معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 141

المقـــدمـــــة
الحمد لله الذي خلق الحياة الدنيا , وبث البشر في الأرض , لتكون وعاءً للحمد، ومحلاً للثناء عليه سبحانه في كل آن لذا تفضل بتشريع ووجوب الصلاة اليومية بحسب الآفاق الكونية , ففي كل دقيقة هناك مصلون حامدون ساجدون لله عز وجل , وهو من عمومات [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ), ومصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الحمد لله الذي بعث الأنبياء مبشرين بمنافع الحمد في النشأتين، ومنذرين من ترك الحمد والتقصير فيه , قال تعالى [وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ] ( )، ومن أسرار بعثة نبوة سيد المرسلين وخاتم النبيين أن إسمه مشتق من الحمد ودال عليه ومترشح عنه ، وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال (وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) ( ) .
لبيان نكتة وهي أن النسبة بين قول الحمد لله وبين الدعاء في حاجة مخصوصة عموم وخصوص مطلق ، فيلجأ العبد للحمد لله فتقضى حوائجه من جهات :
الأول : الحاجة التي سأل الله عز وجل قضاءها .
الثانية : ما لم يسأل الله عز وجل به من الحاجات .
الثالثة : الحاجة التي جعل لها العبد موضوعية في حمده لله عز وجل .
الرابعة : ما لا يعلمه العبد من الحاجات ، إذ يتفضل الله عز وجل بتيسيرها وقضائها ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) بلحاظ الفيض والبركة التي تتضمنها الآية أعلاه .
فمن علم الله الذي لا يعلمه العباد سبل كثيرة لجلب المصلحة ودفع المفسدة ، ومن الإعجاز في الآية أعلاه ورودها في ذات موضوع القتال الذي وردت فيه وفي حسن عاقبته والآية كاملة هي [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
ولما كان القتال كرهاً للمسلمين ، فمن باب الأولوية القطعية أن القتل بذاته مكروه وكراهيته أشد من القتال ، وكأنه من المقدمة وذيها ، فذكرت الآية أعلاه قانوناً وهو عدم الملازمة بين نفع الشيء وحبه , وكذا بين بغض الشيء وضرره .
فقد يحب ويهوى الإنسان أمراً ولكنه عديم النفع , أو أن ضرره أكثر من نفعه أو أنه ضرر محض وكذا بالنسبة للعكس، فقد يكره الإنسان أمراً ولكنه خير ونفع ليكون من معاني الآية أعلاه بلحاظ آية البحث أمور :
الأول : قتال المسلمين للكفار خير ونفع للإسلام .
الثاني : دفع الأسى والحزن والكآبة عن المسلمين بسبب قدوم جيوش الذين كفروا في معركة بدر وأحد والخندق .
الثالث : دفاع المسلمين عن النبوة والتنزيل سبب لفوزهم بالعفو والمغفرة من عند الله .
الرابع : من علم الله عز وجل في المقام أن ملاقاة الذين كفروا في سوح المعارك مقدمة للأمن والسلام وأداء المسلمين الفرائض من غير فزع أو خوف وهو الذي تجلى بهزيمة الذين كفروا في معارك الإسلام الأولى بدر وأحد والخندق إلى أن تم فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ، وإن قلت هناك تباين بين نتائج معركة بدر وأحد والخندق ، فصحيح أن الذين كفروا إنهزموا في معركة بدر .
وجاء القرآن بتوثيق نتائج المعركة بما يكون عيداً للمسلمين بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
ولكن لم تكن هناك هزيمة للذين كفروا في معركة أحد مثل التي كانت في معركة بدر , والجواب نعم ، ولكن النصر والهزيمة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، فقد رجعت جيوش الذين كفروا إلى مكة يوم أحد من غير أن يحققوا أي غرض أو غاية مما كانوا يقصدون .
لقد كانت هزيمة الذين كفروا من عند الله عز وجل , وهو الذي نصر وينصر المؤمنين , لذا قال تعالى بخصوص معركة أحد [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) ومن خصال وهدي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يحمد الله في السراء والضراء .
( وكان إذا أتاه الأمر يسره قال : الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وإذا أتاه الأمر يكرهه , قال : الحمد لله على كل حال) ( ).
وهل مضامين آية البحث مما يحب المسلمون , الجواب نعم ، وكل آية هي نعمة عظمى تتجدد في كل زمان .
الحمد لله الذي جعل الشمس ضياء في النهار، والقمر نوراً في الليل، وجعل القرآن ضياء ونوراً وذخيرة في كل آن , وهو من الإعجاز الذاتي والغيري للقرآن , ومن معاني ودلالات إجتماع وصفه بأنه كلام الله وكتاب الله , والفرقان , ومنهم من جعل للقرآن ثلاثة وتسعين إسماً , ومنهم أَقلّ إذ فرق بين الأسماء والصفات .
وكل اسم له دلالات لبيان عظيم نفعه وبركاته، وفيه ترغيب للمسلمين خاصة والناس جميعاً للنهل من خزائنه والصدور عنه في العبادات والمعاملات والأحكام، وكل فرد من مصاديقها نعمة عظمى في ذاته وفي موضوعه والأثر الذي يترتب عليه، والثواب العظيم الذي يترشح عن تلاوته والعمل بسننه.
الحمد لله الذي جعل القرآن مُقسماً إلى سور وآيات , وكل آية مدرسة في المعارف، وكنز لا ينفد للعلوم غير المتناهية، أي أن كنوز الآية القرآنية متجددة ولا تجف، وكذا بالنسبة لما يستقرأ ويستنبط منها من المسائل العقائدية والفقهية والكلامية والإجتماعية والأخلاقية سواء وفق منطوق أو مفهوم الآية، وإن كان الذي يستنبط من المنطوق أكثر وضوحاً وتجلياً، وأقرب إلى أذهان عامة الناس.
الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره ، ومصداقاً لعبادته وطريقاً إلى مرضاته وصلى الله على نبيه محمد وآله الطيبين الطاهرين .
الحمد الله الذي تفضل علينا بالقرآن الذي يبدأ بعد البسملة بكلمة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) ثم تفضل وجعل موضوعية للحمد في الصلاة اليومية ، فيتلو المسلم والمسلمة الآية أعلاه على نحو الوجوب العيني عدة مرات في اليوم فيكون وسيلة لإستدامة الحياة في الأرض لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) ومناسبة لتلاوة آية البحث التي إختص هذا الجزء بها وبتفسيرها وتأويلها وإستنباط المسائل وتأسيس القوانين الخاصة بها , وهو قوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ].
ومن خصائص سِفر التفسير هذا إطلالته على أهل الأرض بكنوز من علوم ( سياق الآيات) بما لا يخطر على الوجود الذهني فمثلاً صدر منه جزءان كل واحد منهما بصلة شطر من آية بشطر من الآية التي قبلها، وهما الجزء السادس والعشرون بعد المائة ( ), والجزء التاسع والعشرون بعد المائة( ).
كما جاء الجزء الخامس العشرون بعد المائة من هذا السِفر المبارك بصلة الآية ( 152 ) من آل عمران بالآية التي قبلها .
ويتضمن هذا الجزء شذرات ولإختصار للصلة بين آية البحث والآية السابقة لها خاصة مع إتحاد الموضوع بين الآيتين من جهات :
الأولى : لغة العطف بين الآيتين ، إذ إبتدأت آية البحث بحرف العطف الواو ، الذي يدعو القارئ والسامع للآية إلى الربط بين الآيتين، وإستقراء مسائل ودلالات العطف بينهما ، وهي متعددة وتفتح آفاقاً من العلم ، وسيأتي البيان في باب سياق الآيات والتفسير والأبواب الأخرى .
الثانية : إبتداء الآية السابقة بنداء الإيمان الذي ينبسط ويتوجه إلى كل مسلم ومسلمة على نحو الإستقلال والإجتماع ، من وجوه منها :
أولاً : يا أيها المسلم .
ثانياً : يا أيها المسلم بلحاظ الجزئية من عموم المسلمين .
ثالثاً : يا ايها المسلم كوارث لمعالم الدين .
رابعاً : يا أيها المسلم كمورِث لأحكام الشريعة والأبناء والذرية .
خامساً : يا أيها المسلم إذ تتلقى أذى الذين كفروا بصدودهم عن الإيمان , ومحاولة منعهم من الخروج للدفاع في سبيل الله .
الثالثة : إتحاد صفة الإيمان في الخطاب للمسلمين بين الآيتين ، فقد ذكرت الآية السابقة المسلمين بصفة الإيمان من وجوه :
أولاً : نداء الإيمان الذي إبتدأت به الآية [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ].
ثانياً : دلالة نداء الإيمان على الثناء على المسلمين .
ثالثاً : جمع الآية السابقة بين المسلمين والمسلمات في مصاديق الإيمان .
رابعاً : بعث الغبطة والسعادة في نفوس المسلمين ببلوغهم مرتبة الإيمان وسيأتي مزيد كلام في الجزء التالي إن شاء الله.
خامساً : تعقب النهي لنداء الإيمان ، وفيه بيان لأهلية المسلمين للتقيد والعمل بسنن الإيمان .
سادساً : بيان التضاد بين المسلمين والذين كفروا ، فمن إعجاز الآية السابقة ذكرها لخصال الذين كفروا ، مما يدل على لزوم تنزه المسلمين عنهم وعنها بلحاظ قاعدة عدم إجتماع الضدين .
سابعاً : ذكرت الآية السابقة التباين والتضاد بين الذين آمنوا والذين كفروا بالإعتقاد والمبادئ والإختيار ، وهو الذي يدل عليه وصف المسلمين بلفظ [الَّذِينَ آمَنُوا ]وذم الجاحدين للنبوة والمنافقين بنعتهم[ كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى]، لتتعقبها آية البحث بالبشارة والبيان مما يدل على وجوب إمتناع المسلمين عن التشبه بالذين كفروا في موضوع مخصوص لتأكيد إتصال وإستدامة التباين , والتضاد في عالم الأقوال والأفعال , وتنمية ملكة الإحتراز عند المسلمين من مفاهيم الكفر.
ثامناً : خروج المسلمين للجهاد والدفاع والمرابطة في الثغور لمنع تعدي وهجوم المشركين على المدينة ، وهو المستقرأ من ذم الذين كفروا بقوله تعالى [وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ] وتقدير الآية على وجوه :
الأول : كالذين كفروا من الأوس وقالوا لإخوانهم من الأوس .
الثاني : كالذين كفروا من الخزرج وقالوا لإخوانهم من الخزرج .
الثالث : كالذين كفروا من الأوس وقالوا لإخوانهم من الخزرج .
الرابع : كالذين كفروا من الخروج وقالوا لإخوانهم من الأوس .
الخامس : كالمنافقين الذين قالوا لإخوانهم من المؤمنين .
وهناك مسألتان :
الأولى : ما هي النسبة بين الذين كفروا الذين تذكرهم هذه الآية والمنافقين .
الثانية : هل من أخوة بين المنافقين والمؤمنين الذين يخرجون للجهاد وما هي سنخية الأخوة بينهم .
أما بخصوص المسألة الأولى , فالجواب من وجهين :
أولاً : النسبة العامة بين الذين كفروا والمنافقين هي العموم والخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء إبطان الكفر ومادة الإفتراق أن الذين كفروا يعلنون كفرهم وجحودهم .
ثانياً : النسبة الخاصة بين الذين كفروا والمنافقين في آية البحث وهي التساوي ، وهو من إعجاز القرآن بأن تتعدد ضروب ووجوه النسبة والصلة بين الذين كفروا والمنافقين بحسب اللحاظ والموضوع ، لذا تفضل الله عز وجل بأمور :
الأول : الكشف عن حال المنافقين ، ووجود طائفة تخفي الكفر مع إظهارهم الإيمان .
الثاني : ذم المنافقين وبيان قبح إختيارهم .
الثالث : تكرار ذم المنافقين في القرآن .
الرابع : بيان خصال النفاق بما هو أعم من لفظ المنافقين , كما جاء نعتهم في القرآن بصفة المرض القلبي ، وعن ابن عباس في قوله تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ] قال النفاق .
الخامس : ذكر المنافقات في القرآن على نحو التعيين وبصيغة الذم .
السادس : بيان سوء عاقبة المنافقين وما يلقون يوم القيامة من العذاب الأليم ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( ) .
وأما بالنسبة للمسألة الثانية أعلاه , فالجواب نعم هناك أخوة بينهم من وجهين :
الأول : الإلتقاء بالنطق بالشهادتين وأداء الفرائض العبادية كالصلاة .
الثاني : أخوة النسب بالنسبة للمجاهدين من الأنصار ، وحتى بالنسبة للمهاجرين ، إذ يقول الذين كفروا من أهل مكة أنه لو لم يتبع المهاجرون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويهاجروا معه لم يُقتلوا , ويوجه الذين كفروا من أهل المدينة اللوم للأنصار لإتباعهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , وإنبعاثهم تحت لوائه إلى سوح الدفاع .
وبينما يسعى الذين كفروا والمنافقون لصد المؤمنين عن الدفاع عن الإسلام كما ورد في الآية السابقة ( )، لآية البحث نزلت هذه الآية بصيغة الخطاب بين الله عز وجل والمسلمين في موضوع الدفاع والتعرض للقتل فيه ، وهو أشد أحوال الإنسان بأن يترك حياة الدعة والألفة مع العيال ليخرج إلى القتال طواعية لتكون هذه الآية ضياء وسكينة لما فيها من بيان لحسن العاقبة بهذا الخروج ، ولتكون سبباً لرجحان كفة المسلمين في القتال مع قلة عددهم وأسلحتهم ، فلم يكن عند الذين كفروا عند زحفهم من مكة إلى المدينة إلا الرعب والفزع الذي صاحبهم وكان بانتظارهم والذي يدل عليه قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ) , ليعود من لم يُقتل منهم بالخيبة بالإضافة للرعب , لقوله تعالى ( فينقلبوا خائبين ] ( ).
لقد حضر المسلمون معارك الإسلام الأولى بالوعد الكريم الذي تتضمنه الآية لكل من :
الأول : المسلم الذي خرج للقتال وعاد سالماً
الثاني : المسلم الذي أستشهد في سوح المعارك فقد قتل من المهاجرين والأنصار سبعون شهيداً .
وعن جابر بن عبد الله قال ( لقيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا جابر ما لي أراك منكسراً ؟ قلت : يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالاً وديناً فقال : ألا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قال : بلى .
قال : ما كلّم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب ، وأحيا أباك فكلمه كفاحاً وقال : يا عبدي تمن عليّ أعطك قال : يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية قال الرب تعالى : قد سبق مني أنهم لا يرجعون . قال : أي رب فأبلغ من ورائي . فأنزل الله هذه الآية { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً . . . } الآية) ( ).
الثالث : المسلم الذي يموت على فراشه من غير خروج إلى القتال .
الرابع : عموم المسلمين ، فصحيح أن فريضة الجهاد ساقطة عن المرأة إلا أن آية البحث تبشر المسلمة بالعفو والمغفرة وشآبيب الرحمة عند موتها .
ومن خصائص الدار الآخرة أن أمرها كله بيد الله , وليس للناس من عمل وإختيار وإرادة بل يقفون للحساب ويلقون الجزاء ، وفي التنزيل [ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ] ( ).
لقد جاء القرآن بتضرع المسلمين لله عز وجل وسؤالهم العفو والمغفرة كما في قوله تعالى [رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ( )، وجاءت آية البحث لبيان مضامين الدعاء في الآية أعلاه , وفضل الله عز وجل في الإستجابة لدعاء المسلمين وتحذيرهم من التشبه بالذين كفروا , لأن الإمتناع عن نهي المؤمنين عن الخروج للدفاع في سبيل الله طريق للنصر والغلبة على الكافرين .
ليكون من معاني النداء في الآية السابقة ومضامين الآية التي جاء هذا الجزء خاصاً بتفسيرها وهي [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( )، وجوه :
الأول : تلقي المسلمين نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] سبيل للفوز والمغفرة من عند الله عز وجل .
والنسبة بين العفو والمغفرة هي العموم والخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء هي عدم ترتب الأثر والضرر على الذنب .
أما مادة الإفتراق فان العفو إسقاط للعقاب ، أما المغفرة فهي الستر على الجرم وعدم المؤاخذة بالتوبيخ أو التبكيت أو الفضيحة .
وقيل العفو عن الكبائر ، أما المغفرة فهي خاصة بالصغائر من الذنوب , ولا دليل عليه , وهو تقييد وحصر للدعاء والنعمة من غير مقيد بالإضافة إلى أن تقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر تقسيم إستقرائي وبياني , وإذا أعطى الله عز وجل فانه يعطي بالأوفى والأكثر ويهب العفو والمغفرة لتشمل المعاصي كلها لذا فان قوله تعالى[لَمَغْفِرَةٌ] الوارد في آية البحث شامل للسيئات مطلقاً , وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا] ( ).
فلم تقل الآية أن الله يعفو عن الذنوب ويغفرها جميعاً ، بل جاءت الآية بصيغة المغفرة لتكون سور الموجبة الكلية الذي يأتي على كل الذنوب فيمحوها ويعفو عنها .
الثاني : حرص كل مسلم ومسلمة على العمل بسنن الإيمان , فحينما يعلم المسلم أن الله عز وجل أكرمه وأثنى عليه وخاطبه بصفة الإيمان ، وأن الملائكة يشهدون له بهذه المنزلة الرفيعة فانه يجتهد في طاعة الله وتعاهد هذه المنزلة .
فجاءت آية البحث للتذكير بمغادرة المسلم الدنيا على نحو الحتم والوجوب ليفيد الجمع بين الآيتين لزوم مغادرتها برداء الإيمان وعدم النكوص أو الإرتداد ، قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( ).
الثالث : تبين هذه الآيات الفصل والتمييز بين المؤمنين والذين كفروا وإن كانت الأخوة النسبية جامعة لهم ، لذا قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين , وكانت هذه الأخوة على وجوه :
الأول : مؤاخاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عليه السلام .
الثاني : مؤاخاة المهاجر للأنصاري كما في المؤاخاة بين ( أبي بكر وخارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجي( )، والمؤاخاة بين أبي عبيدة الجراح وسعد بن معاذ ).
الثالث : مؤاخاة المهاجر لمهاجر مثله .
الرابع : مؤاخاة الأنصاري لأنصاري آخر , وهو على أقسام :
أولاً : مؤاخاة الأوسي للأوسي .
ثانياً : مؤاخاة الخزرجي للخزرجي .
ثالثاً : مؤاخاة الأوسي للخزرجي .
وكان الصحابة يتوارثون بهذه الأخوة , فمن يموت من المسلمين يرثه أخوه بمؤاخاة الإيمان دون عصبته وأهله .
إلى أن نزل قوله تعالى [وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ]( )، فنسخت هذه الآية التوارث بالمؤاخاة والصلة الأخوية بين كل إثنين من المهاجرين والأنصار ، وصار الميراث بالنسب ، والقرابة الأقرب فالأقرب .
وهل هذا النسخ مثل نسخ القبلة إذ لم يذكر التوجه إلى بيت المقدس واتخاذه قبلة في القرآن , بل نزل الناسخ له بالتوجه إلى البيت الحرام ليدل الناسخ على المنسوخ ، قال تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ] ( ) .
الجواب لا ، فأمر القبلة أبين وأظهر لأن إستقبال بيت المقدس مذكور في القرآن بصفة وصيغة الأمر المنسوخ بقوله تعالى [وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ]( ) .
وبين نسخ القبلة ونسخ التوارث بالمؤاخاة الإيمانية عموم وخصوص مطلق إذ أشارت الآية أعلاه للقبلة المنسوخة ، أما المؤاخاة فلم تذكرها على نحو الخصوص آية قرآنية , ولكن وردت آيات تدل عليها في الجملة مثل قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
ومن الآيات أن الأخوة لم تنقطع وأن نسخت آية المواريث التوارث بينهم بالأخوة الإيمانية ، فقد إستمر التآلف والتآزر والعمل والنصرة والنصيحة وتبادل الهبات والعطايا والتزاور وصلات المودة والصلات العائلية .
وقد آخى رسول الله بين سلمان وأبي الدرداء و(جاء سلمان يزور أبا الدرداء فرأى أم الدرداء مبتذلة , فقال: ما شأنِك قالت إن أخاك ليس له حاجة في شيء من الدنيا . فلما جاء أبو الدرداء رحب بسلمان وقرب له طعاماً.. قال: سلمان أطعم قال: إني صائم قال: أقسمت عليك إلا ما طعمت إني لست بآكل حتى تطعم .
وبات سلمان عند أبي الدرداء فلما كان الليل قام أبو الدرداء فحبسه سلمان. قال: يا أبا الدرداء إن لربك عليك حقا وإن لأهلك عليك حقاً وإن لجسدك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه .
فلما كان وجه الصبح قال: قم الآن فقاما فصليا ثم خرجا إلى الصلاة. قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام إليه أبو الدرداء وأخبره بما قال سلمان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل ما قال: سلمان)( )، واسم أم الدرداء خيرة بنت أبي حدرد , وبعد إنتقال النبي محمد إلى الرفيق الأعلى لم تنقطع الأخوة الإيمانية فقد كانت عزاً وشرفاً يفتخر به الصحابة وأبناؤهم , فهو من السنة النبوية الخاصة بكل واحد منهم وفي إفتخارهم به تأديب للتابعين , وتوارث المسلمون قصصاً مباركة من هذه الأخوة .
وسكن سلمان الفارسي العراق , وأبو الدرداء الشام وكانت بينهما رسائل:
فكتب أبو الدرداء إلى سلمان يقول : سلام عليك، أما بعد، فإن الله رزقني بعدك مالاً وولداً، ونزلت الأرض المقدسة. فكتب إليه سلمان: سلام عليكم، أما بعد، فإنك كتبت إلي أن الله رزقك مالاً وولداً، فاعلم أن الخير ليس بكثرة المال والولد، ولكن الخير أن يكثر حلمك، وأن ينفعك علمك، وكتبت إلي أنك نزلت الأرض المقدسة، وإن الأرض لا تعمل لأحد، اعمل كأنك ترى، واعدد نفسك من الموتى( ).
ومن دلالات الأخوة بين المهاجرين والأنصار وجوه:
الأول : دفع الخصومة ومنع الإقتتال بين الأوس والخزرج.
الثاني : رفع الغضاضة من نفوس الأنصار بسبب قدوم المهاجرين عليهم من مصر وقبائل أخرى.
الثالث : نماء رابط وصلات الإيمان، وجعلها بديلاً للقبيلة والعشيرة حتى إذا قام الذين كفروا والمنافقون بتحريض المؤمنين من الأنصار على القعود لم يلتفتوا إليهم، وإذا إنصرفوا إلى عوائل المؤمنين لبعثهم على صد رجالاتهم عن الخروج زجرتهم , فتعلم تلك العوائل أن الأنصاري يخرج مع أخيه المهاجر، ولابد من نصرة بعضهم بعضاً.
الرابع : بيان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيرورة الأخوة الإيمانية بديلاً للأخوة النسبية.
الخامس : تخفيف وطأة الغربة وفراق البيت الحرام والأهل عن المهاجرين .
وتبين الشواهد التأريخية أن أي إنتماء سياسي أو إجتماعي يعجز عن جعل رابطته وصلاته قريبة من مراتب الأخوة النسبية ولكن الإسلام وبأمر واحد من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جعل أخوة الإيمان أسمى وأقوى من الأخوة النسبية حتى إذا تعارضتا كما تبينه آية السياق رجحت كفة الأخوة الإيمانية، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ]( ).
السادس : سلامة المسلمين وبيوتهم من الضغائن والكدورات.
السابع : بقاء الأخوة الإيمانية بين الصحابة حتى بعد مفارقة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
ويمكن تقسيم الصحابة إلى أقسام :
الأول : الذين آخى بينهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا : لما قدم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم المدينة آخى بين المهاجرين بعضهم لبعض، وآخى بين المهاجرين والأنصار، آخى بينهم على الحق والمؤاساة ويتوارثون بعد الممات دون ذوي الأرحام، وكانوا تسعين رجلاً، خمسة وأربعون من المهاجرين، وخمسة وأربعون من الأنصار، ويقال: كانوا مائة خمسون من المهاجرين، وخمسون من الأنصار، وكان ذلك قبل بدر، فلما كانت وقعة بدر وأنزل الله تعالى[وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
فنسخت هذه الآية ما كان قبلها، وإنقطعت المؤاخاة في الميراث، ورجع كل إنسان إلى نسبه وورثه ذوو رحمه ( ).
الثاني : الذين لم يؤاخ بينهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع وجودهم أيام المؤاخاة.
الثالث : الذين أسلموا بعد المؤاخاة . وليس من أحد منهم إلا وتقيد وسعد بهذه المواخاة وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن مصاديق الرحمة التي تذكرها آية البحث .
الثامن : طرد أسباب الوحشة عن المهاجرين حال وجودهم في المدينة .
وكان إعلان المؤاخاة في دار أنس بن مالك بعد بناء المسجد النبوي, وقبل واقعة بدر .
وسافر سلمان إلى الشام لزيارة أبي الدرداء .
ومن الإعجاز في آية البحث إنتفاء النسخ فيها , وفي مضامينها القدسية ، لذا جاءت خاتمة حياة المسلم على أحد وجهين إما القتل في سبيل الله أو الموت لتأديب المسلمين على أمور :
الأول :إجتناب الإقتتال في غير مرضاة الله .
الثاني : العصمة من قتال المسلمين بعضهم بعضاً , وفي ولدي آدم ورد في القرآن إمتناع أحدهما عن مقابلة الآخر بالمثل إن أراد قتله [لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ] ( ) .
وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لئن قتلتم في سبيل الله ) وهل يصح تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لئن قتلتم لمغفرة من الله ، الجواب لا ، لتقييد الآية بالقتل في سبيل الله , وكونه دفاعاً عن الإسلام والجهاد بالنفس والمال طاعة لله عز وجل ، أما القتل فهو عام ومطلق وقد يكون للطمع في الدنيا وزينتها أو لغلبة النفس الشهوية أو الغضبية أو العصبية وحمية، ليكون هذا التقييد مدرسة فقهية مستقلة يحمل شهادتها كل مسلم ومسلمة من جهات :
الأولى : الغبطة بالفوز بتلقي نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وإختصاص المسلمين به .
الثانية : بذل المسلمين الوسع للعمل بمضامين نداء الإيمان .
الثالثة : تلاوة المسلمين والمسلمات آية البحث في الصلاة اليومية وخارجها ، وكل مدرسة ومعهد وجامعة تعطي الشهادة ولا يبقى لصاحبها من صلة معها إلا الذكرى , أما مدرسة الآية القرآنية فهي متصلة ومتجددة ومصاحبة لوجود المسلم ، وتكون حاضرة معه في قبره وفي عالم الحساب والجزاء , وتدل عليه آية البحث من وجوه :
الأول : دلالة إخبار آية البحث عن القتل في سبيل الله بأن المسلمين يبذلون النفس وينفقون المال في سبيل الله , إذ يحتمل القتل في سبيل الله وجوهاً :
أولاً : إرادة دفاع المسلمين بالسيف عن الإسلام والنبوة .
ثانياً : القتل عن الإسلام والهوية ، فقد يأتي الكفار للمسلم وهو يصلي فيقتلونه في محرابه .
ثالثاً : القتل في حال الغزو والخروج في السرايا .
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق آية البحث والأصل فيها هو الأول ، خاصة وأن الآية نزلت عندما كان الذين كفروا يهجمون على مصر الإسلام الوحيد , وهو المدينة المنورة كما في معركة بدر وأحد ثم الخندق .
ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يتخذ بلداً ومحلاً بديلاً عن المدينة المنورة بعد معركة بدر , أو بعد معركة أحد خاصة وما لاقاه المسلمون فيها من الخسارة بالأرواح ومع شدة الجراحات التي أصابت النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وإشاعة قتله يومئذ وما لها من الأثر على الصحابة لولا فضل الله .
فبعد أن ترك الرماة المسلمون مواقعهم برز عتبة بن أبي وقاص وهو أخو سعد بن أبي وقاص من بين صفوف المشركين ليرمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحجارة عن قرب فتسيل الدماء من وجهه ، وقام عبد الله بن شهاب الزهري بشج رأس النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم ينقطع الدم إلا بعد المعركة إذ عمدت فاطمة عليها السلام إلى حصير فأحرقتها إلى أن صارت رماداً فالصقته على جرحه فاستمسك وإنقطع الدم .
وضرب ابن قمئة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتفه ضربة شديدة ، بقي يشكو منها مدة شهر ، وقال ابن إسحاق (وَأَنّ ابن قَمِئَةَ جَرَحَ وَجْنَتَهُ فَدَخَلَتْ حَلْقَتَانِ مِنْ حَلَقِ الْمِغْفَرِ وَجْنَتَهُ وَوَقَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حُفْرَةٍ مِنْ الْحُفَرِ الّتِي عَمِلَ أَبُو عَامِرٍ لِيَقَعَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَأَخَذَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ) ( ).
الثاني : موضوع آية البحث هو مغادرة المسلم خاصة للحياة الدنيا بما هو مسلم .
الثالث : تأكيد آية البحث على فوز المسلمين بالمغفرة وهو الأمر الذي يحتاجه كل إنسان في عالم البرزخ ويوم القيامة , وقد بين القرآن العذاب الإبتدائي للذين كفروا في القبر , قال تعالى [النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ] ( ).
الرابع : دلالة خاتمة آية البحث على التباين بين النفع العظيم للمؤمنين من المغفرة , وذهاب ما يجمع الذين كفروا أدراج الرياح .
نعم المدار في أحكام الآية القرآنية على مضامينها القدسية وعموم المعنى وليس سبب النزول وحده ، ولكن هذا لا يمنع من إستقراء المسائل والمواعظ من سبب النزول .
وهل يصح القول أن الآية القرآنية مائدة من السماء , الجواب نعم، إذ أن معاني ودلالات الآية القرآنية غير متناهية ، ومن خصائص النعمة الإلهية أنها توليدية , وكذا الآية القرآنية ففي كل يوم تستنبط منها مسائل وتستخرج العلوم .
وذات التلاوة المجردة مناسبة لإكتساب الحسنات والتزود للدنيا والآخرة ففي كل حرف يتلوه المسلم عشر حسنات وهو من بدائع تشريع الصلاة وصيرورتها خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني على كل مسلم ومسلمة ، وتتلى فيها آيات من القرآن لتنسخ الذنب والمعصية عنهما في ذات يوم التلاوة وما قبله ، وهو من مصاديق تعلق المغفرة والرحمة بذات موت المسلم في آية البحث بقوله تعالى [َمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ]بلحاظ أن الحسنات التي يجنيها المسلم من أداء الصلاة سبب للعفو وواقية له من الفضيحة أمام الخلائق ، وكل من العفو والمغفرة في المقام فضل من عند الله عز وجل ليكون من مصاديق آية البحث أنها فضل ينبعث منها الفضل المتجدد , وتقود إلى الفضل وتهدي إليه.
ويتضمن هذا الجزء باباً إسمه ( الآية رحمة) بلحاظ قانون وهو كل آية قرآنية رحمة وفضل من عند الله ، إذ أن قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) سور الموجبة الكلية الذي تترشح عنه مصاديق غير متناهية من الرحمة الإلهية.
وهل الرحمة في الآية القرآنية متحدة أم متعددة , الجواب هو الثاني، ليكون هذا الباب إشراقة علمية لإستقراء وجوه من رحمة الله التي تتضمنها الآية القرآنية وتترشح عنها ، والتي لا تنقطع أو تنتهي ، وفي كل زمان تطل مصاديق مستحدثة منها ، فيكون باب (الآية رحمة ) أمراً متجدداً يستلزم الإضافة له في كل زمان إلى جانب كشف وجوه أخرى غابت عن السابق من العلماء ليدلّ عليها اللاحق من الأجيال القادمة ، وهو من مصاديق اللامتناهي في علوم القرآن .
ولا تختص الرحمة الإلهية في نزول الآية القرآنية بزمان نزول الآية ولا بالمسلمين بل هي عامة تشمل الناس جميعاً ، لذا يمكن تقسيم هذا الباب على وجوه :
الأول : الآية القرآنية رحمة بالمسلمين .
الثاني : الآية القرآنية رحمة بأهل الكتاب .
الثالث : الآية القرآنية رحمة بالناس جميعاً .
فان قلت تأتي في الآية إنذاراً ووعيداً للذين كفروا ، والجواب هذا الإنذار رحمة بهم وهو سبب لتوبة الكثير من الناس , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ] ( ).
وأخبرت آية البحث عن إحتمال تعرض المسلمين للقتل في سبيل الله لتكون الآية إنذاراً للذين كفروا من وجوه :
الأول : عاقبة قتل المؤمن خلود قاتله في النار ، قال تعالى [وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا] ( ) .
وبين مضامين الآية أعلاه وآية البحث عموم وخصوص مطلق إذ تذكر آية البحث أمراً أخص وهو القتل في سبيل الله ، ويفيد نظم الآيات وعطف الآية على الآية السابقة لها التي تتضمن الإخبار عن إنبعاث المسلمين لميادين القتال دفاعاً عن النبوة والتنزيل في آية جهادية وصفحة مشرقة من تأريخ الإنسانية وبناء صرح دولة التوحيد لتبقى قائمة إلى يوم الدين ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) حينما سألوا عن سر وعلة جعل الإنسان خليفة في الأرض مع إفساده فيها وقتله للمؤمنين بلحاظ أن قوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ] من مصاديق إحتجاج الملائكة [وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]أي يسفكها ظلماً وبغير حق .
فيكون من معاني الرد من عند الله بحسن عاقبة الذين يقتلون في سبيله ، وأن مسكنهم الجنان خالدين فيها ، ولئن أخرج آدم وحواء من الجنة بسبب إزلال إبليس لهما وترغيبهما بالأكل من الشجرة التي نهاهما الله عز وجل عنها فان المؤمنين يعودون إلى الجنة بصفة الدوام والخلود , ومن غير وسوسة من إبليس الذي يكون حينئذ في نار جهنم لا خروج أو مغادرة له منها .
وتحتمل مضامين آية البحث وهي الآية السابعة والخمسون بعد المائة من سورة آل عمران والتي أختص بها هذا الجزء من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) وهو الواحد والأربعون بعد المائة وجوهاً:
الأول : موضوع ومضامين آية البحث مما يحب المسلمون .
الثاني : ورد في الآية موضوع قتل المؤمنين , وإذا كان ذات القتال مكروهاً عند المسلمين ، فمن باب الأولوية القطعية أن وقوع القتل بين صفوف المسلمين أشد كراهة .
الثالث : التفصيل في مضامين آية البحث ، فالقتال الذي تذكره الآية بقوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ] أمر مكروه ، أما المغفرة والرحمة اللتان تذكرهما الآية فهما أمران محبوبان .
والصحيح هو الأول فمضامين آية البحث نعمة ورحمة بالمسلمين ودعوة للشكر لله عز وجل على نزولها وبيانها وتغشي معانيها القدسية للدنيا والآخرة .
ومن الإعجاز في آية البحث أن قيد [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] طارد للكراهية ودافع للغضاضة والنفرة وكذا بالنسبة لوجوب القتل في قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ] ( ) ومعنى [كُتِبَ] أي فرُض ووجب فان ذات القتال مكروه ، أما لو كان مكتوباً ومفروضاً من عند الله فلا كراهة فيه لمحبوبية التكاليف مطلقاً ولأنها خير محض ونعمة على العباد , تترشح عنه نعم غير متناهية .
وتقدير الآية أعلاه : كتب عليكم القتال وهو كره لكم إلا إذا كان في سبيل الله ) فلا يصح أن يقال : القتال المكتوب على المسلمين مكروه إنما ذات القتال مكروه , أما حينما يكون فرضاً من عند الله للدفاع عن الإسلام فلا كراهة لما فيه من النفع العام والأجر والثواب ، لذا فان قوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ] في آية البحث لم يكن عن كراهة من المسلمين ، وجاءت الآية لتحبب الدفاع والصبر والمرابطة في سبيل الله ونصرة النبوة والتنزيل بالسيف.
وجاءت الآية بصيغة الإطلاق [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ] فلا يعني هذا العموم الإستغراقي ، كما يأتي في باب التفسير ، بالإضافة إلى صيغ الشرط في الآية فلا يدل قوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ]على حصول القتل ، كما أنه لا يختص بالزمن المستقبل ، ومن وجوه كراهة المسلمين للقتال إدراكهم بأن الأصل هو تسليم الناس بمعجزات النبوة ومبادرتهم لدخول الإسلام ، لذا وردت الآية بصيغة الماضي المبني للمجهول ، فلم تقل الآية ( ولئن تقتلوا) بينما جاء الثواب والأجر من عند الله بصيغة العموم والتجدد في رياض الشهادة البهيجة الناضرة.
وبينما إبتدأت الآية بالثناء على المسلمين والقتل في سبيل الله وتضحية وفداء المسلم وبذله نفسه لمنع عبادة الأصنام والطواغيت في الأرض فأنها أختتمت بذم جمع الكفار الأموال لذاتها والإنشغال بها عن واجبات العبادة والتقوى .
وعن أنس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هداه الله للإِسلام وعلمه القرآن ثم شكا الفاقة كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم يلقاه ، ثم تلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون }( ) من عرض الدنيا من الأموال) ( ).
وفي آية البحث تنمية لملكة الصبر عند المسلمين، وجعلها في مرضاة الله من جهة السبب والبلغة والغاية , ليجعل موضوعه الحياة الدنيا روضة من رياض الجنة، وسعياً إلى الكمال الإنساني، ومقدمة إلى السعادة الأبدية التي تبشر بها الآية المسلمين والمسلمات، وفي التنزيل[مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ]( ).

حرر في 26 /2/ 2016

قوله تعالى[وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] الآية 157 .

بحث نحوي مع الإعراب
الواو التي تبدأ بها الآية : حرف إستئناف ، ويحمل معنى العطف أيضاً بلحاظ إتحاد موضوع هذه الآية والآية السابقة كما سيأتي بيانه في سياق الآيات وتقسم الواو وفق الصناعة النحوية إلى أقسام منها :
الأول : حرف عطف .
الثاني : حرف إستئناف .
وهو تقسيم إستقرائي ، ومعاني اللغة أعم من إستقلال كل فرد أعلاه بالمعنى , خصوصاً آيات القرآن ، وما فيها من العلوم وما تنطوي عليه من الذخائر وحصر الحرف في معنى واحد تضييع لشطر من هذه الذخائر ، وتفويت للمصلحة ، لذا فعلم التفسير بكنوزه أوسع منها ، إذ تستنبط المسائل وتستخرج القوانين والبراهين من آيات القرآن أمس واليوم وغداً .
ويسيح العلماء في جنبات الحرف والكلمة القرآنية بصيغ الإطلاق ، ودلالات المعنى الأعم من العطف والإستئناف لحرف الواو على نحو المثال بشرط عدم الخروج عن معاني الكلمة والآية القرآنية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ] ( ) .
وهل تكون قراءة الحرف القرآني بالمعنى الأعم مما وضع في قواعد اللغة من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة [لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ] ( ).
الجواب نعم ، فلإن إنتهت أو توقفت حروب الإسلام الأولى ، فان المسلمين لم يخرجوا للقتال وبقوا عند أهليهم , ولكنهم يجاهدون في باب تحصيل العلم وتثوير علوم القرآن مع إتخاذ قواعد النحو والبلاغة والصرف أساساً ومدركاً , فهي كنز علمي بذل العلماء الوسع في إستقرائه وتثبيت معالمه ، وتكون التوسعة والمندوحة حيث يقبل الحرف والكلمة القرآنية المعنى الأعم بما يساعد في إستظهار وجوه جديدة من التفسير .
والمختار أن حرف الواو يكون على وجوه :
الأول : حرف العطف .
الثاني : حرف إستئناف .
الثالث : عدم إفادة الواو العطف أو الإستئناف كما لو كان للمعية أو الحال أو القسم كما في قوله تعالى [وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ]( ) .
الرابع : إجتماع معنى العطف والإستئناف للواو .
فمرة يأتي الواو حرف عطف ولا يصح للإستئناف وكذا العكس ومرة أخرى يكون جامعاً للعطف والإستئناف في ذات المحل والجملة .
واللام في[وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ]قيل أنها لام القسم وموطئة للقسم والمختار أن اللام هنا لا تدل على القسم , خاصة وأن لام القسم يصاحبها غالباً معنى التعجب , والأقرب أنها للإبتداء والتأكيد , ومن النحويين من أوصل معاني اللام إلى ثلاثين , ولم يذكر فيها التأكيد .
إن في [لَئِنْ] حرف شرط جازم .
قتلتم : فعل ماض مبني للمجهول مبني على السكون في محل جزم فعل شرط ، والضمير (تم) نائب فاعل .
في سبيل الله : في : حرف جر .
سبيل : اسم مجرور , وعلامة جره الكسرة الظاهرة تحت آخره متعلق بالفعل (قتل) وهو مضاف ولفظ الجلالة في محل مضاف إليه مجرور .
أو متم : أو حرف عطف .
متّم : فعل مبني للمجهول معتل بالحذف لإلتقاء الساكنين , والضمير (تم) نائب فاعل وأصله موتّم .
لمغفرة : قيل اللام واقعة في جواب القسم .
مغفرة : مبتدأ مرفوع , وعلامة رفعة الضمة الظاهرة على آخره .
ويمكن أن تكون الجملة واللام المتصلة بها في محل جزم جواب الشرط , على المختار بأن اللام لا تدل على القسم.
من الله : جار ومجرور متعلق بمحذوف صفة لمغفرة .
ورحمة : الواو : حرف عطف .
رحمة : اسم معطوف على مغفرة مرفوع بالضمة .
خير : خبر مرفوع , وعلامة رفعة الضمة الظاهرة على آخره .
مما يجمعون : (مما) مركب من كلمتين :
الأولى : من : حرف جر .
الثانية : ما : اسم موصول ، مبني في محل جر متعلق بخير .
يجمعون فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعة ثبوت النون , لأنه من الأفعال الخمسة .
الواو : فاعل .
والسبيل لغة هو الطريق ، ويذكر ويؤنث , والتأنيث هو الغالب ، قال تعالى [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ] ( ) .
وتبين الآية أعلاه أن الدعوة إلى الله من مصاديق لفظ [سَبِيلِ اللَّهِ]الذي تذكره آية البحث , ليكون من معانيه نيل المسلم مرتبة المغفرة والرحمة التي تذكرها آية البحث لأنه يدعو إلى الله بإسلامه وأدائه للعبادات والفرائض وإجتنابه المعاصي بلحاظ المعنى الأعم لسبيل الله وأنه يقع على كل عمل يؤتى به بقصد القربة إلى الله أو يكون طريقاً ووسيلة للتقرب إلى الله , ومنه أداء الفرائض والنوافل ووجوه الصالحات.
وقد إعتنى الفقهاء كثيراً بلفظ ( في سبيل الله ) ولكن بخصوص الزكاة ومستحقيها في قوله تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ]( )، وفيه أقوال :
الأول : المراد بهذا السهم وصرفه الغزاة في سبيل الله ، وهذا القول هو المشهور , لقوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ) , ولأن وجوه الصرف الأخرى ذكرت في آية الصدقات أعلاه .
الثاني : التفقه في نصرة دين الله , وقتال أعداء الله , ونسبه ابن جرير الطبري إلى أهل التأويل .
الثالث : الغزاة والمرابطون ، يعطون من الزكاة وإن كانوا أغنياء وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لعامل عليها ، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم ، أو غاز في سبيل الله ، أو مسكين تصدق عليه فأهدى منها الغني) ( ).
الرابع : الذين يقصدون حج بيت الله الحرام .
والمختار أن المراد من( في سبيل الله ) في آية الزكاة أعم من الغازي والمرابط خاصة وهناك أوقات وسنوات ليس فيها قتال أو مرابطة ، فيشمل مقدمات الغزو وأسباب تثبيت الإيمان وبناء المساجد وطبع الكتب الإسلامية النافعة , وجذب الناس للإيمان .
وقيل لا يعطى الغازي من الزكاة إلا إذا كان فقيراً , وإعطاؤه منها زيادة في النص والزيادة على النص نسخ )، ولكن ليس من زيادة على النص بأعطاء الغازي الغني مع الفقير بالإضافة أن الزيادة في التفسير والتأويل ليس نسخاً لأن النسخ تغيير وتبيدل حكم محل حكم آخر .
ومنهم من حصر سهم في سبيل الله من آية الصدقات بالجهاد ومقدماته ومستلزماته وما يجب للمجاهد من السلاح والعتاد ، ولا يصح صرفه في غيره إلا عند تعذره , فحينئذ هناك وجهان :
الأول : يرد إلى الأصناف السبعة الأخرى التي تذكرها آية الصدقات .
الثاني : يصرف في وجوه الخير مطلقاً .
والمختار أن سهم [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] عام في وجوه الدعوة إلى الله وتعظيم شعائره ، وأن الله عز وجل جعل للمكلف صاحب الزكاة شاناً في النظر في تسخير الزكاة في موارد جلب المصلحة ودفع المفسدة ومراعاة حال المسلمين وعموم أهل المصر والبلد ، وأحوال المجتمعات عامة خاصة مع التداخل بين البلدان والدول في هذا الزمان ، وطرو لفظ المواطنة والقوانين الوضعية , ونفاذ أحكامها وقواعد التقية المترشحة عن التباين في القوة والسلطان .
وتكون الدعوة بالبنان وهو القتال , ودعوة بالبيان وهو اللسان بالقيام بالتبليغ ، ومنه الدعوة بالإنفاق في سبيل الله بما يؤدي إلى نفع الإسلام وقد يكون هذا النفع أكثر من نفع السيف والقتال ، لذا ورد قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
(وعن عبد الله بن عمرو ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستأذنه في الجهاد ، فقال : أحي والداك ، قال : نعم، قال : ففيهما فجاهد)( ).
سياق الآيات
الصلة بين هذه الآية والآية السابقة [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( ) وفيها مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا ولئن قتلتم في سبيل الله ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : من إعجاز القرآن فواصل الآيات , وهي الكلمات التي تأتي في آخر الآية وتكون غالباً كالقانون الذي يتصف بالإستدامة وتجلي رشحات الإرادة التكوينية .
ولكن هذه الكلمات لا تعني إنتهاء موضوع الآية ودلالاتها، فقد بدأت الآية السابقة بالنداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]ويحتمل في موضوعه وجوهاً :
الأول : تغشي وإتصال موضوع النداء لمضامين الآية كلها .
الثاني : إرادة شطر وجزء من الآية التي تبدأ بنداء الإيمان .
الثالث : تعلق النداء بأكثر من آية .
الرابع : رجحان شمول النداء لمضامين الآية السابقة له .
والمختار هو الثالث والرابع إلا مع الدليل على إنقطاع موضوع النداء ، وتتصل آية البحث بمضامين النداء في الآية السابقة وهو الذي يتجلى في نظم الآيتين والصلة بينهما موضوعاً وحكماً ودلالة كما نبين شذرات منه في هذا التفسير .
فان قلت إبتدأت آية البحث بحرف الواو , وفيه دلالة على العطف وبداية موضوع والأصل هو عدم وجود حرف العطف والإستئناف بين النداء وموضوعه كما في الآية السابقة التي لم تقل يا أيها الذين آمنوا ولا تكونوا ) .
والجواب ورد العطف بين أجزاء وجمل الآية الكريمة ، مثلما تضمن معنى الإتصال مع نداء الإيمان .
الوجه الثاني : من معاني الجمع بين نداء الإيمان وقوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] أمور :
أولاً : بيان قانون وهو أن المسلم قد يضحي بنفسه دفاعاً في سوح المعارك قربة إلى الله .
ثانياً : لمّا شهدت الآية السابقة للمسلمين بالإيمان ، ونزل النداء والإكرام لهم من عند الله ، جاءت هذه الآية ببيان خصائص القتل في سبيل الله ليكون إكراماً إضافياً لهم .
ثالثاً : من معاني الإيمان الذي يتضمنه النداء [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]مسائل :
الأولى : الجهاد في سبيل الله .
الثانية : ملاقاة الذين كفروا في سوح المعارك ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ) .
الثالثة : إحتمال القتل في القتال مع الذين كفروا وفيه أطراف :
الأول : القاتل .
الثاني : المقتول .
الثالث : القتل .
وإذ يعدم المقتول فان القاتل قد يقتل آخر وقد يقُتل هو نفسه قبل إنتهاء المعركة أو بعدها ، ولا يغادر الدنيا إلا بالموت على الفراش ، لذا فمن إعجاز آية البحث ذكرها للقتل والموت مجتمعين ومتفرقين ، ليدل قوله تعالى [أَوْ مُتُّمْ] على حقيقة وهي أن المسلمين أيضاً يقتلون الذين كفروا في ميدان المعركة ، وفيه إنذار للذين كفروا بأن المسلم يقتل من الكفار إلى أن يقتل أو يموت.
من معاني الجمع بين نداء الإيمان ومضمون أول آية البحث وهو القتل في سبيل الله الإخبار بان المسلم يقتل في سبيل الله ودفاعاً عن الإسلام , وفيه مسائل :
الأولى : لم يغادر المسلم الدنيا إلا وهو على الإيمان .
الثانية : حضور نداء الإيمان إلى المسلم الشهيد ساعة قتله في سبيل الله ، وهو من معاني الإحتضار بالنسبة للشهيد والمسلم مطلقاً ، قال تعالى [حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ] ( ).فكما يحضر الملائكة والأهل الإنسان ساعة موته فان نداء الإيمان يحضر حينئذ عند المسلم .
وفيه تخفيف من وطأة الموت، وبرزخ دون الإفتتان بالشيطان ساعة الموت وأنيس من مفارقة الأحبة , وحاله في الدنيا، ليكون نداء الإيمان مصاحباً له في بدايات ولوجه عالم الآخرة، وضياء ينير له ظلمة القبر، وسيأتي مزيد بيان في الجزء التالي( ).
الثالثة : دعوة المسلمين لتعاهد الإيمان ، وعدم ترك منازله التي تتجلى فيها التقوى والصلاح .
الرابعة : بشارة سلامة المسلم من الإرتداد , وبقائه على الإيمان إلى أن يقتل أو يموت ليفيد الجمع بين الآيتين عصمة المسلمين من طاعة الذين كفروا الذي ورد النهي عنه في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ).
الخامسة : بعث السكينة في نفوس المسلمين عند الموت والقتل في سبيل الله بأنهم على الحق والهدى .
السادسة : سلامة المسلمين في نفوسهم ومجتمعاتهم من الشك وأسباب الريب.
ويدل عطف آية البحث على الآية السابقة وإتصال موضوعها بنداء الإيمان في أول الآية السابقة على أن نداء الإيمان لم يأت بذاته ولذاته فقط بل ينزل ومعه مسائل :
الأولى : التأديب والتعليم للمسلمين .
الثانية : إرتقاء المسلمين في المعارف الإسلامية .
الثالثة : سلامة المسلمين من الخسارة عند خوض القتال دفاعاً عن الإسلام .
الرابعة : البشارة للمسلمين بحسن العاقبة ، وتلقي شآبيب الرحمة من عند الله عز وجل .
الوجه الرابع : إبتدأت الآية السابقة بصيغة الإيمان على نحو الإطلاق والعموم بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] لبيان إنبساط وتوجه هذا النداء إلى جميع المسلمين والمسلمات.
أما هذه الآية فقد ورد فيها موضوع القتل على نحو الشرط والترديد بحرف العطف أو بقوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ومن خصائص الخطاب في الآيتين توجهه للمسلمين والمسلمات لبعثهم على التفاني في مرضاة الله ، والإجتهاد في طاعته وعدم الإلتفات إلى زيغ الذين كفروا ومغالطات المنافقين وإجتماعهم على الكيد للإسلام والمكر بالمسلمين ، وإرادة قعودهم في المدينة .
وذات توجه النداء والخطاب القرآني تكليف ومدد وعون وتعضيد من غير أن يلزم الدور بينهما فحالما يسمع المسلم النداء القرآني يعلم أنه تكليف بذاته ويأتي بعده ويتفرع عنه التكليف أمراً أو نهياً , وهذا العلم مرتبة في الفقاهة وإرتقاء في العلم وطريق إلى الصلاح وبرزخ دون الغفلة ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ).
وقد فرض الله الجهاد على المسلمين في السنة الثانية للهجرة بعد أن إشتد هجوم الذين كفروا على المدينة ، وأصروا علانية على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والإجهاز على الإسلام قال تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) ( ).
والجهاد فرض كفاية ، إذا قام به بعض المسلمين وبما يكفي لزجر الأعداء وحفظ بيضة الإسلام سقط عن الباقين ، ولا إثم عليهم ، قال تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ] ( ).
وورد عن أبي سعيد الخدري :أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث إلى بني لحيان ليخرج من كل رجلين رجل ، ثم قال للقاعد : أيكم خلف الخارج في أهله فله مثل أجره) ( ) .
أي أن الذي يبقى في المدينة مولا يخرج للنفير مناوبة يأتيه الثواب بمثل ما يأتي المجاهد الخارج في الغزو من غير ان ينقص من ثوابه شيء وفيه إغاظة للذين كفروا والمنافقين بأن المسلم سواء كان غازياً أو قاعداً فان سحائب الثواب تترى عليه لتكون كنوزاً من الحسنات التي لا تفارقه سواء في الدنيا أو الآخرة ، مع التباين الرتبي في الأجر ، قال تعالى [فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا]( )، ومن وجوه تقدير الآية :
الأول : يا أيها الذين آمنوا بالله لئن قتلتم في سبيل الله ) لبيان قانون وهو الحسن الذاتي للقتل دفاعاً في سبيل الله , من جهات :
الأولى : إنه رشحة من رشحات الإيمان بالله .
الثانية : إنه شاهد على صدق الإيمان .
الثالثة : القتل في سبيل الله خير توديع للحياة الدنيا , من المودِع بالكسر والمودَع بالفتح .
الرابعة : فيه بشارة الخلود في النعيم لأن القتل رجوع مبارك إلى الله عز وجل .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بنبوة محمد لئن قتلتم في سبيل الله) بلحاظ أن النبي محمداً رسول من عند الله لهداية الناس إلى سواء السبيل وأدائهم الفرائض والواجبات العبادية وإجتنابهم المعاصي والسيئات .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا باليوم الآخر لئن قتلتم في سبيل الله فالى النعيم ترجعون وفي الجنان تخلدون ، إذ أن القتل إنقطاع لحياة الإنسان في الأرض وخاتمة لسنن الإبتلاء فيها بخاتمة كريمة تترشح بركاتها على الحي والميت .
وقد أنكر المشركون الحياة الآخرة [وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ] ( ) فجاءت آية البحث بالترغيب بالشهادة لأنها أسمى تأكيد عملي للتصديق بالعالم الآخر.
المسألة الثانية : من وجوه تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا لئن متم لمغفرة من الله .. ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : من الإعجاز القرآني إتصال وتجدد الفيوضات المترشحة عن نداء الإيمان الذي يخاطب الله به المسلمين والمسلمات ليصاحبهم في الحياة الدنيا فيزين الأبدان ويهذب الأقوال ويصلح النفوس .
فمع مجئ آية البحث بخصوص القتل أو الموت الخاص بالمسلمين أنفسهم إلا أنها تبعث السكينة في نفوسهم من جهات :
الأولى : إبتداء الآية السابقة بنداء الإيمان .
الثانية : إرادة عموم المسلمين في الخطاب في هذه الآية الكريمة .
الثالثة : تضمن آية البحث الرد على الذين كفروا بما يفيد إسكاتهم.
الرابعة : البشارة بالعفو والمغفرة للمسلمين ، وحرمان الذين كفروا منها ، إذ أن محاولات ثنيهم المؤمنين عن الخروج إلى ميادين الدفاع من أسباب الإثم وحمل الإوزار على ظهورهم .
الخامسة : ذات نداء الإيمان باعث للسكينة والثقة في نفوس المؤمنين.
السادسة : مجيء نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]على نحو القطع والثبوت كما في آية السياق ، أما مسألة القتل فوردت على نحو الشرط .
الوجه الثاني : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار البشارة لعامة الناس ، وهو من أسرار الخلافة في الأرض , ولكن الذين كفروا جحدوا ومنعوا عن أنفسهم هذه النعمة ، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار .
ولم يقف الأمر عند هذا الحجب فتوجهت لهم الإنذارات من جهات :
الأولى : الإنذار في الآيات الكونية , وكل آية تبعث على الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا .
وعن ابن عباس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما فتح الله على عاد من الريح إلا موضع الخاتم أرسلت عليهم فحملت البدو إلى الحضر فلما رآها أهل الحضر { قالوا هذا عارض ممطرنا }( ) مستقبل أوديتنا وكان أهل البوادي فيها فألقي أهل البادية على أهل الحاضرة حتى هلكوا ، قال : عتت على خزَّانِها حتى خرجت من خلال الأبواب) ( ) .
و(كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به) ( ).
لتكون الآيات الكونية والنعم على وجوه :
الأول : تأتي الآية الكونية رحمة ونعمة فتصيب الذين آمنوا وتحجب عن الذين كفروا .
الثاني : إصابة الآية الكونية ذات صبغة الرحمة البر والفاجر من الناس .
الثالث : حدوث الآية الكونية والبلاء الخاص بالذين كفورا وكذبوا بالرسل ، قال تعالى في بيان سوء عاقبتهم وشواهد أطلالهم وعذاب قوم لوط ونزول مطر السوء عليهم [وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه إشارتها إلى عالم الفضائيات (وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال : « نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام غزوة تبوك بالحجر عند بيوت ثمود ، فاستقى الناس من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود ، وعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم ، فأمرهم بإهراق القدور . وعلفوا العجين الإِبل ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا فقال : إني أخشى أن يصيبكم مثل الذي أصابهم ، فلا تدخلوا عليهم .
وعنه : أن الناس لما نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الحجر أرض ثمود ، استقوا من أبيارها وعجنوا به العجين . فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهرقوا ما استقوا ويعلفوا الإِبل العجين ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت ترد الناقة )( ).
الرابع : الآيات الكونية المتجددة والمتغيرة , التي تبين بديع صنع الله عز وجل , وأنه سبحانه [لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) وهو ملك قدرة وتصرف مطلق.
الخامس : تجلي شذرات من بدائع وذخائر أقطار السموات والأرض لوجوه :
الأول : بيان الإطلاق في الإرادة التكوينية لله عز وجل .
الثاني : إنذار وتخويف الناس وجذبهم إلى منازل الإيمان ،قال تعالى [هَذَا نَذِيرٌ مِنْ النُّذُرِ الْأُولَى] ( ).
الثالث : زيادة إيمان المسلمين .
الرابع : التذكير بعالم الآخرة .
الخامس : بيان التشابه بين أفراد الزمان الطولية في الحياة الدنيا ، وإتصافها بخصوصية وهي توالي وتعاقب الآيات فيها .
الثانية : بيان الأنبياء والكتب السماوية حقيقة مغادرة الإنسان الدنيا وتركه قهراً ما بنى فيها ، ولا يصاحب الإنسان عند مغادرته الدنيا إلا عمله ، قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ).
