعبة وفرع لكتابة النسب والقربى بالرضاعة عند ثبوته شرعاً في كل دائرة أحوال مدنية .
وفي إنشاء هذه الشعبة مسائل :
الأولى : ضبط صلات وأسباب القربى بالرضاعة .
الثانية : إستحضار الحكم الشرعي , وشرائط الرضاعة عند تثبيتها في السجلات الرسمية , حسب القواعد .
الثالثة : عدم طرو الشك على الحكم بالرضاعة .
الرابعة : إبطال إدعاء الصلة أو سبب القربى بالرضاعة زوراً , فان قلت قد يبعث هذا المشروع على الإكثار من الرضاعة , والجواب ، لا دليل عليه إنما هو توثيق ويمكن أن يقترن بالتنبيه والدعوة لإجتناب الأخوة بالرضاعة مع ترشح الحرج في النكاح معها خاصة مع وجود الحليب الصناعي البديل .
الخامسة : تفقه الناس في أحكام الرضاعة وشرائطها .
السادسة : منع اللبس وحدوث الزواج بين الأخوة بالرضاعة عن جهالة وسهو ، أو غياب الشاهد خاصة مع تقدم السنين ، فقد يكون بين أوان الرضاعة ، وتأريخ الزواج ثلاثون أو أربعون سنة أو أكثر ، ولا يقع الزواج بين المرتضع مع بنت أخته من الرضاعة ، كما في المثل أعلاه ، إذ لا يتزوج (حسن) من بنت (هند) مع ضبط الرضاعة شرعاً وعرفاً وتأريخاً .
السابعة : تثبيت أحكام القرآن في الواقع العملي للمسلمين وبيان مصداق لقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )بامتثال المسلمين للأحكام الواردة في القرآن على النحو الأتم والأكمل .
الثامنة : منع الإختلاف وأسباب الأسى والأذى أو الخصومة بين المسلمين بسبب إكتشاف تحقق الرضاعة عند الكبر أو العكس أي إنكارها وإنتفاء الدليل الواقعي أو الظاهري عليها .
التاسعة : إمكان الإفتاء والحكم بخصوص أي مسألة في الرضاعة لتوثيق تفاصيلها عملياً .
وقال الفخر الرازي (ذهب الكرخي إلى أن هذه الآية مجملة قال : لأنه أضيف التحريم فيها إلى الأمهات والبنات ، والتحريم لا يمكن إضافته إلى الاعيان ، وإنما يمكن إضافته إلى الأفعال ، وذلك الفعل غير مذكور في الآية ، فليست إضافة هذا التحريم إلى بعض الأفعال التي لا يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات والبنات ، أولى من بعض ، فصارت الآية مجملة من هذا الوجه .
والجواب عنه من وجهين :
الأول : أن تقديم قوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ }( ) يدل على أن المراد من قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم } تحريم نكاحهن .
الثاني : أن من المعلوم بالضرورة من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن المراد منه تحريم نكاحهن ، والأصل فيه أن الحرمة والاباحة إذا أضيفتا إلى الاعيان ، فالمراد تحريم الفعل المطلوب منها في العرف ، فاذا قيل : حرمت عليكم الميتة والدم ، فهم كل أحد أن المراد تحريم أكلهما .
وإذا قيل : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم ، فهم كل أحد أن المراد تحريم نكاحهن ، ولما قال عليه الصلاة والسلام : لا يحل دم امرىء مسلم إلا لاحدى معان ثلاث فهم كل أحد أن المراد لا يحل إراقة دمه . وإذا كانت هذه الأمور معلومة بالضرورة كان إلقاء الشبهات فيها جاريا مجرى القدح في البديهيات وشبه السوفسطائية ، فكانت في غاية الركاكة ، والله أعلم .
ثم قال الرازي : بلى عندي فيه بحث من وجوه أخرى : أحدها : أن قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ }( ) مذكور على ما لم يسم فاعله ، فليس فيه تصريح بأن فاعل هذا التحريم هو الله تعالى ، وما لم يثبت ذلك لم تفد الآية شيئا آخر ، ولا سبيل اليه إلا بالاجماع ، فهذه الآية وحدها لا تفيد شيئا ، بل لا بد معها من الاجماع على هذه المقدمة ، وثانيها : أن قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ } ليس نصا في ثبوت التحريم على سبيل التأييد ، فان القدر المذكور في الآية يمكن تقسيمه الى المؤبد ، والى المؤقت ، كأنه تعالى تارة قال : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم الى الوقت الفلاني فقط ، وأخرى : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم مؤبدا مخلدا ، واذا كان القدر المذكور في الآية صالحا لأن يجعل موردا للتقسيم بهذين القسمين ، لم يكن نصا في التأييد ، فاذن هذا التأييد لا يستفاد من ظاهر الآية ، بل من دلالة منفصلة .
وثالثها : أن قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم }( ) خطاب مشافهة فيخصص بأولئك الحاضرين ، فاثبات هذا التحريم في حق الكل إنما يستفاد من دليل منفصل .
ورابعها : أن قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم } إخبار عن ثبوت هذا التحريم في الماضي ، وظاهر اللفظ غير متناول للحاضر والمستقبل فلا يعرف ذلك إلا بدليل منفصل .
وخامسها : أن ظاهر قوله : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أمهاتكم } يقتضي أنه قد حرم على كل أحد جميع أمهاتهم وجميع بناتهم ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، بل المقصود أنه تعالى قابل الجمع بالجمع ، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد ، فهذا يقتضي أن الله تعالى قد حرم على كل أحد أمه خاصة ، وبنته خاصة ، وهذا فيه نوع عدول عن الظاهر ، وسادسها : أن قوله : { حرمات } يشعر ظاهره بسبق الحل ، إذ لو كان أبدا موصوفا بالحرمة لكان قوله : { حرمات } تحريماً لما هو في نفسه حرام ، فيكون ذلك إيجاد الموجود وهو محال ، فثبت أن المراد من قوله : { حرمات } ليس تجديد التحريم حتى يلزم الاشكال المذكور ، بل المراد الاخبار عن حصول التحريم ، فثبت بهذه الوجوه أن ظاهر الآية وحده غير كاف في إثبات المطلوب، والله أعلم)( ).
أما بالنسبة لجواب الرازي على الكرخي فهو صحيح ونضيف له أن الآية ليست من المجمل، إنما هي من التعميم بإختصار كما في قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، ومن خصائص قوله تعالى(حرمت عليكم) عموم حرمة النكاح والتمتع والنظر بشهوة.
وفي الآية حذف وإضمار , والحذف لغة : القطع والإسقاط والإضمار الإخفاء وبين الحذف والإضمار عموم وخصوص من وجه ومادة الإلتقاء من وجوه :
الأول : الإيجاز.
الثاني : الإختصار.
الثالث : التخفيف.
الرابع : الثقة بفهم المخاطبين.
وفي قوله تعالى[وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا]( )، أي بإضمار أن، والتقدير أن يريكم البرق، لذا قال الشاعر:
تفــــكرن في النحو حتى مللت …. أتبعت نفسي له والبدن
فكــــــــــنت بظــــاهره عــــــالماً …. وكنت ببــــاطنه ذا فطـن
خلا أن باباً علــــيه العفا …. ء في النــحو يا لــيته لم يكـــن
إذا قلت لم قيل لي هكذا … على النصب؟ قيل بإضمار أن ( ).
وفي الحذف في آية(حرمت عليكم) مسائل:
الأولى : إكرام المسلمين بنداء الإيمان، وبيان قانون وهو إحاطتهم علماً على نحو الإجمال بالقصد من الآية.
الثانية : إرادة موضوعية قانون الحلية والحرمة في النكاح، ولزوم تفقه المسلمين فيه.
الثالثة : مجيء نظم الآيات في باب النكاح , فقد وردت آية النداء بأمور:
الأول : توجه الخطاب لأجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
الثاني : عدم حلية وراثة النساء , وهو أعم من النكاح إذ يراد منه النكاح وتعطيل الفرج، والإستحواذ على مال المرأة المتوفى عنها زوجها، وحرمانها من التركة، وإشتراط إذن أهل الميت بنكاحها.
الثالث : تقييد وراثة النساء بالإكراه لبيان أن الفطرة الإنسانية تنفر من هذه الوراثة وأن الشريعة تحرمها.
الرابع : تنهى الآية عن حبس النساء والتضييق عليه مع بيان الغاية المذمومة من هذا العضل .
الخامس : بيان إستثناء بخصوص الرجوع في المهر أو شطر منه .
وفي قوله تعالى [وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا] ( ) والذي يتضمن المنع من أخذ فدية منها على الطلاق ، وقال قوم إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة [فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ] ( ) ولكن ليس من نسخ في المقام فالأخذ بصفة البهتان والإثم غير الأخذ المأذون به والمترشح عن الأذى والضرر من الزوجة ، وإذا إختلف الموضوع إختلف الحكم .
السادس : مجئ آية البحث بالأمر ، وهو من الإعجاز في نظم القرآن بأن يتعقب النهي نهي , ثم يأتي الأمر من عند الله عز وجل .
وهذا الأمر عام من وجوه :
أولاً : توجه الخطاب للأزواج بحسن معاشرة النساء ، وتقدير الفرد منه : وباشرها بالمعروف .
ثانياً : إرادة والدَي الزوج بأن يعاملوا الزوجة بالرأفة والإحسان ، والملاك هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسعي في الإصلاح.