الثالثة : نزول آيات القرآن بالتخويف والوعيد , ومن إعجاز القرآن عدم إنحصار إنذاراته بالحياة الآخرة ، فتشمل الحياة الدنيا .
الرابعة : تجلي الإنذارات للإنسان ممن حوله من الأهل والجيران وغيرهم، وحدوث غير المألوف من غير علة ظاهرة، فيفاجئ بالموت إنساناً يعرفه من غير مرض أو هرم، ولا يجد الإنسان وهو طفل وصبي تفسيراً لظاهرة غياب أحد ذويه بالموت، وعدم عودته على نحو القطع وينكر ويتدبر فيها بذهول وبمقدار مداركه، ولكنه عندما يكبر يقل تفكره فيها مع أنه لم يجد لها تعليلاً، والأصل أن يتعظ منها، ويختص الإتعاظ بها بالمؤمنين والذين يقرون بأن الموت حق وأن اليوم الآخر والحساب والجزاء فيه حق وحتم .
وعن عبد الله بن عمر قال : فجاء فتى من الأنصار ، فسلم ، ثم جلس ، فقال : يا رسول الله ، أي المؤمنين أفضل ؟ فقال : أحسنهم خلقا قال : فأي المؤمنين أكيس ، قال : أكثرهم للموت ذكرا ، وأحسنهم استعدادا قبل أن ينزل به ، أولئك هم الأكياس ( ).
الخامسة : رؤية الإنسان الإنذارات في نفسه وبدنه بما يبعثه على اللجوء إلى الله عز وجل وسؤال الأمن والأمان منه سبحانه وفي التنزيل[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
الوجه الثالث : نزلت الآية السابقة بنداء الإيمان لتتوالى معه وتتعقبه النعم الإلهية من عند الله لأنه مالك السموات والأرض وهو الذي يتعاهد الإيمان ويحفظ المؤمنين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) فان قلت هناك تباين وتضاد بين هذا التعاهد وبين قتل المؤمنين في سبيل الله ، والجواب ليس من تضاد بينهما من جهات :
الأولى : مجئ آية البحث بصيغة الجملة الشرطية [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ] والمشروط قد يقع أو لا يقع .
الثانية : دعوة المسلمين للدعاء والمسألة من الله لتحقيق النصر على الذين كفروا من غير وقوع القتل للمؤمنين .
ومن الإعجاز في السنة الدفاعية في المقام إنقطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدعاء في ليلة معركة بدر ويوم أحد وغيره مع بيان وإعلان مضامين الدعاء أي أنه لم يكن يدعو الله عز وجل بالإخفات والسر ، وإن كان الله عز وجل [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى] ( ) ولكنه كان يدعو علانية لتأديب المسلمين وإرشادهم إلى سلاح الدعاء في الرخاء والشدة والسراء والضراء ,
والدعاء نوع تحد بين المسلمين والذين كفروا في معركة بدر ، وفي حديث طويل عن ابن شهاب وموسى بن عقبة قالا (فلما اصطف القوم قال أبو جهل : اللهم أولانا بالحق فانصره . ورفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه فقال : يا رب إن تهلك هذه العصابة في الأرض فلن تعبد في الأرض أبداً . فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب فأرم به وجوههم ، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة فولوا مدبرين)( ).
ولم يرق هذا التحدي إلى المباهلة وهي الدعاء على الظالم من الفريقين ، كما في حديث المباهلة مع وفد نجران .
الثالثة : إتصاف القتل في سبيل الله بأنه حياة من جهات :
الأولى : إنه حياة لذات المقتول فانه حي عند الله ، لذا يسمى الشهيد , بلحاظ أنه حاضر عند الله عز وجل ، ومن خصائص أهل البيت أنهم يغبطون الشهيد ، ويتمنون لو أنهم غادروا الدنيا بالقتل في سبيل الله .
(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول الله : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك فيقول أي رب خير منزل فيقول سل وتمن , فيقول أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات لما يرى من فضل الشهادة) ( ) .
ولقد جعل الله عز وجل الدنيا دار البشارات وتحقيق الرغائب للذين آمنوا وأخلصوا الطاعة له سبحانه، لذا ورد عن سهل بن حنيف أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من سأل الله الشهادة بصدق بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه) ( ) .
كما وردت النصوص بأن مرتبة الشهادة أعم من أن تختص بالذي يقتل في سبيل الله عز وجل , إذ ورد الحديث النبوي بنيل ثواب مرتبة الشهادة لكل من :
الأول : المطعون، وهو الذي يموت بوباء الطاعون، يقال طعن الرجل أي أصابه الطاعون، كما يقال طعن في فخذه أي أصيب ويقال: طعن في نسبه أو حكمه أي عابه وذمه، وفي حديث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذكر فيه الطاعون على نحو خاص قال : الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ( ) .
وهل يختص الحديث بذات وباء الطاعون أم يشمل كل مرض وبائي عام يغزو الناس وينتقل بالعدوى بينهم , الجواب هو الثاني وهو من رحمة الله التي تذكرها آية البحث بقوله تعالى[وَرَحْمَةٌ] إذ أن الذي يصاب بالوباء يموت على الفراش وليس قتلاً , فجاءت آية البحث على نحو الترديد بين القتل والموت.
الثاني : المبطون، وهو المسلم الذي يموت من علة تصيب البطن، وهو الذي يصاب بداء في بطنه كالإسهال والذي يسمى داء البطن، والمراد أعم إذ يشمل الأمراض التي ظهرت في هذا الزمان ومنها السرطان ، وعدم حصر إنطباق معنى المبطون على خصوص الذي يصاب بسرطان البنكرياس والكبد بل يشمل أنواعه مطلقاً ، وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم البطن لإتصال أعضاء البدن كلها بها ولتعلق هذه الأمراض وأسبابها بالأكل والشرب .
وقد أثبت العلم الحديث أن منطقة البطن رخوة يصعب العلاج معها، نسأل الله عز وجل أن يقّيض برحمته التي يذكرها في آية البحث علاجاً للأمراض المستعصية , فيقرأ المؤمنون من الأجيال اللاحقة هذا الفصل من التفسير ويتدبرون في العناء الذي يلاقيه أهل هذا الزمان من الأمراض المستعصية، وهناك أمراض سهلة العلاج في زماننا قد كانت أوبئة في أزمنة سابقة، وفيه مناسبة للدعاء والمسألة من عند الله بحضور العلاج وسبل الشفاء وهو الذي يدل عليه قوله تعالى[وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ).
إذ تدل الفاء في الآية أعلاه على عدم تخلف العلاج والشفاء عن الإصابة بالمرض ولكن أعمال الناس وإصرار الذين كفروا على إرتكاب الآثام يحجب سرعة الشفاء ويزول هذا الحجب بالتقوى والدعاء وعدم الإصغاء للذين كفروا، وهو الذي تدل عليه آية البحث.
الثالث : الغريق وهو الذي يموت غرقاً في البحر أو النهر .
الرابع : صاحب الهدم الذي يسقط عليه الجدار أو البناء فجأة, وهل يلحق به أسباب الموت المفاجئة في التقنية الحديثة مثل الصعق بالتيار الكهربائي وسقوط الطائرات وحوادث السيارات والقطارات ،الجواب نعم الحالات التي ذكرت في الحديث من باب المثال والبيان عن موت الفجأة بأمر قهري عارض .
الخامس : المرأة الحامل والتي تموت بالطلق ، إذ ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الشهداء : المرأة التي تموت بجُمع) بضم الجيم أو فتحها أو كسرها والضم هو الأفصح والأشهر ، ومن معناها وجوه :
الأول : المرأة الحامل لأنها تجمع معها ولدها في بطنها .
الثاني : المرأة التي تموت وولدها في بطنها قد تم خلقه .
الثالث : المرأة وهي في حال النفاس بعد أن ألقت ولدها .
الرابع : العذراء التي لم يمسها الرجال .
الخامس : البنت قبل أن تحيض وتطمث .
والصحيح هو الأول ويلحق به الثاني والثالث .
وعن جابر بن عتيك ( أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ لَمَّا مَاتَ قَالَتْ ابْنَتُهُ وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ شَهِيدًا أَمَا إِنَّكَ كُنْتَ قَدْ قَضَيْتَ جِهَازَكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْقَعَ أَجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ وَمَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ .
قَالُوا قَتْلٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ وَصَاحِبُ الْحَرْقِ شَهِيدٌ وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدَةٌ) ( ).
وقد يدخل القاتل والمقتول الجنة في آية من بديع صنع الله عز وجل وخلافة الإنسان في الأرض ، إذ يقتل الكافر المؤمن فيدخل المؤمن الجنة ، ثم يتوب الكافر ويحسن إسلامه ويبذل الوسع في الجهاد ويقُتل في سبيل الله أو يموت فيلحق بصاحبه بالجنة ، وفيه نص عن النبي( ) وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ] ( ).
الثانية : قتل المسلم في سبيل الله إحياء للدين وإماتة للباطل , وتثبيت لمفاهيم الإيمان في النفوس ، وفي التنزيل [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ] ( ) لبيان أن الكفر والضلالة موت ،وأن الهداية والإيمان حياة .
الثالثة : بيان آية البحث لنزول أسباب الحياة وتفضل الله عز وجل بالعفو والمغفرة وتغشي الرحمة للمسلمين عند إشتداد إصرهم لإفادة المعنى الأعم للآية ، كما يأتي بيانه في باب التفسير .
الرابعة : قتل المؤمن في سبيل الله حياة لأخوته المؤمنين , وسبيل إلى نجاتهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) بلحاظ أن إستشهاد أحدهم واقية للآخرين من وجوه :
الأول : قتل المؤمن سلامة للمؤمنين من القتل .
الثاني : تضحية المسلم بنفسه في سبيل الله واقية للمؤمنين من مفارقة منازل الإيمان ، قال تعالى في التحذير من الكافرين [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا] ( ).
الثالث : من معاني ودلالات بذل النفس في سبيل الله الذب عن المؤمنين والحرص على تثبيت سنن الهداية والإيمان في الأرض ، وزجر الذين كفروا عن إعادة الكرة في الهجوم على المسلمين وثغور الإسلام، لذا يجب النظر إلى كثرة شهداء الإسلام في معركة أحد من جهات متعددة ، وعدم حصر الأمر بالخسارة والمصيبة التي نزلت بالمسلمين فلا غرابة أن ترى المسلمين رجالاً ونساءً فرحين بعودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سالماً من المعركة .
لقد بعثت كثرة قتلى المسلمين في معركة أحد الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ، وهو من أسرار ترددهم في إقتحام المدينة في معركة الخندق مع محاصرتهم لها أكثر من عشرين ليلة .
وفي قوله تعالى [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ] ( ) (وعن قتادة في الأية أعلاه قال : أصيبوا يوم أحد قتل منهم سبعون يومئذ ، وأصابوا مثليها يوم بدر قتلوا من المشركين سبعين وأسروا سبعين[قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ]( )، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه يوم أحد حين قدم أبو سفيان والمشركون :
إنا في جنة حصينة يعني بذلك المدينة فدعوا القوم يدخلوا علينا نقاتلهم فقال له أناس من الأنصار : إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة ، وقد كنا نمنع من الغزو في الجاهلية فبالإسلام أحق أن يمتنع منه ، فأبرز بنا إلى القوم .
فانطلق فلبس لأمته فتلاوم القوم فقالوا : عرض نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمر وعرضتم بغيره ، اذهب يا حمزة فقل له امرنا لأمرك تبع . فأتى حمزة فقال له . فقال : إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يناجز ، وإنه ستكون فيكم مصيبة . قالوا : يا نبي الله خاصة أو عامة؟ قال : سترونها) ( ).
وفي قوله تعالى [قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ] ورد عن ابن عباس أي (عقوبة بمعصيتكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قال : لا تتبعوهم) ( ) , ولا دليل على معنى معاقبة المومنين .
ليكون من معاني المعصية في قوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ] ( ) أن من المعصية في المقام مطاردة المسلمين للذين كفروا يوم أحد في بدايات المعركة .
لقد قتُل سبعون رجلاً من كفار مكة يوم معركة بدر فأصابهم الخوف والفزع ولحقهم الذل ، وأصيب سبعون من المسلمين وإنتقلوا إلى جوار الله شهداء فأزداد أيمان المسلمين [وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ] ( )، ووطنوا أنفسهم على طلب النصر أو الشهادة مما زاد في خوف وفزع الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ) .
ليكون من معاني وتقدير الآية أعلاه : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بكثرة قتلى المسلمين يوم أحد , لأنه يدل على أمور :
أولاً : لقاء المسلمين للذين كفروا في ميادين القتال .
ثانياً : إنتفاء الفشل والجبن والذل عند المسلمين .
لذا ورد قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( )، ونزلت الآية أعلاه بخصوص واقعة أحد , ولكن موضوعها وولاية الله أعم .
ثالثاً : دفاع المسلمين عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنفسهم ودمائهم .
رابعاً : إستحضار المسلمين قصد القربة في قتالهم للذين كفروا .
خامساً : إستعداد المسلمين لقتال الذين كفروا مرة أخرى ، وهو الذي تجلى في معركة الخندق بثبات المسلمين حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف الخندق وطاعتهم لأوامره التي تجلت من البداية بقيامهم بحفر الخندق والإسراع فيه ، وهل هذا الإسراع من مصاديق قوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ) , الجواب نعم لما فيه من الأجر والثواب .
(وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لابد له منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويستأذنه في اللحوق بها , فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان عليه من عمله رغبة في الخير واحتسابا به) ( ).
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا رحمة الله خير مما يجمعون ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : يمكن تأسيس قانون وهو أن كل نداء بصيغة الإيمان في القرآن تأسيس لقوانين من البشارة من جهات :
الأولى : إنه بشارة للمسلمين في الحياة الدنيا .
الثانية : فيه بشارة للمسلمين لما يأتيهم من شآبيب الرحمة فيحق للمسلمين والمسلمات التطلع إلى رحمة الله مع كل نداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ويحتمل في أوانه وجوهاً :
الأول : التطلع لرحمة الله عند نزول نداء الإيمان من السماء ليكون عدد أفراد الرجاء في المقام بعدد ورود نداء الإيمان في القرآن تسعاً وثمانين مرة .
الثاني : بقاء نداء الإيمان بين الناس وبصيغة القرآنية باب لنزول الرحمة من عند الله ، ليفيد الحث على حفظ هذا النداء وآيات القرآن وتعاهدها بالكتابة والتلاوة والعمل .
الثالث : نزول رحمة الله مع كل عمل للمسلمين بمضامين آيات النداء كما في الآية السابقة وما فيها من الزجر عن الإتصاف بسجايا الذين كفروا ومحاولتهم صدّ المؤمنين عن الجهاد , فكلما عمل المسلمون بما في آيات النداء من الأوامر والنواهي تنزل عليهم رحمة الله عز وجل، وهو على أقسام :
أولاً : مصاحبة الرحمة الإلهية لنزول آية النداء ، فمن فضل الله عز وجل نزول النعم وأسباب الرحمة مع الآية القرآنية ، وهو الرحمة والنعم التي تنزل مع نداءات الإيمان متحدة أم متعددة , الجواب هو الثاني فمع نزول أي نداء من كلام الله عز وجل وخطاب للمسلمين تنزل مصاديق متعددة من الرحمة .
ثانياً : تلاوة المسلمين لآيات النداء وسيلة لجلب المصلحة ونزول الرحمة ودفع البلاء .
ثالثاًٍ : الملازمة بين عمل عموم المسلمين بمضامين آيات النداء وبين نزول الرحمة وهو على شعبتين :
الأولى : إرادة القيد ونوع الشرط في المقام , فلا تأتي الرحمة الخاصة بنداء الإيمان للمسلمين إلا عند عملهم مجتمعين ومتفرقين بمضامين آيات النداء .
الثانية : نزول شآبيب الرحمة على نحو الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة , فتنزل الرحمة الخاصة والمتعلقة بنداء الإيمان بقدر عمل المسلمين بمضامينها ، وهو على أقسام أيضاً :
الأول : نزول الرحمة بمقدارها من غير زيادة .
الثاني : مضاعفة الرحمة النازلة من عند الله بلحاظ قوله تعالى[مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا] ( ).
الثالث : نزول الرحمة من عند الله عند تلاوة المسلم لآية النداء ، وهو على قسمين :
الأول : قراءة المسلم آية النداء أثناء الصلاة .
الثاني : تلاوة المسلم لآية النداء خارج الصلاة .
أما بالنسبة للوجه الأول أعلاه فالجواب نعم ، ولكنه لا يعني حصر الرحمة الخاصة بالنداء بأوان نزول آية النداء .
وأما الثاني فنعم , لتنزل رحمة الله من وجوه :
الأول : الرحمة مقدمة لعمل المسلمين بمضامين آية النداء .
الثاني : مصاحبة رحمة الله لعمل المسلمين بسنن وأحكام آية النداء.
الثالث : نزول الرحمة من عند الله ثواباً للمسلمين على العمل بمضامين آية النداء .
وأما الشعبة الأولى من الوجه الثاني فلا دليل على الشرطية في المقام ، أما بالنسبة للقسمين أعلاه فكلاهما صحيح , والأصل هو القسم الأول ، وهومن فضل الله عز وجل على المسلمين ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
أم أن القدر المتيقن في المقام هو تعلق التفضيل بفعل وعمل المسلمين ، الجواب هو الأول ، ومن خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ]هدايتهم من عند الله لسواء السبيل وإعانتهم على الفعل الصالح والتوقي من فعل السيئات .
الوجه الثاني : من مصاديق الجمع بين الآيتين وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا بالقتل في سبيل الله .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا بانتفاء الملازمة بين دخول الإسلام والقتل.
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا بأن إخوانهم الذين قتلوا في معارك الإسلام أحياء عند الله .
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا قد يقع القتل بسبب دخول الإسلام والثبات على الإيمان .
خامساً : يا أيها الذين آمنوا لن يترككم الذين كفروا فسيحاربونكم ويقتلون منكم ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ] ( ).
سادساً : يا أيها الذين آمنوا بأن قتلهم طريق لبناء صرح الإسلام .
سابعاً : يا أيها الذين آمنوا إن الله لن يذر الكافرين يفسدون في الأرض .
ثامناً : يا أيها الذين آمنوا إجتنبوا الإقتتال بينكم ، ليكن الذي يقتل منكم إنما يقتل في سبيل الله وعلى أيدي الكافرين .
وفي ولدي آدم ورد عن ابن عباس أنه قال (كان من شأن ابني آدم أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه ، وإنما كان القربان يقربه الرجل ، فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا : لو قربنا قرباناً ، وكان أحدهما راعياً والآخر حراثاً ، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه واسمنها ، وقرب الآخر بعض زرعه .
فجاءت النار فنزلت فأكلت الشاة وتركت الزرع ، وإن ابن آدم قال لأخيه : أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قرباناً فتقبل منك وردَّ عليَّ ؟ فلا والله لا ينظر الناس إليّ وإليك وأنت خير مني ، فقال : لأقتلنك , فقال له أخوه : ما ذنبي { إنما يتقبل الله من المتقين ، لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك }( ) لا أنا مستنصر ولأمسكن يدي عنك) ( ).
تاسعاً : يا أيها الذين آمنوا بأن إخوانكم الذين قتلوا في معركة أحد إنما قتلوا في سبيل الله وطلب مرضاته .
عاشراً : يا أيها الذين آمنوا لا تندموا أو تأسفوا على قتل بعض منكم في سبيل الله , وهو من الرد على الكفار الذين كانوا يصدونهم عن الخروج للقتال.
الحادي عشر : يا أيها الذين آمنوا إسألوا الله النجاة من القتل وإن كان في سبيله تعالى ، فبالدعاء يرزق الله عز وجل العبد العز والغبطة ومرتبة الشهادة وهو جالس في بيته ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) .
ومن مفاهيم تأخر الموت على القتل في آية البحث .
الثاني عشر :التزكية من عند الله عز وجل للذين يقتلون من المسلمين في سوح المعارك .
الثالث عشر : تفضل الله عز وجل بتسمية الذين يقتلون من المسلمين أن قتلهم في سبيل الله ليخرج بالتخصيص الذي يقتل بسبب أمور دنيوية وكأن قوله تعالى [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( )، على وجوه :
الأول : المال زينة الحياة .
الثاني : البنون زينة الحياة .
الثالث : المال والبنون مجتمعين زينة الحياة الدنيا .
وقد يحصل تعارض بينهما ، وهو من خصائص الدنيا ومباهجها ، فتأتي آية البحث لتنهى عن القتل بسبب المال , وتبين أن الصبر هو خير، وهو وسيلة لحفظ المؤمن ليسخر نفسه في مرضاة الله، ويطلب الشهادة في سبيله عند مداهمة الكفار لثغور وبلاد المسلمين.
لقد سعى الذين كفروا بإثارة الخلاف والخصومة بين الصحابة عامة، وبين المهاجرين والأنصار خاصة، وسعيهم من جهات:
الأولى : إثارة حمية الجاهلية والعصبية القبلية.
الثانية : بعث النفرة في نفوس أهل المدينة من كثرة عدد المهاجرين ومزاحمتهم في معايشهم.
الثالثة : إستحضار الثأر بين القبائل والأفراد.
وكما كان الذين كفروا يحثون المسلمين على عدم الخروج إلى القتال وملاقاة كفار قريش، فان المنافقين كانوا يبثون الفرقة بين الصحابة الذين يخرجون للقتال، وهو نوع من الإمتحان المتصل والمتجدد الذي يلاقي المؤمنين , ويكشفه الله عز وجل ويدفع ضرره ليبقى الثواب والأجر لهم، مع إتعاظ أجيال المسلمين منه .
وفي غزوة بني المصطلق في شهر شعبان من السنة السادسة ، وبينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الماء، جاءت جماعات من المسلمين وكان مع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار، إسمه جهجاه بن مسعود، فتدافع مع سنان بن وبر حليف لبني عوف من الخزرج , فحدث خلاف وشقاق بينهما، فنادى الجهني مستغيثاً : يا معشر الأنصار , ونادى جهجاه : يا معشر المهاجرين.
وكان عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق حاضراً في الواقعة وهو زعيم الخزرج، وكان حوله جماعة من قومه فغضب، وقال : أَوَقَدْ فَعَلُوهَا ، قَدْ نَافَرُونَا وَكَاثَرُونَا فِي بِلَادِنَا ، وَاَللّهِ مَا أَعُدّنَا وَجَلَابِيبَ قُرَيْشٍ إلّا كَمَا قَالَ الْأَوّلُ سَمّنْ كَلْبَك يَأْكُلْك( ).
ثم قال والله [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ]( )، ونزل القرآن ليوثق هذه الواقعة .
والتفت إلى قومه وأخذ يلومهم ويوبخهم لأنهم إستقبلوا وأكرموا المهاجرين وقاسموهم أموالهم، وقال لو أمسكتم عنهم لانتقلوا إلى بلد آخر غير يثرب .
ونسي رأس النفاق أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار، وأن تقاسم الأموال فرع هذه الأخوة، ولم تمر الأيام حتى أخذت الأموال والغنائم تترى على أهل المدينة، والأنصار خاصة وبقيت النعم تتجدد كل يوم بما لا عين رأت ولا أذن سمعت كما هي بادية للعيان وعلى مرأى من أهل الأرض كلهم , لتكون حاضرة وثغر المدينة المنورة معجزة حسية متجددة في كل زمان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان الأنبياء يبعثون في قومهم ثم يأتي العذاب على الذين كفروا, وينجو النبي بنفسه ومن معه، أو أن تلك البلدة تصير أطلالاً مع تقادم الزمان , وعدم تعاهد أهلها لمبادئ التوحيد وأحكام شرائع النبوة .
وكان زيد بن أرقم غلاماً حاضراً مقالة رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحالما إنتهى من عدوه أخبره بما قال رأس النفاق، فعلم رأس النفاق أن زيد بن أرقم أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمقالته، فمشى إلى النبي وأنكر ما نقله زيد وحلف بالله أنه لم يقل الذي ذكره زيد وكان عبد الله بن أبي زعيماً في قومه ، وكانوا يعدونه ليكون ملكاً على الأوس والخزرج قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مما يدل على الإعجاز في أوان هجرته وخروجه من مكة من جهتين :
الأولى : إرادة الذين كفروا من قريش قتله في فراشه باتفاق بينهم ، ليتفرق دمه عليهم جميعاً ، ويعجز بنو هاشم عن طلبه فيلجأون إلى الدية [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
الثانية : عدم وجود ملك في المدينة يصدر الأوامر لأهلها ، ويكون له أعوان وشرطة يمنعون دخول المهاجرين .
وحينما حضر عبد الله بن أبي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنفي ما نقله زيد بن أرقم كان رجال من الأنصار من أصحابه حاضرين فاعتذروا له ، وقالوا (يا رسول الله عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل حدبا على ابن أبي ودفعا عنه) ( ).
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤذن بالرحيل درأً للفتنة وإنكاراً لقول رأس النفاق , وفي وقت لم يعهد فيه المسلمون الرحيل وجاء أسيد بن حضير إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : والله لقد رحت في ساعة لم نعهد أن تروح فيها .
فأشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما قال عبد الله بن أبي ، وأنه قال إن رجع إلى المدينة ليخرج الأعز منها الأذل .
لقد أهتّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكلام رأس النفاق وكأنه يستعد لمعركة لأنه أدرك أنها مقدمة لفتنة ،وبلية عظمى فأظهر عدم رضاه ولكنه نهى في ذات الوقت عن قتل رأس النفاق وقال (فَكَيْفَ إذَا تَحَدّثَ النّاسُ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ) ( ) ويقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من لفظ الناس في حديثه وجوهاً :
الأول : أهل المدينة من المسلمين والمنافقين واليهود .
الثاني : أهل مكة والقرى التي حولها .
الثالث : أهل الشام وفارس واليمن .
الرابع : أجيال الناس المتعاقبة .
الخامس : أهل الحسد والشك والريب الذين يحاولون رمي النبوة بالأباطيل .
وسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه ولم يقف طيلة النهار والليل عدا أوقات الصلاة لينشغلوا عن قول رأس النفاق .
لقد كان قول رأس النفاق من عمومات مضامين آية السياق والحث على الصدود عن سبيل الله ، إذ ذكرت الآية العنوان العام ، وليكون من معاني آية البحث ورد الفتنة عن المسلمين بتوجههم جميعاً إلى ميادين الدفاع ، وعشقهم للشهادة وتسابقهم في تلبية نداء الجهاد ، فيكون الصدود في أثره سالبة بانتفاء الموضوع .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : لا تكونوا كالذين كفروا لئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله …) وفيه وجوه :
الوجه الأول : بيان المائز بين المسلمين والكفار بلحاظ أفراد العوالم الطولية من جهات :
الأولى : حال الحياة الدنيا , ويتجلى التباين من جهات عديدة منها أن المسلمين يعلنون إيمانهم بالله والنبوة والتنزيل , ويصر الكفار على الجحود ، ويتوجه المسلمون لأداء الصلاة خمس مرات في اليوم ، ويزحف الكفار بجيوش عظيمة من مكة ومن جوار بيت الله الحرام .
وفي إبتداء الغاية من جوار البيت وجوه :
أولاً : تذكير البيت الحرام لقريش بلزوم الإمتناع عن الغزو لقتال المسلمين .
ثانياً : إدراك قريش أن البيت الحرام أمن وأمان , فلا يصح الخروج من جواره لمحاربة الإسلام .
ثالثاً : من أسباب تسمية البيت بالمسجد الحرام للنهي عن القتال فيه، وحرمة الصيد ، وعن ابن عباس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة : إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض والشمس والقمر ، ووضع هذين الاخشبين فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولا يحل لأحد بعدي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفر صيدها ، ولا يلتقط لقطتها إلا من عرفها .
قال العباس : إلا إلإِذخر فإنه لقينهم وبيوتهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إلا الإِذخر) ( ).
رابعاً : إتحاد المبادئ وعقيدة التوحيد بين ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنبي إبراهيم الذي رفع قواعد [الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ] ( ) بعد أن بدأ الملائكة ببنائها وتشييدها لآدم والطواف حولها , وكانت ياقوتة حمراء وبعد أن رفع الله الكعبة إلى السماء عند الطوفان أيام نوح .
الثانية : التباين بين المسلمين والكفار عند الموت ومغادرة الحياة وبينهما عموم وخصوص مطلق ، أما مادة الإلتقاء فهي الموت ، وأمّا الأمر الذي يختص به المسلمون فهو القتل في سبيل الله لقوله تعالى في آية البحث [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ].
الثالثة : فوز المسلمين بالمغفرة ،وليس من إنسان إلا وهو يحتاج لها ، ولكن الذين كفروا حجبوا هذه النعمة عن أنفسهم .
الوجه الثاني : قد يظن بعضهم أن الشهادة من عند الله عز وجل بالإيمان ومخاطبتهم بنداء يا أيها الذين آمنوا يتضمن معنى الإستغناء عن النهي لبلوغهم مرتبة الإيمان .
فجاءت آية السياق لتبين قانوناً وهو حاجة المسلمين إلى النواهي قبل حاجتهم إلى الأوامر من عند الله , فالإيمان إعتقاد وإقرار بالعبودية لله عز وجل وتسليم بربوبته المطلقة وأن النبوة والتنزيل والملائكة واليوم الآخر حق ، فيتفضل الله عز وجل بإعانة المسلمين للهداية إلى سبل الرشاد في القول والعمل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
لقد جعل الله سبحانه القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ومنه لزوم التباين بين المؤمنين والذين كفروا , وتفضل الله عز وجل وهدى المسلمين لوجوه ومصاديق هذا التباين ، ففي كل يوم تطل عليهم آية البحث لتكون برزخاً بين المسلمين وبين التشبه بالذين كفروا في صدّهم عن سبيل الله ، ليكون نداء الإيمان الذي تبدأ به الآية السابقة وتتصل به مضامين هذه الآية بالعطف بياناً لقانون وهو أن نداء [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] عون ومدد للمسلمين للتنزه عن محاكاة الذين كفروا في حسدهم وبغضهم لإنبعاث المؤمنين للدفاع عن الإسلام .
الوجه الثالث : من الإعجاز في الجمع بين آية البحث والآية السابقة الإستدلال من المعلول إلى العلة وأن نتيجة وعاقبة الإيمان الفوز بالمغفرة ومرضاة الله عند الموت ، وهو أمر محجوب عن الذين كفروا فمن يفارق الدنيا على الكفر تتلقاه اللعنة والطرد من رحمة الله لتكون مصاحبة له في الدار الآخرة , فكأن آية البحث تقول للمسلمين أنتم الذين تفوزون بالمغفرة من عند الله فيجب أن تتنزهوا عن التشبه بالذين كفروا في شماتتهم بالذين يقتلون في سبيل الله منكم .
ومن معاني الجمع بين الآيتين أن الأخوة في بدايات الإسلام على وجوه :
الأول : الأخوة النسبية ، وهي التي تذكرها الآية السابقة بلفظ [وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ].
الثاني : الأخوة الإيمانية ، وهي التي ذكرتها الآية بلفظ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وكما في مؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار .
الثالث : الأخوة الإيمانية والنسبية التي تدل عليها آية البحث ، فمن المسلمين من يكون من الخزرج فيكون الأوسي المؤمن أخاه بالإيمان والنسب .
الوجه الرابع : تؤكد آية السياق الفصل والتباين بين المسلمين والكفار من جهتين :
الأولى : لغة الخطاب وإختصاص المسلمين به .
الثانية : نهي الذين آمنوا عن محاكاة الذين كفروا ، ترى هل نزل نهي آخر للذين كفروا ، الجواب تتضمن آيات القرآن نهي الكفار عن البقاء على الجحود والكفر والضلالة ، ومنها آية البحث والسياق من وجوه :
أولاً : نداء الإيمان الذي إبتدأت به آية السياق باعث للنفرة في نفوس الذين كفروا من الكفر والضلالة .
ثانياً : في تسمية الكفار بلفظ [الذين كفروا] أمور :
الأول : ذم الذين كفروا .
الثاني : بيان قبح الكفر .
الثالث : تبكيت الذين كفروا بنهي المسلمين عن التشبه بهم .
إذ أن الواو في قوله تعالى [وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ]تتضمن معنيين :
الأول : العطف .
الثاني : الحال .
ويبين هذا التقسيم أن النهي الوارد في آية السياق على وجهين :
1- النهي عن المعنى الأعم وهو الكفر والجحود والإرتداد ، وهل يدخل فيه النهي عن طاعة الذين كفروا ، الجواب نعم , لذا ورد قبل آيات قوله تعالى [أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( ).
2- النهي بالمعنى الأخص وهو المتعلق بقول الذين كفروا للمؤمنين من أبناء عمومتهم أن السلامة في القعود والبقاء في المدينة ، وعدم الإنبعاث لقتال الذين كفروا ممن أطل على المدينة بخيله وخيلائه ولا يرضى إلا بمنع التنزيل .
الرابع : تحذير الناس من الكفر ومفاهيمه .
الخامس : دعوة المنافقين والذين في قلوبهم مرض إلى الإعتبار والتدبر وإصلاح السرائر .
السادس : التذكير باليوم الآخر ، وأن الذين كفروا يجحدون به ، فجاءهم الذم في آية السياق ، وورد ما يبعث الحسرة في نفوسهم في آية البحث .
السابع : ذم وإنذار آية البحث للذين كفروا بإخبارها عن قتل المؤمنين في سبيل الله ، إذ تدل آية البحث على أمور :
الأول : مؤمن مقتول .
الثاني : حدوث حال القتل وزهوق الروح .
الثالث : إتصاف القتل بأنه ظلم وتعد .
الرابع : وجود قاتل ظالم , وهو الكافر .
الثامن : مؤاساة آية البحث للمؤمنين الحي منهم والمعدوم ،والذي في ميدان القتال والذين هو من القاعدين لإستشهاد بعضهم سواء كان فرداً واحداً أو أفراداً متعددين .
وفي هذه المؤاساة توبيخ إضافي للذين كفروا .
التاسع : بيان حسن عاقبة المسلمين بنيل المغفرة والرحمة من عند الله عز وجل .
ثالثاً : نهي المسلمين رجالاً ونساءً عن التشبه بالذين كفروا، وجاء النهي بخصوص صدّ الذين كفروا للذين آمنوا عن الجهاد والدفاع والسعي في طلب الرزق بالضرب في الأرض , لأن هذا السعي تصاحبه دعوتهم إلى الله ورسوله، فهم يحرصون على أداء الصلاة في السفر مثلما يؤدونها في الحضر وذات الصلاة آنذاك , وفي كل زمان دعوة إلى الله.
ويمكن إستقراء المعنى الأعم من النهي في قوله تعالى[لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ]( )، بلحاظ أن الواو في الآية أعلاه من عطف الخاص على العام.
فالعام هو إجتناب المسلمين التشبه بالذين كفروا، أما الخاص فهو النهي عن التشبه بهم في القول والتحريض على عدم إنبعاث المؤمنين إلى سوح المعارك، مع أن النسبة بين هذا الإنبعاث ووقوع القتال عموم وخصوص مطلق ، فقد يخرج المؤمنون إلى ميدان اللقاء لكنه لا يحصل قتال .
وكذا النسبة بين وقوع القتال وبين قتل المؤمن، فقد يقع القتال ولكن المؤمن يعود سالماً من المعركة .
رابعاً : تجلي قانون (قبح المنهي عنه) في القرآن، ومنه دلالة آية السياق على ذم تلبس الذين كفروا بالكفر، وترشحه على ألسنتهم , وترجله في أفعالهم .
خامساً : إمتلاء قلوب الذين كفروا بالحسرة والرعب.
سادساً : بيان آية السياق بأن الحياة والموت بيد الله عز وجل، ليكون الذين كفروا محرومين من فضل الله في النسيئة في الأجل , والراحة عند الموت.
سابعاً : دلالة آية البحث على حسن إختيار الإيمان والدفاع في سبيل الله ، مما يدل على قبح ضده، قال تعالى[فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا]( ).
ثامناً : فوز الذين آمنوا بالمغفرة والعفو من عند الله عز وجل.
تاسعاً : تغشي رحمة الله للمسلمين في الدنيا والآخرة.
عاشراً : كما أخبرت آية السياق عن غزو الحسرة لقلوب الذين كفروا بثبات المسلمين في منازل الإيمان فان آية البحث تضمنت دبيب الأسى وتثبيت الحسرة في قلوبهم لإخبارها بعدم النفع مما يجمعون في الدنيا.
الثالثة : مجئ آية السياق بصيغة اللوم والفضح والذم للذين كفروا.
الرابعة : بيان الآية لما يلاقيه المؤمنون من أبناء عمومتهم من الكفار، وفيه دعوة لأجيال المسلمين والمسلمات بالصبر على الأذى في مرضاة الله ، قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ).
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : ولئن قتلتم في سبيل الله قال الذين كفروا لو كانوا عندنا ما قتلوا ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : من خصائص النفاق إظهار الود والحرص على المؤمنين مع إبطان الكره لهم ، وإنتظار أسباب الشماتة بهم ،أي أنهم لا يكتفون بإخفاء الكفر بل يخفون معه أموراً :
الأول : إخفاء البغض للمؤمنين .
الثاني : تمني حدوث أسباب الشماتة بالمؤمنين .
الثالث :السعي للإضرار بالإسلام .
الرابع : بث ضروب الشك والريب بالنبوة والتنزيل .
الخامس : محاولة إلإضرار بالذين آمنوا .
السادس : إثارة الفزع والرعب بين عوائل المؤمنين خاصة ، عند إنبعاثهم في سرايا الدفاع والغزو .
السابع : تثبيط العزائم والتشكيك بالغايات الحميدة للإسلام وتحقيق الأهداف التي يصبو إليها المسلمون ، وورد بخصوص معركة الأحزاب قوله تعالى [وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا] ( ).
(وأخرج ابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم عن طريق عمرو بن عوف المزني قال : خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخندق عام الأحزاب) ( ).
ويحتمل لفظ خط معنيين :
الأول :رسم علامة أو خط خط مستقيم أو مائل على الأرض .
الثاني : الخط هو الحفر والشق .
والمراد في المقام هو الأول , لأن الإخبار عن الخط جاء في أول الحديث , وورد متعلقاً بعموم الخندق ، ثم ذكر الراوي تفاصيل الحفر إذ قال (خرجت لنا من الخندق صخرة بيضاء مدورة)( ).
وعجزوا عن كسرها بآلاتهم البالية وغير الحادة فأصابهم الكمد والأسى لأن عملهم يتباطئ والعدو صار على مشارف المدينة ، فلجأوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمان الخائفين ، ومفزع المؤمنين فأرسلوا إليه سلمان ليشكوا له الأمر وكيف أنهم عجزوا عن كسر الصخرة وفي رواية عن البراء بن عازب قال : لما كان حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نحفر الخندق ، عرض لنا في بعض الجبل صخرة عظيمة شديدة لا تدخل فيها المعاول) ( ).
لقد طلبوا من سلمان أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمر الصخرة وذكروا وجهين :
الأول : العدول عن الصخرة ، لأن المعدل إليه قريب .
الثاني : أن يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمره بخصوص الصخرة .
وأكدوا أنهم لا يريدون تجاوز الخط الذي خطه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه مسائل :
الأولى : لم يكلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً من الصحابة للقيام بخط الخندق .
الثانية : لجوء الصحابة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند مشكلات الأمور , وهو من الشواهد على تسليمهم بأنه يخبر عن الوحي , ويفعل ما يأمره الله عز وجل .
الثالثة : بعث سلمان الفارسي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دلالة على قربه منه خاصة وأنه الذي إقترح حفر الخندق ، ولم يكن معروفاً في الجزيرة كخطة دفاعية وخدعة في الحرب .
الرابعة : جاء الوجه أعلاه مقيداً بالعدول في الحفر قليلاً إلى اليمين أو اليسار من الصخرة ، أما الوجه الثاني فورد مطلقاً وترك الخيار والأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه دلالة على قبول الصحابة لأي رأي وأمر يأمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكانت المعجزة بأن جاء لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه .
فقد جاء سلمان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان ضارباً عليه قبة تركية , فقال : يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا خرجت لنا صخرة بيضاء من الخندق ، وشكا له عجزهم عن كسرها أو تفتيتها فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ماشياً مع سلمان , وما أن وصل إلى الصخرة حتى أخذ المعول من سلمان .
وقال : بسم الله ثم ضربها فتناثر ثلثها وخرج نور أضاء جنبات المدينة ، فكبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكبر المسلمون وقال ( أعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة) ( )، ففرح المسلمون ، وإطمأنت نفوسهم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ) أي أنتم الأعلون اليوم وغداً , وأن العلو والسمو ملازمان للإيمان .
ولو تردد الأمر بين إستدامة حال العلو وبين حصول فترات من الذل والوهن والضعف تصيب المسلمين , فالجواب هو الأول ، فحال المسلمين عند حفر الخندق هو العز والأمن والرفعة ، وليس من ملازمة بين الهزيمة وبين الذل , إنما العلو وإختيار الهدى بالإضافة إلى قانون عدم وقوع الهزيمة للمسلمين في معارك الإسلام الأولى .
وبيّن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند ضربه الصخرة أمرين :
الأول : إستلام مفاتيح الشام ، وهو عنوان وبشارة الفتح الأعم .
الثاني : رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقصور الشام المطلية باللون الأحمر ، وهل قول النبي : إني لأبصر قصورها ) حقيقة أم مجازاً وكناية ، الجواب هو الأول ، إذ يطوي الله عز وجل الأرض حتى يراها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتكون هذه الرؤية بشارة للمسلمين .
ثم ضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصخرة ضربة ثانية فقطع ثلثاّ آخر فبرقت برقة من جهة فارس أضاءت ما بين لابتي المدينة فقال : الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس) ( ).
اللابتان : مثنى لابة وهي الحجارة السود , وتجمع في القلة ما بين الثلاثة والعشرة لابات , وفي الكثرة ( الَّلاب، واللُّوب؛ وقال بشر بن أبي حاتم يصف كتيبة:
مُعاليةٌ لا هَمّ إلاّ مُحَجِّرٌ … وحَرّة لَيْلى السَّهْلُ منها فَلُوبُها
يريد: جمع ” لابة ” ، ومثله: قارة وقور، وساحة وسُوح( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : اللهم إني أحرم ما بين لابتي المدينة ( ).
وحدود المدينة من عير جنوبا ويقع بالقرب من ميقات ذي الحليفة ، وجبل ثور شمالاً وهو جبل صغير قرب جبل أحد , وحدود المدينة من جهة الشرق الحرة الشرقية والحرة الغربية من الغرب ، وكل من الحرتين عبارة عن هضبة تغطي الصخور والحجارة البركانية السوداء سطحها وتجعلها شديدة الحرارة في الصيف ومنه سميت كل واحدة منهما الحرة ، وكانت الشرقية تسمى حرة واقم ، والغربية حرة الوبرة ،وهي أقل وعورة من حرة واقم , ولكن تكثر فيها الهضاب والمرتفعات .
وحرة واقم سد طبيعي يصعب إختراقه , ولكن فيه بعض الممرات الضيقة المنبسطة , ومنه جاء تسمية وقعة الحرة إذ ثار أهل المدينة على يزيد فتحصنوا خلف الحرة .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن , فأبشروا بالنصر فكبر المسلمون وفرحوا فرحاً شديداً ، إذ توالت بشارات الفتوحات دفعة على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي [َمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
ويدل هذا الإخبار بالدلالة التضمنية على عجز الذين كفروا عن تحقيق نصر على المسلمين ، لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إخبار المسلمين بهذه البشارات لتملأ قلوبهم السكينة ، وقد وصف الله عز وجل حالهم بقوله تعالى [إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ]( ).
وعن أبي سعيد الخدري قال ( قلنا يوم الخندق: يا رسول الله هل من شئ نقوله ؟ فقد بلغت القلوب الحناجر ! قال: ” نعم : اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا قال: فضرب الله وجوه أعدائه بالريح.)( ).
ويحتمل قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : أبشروا بالنصر وجوهاً:
أولاً : إرادة النصر في معركة الخندق فقد شقّ على المسلمين حال قلتهم أزاء كثرة جيش الكفار البالغ عشرة الآف رجل ، بينما لا يبلغ عدد المسلمين الا نحو ثلاثة الآف , مع الفارق الكبير في العدة والسلاح كماً وكيفاً ورجحان كفة الذين كفروا فيه .
ثانياً : المقصود النصر في فتح بلاد الشام وفارس .
ثالثاً : إرادة خصوص فتح العراق وبلاد فارس .
رابعاً : المراد عموم النصر الذي سيحرزه المسلمون ، وتحقق الفتوحات .
والصحيح هو الأخير لأصالة الإطلاق والقرائن وسنخية الموضوع الذي يتحدث فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذكره بلاد فارس والشام ، فاذا فتحتا فمن باب الأولوية القطعية تحقق فتح مكة وما حولها ، ولم يبد من الصخرة إلا ثلثها عند أول ضربة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسم الله وضربه فقطعه ونثره وخرج نور من قبل اليمن فأضاء أطراف المدينة وكأنه مصباح في ليل مظلم ، وقال الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة.
وقد قدّم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الشام وكأنه توجيه للمسلمين بالبدء بالشام وإخبار بأن فتحه قبل فتح بلاد فارس .
واختتمت البشارة باليمن مع أنه فتح قبل الشام وفارس لقاعدة تقديم الأهم والأكبر والأشد ، وقد لا يخطر على اذهان كثير من المسلمين يومئذ أن الفتوحات تصل إلى الشام وفارس خاصة وهم في حال حصار وضيق .
وإذ تلقى المسلمون هذه البشارات بالقبول والرضا فان المنافقين أخذوا يبثون سمومهم ويظهرون التشكيك ، فقال معتب بن قشير وهو من رؤساء النفاق (يعدنا محمدٌ كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى حاجته، وما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً) ( ) لبيان حقيقة وهي أن النفاق لم يختص بمعركة أحد بل كان المنافقون موجودين في معركة الخندق التي جرت بعد معركة أحد بأكثر من سنة خاصة وأن علة نفاق هؤلاء هي قوة الإسلام وظهور دولته .
فذكرت الآية السابقة مكراً للذين كفروا وهو نشرهم مقولة أن قعود المؤمنين ع القتال طريق السلامة من القتل ، ويحتمل لفظ الذين كفروا في الآية وجوهاً :
الأول : الذين كفروا بالله عز وجل .
الثاني : الذين كفروا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : المنافقون .
الرابع : المنافقات .
الخامس : المعنى الجامع للوجوه أعلاه .
والمختار هو الأخير ، لبيان شدة الأذى الذي كان يلقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون , ويقتضي الأمر عندما أطّل جيش الذين كفروا على ربى المدينة المنورة وإرادتهم غزوها مناجاة أهلها من الأوس والخزرج واليهود بالدفاع عنها ، وعن أنفسهم وأعراضهم وأموالهم .
ولكن الذين كفروا قعدوا وحثوا المؤمنين على القعود ، فجاءت آية البحث لتكفي المسلمين شر مقولة وتخرص الذين كفروا ، وهل يعلم الذين كفروا بأن القرآن سيفضحهم ويخزيهم ويبطل مقولتهم .
الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، لذا فان آية البحث دعوة سماوية لهم للتوبة , ووسيلة لجذب الناس للإسلام ، وتلك آية إعجازية في كون القرآن رسولاً للناس يدعوهم للإيمان , وهذه الرسالة في طول رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعضيد لها ، ومن الإعجاز الغيري في المقام أمور :
الأول : دعوة الناس للإسلام كل صباح ومساء ، وهو من أسرار وجوب قراءة المسلمين للقرآن في الصلاة وجوباً عينياً وجهرهم بالسور والآيات في صلاة الصبح والمغرب والعشاء لكي يتدبر الناس في معاني الآيات , وتشترك الأجيال المتعاقبة من الرجال والنساء في ذم الذين كفروا على حثهم على القعود عن الدفاع الواجب عقلاً وشرعاً .
الثاني : توثيق القرآن لمقولة ومغالطة الذين كفروا ، وصيرورتها حجة عليهم .
الثالث : بيان سوء إختيار الذين كفروا في باب القول والعمل ، وتأكيد قانون وهو الملازمة بين الضلالة وقبيح الإختيار .
الرابع : مجئ القرآن بما ينقض قول الذين كفروا ويبطل عملهم ، ومن الإعجاز في خصائص هذا النقض أمور:
أولاً : إتصاف هذا النقض بالإيجاز فيجتهد الذين كفروا في صدّهم المؤمنين عن القتال ، ويبثون أعوانهم من المنافقين والمنافقات في بيوتهم ومنتديات المدينة بالترغيب بالقعود عن محاربة كفار قريش فتنزل آية البحث من كلمات معدودة لتبطل سعيهم وتلحق الخزي بهم ، وتفرق جمعهم ، وتنقص عددهم .
فان قلت كيف تنقص الآية عدد الذين كفروا , والجواب بصيرورتها سبيلاً لتوبة شطر منهم ، فترى بعض رؤساء الكفر والنفاق يأمر أصحابه ببعث النفرة في نفوس المؤمنين من القتال ، وترغيبهم بالقعود ، فتنزل الآية السابقة لتفضحهم وتلاحقهم ، وتأتي آية البحث لتكون على وجوه :
أولاً : إسقاط ما في يد الكافر .
ثانياً : بيان حقيقة عدم ترتب الأثر على عمل الكافر , وفي قوله تعالى [وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا] ( )ورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال ( في قوله { هباء منثوراً } قال : الهباء : شعاع الشمس الذي يخرج من الكوة .
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال : الهباء : ريح الغبار يسطع ، ثم يذهب فلا يبقى منه شيء ، فجعل الله أعمالهم كذلك .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الهباء : الذي يطير من النار إذا اضطرمت يطير منها الشرر ، فإذا وقع لم يكن شيئاً)( ).
ثالثاً : بث الفرقة بين الذين كفروا .
رابعاً : توبة الكافر ، ومبادرته للخروج إلى ميدان القتال مدافعاً عن الإسلام ، فبينما كان ينهى المؤمنين عنه , وإذا هو يخرج بنفسه للقتال ببركة آية السياق والبحث .
الوجه الثاني : بيان نعمة من نعم الله عز وجل على المؤمن وهي إخباره عن أمور :
أولاً: ما سيقوله الذين كفروا عند إستشهاده في سبيل الله .
ثانياً : دلالة آية البحث والسياق عن عجز الذين كفروا عن ذم المؤمنين أو ذات خروجهم للجهاد والقتال في سبيل الله .
ثالثاً : سعي الذين كفروا بين الناس باتخاذ شهادته وقتله في سبيل الله وسيلة وسبباً لأمور :
الأول : منع المؤمنين من الخروج للدفاع .
الثاني : بعث النفرة والملل في بيوتات ومنتديات أهل المدينة من الجهاد في سبيل الله .
والحرب أولها نجوى يتناجى ويحث الناس بعضهم بعضاً على القتال .
وأوسطها شكوى أي يشكو الناس جراحاتهم وخسارتهم وتعطيل الأعمال وضعف ضبط الأسرة والقيام بواجباتها ، وكثرة المرابطة وتجدد القتال ، وتخلل الوعيد والتخويف بين أفراده .
وآخرها بلوى إذ يفقد الناس أحباءهم في ميادين القتال ويكثر اليتامى والأرامل ، وتبدو الجراحات على نحو يومي تذكر بمصائب وأهوال الحرب , وتقل موارد المعيشة وتضعف التجارة وتتبدل طباع الناس ، فتظهر العدوانية والنفرة وتكثر أسباب البغضاء والتلاوم بين الناس إلا فيما يخص الجهاد في سبيل الله ، والدفاع عن بيضة الإسلام فقد جاءت آية البحث لبعث السكينة في نفوس المؤمنين ولأعلامهم بان الذي يقتل يفوز برحمة الله , ويكون سبباً لنزول الأمن وأسباب الرزق الكريم على عياله كفضل وأجر من عند الله عز وجل .
الثالث : إرادة الشماتة بالمؤمن الذي يقتل في المعركة .
الرابع : إظهار الذين كفروا الفرح والسرور عند قتل المؤمن ، قال تعالى [وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا]( ).
ومن الإعجاز في الآية ورود لفظ سيئة بصيغة التنكير لإفادة العموم، ومنها قتل المؤمن في ميدان القتال ، وبينت الآية أعلاه كيفية النجاة من كيد وشرور الذين كفروا من جهتين :
الأولى : تحلي المسلمين بالصبر .
الثانية : تنمية ملكة التقوى عند المسلمين ، ويتجلى بقوله [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ).
الوجه الثالث : من معاني الجمع بين الآيتين توجيه اللوم للذين كفروا على إصرارهم على عدم ذكر الذين قتلوا في سبيل الله بخير ، والثناء عليهم ، فقد قيدت الآية السابقة الصلة بين الذين كفروا والذين يقتلون في سبيل الله بأنها صلة أخوة ، والمراد الأخوة النسبية ليكون من إعجاز القرآن عدم ترك الأخوة النسبية وصلات القبيلة التي تربط بين الأوس والخزرج مع التضاد بين المسلمين والذين كفروا ، إذ يلتقون بالجد والإنتماء لذات القبيلة .
وفي التنزيل [ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِ أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا]( ) ليكون من معاني قوله تعالى في الآية السابقة [وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ] امور:
أولاً : وحدة محل السكن بين المؤمنين والذين كفروا .
ثانياً : منع الحرج في الإقرار بوحدة النسب بين المؤمن والكافر .
ثالثا : تدل الآية على الإختلاط بين المؤمنين والذين كفروا بسبب النسب وتبادلهم أطراف الحديث ، وهل يتعدى الأمر لما هو أعم من محل السكن كما في قوله تعالى [وَالْجَارِ الْجُنُبِ] ( ) الجواب فيه تفصيل ، فلا ضير من صلة الجوار مع الكتابي , وعن أنس كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غلام يهودي يضع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وضوءه ويناوله نعليه فمرض فاتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعاه للإسلام وأسلم( ).
وتبين الآية جواز الصلات النسبية مع الذين كفروا فهي إنطباقية مع تعاهد المسلم لمبادى الإسلام ، وأخذ الحائطة للدين ، وإنذار الذين كفروا من الأقارب والأرحام ، قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ) .
وفي قوله [وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفًا] ( ) .
وهل يشمل لفظ [أُوْلُوا الْقُرْبَى] مطلق الأقرباء من الأوس بالنسبة للأوسي مثلاً , وإن كان بعضهم كافراً ، والجواب أختلف في الآية هل هي منسوخة بقوله تعالى [يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ] ( ) وقد قال بنسخها بآية المواريث ابن عباس( ) .
وعلى فرض أنها غير منسوخة فإنها تتعلق بتعدد ذوي القربى والمساكين , فان القدر المتيقن منها خصوص التركة وإعطاء ذي القربى والمسكين المسلم منها .
رابعاً : إتخاذ المسلم الأخوة النسبية لتثبيت معالم الإيمان في الأرض ومنه مضامين آية السياق والبحث .
خامساً :وجوب تقديم الأخوة الإيمانية على المهاجرين والأنصار على الأخوة بين المسلم والكافر من ذات الأوس أو الخزرج .
سادساً : تأديب المهاجرين والأنصار بالإعراض عن الأخوة النسبية التي تؤدي إلى بث روح الشك والريب في مبادئ الإسلام .
سابعاً : دعوة الأنصار والمهاجرين لجذب أقربائهم إلى الإسلام .
ثامناً : بعث النفرة في نفوس المسلمين من الذي يتلبس بالكفر ويصر على الضلالة , وإعراضهم عنه ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ]( ) .
لتقطع الآية أعلاه الولاية عن الأخوة النسبية ولتبقى منحصرة بأخوة الإيمان ، قال تعالى [إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ] ( ).
تاسعاً : بيان قانون وهو أن الأخوة النسبية بين المسلم والكافر مناسبة لنيل المسلم الثواب العظيم من جهات :
الأولى : إتخاذ المسلم الصبر وداء .
الثانية : إمتناع المسلم عن الإنصات للذين كفروا وإن كانوا إخوانه .
الثالثة : فضح الذين كفروا والمنافقين بمبادرة المسلمين للخروج للدفاع والمرابطة
لقد نهى الله عز وجل المسلمين والمسلمات عن إتخاذ الآباء والأخوان أولياء إذا أصروا على الإقامة على الكفر، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
وقد تجلى في الآية السابقة وجه من وجوه إستحباب الذين كفروا بشماتتهم بالشهداء، وتوجيه اللوم المبطن لهم، فتضمنت نهي المسلمين عن التشبه بهم، في تحريضهم المسلمين على القعود، ليكون إمتناع المسلمين عن التشبه بهم من مصاديق إمتثالهم للنهي الوارد أعلاه بعدم إتخاذهم أولياء، فلا يلتفت المسلم لنهيه عن الإنبعاث للجهاد وإن كان هذا النهي صادراً من الأب أو الأم والأخ للأب والأم أو لاحدهما .
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : ولئن متم في الضرب في الأرض قال الذين كفروا لو كانوا عندنا ما ماتوا) وفيه وجوه :
الوجه الأول :من الإعجاز في الجمع بين الآيتين خطاب الله عز وجل للمسلمين , فذات الخطاب نعمة عظمى ، ومناسبة للتدبر في ماهية الخلق وأسرار خلافة الإنسان في الأرض بأن شرّفه الله عز وجل بتلقي الخطاب الإلهي ، فليس من جهة تتلقى الخطاب من عند الله عز وجل إلا الأنبياء والرسل , ليكون هذا التلقي مرتبة سامية بين البشر ، وليقوموا بالتبليغ ونقل الأحكام والسنن .
وأخرج ابن عساكر عن كعب الأحبار (قال : إن الله أنزل على آدم عليه السلام عصياً بعدد الأنبياء المرسلين ، ثم أقبل على إبنه شيث فقال : أي بني أنت خليفتي من بعدي ، فخذها بعمارة التقوى والعروة الوثقى ، وكلما ذكرت اسم الله تعالى فاذكر إلى جنبه اسم محمد ، فإني رأيت اسمه مكتوباً على ساق العرش وأنا بين الروح والطين ، ثم إني طفت السموات فلم أرَ في السموات موضعاً إلا رأيت اسم محمد مكتوباً عليه ، وإن ربي أسكنني الجنة فلم أرَ في الجنة قصراً ولا غرفة إلا رأيت اسم محمد مكتوباً عليه ، ولقد رأيت اسم محمد مكتوباً على نحور الحور العين ، وعلى ورق قصب آجام الجنة ، وعلى ورق شجرة طوبى ، وعلى ورق سدرة المنتهى ، وعلى أطراف الحجب ، وبين أعين الملائكة ، فأكثر ذكره فإن الملائكة تذكره في كل ساعاتها) ( ).
وورد خطاب الله عز وجل للمسلمين في القرآن , وهو الكتاب الذي أراد الله عز وجل له بالبقاء إلى يوم القيامة لتستقرأ منه مسألة تملأ قلوب المسلمين بالغبطة والسعادة وهي بقاء الإسلام والمسلمين إلى يوم القيامة وإتصال توجه الخطاب لهم في آية البحث والآية السابقة والخطاب الجامع لهما ، بلحاظ كبرى كلية وهي إفادة وإستقراء معنى مستقل من الجمع بين الآيتين ، وجاء النداء للمسلمين في الآيتين من وجوه :
أولاً : نداء العز والفخر [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]الذين إبتدأت به الآية السابقة ليشمل كلاً من :
الأول : المؤمنون الذين ملأ الإيمان قلوبهم وجوانبهم .
الثاني : المؤمنات اللائي تعاهدن الإيمان في السر والعلانية .
الثالث : عموم المسلمين الذين نطقوا بالشهادتين , وبه يحفظ المسلم في دمه وماله وعرضه .
الرابع : جميع المسلمات .
وهذا العموم من مصاديق قاعدة أن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى .
ثانياً : توجه الخطاب للمسلمين بالنهي عن التشبه بالكفار والمنافقين في نشرهم أسباب القعود عن الدفاع وبعث النفرة منه .
وهل النداء بصفة الإيمان عون على الإمتثال للنهي والتقيد بأحكامه, الجواب نعم وهو من الإعجاز في نداء الإيمان .
ثالثاً : عطف آية البحث على آية السياق لبيان كفاية فضل الله عز وجل للذي يخرج من المسلمين مجاهداً وضارباً في الأرض ، لقد أراد الله عز وجل بآية البحث نقض ما يقوله الذين كفروا من أسباب المنع عن سبل الإيمان .
الوجه الثاني : بيان قانون وهو أن الذين كفروا يحاربون الإسلام والمسلمين ويعدون لإشاعة أسباب الشماتة بهم بين الناس فلذا تفضل الله عز وجل بآية البحث ، وفيه مسائل :
الأولى : تأكيد حب الله للمؤمنين .
الثانية : شكر الله عز وجل للمسلمين على إختيارهم الإسلام والعمل بأحكام الشريعة.
الثالثة : الدفاع عن المسلمين الحي منهم والميت .
الرابعة :بعث الطمأنينة في قلوب المؤمنين بعجز الذين كفروا عن الشماتة بهم .
الخامسة : بعث الرعب في قلوب الذين كفروا ، فمع إشاعتهم روح القعود فان المسلمين يتسابقون إلى ميادين الدفاع ، ويتناجون بالصبر والمرابطة ، قال تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
الوجه الثالث : لقد جاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله رحمة ونعمة وسبيل صلاح للناس ، وهي باب مبارك لتوالي النعم عليهم ، ومثلما تتضمن لزوم التقيد بآداب التقوى فإنها تدعو إلى السعي والكسب والعمل والنفقة على العيال والحياة الكريمة للمسلمين والمسلمات , قال تعالى [فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ] ( )لإرادة السعة والمندوحة في الكسب سواء في السهل أو الجبل .
ويخرج المسلم من بيته ويغادر قريته ومدينته لوجوه :
الأول : الدعوة إلى الله ورسوله ونشر مبادئ الإسلام بين القبائل .
الثاني : الهجرة إلى المدينة وموطن الإيمان ومحل إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الضرب في الأرض للتجارة والكسب .
فأخبرت الآية السابقة عن إشتداد مكر الذين كفروا وتعضيد المنافقين لهم بصد المؤمنين عن الهجرة والكسب فجاءت هذه الآية بالبشارة للمسلمين بالأجر والثواب مطلقاً سواء كان الموت في الحضر أو السفر لتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن الذي يموت على الفراش لم يستمع هو الآخر لأقوال الذين كفروا وأسباب الفتنة التي يبثونها.
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ولمغفرة من الله خير مما يجمعون ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : تبين الآية أن حواراً وكلاماً يجري بين إخوان في النسب في المدينة المنورة ومكة وحواليهما , ويحتمل الكلام والخطاب وجوهاً :
الأول : صدور الكلام من طرف واحد .
الثاني : صدور الكلام من طرفين .
الثالث : إرادة الحاضر في الخطاب .
الرابع : المقصود الغائب .
وجاءت آية السياق من الوجوه أعلاه باستثناء الوجه الثاني ، إذ لم يكن الكلام الذي تذكره الآية صادراً من الطرفين من الذين آمنوا والذين كفروا لبيان قانون وهو أن إنشغال المسلمين في الجهاد سبب لدفاع الله عز وجل عنهم , إذ تضمنت الآية السابقة وجوهاً من هذا الدفاع :
الأول : خطاب ونداء المسلمين بصيغة الإيمان , وكأنها تقول : يا أيها الذين آمنوا لا تسمعوا لقول الذين كفروا ).
الثاني : دعوة المؤمنين بالإنصراف والإعراض عن الذين كفروا وعدم معاقبتهم على قبيح قولهم ، فقد جاءت آية السياق بما يفيد خزيهم إلى يوم القيامة .
الثالث : سلامة المسلمين من آثام الذين كفروا وتعديهم بالمنع عن الدفاع عن الإسلام ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ] ( ) .
وورد في الآية أعلاه عن معاذ بن جبل أنه قال (يا رسول الله ، أخبرني عن قول الله عز وجل { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } قال : يا معاذ ، مروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، فإذا رأيتم شحاً مطاعاً ، وهوى متبعاً ، وإعجاب كل امرئ برأيه ، فعليكم أنفسكم لا يضركم ضلالة غيركم ، فهو من ورائكم أيام صبر ، المتمسك فيها بدينه مثل القابض على الجمر ، فللعامل منهم يومئذ مثل عمل أحدكم اليوم كأجر خمسين منكم . قلت : يا رسول الله ، خمسين منهم؟ قال : بل خمسين منكم أنتم)( ).
الرابع : حث المسلمين على التحلي بالصبر والتوكل على الله والمبادرة إلى النفير وسرايا الدفاع والإعراض عن الجدال والخصومة وأسباب المغالطة ، قال تعالى [وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً]( ).وتوجه الخطاب في الآية أعلاه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن ورائه أجيال المسلمين إلى يوم القيامة .
الخامس : بيان سلطان الله عز وجل على القلوب فقد جاء قبل آيات الإخبار بإلقاء الله الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا ( )، وذكرت آية السياق إلقاء الحسرة في قلوبهم , ويحتمل وجوهاً :
أولاً : إجتماع الرعب والحسرة في قلوب الذين كفروا .
ثانياً : التفصيل إذ ينفذ الرعب إلى قلوب الكافرين من قريش الذين زحفوا لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، بينما تأتي الحسرة للكافرين والمنافقين الذين هم في المدينة ، لذا قيدت الآية السابقة ذكرهم بمعاني الأخوة النسبية في قوله تعالى [وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ].
ثالثاً : كل من الرعب والحسرة أمر عرضي غير مستقل ، فيكون حال الكافر على وجوه :
الأول : يجتمع الرعب والحسرة في قلب الكافر أحياناً .
الثاني : إستحواذ الرعب وحده على الكافر .
الثالث : تغشي الحسرة لقلب الكافر ، وإصابته بالضيق والحرج .
الرابع : صيرورة الكافر في حال ليس معه رعب أو حسرة .
الخامس : مجئ الرعب أو الحسرة بحسب المناسبة ، فاذا زحف الذين كفروا للقتال إمتلأت قلوبهم رعباً وفزعاً ، وهذا المعنى ولغة الشرط مستقرأة من صيغة الإستقبال والسين في قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ) وإذا رأى الذين كفروا المؤمنين يبادرون للجهاد أصيبوا بالحسرة .
السادس : دلالة آية السياق على تقييد الحسرة باسم الإشارة (ذلك) بقوله تعالى [لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ] ( ) والمختار هو إجتماع وإستقرار الرعب والحسرة في قلوب الذين كفروا ، إذ ذكرت آية الرعب علته والتي تدل على إستدامة وهي الشرك بالله لقوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ).
الوجه الثاني : بيان حقيقة وهي أن الكفر لا يقف عند سوء الإعتقاد وخبث السريرة ، بل يترجل في الخارج بالقول والفعل ، فتأتي آية قرآنية تذم الكفر والكافرين ، وآية تبين قبيح فعلهم ، وآية تذكر منكرات القول التي تصدر منهم مع تضمن هذه الآيات الإنذار والوعيد للذين كفروا ، وهو من إعجاز القرآن الذاتي والغيري وإحاطته باللامحدود من الوقائع والأحداث وبسبرة أغوار الإنسان .
وقيدت الآية ذكر قول الذين كفروا من جهة المقصود والمتلقي بأنهم إخوانهم ليفيد وجوهاً :
أولاً : قيام الكافر بحث أخيه وابن عمه المؤمن على القعود .
ثانياً : تحريض الكافر أسرة وعيال أخيه وأقربائه على القيام بمنعه من الخروج للجهاد .
ثالثاً : تحريض الكافر للمنافق وبالعكس لمنع المؤمنين من الخروج للجهاد .
رابعاً : إعلان الكافر دعواه باقتران السلامة بالقعود عن وقوع القتل لأحد المؤمنين، كما في شهداء أحد .
خامساً : تعاون وتعاضد الذين كفروا فيما بينهم لإيذاء المؤمنين وعوائلهم عند الخروج للقتال .
وهل يكتفي الذين كفروا بالقول أم أنهم يحاربون الإسلام بالإمتناع عن مساعدة عوائل المجاهدين والذين خرجوا للغزو .
الجواب هو الثاني ، ويكون من وجوه تقدير الآية السابقة وجوه :
الأول : لو كانوا عندنا لإشتغلوا وعملوا في طلب معاشهم .
الثاني : لو كانوا عندنا لكسبوا أرزاقهم لأنفسهم وأهليهم ، وليقولوا حتى على فرض مجي الغنيمة والفيئ فانه ينفذ , أما بقاء الإنسان حياً عندنا فانه يستمر في عمله وكسبه , ولم يعلموا أن الله [هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] ( ).
وتفضل الله عز وجل وأخبر عن ضمان الكسب والقوت لذوي الشهداء بقوله تعالى في آية البحث [وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]بالإضافة إلى عناية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بعوائل الشهداء ، وعن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين . وأشار بالسبابة والوسطى) ( ).
الثالث :لو كانوا عندنا لقاموا بالزراعة والسقاية وإنعاش أسواق المدينة .
الرابع : لو كانوا عندنا لسعينا إلى بث روح الشك والريب بينهم ، لذا جاءت الآية السابقة بالحرف (لو) وهو حرف إمتناع أي أن المؤمنين لم يأخذوا بكلام الذين كفروا ، ولم يبقوا معهم ، فقد باردوا إلى الإستجابة لنداء النفير .
الوجه الثالث : من أكبر الكبائر الإصرار على الكفر أيام البعثة النبوية وتجلي الآيات الحسية والعقلية لتلح على الإنسان كل آن بوجوب الإيمان .
ولكن فريقاً من الناس لم يكتفوا بالكفر والعناد وإنكار المعجزات بل توجهوا إلى المؤمنين لبث مفاهيم القعود بينهم وكأنهم يقولون لهم توقفوا عند الإيمان وأداء الصلاة والصيام ولا تخرجوا للقتال وأن كفار قريش لم يأتوا لقتال الأنصار ، إنما جاءوا لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسر المهاجرين من قريش على نحو التعيين وإعادتهم إلى مكة مستضعفين فأخبرت آية البحث بأن الخروج للجهاد والدفاع باب للفوز بالمغفرة والعفو من عند الله ، وهو رحمة لما فيه من إستئصال للكفر والجحود وقطع لقول الذين كفروا مما تذكره الآية السابقة ومحاولتهم بتبكيت المؤمنين وبعث الأسى في نفوس عوائلهم بالقول (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا).
المسألة الثامنة : تقدير الجمع بين الآيتين : الذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ولرحمة من الله خير مما يجمعون ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : يفيد الجمع بين الآيتين توبيخ وذم الذين كفروا من جهات :
الأولى : إصرار الذين كفروا على الكفر والجحود .
الثانية : إعراض الذين كفروا عن الآيات العقلية والحسية.
الثالثة : الإمتناع عن الإقتباس والتعلم من الذين آمنوا .
الرابعة : عدم إصغاء الذين كفروا لآيات القرآن , والتدبر في معانيها ودلالاتها .
الخامسة : إجهار الذين كفروا بمفاهيم الضلالة.
السادسة : سعي الذين كفروا لهدم عرى الإيمان.
السابعة : تواطؤ الذين كفروا والمنافقين من أهل المدينة مع الغازين من أهل مكة التي جعلها الله أم القرى لقوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( )، وتقع مكة على أرض مستوية في وسط الأرض، ونشأت القرى من حولها، ومن بركات البيت في المقام أمور :
الأول : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة وأوسط بيوتاتها.
الثاني : إيمان ونصرة رهط من أهل البيت وأهل مكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومباينتهم الآباء والإخوان ممن بقى مقيماً على الكفر، وصبرهم على الأذى الذي لاقوه من الذين كفروا .
الثالث : إبتداء نزول آيات وسور القرآن في مكة، وتسمى في الإصطلاح السور المكية، وتتصف بالقصر وقلة آياتها، وتضمنها لغة الإنذار والوعيد للذين كفروا.
الرابع : هجرة طائفة من الصحابة إلى الحبشة عندما إشتد أذى قريش لهم وهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى الطائف، ثم إلى المدينة لتكون هذه الهجرة المتعددة من مصاديق قوله تعالى[وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
فمن وجوه تسمية مكة أم القرى أن الإسلام أطل على أهل الأرض منها، وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه هاجروا منها وبعد الفتح إنتشر الصحابة في الأمصار المختلفة شرقاً وغرباً في آية إعجازية من السنة التبليغية.
الخامس : موضوعية فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة وصيرورته مناسبة لدخول أهلها، والقبائل المحيطة بها والمدن القريبة منها الإسلام، ففي اليوم العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة ومعه عشرة آلاف من أصحابه وهم صيام متوجهاً إلى مكة بعد أن نقض أهلها العهود وصلح الحديبية وإستخلف على المدينة أبا ذر.
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكُديد وهو ماء بين عسفان وقديد، أفطر وأفطر الصحابة معه، وقيل أفطر في كُراع الغميم بعد صلاة العصر عندما أخبر عن مشقة الصيام على الناس، ويبعد كراع الغميم عن مكة نحو ستين كيلو متراً، مما يدل على أن المسافة بين المدينة المنورة وبينه لا تقطع للجيش بيوم أو يومين.
ثم سار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مّر الظهران والذي يبعد عن مكة اثنين وعشرين كيلو متراً، فإجتمعت القبائل عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبعد أن إجتمعوا في السنة الخامسة لحرب النبي في معركة الخندق وعادوا خائبين.
إجتمعت القبائل في السنة الثامنة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحقيق الفتح والنصر، وهو من مصاديق تسمية مكة أم القرى، وقوله تعالى[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
الوجه الثاني : تبين آية البحث حقيقة وهي سقوط قتلى من المسلمين غادروا الدنيا شهداء دفاعاً عن الإسلام والمسلمين، وبينهم وبين طائفة من الكفار أخوة نسبية، فلم يظهر الكفار الحزن والأسى عليهم، ولكنهم قاموا بنشر مقالات تفيد في معناها الشماتة وحث المؤمنين الآخرين على عدم الخروج، فتفضل الله عز وجل وذكر في آية البحث رحمته بالمسلمين عامة وبالشهداء خاصة، ليجذب المسلمين وعوائلهم إلى رحمته سبحانه , وجعلهم يتفكرون بفضله وإحسانه، ويرجون واسع رحمته، قال تعالى[وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ]( )، إن تعقب آية البحث لآية السياق وذكرها لرحمة الله أعظم رد على الذين كفروا , وفيه مسائل :
الأولى : ذكر آية البحث لرحمة الله سلاح للإعراض عن أقوال الذين كفروا.
الثانية : فيها إسقاط لما في أيدي الكافرين، وكشف لحقيقة وهي أن المسلمين والمسلمات صاروا يرجون رحمة الله ولا يلتفتون لأهل الشك والريب.
فكان الصحابة يتنافسون على الخروج للجهاد، ولمّا ندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه إلى عير قريش بادروا بالإستجابة، وقال خيثمة بن الحارث الأوسي لابنه سعد الذي هو من أهل بيعة العقبة، يا بني لابد لأحدنا أن يقيم فاثرني بالخروج وإبق أنت مع أخواتك ونسائنا، (فأبى سعد وقال : لو كان غير الجنة لآثرتك به إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا فاستهما فخرج سهم سعد فخرج مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بدر فقتل( ).
أما أبوه خيثمة فقتل يوم أحد مما يدل على عدم إلتفات ذوي الشهداء لقول وصدّ الذين كفروا وهو من الإعجاز الغيري لآيات القرآن وذكرها لقولهم وإبطاله وصيرورة المسلمين في واقية منه، وقال حسان بن ثابت :
أروني سعودا كالسعود التي سمت…بمكة من أولاد عمرو بن عامر
أقاموا عماد الدين حتى تمكنت … قواعده بالمرهفات البواتر
أراد بالسعود سبعة وهم أربعة من الأوس , وثلاثة بن الخزرج من الخزرج سعد بن عبادة , وسعد بن الربيع , وسعد بن عثمان أبو عبادة , ومن الأوس سعد بن معاذ , وسعد بن خيثمة , وسعد بن عبيد وسعد بن زيد( ).
الثالثة : بعث السكينة في نفوس عوائل الشهداء بأنهم فازوا لرحمة الله وأنه سبحانه إختارهم لجواره .
الوجه الثالث : من إعجاز القرآن ذكره وتوثيقه للوقائع والأحداث مما يعرف بأسباب النزول، وتتجدد نظائرها في كل زمان ليكون حرزاً وواقية، فهذا التوثيق والبيان من رحمة الله التي تذكرها آية البحث.
ومن مصاديق آية البحث أنها تنقض قول الذين كفروا وتمنع من صيرورة سلطان له على القلوب، لقد خسرت جيوش الذين كفروا وعادوا إلى مكة خائبين سواء في معركة بدر أو أحد أو الخندق، وهذا التعدد من أسرار مجئ قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )، بصيغة الفعل المضارع , ومن معاني الخيبة وجوه :
الأول : الخسران إذ فقد الذين كفروا سبعين قتيلاً وخلفوا سبعين أسيراً في معركة بدر.
أما في معركة أحد فقد قتل منهم إثنان وعشرون على رواية ابن إسحاق( )، وأسر منهم أبو عزة الجمحي والذي كان من بين أسرى بدر ومنّ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير فداء وإشترط عليه ألا يقاتله مرة أخرى.
الثاني : الفشل ، فلقد إستنهضت قريش القبائل، وجهزوا الجيوش وأنفقوا الأموال في مقدمات المعركة والإستعداد لها، وما أن وصلوا إلى جبل أحد وإبتدأوا القتال حتى كثر القتل فيهم وسقط حملة لوائهم واحداً بعد الآخر، ليمنوا بالفشل بين الناس.
الثالث : الإخفاق، وعدم تحقيق ما يرجى، والعجز عن الوصول إلى الغاية المبتغاة، ومع أن قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )، نزل بخصوص معركة أحد إلا أن موضوعه أعم من جهات:
الأولى : عدد المعارك , فتلحق الخيبة الكفار في معركة الخندق وحنين وغيرها، وهل تشمل صلح الحديبية , الجواب نعم.
الثانية : إرادة خيبة وخسران الذين كفروا حتى في حال السلم والمهادنة , ليكون من إعجاز قوله تعالى [ فينقلبوا خائبين ] ( )عجز الذين كفروا عن تجهيز الجيوش ودخول معارك طويلة ومتعددة، لذا سرعان ما بدأت معركة أحد حتى إنتهت في ذات اليوم، أما في معركة الخندق فقد خشي الذين كفروا إقتحام المدينة , مع أن عددهم عشرة آلاف رجل.
الثالثة : إتصال وإستدامة خيبة وإخفاق الذين كفروا، للضرر الفادح الذي لحقهم في معاركهم ضد النبوة والتنزيل.
الرابعة : عدم إختصاص الخيبة بكفار مكة والذين حاربوا المسلمين، إذ تغزو الخيبة قلوب ومنتديات الذين كفروا في المدينة وحواليها، لذا فان قول الذين كفروا الذي تذكره آية السياق[لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا] ( )، من الخيبة التي أصابتهم بسبب فشل وخسارة وعجز الذين كفروا في كل مرة يهجمون بها على المدينة، لقد إستشاط الذين كفروا والمنافقون في المدينة عندما رأوا جيوش قريش ومن والاهم من قبائل غطفان والأحباش وغيرها يرجعون خائبين عاجزين، وإزدياد قوة الإسلام معها فلجأوا إلى الحرب النفسية، وتذكير عوائل المسلمين بالشهداء وكيف أنهم لو لم ينهضوا لقتال الذين كفروا لما قتلوا فجاءت آية البحث رحمة من عند الله عز وجل وتبشر بالرحمة، وتعد الشهداء وذويهم بالمغفرة والرحمة .
اما الشهداء فلقوله تعالى[وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ] وأما ذووهم فلقوله تعالى [لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ] وهو من أسرار الترديد في كيفية مغادرة المسلم والمسلمة الحياة الدنيا، قال تعالى[وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ]( ).
المسألة التاسعة : تقدير الجمع بين الآيتين : ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم، وفيه وجوه:
الوجه الأول : من الإعجاز في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إخلاص وتفاني المهاجرين والأنصار في سبيل الله، وإستعدادهم للقتل دفاعاً عن النبوة والتنزيل، ولا عبرة بالقليل النادر ممن يختار القعود وقد بيّن القرآن الإستغناء عنهم بصيغة الذم , قال تعالى[وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ]( ).
ومن مصاديق هذا التفاني خروجهم إلى معركة بدر ، فحينما إستنهضهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتلقي عير قريش تسابقوا للخروج , ومنهم من قعد ظناً منه ألا يكون قتال .
وحرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إعلان الأنصار رضاهم بالقتال وموافقتهم عليه، وهو يعلم أن فيه العز والنصر وخير الدنيا والآخرة.
فقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتلقي عير قريش لثمان ليان خلون من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة كما عن ابن هشام, وقال ابن سعد يوم الإثنين لإثنتي عشرة ليلة خلت منه .
لما يتعلق من حقوق للمهاجرين في أموال قريش ولبعث الخوف في نفوسهم والكف عن إيذاء المسلمين، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين : ( هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها فلعل الله أن ينفلكموها) ( ).
فذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم العير ونفلها على نحو الترجي بالحرف ( لعل) وسار الجبش وكان مع الإمام علي عليه السلام راية , وأخرى مع رجل من الأنصار، وقيل أن مصعب بن عمير يحمل اللواء وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ.
واللواء عمود في نصفه الأعلى قماش يخفق ويحمل في الحرب ، ويدّل على أمير الجيش وأنه تحته ، وقد يحمله الأمير نفسه أو يدفعه لمقدم العسكر , وذكر أن اللواء هو نفسه الراية وأنه من المترادفات ، ولكن ورد عن ابن عباس قال (كان راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سوداء ولواؤه أبيض) ( ) وقيل كان مكتوباً عليه ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) .
وذكر ابن إسحاق عن عروة أن أول ما أحدثت الرايات يوم خيبر ، وما كان يعرفون قبل ذلك إلا الألوية ).
وعن الواقدي بخصوص فتح مكة والطريق إليها أنه مرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ ، فِيهَا الرّايَاتُ وَالْأَلْوِيَةُ مَعَ كُلّ بَطْنٍ مِنْ الْأَنْصَارِ رَايَةٌ وَلِوَاءٌ فِي الْحَدِيدِ لَا يُرَى مِنْهُمْ إلّا الْحَدَقُ) ( ).
ولما صار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قريبين من الصحراء بعث النبي إثنين من أصحابه يتجسسان خبر أبي سفيان وغيره، وهما بسبس بن عمرو , وعدي بن أبي الزغباء من جهينة حليفين للأنصار .
فسارا وحينما وصلا إلى بئر بدر , نزلا من راحلتيهما من غير أن يسألا أحداً، لأن وظيفتهما التجسس , وترك ما يثير الشك والريب، وأناخا إلى تل قريب من الماء ثم أخذا شناً للإستسقاء وملئاه بالماء كعابري سبيل .
وكان هناك شخص إسمه مجدي بن عمرو الجهني نازلاً على الماء وهو من ذات قبيلة اللذين بعثهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومجدي هذا هو الذي حجز بين المسلمين ومشركين قريش في أول سرية بعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمرة حمزة بن عبد المطلب ليعترضوا عيراً لقريش فلقيهم أبو جهل ومعه ثلاثمائة راكب ، فلما تصافوا حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني فلم يقع قتال .
كما أن الذي حفر بئر بدر هو بدر الجهني فسمي باسمه , مما يدل على الحكمة في إختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للعيون ليكون اللذان بعثهما على وجوه :
الأول : الإنتساب إلى ذات القبيلة التي على الماء .
الثاني : عدم إثارة الشبهة بوجودهما .
الثالث : الأمن والسلامة للعيون التي يبعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يعتدى عليهم .
الرابع : السلامة والأمن من تعرض العيون إلى الأذى بغية الكشف عن أحوال المسلمين .
الخامس : سهولة حصول العيون على الأخبار إذا كانوا من ذات القبيلة والبلد .
السادس : مكانة وتداخل العيون مع أهل المكان والسؤال منهم والإنصات لهم .
السابع : وجود أخوة وأبناء عمومة للذين بعثهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممن معه في الجيش ، وحضروا بدراً , لبعث العيون على الإخلاص وبذل الوسع وعدم الكذب أو الخديعة للمسلمين ، وفي الحديث ( إن الرائد لا يكذب أهله) ( ) ، والرائد هو الذي يتقدم الرهط ليرى منازل الماء والكلأ في الصحراء .
وممن حضر معركة بدر تحت لواء الإسلام :
الأول : كعب بن جماز بن ثعلبة الجهني .
الثاني : سعد بن جماز بن ثعلبة الجهني ، وهو أخو كعب أعلاه .
الثالث : بجير بن أبي بجير الجهني شهد غزوة بدر والمشاهد كلها , وذكر ابن عبد البر أنه من عبس , ونسب إلى القيل نسبته إلى جهينة ( )، ولفظ قيل تضعيف لهذا القول .
الرابع : زياد بن الأخرس الجهني ، شهد بدراً ومشاهد أخرى .
الخامس : زياد بن عمرو الجهني .
السادس : ضمرة بن عمرو الجهني ، حليف بني طريف من الخزرج من الأنصار( )، وهو أخو زياد المذكور أعلاه .
السابع : بسبس بن عمرو الجهني ، وهو الذي بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عيناً وهو أخو زياد وضمرة المذكورين أعلاه .
الثامن : عدي بن أبي الزغباء الجهني ، وهو الذي تقدم ذكره ثاني إثنين اللذين بعثهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتجسس خبر قافلة أبي سفيان .
وكانت هناك جاريتان ممن يقطنون قرب الماء، تلازمان على الماء يقال لإحداهما برزة , تقول الملزومة للأخرى : إنما تأتي العير غداً أو بعد غد فاعمل لهم ثم أقضيك الذي لك، أي أنها تعمل الطعام لهم وفي خدمتهم , وتكسب منه وتدفع لها الدرهم الذي تلزمها به.
قال مجدي صَدقت ، ثم خلص بينهما , أي أنه صدّق قولها بأوان مجئ العير .
فسمع اللذان بعثهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكلام , فركبا بعيريهما وغادرا إلى حيث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاخبراه بما سمعا، من الجارية ومن مجدي .
وجاءت قافلة وعير قريش قادمة من الشام محملة بالبضائع في طريقها إلى مكة وكان يرأسها أبو سفيان وهو في حال حذر وفزع , وهل هذا الفزع من مصاديق قوله تعالى ( سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب .. ) ( ).
أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو أوان ومناسبة معركة أحد , الجواب هو الأول .
فقال لمجدي بن عمرو : هل أحسست أحداً جاء إلى هنا؟ قال : ما رأيت أحداً أنكره ، إلا أني رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل , وأشار بيده إلى تل قريب ثم استقيا من البئر في شنّ لهما ثم رحلا.
فمشى أبو سفيان إلى مناخهما، وأخذ من أبعار بعيريهما ففته بيده، فاذا فيه نوى التمر ، فقال : هذه والله علائف يثرب. أي أنه أدرك بأن عليه عيوناً من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فأمر القافلة بالمسير في الحال، وغيّر طريقها وسار على الساحل، ولم يعلم أن الله عز وجل أراد للإسلام الفرقان والنصر في خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة بدر , وليس العير والقافلة.
وكانت العير نحو ألف بعير ومعها نحو ثلاثين إلى أربعين رجلاً ، فكان أبو سفيان قبل وصوله إلى ماء بدر يتجسس الأخبار عن الطريق ويسأل الركبان والذين في الحواضر ، إلى أن أصاب خبراً بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مستنفر أصحابه , فقام باستئجار شخص إسمه ضمضم بن عمرو الغفاري , وبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشاً ويستنهضهم لأموالهم .
ولما وصل إلى مكة صرخ من بطن (الوادي واقفا على بعيره قد جدع بعيره وحوّل رحله وشق قميصه وهو يقول يا معشر قريش : اللطيمة اللطيمة اموالكم مع ابى سفيان قد عرض لها محمد في اصحابه لا أرى ان تدركوها الغوث الغوث ( ).
أخبر أهلها بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عرّض لتجارتهم هو وأصحابه، وكان كفار قريش يستصحبون صفة الطغيان ويستحضرون تعذيبهم للمسلمين، ويظنون أن عددهم قليل، وأكثرهم ليسوا من أهل الرماية والمبارزة سواء بالنسبة للمهاجرين أو الأنصار الذين غالب عملهم الزراعة.
فتناجى الذين كفروا وأسرعوا الخروج ومعهم القيان والدفوف وكان لرؤيا الإنذار موضوعية في زجر الكفار منها رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب وما ترتب عليها من الأثر والخصومة وقد تقدم ذكرها.
أما أبو سفيان فقد استبطأ ضمضماً , ولم يتأكد من مجئ المدد والنصرة له من قريش، وحينما غادر ماء بدر وأيقن السلامة أرسل كتاباً إلى قريش إذ علم بخروجهم وقدومهم لنجدته، وطلب منهم الرجوع قائلاً : إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم وقد سلمت فارجعوا .
ولكن أبا جهل بن هشام أبى الا أن يرد بدراً التي كانت موسماً من مواسم العرب، وفيها سوق يقام كل عام، أراد أن تسمع العرب بجمعهم ونصرتهم وبطشهم وأظهر الأخنس بن شريق رغبته في الرجوع، وإنتفاء الغاية والقصد من المسير وحث بني زهرة فرجعوا , وقال لهم وإن فسرت جبنا فانسبوه لي , يريد أن يقول أن الرجوع وترك الإندفاع مع الجماعة من الحكمة.
وكان طالب بن أبي طالب قد خرج مع قريش فقالوا : والله لقد علمنا يا بني هاشم أن هواكم لمع محمد وإن خرجتم معنا، لبيان شكهم فيه ، وخوفهم منه فرجع طالب مع الذين رجعوا في الطريق إلى مكة , ليكون رجوعهم من الإنذارات الواقعية الحاضرة في طول الطريق إلى المعركة .
وقال طالب بن أبي طالب بعد واقعة بدر يمدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويرثي القتلى من قريش :
أَلَا إنّ عَيْنِي أَنْفَدَتْ دَمْعَهَا سَكْبًا.. تُبَكّي عَلَى كَعْبٍ وَمَا إنْ تَرَى كَعْبَا
أَلَا إنّ كَعْبًا فِي الْحُرُوبِ تَخَاذَلُوا… وَأَرْدَاهُمْ ذَا الدّهْرُ وَاجْتَرَحُوا ذَنْبًا
وَعَامِرٌ تَبْكِي لِلْمُلِمّاتِ غُدْوَةً … فَيَالَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَرَى لَهُمَا قُرْبًا
هُمَا أَخَوَايَ لَنْ يُعَدّا لِغَيّةِ … تُعَدّ وَلَنْ يُسْتَامُ جَارُهُمَا غَصْبَا
فَيَا أَخَوَيْنَا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا … فِدًا لَكُمَا لَا تَبْعَثُوا بَيْنَنَا حَرْبًا
وَلَا تُصْبِحُوا مِنْ بَعْدِ وُدّ وَأُلْفَةٍ … أَحَادِيثَ فِيهَا كُلّكُمْ يَشْتَكِي النّكْبَا
أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ…وَجَيْشِ أَبِي يَكْسُومٍ إذْ مَلَئُوا الشّعْبَا
فَلَوْلَا دِفَاعُ اللّهِ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ … لَأَصْبَحْتُمْ لَا تَمْنَعُونَ لَكُمْ سِرْبًا
فَمَا إنْ جَنَيْنَا فِي أَقُرَيْشٌ عَظِيمَةً… سِوَى أَنْ حَمَيْنَا خَيْرَ مَنْ وَطِئَ التّرْبَا
أَخَا ثِقَةٍ فِي النّائِبَاتِ مُرَزّأً … كَرِيمًا نَثَاهُ لَا بَخِيلًا وَلَا ذَرْبًا
يُطِيفُ بِهِ الْعَافُونَ يَغْشَوْنَ بَابَهُ … يَؤُمّونَ بَحْرًا لَا نَزُورًا وَلَا صَرْبًا( ).
وعلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الطريق إلى بدر بمسير قريش وأنهم لمن يرضوا دون القتال فاستشار أصحابه، وكان يقصد الأنصار بالمرتبة الأولى .
قال ابن إسحاق : وانما يريد الانصار وذلك انهم عدد الناس وذلك انهم حين بايعوه بالعقبة قالوا يا رسول الله انا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا , وصلت إليها فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه ابناءنا ونساءنا , فكان رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم يتخوف ان لا تكون الانصار ترى عليها نصره الا ممن دعمه بالمدينة من عدوه وان ليس عليهم ان يسير بهم إلى عدو من بلادهم , فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال له سعد بن معاذ لعلك تريدنا يا رسول الله , فقال أجل قال فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا ان ما جئت به هو الحق واعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما اردت فنحن معك والذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره ان تلقى بنا عدونا غدا انا لصبر في الحرب , صدق في اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله تعالى ( ).
المسألة العاشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : ولئن قتلتم في سبيل الله ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : القتل إعدام للإنسان ومفارقة الروح للجسد, والمتبادر إلى الذهن أن العدو الكافر يشمت بالمسلم إذا قتل ، وتكون شماتته على وجوه :
أولاً : الفرح بقتل المسلم الذي إختار الإيمان ، وكأنه يقول أن الإيمان أدى بك إلى القتل , ولم يعلم بعظيم منزلة الشهيد وسوء عاقبته الذي يشمت به .
ثانياً : السخرية والشماتة بعوائل المؤمنين وصيرورة أبناء المؤمن القتيل يتامى ، وحصول النقص في معاشهم ولكن الله عز وجل هو كفيلهم ووليهم , وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
ثالثاً : الإستهزاء من المسلمين بحلول القتل فيهم ، فجاءت آية البحث بالبشارة بالعفو والمغفرة للذي يقتل في سبيل الله ، وبشارة النصر والظفر للمؤمنين .
لقد وردت آية البحث لمنع شماتة الكافر بالمسلم إذا قتل ولبعث الحسرة في قلبه مع سقوط كل قطرة دم من المسلم جريحاً أو شهيداً من جهات :
الأولى :دلالة القتل في سبيل الله على صدق الإيمان .
الثانية : إصابة الذين كفروا باليأس من إرتداد المسلمين ، فما داموا يقتلون في سبيل الله فأنهم لا يغادرون الإيمان بأي حال من الأحوال ، لقد عشق المسلمون الشهادة عندما ينحصر طريق لقاء الله بصفة الإيمان بها ، إذ يجعلهم الذين كفروا بين أمرين لا ثالث لهما ، إما القتل في سبيل الله ، وإما ترك الإيمان وهم لا يفارقون الإيمان بأي حال من الأحوال .
الثالثة : دلالة آية البحث على الثواب العظيم الذي يلقاه الذي يقتل في سبيل الله وفوزه بالعفو والمغفرة .
الرابعة : بشارة نزول الرحمة على المسلمين عند فقد أحدهم شهيداً مضرجاً بدمه .
الوجه الثاني : يمكن بيان قانون وهو ( الملازمة بين الكفر والحسرة ) والحسرة كيفية نفسانية تتمثل بضيق النفس والجزع والأسى بسبب أمر خارجي ، إذ يرى الكافر المسلمين يتسابقون إلى الموت في سبيل الله ، كما في قوله تعالى وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ.
فان قلت لم تذكر الآية أعلاه أن الموت الذي يتمناه المسلمون هو القتل ، وتعيين موضوع وصفة هذا القتل أنه في سبيل الله ، والجواب قد بينت الآية هذا القيد والشرط من جهات :
الأولى : توجه الخطاب للمسلمين في الآية وتقديرها : يا أيها الذين آمنوا لقد كنتم تمنون الموت .
الثانية : أسباب نزول الآية ، إذ نزلت بخصوص واقعة أحد إذ كان بعض المسلمين لم يشهدوا واقعة بدر فأسفوا لحرمانهم من الفضل والثواب فوقعت معركة أحد .
الثالثة : الجمع بين لغة الخطاب وموضوع التمني .
وتقدير الآية : ولقد كنتم تمنون الموت بما أنتم مؤمنون )
الرابعة : قد يحدث أن يتمنى الإنسان الموت ، ولكن الأمة لا تتمناه، وهو من مصاديق تسمية الإنسان لأنه يأنس بغيره ويألف به ، وكل فرد من الأمة يكره مفارقتها ، أمّا أن تتمنى الجماعة والأمة الموت فلا يكون إلا من أجل غاية أسمى ، وقد أدرك المسلمون أن حسن العاقبة بالشهادة في سبيل الله .
الخامسة : لما أخبرت آية البحث بأن القتل في سبيل الله طريق للمغفرة والطهارة من دنس الذنوب تمنوا الموت في سبيل الله ، وهذا التمني من أسباب بعث الحسرة والأسى في قلوب الذين كفروا.
الوجه الثالث : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الإختبار والإمتحان , فصارت محل التمييز بين الناس من جهة الغنى والفقر ، والأمن والخوف , والدعة والعناء ، ولتصبح دار الفصل بين المؤمن والكافر ، وهذا الفصل مقدمة لتعيين منزلة كل واحد منهما في الآخرة بخلود المؤمن في الجنة ، وإقامة الكافر في النار ، ويسعى المؤمن لهذا الخلود المبارك ولو بالقتل وإراقة دمه في ميدان الدفاع عن التوحيد والنبوة والتنزيل ، وهو مما يبعث الحسرة في نفس الكافر ، ويجعله في حزن وغيظ مستمر ، قال تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] ( ) ، وتدّب الحسرة إلى قلوب الكفار عند شهادة المسلم من وجوه :
أولاً : تلقي أهل الشهيد نبأ قتله بالعز والفخر والرضا .
ثانياً : دلالة الشهادة على بلوغ مراتب التصديق بالنبوة بأسمى مراتب اليقين ، فالظن واليقين طرفان للتصديق ، ولم يكتف المسلمون بالظن المعتبر بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل قطعوا بصدقها وصحة نزول القرآن من عند الله ، وكل من الكتاب والسنة يحثان على الدفاع ويزّينان الشهادة ، وهو من عمومات قوله تعالى[حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ] ( ) فمع أن الكافر هو القاتل إلا أنه مبغوض بذاته وفعله وأثره ، ومع أن في الإيمان شهادة فهو محبوب بذاته وموضوعه وما يترتب عليه من الأجر والثواب في الدنيا والآخرة .
ثالثاً : إيثار المسلمين في طلب الشهادة ، وكل واحد منهم يرغب بها ويسعى إليها ، وقد تضمنت آية البحث الوعد بالمغفرة للشهداء وجاء القرآن بالندب والإنبعاث لطلب المغفرة ومقدماتها ، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) .
وتتجلى مضامين الآية أعلاه بالشهادة من جهات :
الأولى : الشهادة أسرع طريق إلى المغفرة .
الثانية : تأكيد قانون وهو أن المغفرة من عند الله ، ولا يقدر عليها ولا يهبها إلا هو ، لقوله تعالى في الآية أعلاه [مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ) , وكذا في آية البحث [لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ].
فان قلت الشفاعة طريق إلى المغفرة لقوله تعالى [وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنْ ارْتَضَى]( )، والجواب من وجوه :
الأول : لا تكون الشفاعة إلا بإذن الله .
الثاني : تقييد الآية أعلاه من وجوه :
أولاً : الذي يشفع لغيره وينال مرتبة الشفاعة .
ثانياً : المشفوع له بأن يكون ممن يرتضي الله ، فقد لا يعلم عند الشافع أموراً تجعله غير مؤهل لنيل الشفاعة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ثالثاً : موضوع الشفاعة ، وأن يكون في مرضاة الله ، وهو من مصاديق الصواب والحق في قوله تعالى [لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا]( ).
الثالث : الشفاعة غير المغفرة , إنما هي سؤال وتضرع إلى الله سواء بطلب العفو والمغفرة للمشفوع له أو بدفع أو رفع العذاب .
ومن خصائص الشهيد أنه يشفع لأخوته وأهله ، وهل يشفع للذين يصدون عن سبيل الله ، والذين يشمتون لأنه قتل في سبيل الله ، الجواب لا ، وإن كانوا إخوانه في النسب , لأن الكفار ليسوا ممن أرتضى الله عز وجل .
الثالثة : ذكرت آية البحث أن قتل المسلم دفاعاً عن الإسلام هو في سبيل الله ، وأخبرت الآية أعلاه بأن المغفرة كلها بيد الله ، مما يدل على أنه سبحانه يهب المغفرة لمن قتل في سبيله ، فهم أقرب عباده إلى رحمته، قال تعالى [رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
الرابعة : لقد وعد الله عز وجل الذين آمنوا وعملوا الصالحات الخلود في النعيم ، أما بالنسبة للشهداء ، فقد رزقهم الله مرتبة أسمى وهي أنهم أحياء عند الله حالما يغادرون الدنيا ، فلا يكون النعيم الذي يفوزون به خاصاً بيوم القيامة بل أنه يبدأ من حيث الشهادة وأوانها ، وكأن الآية أعلاه تقول وسارعوا إلى القتل في سبيل الله عند مداهمة العدو وجيشه .
الخامسة : أختتمت الآية أعلاه ببيان صفة أهل الجنة وهم المتقون وأسمى ضروب التقوى بذل النفس في سبيل الله ورجاء ثوابه .
المسألة الحادية عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا لئن متم ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : يتبادر إلى الذهن أن غيظ وحنق وحسد الذين كفروا بخصوص إنبعاث المسلمين للقتال وإستجابتهم لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقاء العدو ، وتطلعهم لقتاله ، وإستبشارهم بقدوم جيش كفار قريش ، وصيرورته على مشارف المدينة .
فقد كان كفار قريش يزحفون للقتال ومعهم النساء يضربن بالدفوف ويأتين بالأراجيز( ) فيبعثون الرعب في قلوب اصحابهم من الكفار والمنافقين وهو من عمومات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] بلحاظ أن المراد من الذين كفروا في الآية أعلاه المشركون الذين يهجمون ويغزون بلاد المسلمين فيشمل الذين بين ظهراني المسلمين , ويأتيهم الرعب من أصحابهم وتصاحب هذا الرعب الحسرة فهي لا تختص بزمان إنتهاء المعركة بل الحسرة متصلة ومستمرة عند الذين فروا وتأتي بسبب خارجي أو من ذات الذين كفروا أنفسهم .
الوجه الثاني : ليس من عدو إلا وهو يفرح بموت عدوه لا أقل انه يدرك أنه تخلص من أعباء ووطأة عداوته ، إلا بالنسبة لموت المؤمن فانه سبب لحزن وحسرة الذين كفروا ، كما لو كان حياً معهم في الدنيا لإخبار آية البحث بأن عاقبة المسلم إلى المغفرة والرحمة من عند الله ، فيكون حزن وحسرة الكافرين عند موت المسلم من جهات :
الأول : ثبات المسلم على الإيمان حتى أوان مغادرته الدنيا .
الثاني : فشل وبطلان أثر كلام وتحريض الذين كفروا ضد الإسلام.
الثالث : رحيل المسلم من الدنيا بلباس الإيمان وصية عملية لإخوانه وذريته بتعاهد الإيمان .
الرابع :حضور آية البحث بين المسلمين والناس عن موت المسلم لترثيه وتعزيه وتخبرهم بأنه بأحسن حال تتغشاه الرحمة والمغفرة من عند الله ، وهو من إعجاز القرآن الغيري بأن تكون الآية القرآنية عضداً وناصراً للمسلم عند موته ، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
لقد فتح الله عز وجل باب الأجر والثواب للمسلم سواء في قوله أو عمله في عبادته ومعاملاته ، وحتى في ذكره على الألسن ، إذ يكون أسوة في الهدى والصلاح ، وشوكة في عيون الذين كفروا لأنه إختار الإيمان وما فيه من تسفيه أحلامهم ، وتأكيد قبح إعتقادهم .
ويكره الإنسان بطبعه الموت ، ولكنه أمر حتم ، وقضاء ليس من محيص دونه ، ومن حكمة الله أن الناس إليه يرجعون , وعندما يحضر الموت يجزع الكافر ، أما المؤمن فانه إذا بلغت الروح الحلقوم بشّر برضوان الله وتهيئت الحور العين لإستقباله ، فيكون في حال من الغبطة والسرور .
وعن أنس قال (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ قَالَ لَيْسَ ذَاكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حُضِرَ جَاءَهُ الْبَشِيرُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَإِنَّ الْفَاجِرَ أَوْ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ جَاءَهُ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنْ الشَّرِّ أَوْ مَا يَلْقَاهُ مِنْ الشَّرِّ فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ) ( ).
الوجه الثالث : من المواعظ في السنة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج مع جنازة المسلم ويحضر تشييعها، ويجلس على القبر , والمسلمون حوله فيبين لهم أسراراً من عالم الموت والقبر والحساب فيكون ثروة وتراثاً لعموم المسلمين ، ويدعوهم للإستعاذة من عذاب القبر ، وفيه دلالة بأن الكافر لا ينجو منه ,وزاجر عن الموت على الكفر , وقد ورد القرآن بالتحذير منه على نحو الخصوص في مواطن عديدة منها :
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) ( ).
(إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ)( ).
(وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ)( ).
(ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ)( ).
وتدل هذه الآيات على موضوعية التدارك والتوبة قبل حضور الموت وطرو الأجل الذي قد يأتي مفاجئاً ، وترتقي العلوم بسرعة وتعلن بعض الأخبار العلمية بإمكان معرفة أجل وموت الإنسان بلحاظ الكشف الطبي ومعرفة عمر أعضاء بدنه وكيفية عملها فهل يكون هذا الأمر حقيقة , وهل يتعارض مع القرآن .
أما كونه حقيقة فلا ، إنما يكون أمراً تقريبياً وعلى نحو الإحتمال ، قال تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) وأما من جهة معارضته للقرآن فهو لا يتعارض مع آيات القرآن ، وهو من العلم الذي وزقه الله الناس ، وقد ذكر القرآن عجز الإنسان عن معرفة موضع مضجعه ومحل قبض روحه .
وأخرج أحمد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (بينما هو جالس في مجلس فيه أصحابه ، جاءه جبريل عليه السلام في غير صورته ، فحسبه رجلاً من المسلمين ، فسلم فرد عليه السلام ، ثم وضع يده على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : يا رسول الله ما الإِسلام؟ قال : أن تسلم وجهك لله ، وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة قال : فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت؟ قال : نعم . قال : ما الإِيمان؟ قال : أن تؤمن بالله ، واليوم الآخر ، والملائكة ، والكتاب ، والنبيين ، والموت ، والحياة بعد الموت ، والجنة والنار ، والحساب والميزان ، والقدر خيره وشره . قال : فإذا فعلت ذلك فقد آمنت قال : نعم . ثم قال : ما الإِحسان؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن كنت لا تراه فهو يراك قال : فإذا فعلت ذلك فقد أحسنت؟ قال : نعم . قال : فمتى الساعة يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبحان الله . . . ! خمس لا يعلمها إلا الله { إن الله عنده علم الساعة . وينزل الغيث . ويعلم ما في الأرحام . وما تدري نفس ماذا تكسب غداً . وما تدري نفس بأي أرض تموت . إن الله عليم خبير })( ).
وجاءت آية البحث لتجعل المسلم في غنى عن التحقق في أوان موته لأنه في خير وغبطة في الدنيا , وعند الولوج إلى عالم الآخرة .
ومن خصائص عطف آية البحث على نداء الإيمان في الآية السابقة حضور نداء الإيمان عند المسلم ساعة الإحتضار ، ليكون باعثاً للسكينة في نفسه ، وهل يحضر النداء بذاته فقط , الجواب يحضر نداء الإيمان من وجوه :
الأول : حضور عدد مرات تلاوة المسلم لنداء الإيمان ، وهل منها تلاوة الإمام للنداء في الصلاة , وترتب الثواب للمأموم , الجواب نعم , لأن الإمام يتولى القراءة عنه .
الثاني : حضور عمل المسلم بصبغة الإيمان ، وإمتثاله لنداء الإيمان من جهة الأوامر والنواهي التي تأتي معه .
الثالث : شهادة نداء الإيمان للمسلم وهو في ساعة الإحتضار .
الرابع : حضور تعليم المسلم نداء الإيمان لغيره ، وكيف أنه كان أسوة وقدوة لغيره بالعمل بمضامين وأحكام نداء الإيمان .
المسألة الثانية عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : ولئن قتلتم في سبيل الله فالله يحيي ويميت ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : من أسرار الدنيا أنها دار الإمتحان والإبتلاء والإختبار ، ففي كل ساعة من النهار أو الليل تواجه الإنسان أمور تتضمن الإبتلاء ، ويكون معها عرضة للإفتتان إلا أن يقيه الله عز وجل ، وحتى إذا كان الإنسان في خلوة ومن دون عمل فان أفكار ونوايا الخير أو الشر تداهمه وتتزاحم في الوجود الذهني ، وتكون مقدمة للفعل .
فجاءت آية البحث لتحضر مع الأمور التي تطرأ على بال الإنسان مسلماً كان أو كافراً ، أما المسلم فان الآية مؤاساة وواقية له ، وأما الكافر فانها تبكيت وذم له ، وهذا التبكيت من جهات :
الأولى : خطاب آية البحث لخصوص المسلمين .
الثانية : إخبار الذين كفروا والناس جميعاً بأن المسلم مشروع شهادة في سبيل الله .
الثالثة : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا من مقاتلة المسلمين .
الرابعة : التخويف والوعيد للذين كفروا بأن قتلهم المسلم لن يذهب سدىّ .
الخامسة : دلالة الآية في مفهومها على أن المسلم يكون خصماً للذين كفروا في الآخرة ، وهو من مصاديق ما ورد في الآية السابقة [لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ]( ).
الوجه الثاني : خاطبت الآية السابقة المسلمين بصفة الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وأخبرت بأن الحياة والموت أمران بيد الله , وفيه تنمية لملكة الإيمان في قلوب المسلمين , ولبيان المائز بينهم وبين الذين أصروا على الجحود ، وفي التنزيل [قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ * قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ] ( ).
ومن منافع الجمع بين الآيتين تسليم المسلمين بأن الآجال بيد الله، قال تعالى[إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ).
ويبين الجمع بين الآيتين قانوناً وهو أن القتل أمر لا يقع إلا بمشيئة الله عز وجل , وفي القتل أطراف :
الأول : القاتل .
الثاني : آلة القتل كالسيف او الرمح أو الحجر .
الثالث : المقتول .
الرابع : تحقق القتل وزهوق الروح .
وبينت آية البحث أمراً وهو أن المؤمن قد يُقتل في سبيل الله ، وهل يصح أن يقال بلحاظ التقسيم أعلاه أن القتل في سبيل الله ، الجواب نعم ، ولكن فيه شائبة الخلط لإحتمال أن القاتل يقتل في سبيل الله ، وإن كان الأصل عند عدم وجود قرينة هو الأول .
ولم تذكر آية السياق القتل إنما ذكرت الضدين الحياة والموت لبيان حقيقة وهي أن القتل أيضاً موت وزهوق للروح في سنخيته وخاتمته ، وهل يصح القول والله يحيي ويقتل ، الجواب لا، لأن القتل فعل من البشر قد أمر الله عز وجل الناس بالتنزه عنه ، وقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليجتنب الناس القتل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) , ومن مصاديق هذا الإجتناب آية البحث , وما فيها من بيان التعدي في قتل المسلم وسوء عاقبة قاتله .
الوجه الثالث : بعث المسلمين للدعاء وسؤال إطالة أعمارهم، وصرف القتل عنهم، إذ تخبر الآية بأن الحياة والموت بيد الله عز وجل، فهو سبحانه الذي يأمر ملك الموت بموت الإنسان من جهة تعيين أوان موته وكيفيته، لذا فان كلاً من آية السياق والبحث ترغيب بالدعاء وهداية اليه كسلاح مبارك يتعذر على الذين كفروا نيله , وهو من مصاديق التباين والتضاد بين المؤمنين والذين كفروا.
ومن معاني الجمع بين الآيتين غلق باب الشماتة بالمسلمين على الذين كفروا وإرجاع كيدهم إلى نحورهم، وقد يكون المسلمون فئة قليلة تلاقي جيشاً عرمرماً من الذين كفروا فتعلو أصوات الذين كفروا بصدهم ولومهم، فيتفضل الله عز وجل بانزال الملائكة لنصر المؤمنين وإصابة الذين كفروا بالرعب .
وفي التنزيل بخصوص معركة بدر وإستجابة الله لدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
قانون دلالة العطف على الآية السابقة
يتجلى العطف بين هذه الآية والآية السابقة بإبتداء آية البحث بحرف العطف (الواو) الذي يدل على العطف والتداخل الموضوعي بين الآيتين ، وهذا العطف من جهات :
الأولى : إبتداء آية البحث بحرف العطف الواو للدلالة على أن مضامينها معطوفة على ما قبلها ، وسيأتي مزيد من البيان في باب التفسير .
الثانية : إتحاد لغة الخطاب في آية البحث والآية السابقة إذ تتوجه كل منهما في خطابها إلى المسلمين .
الثالثة : وحدة الموضوع في الآيتين ، إذ تتعلق الآيتان بجهاد المسلمين في سبيل الله .
الرابعة : بيان آية البحث لعاقبة القتل في سبيل الله الذي ذكرته الآية السابقة ، ومن الإعجاز أن الذين كفروا أظهروا التعريض بالمؤمنين الذين قتلوا في سبيل الله بينما ذكرت آية البحث عظيم منزلتهم وسعة الرحمة التي إختصهم الله بها .
وفي حديث عمرو بن عنبسة (أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيّ الْجِهَاد أَفْضَل ؟ قَالَ : مَنْ عَقَرَ جَوَاده وَأُهْرِيقَ دَمه) ( ).
الخامسة : تضمن آية البحث الرد على مقولة الذين كفروا بأن الذين خرجوا للقتال لو بقوا عندهم في المدينة لم يقتلوا .
السادسة : ترغيب المسلمين بالندب والخروج إلى القتال .
السابعة : ذكر الآية السابقة القتل والموت على نحو الترديد وكذا ذكرتهم آية البحث مع التباين في التقديم والتأخير بأن قدمت الآية السابقة الموت ، وقدمت آية البحث القتل .
الثامنة : بيان آية البحث للعاقبة الحميدة لمن يقتل في سبيل الله رداً ودفعاً لمغالطة الذين كفروا في الآية السابقة ، وجعلهم المدار على السلامة والحياة في الدنيا .
التاسعة : تأكيد آية البحث لحقيقة وهي أن المدار في الفضل والحسن ليس على الحياة مع الجهالة ، إنما هو أمر جامع بين أمور :
أولاً : الحياة مع الإيمان .
ثانياً : تعاهد الفرائض العبادية .
ثالثاً : الدفاع عن مبادئ التوحيد والنبوة وإن أدى إلى الشهادة .
العاشرة : الصلة بين إبتداء الآية السابقة بالنداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وبين حسن عاقبة المسلمين بالفوز بالمغفرة والرحمة من عند الله عز وجل .
ويمكن تأسيس قانون وهو لو دار الأمر في الأصل بين أمرين :
الأول : الأصل هو عطف الآية القرآنية على الآية السابقة .
الثاني : الأصل هو عدم عطف الآية القرآنية على الآية السابقة ،
والمختار أن الأصل هو عطف الآية القرآنية على الآية السابقة لها بلحاظ نظم الآيات ، وإن عدم العطف هو الذي يحتاج إلى مؤونة , وقد يقال أن العطف أمر زائد يستلزم المؤونة والدليل والأصل عدمه ، ولكن هذا المبنى الأصولي لا ينطبق على المقام .
ومن خصائص العطف بين الآيتين تضمين هذه الآية الرد والإحتجاج على الذين كفروا , وإبطال قولهم الوارد في الآية السابقة .
والقرآن كلام الله عز وجل الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وصحيح أنه بيّن فيه أقوال وأفعال الذين كفروا إلا أنه قرن الإخبار عنها ببيان قبحها وضررها وسوء عاقبتها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ) للدلالة على أن بيان القرآن أمر جامع للهداية والرشاد وزاجر عن المعصية والضلالة ، وفيه إعجاز ذاتي وغيري للقرآن بأن بيانه فوق بيان البشر والملائكة ، وقد بينت الملائكة إحتجاجها على جعل آدم خليفة في الأرض , فجاء الرد من عند الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
فمن علم الله عز وجل إهتداء الناس ببيان القرآن، وهذا البيان من مصاديق الصراط في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) إذ يتلوه المسلمون بصيغة القرآنية على نحو الوجوب خمس مرات في اليوم وجوباً عينياً ، ليكون من الصراط المستقيم بلحاظ بيان القرآن أمور :
الأول : الإهتداء إلى بيان القرآن .
الثاني : تلاوة البيان القرآني .
الثالث : التدبر في بيان القرآن ودلالات آياته.
الرابع : الدعاء وسؤال الله عز وجل للإنتفاع الأمثل من بيان القرآن , وفي التنزيل [وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ] ( ).
وعن ابن عباس في الآية أعلاه : على الله يبين الهدى والضلالة)( ).
الخامس : العمل بمضامين البيان القرآني .
السادس : نيل الأجر والثواب في تلاوة آيات القرآن والعمل بالسنن والأحكام التي يبينها القرآن .
السابع : أخذ الحائطة من الأمور التي يحذّر منها القرآن , ومنها بيانه لصفات الذين كفروا وسعيهم للإضرار بالإسلام والمسلمين .
الثامن : تنمية ملكة البيان عند المسلمين في الإحتجاج والوقاية من أسباب الشك والريب , وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (إن من الشعر حكماً ، وإن من البيان سحراً)( ).