ثالثاً : إرادة أهل الزوج وأخوته بالإحسان إلى الزوجة .
رابعاً : المراد أولاد الزوج من نساء أخريات .
ومن معاني الآية مخاطبة الأهل بأن يساعدوا الزوج في معاملة زوجته بالمعروف والإحسان .
السابع : البيان والوضوح في الأمر الذي تتضمنه آية النداء في لزوم معاشرة النساء بالإحسان ، وبما يمنع الجهالة والغرر ، وفي هذا البيان نكتة وهي صيرورة الأمر بالمعاشرة بالمعروف سبباً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بخصوص العشرة الزوجية .
قانون ثبوت النسب
لقد تعاهدت الشرائع السماوية النسب ، وشددّت على حفظه إبتداء من صحة عقد النكاح والإحتراز من إختلاط المياه ، وما آية البحث إلا لتأكيد وضبط صحة النسب ، لذا إبتدأت بنداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ…]( ).
وهناك مائز بين النكاح الصحيح والفصل ففي الفصل تعطيل للأرحام ، وقد يكون باباً للإثم وإرتكاب الفاحشة ، إذ أن النكاح ستر وواقية من الزنا والفواحش ، لقد أراد الله عز وجل للمسلمين والناس جميعاً صحة النكاح وطهارة المولد , وهو من مصاديق ومعاني الخلافة , وسلامة الإنسان من التعيير في نسبه والمقت لشخصه ، أو ذم المرأة على ولد لم يعرف أبوه ، وفي قصيدة لشاعر يمدح بها عدي بن حاتم الطائي :
بأبيه أقتدى عدي في الكرم ومن شابه أباه فما ظلم
وفي إثبات النسب حفظ للحقوق , ونيل الولد حقه بالحضانة والرعاية والإنفاق عليه ، وفيه إحقاق للحق وأخذ النصيب من الإرث كما أمر الله عز وجل ، وسلامة من أكل المال بالباطل سواء في الميراث أو ما هو أعم منه .
والنسب هو القرابة بالولادة ، والصلة بالأرحام ، قال تعالى [وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ] ( ) ومع إلحاق الولد شرعاً بأبيه فانه ينسب إليه ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( الولد للفراش ) .
ويدل في مفهومه على أن المرأة حتى وإن زنت ، وجاء الولد بصفات الزاني وأثبته التحليل المختبري الدقيق (DNA) ونحوه فان الولد ينسب لأبيه ولا عبرة بماء الزاني ، فهو كمن ألقى نواة تمر في أرض الزوج , وإنبتت نخلة مع الفارق وأنه في الزنا الحرمة والإثم والحد والعقاب .
فاذا وطئ الزوج زوجته في المدة المحتملة للحمد فان الولد يلحق به ، كما لو وطئها في الشهر الأول من السنة وولدت في الشهر السابع أو التاسع منها لأن أقل الحمل هو ستة أشهر ، أما أكثر مدة وأمد للحمل ففيه أقوال تستند أكثرها إلى الإجتهاد والخبرة منها :
أن أكثر مدة للحمد أربع سنين ، وبه قال أحمد والشافعي ، وهو إحدى روايتين عن مالك ، والرواية الأخرى عنه خمس سنوات .
(عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، قَالَ : قُلْتُ لِمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ : إِنِّي حُدِّثْتُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : لَا تَزِيدُ الْمَرْأَةُ فِي حَمْلِهَا عَلَى سَنَتَيْنِ قَدْرَ ظِلِّ الْمِغْزَلِ فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ مَنْ يَقُولُ هَذَا ؟ هَذِهِ جَارَتُنَا امْرَأَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ امْرَأَةُ صِدْقٍ وَزَوْجُهَا رَجُلُ صِدْقٍ وَحَمَلَتْ ثَلَاثَةَ أَبْطُنٍ فِي اثْنَيْ عَشَرَ سَنَةً تَحْمِلُ كُلَّ بَطْنٍ أَرْبَعَ سِنِينَ .
وَرَوَى الْمُبَارَكُ بْنُ مُجَاهِدٍ قَالَ : مَشْهُورٌ عِنْدَنَا كَانَتِ امْرَأَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ تَحُولُ وَتَضَعُ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ فَكَانَتْ تُسَمَّى حَامِلَةَ الْفِيلِ ) ( ) ، وعلى فرض صحته قضية في واقعة فانه أمر نادر , ولم يؤكده الطب الحديث ، ولا يصح الإستدلال بالفرد القليل النادر .
وقال (الْمُجَاشِعِيُّ قَالَ : بَيْنَمَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ يَوْمًا جَالِسٌ إِذْ قَامَ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا يَحْيَى ، ادْعُ لِامْرَأَتِي حُبْلَى مُنْذُ أَرْبَعِ سِنِينَ قَدْ أَصْبَحَتْ فِي كَرْبٍ شَدِيدٍ فَغَضِبَ مَالِكٌ وَأَطْبَقَ الْمُصْحَفَ ، وَقَالَ : مَا يَرَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ إِلَّا أَنَّا أَنْبِيَاءُ ، ثُمَّ دَعَا ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ هَذِهِ الْمَرْأَةُ إِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا رِيحٌ فَأَخْرِجْهَا عَنْهَا السَّاعَةَ .
وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا جَارِيَةً فَأَبْدِلْهَا بِهَا غُلَامًا فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ ثُمَّ رَفَعَ مَالِكٌ يَدَهُ وَرَفَعَ النَّاسُ أَيْدِيَهُمْ .
وَجَاءَ الرَّسُولُ إِلَى الرَّجُلِ فَقَالَ : أَدْرِكِ امْرَأَتَكَ : فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَمَا حَطَّ مَالِكٌ يَدَهُ حَتَّى طَلَعَ الرَّجُلُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ عَلَى غُلَامٍ جَعْدٍ قَطَطٍ ابْنِ أَرْبَعِ سِنِينَ ، قَدِ اسْتَوَتْ أَسْنَانُهُ مَا قُطِعَتْ أَسْرَارُهُ)( ).
وقال أبو حنيفة أقصى الحمل سنتان وبه قال الثوري , وهو الوارد عن عائشة ، وقال الزهري أنه ست أو سبع سنوات .
وعن داود الظاهري تسعة أشهر ، وقال إبن حزم (ولا يجوز أن يكون حمل أكثر من تسعة أشهر ولا أقل من ستة أشهر) ( ).
وقال الإمامية إن أقل الحمل ستة أشهر وأكثره تسعة ، وقال المرتضى مما إنفردت به الإمامية القول بأم أكثر مدة الحمل سنة واحدة ).
ولم تعد هذه المسألة عامة البلوى للإرتقاء في علوم الطب والمختبر والتحليل الدقيق ، بالإضافة إلى تشريع الملاعنة في الإسلام ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ* وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ]( ).
ومن خصائص اللعان مع إجتماع شرائطه هي نفي الولد ومنع إقامة الحد ، وعن عائشة , قالت (اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنُ أَخِي عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَيَّ أَنَّهُ ابْنُهُ انْظُرْ إِلَى شَبَهِهِ وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ هَذَا أَخِي يَا رَسُولَ اللَّهِ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى شَبَهِهِ فَرَأَى شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ فَقَالَ هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ ابْنَةَ زَمْعَةَ قَالَتْ فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ) ( ).
ويلحق بالنكاح الصحيح من جهة ثبوت النسب وطئ الشبهة وأختلف في ثبوت النسب بالقيافة وهي إثبات النسب ، بوجوه الشبه بين الطفل والذي يراد إنتسابه إليه ، وذكرت فيه قصة أسامة بن زيد حيث كان شديد السواد بينما زيد شديد البياض ، ولكن القافة أخذ على التشابه في الأقدام , عندما غطوا الإبدان ، فقال : بأن هذه الأقدام أي قدمي أسامة من تلك أي قدمي زيد .
وقد سّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسروره أعم من الحجة ولكن تقطع دابر الشك والريب .
وقال الحنفية بعدم ثبوت النسب بالقيافة لحصر الدليل بالفراش .
ولا تصل النوبة إلى القيافة إلا بعد فقد الدليل ، فلو ولد شخص ولد يشبه جاره وبتأكيد جاء تحليل الحامض النووي فانه لا ينسب إلا إلى أبيه ، ولا عبرة بالقيافة أو إحتمال الزنا أو حتى ثبوته .
والمختار عدم ثبوت النسب بالقيافة إنما هي تبين عائدية الماء والنطفة , وعلى نحو الإحتمال .
وهل يلحق التحليل المختبري في هذا الزمان بالقيافة ، الجواب نعم في بعض الأحيان ، ولا تصل النوبة إليه مع وجود الدليل على النسب كعقد النكاح سواء كان شرعياً لم يثبت في الدوائر الرسمية الخاصة , أم مع تثبيته فيها , وهو الأولى .
ومن مصاديق إثبات النسب الإقرار والإعتراف وهو بالأصل الإخبار الذاتي عن ثبوت حق للغير .
وأختلف هل الإقرار إنشاء أم إخبار أم أنه إخبار وإنشاء ، وإقرار العقلاء على أنفسهم حجة ، إذ لا يقر العاقل على نفسه وباختياره إلا وهو صادق .
وقد ورد في آية الدَين وهي أطول آية في القرآن قوله تعالى [فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ]( ).