وقد أنعم الله عز وجل على الإنسان وجعل عنده ملكة البيان والتبيين وعلى نحو الكلي المشكك بين الأفراد ، قال تعالى [خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ] ( ) ليجعل القرآن بيان وتبيان المسلمين في مرضاته تعالى ، وليس من حصر لوجوه البيان التي عليها المسلمون منها أداء العبادات وتلاوة القرآن والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وليس من أمة يكون بيانها تلاوة لكتاب الله وترديد لكلماته مثل المسلمين .
ومن بيان القرآن بقاء كلام الذين كفروا بين الناس مع إنقراضهم وهلاكهم ليكون هذا الكلام حجة على الذين كفروا مطلقاً ودعوة للناس للتنزه عنه , وإدراك أجيال الناس المتعاقبة إستحقاق الذين كفروا العذاب الأليم يوم القيامة .

إعجاز الآية الذاتي
إبتدأت آية البحث بحرف العطف الواو ليكون ضياء يجذب القارئ إلى الآية السابقة من جهات :
الأولى : التدبر في مضامين الآية السابقة ، فبعد تلاوة الآية السابقة والتفكر في معانيها ، تأتي آية البحث للتدبر الإضافي فيها مرة أخرى .
الثانية : من مفاهيم وثمرات العطف بين الآيات والتدبر في معانيها تنمية الملكات العقلية عند المسلمين خاصة وأنهم يتلون آيات وسور القرآن خمس مرات في اليوم على نحو العموم الإستغراقي والوجوب العيني ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )إذ يتفضل الله عز وجل على المسلمين بالتلاوة عن ظهر قلب وفي الكتاب على نحو يومي متصل وفيه طرد للغفلة ومنع من الإبتلاء بداء النسيان والسهو المبكر .
الثالثة : تأديب المسلمين بالحرص على التدبر في الآيات عند تلاوتها وعدم الهذر فيها ، فلابد أن يقف عندها المسلم للتفقه في معانيها ودلالتها بقراءتها وقراءة الآية التي بعدها أو الآية التي قبلها ، إذ تجعل الآية السابقة المسلم يتطلع إلى رد وإحتجاج الله عز وجل على قول الذين كفروا وتحريضهم المسلمين على القعود .
لقد جعلت الآية السابقة مغادرة المسلم الدنيا مرددة بين القتل والموت وجاء على لسان الذين كفروا ووفق السبر والتقسيم ، وتقدير الآية : وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض وماتوا أو كانوا غزى وقتلوا ) أما آية البحث ذكر ذات العاقبة , لتدعو المسلم للدعاء , وتبين أن الدنيا والآخرة ملك لله عز وجل .
ومن إعجاز الآية البيان التفصيلي والحصر البياني إذ قيدت القتل بأنه في سبيل الله ثم أطلقت موضوع الموت ولم تحصره بسبب أو غاية ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لئن قتلتم في سبيل الله .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لئن مُتم .
الثالث : يا أيها المسلم لئن قتلت في سبيل الله .
الرابع : يا أيها المسلم لئن مت .
الخامس : يا أيتها المسلمات لئن متّن .
السادس : يا أيتها المسلمة لئن مُتِ .
السابع : هل يصح يا أيتها المسلمة لئن قتلت في سبيل الله ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : كانت المرأة أول شهيدة في الإسلام وهي سمية أم عمار بن ياسر ، وعن مجاهد قال (أول شهيد استشهد في الإسلام سمية أم عمار)( ).
وقيل أن زوجها أستشهد قبلها وهو ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة العنسي حليف بني مخزوم وكنيته أبو عمار لإبنه عمار بن ياسر صاحب رسول الله .
وكان ياسر قد قدم من اليمن إلى مكة فأقام فيها ، وحالف حذيفة بن المغيرة المخزومي ، وزوجه حذيفة أمة له ، يقال لها : سمية فولدت له عماراً ، فاعتقه أبو حذيفة .
ولما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ياسر وزوجته سمية وولداه عمار وعبد الله .
ولاقوا أشد العذاب من كفار قريش خاصة وانهم ليسوا من قريش وكان حليفهم أبو حذيفة بن المغيرة المخزومي مات قبل الدعوة الإسلامية .
وعن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب , وهو أول مولود في الإسلام قال (مرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بياسر وعمار وأم عمار وهم يؤذون في الله , فقال لهم : صبراً يا آل ياسر إن موعدكم الجنة) ( ).
ويمكن تسمية الآية آية [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ] ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في آية البحث .
لقد جاء الإسلام بقانون جديد للتمييز بين الناس ، والفصل وتعيين الشأن والمقام ، فقد كان موضوع الرجحان والتفاوت هو المال والجاه والرئاسة والتجارة ونحوها ، فنزلت آية البحث لبيان أن أصل التفضيل هو الإيمان ، ثم بينت أن المغفرة والرحمة من عند الله هما الأسمى والغاية العظمى في الحياة الدنيا ليكون القتل في سبيل الله والذي إبتدأت آية البحث به بلغة مباركة نحو السعادة الأبدية فأختتمت الآية بقوله تعالى [خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] لبيان أن جمع المال وزينة الدنيا تجارة كاسدة في الدنيا والآخرة .
لتكون خاتمة آية البحث من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
إعجاز الآية الغيري
جاءت الآية بصيغة الخطاب لتدعو المسلمين إلى إصلاح نفوسهم ، وجعلها منقادة للقرآن في أوامره ونواهيه .
وهي وإن وردت بصيغة الجملة الخبرية ولغة الشرط إلا أنها تتضمن البعث للدفاع والشوق للقاء الله عز وجل في طريق محبته ورضاه .
ومن إعجاز الآية أنها واقية للمسلمين من الشك والريب وسلاح سلامتهم من كيد ومكر المنافقين والذين كفروا ، والذين أخبرت الآية السابقة عن سعيهم لقعود الأنصار عن الجهاد ، وحث عوائلهم على منعهم بالإخبار عن قاعدة ظنية وهي : السلامة في القعود والنجاة في البقاء في البيوت وعدم الخروج للعدو الكافر وجيوش قريش والقبائل الموالية لهم إذ زحفوا في السنة الثالثة للهجرة للثأر لقتلاهم في معركة بدر ، ومحاولة إستئصال الإسلام ، أي أنهم لم يقدموا في معركة أحد للثأر وحده بل قدموا للإنتقام والبطش ومحاولة محو الإسلام ووقف التنزيل ومنع إنخراط الناس في الإسلام ليكون قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً] ( )بشرى وتأكيداً لخزي الكافرين , وعجزهم عن تحقيق غاياتهم الخبيثة .
والقتل مغادرة الروح للجسد بآلة وسبب , وبين الموت والقتل عموم وخصوص مطلق , فكل قتل هو موت وليس العكس ، وذكرت الآية الأمر الخاص وهو القتل قبل العام ، وهو الموت لبيان حتمية هذه المغادرة , وإن تعددت الأسباب والطرق ، ولابد لهذا التقديم من دلالات ، منها :
الأولى : إختصاص القتل بأنه في سبيل الله بينما يأتي الموت عند حلول الأجل على فراش الموت وحضور الأهل والأحبة .
الثانية : بيان الإطلاق في الثواب والمغفرة للمسلمين ، إذ يأتيان على الإيمان بالله ، وإن مات المسلم على فراشه ، وفيه تخفيف عن المسلمين وإخبار بالملازمة بين الإيمان والمغفرة
وقد أخبرت الآية السابقة عن تحريض الذين كفروا للمؤمنين على القعود , فتعقبتها هذه الآية لتبين التساوي في الجملة في الأثر بين الجهاد والإقامة في الحضر في الثواب والمغفرة ونزول شآبيب الرحمة .
الثالثة : لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الإستجابة لنداء الجهاد مثلما يستجيبون لنداء الإيمان وإن كانت عاقبته القتل في سبيل الله ، فكشفت آية البحث عن الأجر والثواب العظيم الذي يفوز به المسلم عند تفانيه في مرضاة الله ، كما أخبرت الآية بأن الثواب يعم كل المسلمين حتى الذين يموتون عند الأهل أو في السفر ، قال تعالى [فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى] ( ) .
وتبين آية السياق والبحث إستحقاق القاعدين أيضاً الثواب من جهات :
الأولى : تلقي نداء الإيمان الذي جاء في أول آية السياق ، ومن إعجاز القرآن أن يرد النداء من عند الله ليكون باباً للثواب .
الثانية : إمتثال المؤمنين القاعدين للنهي الوارد في آية السياق ، إذ يمتنعون عن محاكاة الذين كفروا في تحريضهم على القعود .
الثالثة : وجود العذر عند القاعدين عن الجهاد .
الرابعة : تلاوة كل مسلم ومسلمة آية السياق وما فيها من فضح للذين كفروا والتحذير من التشبه بهم ، وهو من أسباب مجئ الثواب عند الموت للمسلمات وبعرض واحد مع المسلمين ، ومن أسرار تكليف المرأة بالصلاة وبذات الأفعال والكيفية التي يؤدي بها الرجل الصلاة .
الخامسة : تصديق المسلمين بمضامين آية السياق ، وإلقاء الحسرة في قلوب الذين كفروا ، والذي يدل بالدلالة التضمنية على سلامة المسلمين من هذه الحسرة والأسى .
السادسة : إقرار المسلمين بأن إستدامة الحياة أو طرو الموت وقبض الروح أمران بيد الله لا يقدر عليهما غيره ، وقد كان في مناظرة إبراهيم عليه السلام مع النمرود في هذا الباب حجة وبرهاناً إذ ذكرها الله عز وجل في القرآن ليتعظ منها المسلمون .
وعن ابن عباس في قوله { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم } ( )قال : نمرود بن كنعان ، يزعمون أنه أول من ملك في الأرض ، أتى برجلين قتل أحدهما وترك الآخر . فقال : أنا أحيي وأميت . قال : استحيي : أترك من شئت ، وأميت : أقتل من شئت) ( ).
ولآية البحث موضوعية وأثر في ساحة المعركة بين المسلمين والذين كفروا من جهات :
الأولى : حسن توكل المسلمين على الله , وسلامتهم من الخشية من القتل .
الثانية : تفاني المسلمين بالقتال , وعدم خشيتهم من سطوة وبطش العدو .
الثالثة : بعث الفزع والرعب في قلوب الذين كفروا عند رؤية بسالة الذين آمنوا في ميدان المعركة ، ليكون هذا الرعب فرداً إضافياً لضروب الرعب التي تستولي على قلوب وجوانح وحواس الكافرين .
الرابعة : لما جاءت الآية السابقة بنهي المسلمين عن محاكاة الذين كفروا في صدهم عن الجهاد في سبيل الله ، جاءت آية البحث ببعث النفرة في نفوس المسلمين من محاكاة الذين كفروا في جمع الأموال أو غبطتهم وفرحهم بأموالهم وما يتمتعون به من الشأن والجاه .
ومن إعجاز الآية أنها تدعو المسلمين للغبطة والفرح بالمغفرة ورحمة الله ، وأن كل واحد منهما هو أفضل وأعظم مما يجمع الذين كفروا من حطام الدنيا ، قال تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ) .
وتقدم المعمول في الآية أعلاه [فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا]لإفادة الحصر وأن الفرح في الدنيا لا يصح إلا بخصوص الإكتناز من الحسنات ونزول رحمة الله ، والفوز بالعفو والمغفرة من الله في ذم قارون وكنوزه وتسخيرها لمحاربة الإيمان ورد قوله تعالى [إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ] ( ).
لقد أرادت آية البحث بيان قانون وهو أن ملاك القياس والتفاضل ليس المال والجاه ، إنما هو الإيمان والتفاني في سبيل الله ، وتبعث الآية المسلمين على التخلي عن الدنيا ، وعدم اللهث وراء زينتها ، وتدعوهم للتنزه عن جعل الغنائم والمكاسب هي الغاية عند إلتقاء الصفوف ، لذا حينما نزل الرماة يوم معركة أحد من مواضعهم التي جعلهم عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طمعاً في الغنائم وحرصاً على ألا تفوتهم جاءت خيل المشركين من خلف جيش المسلمين وأكثروا فيهم القتل ، لتكون آية البحث مواساة للمسلمين وموعظة وتأديباً وإصلاحاً وسبباً لتحقيق الفتح والظفر بالذين كفروا .
الآية سلاح
لقد بينت الآية السابقة وجوهاً من الحرب التي يشنها الذين كفروا على النبوة والإسلام من جهات :
الأولى : يأتي جيش عظيم لقتال المسلمين وإرادة حملهم على ترك الإسلام ، ويزحف هذا الجيش من مكة وجوار البيت الحرام الذي جعله الله عز وجل أمناً ورحمة ومحلاً لأداء مناسك الحج ، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن نبوته بدأت في مكة وتجلت المعجزات بين ظهراني أهلها وآمن به فريق منهم ليكونوا شهوداً في النشأتين بأن نبوته حق وصدق وحجة على الذين كفروا في جحودهم وإصرارهم على الكفر ، وتجهيزهم الجيوش للزحف .
الثانية : قيام الذين كفروا في المدينة بتحريض المسلمين على القعود وعدم الخروج إلى قتال الذين كفروا كما تدل عليه الآية السابقة [كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا] ( ).
لقد أدرك كفار قريش عجزهم عن تحقيق النصر على المسلمين بعد أن أصابهم الخزي والذل بانكسارهم وهزيمتهم يوم معركة بدر ، فلجأوا إلى إثارة الفتنة ومحاولة بث الفرقة بين المهاجرين والأنصار .
بحث الذين كفروا والفاسقين الذين في المدينة على صدّ المسلمين عن الخروج ، وعلى تحريض عوائلهم على منعهم من الخروج لأن فيه القتل والهلكة .
الثالثة : سعي المنافقين إلى هزيمة المسلمين والشماتة بهم .
وهل يشترك الذين كفروا والمنافقين في هذا الصدّ عن الجهاد في سبيل الله ، وهل يجتمعون في اسم [الَّذِينَ كَفَرُوا] الذي ذكرته الآية السابقة ، الجواب نعم ، بلحاظ إتحاد خصالهم من الحسد وعدم الإيمان، قال تعالى [فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ] ( ).
(وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له أخبرني عن قوله تعالى { في قلوبهم مرض } قال : النفاق . قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم . أما سمعت قول الشاعر :
أجامل أقواماً حياء وقد أرى .. صدورهم تغلي عليّ مراضها) ( ).
ونافع بن الأزرق بن قيس الحنفي البكري كان قد صاحب عبد الله بن عباس في أول أمره ، وكان يكثر من السؤال خاصة في متشابه القرآن ويسأل الحجة من اللغة والشعر , وهو من أهل البصرة ، وصار له أصحاب فناصروا الثورة على عثمان وقالوا بالولاء للإمام علي عليه السلام ، وبعد قصة التحكيم بين الإمام علي ومعاوية خرجوا على الإمام علي وإجتمعوا في قرية تسمى حروراء من ضواحي الكوفة .
وقاتل نافع إلى جانب عبد الله بن الزبير ولما سأل هو وأصحابه عبد الله بن الزبير عن عثمان أبى أن يذمه ، فعاد نافع بن الأزرق إلى البصرة ونادوا بالجهاد وخرج معه ثلاثمائة ولاقى المسلمون منهم أذى شديداً وأصاب النساء الرعب والخوف وكان نافع شديد الفتك والبطش ، وتخلف عنه عبد الله بن أباض وأخرون فتبرأوا منهم .
وقتل نافع بن الأزرق على مقربة من الأهواز يوم الدولاب وهو موضع وقرية غير ( قرية الدولاب التي هي أعمال الري ) ( )والري قريب من طهران الآن .
وبينها وبين الأهواز أربع فراسخ( ) وقاتلهم اهل البصرة قتالاً شديداً , ودارت بينهم معارك كثيرة إلى أن هزمهم المهلب بن أبي صفرة والذي إختاره وأوصى بأمرته الأحنف بن قيس ، وتلك أخبار وقصص مؤلمة يجب أن يتنزه عنها المسلمون ويلجأوا إلى القرآن ويصدروا عن أحكامه وسننه .
وهل القرآن مانع من الإقتتال بينهم , الجواب نعم ، ومنه آية البحث التي تقيد القتل بأنه في سبيل الله وتجعل المسلمين بين أمرين في مغادرتهم الموت قهراً وإنطباقاً :
الأول : القتل بقيد أنه في سبيل الله , ويدل بالدلالة الإلتزامية على القتال طاعة لله ولرسوله .
فان قلت قد يقتتل المسلمون فيما بينهم ، وأصر كل من الطرفين على حقه ويقول أن قتاله في سبيل الله ، الجواب إذا كان كل المسلمين ملتزمين بطاعة الله ورسوله لا يحصل هذا الإقتتال لذا قال الله تعالى [أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ] ( ).
الثاني : مغادرة روح المسلم جسده بالموت في أجله ، وهل ذكر القتل والموت لإرادة الإخبار عما بعدهما من العوالم أم هناك موضوعية لحال وكيفية القتل أو الموت .
الجواب هو الثاني ، فالآية بشارة للمسلمين لما بعد الموت ، وهي باعث للسكينة في نفوسهم ومؤاساة لهم عند موت أو قتل أحدهم وترغيب بلقاء الله وعدم الإستيحاش من الموت .
وعن أنس بن مالك قال : مرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوم من الأنصار يضحكون ، فقال : « أكثروا ذكر هادم اللذات) ( ).
ومن الإعجاز في آية البحث أنها لم تذكر القتل والموت فحسب بل ذكرت فضل الله عز وجل المقارن والمصاحب والسابق والمتعقب لهما .
وفي الآية ترغيب بالجهاد وترغيب بالصبر والمهادنة والسلم معاً ، وهو من إعجاز القرآن بالجمع بين المتناقضين في الموضوع والغاية المتحدة، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ولئن قتلتم في سبيل الله لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون .
الثاني : ولئن متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون .
الثالث : المغفرة والرحمة لكم من الله ما دمتم أحياءً خير مما يجمعون .
ومن إعجاز آية البحث أنها تبعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا فما من إنسان إلا ويخشى الموت ، ويتجنب مقدمات القتل ، لذا جاءت آية القصاص لحفظ الدماء وضبط الأمن بين الناس بقوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
فحينما يعلم الإنسان أنه إذا قَتل غيره فانه يُقتل ويقاد به ينزجر ويتجنب القتال ، وكذا بالنسبة لآية البحث مع الفارق لأنها تتعلق بالتضاد بين الإيمان والكفر .
وتخص فريقاً دون آخر ، إذ تجعل المؤمن يشتاق إلى قتال الذين كفروا والشهادة في سبيل الله ، فتمتلأ قلوب الذين كفروا بالخوف والرعب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ).
فنزلت آية البحث من كلمات معدودات لتكون سلاحاً مصاحباً للمسلمين من جهات :
الأولى : تلقي المسلمين الآية القرآنية وما فيها من الأحكام بالقبول والرضا .
الثانية : مناجاة المسلمين بالإنبعاث للمرابطة والدفاع في سبيل الله .
الثالثة : تجلي معاني الأخوة بين الأنصار والمهاجرين بإعراض الأنصار عن أبناء جلدتهم من الذين بقوا على الكفر أو إتخذوا النفاق رداءً .
الرابعة : الرغبة في الغزو .
الخامسة : السلامة من الشك والريب في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
مفهوم الآية
من معاني ودلالات آية البحث الإخبار بوقوع القتال بين المسلمين والذين كفروا ، وأن معركة بدر كانت البداية وليست هي آخر المعارك، ونزلت آية البحث بعد معركة بدر لتهيئة أذهان المسلمين لوقوع القتلى وسقوط الشهداء منهم في معركة أحد .
وهو من إعجاز القرآن ، فقبل معركة أحد لم تأت الآيات بالمتعدد من أنباء القتل والشهادة والبذل والفداء ، ولكن مع معركة أحد توالت الآيات التي تخص القتال ، ومن الإعجاز في نظمها مجيؤها متتابعة ومتوالية في المقام وتضمنت البشارة بالنصر والسلامة من الهزيمة وتتجلى هذه السلامة بقوله تعالى قبل آيات [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ) لبيان أن الذي يقتل من المسلمين يغادر الدنيا وهو مطمئن إلى قانون وهو بقاء الإسلام وإستدامة أداء المسلمين الصلاة والصيام والفرائض الأخرى ، لذا وردت الآية بصيغة الإيمان ، وتقديرها (يا أيها الذين آمنوا لئن قتلتم وأنتم مؤمنون ) .
لتفيد صيغة الشرط في الآية الحث على البقاء على الإيمان وان إحتمال القتل في سبيل الله من مصاديقه , ومنها ضروب إبتلاء المؤمنين في الدنيا .
وقيدت آية البحث القتل بأنه في سبيل الله لبيان عدم ترتب الثواب والمغفرة على القتل حمية وعصبية للجاهلية ومفاهيم الضلالة .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين التفقه في الدين ومعرفة وجوه القتل وأنه على أقسام وان القتل الذي تترتب عليه المغفرة والأجر ونزول شآبيب الرحمة هو القتل في سبيل الله , وتدعو الآية إلى التفقه في الدين , ومعرفة المراد من [ سَبِيلِ اللَّهِ] .
وتبين الآية قانوناً وهو أن الذين كفروا ضيعوا على أنفسهم نعمة الفوز بالرحمة والأجر والثواب ، وإن حبهم للدنيا جعل غشاوة على أبصارهم وفوّت عليهم الفوز بمصاديق الرحمة التي تأتي مع الإيمان بقوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
وإذ تتوجه سهام الشك والريب من الذين كفروا إلى إخوانهم من الأنصار تنزل آيات الرحمة والعفو والبشارة بالمغفرة من عند الله لكل من :
الأول : الأنصار .
الثاني : المهاجرون .
الثالث : المؤمنات .
الرابع : عوائل المؤمنين وصبيانهم .
وفي الآية مسائل :
الأولى : تأكيد قانون وهو زيارة الموت لكل إنسان , ومنهم المسلمون والمسلمات ، قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ] ( ).
الثانية : بعث الحسرة في نفوس الذين كفروا بأن الله عز وجل يخاطب المسلمين ويبشرهم بالنعيم الدائم .
وهل مضامين آية البحث من مصاديق اسم الإشارة في قوله تعالى في الآية السابقة [قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ] الجواب نعم إذ أن حسرة الذين كفروا بسبب مضامين آية البحث متعددة .
الثالثة : إمضاء قتال المسلمين في ميادين المعارك , وشهادة الله عز وجل أنه في سبيله .
الرابعة : رجاء المسلمين الثواب والجزاء على جهادهم بعد إخبار الله عز وجل لهم بأنه في سبيله , ومن أجل إعلاء كلمته في الأرض .
الخامسة : إقامة الحجة على الذين كفروا في قتالهم للذين آمنوا , ليكون من إعجاز الآية في مفهومها أنها جاءت في ذم الكفار الذين عابوا على المؤمنين إنبعاثهم للجهاد لتتضمن تبكيت وتوبيخ الكفار الذين يغزون ثغر الإسلام ( المدينة المنورة ) للحرب للقتال .
لقد أخبرت الآيات السابقة عن جهاد الأنبياء وأنصارهم وأصحابهم من غير أن يكلوا أو يملوا ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
أما آية البحث فقد أخبرت عن قتال وشهادة وقتل المسلمين في سبيل الله ، وبين القتل الذي ذكرته آية البحث [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ] وبين إصابة المؤمنين من الأمم السابقة عموم وخصوص مطلق بلحاظ أن الإصابة أعم وتشمل القتل والجراحات والكلوم والجوع والفقر والغربة والهجرة والتعذيب والأذى مطلقاً ، أمّا القتل فهو أشد هذه الوجوه ليكون ذكره بخصوص المسلمين من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
نعم في الآية أعلاه دعوة للمسلمين للإقتباس والتعلم من إخوانهم من الأمم السابقة الذين تحملوا الأذى في جنب الله فتبشرهم بأن ذكرهم في القرآن الكتاب الباقي في الأرض إلى يوم القيامة .
وإذا كان الذين كفروا يقولون لإخوانهم بالنسب وهم المؤمنون أقعدوا فان إخوانهم من أهل الملل والأمم السابقة يحثونهم على الجهاد والمرابطة .
إفاضات الآية
ليس من ساعة أشد على الإنسان مثل ساعة قبض الروح ، ويكون القتل أشد وطأة على الإنسان في ذات القتل ومناسبته وآلته القاتلة ومباغتته للإنسان , والذي يبتدأ يومه بآماله ورغائبه وغاياته ومساعيه وأحلامه , ولم يعلم أنه سيكون آخر يوم من حياته يفارق فيه الدنيا بفعل فاعل وسلاح قاتل , فجاءت هذه الآية لتهيئة أذهان المسلمين لشدة القتل وسكرات الموت وتخفيفها عنهم .
ومن البيان والتأويل لمعنى الآية هذا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة) ( ).
وفيه بيان للتباين بين القتل مطلقاً والقتل في سبيل الله حتى في خصوص الألم المصاحب للقتل ، فما دام القتل في سبيل الله فقد كفل الله عز وجل للشهيد الرحمة من ساعة نزول القتل به .
ورود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار) ( ) فيميل الإنسان إلى الروضة والبستان لما فيه من أسباب الغبطة والسعادة , وتنفر نفسه من النار وحفرها وشدة حرها .
وجاءت آية البحث لتخبر بأن قبر المؤمن روضة ناضرة ، وفيه مندوحة وفسحة لما فيه من البشارة والأمن ، كما أنها تتضمن الإنذار والوعيد للذين كفروا ، ومن منافع الوعيد في المقام بعثهم على الكف عن إيذاء الذين آمنوا ومحاولاتهم نهيهم عن الدفاع عن الإسلام ومبادئ الشريعة وأحكام الحلال والحرام .
لقد بدلت هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة حياة الناس فيها ، فبعد أن كانت الأمور المعاشية تجري رتيبة في كل يوم مع وجود خصومات بين الفينة والأخرى بين العرب واليهود ، أو بين العرب أنفسهم من الأوس والخزرج وبتعضيد من اليهود بحسب الحلف , إتحد وتآخى المسلمون فيما بينهم , وتجلت الخلق الحميدة , وما فيه تعظيم شعائر الله .
وفي خطاب لنبي إسرائيل في المدينة ورد قوله تعالى [وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم] ( ) قال : تخرجونهم من ديارهم معهم { تظاهرون عليهم بالإِثم والعدوان } فكانوا إذا كان بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت بنو النضير وقريظة مع الأوس ، وظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم ، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة { وإن يأتوكم أسارى تفادوهم } ( ).
وقد عرفتم أن ذلك عليكم في دينكم { وهو محرم عليكم } في كتابكم { إخراجهم } { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض }( ) أتفادونهم مؤمنين بذلك وتخرجونهم كفراً بذلك) ( ).
وبهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة أضاء التنزيل جنباتها وأحيى الإيمان قلوب أهلها ، وتوجهوا لأداء الصلاة اليومية ، وكانت صلاة الجماعة عيداً خاصاً بأهل المدينة والمهاجرين الذين يشع ضياء الإيمان في سيماهم وأفعالهم فلم يرق الأمر للذين كفروا فجهزوا الجيوش فكانت واقعة بدر وأحد والخندق وسقط الشهداء فأخذ الذين كفروا الحسد وإستشاطوا غضباً لأنهم أدركوا أن الشهادة طريق النصر على الذين كفروا ، لقد كانوا يشتركون في المعارك والإقتتال بين الأوس والخزرج , ولكن عندما خرج الأنصار لقتال الذين كفروا من قريش إجتهد الكفار في صدهم ومنعهم ، وحث عوائلهم على منعهم وأخذوا يدّعون بأن البقاء في المدينة وعدم الخروج إلى القتال طريق للسلامة والنجاة .
فجاءت آية البحث رداً عليهم ومن إفاضاتها أنها لم تتوجه بالخطاب والإحتجاج إلى الذين كفروا بل توجهت إلى المسلمين لإصلاحهم وبشارتهم وبعثهم على الجهاد مما يدل على عدم ترتب الأثر على قول الذين كفروا والمنافقين ، وهل في توجيه الخطاب للمسلمين بشارة , ودعوة لدخول الناس الإسلام وتنزه المنافقين عن النفاق ، الجواب نعم ولو كان على نحو الموجبة الجزئية .
ومفاد آية البحث أنه حتى لو كان كلام الذين كفروا صحيحاً بأن الشهداء لو بقوا في المدينة لم يقتلوا فان الآية السابقة وهذه الآية تتضمنان الجواب من وجوه :
الأول : الحياة والموت أمران بيد الله عز وجل , وهو الحي الذي لا يموت وليس لملك الموت أن يقبض روح أحد إلا بإذن من عند الله وليس له أن يترك أحداً عندما يبلغ أجله .
الثاني : جاءت آية البحث بالبشارة للمؤمنين بالفوز بالمغفرة والنجاة من عذاب البرزخ ، وعن البراء بن عازب قال (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولَمَّا يُلْحَد.
فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: “استعيذوا بالله من عذاب القبر”. مرتين أو ثلاثًا ثم قال: “إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال إلى الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحَنُوط من حَنُوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ بصره. ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان) ( ).
الثالث : مجئ الآيات بندب المسلمين إلى الدفاع والجهاد , وإن كان فيه أذى وقتل وجراحات , وهو المستقرأ من قوله تعالى [وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( ).
الرابع : بيان عظيم فضل الله على المؤمن الذي يقتل في سبيله سبحانه .
الخامس : إنتفاع عموم المسلمين والمسلمات من شهادة الفرد الواحد , ويدل عليه الإطلاق في الثواب الذي تذكره آية البحث ، فلم تقل ( لمغفرة للذين يقتلون في سبيل الله )بل جاءت بصيغة الإطلاق .
الآية لطف
موضوع الآية هو ما ينتظر المسلمين من القتل أو الموت ، وهو أذى بذاته وموضوعه ، فجاءت الآية بلغة التخفيف واللطف الذي لا يقدر عليه ولا يهبه إلا الله عز وجل لتتجلى فيه نفحة من نفحات الفضل الإلهي ، ويكون موضوع القتل أو الموت كالروضة الناضرة التي يدخلها المسلم ليعلم أن فيها مغفرة وعفواً ورحمة من عند الله عز وجل .
وقيدت الآية القتل بأنه في سبيل الله ليتفقه المسلمون في الدين ويمتنعوا عن القتال عصبية وحمية ويجتنبوا الإقتتال فيما بينهم ، ولبيان القبح الذاتي للإقتتال فيما بينهم ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (عضة نملة أشد على الشهيد من مس السلاح بل هو أشهى عنده من شراب ماء بارد لذيذ في يوم صائف ) ( ).
ومن وجوه اللطف الإلهي في الآية جعل موت المسلم بعرض واحد مع قتله في سبيل الله من جهة نيل العفو والمغفرة , ونزول الرحمة من عند الله وإن لم يكن بذات المرتبة .
وهل يختص اللطف الإلهي الذي تتضمنه الآية القرآنية ويترشح عنها بذات الآية , الجواب لا ، إذ تفيض معاني اللطف منها على دلالات الآيات الأخرى خصوصاً المعطوفة على تلك الآية أو الآيات التي عطفت عليها ذات الآية كما في آية البحث فان معاني اللطف فيها تشمل مضامين الآية السابقة , وتقديرها بلحاظ الفضل الإلهي بنزول هذه الآية على وجوه :
الأول :يا أيها الذين آمنوا إن الله عز وجل لطيف بكم إذ ناداكم بصفة الإيمان .
الثاني : تحذير المسلمين من تقليد ومحاكاة الذين كفروا لطف ورأفة بهم .
الثالث : فضح الآية السابقة للذين كفروا وبيانها لسوء فعلهم وتحريضهم المؤمنين على القعود رحمة ولطف بالمسلمين جميعاً , الموجود والمعدوم بشطرين الذي مات وغادر الحياة الدنيا ، والذي لم يولد بعد .
وهل تتضمن الآية السابقة معنى إعانة المسلمين على التوقي من محاكاة الذين كفروا في صد المؤمنين عن الدفاع ، الجواب نعم ، ليكون من إعجاز القرآن ان الآية تأتي بالنهي ، وتتضمن المدد والتوفيق من عند الله للإمتثال للأوامر والنواهي .
ومن أسرار النواهي في القرآن أنها أمر وجودي ومطلوب بذاتها ، وهي إمتناع عن إرادة وقصد القربة إلى الله ، ليكون هذا الإمتناع طاعة لله بالذات ومقدمة لفعل الصالحات والإمتثال للأوامر الإلهية الواردة في القرآن ، والتي تأتي على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي سنته , قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( )
الرابع : لقد ذكرت الآية السابقة الأخوة النسبية التي تربط بين المؤمنين والكفار والمنافقين من أهل المدينة ، وكذا من أهل مكة لتأديب المسلمين بأن طرو الأخوة الإيمانية لا ينسخ ويمحو الأخوة النسبية لتؤكد أن القرآن أقرّ الإنساب ودعا إلى حفظها , ولكن المدار والعمل على الإيمان والأخوة الإيمانية .
وهل تبين الآية السابقة وهذه الآية الأخوة الإيمانية , الجواب نعم ، وتؤكدان أولويتها وتقدمها على الأخوة النسبية من جهات :.
الأولى :دلالة نداء يا أيها الذين آمنوا على الجامع المشترك بين المسلمين ، والأخوة الإيمانية التي تربط بينهم .
الثانية : من خصائص نداء الإيمان بعث المسلمين للعمل المتحد والمتشابه ، إذ يقفون بين يدي الله في أوقات مخصوصة في صلاة جماعة وأفعال متشابهة من القيام والركوع والسجود , ويقومون بصيام شهر رمضان بالإمساك عن الأكل والشرب كأمر وجودي ملاكه الطاعة والقرب إلى الله عز وجل .
ويمكن تقسيم مؤاخاة وأخوة المسلمين بلحاظ الموضوع والحكم إلى أقسام :
الأول : الأخوة بين المسلمين في أداء العبادات , ويمكن تسميتها (أخوة العبادة).
الثاني : الأخوة بين المسلمين في ميادين الدفاع ومقدماته ، وهي من أبهى معاني الأخوة لأنها تحمل صبغة قصد القربة إلى الله , وتؤكد صدق العبادة وحب الفداء والتضحية في سبيل الله .
الثالث : الأخوة بين المسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ) وتحتمل آية البحث وجوهاً :
أولاً : الآية من الأمر بالمعروف .
ثانياً : الآية من النهي عن المنكر .
ثالثاً : آية البحث عنوان جامع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
رابعاً : موضوع الآية أجنبي عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
والصحيح هو( ثالثاً ) أعلاه إذ أنها تدعو في ذاتها وتلاوتها وتفسيرها إلى حث المسلمين للمناجاة بينهم للنفير في سبيل الله ، وعدم الإصغاء للذين كفروا وإن كانوا من ذوي قربائهم ، ومن الآيات المكية التي نزلت في بدايات الإسلام ، قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( )، لتكون فيها دعوة للمسلمين لإنذار ذوي القربى ، لذا فان ذكر الآية السابقة للأخوة النسبية [وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ] وبلحاظ الآية أعلاه دعوة للمسلمين لإنذار أقربائهم من جهات :
الأولى : النهي عن البقاء على الكفر والضلالة .
الثانية : المنع من النفاق , ودعوة الأقرباء للتنزه عنه .
الثالثة : الإنذار من الصدود عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : نهي الذين كفروا عن الصد عن سبيل الله ، وهل تلاوة آية البحث من مصاديق هذا النهي ، الجواب نعم .
الخامسة : النهي عن محاربة النبوة والتنزيل بالسيف أو اللسان .
الرابع : الأخوة بين المسلمين بالتجارة والمكاسب والمضاربة .
الخامس : التعاون بين المسلمين في ميادين الخير والصلاح ، قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ).
الثالثة : تقيد المسلمين مجتمعين ومتفرقين بالنهي الوارد في الآية السابقة من الشواهد على الأخوةبينهم , وكل إمتثال لأمر أو نهي من عند الله مناسبة لتجدد الأخوة الإيمانية بينهم .
الرابعة : ضرب وسفر المسلمين في الأرض لنشر الإسلام وحتى للتجارة من معاني الأخوة بينهم إذ يسافرون برداء الإسلام .
الخامسة : الدفاع والغزو في سبيل الله جامع مشترك بين المسلمين وهو من أبهى الأخوة ، لذا نعتهم الله عز وجل بالمؤمنين بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
السادسة : القتل في سبيل الله أخوة في النشأتين ، وكذا إصابة المسلمين بالجراحات والكلوم في مواجهة الذين كفروا .
السابعة : حرص المسلمين على التعاضد وتسوية الصفوف في الصلاة وميدان القتال ضد الكفر عنوان للوحدة والتآخي بينهم .
الثامنة : ورد في الآية السابقة قوله تعالى [لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ] لبيان حقيقة وهي أن أخوة وتعاضد المسلمين سبب لبعث الأسى في قلوب الذين كفروا .
وهل تختص الحسرة التي تملأ قلوبهم بالحياة الدنيا ، الجواب لا ، إذ أنها تكون أظهر وأجلى يوم القيامة لذا سمّاه الله عز وجل يوم الحسرة .
وعن أبي سعيد الخدري قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا دخل أهل الجنة الجنة , وأهل النار النار يجاء بالموت كأنه كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار ، فيقال : يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ ، فيشرفون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رآه ، ثم يقال يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ ، فيشرفون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت وكلهم قد رآه ، فيؤمر به فيذبح ، فيقال : يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت .
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ]( )، وأشار بيده , وقال : أهل الدنيا في غفلة) ( ).
التاسعة : من معاني الأخوة بين المسلمين التسليم بأن الحياة الدنيا والموت بيد الله عز وجل وتفويضهم أمورهم إليه سبحانه ، وإظهارهم حسن التوكل عليه سبحانه , وفيه منسأة في الأجل ، وتخفيف في مواطن القتال ، وصرف للكيد والمكر الذي يأتي من طرف الذين كفروا ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] ( ).
العاشرة : إبتدأت آية البحث بقوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ومن معاني الأخوة الإيمانية , فيه وجوه :
أولاً : تلقي المسلمين نبأ القتل المحتمل بالقبول والرضا .
ثانياً : إرادة المسلمين قصد القربة عند الخروج لميادين القتال .
ثالثاً : إنقياد المسلمين لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القتال ، وقد أدركوا الضرر الجسيم لمخالفة أوامره عندما ترك الرماة على الجبل مواضعهم طمعاً بالغنيمة فجاءت خيل المشركين من الخلف لتجهز على المسلمين , ويسقط عدد منهم شهداء .
رابعاً : كل شهيد من المسلمين عنوان وسبيل لتثبيت الأخوة الإيمانية بينهم .
الحادية عشرة : تعاون المسلمين فيما بينهم للفوز بمرتبة المغفرة من عند الله ، والتي تذكرها آية البحث .
الثانية عشرة : إجتهاد المسلمين بالدعاء والمسألة والإيمان بأن مقاليد الأمور بيده سبحانه وأنه يستجيب للدعاء , وهذه الإستجابة من مصاديق لفظ [وَرَحْمَةٌ ] الذي تذكره آية البحث ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) ومن معاني الأخوة بين المسلمين وحدة الموضوع ومسألة الدعاء.
الثالثة عشرة : تنزه المسلمين عن محاكاة الذين كفروا في لهثهم وراء الدنيا ومباهجها ، ويدل على هذا التنزه خاتمة آية البحث [وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ].
ومن خصائص آية البحث جعل المسلمين يستعدون للقتل والموت بلطف من عند الله ، ومن خصائص اللطف في المقام أمور :
الأول : عطف آية البحث على نداء الإكرام والإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الثاني : بعث الطمأنينة في نفوس المسلمين في حال طرو القتل أو الموت في ناحيتهم ، فعندما يقتل أحدهم فانهم لا يخشون ولا يخافون عليه لأن الله عز وجل بشّره بالمغفرة والرحمة ، وهو من عمومات قوله تعالى [فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( )، لتبين هنا قانوناً يذكر لأول مرة ، وهو فوز المسلمين بمرتبة السلامة من الخوف والحزن بفعل وشهادة أحدهم ، فيقتل المؤمن دفاعاً في سبيل الله فتنزل السكينة على المؤمنين من جهات :
الأولى : الرضا بأمر الله عز وجل بفقدان أحدهم بالقتل .
الثانية : المؤاساة من عند الله بالأخوة الإيمانية , قال تعالى[وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا]( ).
وتبين الآية أعلاه أن الأخوة بين المسلمين نعمة وهبة من عند الله , وأنه سبحانه أزال الموانع دونها .
الثالثة : الطمأنينة بأن الذي يقتل من المسلمين يكون في مقام محمود عند الله عز وجل .
الرابعة : رجاء المسلمين أن يكون الشهيد شفيعاً لهم , ودمه واقية وحفظاً لهم .
الخامسة : حرمان الذين كفروا من الزيادة في القوة والمنعة عند قتل المؤمن ، لذا لم يصل مدد ونصرة لجيش المشركين في معارك بدر وأحد والخندق مع كثرة المشركين آنذاك مع إستمرار الحصار في معركة الخندق لأكثر من عشرين ليلة ، وكان فيها المشركون محاصرِين – بالكسر – وليسوا محاصريَن – بالفتح -.
الثالث : شهادة الله عز وجل للمسلمين بأنهم يُقتلون في سبيله ، ودفاعاً عن مبادئ التوحيد وسنن النبوة وآيات التنزيل .
الرابع : تخفيف وطأة قتل الأحبة على المسلمين , وهو الذي تجلى بتلقي أسر وعوائل الشهداء من الأنصار نبأ قتلهم إذ كان همّ هذه العوائل وعموم أهل المدينة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم سالماً من معركة أحد خاصة بعد إشاعة نبأ قتله في ميدان المعركة وبلوغ هذه الإشاعة إلى المدينة وإنتشارها بسرعة .
وإذا كان الذين كفروا يحثون إخوانهم بالنسب من الأنصار على القعود عن القتال ، فماذا كانوا يقولون بخصوص بروز النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى القتال , الجواب لم تشر له هذه الآيات ، وهو من الإعجاز في قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ) .
لتشمل العصمة التي تذكرها الآية أعلاه إمتناع الناس عن أمور :
الأول : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للغزو .
الثاني : بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم السرايا للدفاع والفتح .
الثالث : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعفو عن عدد من الأسرى من غير فداء أو بدل .
الرابع : الصبر الذي كان يتصف به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس :غلظة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الكفار والمنافقين ، قال تعالى [جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ).
إكرام الآية للمسلمين
لقد إبتدأت آية البحث بصيغة الخطاب للمسلمين ، ويكون الخطاب في معناه على أقسام :
الأول :إرادة الثناء والمدح .
الثاني : قصد الذم والتوبيخ .
الثالث : لغة الخبر , وحتى هذا الخبر قد لا يخلو من المدح أو الذم بصيغة التعريض والكتابة .
فجاءت آية البحث من القسم الأول ، وهي خير محض في معناها ودلالاتها ، وما تبعث إليه من ضروب الصبر والطاعة لله والتفاني في مرضاته .
وتكشف الآية عن قانون وهو تملك المسلمين لإختيار القول الفعل من غير إكراه من الذين كفروا ، فقد عاش المسلمون في بدايات الدعوة في مكة حياة إستضعاف ، ولاقوا صنوفاً من التعذيب وفي قوله تعالى [إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ] ( )، ورد أنها نزلت في عمار بن ياسر إذ أخذه بنو المغيرة فغطوه في بئر , وقالوا : أكفر بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فأتبعهم على ذلك وقلبه كاره فنزلت) ( ).
وعن مجاهد قال (نزلت هذه الآية في أناس من أهل مكة آمنوا ، فكتب إليهم بعض الصحابة بالمدينة : أن هاجروا فإنا لا نرى أنكم منا حتى تهاجروا إلينا ، فخرجوا يريدون المدينة فأدركتهم قريش في الطريق ففتنوهم ، فكفروا مكرهين ، ففيهم نزلت هذه الآية .
وأخرج ابن سعد عن عمر بن الحكم , قال : كان عمار بن ياسر يُعذب حتى لا يدري ما يقول ، وكان صهيب يُعذب حتى لا يدري ما يقول ، وكان أبو فكيهة يُعذب حتى لا يدري ما يقول ، وبلال وعامر وابن فهيرة وقوم من المسلمين ، وفيهم نزلت هذه الآية { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا]( ).
وجاءت آية البحث لتبين حاجة المسلمين إلى القتال لسلامة دينهم وأنفسهم في آن واحد ، إن الذي يخوّف الكفار به المسلمون من شدة بطشهم تصدى له المسلمون بصدورهم فنزلت الملاكة لنصرتهم , وإلحاق الخزي والذل بالذين كفروا .
وفي التنزيل [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا] ( )وفيه حث للمسلمين لإستحضار نعم الله عز وجل عليهم فوردت الآية أعلاه ومضامين النعمة فيها من باب المثال الجلي والواضح ، وليس من حصر للنعم الإلهية على المسلمين , ومنها آية البحث التي تخبر عن نزول القتل في سبيل الله بالمسلمين ، فان قلت قد يكون قتل المؤمن على فراشه أو في حال التعذيب .
والجواب هذا صحيح , ولكن الآية السابقة تدل على إنبعاث المسلمين للقتال وخروجهم للقاء العدو .
مع قيام الكافرين والمنافقين بترغيبهم بالقعود والإدعاء بأنه سبيل النجاة والسلامة في البدن ، ولم يعلموا أن المؤمنين لم يطلبوا هذه السلامة إنما أرادوا سلامة الدين وحفظ بيضة الإسلام .
لذا فان الموضوع الذي يعلنه الذين كفروا ويجعلون المنع عنه غاية إنما هو بلغة سامية عند المسلمين , ووسيلة للهدف والمقصد الأسمى وهو تثبيت أحكام الشريعة في الأرض , ولم يزدهم تخويف الذين كفروا إلا عشقاً للجهاد وحباً لطاعة الله ورسوله ، وفي التنزيل [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
وتدل الآية السابقة على خروج المسلمين إلى الغزو وسفرهم في القرى والأمصار لنشر الإسلام والتجارة والكسب ، فان قلت لم يكن متعارفاً خروج الوفود من المدينة المنورة إلى الأمصار للدعوة والتبليغ في بدايات الهجرة , والجواب من جهات :
الأولى : كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبعث بعض أصحابه إلى القبائل للدعوة إلى الإسلام .
الثانية : لقد أرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الملوك والحكام في السنة السادسة للهجرة يدعوهم إلى الإسلام .
فبعد رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صلح الحديبية بعث ستة من أصحابه في السنة السابعة للهجرة , وفي يوم واحد إلى عدد من الملوك , فبعث كتاباً إلى كسرى مع عبد الله بن حذافة , وذُكر أن الذي بعثه له النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو شجاع بن وهب .
وعن الزهري قال (حدثنى عبدالرحمن بن القارى، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام ذات يوم على المنبر خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وتشهد ثم قال: ” أما بعد فإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك الاعاجم، فلا تختلفوا علي كما اختلفت بنو إسرائيل على عيسى بن مريم.
فقال المهاجرون: يا رسول الله إنا لا نختلف عليك في شئ أبدا فمرنا وابعثنا.
فبعث شجاع بن وهب إلى كسرى، فأمر كسرى بإيوانه أن يزين ثم أذن لعظماء فارس، ثم أذن لشجاع بن وهب، فلما أن دخل عليه أمر كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقبض منه، فقال شجاع بن وهب: لا حتى أدفعه أنا إليك كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال كسرى: ادنه.
فدنا فناوله الكتاب.
ثم دعا كاتبا له من أهل الحيرة فقرأه فإذا فيه: ” من محمد عبد الله ورسوله إلى كسرى عظيم فارس ” قال: فأغضبه حين بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وصاح وغضب ومزّق الكتاب قبل أن يعلم ما فيه، وأمر بشجاع بن وهب فأخرج .
فلما رأى ذلك قعد على راحلته ثم سار، ثم قال: والله ما أبالي على أي الطريقين أكون إذا أديت كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ! قال: ولما ذهب عن كسرى سورة غضبه بعث إلى شجاع ليدخل عليه، فالتمس فلم يوجد، فطلب إلى الحيرة فسبق.
فلما قدم شجاع على النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بما كان من أمر كسرى وتمزيقه لكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” مزّق كسرى ملكه ) ( ).
ومن وجوه إكرام آية البحث للمسلمين تعدد وتوالي النعم على المسلمين في حياتهم وبعد مماتهم ، ومنها ما ذكرته آية البحث من نيل المسلم المغفرة سواء قتل في سبيل الله أو مات على فراشه ، كما تتغشاه رحمة الله عز وجل ، وليس من حصر وتعيين لمصاديق الرحمة التي تأتي للمسلم حياً وميتاً .
وتبين الآية تنزه المسلمين عن حب الدنيا واللهث وراءها ، وهذا التنزه واقية من الإنصات للذين كفروا في صدهم عن السعي في دروب الجهاد في سبيل الله .
وجاءت الآية بصيغة جملة الشرط مع حذف جواب الشرط ، لبيان أن القتل في سبيل الله عز وجل باب لنزول النعم على نحو دفعي ، لذا ذكرت الآية الرحمة منه تعالى لما فيها من المندوحة والسعة ,ولأنها حاضرة في كل آن وعند كل مخلوق .
وهل هو من عمومات قوله تعالى[فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ]( )، بلحاظ أن الرحمة من رشحات ومعاني الآية أعلاه , أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو موضوع وأحكام القبلة في الصلاة , المختار هو الأول.
الثالثة : تتقوم النبوة بالدعوة والتبليغ، وقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإرسال الأشخاص والرسل والوفود حتى وهو في مكة، قبل الهجرة، فبعث مصعب بن عمير مع وفد أهل الأوس والخزرج إلى المدينة ليعلم أهلها أحكام الدين، وآيات القرآن .
وبعد الهجرة كانت بعض القبائل تأتي إلى المدينة ويدخل أعضاء الوفود منها الإسلام فيرسل معهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يعلمهم الفرائض والسنن، ومنهم من تعرض للقتل في طريق التبليغ وحصلت وقائع ومصائب منها :
الأولى : سألت قبيلة عضل وقارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث اليهم من يعلّمهم شرائع الإسلام فارسل إليهم ستة من أصحابه وأمر عليهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي، ولكن القوم غدروا بهم وقتلوا أربعة منهم، وباعوا إثنين منهم لقريش، الذين صلبوهما ثأراً لقتلى بدر من المشركين.
الثانية : قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بارسال أربعين من أصحابه كما عن ابن إسحاق وقيل سبعين إلى بني عامر بسؤال وإلحاح من قبل أبي براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة الذي وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدعاه إلى الإسلام وعرض عليه أحكامه فتوقف ولم يسلم، ولكنه طلب أن يبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معه عدداً من المسلمين للتبليغ فقال له : إني أخشى عليهم أهل نجد.
فقال أبو براء : أنا لهم جار. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بنى ساعدة، المعنق ليموت، في أربعين رجلا من أصحابه من خيار المسلمين، فيهم الحارث بن الصمة وحرام بن ملحان أخو بنى عدي بن النجار، وعروة بن أسماء بن الصلت السلمى، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، في رجال من خيار المسلمين( ).
ونزلوا بئر معونة بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، وبعثوا أحدهم هو حرام بن ملحان إلى عامر بن الطفيل ليسمله كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم فيه إلى الإسلام، فعدا على الرجل فقتله، ثم إستصرخ قومه بني عامر وحثهم على قتل الصحابة الذين جاءوهم، ولكنهم أبوا وإمتنعوا فذهب إلى غيرهم ، إلى قبائل من بني سليم فأجابوه، وخرجوا معه وأحاطوا بالصحابة، وهم منقطعون إلى العبادة، ولكن لما رأوا القوم حملوا سيوفهم وقاتلوهم إلى أن قُتل الصحابة كلهم باستثناء جريح إستطاع أن ينجو وهو كعب بن زيد من بني النجار، فعاش إلى أن أستشهد في معركة الخندق، وسنذكر القصة على نحو التفصيل في جزء لاحق إن شاء الله .

الآية بشارة
الحمد لله الذي جعل كل آية قرآنية بشارة وترغيباً بالإيمان , وباعثاً على عمل الصالحات , وزاجراً عن فعل السيئات .
ومن الآيات في المقام أمور :
الأول : كل آية قرآنية بشارة بذاتها وموضوعها وما تتضمنه من الدلالة والأحكام .
الثاني : ترشح البشارة عن الجمع بين كل آيتين من القرآن .
الثالث : تجلي معاني البشارة عند الجمع بين كل ثلاث آيات من القرآن أو أكثر .
وتقسم البشارة القرآنية إلى وجوه :
أولاً : البشارة برسم وكلمات الآية القرآنية .
ثانياً : تجلي البشارة بتلاوة الآية القرآنية إذ يدرك المسلم عند تلاوة الآية أو الإستماع لمن يقرأ ها أنها تزف له البشارة ، وهو من الإعجاز في الصلاة من جهات :
الأولى : وجوب الصلاة وجوباً عينياً على كل مسلم ومسلمة .
الثانية : تلاوة آيات القرآن شرط في كل صلاة ، وعلى نحو متعدد من جهة السورة والآيات ، فلابد من قراءة سورة الفاتحة ، وسورة أو آيات من سورة أخرى .
الثالثة : بشارة آيات القرآن للذين يتعاهدون الصلاة , (عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم-: بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِى الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ( ).
ثالثاً : البشارة التي تترشح عن التدبر في مضامين الآية، وتفسيرها فان قلت يستلزم التفسير مرتبة من العلم مما يدل أن البشارة هنا لا تأتي لكل مسلم إلا بالواسطة , والجواب تتحقق معاني البشارة بالآية القرآنية مع أدنى تأمل وتدبر , ومن أي مسلم ومسلمة وإن إختلفت مداركهم، كما تأتي بشارات إضافية بواسطة تفسير وتأويل العلماء، لتكون هذه البشارات علماً مستقلاً ومتجدداً.
رابعاً : البشارة التي تتضمنها الآية القرآنية في ثناياها كما في آية البحث التي مع قلة كلماتها فهي تبشر بالمغفرة والرحمة.
خامساً : البشارات التي تترشح في الواقع العملي كمصداق للعلوم الواردة في آيات القرآنية.
ومع أن آية البحث إبتدأت بالإخبار عن إصابة المؤمنين بالقتل، وجاءت بصيغة الجمع إلا أنها تتضمن البشارة في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فمن جهات:
الأولى : مجئ الآية بصيغة الجملة الشرطية، وإحتمال وقوع القتل للمؤمن.
الثانية : بشارة المسلم في كل يوم من حياته بما ينتظره من حسن العاقبة عند مفارقته الدنيا .
الثالثة : لغة العموم الإستغراقي في البشارة لتشمل المسلمين جميعاً رجالاً ونساءً بأن الجنة تتطلع إليهم، وتستعد للقائهم، وأنها تريد لبثهم الدائم فيها، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الرابعة : إتصاف قتل المسلمين بأنه في سبيل الله.
الخامسة : الوعد الكريم من عند الله عز وجل للمسلمين , وأما في الآخرة فمن جهات:
الأولى : فوز المسلمين بالمغفرة من عند الله، لقوله تعالى (لمغفرة).
الثانية : ترتب الجزاء الحسن على المغفرة، بفضل من الله عز وجل.
الثالثة : حضور ومصاحبة رحمة الله للمؤمنين في الآخرة.
الرابعة : تحقق الوعد الكريم من الله بالإقامة في النعيم.
وسيأتي مزيد بيان في قانون(كل آية بشارة قرآنية) ( ) .
الآية إنذار
ليس من آية قرآنية إلا وهي تتضمن الإنذار في منطوقها أو في مفهومها , ويمكن تشريع بابين في تفسير كل آية من القرآن وهما :
الأول : الآية بشارة , وتقدم أعلاه ما يخص آية البحث .
الثاني : الآية إنذار .
ويضاف إلى أبواب التفسير في هذا السفر ، وتتضمن آية البحث الإنذار من وجوه :
الأول : زجر الذين كفروا عن قتال ومحاربة المسلمين لدلالة لفظ [َلَئِنْ قُتِلْتُمْ] على أطراف :
أولاً : القاتل وهو الكافر .
ثانياً : القتل وهو مغادرة روح المؤمن جسده بالآلة والجناية .
ثالثاً : المقتول وهو المسلم , وفي ميدان المعركة أو خارجها ، ويتوجه الإنذار إلى الكافر من جهات :
الأولى : البقاء على الكفر فهو قبيح ذاتاً وخلاف علة خلقه وهي العبادة ، فمن إعجاز القرآن أن من مفاهيم قوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ] دعوة الناس لنبذ الكفر .
الثانية : بيان قاعدة وهي أن الكفر قد يكون باعثاً على محاربة النبوة والتنزيل .
الثالثة : إنذار الذين كفروا بأن المسلمين مستعدون لمحاربة الكفر وبذل النفوس فداء للإسلام ، فقوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ ]خطاب وتحذير إلى الذين كفروا بأن المسلمين لم يذعنوا لكم ، قال تعالى في خطاب للمسلمين [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
الثاني : مجئ آية البحث بصيغة الجمع ، فلم تقل الآية (لئن قتلت).
ومن خصائص صيغة الجمع في المقام بيان أن كل مسلم هو في معرض الشهادة , وفيه إنذار للذين كفروا ، فقد أبى الله إلا أن يحفظ الإسلام ويذب عن المؤمنين ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا]( ).
الثالث : بيان موضوع تضحية المسلم , وهو بقصد تعظيم شعائر الله والحفاظ على بيضة الإسلام ، وفيه إنذار للذين كفروا وزجر لهم عن الإصرار على محاربة الإسلام ، وفي آية البحث بيان لما ورد قبل آيتين [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) من وجوه :
أولاً : يقاتل جمع المسلمين في سبيل الله .
ثانياً : يقاتل الذين كفروا لإشاعة الفساد في الأرض ، قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ]( ).
ثالثاً : سقوط القتلى من المؤمنين ومغادرتهم الدنيا في سبيل الله .
فمن إعجاز آية البحث أن صفة في سبيل الله تصاحب الشهيد في حياته وفي القبر ويوم القيامة ، وهل تغادره في الجنة بلحاظ التساوي بين المؤمنين الذين يعملون الصالحات في الاسم وكونهم أهل الجنة ، أم يبقون يعرفون بصفة الشهادة , الجواب هو الثاني فالشرف العام لا يمنع من الشأن الخاص , والمنزلة الرفيعة .
الرابع : إنذار الذين كفروا بأن المسلمين يقاتلون بأمر من عند الله ، قال سبحانه [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( )فاذا قتلت طائفة منهم فان ذات الأمر بالقتال يتوجه للباقين من المسلمين ولو على نحو كفائي , وفيه بعث لليأس في نفوس الذين كفروا .
الخامس : بيان قانون وهو أن دفاع المسلمين ضرورة لسيادة التوحيد في الأرض وإزاحة الكفر والضلالة .
السادس : بيان آية البحث لحقيقة وهي أن المغفرة خاصة بالذين آمنوا مما يدل على حجبها عن عدوهم الذي يحاربهم ويشيع القتل فيهم ،فلقد سقط سبعون شهيداً في معركة أحد ولا يعلم أحد مقدار وكم وجنس الإثم الذي لحق جيش الذين كفروا وما يلحق بهم من الضرر .
ومن الآيات إصابتهم بالأذى والضرر , وهم في ميدان المعركة وفقدوا رجالاً منهم في ميدان المعركة ، وظهر النقص والخلل في تنظيمهم في المعركة , لقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) لبيان أن الطرف أعم من قتل الأفراد من المشركين وهو يختلف عن الوسط .
وعن ابن إسحاق قال ( فجميع من قتل يوم أحد من المشركين إثنان وعشرون رجلاً ) ( ).
لبيان قانون وهو أن قوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] أن قتل المؤمن طريق إلى الجنة , يقابله قتل بالمشركين , ويكون مصيرهم إلى النار .
فمن إعجاز القرآن أنه في حال إخباره عن قتل المؤمنين فهو إنذار للذين كفروا ، وتخويف لهم في ساعة القتل وما بعدها ، لذا تراهم لا يفرحون حينما يقتلون مؤمناً ، بينما تغمر السعادة المسلمين عندما يُقتل أحد مشركي قريش ، وهل تصح هذه السعادة عند الإقتتال بين المسلمين الناطقين بالشهادتين ، الجواب لا، فذات القتل محرم وكذا السكوت عنه ، قال تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا] ( ).
وأختتمت آية البحث بذكر ما يجمع الناس من الأموال وزينة الدنيا وجاء ذكرها على نحو التفضيل بقوله تعالى [وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] لبيان أن الفضل في الإسلام وإخلاص العبادة .
(روى أبان عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « مَنْ هَدَاهُ اللهُ لِلإِسْلاَمِ وَعَلَّمَهُ القُرآنَ ثُمَّ شَكَا الفَاقَةَ كَتبَ اللَّهُ الْفَقْرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ ثم تلا { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ })( ).
ومن الإعجاز أن خاتمة آية البحث إنذار للذين كفروا ، فـاعز ما عندهم في الدنيا هو المال والمتاع فأخبرت عن كونه إلى زوال ، وبينت أن الإنسان يحتاج إلى المغفرة وإلى رحمة الله في الدنيا والآخرة ، وأن المال لا يجلب أي منهما ، فليس لهما إلا طريق واحد هو الإيمان ، ويكون القتل والشهادة في ملاقاة الذين كفروا من قريش ونحوهم البلغة والسبيل المبارك لها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )من جهات :
الأولى : السعي في مرضاة الله .
الثانية : زجر الناس عن الإقامة على الكفر.
الثالثة : إنذار الذين كفروا والمنافقين وتخويفهم من الإستمرار في محاولات منع المؤمنين من الإنبعاث للجهاد والدفاع خاصة وأن الذين كفروا على أبواب ثغر الإسلام .
الرابعة : إخبار الذين كفروا بأن المؤمنين لم يلتفتوا إلى زينة الدنيا والأموال ، ولم يجعلوها غايتهم وملاك همّهم بلحاظ أن الرغبة في المرابطة في الثغور , ومزاولة القتال وحب الشهادة في سبيل الله شواهد على التنزه عن حب الدنيا .
الآية رحمة
ورد العطف في أول آية البحث للتذكير بالآية السابقة , وبيان الصلة بين الآيتين من جهة الموضوع والحكم ، ومن رحمة الله عز وجل بالمسلمين عطف آية البحث على الآية التي تبدأ بنداء الإيمان ، وفيه خير الدنيا والآخرة .
ويكره الإنسان بفطرته الموت ، وهو في الأصل يتجنب التغيير الحاد والسريع في حياته ، ويميل بطبعه إلى الإستقراو ليكون هذا الإستقرار وسيلة للتدبر بالآيات الكونية والبراهين التي تدل على وجوب عبادة الله عز وجل .
ولكن المسلمين الأوائل إختاروا ترك حياة الدعة في مكة وهاجروا إلى الحبشة وإلى المدينة ، وفارقوا الأهل والأحبة ليذهبوا إلى المجهول فلم تكن هناك دولة تأويهم باسم الإسلام ، لتكون هجرتهم معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ويمكن أن تؤلف مجلدات بعنوان (الإعجاز في الهجرة ) لتكون آية البحث إشراقة منها .
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت آية البحث بحرف العطف الواو للدلالة على ربط إتصال مضامينها بالآية السابقة لها التي تتضمن أموراً :
الأول : النداء والخطاب للمسلمين بصيغة الإيمان [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ]ليكون تقدير حرف الإستئناف , والعطف في آية البحث على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا .
ثانياً : ولا تكونوا كالذين كفروا .
ثالثاً : ولا تقولوا لإخوانكم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا .
رابعاً : وليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم .
خامساً : والله يحيي ويميت .
سادساً : والله بما تعملون بصير .
ومن معاني حرف العطف بلحاظ وجوه التقدير أعلاه تأكيد مضامين الآية السابقة ، ودعوة الناس للتدبر في دلالاتها ، وكل شطر منها حجة وبرهان .
الثاني : تضمن الآية السابقة النهي ، ومجئ هذا النهي بعد نداء الإيمان من غير فاصلة بينهما ، وهذا الإتصال عون للمسلمين للإمتثال والتقيد بأحكام النهي ، وإجتناب التشبه بالذين كفروا , وتحتمل الآية السابقة وجوهاً :
أولاً : النهي بإمتناع المسلمين عن محاكاة الذين كفروا في شماتتهم وخبثهم ونهيهم عن الإنبعاث للدفاع عن الإسلام .
ثانياً : المناجاة بين المسلمين للخروج للجهاد .
ثالثاً : التكافل بين المسلمين وإعانة ذوي الشهداء والعناية بعوائل الغزاة الذين دافعوا ضد مشركي قريش (وعن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من جهز غازياً في سبيل الله فله مثل أجره ، ومن خلف غازياً في أهله بخير وأنفق على أهله كان له مثل أجره) ( ).
ولا تعارض بين الوجوه أعلاه إذ أن الآية السابقة لا تفيد الحصر بالنهي عن الإمتناع عن محاكاة الذين كفروا بدليل آية البحث التي يدل إخبارها عن القتل في سبيل الله على الخروج لميادين الدفاع وعدم الإلتفات لصد وصدود الذين كفروا .
الثالث : بيان قبح مقولة الذين كفروا في ذكرهم للذين أستشهدوا من إخوانهم الأنصار ، ويحتمل هذا القبح من جهات :
الأولى : مجئ النداء بصفة الإيمان خاصاً بالمسلمين الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن القرآن حق , وإذ كان هذا النداء وعد ممن عند الله عز وجل للذين آمنوا فانه وعيد وتخويف للذين كفروا .
وهل فيه دعوة لهم للتوبة والإنابة الجواب نعم ، خاصة وأنه لم يذكر أو يشر إلى أشخاص بعينهم من المهاجرين والأنصار ، كما أن باب الدخول للإسلام مفتوح في كل آن .
الثانية : نعت الذين يصدون عن سبيل الله ويشمتون بالشهداء بالكفر والجحود .
وأصل الكفر هو الستر ، ومنه يقال لليل المظلم لأنه يستر بظلامه كل شيء ويقال للفلاح كافراً لأنه يستر البذر ، قال تعالى [كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ] ( ).
وقال لبيد( ) بن ربيعة بن مالك :
يعلو طريقةَ متنها متواتر … في ليلةٍ كَفَرَ النجومَ غَمامُها
أي غطّاها. وتكفر الرجل بثوبه، إذا اشتمل به. وتكفَر في السِّلاح، إذا دخل فيها، يعني الدِّرع وما أشبهها. ونهر الحِيرة يسمَّى كافراً. قال الشاعر:
فألقيتها بالثِّنْي من جَنْبِ كافرٍ … كذلك أقنو كلَّ قِطًّ مضلَّل
القِطّ ها هنا: الكتاب، والمضلَّل: الرديء الذي فيه الضلال، وقوله أقنو: أجعله قِنوَة، ويقال: قَنوْتُه كذا وكذا، أي أعطيته. وكل شيء متغطّ بشيء فقد تكفَّر به)( ).
وتسمية الكافر أعم من الستر وإخفاء النعمة ، إذ تشمل الجحود يقال كافره حقه إذا جحد وأنكر حقه فان قيل ورد قوله تعالى [وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ] ( )، فهل يدل على أن الكفر في مقابل الشكر على نحو الضدين ، الجواب نعم ، ولكن الكفر لا ينحصر بمعنى الضد لخصوص الشكر ، وهو من الآيات في سرعة وعظم الثواب الذي يأتي على الشكر لله ، وعلى كل فعل عبادي ، بينما يمهل الله العبد ولا يعجل له العذاب عند المعصية إلا ببلوغ مراتب الكفر والجحود , والكفر على أقسام :
الأول : كفر وجحود وإنكار للربوبية .
الثاني : كفر عناد بأن يسلم بقلبه بالعبودية لله , وأنه تعالى هو الخالق ويقر بأن الله هو إله العالمين ، ولكنه لا يدين به ، قال تعالى [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( ).
الثالث : كفر نفاق : بأن يعلن بلسانه الإيمان ويجحد بقلبه .
الرابع : كفر : إنكار للنبوة والتنزيل .
الخامس : كفر بشطر من النبوات والتنزيل .
وتجمع الآية السابقة الكافرين والمنافقين , وتتوجه لهم بالذم والزجر والتذكير بقبح نهي أو لوم المسلمين لإنبعاثهم في سبيل الله .
ومدار الكفر الإنكار بالقول أو الفعل أو بهما معاً وبما عرف بالبينة عند كل أحد وشاع وأشتهر بين الناس الخواص والعوام ، وبما يثبت عند الحاكم الشرعي ، فلعله عن شبهة أو جهالة أو رفقة سوء خاصة في زمن العولمة تزول بالتبصر لذا جاءت آيات القرآن بذم الكفر والزجر عن النفاق لإصلاح النفوس ، وكل آية قرآنية سبب وطريق لدخول الناس الإسلام .
ومن أشد المفاسد في الأرض الكفر ، لذا قابله المسلمون بالسيف لإستئصاله من المجتمعات , ولحمل الناس على تركه طوعاً وكرهاً ، وهو من فضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن الشواهد عليه أن الذي يدخل الإسلام يمتنع عن الإرتداد هو وأبناؤه وذريته ، كأن الأب الذي يصير مسلماً يعبر بذراريه إلى سبل النجاة في النشأتين ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
فمن علمه تعالى أن الكفر ينقطع بشخص يدخل الإسلام فيصبح أبناؤه وأحفاده مسلمين يحرصون على تعظيم شعائر الله ، ولا يلتفتون إلى الشكوك التي يبثها الذين كفروا ويتواصون بالإحتراز من مفاهيم الكفر ، ولا يختص هذا التواصي بالرجال منهم بل يشمل الرجال والنساء من الذرية وأزواجهم ، قال تعالى في الثناء على المسلمين [وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ] ( ).
الثالثة : عدم تقيد الذين كفروا بآداب الأخوة النسبية ، وعدم تعضيد إخوانهم في محاربة الغزاة الكفرة من قريش .
الرابعة : عدم تسليم الذين كفروا بالموت بالأجل المكتوب .
الخامسة : بيان مصاحبة الحسرة والأسى للذين كفروا .

من غايات الآية
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : ترغيب المسلمين بالجهاد ,لدلالة الإخبار عن القتل بالدلالة التضمنية على أمور :
الأول : إصرار الذين كفروا على محاربة الإسلام والمسلمين .
الثاني : مصاحبة تعذيب الذين كفروا للمسلمين من بدايات الدعوة الإسلامية في مكة ، ومن الآيات صيرورة الهجرة النبوية إلى المدينة برزخاً دون تعذيب الصحابة من الأوس والخزرج فمع منزلة أهل العقبة في قومهم وعند أهل المدينة عامة فان هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساعدت في بناء صرح دولة الإسلام ، وصيرورة الأنصار والمهاجرين أمة ذات شأن ومنعة ليكون من أسرار ومعاني مؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم بعث الخوف والرعب في نفوس الذين كفروا من أهل المدينة ، لذا إتخذوا سبيل النفاق طريقاً ومنهاجاً .
وهل قولهم الذي تذكره الآية السابقة [وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ..] من النفاق ورشحات الخوف الذي ملأ قلوبهم من الإسلام ، الجواب نعم .
فان قلت لماذا لم تقل الآية (الذين نافقوا) خصوصاً وقد ورد هذا اللفظ في القرآن , الجواب من وجوه :
أولاً : جاءت الآية بالمعنى الأعم وتقديرها على جهات :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا ظاهراً وباطناً وقالوا لإخوانهم ..).
الثانية : يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا في الباطن وقالوا لإخوانهم ..).
الثالثة : لا تكونوا كالذين كفروا من أهل المدينة , وأهل مكة وما حولها الذي قالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض ..) ليكون من الإعجاز في هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنقطاع تعذيب المسلمين من قبل الذين كفروا ، وفيه إنذار لهم بصيرورة المسلمين في عز وهيبة , وعندما هاجر رهط من أهل البيت والصحابة إلى الحبشة أرسلت قريش خلفهم وفداً إلى ملكها النجاشي مع هدايا له ولحاشيته لتسليم المهاجرين لهم فأبى النجاشي ، وأنصت للمهاجرين وقاموا بتلاوة آيات من القرآن في حضرته ، وكأنه أساس وبشارة إنتشار الإسلام في أفريقيا .
وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدد من أهل بيته وأصحابه إلى المدينة المنورة أدركت قريش عجزها عن إعادتهم أو تعذيبهم أو المنع من دخول الناس في الإسلام ، فزحفت بجيوش عظيمة في محاولة للقضاء على الإسلام وإستقبلهم المؤمنون بصدورهم وسيوفهم .
أما الذين كفروا من أهل المدينة فأخذوا يبثون مفاهيم القعود والخور والجبن ، فجاءت الآية السابقة بفضحهم وخزيهم وتضمنت آية البحث بعث المسلمين على الصبر والمرابطة والجهاد في سبيل الله .
ثانياً : بيان أن أكثر الذين يصدون عن سبيل الله هم الذين كفروا .
ثالثاً : كان بعض المنافقين يخرج مع المؤمنين إلى ميادين القتال .
رابعاً : بيان قانون وهو إذا إجتمع الذين كفروا والمنافقون في فعل فان التغليب يكون للذين كفروا ما دام الفعل يحمل صبغة الكفر .
خامساً : تحذير المنافقين من الإشتراك مع الذين كفروا في القول والفعل الذي يتصف بالضلالة .
الثالث : من دلالات إخبار الآية عن القتل صيغة الإحتمال ولغة الشرط الذي تدل عليه أداة الشرط (إن) في [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ]لتكون فيه بشارة مجئ أيام خالية من القتل بعد أن صار المسلمون في مأمن من التعذيب , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
المسألة الثانية : بعث الشجاعة في نفوس المسلمين ، فمن خصائص الإخبار عن القتل والذبح أنه يبعث الخوف والفزع في قلب الإنسان إلا الشهادة في سبيل الله ، وهو من إعجاز القرآن بأن يخبر عن القتل في سبيل الله ، فيشتاق المؤمن للقاء الله بطلب الشهادة والسعي إليها ، وأنت ترى أن الطبيب إذا أخبر المريض بإصابته بمرض وداء ليس له علاج ، ويتصف بسرعة الفتك سرعان ما تنهى قوى المريض ، ويظهر عليه الضعف ويعجز عن حركته وفعله اليومي المعتاد ، ويصرف ذهنه عن الآمال .
أما آيات القرآن فانها تخبر المسلمين بصيغة الشرط القريب [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ] فلا يزيدهم هذا الإخبار إلا إيماناً وبسالة وإخلاصاً في مراتب التقوى ويحسن معه توكلهم على الله .
(عن عقبة بن زينب قال : في التوراة مكتوب لا تتوكل على ابن آدم فإن ابن آدم لليس ولكن توكل على الحي الذي لا يموت ، وفي التوراة مكتوب مات موسى كليم الله فمن ذا الذي لا يموت؟
وأخرج أحمد عن وهب بن منبه قال : وجدت فيما أنزل الله على موسى أن من أحب الدنيا أبغضه الله ، ومن أبغض الدنيا أحبه الله ، ومن أكرم الدنيا أهانه الله ، ومن أهان الدنيا أكرمه الله) ( ).
الثالثة : لقد خلق الله الإنسان ونفخ فيه من روحه ليجعله يسعى لما ما فيه المصلحة في النشأتين ويدفع عن نفسه الضرر في الدنيا , والعذاب في الآخرة ، قال تعالى [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) ورزقه العقل وجعله آله التمييز بين الحق والباطل ، والنافع والضار .
فان قلت أين هو موضع العقل مع أن القتل الذي تذكره آية البحث فيه أطراف :
الأول : القاتل وهو الكافر .
الثاني : فعل القتل وإزهاق الروح .
الثالث : المقتول وهو المؤمن .
والجواب يتجلى العقل بإختيار القتل والشهادة في سبيل الله من وجوه :
أولاً : الملازمة بين ثبوت عقيدة التوحيد وبين الشهادة والقتل في سبيل الله , مع إصرار الذين كفروا على محاربة النبوة والتنزيل .
ثانياً : القتل من رشحات الدفاع عن صرح الإيمان ، والحفاظ على بيضة الإسلام ، لذا كانت معارك الإسلام الأولى كلها دفاعاً عن الإسلام ، وحتى في عموم المعارك فان المسلمين لم يبدأوا القتال ليكون من معاني قوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ] أي قتلتم مظلومين .
ثالثاً: القتل في سبيل الله طريق إلى السعادة الأبدية والأمن والنجاة من أهوال القيامة .
الرابعة : دعوة المسلمين للتفقه في الدين ، ومعرفة إختصاص القتل في سبيل الله بالمغفرة والرحمة مع دلالة الآية على تعدد مصاديق [في سبيل الله] فلم تقل الآية (لئن قتلتم في الجهاد) أو (لئن قتلتم عند إلتقاء الجمعين).
الخامسة : بعث المسلمين للإحتراز والتهيئ والإستعداد للقاء العدو، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ] ( ).
السادسة : تأكيد مسألة وهي أن الإحتراز وأخذ الحائطة لملاقاة العدو من أسباب قلة سقوط القتلى من المسلمين ، وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة الشرط [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ].
السابعة : تنبيه المسلمين إلى أن المغفرة أمر عظيم ونعمة كبرى ، قال تعالى [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ) والمغفرة طريق إلى دخول الجنة ، وكأن آية البحث بشارة بالسعادة الأبدية للمؤمنين والمؤمنات .
الثامنة : من غايات آية البحث ترغيب الناس بدخول الإسلام لأنه طريق المغفرة والعفو من عند الله .
التاسعة : دعوة المسلمين والناس إلى التدبر في شآبيب الرحمة التي تنزل من عند الله على المسلمين , فمن معاني آية البحث إفادتها التحدي وكأنها تقول للناس إنظروا إلى وجوه الرحمة التي خصّ الله عز وجل بها المسلمين ، فان قلت القدر المتيقن المستقرأ من سياق الآية هو رحمة الله بالمسلمين في الآخرة خاصة , وأن الآية تذكر القتل والموت .
وتقدير الآية : ومن قتل منكم في سبيل الله ينال مغفرة ورحمة من الله ، والجواب الآية أعم من هذا التقدير فصحيح أن القتل يتعلق بأفراد من المسلمين وكذا بالنسبة للموت في أوانه إذ يختطف الذي حان أجله من بين أهله وأخوته وأبنائه ولكن موضوع الآية وما فيها من البشارات أعم وتشمل الأهل والإخوان والذرية ، ومن مصاديقه إخبار القرآن بتغشي الرحمة للذي يتلقى نبأ شهادة أو موت قريب منه بالإسترجاع ومعاني الصبر , كما في قوله تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ).
العاشرة : من أشد حالات حاجة الإنسان لرحمة الله عند ساعة الموت ، وكلما قرب الأجل إزداد همّه وإستحضر أقواله وأفعاله التي فعلها في أيام حياته ، وجاءت آية البحث لتجعل المسلم في روضة ناضرة عند حلول أجله لأنها تبشره بالمغفرة لكل ذنوبه بتغشيه بالرحمة التي تأتيه من عند الله وبواسطة الملائكة.
وهل غياب ملائكة العذاب عنه من هذه الرحمة أم أن القدر المتيقن منها الأمر الوجودي ، الجواب لا، لا تعارض بين الأمرين ، فهذا الغياب منها أمر وجودي , وعن ابن عباس قال : مرّ أبو جهل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، فقال : ألم أنهك يا محمد لتنتهين أو لأفعلن بك قال : فانتهره النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأغلظ له قال : بم تهددني يا محمد ؟ فما في هذا الوادي يعني وادي مكة أكثر ناديا مني قال : فأنزل الله عز وجل فليدع ناديه سندع الزبانية وقال ابن عباس: لو نادى لأخذته ملائكة العذاب مكانه) ( ).
الحادي عشرة : أختتمت الآية بتفضيل إختتام الدنيا بالمغفرة والعفو والرحمة من عند الله على جمع الأموال والمكاسب وصيروتها بيد الكافر كما سيأتي بيانه في تفسير الآية .
التفسير
قوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ]
من معاني الجمع بين هذه الآية والآية السابقة تأكيد آية البحث لإكرام المسلمين الوارد في الآية السابقة ، وهذا التأكيد من إعجاز نظم آيات القرآن , وتأكيد قانون وهو أن هذا النظم خير محض ، ونعمة خاصة للمسلمين وعامة الناس جميعاً , وفي إكرام المسلمين في الآية السابقة ، مسائل :
الأولى : إبتداء الآية السابقة بنداء الإيمان [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ].
الثانية : تمييز المسلمين عن غيرهم من الأمم وأهل الملل بأن جمعهم الله عز وجل بنداء خاص ومستقل بصبغة الإيمان .
الثالثة : شهادة الله عز وجل للمسلمين بالإيمان .
الرابعة : مجئ النداء في الآية السابقة بصيغة الماضي [آمَنُوا ] لإفادة ثبات الإيمان في نفوس المسلمين .
الخامسة : إستغراق صفة الإيمان لتشمل المسلمين والمسلمات وإلى يوم القيامة , فمع نزول صفة الإيمان بصيغة الفعل الماضي [الَّذِينَ آمَنُوا ] فان النداء فيها يتوجه إلى المسلمين والمسلمات وإلى يوم القيامة ، فلم يولد فرد من ذراري المسلمين بعد ولا أمه ولا أبوه ، ومع هذا فان الله يشهد له بالإيمان , لذا أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ].
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : إبتدأت الآية السابقة بنداء الإيمان ثم النهي عن محاكاة وتقليد الذين كفروا ، وإبتدأت هذه الآية بموضوع القتل والشهادة ولكن بصيغة الشرط لبيان نكتة وهي عموم النهي الوارد في الآية السابقة وشموله للمسلمين رجالاً ونساءً ، بينما يخص القتل الذين يحضرون القتال ويكون على سبيل الإحتمال ، والقتل هنا من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، فمثلاً في معركة بدر كان إحتمال نزول القتل بساحة المسلمين كبيراً لقلة عددهم وأسلحتهم بالنسبة لعدد وأسلحة الذين كفروا ,ولكن الله عز وجل تفضل عليهم بالنصر ليكون معجزة حسية وعقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) ثم جاءت معركة بدر وإبتدأت بنصر المسلمين وقلة القتل فيهم لولا ترك الرماة المسلمين مواضعهم على الجبل ومجئ جيش الكفار من خلفهم .
ومن أسرار عدم توجيه اللوم في القرآن إلى الذين تركوا مواضعهم ومضامين آية البحث ببيان الثواب العظيم للذين قتلوا من المسلمين في معركة أحد ، وعددهم سبعون شهيداً
الثاني : يا أيها الذين آمنوا ولئن قتلتم في سبيل الله ) لبيان أن الإيمان أمر ثابت عند المسلمين ، ولكن القتل يرد بصيغة الشرط .
وبين آية البحث والسياق عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء إتحاد الموضوع وهو القتل بين المسلمين ومادة الإفتراق أن آية السياق [كَالَّذِينَ كَفَرُوا] ذكروا قتل المؤمنين على نحو الوقوع والتحقق، أما آية البحث فأخبرت عن قتلهم على نحو الإحتمال والشرط والبناء للمجهول [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ].
الثالث : صحيح أن فعل الشرط [قُتِلْتُمْ]جاء بصيغة الماضي إلا أنه يتضمن خصوصية إعجازية ويبين سراً من أسرار اللغة العربية بالنسبة لأزمنة الفعل وتداخلها في المعنى وإن إفترقت في اللفظ من جهات :
الأولى : يكون الفعل الماضي كالمضارع أو بقوته عندما يكون فعلاً للشرط وسيأتي التفصيل في البحث النحوي ( ).
الثانية : إرادة شمول الآية للمسلمين الذين قتلوا أو ماتوا قبل نزول آية البحث ، فالظاهر أن أوان نزول هذه الآية هو بعد معركة بدر ومعركة أحد من وجوه :
أولاً : ورود هذه الآية ضمن آيات معركة أحد .
ثانياً : عطف هذه الآية على الآية التي تزجر الذين كفروا وتفضح سعيهم في صدّ المؤمنين عن الخروج إلى ميادين القتال .
ثالثاً : ذكر أسباب نزول لبعض هذه الآيات كما في قوله تعالى قبل آيتين [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
رابعاً : مجئ هذه الآيات بما يدل على إرادة واقعة أحد وتعرض جيش الإسلام للإنكسار كما في قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] ( ).
الثالثة : بعث السكينة في نفوس المسلمين بخصوص الذين قتلوا أو ماتوا من المسلمين قبل نزول الآية ، وبيان أنهم يفوزون بذات الأجر الذي تؤكده آية البحث .
وهل تدل آية البحث على أن الجهاد في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واجب عيني ، الجواب لا دليل عليه ، وينقسم الجهاد إلى قسمين :
الأول : الجهاد الكفائي بأن يخرج شطر من المسلمين للدفاع وبما يكون كافياً من جهة العدد والعدة لملاقاة العدو مثلاً ، ولا يعني الأمر بالضرورة التساوي في العدد ولا الإكتفاء بنسبة مخصوصة كما في قوله تعالى [وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا] ( ) ويدل على هذا التقسيم آيات منها قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ) لقوله تعالى [فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى] ( ).
الثاني : الجهاد العيني بأن يصبح الجهاد فرض عين وواجباً على كل مسلم ومسلمة ، وعلى البالغ وقيل وعلى الصبي , والمختار الأول أي البالغ إلا بالضرورة الشخصية على عين مخصوصة من الصبيان , وبقدرها , وهو في حالتين :
الأولى : إذ داهم العدو ثغراً للمسلمين وجب على أهله الدفاع وإن عجزوا وجب على من يقربهم واجباً كفائياً وهكذا .
الثانية : إعلان الإمام النفير العام وفق الضوابط الشرعية وسنن الإسلام وقاعدة لا ضرر ولا ضرار والأقرب فالأقرب لدفع القتال والحرب ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ] ( ) وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ( قال يوم الفتح: “لا هجرة، ولكن جهاد ونيَّة، إذا استنفرتم فانفروا)( ).
وقال الزهري : الجهادُ واجب على كلّ أحد، غزا أو قعد؛ فالقاعد عليه إذَا استعين أن يَعينَ، وإذا استُغيثَ أن يُغيثَ، وإذا استُنْفرَ أن ينفر، وإن لم يُحتَجْ إليه قعد) ( ).
ولكن الله ميّز وفرق بين المجاهد والقاعد ، قال تعالى [وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا] ( )مما يدل بأن إعانة القاعد وقيامه بوظائف داخل البلد لا يجعله يرتقي إلى مرتبة المجاهد ،إلا مع التسامح في اللفظ والمعنى وورد أنه (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني رجل جبان ولا أطيق لقاء العدوّ . فقال : ألا أدلك على جهاد لا قتال فيه؟ قال : بلى يا رسول الله . قال : عليك بالحج والعمرة) ( ).
وإذا حضر المسلم ميدان المعركة يصبح الجهاد عليه واجباً عينياً ولا يجوز له الفرار والهروب إذ أن التولي يوم الزحف من الكبائر .
وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على الإطلاق الزماني لمضامين آية البحث وعدم إختصاصها بأيام النبوة ، لذا نزلت الآية لتحذير المسلمين من الإصغاء للذين كفروا وسعيهم للتفريط بالواجبات العبادية .
(وأخرج أحمد ومسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة ، قال : فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم : تعال صلِّ بنا . فيقول : لا إن بعضكم على بعض أمير ليكرم الله هذه الأمة) ( ).
ولابد من شروط للجهاد ووجوبه تتعلق بالأشخاص وهي :
الأول : الإسلام فلا يصح الجهاد في سبيل الله من الكافر ، وعن عائشة (لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قِبَلَ بَدْرٍ فَلَمَّا كَانَ بِحَرَّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم حِينَ رَأَوْهُ فَلَمَّا أَدْرَكَهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُ لأَتَّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم- : تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟. قَالَ : لاَ. قَالَ : فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ.
ثُمَّ مَضَى حَتَّى إِذَا كَانَتِ الشَّجَرَةُ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وآله وسلم كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَالَ لاَ قَالَ فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ قَالَتْ فَرَجَعَ ثُمَّ أَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ : تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؟. قَالَ : نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : فَانْطَلِقْ) ( ).
وأشكل على هذا المعنى بأمرين :
الأول :شهود صفوان بن أمية واقعة حنين وهو مشرك .
الثاني : غزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيهود بني قينقاع.
أما الأول فلم يحضر صفوان مقاتلاً ، كما أنه أعار النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة درع وما يكفي معها من السلاح (عن أناس من آل عبدالله بن صفوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” يا صفوان هل عندك من سلاح ؟ ” قال: عارية أم غصبا ؟ قال: ” بل عارية ” فأعاره ما بين الثلاثين إلى الاربعين درعا) ( ) .
وفي رواية (فقال صفوان أغصبا يا محمد ؟ قال بل عارية وهى مضمونة حتى نؤديها اليك قال ليس بهذا بأس فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأله أن يكفيهم حملها ففعل) ( ).
ووقعت معركة حنين في السنة الثامنة للهجرة وبعد فتح مكة , بهجوم مباغت من قبل المشركين من هوازن وثقيف , وجيش المسلمين يمشي في الوادي .
وعن جابر بن عبد الله قال (لما استقبلنا وادى حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط إنما ننحدر فيه انحدارا قال وفى عماية الصبح وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه وأجنابه ومضايقه وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد وانشمر الناس راجعين لا يلوى أحد على أحد وانحاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات اليمين , ثم قال يا أيها الناس هلم إلي أنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا محمد بن عبد الله قال فلا شئ حملت الابل بعضها على بعض فانطلق الناس إلا أنه قد بقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من المهاجرين وأهل بيته) ( ).
ولم يكن خروج صفوان بأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه أراد له أن يرى قوة الإسلام والإقتباس والتعلم من المسلمين ، وعندما إنهزمت الكتائب الأولى للمسلمين قال كلدة بن الحنبل (أَلَا بَطَلَ السّحْرُ الْيَوْمَ فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ اُسْكُتْ فَضّ اللّهُ فَاك ، فَوَاَللّهِ لَأَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ) ( ).
ليقوم صفوان بن أمية بالمنع من الشماتة بالمسلمين في ساعة الشدة والحرج وكلدة أخو صفوان بن أمية لأمه وهي صفية بنت معمر بن حبيب ، (قال: ابن إسحاق والواقدي ومصعب: كان كلدة بن الحنبل أخا صفوان بن أمية لأمه أمهما صفية بنت معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح. وقال ابن الكلبي، والهيثم بن عدي: كلدة بن الحنبل ابن أخي صفوان بن أمية لأمه. وقال ابن إسحاق: كان الحنبل مولى لمعمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح، وكان أخا صفوان بن أمية لأمه وشهد الحنبل مع صفوان يوم حنين فلما انهزم المسلمون قال الحنبل: بطل سحر ابن أبي كبشة اليوم. فقال له صفوان: فض الله فاك، لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن.
قال أبو عمر: كلدة بن الحنبل هو الذي بعثه صفوان بن أمية إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهدايا فيها لبن وجدايا وضغابيس وكلدة هذا هو وأخوه عبد الرحمن بن الحنبل شقيقان وكان ممن سقط من اليمن إلى مكة فيما قال مصعب وغيره.
وقال غيرهم: كان كلدة بن الحنبل أسود من سودان مكة وكان متصلاً بصفوان بن أمية يخدمه، لا يفارقه في سفر ولا حضر، ثم أسلم بإسلام صفوان ولم يزل مقيماً بها حتى توفى بها.) ( ) .
والمختار أنه يجوز الإستعانة بأهل الكتاب ، كما يجوز الإستعانة بالكافر إذا رأى الإمام الضرورة لمصلحة ودفع المفسدة في هذه الإستعانة.
أما الثاني أي الإستعانة بالمشركين والاستدلال عليه بغزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيهود من بني قينقاع فورد في مرسلة للزهري ومراسيله ضعيفة ولا تصلح لمعارضة الأخبار الصحيحة بالإضافة إلى التفريق بين الكفار المشركين وبين أهل الكتاب .
وقد فرح المؤمنون بنصر أهل الكتاب من الروم (عن ابن مسعود قال : كان فارس ظاهرين على الروم ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب وهم أقرب إلى دينهم . فلما نزلت [الم * غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ]( )، قالوا : يا أبا بكر إن صاحبك يقول إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين . قال : صدق قالوا : هل لك إلى أن نقامرك؟ فبايعوه على أربعة قلائص إلى سبع سنين ، فمضى السبع سنين ولم يكن شيء .
ففرح المشركون بذلك وشق على المسلمين . وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما بضع سنين عندكم؟ قالوا : دون العشر . قال : اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل . قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بذلك ، وأنزل الله { الم غلبت الروم } إلى قوله { وعد الله لا يخلف الله وعده })( ).
وأستدل على عدم جواز الإستعانة بالمشركين بقوله تعالى [لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً] ( )، وهو إستدلال لطيف ولكن الآية أعلاه وردت بخصوص المنافقين , وفي معركة تبوك بعد أن صار الإسلام قوياً .
قال الثعلبي في الآية (وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر الناس بالجهاد لغزوة تبوك، فلمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو وعسكره على ثنيّة الوداع، ولم يكن بأقلّ العسكرين، فلمّا سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلف عنه عبد الله بن أُبيّ فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، فأنزل الله تعالى (يعزي) نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لو خرجوا فيكم يعني المنافقين {مَّا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا } فساداً، وقال الكلبي : شرّاً وقيل : غدراً ومكرا {وَلأوْضَعُوا خِلَالَكُمْ} يعني ولأوضعوا ركابهم بينكم)( ).
وقد كان عبد الله بن أبي يخرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض غزواته إذ خرج في معركة أحد ورجع بنحو ثلث جيش المسلمين من وسط الطريق ، ليكون من معاني الآية أعلاه تذكير المسلمين بما فعل المنافقون في معركة أحد وغزوة بني المصطلق وغيرها وأستدل على عدم جواز الإستعانة بالمشرك بالقاعدة الفقهية تقديم دفع المفاسد على جلب المصالح بوجود مفاسد في قتال الكفار للكفار وإن كان فيه مصلحة للمسلمين ، ولكن يمكن لمن يقول بجواز الإستعانة بالكفار الإستدلال بذات القاعدة .
الثاني : العقل : أي أن يكون الذي يجب عليه الجهاد عاقلاً، لما في الجهاد من الحاجة إلى التصرف بتدبر وحذر ويقظة في الجملة، ولبيان حقيقة وهي أن المجنون ليس مكلفاً بالجهاد، ويخرج من خطاب التكليف في الفرائض كالصلاة والصيام وحتى في صلاة الجمعة وقوله تعالى[فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ]( ).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : رفع القلم عن ثلاثة : الصبي حتى يبلغ , وعن المجنون حتى يفيق , وعن النائم حتى حتى ينتبه).
الثالث : البلوغ ، بأن يصل المسلم الى سن البلوغ، فلا يجب على ما دونه، وقد ردّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر أسامة بن زيد, والبراء بن عازب، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم , وفيه أمارة متقدمة زماناً بأن الخروج إلى بدر سيكون فيه قتال.
الرابع : الذكورة ، إذ يفيد وجوب الجهاد خصوص الرجال دون النساء، فلا يجب الجهاد على المرأة.
الخامس : لا يجب الجهاد على المريض والمصاب بعاهة وضرب من ضروب العجز , وما يحول دون الركوب والمنازلة والقتال، قال تعالى[لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ]( ).
السادس : تهيئة مؤونة الجهاد، وإمتلاك المجاهد للسلاح والقتال، والنفقة التي تكفي لمؤونته ومؤونة عياله، قال تعالى[وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ]( ).
السابع : إستثناء الفقهاء والعلماء الذين تحتاج أمور الشريعة وإستدامة بيان الأحكام والعمل بها إلى عدم إنبعاثهم للجهاد، قال تعالى[فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( )، ولم يذكر هذا الوجه في باب الذين لا يجب عليهم الجهاد
وتبين آية البحث أن سفك الدماء على وجوه :
الأول : أن يقوم الكافر بقتل المؤمن .
الثاني : قيام المؤمن بقتل الكافر .
الثالث : القتل ظلماً ولأغراض دنيوية .
فذكرت آية البحث الوجه الأول أعلاه الذي يدل بالدلالة التضمنية على خلود الكافر في النار ، لعدم إجتماع المتناقضين فيفوز المقتول بالمغفرة لأن قتله في سبيل الله ، وأما القاتل فانه يبوء بإثمه لأنه يحارب الله ورسوله ،ويصد عن سبيل الله ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ] ( ) .
ترى لماذا ينال المقتول في سبيل الله مرتبة المغفرة من عند الله الجواب من جهات :
الأولى : إنقطاع عمل المؤمن الصالحات في الدنيا بالقتل ومغادرتها قهراً ، فبقاء المؤمن حياً في الدنيا خير محض , وفيه رحمة له ولذريته والناس من حوله ولكنه يهجر الدنيا حباً وشوقاً لله عز وجل فيجازيه الله بالمغفرة .
الثانية : بيان القرآن لجزاء الشهادة بلحاظ أنها أسمى معاني العمل الصالح والسعي في الحياة الدنيا ، قال تعالى [وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى]( ).
وجاءت آية البحث بصيغة الجملة الشرطية [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ] لبيان فضل الله على المسلمين من جهة تعلق وإحتمال القتل بهم جميعاً ليأتيهم الثواب مجتمعين ومتفرقين , وتقدير الآية على وجوه :
الأول : لئن قتلت أيها المسلم في سبيل الله لمغفرة من الله .) .
الثاني : لئن قتلتِ أيتها المسلمة في سبيل الله .
الثالث : يا أيها المسلم لئن قتل أبوك في سبيل الله .
الرابع : يا أيها المسلم لئن قتل إبنك في سبيل الله .
الخامس : يا أيها المسلم لئن قُتل أخوك في سبيل الله .
السادس : يا أيتها المسلمة لئن قتل أبوك في سبيل الله .
السابع : يا ايتها المسلمة لئن قُتل زوجك في سبيل الله .
الثامن : يا أيتها المسلمة لئن قتل أخوك في سبيل الله .
التاسع : يا أيتها المسلمة لئن قُتل إبنك في سبيل الله .
العاشر : يا أيها المسلم لئن قُتل صهرك في سبيل الله .
الثالثة : بذل الشهيد نفسه في الدفاع عن الإسلام , وثبيت أحكامه في الأرض.
الرابعة : تضحية الشهيد بدمه وحياته لينعم الناس باستدامة الإيمان، وبقاء المؤمنين بحال عز وفخر.
الخامسة : المغفرة للشهيد وغيره فضل من عند الله، ونعمة يمّن بها على من يشاء .
وتتضمن آية البحث في دلالتها قانوناً وهو (في القتل في سبيل الله حسرة في قلوب الكفار ) لبيان حال التضاد بين المؤمن والكافر , فيغادر أحد المسلمين الدنيا شهيداً , وتملأ السكينة قلوب المسلمين ، بينما يتحسر الذين كفروا على فوز المسلم القتيل بالشهادة ، وعلى تلقي المسلمين نبأ شهادته بالرضا واليقين بأنه حي عند الله , وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة [لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ]( ).
ولا تنحصر معاني الحسرة التي تصيب الذين كفروا بخصوص حدوث قتل المؤمن وإنما هي مسابقة ومصاحبة ومتأخرة عنه ، فهم يخشون خروج المسلمين للدفاع ويفزعون من وصول نبأ شهادة أحدهم للناس ، ويتحسرون بعد إستشهاده لأنهم يدركون أن هذه الشهادة لم تهّد في عضد المسلمين .
وبعد أن أنتصر المسلمون نصراً مباركاً في معركة بدر مع قلة عددهم وأسلحتهم بالنسبة لجيش كفار قريش سعى الكفار والمنافقون والفاسقون في المدينة إلى نشر فلسفة القعود بين المسلمين ، فجاءت كل من آية البحث والسياق مجتمعتين ومتفرقتين لنقض ما يمكرون وفضح سعيهم ، وتفريق شملهم ليكون الجامع بينهم هو الحسرة التي تحل في قلوبهم لأنهم جعلوها فارغة من ذكر الله خالية من الإيمان .
وجاءت الآية بصيغة العموم الإستغراقي , وكأن معناها هو قتل المسلمين جميعاً , ولكن هذا المعنى يندفع من وجوه :
الأول : خطاب آية البحث للمسلمين في كل زمان فهناك أمة تتلقى الخطاب القرآني في كل يوم وإلى يوم القيامة .
الثاني : مجئ آية البحث بالترديد بين القتل والموت لإفادة أن المسلم أما أن يقتل أو يموت ، مع إكرام المسلمين بجعل قتل المسلم [فِي سَبِيلِ اللَّهِ].
وتكون مفارقة المسلم للحياة الدنيا على وجوه :
أولاً : الموت على الفراش .
ثانياً : القتل في سبيل الله .
ثالثاً : القتل مطلقاً كالقتل الخطأ .
ولم تذكر الآية الوجه الثالث أعلاه لدعوة المسلمين لإجتناب الإقتتال بينهم ،وتعريض النفس للقتل لأمور دنيوية أو عند التلبس بالتعدي ولمنع النصرة على الظلم .
الثالث : موضوعية أسباب النزول وموضوع الآية وإرادة سقوط سبعين شهيداً من المسلمين في معركة أحد .
الرابع : إرادة شمول المسلمات بمضامين آية البحث وبشارة الجزاء الحسن بلحاظ موتهن على الفراش لسقوط الجهاد عنهن .
علم المناسبة
قد وردت الآيات بصيغة الخطاب للمسلمين [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ] ( ) لبيان قانون دائم وهو حياة الشهداء بسعادة وغبطة في الآخرة ، ويتوجه الخطاب في الآية أعلاه إلى كل من :
الأول : الصحابة الذين حضروا معارك الإسلام الأولى ، وقاتلوا فيها ثم عادوا وليس معهم إخوانهم الذين أستشهدوا ، وهو من أسرار مؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين كل إثنين من المهاجرين والأنصار ، ليكون فيها مواساة لهم عند فقد الأحبة في ميدان القتال ، ودعوة لهم للصبر .
الثاني : العلماء وأهل التحقيق ورجال التأريخ حين سرد وذكر وقائع الإسلام الأولى ،إذ أن قوله تعالى [وَلاَ تَقُولُوا] أعم من الزجر عن قول مخصوص وهو موت الذين قتلوا في سبيل الله ، فيشمل الأمر ببيان حياة الذين قتلوا في سبيل الله وذكر الآيات والأخبار التي تدل على فوزهم بالعفو والمغفرة ومنه آية البحث بقوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ].
الثالث : إرادة أنباء وعوائل الشهداء بأن لا يقولوا عن آبائهم أنهم ماتوا ، ليكون الأبناء في حال عز وفخر مع فقدهم لأبنائهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) فيكون ابن الشهيد في عز وأمنة وطمأنينة .
الرابع : دعوة المسلمين لمد يد العون لأبناء الشهداء ، لأن آبائهم أحياء عند الله يستغفرون لمن يساعدهم في سبيل الله .
الخامس : المقصود المسلمات , وتقدير الآية : يا أيتها اللائي آمنّّ لا تقلن لمن يقتل في سبيل الله أمواتاً .
ومع أن الجهاد ليس واجباً على المرأة إلا أنه قد تقتل المسلمة في سبيل الله ، بلحاظ أن النسبة بين القتل في سبيل الله والقتل في ميدان المعركة هي العموم والخصوص المطلق ، فقد يقتل المسلم أو المسلمة دفاعاً عن بيضة الإسلام أو صبراً .
وأول شهيدة في الإسلام امرأة وهي سمية أم عمار بن ياسر قتلت تحت التعذيب , ويكون تقدير الآية على جهات :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لمن تقتل في سبيل الله ميتة بل هي حيّة عند الله .
الثانية : يا أيتها التي آمنت لا تقولي لمن يقتل في سبيل الله أموات .
الثالثة : يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله ميتاً .
الرابعة : يا أيتها اللائي آمنّ لا تقلن للذين قتلوا في سبيل الله أموات .
الخامسة : يا أيها الذي آمن لا تقل لمن يقتل في سبيل الله أموات .
السادسة : يا أيها الذي آمن لا تقل لمن قتل قتل في سبيل الله أموات .
ومن إعجاز نظم القرآن أن لفظ [قتلتم] لم يرد في القرآن إلا في هذه الآية والآية التي بعدها، مع تقديم الموت على القتل في الآية التالية بقوله تعالى [وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ] ( ).
وسنبين شذرات من أسرار هذا التقديم والتأخير في الجزء الخاص بتفسير الآية أعلاه إن شاء الله ( ).
ولأن الآية أعلاه ذكرت القتلى مطلقاً فقد أخبرت عن الحتم في الحشر إلى الله وولوج عالم الآخرة ، أما آية البحث فانها قيدت القتل بأنه في سبيل الله لذا جاءت بالبشارة ونيل العفو والمغفرة من عند الله ، والقول برحمته سبحانه في الدنيا والآخرة .
قوله تعالى[ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ]
لقد ذكر القرآن حقيقة وهي أن القتال أمر مكروه بالنسبة للمسلمين، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ) وتحتمل كراهة القتال وجوهاً:
الأول : ذات القتال مكروه .
الثاني : كراهية القتال قبل وقوعه .
الثالث : القتال أمر شديد ومكروه عند إلتقاء الصفين وحدوث القتال ، لذا ورد قبل آيتين قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) لبيان نكتة ذكر التلاقي وإصطفاف جيش المسلمين وجيش الذين كفروا ومقابلة بعضهم بعضاً، وإرادة حدوث القتال بين الطرفين بالإخبار عن المقدمة والمراد ذيها وفي قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] نكتة وهي عدم الملازمة بين إلتقاء الصفين في ميدان المعركة وحصول القتال ، فقد يحصل الصلح والمهادنة أو قد يدخل الذين كفروا الإسلام ، ولكنهم يصرون على القتال ومحاربة النبوة والتنزيل لذا تفضل الله عز وجل وأنزل الملائكة مدداً وعوناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لقيام الحجة على الذين كفروا ووذمهم في إصرارهم على إستئصال الإسلام [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
وجاءت الآية بصيغة البناء للمجهول [قُتِلْتُمْ] ولم تذكر القاتل لبيان أن المدار على حدوث القتل واقعاً ، ترى لماذا لم تقل الآية (وإذا قتلوكم ) الجواب من وجوه :
أولاً : بيان الآية لعاقبة القتل في سبيل الله .
ثانياً : حب الله عز وجل لعبده المؤمن الذي يُقتل في سبيله .
ثالثاً : دعوة المسلمين عدم الخشية أو الخوف من الذين كفروا وإن قاموا بقتل طائفة من المؤمنين.
رابعاً : وحدة سياق الآيات وعطف آية البحث على آية نداء الإيمان التي خصّ الله عز وجل بها ، وتقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا لئن قتلتم في سبيلي ) وفيه ترغيب بالشهادة ونفي الحسرة والأسى الذي قد يترتب على مغالطة الذين كفروا , ليكون هذا الخطاب من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
خامساً : من معاني ودلالات الآية بعث السكينة في نفوس المسلمين بأن الذي يقتل منهم يفد على الله عز وجل بصفة الإيمان ، فيكون من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
وليس من عمل صالح يقدم على فعله المؤمن مثل الإنبعاث للدفاع عن الإسلام ، أما القتل في سبيل الله فهو مرتبة أسمى ودرجة أعلى [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ).
ترى ماذا لو قالت الآية : ولئن قتلتم أو متم ) الجواب بين مضامين آية البحث واللفظ أعلاه عموم وخصوص مطلق فالقتل عام من جهة المسبب والقصد والغاية ، لذا أكرمت آية البحث المسلمين وقيدت قتلهم بانه في سبيل الله ليكون هذا الإكرام مقدمة لحلول المغفرة في ساحتهم وتغشيهم بآيات من رحمة الله عز وجل .
لقد ذكرت آية البحث قتل المؤمنين , وفيه خصائص هي :
الأولى : القتل في سبيل الله لطرد الشك عن نفوسهم ونفوس عامة المسلمين في ما هيةالدفاع وأسباب القتل ، وأنه تجارة مع الله ، قال تعالى [يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ] ( ).
الثانية : مجئ الآية بصيغة الخطاب [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ ]وفيه آية في إكرام المسلمين بأن الله عز وجل يعلم ويشهد بأن قتلهم في سبيل الله , وفيه إنذار للذين كفروا بأن كلامهم يعود عليهم بالضرر.
الثالث : إخبار آية البحث عن القتل بصيغة الجملة الشرطية التي تحتمل الوقوع أو عدمه .
وتبين الآية مسألتين :
الأولى : القتل في سبيل الله صفة للمسلم عند مغادرته الحياة الدنيا.
الثانية : ذات الموت والقتل أنه في سبيل الله .
ولو شككنا هل مات المسلم أم قتل في سبيل الله .
فالأصل هو الأول , إلا أن يرد دليل على قتله في سبيل الله ، وقد يموت الإنسان على فراشه ويكون موته في سبيل الله ، لذا جاءت آية البحث بالإطلاق , ووردت الأحاديث النبوية بالسعة والمندوحة في ثواب الشهيد فضلاً من عند الله ، ولكن الذي يدفن بدمه ولا يغسل غسل الميت هو الذي يقتل في سبيل الله في ميدان المعركة على نحو الخصوص .
قوله تعالى[أَوْ مُتُّمْ]
قرأ نافع وحمزة والكسائي : مِتم، بكسر الميم، وقيل هي لغة الحجاز.
وما مرسوم في المصاحف وهو (مُتم) قرأ به ابن كثير وابن عامر وعاصم , وهو الصحيح
من معاني آية البحث الترغيب بالهجرة إلى الله ورسوله ونبذ حياة الذل والإستضعاف مع الذين كفروا ، قال تعالى [وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ) .
ليكون تقدير آية البحث : أو متم في الهجرة إلى الله ورسوله ، ومن الإعجاز في الجمع بين آية البحث والآية أعلاه ، ذكر آية البحث للمغفرة والرحمة جزاء من عند الله ، وإختتام الآية أعلاه بذكر ثلاثة من أسماء الله الحسنى هي اسم الجلالة والغفور والرحيم ، مع بيانها بأن الرحمة التي تذكرها آية البحث إنما هي رحمة من عند الله عز وجل وهي من الأجر الذي يتفضل به سبحانه ، والمختار أن المراد من الرحمة في الآية المعنى الأعم من جهات :
الأولى : الرحمة بالمسلم في الدنيا .
الثانية : نزول الرحمة على المسلم بعد موته , وفي عالم القبر والبرزخ .
الثالثة : حضور رحمة الله مع المسلم في عالم النشور والجزاء .
الرابعة : مجئ شآبيب الرحمة لأهل وذرية المسلم في حياته وبعد إنتقاله إلى عالم الآخرة .
ويحتمل طرو وحلول الموت بساحة المسلم وجوهاً :
أولاً : يأتي الموت للمسلم وهو لم يخرج مرة لقتال الذين كفروا .
ثانياً : يزور الموت المسلم في فراشه بعد أن شارك في المعارك ضد الذين كفروا وتلقى الجراحات فيها .
ثالثاً : قد يموت المسلم ولم يدخل في أيام حياته معركة مع الذين كفروا أو أن الجهاد واجب كفائي ولا تصل النوبة إلى خروجه .
رابعاً : قد يكون المسلم من ذوي الأعذار .
خامساً : موت المرأة المسلمة إذ ليس من وجوب للجهاد عليها .
سادساً : موت الصبي المسلم الذي لم يصل إلى سن البلوغ بلحاظ أنه شرط في الجهاد .
ومن معاني الشرط في آية البحث [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ]هو أن الأصل في خاتمة حياة المسلمين هو الموت كشأن باقي أهل الملل والنحل لبيان أن الإيمان لا يترتب عليه ضرر وتغيير نوعي في ماهية خاتمة الإنسان في الحياة الدنيا ، وكيفية مغادرتها ، ولكن قد يلقى المسلم القتل في سبيل الله فيكون له عزاً وفخراً وطريقاً مباركاً للأجر والثواب .
وتؤكد الشواهد التأريخية على أن أغلب المسلمين يموتون موتاً وليس قتلاً ، ويتجلى حتى في معارك الإسلام الأولى ،بأن يصيب القتل عدداً محدوداً من أهل البيت والصحابة ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : أو متم في سبيل الله .
الثاني : أو متم قبل أن تقتلوا .
الثالث : أو متم بعد الخروج إلى النفير والمسايفة مع العدو .
الرابع : أو متم على الفراش .
الخامس : أو متم في مرضاة الله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ).
وسيأتي مزيد كلام في تفسير الآية التالية التي تتعلق بذات موضوع آية البحث ، وهو قوله تعالى [وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ]( ).
بحث بلاغي
من وجوه البديع عطف العام على الخاص ( وأنكر بعضهم وجوده) ( ).
ولكن شواهده ظاهرة في القرآن ولغة التخاطب بين الناس, والعطف لغة هو العودة والرجوع إلى الشيء بعد الإنصراف عنه ، أما في الإصطلاح فهو الكلام المركب الذي يربط بين طرفيه حرف عطف كالواو .
ويكون بعطف مفرد على مفرد أو جملة على جملة ، واللفظ العام هو الذي يشمل جميع الأفراد التي تقع تحته مثل لفظ (الماء) فهو اسم جنس عام ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ] ( ) والمراد بالآية أعلاه هو خلق الإنسان والدواب والزراعات .
ولا تدل الآية على إنقطاع الحياة على الأرض بأنقطاع الماء ، أما اللفظ الخاص فهو اللفظ الدال على فرد بعينه من أفراد العام كثيرة كانت أو قليلة مثل لفظ (كتاب ) .ويجمع قوله تعالى [وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ] ( )بين وجوه :
أولاً : عطف العام على الخاص لأن المنافع أعم من الدفء .
ثانياً : عطف الخاص على العام ، لأن الأكل بقوله تعالى [وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ] من المنافع .
ثالثاً : عطف الخاص على الخاص ، بعطف تأكلون على دفء وإبتدأت الآية أعلاه بذكر الدفء والإنتفاع من أصواف وأوبار وأشعار الأنعام للتدفئة لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين ودعوتهم للإنتفاع الأمثل منها ، وحثهم على الشكر لله عز وجل على نعمة اللباس الدفء وأسبابه وتيسير التوقي من البرد والهداية إليه , والسلامة الخاصة والعامة من أضراره .
وهل في الآية دعوة لتربية وجني الأنعام وإخراج زكاتها , الجواب نعم , على ألا تكون برزخاً دون أداء الفرائض والواجبات .
وتتضمن آية البحث عطف العام على الخاص من جهتين :
الأولى : عطف الموت على القتل في سبيل الله وهو الخاص ، ولو قالت الآية : ولمتم في سبيل الله ) فهل هو من عطف العام على الخاص أيضاً الجواب نعم ، ليكون العطف متعدداً في معناه ودلالته بأن موت المسلم مطلقاً معطوف على القتل في سبيل الله على نحو الخصوص ، وبين الموت والقتل عموم وخصوص مطلق , فالموت أعم .
الثانية : عطف الرحمة على المغفرة بقوله تعالى [لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ] وبين الرحمة والمغفرة ذات النسبة , وهي العموم والخصوص المطلق( ) .
قوله تعالى[لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ]
وتحتمل الآية ومجئ المغفرة وجوهاً :
الأول : إرادة المغفرة في الحياة الدنيا .
الثاني : الملازمة بين التقوى في الدنيا والمغفرة يوم القيامة (عن أنس بن مالك ، عن معاذ بن جبل ، قال : كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم ، ما بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل ، فقال : يا معاذ قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك ، قال : ثم سار ساعة ، ثم ، قال : يا معاذ ، قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك ، قال : هل تدري ما حق الله على العباد ؟ .
قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، قال : ثم سار ساعة ، ثم ، قال : هل تدري ما حق العباد على الله ، إذا فعلوا ذلك ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم) ( ).
الثالث : الملاك الجامع للوجوه أعلاه .
فان قلت القدر المتيقن من آية البحث هو ترتب المغفرة على القتل في سبيل الله ، والجواب جاءت الآية بالمعنى الأعم من القتل في سبيل الله فتشمل الذي يموت على سريره .
وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لئن متم مسلمين لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ).
فيغادر المؤمن الدنيا في وقت ينشغل فيه الذين كفروا بحطام الدنيا وزينتها فلا يلتفتون إلى موضوعية الإيمان ساعة الموت والمنافع العظيمة في الدنيا والآخرة التي تترشح عن الموت على الإسلام .
وبلحاظ المغفرة في الدنيا فقد جاءت آيات القرآن بالحث على الإستغفار والإخبار بأن الله عز وجل هو الغفور الرحيم وتضمنت الترغيب بالإستغفار وبيان فوائده ، وأخبرت عن إستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين , وأمرته بالإستغفار لهم كما في قوله تعالى [فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ] ( ) (عن أم عطية قالت : لما نزلت { إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } إلى قوله : { ولا يعصينك في معروف فبايعهن } قالت : كان منه النياحة يا رسول الله إلا آل فلان ، فإنهم كانوا قد أسعدوني في الجاهلية ، فلابد لي من أن أسعدهم ، قال : إلا آل فلان .
وأخرج عن أم عطية قالت : أخذ علينا في البيعة أن لا ننوح ، فما وفى منا إلا خمسة أم سليم وأم العلاء وابن أبي سبرة امرأة أبي معاذ ، أو قال : بنت أبي سبرة ، وامرأة معاذ ، وامرأة أخرى)( ).