والإقرار بالنسب حجة إذا إجتمعت شرائطه , ومنها :
الأول : أن يكون المقر بالغاً عاقلاً مختاراً غير مكره .
الثاني : ألا يكذبه الحس ، وتكون له مطامع خاصة ظاهرة .
الثالث : نفي الشرع لذات النسب لمخالفة القواعد الشرعية كما في تقدم البرهان والحجة للإنتساب إلى غيره أو أنه مجهول النسب .
الرابع : تصديق المقر له محل إقراره مع كونه عاقلاً .
وتجري في هذا الزمان معاملات وعقود نكاح في القرى والأرياف مثلاً بعيداً عن التوثيق الرسمي ، وعندما يكبر الأولاد ويلزم دخولهم المدارس أو السفر يقومون بمراجعة الدوائر الرسمية المختصة ، فهل هذا من الإقرار وفق الإصطلاح الشرعي .
الجواب لا ، لأن هذا العقد والنسب صحيحان شرعاً قبل التوثيق ، وليس من خصومة في النسب .
ويشترط في صحة الإقرار بالنسب ألا بذكر المقر بأن الولد صار من الزنا .
(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا مساعاة في الإسلام ، ومن ساعى في الجاهلية فقد ألحقته بعصبته ، ومن ادعى ولدا من غير رشدة ، فلا يرث ولا يورث) ( ).
والمساعاة أي سعي الأمة في الزنا بان يفرض عليها مالكها ضريبة تؤديها بالزنا
(المُساعاةُ مُساعاةُ الأَمَة إذا ساعى بها مالِكُها فضَرَب عليها ضَريبَةً تُؤَدِّيها بالزِّنا وقيل لا تكون المُساعاةُ إلاَّ في الإماء وخُصِّصْنَ بالمُساعاةِ دونَ الحرائِر لأَنُهنَّ كنَّ يَسْعَيْنَ على مَواليهِنَّ فيَكْسِبْنَ لهم بضَرائِب كانت عليهِنَّ ونقول زَنى الرجلُ وعَهَرَ فهذا قد يكون بالحُرَّةِ والأَمَة ولا تكون المُساعاةُ إلا في الإماءِ خاصَّة وفي الحديث إماءٌ ساعَيْنَ في الجاهِليَّةِ وأُتِيَ عُمَرُ برجل ساعى أَمَةً وفي الحديث لا مُساعاةَ في الإسْلامِ ومن ساعى في الجاهِلِيَّةِ فقد لَحِقَ بِعَصَبَتهِ المُساعاةُ الزِّنا يقال ساعَت الأَمَةُ إذا فَجَرَت وساعاها فلان إذا فَجَرَ بها وهو مُفاعَلَةٌ من السَّعْيِ كأَنَّ كلّ واحد منهما يَسْعى لصاحِبه في حصول غَرَضهِ فأَبْطَلَ الإسلامُ شرَّفه الله ذلِك , ولم يُلْحِقِ النَّسبَ بها وعَفا عَمَّا كان منها في الجاهلية ممن أُلحِقَ بها) ( ).
أما الرشدة فهي النكاح الصحيح ، وبذا تتجلى موضوعية وأهمية نداء الإيمان في الأوامر والنواهي الواردة بخصوص النكاح وحرمة الزنا والفواحش .
وكذا حرمة وراثة المرأة وجعلها كالتركة والميراث من زوجها ، لقد أنعم الله عز وجل بنداء الإيمان لتنزيه أهل الأرض من الزنا وأضراره على الأسرة والأفراد , والعصمة والعفة في الأخلاق والعقائد والسنن ، وهو أمر ليس بالسهل سواء على نحو القضية النوعية أو الشخصية ، فقد جرت العادة في المجتمعات الجاهلية على ضعف الحدود بين النكاح الصحيح وغيره خاصة في باب الإماء ، فتفضل الله عز وجل بنداء الإيمان ومضامين آياته بوجوب النكاح الصحيح وبعث النفرة في النفوس من الزنا ، وفيه تخفيف عن المسلمين من جهة إمتناع الناس عن محاربة الإسلام ، ومن جهة تدبرهم في معجزات النبوة ، ودخول الإسلام .
ومن أسرار نداء الإيمان أنه زاجر للمسلمين والمسلمات عن الزنا والفواحش مطلقاً ، وهو داعية سماوية يومية للمحافظة على الأنساب والعصمة من الزنا , وفي أيام الجاهلية كان إبن الزنا يلحق بالزاني ، فمنع منه الإسلام ، وخالف جمع وقالوا بالحاق إبن الزنا بأبيه حتى في الإسلام منهم الحسن البصري وإسحاق بن راهويه وإبن تيمية .
وليس من تشريع في تأريخ الإنسانية يضبط النسب على نحو الدقة العقلية والشرعية مثل آيات القرآن الخاصة بالنكاح والطلاق والوصية والميراث ، وآيات الأخلاق الحميدة التي تأمر المسلم بالبر بالوالدين وهما في الحياة أو بعد مماتها ، قال تعالى [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ] ( ) وبين النهي عن قتل الأنفس الوارد في آية البحث وقتل الأولاد الذي تذكره آية البحث عموم وخصوص مطلق .
وقد ورد النهي عن القتل في الآية أعلاه مرتين مع إتحاد لفظ النهي [َلاَ تَقْتُلُوا] والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق , إذ أن قوله تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ] ( ) هو الأعم فهل يعني هذا أن النسب بينه وبين قوله تعالى [ولا تقتلوا أنفسكم] هي التساوي .
الجواب لا ، والفارق أن العموم والخصوص المطلق المتعدد الأطراف من الكلي المشكك ، وتتعلق الآية بالموضوع الأعم الشامل للنهي عن قتل المسلمين بعضهم لبعض ، وتدعو إلى الرحمة بين المسلمين , وهذه الدعوة من مصاديق نداء الإيمان , وقوله تعالى [فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ]( ).
فبينما تزجر الآية أعلاه المسلمين عن القتل بغير حق ليشمل النهي عن قتل الكتابي وغير المسلم بغير حق .
ومن الآيات أن السلامة من قتل النفس طريق لحفظ الأنساب والتناسل السليم وكثرة الأولاد والأعقاب ، فمتى ما إجتنب المسلم قتل أخيه المسلم فان كلاً منهما يعمر في الحياة الدنيا ويرزق الأولاد ويأتيه الرزق من فضل الله ، وهؤلاء الأولاد يتناسلون ويتكاثرون .
ليكون من الإعجاز في نداء الإيمان ومضامين آياته القدسية مضاعفة أعداد الذين يتوجه لهم هذا النداء في كل زمان ، وصيرورة هذه المضاعفة عزاً ومنعة للمسلمين ووسيلة لإكتناز الحسنات ، لذا ورد العقاب والجزاء الجنائي على القتل العمد بقوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ).
وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لكم في حكم القصاص حياة سواء نفذ الحكم أو لا , فيتجنب المسلم قتل غيره كيلا يقاد بجريرته ، فيكون هذا الحكم حياة للقاتل والمقتول بعد محو القتل عن الثاني والقصاص عن الأول .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بالحكم في تنفيذ وإمضاء حكم القصاص حياة يا أولي الألباب ، لأن المسلمين يعيشون بأمن وسلامة باستئصال داء القتل عمداً .
الثالث: يا أيها الذين آمنوا لكم في العفو بعد حكم القصاص حياة لما فيه من صبغة التقوى وحب الله والتقرب إليه بالعفو عن المسيء، قال تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ) .
ويتعلق موضوع القصاص أو قبول الدية أو العفو بولي الدم والوارث ، وهي فرع ثبوت النسب ، وجاءت آية [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ…] ( ) لتعيين الأنساب وفق القواعد الشرعية.
ومن مصاديق رحمة الجمع بين نداء الإيمان وخاتمة آية البحث بلحاظ مضامين الآية وجوه :
الأول : نداء الإيمان رحمة تتغشى أجيال المسلمين .
الثاني : من رحمة الله عز وجل أن وسّع على المسلمين في رزقهم وبارك لهم في سعيهم , ويدل عليه نسبة آية البجث الأموال إلى المسلمين .
الثالث : إعانة المسلمين للإمتثال لأمر الله باجتناب أكل المال بالحرام والباطل، ومن هذه الإعانة في المقام , ورود نداء الإيمان في ذات آية البحث .
الرابع : هداية المسلمين الى التجارة والكسب، والتراضي والتسامح في البيع والشراء والإقالة والإمهال في الأجل، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا] ( ).
إبتدأت الآية بنداء الإيمان في خطاب للمسلمين والمسلمات جميعاً ودعوة لهم للإنصاف في تلقي الأوامر والنواهي الإلهية والتدبر في مضامينها ومعانيها ، ويبين نداء الإيمان قانوناً وهو حب الله عز وجل للمسلمين ولطفه بهم ، وتقريبهم إلى مقامات الطاعة التي تدل على صدق الإيمان ، وتثبت معانيه في النفوس .
ومن الإعجاز في نظم هذه الآيات إتصال لغة الخطاب في هذه الآية بين آية النداء السابقة بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ..] ( ).
لتأتي آية النداء التالية وهي تتحدث عن الصلاة وشرائط إقامتها بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ…] ( ).
وجاءت الآية السابقة بتأكيد قانون اللطف الإلهي بالمسلمين ، بقوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ).