وتتضمن الآية حث المسلمين على الإستغفار ،وتعاهده والترغيب به ، إذ أنها تبين حاجة المسلم للإستغفار وإنتفاعه منه ، ويمكن تسمية الدنيا بأنها (دار الإستغفار ) وإذ يكون في سعة كل إنسان الإستغفار وسؤال العفو من عند الله عز وجل فان الإنتقال إلى الآخرة يحصر المغفرة بالفضل من عند الله .
وهل يمكن تأسيس قانون وهو الملازمة بين الإسلام والإستغفار ، الجواب نعم ، وهو الذي يدل عليه الكتاب والسنة ، ويتلو المسلم الآية القرآنية التي تتضمن الإستغفار في منطوقها أو في مفهومها وحكاية قصص الأمم السابقة فيتفضل الله عز وجل بكتابته عنده إستغفاراً ، كما جعل الله عز وجل العبادات والمناسك مناسبة للإستغفار .
وفي الحج ورد قوله تعالى [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
قانون الآية تعريض بالكافرين
من مفاهيم الآية التي جاء هذا الجزء بتفسيرها التعريض بالذين كفروا , وتكون لها قوة القانون من وجوه :
الأول : إبتدأت الآية بحرف العطف الواو , وعطفها على الآية التي قبلها التي تخاطب المسلمين وتدعوهم بنداء الإيمان ، وهو بذاته تعريض بالذين كفروا .
ويمكن تأسيس قانون ( نداء الإيمان تعريض بالكافرين ) وهو الذي نبينه في الجزء التالي إن شاء الله .
الثاني : بعث الحسرة في نفوس الذين كفروا لنزول الشهادة للمسلمين بالإيمان .
الثالث : تجلي المنفعة العامة والخاصة للمسلمين .
الرابع : نزول تحذير المسلمين من التشبه بالذين كفروا يملأ نفوس الكفار غيظاً .
الخامس : إصابة الذين كفروا باليأس والقنوط ، ليكون من معاني نداء الإيمان في الآية السابقة تثبيط عزائمهم وإرجاع كيدهم إلى نحورهم، ويكون تقدير الآية السابقة بلحاظ مادة التعريض من وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا الذين أنجاكم الله من الكفر والضلالة .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم من الذين كفروا .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا من شرائط الإيمان التنزه عن محاكاة الذين كفروا .
رابعاً : يا أيها الذين كفروا لماذا لا تكونوا كالذين آمنوا ، ليكون من مفاهيم نداء الإيمان دعوة الكافرين إلى التوبة والإنابة وإلى دخول الإسلام .
خامساً : يا أيها الذين كفروا إجتنبوا دعوة المؤمنين للقعود عن القتال .
سادساً : يا أيها الذين كفروا قد نزل نداء الإيمان ليكون واقية من دعوتهم إلى الصدود والقعود عن قتال إخوانكم الكفار الذين قدموا من مكة للغزو .
السادس : دلالة الآية في مفهومها على قتال المسلمين في سبيل الله وأنهم لم يقعدوا في البيوت عندما يغزوهم العدو .
السابع : ذم الذين كفروا لأنهم يقاتلون المؤمنين ويحاربون النبوة والتنزيل ، قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ] ( ).
فتقول آية البحث [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ]أما الآية أعلاه فتأمر المسلمين بالقتال مع تعيينه بأن يكون قتالاً ضد أولياء الشيطان ، وفيه ذم وتعريض إضافي بالذين كفروا ، وبعث للنفرة في نفوسهم ونفوس الناس من الكفر وولاية الشيطان ، وبيان لحسن سمت المسلمين الذين إختاروا ولاية الله ، قال تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ] ( ).
الثامن : إستدامة أحكام آية البحث , وما فيها من السعة والمندوحة في باب المغفرة إلى يوم القيامة .
بحث بلاغي
من وجوه البديع ( التعليل ) وحسنه سواء كانت العلة حقيقية أو مجازية أو صفة من الصفات ، وظاهرة كانت أو لطيفة أو مضمرة ، ثابتة أو متغيرة .
و(قانون العلة) في القرآن جلي وواضح ، وليس فيه علة مجازية والعلة لغة الداعي ، وتأتي بعنوان علة التعريض وكما يكون مبحث العلة من درر البلاغة فانه من قواعد الفقه ، ومن ركائز علم أصول الفقه ، وعلم الكلام , وللعلة في كل واحد منها تعريف خاص بها فالتعليل في الفقه الربط بين العلة ومعلولها .
وتأتي اللام للتعليل ليكون اللاحق لها معلولاً لما سبقها ولقد نزل القرآن نجوماً وعلى نحو التتابع في ثلاث وعشرين سنة لتتجلى معاني الحكمة في طول مدة التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ]( ) .
وبيّن الله عز وجل علة خلق الناس لعبادته تعالى قال سبحانه [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
وهل تكون المغفرة والرحمة اللتان يتفضل بهما الله عز وجل كما في آية البحث علة للقتل في سبيله سبحانه ، الجواب لا ، وهذا النفي هو الذي تؤكده الآية بالترديد في خاتمة حياة المسلم بين القتل في سبيل الله والموت بقوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ] ( ).
وفيه نهي عن التشديد على النفس والإصرار على القتال طلباً للشهادة إذ تخبر بأن ذات العاقبة ينالها المسلم بالقتل في سبيل الله أو الموت على الفراش ، وهو من البشارات ومعاني التخفيف التي تتضمنها آية البحث .
بحث نحوي
جاءت الآية بصيغة الجملة الشرطية وفيه بعث للمسلمين للعمل في مرضاة الله ونوع وعد من عنده سبحانه وتتألف الجملة الشرطية من ثلاثة أقسام :
الأول : أداة الشرط .
الثاني : فعل الشرط أو جملة فعل الشرط ، ويجب أن تكون جملة فعلية كما في آية البحث وقوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ].
الثالث : جواب الشرط ، جملة جواب الشرط والأصل فيها أن تكون جملة فعلية ، ولكن يجوز أن تكون جملة إسمية فحينئذ لا تصح جواباً للشرط قد وقع عليها عمل أداة الشرط ، ولكن تكون الجملة والفاء التي تتضمنها في محل جزم جواب الشرط كما في قوله تعالى [مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ]( ).
وتكون الجملة الشرطية على ضروب بلحاظ حذف جواب الشرط، أو هو وفعل الشرط مع بقاء الأداة وغيرها ، وقد وصلت في الصناعة النحوية إلى أحدى عشرة صيغة , منها :
الأول : أن يكون كل من فعل وجواب الشرط فعلاً مضارعاً , وهو الأصل في صيغة الشرط نحو قوله تعالى [إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا]( ).
الثاني : فعل الشرط ماض وجواب الشرط مضارع مجزوم كما في قوله تعالى [وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا]( ).
ولا يبقى الماضي في هذا التركيب على دلالته الأصلية من الماضوية، وإنما يصير كالمضارع أو في قوة المضارع ، ومنه ما ورد في آية البحث بقوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ]مع نكتة إعجازية فيه كما ورد في باب التفسير .
الثالث : فعل الشرط ماض لفظاً ومعنى وجواب الشرط مضارع مرفوع ، وقال به ابن مالك في ألفيته
وبعد ماض رفعك الجزا حسن * ورفعه بعد مضارع وهن
أي: إذا كان الشرط ماضيا والجزاء مضارعا – جاز جزم الجزاء
ورفعه، وكلاهما حسن: فتقول: ” إن قام زيد يقم عمرو، ويقوم عمرو) ( ).
ومعنى قوله (ورفعه بعد مضارع وهن) أي ضعف أي أنه يميل إلى أن الجزم هو الصواب ، وقال بعضهم بأن الرفع هو الأنسب في المقام ومنه قول جرير بن عبد الله
يا أقرع بن حابس يا أقرع … إنّك إن يصرعْ أخوك تصرعُ ) ( ).
الرابع : فعل الشرط مضارع مجزوم، وجواب الشرط ماض مثل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) ( ).
الخامس : فعل الشرط ماض ، وكذا جواب الشرط ) كما في قوله تعالى [إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ] ( ).
السادس : فعل الشرط مضارع مجزوم أو ماض ، وجواب الشرط مقترن بالفاء كما في قوله تعالى [وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ]( ).
السابع : حذف أداة الشرط وفعل الشرط والإكتفاء بذكر جواب الشرط كقولك : أما الصلاة فواجب , وتقديره مهما يتعرض له المكلف فالصلاة واجب .
الثامن : وجود الأداة وفعل الشرط ، وكذا جواب الشرط مع حذف الفاء منه مثل : من يعمل الصالحات الله يضاعفها ، وتقديره (فالله يضاعفها ) ومن النحويين من لم يقل به .
التاسع : مجئ أداة الشرط وجواب الشرط ، ولكن فعل الشرط محذوف , إذا تقدم الجواب وما يدل عليه ، وكان فعل الشرط ماضياً، وكذا إذا تقدم جواب الشرط قسمٌ يدل عليه مثل : ما ورد عن أبي قتادة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : أن رجلاً قال : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَيُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّى خَطَايَاىَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم، نَعَمْ إِنْ قُتِلْتَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ( ).
والتقدير : يكفر الله عنك خطاياك , ومنه آية البحث على فرض أن اللام للقسم والتقدير: ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم تنالكم مغفرة من الله ورحمة.
العاشر : مجئ أداة الشرط وفعل الشرط مع حذف جواب الشرط .
الحادي عشر : مجئ الأداة مع حذف فعل الشرط وجوابه لدلالة النظم عليه كما لو قلت : لم تثبت رؤية هلال شهر رمضان الليلة وأصوم غداً , أي وإن لم ير الهلال ويثبت أن يوم غد من شهر رمضان.
وتنقسم أدوات الشرط الجازمة إلى قسمين :
الأول : حروف الشرط وهما إن ، وإذما ، ومنه ( إن ) الواردة في آية البحث في [لَئِنْ] أما إذما فهو في الأصل مركب من (إذ ) الظرفية التي تدل على الزمن الماضي ، وأضيفت لها ( ما ) فغيرت دلالتها الزمانية من الماضي إلى المستقبل ، وصارتا كالحرف الواحد، وتكون بمنزلة (إنما) كما لو قلت : إذما قضيت الدَين حسنت سمعتك ووثق بك الناس .
الثاني : أسماء الشرط وهي : مَن ، ما ، مهما، متى ، أيان ،أنى ، أنما ، حيثما ، كيفما ، أي .
وكلها مبنية بأستثناء( أي ) فهي معربة لإضافتها إلى مفرد مثل : أي عمل صالح حسنة .
وأي هنا اسم شرط مبتدأ مرفوع .
إذ يعرب اسم الشرط حسب موقعه من الجملة , فيكون مبتدأ أو مفعولاً به وظرف مكان أمر زمان .
قوله تعالى [وَرَحْمَةٌ]
تتضمن الآية البشارة بالرحمة وهي أعظم بشارة يتلقاها الإنسان سواء في الحياة الدنيا، أو في الآخرة , وهي على وجوه :
الأول : البشارة في الدنيا للرحمة في الدنيا.
الثاني : البشارة في الدنيا للرحمة في الآخرة.
الثالث : البشارة في الدنيا للرحمة في الدنيا والآخرة.
الرابع : البشارة في الدنيا للرحمة للأهل والذراري.
الخامس : البشارة في الآخرة للرحمة في الآخرة.
السادس : البشارة في الآخرة لرحمة الذرية في الدنيا.
وهذا التعدد من مصاديق صيغة التنكير في آية البحث.
لقد وردت الآية بصيغة الخطاب، وتقديرها بلحاظ الجمع بينها وبين الآية السابقة: يا أيها الذين آمنوا رحمة خير مما يجمعون.
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ورحمة من الله لكم، بلحاظ العطف في الآية.
الثاني : ورحمة للذين آمنوا لبيان قانون وهو الملازمة بين الإيمان ورحمة الله في الدنيا والآخرة .
فيؤمن الإنسان بالله ورسوله وهو في الدنيا فتأتيه الرحمة من عند الله وتبقى تصاحبه ولا تفارقه إلى الأبد .
الثالث : من معاني الرحمة في المقام أنها سور الموجبة الكلية الجامع لأفرادها غير المتناهية والتي لا يحصيها إلا الله عز وجل ، وهو من أسرار صيغة التنكير في المقام .
الرابع : بيان المدد من عند الله للمؤمنين بالأمن والسلامة من التشبه بالذين كفروا ، وهذا المدد رحمة من عند الله عز وجل , فظاهر الآية أن أوان الرحمة هو الدار الآخرة ولكن موضوعها أعم ويشمل الحياة الدنيا ، أي أن المؤمن ينتفع من رحمة الله من جهات :
الأولى : إنتفاع المسلم في الدنيا بالرحمة التي تأتيه في الدنيا .
الثانية : إنتفاع المسلم من الرحمة الأخروية في الحياة الدنيا .
الثالثة : ترشح بركات الرحمة التي تأتي للمسلمين على الفرد منهم.
الرابعة : النفع العام للمسلمين والمسلمات من الرحمة التي تأتي للمنفرد منهم ذكراً كان أو أنثى .
الخامسة : إنتفاع المسلم في الآخرة من الرحمة التي تأتيه في الدنيا لأنها سبب للهداية والصلاح .
السادسة : إنتفاع المسلم في الآخرة من رحمة الله التي ينالها في الآخرة ومنها الشفاعة بطرفيها شافعاً ومشفوعاً .
وتحتمل النسبة بين رحمة الله في الدنيا ورحمته تعالى في الآخرة وجوهاً :
الأول : التساوي بين فردي الرحمة في الدنيا والآخرة .
الثاني : رحمة الله في الدنيا أعظم من رحمته في الآخرة .
الثالث : ما يتغشى المسلم من الرحمة في الآخرة أكبر وأعظم مما يصيبه في الآخرة .
والجواب أن كل فرد من أفراد الرحمة في الدنيا عظيم وأكبر من أن يحيط به التصور الذهني ، ولكن عند المقارنة تكون الرحمة في الآخرة هي الأعظم والأوسع في ذاتها وكيفيتها ومدتها ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : (إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة ، فأمسك عنده تسعاً وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة . فلو يعلم الكافر كل الذي عند الله من رحمته ، لم ييأس من الرحمة . ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب ، لم يأمن من النار) ( ).
وهل من معاني الرحمة في المقام النبوة وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب نعم ، قال تعالى [وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ) وفيه دعوة للمسلمين من جهات :
الأولى : الشكر لله عز وجل على نعمة النبوة وإصطفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرسالة الخاتمة .
الثانية : المبادرة إلى سوح القتال دفاعاً عن النبوة والتنزيل لأن فيها الخير والبركة .
الثالثة : حث الناس لدخول الإسلام , ونبذ الكفر ومفاهيم الضلالة.
الرابعة : دعوة المسلمين للإجتهاد في الصلاة وأداء الفرائض والتفقه في الدين لأنها أفضل وأحسن من حصر السعي بكسب المال والتجارة .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : المغفرة من الله للذي قُتل في سبيل الله .
الثاني : المغفرة من الله للذي مات من المسلمين .
الثالث : المغفرة من الله للذي جاهد في سبيل الله , ولم يحن أوان مغادرته الدنيا بعد .
الرابع : بمغفرة من الله للمسلمين الذين إعانوا المؤمن في جهاده , وفي حياته الإيمانية .
الخامسة : لمغفرة من الله للذين أنفقوا أموالهم في سبيل الله وصارت من أسباب قلة الخسارة عند المسلمين في النفوس والأموال وزاجراً للذين كفروا عن التوالي في الهجوم أو طول مدة المعركة .
السادسة : لمغفرة من الله لذوي الشهيد من أعانه في جهاده ، وولم يحاكي الذين كفروا في صدّهم عن سبيل الله ومحاولة منع الذين آمنوا من الخروج إلى ميادين القتال والمرابطة والضرب في الأرض للدعوة إلى الإسلام ، وبيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابعة : لمغفرة من الله ورحمة تستقبل الذين قتلوا في سبيل الله عند ولوجهم عالم القبر ، وتصاحبهم في عالم الآخرة .
الثامنة : ورحمة للذين يموتون من المسلمين لأنهم آفنوا أعمارهم في العبادة ومرضاة الله عز وجل ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
التاسعة : ورحمة من الله للمؤمنين والمؤمنات الأحياء إذ تأتيهم المغفرة والرحمة بفضل من عند الله من غير تقييد بشهادة واحد من ذويهم ، وجاءت الآية بصيغة التنكير [ ورحمة] ليكون من معانيها وجوه :
أولاً : رحمة في الدنيا .
ثانياً : رحمة في الآخرة .
ثالثاً : رحمة بالنفس والعاقبة .
رابعاً : رحمة بطول العمر والإعانة على فعل الصالحات .
خامساً : رحمة في مضاعفة الحسنات والإبعاد والصرف عن إرتكاب المعاصي ، وفي يوسف عليه السلام ورد قوله تعالى [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ).
وهل تبعث الآية المسلمين على التكاسل في العبادة والمناسك لأنها تتضمن إحراز المغفرة والرحمة من عند الله ، الجواب لا ، بدليل أنها تتضمن البعث على السعي لطلب المغفرة والرحمة من عند الله عز وجل باتيان الصالحات , وتقدير آية البحث : أو متم في العبادة والذكر وفعل الصالحات.
ومن الإعجاز في آية البحث أنها لم تجعل المفاضلة بين المسلم والكافر للتسليم والقطع بأن المسلم هو الأفضل، ولكنها جاءت لتبين أمرين :
الأول : قتل أو موت المسلم.
الثاني : ما يجمعه الذين كفروا من الأموال، وشؤون الحكم والسلطنة.
لتأكيد قانون وهو أن المؤمن سواء كان حياً أو ميتاً , فهو فاضل وفيه نفع عظيم للإسلام , وهو خير محض وقوة للمسلمين.
فقد يظن بعضهم أن المسلم يموت , ولكن الذي يجمعه الكفار من الأموال ومالهم من الشأن والجاه ذو أثر باق، فجاءت الآية لبيان أفضلية المسلمين .
وهل في الآية إشارة لإنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، الجواب نعم، قال تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( )، لتأديب المسلمين ونهيهم عن الإلتفات إلى مباهج الدنيا التي يتمتع بها الكفار، وفيه دعوة لأجيال المسلمين المتعاقبة للصبر والتقيد بأحكام التقوى .
قوله تعالى [خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]
تتضمن الآية التفضيل الذي يدل عليه اسم التفضيل [خَيْرٌ] وفيه مدرسة للعلوم ، وإصلاح للنفوس لبيان فضيلة التقوى .
وأخبرت آية البحث عن حقيقة , وهي أن الذين كفروا يجمعون الأموال ويسعون في زيادتها وكثرتها ويمتنعون عن الزكاة ، وهذا الإمتناع من أسباب صدودهم عن الإسلام ، وبينت الآية أن الهداية إلى الإسلام والجزاء من عند الله عز وجل على الإيمان أفضل وأحسن مما يجمع الذين كفروا من الأموال التي لا تنفعهم في الآخرة ، بل تكون وبالاً عليهم لشدة الحساب بسببها من وجوه :
الأول : جمع الكافر المال بالباطل ، فان قلت ليس كل أموال الكافر جمعها بالباطل , الجواب يكون الحساب على جمع المال والعذاب على جمع من الحرام .
الثاني : إمتناع الكافر عن دفع الحق الشرعي، قال تعالى [وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ] ( ) مع لزوم قصد القربة في الإنفاق .
الثالث : كيفية إنفاق الكافر لأمواله وبذلها في الحرام ، وتسخيرها لمحاربة الإسلام .
وقد ذكرت الآية السابقة الذين كفروا , وكيف أنهم يقولون للمسلمين الذي يخرجون للقتال , ويضربون في الأرض للدعوة إلى الله عز وجل ولو بالضميمة ، أي تكون الدعوة مع غرض آخر أظهر منها مثل التجارة والعمرة .
وعُطفت هذه الآية عليها ، لذا يكون تقدير خاتمة الآية على وجوه :
الأول : ورحمة خير مما يجمع الذين كفروا والمنافقون وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض .
الثاني : ورحمة خير مما يجمع أرباب الأموال والشهرة من الذين كفروا , وعدم حصر الآية بخصوص الكافرين والمنافقين الذين يصدون عن سبيل الله .
الثالث : إرادة كفار قريش والأموال التي جمعوها من [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) إذا كانوا يسافرون إلى الشام في الصيف وإلى اليمن في الشتاء ، ويجلبون البضائع من كل منهما للتجارة في مكة ولموسم الحج .
الرابع : المقصود عرض الحياة الدنيا من المتاع والمال والزينة والبهجة وإستيلائه على قلوب الذين كفروا ، إذ يرون أن الخروج إلى القتال سبب للحرمان منها , وهي الأهم عندهم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث ، ليكون من معاني الآية أن أي فرد من أفراد رحمة الله سواء في الدنيا أو الآخرة خير مما يجمع ويسعى إليه الذين كفروا.
ومن الإعجاز في معارك الإسلام الأولى أن لكل واحدة منها خصوصية , وتتضمن مواعظ تنفرد بها إلى جانب المواعظ التي تشترك بها مجتمعة .
ومنها معركة حنين فقد وقعت بعد فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمكة ودخول أهلها الإسلام في السنة الثامنة للهجرة مع كثرة جيش المسلمين إذ كان عددهم إثني عشر ألفاً ، حتى قال بعضهم ( لا نغلب اليوم عن قلة) ( )، ولكن هوازن وثقيف باغتوا المسلمين بهجوم سريع وشديد لينزل بطش الله عز وجل بهم فيجعله آخر هجوم ضد المسلمين في الجزيرة أيام النبوة .
وتكون عاقبتهم الهزيمة المنكرة ، وترك غنائم كثيرة إذ جاءوا بأموالهم معهم ، فغنم المسلمون نحو أربعين ألف شاة وأربعة وعشرين ألف بعير وأربعة آلاف أوقية من الفضة .
وتطلع الأنصار إلى سهامهم من الغنائم ، وظنوا أنها ستكون الأكثر ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدّم المؤلفة قلوبهم والطلقاء في العطاء من جهة الإبتداء بهم والكثرة فيما أعطاهم وأعطى عدداً منهم كل واحد مائة من الإبل ، فمثلاً أعطى أبا سفيان مائة من الإبل وأربعين أوقية من الفضة ، وكذا إبنه معاوية ، وأعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل ثم سأله أن يعطيه مائة أخرى فاعطاه ، وأعطى العباس بن مرداس أربعين من الإبل , فقال فيه قصيدته العينية :
عَفَا مِجْدَلٌ مِنْ أَهْلِهِ فَمُتَالِعُ … فَمِطْلَا أَرِيكٍ قَدْ خَلَا فَالْمَصَانِعُ
دِيَارٌ لَنَا يَا جُمْلُ إذْ جُلّ عَيْشِنَا … رَخِيّ وَصَرْفُ الدّارِ لِلْحَيّ جَامِعُ
حُبَيّبَهٌ أَلَوَتْ بِهَا غُرْبَةُ النّوَى … لِبَيْنٍ فَهَلْ مَاضٍ مِنْ الْعَيْشِ رَاجِعُ
فَإِنّ تَبْتَغِي الْكُفّارُ غَيْرَ مَلُومَةٍ … فَإِنّي وَزِيرٌ لِلنّبِيّ وَتَابِعُ
دَعَانَا إلَيْهِمْ خَيْرُ وَفْدٍ عَلِمَتْهُمْ … خُزَيْمَةُ وَالْمَرّارُ مِنْهُمْ وَوَاسِعُ
فَجِئْنَا بِأَلْفٍ مِنْ سُلَيْمٍ عَلَيْهِمْ … لَبُوسٌ لَهُمْ مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ رَائِعُ
نُبَايِعُهُ بِالْأَخْشَبَيْنِ وَإِنّمَا … يَدُ اللّهِ الْأَخْشَبَيْنِ نُبَايِعُ
فَجُسْنَا مَعَ الْمَهْدِيّ مَكّةَ عَنْوَةً … بِأَسْيَافِنَا وَالنّقْعُ كَابٍ وَسَاطِعُ
عَدَنِيّةٌ وَالْخَيْلُ يَغْشَى مُتُونَهَا … حَمِيمٌ وَآنٍ مِنْ دَمِ الْجَوْفِ نَاقِعُ
وَيَوْمُ حُنَيْنٍ حِينَ سَارَتْ هَوَازِنُ … إلَيْنَا وَضَاقَتْ بِالنّفُوسِ الْأَضَالِعُ
صَبَرْنَا مَعَ الضّحّاكِ لَا يَسْتَفِزّنَا … قِرَاعُ الْأَعَادِي مِنْهُمْ وَالْوَقَائِعُ
أَمَامَ رَسُولِ اللّهِ يَخْفُقُ فَوْقَنَا … لِوَاءٌ كَخُذْرُوفِ السّحَابَةِ لَامِعُ
عَشِيّةَ ضَحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ مُعْتَصٍ … بِسَيْفِ رَسُولِ اللّهِ وَالْمَوْتُ كَانِعُ
نَذُودُ أَخَانَا عَنْ أَخِينَا وَلَوْ نَرَى … مَصَالًا لَكُنّا الْأَقْرَبِينَ نُتَابِعُ
وَلَكِنّ دِينَ اللّهِ دِينُ مُحَمّدٍ … رَضِينَا بِهِ فِيهِ الْهُدَى وَالشّرَائِعُ
أَقَامَ بِهِ بَعْدَ الضّلَالَةِ أَمْرَنَا … وَلَيْسَ لِأَمْرِ حَمّهُ اللّهُ دَافِعُ ( )
فاعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة ناقة لأن ذات الشعر يبين الإنتقال من مرتبة المؤلفة قلوبهم والدعوة إلى سبل الهداية ، وذكر أن مجموع ما أعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤلفة قلوبهم من الخمس إذ بلغ أربعة عشر ألفاً وثمانمائة وخمسين من الإبل .
ثم أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن ثابت باحصاء عدد جيش المسلمين .
وعدّ الغنائم , وتقسيمها عليهم فأصاب الراجل أربعاً من الأبل وأربعين شاة ، وأخذ الفارس إثني عشر من الإبل مع مائة وعشرين من الشياه ، أما الذي عنده أكثر من فرس فيكون كالذي عنده فرس واحد .
وقيل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعط الأنصار من الغنائم إنما وزعها على المهاجرين والطلقاء ، والأول أرجح أي أن الأنصار أصابوا الغنائم مع كثرتهم ، ولكن حصة الواحد منهم ليست مثل حصة الطلقاء من قريش .
وتحدث الأنصار فيما بينهم وورد عن أنس أنهم قالوا : والله إن هذا لهو العجب ! إن سيوفنا لتقطر من دمائهم والغنائم تقسم فيهم ) ( ) فبلغ قولهم النبي صلى الله عليه وسلم، فجمعهم في قبة له حتى فاضت , فقال: ” فيكم أحد من غيركم ؟ ” قالوا: لا إلا ابن أختنا، قال: ” ابن أخت القوم منهم ” ثم قال: ” أقلتم كذا وكذا ؟ ” قالوا : نعم.
قال: ” أنتم الشعار والناس الدثار، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير وتذهبون برسول صلى الله عليه وسلم إلى دياركم ؟ ” قالوا: بلى.
قال: الانصار كرشى وعيبتى، لو سلك الناس واديا وسلكت الانصار شعبا لسلكت شعبهم) ( ).
وفي رواية عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما بلغته مقالة الأنصار دعاهم إلى قبته وسألهم عما قالوا ، وكانوا لا يكذبون فأجابوا بالإيجاب وأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبين لهم علة إعطاء المؤلفة قلوبهم سهاماً وأموالاً كثيرة من الغنائم ، فقال لهم (إن قريشا حديثو عهد بجاهلية ومصيبة، وإنى أردت أن أجبرهم وأتألفهم، أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله إلى بيوتكم ؟
قالوا: بلى.
قال: ” لو سلك الناس واديا وسلكت الانصار شعبا لسلكت وادي الانصار أو شعب الانصار)( ).
وقال الأنصار كرشي وعيبتي ، ولولا أنها الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، اللهم أرحم الأنصار وأبناء الأنصار ، فبكوا جميعاً وقالوا رضينا بالله ورسوله حظاً وقسماً لتكون هذه الواقعة من المصاديق العملية لآية البحث والشواهد بأن السنة النبوية بيان وتفسير للقرآن .
وكانت مدة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفتح مكة وحربه لهوازن في معركة حنين وحصارهم إلى حين عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة شهرين وستة عشر يوماً ليتغير معها وجه الأرض ، وتشع أنوار الرسالة ممن مكة التي دحيت الأرض من تحتها ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] ( ).
يحتمل مصداق التفضيل وماهية المفضول وجوهاً :
الأول : المسلم حتى في موته خير مما يجمع الذين كفروا من الأموال.
الثاني : ما يفرح به الذين كفروا من الأموال والبيوت والأولاد .
الثالث : إتخاذ الذين كفروا أموالهم ومقاماتهم وشأنهم بين الناس مادة لمحاربة الإسلام .
الرابع : إرادة ما يؤدي إليه حب الذين كفروا للأموال وتسخيرها في معصية الله من سوء العاقبة والخلود في الجحيم ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
لقد قام رؤساء الكفر من قريش يجمع الجنود والرجال من أهل مكة لقتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، فهل يكون هذا الجمع من مصاديق آية البحث ، أم أن القدر المتيقن هو المال والشأن خاصة وأن الآية وردت بصيغة الاسم الموصول (ما) الذي يدل على غير العاقل ، ولم تقل (ممن يجمعون) الأقرب هو الأول ، ليكون من معاني الرحمة في آية البحث المدد والذي يأتي من عند الله ورجحان كفة المسلمين في القتال ، وخيبة الذين كفروا .
فقد جاءوا إلى معركة أحد بثلاثة آلاف رجل من قريش وغطفان والأحابيش وهم حلفاء قريش من قبائل عربية مثل عضل وبني الحارث وبني المصطلق ، ومن غير العرب ممن جاء من الحبشة وأقام في مكة وما جاورها وتحالفوا مع العرب وتداخلوا معهم ، ولكنهم عادوا من معركة أحد بالخزي لقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
وقد يدل على المعنى الأعم بقوله تعالى [مِمَّا يَجْمَعُونَ] ما ورد قبل آيتين بقوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) لبيان أن جمع الذين كفروا على قسمين :
الأول : رؤساء جيش الذين كفروا الذين قاموا بجمع الأفراد .
الثاني : الذين جُمعوا في داخل مكة وخارجها .
ويبين هذا التقسيم أن شطراً من جيش الذين كفروا لم يكونوا متحمسين للقتال.
العلة الغائية من الهجرة إلى الحبشة
قبيل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المباركة إلى المدينة إجتمع كبار رجالات قريش في دار الندوة للتشاور في أمره بعد حدوث أمور :
الأول :تجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية.
الثاني : تناقل الناس أخبار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يفيد الميل لها ، إذ أن تناقل الأخبار أعم من الميل والإنحياز ، ولو كان الناس يكتفون بتناقل أخبار النبوة لما أغاظ الأمر قريشاً ، وكذا لو كان هناك نوع تساو بين الميل لرسالته ومحاولة صد الناس عنه عند تناقلهم لأخباره ، ولكنهم أخذوا يظهرون الحرص على متابعة أخبار النبوة والذي يدل بالدلالة الإلتزامية على الميل لها والإقرار بأنها حق وصدق ولو كان هذا الإقرار على نحو الموجبة الجزئية.
الثالث : توالي دخول الناس في الإسلام من غير حصر بفئة أو قبيلة أو طائفة ، كما يدخل فيه الغني والفقير ، والحر والعبد والرجل والمرأة ، ولم يكن هذا الدخول مجرداً بذاته بل يترشح عنه إستقلال هؤلاء المسلمين بأفعالهم , وإمتناعهم عن طاعة كبار كفار قريش.
الرابع : سقوط هيبة قريش بين القبائل ، وإدراك كبار رجالاتهم حلول الضعف في إمارتهم وسلطانهم النفسي والإجتماعي .
الخامس : قيام نفر من المسلمين بالهجرة إلى الحبشة ، وعدم إكراه ملك الحبشة لهم بترك عقيدتهم مع أن قريشاً أرسلت خلفهم وفداً لدفع ملك الحبشة إلى حبسهم وإيذائهم .
السادس : هجرة عدد من الصحابة إلى المدينة المنورة , ووجود قوم يأوونهم ويذبون عنهم ، وفيه مسائل :
الأولى : هجرة الصحابة إلى مدينة يثرب بداية نشوء وقيام دولة الإسلام.
ولقرب مدينة يثرب من مكة المكرمة بلحاظ بُعد بلاد الحبشة التي هاجر لها الصحابة الأوائل في شهر رجب من السنة الخامسة من البعثة النبوية , وعددهم أحد عشر رجلاً وأربع نسوة ، بينهم رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم (عثمان بن عفان، وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الاسد، وامرأته أم سلمة بنت أبى أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة العنزي، وامرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رهم، وحاطب بن عمرو، وسهيل بن بيضاء، وعبد الله بن مسعود) ( ) .
وقد أوعز لهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الهجرة، وذكر أن ابن مسعود ممن كان في الهجرة الثانية , قال محمد بن إسحاق (فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنْ الْبَلَاءِ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْعَافِيَةِ بِمَكَانِهِ مِنْ اللّهِ وَمِنْ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ وَأَنّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِمّا هُمْ فِيهِ مِنْ الْبَلَاءِ .
قَالَ لَهُمْ لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ حَتّى يَجْعَلَ اللّهُ لَكُمْ فَرَجًا ، فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ ، وَفِرَارًا إلَى اللّهِ بِدِينِهِمْ ، فَكَانَتْ أَوّلَ هِجْرَةٍ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ) ( ).
قال ابن هشام (وبلغني أنه كان عليهم عثمان بن مظعون ).
ثم كانت الهجرة الثانية إلى الحبشة , وعدد الذين هاجروا ثلاثة وثمانون رجلاً وتسع عشرة امرأة .
والذين أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الصحابة بالهجرة على قسمين :
الأول : الذين هاجروا الهجرة الأولى , ثم هاجروا الهجرة الثانية.
الثاني : الذين هاجروا إلى الحبشة لأول مرة في الهجرة الثانية.
وكان عدد الصحابة الذين هاجروا الهجرة الثانية إلى الحبشة , هم الأكثر وعددهم ثلاثة وثمانون رجلاً .
قال ابن إسحاق : وَمِنْ النّسَاءِ تِسْعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً) ( ) منهم إحدى عشرة قرشية.
وبين القسم الثاني والأول أعلاه عموم وخصوص مطلق إذ إن الذين هاجروا أولاً رجعوا إلى مكة عندما بلغهم أن أهلها دخلوا الإسلام ، خاصة وأن قريشاً إنجذبوا إلى بيان القرآن وجزالة معانيه ، ودلالة كلماته ، وقربها من القلوب ، فلما سمعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلو قوله تعالى [فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا] ( )لم يتمالكوا أنفسهم فخروا لله سجداً، وهو من المصاديق والحجة والعموم في قوله تعالى [وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا] ( ) فوصل الخبر إلى مهاجري الحبشة وظنوا أن قريشاً دخلوا الإسلام .
وينظر المؤمن بعين تسليمه بالمعجزات ويظن ان الآخرين يتلقونها بالتصديق فرجعوا وعندما صاروا قريبين من مكة علموا بحقيقة الأمر ، وأن كبار قريش لا زالوا على الكفر والجحود وأنهم أظهروا الشدة والبطش بالمسلمين ، فصار الذين رجعوا من الحبشة على ثلاثة أقسام :
الأول : من عاد إلى الحبشة، ولم يدخل مكة , وقيل أن عبد الله ابن مسعود هو الوحيد الذي رجع ولم يدخل مكة عندما سمع بعدم صحة خبر دخول قريش الإسلام , وهذا القول ضعيف .
الثاني : الذي دخل مكة مستخفياً .
الثالث : منهم من دخل مكة بجوار رجل من الذين كفروا .
الرابع : الذين هاجروا إلى المدينة المنورة .
ولم يبق المسلمون في الحبشة طويلاً في الهجرة الأولى , فقد هاجروا إليها في شهر رجب سنة خمس للبعثة وأقاموا شهر شعبان وشهر رمضان وعادوا منها في شهر شوال عندما بلغهم خبر مفاده أن قريشاً دخلوا الإسلام .
وكانت عودتهم سبباً لإزدياد الأذى عليهم من قريش ومن قبائلهم ولاقوا التعنيف والأذى والتعريض فأحزنهم الأمر ، خاصة وأنهم لم يلقوا من النجاشي إلا حسن الجوار
ومنهم من هاجر إلى الحبشة في الهجرة الأولى ، وأحسن النجاشي جوارهم ، وعندما سمعوا بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة عاد منهم ثلاثة وثلاثون رجلاً وثماني نسوة وحبس سبعة نفر في مكة ومات منهم رجلان في مكة , وشهد معركة بدر منهم أربعة وعشرون رجلاً .
وفي شهر ربيع الأول من سنة سبع من الهجرة ، وعندما إستقر نظام حكم الإسلام في المدينة , وتم صلح الحديبية في السنة السادسة وتوالى نزول آيات القرآن ، وإستبانت أحكام الحلال والحرام ، وتعاهد المسلمون الفرائض كالصلاة والصيام والزكاة ، وأخذ رجال القبائل يفدون إلى المدينة لمعرفة معالم الدين ودخول الإسلام هم وقومهم من خلفهم .
بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً إلى النجاشي بيد عمرو بن أمية الضمري , يتضمن مسائل :
الأولى : دعوة النجاشي لدخول الإسلام .
الثانية : أن يرسل النجاشي أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويحملهم، ويتولى تجهيز سفرهم فأركبهم في سفينتين مع عمرو بن أمية الذي بعث معه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب.
الثالثة : طلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من النجاشي تزويجه أم حبيبة بنت أبي سفيان بعد أن تنصر زوجها عبيد الله بن جحش في الحبشة , وكان يمر على المسلمين في أرض الحبشة , فيقول كما ورد عن ابن إسحاق (فقحنا وصأصأتم )( )، أي أبصرنا بينما أنتم تلتمسون البصر ولم تبصروا بعد.
وذكر ابن سعد بإسناده عن أم حبيبة قالت (رأيت في النوم عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهه , ففزعت فقلت تغيرت والله حاله فإذا هو يقول حيث أصبح يا أم حبيبة إني نظرت في الدين فلم أرَ دينا خيرا من النصرانية وكنت قد دنت بها ثم دخلت في دين محمد ثم قد رجعت إلى النصرانية .
فقلت والله ما خير لك , وأخبرته بالرؤيا التي رأيت له فلم يحفل بها وأكب على الخمر حتى مات فأرى في النوم كأن آتيا يقول يا أم المؤمنين ففزعت فأولتها أن رسول الله يتزوجني .
قالت فما هو إلا أن انقضت عدتي فما شعرت إلا برسول النجاشي على بابي يستأذن فإذا جارية له يقال لها أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه فدخلت علي فقالت إن الملك يقول لك إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلي أن أزوجكه فقالت بشرك الله بخير قالت يقول لك الملك وكلي من يزوجك فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته وأعطت أبرهة سوارين من فضة وخدمتين كانتا في رجليها وخواتيم فضة كانت في أصابع رجليها سرورا بما بشرتها .
فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن هناك من المسلمين فحضروا فخطب النجاشي فقال الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم صلى الله عليه وآله وسلم .
أما بعد فإن رسول الله كتب إلي أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله وقد أصدقتها أربع مائة دينار ثم سكب الدنانير بين يدي القوم .
فتكلم خالد بن سعيد فقال الحمد لله أحمده وأستعينه وأستنصره وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون أما بعد فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان فبارك الله رسول الله ودفع الدنانير إلى خالد بن سعيد بن العاص فقبضها ثم أرادوا أن يقوموا فقال اجلسوا فإن سنة الأنبياء إذا تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا .
قالت أم حبيبة فلما وصل إلي المال أرسلت إلى أبرهة التي بشرتني فقلت لها إني كنت أعطيتك ما أعطيتك يومئذ ولا مال بيدي فهذه خمسون مثقالا فخذيها فاستعيني بها فأبت فأخرجت حقا فيه كل ما كنت أعطيتها فردته علي وقالت عزم علي الملك أن لا أرزأك شيئا وأنا التي أقوم على ثيابه ودهنه وقد اتبعت دين محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأسلمت لله وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بكل ما عندهن من العطر قالت فلما كان الغد جاءتني بعود وورس وعنبر وزباد كثير فقدمت بذلك كله على النبي صلى الله عليه وآله و سلم , فكان يراه علي وعندي فلا ينكره .
ثم قالت أبرهة فحاجتي إليك أن تقرئي رسول الله مني السلام وتعلميه أني قد اتبعت دينه قالت ثم لطفت بي وكانت التي جهزتني فكانت كلما دخلت علي تقول لا تنسي حاجتي إليك قالت فلما قدمت على رسول الله أخبرته كيف كانت الخطبة وما فعلت بي أبرهة .
فتبسم رسول الله وأقرأته منها السلام فقال وعليها السلام ورحمة الله وبركاته) ( ).
ولم تنحصر منافع الهجرة إلى الحبشة بنجاة هؤلاء المهاجرين بأنفسهم ودينهم، بل هي ثورة وإحتجاج ووعيد , ورد نبوي على بطش قريش وشدة ظلمهم، وتلقيهم الدعوة إلى الله بالصدود والجحود وتعذيب الذين آمنوا.
وهذه الهجرة من أول مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، بلحاظ أن هؤلاء المهاجرين نواة سفراء الإسلام إلى الدول والأمم الأخرى، لقد أصاب قريشاً الفزع والرعب من هجرة نفر من المسلمين إلى الحبشة ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى قبل آيتين [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ) .
الجواب نعم ، وتدل عليه علة وسبب قذف الرعب والخوف في قلوب الذين كفروا وهو الشرك بالله عز وجل ، وفيه مسائل :
الأولى : لقد خافت قريش من إنتشار الإسلام خارج الجزيرة مما يدل بالدلالة التضمنية على صيرورة هذا الإنتشار سبباً لتثبيت الإسلام في الجزيرة وترغيب الشباب ذكوراً وأناثاً في مكة وما حولها بالإسلام .
الثانية : فزع وحسرة قريش بسبب نجاة رهط من المسلمين بهجرتهم إلى الحبشة .
الثالثة : خشية رجالات قريش من هجرة أبنائهم إلى الحبشة، وإفراغ مكة من الشباب .
الرابعة : خوف قريش من هجرة رهط وطائفة أخرى من المسلمين إلى بلاد أخرى غير الحبشة , ولم تمر الأيام إلا وتجلت الهجرة العظمى إلى يثرب إتساعاً وظهوراً وأثراً.
الخامسة : خوف قريش من رجوع المسلمين بجيش يفتح مكة ويخرج لنصرتهم المسلمون فيها ممن يجهر باسلامه أو يخفيه .
السادسة : إصابة قريش بالخوف على تجارتها في [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) إلى الشام واليمن ، كما كانت الحبشة سوقاً لقريش ، ويعلمون حال الأمن فيها ، وحرص النجاشي على المنع من الظلم والتعدي .
قال الطبري (وكانت أرض الحبشة متجرًا لقريش، يَتْجَرون فيها، ومساكن لتِجَارهم , يجدون فيها رَفاغًا من الرزق , وأمنًا ومَتْجَرًا حسنًا) ( ).
السابعة : خشية قريش من هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومغادرته مكة، ونصرة الناس له خارجها، وفعلاً عند ما مات عمه أبو طالب وزوجته خديجة بنت خويلد وكان بين وفاتهما شهر وخمسة أيام تجرأت قريش على رسول الله، فأقلّ من خروجه من البيت خشية تعديهم.
ثم هاجر في شهر شوال من السنة العاشرة من البعثة إلى الطائف، وأخذ يدعو وجهاءها وأشرافها إلى الإسلام، ولكنهم إمتنعوا عن إجابته، وأدركوا أن أولادهم قد يستجيبون لدعوته، فطلبوا منه أن يغادر بلدتهم، وأغروا السفهاء به فصاروا يرمونه بالحجارة , وأخذت الدماء تسيل من رجليه، فخرج ولم يلبث بالطائف إلا عشرة أيام .
فرجع إلى مكة محزوناً، وصرف الله عز وجل له نفراً من جن نصيبين وكان عددهم سبعة, قال تعالى [وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ]( ).
وفي طريق العودة قال زيد بن حارثة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كيف ترجع إلى قريش وهم أخرجوك فبين له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حسن توكله على الله وكفايته له، وأنه سبحانه يصرف أذى قريش، وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أريقط إلى الأخنس بن شريق، فطلب منه أن يجيره بمكة .
فقال: إن حليف قريش لا يجير على صميمها – أي أنه إعتذر وأظهر عدم قدرته حسب العرف على إجارته – ثم بعثه إلى سهيل بن عمرو ليجيره فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب بن لؤي , فبعثه إلى المطعم بن عدي ليجيره , فقال : نعم ، قل له فليأت.
فذهب إليه رسول الله صلى عليه وآله وسلم فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج معه هو وبنوه ستة أو سبعة متقلدي السيوف جميعا، فدخلوا المسجد وقال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: طف، واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف.
فأقبل أبو سفيان إلى مطعم , فقال: أمجير أو تابع ؟ أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة باجارتك له ، أم أنك صرت مسلماً وتابعاُ له. قال: لا بل مجير.
قال: إذا لا تخفر.
فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طوافه، فلما انصرف انصرفوا معه، وذهب أبو سفيان إلى مجلسه، فمكث النبي أياما ثم أذن له الله في الهجرة( ).
عندئذ إجتمع كبار رجالات قريش في دار الندوة التي أنشأها قصي بن كلاب جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , للتشاور في أمره، وصار هذا اليوم يسمى (يوم الزحمة).
دار الأرقم
لما صار عدد المسلمين في بداية الدعوة في مكة المكرمة أكثر من ثلاثين ، وصارت قريش تؤذي المسلمين حينما يرونهم يتعبدون الله ويقيمون الصلاة ويتلون القرآن أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإعراض عن قريش ، وإجتناب مجالسهم والمواجهة معهم ، وفيه آية أخرى بأن الإسلام والمسلمين لاقوا أشد الأذى بسبب عقيدة التوحيد ، وأن الإسلام لم ينتشر بالسيف ، فاختار دار الأرقم بن أبي الأرقم واسم أبي الأرقم عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ويكنى أبا عبد الله واسم أم الأرقم تماضر بنت حذيم السهمية وأسلم سابع سبعة , وقيل أسلم بعد عشرة .
وفي هذا الإختيار خصائص :
الأولى : يبلغ الأرقم من العمر ست عشرة سنة ، وليس من دأب كفار قريش تفتيش بيوت الفتيان ، بل كانت أعينهم تتجه نحو بيوت بني هاشم وكبار الصحابة .
الثانية : لم يعلن الأرقم إسلامه ولم تعرفه قريش بانه صار مسلماً .
الثالثة :ينتسب الأرقم إلى بني مخزوم ، وكانوا أعداءً لبني هاشم وبينهم خصومة ، فلا يخطر على أذهان رجالات قريش أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتخذ مركز تجمعه وأصحابه بين بيوت أعدائه .
الرابعة : يقع دار الأرقم في أسفل جبل الصفا ، ولو كان في أعلاه لكان مكشوفاً ، وهو بيت صغير .
الخامسة : إحاطة المسلمين بمقر إجتماعهم في دار الأرقم بالسرية والإخفاء عن الناس ، ولما أراد بعض رجالات قريش دخول الإسلام سأل عن المحل الذي يجتمع فيه المسلمون ، نعم كانت قريش تتناقل خبراً أن المسلمين يلتقون في دار عند الصفا .
السادسة : كان المسلمون لا يلجون بيت الأرقم في الغالب إلا عندما تتغشى الظلمة المكان ، وتهدأ الأرجل وتقل الحركة .
السابعة : كانت في الباب الخشبي لدار الأرقم شقوق ونوع فتحات ليرى من خلالها الذي في الخارج ، والشخص الذي يطرق الباب لأخذ الحائطة والحذر .
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُعلم أصحابه أحكام الشريعة , ويستقبل الذين يدخلون الإسلام في دار الأرقم ، ويدعو منها إلى الله والتحلي بالصبر والتقوى , ومنهم من جاء من خارج مكة مثل أبي ذر الغفاري ، كما أسلمت فيه بعض النسوة من قريش وغادرها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة العاشرة من البعثة متوجهاً إلى الطائف .
ويخرج منها الصحابة لينتشروا في المسجد الحرام وأزقة وبيوت مكة يدعون إلى الله ورسوله حتى إذا صار عدد المسلمين أربعين رجلاً وكان آخرهم عمر بن الخطاب وقبله بثلاثة أيام أسلم حمزة ، خرج بهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من بيت الأرقم بصَفين إلى المسجد في إشراقة أطلت على الأرض بصدق الإيمان ونواة الهدى والرشاد فتغشت الكآبة كفار قريش وأصابهم الحزن والخوف ، وهو من المصاديق المتقدمة لقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ] ( ) .
ولم تمر الأيام والشهور حتى دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة فاتحين في السنة الثامنة للهجرة .
وهاجر الأرقم وحضر بدراً و(عن هلال بن ربيعة قال أصبت سيف بني عائذ المخزوميين يوم بدر، ويسمى المرزبان , فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برد ما في أيديهم ، أقبلت حتى ألقيته في النفل. فعرفه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطاه إياه.
قاله ابن منده. وأخرجه أبو نعيم، وقال: ذكره بعض المتأخرين، وقال: لهلال صحبة، وفي حديثه إرسال، وأسنده عن ابن إسحاق. قال: وإنما هو مالك بن ربيعة أبو أسيد الساعدي، فجعله هلال بن عامر، وذكر الحديث عن إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق فقال: مالك بن ربيعة. وهو الصحيح) ( ).
ومما رواه الأرقم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إن الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين، بعد خروج الإمام كالجار قصبة في النار) ( ).
وحبس الأرقم داره لما فيها من معاني الشرف والعز ، ولكن أحفاده باعوها لأبي جعفر المنصور ، وصارت تعرف وحتى القرن السادس والسابع الهجري بدار الخيزران .
ولكن هذه الدار أعم إذ أن بيت الأرقم صار مسجداً ( ) . والخيزران جارية يمانية جرشية أهداها ابو جعفر إلى إبنه الخليفة المهدي فولدت له ثلاث أولاد منهم الهادي وهارون الرشيد ، وصارت تتدخل في شؤون الحكم وتستقبل القواد خاصة في أيام هارون.
ومات الأرقم في السنة الخامسة والخمسين للهجرة النبوية الشريفة وعندما حضرته الوفاة أوصى أن يصلي (عليه سعد بن أبي وقاص، وكان مروان بن الحكم والياً على المدينة، وكان سعد في قصره بالعقيق، ومات الأرقم فاحتبس عليهم سعد، فقال مروان: أيحبس صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل غائب؟ وأراد الصلاة عليه، فأبى عبيد الله بن الأرقم ذلك على مروان، وقامت معه بنو مخزوم، ووقع بينهم كلام، ثم جاء سعد فصلى عليه)( ).
وفي معركة اليمامة وهي من حروب الردة والتي وقعت بسبب إرتداد بني حنيفة، وإدعاء مسيلمة الكذاب أنه يوحى إليه، وعضّده شخص إسمه الرجّال بن عنفوة الذي شهد له كذباً أنه سمع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يشركه في أمره، وعن أبي هريرة قال : جلست مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رهط ومعنا الرجال بن عنفوة فقال : إن فيكم لرجلاً ضرسه في النار مثل أحد .
فهلك القوم وبقيت أنا والرجال بن عنفوة فكنت متخوفاً لها حتى خرج الرجال مع مسيلمة وشهد له بالنبوة. وقتل يوم اليمامة قتله زيد بن الخطاب)( ).
وكانت الراية بيد زيد بن الخطاب( )، الذي تقدم وسط الأعداء وهو يضربهم بسيفه , وكان يعتذر إلى الله من فرار أصحابه، ومما جاء به مسيلمة ومحكم بن الطفيل إلى أن قتل(ووقعت الراية فأخذها سالم مولى أبي حذيفة , فقال المسلمون: يا سالم، إنا نخاف أن نؤتى من قبلك! فقال: بئس حامل القرآن أنا إن أُتيتم من قبلي)( ) .
لقد كانت آية البحث حاضرة عند المسلمين في الحضر والسفر والسلم والحرب ، إذ أنها تذكر بالموت والقتل في سبيل الله وتخبر بأن كلاً منهما طريق إلى نيل مرتبة العفو والمغفرة من الله والتنعم بالرحمة منه سبحانه .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ان ذات القتل في سبيل الله رحمة وكذا موت المسلم على الفراش ، وقد ورد ان موسى عليه السلام قال لقومه [يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ] ( )أما المسلمون فقد أكرمهم الله عز وجل بالتخيير بين القتل في سبيله أو الموت على الفراش.
فكان التحريض من المسلمين لحذيفة بلطف، فرد عليهم باللجوء إلى القرآن وبيان موضوعية حمله وحفظه وتلاوته، وأنه حرز من التفريط والوهن في القتال، بخلاف حال المشركين , فحينما قام أبو سفيان في معركة أحد بتحريض حملة لوائهم شتموه وتوعدوه .
قال ابن إسحاق: وقد قال أبو سفيان لاصحاب اللواء من بني عبد الدار يحرضهم على القتال يا بنى عبد الدار أنكم قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم , وانما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا فاما ان تكفونا لواءنا واما ان تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه فهموا به)( ).
الأول : حنظلة بن أبي سفيان بن حرب ، قتله زيد بن حارثة ، مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : معاوية بن عامر – حليف لهم من بني عبد القيس – قتله علي بن أبي طالب عليه السلام .
الثالث : وهب بن الحارث من بني أنمار بن مغيض ، حليف لهم.
الرابع : عمير بن أبي عمير .
الخامس : عبيدة بن سعيد بن العاص ، قتله الزبير بن العوام( ).
السادس : الحارث بن الحضرمي قتله النعمان بن عصر بن الربيع بن الحارث البلوي (شهد بدراً والمشاهد كلها وقتل يوم اليمامة شهيداً)( ).
السابع: عامر بن الحضرمي قتله عمار بن ياسر .
الثامن : العاصي بن سعيد قتله الإمام علي بن أبي طالب .
التاسع : عقبة بن أبي معيط قتله عاصم بن ثابت بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصفراء صبراً بالسيف .
العاشر : العاص بن سعيد بن أمية قتله علي بن أبي طالب عليه السلام.
الحادي عشر : طعيمة بن عدي بن نوفل قتله علي بن أبي طالب عليه السلام .
الثاني عشر : عتبة بن ربيعة ، قتله حمزة بن عبد المطلب .
الثالث عشر : الحارث بن زمعة قتله عمار بن ياسر .
الرابع عشر : شيبة بن ربيعة ، قتله عبيدة بن الحارث ، وكرّ عليه علي وحمزة ، لأن المبارزة كانت جماعية ثلاثة من المؤمنين مقابل ثلاثة من الكافرين .
الخامس عشر : زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد قتله ثابت بن الجذع وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب عليه السلام .
السادس عشر : عقيل بن الأسود بن المطلب قتله حمزة والإمام علي إشتركا فيه .
السابع عشر : العاص بن هشام بن الحارث بن أسد قتله المجذع بن ذياد البلوى .
الثامن عشر : الوليد بن عتبة بن ربيعة ، قتله الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
التاسع عشر : نوفل بن خويلد بن أسد قتله الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
العشرون : النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف ابن عبد الدار قتله الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
الحادي والعشرون : زيد بن مليص مولى عمير بن هاشم , قتله بلال بن رباح .
الثاني والعشرون : عامر بن عبد الله حليف لبني عبد شمس ، قتله علي عليه السلام ( ).
الثالث والعشرون : عثمان بن مالك بن عمير بن كعب بن سعد بن تيم قتله الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
الرابع والعشرون : أبو جهل بن هشام وإسمه عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ضربه معاذ بن عمرو بن الجموح فقطع رجله وضرب إبنه عكرمة يد معاذ فطرحها ثم ضربه معوذ بن عفراء حتى اثبته ثم تركه وبه رمق ثم أسرع عليه عبد الله بن مسعود وقطع رأسه.
الخامس والعشرون : أبو مسافع الأشعري قتله أبو دجانة الساعدي.
السادس والعشرون : حرملة بن عمرو قتله خارجة بن زيد بن أبي زهير ويقال بل قتله الإمام علي عليه السلام .
السابع والعشرون :ابو قيس بن الوليد بن المغيرة قتله حمزة بن عبد المطلب.
الثامن والعشرون : عبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة قتله الإمام علي عليه السلام .
التاسع والعشرون : أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة قتله حمزة بن عبد المطلب .
الثلاثون : الأسود بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قتله حمزة بن عبد المطلب .
الحادي والثلاثون : عويمر بن السائب قتله النعمان بن مالك القوقلي (مبارزة).
الثاني والثلاثون : عمرو بن سفيان قتله يزيد بن رقيش .
الثالث والثلاثون : مسعود بن أبي أمية قتله الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
الرابع والثلاثون : رفاعة بن أبي رفاعة قتله سعد بن الربيع .
الخامس والثلاثون : أبو المنذر بن أبي رفاعة قتله معن بن عدي العجلاني.
السادس والثلاثون : عبد الله بن أبي رفاعة قتله الإمام علي عليه السلام.
السابع والثلاثون : زهير بن أبي رفاعة قتله أبو أسيد الساعدي.
الثامن والثلاثون : السائب بن أبي رفاعة قتله عبد الرحمن بن عوف.
التاسع والثلاثون : السائب بن أبي السائب قتله الزبير بن العوام .
الأربعون : الأسود بن عبد الأسد ، قتله حمزة بن عبد المطلب.
الحادي والأربعون : عمرو بن سفيان ، قتله يزيد بن رقيش .
الثاني والأربعون : جابر بن سفيان قتله أبو بردة بن نيار .
الثالث والأربعون : حاجب بن السائب ، قتله الإمام علي عليه السلام.
الرابع والأربعون : عويمر بن عائذ بن عمران بن مخزوم قتله النعمان بن أبي مالك .
الخامس والأربعون : أمية بن خلف إشترك في قتله خبيب بن إساف وبلال.
السادس والأربعون : علي بن أمية بن خلف ، قتله عمار بن ياسر.
السابع والأربعون: أوس بن المعير بن لوذان ، قتله الإمام علي عليه السلام وعثمان بن مظعون إشتركا في قتله .
الثامن والأربعون: منبه بن الحجاج قتله الإمام علي عليه السلام وقيل أبو اليسر .
التاسع والأربعون : نبيه بن الحجاج ، قتله الإمام علي عليه السلام.
الخمسون : العاص بن منبه ، قتله الإمام علي عليه السلام .
الحادي والخمسون: أبو العاص بن قيس بن عدي قتله أبو دجانة قال الواقدي : (وحدثني أبو معشر، عن أصحابه، قالوا: قتله علي عليه السلام. وحدثني حفص بن عمر بن عبد الله بن جبير مولى علي عليه السلام بذلك) ( ).