وهل نداء الإيمان من التخفيف عن المسلمين , فيه وجوه :
الأول : تكرار نداء الإيمان في القرآن من التخفيف عن المسلمين .
الثاني : نداء الإيمان تكليف ومقدمة للتكليف ، وليس من التخفيف .
الثالث : كل فرد من نداء الإيمان هو تخفيف عن المسلمين والمسلمات .
الرابع : التفصيل فبعض نداءات الإيمان تخفيف وبعضها ليس بتخفيف .
والصحيح هو الأول والثالث ، وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين ، وآية في العالمين بأن يجعل الله عز وجل النداء تيسيراً وضياءً وبرزخاً دون الأعباء الثقيلة في الدنيا والآخرة .
وتقدير نداء الإيمان في آية البحث على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين بالله ورسوله , وأن القرآن نازل من عند الله عز وجل .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا بلزوم إجتناب ما تنهى عنه آية البحث والذي هو نهي متعدد في كلماته وموضوعه من جهتين :
الأولى : نهي المسلمين عن أكل المال بينهم بالباطل والحرام .
الثانية : نهي المسلمين عن قتل أنفسهم .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا بأن إجتناب ما نهى الله عز وجل عنه سبيل لمغفرة الذنوب ، ويأتي بعد آيتين من آية البحث خطاب معطوف عليها موجه للمسلمين بقوله تعالى [إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا] ( ) .
وهل يمكن القول أن كل نهي يقترن بنداء الإيمان من الكبائر الجواب لا ، إذ جاءت الأحاديث بذكر وتعيين الكبائر هو الشرك بالله ، ولكن مجئ نداء الإيمان شاهد على أهمية إجتناب المسلمين للنهي المقترن به ، وكشف لقانون وهو الفوز بالثواب العظيم بطاعة الله في الإمتناع عما نهى عنه سبحانه ، وفيه شاهد على الضرر الفادح الذي يأتي من إتيان الفعل المنهي عنه .
ولو جمعت النواهي في القرآن لوجدت هناك نوع صلة بين الوثنية وبينها ، فكلما إبتعدت الجماعة عن سنن التوحيد ، وأحكام النبوة والتنزيل فانها تنحرف في أفعالها وتختار نهجاً بعيداً عن الإستقامة ، لذا تفضل الله عز وجل وأمر كل مسلم ومسلمة بتلاوة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) مرات عديدة في اليوم والليلة وفي حال الخشوع والخضوع عند الوقوف بين يدي الله عز وجل .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها وردت بذكر الباطل وهو سور جامع ووصف للمال الحرام , وإن تعددت وتباينت طرقه ، ومنه :
أولاً : أخذ المال سرقة .
ثانياً : غصب المال من صاحبه .
ثالثاً : نهب المال , والنهب يختلف عن السرقة بأن يكون المال مكشوفة ويأخذ علناً أو بكيفية شبيهة بالعلن .
رابعاً : أخذ المال بلعب القمار والميسر والغناء واللهو بالباطل .
خامساً : إستلام المال ثمناً للخمر ومقدماته .
(عن ابن عباس: في الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول. فذكر الله خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال، كما ذكر في سورة “الصافات”)( ).
سادساً : جحد الحق وإنكار الدَين .
سابعاً : أكل حصة الشركاء من الإرث .
ثامناً : الربا والمكاسب غير الشرعية ، قال تعالى [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ] ( ) .
تاسعاً : التعدي على أموال اليتامى .
عاشراً : الرشوة من منزل الشأن في الدولة وتأخير إنجاز المعاملة إلا بدفع الرشوة ، ولا يغير من موضوعها تسميتها بالهدية .
(عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : رشوة الحكام حرام ، وهي السحت الذي ذكر الله في كتابه ) ( )
الحادي عشر : أكل المال بالخداع .
الثاني عشر : الإستيلاء على المال بالقهر .
الثالث عشر : الإغارة والغزو .
الرابع عشر : أكل المال ظلماً وعدواناً , (عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع: “يأيها الناس، أيّ يوم هذا؟” قالوا: يوم حرام.
قال: “أيّ بلد هذا؟” قالوا: بلد حرام. قال: “فأيّ شهر هذا؟” قالوا: شهر حرام. قال: “فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا”. ثم أعادها مرارًا.
ثم رفع إصبعه إلى السماء فقال: “اللهم هل بلغت!” مرارًا -قال: يقول ابن عباس: والله لَوصِيَّةٌ إلى ربه عز وجل-ثم قال: “ألا فليبلغ الشاهدُ الغائِبَ، لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض”)( ).
الخامس عشر : الإمتناع عن قضاء الدين مع القدرة عليه .
السادس عشر : بيع المواد الغذائية التالفة ونحوها .
السابع عشر : الغش في ذكر منشأ الصناعة مع فارق الثمن .
وعن على بن زيد عن أبى حرة الرقاشى عن عمه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه) ( ).
لقد أراد الله عز وجل تنزيه المسلم في فعله وقوله ومأكله ومشربه باجتناب الكسب الحرام ، ومراعاة ما يسمى الضروريات الخمسة والحفاظ عليها وهي :
الأول : سلامة الدين .
الثاني : حفظ النفس .
الثالث : إستمرار وطهارة النسل .
الرابع : تعاهد وحفظ المال .
الخامس : حفظ العقل .
وهل يشمل النهي في الآية المسلمات ، فيه وجوه محتملة :
الأول : يشملهن النهي في الجهة الأولى أعلاه .
الثاني : يتوجه الخطاب المتعدد بالنهي في آية البحث إلى المسلمين والمسلمات بعرض واحد .
الثالث : النهي المتعدد الوارد في آية البحث خاص بالرجال من المسلمين لتعلق الأول بالتجارة والمكاسب , وتضمن الثاني القتل والقتال وهو ساقط عن النساء .
والصحيح هو الثاني اعلاه ، إذ يتوجه النهي في الآية للمسلمات بعرض واحد مع المسلمين الذكور , وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها المسلمون لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل .
الثاني : يا أيتها المسلمات لا تأكلن أموالكن بينكم بالباطل .
الثالث : يا أيها المسلمون لا تأكلوا أموال المسلمات بينكم بالباطل .
الرابع : يا أيتها المسلمات لا تأكلن أموال المسلمين بينكن بالباطل .
الخامس : يا أيها المسلمون لا تأكلوا أموالكم وأموال المسلمات بينكم بالباطل .
السادس : يا أيتها المسلمات لا تأكلن أموالكن وأموال المسلمين بينكم بالباطل .
السابع : يا أيها المسلمون والمسلمات لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل .
الثامن : يا أيها المسلم لا تأكل أموال المسلمين والمسلمات بالباطل .
التاسع : يا أيتها المسلمة لا تأكلي أموال المسلمين والمسلمات بالباطل .
وهل تشمل الآية النهي عن أكل الميراث بقوله تعالى [وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا] ( ) الجواب نعم ، وهو من مصاديق لفظ [بَيْنَكُمْ]الوارد في آية البحث .
والمراد من (اللم) في الآية أعلاه أي الإستحواذ في الميراث , وأكل الإنسان نصيبه ونصيب غيره من الورثة ، واللم : اللف .
(ويقال لَمَمْتُهُ أجمعَ حتَّى أتيت على آخره) ( ).
وفي الأمثال : يا حبّذا التراث لولا الّذلة ) أي ان الميراث حُلو طيب يأتي على نحو دفعي من غير جهد ولا تعب لولا أن أهله بيته ينقص عددهم بموت المورث ، وغالباً ما يكون المورث هو الأب والكبير وذا الشأن منهم .
ولم يرد لفظ التراث في القرآن إلا في الآية أعلاه مع كثرة ذكر الميراث وأحكامه فيه .
وهل يمكن الجمع بين الآيتين بلحاظ نداء الإيمان , ويكون تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا التراث أكلاً لما ) الجواب نعم ، من وجوه :
أولاً : إتحاد صيغة الخطاب في الآيتين ، إذ تتوجه كل واحدة منها إلى المسلمين والمسلمات .
ثانياً : إتحاد موضوع الآيتين وتعلقه بالمال والإستحواذ عليه بغير حق .
ثالثاً : النسبة بين أكل المال بالباطل وبين أخذ نصيب الزوجة أو الأخت أو الأخ أو القاصر بغير حق ، هي العموم والخصوص المطلق ، فما ورد في آية البحث هو الأعم .
رابعاً : إرادة تنمية ملكة التنزه عن أكل مال الغير بالباطل والحرام .
خامساً : التذكير باليوم الآخر ، وعالم الحساب ، وصيرورة أكل المال الحرام برزخاً دون دخول الذي يأكله الجنة , أو سبباً في إرجاء هذا الدخول إلى يشاء الله عز وجل .
وهل يكون من مصاديق عضل المرأة وأكل الأرث بالباطل قيام الزوج بتطليق زوجته في أيامه الأخيرة لحرمانها من الأرث , وإلحاح الأولاد عليه بفراق زوجته غير أمهم , خاصة عند ظنهم أن ثروة ومال أبيهم جمع بسعيهم وجهدهم , أم أن هذا الطلاق أمر مباح لأنه من عمومات قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الطلاق بيد من أخذ بالساق.
وعن جابر بن عبد الله : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (لكعب بن عُجرَة: “أعاذك الله من إمارة السفهاء”. قال: وما إمارة السفهاء؟ .
قال: “أمراء يكونون من بعدي، لا يهتدون بهداي، ولا يستَنّونَ بسنتي، فمن صَدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يَردُون على حوضي. ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يُعِنهم على ظلمهم، فأولئك مني وأنا منهم، وسيردون على حوضي .
يا كعب بن عُجرَة، الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، والصلاة قربان -أو قال: برهان-يا كعبَ بنَ عجرَة، إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سُحْت، النار أولى به. يا كعب، الناس غَاديان، فمبتاعُ نفسَه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها”)( ).
ولم يرد لفظ تجارة عن تراض في القرآن إلا في آية البحث ، وقد ورد الأمر من عند الله بكتابة الديون والإشهاد عليها وبصيغة نداء الإيمان بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا]( ).
وتبعث الآية على الكسب والتجارة وتحذر من الإمتناع عن الكسب إحتياطاً وإحترازاً من كسب المال بالباطل فهو إحتياط خلاف الإحتياط .
وتبين الآية أن إجتماع التجارة والتراضي حاجب دون أكل المال بالباطل ، وفي قوله تعالى { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ }( ) قولان :
أحدهما : أن التراضي هو أن يكون العقد ناجزاً بغير خيار ، وهو قول مالك ، وأبي حنيفة .
والثاني : هو أن يخير أحدهما صاحبه بَعد العقد وقبل الافتراق ، وهو قول شريح ، وابن سيرين ، والشعبي .) ( ).
ولكن ا لآية أعم في موضوعها بخصوص طرفيها وهما :
الأول : التجارة .
الثاني : التراضي .
ولإرادة إخراج مسألة الميراث ، والإستحواذ على مهر زوجة المتوفى ، وإن هذا الإستيلاء , وإن كان عن تراض فهو لا يصح .
والأصل في الأشياء الإباحة ، لذا فان آية البحث تمنع عن أكل المال بالباطل والحرام ، لتدل في مفهومها على الإذن في الكسب الخلال ، والترغيب بالتجارة وترك الباطل .
ليكون من معاني [بَيْنَكُمْ] في قوله تعالى [وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ] ( ) وجوه :
الأول : إرادة المعنى الأعم , وهو بين المسلمين وهو بين المسلمين رجلاً ونساءً , وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بين الذين آمنوا بالباطل .
الثاني : شمول الأموات بالآية مع توجه الخطاب فيها إلى الأحياء ، ليكون من معاني الآية زجر المسلمين عن أكل أموال الأموات التي عندهم في ذمتهم ، وهذا المعنى لا يتعارض مع قانون إنتقال مال الميت إلى ورثته حال وفاته بلحاظ قانون لابد للمال من مالك ، لبيان الزجر عن الإستحواذ على مال الميت وعدم رد الأمانة أو الديَن الذي له .
ومن مصاديق نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] تعدد مصاديق مجئ أشخاص على ورثة الميت لإخبارهم بأن لمودتهم عندهم مال أو وديعة أو تجارة ونحوها .
أو أن يموت الميت فتعلن وصيته , وإذا هو يذكر مقادير من الأموال لأناس معلومين في ذمته سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين ، لأن هذه الوصية من الشواهد على إيمانه بالله ورسوله وإقراره باليوم الآخر وعالم الحساب ، قال تعالى [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ]( ).
الثالث : إرادة أكل المال العام ، وخصوص بيت المال بالحيلة والخداع , ولا عبرة حينئذ بالغطاء القانوني والإفلات من العقاب الوضعي .
ولكل فرد من أهل البلاد حصة في المال العام ، فهو من الكلي الطبيعي لذا فان أخذه غيلة ونهباً وحيلة من أكل المال بالباطل .
الرابع : إرادة ورثة الميت وكيفية توزيع التركة ، وإستحواذ بعضهم على حصة غيره أو جزء منها ، لتبعث آية البحث السكينة في نفوس المسلمين عند توزيع التركة ، فلا تخشى المرأة أو الضعيف والقاصغر على حصته من الإرث .
الخامس : التحذير والإنذار من أكل أموال اليتامى ، قال تعالى [وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرً] ( ) لبيان قانون وهو إكرام الإسلام لليتيم وحفظ حقوقه وما خصه الله عز وجل من الرزق الكريم .
وفي قصة موسى والخضر ورد في التنزيل [وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي]( ) للدلالة على لزوم العناية بمال اليتيم وحفظه وإن كان كنزاً ومالاً كثيراً .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا يتم بعد بلوغ) ( ).
ومن معاني قوله تعالى [لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ] ( )حث المسلمين على التوبة والإنابة والإستغفار ، وتحقق التوبة من أكل مال الغير و إعادة المال إلى صاحبه ، والإقرار به في الوصية , وعند فقده وموته فالى ورثته كل فرد له حصته .
وعن(سعد بن أبي وقاص عن أبيه : قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع , فمرضت مرضاً أشرفت على الموت. فعادني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت : يا رسول الله إنّ لي مالاً كثيراً , وليس يرثني إلاّ بنت لي أفأُوصي بثلثي مالي؟
قال : لا.
قلتُ : فبشطر مالي؟
قال : لا.
قلت : بثلث مالي؟
قال : نعم الثلث والثلث كثير , إنك يا سعد أن تترك ولدك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون النّاس.) ( ).
وهل يدل الحديث أعلاه على أنه لو دار الأمر بين الوصية بالثلث وبين بقاء الأولاد في يسر ومندوحة وسعة فانه يقدم الثاني ، الجواب نعم، لذا يجوز أن يوصي الإنسان بالربع والسدس والعشر.
وجاءت آية البحث لبعث السكينة في قلب المسلم بأن تحفظ تركته لأولاده بآية البحث وتصدر نداء الإيمان لها .
كما يبعث الحديث أعلاه المسلم على السعي والكسب حتى في آخر أيام حياته وعلى الإمتناع عن الإسراف والتفريط في الإنفاق والبذل أو في الوصية ، وهل إسراف الإنسان وعدم ترك ماله لورثته من مصاديق [لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ] ( ) .
الجواب نعم قد يكون هذا كما في الإنفاق في الحرام بلحاظ قانون وهو ما للوارث من حق تعليقي في مال المورث في أيام حياته .
وتتضمن الآية الإنذار من أكل مال الغير بانتفاء البركة فيه ، فيستولي الإنسان على مال أخيه ، فلا يزكو ولا ينمو عنده ، إنما يأكله وتأتي أسباب عرضية طارئة عليه فلا يبقى منه إلا الأذى والحساب الشديد .
ومن أسرار نسبة المال إلى المسلمين في الآية ولغة الخطاب فيها أن المال الذي يأتي لأحدهم يكون كالرزق العام لهم ، فاذا صار أحدهم غنياً ففي هذا الغنى نفع عظيم لكل المسلمين ، فلا يجوز أن يفرط بعضهم بهذه النعمة بأكلها بالباطل ، وفي التنزيل [اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ] ( ).
وعن إبن عمر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إذا مَرَّ أَحَدُكُمْ بِحَائِطٍ فَلْيَأْكُلْ ولا يَتَّخِذْ خُبْنَةً ) ( ).
والخبنة أي يجعل شيئاً في حضنه , ويبسط ثوبه فيضعه فيه ، وفي رواية (إذا مّر أحدكم بحائط فليأكل منه ولا يتخذ ثباتاً )( ).
والثبات أن يحمله بين يديه غير الذي يأكله من البستان الذي يمر به .
(في أشكال الحمل عن أبي عمرو، عن ثعلب، عن ابن الأعرابي، وعن أبي نصر، عن الأصمعي الحفنة بالكف , الحثية بالكفين , الضبثة ما يحمل بين الكفين الحال ما حملته على ظهرك والثبان ما لففت عليه حجزة سراويلك من خلف , الضغمة ما حملته تحت إبطك , الكارة ما حملته على رأسك وجعلت يديك عليه لئلاً يقع.) ( ).
قانون نداء الإيمان تقريب إلى الجنة
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة , والأرض وعاءً مكانياً لإدخار الحسنات ، وتفضل وسخّر الشمس والقمر ليذكروا الإنسان بما عمله بالأمس ، وما يعمله في ذات اليوم ، وما سيعمله في اليوم اللاحق إستعداداً لعالم الحساب , وأنزل الله عز وجل نداء الإيمان بصيغة القرآنية لجذب الناس إلى الهدى ومقامات التقوى ، قال تعالى [وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ] ( )لبيان قانون وهو أن التقوى مطلوبة بالذات ، وأن ما يجب على الإنسان السعي إليه هو الإقامة الدائمة في النعيم ، وجاءت السنة النبوية لحث المسلمين على الإحسان للنفس والغير ، وإجتناب الظلم والتعدي وبيان قانون وهو حضور الأعمال مع اصحابها يوم القيامة.
(عن جرير قال : كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتاه قوم مجتابي النمار متقلدي السيوف عليهم أزر ولا شيء غيرها ، عامتهم من مضر ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي بهم من الجهد والعري والجوع تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قام فدخل بيته ، ثم راح إلى المسجد ، فصلى الظهر .
ثم صعد منبره ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ذلكم فإن الله أنزل في كتابه[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ) [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( )، [لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ]( ).