الثاني والخمسون: عاصم بن أبي عوف بن خبيره قتله أبو دجانة.
الثالث والخمسون : معاوية بن عبد قيس حليف لبني عامر بن لؤي، قتله عُكاشة بن يحصن .
الرابع والخمسون : حليف لبني عامر من كلب ، قتله أبو دجانة (قال الواقدي : فَجَمِيعُ مَنْ يُحْصَى قَتْلُهُ من الذين كفروا تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا. مِنْهُمْ مَنْ قَتَلَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ وَشَرِكَ فِي قَتْلِهِ – اثْنَانِ وَعِشْرُونَ رَجُلًا) ( ).
الخامس والخمسون : الحارث بن عامر بن نوفل قتله خبيب بن إساف .
السادس والخمسون : عمير بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم قتله الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
السابع والخمسون : حذيفة بن أبي حذيفة قتله سعد بن أبي وقاص.
الثامن والخمسون : هشام بن أبي حذيفة قتله صهيب بن سنان.
التاسع والخمسون : عائذ بن السائب بن عويمر – أسر ثم أفتدى فمات في الطريق من جراحة جرحه إياها حمزة بن عبد المطلب .
الستون : الحارث بن منبه بن الحجاج قتله صهيب بن سنان .
الحادي والستون : عامر بن عوف بن ضبيرة , قتله عبد الله بن سلمة العجلاني.
الثاني والستون : معبد بن وهب قتله كل من خالد وأياس إبني البكير .
الثالث والستون : علي بن أمية بن خلف ، قتله عمار بن ياسر.
الرابع والستون : سبرة بن مالك – حليف لهم-لا يعرف قاتله .
الخامس والستون : نبيه بن الحجاج قتله حمزة بن عبد المطلب ، وسعد بن أبي وقاص اشتركا في قتله .
السادس والستون : عتبة بن زيد – رجل من اليمن حليف لبني أسد .
السابع والستون : العاص بن منبه بن الحجاج ، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام.
الثامن والستون : مالك بن عبيد الله بن عثمان ، وهو أخو طلحة بن عبيد الله ، أسر فمات في الأسر ، فعمد في القتلى .
التاسع والستون : عمرو بن عبد الله بن جدعان .
السبعون : العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قتله عمر بن الخطاب وهو خاله .
ليكون نصر المسلمين في معركة بدر إزاحة لأسباب الخوف ومقدمة للأمن , وبخصوص معركة أحد نزل قوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً] ( ).
وينقطع النعاس ويزول في أوانه ،ولكن الأمن يبقى مصاحباً للمؤمنين ، وهو من الإعجاز من جهات :
الأولى : تقديم لفظ (أمنة) على النعاس في الآية أعلاه .
الثانية : قانون إستدامة النعمة التي تنزل من عند الله وعدم مغادرتها الأرض فضلاً منه سبحانه .
الثالثة : تجلي مصاديق الأمن والأمان للمسلمين في حال الحرب والسلم والمهادنة ، ولا عبرة بالقليل النادر , والذي يأتي منه الثواب العظيم .
الرابعة : إنصراف ودفع الغم عن المؤمنين ، وكل آية من القرآن واقية وحرز من الغم لتتعدد وجوه دفع ورفع الغم عن المؤمنين ، وهو من فيوضات التنزيل وأسرار القرآن , ونزوله نجوماً وعلى نحو التدريج وصيرورة موضوعية لأسباب النزول بخصوص شطر من آيات القرآن.
الخامسة : تقديم الأمنة على الناس رد على أهل الشك والريب الذين قد يقولون لماذا النعاس وما هي منافعه، فجاءت الآية على نحو الإعجاز لبيان قانون , وهو أن الأمنة وما يصاحبها من حسن العشرة بين المسلمين نعمة نازلة من عند الله عز وجل .
وبين الأمنة وبين النعاس عموم وخصوص مطلق ، فالأمنة أعم في موضوعها وزمانها وأثرها.
ترى لماذا لم تقل الآية أعلاه أمناً بدلالة [أمنة ] كما في قوله تعالى [وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا] ( ) .
الجواب بين الأمن والأمنة عموم وخصوص مطلق ، إذ يتضمن لفظ الأمن الوعد المستديم من عند الله ، وإرادة البشارة بالمقام الكريم والخلود في النعيم في الآخرة .
وفي قصص بداية الإسلام بيان لحال الخوف الذي كان عليه المسلمون الأوائل , وهذا الخوف من وجوه :
الأول : أذى وشر الذين كفروا .
الثاني :قيام رؤساء الكفر بتعذيب المسلمين .
الثالث : الحصار الإقتصادي والتضييق في المعاش على المسلمين.
الرابع : تعاضد وتآزر الذين كفروا في سعيهم للإجهاز على الإسلام .
الخامس : خشية المسلمين والمسلمات على شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإستدامة التنزيل ، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزول القرآن نجوماً وعلى نحو التدريج .
السادس : خوف المسلمين على دينهم وسلامتهم وان يكرههم الذين كفروا على ترك الإيمان ، لذا فمن الإعجاز في قوله تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ) دلالته على صيرورة المسلمين في حالة منعة وقدرة على النجاح في إختبار عدم طاعة الذين كفروا ، وإنطواء أيام الإكراه والتعذيب لترك الإسلام، فلذا إختار كفار قريش اللقاء بالسيوف والرماح .
وبخصوص الآية أعلاه من سورة النور وهي مدنية ورد عن البراء في قوله[وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ]( )، الآية . قال : فينا نزلت ونحن في خوف شديد) ( ).
وذكر أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( يا رسول الله، أبدَ الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا فيه السلاح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” لن تَغْبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم مُحْتَبِيًا ليست فيهم حديدة”.
وأنزل الله هذه الآية، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب، فآمنوا ووضعوا السلاح) ( ).
والنسبة بين الأمنة والنعاس في الموضوع على وجوه :
الأول : العموم والخصوص المطلق , وإن الذين نزلت عليهم الأمنة هم الأعم والأكثر , وهو من فضل الله عز وجل إذ تنزل النعمة منه سبحانه , فتكون عامة بلحاظ أدنى متعلق لها عند الذين بذلوا الوسع في الجهاد من المؤمنين في الموضوع والدلالة .
وإذ إختص نزول النعاس بطائفة من المؤمنين في الميدان فهل تغشت الأمنة الذين تولوا عند اللقاء الذين تذكرهم آية البحث بالتخصيص فلم يفوزوا بنعمة الأمنة إذ يدل فرارهم على حال الخوف والفزع الذي أصابهم خاصة على القول بالإتحاد بين الأمنة والنعاس في الموضوع والمتعلق .
الثاني : إرادة الموجبة الجزئية , وأن شطراً من الذين تولوا نالوا نعمة الأمنة وشطراً حرموا منها .
الثالث : شمول الذين تولوا بنعمة الأمنة .
والمختار هو الثالث من وجوه :
أولاً : إرادة التفكيك بين الأمنة والنعاس من جهة الموضوع والأثر.
ثانياً : مجئ الآية بصيغة العطف , ومن وجوه تقديرها : إذ تصعدون فأثابكم .
ثالثاً : قانون الملازمة بين الإيمان والأمنة .
رابعاً : نسبة العموم والخصوص الزماني بين الأمنة والنعاس إذ أن النعاس يرتفع في أوانه ، بينما تصاحب الأمنة المؤمنين .
ولم يرد لفظ (أمنة) في القرآن إلا مرتين ، في الآية أعلاه وفي قوله تعالى [إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ] ( ) فهل يدل الجمع بين الآيتين على أن النعاس هو ذاته الأمنة ، وهناك نوع تقديم وتأخير في الآيتين مع إتحاد المعنى .
الجواب لا تعارض بين أن يكون النعاس ذاته أمنة , وأن الأمنة المذكورة في آية البحث أعم في موضوعها وزمانها ومتعلقها ويكون التقدير على وجوه:
الأول : جاء النعاس أمنة لطائفة من المهاجرين والأنصار الذين ثبتوا في ميدان المعركة , ويمكن تسميتها الأمنة الخاصة .
الثاني : نزلت الأمنة على كل أفراد جيش المسلمين الذين حضروا معركة أحد ، ومنهم الذين فروا ودعاهم الرسول للعودة إلى المعركة كما نزلت الأمنة على المسلمين في المدينة , ويمكن تسميتها الأمنة العامة.
وهل نزلت ذات الأمنة على المسلمين الذين خرجوا مع المشركين كرهاً إلى معركة أحد ، الجواب لا .
الثالث : إختصاص الطائفة التي ثبتت في الميدان من المؤمنين بنزول الأمنة المقصودة العامة والخاصة .
وتحتمل النسبة في الموضوع بين الأمنة والنعاس وجوهاً :
الأول : إرادة التساوي بين الذين نزلت عليهم الأمنة والذين تغشاهم النعاس .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين:
الأولى : الذين نزلت عليهم الأمنة أعم وأكثر من الذين تغشاهم النعاس .
الثانية : الذين تغشاهم النعاس هم الأكثر والأعم .
الثالث : إرادة نسبة العموم والخصوص من وجه ، وهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه ،وهو من أسرار حصر التغشي في الآية بطائفة من المؤمنين ، وتأكيد لغة التبعيض بقوله تعالى (منكم) .
وفي الضمير (كم) الوارد في الآية أعلاه وجوه :
الأول : إرادة المهاجرين والأنصار الذين قاتلوا في معركة أحد ولم يفروا أو يصعدوا الجبل .
الثاني : المقصود عموم الصحابة الذين حضروا معركة أحد ومنهم الذين أستشهدوا والذين فروا .
الثالث : المقصود جميع المسلمين أوان نزول آية البحث , ومنهم الذين لم يحضروا معركة أحد عن عذر أو بدون عذر.
والنسبة بين الأمنة ونزول الملائكة في معركة أحد على وجوه:
الأول : نسبة التساوي , وأن نزول الملائكة الذين ورد في قوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( )هي ذاتها الأمنة التي تذكرها آية البحث.
الثاني : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء كما في مسألة النزول من عند الله , ومادة للإفتراق لأن الملائكة أجسام نورانية رزقها الله القدرة على الظهور بهيئات مختلفة كل واحدة منها تفيد معنى الصلاح والهدى .
الثالث : نسبة العموم والخصوص المطلق , وهو على شعبتين:
الأولى : نزول الملائكة هو الأعم وتترشح عنه الأمنة .
الثانية : الأمنة هي الأعم ، ونزول الملائكة فرع منها .
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثالث أعلاه , وإرادة ذات الأمنة ومدتها وتجددها .
وموضوع آية البحث هو القتل والموت وتعلقه بخصوص المسلمين وتترشح الأمنة فيها من وجوه :
الأول : مجئ آية البحث بصيغة الجملة الشرطية بخصوص القتلى .
الثاني : تهيئة أذهان المسلمين للقتل في سبيل الله ، فليس من مباغتة للقتل إذا حلّ بساحتهم .
الثالث : بيان الآية لسنخية قتل المسلم وهو أنه يُقتل في سبيل الله ليدل في مفهومه على مسائل :
الأولى : ظلم وجور الذي يقتل المسلم .
الثانية : حسن عاقبة المسلم .
الثالثة : شدة عذاب الذي يقتل المسلم .
الرابعة : وقوع المعارك والقتال بين الذين آمنوا والذين كفروا .
الخامسة : وجوب الدفاع عن بيضة الإسلام .
الرابع : البشارة العظمى بما ينتظر المسلمين من غفران الذنوب ومحو السيئات .
الخامس : تغشي رحمة الله للمؤمن عند موته ، وإنتفاع ذويه من وجوه هذه الرحمة .
قانون اللفظ المنفرد
لقد جعل الله عز وجل القرآن سر السماء في الأرض ، وكلامه الذي تعجز الخلائق عن درك كنهه، وسبر أغواره وفي كل يوم تطل علينا علوم مستحدثة وعديدة منه ، وشواهد تدل على موافقته للواقع ومبرز يقود إلى الرشاد وبر الأمان ، وهذه الإطلالات من أسرار تلاوة المسلمين عدة مرات في اليوم لقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
ومن علوم القرآن ورود لفظ أو ألفاظ في آية قرآنية لم ترد في آية أخرى من آياته التي تبلغ ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية ، لتكون فريدة متميزة من بين فرائد وكلمات القرآن .
فهي (سبع وسبعون ألف كلمة وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة)( ).
وعدد حروفه ( ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون الفاً وخمسة عشر حرفاً )عن عطاء بن يسار ( ).
فتجد كلمة في آية ثم لا تجدها ، وقد تجد أكثر من كلمة في آية واحدة لم ترد في غيرها .
وتضمنت آية البحث لفظ (غزىً ) ولم يرد في آية قرآنية أخرى وفيه نكتة مستقرأة وهي بيان التخفيف عن المسلمين بقلة الغزو ، ويكاد يكون معدوماً في سنوات وأحقاب عديدة ، وتأسيس النظام العالمي في هذه القرون على إرادة الدولة والوطنية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ] ( ).
وإن قلت جاءت سورة الفاتحة في أول نظم القرآن ويتلوها كل مسلم ومسلمة كل يوم على نحو الوجوب العيني فهل فيها من هذا العلم شيء .
الجواب نعم ، إذ أختصت هذه الآية بلفظ من القرآن فورد فيها دون غيرها من آيات القرآن لفظ [نَسْتَعِينُ]ولفظ [الْمَغْضُوبِ] لبيان أن الإستعانة تنحصر بالله عز وجل وتأكيد سلامة المسلمين من محاكاة الذين غضب الله عز وجل عليهم ، وبين الذين كفروا الذين تذكرهم آية البحث ونهي المسلمين عن محاكاتهم وبين المغضوب عليهم عموم وخصوص مطلق ، فالذين كفروا هم الأعم والأكثر .
ويتضمن هذا القانون مسائل :
الأولى : إحصاء الآيات التي تختص وتنفرد بلفظ معين لا يوجد في آية من آيات القرآن الأخرى .
الثانية : تنظيم منهاج لهذا الآيات من وجوه :
أولا : وفق نظم سور القرآن ، فتذكر سورة الفاتحة وما فيها من الكلمات التي لم تذكر في غيرها كما في نستعين ، المغضوب ، ثم سورة البقرة وهكذا .
ثانياً : فهرست هذه الآيات وفق المنهاج الموضوعي بلحاظ إجتماع الكلمات الخاصة بكل موضوع أو كلمة .
ثالثاً : ترتيب الآيات حسب الأكثر أو الأقل في عدد الكلمات التي تختص بها ، فتذكر أولاً الآيات التي ترد فيها ثلاث أو أربع كلمات لم ترد في غيرها ، ثم الأقل فالأقل .
فوردت في آية البحث ألفاظ لم ترد في غيرها مثل [ كَانُوا عِنْدَنَا] [مَا مَاتُوا] [ لِيَجْعَلَ اللَّهُ][ ذَلِكَ حَسْرَةً] وسمينا اللفظ هنا بالمنفرد للفصل والتمييز بينه وبين المفرد الذي يكون في مقابل الجمع مثل كتاب وكتب, ورجل ورجال .
ومن الإعجاز في اللفظ المنفرد في الآية مسائل :
الأولى : تعيين اللفظ المنفرد والمتجدد في القرآن .
الثانية : موضع اللفظ المنفرد في الآية القرآنية .
الثالثة : معاني اللفظ المنفرد .
الرابعة : علة وأسباب إنفراد اللفظ في القرآن .
الخامسة : منافع ودلالات اللفظ المنفرد .
السادسة : الإعجاز المستقرأ من اللفظ المنفرد سواء المترشح عن الوضع الحقيقي أو المجازي أو المفهوم والكناية ، أما التعريف فيختص باللفظ المركب ، ولا يقع في اللفظ المفرد , وبين الكناية والتعريض عموم وخصوص مطلق ، فكل كناية هي تعريض وليس العكس ، وسمُي تعريضاً لأن معناه يترشح من عرضه ومن جانبه ز
ومن الكناية في القرآن قوله تعالى [أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ] ( ) إذ أشار إلى الغيبة , وكأنها أكل لحم المسلم وهو ميت وبما تنفر الطباع من الغيبة .
حلف الفضول
ورد في الحديث باسم حلف المطيبين، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : شهدت حلف المطيبين وأنا غلام مع عمومتي، فما أحب أن لي حمر النعم وإنّي أنكثه( ).
ويبين موضوع هذا الحلف ملكة الأخلاق الكريمة التي تصاحب مجاوري البيت الحرام، وحرصهم على تنزيه مكة من الظلم والجور، ليكون مقدمة لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحجة على قريش في لزوم إجتناب إنزال الأذى بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه.
وجرى حلف الفضول , نحو سنة 590 ميلادية , وعمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم خمس عشرة سنة، وقيل عشرين , وفي شهر ذي القعدة ، بعد مضي أربعة أشهر على حرب الفجار التي سميت بهذا الاسم لأنها وقعت في الشهر الحرام وقيل كانت للعرب فجارات أربعة آخرها فجار البراض الذي حضره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أعمامه , ولكنه لم يقاتل فيه( ).
ومن رجال التأريخ من لم يذكر حضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرب الفجار.
وسبب حلف الفضول أن رجلاً من زبيد وهي بلدة في اليمن دخل مكة ومعه بضاعة للتجارة فاشتراها العاص بن وائل ومنعه حقه، فطاف الزبيدي على أشراف ووجهاء مكة فمنهم من نصره ومنهم من أعرض عنه لمكانة العاص، وإنتهروا الزبيدي وزجروه، فأدرك صعوبة إنتزاع حقه، فوقف على أبي قبيس عند طلوع الشمس، وكانت قريش في أنديتهم حول الكعبة , فصاح بأعلى صوته:
يَا آلَ فِهْرٍ لِمَظْلُومِ بِضَاعَتُهُ … بِبَطْنِ مَكّةَ نَائِي الدّارِ وَالنّفَرِ
وَمُحْرِمٍ أَشْعَثٍ لَمْ يَقْضِ عُمْرَتَهُ.. يَا لَلرّجَالِ وَبَيْنَ الْحِجْرِ وَالْحَجَرِ
إنّ الْحَرَامَ لِمَنْ تَمّتْ كَرَامَتُهُ … وَلَا حَرَامَ لِثَوْبِ الْفَاجِرِ الْغُدَرِ( ).
فقال الزبير بن عبد المطلب : ما لهذا مترك) أي لا يصح الإعراض عنه ولابد من التحقيق والتثبت لإسترداد حقه.
وإجتمع بنو هاشم ، وزهرة، وبنو تميم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان لشأنه عندهم ولكبر سنه، فصنع لهم وليمة وتحالفوا بالله في الشهر الحرام وهو ذو القعدة أن يكونوا يداً واحدة لنصرة المظلوم وأخذ حقه من الظالم، ثم مشوا إلى العاص بن وائل، وإنتزعوا منه بضاعة الزبيدي ودفعوها إليه وسمي حلف الفضول لأن عدداً ممن إشترك فيه إسمه الفضل مثل: الفضل بن الحارث، والفضل بن وداعة، والفضل بن فضالة , وقال الزبير بن عبد المطلب :
إن الفضول تعاقدوا وتحالفوا … ألا يقيم ببطن مكة ظالم
أمر عليه تعاقدوا وتواثقوا … فالجار والمُعترّ فيهم سالم( ).
ويبين حلف الفضول عناية أهل مكة بالحقوق، والإنصاف لعُمار البيت الحرام والذين يدخلون مكة , وهو من مصاديق إستجابة الله عز وجل لدعاء إبراهيم كما ورد في التنزيل [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ]( ).
وأخرج أبو النعيم في الدلائل عن عقيل بن أبي طالب : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أتاه الستة النفر من الأنصار ، جلس إليهم عند جمرة العقبة ، فدعاهم إلى الله وإلى عبادته والمؤازرة على دينه ، فسألوه أن يعرض عليهم ما أوحيَ إليه ، فقرأ من سورة إبراهيم { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبني أن نعبد الأصنام . . . }( ) إلى آخر السورة . فرق القوم وأخبتوا حين سمعوا منه ما سمعوا وأجابوه( ).
لقد نصرت قريش رجلاً غريباً في بضاعة وتجارة شخصية ولكن عندما إنبثقت شمس النبوة من بين ظهرانيهم أظهروا الظلم والبطش وقاموا بحصار بني هاشم وأذاقوهم الجوع وقاموا بتعذيب الذي يدخل الإسلام، فانعم الله عز وجل على المسلمين بفتح مكة ليكون دفع الظلم بها وعنها ومنها بالقرآن وأحكامه، فليس الأمر حلفاً بل هو تشريع سماوي باق إلى يوم القيامة يلاحق الظالمين في جميع أقطار الأرض وعندما زحفت قريش بجيوش كبيرة على المدينة المنورة ظلماً وتعدياً، لم يقم الذين كفروا والمنافقون فيها بالدفاع ورد الظالمين، بل سعوا في قعود المؤمنين عن القتال، فجاء فضحهم من السماء .
ويوماً كان بين الحسين بن علي عليه السلام وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان كلام , والوليد يومئذ أمير المدينة في زمن معاوية بن أبي سفيان في مال كان بينهما بذي المروة , فقال الحسين بن علي استطل عليّ الوليد بن عتبة في حقي بسلطانه فقلت أقسم بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول قال : فقال عبد الله بن الزبير عند الوليد حين قال الحسين ما قال وأنا أحلف بالله لأن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقول معه ينصف من حقه أو نموت جميعا , فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك فبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي ( ).
قُزمان في معركة أحد
وهل يمكن الثبات في ميدان المعركة من دون إيمان , الجواب نعم ، وهو على وجوه :
الأول : ثبات الذي يقاتل عصبية مع المسلمين , وهو فرد نادر بين المسلمين ، ويكون أقل كثيراً من عدد المنافقين ، وما ورد بقصة قزمان موعظة وعبرة للمسلمين ، إذ كان يقول عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إنّهُ لَمِنْ أَهْلِ النّار) ( ).
ولما كان يوم أحد لم يبق قزمان قاعداً في المدينة ولم يغيب وجهه عند النفير للقاء المشركين ، ولم يرجع وسط الطريق مع رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول بل شارك في المعركة ، وقاتل تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قتال الأبطال وقتل بضعة نفر من المشركين ، فأصابته جراحات عديدة .
فنقله المسلمون إلى دار بني ظفر ، وأخذوا يعودونه مفتخرين بقتاله وجهاده ، وقال لهم عدد منهم أبشر يا قُزمان ، فقد أبليت اليوم وقد أصابك ما ترى في الله ، فأجاب بسؤال إنكاري : ( بماذا أبشر ! فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت ! قال: فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهما من كنانته فقتل به نفسه( ) .
لتتجلى معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إخباره عن كون مصير الذي قاتل عن الأحساب إلى النار ، وهذا الإخبار قبل معركة أحد بزمان .
ترى لماذا كان مصير قزمان النار , فيه وجوه :
أولاً : كان قتال قُزمان عصبية ومن أجل إعلاء شأن قومه , ولم يقاتل في سبيل الله .
لقد أراد قزمان تناقل الناس لشجاعته وتفانيه في الدفاع عن قومه وسمعتهم ، وبعث الخوف في نفوسهم .
ثانياً : إنعدام قصد القربة في قتال قُزمان ، والمدار على النية والقصد ، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) ( ).
ثالثاً : كان قزمان يستحق النار على أمر آخر غير موضوع القتال في معركة أحد ، أطلع الله عز وجل نبيه الكريم عليه أو على عاقبته على نحو الخصوص .
رابعاً : قيام قُزمان بقتل نفسه ن وعدم الصبر في جنب الله على ألم الجراحات .
والمختار هو الأخير وعن الثابت بن الضحاك قال : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإِسْلاَمِ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا قَالَ وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَىْءٍ عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِى شَىْءٍ لاَ يَمْلِكُهُ ) ( ) .
وقد غفر الله عز وجل للذين تولوا من معركة أحد ، كما في الآية السابقة وقوله تعالى [وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ] ولم تذكر الآية عفو الله عز وجل عن الذي قاتل ولم يفر ، ولكن قتاله كان من أجل أحساب قومه ،لبيان حقيقة من جهات :
الأولى : لقد ساهم الذين تولوا في القتال بقصد القربة إلى الله تعالى .
الثانية : عندما تولوا لم يتخلوا عن صيغة الإيمان فتفضل الله عز وجل بالعفو عنهم لينزل العفو على مقامات الإيمان .
وتدل آية البحث في مفهومها على عظيم منزلة الذين ثبتوا في الميدان من باب الأولوية القطعية ، وكذا الذين أستشهدوا في الميدان .
(وعن نعيم بن همّار أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أي الشهداء أفضل ؟
قال : الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول ، ولا يلتفتون بوجوههم حتى يقتلوا ، فأولئك يلتقون في الغرف العلى من الجنة) ( ).
الثالثة : نسبة التولي والفرار إلى الشيطان كمُسبب للفعل .
لقد أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بيان قانون وهو بقاء باب العفو مفتوحاً للناس ما داموا في الحياة الدنيا , والتحذير من قتل النفس لأنه غلق لباب العفو عن النفس بالإختيار ، قال تعالى [وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا] ( ).
ترى هل كان قتال قُزمان في معركة أحد وقتله لنفر من المشركين يومئذ من عمومات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ) .
الجواب لا دليل عليه ، وإن كان سبباً لإلقاء الخوف والرعب في نفوسهم , إنما الرعب الذي تذكره الآية أعلاه على وجوه :
الأول : الرعب الذي يأتي للذين كفروا إبتداء من عند الله عز وجل ، وهو على أقسام :
أولاً : الرعب الذي ينزل مباشرة من غير واسطة .
ثانياً : الرعب الذي يأتي بالواسطة .
ثالثاً : الخوف الذي يترشح عن السبب والمسُبب ، وفي الآية أعلاه ورد عن ابن عباس قال : قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب فرجع إلى مكة .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفاً ، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب) ( ) .
الثاني : الرعب الذي يأتي من رشحات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنته الدفاعية .
الثالث : ورد عن محمد بن علي (وهو ابن الحنفية، أنه سمع علي بن أبي طالب عليه السلام يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنْ الأنْبِيَاءِ”. فقلنا: يا رسول الله، ما هو؟ قال : ” نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الأرْضِ ، وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ ، وَجُعِلَ التُّرَابُ لِي طَهُورًا، وَجُعِلَتْ أُمَّتِي خَيْرَ الأمَمِ) ( ).
والمختار أنه لا أصل لتسمية ابن الحنفية , وهي خلاف الأمر الإلهي في القرآن [ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ] ( ) فهو محمد بن علي .
الرابع : نزول الملائكة بالرعب لقذفه في قلوب الذين كفروا ، وهو من مصاديق نصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، ولا تختص نصرة الملائكة له بأيام حياته , بل تشمل أيام الحياة الدنيا كلها .
الخامس : إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا بواسطة المؤمنين وصبرهم وجهادهم في سبيل الله عز وجل .
وذكر أن قُزمان كان من المنافقين ، ولم يخرج مع النبي والمسلمين إلى معركة أحد أول الأمر ، فأخذت نساء بني ظفر من قومه يعيرنه ويحرضنه على الخروج وقلن له ( قَدْ خَرَجَ الرّجَالُ وَبَقِيت يَا قُزْمَانُ ، أَلَا تَسْتَحْيِيَ مِمّا صَنَعْت ؟ مَا أَنْتَ إلّا امرأة خَرَجَ قَوْمُك فَبَقِيت فِي الدّارِ فَأَحْفَظَنهُ فَدَخَلَ بَيْتَهُ .
فَأَخْرَجَ قَوْسَهُ وَجَعْبَتَهُ وَسَيْفَهُ – وَكَانَ يُعْرَفُ بِالشّجَاعَةِ فَخَرَجَ يَعْدُو حَتّى انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَهُوَ يُسَوّي صُفُوفَ الْمُسْلِمِينَ فَجَاءَ مِنْ خَلْفِ الصّفُوفِ حَتّى انْتَهَى إلَى الصّفّ الْأَوّلِ فَكَانَ فِيهِ .
وَكَانَ أَوّلَ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . فَجَعَلَ يُرْسِلُ نَبْلًا كَأَنّهَا الرّمَاحُ وَإِنّهُ لَيَكِتّ كَتِيتَ الْجَمَلِ .
ثُمّ صَارَ إلَى السّيْفِ فَفَعَلَ الْأَفَاعِيلَ حَتّى إذَا كَانَ آخِرَ ذَلِكَ قَتَلَ نَفْسَهُ . وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إذَا ذَكَرَهُ قَالَ : مِنْ أَهْلِ النّارِ .
فَلَمّا انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ وَجَعَلَ يَقُولُ الْمَوْتُ أَحْسَنُ مِنْ الْفِرَارِ يَا آلَ أَوْسٍ قَاتِلُوا عَلَى الْأَحْسَابِ وَاصْنَعُوا مِثْلَ مَا أَصْنَعُ .
فَيَدْخُلُ بِالسّيْفِ وَسْطَ الْمُشْرِكِينَ حَتّى يُقَالَ قَدْ قُتِلَ ثُمّ يَطْلُعُ وَيَقُولُ أَنَا الْغُلَامُ الظّفَرِيّ حَتّى قَتَلَ مِنْهُمْ سَبْعَةً وَأَصَابَتْهُ الْجِرَاحَةُ وَكَثُرَتْ بِهِ فَوَقَعَ . فَمَرّ بِهِ قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ فَقَالَ أَبَا الْغَيْدَاقُ قَالَ لَهُ قُزْمَانُ : يَا لَبّيْكَ قَالَ هَنِيئًا لَك الشّهَادَةَ .
قَالَ قُزْمَانُ : إنّي وَاَللّهِ مَا قَاتَلْت يَا أَبَا عَمْرٍو عَلَى دِينٍ مَا قَاتَلْت إلّا عَلَى الْحِفَاظِ أَنْ تَسِيرَ قُرَيْشٌ إلَيْنَا حَتّى تَطَأَ سَعَفَنَا . فَذُكِرَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِرَاحَتُهُ فَقَالَ مِنْ أَهْلِ النّارِ . فَأَنْدَبَتْهُ الْجِرَاحَةُ فَقَتَلَ نَفْسَهُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إنّ اللّهَ يُؤَيّدُ هَذَا الدّينَ بِالرّجُلِ الْفَاجِرِ) ( ).
وحدثت قصة شبيهة بقصة قُزمان في واقعة خيبر ، وورد عن المسيب عن أبي هريرة قال (شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر فقال لرجل ممن يدعي الاسلام : ” هذا من أهل النار “.
فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا شديدا، فأصابته جراحة، فقيل : يا رسول الله الرجل الذى قلت إنه من أهل النار.
قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات.
فقال النبي صلى الله عليه وآله سلم: ” إلى النار “.
فكاد بعض القوم يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل: فإنه لم يمت ولكن به جراح شديدة، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح , فقتل نفسه .
فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فقال: ” الله أكبر، أشهد أنى عبد الله ورسوله “.
ثم أمر بلالا فنادى في الناس: ” إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)( ).
بحث أصولي
العموم والخصوص من مباحث العموم من عوارض الألفاظ , والعام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له دفعة , ومن غير حصر ومنها :
الأول :سور الموجبة الكلية مثل (كل) (جميع) ومنه قول الله [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) [إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا] ( ).
الثاني : أل الجنس ، كما في لفظ الناس في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ] ( ) ويأتي أحياناً اسم الجنس في القرآن , ويراد منه حسب أسباب النزول المفرد كما في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا] ( ).
(أخرج ابن سعد عن ابن أبزى { الذين قال لهم الناس } قال : أبو سفيان . قال لقوم : إن لقيتم أصحاب محمد فأخبروهم أنا قد جمعنا لهم جموعاً . فأخبروهم فقالوا[حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال : إستقبل أبو سفيان في منصرفه من أحد عيراً واردة المدينة ببضاعة لهم ، وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم جبال , فقال : إن لكم عليّ رضاكم إن أنتم رددتم عني محمداً ومن معه ، إن أنتم وجدتموه في طلبي أخبرتموه أني قد جمعت له جموعاً كثيرة .
فاستقبلت العير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له : يا محمد إنا نخبرك أن أبا سفيان قد جمع لك جموعاً كثيرة ، وأنه مقبل إلى المدينة ، وإن شئت أن ترجع فافعل .
فلم يزده ذلك ومن معه إلا يقيناً { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } فأنزل الله{ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا . .}الآية.) ( ).
ولكن كل من لفظي الناس في الآية يفيد العموم وأن كان بينهما تباين من جهة الأشخاص ، وحتى الاسم الموصول (الذين) في الآية أعلاه يفيد العموم لإرادة المسلمين ، كما ان أسباب النزول متعددة ومنها ما ورد في إرادة الذين كفروا ، وليس أبا سفيان وحده .
الثالث : أسماء الأجناس كما في لفظ الماء والتراب والهواء.
الرابع : اللفظ الواحد الذي يدل على صفة ملازمة ، كما ورد عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (لعن الله الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما) ( ).
وذكره في عوالي الآلي محمد بن علي بن إبراهيم المعروف بابن أبي جمهور الإحسائي.
إذ قام بجمع الأحاديث المشتركة بين فرق المسلمين والفقه المقارن من دون مناقشتها سنداً بلحاظ التسالم على صدورها والعمل بها وتعرض له بعضهم حسداً وتعجلاً .
وليس من رفض وإعراض تام عن كتب وروايات أي من المذاهب الإسلامية التي هي ثروة وتراث , إن الأحاديث الواردة في أي طريق من طرق المسلمين ميراث للمسلمين جميعاً وهي من كنوز المعرفة التي يفتخرون بها، وليس من فريق إلا وقد أخذ من الفرق الأخرى، مع الإجماع من علماء الإسلام وعامتهم على كون السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع .
والمدار على مناهج الحق والصدق وسبل النجاة، وإتخاذ السبل القويمة لبلوغ القول الفصل عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والأمر سهل مع وجود القرآن وسلامته من التحريف والتبديل وإلى يوم القيامة .
وقد جعل الله عز وجل القرآن إماماً وحاكماً وفيصلاً في الأحاديث والأخبار ، إذ تعرض عليه الأحاديث ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
ويلقي إقتباس المسائل من الأحاديث النبوية الحسرة في قلوب الذين كفروا لأن وحدة المسلمين تغيظهم ، وهل تدل آية البحث على معاني وحدة المسلمين .
الجواب نعم لدلالة قول الذين كفروا على مبادرة المؤمنين من المهاجرين والأنصار إلى الغزو والضرب في سبيل الله .
الخامس : الأسماء الموصولة إذ تفيد العموم مثل (الذين) ( اللائي) قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ] ( ) فـ[الَّذِينَ] اسم موصول يراد منه أفراد وأجيال المسلمين والمسلمات المتعاقبة , وإلى يوم القيامة .
والصوم اسم جنس وهو الإمساك عن الأكل والشرب من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس .
السادس :أسماء الشرط .
السابع : النكرة في سياق النفي ، وتسمى النكرة المنفية , مثل القول الوارد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ) ( ) وعدّها بعض الأصوليين من أظهر صيغ العموم ، ولكن وقع الخلاف فيها , على قولين :
الأول : إفادة النكرة العموم لأصالة الظهور ، وليس للنص , وقال به سيبويه.
الثاني : عدم تحقق العموم من النكرة في الصيغة أعلاه، وبه قال المبرد والجرجاني وغيرهما إذ إشترطوا مجئ (من) فاذا قلت : ما قرأت كتاباً ) لا يوجب الإستغراق أما إذا قلت : ما قرأت من كتاب ) فانه يستلزم الإستغراق .
وهل يدل قوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ]( )، على العموم لأن الحزن نكرة وجاء بصيغة النفي ، الجواب قيدت الآية سبب وعلة الحزن المنفي والممتنع , وهما أمران :
الأول : ما فات المسلمين من الغنائم .
الثاني : ما أصاب المسلمين بسقوط الشهداء وإصابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجراحات , وكثرة الكلوم والجراحات عند عموم المقاتلين .
وأختلف في حالتين :
الأولى : مجئ النكرة مرفوعة بعد (لا) العاملة عمل ليس , مثل : لا طالبٌ في الدرس .
الثانية : نفي النكرة بغير (لا) وبدون من : نحو ما أهل هلالُ
أما الخصوص فهو إرادة فرد خاص من أفراد العام وعرّفه الأصوليون : قصر العام على أحد أفراده ، والمخصصات عديدة تصل إلى تسعة وهي :
الأول : تخصيص اللفظ العام بحكم العقل كقوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] ( )، فان العقل يقتضي عدم صعود وفرار جميع المؤمنين في معركة أحد ، بل فرّت طائفة منهم ، إذ كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونفر من أهل بيته وأصحابه يقاتلون وسط الميدان .
ويستدل الأصوليون في المقام بقوله تعالى [اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ] ( ) وعقلاً ليس الله خالق نفسه فلابد من التخصيص بغير الله ، ولا تصل النوبة إلى هذا المثال في المقام ، ثم أن التخصيص يأتي بعد العموم كما في قولهم (ما من عام إلا وقد خص) لإفادة وجود عام ثم طرأ عليهم التخصيص .
والقول : ما من عام إلا وقد خص ) ليس عاماً , بل هو ذاته خاص ، لورود العموم والإطلاق في صفات الله الحسنى , وكما في قوله تعالى [اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ]( ) فليس من شيء إلا وقد خلقه الله تبارك وتعالى .
الثاني : شهادة الحس والحواس بإرادة الخاص من اللفظ العام .
الثالث : التخصيص بالنص , فيأتي اللفظ عاماً ويرد نص يدل على الخصوص كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] ( ) فلا يعني إنشغال المسلمين الدائم بالصلاة , وقضاء النهار بالركوع والسجود , فجاءت الآيات بالتخصيص , ووردت السنة النبوية ببيان الفرائض اليومية الخمسة الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء .
وقد يقال بأن تخصيص أداء الصلاة بأوقات محدودة من يوم المكلف يحكم به العقل لإستحالة التكليف بما لا يطاق ، إذ يحتاج الإنسان أن ينام وأن يأكل وأن يعمل .
ولكن لا تصل النوبة إلى هذا المعنى إذ بيّن الكتاب والسنة التخصيص وبما لا يقبل الترديد والخلاف والإختلاف بين المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
تعريف المخصص : وهو إرادة بعض الأفراد أو الأجزاء ، ويكون الناصب لدلالة التخصيص مخصَصاً ، والدليل مخصِصِاً , فيقال : السنة تخصص الكتاب ، كما في قوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ..] ( ).
والمخصص لغة الإفراد ، ومنه لفظ الخاصة ، أما في الإصطلاح فهو إرادة تعيين بعض الأفراد بالحكم . وعن محمد بن مسلم أنه قال للإمام الصادق عليه السلام : في كم يقطع السارق ؟ قال : في ربع دينار ، قلت له : في درهمين ؟ قال : في ربع دينار بلغ الدينار ما بلغ ، قلت له : أرأيت من سرق أقل من ربع دينار هل يقع عليه حين سرق اسم السارق ؟ وهل هو عند الله سارق ؟ فقال : كل من سرق من مسلم شيئا قد حواه وأحرزه فهو يقع عليه اسم السارق ، وهو عند الله سارق ، ولكن لا يقطع إلا في ربع دينار أو أكثر ، ولو قطعت أيدي السراق فيما أقل هو من ربع دينار لألفيت عامة الناس مقطعين).
وبين التخصيص والنسخ عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء نقض ما يتناوله اللفظ ، أما مادة الإفتراق فمن وجوه :
أولاً : الإطلاق في موضوع التخصيص فيشمل الأعيان والأحوال بخلاف النسخ في الإصطلاح الذي هو ترك للفعل والحكم في أفراد من الزمان ، وأيهما أطول مدة في العمل الناسخ أم المنسوخ .
الجواب هو الأول لإستمرار العمل بالناسخ إلى يوم القيامة إلا أن يرد دليل على إرادة المنسوخ ولو في أزمان لاحقة وهو من أسرار مجئ القرآن بالناسخ والمنسوخ معاً ، وكأن المنسوخ حكم قائم بذاته .
ويرد النسخ على ذات أفعال المكلفين وليس على الأزمان ، وهل يصح القول بالنسخ في أفراد الزمان بأن يكون اليوم ناسخاً للأمس , وغد ناسخاً لليوم ، الجواب لا ، فكل فرد من الزمان يأتي في أوانه ومحله وينقضي أوانه من غير أن يزاحمه غيره من الأيام والليالي , وفي التنزيل [صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ] ( ) .
ليكون في تعاقب الأيام بانتظام تأديب وتعليم للناس بأن يأخذوا ذات رزقهم من الدنيا ولا يتعدوا على رزق غيرهم , وكل ساعة مناسبة للدعاء والمسألة بطلب الرزق ، كما يتعلم الإنسان من الحيوانات والخلائق فتخرج الطيور في الصباح وهي جائعة لتغدو في السماء ، وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً ) ( ) .
أي تذهب وتطير في الصباح وأول النهار وهي ضامرة وخاوية البطن ، لتعود وترجع بطينة وممتلئة الأجواف .
ثانياً : لا يكون التخصيص إلا لبعض الأفراد بخلاف النسخ ، فانه يأتي على كل الأفراد .
ثالثاً : التخصيص حصر ، والنسخ مجئ بديل بذات الطريق والكيفية ، وهذا التقييد في ماهية النسخ يخرج أفراد التبديل التي لا تفيد النسخ شرعاً ، إذ ورد الذم للردة والتبديل الذي يتضمن المعصية ، قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ.
والنسخ رفع لحكم شرعي بدليل وخطاب شرعي آخر جاء من بعده على نحو التراخي .
وأدعي بأن آية السيف نسخت نحو مائة آية ، ولا أصل لهذا الإدعاء , وآية السيف هي [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) .
ولا صلة لهذه الآية بأهل الكتاب وبقائهم على ملتهم ، والقدر المتيقن منها هم المشركون من كفار قريش ممن حاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام ، كما ورد قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ).
وعن ابن عباس قال ( كان لقوم عهود فأمر الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يؤجلهم أربعة أشهر يسيحون فيها ولا عهد لهم بعدها وأبطل ما بعدها ، وكان قوم لا عهود لهم فأجلّهم خمسين يوماً ، عشرين من ذي الحجة والمحرم كله ، فذلك قوله { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }( ) قال : ولم يعاهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد هذه الآية أحداً) ( ).
ومن الإعجاز في سورة التوبة أن ستة من الآيات السبعة التي في أولها تتضمن كل واحدة منها لفظ ( المشركين ) من مجموع ست وعشرين مرة ورود هذا اللفظ في القرآن ، كما ورد اللفظ بصيغة الرفع في القرآن أربع مرات ، منها مرتان في سورة التوبة ذاتها ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( ).
ويقسم العام على نحو الإستقراء إلى أقسام :
الأول : العام الذي يراد منه العموم على نحو القطع والجزم في دلالته , وبما يمنع من اللبس والترديد وهو الذي تدل القرائن على عدم تخصيصه كما قوله تعالى [يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( ) فليس من تخصيص في المقام .
الثاني : العام الذي يراد به الخصوص على نحو القطع ، وهو العام الذي تأتي معه أمارة أو قرينة تنفي صيغة العموم عنه ، وتبين أن المقصود هو بعض أفراد العموم منه قوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ] ( ) إذ نزلت الآية أعلاه بخصوص معركة أحد , وتدل في ظاهرها على صدور أمور من المؤمنين يومئذ , وهي :
أولاً : الفشل والجبن .
ثانياً : الخلاف والتنازع .
ثالثاً : المعصية .
ويحتمل متعلق قوله تعالى [بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ] وجوهاً :
أولاً : إختصاص الأمر بالمعصية وأنها هي وحدها التي حدثت بعد أن أنعم الله عز وجل على المسلمين بما يحبون من مقدمات النصر وحس وقتل أفراد من الذين كفروا , إذ بدأت المعركة بقتل المبارزين من جيش المشركين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
ثانياً : مجئ التنازع والمعصية بعد أن تفضل الله عز وجل على المسلمين بأسباب النصر .
ثالثاً : إرادة العموم وحصول كل من الفشل والتنازع والمعصية بعد أن تفضل الله عز وجل بالنصر الإبتدائي للمسلمين .
والصحيح هو ثالثاً أعلاه .
ويمكن أن يستدل على مجئ لفظ العام وإرادة الخصوص بقوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( )بلحاظ أن الزكاة لا تكون إلا عند إكتمال النصاب ، وقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ) بلحاظ خروج الصبيان والمجانين من التكليف بالحج ، ومن أسرار القرآن وإعجاز آياته وجود معنى ودلالة للفظ العام وإن كان يفيد الخصوص , فتتضمن الآية أعلاه مسائل :
الأولى :تكليف الكفار بالفروع .
الثانية : عدم الملازمة بين الإيمان والتكليف ، وعدم إشتراط الإيمان لتوجه الخطاب بالتكليف إلى البالغ العاقل مطلقاً .
الثالثة : قال الله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) لتبين الآية أعلاه أن العبادة مصاحبة لوجود الإنسان في الأرض.
الرابعة : بيان النفع العام الذي يتغشى الناس جميعاً بقيام المسلمين بحج بيت الله الحرام , وتعاهده كل عام .
الخامسة : جواز أداء الصبي للحج .
السادسة : الإخبار السماوي بأن الصبي إذا بلغ يجب عليه حج بيت الله الحرام ، وكذا بالنسبة للمجنون إذا أفاق .
الثالث : العام المخصوص أو المتزلزل , وهذه التسمية نستحدثها في المقام إذ يسمى بالعام المخصوص ، وهو الذي لم تأت قرينة لفظية أو عقلية أو عرفية تدل على عمومه ، أو تنفي هذا العموم وتفيد قصر الحكم على بعض أفراده .
قانون إنذار الكفار
نزلت آيات الإنذار بخصوص الذين كفروا مع سلامة المؤمنين منها كما في نجاة هود وأصحابه من العذاب الذي تذكره الآية أعلاه ، ومن الإعجاز أن يأتي الإستثناء من العذاب من عند الله عز وجل قبل وقوعه ، كما في تقيد الملائكة بسلامة لوط وأهله من العذاب ، وفي التنزيل [قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنْ الْغَابِرِينَ] ( ).
وآيات الإنذار على وجوه :
الأول : الآيات الكونية , وقد يزهو الإنسان بنفسه ويثق بقدرته ، ويفرح بالحال التي هو فيها ، وأسباب الإختيار وتحقيق الرغائب فتواجهه الآيات الكونية لتبين له أنه ضعيف ومن عالم الإمكان وقابل للزوال والإعدام ومغادرة الدنيا في أي ساعة من ليل أو نهار وتصاحبه الحاجة إذ أن كل ممكن محتاج .
ومن الإعجاز عدم وجود التعارض بين الآيات القرآنية والكونية وبين الإكتشافات العلمية الحديثة إذ بينت أن أنسب كلمة لوصف حال الكون عند النشأة والتكوين هي الدخان ، وقد قال الله تعالى [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ] ( ) وقيل هناك ما يقارب ثلاثمائة بليون نجم ، ونحو مليار كوكب ومعشار هذه الكواكب صالحة لنوع من الحياة .
وإكتشف العلماء في مجموعة شمسية سحابة كبيرة من الكحول قدرت بملأ (4) وقبلها ستة وعشرون صفراً , أي مائة تريليون لترا حسب الجدول التقليدي القديم , ويمكن أن نكتبه بالصيغة 20- 10 .
من الكحول المثيلي ويسمى كحول الخشب مع أنه لم يشتق من الخشب، وهو ليس من جنس المشروبات الكحولية وغير صالح للشرب إلا بعملية كيميائية , وكأنه معد لأهل الجنان قال تعالى[وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ]( ).
وهل يمكن الإستدلال بهذا الكشف العلمي على المختار بأن الجنة والنار مخلوقتان الآن , الجواب لا، فهو ليس بحجة وهو من قبيل الأصل المثبت وتنزيل المشكوك منزلة المتيقن وترتب الآثار عليه، نعم قد تزداد الشواهد العلمية المكتشفة لتكون أمارة على كونها من موجودات الجنة وأنها مطابقة لما لها من الوصف الحسن في القرآن والسنة .
وهناك كوكب مغطى بالجليد الساخن بعملية فيزيائية وضغط كبير مما لا يحدث وفق نواميس الأرض , وتبلغ درجة الحرارة على سطح الكوكب ثلاثمائة درجة مئوية .
وقيل هناك في موضع ومحل من الكون تتولد نحو مائتين وخمس وسبعين مليون نجم وتموت في ذات اليوم .
لقد كتب في الخيال العلمي وعالم التصور عن الفضاء وأسرار الكون، ولكن واقع الكون أعظم وأكبر حتى من التصور الذهني وما يطرأ على أذهان الناس عامة والعلماء ذوي الشأن والإختصاص على نحو الخصوص وفي كل زمان , وكل آية كونية تدعو الناس إلى عبادة الله ، وهي إنذار يومي يطل على الأرض .
وهل قتل المسلم في سبيل الله وإستشهاده آية كونية , الجواب نعم , وإن كان في الأرض , ولعله من علل نزول الملائكة لنصرة المؤمنين يوم أحد قال تعالى (بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) ( ) بلحاظ أن القتل في سبيل الله والسعي إليه من أصدق معاني الصبر .
وهذه الشهادة مقدمة لآية كونية يتجلى فيها نصر الإسلام , وإشراقة شمس الإيمان على الأرض وجذب الناس لسبل الهداية والرشاد , وإزاحة لمفاهيم الكفر عن القلوب المنكسرة ، ومع هذا فان كل قتل في سبيل الله إنذار للذين كفروا وتعجيل بهلاكهم وتقريب لأوان محو سلطانهم وبعث للنفرة في النفوس منهم ، ويقتل الشهيد فيملك قلوب الناس لطلبه مرضاة الله وشرائه الآخرة ليبقى ضياء الإيمان في الأرض ، وكأن الناس يدركون بالفطرة أن الشهيد يُقتل من أجلهم ، وفي سبيل سعادتهم في النشأتين .
ومن مصاديق قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) إمتلاء الآفاق بآيات الإنذار للذين كفروا سواء الآيات الثابتة أو المتزلزلة , وهو من مصاديق الرحمة التي تذكرها آية البحث بقوله تعالى ( ورحمة ) بلحاظ أن شهادة المؤمن وقتله في سبيل الله سبب لتثبيت سنن الصلاح في الأرض .
وتكون صبغة الإنذار في الآيات الكونية على وجوه:
أولاً : الإنذار في الآيات الكونية التي تصاحب الإنسان في حياته كالسماوات والأرض، وتتصف بالدوام والإستدامة حتى مع القول بدوران الأرض على نفسها , كما أثبته العلم الحديث في آية كونية أخرى .
وأيهما يبعث الخوف والرعب في قلوب الذين كفروا بقاء الأرض مستقرة جامدة أم متحركة ودائرة حول نفسها , الجواب هو الثاني ، وهو من مصاديق قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
ثانياً : الإنذارات في الآيات المتغيرة والمتبدلة سواء اليومية كالليل والنهار , ولا يختص الإنذار بذات هاتين الآيتين بل تتفرع عنهما آيات أخرى كل واحدة منها زاجر عن الكفر في دلالاتها وأثرها كاشراقة وضياء الشمس وآية مغيبها، وتفوت أكثر الناس رؤية طلوع الفجر وإشراقة الشمس كل يوم، ولكنهم يلحظون مغيبها وإختفائها في الأفق البعيد لتكون آيات الليل والنهار متعددة وأفراد الزمان إنحلالية تنبسط على كل آنات حياة الإنسان فتجعل المؤمن شاكراً لله عز وجل، راضياً بقضائه وقدره، ويدب الضيق والحرج إلى قلب الكافر، وهل هذا الضيق مستقراً أو متزلزلاً , الجواب هو الثاني.
عن عبد الله بن المسور وكان من ولد جعفر بن أبي طالب قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإِسلام } ( ) .
قالوا : يا رسول الله ما هو هذا الشرح؟ قال : نور يقذف به في القلب ينفسح له القلب . قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال : نعم ، الإِنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور والإِستعداد للموت قبل الموت( ).
ثالثاً : الإنذار بالآيات الكونية الطارئة وما يسمى بالكوارث سواء كانت سماوية كالرياح العاتية والصواعق والعواصف الشمسية , أو الأرضية كالزلازل والبراكين ونحوها .
وجاءت العلوم والتقنية الحديثة لتنبأ عن حدوث أكثرها قبل وقوعها , وفيه مسائل :
الأولى : إنه من فضل الله عز وجل على الإنسان بقوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
الثانية : إنه من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيام المؤمنين بأداء الفرائض وضروب الطاعة لله عز وجل , ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثالثة : دعوة الناس للإتعاظ ، وإقتباس الدروس من الآيات الكونية والآفات التي تداهمهم لنبذ الشرك والضلالة .
الرابعة : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا من الآفة السماوية أو الأرضية قبل وقوعها .
الخامسة : عدم إنحصار الخوف والفزع بخصوص الذين تصيبهم الآفة والكارثة لأن الناس جميعاً يطلعون عليها بسبب وسائل الإتصال والإعلام السريعة والعامة وهو من عمومات قوله تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( )بتقريب أن إطلاع الناس عبر وسائل الإعلام على ما يقع من الأحداث في مشارق ومغارب الأرض مناسبة للتدبر في علة الخلق والنشأة ورجوع الإنسان إلى عالم الحساب .
الثاني : آيات الإنذار في الأرض وخلقها ودورانها والكنوز التي فيها وأسباب الرزق وتقديره ، ومن وجوه بيان عظيم صنع الله الإتصال والتداخل بين الآيات الكونية , ويمكن تقسيمها تقسيماً إستقرائياً إلى شعب :
الأولى : آيات السماء .
الثانية : آيات الأرض كالفيضانات وذات الحياة اليومية المستقرة كآية عظمى .
الثالثة : الآيات السماوية الأرضية مثل المطر والصواعق .
وقد تجتمع الآيات لنصرة النبوة والتنزيل (وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ ، عن ابن زيد قال : أتى عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال له عامر : ما تجعل لي إن اتبعتك؟ قال : أنت فارس ، أعطيك أعنة الخيل . قال : فقط؟ قال : فما تبغي؟ قال : لي الشرق ولك الغرب ، ولي الوبر ولك المدر . قال : لا . قال : لأملأنها إذاً عليك خيلاً ورجالاً . قال : يمنعك الله ذلك وأتيا قبيلة تدعى الأوس والخزرج ، فخرجا ، فقال عامر لأربد : إن كان الرجل لنا يمكنا لو قتلناه ما انتطحت فيه عنزان ، ولرضوا بأن نعقله لهم ، وأحبوا السلم وكرهوا الحرب إذا رأوا أمراً قد وقع ، فقال الآخر : إن شئت .
فتشاورا وقال : أرجع ، أنا أشغله عنك بالمجادلة ، وكن وراءه فاضربه بالسيف ضربة واحدة ، فكانا كذلك ، واحد وراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والآخر قال : أقصص عليّ قصصك . قال : ما تقول؟ قال : قرأتك ، فجعل يجادله ويستبطئه ، حتى قال له ما لك ، أحشمت؟ .
قال : وضعت يدي على قائم السيف فيبست ، فما قدرت على أن أحلي ولا أمري ، فجعل يحركها ولا تتحرك ، فخرجا ، فلما كانا بالحرة سمع بذلك سعد بن معاذ وأسيد بن خضير ، فخرجا إليه على كل واحد منهما لأمته ورمحه بيده ، وهو متقلد سيفه ، فقال أسيد لعامر بن الطفيل : يا أعور الخبيث ، أنت الذي تشترط على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟! لولا أنك في أمان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ما رمت المنزل حتى ضربت عنقك فقال : من هذا؟ قالوا : أسيد بن حضير .
قال : لو كان أبوه حياً لم يفعل بي هذا ، ثم قال عامر لأربد : أخرج أنت يا أربد إلى ناحية عذبة ، وأخرج أنا إلى محمد فأجمع الرجال فنلتقي عليه .
فخرج أربد حتى إذا كان بالرقم ، بعث الله سحابة من الصيف فيها صاعقة فأحرقته ، وخرج عامر حتى إذا كان بوادي الحريد ، أرسل الله عليه الطاعون ، فجعل يصيح : يا آل عامر ، اغدة كغدة البعير تقتلني ، وموت أيضاً في بيت سلولية ، وهي امرأة من قيس ، فذلك قول الله { سواء منكم من أسر القول ومن جهر به . . . }( ) إلى قوله {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } ( )هذا مقدم ومؤخر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، تلك المعقبات من أمر الله { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . . . } حتى بلغ { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال }( ) وقال لبيد في أخيه أربد وهو يبكيه:
أخشى على أربد الحتوف ولا … أرهب نوء السماء والأسد
فجعتني الرعد والصواعق بالفا … رس يوم الكريهة النجد) ( ).
وهل دعاء وعبادة المسلم من الآيات وإذا كانت منها فهل هي الشعبة الأولى أم الثانية أم الثالثة أعلاه ، المختار أنها من الأخيرة ، وكل فرد منها إنذار للذين كفروا ، وتأكيد عملي لقبح الكفر ولزوم تركه .
الثالث : آيات الإنذار في الوقائع وأمور الناس على نحو العموم المجموعي ، إذ يرى الإنسان ما يجري حوله من الأحداث ، قال تعالى [أولم يسيروا في الأرض ..] ( ) وكل واقعة موعظة وعبرة ، فينتفع منها المؤمن ويقر بأنها بإذن الله فيأتيه الأجر والثواب ، ويعرض عنها الكافر ولا يلتفت إليها ليفوت على نفسه فرصة الإتعاض من الوقائع والأحداث ، وبيان الضرر الخاص والعام من إرتكاب الفعل السيئ وقد تتفرع عنه الفتنة والفساد .
وأخرج عن عطية العوفي (أن رجلاً يقال له طعمة بن أبيرق سرق درعاً على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فألقاها في بيت رجل ، ثم قال لأصحاب له : انطلقوا فاعذروني عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإن الدرع قد وجد في بيت فلان . فانطلقوا يعذرونه عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأنزل الله { ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً } قال : بهتانه قذفه الرجل)( ).
الرابع : الإنذار الذاتي عند الإنسان نفسه ، فتأتيه النعم لتلح عليه بالشكر لله ، وجاء القرآن بقانون زيادة مع الشكر بقوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ) ومن فلسفة تلاوة المسلمين لآيات القرآن في شطر من الصلاة اليومية على نحو الجهر سماع الناس لها والإنتفاع منها والإنتقال من الجزء إلى الكل في الإيمان لما في الآية أعلاه من الترغيب بالثناء على الله ودلالته على التسليم بأن النعم من عنده سبحانه وهو وحده القادر على زيادتها وبسطها وإستدامتها .
ويغزو الإبتلاء بدن الإنسان ونفسه ويجعله يسعى لطلب الحال السابقة من الصحة والعافية أو الغبطة والغنى ليكون هذا الإبتلاء درساً وإنذاراً لجذب الإنسان إلى منازل الهداية والصلاح ، قال تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ]( ).