تصدقوا قبل أن لا تصدقوا ، تصدقوا قبل أن يحال بينكم وبين الصدقة ، تصدق امرؤ من ديناره تصدق امرؤ من درهمه ، تصدق امرؤ من بره ، من شعيره ، من تمره ، لا يحقرن شيء من الصدقة ولو بشق التمرة : فقام رجل من الأنصار بصرة في كفه فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو على منبره فعرف السرور في وجهه ، فقال : من سن في الإِسلام سنة حسنة فعمل بها كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئاً ، ومن سن سنة سيئة فعمل بها كان عليه وزرها ومثل وزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم شيئاً .
فقام الناس فتفرقوا فمن ذي دينار ، ومن ذي درهم ، ومن ذي طعام ، ومن ذي ، ومن ذي فاجتمع فقسمه بينهم ) ( ) .
ليبادر المسلمون إلى فعل الخيرات عند سماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم إليها , ولا يختص الأمر بزمان الصحابة بل هو نداء ودعوة للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة .
وإذا كان نداء الإيمان تقريب إلى الجنة ، فهل تتقرب الجنة إلى الناس ، الجواب نعم ، فهي تناديهم كل يوم للإقامة فيها ووسيلة الإنتقال إليها هو الإيمان والعمل الصالح ، وليس ثمة مسافة مع الإيمان ، فمن خصائصه طيّ المسافات , وهو جسر يوصل إلى بر الأمان .
ويدل على قرب الجنة قوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
فلابد أن الذي يسارع إليه الناس مجتمعين ومتفرقين قريب منهم ، وتلك نكتة ومعجزة للآية أعلاه بأن تدل بالدلالة التضمنية على أن الجنة قريبة ليس بينها وبين المسلمين سراب وبيداء .
عن عبد إبن مسعود (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لَلْجنة أقرب إلى أحدكم من شِرَاك نعله، والنار مثل ذلك”)( ).
ليجتمع قوس النزول وقوس الصعود في تقريب العباد إلى الجنة ، فذات نداء الإيمان قرب وتقريب إلى الجنة ، إذ يشم منه المسلم عند تلاوته قرب الجنة ، وهو من الإعجاز وقانون تداخل وظائف الحواس في علوم القرآن ، فيتلو المسلم نداء الإيمان فتحسه يداه وقلبه ، ويشم بواسطته رائحة الجنة .
ويرى جريان أنهارها وعذوبة ماءها ، وحلاوة خمرها وبهاء الحور العين التي تنتظره فيها , فإن قلت تدرك عذوبة الماء بحاسة الذوق وعند الشرب منه , فالجواب لعالم الآخرة والجنة خاصة نواميس تفوق عالم التصور الذهني .
(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيها الناس إنه ليس من شيء يقربكم من الجنة ويبعدكم من النار إلا قد أمرتكم به ، وإنه ليس شيء يقربكم من النار ويبعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه ، وأن الروح الأمين نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها فاتقوا الله واجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعاصي الله ، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته) ( ).
وهذا الحديث علم قائم بذاته في مضمونه وأسراره وغاياته الحميدة ، وعظيم إنتفاع المسلمين منه ، فهو مدرسة فقهية متكاملة في المعاملات , وطريق هداية إلى اللبث الدائم في النعيم ، وبيان أن طاعة الله سبيل للرزق الكريم وواقية من الأمراض في البدن ومشقة النفس وإستيلاء الحسرة والندامة عليها .
فمن خصائص أكل المال بالباطل الأسى والأسف من أمور :
الأول : أخذ مال الغير بغير حق .
الثاني : إدراك حقيقة وهي لحوق الأذى والضرر بصاحب المال.
الثالث : نفرة النفوس من الذي يأكل أموال غيره بالباطل .
الرابع : التنافي والتضاد بين معاني الأخوة الإيمانية وبين أكل أموال المسلمين بالباطل .
الخامس : بيان قانون وهو تعيين رزق كل إنسان من عند الله ، وان الإنسان لا يغادر الدنيا حتى ينال ما رزقه الله من الأكل والشرب واللباس والمال والجاه والصحة في البدن .
السادس : بيان فضل الله عز وجل على الناس في حفظ أموالهم والزجر عن التعدي عليها .
ولا يعلم منافع آية البحث في حفظ أموال المسلمين إلا الله عز وجل , ويهم العبد بالإستحواذ على ملك غيره أو إنكار حقه فيستحضر آية البحث فيتنزه عنه .
وهو من منافع إبتداء الآية بنداء الإيمان إذ أن ذكر وإنشغال المسلم بمفاهيم وسنن الأخوة الإيمانية حائل دون نهب أموال المسلمين والإستيلاء عليها بالباطل .
لقد إختار المسلمون الهدى والإيمان , وأعرضوا عن الباطل وعبادة الأوثان ، فلابد أنهم يجتنبوا الباطل في الكسب وجمع المال , وهذا الإجتناب فرع الإيمان .
ويبين الحديث القدسي أعلاه بأن أخذ المال بالباطل لا يزيد رزق الإنسان ، إنما هو مانع من وصول مثله من الخير والحلال والمال الزكي .
وهل هذا الحديث من تفسير آية البحث , الجواب نعم ، ومن خصائص الإيمان الفوز بهذا الحديث وتلقيه بالقبول ، وهو كنز في المعرفة الإلهية ، وورد الحديث أعلاه بصيغة العموم في النداء [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] والمراد منه المسلمون , ولكنه لا يمنع من المعنى الأعم وإرادة الناس جميعاً لأصالة الظاهر ، وإرادة عموم الناس في دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( ) .
وهل نداء الإيمان وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] يقرب المسلمين من الجنة ويبعدهم عن النار , الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : تفضل الله عز وجل بجعل نداء الإيمان من كلامه .
الثانية : نزول نداء الإيمان بواسطة جبرئيل عليه السلام ، وإطلاع الملائكة عليه .
الثالثة : إختصاص المؤمنين بدخول الجنة والإقامة فيها .
الرابعة : نداء الإيمان باعث لتثبيت للإيمان في قلوب المسلمين .
وعن أم سلمة (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :”يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك! ثم قرأ :”ربنا لا تُزغ قُلوبنا بعدَ إذ هديتنا”، إلى آخر الآية) ( ).
الخامسة : نداء الإيمان شهادة من عند الله عز وجل لكل مسلم ومسلمة قبل أن يخلقا , وفي أيام وجودهما في الحياة الدنيا وعند دخولهما القبر ، وعند النشور والحشر ومواطن الحساب والجزاء ، وفي التنزيل [قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ] ( ).
وهل يمكن تأسيس قانون : وهو كل آية قرآنية تقرب المسلمين من الجنة ، وتبعدهم عن النار , الجواب نعم ، وهو من فيوضات القرآن ، وتجدد وإستدامة بركاته على الناس في كل زمان ، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في تقسيم القرآن إلى سور وآيات مستقلة بنظمها ومجموع آيات القرآن هو (6236) آية بين كل واحدة وأخرى فاصلة وأمارة تدل على إنتهاء آية وإبتداء آية أخرى ، فان قلت ليس من فاصلة بين آية البسملة , والآية التي تليها من أول السور القرآنية فهل يعني هذا أن البسملة ليست من السورة .
الجواب إن إختلف المسلمون في هذا الأمر ، وإلا فان البسملة جزء وآية من سورة الفاتحة , ومع هذا ليس من فاصلة بينها وبين آية [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) ولم تكن هناك فاصلة للتسليم بأن البسملة غير الآية التي تليها .
ومن خصائص نداء الإيمان أنه آية ونعمة سماوية تأخذ بأيدي المسلمين في دروب الهداية ، وهو إمام للصالحين , وشاهد على تقوى المسلمين ومادة للإحتجاج ، وبرهان من عند الله على صحة إختيار المسلمين ، وإستقامة نهجهم .
ترى هل من صلة بين نداء الإيمان وبين قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) الجواب نعم ، فليس من آية إلا وتكون بينها وبين نداء الإيمان صلة ذات صبغة موضوعية وحكمية ، وهي خزائن للعلوم لم تستقرأ منها مسائل خاصة في علم التفسير والتأويل بعد .
ويقال في عالم الإقتصاد إصطلاح ثروة إحتياطية وكامنة ، أي أنها لم تستخرج وتوظف بعد .
فهل الصلة بيت نداء القرآن وآيات القرآن الأخرى إحتياط مكنون في العلوم , الجواب إنه أعم فهي علوم حاضرة ، وفي ذخائر متدلية ، ورياض مفتوحة تدعو العلماء للنهل منها من دون أن تنفذ إلى يوم القيامة ، فاذا خاف أهل بلد على الثروة الطبيعية في بلدهم من النفاذ كالذهب والنفط ، بل يكون نداء الإيمان على وجوه :
الأول : إنه سبيل للإنتفاع الأمثل من الثروة وكنوز الأرض .
الثاني : إستدامة نعمة الثروة الطبيعية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ]( ).
الثالث : تفضل الله عز وجل بنعم وثروات غير التي هي قابلة للنضوب .
الرابع : مجئ نداء الإيمان بثروة وخير كثير بتلاوته والتقيد بآدابه، وهل من مصاديق الشكر في قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
ونداء الإيمان ثروة سماوية ينزل الخير كما ينزل المطر من السماء ، فيكون ربيع الأرض وتخضر به الأشجار وتينع الثمار .
فكذا نداء الإيمان مع مائز يتصف به ، فاذا كان الغيث لا ينزل إلا في موسم مخصوص وعلى نحو متقطع ، ومن الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة كثرة وقلة ، فان نداء الإيمان نعمة وغيث متصل على مدار السنة ويتغشى القلوب ويكسي الأرض بسنا ضيائه ، لتكون مرآة للجنة التي جعلها قريبة من المحسنين واقية من النار وشدة لهيبها .
(عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً) ( ) .
ومن الإعجاز في المقام مجئ نداء الإيمان في آية فرض الصيام بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
وتقدير آية البحث بلحاظ حضور ونفع الإيمان الذي إبتدأت الآية به على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) لبيان قانون وهو أن المال يؤكل للدلالة على تلفه والعجز عن رده ، وبقاء الحساب عليه ، قال تعالى [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ) ، ومفهوم الآية : يا أيها الذين آمنوا كلوا أموالكم بالحق ) .
ليكون من معاني الآية أن الذي يصبر عن الباطل يأتيه الرزق بالحلال ، وهو من أسرار نسبة المال للمسلمين بقوله تعالى [أموالكم] فيتفضل الله عز وجل ويأتيكم بمثلها ، وقد يكون الحرام مالاً كثيراً قريباً من الإنسان فيمتنع عن أخذه ، فلا يأتيه معشاره بالحلال ،
والجواب هذا صحيح وهو من وجوه الإبتلاء في الدنيا وأسباب الحث على الصبر ، من أجل النجاة في الدنيا والآخرة ، ومن صبر عن الحرام فانه يأتيه أو يأتي لأبنائه من بعده بالحلال إذ يبارك لهم بالرزق .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لتكن تجارة بينكم عن تراض منكم ) إذ تتضمن الآية في مفهومها حث المسلمين على الكسب والتجارة ، وما فيها من الرزق الكريم ، وتشغيل اليد العاملة ، وهي حرب على الفقر وطرد للفاقة ، وفيها تنشيط للأسواق وعمارة الأرض بالزراعة , وبناء المساكن، قال تعالى [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ] ( ).
(عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قال التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء ) ( ).
لتكون آية البحث سبيل نجاة للمسلمين في الدنيا والآخرة فيعملون في التجارة والصناعة والمكاسب ، فتكون باباً للرزق ويصدقون في المعاملة ، ويتنزهون عن أكل المال الحرام فيفوزون بمراتب الرفعة في الآخرة .
وورد عن رسول الله أنه قال (تسعة أعشار الرزق في التجارة والعشر في المواشي ) ( ).
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا أنفسكم ) لبيان أن المسلمين أئمة للناس في التنزه عن سفك الدماء والقتل للذات والغير .
وهل يصح تقدير الآية ولا تقتلوا أنفسكم بالباطل ) الجواب نعم ، وهو من الإعجاز بنسبة القتل إلى ذات نفوس المسلمين ، فالأصل في القتل أنه نوع مفاعلة ، وفيه أطراف :
أولاً : القاتل .
ثانياً : القتل .
ثالثاً : ألة القتل .
رابعاً : المقتول الذي يقع عليه القتل وتزهق روحه .
وإخبار الآية عن وقوع القتل على ذات نفوس المسلمين لأن قتل وهلاك أي واحد منهم خسارة لهم جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
ومن خصائص هذا التقدير إرادة النهي المستقل عن أكل المال بالباطل ، والنهي المستقل عن الإقتتال بين المسلمين دولاً ومذاهب وطوائف وقبائل وجماعات وأفراداً .
والنهي الجامع للأمرين معاً فلولا هذه الآية المباركة وإبتداءها بنداء الإيمان لحصل بين جمع من المسلمين أكل المال بالباطل والقتل في آن واحد ، فتفضل الله بآية البحث لتنزيه المسلمين عن أكل المال الحرام ، وعن الإقتتال .
وفي تقدير آية البحث النهي عن أكل المال بالباطل نكتة وهي أن هذا الأكل يكون مقدمة للخصومة والإقتتال والقتل بين المسلمين .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا إن الله كان بكم رحيماً .
ومن إعجاز نظم الآية القرآنية المعاني المستقرأة والمسائل المستنبطة من الصلة بين أول وآخر الآية القرآنية ، ومنها في المقام مسائل :
الأولى : من الشواهد على رحمة الله بالمسلمين نداء الإيمان .
الثانية : تعدد نداء الإيمان في القرآن من رحمة الله عز وجل بالمسلمين .
الثالثة : مجئ نداء الإيمان في آيات مخصوصة تستلزم ندب المسلمين جميعاً للعمل بمضامينها القدسية .
الرابعة : نزول الرحمة العامة والخاصة للمسلمين من عند الله عز وجل .
الخامسة : البشارة للمسلمين بتوالي نزول شآبيب الرحمة من عند الله .
السادسة : مجئ رحمة خاصة بنداء الإيمان من وجوه :
أولاً : مصاحبة الرحمة لنداء الإيمان .
ثانياً : نزول الرحمة الخاصة بنداء الإيمان على نحو متصل ومتجدد .
ثالثاً : مع تلاوة المسلمين لنداء الإيمان تأتي الرحمة من عند الله .
رابعاً : من النعم الإلهية أن نداء الإيمان ذاته رحمة عظمى فاز بها المسلمون ويكون مقدمة وسبباً لوجوه من الرحمة لا يعلمها إلا الله أجل في ذاتها وأوانها وموضوعها وكمها وكيفها ، قال تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
قانون إرادة النوع في الأحكام
ومعنى (بين) في قوله تعالى [لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ]هو النهي عن أكل أحد المسلمين مال غيره من المسلمين ، و(بين ) ظرف مبهم يتضح معناه بلحاظ إضافته في الجملة .
ويأتي ظرف للمكان والزمان ، وهو في المقام ظرف مكان إلا أنه لا يمنع من إجتماع معنى المكان والزمان فيه ، ودبيب مصداق الإستحواذ على مال الغير بأفراد الزمان الطولية ومنه التعدي على الوقف الذري والمال الذي تنتفع منه البطون اللاحقة ، ويدل (بين) على نوع مفاعلة بين طرفين أو أكثر .
نعم قد يأتي لإرادة فرد واحد فيضاف إليه فيجب عطفه بالواو ، ويجب تكراره مع الضمير ، كما في قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ] ( ).
وهل تشمل آية البحث النهي عن أكل المال العام وبين المسلمين وما فيه مصلحة المسلمين أو أهل بلدة أو قرية منهم ، وعموم أهل البلد الذي يقيمون به ويعملون به , الجواب نعم , سواء إكتسبوا صفة المواطنة أو لا , فلابد أن يتنزه المسلمون عن أكل المال الذي يعود للصالح العام , وعموم أهل البلد , وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتصف بالأمانة والصدق مع كل أهل مكة , وأكثرهم قبل الفتح كفار .
ويمكن تأسيس قانون وهو لو دار الأمر بين إرادة القضية الشخصية أو النوعية من الأوامر والنواهي القرآنية ، فالصحيح هو الثاني لوجوه :
الأول : أصالة الإطلاق .
الثاني : عموم النفع من الآية القرآنية .
الثالث : تغشي الحكم القرآني لكل المسلمين والمسلمات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
الرابع : شمول أحكام الآية القرآنية لأفراد الزمان الطولية إلى يوم القيامة .
الخامس : إحاطة أحكام القرآن وما فيه من الحلال والحرام للوقائع .
ومع أن كلمات القرآن محدودة (وعد قوم كلمات القرآن سبعة وسبعين ألف كلمة وتسعمائة وأربعا وثلاثين كلمة , وقيل وأربعمائة وسبع وثلاثون ومائتان وسبع وسبعون وقيل غير ذلك) ( ).
وقال الفيروزآبادي (أَخبرنا عبد الرّحمن بن محمّد، أَنا ابن سلم، انا وكيع، حدّثنى الحسن بن عباس أَنا محمّد بن أَيوب، قال حَسَبُوا حروف القرآن وفيهم حُمَيد بن قيس فعرضوه على مجاهد وسعيد بن جُبَيْر، فلم يخطئوهم فبلغ ما عدّوه ثلاثمائة أَلفِ حرف وثلاثة وعشرين أَلف حرف وأَحد وسبعين حرفاً، وعدُّوا كلِم القرآن بما فيه من الحَرْف – يعنى الم وحم – فبلغ سبعاً وسبعين أَلف كلمة وأَربعمائة كلمة وسبعاً وثلاثين كلمة.
قال: وأَخبرنا الحسن، أَنا أَبو الحسن، أَنا ابن سلم، أَنا وكيع، أَنا إِسماعيل بن مجمع، أَنا محمّد بن يحيى، أَنا عبدالملك بن عبد الرّحمن، حدّثنى أَيوب، وأَبو عكرمة، عن مرجّى، عن جعفر بن سليمان، عن مالك بن دينار، وراشد وغيرهما قالوا: قال لنا الحَجَّاج: عُدّوا لى حروف القرآن، ومعنا الحسن وأَبو العالية، ونصر بن عاصم فحَسَبْنَا بالشعير، وأَجمعنا على أَنَّه ثلاثمائة أَلف حرف وثلاثة وعشرون حرفاً. وفى رواية عطاء بن يَسَار: ثلاثمائة أَلف حرف وستّون أَلفًا وثلاثة وعشرون حرفًا. وكلماته سبع وسبعون أَلف كلمة ومائتان وسبع وسبعون كلمة.
قال وكيع: قال: أَبو عُمَر حفص بن عُمَر: حدّثنى أَبو عمارة حمزة بن القاسم، عن حمزة الزَّيّات، وأَبى حفص الخراز، قالا: حروف القرآن ثلاثمائة أَلف حرف وثلاثة وسبعون أَلف حرف ومائتان وخمسون حرفاً) ( ).
وتحيط كلمات القرآن المحدودة باللامحدود من الحوادث إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار إختتام الكتب السماوية به , وسلامته من التحريف والتبديل والتغيير .
ومن خصائص القضية النوعية دخول الشخصية وأمور الأفراد فيها ، وتكون تأديباً للمسلمين والناس ، ويدرك كل إنسان أنه مشمول بالخطاب والموضوع .
وهل نداء الإيمان مسألة نوعية أو شخصية , الجواب هو الأول لذا جاء بصيغة الجمع ، ولو ورد بصيغة المفرد لحمله بعضهم على إرادة خصوص شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من يقول تلحق به الأمة في الخطاب .
ومن الإعجاز ومصاديق إرادة النوع في نداء الإيمان , البيان وورود النداء الخاص للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفي آيتين متتاليتين [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا] ( ).
وجاءت كلمات الآيتين أعلاه جلية باتباع المسلمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم , وتحريضه المؤمنين على القتال .
كما يأتي إرادة النوع في السنة النبوية ، وفي المرسل ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (ما منكم من أحد إلا ومال وارثه أحب إليه من ماله . قالوا يا رسول الله : ما منا أحد إلا وماله أحب إليه من مال وارثه .
قال : ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو أعطيت فأمضيت) ( ).
وهل يكون خطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (ما منكم من أحد) خاصاً , الجواب لا ، إنما هو خطاب موجه لكل المسلمين والمسلمات ، وفيه إعانة للمسلمين على العمل بمضامين آية البحث باجتناب أكل المال بالباطل .
فمن معاني الحديث أعلاه لا تستحوذوا على المال بالحرام والغصب والباطل ، وفيه دعوة لكل مسلم وإنسان مطلقاً أن ينظر إلى مقدار حاجته ونفعه اليومي من المال .
وذكر الحديث الأكل واللبس والعطاء والصدقة , فهو يشمل الإسراف فيها أو في بعض منها , الجواب لا ، لأن الإسراف مبغوض ومنهي عنه , قال تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ]( ).
من فرائد العلوم التي تتجلى في مضامين آيات النداء أنها تأتي بالأمر المتعدد او النهي المتعدد في آية واحدة للدلالة على إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية ورسوخ الإيمان في نفوسهم وإستيلائه على جوارحهم وجوانحهم بما يفيد إمتناعهم عن المنهي عنه وأن جاء متعدداً في موضوعه على نحو السرد في آية واحدة .
ولو جاءت الآية بخصوص النهي عن أخذ مال الغير ظلماً وعدواناً لقيل بكفاية الموضوع , كي يتأدب المسلمون على عدم التعدي في المال , ولكن الآية تضمنت أيضاً النهي عن القتل بين المسلمين بقوله تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ] ( ) .
وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا أنفسكم ) .
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال زان محصن يرجم , أو رجل قتل رجلا متعمدا فيقتل , أو رجل يخرج من الاسلام ليحارب الله عز وجل ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الارض)( ).
وأيهما أشد أكل المال بالباطل أم قتل النفس ، الجواب القتل هو الأشد ، وكل منهما فعل قبيح شرعاً وعقلاً ، وتنفر منه النفوس ، وهذه النفرة من معاني قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) بلحاظ إقتباس منصب الخلافة من معاني الحسن والكلمات ، وإبتعاده عن المنكر لأن الله عز وجل ينهى عنه ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ]( ).
ومن أسرار إجتماع النهي عن أكل المال بالباطل وقتل المسلم لأخيه المسلم الإمتناع عن الإستحواذ على مال الغير ظلماً مقدمة للقتل ، وأسباب هذا القتل من جهات :
الأولى : تمادي الذي يغصب بالمال , فيتجرأ على القتل .
الثانية : إتخاذ الذي يستولي على حقوق الغير القتل وسيلة لصيرورة المال غراماً وبلا مالك .
الثالثة : دفاع صاحب المال عن نفسه ، وقيام بقتل الذي يأخذ ماله قهراً وغصباً .
الرابعة : تفشي الحرام بين الناس ، وهو من مصاديق مجئ سور السالبة الكلية [الْبَاطِلَ]في الآية لتعدد وجوهه وصيغه ومقدماته وأضراره .
والباطل نقيض الحق ، وفي التنزيل [لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ] ( ).
ونداء الإيمان من مصاديق الآية أعلاه ، وهو من الحق الذي يزيح الباطل ، ويمنع المسلمين من إتخاذه طريقاً ومنهاجاً ، قال تعالى [بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ]( ).
مفهوم التحريم في الآية
جاءت آية التحريم بذكر ثلاثة عشر صنفاً محرماً على الرجل ، وتدل في مفهومها على تحريم عدد مشابه على المرأة .
فيصح تقدير الآية بلحاظ نداء الإيمان وخطاب المسلمات , على وجوه :
الأول : يا أيتها اللائي آمنّ حرّم عليكن آباؤكن.
الثاني : يا أيتها اللائي آمنّ حرم عليكن أبناؤكن.
الثالث : يا أيتها اللائي آمنّ حرم عليكن إخوانكن .
الرابع : يا أيتها اللائي آمنّ حرم عليكن أعمامكن .
الخامس : يا أيتها اللائي آمنّ حرم عليكن أخوالكن .
السادس : يا أيتها اللائي آمنّ حرم عليكن أبناء الأخ .
السابع : يا أيتها اللائي آمنّ حرم عليكن أبناء الأخت .
الثامن : يا أيتها اللائي آمنّ حرم عليكن آباوكن بالرضاعة .
التاسع : يا أيتها اللائي آمنّ حرم عليكن إخوانكن من الرضاعة.
العاشر : يا أيتها اللائي آمنّ حرم عليكن آباء أزواجكن .
الحادي عشر : يا أيتها اللائي آمنّ حرم عليكن أزواج أمهاتكن اللائي دخلوا بهن.
الثاني عشر : يا أيتها اللائي آمنّ حرم عليكم أزواج بناتكن.
الثالث عشر : يا أيتها اللائي آمنّ حرم عليكن أن تجمعن بين زوجين.
لقد جاءت آية التحريم بذكر ثلاثة عشر صنفاً محرماً على الرجل ، وتدل في مفهومها على تحريم عدد مشابه على المرأة , ومغاير في موضوعه .
وفيه بيان لتفقه المسلمين في العقائد وأسرار النبوات , وشهادتهم على صدق الأنبياء في دعوتهم ، وهل تختص هذه الشهادة بالحياة الدنيا ، أم تشمل عالم الآخرة أيضاً ، الجواب هو الثاني ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] ( ).
وعن حبان بن أبي جبلة يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قال : إذا جمع الله عباده يوم القيامة كان أول من يدعى إسرافيل ، فيقول له ربه : ما فعلت في عهدي هل بلغت عهدي؟ فيقول : نعم ، رب قد بلغته جبريل .
فيدعى جبريل فيقال : هل بلغك إسرافيل عهدي؟ فيقول : نعم . فيخلى عن إسرافيل ، ويقول لجبريل : هل بلغت عهدي؟ فيقول : نعم ، قد بلغت الرسل ، فتدعى الرسل فيقال لهم : هل بلغكم جبريل عهدي؟ فيقولون : نعم . فيخلى جبريل .
ثم يقال للرسل : هل بلغتم عهدي؟ فيقولون : نعم ، بلغناه الأمم . فتدعى الأمم فيقال لهم : هل بلغتكم الرسل عهدي؟ فمنهم المكذب ومنهم المصدق . فتقول الرسل : إن لنا عليهم شهداء . فيقول : من؟ فيقولون : أمة محمد . فتدعى أمة محمد فيقال لهم : أتشهدون أن الرسل قد بلغت الأمم؟ فيقولون : نعم . فتقول الأمم: يا ربنا كيف يشهد علينا من لم يدركنا.
فيقول الله : كيف تشهدون عليهم ولم تدركوهم؟ فيقولون : يا ربنا أرسلت إلينا رسولاً ، وأنزلت علينا كتاباً ، وقصصت علينا فيه أن قد بلغوا ، فنشهد بما عهدت إلينا . فيقول الرب : صدقوا ، فذلك قوله { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } والوسط العدل { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً })( ).
ولا يختص مفهوم التحريم في آية البحث بالنساء من المسلمين، إنما يشمل الناس جميعاً بلحاظ أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من الأحكام تتصف بالشمول والعموم، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( )، ليكون من مفاهيم الآية أنها بشارة لمن يتقيد بأحكامها بقصد طاعة الله، والإنذار لمن يجحد بأحكام آية التحريم .
ويحق للمسلمين الإفتخار بآية التحريم , وإجتماعها مع حرمة وراثة المرأة، ومن مصاديق قوله تعالى[ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، تقيد المسلمين بأحكام آية التحريم، إذ يترشح العز والرفعة من هذا التقيد ,وفي التنزيل[وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ]( ).
لذا أختتمت الآية بالشكر من عند الله للمسلمين على الإمتثال لأحكام الآية , وإجتمع الشكر والثناء والبشارة والوعد الكريم لمن تقيد بأحكام هذه الآية بخاتمة الآية بقوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).