وهل تختص الإنذارات في الدنيا بالذين كفروا ، الجواب لا ، إنما هي عامة , فيمكن تسمية الدنيا (دار الإنذار ) ولكن هناك فارق بين المؤمن والكافر في المقام من جهات ، إذ يتلقى المؤمن الإنذار بالإتعاض والإستجارة بالله ، بينما يصر الكافر على الإثم.
ومن رحمة الله عز وجل بالناس أنه بعث الأنبياء بضروب الإنذار وقرنها بالبشارات ، قال تعالى [رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا] ( ).
(عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين)( ).
قانون تعدد المدد وإتحاد الجهة يوم معركة أُحد
لقد إنتهت معركة أحد بنصر عظيم من وجوه كثيرة منها:
الأول : ما يتجلى في آية السياق.
الثاني : ما يتبين في آية البحث.
الثالث : المدد من عند الله عز وجل للمؤمنين .
ومن مصاديق المدد في المقام وبلحاظ آيات البحث أمور منها :
الأمر الأول : ورد الخطاب للمسلمين في هذه الآيات بصفة الإيمان، بقوله تعالى [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا..] () لبيان حقيقة وهي أن الضابطة في تقسيم الناس هي الإيمان والكفر والتضاد بينهما , وفيه معجزة للقرآن بصيرورة العقيدة والدين هو الأساس في الفصل بين الناس وليس النسب والقبيلة والقومية وموطن السكن .
وعند التأمل في الآيات التي جاءت بعد الآية أعلاه وقاعدة التقسيم فيها تتجلى الحاجة لهذا التقسيم ، وفيه تنمية لملكة الإيمان عند المسلمين وقهر للنفس الشهوية ومنع من الركون والميل إلى الذين كفروا ، قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ] ( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم دخول الابن في الإسلام وقد يكون أبوه باقياً على الكفر أو بالعكس , فكان الأب مثلاً في معسكر الكفار والابن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سواء في معركة بدر أو معركة أحد ، ولكن هذا التضاد العائلي لم يستمر كثيراً إذ أختفى وزال بدخول الطرف الآخر الإسلام ، بأن يلحق الأب إبنه أو يقتل الكافر ، كما في قتل عتبة بن ربيعة يوم معركة بدر مع أن إبنه أبا حذيفة مع المسلمين وقد دعا أبو حذيفة أباه عتبة للمبارزة يوم بدر .
فإن قلت لماذا خصصت الكافر بالقتل أعلاه , ولم تقل أو يقتل أحدهما , والجواب يبقى التضاد ولا يمحى عند قتل المؤمن منهما , لأنه حي عند الله وفي أذهان الناس .
قال ابن إسحاق : وَلَمّا أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَنْ يُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ ، أُخِذَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، فَسُحِبَ إلَى الْقَلِيبِ ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِيمَا بَلَغَنِي فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ ، فَإِذَا هُوَ كَئِيبٌ قَدْ تَغَيّرَ لَوْنُهُ فَقَالَ يَا أَبَا حُذَيْفَةَ لَعَلّك قَدْ دَخَلَك مِنْ شَأْنِ أَبِيك شَيْءٌ ؟ أَوْ كَمَا قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ لَا ، وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا شَكَكْت فِي أَبِي وَلَا فِي مَصْرَعِهِ وَلَكِنّنِي كُنْت أَعْرِفُ مِنْ أَبِي رَأْيًا وَحُلْمًا وَفَضْلًا ، فَكُنْت أَرْجُو أَنْ يَهْدِيَهُ ذَلِكَ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَمّا رَأَيْت مَا أَصَابَهُ وَذَكَرْت مَا مَاتَ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ بَعْدَ الّذِي كُنْت أَرْجُو لَهُ أَحْزَنَنِي ذَلِكَ فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِخَيْرِ , وَقَالَ لَهُ خَيْرًا) ().
وقد هاجر أبو حذيفة إلى الحبشة وولد له هناك ولده محمد وكان أبو حذيفة يرجو القتل في سبيل الله فخرج لقتال مسيلمة فاستشهد في اليمامة هو ومولاه سالم في السنة الثانية عشرة للهجرة , وكان من القراء وغادر أبو حذيفة إلى الرفيق الأعلى وعلى وجهه إبتسامة وكأنها بشارة حسن المقام عند الله عز وجل .
ويدل النهي من عند الله عن طاعة الذين كفروا بالدلالة التضمنية على وجوه :
الأول : إنتفاء المنافع من طاعة الذين كفروا , سواء الدنيوية أو الأخروية.
الثاني : ترتب العقاب على طاعة الذين كفروا بالذات ولمجئ النص الصريح بالإمتناع عنها.
الثالث : إرادة توقي المسلمين من تثبيط العزائم , وكأن الآية تقول للمسلمين : لا تنصتوا إلى الذين يخوفونكم من الإشتباك مع الذين كفروا.
الرابع : تقوية قلوب المسلمين باختيار الفعل الحسن وإتيان الصالحات والإعراض عن أهل الشك والريب والضلالة.
الخامس : دعوة المسلمين لطاعة الله ورسوله، بلحاظ التضاد بينها وبين طاعة الذين كفروا.
السادس : التحذير من إتخاذ الذين كفروا بطانة وخاصة , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ( ).
السابع : بيان الآية لعلة النهي عن طاعة الذين كفروا والأضرار المترشحة عنها إذ أنها تؤدي إلى الإرتداد سواء على نحو السالبة الجزئية أو الكلية، وهو باب للإثم.
الثامن : النهي عن طاعة الذين كفروا مقدمة وإصلاح لخوض المسلمين معركة أحد، وهو من مصاديق قوله تعالى [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ] ( ).
ويحتمل حصول الإرتداد بطاعة الذين كفروا بقوله تعالى[يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( )، وجوهاً :
الأول : الملازمة الشخصية بين الذين يطيعون الكافرين وبين الإرتداد، فلا يقع في هاوية الإرتداد إلا الذين يطيعون الكافرين.
الثاني : بين طاعة الذين كفروا والإرتداد عموم وخصوص مطلق، وهو على شعبتين:
الأولى : الذين يطيعون الذين كفروا أعم وأكثر من الذين يرتدون.
الثانية : طاعة طائفة من المؤمنين للذين كفروا سبب لإرتدادهم وإرتداد أفراد غيرهم من المؤمنين.
الثالث : الذين يرتدون بسبب طاعة الذين كفروا غير الذين يطيعون الذين كفروا .
الرابع : التفصيل فالمؤمن لا يرتد , وإن أطاع الذين كفروا تقية أو من غير تقية .
الخامس : موضوعية التفقه في الدين ، فمن أحرز مرتبة في الفقاهة وتلاوة القرآن ومعرفة أحكام الحلال والحرام ، والعلم الإجمالي بأركان الإسلام ومعجزات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه في مأمن وواقية من الإرتداد .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني , ويكون الوجه الرابع والخامس أعلاه في طولها ومن غير تعارض معها .
وهل ينحصر الضرر من طاعة الذين كفروا بما تتضمنه آية [إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا ..] ( )أم أنها أعم , الجواب هو الثاني بلحاظ التسبيب والمباشرة وتفويت وضياع نعم متعددة بسبب هذه الطاعة ، وهو الذي يتجلى بقوله تعالى [فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ] ( ) .
لبيان أن الخسارة بسبب الإرتداد متجددة ومتعددة في موضوعها وآثارها , فجاء ذم الذين كفروا من وجوه :
أولاً : وجوب طاعة المسلمين لله عز وجل ورسوله ، وقد تفضل الله بالنهي عن طاعة الذين كفروا .
ثانياً :إنذار الذين كفروا وبعث اليأس في نفوسهم بتحذير المسلمين من طاعتهم بقوله تعالى [إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا].
ثالثاً : بعث الحنق والغيظ في نفوس الذين كفروا من جهات :
الأولى : نزول القرآن بالثناء على المسلمين .
الثانية : الثناء على المسلمين بتوجه الخطاب من الله إليهم فلم تخاطبهم الآية بالواسطة ، ولم تأمر النبي بتبليغهم فلم تقل الآية ( يا أيها النبي قل للذين آمنوا لا تطيعوا الذين كفروا ) ولم تقل ( يا أيها النبي لا تجعل الذين آمنوا يطيعون الذين كفروا ) بل توجه النهي في الآية إلى المسلمين والمسلمات مجتمعين ومتفرقين لإرادة إجتهادهم في الإمتناع عن طاعة الذين كفروا في أمور الدين والعبادات , ومقدماتها , وأحكامها وسننها .
ويبعث توجه الخطاب القرآني إلى المسلمين الحسرة والغيظ في قلوب الذين كفروا مع علمهم بأن باب الإيمان والإنتساب للإسلام مفتوح لهم جميعاً ولكنهم أصروا على الكفر ، وإستكبروا عن دعوة الحق والهدى فتفضل الله عز وجل بالأمر بعزلهم ونبذهم بعدم طاعتهم .
الثالثة : توالي نزول القرآن بما ينمي ملكة طاعة الله ورسوله عند المسلمين ويجعلهم في حرز وواقية من طاعة الذين كفروا .
الرابعة : سوء فعل الذين كفروا بهجومهم على المدينة وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما جعل المسلمين يتعاضدون ويتسابقون في الدفاع عنه وعن الإسلام , ليكون من المائز ومصاديق التباين بين المسلمين والذين كفروا أن المسلمين خرجوا إلى معركة أحد برضا لقتال الذين كفروا وشوق للقاء الله عز وجل , ومن لم يستشهد في المعركة فانه يحرز الأجر والثواب ويصدق عليه أنه قاتل بنفسه وسيفه وماله , بينما خرج الذين كفروا للدنيا وطاعة للطاغوت .
الخامسة : قوله تعالى [إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا] فيصل وفصل بين المؤمنين والذين كفروا وسبب للتنافر بينهم ، مما يبعث الحسرة في نفوس الذين كفروا ، فيرون أبناءهم وقد أعرضوا عنهم ، وإجتنبوا طاعتهم, وأظهر العبيد العز والشأن وأمارات الإنعتاق الروحي بالإنتماء للإسلام ، خاصة وأنهم صاروا يرون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كيف يقسم بالسوية بين الحر والعبد , وكيف يقف المسلمون في صفوف الصلاة من غير تمييز بينهم إلا بلحاظ الخشية من الله ، قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]().
الأمر الثاني : نزول هذه الآيات بقانون ولاية الله عز وجل للمسلمين ، فمع نطق العبد بالشهادتين تأتيه الولاية لتصاحبه , وتأخذ بيديه لأداء الفرائض والعبادات , وتنمي عنده ملكة التقوى ، وتتجلى معاني الأخوة الإيمانية بالولاية الربانية ، وهو الذي تضيء أنواره القلوب بصيغة الجمع في قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ).
لتكون الآية إنحلالية من جهات :
الأولى : الله ولي المسلمين كافة ، لتكون ولاية الله الراجح الذي يجعل المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثانية : دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين بالعودة إلى ميدان المعركة من ولاية الله عز وجل للمسلمين جميعاً لما فيها من وقاية للإسلام والتنزيل.
الثالثة : لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة وصحبه لملاقاة ثلاثة آلاف من الذين كفروا في معركة أحد , ولم يكن معه إلا نحو ألف رجل , فانخزل ثلاثمائة فبقي سبعمائة، وعندما تحولت الريح والجولة إلى صوب الذين كفروا إبتلاء وإمتحاناً وموعظة من عند الله صار مجموع الشهداء سبعين شهيداً وفرت طائفة من المسلمين فجاءت دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالعودة إلى القتال من ولاية الله ونصرته لرسوله الكريم والمسلمين وهو من مصاديق إجتماع الولاية والنصرة في موضوع وموضع وزمان واحد.
الرابعة : ولاية الله عز وجل للمسلم والمسلمة على نحو الخصوص والتعيين بلحاظ أن الآية إنحلالية , وتقدير دعوة الرسول للمسلمين يوم معركة أحد على وجوه :
الأول : [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] لولاية الله لكم .
الثاني : والرسول يدعو كل واحد منكم بولاية الله له .
الثالث : [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]لولاية الله وتعاهدها والصدور عنها .
الرابع : [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ]للأمن بولاية الله لكم ، بلحاظ أن دعوة الرسول من الوحي فهي عهد ووعد ، وهو من أسرار مجئ الآية بلفظ [يَدْعُوكُمْ] ولم تقل الآية (يناديكم) .
فمن معاني النداء التنبيه والتعيين وقد يكون مقدمة لغيره ، وللنداء حرف وتقول في النداء مثلاً : يا عبد الله ، وبين الدعوة والنداء عموم وخصوص مطلق فالدعوة أعم .
(وروي أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال رأيت البارحة مرجا أخضر فيه مائدة موضوعة ومنبر موضوع له سبع درجات ورأيتك ارتقيت الدرجة السابعة وتنادي عليها وتدعو الناس إلى المائدة فقال عليه السلام: أما المائدة فالإسلام وأما المرج الأخضر فهو الجنة وأما ارتقاء المنبر إلى آخره فهو آخر الزمان، وأما النداء فأنا أدعو الناس إلى الإسلام والجنة) .
لقد إنتهت معركة أحد في يوم واحد ، ورجع الذين كفروا خائبين لم ينالوا شيئاً من غاياتهم الخبيثة ، أما دعوة الرسول بقوله تعالى [وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ] فهي باقية إلى يوم القيامة في موضوعها وحكمها.
الأمر الثالث : من وجوه المدد الإلهي للمسلمين في هذه الآيات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ] ( )من جهات :
الأولى : نزول الآية أعلاه ، فذات النزول رحمة بالمسلمين وشاهد على اللطف الإلهي بهم , وهل هو من مصاديق قوله تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى] ( ) أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه إبطاء جبرئيل عليه .
الجواب هو الأول ، فصحيح أن الآية مكية وورد في أسباب نزولها عن جندب وهو أبو ذر الغفاري (قال : احتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت بعض بنات عمه : ما أرى صاحبك إلا قد قلاك . فنزلت : { والضحى } إلى { وما قلى })( ).
إلى أن معاني الآية أعم ، وهي حاضرة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في كل مكان وزمان وإلى يوم القيامة ،وقد حضرت ذات الآية في معركة أحد ليكون إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا من مصاديق إتصال نصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الثانية : الوعد الكريم في آية إلقاء الرعب بما يجعل المسلمين يمتنعون عن القعود أو الإصغاء لرأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول .
لقد أبى الله عز وجل إلا أن يكرم المؤمنين في الدنيا ليكون هذا الإكرام ترغيباً بالإيمان ومقدمة لحسن الثواب في الآخرة , ومن مقدماته الوهن والضعف الذي يصيب الذين كفروا بإلقاء الرعب في قلوبهم وتقدير آية البحث بلحاظ آية الرعب على وجوه :
الأول : ولئن قتلتم مع وهن وضعف الذين كفروا ، وفيه أمارة قلة وقوع القتل بين المسلمين في ميدان المعركة .
الثاني : ولئن متم بعد عجز الذين كفروا عن قتلكم لأن الرعب والفزع يملأ قلوبهم .
الثالث : يلقي الله الرعب في قلوب الذين كفروا , وينعم على المسلمين بالمغفرة والرحمة .
الرابع : لا خير فيما يجمع الكافرون لأن الرعب يملأ قلوبهم .
الثالثة : من وجوه المدد الإلهي في آية إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا البشارة المصاحبة لها ونقصد من قولنا ( آية إلقاء الرعب ) وجوهاً :
الأول : ذات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] .
الثاني : الآية الحسية في إحاطة الرعب بالذين كفروا ونفاذه إلى قلوبهم .
الثالث : تجلي معاني الرعب في أقوال وأفعال الذين كفروا .
الرابع : علة إلقاء الرعب وهو الشرك بالله , وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين قبل وأثناء وبعد المعركة بسلامتهم من الرعب ، ومن الآيات في المقام عصمة المسلمين من رمي بعضهم بعضاً بالخوف أو الجبن أو الخور بسبب الرعب والفزع .
ومن الشواهد على سلامة المسلمين من الرعب قوله تعالى بخصوص معركة أحد [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( ) فلم يحدث الفشل والجبن لأن الولاية والمدد من عند الله واقية وبرزخ دونه .
الرابعة : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفة قانون وهو الملازمة بين الشرك وبين إمتلاء القلب بالرعب ، ولا يختص هذا القانون بأيام النبوة المباركة فهو مصاحب لأيام الحياة الدنيا ، وهو من رشحات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) أي ومن لم يعبد الله يملأ الرعب قلبه لأنه إختار طريق الضلالة الذي ليس فيه حجة أو برهان .
الخامسة : إختتام آية [سنلقي] ببيان خاتمة الذين كفروا وسوء عاقبتهم في النار ، وفيه مدد للمسلمين وطرو للشك في الغاية من القتال، وجاءت آية البحث لبيان التضاد بين المسلمين والذين كفروا ، في الدنيا والآخرة من وجوه :
الأول :تبعث آية [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ] السكينة والطمأنينة في قلوب المسلمين والفزع في قلوب الذين كفروا أي إلى جانب الرعب الذي يحمل في قلوبهم فان تلاوة المسلمين لهذه الآية وصبرهم في ميدان المعركة وحبهم للشهادة أمور تجعل الرعب يتغشى مجتمعات الذين كفروا وليس فقط قلوبهم .
الثاني : رجحان كفة جيش المسلمين قبل وأثناء المعركة , وقد أثبتت الدراسات الطبية والعسكرية الحديثة أثر الحالة النفسية والمعنوية على الجنود في القتال والمرابطة .
الثالث : البشارة للمسلمين بأن الذي يقتل منهم أو يموت على فراشه مأواه الجنة ، وفوزه بمرتبة العفو والمغفرة لقوله تعالى في آية البحث [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ].
بينما يكون مصير الذين كفروا إلى النار سواء قتلوا أو ماتوا على الفراش ، وسواء خرجوا لقتال المسلمين أم لم يخرجوا ، لأن الشرك ظلم للنفس والغير ، فكذا قالت خاتمة الآية [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ].
الأمر الرابع : من المدد الإلهي للمسلمين الذي يتجلى في قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] ( ) وجوه :
أولاً : الوعد من عند الله عز وجل للمسلمين ، وهو نوع إكرام ، ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) أي أن الأمة التي خصها وشرّفها الله بوعده هي ( خير أمة ).
ثانياً : تنجز الوعد الإلهي للمسلمين وتحقق مصداقه على نحو التعدد .
ثالثاً : إبتداء معركة أحد بكثرة قتلى المشركين .
ومن الآيات في المقام تساقط حملة لواء المشركين تباعاً , كلما حمله واحد منهم قُتل ، ليطلع جيش المشركين على كثرتهم على المعجزة الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية ، فقد يقتل أفراد في الصف الأمامي فلا يراهم غيرهم ، ويشيع رؤساء الجيش أن القتلى من العدو وليس من جيشهم ، ولكن عندما يسقط حامل اللواء ، فان جميع أفراد الجيش يراه وهم يعلمون مكانته بينهم ، لذا فان كل فرد من بني عبد الدار من حملة اللواء ، مع العناية التي أحاطهم بها المشركون .
فعندما إلتقى الجمعان ووقف الجيشان صفين جاء أبو سفيان رئيس جيش المشركين إلى حملة اللواء وقال لهم : يا بنى عبد الدار قد وليتم لواءنا يوم بدر، فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه.
فهمّوا به وتواعدوه وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا ! ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع.
وذلك الذى أراد أبو سفيان) ( ) .
ليستدرجهم ويظلهم ويسوقهم إلى النار إذ أن وعد الله باستئصالهم حاضر في الميدان ، وعندما أوشكت المعركة على الإبتداء وزحف الجيشان ، وصار كل واحد منهم قريباً من الآخر أخذت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان والنسوة اللائي معها يحرضن بني عبد الدار خاصة .
وَيْهَا بَنِي عَبْدِ الدّارْ … وَيْهَا حُمَاةَ الْأَدْبَارْ
ضَرْبًا بِكُلّ بَتّارْ وَتَقُولُ
إنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ … وَنَفْرِشُ النّمَارِقْ
أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ … فِرَاقَ غَيْرَ وَامِقْ ( ).
وأبى الله عز وجل إلا أن يصدق وعده للمسلمين فلم ينفع تحريض رؤساء الكفر لحملة لوائهم ، ليقتلوا واحداً بعد آخر لتهتز الراية وتسقط إلى الأرض في كل مرة .
وكان كل واحد منهم حينما يحمل اللواء يرتجز أبياتاً من الشعر ويفتخر بنفسه ونسبه وكان حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة يسمى كبش الكتيبة لشجاعته ، ودعا إلى المبارزة فأحجم الناس وبرز له الإمام علي عليه السلام فقتله ، وكبر المسلمون ، وهو من مصاديق صدق وعد الله عز وجل للمسلمين الذي تذكره الآية أعلاه .
وعندما قُتل حمله أخوه عثمان بن أبي طلحة ، وتقدم وهو يقول
إن على أهل اللواء حقا * أن يخضبوا الصعدة أو تندقا)( )
وتقدم حمزة بن عبد المطلب فقتله .
وتعاقب بنو عبد الدار على حمل اللواء , وكلما يحمله أحدهم يُقتل إلى أن صار عدد الذين قتلوا منهم عشرة فحمله غلام لهم حبشي إسمه صُؤاب فقاتل (حَتّى قُطِعَتْ يَدَاهُ ثُمّ بَرَكَ عَلَيْهِ فَأَخَذَ اللّوَاءَ بِصَدْرِهِ وَعُنُقِهِ حَتّى قُتِلَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ اللّهُمّ هَلْ أَعْزَرْت – يَقُولَ أَعَذَرْت – فَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ
فَخَرْتُمْ بِاللّوَاءِ وَشَرّ فَخْرٍ … لِوَاءٌ حِينَ رُدّ إلَى صُؤَابِ
جَعَلْتُمْ فَخَرَكُمْ فِيهِ بِعَبْدٍ … وَأَلْأَمُ مَنْ يَطَا عَفَرَ التّرَابِ
ظَنَنْتُمْ وَالسّفِيهُ لَهُ ظُنُونُ … وَمَا إنْ ذَاكَ مِنْ أَمْرِ الصّوَابِ
بِأَنّ جِلَادَنَا يَوْمَ الْتَقَيْنَا … بِمَكّةَ بَيْعُكُمْ حُمْرَ الْعِيَابِ
أَقَرّ الْعَيْنَ أَنْ عُصِبَتْ يَدَاهُ … وَمَا إنْ تُعْصَبَانِ عَلَى خِضَابِ) ( ).
وبقي لواء المشركين صريعاً ساقطاً على الأرض إلى أن تناولته امرأة منهم تسمى عمرة بنت علقمة الحارثية ، فرفعته لهم فلاذوا بها .
ومن الآيات أن راية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحملها مصعب بن عمير وهو أخو بني عبد الدار والذي أستشهد في معركة أحد ليكون قتله من مصاديق آية البحث وقوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] وبيان المائز بين الذين آمنوا والذين كفروا في الدنيا والآخرة.
وسقوط حملة لواء المشركين في بدايات معركة أحد من مصاديق المدد الإلهي للمسلمين ، وهل ينحصر موضوع المدد بهذه الآية بمعركة أحد ذاتها , الجواب لا، بل يتعلق بما قبلها وما بعدها ، أما ما قبلها فقد جاء قتلهم عقوبة عاجلة لهم على الإصرار على الكفر ومحاربة الإسلام وإيذائهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وإستيلائهم على أموال المسلمين في مكة بعد هجرتهم منها .
وهو من مصاديق ورشحات النصر في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) لبيان أن النصر في معركة بدر متجدد في مضمونه وأثره ونفعه .
فان قلت الأصل والمتبادر بالنسبة للمدد الإلهي أن يكون متصلاً متجدداً يتجلى بالتغيير النوعي في جلب المصلحة وتحقيق النصر ، ودفع المفسدة والوقاية من الهزيمة ، وقد تعرّض المسلمون لخسارة وإنتكاسة في معركة أحد .
والجواب تتضمن الآية بيان علة وسبب هذه الخسارة ، وهذه العلة متعددة وحدثت أفرادها في آن واحد وهو :
الأول : الفشل والخور .
الثاني : الخصومة والتنازع في الأمر .
الثالث : المعصية بعد رؤية نعمة النصر والغلبة على الذين كفروا .
الرابع : إرادة طائفة من المسلمين الدنيا والطمع في الغنائم .
وقد أراد الله عز وجل لهم المغفرة والرحمة كما في آية البحث التي تبين أن هذه الرحمة [خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]ليكون من معاني خاتمة آية البحث لزوم إعراض المسلمين عن حب الدنيا وزينتها .
ليكون من المدد الإلهي في المقام بيان آية [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ]أسباب خسارة المسلمين عندما ترك الرماة مواضعهم على الجبل ، وفيه درس وموعظة وعبرة للمسلمين ، وزاجر عن تكرار ذات الفعل.
ومن أسرار هذا المدد تلاوة المسلمين للآية أعلاه خمس مرات في اليوم في الصلاة ، وتلاوتها خارج الصلاة، والتدبر في معانيها ودلالاتها ليتجلى قانون ، وهو (قانون المدد الإلهي توليدي ) تتفرع عنه قوانين عديدة وأمداد كثيرة ، الحسية والعقلية والمعنوية والخاصة والعامة والمدد العون والغوث ، وما فيه الزيادة والكثرة .
ومن المدد الإلهي للمسلمين تفضله بذكر الوقائع التي جرت أيام النبوة وحالات المسلمين في الدفاع ، وتحليهم بالصبر ، وتلقيهم البيان واللوم على ترك مواقعهم على الجبل وأسباب الخصومة بالقبول والرضا والإحتراز في قادم الأيام .
ومن معاني الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث ترغيب المسلمين بالإستغفار لقوله تعالى [لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ].
ومن المدد في القرآن البيان فكل بيان فيه هو مدد للمسلمين والمسلمات ، وتقدير قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) أن الآية القرآنية بيان للناس وهي مدد للمسلمين وعون للمسلمين خاصة فلذا عطفت الآية أعلاه الهدى على البيان .
وهل يمكن القول بأن البيان القرآني للناس مدداً , الجواب نعم بلحاظ أنه دعوة للإسلام وتقريب للإيمان .
وتبين الآية حال المسلمين وأنهم على قسمين بقوله تعالى [مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ] ( ) ليكون المدد فيها على وجوه :
الأول : بعث النفرة في نفوس المسلمين من حب الدنيا ، لذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى [لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] والذي يدل بالدلالة الإلتزامية على لزوم عدم جعل الدنيا وحطامها هو هّم المسلم والغاية التي يسعى إليها .
الثاني : بيان علة الفشل والتنازع يوم أحد وهو حب الرماة الغنائم وتركهم مواضعهم التي بوأهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال لهم لا تغادروها مطلقاً وأن رأيتمونا إنتصرنا أو هزمنا ، وهذا البيان من المدد والعون الإلهي .
الثالث : لقد أخبرت الآية عن حصول الخصومة والنزاع بين المسلمين يوم أحد بدليل قوله تعالى [وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ]( ) ولقد إختلف أكثر الرماة مع أميرهم عبد الله بن جبير إذ قال لهم أطيعوا قول الرسول ولا تتركوا مواضعكم ولكنهم لم يمتثلوا لقوله ، وبقي في موضعه هو ونحو ثمانية من أصحابه من مجموع الرماة وعددهم خمسون , لتكون منافع هذا الإخبار الوقاية من النزاع في قادم الأيام .
والظاهر أن النزاع الذي تذكره الآية أعلاه أعم مما حدث بين الرماة وأميرهم ، لذا جاءت الآية بصيغة الجمع ، ليكون مناسبة للإتعاظ والإمتناع عن الخصومة في الميدان ، وليكون من المدد الإلهي في المقام حصانة المسلمين من الرد على الرسول ، فاذا كانت الآية مدداً لوقاية المسلمين من التنازع بينهم ، فمن باب الأولوية أنها مدد لسلامتهم من التنازع في القرآن وتفسيره وفي تلقي أوامر الرسول في الميدان وفيه دعوة للمسلمين لرد موضوع وأسباب التنازع إلى القرآن والسنة ، قال تعالى [فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ] ( ).
الأمر الخامس : قد يأتي المدد والعون من الإنسان والقبيلة والطائفة والحاكم ولكنه محدود ، وقد ينفع الجيش أو لا ينفع أو يلحق الضرر بذات المدد في الطريق إلى المعركة أو عند الوصول إليها .
أما المدد من عند الله فهو مطلق غير محدود أو مقيد ، ويأتي من السماء والأرض وما بينهما ومن الناس ومن ذات الإنسان نفسه ، وهو من الإعجاز في صيغة الإطلاق ولغة العموم في قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
وبين الجنود الذين تذكرهم الآية أعلاه وبين المدد عموم وخصوص مطلق , ومن وجوه المدد من عند الله كيفيته وأوانه ومجيئه عند حال الشدة والرخاء واليسر والعسر ، ولا يرسل الحاكم والقائد المدد إلا عند الحاجة إليه ،وفي حال تيسره ،وقد يضحي بالجنود ويمتنع عن إرسال مدد لهم لرجحان قتلهم أيضاً ، وعدم الإنتفاع من المدد .
أما العون والمدد من الله فهو دائم غير منقطع ويأتي بكل الأحوال ونافلة وفضلاً ، قال تعال [وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ] ( ).
ونزل الملائكة لنصرة المسلمين في معارك بدر واحد والخندق وحنين ، ويأتي المدد بالآية القرآنية ، وقد تقدم (قانون الآية القرآنية مدد ) ( ) ومنه قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ] ( ).
فمع بيان الآية لحال الإنكسار والهزيمة التي أصيب بها المسلمون لم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة إلا نفر قليل من أهل بيته وأصحابه , لتكون الآية مدداً للمسلمين من جهات :
الأولى : التسليم بفرار أكثر المسلمين .
الثانية : اللجوء إلى الإستغفار .
الثالثة : سؤال الله عز وجل الهداية إلى سبل مرضاته ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
الرابعة : حرص المسلمين على إجتناب مقدمات الهزيمة ، وعلى الإمتناع عن ذات الهزيمة .
الخامسة : ترك المسلمين للتعيير فيما بينهم بسبب الهزيمة يوم أحد ، وهو من أسرار مجئ الآية أعلاه بصيغة العموم الإستغراقي ، وسور الموجبة الكلية ، وهو هنا الجامع بين صيغة الخطاب وواو الجماعة في [تُصْعِدُونَ][ وَلاَ تَلْوُونَ]وبعد ذكر الآية لفرار شطر من المسلمين أخبرت عن المدد من عند الله لتأكيد حاجتهم له ، ولصيرورة المسلمين في حال عصمة من إدعاء النصر والتغلب على الهزيمة بجهودهم وسعيهم كما في ذم قارون إذ ورد في التنزيل [إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي] ( ).
وذكرت الآية المدد من فضل الله على نحو التعيين ، وهو من جهات:
الأولى : مجئ الغمّ من عند الله لينسخ الغم الذي أصابهم بسبب الهزيمة والإنكسار .
الثانية : سلامة المسلمين من الحزن والأسى على ما فاتهم من الغنائم .
الثالثة : مواساة المسلمين بالآية القرآنية.
الرابعة : تخفيف وطأة المصيبة عن المسلمين .
الخامسة : وقاية المسلمين والمسلمات من الحزن، إذ أن إطباقه على الفرد والجماعة برزخ دون العمل والسعي( ).

قانون خير نصرة
يتضمن قوله تعالى [وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] التحدي والبيان إلى يوم القيامة ، وفي إحتجاج يوسف عليه السلام وهو في السجن ورد في التنزيل [أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ]( ).
و[خير] اسم تفضيل .
والخير : البركة والصلاح والحسن الذاتي والغيري للشيء , ليكون من معاني الآية تنمية ملكة التوكل على الله عند المسلمين ، إذ ينفرد الله عز وجل في باب النصرة بأمور مباركة تتخلف العقول عن عدّها وإحصائها وإدراك كنهها , ومنها:
الأول : علم الله عز وجل بمقدمات النصر .
الثاني : تهيئة مقدمات النصر للمؤمنين .
الثالث : علم الله عز وجل بسبل تحقيق النصر , وتفضله بإحضارها للمؤمنين , وحجبها عن الكافرين .
الرابع : تفضل الله عز وجل بجعل النصر سبباً للتوبة والإنابة.
الخامس : نصر الله عز وجل للأنبياء والمؤمنين .
السادس : ينفع نصر الله سبحانه الناس جميعاً الموجود منهم والمعدوم.
السابع : نصرة الله المطلقة للأنبياء والمرسلين .
الثامن : علم الله عز وجل بأوان النصر وأفضل أوقاته .
التاسع : الله خير الناصرين لأنه ينزل نصره من جهات :
الأولى : مجئ النصر إبتداء ورحمة من عند الله .
الثانية : إستجابة الله عز وجل لسؤال المؤمنين النصر، وفي التنزيل [رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( ).
الثالثة :مجئ النصر للمؤمنين عند تمادي الظالمين في طغيانهم .
الرابعة : صيرورة النصر الذي يأتي من عند الله مقدمة وتوطئة لإصلاح النفوس وتقريب الناس لطاعة الله ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
ومع أن لفظ [خَيْرُ النَّاصِرِينَ] قريب من أذهان المسلمين ويرد كثيراً على ألسنتهم في المجالس والمنتديات والأحاديث العامة وبقصد القرآنية والتسليم بأنه حق وصدق ، ومع تعدد مواضيعه والشواهد التي تدل عليه في اليوم والليلة فانه لم يرد في القرآن إلا مرة واحدة في هذه الآيات التي تتعلق بمعركة أحد ، وفيه وجوه:
أولاً : موضوعية معركة أحد ونتائجها في تأريخ الإسلام .
ثانياً : بيان حقيقة وهي أن المسلمين لم ينهزموا في معركة أحد.
ثالثاً : أثر ومنافع معركة أحد في تثبيت سنن عبادة الله في الأرض وإلى يوم القيامة بلحاظ كبرى كلية وهي أن الآية القرآنية باقية ومصاحبة للناس في وجودهم في ذاتها وموضوعها ودلالتها.
ومن معاني الناصر المعين والرازق الممدد بأسباب الترجيح في القتال والنصر , وفي التنزيل [فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا] ( ) وله سبحانه الكمال المطلق والمجد والشأن العظيم ، وهو الذي يفيض بالبركة والعز والغلبة والعون على نحو حال ومباشر أو بالواسطة والتدريج .
(والله خير الناصرين ) لأنه غني عن العباد ، غير محتاج لأحد ومن يمده وينصره الله لا يكون إلا منصوراً غالباً ، والله سبحانه ينصر الرسل والأولياء والصالحين ، وفيه دعوة للناس جميعاً لنصرتهم وعدم محاربتهم ، فليس في السعي لقتالهم إلا الهزيمة والذل والخيبة والخسران في النشأتين ، وهو من مصاديق نعت الذين كفروا عند عودتهم من أحد بقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
قانون كل آية بشارة
الحمد لله الذي جعل الدنيا (دار البشارة ) إذ تتوالى فيها البشارات للناس متحدين ومتفرقين وفي الليل والنهار ، لتجعل من الدنيا مرآة للآخرة , وما من ساعة إلا وفيها معنى البشارة وإن لم يقف عندها الإنسان بسبب التكرار والتوالي والتعدد أو بسبب الجحود والإصرار على العناد .
وتفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء بالبشارة في الدنيا وفي الآخرة وسلاح البشارة طريق لجذب الناس للإيمان لغريزة الإنسان في حبه للذات وجلب المنافع للنفس, والأقرب فالأقرب .
ومن خصائص الآية القرآنية أنها بشارة في موضوعها وأثرها، وهل يمكن القول أنها مرآة للبشارة العامة في الحياة الدنيا، الجواب لا دليل عليه، إنما هي بشارة بذاتها ونازلة من السماء بما يملأ قلوب المؤمنين بالسعادة والغبطة في ذات الوقت الذي تصيب فيه البشارة الخاصة بالمؤمنين الذين كفروا بالرعب والفزع، وكما ورد الأمر من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببشارة المؤمنين في آيات كثيرة كما في قوله تعالى[وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( )،
وكما ورد قوله تعالى [وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ]( ) وقوله تعالى [وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ]( )، وذكر أن البشارة هنا على نحو الإستهزاء والتهكم بالذين كفروا كما يقال : ( تحيتهم الضرب واكرامهم الشتم( ).
والآية أعم في معنى البشارة والدلالة، والعذاب الأليم هو الموجع، ترى هل ينتهي موضوع الخطاب بالبشارة بانتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى أم أنه متجدد , الجواب هو الثاني، من جهات :
الأولى : بقاء الآية القرآنية حية طرية، وموضوع البشارة والإنذار في القرآن من وجوه سلامته من التحريف والتبديل والتغيير.
الثانية : توجه الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل زمان بالبشارة إلى المؤمنين والمؤمنات بالبشارة بالجنة.
فمثلاً قوله تعالى[وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ]( )، وبشر يا محمد صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين الموجود منهم والذي سيولد إلى يوم القيامة، وتتوجه البشارة للمؤمن الذي ولد من أبوين مسلمين أو أحدهما مسلم في كل زمان .
وهل يشترط بلوغه سن التكليف كي تأتيه البشارة الجواب لا، لعدم الملازمة بين سن التكليف والبشارة فتتوجه له البشارة قبل البلوغ وتصاحبه لتكون عوناً له على أداء الفرائض والواجبات وواقية من دنس المعاصي والسيئات.
الثالثة : إن لفظ (بشّر) الوارد في القرآن خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصباح ينير دروب الحياة الدنيا، ويدّل على الصالحات وضياء يكشف قبح السيئات، وهو من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، بارادة دعاء المسلمين الله عز وجل أن ينعم عليهم بالفوز بالبشارة بالجنة والسلامة من الوعيد بالعذاب الشديد يوم القيامة.
الرابعة : توجه الأمر الإلهي بالإخبار عن البشارة من عند الله للمسلمين والمسلمات بالإلحاق، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : وبشر أيها المسلم , ففي قوله تعالى[وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا]( )، يكون تقدير الآية : يا أيها المسلم وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيرا.
ثانياً : وبشري أيتها المسلمة المؤمنين …).
ثالثاً : وبشري أيتها المسلمة المؤمنات…).
رابعاً : وبشر أيها المسلم المؤمنات…).
خامساً : وبشروا أيها المسلمون المؤمنين..).
سادساً : وبشروا أيها المسلمون المؤمنات..).
سابعاً : وبشرن أيتها المسلمات المؤمنين..).
ثامناً : وبشرن أيتها المسلمات المؤمنة بأن لها من الله فضلاً عظيماً…).
تاسعاً : وبشرن أيتها المسلمات المؤمنات..).
عاشراً : وبشري أيتها المسلمة أختك المسلمة .
الحادي عشر : وبشري أيتها المسلمة المسلم .
الثاني عشر : يا أيها المسلم بشر نفسك بأن لك من الله فضلاً عظيماً.
وهكذا بالنسبة للبشارات الواردة في القرآن بصيغة بشر ونحوها، لتكون البشارة التي تأتي للمؤمن متعددة ومتجددة .
وهل يصح تقدير الآية : وبشر أيها القرآن المؤمنين).
الجواب لا دليل عليه، وإن كان هذا المعنى مستقرأ من مضامين الآيات، ولكن القرآن كلام الله عز وجل، ونزل بالأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإخبار عن البشارة وأسباب الغبطة للمؤمنين في النشأتين، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وهل يصح تفسير الآية بالبشارة الذاتية أيضاً بأن يبشر المسلم نفسه وتقدير الآية : يا أيها الذي آمن بشر نفسك) أم أن القدر المتيقن هو المفاعلة في المقام بأن تكون في الآية أطراف:
الأول : المبشٍر على نحو اسم الفاعل.
الثاني : البشارة بالجنة .
الثالث : المبشَر بصيغة اسم المفعول.
الجواب لا تعارض بين الأمرين، فتصح بشارة المسلم لنفسه، وهو من الإعجاز في تلاوة المسلم لآيات البشارة في القرآن سواء تتضمن البشارة بالمنطوق أو بالمفهوم، فحينما يتلو المسلم قوله تعالى[وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ]( ) يدرك بالوجود الذهني أن الآية تشمله وأن المبشِر له هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكأنه حاضر معه، كما تصح المسلم لنفسه.
ومن أسرار البشارة في الآية القرآنية أنها باعث للمسارعة في الخيرات، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحينما يتلو المسلم قوله تعالى[وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ]( )، فان الآية تبعثه إلى الإحسان للغير.
ومن إعجاز القرآن أن يجتمع الإنذار والبشارة في آية واحدة كما في قوله تعالى[أَنْ أَنْذِرْ النَّاسَ وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ]( ).
فهل يختص الإنذار في الآية أعلاه بالذين كفروا أو بغير المسلمين أم أن الآية من مصاديق العام والخاص، الجواب هو الثاني، وتقديرها : وأنذر الناس جميعاً، وبشر الذين آمنوا منهم خاصة لذا فان إنذارات القرآن لا تختص بالذين كفروا، لتكون الحياة الدنيا على وجوه :
الأول : مصاحبة البشارة للذين آمنوا.
الثاني : مصاحبة الإنذار للذين كفروا.
الثالث : مصاحبة البشارة والإنذار للذين آمنوا.
إبتدأت الآية بحرف العطف الواو، وهو ذاته بشارة من جهات:
الأولى : إتصال آية البحث بما قبلها من الآيات، وإتحاد مضامينها مع مضامين الآية السابقة، وفيه حث للتدبر من جديد بالبشارات الواردة في الآية السابقة.
الثانية : الرجوع إلى الآية السابقة للتدبر في البشارات الواردة فيها.
الثالثة : إستحضار معاني الآية السابقة في الوجود الذهني.
الرابعة : البشارة بالأمن والعز لإبتداء الآية السابقة بنداء الإكرام [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الخامسة : يدل نهي المسلمين عن التشبه بالذين كفروا على التباين والفصل بينهم، وهو بشارة ورجاء إستدامة الفصل التام بينهم في الآخرة بأن يكون مثوى الذين آمنوا الجنة والخلود فيها , ويكون مأوى الذين كفروا النار .
السادسة : إختتام الآية السابقة بعلم الله عز وجل بما يفعل المسلمون بقوله تعالى[وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] لبيان أنه سبحانه يصلح أمور المسلمين، ويجعلهم في حصن وواقية من التشبه بالكفار الذين[يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا]( ) .
وإذا كان المسلمون يتناجون بالخروج للدفاع عينياً كان أو كفائياً فان التشبه بالكفار في منعهم المؤمنين من الإنبعاث للجهاد سالبة بانتفاء الموضوع , ومن خصائص العطف في هذه الآية دلالة مضامينها على إنتفاء محاكاة المسلمين للذين كفروا بخصوص المنع عن الجهاد لأن القتل في سبيل الله شاهد ومصداق على إنبعاث المسلمين للجهاد، وليس فيهم من هو قاعد، ليكون ردهم على منع وصدّ الذين كفروا والمنافقين المبادرة إلى النفير قربة إلى الله وطاعة له سبحانه ولرسوله.
وبعد حرف العطف جاءت الآية بصيغة الجملة الشرطية (لئن قتلتم) مما يدل على تعليق القتل وعدم وقوعه إلا على نحو الإحتمال وعند إجتماع شرائطه ، ويتلو المسلم كل يوم هذه الآية وهو في مأمن من القتل وفيه بشارة ودعوة للشكر لله عز وجل على نعمة الحياة وتسخير المسلم وجوده فيها بطاعة الله، وإن حصل القتل فانه في سبيل الله لتكون آية البحث بشارة الثواب والأجر العظيم.
وعن أبي قتادة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر يكفر الله عني خطاياي , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فلما ولى الرجل ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر به فنودي له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف قلت فأعاد عليه قوله , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم إلا الدَين , كذلك قال لي جبريل ( ).
وجاءت الآية بالبشارة المتعددة من جهات:
الأولى : المغفرة والعفو من عند الله عز وجل.
الثانية : نزول شآبيب الرحمة على المسلم عند القتل في سبيل الله أو الموت.
الثالثة : البشارة بأن اللبث الدائم في نعيم الآخرة خير مما يجمع الذين كفروا من متاع الدنيا.
الرابعة : البشارة بالتوفيق والهداية إلى القتل في سبيل الله لأنه مرتبة سامية لا ينالها إلا من أخلص لله في إيمانه .
الخامسة : فوز المسلمين بالجامع من المغفرة والرحمة , وفي الدنيا والآخرة .
السادسة : دلالة الآية في مفهومها على النجاة من العذاب يوم القيامة ، قال تعالى [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ..] ( ).
السابعة : ذهاب عمل الذين كفروا الذين يقاتلون المسلمين هباءً ، وعدم إنتفاعهم من المكاسب التي يحصلون عليها في الدنيا .
لقد عطفت آية البحث على الآية السابقة التي تبدأ بنداء الإيمان ، ومن وجوه العطف صيغة الخطاب للمسلمين ، لتكون كل كلمة وجملة منها رحمة بالمسلمين وضياءً ينير لهم دروب الحياة ، ويصرف عنهم شرور كيد الذين كفروا ويدرأ عنهم الأذى الذي يأتي من خبث ومكر المنافقين .
وورد لفظ [الذين كفروا] في مواضع كثيرة من القرآن ، ومع القول في علم الأصول بأنه ليس من حجة لمفهوم العدد , ولكن له دلالاته في القرآن .
فمثلاً ورد عن أبي أمامة قال : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض) ( ).
فلا يدل الحديث على أن من صام أكثر من يوم لا يكون ذات الأجر له ، وكذا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ثلاثة لا ترد دعوتهم : الصائم حتى يفطر ، والإِمام العادل ، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام ، ويفتح لها أبواب السماء ، ويقول الرب : وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين) ( ) .
فانه تأتي أدلة أخرى من القرآن والسنة توسع من الحديث , وتدل على قبول وإستجابة الدعاء لغير هؤلاء الثلاثة , كما في لغة الإطلاق في قول الله عز وجل [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ].
ومع كثرة ورود لفظ (الذين كفروا) في القرآن فانه لم يرد لفظ [الذين نافقوا ] إلا مرتين ، قال تعالى [الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) فهل يدل هذا التباين العددي على قلة عدد المنافقين وتناقصهم وتوبة شطر منهم .
الجواب نعم وهو من إعجاز مدرسة العدد في القرآن ، وفيه بشارة ورحمة لعموم المسلمين للسلامة من الضرر الذي يأتي من بين ظهرانيهم .
وتكون البشارة في الآية القرآنية بلحاظ أوانها وزمان تحققها على وجوه :
الأول : البشارة في الحياة الدنيا .
الثاني : البشارة التي تتصف بساعة الموت والإنتقال من الدنيا
الثالث : البشارة في عالم البرزخ .
الرابع : البشارة التي تخص يوم القيامة .
الخامس : البشارة الجامعة للوجوه أعلاه .
وجاءت آية البحث لتبشر المسلم بخصوص ساعة موته وما بعدها ، فحينما ورد قوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ) فان الآية في مفهومها تبشر المؤمنين بالأمن من عذاب النار ، وتدعوهم لشكر الله تعالى على نعمة الإيمان والتي ترشح عنها القتل في سبيل الله بلحاظ أنه شاهد على التنزه عن الكفر والضلالة .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : لئن قتلتم في سبيل الله نبشركم بما أعدّ الله عز وجل للشهيد من المنزلة الرفيعة .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لئن متم فبشراكم لأنكم تفارقون الدنيا بالإيمان , مع سلامتكم من الإرتداد ، وهذا المعنى من مصاديق عطف آية البحث على نداء الإيمان .
الثالث : البشارة للمسلمين لإختصاصهم بالمغفرة من عند الله عز وجل .
الرابع :يا أيها الذين آمنوا أبشروا برحمة الله تتغشاكم في الدنيا والآخرة لقوله تعالى في آية البحث [رحمة] .
قانون منع الشماتة بالمسلمين
من الذخائر العلمية والفلسفية علم التضاد والتناقض , ويتجلى بين آية البحث والآية السابقة , وفيه تثبيت معاني التضاد والتناقض بين المؤمنين والكافرين الذين تربطهم صلات نسبية إذ يخرج المؤمنون إلى ميادين القتال للدفاع عن الإسلام وعن أهل المدينة عامة ومنهم المنافقون الذين يشمتون بهم .
ومن معاني ومصاديق قتال الذين آمنوا في سبيل الله جذب الذين كفروا إلى الإيمان، ونجاتهم من الكفر والضلالة، ومن وجوه التضاد في المقام أمور:
الأول : إيمان المسلمين وجحود الذين كفروا، وهو أهم وأظهر وجوه التضاد.
الثاني : خروج المؤمنين للقتال، وعزوف المنافقين عنه، وسعي الذين كفروا في منع المؤمنين من القتال.
الثالث : إستشهاد عدد من المسلمين في قتال الذين كفروا وشماتة الذين كفروا.
لقد أشارت الآية السابقة الصلة بين الذين آمنوا من الأنصار وبين المنافقين بمفهوم الأخوة، وهل يصح القول بصلة الأخوة بين الذين كفروا من أهل المدينة وبين كفار قريش الذين زحفوا لقتال المسلمين الجواب نعم مع التباين في ماهية الأخوة، وفيه حجة على الذين كفروا بأنهم تمنوا نصرة إخوانهم المؤمنين، ومالوا إلى جهة الذين كفروا من الأعداء ، كما تخلى كفار قريش عن نصرة المهاجرين بل جاءوا بجيوشهم لقتلهم وإستئصالهم ولم يبق من ناصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والذي آمنوا معه إلا هو سبحانه تفضل فانزل الملائكة مدداً وناصرين لهم.
وبخصوص معركة بدر ورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: بينما انا أميح من قليب بدر إذ جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط ثم ذهبت ثم جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط إلا التي كانت قبلها ثم جاءت ريح شديدة , قال فكانت الريح الأولى جبرئيل عليه السلام نزل في ألف من الملائكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر عن يمينه وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في الميسرة( ).
لقد خرج المسلمون إلى القتال وليس عندهم من سلاح إلا التوكل على الله عز وجل ، ولم يعلم الذين كفروا بأنه أمضى سلاح ، وهو مجلبة للنصر وبرزخ دون الهزيمة والإنكسار وواقية من شماتة الأعداء ، قال تعالى [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ * إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ) .
وتجلى دفع الشماتة عن المؤمنين في آية السياق والبحث، ويمكن القول أن كل آية من القرآن هي حرز من الشماتة بالمؤمنين ويتجلى في آية السياق والبحث مجتمعتين ومتفرقتين .
وهل يمكن القول أن كل آية من القرآن تدل على صرف أسباب الشماتة عن المسلمين ، وتؤكد عجز عدوهم عن إيجاد ما ينال به من المسلمين , الجواب نعم ، وتتجلى مصاديق من هذا القانون بلحاظ الجمع بين الآية السابقة , وهذه الآية من جهات :
الأولى : إبتدأت الآية السابقة بنداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]وفيه سلامة للمسلمين من شماتة الأعداء بقبول الله عز وجل لإسلامهم ورضاه عنهم وشهادته لهم بالإيمان ومنع الشماتة بالمسلمين من مصاديق قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ) إذ يدفع الله عز وجل عن المسلمين الشرر والضرر بولايته لهم ، فتكون الشماتة سالبة بانتفاء الموضوع , ثم يتفضل ويجعل آية البحث مصداقاً لهذا البرزخ وفضلاً من عند الله عز وجل على المسلمين ووقايتهم من فرح الذين كفروا لما قد يصيبهم .
والشماتة لغة : الفرح ببلية أو نكبة تصيب العدو , يقال (شمِتَ يشْمَتُ شماتةً) ( ).
وهل دفع الشماتة عن المسلمين من عمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ) الجواب نعم ، وهو من بديع صنع الله في المقام إذ يمحو الله عز وجل الأسباب التي تؤدي إلى حصول الشماتة بالمسلمين ،ويتفضل الله بتثبيت الأمور والقوانين التي تمنع الشماتة بهم ويثبت ما يجعل الذين كفروا مشغولين بأنفسهم ، قال تعالى [وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم اللَّهِ كَثِيرًا]( ).
ومن وجوه دفع الشماتة عن المسلمين في آية البحث :
الأول : ذكر آية البحث للقتل الذي ينزل بساحة المسلمين على نحو الشرط بقوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ] ويحتمل القتل الوقوع أو عدمه .
الثاني : تقييد قتل المسلمين في حال حدوثه بأنه في سبيل الله ، وهو واقية من الشماتة لأن فيه خير الدنيا والآخرة .
الثالث : الترديد في آية البحث في كيفية مغادرة المسلم الدنيا وعدم حصرها بالقتل فأما أن يقتل في سبيل الله , وأما أن يموت .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
العدد: 612
التاريخ: 19/5/2011

م/ إقتراح تدريس صناعة الجدل والبرهان في كليات الحقوق والقانون
الحمد لله الذي جعل موضوع أول آية نزلت من القرآن هو العلم المقرون بالإيمان والتسليم لله بالربوبية المطلقة بقوله تعالى[اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] ( )، وفيه بعث للمسلمين للإرتقاء في مراتب العلم، ومنه الدراسات الأكاديمية الملائمة للأمور الإبتلائية في هذا الزمان، ومنها دراسة القانون والحقوق وفروعها في الخصومات الشخصية والدولية والتي تتقوم بالجدل والإحتجاج والبرهان والمناظرة لذا أقترح على كليات الحقوق والقانون في دول العالم النظر في إدخال قواعد صناعة الجدل والبرهان في منهج المراحل الدراسية ، وأنا مستعد لكتابة المنهج الملائم وعلى نحو ميسر,بما يساعد الطالب في حياته العملية في المحاماة والقضاء، إذ يواجه الناس من مشارب شتى، ويحتاج معرفة مبادئ الأقيسة وأصنافها وهي المقدمات المستغنية عن البيان كاليقينيات والمشهورات . وتتقوم حياة القاضي والمحامي المهنية بالجدل النافع والقدرة على المحاورة وإستحضار القياس القريب الذي لا يستلزم وسائط كثيرة.
نعم قد يكتسبه بالمزاولة ورياضة الذهن وتحصيل المقدمات، وتكون معرفته لمواد وأحكام القانون عوناً له، ويتقوم الجدل بطرفين يختلفان في القول والجهة يسعى كل طرف للغلبة وإلزام الخصم، وإبطال حجته مما يستلزم معرفة مقدمات وآلات الجدل، ومواضع الإثبات والنفي، وموارد إستعمال الجدل .
وفضح المغالطة في الجدل وهي المجيء بمقدمات للظن بأنها مشهورة ومتسالم عليها وإنما هي من الوهميات وأمور غير محسوسة بخصوص ذات الموضوع , الغاية منها تغليط وإسكات الخصم .
وإجتناب السفسطائية التي يقصد منها الغلبة، دون إفادة أو حصول نفع , والجدل لغة شدة الفتل (ويقال جادَلْت الرجل فجَدَلته جَدْلاً أَي غلبته ، وفي الحديث: ما أوتي الجدلَ قوم إلا ضلوا) وفسره ابن منظور بأن المراد به في الحديث الجَدَلُ على الباطل وطَلَبُ المغالبة به لا إظهار الحق)( ).
وهذا صحيح ولكن دلالة الحديث أعم وهو إنتقال ذات القوم للجدال فيما بينهم بخصوص أمور دينهم ودنياهم، فإن الجدل يورث الفرقة والتشتت، ويسبب السأم، والتجرأ والبدعة , لذا ورد النهي عن الجدال في الحج كما في قوله تعالى[الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ]( ).
ومن مصاديق حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه إنحسار الحضارة اليونانية مع تميزها بخصال علمية وعسكرية في زمانها، وقيل نقل مناطقة العرب لفظ الجدل وإستعملوه في الصناعة والتي تسمى باليونانية(طوبيقا) ولا يخلو هذا الكلام من تكلف , فالجدل معروف عند العرب، وعند أهل الأرض جميعاً بدليل قوله تعالىوَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ( ).
وينبغي دراسة الجدل كطريق لإظهار الحق، ودفع الباطل، ولتحقيق العدل ونشر الأمن وإجتناب الظلم.
وقد ذكرت في أحد أجزاء هذا التفسير (قانون الجدل الإيماني) لما في الجدل من منافع وإظهار للحق.
وقد إنتقد (كونت) المنطق الصوري الذي قال به الميتافيزيقيون لأنه منطق جدلي غايته تنمية ملكة الجدل، من غير أن يكشف عن شيء، وكذا القياس الأرسطي لأنه يبين ما نعلم من غير أن يبين ما نجهل وكأنه من تحصيل ما هو حاصل.
وورد الجدال في القرآن بمعنيين أحدهما في المدح والآخر في الذم , ليكون آية في التفصيل في صناعة الجدل ، قال تعالى[وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( )، ليقترن الجدل بالأخلاق الحميدة, وهو سلاح مصاحب للأنبياء عجز الكفار عن دفعه , كما ورد في التنزيل في قوم نبي الله نوح عليه السلام[قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا] ( ).
والنسبة بين الجدل والبرهان هي العموم والخصوص المطلق مادة وصورة .
فالجدل يتقوم بطرفين كل واحد منهما يأتي بإستدلال صحيحاً كان أو لا، لأن المطلوب فيه إفحام الخصم، أما البرهان فهو حق في مقدماته وما ينتج عنها، وقد يقيم أحد الخصمين البرهان ويلجأ الآخر للجدل أو الإستقراء الناقص والمغالطة، ولا يمكن أن يأتي الخصمان معاً بالبرهان في المسألة الواحدة لأنه متحد بسيطاً كان أو مركباً.
وذات النسبة بين الجدال والحجاج، فالمقصود من الجدال رجوع الخصم عن مذهبه بحجة أو شبهة, والمقصود من الحجاج ظهور الحجة، والنسبة بين الجدال والمراء هي العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء الخصومة ومحاولة الغلبة، ومادة الإفتراق أن المراء مذموم لأنه مخاصمة في الحق بعد ظهوره , وتتقوم المناظرة في الإصطلاح بالمواجهة , وإستماع كل من طرفي الجدال حجة الآخر والرد عليه .
أرجو من الجامعات ومجالس إدارة الكليات دراسة الإقتراح وإرتقاء طلبة القانون في المعارف وعلم المنطق والكلام والخطابة لأنهم من قادة المستقبل، وقد ختمت الجزء الخامس من رسالتي العملي(الحجة) بمبحث مستحدث وبمسائل شرعية خاصة بمهنة المحاماة وذكرت في آخر المسألة 176 منها :
ترى من هو المحامي عنا يــوم القيامة ؟ وهل يحتــاج المحامــون اليوم إلى من يحامي عنهم غداً؟ بل من هــو المحامــي الذي يدخل معنا القبر حين يرجع الناس ؟ وماذا أعددنا له وفيه ومنه ؟ وعن الإمام الصادق عن آبائه عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn