معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 142

المقدمة
الحمد لله الذي جعل الكتاب النازل من السماء زينة الحياة الدنيا وبهجة القلوب المنكسرة، وتفضل وأنزل الكتب على الرسل تترى واحداً بعد آخر كصحف إبراهيم والزبر والتوراة والإنجيل , وكل واحد منها يتضمن البشارة والإنذار .
ومن معاني بشارة الأنبياء والكتب السماوية السابقة الإخبار عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن كتاباً جامعاً للأحكام وباقياً إلى يوم القيامة من غير أن تصله يد التحريف ، فيكون شاهداً على صدق نزول الكتب السماوية السابقة ، وفي التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام ، وخطابه لبني إسرائيل [إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( ).
ليكون من عمومات قوله تعالى [مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ]وما ورد فيها من البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقدي الآية أعلاه : ومصدقاً لما بين يدي من التوراة بالبشارة بنبوة محمد والتي يتوارثها الأنبياء منذ أبينا آدم ليخلد القرآن ذكراهم بين المسلمين للإقتداء بهم ، والإقتباس من سيرتهم ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
وقدّم عيسى عليه السلام التصديق بالتوراة لبيان قانون في تأريخ النبوة وهو تصديق النبي اللاحق بما جاء به النبي السابق وصولاً إلى آدم عليه السلام ، لتأكيد إتحاد سنخية ما جاء به الأنبياء من عند الله .
ولبيان أن البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حق وصدق في الكتب السماوية السابقة .
وذكر عيسى عليه السلام ما وصله من التوراة ، فقد ذهب الأنبياء وبقيت كتبهم تشهد على صدقهم ليأتي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن من عند الله عز وجل مصدقاً للكتب السماوية السابقة ، وتبقى سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاضرة بين المسلمين والناس جميعاً .
فلم تذهب ولم ترتفع سواء السنة القولية أو الفعلية لتبقى المصدر الثاني للتشريع ، وهي تفسير للقرآن ، وإذ جاء هذا الجزء بخصوص (آيات الدفاع سلام دائم) قال بعضهم أنها منسوخة فان السنة النبوية شاهد على صحة أو نفي هذا القول ، ولبيان قانون وهو أن السنة النبوية الشريفة حاضرة في علوم وتأويل آيات القرآن ، وهي وسيلة مباركة لإستظهار كنوزه لذا فان المختار عدم نسخ السنة النبوية للقرآن ، وعلى القائل بنسخها للقرآن أن يذكر الآيات المنسوخة بالسنة ، وما هي الأحاديث التي نسخت تلك الآيات ، لإمكان إحصاء مصاديق هذا القول ، والإحتجاج فيه ، وعلى فرض وجود مثل هذه الأحاديث الناسخة , فهل هناك أحاديث تؤكد عدم نسخ السنة للقرآن.
ولم يقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن سنته تنسخ القرآن ، ثم السنة مرآة للقرآن ، وبيان إضافي له بلحاظ أن ذات القرآن بيان لقوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( ).
وورد عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري . . . ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) ( ).
وقال القرطبي (والقرآن نزل نجوما : شيئا بعد شئ فلذلك قال نزل والتنزيل مرة بعد مرة والتوراة والإنجيل نزلا دفعة واحدة) ( ) وتبعه جماعة ولا دليل على هذا التفعيل ، وقد جاء الإخبار عن نزول القرآن بكلا اللفظين ، وهو من الشواهد على قوله تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ] ( ).
لقد أنزل الله القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نجوماً ، وعلى نحو التدريج وحسب مساقط النجوم والوقائع والأحداث ، فصار من قواعد النسخ أن الآية الناسخة متأخرة زماناً في نزولها عن الآية المنسوخة .
ومما يتضمنه هذا الجزء شطرت من تفسير الآيتين 190 -191 من سورة البقرة ، وقد تكررت مادة قتل فيهما من وجوه :
الأول : قوله تعالى [وَقَاتِلُوا] في سبيل الله ، وهو الذي إبتدأت به الآية التسعون بعد المائة ، لتبدأ مرحلة جديدة في تأريخ الإسلام فيها إذن للمسلمين بالقتال مع تقييد القتال بأنه خالص لوجه الله في موضوعه وأسبابه وغاياته .
الثاني : قوله تعالى [الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ] وهذا تقييد آخر بأن لا يقاتل المسلمون إلا من قاتلهم كمسلمين ، فكما أن غاية قتال المسلمين هو في سبيل الله ، فكذا بيان موضوع وقصد قتال الذين كفروا للمسلمين بأنهم قاتلوهم عندما دخلوا الإسلام وأتبعوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأدوا الفرائض العبادية .
الثالث : دلالة لفظ [وَلاَ تَعْتَدُوا]على نهي المسلمين عن القتال في المواطن التي لم يأمرهم الله عز وجل بالقتال فيها .
الرابع : إبتداء الآية الحادية والتسعين بعد المائة بقوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ]بالأمر للمسلمين بقتل الذين يقاتلونهم من الذين كفروا حتى في خارج ساحات الوغى ولكن مع التقييد أيضاً من جهات :
الأولى : الإكتفاء باخراج الذين كفروا من الديار التي أخرجوا منها المسلمين .
الثانية : إجتناب الفتنة والهياج العام وغياب النظام ، فقد تأتي حادثة قتل تسبب بثورة أو غوغاء أو مناجاة بالقتال عصبية وحمية , خاصة وأن العرب حديثوا عهد بأمور القبيلة والإلتفاف تحت لوائها .
فمن معاني [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( ) تحذير المسلمين من إثارة الفتنة بسبب القتال ونتائجه إلى جانب المعنى الأصيل للآية وهو ذم الذين كفروا لإثارتهم الفتنة والإضرار بالمسلمين ، لذا فمن الإعجاز في الآية أعلاه ورودها على نحو القانون وصيغة الجملة الإسمية لتتصف بالدوام ، وتكون حاضرة عند المسلمين في حياتهم العامة والخاصة ، ولا يعلم منافع قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( ) في صلاح المجتمعات وتهذيب النفوس ، ودرأ الفتن والشرور إلا الله عز وجل .
لقد ذمّ الله الذين كفروا ونعتهم بالجهل والمناجاة بالباطل وأثنى على المسلمين بقوله تعالى [إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى] ( ).
ومن حمية الجاهلية إصرار الذين كفروا على القتال في معركة بدر مع زوال أسباب القتال , وتعدد الرجاء من بين صفوفهم بالإمتناع عن القتال .
فقد هبّت قريش لنصرة أبي سفيان الذي إستصرخهم لنجاة القافلة التي جاء بها من الشام ، عندما علم بخروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للإستيلاء عليها .
ولقد جاءت الإنذارات لقريش من بين ظهرانيهم باجتناب القتال من وجوه :
الأول : قام أبو سفيان بتغيير مسار قافلته وسار بساحل البحر حتى وصل إلى بر الأمان , وإبتعد عن جيش المسلمين فكتب إلى قريش أنه أحرز ما معه ولا ضير عليه ، وطلب منهم الرجوع إلى مكة لإنتفاء موضوع الخروج .
وعن ابن شهاب وموسى بن عقبة (فلقيهم هذا الخبر بالجحفة
فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نقدم بدرا فنقيم فيها ونطعم من حضرنا من العرب فإنه لن يرانا أحد فيقاتلنا) ( ).
فكان كتاب أبي سفيان إنذاراً لقريش , ولكنهم أصروا على الفتنة ومن الفتنة مقدمات القتال والعزم عليه والمناجاة فيه .
الثاني : حث الأخنس بن شريق قريشاً على الرجوع والعودة إلى مكة بعد مجئ كتاب أبي سفيان ولكنهم أظهروا العصيان والإمتناع من الرجوع ، فعطف الأخنس على بني زهرة وألح عليهم بالرجوع فاطاعوه وعادوا ولم يشهد أحد منهم معركة بدر .
وعندما إنهزمت قريش وقتل منهم سبعون وأسر سبعون ، ولحقهم الذل والخزي أظهر بنو زهرة الإكرام للأخنس بن شريق على حسن رأيه ، ونجاتهم من القتل والخزي , وحفظوا له حسن المشورة ، وكان مطاعاً عندهم .
الثالث : ومن الإنذار رجوع بني زهرة إلى مكة وإمتناعهم عن القتال مع أنهم خرجوا معهم للنصرة والقتال ، إذ أن رجوع شطر من الجيش دعوة لقريش لمحاكاتهم والرجوع إلى مكة .
(وكان بنو زهرة يومئذ مائة رجل , وقال بعضهم بل كانوا ثلاثمائة رجل)( ).
كما رجع بنو عدي بن كعب عزوفاً عن القتال وكراهة الإصرار عليه وفي طريق إنصرافهم إلى مكة ( صادفهم أبو سفيان بن حرب فقال يا بني عدي كيف رجعتم لا في العير ولا في النفير , فقالوا أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع ويقال بل لقيهم بمر الظهران فلم يشهد بدرا من المشركين أحد من بني زهرة ولا من بني عدي)( ).
وكان مع قريش أخو الإمام على الأكبر وهو طالب بن أبي طالب ، فجرى حديث وجدال بينه وبين بعض قريش وقالوا له : والله لقد عرفنا يا بني هاشم إن خرجتم معنا إن هواكم مع محمد ، فرجع طالب فيمن رجع وقيل خرج كرهاً ولم يصل إلى مكة ، ولم يجدوه مع القتلى أو الأسرى (وكان شاعرا وهو الذى يقول :
يا رب إما يغزون طالب * في مقنب من هذه المقانب
فليكن المسلوب غير السالب * وليكن المغلوب غير الغالب)( ).
وأصر كفار قريش على عدم الإنصات إلى الدعوات المتعددة بالرجوع والإتعاظ ورجوع شطر من الجيش من مصاديق وهذا الإصرار من مصاديق قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( ) إذ كان سبباً بأمور:
الأول : وقوع معركة بدر وجريان الدماء .
الثاني : حدوث القتل من الفريقين .
الثالث : وقوع سبعين من قريش في الأسر .
الرابع : قيام قريش بدفع الأموال الطائلة بدلاً وعوضاً لفكاك أسراهم ، وكان بدل عديدين منهم كل واحد منهم أربعة آلاف درهم فضة ، أي نحو أربعمائة دينار ذهب ، كل دينار مثقال ذهب عيار ثمان عشرة حبة .
الخامس : تعطيل تجارة قريش والإنشغال بالقتال .
السادس : إصرار قريش على القتال قطع للرحم .
وكان (الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العزى بن غيرة بن عوف بن ثقيف الثقفي أبو ثعلبة حليف بني زهرة اسمه أبي وإنما لقب الاخنس لأنه رجع ببني زهرة من بدر لما جاءهم الخبر أن أبا سفيان نجا بالعير فقيل: خنس الأخنس ببني زهرة فسمي بذلك)( ) ولكن الأخنس خرج مع قريش في معركة أحد وقتل عبد الله بن جحش الذي قتل وعمره بضع وأربعون سنة.
وأسلم الأخنس يوم فتح مكة وكان من المؤلفة قلوبهم وشهد معركة حنين.
وإجتمع هو وأبو سفيان وابو جهل يستمعون خفية لقراءة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن عندما كان في مكة قبل الهجرة ، وأتى الأخنس إلى أبي سفيان فسأله عما سمعه من القرآن فقال : أعرف وانكر وسأله أبو سفيان : وأنت ما تقول . فأجاب الأخنس : أراه الحق .
وأظهر أبو الجهل الحسد لبني مناف وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم (وذكر الزهري أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى من الليل في بيته , فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه وكل لا يعلم بمكان صاحبه , فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق , فتلاوموا .
وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لاوقعتم في نفسه شيئا , ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض ما قالوا أول مرة , ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخد كل رجل منهم مجلسه , فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا
فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود فتعاهدوا على ذلك , ثم تفرقوا فلما أصبح الاخنس بن شريق أخذ عصاه ثم ذهب حتى أتى أبا سفيان في بيته .
فقال أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد فقال : يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها , وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها , قال الأخنس : وأنا والذى حلفت به ثم خرج من عنده) ( ).
ولما عاد النبي صلى الله عليه من الطائف بعد إيذاء أهلها له أرسل إلى الأخنس بن شريق يسأله إجارته كي يبلغ رسالة الله ، فأجاب الأخنس : إن الحليف لا يجير على الصريح .
وتشمل مضامين آيات البحث في هذا الجزء بخصوص فتح مكة أن موضوعه يتغلق بمضامين هذه الآيات من وجوه :
الأول :ما ورد في قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] والقتال لفتح مكة البيت الحرام أبهى مصاديق في سبيل الله .
الثاني : إنطباق وصف [الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ] على الذين كفروا من أهل مكة ، وهم أشد الناس على رسوله والمسلمين .
الثالث : نهي المسلمين عند الله عز وجل عن التعدي والإرتداد ، وهو على وجوه :
أولاً : النهي عن إعتداء جيش المسلمين .
ثانياً : النهي عن إعتداء المسلمين كأمة .
ثالثاً : المنع عن الإعتداء على نحو القضية الشخصية .
رابعاً : النهي عن حصول التعدي بين المسلمين أنفسهم ، وفيه دعوة لنبذ القبلية والطائفية ، وحث على هجران الحمية والعصبية ، وهو الذي يدل عليه مفهوم الآيات التي يتناولها بالتفسير والتأويل هذا الجزء من التفسير الذي يدل على أن هذه الآيات محكمة ولا دليل على نسخها ، وكل واحدة منها إشراقة علمية تأخذ بأيدي المسلمين في سلم التقوى ، وتمنع من الوهن والضعف ، فحينما تفضل الله وقال [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ) جاءت الآيات التي تأمرهم بالقتال وتحثهم على الصبر وترصد العدو وعدم تركه.
وتقدير الآية أعلاه بلحاظ آيات البحث على وجوه :
الأول : ولا تهنوا في القتال في سبيل الله.
الثاني : ولا تهنوا في قتال الذين يقاتلونكم.
الثالث : ولا تهنوا في الإمتناع عن التعدي.
الرابع : من خصائص [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ]( ) أن لا يهنوا ولا يحزنوا وهم الأعلون .
الخامس : ولا تهنوا في إخراج الذين أخرجوكم من ديارهم .
السادس : ولا تهنوا في إستئصال الفتنة .
السابع : ولا تهنوا في الحيطة من الفتنة .
الثامن : ولا تهنوا في قتال الذين كفروا عندما يقاتلونكم عند المسجد الحرام .
التاسع : ولا تهنوا كذلك جزاء الكافرين ، أي من جزاء الكافرين أن جعل الله المسلمين لا يهنوا ولا يحزنوا .
العاشر : فان إنتهوا فلا تهنوا ولا تضعفوا ، لأن عدم الوهن والضعف ملكة ذاتية خاصة بالمسلمين ، وتمنع هذه الآيات من التراخي والكسل .
ترى لماذا إستثنت الآية في القتال في البيت الحرام إبتداء الذين كفروا بالقتال الجواب من وجوه :
أولاً : وجوب القتال دفاعاً عن النفس وهو أمر يقره العقلاء وكل المذاهب والأعراف .
ثانياً : وجود حصة زائدة في دفاع المسلمين ، وهو أن دفاعهم لا يختص بالدفاع عن النفس بل يشمل الدفاع عن أمور :
الأول : الدفاع عن النبوة ومعجزاتها .
الثاني : دفاع المسلمين عن التنزيل وآيات القرآن ومعاني الإعجاز فيها .
الثالث : الدفاع عن الإسلام وأحكام الحلال والحرام .
الرابع : يدافع المسلمون عن أداء الفرائض العبادية من جهات :
الأولى : ذات الفرائض كالصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس .
الثانية : سنخية وكيفية ووقت كل فريضة والمنع من طرو التحريف عليها.
الثالثة : أداء المسلمين للفرائض وعدم تخلفهم عن أدائها كلاً أو بعضاَ .
الرابعة : جذب الناس لإداء الفرائض ، لأن فيه نجاتهم في الدنيا والآخرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بلحاظ أن جهود وجهاد المسلمين لدعوة الناس للإسلام من فضل الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : لزوم تنزيه المسجد الحرام من الشرك ومفاهيمه ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا] ( ).
رابعاً : تجاوز الذين كفروا على حرمة المجسد الحرام بالقتال فيه ، ليكون التعدي منهم في المقام متعدداً من جهات :
الأولى : التلبس بالكفر في المسجد الحرام .
الثانية : قتال الكفار للمسلمين في لمسجد الحرام ، والأصل هو مبادرة أهل مكة إلى الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنهم إن إختاروا القتال في المسجد الحرام فلابد كمن قتالهم .
الثالثة : إصرار الكفار على عدم الإذن للمسلمين بالعمرة وحج بيت الله وأداء المناسك ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ] ( ).
الرابع : تحقق العثور على المشركين في مكة وغزوهم في عقر دارهم ، وهو من فضل الله في قوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ] .
الخامس : تنجز حكم إخراج الذين كفروا من ديارهم التي أخرجوا المسلمين منها لقوله تعالى [وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ].
السادس : قيام كفار قريش بالفتنة والمكر والدهاء للإضرار بالمسلمين ، وإجتهدوا في قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإكراه المسلمين على الخروج من مكة مهاجرين .
السابع : تفضل الله عز وجل بنهي المسلمين عن قتال الذين كفروا في البيت الحرام ، وإستثنى حالة واحدة هي قتال الذين كفروا للمسلمين فيه ، وهل منه يوم فتح مكة .
الجواب نعم ، فيجب أن يدخل المسلمون مكة ويطوفوا بالبيت الحرام وأختلف في فتح مكة على قولين :
أولاً : فتحت مكة عنوة , وبه قال الأوزاعي ومالك وأبو حنيفة , وهو المشهور وإستدل عليه بعضهم بقوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) ولكن موضوع الآية أعم .
ثانياً : فتحت مكة صلحاً , وبه قال مجاهد وعكرمة والزهري والشافعي لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إشترط على أبي سفيان وحكيم بن حزام إلقاء أهل مكة سلاحهم وإغلاق أبوابهم .
لقد أنعم الله سبحانه على أهل الأرض بنزول القرآن , فكان نزوله عيداً يومياً متجدداً لأهل السماوات والأرض .
وتفضل الله واختص بتلقي القرآن سيد الأنبياء والمرسلين محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الذي أخلص في جهاده وقيامه بالتبليغ ودعوة الناس للإسلام وكان في سلامته وحفظه كل يوم وكل ساعة من حياته معجزة حسية له ، وسبيلاً مباركاً لتوالي نزول آيات القرآن في الليل والنهار , والحضر والسفر.
لتكون معجزات سلامته من القتل كثيرة ومتعددة ، فليس بينه وبين الأعداء من حاجب أو برزخ إلا فضل الله عليه وعلى الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ) وقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) فمن هذه الرحمة أمور :
الأول : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ليلة ولادته .
الثاني : حفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بآيات من عند الله عز وجل في أيام رضاعته عند بني سعد ، إذ أرضعته في البادية حليمة بنت عبد الله السعدية بلبن إبنها عبد الله بن الحارث بن عبد الله العزي الذي أسلم بعد البعثة النبوية .
وخرجت به أمه إلى أخواله من بني عدي بن النجار تزورهم في المدينة التي كانت تسمى يثرب ، وأقامت عندهم شهراً ثم رجعت به إلى مكة ، فتوفيت في الطريق عند موضع يسمى الأبواء ، وكانت أمه آمنة تعلم المنزلة التي سيلقاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وكانت تحرص على سلامته .
(عن أم سماعة بنت أبي رهم عن أمها قالت شهدت آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في علتها التي ماتت فيها ومحمد غلام يقع له خمس سنين عند رأسها فنظرت إلى وجهه ثم قالت :
بارك فيك الله من غلام
يا ابن الذي من حومة الحمام
نجا بعون الملك المنعام
فودى غداة الضرب بالسهام
بمائة من إبل سوام
إن صح ما أبصرت في المنام
فأنت مبعوث إلى الأنام
من عند ذي الجلال والإكرام
تبعث في الحل وفي الحرام
تبعث بالتحقيق والإسلام
دين أبيك البر إبراهام
فالله أنهاك عن الأصنام
ان لا تواليها مع الأقوام .
ثم قالت كل حي ميت , وكل جديد بال , وكل كبير يفنى , وأنا ميتة وذكري باق وقد تركت خيرا وولدت طهرا ثم ماتت) ( ).
وإستسقى أهل مكة بجده عبد المطلب والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معه لتنزل البركات بحضوره المبارك , وللحجة والبرهان .
وكانت علامات النبوة تتجلى بشخصه الكريم من صغره ، وفيه نوع تحد للذين كفروا ، وآية لهم بأنهم يعجزون عن إلحاق الأذى به في صغره ، فمن باب الأولوية عجزهم عن إيذائه عند إعلان النبوة وكثرة أصحابه وتوالي آيات التنزيل عليه .
وعن العباس بن عبد الرحمن (عن كندير بن سعيد عن أبيه قال حججت في الجاهلية فبينا انا اطوف بالبيت إذا رجل يقول:
رد إلى راكبي محمدا * اردده رب واصطنع عندي يدا
قال قلت من هذا قال عبدالمطلب بن هاشم بعث ابن إبنه في إبل له ضلت وما بعثه في شئ الا جاء به , قال فما برحت حتى جاء بالابل معه قال فقال يا بني حزنت عليك حزنا لا يفارقني بعده ابدا قالوا وكانت ام ايمن تحدث تقول كنت احضن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فغفلت عنه يوما فلم أدر الا بعبد المطلب قائما على رأسي يقول :
يا بركة .
قلت : لبيك .
قال اتدرين أين وجدت ابني .
قلت : لا ادري .
قال : وجدته مع غلمان قريبا من السدرة , لا تغفلي عن ابني فان اهل الكتاب يزعمون ان ابني نبي هذه الامة وانا لا آمن عليه منهم وكان لا يأكل طعاما الا قال علي بابني فيؤتى به إليه) ( ).
الثالث : سلامة النبي من الإغتيال والقتل وهو في مكة بين قوم كافرين يسفه أحلامهم ويدعوهم لعبادة الله ، وإلى إتباعه في إقامة صرح الإسلام ، ونب الأوثان ، ومن المواعظ التي وردت في القرآن قصة إبراهيم عليه السلام ، وقيام نمرود وقومه بجمع الحطب لإحراقه في النار لولا أن أنجاه الله بقوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ) .
ولقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ليلة همّ كفار قريش بقتله في فراشه فبات الإمام علي عليه السلام مكانه .
لتبدأ أيام إنشاء صرح دولة الإسلام ، وفيه زجر للكافرين من إيذاء المؤمنين وحملهم على ترك ديارهم لصيرورة هذا الإخراج مفتاحاً للأمن والعز للمؤمنين ، قال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] ( ).
ومما يتضمنه هذا الجزء المبارك وهو الثاني والأربعون بعد المائة تفسير قوله تعالى [وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ] ( ) إذ يدل إخراج المسلمين من مكة على ضعفهم ومسكنتهم وقلة عددهم ، وعدم ميلهم للقتال والدفاع ، ويدل قوله تعالى [وَأَخْرِجُوهُمْ]على بلوغ المسلمين مرتبة المنعة والعز والقدرة على الدفاع والهجوم ، وبدأت وتجلت هذه المرتبة من معركة بدر ، وظهور المسلمين فيها ، وقال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) فنسب الله عز وجل النصر لنفسه لتنقطع أجيال المسلمين إلى الشكر لله عز وجل على هذه النعمة التي يتجدد نفعها في كل زمان ، وفيه درس لهم بأنهم إذا أرادوا النصر فعليهم باللجوء إلى الله عز وجل بالدعاء والمسألة .
وهو لا يتعارض مع تهيئة مقدمات النصر وبذل الوسع ، فقد خرج المهاجرون والأنصار مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة بدر وهم عازمون على قتال المشركين ، وكذا بادروا إلى النفير والخروج إلى معركة أحد ، وهم يعشقون الشهادة , ويرجون فضل الله في الدنيا والآخرة قال تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه مجئ الأمر بقتل الذين كفروا , ثم الأمر بأخراجهم من حيث أخرجوا المسلمين بقوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ] ( ) .
وإذا تم القتل حيث وجدوا فلا تصل النوبة إلى الإخراج لأنه سالبة بانتفاء الموضوع ، فلابد من تدبر وتأويل الآية والرجوع إلى آيات القرآن الأخرى لبيان المقصود منها، وهو الذي نبينه في ثنايا هذا الجزء المبارك بعنوان مستقل( ).
وذكر أن الآية أعلاه منسوخة ، وأن الناسخ هو آية السيف ، وهو قوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ…] ( ) والتي قيل أنها نسخت مائة آية من القرآن ، ولا دليل على هذا القول ، ولم ينسب إلى المشهور من الصحابة أو التابعين ، والمدار على البيان والتفسير لكل آية من هذه الآيات ، وكل واحدة منها نجم مشرق يشع على النفوس بموضوعه وحكمه ، فيقودها نحو الهدى والصلاح ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
الرابع : لقد أقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دولة الحق والهدى في المدينة المنورة ، وكما كان نزول القرآن على نحو التدرج وتعاقب نزول الآيات فان هذه الإقامة كانت تسير بنهج ثابت يتقوم بكثرة دخول الناس الإسلام ، وتقيدهم بأحكام الحلال والحرام ، وإتباعهم لنهج القرآن، لتنثني الوسادة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ] ( ).
ومع هذا فان أهل البغي والشر لم يكفوا عن إرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ساحة المعركة أو في الحضر أو السفر ، ولكن الله عز وجل نجّاه وحفظه ليكون حجة في نزول تمام آيات القرآن ولزوم تعاهد المسلمين لها ، والمنع من دبيب التحريف لها رسماً وتأويلاً .
وفي مسألة النسخ فيما بين الدفتين وجوه :
الأول : كثرة النسخ ، وأن آية واحدة هي آية السيف نسخت مائة آية من القرآن ، ولم يرد لفظ السيف في القرآن ، وهو من إعجاز القرآن ، ولعل فيه تنبهاً وتحذيراً من القول بآن آية السيف نسخت مائة آية .
الثاني : وجود النسخ في القرآن ، ولكن بآيات قليلة .
الثالث : نسخ السنة النبوية للقرآن .
الرابع : عدم وجود النسخ في القرآن ، وأن قوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا] ( ) إنما يتعلق بالآيات الكونية .
والمختار هو الثاني ويكون النسخ على نحو جهتي وفي ذات الفعل والتفسير الجامع بين الآية الناسخة والمنسوخة ، وهو من أسرار قوله تعالى [مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ] ( ) وفي النسخ أطراف :
الأول :الناسخ .
الثاني : المنسوخ .
الثالث : موضوع النسخ .
لقد فتح الله عز وجل للمسلمين علم النسخ في القرآن ليبقى مائدة للعلماء , ويستمر التحقيق والإستقراء فيه متصلاً إلى يوم القيامة ، فكيف وهو واحد من آلاف العلوم والكنوز التي يتضمنها القرآن ، ليكون شاهداً ومصداقاً لقوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( ).
ومن شرائط النسخ التزاحم ونحوه ، وعدم إمكان الجمع بين الآيتين وتقدم زمان المنسوخ وتأخر زمان الناسخ .
ولا تعارض بين قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ] وبين آية السيف [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ] وتتعدد آيات الموادعة ، وكل آية رحمة بالمسلمين والناس جميعاً ، وحتى حال الموادعة لم تحصل إلا بفضل الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ) .
فلا يصح القول بنسخ هذه الحال من غير دليل لأنها رحمة خالصة من عند الله ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولأن كل إنسان يناله قسط من رحمة الله براً أو فاجراً ، ومنه آيات الموادعة ، وحكم قبول الجزية, والكف عن الناس إذا إنتهوا .
وهناك آيات لا تختص بالموادعة ، ومع هذا الحقها بعضهم بآيات الموادعة ، وقال نسختها آية السيف ، كما في قوله تعالى [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ] ( ) والآية محكمة إذ البلاغ عام ، وقد يترشح عنه القتال ، أو يكون المنع منه سبباً للقتال .
وحتى الآية التي تتضمن التخيير قيل أنها منسوخة بآية السيف كما في قوله تعالى [فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ] ( ) وفي كل القوانين الوضعية هناك تخيير للقاضي في الحكم بين حدين أعلى وأدنى بحسب الحال والشأن والأسباب للفعل ونحوها ، فمن باب الأولوية أن يتفضل الله عز وجل ويجعل السعة والمندوحة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المسائل المختلفة خاصة وان كلمات القرآن المتناهية تحيط باللامتناهي من الوقائع والأحداث .
وليس من حصر لمنافع قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]سواء في أيام التنزيل أو في السنين اللاحقة وإلى يوم القيامة إذ تكون هذه الآية حاضرة عند المسلمين في أقوالهم وأفعالهم ، وتجعلهم في حال يقظة وفطنة متصلة للإحتراز من الفتنة وتدعوهم لأخذ الحائطة من كيد الذين كفروا , وسيأتي مزيد بيان في هذا الجزء بقانون [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( ).
لقد تكرر الأمر من عند الله عز وجل للمسلمين في هذه الآيات بالأمر بالقتال والقتل مع تقييده بضوابط لا يقدر على التحكم بأفعال المقاتلين وإنقيادهم لها إلا الله عز وجل ، وهو من الإعجاز الغيري لآيات القتال ، ورجحان عدم النسخ فيها ويلاحظ في هذا الزمان المآسي التي تصاحب المعارك والحروب وشرعت القوانين الدولية بخصوص الصراع المسلح بين الدول أو المعارك الأهلية ، وما تأتي من الدماء ، وما تخلفه من الأضرار ، وعقدت الإتفاقيات للمنع من الهجوم على المستشفيات ودور العبادة وتأمين سلامة الجرحى والأسرى وعدم الإجهاز عليهم .
كما أتفق على عدم إستخدام الغازات السامة ، وينتظر العالم تحريم إستخدام الأسلحة النووية ونحوها من الأسلحة الفتاكة ، وقد ينعم الله عز وجل على الناس بالتخلص منها باتفاق أو بكيفية أخرى كما لو وضع سلاح ومواد تعطلها وهي في مستودعاتها, قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وجاءت آيات البحث بقوانين تلزم المسلمين العمل بها ، ومن الآيات تعدد لغة الشرط فيها في القتال من جهة إبتدائه .
وتدعو هذه الآيات المنظمات الدولية إلى دراسة قواعد القتال في القرآن، وكيف أن الحال التي يمنع فيها من القتال أكثر من الحال التي يوجبه فيها .
وتتضمن هذه الآيات الزجر عن القتال في موارد :
الأول : منع المسلمين من القتال إذا كان في غير مرضاة الله لتقييده بكونه في سبيل الله .
الثاني : حصر قتال المسلمين بالذين يقاتلون المسلمين دون غيرهم من الكفار .
ويحتمل من جهة الكثرة والقلة وجوهاً :
أولاً : الذين يقاتلون المسلمين أكثر من الكفار الذين لا يقاتلونهم .
ثانياً : الذين لا يقاتلون المسلمين هم الأكثر .
ثالثاً : نسبة التساوي بين الفريقين .
والصحيح هو الثاني أعلاه مما يدل على توجه آيات القرآن ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس والكفار جميعاً ، تدعوهم إلى الإسلام وتصدهم عن قتال المسلمين ، ومن الإعجاز في شريعة الإسلام أن الذي يدخل فيه لا يغادره ولا يرتد , ويفارق الدنيا وهو سعيد مغتبط بالموت على الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
وهل من معاني [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] القتال عند الحاجة , الجواب نعم ، فاذا كانت الحجة والبرهان والمعجزة تكفي للدليل ، وكف أيدي الذين يبغون قتال المسلمين ، فلا تصل النوبة للقتال .
ومن معاني قيد [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] صيرورة المسلمين رقباء على أنفسهم في القتال إبتداء وإستدامة ، وهو من أسرار صيغة الجمع في آية البحث [وَقَاتِلُوا] ولا يختص هذا الخطاب بالذين يخوضون غمار الوغى ، بل يشمل المسلمين والمسلمات ، وهو من الإعجاز في عطف [وَقَاتِلُوا] على [وَاتَّقُوا اللَّهَ]في الآية السابقة لها , وعلى [وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا] للجمع بين أحكام فريضة الحج التي يتوجه فيها الخطاب التكليفي للمسلمين والمسلمات جميعاً وبين القتال في سبيل الله .
الثالث : المنع من قتال الذين لا يقاتلون المسلمين , ولا دليل على نسخ هذا المنع بالإضافة إلى أن منعه تحريض للناس ضد الإسلام ، وجعل الكفار يتناجون بقتال المسلمين ، لذا فان القيد الظاهر في قوله تعالى [الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ]تخفيف عن المسلمين ، وتعجيل بتحقيق النصر والغلبة لهم ز
وحينما سار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى فتح مكة بعشرة آلاف من أصحابه عجز الذين كفروا عن جمع جيش لملاقاته , إنما خرج أفراد وجماعة سرعان ما تفرقوا وتشتتوا عند المناوشة مما يدل على أن مفهوم آية السيف خاص بمشركي قريش الذين قاتلوا المسلمين ، وأن أهل مكة ممن لم يقاتل المسلمين في مأمن من القتل .
في فتح مكة وبعد نزول آية السيف أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمراءه بعدم القتال إلا من قاتلهم .
قال ابن إسحاق (وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد إلى أمرائه ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم، غير أنه أهدر دم نفر سمّاهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة) ( ).
ومن الشواهد في فتح مكة هو سعي صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو لجمع أناس بالخندمة ليقاتلوا ، وقتل منهم إثنا عشر أو ثلاثة عشر ثم إنهزموا( ) وكان معهم حماس بن قيس بن خالد أخو بني بكر الذي أعدّ وأصلح سلاحه قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
( قَدْ كَانَ حِمَاسُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ ، أَخُو بَنِي بَكْرٍ يُعِدّ سِلَاحًا قَبْلَ دُخُولِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيُصْلِحُ مِنْهُ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ لِمَاذَا تُعِدّ مَا أَرَى ؟ قَالَ لِمُحَمّدِ وَأَصْحَابِهِ) ( ).
مما يدل على أن المشركين كانوا يعلمون بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وأنهم يرومون قتله وأصحابه .
(قَالَتْ وَاَللّهِ مَا أَرَاهُ يَقُومُ لِمُحَمّدِ وَأَصْحَابِهِ شَيْءٌ قَالَ وَاَللّهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ أُخْدِمَك بَعْضَهُمْ ثُمّ قَالَ
إنْ يُقْبِلُوا الْيَوْمَ فَمَا لِي عِلّةٌ … هَذَا سِلَاحٌ كَامِلٌ وَأَلَهْ
وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السّلّهْ ) ( ) .
وشهد حماس جولة القتال مع صفوان وعكرمة وسهيل بن عمرو وقتل ثلاثة من المسلمين ، وإثنا عشر أو ثلاثة عشر رجلاً من المشركين ، فأنهزموا وتفرقوا ، فدخل حماس بيته وقال لإمرأته أغلقي علي بابي ، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة (من أغلق بابه فهو آمن) ( ) .
فقالت له إمرأته : فأين ما كنت تقول إستهزاء به وإستخفافاً بوعيده ، وتأكيداً لعجزه وأصحابه من الثبات في وجه جيش الإسلام ،فقال
إنّكِ لَوْ شَهِدْت يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ … إذْ فَرّ صَفْوَانُ وَفَرّ عِكْرِمَهْ
وَأَبُو يَزِيدَ قَائِمٌ كَالْمُوتَمَهْ … وَاسْتَقْبَلَتْهُمْ بِالسّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ
يَقْطَعْنَ كُلّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ … ضَرْبًا فَلَا يُسْمَعُ إلّا غَمْغَمَهْ
لَهُمْ نَهِيتٌ خَلْفَنَا وَهَمْهَمَهْ … لَمْ تَنْطِقِي فِي اللّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ( )
الرابع : زجر المسلمين عن الإبتداء بالقتال ، لبيان قانون وهو التضاد بين الإيمان والإعتداء ، ويتجلى بإخبار القرآن عن حب الله عز وجل للمؤمنين بقوله تعالى [فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( ) [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ) .
لتبين هذه الآيات لزوم مقابلة النصر بالشكر لله عز وجل , ومن مصاديق الشكر عدم الإعتداء ، إذ يريد الله عز وجل للمسلمين بناء دولة الإيمان وإستدامة حكم الشريعة السماوية في الأرض إلى قيام الساعة ، فلابد من التنزه عن التعدي والظلم ، وكما ذكر الله بغضه للمعتدين ، فقد ذكر كرهه وبغضه للظالمين ، بقوله تعالى [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] ( ).
وبين الظلم والتعدي عموم وخصوص مطلق ، فالظلم أعم لذا تفضل الله وأخبر المسلمين بما يفيد تأديبهم وإصلاحهم للإمامة في الأرض .
لقد أراد الله عز وجل أن يكون قوله [وَلاَ تَعْتَدُوا] فيصلاً بين المسلمين والذين كفروا في السنخية والقول والفعل فقد يتبادر إلى الذهن أن المراد من النهي عن الإعتداء في الآية هو موضوع ميدان القتال ، ولكن الآية أعم من جهات:
الأولى : لا تعتدوا في إبتداء القتال من غير حاجة وضرورة .
الثانية : لا تعتدوا أثناء القتال .
الثالثة : لا تعتدوا عند طلب الطرف الآخر السلم والمهادنة ، قال تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] ( ).
وجاءت الآية أعلاه في بني قريظة ، وذكر أنها خاصة بأهل الكتاب إذا بذلوا الجزية .
والمختار أن الآية عامة في كل موادعة سألها أهل الكتاب أو المشركون ، وقيل ان الآية منسوخة وأختلف في الناسخ ذكر أنه قوله تعالى [قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله] ( ).
وقيل نسخت بقوله تعالى [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ] ( ) .
إن حال الموادعة مناسبة كريمة لأمور :
الأول : تفقه المسلمين في الدين .
الثاني : التخفيف عن المسلمين في القتال .
الثالث : قيام المسلمين بالتجارة والزراعة وتنشيط أسواق المسلمين ، كما في قوله تعالى [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ]( ).
الرابع : بيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
السادس : فضح النفاق وتبكيت المنافقين ، ودعوتهم للتوبة والإنابة وإصلاح السريرة ، وفي قوله تعالى [أَوْ كَصَيِّبٍ مِنْ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنْ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ] ( ) .
ورد عن عبد الله بن مسعود أنه ( كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المشركين ، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله . فيه رعد شديد ، وصواعق ، وبرق ، فجعلا كلما أصابتهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق ، أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما ، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه ، وإذا لم يلمع لم يبصرا . قاما مكانهما لا يمشيان ، فجعلا يقولان . ليتنا قد أصبحنا ، فنأتي محمداً فنضع أيدينا في يده ، فأصبحا فأتياه فأسلما ، ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما .
فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين ، مثلاً للمنافقين الذين بالمدينة ، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقاً من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل فيهم شيء ، أو يذكروا بشيء ، فيقتلوا كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما) ( ).
ومن الأسرار الملكوتية في الآيات التي يتضمن تفسيرها وبيان شذرات من تأويلها هذا الجزء المبارك أنها تأمر بالقتال , ولكن الأحوال التي تنهى فيها عن القتال أكثر من جهة العدد والمفهوم وحال الموادعة والسلم وسكوت كل طرف عن الآخر ، لتكون كل منها مناسبة كريمة لإنتشار الإسلام ، لذا كان الكافر يرجع إلى أهله من حربه للإسلام فيفاجئ بدخول إبنه وإبنته الإسلام ، ومغادرة بعض أفراد أسرته مهاجراً إلى المدينة .
ومن إعجاز القرآن خلوه من لفظ السيف مع أنه كان حاضراً في الحياة اليومية للمسلمين وغيرهم ، ولا يكاد يفارق أحدهم في الحضر والسفر ويتبارى الناس في إختيار الجيد منه ، ويتغنى الشعراء بالسيف .
ومع ان عدد كلمات القرآن هو (77439 ألف كلمة ) سبع وسبعون ألف وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة ، فليس فيه كلمة السيف ، وهو من معاني الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان أن القتال في الإسلام عرض زائل وليس هو أصل مستديم أو عرض دائم . فلم تبدأ الدعوة الإسلامية بالسيف والقتال , بل سقط عدد من المسلمين الأوائل شهداء, ولم تكن معارك الإسلام الأولى إلا دفاعاً . وفيه حجة وبرهان على سنخية وصبغة السلام التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وقد تم التبليغ بالحكمة والبرهان, قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً]( ).
ومن فضل الله أني أقوم بتأليف وتصحيح ومراجعة أجزاء التفسير هذه وكتبي الفقهية والأصولية بمفردي , ليس معي إلا اللطف والعون من عند الله سبحانه, قال تعالى[وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا]( ).

 حرر في 4/6/ 2016
    28 شعبان 1437

لا أصل لنسخ آية السيف لمائة آية
يأتي النسخ في اللغة بمعنى الإكتتاب المشابه لكتاب موجود، وبمعنى إزالة أمر كان يُعمل به بحادث غيره، ويأتي بمعنى التبديل والرفع، ومحو الشيء والحلول محله كما يقال : نسخت الشمس الظل , إذا ظهر ضياؤها في ذات محل الظل .
أما في الإصطلاح فهو ورود حكم أو دليل شرعي بديلاً عن حكم أو دليل آخر سابق له لموضوعية الزمان , وأثر تبدل الحال في تبدل الحكم , والنسخ تخفيف ومندوحة في العمل , وفرع قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ).
والملاك في النسخ هو الرحمة والفضل من عند الله عز وجل وفي علم الفقه يقال بتناسخ الورثة ويراد منه موت طبقة ورثة بعد ورثة , والميراث لم يقسم بعد، كما لو مات زيد وعنده ولدان وترك داراً ومزرعة، ثم مات الولدان وبقي أولادهم وتركة زيد لم تقسم بعد وهكذا ، فيأخذ الأولاد وإن نزلوا حصة من يتقربون به [لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ]( )، من بعد دين أو وصية لزيد او لولديه والورثة الذين ماتوا , على ألا تتجاوز ثلث حصة المورث .
ولابد من شرائط للنسخ منها :
الأول : إتحاد الموضوع بين الآية الناسخة والمنسوخة .
الثاني : وجود تعارض وتناف بين مضمون الآية الناسخة والآية المنسوخة .
الثالث : تعذر الجمع بين الآيتين في الدلالة والمفهوم .
الرابع : معرفة تأريخ نزول كل من الآية الناسخة والمنسوخة ، وتقدم زمان الآية المنسوخة .
ويمكن تأسيس قانون وهو لو دار الأمر بين الجمع بين الآيتين من القرآن وبين النسخ بينهما , فالأولى والمقدم هو الأول ، وفيه مسائل :
الأولى : تترشح عن الجمع بين كل آيتين يقال بينهما النسخ علوم وفيوضات تنير دروب السالكين، وقد صدرت من هذا السِفر أجزاء تتعلق بصلة آية قرآنية بآية مجاورة لها( )، وفي الصلة بين شطر من آية وشطر من آية أخرى( ).
الثانية : من القوانين الملازمة للقرآن أن كل آية منه خزينة من العلوم ، ولا ينخرم هذا القانون بالناسخ والمنسوخ , والمجمل والمبين , والمحكم والمتشابه , ومنهم من قال أن المحكم هو الناسخ ، وأن المتشابه هو المنسوخ وليس بتام ، قال الله في الثناء على القرآن وآياته [كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ] ( ).
فكل آية من القرآن لها شأن خاص , وفيها علوم مستقلة ، وهو من الإعجاز في تقسيم القرآن إلى سور ، وكل سورة تتكون من آيات عديدة ، بين كل إثنتين منهما فاصلة لتقتبس هذه الفاصلة الأنوار البهية من وجوه :
أولاً : ذات السورة .
ثانياً : الآية التي تسبق الفاصلة .
ثالثاً : الآية التي تأتي بعد الفاصلة .
الثالثة : من خصائص الآية القرآنية بقاءها غضة طرية إلى يوم القيامة ، تدعو المسلمين للتزود منها بالمعارف , ومن وجوه إكرام وتشريف المسلمين قراءتهم سورة الفاتحة في الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني المركب ، أي بوجوب الصلاة ووجوب قراءة الفاتحة فيها .
وإن قلت نعم ، الصلاة واجبة وجوباً عينياً ، ولكن القراءة يتكفل بها الإمام في صلاة الجماعة والجمعة , والجواب هذا صحيح , ولكن ثواب القراءة يحتسب للمأموم كما لو أنه قرأ بنفسه .
الرابعة : تتضمن كل آية قرآنية الأمر أو النهي أو الحكم في منطوقها أو مفهومها لذا فلا يجوز تعطيل مضامينها القدسية باسم النسخ ونحوه تدعو الآية القرآنية المسلمين كل يوم إلى النهل من علومها ، وتجعل المؤمن يتنعم في رياضها الناضرة .
والقول بأن آية السيف [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) قد نسخت نحو مائة آية لا أصل له .
والنسخ هو رفع حكم شرعي بدليل وحكم شرعي مثله جاء بعده ، وإجماع علماء الإسلام على وقوع النسخ في آيات القرآن ولا عبرة بالقليل النادر ممن قال بمنع وقوع النسخ في القرآن كأبي مسلم الأصفهاني وهو معتزلي .
وقيل أن المراد من قوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا] ( ) إنما هو في نسخ أحكام الشرائع السابقة قبل بعثة النبي ، وأن كلمة ( آية ) في قوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ] لها معنيان :
الأول : الآيات القرآنية .
الثاني : الآيات الكونية ، كما قال تعالى [وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ] ( ) لبيان أن فائدة النسخ والمحو الرحمة وتوالي الفضل من عند الله عز وجل على الناس جميعاً .
وذكرت وجوه للنسخ منها :
الأول : نسخ التلاوة والحكم، بأن تنزل آية وتتضمن حكماً ثم ترفع هي وحكمها، وإن بقيت في الحافظة عند عدد من الصحابة .
الثاني : آيات نزلت ثم رفعت تلاوة وحكماً , ويسمى النسخ العام وتمحى من قلوب وأذهان الصحابة، منه ما ذكر بأن سورة الأحزاب كانت تعادل في طولها سورة البقرة .
الثالث : نزول آيات ثم رفعت في لفظها مع بقاء حكمها , ومنه آية الرجم، وروي عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال : لقد خشيت أن يطول الناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على من زنا، إذا أحصن وقامت البينة أو الحمل أو الإعتراف، وقد قرأتها : الشيخ والشيخة فارجموهما البتة، ألا وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورجمنا بعده ( ).
ويتضمن الخبر إخباراً عن فريضة أنزلها الله، وتجلت في السنة، وذكر أن السنة المتواترة تنسخ القرآن، بلحاظ أن كلاً منهما وحي من عند الله، والعمل بهما ملزم ، إنما السنة تنقص مرتبة عن القرآن لإعجازه.
وصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجم المحصن كما في خبر ماعز بن مالك الأسلمي وقد تقدم ذكره في الأجزاء السابقة ورجم المحصنة كما في حديث بريدة الذي كان جالساً عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاءته امرأة من غامد فقالت: يارسول إني زنيت فطهرني) ( ).
فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بردها بلحاظ أن هذا القول شهادة وإقرار لمرة واحدة، ولما كان من الغد، رجعت إلى رسول الله’ وقالت : يا رسول الله لم تردني لعلك (أن تردني كما رددت ماعزاً (فوالله إني لحبلى) ( )، عندئذ أمرها النبي , بأن تذهب حتى تلد مولودها، لعلها تلجأ للإستغفار , ولا ترجع إليه مرة أخرى وتنشغل برضاعة وحضانة ولدها وإدراكها أنه ليس له غيرها، ولكنه حفظ لها شهادتين بالزنا .
وما أن ولدته جاءت به إلى رسول الله في خرقة , وقالت : هذا قد ولدته.
قال النبي (إذهبي فارضعيه حتى تفطميه) ( )، فصارت ثلاث شهادات منها على نفسها , إلى جانب الحفاظ على حياة الصبي .
فلما فطمت الصبي من الرضاع جاءت به وبيده كسرة خبز للدلالة على أنه صار يأكل ، فقالت : هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام .
فتمت أربع شهادات ، وصار الصبي في غنى عن لبنها، فدفعه النبي إلى أحد المسلمين ، ثم أمر بها وحفرت لها حفرة إلى صدرها، وأمر الناس أن يرجموها (فَأَقْبَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَانْتَضَحَ الدّمُ عَلَى وَجْهِهِ فَسَبّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ” مَهْلًا يَا خَالِدُ فَوَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ ” ثُمّ أَمَرَ بِهَا فَصَلّى عَلَيْهَا وَدُفِنَتْ)( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : هل هذا الرجم نسخ لقوله تعالى[الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ]( ).
الثانية : هل هذا الرجم نسخ للجلد بخصوص الزنا، والجواب لا دليل على النسخ في المقام، ولم يثبت أن الغامدية محصنة بزواج , لأن الولد للفراش .
والمختار أن السنة لا تنسخ القرآن إذ لا يصح أن تؤخذ قضية في واقعة، ومسألة شخصية , وتكون بديلاً لقانون سماوي يتلوه المسلمون خمس مرات كل يوم بصيغة القرآنية , وهذه المسألة خارجة عن موضوع بحثنا وهو دعوى نسخ آية السيف لنحو مائة آية من القرآن.
الرابع : نسخ الحكم دون التلاوة، ويستدل عليه بآية النجوى بأن يتصدق الصحابي قبل القيام بمناجاة أو سؤال رسول الله ، ونسخ الحكم بقوله تعالى [أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ]( ).
وعن الإمام علي : إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } ( ) .
كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم ، فكنت كلما ناجيت النبي قدمت بين يدي درهماً ، ثم نسخت فلم يعمل بها أحد فنزلت { أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات}( ).
وعن مجاهد قال في الآية أعلاه : نهوا عن مناجاة النبيّ حتى يتصدّقوا ، فلم يناجه إلاّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام , قدّم ديناراً , فتصدّق به ثمّ نزلت الرخصة ( ).
ليكون إصطلاح نسخ الحكم دون التلاوة على نحو التسامح والبيان بلحاظ أنه لا نسخ في تلاوة آيات القرآن، وكذا فان الأحاديث تبين تعقب الرخصة للعزيمة، ونزول التخفيف بالحكم القرآني بحكم قرآني آخر.
وورد الحديث بذكر النسخ في المقام , إذ أخرج ابن إبي حاتم وابن مردويه عن الإمام علي عليه السلام قال : ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت وما كانت إلا ساعة يعني آية النجوى ( ).
فالمنسوخ هو ذات الصدقة , ليكون في الآية تأديب لأجيال المسلمين في معرفة قدسية مناجاة الرسول وما فيها من المنافع العظيمة، وقد تفضل الله عز وجل وبينّها في القرآن .
وجاءت السنة بها فيستطيع المسلم أن يبقى في مناجاة مع الرسول محمد حياته كلها من غير أن يتصدق لخصوص المناجاة.
والمائز بين الآية المحكمة والمنسوخة فان الأخيرة لا يعمل بها مع التعبد بتلاوتها .
ويمكن تقسيم النسخ إلى أقسام :
الأول : النسخ الجهتي بأن يتعلق بجانب من مضامين الآية المنسوخة والغايات الحميدة التي فيها، ولو دار الأمر بين كون النسخ على نحو الموجبة الكلية أو الجزئية , فالمختار هو الثاني، وهو من أسرار بقاء تلاوة الآية في القرآن ولزوم الغوص في بحار علومها.
الثاني : النسخ بمعنى التخصيص , وفيه شواهد وأخبار .
الثالث : النسخ التام في موضوع الآية، أما بالنسبة لزمان ومكان العمل بالآية المنسوخة فلا دليل على ثبوت النسخ الإستغراقي فيه، فقد يأتي يوم يعمل به بأحكام شطر من الآيات المنسوخة.
لذا فإن القول بأن آية السيف نسخت مائة آية لا يتم في المقام , إذ تبقى كل آية في القرآن تدعو المسلمين والعلماء منهم , للعمل بها عند وجود المقتضي وفقد المانع، خاصة وأن أكثر هذا النسخ لم يثبت , وورد بتأويل وتفسير من رجال التفسير من التابعين أو تابعي التابعين وتناقله الذين من بعدهم .
ونفى السيوطي بشدة نسخ آية السيف لمائة آية وحصر النسخ بين آيات القرآن كلها بنحو عشرين آية , وحتى هذه الآيات أورد في عدد منها إحتمال أنها محكمة وغير منسوخة .
وقال فمن البقرة [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ] ( ) الآية منسوخة، قيل بآية المواريث، وقيل بحديث ألا لا وصية لوارث , وقيل بالإجماع حكاه ابن العربي.
قوله تعالى [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ] ( ) قيل منسوخة بقوله [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( )وقيل محكمة ولا مقدرة.
قوله [ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ] ( ) ناسخة لقوله[كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( ) لأن مقتضاها الموافقة فيما كان عليهم من تحريم الأكل والوطء بعد النوم، ذكره ابن العربي. وحكى قولاً آخر أنه نسخ لما كان بالسنة قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ] ( ) الآية منسوخة بقوله [وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً] ( ) ، أخرجه ابن جرير عن عطاء بن ميسرة. قوله تعالى [وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ] ( )إلى قوله[ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ ]منسوخة بآية ( أربعة أشهر وعشراً ) .
والوصية منسوخة بالميراث، والسكنى ثابتة عند قوم منسوخة عند آخرين بحديث ولا سكنى قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم أوتخفوه يحاسبكم به الله )منسوخة بقوله بعده [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا] ( ).
ومن آل عمران قوله تعالى [اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] ( ) قيل إنه منسوخ بقوله [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] ( ) وقيل لا بل هو محكم، وليس فيها آية يصح فيها دعوى النسخ غير هذه الآية.
ومن النساء قوله تعالى [وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ] ( ) منسوخة بقوله [وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ] ( ).
قوله تعالى [وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ] ( )، قيل منسوخة ، وقيل لا، ولكن تهاون الناس بالعمل بها.
قوله تعالى [وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ] ( )الآية منسوخة بآية النور من المائدة.
قوله تعالى [وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ] ( ) منسوخة بإباحة القتال فيه.
قوله تعالى [فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ] ( ).منسوخة بقوله [وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ] ( ).
قوله تعالى[آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ] ( ) منسوخ بقوله [وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ] ( ) ومن الأنفال قوله تعالى [إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ] ( )الآية منسوخة بالآية بعدها.
ومن براءة قوله تعالى [انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً] ( )منسوخة بآية العذر وهو قوله [لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ] ( )الآية. وقوله [لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ] ( ) الآيتين، وبقوله [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً]( ).
ومن النور قوله تعالى [الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً] ( )الآية منسوخة بقوله [وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ] ( ) .
قوله تعالى [لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ] ( ) الآية، قيل منسوخة، وقيل لا، ولكن تهاون الناس في العمل بها.
ومن الأحزاب قوله تعالى [لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ] ( ) الآية منسوخة بقوله [إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ] ( ).
ومن المجادلة قوله تعالى [إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا] ( ) الآية منسوخة بالآية بعدها.
ومن الممتحنة قوله تعالى [فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنفَقُوا] ( ) قيل منسوخ بآية السيف، وقيل بآية الغنيمة، وقيل محكم.
ومن المزمل قوله [قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً ] ( ) منسوخ بآخر السورة، ثم نسخ الآخر بالصلوات الخمس.
فهذه إحدى وعشرون آية منسوخة على خلاف في بعضها لا يصح دعوى النسخ في غيرها، والأصح في آية الاستئذان والقسمة الأحكام فصارت تسعة عشر.
ويضم إليها قوله تعالى [فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ] ( ).
على رأي ابن عباس أنها منسوخة بقوله [فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]( ) الآية، فتمت عشرون، وقد نظمتها في أبيات فقلت :
وقد أكثر الناس في المنسوخ من عدد … وأدخلوا فيه آيا ليس تنحصر
وهاك تحرير أي لا مزيد لها … عشرين حررها الحذاق والكبر
آي التوجه حيث المرء كان وإن … يوصي لأهليه عند الموت محتضر
وحرمة الكل بعد النوم مع رفث … وفدية لمطيق الصوم مشتهر
وحق تقواه فيما صح في أثر … وفي الحرام قتال للألى كفروا
والاعتداد بحول مع وصيتها … وإن يدان حديث النفس والفكر
والحلف والحبس للزاني وترك أولى … كفروا شهادهم والصبر والنفر
ومنع عقد لزان أو لزانية … وما على المصطفى في العقد محتظر
ودفع مهر لمن جاءت وآية نج … واه كذاك قيام الليل مستطر
وزيد آية الاستئذان من ملكت … وآية القسمة الفضلى لمن حضروا)( ).
وبلحاظ أن أكثر الآيات المنسوخة على قول السيوطي لا تتعلق بالمهادنة والمواعدة والصفح منسوخة بآيات متصلة معها في الموضوع , وليس بآية السيف التي لم يذكرها كناسخ إلا بخصوص آية واحدة , ذكرها أعلاه على نحو الإحتمال والقيل من وجوه ثلاثة , وهو تضعيف له .
ولا يصح النسخ في الأخبار، إنما يقع في أحكام الحلال والحرام.
فذكر بخصوص قوله تعالى[فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنفَقُوا]( )، ثلاث وجوه :
أولاً : الآية منسوخة بآية السيف.
ثانياً : نسخ الآية بآية الغنيمة وهو قوله تعالى[وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابن السَّبِيلِ]( )، ولكن القدر المتيقن من الآية أعلاه وقوع الغنائم والمكاسب بيد المسلمين لتخرج الحقوق التي ذكرت في القرآن منها بالتخصيص.
ثالثاً : الآية محكمة ، وهو المختار , إذ لم يرد دليل ينقض الحكم الوارد في الآية .
وفي حجة الوداع في السنة التاسعة للهجرة , قال رسول الله : ألا أخبركم بالمؤمن ، من أمنه الناس على أموالهم ، وأنفسهم ، والمسلم من سلم الناس من لسانه ، ويده ، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله ، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب ( ).
ترى لماذا تبقى الآية في القرآن على فرض رفع الحكم الوارد فيها بآية ناسخة له، الجواب من وجوه :
الأول : بيان ما بين الدفتين من التنزيل.
الثاني : تجلي الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله سلم بتبدل الحكم إذا تغير الموضوع.
الثالث : إرادة قاعدة تقديم الأهم على المهم، في العمل بأحكام آيات القرآن.
الرابع : بيان جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ الرسالة ونشر الدعوة الإسلامية، والصبر الذي يتصف به، وجهاد أهل البيت والصحابة.
الخامس : الثناء على أهل البيت والصحابة بتلقيهم الآية القرآنية بالقبول والعمل، فإذا جاء الناسخ إنتقلوا للعمل به من غير شك أو ريب أو تردد , مع الحرص على تعاهد تلاوة الآية المنسوخة , وإن كان أكثر القول النسخ وذكر آيات منسوخة كان في عهد التابعين , وإن الذين قالوا بآيات منسوخة من الصحابة قليل عددهم , وقليلة هي الآيات التي قالوا بنسخها .
السادس : تلاوة وحفظ الآية المنسوخة من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] ( ).
السابع : من خصائص الناسخ مجيؤه متأخراً زماناً عن المنسوخ، وتلك المدة الزمنية بينهما مناسبة لبلوغ الصحابة مرتبة من الفقاهة.
الثامن : في الناسخ والمنسوخ دعوة للناس للإيمان، والتدبر في أسرار وذخائر القرآن.
التاسع : يبعث علم الناسخ والمنسوخ الفزع والرعب في قلوب الذين كفروا لما فيه من العلوم , وتجدد الأحكام.
العاشر : في النسخ القرآني وعيد للمنافقين والذين كفروا لصيرورتهم في حال خشية وخوف من نزول آيات من القرآن تفضحهم وتخزيهم.
الحادي عشر : في الناسخ والمنسوخ توثيق للوقائع والأحداث، وإخبار سماوي عن حال المسلمين , وما لاقوه من الأذى في جنب الله .
وعرف النسخ في الإصطلاح بأنه رفع حكم شرعي بحكم شرعي مثله مع تراخيه عنه، أو هو الخطاب الدال على إرتفاع الحكم الثابت بخطاب آخر متأخر عنه زماناً .
والمختار أن هذه التعاريف لا تفيد مطابقة المعنى الإصطلاحي للنسخ، وكذا بالنسبة لأكثر التعريفات .
فالنسخ على وجوه:
الأول : رفع حكم شرعي في القرآن بحكم شرعي في القرآن مثله.
الثاني : رفع حكم شرعي من السنة النبوية بحكم شرعي من القرآن، ومنه تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام , قال تعالى[وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ]( ).
الثالث : نسخ الحكم الشرعي الوارد في القرآن بحديث متواتر من السنة النبوية.
والمختار أن المراد من النسخ هو الأول أعلاه، أما تحويل القبلة فهو من النسخ العملي في العبادات , وليس من القرآني ، فلم ترد آية في القرآن تذكر إستقبال المسلمين بيت المقدس , ولم يذكر القرآن إلا قبلة واحدة وهي البيت الحرام , نعم أشارت آيات القرآن إلى وجود قبلة أولى , قال تعالى[وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ]( ).
وأستدل على النسخ بقوله تعالى[سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا]( )، ولكن النسخ في الإصطلاح القرآني هو وجود آيتين في القرآن إحداهما ناسخة والأخرى منسوخة، إنما تخبر الآية أعلاه عن نسخ حكم غير مذكور في القرآن، فهذه الآية ليست ناسخة لغيرها من آيات القرآن .
وورد (عن ابن عباس : قال : أول آية نسخت من القرآن القبلة ، ثم الصلاة الأولى) ( ).
وأما الثالث فالمختار أن السنة النبوية لا تنسخ القرآن ولا يترتب حكم وقانون على فرض وجود مسألة أو مسائل قليلة فيها إختلاف .
الرابع : نسخ التلاوة بأن ترفع القراءة ، وورد عن أنس قال (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقواماً من بني سليم إلى بني عامر في سبعين , وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث خال أنس أخاً لأم سليم واسمه حرام في سبعين راكباً فلما قدموا قال لهم خالي ( أتقدمكم فإن أمنوني حتى أبلغكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلاّ كنتم مني قريباً فتقدم فأمنوه فبينما هو يحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ أومؤوا إلى رجل منهم فطعنه فأنفذه فقال : الله أكبر فزت ورب الكعبة ثم مالوا على بقية أصحابه فقتلوهم إلاّ رجلاً أعرج صعد الجبل )( ) وقيل نجى معه رجل آخر .
فأخبر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنهم قد لقوا ربهم فرضي عنهم وأرضاهم .
قال فكنا نقرأ : أن بلغوا قومنا إن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم نسخ بعد فدعا عليهم أربعين صباحاً على رعل وذكوان وبني عصية الذين عصوا الله ورسوله) ( ).
وفي باب النسخ ذكرت مسألة الرضاعة، إذ ورد عن عائشة قالت : كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات فَنُسِخْنَ بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن.
وأخرج عبد الرزاق عن عائشة قالت : لقد كانت في كتاب الله عشر رضعات ثم رُدَّ ذلك إلى خمس ، ولكن من كتاب الله ما قبض مع النبي صلى الله عليه وسلم .
وأخرج ابن ماجه وابن الضريس عن عائشة قالت : كان مما نزل من القرآن سقط لا يحرم إلا عشر رضعات أو خمس معلومات .
وأخرج ابن ماجه عن عائشة قالت : لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً ، ولقد كان في صحيفة تحت سريري . فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها .
وأخرج عبد الرزاق عن ابن عمر : أنه بلغه عن ابن الزبير أنه يأثر عن عائشة في الرضاعة لا يحرم منها دون سبع رضعات . قال : الله خير من عائشة ، إنما قال الله تعالى { وأخواتكم من الرضاعة } ولم يقل رضعة ولا رضعتين) ( ).
والأصل في مباحث موضوع النسخ هو الذي قد يقع بين آيات القرآن التي بين الدفتين.
ومن علوم تعضيد الآية القرآنية للآية الأخرى قوله تعالى[وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ]( )، إذ تدل على أن موضوعها هو آيات القرآن، وفيه رفع لحكم أو تلاوة وإثبات لغيره .
وعن أبي البختري قال : دخل علي بن أبي طالب عليه السلام المسجد فإذا رجل يخوّف فقال : ما هذا؟! فقالوا : رجل يذّكر الناس . فقال : ليس برجل يذكر الناس ولكنه يقول أنا فلان بن فلان فاعرفوني ، فأرسل إليه فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ .
فقال : لا .
قال : فاخرج من مسجدنا ولا تذّكر فيه ( ).
والمختار وجود النسخ في القرآن , ولكن لابد أن يتم بدليل نقلي جلي في كل آية منسوخة ، وهذا النسخ لا يمحو مضامين وأحكام الآية المنسوخة بل تبقى في طولها ، ولها موردها وإن إنحسر وقلّ ، ولكنها تظل حية طرية، وقد يحتاج المسلمون العمل بها عند إجتماع شرائطه أو عند الضرورة والحال الملائم لها ، وهو من التخفيف عن المسلمين .
وقوله تعالى [فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ] ( ) شاهد على هذا المعنى إذ أن الليل باق في ذات المدة الزمنية التي جعلها الله عز وجل خاصة به لم يمح ذات الليل ونفعه وأثره .
وذكر بعض علماء التفسير أن آية السيف وهي [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) نسخت نحو مائة آية, ولم يرد لفظ السيف في الآية أعلاه , ولا في أي آية من القرآن وأطلق بعض الذين إتبعوهم قولهم إطلاق المسلمات , وليس من دليل عليه , ولعل ضرره أكثر من نفعه , خاصة في هذا الزمان وحال تداخل الأمم , لقانون الملازمة بين الضرر وعدم الدليل , أو أن الدليل بخلافه .
وكل آية كنز للعلوم فلا تعطل خزائنها والإستنارة بذخائرها , ولو على نحو السالبة الجزئية بالقول بالنسخ من غير دليل .
ومن الآيات التي قيل أنها نسخت قوله تعالى [اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] منسوخة بقوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] ( ) أي بمقدار الإستطاعة والإمكان ، ولا تعارض بين الآيتين .
إنما يدل الجمع بين الآيتين على اللطف من عند الله بالمسلمين ، وأنه يقبل منهم حدّ الإستطاعة ويكتبه لهم [حَقَّ تُقَاتِهِ] وغاية التقوى ومنتهى حدها ، وهو من الشكر الجزيل منه تعالى للمسلمين على هدايتهم وإيمانهم وصلاحهم ، وفيه ترغيب للناس لدخول الإسلام فيجازيهم الله بأن يجعل حد الإستطاعة في التقوى وطاعة الله هو حق تقاته ، وفيه رضاه سبحانه عنهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بتقريب أن الله عز وجل يعد الناس جميعاً بأن من يدخل الإسلام فلا يأمره بالتشديد على نفسه ولا يكلفه بذل الجهد والعناء الشديد في أداء الأفعال العبادية بل يقبل منه قدر إستطاعته وما يتمكن عليه من عمل الصالحات .
ومن وجوه الجمع بين الآيتين : فاتقوا الله ما استطعتم وأتقوا الله حق تقاته ).
أي يبذل المسلمون الوسع في تقوى الله والخشية منه ، فيكون حد الإستطاعة مصداقاً لحق التقوى ، وأسمى معانيها ، وهو من اللطف الإلهي في التكليف , ومرة يأتي المسلم بمصداق التقوى , وأخرى يبلغ بها غاية المجهود .
وقد ورد ذات معنى الإستطاعة في فريضة الحج بقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) فمع أن الحج من أركان الإسلام فقد قيده الله عز وجل بالإستطاعة ليكون من معاني هذا القيد البشارة باستطاعة المسلمين أداء حج بيت الله الحرام ، وكذا جاء قيد الإستطاعة في تهيئة مقدمات القتال , بقوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ] ( ).
ومن الإعجاز أن كل فرد من التقوى والحج والإعداد للدفاع من معاني التكليف والجهاد في سبيل الله ، وبين التقوى والحج نسبة العموم والخصوص المطلق فالحج مناسكه من التقوى وليس العكس .
ومن مصاديق التقوى فيه قوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ]( ).
ومن العلوم المستحدثة في هذا السفر الدعوة للتدبر في كامل كلمات ومعاني الآية التي يُذكر أنها ناسخة أو منسوخة , وبالنسبة للمقام فان تمام الآية المنسوخة هو [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ).
إذ إبتدأت بنداء الإيمان لبيان رضا الله عز وجل عن المسلمين بدخولهم الإسلام وأدائهم الفرائض وليكون من معاني [اتَّقُوا اللَّهَ] أمور :
الأول : الثبات على الإسلام.
الثاني : التنزه عن الإرتداد والنكوص ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( ).
الثالث : تعاون وتعاضد المسلمين في سبل الخير والفلاح ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( ) بلحاظ كبرى كلية وهي أن من معاني المسارعة في المقام التعاون والتآزر والسعي في المعروف والحث على الإحسان .
وعن سهل بن سعد قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الدال على الخير كفاعله) ( ).
الرابع : الخوف والخشية من الله ورجاء ما عنده ، والإكتفاء بفضله وشكره على النعم الظاهرة والباطنة .
وعن أنس بن مالك (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في قوله [هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ] ( ) قال : يقول ربكم : أنا أهل أن أتقى أن يجعل معي إله غيري , ومن اتقى أن يجعل معي إلها غيري فأنا أهل أن أغفر له) ( ).
الخامس : من التقوى إستحضار العبد لليوم الآخر وأهوال يوم القيامة.
وبعد نداء الإيمان في آية ( حق تقاته ) أعلاه جاء قوله تعالى [اتَّقُوا اللَّهَ] ويفيد معنى الوجوب من جهات :
الأولى : التقوى مصداق العبادة التي هي علة خلق الناس ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
الثانية : مجئ الأنبياء بالأمر بتقوى الله ، فليس من نبي إلا ويأمر قومه جهرة بتقوى الله ، مما يدل على عدم التقية أو الحذر من القوم الكافرين في هذا الأمر ، فلابد أن يتوجه الأنبياء إلى جميع أفراد قومهم الكبير والصغير والذكر والأنثى ، والغني والفقير ، والأمير والمأمور بأن يتقوا الله ، وهو أبهى وأحسن معاني النصيحة .
كما جاءت الوصية بالتقوى من عند الله لأهل الكتاب ، قال تعالى [وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا] ( ).
فورد في نبي الله نوح أمره لقومه بتقوى الله وطاعة النبي كما جاء في التنزيل ، [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ] ( ).
كما ورد على لسان هود مع قومه عاد بقوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ] ( ).
وكذا بالنسبة لنبي الله صالح [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ] ( ).
ونبي الله شعيب [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ] ( ).
ونبي الله عيسى [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ] ( ).
أما بالنسبة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد تكرر الأمر من عند الله للمسلمين بتقوى الله وطاعته وطاعة رسوله ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) وتفضل الله عز وجل وأكرم المسلمين بأن أمرهم بتقوى الله حق تقاته ، ومنها طاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : الأصل في الأمر هو الوجوب إلا أن يدل دليل على الندب .
الرابعة : ملازمة أمر الله بالتقوى لوجود الإنسان في الأرض ، فان قلت هل ورد في القرآن ما يدل على أمر الله لآدم بتقوى الله ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : تلقي الأمر بالتقوى بقوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ).
الثانية : سكن آدم في الجنة وصحبته للملائكة .
الثالثة : كان أكل آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما الله عنها لهما درساً ومصداقاً حاضراً للزوم تعاهد التقوى ، وتأديب أولادهما على سنن الخشية من الله ، وعدم مغادرة مقامات التقوى ، لأن في مغادرتها الحسرة والخسران .
الرابعة : عندما أمر الله بهبوط آدم وحواء وإبليس من الجنة , قال سبحانه [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
لبيان أن التقوى وسيلة النجاة في الدنيا والآخرة ، ومن معاني الهدى الأمر بالتقوى ، وإجتناب فعل السيئات.
وعن ابن عباس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال إبليس لربه تعالى : يا رب قد أهبط آدم ، وقد علمت أنه سيكون كتاب ورسل ، فما كتابهم ورسلهم؟ قال : رسلهم الملائكة والنبيون ، وكتبهم التوراة والإِنجيل والزبور والفرقان .
قال : فما كتابي ؟ قال : كتابك الوشم ، وقراءتك الشعر ، ورسلك الكهنة ، وطعامك ما لم يذكر اسم الله عليه ، وشرابك كل مسكر ، وصدقك الكذب ، وبيتك الحمّام ، ومصائدك النساء ، ومؤذنك المزمار ، ومسجدك الأسواق ) ( ).
الخامسة : أخبر القرآن عن نزول الأمر بالتقوى على الأنبياء وقيامهم بدعوة قومهم إلى الخشية من الله ، وإتخاذ هذه الخشية قانوناً يتغشى حياتهم اليومية ليكون سبيلاً للنجاة يوم القيامة .
(عن أبي أمامة : أن أبا ذر قال : يا نبي الله أي الأنبياء كان أوّل؟ قال : آدم . قال : أوَ نبي كان آدم؟ قال : نعم . نبي مكلم ، خلقه الله بيده ، ثم نفخ فيه من روحه ، ثم قال له يا آدم قبلاً . قلت : يا رسول الله كم وفى عدة الأنبياء؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً . الرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشر . جماً غفيراً ) ( ).
لقد إبتدأت الآية بنداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] وفيه دعوة للمسلمين لتعاهد مضامين الآية ، وهل في نداء الإيمان في الآية دلالة على عدم النسخ فيها ، الجواب لا ، إلا أنه أمارة على بقاء مضامينها تندب المسلمين للعمل بها ، وهو من الإعجاز في إختصاص تسع وثمانين آية من القرآن بورود نداء الإيمان فيها .
كما يمكن أن تكون الآية إنحلالية بما لا يتعارض مع النسخ بينها وبين قوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] بتقدير الآية على وجوه :
الأول :يا أيها الذين آمنوا ) وهذا النداء باعث على التقوى والخوف من الله عز وجل بالتقيد بسنن الإيمان .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتكن هذه التقوى حق تقاته ) وبما يناسب مقام الربوبية ، وتفضله عليكم بالهداية إلى الإيمان ، فمن دلائل إختصاص المسلمين بين الموحدين من الأمم المتعاقبة بالتفضيل تقييد الأمر لهم بالتقوى باتصافه بمائز وهو [حَقَّ تُقَاتِهِ ]لأن النعم التي رزقها الله المسلمين لم تنلها أمة أو أهل ملة أخرى .
ليكون من معانيه أمور :
أولاً : وجوب شكر المسلمين لله عز وجل ومواظبتهم على هذا الشكر.
ثانياً : إجتهاد المسلمين في طاعة الله ، وهو سبيل لتعاهد سنن التوحيد في الأرض .
ثالثاً : من معاني [حَقَّ تُقَاتِهِ] توارث المسلمين إخلاص الطاعة لله عز وجل بلحاظ تراكم سنن التقوى ، فليس من أمة تتقي الله في الأرض في الأحقاب المتعاقبة مثل المسلمين ، إذ أن خشيتهم من الله دائمة ومتجددة إلى يوم القيامة .
ليكون من معاني [حَقَّ تُقَاتِهِ] الكيف والكم في التقوى تعاهد أجيال المسلمين لتقوى الله ، وحرصهم على الخشية منه في كل زمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
لبيان الملازمة بين الإيمان والتقوى ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : كل من آمن متق .
الصغرى : المسلمون آمنوا .
النتيجة : المسلمون متقون .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ) وفيه حجة على الذين كفروا الذين يضمرون العداوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويسعون في محاربتهم وقتالهم .
وتبين الآية أن التقوى سبيل للنجاة من كيد الكافرين ، ومن التقوى الصبر وتحمل الأذى وعدم التعدي على الغير ، ويتجلى بالنهي القرآني عنه بدليل قوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
الرابع : تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) لبيان أن من أسرار تعاهد التقوى البقاء على الإسلام إلى حين الوفاء ، لأن التقوى ملكة في فعل الصالحات والوقاية من السيئات ، فيكون المسلم منقطعاً إليها ، حريصاً على عدم الخروج عن مصاديقها المتكثرة .
ليكون من وجوه تقدير الآية أمور :
الأول :أيها المسلمون تعاهدوا الإيمان لتغادروا الدنيا على الإسلام .
الثاني : يا أيها المسلمون يجب أن تحافظوا على الإسلام بالثبات على الشهادتين ، وأداء الفرائض والصبر في مرضاة الله .
الثالث : يا أيها المسلمون إن أهل الأرض محتاجون لبقائكم على الإسلام ، وعدم مغادرة الدنيا إلا بكلمة التوحيد , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) .
الرابع : من مصاديق تقوى المسلمين عدم موت أي منهم إلا على الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الخامس : التقوى سبيل الفوز في الآخرة بالجنة الواسعة ، وتفضل الله عز وجل وأخبر المسلمين بأن الموت على الإسلام هو مصداق التقوى ، قال تعالى [وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ] ( ).
ولما أخبر الله تعالى عن نيل المسلمين أعظم مرتبة بين أهل الأرض بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمْ الدِّينَ] ( ) فانه سبحانه أمرهم بالحد الأعلى من التقوى ، وهل يكون هذا الأمر سبباً لإمتناع فريق من الناس عن دخول الإسلام لما فيه من شدة التكاليف ، الجواب لا ، بدليل ورود قوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ]( ) وفيه ترغيب للناس بدخول الإسلام , ومن خصائص الأمر بالتقوى بعث الشوق في النفوس لأداء الفرائض العبادية , والتقيد بشرائطها .
ومن أسرار نفخ الله الروح في آدم كما في قوله تعالى [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( )هو ميل الإنسان لأداء التكاليف وعدم نفرته منها .
لذى ترى المسلمين إستقبلوا قوله تعالى [اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ]بالقبول والرضا والغبطة والإستجابة والإجتهاد في مرضاة الله , ولم يجمع علماء الإسلام على أن الآية منسوخة وحتى على القول بأنها منسوخة فهذا النسخ جهتي ولا يحول دون إجتهاد المسلمين في سبل التقوى مجتمعين ومتفرقين ،
وكما تقدم فان الدنيا دار (دار التقوى ) ليكسب فيها المسلمون الحسنات ويكون كل واحد منهم داعية إلى الله ، وفي التنزيل [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ …] ( ).
ويفيد لفظ (اتقوا الله) الإطلاق، ومنه بلوغ التقوى حد المنتهى، فحتى إذا لم يأت وصف (حق تقاته) فان الآية تدل عليه إذ وردت الصفة وهي(حق) مضافة إلى موصوفها وهو التقوى للمبالغة وتمكن الصفة، وبيان لزوم الإجتهاد في طاعة الله والخشية منه في آنات الزمان وأفراد الأفعال الشخصية والنوعية أي التي يأتي بها الفرد، والتي تأتي بها الجماعة من المسلمين .
ويكون ذات الفعل من مصاديق حق التقوى، كما في صلاة الجمعة والجماعة، فان تعاهدها في أوقاتها من أسمى مراتب التقوى والخشية من الله عز وجل .
فمن اللطف الإلهي في التكاليف العبادية أن كل فرد منها من غاية التقوى , وشاهد عملي حاضر ومتجدد على الخشية من الله عز وجل، وليكون من معاني قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ]( )، بلوغ غاية التقوى بتعاهد صلاة الجمعة , ووردت في أجرها نصوص كثيرة وكذا في صلاة الجماعة .
وعن ابن عباس قال : سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : من حافظ على هؤلاء الصلوات المكتوبات في جماعة ، كان أول من يجوز على الصراط كالبرق اللامع ، وحشره الله في أول زمرة من التابعين ،
وكان له في كل يوم وليلة حافظ عليهن كأجر ألف شهيد قتلوا في سبيل الله ( ).
وهل يصح تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته بأداء الفرائض والعبادات، الجواب نعم، إلا أن هذا الأداء مصداق من مصاديق التقوى التي تنبسط على أفعال المسلم في الحياة الدنيا.
ترى ما هي النسبة بين (اتقوا الله حق تقاته) وبين (فاتقوا الله ما استطعتم) فيها وجوه :
الأول : نسبة التساوي وان حق التقوى هو ذاته قدر الإستطاعة لقوله تعالى[لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]( ).
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق، وأن حق التقوى من مصاديق وعمومات التقوى، أما الإستطاعة فليست من مرتبة حق التقوى.
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق.
والظاهر من دلالة الإلفاظ هو الثاني، فلذا قيل بالنسخ بين الآيتين، إلا أن الجمع بينهما ممكن وليس من تعارض بينهما , وفي الصلة بين الآيتين أقوال :
الأول : ورد عن ابن مسعود (اتقوا الله حق تقاته) قال : نسختها(فاتقوا الله ما استطعتم) ومثله ورد عن أنس بن مالك.
الثاني : إرادة التخفيف عن المسلمين كما ورد (عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت هذه الآية اشتد على القوم العمل ، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم ، وتقرحت جباههم ، فأنزل الله تخفيفاً على المسلمين { فاتقوا الله ما استطعتم} فنسخت الآية الأولى( ).
الثالث : الآية محكمة، ولم يقع النسخ فيها، وهو الوارد عن ابن عباس في قوله { اتقوا الله حق تقاته } قال : لم تنسخ ولكن { حق تقاته } أن يجاهدوا في الله حق جهاده ، ولا تأخذهم في الله لومة لائم ، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم( ).
كما ورد عن ابن عباس القول بوقوع النسخ بين الآيتين في قوله تعالى[اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] أن يطاع فلا يعصى، فلم يستطيعوا قال الله [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ].
ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على النسخ بين الآيتين أو الجمع بينهما في موضوع واحد بما يفيد الأمارة أو الإشارة إلى النسخ بينهما ، إذ ورد بالإسناد عن ابن مسعود أنه قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } أن يُطَاعَ فَلا يُعْصَى، وَيُشْكَرَ فَلا يُكْفَرَ، ويُذْكَر فَلا يُنْسَى”.) ( ).
ويدل هذا الحديث بالدلالة التضمنية على إستدامة العمل بمضامين الآية بلزوم إجتماع المسلمين في طاعة الله ، وعدم تعارض الآية مع تقوى الله على نحو الإستطاعة والإمكان .
وروى عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أن الآية منسوخة بقوله تعالى [اتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] ( ).
الرابع : ورود التفسير لقوله تعالى [اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] من غير ذكر لموضوع النسخ في الآية ، لإفادة البعث على بذل الوسع في طاعة الله , فورد عن عبد الله بن مسعود أنه قال (“اتقوا الله حق تقاته”، قال: أن يطاع فلا يُعصي، ويُذكر فلا يُنسى، ويشكر فلا يُكفر) ( ).
وعن الحسن في الآية : قال [حَقَّ تُقَاتِهِ] أن يطاع فلا يعُصى .
وهو الوارد عن السدي وقتادة ( ).
وهل يمكن إحتساب تفسير هذه الآية بالمعنى أعلاه ومن غير ذكر للنسخ بقيد الإستطاعة أن الآية غير منسوخة ، الجواب لا ، إلا مع القرينة الدالة عليه .
ويفيد الجمع بين الآيتين أموراً :
الأول : حث المسلمين على بذل الوسع في تقوى الله .
الثاني : دعوة المسلمين للتعاون والتآزر في طاعة الله .
الثالث : بعث المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يجعلهم يبلغون أسمى مراتب التقوى .
الرابع : التخفيف عن المسلمين في مقامات التقوى والخشية من الله .
الخامس : بيان فضل الله عز وجل بالرضا عن المسلمين بالقليل من الطاعة والتقوى .
السادس : تفيد كل من الآيتين وعلى نحو الإستقلال الزجر عن فعل المعاصي والسيئات ، وتأكد كل واحدة منهما الأخرى .
وفي الجمع بين الآيتين مصداق للنسخ في القرآن وأنه لا يمحي الآية المنسوخة بل تبقى لها موضوعيتها في الحكم ، ويمكن تقسيم النسخ إلى أقسام منه نسخ التخفيف والذي تتضمن معه الآية الناسخة التخفيف عن المسلمين ، فتبقى الآية المنسوخة تدعو المسلمين لبذل الوسع والإجتهاد بطاعة الله , ومراقبة النفس والجوارح , مع التسليم بكفاية حد التخفيف ، وأن الكثرة في طاعة الله ليس لها حد من طرف الكثرة .
ومن معاني الجمع بين الآيتين النهي عن فعل المعاصي وعدم الخلط بين فعل الطاعات والسيئات .
والمختار أن قوله تعالى [اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] منسوخة على نحو جهتي ولكن هذا النسخ لا يمنع من العمل بمضامينها ، فالعمل بها باق في طول العمل بقوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] إلى يوم القيامة ، وهو من الإعجاز في الجمع ما بين الدفتين وأن نسخ التخفيف باب للتيسير ومنع من الحرج ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] ( ) , وموضوعية الآيات التي تندب للتوبة والإستغفار .
كما أنه يلائم كثرة الأفواج والأمم التي دخلت الإسلام وموافقة السعة والتخفيف في الأحكام لكثرة أعداد المسلمين من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بلحاظ أمور :
الأول : من الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة الناس للإسلام .
الثاني : عموم الدعوة لدخول الإسلام وشمولها لجميع الناس ، وعدم حصرها بالعرب أو قومية مخصوصة .
الثالث : لا تنتهي معاني الرحمة بدخول الإنسان الإسلام ، بل تأتيه شآبيب الرحمة دفعة وتدريجياً ، لذا يدرك المسلم أن نعماً متجددة تبلغه كل يوم تتجلى مصاديق وشواهد ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الإسلام ، ولتكون هذه النعم مقدمة لإرتقاء المسلم في منازل التقوى سواء حسب القدرة والإستطاعة أو بلوغ مراتب قوله تعالى [حَقَّ تُقَاتِهِ] .
وإن قلت أن الأصل هو ترتب العمل على الناسخ وحده وليس على المنسوخ ، الجواب لا دليل على هذا الأصل ، ولا يثبت إلا مع الدليل ، وهو مفقود في المقام .
ويدل قوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا] ( )على أن المثلية بين الناسخ والمنسوخ تفيد عدم التعارض بينهما ، وأن العمل بالمنسوخ في طول الناسخ ، ليكون المسلم بالخيار ، وفيه رفع الحرج عنه في العبادات وعدم جعله في ضيق وإرباك ، كما يتعلق اسم التفضيل [خَيْرٍ]في عمل المسلم ، أي خير منها في العمل من جهة الثواب العظيم في الناسخ ، وما فيها من التخفيف وأسباب المداومة على الفعل العبادي مع التخفيف , ويكون لفظ [مِثْلِهَا] أي في أداء الفرائض والعبادات ليمتاز الناسخ بالسعة والمندوحة في عمل المسلم بأن يستطيع أن يعمل بمثل ما كان يعمل قبل نزول الناسخ وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [مِثْلِهَا] أو أن يعمل بالمنسوخ والناسخ بعد نزول الناسخ ، وهو الذي يدل عليه لفظ [بِخَيْرٍ مِنْهَا] .
وهل يدل قوله تعالى [أَوْ مِثْلِهَا]على جواز العمل بالمنسوخ حتى لو كان الناسخ هو [بِخَيْرٍ مِنْهَا] لمجئ المثلية بعرض واحد مع الخير منها ، الجواب نعم ، فيجوز العمل بقوله تعالى [اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] في كل زمان بالإجتهاد في التقوى من غير حرج أو أذى أو مشقة على النفس .
والجمع بين الآيتين من مصاديق قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] ( ) ومن معاني الجمع بين الآيتين منع المسلمين من التشديد على النفس , وعن ابن عباس في (أن ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم : لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أتزوّج النساء ، وقال بعضهم لا أنام على فراش ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ما بال أَقوام يقول أحدهم كذا وكذا ، لكني أصوم وأفطر ، وأنام وأقوم ، وآكل اللحم ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني)( ).

آيات لم يثبت نسخها بآية السيف
من الآيات التي قيل انها نُسخت بآية السيف هي :
الآية الأولى :
مما ذكر من الآيات التي نسختها آية السيف آيات يتعلق موضوعها بالقتال , وتأمر به ، فقالوا أن آية السيف نسخت قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
ويتوجه الخطاب في آية البحث [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] إلى المسلمين وتتضمن قيوداً من وجوه :
الأول : لزوم التنزه عن العصبية القبلية , وعن الثأر , والحث على دفع الضغائن والأحقاد عن علة وأسباب قتالهم ، ليكون هذا القتال دعوة إلى الإسلام وشاهداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ جعل المسلمين لا يقاتلون إلا في سبيل الله ،وهو أمر لم يألفه الناس إذ كانوا يغزون من أجل النهب أو طلباً للثأر وسبي النساء ، فجاءت الآية بالتقييد بأن يكون القتال في سبيل الله لتكون ذات الآية شاهداً على المسلمين في الدنيا والآخرة.
الثاني : حصر قتال المسلمين بأنه خاص بالذين يسعون في قتال المسلمين، ويهجمون عليهم ويعدون العدة للإغارة عليهم .
وتقدير الآية وفق هذا القيد : يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يقاتلونكم) وفيه إعجاز من جهات :
الأولى : إرادة الكف عن قتال الذين لم يقاتلوا المسلمين .
الثانية : عدم قتل النساء والصبيان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وقوله تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى]( ). إذ تتوجه الدعوة للإسلام إلى هؤلاء النساء والصبيان بالحكمة والموعظة ، ولا يصح صيرورتهم أعداء .
الثالثة : لا يشرع القتال إلا عند الدفاع والحاجة إليه , ومقدمات دفع التعدي , وفيه شاهد بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف .
الثالث : النهي عن الإعتداء بقوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا] وفي الإعتداء بلحاظ نظم الآية وجوه :
أولاً : قتال الذين لم يقاتلوا المسلمين .
ثانياً : قتل النساء والصبيان .
ثالثاً : الإعتداء على الممتلكات بغير حق .
رابعاً : القتال عصبية وطلباً للدنيا أو رياء أو شهرة .
خامساً : إبتداء القتال , لأن الآية تقيد القتال بالذين يقاتلون المسلمين .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو أمراء السرايا إلى القيام بانذار العدو وعدم قتاله إلا بعد وعظه ودعوته إلى الإسلام وإقامة الحجة عليهم ، وفيه بعث للفرقة والخلاف في صفوفه لتكون مقدمة لهزيمته إذا إختار القتال .
سادساً : القتال في الحرم .
سابعاً : بدء القتال بالشهر الحرام ، قال تعالى [الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] ( ).
ثامناً : الضرر ونقض العهد .
وعن سهل بن سعد (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم خيبر: لاعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.
قال: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب ؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه.
قال: فأرسل إليه فأتى، فبصق رسول الله صلى الله عليه آله وسلم في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الاسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لان يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم) ( ).
وأختلف في نسخ الآية على قولين :
الأول : الآية منسوخة بآية السيف ، وبه قال الربيع وابن زيد ( ).
الثاني : الآية محكمة وغير منسوخة , وبه قال ابن عباس .
وذكر أن سبب نزول الآية هو صلح الحديبية ( )، إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أصحابه وعددهم ألف وأربعمائة متوجهاً إلى مكة يريد العمرة ولا يقصد القتال ، فلم يحملوا معهم أسلحة ، وتلك معجزة حسية في السنة الدفاعية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فبعد معركة بدر وأحد والخندق وإشاعة القتل بين كفار قريش ، وإلحاق الخزي بهم في القبائل ، وتعطيل تجاراتهم ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] ( )وبدل أن تعبد قريش الله عز وجل بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به من الفرائض العبادية تناجوا لقتاله ، وحرضوا القبائل المحيطة بمكة والطائف ضده وفي الحرب على الإسلام .
وكان سبب معركة بدر التي وقعت في شهر رمضان السنة الثانية من الهجرة هو قافلة أبي سفيان إذ كانت قادمة من الشام إلى مكة وتتألف من ألف بعير محملة بالبضائع.
وقيل كان فيها لبني مخزوم مائتا بعير , ولآل سعيد بن العاص أربعة آلاف مثقال ذهب ، ولأمية بن خلف ألفا مثقال ، ولبني عبد مناف عشرة آلاف مثقال ، ولم يكن مع النبي وأصحابه عند الخروج إلى معركة بدر إلا سبعين بعيراً يتناوبون الركوب عليها ، كل ثلاثة على واحد منها.
وبعد أن إنهزمت قريش في معركة بدر لم توزع بضائع قافلة أبي سفيان على أهلها وبقيت في مكة إلى أن إتفقوا على تسخيرها وإنفاقها على الجيوش المتوجهة إلى قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة أحد التي وقعت في السنة الثالثة للهجرة ، فصار تعطيل بالأسواق وتسخير للإبل والرواحل في القتال ، والأموال لإطعام الجيوش , وأنفقت قريش أموالاً كثيرة كبدل لفك أسراهم في معركة بدر (وكان الفداء من اربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف إلى الفين إلى الف درهم) ( ) والدرهم الواحد 2,52 غرام فضة وقيل يساوي ثلاثة غرامات تقريباً .
ليكون من الإعجاز في السنة الدفاعية إبتلاء أعداء الإسلام بكثرة الإنفاق على مقدمات الحرب على الإسلام , وزجر المشركين عن تجدد القتال ودعوتهم إلى الكف عن دق طبول الحرب وبذل الأموال لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ] ( ) أي إن كفّت قريش عن القتال بسبب خسارتهم في معركة بدر فلا تقاتلوهم.
ترى لماذا لا يقاتل المسلمون الذين لا يقاتلونهم ، الجواب من وجوه :
الأول : التخفيف عن المسلمين ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
الثاني : تجلي معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسطوع شمس القرآن على القلوب المنكسرة ، فالذين يدخلون الإسلام بواسطة المعجزة أكثر من الذين يدخلونها بالقتال .
الثالث : تقترن رسالة الأنبياء بالصبر سواء في الدعوة إلى الإسلام أو في تحمل الأذى من قومهم أو في جذب الناس إلى منازل الإيمان .
الرابع : إرادة الأمن والسلامة للمهاجرين والأنصار إلا مع الإضطرار للقتال .
الخامس : حال السلم والمهادنة مناسبة كريمة لتعليم المسلمين لأمور دينهم وتفقههم في الحلال والحرام .
السادس : يجزع أغلب الناس من كثرة المعارك والحروب خاصة مع تعدد وتوالي المشاركة في المعارك ، وتقدمه في العمر . وبخصوص الحرب على الإسلام فان توالي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تبعث الفزع والقنوط في نفوس الذين كفروا في ذات الوقت الذي تدعوهم فيه إلى التوبة والرشاد .
السابع : إعانة المسلمين لإدراك حلاوة أداء الفرائض والعبادات بالمداومة عليها في حال السلم والحضر ليترشح عنه تعاهدها في حال السفر والقتال مع التخفيف المأذون من عند الله ، قال تعالى [وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ).
الثامن : إقامة الحجة على الناس بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف والقتال، إنما كان المسلمون مدافعين عن أنفسهم ودينهم .
وتؤكد معارك الإسلام الأولى هذا القانون بالبرهان العملي والتأريخ القطعي .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تناقص وقلة المعارك والحروب بين المسلمين والمشركين على نحو تدريجي ، فحتى معركة الخندق التي وقعت في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة , وجاءها المشركون بعشرة آلاف رجل لم يحصل فيها قتال يذكر وتقابل جيوش يزحف بعضها على بعض كما في معركة بدر ، إذ يبين قوله تعالى بخصوص يوم بدر [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) حصول المواجهة والقتال بين الفريقين , ولكن النصر حليف المسلمين في المعركتين .
لقد أخبر القرآن بأن الكافرين أعداء للمسلمين وأنهم يكيدون لهم ويمكرون بهم ويريدون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإجهاز على الإسلام ، ولكن هناك مائز بين الإخبار عن العداوة وبين الأمر بالقتال والقتل .
ومعاني ومضامين آية البحث [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( )على جهات :
الجهة الأولى : جاءت هذه الآية في نظم القرآن بعد آية الأهلة التي توجه الخطاب فيها إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ]( )، لبيان أمور تتعلق بالزمان وأفراده وحاجة الناس لها في عباداتهم , وتنظيم أمور حياتهم المعاشية ، وبلحاظ آية البحث تتضمن الآية أعلاه وجوهاً :
أولاً : مسألة الأهلة من ضروب الإبتلاء العام من غير تعيين بأهل ملة أو ملة أو أهل زمان مخصوص .
ثانياً : رجوع الناس إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الآيات الكونية، وبيان قانون وهو تسليمهم بأن النبوة تشمل بيان أسرار الآيات الكونية، والغايات الحميدة لكل آية منها.
ثالثا : إعتماد الناس من أيام أبينا آدم وإلى يوم القيامة حساب الأهلة ومنازل القمر .
ولو تردد الأمر بين الإطلاق والتقييد في معاني اللفظ , فالأصل هو الإطلاق، ويدل عليه الوجدان والشواهد التأريخية، وهناك مسألتان:
الأولى : هل يحتمل حدوث تغيير في مسار القمر بحيث لا يمكن إعتماد الأهلة للحساب , أو تعتمد ولكن بكيفية أخرى .
الثانية : هل يستغني الناس عن الإستهلال ورصد إطلالة الهلال .
أما بالنسبة للمسألة الأولى، فليس من تبديل أوتغيير في سير القمر، وهو نعمة عظمى في خلقه ومسيره , وإتخاذه للحساب، قال تعالى[فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا]( ) .
وأما الثانية فإن الناس لا يستطيعون الإستغناء عن الهلال والقمر في حسابهم وعدّ الأيام والأشهر والسنين.
رابعاً : بيان حاجة الناس للآيات الكونية والنبوة والكتاب، أما حاجتهم للآيات الكونية, فتتجلى بنعمة الشمس والقمر والنجوم , وما يترشح عنها من الآيات في الليل والنهار، وأما حاجتهم للنبوة فيدل عليه قوله تعالى أعلاه (يسألونك) بلجوء الناس إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن الآيات أن الجواب جاء من عند الله عز وجل، وهو سبحانه الواسع الكريم، إذ جعل أجيال الناس كلها تنتفع من إجابته، فيأتي الناس من مشارب شتى ليسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات السؤال، مع إختلاف المقاصد من جهات:
الأولى : يسأل المسلمون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم تعلماً ورجاء التفقه في الدين.
الثانية : يأتي أهل الخصومة ليسألوا إختباراً.
الثالثة : من يأتي لسؤال النبي لغرض الجدال.
الرابعة : إرادة الإحراج.
الخامسة : التأكد من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة : الإنتفاع الأمثل من نعمة النبوة.
السابعة : إقامة الحجة على الآخرين.
الثامنة : إرادة الإطمئنان لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي التنزيل[قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي]( ).
فجاء الجواب من عند الله عز وجل فيضاً ولطفاً وكرماً وروضة يغتبط الناس بالربط بينها وبين آية الهلال الكونية المتجددة .
وتقدير الآية السابقة : يسألونك يا رسول الله أو : يسألونك يا محمد بلحاظ أنك رسول من عند الله سبحانه .
وفيه مسائل :
الأولى : بيان صفة من صفات النبوة بتلقي الأسئلة من الناس .
الثانية : إرشاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإنصات للناس في أسئلتهم .
الثالثة : هداية علماء وأمراء الإسلام للإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تلقي أسئلة الناس بسعة صدر ،وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار) ( ).
وجاء لفظ وموضوع السؤال في [يسألونك] لإرادة المعنى الأعم من محادثة وكلام الناس مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليشمل وجوهاً :
أولاً : السؤال عن المعجزة وبراهين النبوة .
ثانياً : إرادة تعليم معالم الدين وأحكام الشريعة .
ثالثاً : مجئ الناس لدخول الإسلام .
رابعاً : عرض المسلمين بذل أموالهم وانفسهم في بسيل الله ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ]( ).
خامساً : إرادة سماع الأحكام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
سادساً : السؤال عن الخلق والآيات الكونية .
سابعاً : السؤال عن المعجزة ومنهم من يسأل معجزة خاصة ليراها بنفسه.
التاسعة : قد تقدم أن من دلالات الآية بعث السكينة في نفس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، فانه لا يخشى من السؤال، فاذا كان الجواب عن أحوال السماء يأتيه من الله، فانه يرجو أن يأتيه الجواب عنها وعن أمور أهل الأرض أيضاً بالوحي والتنزيل، قال تعالى[ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ) .
العاشرة : إقرار من الناس بأن أخبار السماء تأتي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وقد شاع بينهم حديث الإسراء ونزلت فيه آية قرآنية ، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا..] ( ).
فرؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآيات سبب لسؤال الناس له عن الأهلة .
قال الحسين عليه السلام: سألت أبي عن دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : كان دخوله لنفسه مأذون له في ذلك المكان ، فكان إذا أوى إلى منزله جزأ نفسه ثلاثة أجزاء ، جزء لله ، وجزء لأهله ، وجزء لنفسه ، ثم جزأ جزأه بينه وبين الناس ، فيرد ذلك على العامة بالخاصة( ).
ولا يدخر عنهم شيئا ، فكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه ، وقسمه على قدر فضلهم في الدين ، فمنهم ذو الحاجة ، ومنهم ذو الحاجتين ، ومنهم ذو الحوائج ، فيتشاغل بهم ، ويشغلهم فيما أصلحهم ، والأمة عن المسألة عنه ، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم فيقول : ليبلغ الشاهد الغائب .
وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته ، فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه يثبت الله قدميه يوم القيامة ، لا يذكر عنده إلا ذاك، ولا يقبل من أحد غيره ، يدخلون روادا ولا يفترقون إلا عن ذواق، ويخرجون أدلة.
قال : فسألته عن مخرجه ، كيف كان يصنع فيه ؟ فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخزن لسانه إلا مما يعينهم ويؤلفهم ، ولا يفرقهم ، أو قال : لا ينفرهم ، ويكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم ، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره ولا خلقه ، يتفقد أصحابه ، ويسأل الناس عما في الناس ، ويحسن الحسن ويقويه ، ويقبح القبيح ويوهنه ، معتدل الأمر غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا ، لكل حال عنده عتاد .
لا يقصر عن الحق ولا يجوزه ، الذين يلونه من الناس خيارهم ، أفضلهم عنده أعمهم نصيحة ، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة .
فسألته عن مجلسه , فقال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر ، لا يوطن( ) الأماكن ، وينهى عن إيطانها ، وإذا جلس إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ، ويأمر بذلك ، ويعطي كل جلسائه بنصيبه ، لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه .
من جالسه أو قاومه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف ، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها ، أو بميسور من القول ، قد وسع الناس منه بسطة وخلقه ، فصار لهم أباً ، وصاروا عنده في الحق سواء ، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة ، لا ترفع فيه الأصوات ، ولا تؤبن فيه الحرم ، ولا تنثني فلتاته ، معادلين يتفاضلون فيه بالتقوى ، متواضعين يوقرون الكبير ، ويرحمون الصغير ، ويؤثرون ذوي الحاجة ، ويحفظون الغريب .
قال : قلت : كيف كان سيرته في جلسائه ؟ قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البشر ، سهل الخلق لين الجانب ، ليس بفظ( )، ولا غليظ ، ولا صخاب ، ولا فحاش ، ولا عياب ، ولا مداح ، يتغافل عما لا يشتهي ، ولا يوئس منه ، ولا يخيب فيه ، قد ترك نفسه من ثلاث : المراء( ) والإكبار ، وما لا يعنيه .
وترك نفسه من ثلاث : كان لا يذم أحدا ، ولا يعيره ، ولا يطلب عورته ، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه ، إذا تكلم أطرق جلساؤه ، كأنما على رءوسهم الطير ، وإذا سكت تكلموا ، ولا يتنازعون عنده ، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ ، حديثهم عنده حديث أوليتهم ، يضحك مما يضحكون منه ، ويتعجب مما يتعجبون منه ، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ، مسألته ، حتى إن كان أصحابه ليستجلبونهم ، ويقول : إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فأرشدوه ، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوزه ، فيقطعه بنهي أو قيام .
قال : قلت : كيف كان سكوته ؟ قال : كان سكوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أربع : على الحلم ، والحذر ، والتقدير ، والتفكر ، فأما تقديره : ففي تسوية النظر ، واستماع بين الناس ، وأما تذكره ، أو قال : تفكره فيما يبقى ويفنى .
وجمع له الحلم في الصبر ، فكان لا يغضبه شيء ، ولا يستفزه .
وجمع له الحذر في أربع : أخذه بالحسنى ليقتدى به ، وتركه القبيح ليتناهى عنه، واجتهاده الرأي فيما أصلح أمته ، والقيام فيما جمع لهم الدنيا والآخرة ) ( ).
وأحياناً يكون جواب السؤال قريباً إلى الذهن , ولكن مناسبة السؤال وما يحاط به من الشأن والموضوعية يجعل المرء يتدبر لجواب آخر أبعد عن المخاطر .
فجاء الجواب من عند الله بلفظ [قل] أي قل يا محمد ليبقى هذا الجواب والقول حاضراً بين الناس إلى يوم القيامة ، وهو من معاني تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين ، فبلحاظ الآية السابقة تبقى بين الناس أمور :
أولاً : سؤال الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الأهلة .
ثانياً : توثيق السماء بالقرآن لأسئلة الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه شاهد على علو منزلته بين أهل السماء (عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به ، مسرجا ملجما( )، فاستصعب عليه فقال له جبريل أبمحمد تفعل هذا فما ركبك أحد أكرم على الله منه قال : فارفض( )) عرقا) ( ).
والبراق هي الدابة التي كان يركبها إبراهيم عليه السلام ويأتي بها من الشام إلى البيت الحرام .
عن أنس بن مالك : أن مالك بن صعصعة حدثه أن رسول الله حدثهم عن ليلة أسري به قال : بينما أنا في الحطيم – وربما قال قتادة رضي الله عنه – في الحجر مضطجعاً ، إذ أتاني آت فجعل يقول لصاحبه : الأوسط بين الثلاثة ، فأتاني فشق ما بين هذه إلى هذه – يعني من ثغر نحره إلى شعرته – فاستخرج قلبي ، فأوتيت بطست من ذهب مملوء إيماناً وحكمة فغسل قلبي بماء زمزم ثم حشى ثم أعيد مكانه .
ثم أوتيت بدابة أبيض دون البغل وفوق الحمار يقال له البراق ، يقع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه فانطلق بي جبريل حتى أتى بي السماء الدنيا فاستفتح ، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد .
قيل : وقد بعث إليه؟ قال : نعم .
قيل : مرحباً به ، ولنعم المجيء جاء ، ففتح لنا فلما خلصت فإذا فيها آدم فقلت : يا جبريل ، من هذا؟ قال : هذا أبوك آدم عليه السلام ، فسلم عليه . فسلمت عليه فرد علي السلام , ثم قال : مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح . ثم صعد حتى أتى إلى السماء الثانية فاستفتح ، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل .
قيل : ومن معك؟ قال : محمد . قيل : أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم . قيل : مرحباً ولنعم المجيء جاء . ففتح لنا فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا الخالة , فقلت : يا جبريل ، من هذان؟ قال : هذان يحيى وعيسى فسلم عليهما ، فسلمت عليهما فردا السلام , ثم قالا : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح .
ثم صعد حتى أتى إلى السماء الثالثة , فاستفتح ، قيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : نعم . قيل : مرحباً به ، ولنعم المجيء جاء . ففتح لنا فلما خلصت إذا يوسف فسلمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح .
ثم صعد حتى أتى إلى السماء الرابعة فاستفتح ، قيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : نعم . قيل : مرحباً به ، ولنعم المجيء جاء .
ففتح لنا فلما خلصت إذا إدريس فسلمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح ، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : نعم . قيل : مرحباً به ، ولنعم المجيء جاء . فلما خلصت إذا هارون فسلمت عليه فرد عليّ السلام ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح .
ثم صعد حتى أتى إلى السماء السادسة فاستفتح ، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : نعم . قيل : مرحباً به ، ولنعم المجيء جاء .
ففتح لنا فلما خلصت إذا أنا بموسى فسلمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ، فلما تجاوزت بكى . قيل له : ما يبكيك؟ قال : أبكي لأن غلاماً بُعِثَ بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي .
ثم صعد حتى أتى إلى السماء السابعة فاستفتح ، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد . قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : نعم . قيل : مرحباً به ، ولنعم المجيء جاء .
ففتح لنا فلما خلصت إذا إبراهيم ، قلت : من هذا يا جبريل قال : هذا أبوك إبراهيم فسلّم عليه ، فسلمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح .
ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة وإذا أربعة أنهار يخرجن من أصلها : نهران باطنان : ونهران ظاهران ، فقلت : يا جبريل ، ما هذه الأنهار . . . !؟ فقال : أما الباطنان ، فنهران في الجنة .
وأما الظاهران فالنيل والفرات ، ثم رفع إليَّ البيت المعمور , قلت : يا جبريل ، ما هذا؟ قال : هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ، إذا خرجوا منه لم يعودوا فيه ، آخر ما عليهم . ثم أُتِيتُ باناءين أحدهما خمر والآخر لبن ، فعرضا عليّ فقيل : خذ أيهما شئت فأخذت اللبن فقيل لي : أصبت الفطرة ، أنت عليها وأمتك .
ثم فرضت عليَّ الصلاة خمسون صلاة كل يوم ، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى , فقال : ما فرض ربك على أمتك؟ قلت : خمسين صلاة كل يوم . قال : إن أمتك لا تستطيع ذلك وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك . فرجعت إلى ربي فحط عني خمساً ، فأقبلت حتى أتيت على موسى فأنبأته بما حط فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، فإن أمتك لا يطيقون ذلك .
قال : فما زلت بين موسى وبين ربي يحط عني خمساً خمساً حتى أقبلت بخمس صلوات ، فأتيت على موسى فقال : بم أمرت؟ قلت : بخمس صلوات كل يوم . قال : إن أمتك لا يطيقون ذلك . . . إني قد بلوت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك .
فقلت : لقد رجعت إلى ربي حتى لقد استحيت ، ولكني أرضى وأسلم فنوديت أن يا محمد ، إني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي الحسنة بعشر أمثالها)( ).
ثالثاً : سنخية الأسئلة التي كانت توجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكيفية الرد عليها ، وتقدير قوله تعالى ( يسألونك عن الأهلة قل هي … ) : أن الناس يسألون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والله عز وجل هو الذي يجيبهم , وفيه بيان لشأن عظيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الجهة الثانية : إبتدأت الآية السابقة بالخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم [يسألونك] مع تضمن الآية الجواب بقوله تعالى [قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ] ( ) بما يفيد قانوناً وهو أن الناس جميعاً شرع سواء في الآيات الكونية والإنتفاع منها على إختلاف مذاهبهم وأوطانهم ، وهو من أسرار خلافة الإنسان في الأرض بأن لا تحجب النعم التي سخرها الله عز وجل للناس في السماء والأرض عنهم ، وهي رحمة بهم جميعاً ، وتكون حجة على الذين كفروا .
ويشمل قوله تعالى [مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ] تقسيم إطلالة الهلال المتتالية لأيام السنة ، وأيام الشهر الواحد ، إذ يبدأ الهلال ضعيفاً , ثم يصبح بدراً , ثم يأخذ بالنقصان ، كما يشمل التوقيت بالهلال والقمر معرفة مواقيت ذات اليوم الواحد وليلته لأن القمر يخرج كل ليلة بحجم وهيئة تختلف عنها في الليلة السابقة ، وفي منزل وموضع غير الذي أطل منه في الليلة السابقة ، قال تعالى [ إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ] ( ).
وظاهر الآية السابقة أن الحج آية كونية وحكم عام من الإرادة التكوينية ، وأداؤه وتعاهده كل سنة من مصاديق شكر الناس لله عز وجل على نعمة الآيات الكونية التي تطل عليهم كل يوم كالشمس والقمر والنجوم ، أو بين الحين والآخر كالسحاب ونزول الغيث .
لقد إبتدأت الآية السابقة بأمور :
الأول : سؤال المسلمين والناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفضل الله عز وجل بالإخبار عن سماعه لهذا السؤال وتوليه الإجابة عليه وهذه الإجابة من مصاديق قوله تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الثاني : بيان موضوع السؤال وأنه عن الأهلة ، ولم يرد فيه بلفظ المفرد (الهلال) ولكن الآيات تشير إليه ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] وهل المراد من الشهر في الآية أعلاه هو الهلال ، الجواب بينهما عموم وخصوص مطلق ، فالشهر أعم ، وفيه بيان لقدسية شهر رمضان ولزوم أداء صيامه كاملاً من غير نقصان، لذا قال تعالى[وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ]( ).
وورد عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما ثقل في مرضه قال: أيها الناس إن السنة إثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثم قال بيده : رجب مفرد، وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاث متواليات، ألا وهذا الشهر المفروض رمضان فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته فإذا خفي الشهر فأتموا العدة شعبان ثلاثين، وصوموا الواحد والثلاثين( )، وقال بيده: الواحد والاثنين والثلاثة، ثم ثنى إبهامه ثم قال: أيها الناس شهر كذا وشهر كذا وقال علي عليه السلام: صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله تسعا وعشرين ولم نقضه ورآه تماما) ( ).
الثالث :أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قل] وتحتمل الجهة التي يتوجه لها قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوهاً :
أولاً : إرادة الذين سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وتقدير الآية: يسألونك عن الأهلة فقل لهم …)
ثانياً : المقصود المسلمون ليتفقهوا في الدين ، فمثلاً هم لا يعلمون هل عدم القتال في الأشهر الحرام من سنن الشرائع السماوية فلابد من التقيد به، أم ميثاق وأمر إتفقت عليه قريش والقبائل العربية فلا يلزم التقيد به .
ثالثاً : دعوة المسلمين لضبط المواقيت لأمور عباداتهم وأداء الحج ، وللمعاملات كالديون ، لذا ورد قوله تعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ فذكرت الآية أعلاه الأجل المسمى، وهو شاهد على ضبط المسلمين للأهلة ومنازل القمر ، ومطالع الهلال , وإنتفاعهم من آية الأهلة .
فتنزل آية لتبعث المسلمين على فعل مخصوص لتكون إماماً لهم للعمل بأحكام آية أخرى من القرآن ليكون من إعجاز القرآن أن الآية القرآنية تعضد الآية الآخرى بعمل المسلمين بأحكامها ، وتقيدهم بسننها .
رابعاً : إرادة خصوص الصحابة لأنهم الذين يسمعون كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ويكونون قريبين منه .
خامساً : المقصود من القول تبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وأهل الكتاب كاليهود الذين كانوا في المدينة ، والذين كفروا من قريش ، خاصة وأن الأمر يتعلق بالوقائع والأحداث كما في حادثة سرية عبد الله بن جحش , وقتلهم عمرو ابن الحضرمي بين جمادى ورجب ، وتوبيخ المسلمين لعبد الله وأصحابه لقتلهم إياه في أول رجب لولا أن نزل القرآن بامضاء فعلهم كما مبين( ).
سادساً : إرادة أجيال المسلمين المتعاقبة والناس جميعاً إلى يوم القيامة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، والأصل فيه الوجه الأخير ، وتكون الوجوه الأخرى السابقة في طوله ، ففي كل زمان يتجدد قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي أمره الله سبحانه أن يقوله ، وهو من أسرار القرآن .
ومن مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ) دعوة للمسلمين لتعاهد القرآن وحفظه وسلامته من التحريف والتبديل ، إذ يتضمن أوامر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمضامين الإجابة على الأسئلة التي ترده .
ولما كان الناس يتوجهون إلى النبي بالأسئلة لأنه رسول من عند الله تفضل الله عز وجل وتكفل بالإجابة نيابة عنه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) .
وعندما إحتجت الملائكة على جعل خليفة في الأرض يفسد في الأرض ويقوم بازهاق الأرواح بغير حق ، تفضل الله عز وجل , وقال لهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) فمن علمه تعالى أنه يتولى بنفسه الإجابة عن الأسئلة التي توجه إلى الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه مسائل :
الأولى : بقاء جواب الله تعالى مناراً وضياءاً يهتدي به الناس في مسالك الحياة.
الثانية : وقاية المسلمين الفتنة وأسباب الضلالة .
الثالثة : تفقه المسلمين في أمور الدين .
الرابعة : إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية ، ومعرفة أسرار الظواهر والآيات الكونية والصلة بينها ، وبين أهل الأرض ، وتسخيرها في عباداتهم ومعاملاتهم .
الخامسة : إتخاذ المسلمين آية الأهلة واقية من أرباب الجدال ، وحجة على أهل الريب والشك ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ) أي جادلهم بالقرآن ومنه آية الأهلة وآية البحث بلحاظ كبرى كلية وهي أن الأحسن اسم تفضيل , والمراد منه القرآن لقوله تعالى [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ] ( ).
ولا تتعارض مع هذا المعنى إرادة الأحسن في كيفية وموضوع وأوان الجدال لتعدد موضوعاته .
ومن الإعجاز في الآية السابقة وصلتها بهذه الآية أمور :
الأول : ذكر الآية لسؤال الناس النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الهلال وسيره .
الثاني : ترغيب الناس بسؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الدين والدنيا .
الثالث : الأهلة من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيها من التحدي في السؤال والإجابة .
الرابع : بيان حقيقة وهي تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين ، من جهات :
الأولى : توثيق سؤال الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : نزول جواب ما يسأل عنه من عند الله عز وجل .
الثالثة : الجمع في الجواب بين أمور الدين والدنيا ، كي يشكر الناس الله عز وجل وعلى نحو متجدد على النعم التي تترشح عن الأهلة ، لذا جاءت الآية بصيغة الجمع من جهات :
الأولى : عدد السائلين , فلم تقل الآية : ( يسألك ) أو (تُسأل عن الأهلة )أو ( إذا سألوك عن الأهلة ) إنما جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية وأن السؤال قد وقع فعلاً .
الثانية : السؤال عن الأهلة وليس الهلال ، وإطلالته الشهرية .
ومن وجوه الفرق بينهما :
أولاً : المراد أعم من السؤال عن الشهر الواحد ، ولا أشهر السنة ، بل عن خلق الأهلة ونظامها وإستدامتها وأثرها مجتمعة ومتفرقة .
ثانياً : إرادة التعدد في ماهية السؤال ، فمنهم من يسأل عن شهر رمضان وصيامه ، ومنهم من يسأل عن الأشهر الحرم ، أو بعض الأشهر الحرم ، ومنهم من يسأل عن النسأ في الشهور لأنه أمر متعارف آنذاك ، وابن عباس قال (كانت النساة حياً من بني مالك من كنانة من بني تميم ، فكان آخراهم رجلاً يقال له القلمس وهو الذي أنسأ المحرم ، وكان ملكاً ، كان يحل عاماً ويحرمه عاماً ، فإذا حرمه كانت ثلاثة أشهر متوالية ، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وهي العدة التي حرم الله في عهد إبراهيم عليه السلام ، فإذا أحله دخل مكانه صفر في المحرم ليواطىء العدة يقول : قد أكملت الأربعة كما كانت لأني لم أحل شهراً إلا وقد حرمت مكانه شهراً ز
فكانت على ذلك العرب من يدين للقلمس بملكه حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ، فأكمل الحرم ثلاثة أشهر متوالية ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان) ( ).
ثالثاً : توجه بعض أهل الشك والريب بأسئلة جدال وإثارة للفتنة فتفضل الله عز وجل وتولى بنفسه الجواب , ليكون هذا الجواب من مصاديق دفع الفتنة التي وردت الإشارة إليها في الآية التالية [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( ).
رابعاً : إرادة المسلمين معرفة الآيات الكونية ، ودلالتها على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان النبي لها .
وهل في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ ] ما يدل على صعود الإنسان إلى القمر وإحتمال الحياة على سطحه , الجواب لا دليل على هذا المعنى إلا أن يحمل قوله تعالى [يسألونك] على المعنى الأعم وإرادة إستدامة السؤال عن الأهلة في كل زمان حتى بعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
فان قلت كيف يكون هذا السؤال على فرض القول به بأنه من معاني وعمومات الآية بالتدبر في آيات القرآن والتفكر في دلالاتها والرجوع إلى السنة النبوية وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وعليه يكون موضوع السؤال إطلالة الهلال كل شهر وإلى يوم القيامة ، لبيان أنه آية في ذاته ، وفي إنتظام سيره وعدم تغيره .
الثالثة : صيغة الجمع في الأوقات وأفراد الزمان التي تفيد الأهلة تعيينها بقوله تعالى [مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ] .
وهل يصح تقدير الآية ( ومواقيت للإنسان ) الجواب نعم ، ليكون الجمع في الآية مركباً ، من جهة المواقيت والناس ، وهل يدل تعقب آية القتال لآية الأهلة على تنظيم أحوال المسلمين في القتال ، وإعتماد الأهلة في الإعداد للقتال والتهيئ له .
الجواب نعم ، فمن أسرار نظم هذه الآيات تنبيه المسلمين إلى العناية في التوقيت بخصوص القتال ، وإمتناعه في الأشهر الحرم رجب ، وذي القعدة ،وذي الحجة ، ومحرم ، ومنه نزول آية السيف بقوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ] ( ).
الرابعة : إرادة اسم الجنس في قوله تعالى [وَالْحَجِّ] ليشمل تجدد أداء الحج كل سنة ، وشموله للحج من وجوه :
أولاً : الحج الواجب بالأصل ، وهو حجة الإسلام ، وكفايته مرة واحدة في العمر ، وعن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج . فقام الأقرع بن حابس فقال : أفي كل عام يا رسول الله؟ قال : لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا أن تعملوا بها . الحج مرة فمن زاد فتطوّع ) ( ).
ثانياً : الحج الواجب بالعرض ، الذي يأتي بالنذر واليمين ونحوهما .
ثالثاً : حج النيابة والإجارة عن الغير للنص والإجماع في جواز النيابة في الحج عن الميت ، بل وجوازه عن الحي المريض والمعذور .
رابعاً : حج التطوع والمستحب ، وعن أبي سعيد الخدري (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال الله : إن عبدا صححت له جسمه ، ووسعت عليه في المعيشة يمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم) ( ).
وورد الحديث عن طريق خبّاب بن الأرت أيضاً ,وضعّف الدارقطني والسبكي الحديث ، وقال ابن عربي : قلنا رواية هذا الحديث حرام فكيف إثبات حكم به ) .
ولا تصل النوبة إلى هذا التفريط , ولم يذكر الحديث الحج بالذات إذ يشمل العمرة بقوله (لا يفد إلي) وأخبر بأنه محروم وهو أعم من حرمة عدم عمارة البيت مرة كل خمس سنين ، فلا يدل الحديث على وجوب الحج كل خمس سنوات ، وعلى فرض أنه جاء بصيغة الوجوب فيحمل على الإستحباب لثبوت النص والإجماع على كفاية الحج مرة واحدة في العمر .
وقال السبكي : (قَدْ رَوَيْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عَرَفَةَ وَغَيْرِهِ : حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ { إنَّ عَبْدًا وَسَّعْت لَهُ الرِّزْقَ
وَصَحَحْت لَهُ جِسْمَهُ لَمْ يَفْدِ إلَيَّ فِي كُلِّ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ مَرَّةً وَاَللَّهِ لَمَحْرُومٌ } خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ ضَعِيفٌ وَالْمُسَيِّبُ كَثِيرُ الْغَلَطِ .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ وَلَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ) ( ) ولا يصح النفي المطلق للحديث بعد تلقي العلماء له بالقبول , وهو حسن بذاته , وتصل النوبة إلى القول بالوضع , إنما ورد الحديث القدسي بخصوص المستطيع .
ومنهم من قال بوجوب الحج كل خمس مرات ، وهو خلاف النصوص المستفيضة والسنة العقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : إذ لا يجب إلا مرة واحدة إنما يفيد الحديث أعلاه الندب والإستحباب .
الجهة الثالثة : توجه الأمر إلى المسلمين بالقتال بقوله تعالى [وَقَاتِلُوا] من غير تعيين الجهة التي يقاتلونها ، ولكن الآية تتضمن صفتها العرضية , وفيها دلالة على حرمة إقتتال المسلمين فيما بينهم ، فمن ينطق بالشهادتين يحرم قتله .
وجاءت هذه الآية بعد آية [ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ …] ( ) والتي نزلت خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد سؤال المسلمين له عن علة خلق الهلال وأسرار تغيره إذ يبتدأ خيطاً رفيعاً في أول الشهر القمري ثم يأخذ بالإتساع إلى أن يكون بدراً ثم يأخذ بالنقصان ليختفي ليالي المحاق ، ثم يعود مثل خروجه في المرة السابقة مع التباين في المنزل ومقدار القسم المنار منه .
لينتفع منه الناس في أداء فريضة الصوم وحج بيت الله الحرام .
فان قلت لماذا قلت (لينتفع منه الناس) ولم تقل (لينتفع منه المسلمون ) والجواب إن كلاً من فريضة الصيام والحج عامة ، وخطاب تكليفي متوجه إلى الناس جميعاً ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( )وقال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ) , والإنتفاع في المقام أعم من أداء الفريضة فيشمل معرفة أوقات الفرائض وفق الآيات الكونية والإتعاظ .
لذا ورد في الآية أعلاه أن الأهلة [مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ] لبيان أنهم جميعاً يحتاجون إلى سير الهلال والشمس في عباداتهم ومعاملاتهم , ويحتاجون إليها في الديون والآجال وعدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها .
والنسبة بين المسلمين والناس جميعاً في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ] وحاجتهم إلى الهلال هي التساوي , وليس العموم والخصوص المطلق ، ولكن الذين كفروا حجبوا عن أنفسهم نعمة الإنتفاع من الأهلة في العبادات .
فلم تعرض عنهم الأهلة ولم تحجب عنهم , بل بقي الهلال يطل عليهم مرة كل شهر ليذكرهم بوجوب عبادة الله ، ويبين لهم بالمصداق والبرهان بأن سنة الحياة الدنيا هو التغيير والتبدل .
وعن ابن عباس في الآية (قال : نزلت في معاذ بن جبل ، وثعلبة بن غنمة ، وهما رجلان من الأنصار , قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقاً مثل الخيط ، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير ، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟ .
فنزلت { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس } ( )في محل دينهم ، ولصومهم ، ولفطرهم ، وعدة نسائهم ، والشروط التي تنتهي إلى أجل معلوم) ( ).
لقد جاء الأمر للمسلمين صريحاً بالقتال والتهيئ له ، لبيان أن القتال في سبيل الله من معالم الإيمان ، وفيه طرد للنفرة من القتال ، ومنع للخلاف والشقاق فيه ، إذ يميل الناس بالفطرة إلى الراحة والدعة ، ولا يرغبون بالخروج للقتال والمرابطة الطويلة ، فجاء قيد ( في سبيل الله ) لبيان الأجر والثواب في هذا القتال .
الجهة الرابعة : تعيين الغاية الحميدة من القتال ، وهو في سبيل الله ، وهو عنوان مبارك عام تدخل تحته عدة أمور مباركة منها :
الأول : إرادة الحفاظ على سلامة شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , لإرادة الذين كفروا قتله ، وقد سعوا إلى الإجهاز عليه ، وهو لا يزال في مكة ، فهل يستصحب عزمهم على قتله حتى بعد هجرته إلى المدينة ، الجواب نعم ، ولا تصل النوبة إلى الإستصحاب لمجاهدتهم بقصد قتله وإعداد الجيوش لمحاربته والصحابة .
وعندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة (قال: جاء أبي بن خلف الجمحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعظم حائل، فقال: “آلله محيي هذا، يا محمد، وهو رميم؟ “، وهو يفتُّ العظم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يحييه الله، ثم يميتك، ثم يدخلك النار! .
وحينما أعلنت قريش النفير للخروج على عجل إلى معركة بدر خرج معهم أبي بن خلف , وأسر يوم بدر ففك النبي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسره بفداء ولم ينتقم منه .
فلما كان يوم معركة أحد , وإلتقى الجيشان , قال: والله لأقتلن محمدًا إذا رأيته! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم , فقال : بل أنا أقتله إن شاء الله.) .
وفيه وعيد لقريش وإخبار بوقوع القتال بين المسلمين وبين الذين يصرون على الكفر من قريش .
ومن الإعجاز في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يتوعد أبي بن خلف بين أهل بيته ، أو خاصته من أصحابه ، لذا وصل كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي بن خلف ، فخاف وفزع لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يسمى الصادق الأمين ، ولا يقول كلاماً إلا يكون حقاً .
فقد ورد عن ابن إسحاق ما يفيد وقوع الوعيد المتبادل بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بن خلف , ولكن أبي هو الذي بدأه , قال (كان أبي بن خلف كما حدثنى صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف يلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة فيقول يا محمد ان عندي العود فرسا له أعلفه كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنا أقتلك ان شاء الله) ( ).
وأراد أصحابه من رجالات قريش التخفيف عنه ، والإعراض عن هذا الوعيد .
ومع هذا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يطلب أبي بن خلف ، ولم يأمر بقتله وتركه وشأنه ، وهذا الترك ليس سهواً أو نسياناً ، إنما هو مناسبة للتوبة والإنابة ، ومن عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) .
وفي معركة أحد وعندما إنكسر جيش المسلمين بعد ترك الرماة مواضعهم على الجبل مع توصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بعدم تركها سواء في حال الغلبة والنصر أو ضده إلى حين إنتهاء المعركة ، فجاء أبي بن خلف وهو يقول : (لا نجوت إن نجا محمد) ( ) أي لا أنجو أنا إن نجوت مني أنت ، لبيان الإصرار على الإقتتال والإخبار بأنه لن يرجع إما بقتله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو قتله هو .
فأعترضه رجال من المسلمين ليمنعوه من الوصول إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه أمرهم أن يخلوا طريقه حتى إذا وصل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم طعن بالحربة أبي في ترقوته من فرجة من سابقة الدرع والبيضة ، فوقع أبي عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم ، قال سعيد بن المسيب (فكسر ضلعا من أضلاعه قال ففي ذلك نزلت (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ( ).
قال الواقدي : (وكان ابن عمر يقول: مات أبى بن خلف ببطن رابغ، فإنى لاسير ببطن رابغ بعد هوى من الليل إذا أنا بنار تأججت، فهبتها وإذا برجل يخرج منها بسلسلة يجذبها يهيجه العطش، فإذا رجل يقول: لا تسقه، فإنه قتيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا أبى بن خلف) ( ).
وعن ابن عباس (اشتد غضب الله على من قتله رسول لله بيده في سبيل الله “)( ).
الجهة الخامسة : تقييد قتال المسلمين بأنه موجه للذين يقاتلونهم ، لقوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]وفيه دلالة بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف ، إنما أراد أعداؤه منع إنتشاره وسيادته في الأرض , فحاربوه بالسيف والقهر , والشواهد التأريخية عليه كثيرة ومتعددة .
وفي الآية شاهد على أن الذين يقاتلون المسلمين ليسوا أفراداً متفرقين ، ولا جماعات قليلة ومتفرقة، بل هم أمة مجتمعون على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فيكون قتال المسلمين لهم دفاعاً عن الدين والملة والنفوس .
وهل يصح تقدير الآية : وقاتلوا في سبيل الله الذين يريدون قتلكم ) الجواب نعم ، إذ أراد كفار قريش إستئصال المسلمين , وحينما توجهوا إلى معركة أحد أظهروا عزمهم على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتل أو أسر أصحابه خاصة المهاجرين .
وفي آية البحث مسائل :
الأولى : لم تقل الآية : أقتلوا الذين يقاتلونكم ، اقتلوا الذين يبغون قتلكم ) .
الثانية : لم تقل ( قاتلوا الذين قاتلوكم ) إذ يفيد هذا المعنى إستمرار مقاتلة الذي سبق وأن قاتلوا المسلمين وإن وضعوا السلاح وكفوا أيديهم ، لذا فمن إعجاز الآية مجيؤها بصيغة المضارع [الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ] لإرادة الذين لا زالوا يقاتلون المسلمين ، ويصرون على مواصلة القتال .
لتفيد الآية تقسيم الناس إلى أقسام يختص قتال المسلمين بالذين يواصلون قتالهم .
الثالثة : لم تقل الآية : وقاتلوا الذين سيقاتلونكم ) .
فمن خصائص القرآن الزجر عن إباحة القتل وإشاعة سفك الدماء ، وهذا الزجر من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) في إحتجاج الله عز وجل على الملائكة حينما إحتجوا على جعل خليفة في الأرض ، ولا يعلم ما دفعته وتدفعه آية البحث من سفك الدماء والإقتتال إلا الله .
ووظيفة هذه الآية أعم وأوسع من جهود ومساعي المصلحين الذين يمشون بين الأطراف المتنازعة ، إذ تمنع الآية حصول الاقتتال والنزاع ، فما دام الناس لا يقاتلون المسلمين فهم في مأمن من قتالهم .
لتكون الآية في حقيقتها نبذاً للقتال وبرزخاً دونه ، كما في قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ).
فقد أصبح حكم القصاص زاجراً عن القتل لإدراك الذي يهّم بالقتل بأن إقامة الحد والقصاص ينتظره فيمتنع عن القتل ، ليكون من معاني الآية أعلاه وجوه :
أولاً : ولكم في القصاص حياة …
ثانياً : ولكم في تلاوة آية القصاص حياة … ) وهو من المنافع العظيمة لتلاوة المسلمين القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب .
ثالثاً : ولكم في تنفيذ القصاص بالقاتل عن عمد حياة يا أولي الألباب ) فينفذ القصاص في القاتل فيكون موعظة وعبرة .
رابعاً : ولكم في التخويف بالقصاص حياة …
خامساً : ولكم في تقييد القصاص بالقتل العمد حياة …
وكذا آية البحث فان تضمنها الأمر للمسلمين بقتال الذين يقاتلونهم زجر للناس عن قتالهم ، ودعوة للسلم والمهادنة .
وعلى القول بنسخ آية السيف لآية البحث فان الأمم الأخرى تتوثب لقتال المسلمين وتسعى للتعجيل بالهجوم عليهم ومباغتتهم ، مما يدل على أن الإطلاق في تأويل آية السيف ونسخها لآيات القتال ذات صبغة التقييد في أوان وموضوع وكيفية القتال بعيد .
والقول بأن آية البحث محكمة تخفيف عن المسلمين ، ومنع من تآزر الناس وأهل الملل عليهم ، وفيه رحمة بهم وبعموم الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) ولو دار الأمر بين كون الآية محكمة أو منسوخة ، فالأصل هو الأول .
ومن خصائص تقييد القرآن لقتال المسلمين بأنه خاص بالذين يقاتلونهم مسائل :
الأولى :المنع من تحريض الناس على الإسلام .
الثانية : حرص الناس على إجتناب قتال المسلمين .
الثالثة : إحتراز الدول والقبائل عن نصرة وإعانة الذي يقاتل المسلمين ، فحينما يستصرخهم ويطلب مساعدتهم يدركون أن هذه المساعدة تجلب لهم الضرر وتجعلهم أعداء للنبوة والإسلام ، فيأتي الخطاب للمسلمين بالقتال ليكون بلغة لعدم إتساع القتال ، وحائلاً دون ورود مدد للمشركين في قتالهم المسلمين .
لقد بذل كفار قريش الوسع في الطواف على القبائل ودعوتها لإعانتهم ونصرتهم وخروجهم لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وقدموا لهم الأموال والوعود والأيمان ، كما ذهبوا إلى ملوك زمانهم طلباً للنصرة سواء في الشام أو فارس أو اليمن ، وأرسلت قريش وفداً إلى الحبشة لتحريضهم على المسلمين المهاجرين الأوائل ، وزودوا الوفد بتعليمات دقيقة تدل على ما عندهم من الحنكة والدهاء ، والأحاطة بأعراف بطانة الملوك , وكيفية التقرب إليهم , قال تعالى [وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ] ( ).
وكان ملك الحبشة ليس له ولد فقالت الحبشة إن أخاه له أثنا عشر ولداً فلو قتلناه ونصبنا أخاه ملكاً ففعلوا ، وقيل أن أباه مات مخافة أخوه فمكثوا على هذا زماناً ثم أن النجاشي أخذ يتقرب إلى عمه وكان لبيباً ذا أدب وحنكة ، فمال إليه عمه ، فخشي الحبشة إنه إذا تولى الحكم لينتقم منهم بسبب قتل أبيه .
فذهب الملأ منهم ودخلوا على عمه وكلموه وبينّوا خشيتهم من توليه الحكم من بعده ، وذكّروه بأنهم هم الذين نصبوه ملكاً على البلاد فاما أن يقتل النجاشي أو أن يخرجه من الحبشة ، فلم يرضى بقتله (قال: ويحكم ! قتلتم أباه بالامس وأقتله اليوم ! بل أخرجه من بلادكم ) ( ) فذهبوا به وعرضوه في السوق ، وباعوه على تاجر قذفه في سفينته بستمائه درهم فانطلق به ، وفي عصر ذات اليوم هاجت سحابة ، فخرج الملك يتمطر تحتها فجاءت صاعقة وقتلته ، فذهب الملأ من أهل الحبشة إلى ولده ، فاذا هم حمقى غير صالحين للحكم والسلطنة .
فتحيروا في أمرهم ولا يريدون أن يصروا بيت المملكة فقال بعضهم : تعلمون والله أن ملككم الذي يصلح أمركم ويستقيم معه الحكم هو الذي قمتم ببيعه ، وقالوا فان كان منك بأمر الحبشة حاجة فأدركوه قبل أن يغادر التاجر به إلى جهة غير معلومة ، فخرجوا مسرعين في طلبه ، فأدركوه ، وأخذوه من التاجر ووضعوا التاج على رأسه وأجلسه على كرسي الملك وتجلت عدالته وإنصافه وحزمه من أول وهلة عندما سألهم التاجر أن يردوا عليه مبلغ ستمائة درهم الذي أشترى به الملك كغلام يباع في السوق ، ولكنهم أبوا عليه ، ولعل الذي أعادوه هم غير الذي باعوه وقبضوا المال من التاجر عوضاً عنه .
فقال لهم التاجر :إذن أحكم الملك .
فمشى إليه فكلمه وفيه شاهد بأن وصول الناس إليه ليس أمراً صعباً ، وأنه لم يكن عنده حجّاب يمنعون الناس عنه .
ولقد أراد الله عز وجل حفظ الإسلام بمقدمات وأسباب قريبة وبعيدة .
فتكلم التاجر بلغة تناسب مقامات الملوك وما قد يشعرون به من الكبر والتجبر ، فلم يقل له : أني أشتريتك بل تكلم بلغة الغائب وإبتدأ كلامه بالنداء ن أيها الملك ، أي أني لا أعرف منك إلا أنك الملك لذا أرفع مسألتي وشكواي لك .
ثم قال : أني إبتعت غلاماً ، فقبض من الذين باعوه ثمنه ، ثم عدوا على غلامي فنزعوه من يدي ولم يردوا إلي مالي وكأنه يقصد غلاماً أخر وإختتموا كلامه بالإخبار عن عدم إرجاع ماله له ، لبيان أنه لا يطلب الزيادةفيه سواء مرابحة أو نحوها .
فقال النجاشي : أما أن تردوا ماله له ، أو لتجعلن يد غلامه في يده فليذهبن به حيث شاء .
فلم يقل لهم أنكم بعتم حراً وابن الملك غيلة ومكراً ، ولابد من عقوبتكم ، ولم يحملهم على أعادة الثمن قهراً ، إنما جعلهم بالخيار بين رد الثمن ، وهو ستمائة درهم أو أنه يترك سرير الملك ويغادر مع التاجر بصفته غلام له ، قد إبتاعه منهم .
لقد بيّن لهم تقدم الحكم بالحق على التشبث بكرسي الحكم والسلطنة ، ولم يتعد على المال العام فيدفع له الثمن من بيت المال مع أنه ليس بكثير .
فقالوا : بل نعطيه ماله أي أرادوا بقاءه في الملك والحكم فدفعوا له المال.
وقال النجاشي حينئذ كلامه المشهور ( ما أخذ الله مني الرشوة ، فآخذ الرشوة حين ردّ علي ملكي وما أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه .أي أن الله عز وجل قد مكنّي من الملك والسلطنة ، فمن الشكر له سبحانه أن أتبع وأطيع الناس في الحرام ، وما هو خلاف الحق والعدل لذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالتوجه إلى الحبشة .
وحينما إشتد إيذاء وتعذيب كفار قريش للمسلمين ، قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم (تفرقوا في الارض فان الله تعالى سيجمعكم) ( ).
وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الأمر لأصحابه بالخروج من مكة ، وإخباره بأنهم سيجتمعون من جديد ونسب صلى الله عليه آله وسلم وفيه مسائل :
الأولى : تنمية ملكة الإيمان عند المسلمين .
الثانية : أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالتفرق في الأرض من مصاديق قوله تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] ( ).
وقيل (نزلت في المستضعفين المؤمنين الذين كانوا بمكة لا يقدرون على إظهار الإيمان وعبادة الرحمن،
يحثهم على الهجرة ويقول لهم : إنّ أرض المدينة واسعة آمنة) ( ).
الثالثة : تجلي معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حفظ أصحابه .
الرابعة : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا سواء بهجرة الصحابة أو ما يتعقبها .
فسأل الصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أين نذهب ؟ لبيان صدورهم عن أوامره ، ورجوعهم إليه وإدراك حقيقة وهي أنه لا ينطبق إلا على الوحي والتنزيل فقال : إلى ها هنا وأشار بيده إلى أرض الحبشة .
وهاجر الصحابة على دفعتين كما تقدم بيانه ، وأمتلأت قريش غيظاً وظهر الحنق والغضب عليهم فارسلوا إلى النجاشي رجلين مشركين من دهاتهم وهما عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة( ) وقيل بعثوا عمارة بن الوليد بدل عبد الله بن أبي ربيعة وكلاهما كن بني مخزوم ، وكل من عمرو بن العاص بن وائل السلمي ، وعمارة بن الوليد تاجر ، وكان تجار قريش يقصدون الحبشة لشراء البضائع .
وبعثوا معها الهدايا النفيسة إلى النجاشي وبطارقته وعمارة بن الوليد بن المغيرة هو الذي ذهبت به قريش إلى أبي طالب وقالوا له : (أنهد فتى في قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا وأسلم الينا ابن أخيك هذا الذى خالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم فنقتله فانما هو رجل كرجل قال والله لبئس ما تسوموننى أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه هذا والله مالا يكون أبدا) ( ).
فخشي أبو طالب على أهل البيت والصحابة الذين هاجروا ، وكان فيهم ولده جعفر بن أبي طالب ، ورقية بنت رسول الله وحفيدين له .
فكتب إلى النجاشي شعراً يحضه على إكرام المهاجرين وحسن جوارهم والذب عنهم ، وعدم تسليمهم إلى كفار قريش :
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ فِي النّأْيِ جَعْفَرٌ … وَعَمْرٌو وَأَعْدَاءُ الْعَدُوّ الْأَقَارِبُ
وَهَلْ نَالَتْ أَفْعَالُ النّجَاشِيّ جَعْفَرًا … وَأَصْحَابَهُ أَوْ عَاقَ ذَلِكَ شَاغِبٌ
تَعَلّمْ – أَبَيْت اللّعْنَ – أَنّك مَاجِدٌ … كَرِيمٌ فَلَا يَشْقَى لَدَيْك الْمُجَانِبُ
تَعَلّمْ بِأَنّ اللّهَ زَادَك بَسْطَةً … وَأَسْبَابَ خَيْرٍ كُلّهَا بِك لَازِبُ
وَأَنّك فَيْضٌ ذُو سِجَالٍ غَزِيرَةٍ … يَنَالُ الْأَعَادِي نَفْعَهَا وَالْأَقَارِبُ( ).
وركب عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد متوجهين إلى الحبشة وكانت زوجة عمرو معه ، وكان عمارة شاباً حسناً وصاحب نساء ويميل إلى المحادثة فأظهر طمعه بامرأة عمرو وشربا في السفينة خمراً ، فقال عمارة لامرأة عمرو قبليني فقبلته وأخذ عمرو يرصد زوجته وعمارة إذا شربا معاً أقل عمرو وشرب الماء فجعل عمارة يراودها عن نفسه وهي تمتنع منه ، ثم أن عمراً جلس إلى ناحية السفينة يبول فدفعه عمارة في البحر فوقع فيه .
لقد ألقى عمارة عمرو بن العاص في البحر ليموت ، ويستحوذ على أمرأته .
ولكن عمرو سبح حتى رجع إلى السفينة ، فقال له عمرو لو أعلم أنك تحسن السباحة لما ألقيتك فأضمرها عمرو له .
وأدرك أنه يريد قتله ، وأخذ زوجته وهذا من الإبتلاء والعقاب العاجل على سوء فعلهم بقصد الإضرار بالمهاجرين من أبناء عمومتها في بلاد الغربة الحبشة ، وفيه نوع إنذار لهما ليمتنعا عن تحريض الملك وحاشيته عليهم ، ولكنهما لم يتعظا ، وحينما وصلا إلى الحبشة كتب عمرو إلى أبيه العاصي بن وائل أن أخلعني وتبرأ من جريرتي إلى بني المغيرة وجميع بني مخزوم وكانوا أظهر وأكثر رجالاً منهم .
فلما وصل الكتاب إلى العاصي مشى إلى رجال بني مخزوم ورجال من بني المغيرة (إن هذين الرجلين قد خرجا حيث قد علمتم، وكلاهما فاتك صاحب شر، غير مأمونين على أنفسهما: ولا أدري ما يكون، إني أتبرأ إليكم من عمرو وجريرته فقد خلعته، فقالت له عند ذلك بنو المغيرة ورجال من بني مخزوم: وأنت تخاف عمراً على عمارة ونحن قد خلعنا عمارة وتبرأنا إليك من جريرته، فخل بين الرجلين، فقال: قد فعلت، فخلعوهما وتبرأ كل واحد من صاحبهم، ومما جر عليهم ) ( ).
وهذا من قانون إبتلاء القوم الذين يحاربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويسعون بالإضرار في الإضرار بالإسلام ويمكرون بالمؤمنين ، إذ إستولت الحسرة والأسى على قلوب كفار قريش ، فلقد هاجر في الهجرة الثانية أثنان وثمانون رجلاً ومن النساء ثمان عشرة امرأة وكان حسن معاملة النجاشي لهم ، وعدم إكراههم على ترك الإسلام هو السبب وراء إرسال قريش وفداً خلفهم للحبشة .
ومع كثرة عددهم وبعد الأرض التي هاجر إليها ، فان قلوب أهليهم مطمئنة ، فلا يحزنون عليهم ، وهل هو من مصاديق [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ) .
الجواب نعم بلحاظ أن هؤلاء هاجروا في سبيل الله فحصلت البراءة في قريش من اللذين بعثوهما إلى النجاشي ، ولما إستقر عمرو بن العاص وعمارة في مسكنهما في الحبشة أخذ عمارة يتقرب إلى أسرة النجاشي .
قال ابن إسحاق (وكان رجلاً جميلاً وسيماً) ( ) وكان يأتي في المساء يحدث عمرو بما يفعل ، فيظر عمرو إستغرابه ودهشته ويوجه له أسئلة إنكارية ، ويتحداه بالإتيان بدليل يثبت قوله ، وكانا يسكنان في مكان واحد.
ليكون حجة عليه عند إفشاء عمرو خبره عند النجاشي أحضر له من العطر الذي يتعطر به النجاشي ، كما يثبت صحة قوله فجاءه بقليل منه في قارورة عندئذ أظهر صدقه بقوله وأثنى عليه من أجل الإيقاع به عند الملك .
وذهب ابن إسحاق إلى القول بأنه وصل إلى امرأة الملك وورد الخبر بما يفيد الخيانة والرجس ، وهو أمر بعيد .
وقال بأن عمارة دبّ إلى امرأة الملك (فأدخلته فاختلف إليها، وجعل إذا رجع من مدخله ذلك يحدث عمراً بما كان من أمره، فجعل عمرو يقول: ما أصدقك إنك قدرت على هذا، شأن المرأة رفع من هذا! فلما أكثر عليه عمارة، وكان عمرو قد صدقه وعرف أنه قد دخل عليها، ورأى من هيئته وما يصنع به والذهاب إذا أمسى وبيتوتته عنه حتى يأتي من السحر ما عرف به في ذلك، وكانا في منزل واحد، ولكنه كان يريد أن يأتيه بشيء لا يستطيع دفعه إن هو رفع شأنه إلى النجاشي، فقال له في بعض ما يذكر له من أمرها: إن كنت صادقاً أنك بلغت منها ما تقول، فقل لها فلتدهنك من دهن النجاشي الذي لا يدهن به غيره، فإني أعرفه، وائتني منه بشيء حتى أصدقك بما تقول، قال: أفعل، قال: فجاءه في بعض ما يدخل عليها، فدهنته وأعطته منه شيئاً في قارورة، فلما شمه عمرو عرفه، وقال له عند ذلك أشهد أنك قد صدقت، ولقد أصبت شيئاً ما أصاب أحد من العرب مثله، امرأة الملك، ما سمعنا مثل هذا، وكانوا أهل جاهلية، وكان ذلك في أنفسهم فصلاً لمن أصابه وقدر عليه) ( ).
ولو دار الأمر بين وقوع الفاحشة أو عدمها فالأصل هو الثاني ، وليس من السهولة بمكان الوصول إلى عائلة الملك ويبقى عمارة إلى وقت السحر في بيت الملك .
فان قلت قد راودت امرأة عزيز مصر يوسف عله السلام ، كما ورد في القرآن بقوله تعالى [وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ] ( )الجواب هناك فارق بين الحالتين من جهات :
الأولى : كان يوسف عليه السلام أجمل أهل زمانه إلى جانب إشعاع نور النبوة ، فان قلت هذه الإشعاع سبب لأفتتان النساء به ،الجواب لا ، إنما يملي عليهن بديع الخلقة ونور النبوة الخشية من الله عز وجل والتفكر في بديع صنعه ، قال تعالى [أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ] ( ) .
الثانية : وردت قصة يوسف في القرآن ، وكل كلمة منها حق وصدق ، ولا يصح نسج قصص مشابهة لها في المعنى .
الثالثة : التي راودت يوسف عن نفسه هي امرأة العزيز ، وليس امرأة ملك مصر .
الرابعة : لم تقع فاحشة في قصة يوسف ، وأظهر القرآن براءته وسلامة المرأة ببركته .
الخامسة : جاءت مراودة امرأة العزيز ليوسف لأنه معها في البيت وتستطيع أمره ونهيه وإحضاره عندها والقيام بمحاسبته ومعاقبته ولا يثير وجوه الريب في نفس عزيز مصر ، أما قصة عمارة فهو رجل يريد الكيد ويطلب المكر .
السادسة : لقد أظهر النجاشي العدل وأحسن إلى المسلمين فلا بد أن الله يرحمه في بيته وأسرته ويمنع عنه الفساق والبطال .
وعلى فرض إن عمارة وصل إلى بيت الملك وأخذ من عطر الملك فانه قد يكون وصل إلى الحواشي وأختلط معهم ، خاصة وأن قريشاً أمروه وعمرو أن يتلطفا مع البطارقة وحواشي النجاشي ويقدمون لهم الهدايا ليقوموا بتحريض النجاشي على المسلمين والمسلمات .
وذهب عمرو إلى الملك ودخل عليه ، ورفع له أمره وأخبره بأن معه سفيه من سفهاء قريش تجرأ ودخل على بعض نسائه ، وجاء بالدهن الذي يستعمله الملك ، قال ابن إسحاق (فلما شم النجاشي الدهن، قال: صدقت هذا دهني الذي لا يكون إلا عند نسائي، ثم دعي بعمارة بن الوليد، ودعا بالسواحر فجردنه من ثيابه ثم أمرهن فنفخن في احليله، ثم خلى سبيله فخرج هارباً في الوحش) ( ).
ولم يرد في الخبر أن النجاشي سأل عماره وتحقق من أمره خاصة وأن النجاشي يتصف بالعدل ، ولعله فات ابن إسحاق ذكره أو تركه إختصاراً ولمعرفة القارئ به بلحاظ سياق الخبر ووقائعه .
وقال عمرو في عمارة وإرادته التعدي على زوجته :
تعلم عمار أن من شر شيمة … لمثلك أن يدعا ابن عم لكائن ما
أإن كنت ذا بردين أحوى مرحلا … فلست ترأى لابن عمك محرما
إذا المرء لم يترك طعاماً يحبه … ولم ينه قلباً غاوياً حيث يمما
قضى وطراً منها يسيراً فأصبحت … إذا ذكرت أمثاله تملأ الفما
أصبت من الأمر الدقيق جليله … وعيشاً إذا لاقيت من قد تلوها
ألا فارفع عن مطامع خشية … وعالج أمر المجد لا يتندما
فليس الفتى ولو نمت عروقه … بذي كرم إلا بأن يتكرما( )
وبقي أمر عمارة مجهولاً حتى أيام عمر بن الخطاب إذ خرج رجال من بني المغيرة منهم فرصدوه في أرض الحبشة ووجدوا يرد الماء مع الوحش ، فلما وجد حركة للإنس قريباً منه هرب حتى أجهده العطش وكان الشعر يغطي بدنه كله فورد ماء فشرب حتى إذا إمتللأ توجهوا إليه ليمسكوه ، قال عبد الله بن ربيعة ، فسبيق إليه فالتزمته فجعل يصيح أبي بجير أرسلني فأني أموت أن أمسكتني فمات في يده ، وكان اسم عبد الله بن أبي ربيعة في الجاهلية بجير ، ويظهر إحتفاظ عمارة بذاكرته ، إنما هو السحر الذ يجعله بتلك الحال ، وأن لا يخالط الناس وإن خالطهم يموت لقوله (أرسلني فأني أموت إن أمسكتني ) ( ) مما يدل على أن السحر الذي نفخ في إحليله إنما هو سموم وأخلاط ضارة .
وقيل لما رأى عمارة عبد الله ومن معه جعل يصيح : يا مغيرة يا مغيرة)( ).
الرابعة : ترغيب الناس بالإنصات لآيات القرآن , وإستقراء معاني الحكمة التي تتضمنها وكيف أن آية البحث تنهى المسلمين عن الإعتداء ، ومن خصائص النفس الإنسانية النفرة من الإعتداء , وبغض المعتدي والظالم .
لقد أراد الله عز وجل أن يكون الناس كلهم شهوداً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه جاء بالأمر من عند الله بعدم الإعتداء وأنه تقيد به في سنته القولية والفعلية ، وأثنى الله عز وجل عليه بقوله [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) .
وتتصف آية البحث بالدقة في الحكم ، وهي ممتنعة عن النسخ ، فلم تقل ( لا تقاتلوا ) وليس من أحد يدّعي بأن قوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا] منسوخ لأن نسخه قد يعني الإعتداء والظلم ، وجاء الإسلام لمحاربة التعدي وقهر المعتدين .
وهل يصح تقدير الآية : وقاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا على أنفسكم بالقعود عن القتال ) .
الجواب لا ، ولا يفيد منطوق ومفهوم الآية هذا المعنى ، لأن القدر المتيقن من التعدي هو ما كان نوع مفاعلة , وفيه أطراف :
الأول : المعتدي .
الثاني : فعل الإعتداء .
الثالث : المعتدى عليه .
وهل عدم إعتداء المسلمين على غيرهم أمر وجودي أم هو أمر عدمي، الجواب هو الأول ، ليتفضل الله عز وجل عليهم بالأجر والثواب في كل مرة يتجنبون فيها الإعتداء ، ويضاعف الثواب عند الصبر على الأذى.
وهل هذا الصبر من مصاديق الحسنة في قوله تعالى في الثناء على المؤمنين [وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ] ( )الجواب نعم ، ففيه حسنة للذات والغير ، ودعوة للإسلام , وإظهار للخلق الحسن الذي ترشح عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي قوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا]مسائل :
الأولى : تأديب المسلمين وإخبارهم بقبح الإعتداء .
الثانية : البشارة للمسلمين بالنصر والغلبة على الذين كفروا .
الثالثة : لزوم تفريق المسلمين بين الدفاع والتعدي ، وإمتناعهم عن التعدي .
الرابعة : تنزه المسلمين عن الظلم والبطش .
الخامسة : دعوة المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في لزوم إجتناب التعدي والظلم .
وعدم الإعتداء من ( الخير )الوارد في قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ) ولابد لهذا الدعوة من متلق وهم عامة المسلمين , لذا فمن إعجاز الآية أعلاه أنها وردت بخصوص طائفة وأمة من المسلمين للإخبار بأن المسلمين على أقسام :
الأول : طائفة تدعو إلى الخير .
الثاني : فريق يعمل بالخير ويستجيب لدعوته .
الثالث : شطر من المسلمين يأمرون بالمعروف .
الرابع : فريق من المسلمين ينهون عن المنكر .
الخامس : يعمل المسلمون بالمعروف ويجتنبون المنكر والمعاصي .
السادس : تصدر الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المسلمين بقصد القربة إلى الله مع الإيمان به سبحانه , والتصديق برسله وكتبه .
وفي الأقسام أعلاه مجتمعة ومتفرقة زاجر للمسلمين عن التعدي والظلم، وهو من فضل الله بأن تبعث كل آية من القرآن على العمل بمضامين الآية الأخرى ، وعلى فرض وقوع النسخ في آية البحث , فهو يحتمل وجوهاً :
الأول : إبتدأت الآية بقوله تعالى [وَقَاتَلُوا] ومعنى النسخ عدم القتال ، والقول بنسخ آية السيف لها بقاء ذات الأمر بالقتال ، مما يدل على أنها غير منسوخة.
الثاني : قيدت الآية القتال في غايته الحميدة [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ولا يمكن تصور النسخ لهذا المعنى إلا أن يكون : لا تقاتلوا لأن صبركم وعدم قتالكم هو في سبيل الله ), ولم يقل به أحد .
الثالث : قد تقدم من وجوه التقييد في الآية توجه قتال المسلمين ضد الذين يقاتلونهم ، وهذا هو موضوع النسخ بآية السيف بأن يكون قتال المسلمين أعم في جهته ولا يستلزم هذا المعنى على فرض تحققه القول بأن الآية منسوخة لأن مضامينها أعم , ويكون تقدير النسخ بآية السيف هو : وقاتلوا في سبيل الله الذي يقاتلونكم وغيرهم من الكفار ) .
ولكن هذا النسخ هم تعميم وليس تبديلاً وتغييراً .
الرابع : تقدير الآية : وقاتلوا ولا تعتدوا ) في القتال وفي حال السلم ، وليس في هذا المعنى نسخ ، لتأكيد خاتمة الآية على قانون وهو بغض الله للمعتدين ، ومن خصائص المسلمين وهم [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )عدم الإعتداء أو الظلم .
الخامس : لقد ورد النهي عن الإعتداء في آية البحث بعد الأمر بقتال الذين يقاتلون المسلمين مما يدل بالدلالة التضمنية على عدم قتال غيرهم ، وعدم الإعتداء أثناء القتال بلحاظ أنه دعوة بالسيف إلى الإسلام ، لتكون هذه الآية قانوناً في قواعد الحرب وسلامة المدنيين وحفظ الأموال العامة والبنى التحتية وعدم إشاعة الخراب أو إستباحة المدن والقرى , وهو مانع من جرائم الحرب بحسب الحال والزمان .
وإذ صدرت في هذا الزمان إتفاقيات جنيف الثلاثة في القانون الدولي الإنساني في سنة (1864 و1931 )م في لزوم المعاملة الإنسانية لأسرى الحرب والجرحى والمرضى من الجنود والبحارة ، ثم صدرت المعاهدة الرابعة بعد الحرب العالمية الثانية ، فأن آية البحث تتضمن حقوق الإنسان في حال الحرب والسلم وتنهى عن التعدي مطلقاً ، وكذا فأن أثرها ونفعها متصل منذ أيام البعثة النبوية إلى الآن .
فقوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا] محكم وسالم من النسخ ، ويكون تقديره على وجوه :
أولاً : ولا تعتدوا بالقتال قبل الإنذار والتحذير والموعظة لأن الإسلام دين الحق , وقد جعل الله في أيدي المسلمين سلاح الحجة والبرهان .
ثانياً : ولا تعتدوا لأنكم[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )أي يجب أن يخرج المسلمون للناس بالعدل والتسامح والوعظ وإقامة الحجة والبرهان وليس بالقتل والإقتتال مع الذين لم يقاتلوا المسلمين .
ومن إعجاز آية البحث أنها لم تقل ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يعتدون عليكم ) لأن النسبة بين الإعتداء والمقاتلة هي العموم والخصوص المطلق ، فالتعدي أعم ويشمل الشتم والضرب والنهب والسرقة والتطاول على الكتاب والنبوة .
فجاءت الآية بوصف قتال المسلمين بأنه رد على قتال المشركين ، ودفاع عن النفس بما يجعل أهل الأرض جميعاً يميلون إلى جانب المسلمين أو لا أقل لا يؤاخذونهم على دفاعهم , وأراد الله عز وجل ألا يتجاوز الدفاع إلى حال التعدي والظلم .
ثالثاً : لا تعتدوا بالتعجل بالقتال ، وطلبه وتحريض المشركين على قتالكم ، ولا تعتدوا بما يجعل المشركين يتناجون لقتالكم .
رابعاً : لا تعتدوا بالغلو في القتل أو إستباحة المدن فان الله عز وجل يبغض هذه التعدي , والمختار أن قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا]غير منسوخ بآية السيف .
خامساً : تقدير الآية : ولا تعتدوا إلا أن يعتدى عليكم ، قال تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] ( ) لبيان أن المماثلة بالإعتداء ليس من مصاديق الإعتداء المبغوض الذي لا يحبه الله ، ولبيان أن إعتداء الذين كفروا على المسلمين هو المكروه والمبغوض عند الله ، ومن مصاديق عدم حب الله أنه تعالى يأمر المسلمين برد التعدي وتبكيت المعتدين.
سادساً : لم تقل الآية : وأقتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، بل ورد الأمر بالقتال والفرق بينهما أن القتل نوع إيقاع ، وفعل يصدر من طرف واحد ، ليعدم الطرف الثاني ، ويزهق روحه ، اما القتال فهو نوع مفاعلة بين طرفين ، ويكون القتل فيه على وجوه :
الأول : سقوط القتلى من طرف واحد .
الثاني : سقوط القتلى من الطرفين .
الثالث : من معاني الإعتداء في الآية الأفراط في القتال ، فلا يصح مواصلة القتال عند كف الطرف الآخر عنه لذا فان الله تعالى في الآية بعد التالية [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
والقول بنسخه ورد عن الربيع( ) وعبد الرحمن ابن زيد ( ), وهما من التابعين , وقالا نسخت بسورة براءة ( ) , ولم يذكرا آية مخصوصة .
ونسب إلى ابن عباس أن الآية ثابتة في الحكم أمر فيها بقتال المشركين كافة ، والإعتداء الذي نهوا عنه قتل النساء والولدان ( ) .
وعن أنس قال : (كنا إذا استنفرنا نزلنا بظهر المدينة حتى يخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيقول انطلقوا بسم الله وفي سبيل الله تقاتلون أعداء الله ، لا تقتلوا شيخاً فانياً ، ولا طفلاً صغيراً ، ولا امرأة، ولا تغلوا) ( ).
ويدل إطلاق الخبر على أن سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم متصلة بالنهي عن كثرة القتل , وما يسمى في هذا الزمان بالعشوائي , وعن قتل المستضعفين الذين لم يقاتلوا المسلمين .
ومن خصائص القرآن أن أحكامه ملائمة لكل زمان وتتقدم عليه في البيان والهداية إلى فعل الصالحات والإمتناع عن القبائح ، وهو من مصاديق العموم في قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ) ففي كل زمان ووقائع يؤكد القرآن أنه قد بيّن لهم من أستظهروه من القواعد والأحكام ، والسنن الصالحة ، وكرّه إليه الأفعال التي أدركها مع تقادم الأيام وبالتجربة والوجدان أنها ضرر محض ، منها أنشغال الناس في هذا الزمان بمسألة الإبادة الجماعية ، وأدعاء بعضهم لها ، وفتح التحقيق فيها ، وهو أمر حسن .
وتصف المادة الثانية من إتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية والتي كتبها محام يهودي من بولندا والتي وقعت في اليوم التاسع من شهر كانون الأول سنة 1948 عملية الإبادة الجماعية بأنها ( أي فعل من الأفعال القتالية المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية بصفتها هذه :
1- قتل أعضاء من الجماعة .
2- إلحاق ضرر جسدي أو عقلي جسيم لأعضاء الجماعة .
3- إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً.
4- فرض تدابير تستهدف الحيلولة دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة , وقد ورد في القرآن بخصوص فرعون وظلمه لبني إسرائيل , وفي التنزيل حكاية عنه بعد تحريض قومه له عليهم[قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ]( ).
وعن ابن عمر (وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل النساء والصبيان)( ).
لقد إبتدأت آية البحث بأمر إلى المسلمين تبعته ثلاثة قيود لأمور :
الأول : منع الخلاف بين المسلمين في موضوع القتال ، إذ تزجر الآية عن التفريط والإفراط ، التفريط بترك قصد القربة , والإمتناع في الإكثار من القتال والتعدي والظلم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
لبيان أن المراد من مصاديق لفظ [خَيْرَ] هو ما يأتي على المسلمين من الأوامر والنواهي ، وما تتصف به من الجلاء والوضوح ، والمدد من من عند الله للمسلمين للأمتثال لأوامره ، فيتضمن قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] الوعد من عند الله بالمدد للمسلمين بالنصرة والغلبة عند القتال ، وهو الذي تجلى في معركة بدر وأحد ومعارك الإسلام الأولى .
وليس من حصر لوجوه ومصاديق نصرة الله عز وجل للمسلمين في المعارك منها نزول الملائكة لنصرتهم ، وفي معركة أحد ورد قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ) .
ويحتمل قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ) وجوهاً:
الأول : إنه من نصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الثاني : إنه من نصرة الله عز وجل لشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : إنه مقدمة لنصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : إنه كرامة وفضل غير النصرة .
وباستثناء الوجه الأخير , فلا تعارض بين الوجوه الأخرى ، وكلها من مصاديق الآية , ليكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : وقاتلوا في سبيل الله ولا تقصروا .
الثاني : وقاتلوا في سبيل الله فان القتال [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ) فيأتي الأمر من الله للمسلمين بالقتال ليدفع عنهم كره قتالهم للذين يقاتلونهم ، ويمنع من دبيبه إلى نفوس المسلمين .
الثالث : وقاتلوا في سبيل الله فان الله عز وجل سيهزم عدوكم ، قال تعالى [وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ]( ).
الرابع : وقاتلوا أئمة الكفر , وأجعلوا قتالكم في سبيل الله .
الخامس : لا تقاتلوا عصبية وحمية .
السادس : لا تقاتلوا الذين لا يقاتلونكم , إلا أن يرد دليل قرآني آخر سواء كان ناسخاً لهذه الآية أو لا .
السابع : كفوا أيديكم عن الذين كف يده عنكم ، فان النصر في حال المهادنة لكم ، فمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم معجزات وبراهين تدل على صدق نبوته ، وليس مع الذين كفروا إلا الحمق والحنق والعناد .
وإبتدأت الآية بحرف العطف الواو [وقاتلوا] لتكون معطوفة على خاتمة الآية السابقة [وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) ليكون قتال المسلمين من منازل التقوى والخشية من الله عز وجل ، وتصير التقوى شرطاً في قتال المسلمين للكفار .
والنسبة بينها وبين شرط [في سبيل الله]العموم والخصوص من وجه ، لبيان إنضباط المسلمين في موضوع القتال وإجتماع الشرائط في قتال المسلمين من القرائن والدلائل على أن الآية محكمة ، فكل قيد وشرط للقتال فيها شاهد على عدم نسخ الآية .
وعلى فرض النسخ فالمراد منه قوله تعالى [الذين يقاتلونكم] ليكون بدله وقاتلوا في سبيل الله المشركين ، ولكن يكون تقدير النسخ بين آية البحث وآية السيف .
فاذا إنسلخ الأشهر الحرم فأقتلوا المشركين حيث وجدتموهم سواء قاتلوكم أو لم يقاتلوكم .
وتدل لغة الشرط في أول آية السيف أعلاه وما ورد في أسباب النزول أنها خاصة بمشركي قريش , ممن قاتل المسلمين.
(وعن الإمام الباقر عليه السلام في قول الله : ( فاذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) قال : هى يوم النحر إلى عشر مضين من شهر ربيع الآخر) ( ).
وعن ابن عباس قال (كان لقوم عهود فأمر الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤجلهم أربعة أشهر يسيحون فيها ولا عهد لهم بعد ما وأبطل ما بعدها ، وكان قوم لا عهود لهم فأجلهم خمسين يوماً ، عشرين من ذي الحجة والمحرم كله ، فذلك قوله { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }( ) قال : ولم يعاهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد هذه الآية أحداً) ( ).
(وأخرج ابن المنذر عن قتادة في قوله { فإذا انسلخ الأشهر الحرم . . . } الآية . قال : كان عهد بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين قريش أربعة أشهر بعد يوم النحر ، كانت تلك بقية مدتهم ومن لا عهد له إلى انسلاخ المحرم ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم إذا مضى هذا الأجل أن يقاتلهم في الحل والحرم وعند البيت ، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) ( ).
الجهة السادسة : بيان قانون عام , وضابطة كلية في حياة المسلمين ، وهي عدم الإعتداء , لقوله تعالى في آية البحث [وَلاَ تَعْتَدُوا] لتتضمن الآية أمراً ونهياً ، أمراً بالقتال , ونهياً عن الإعتداء ، وتقدير هذا النهي على وجوه :
أولاً : وقاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا قبل القتال , وكان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يأمر أمراء السرايا بالقيام بالموعظة والإنذار للعدو، ودعوتهم للإسلام .
ثانياً : وقاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا على الذين لم يقاتلوكم .
ثالثاً : لا تقاتلوا الذين لم يقاتلوكم ) .
وفيه رحمة وتخفيف عن المسلمين ، وسلامة من الخروج إلى ميادين الوغى ، لتكون آية البحث دعوة لعدم القتال ، فاذا إمتنع الناس عن قتال المسلمين فان المسلمين لا يخرجون للقتال ، ولا يقومون بغزو وغيرهم .
رابعاً : قاتلوا في سبيل الله ولا تقتلوا الصبيان والنساء والشيوخ الكبار .
خامساً : وقاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا بالقتال لحب الدنيا والعصبية والثأر ونحوه مما لا يصدق عليه أنه في سبيل الله .
سادساً : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] ( ).
رابعاً : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن كفوا عن القتال ، ومن إعجاز القرآن مجئ الآية بعد التالية بالإخبار عن إحتمال كف الذين يحاربون الإسلام عن القتال بقوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ] ( ) .
ويحتمل الإنتهاء هنا وجوهاً :
الأول : المراد توبة الذين كفروا ، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (إن الله أمرني أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله { فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } قال : وإن الظالم الذي أبى أن يقول : لا إله إلا الله ، يُقاتل حتى يقول : لا إله إلا الله)( ).
الثاني : المراد الكف عن قتال المسلمين , والإمتناع عن إعلان الحرب على الإسلام بالسيف وغزو الجيوش .
الثالث : ( المراد الإنتهاء عن الكفر والقتال ) ( ).
ومن إعجاز نظم القرآن أن لفظ[ فَإِنْ انتَهَوْا ]لم يرد في القرآن إلا ثلاث مرات ، جاءت مرتان منها في آيتين متعاقبتين , وفي موضوع آيات القتال هذه ، وبيان قواعده الباقية إلى يوم القيامة , والتي تتضمن تنزه المسلمين من التعدي .
فقد وردت الآية بعد التالية من بضع كلمات وهي [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( )لإفادة الكف عن الذين لم يقاتلوا المسلمين ، ويكفي إنتهاؤهم عن القتال لذا حينما تم صلح الحديبية لم يقاتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المشركين ، وكان من ضمن شروط هذا الصلح : من أراد أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعهده فليدخل فيه، سواء كانوا قبائل أو أفراداً .
ومن أراد أن يدخل في عقد كفار قريش فليدخل ، فدخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ودخلت قبيلة بكر في عهد قريش .
ثم جاءت الآية التي بعدها بقوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ] ( ).
الجهة السابعة : إختتام آية البحث بقانون من الإرادة التكوينية وهو (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)لبيان قبح التعدي والظلم .
وعندما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض بقولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) أقام الله عز وجل عليهم البرهان بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ليكون من علم الله عز وجل أنه سبحانه لا يحب المعتدين .
وبين الفساد والإعتداء عموم وخصوص مطلق فالفساد هو الأعم ، ومن علمه تعالى أنه ينزل قانون بغضه للمعتدين في القرآن ليكون هذا القانون إنذاراً للناس جميعاً من الإعتداء وبشارة للذين يُعتدى عليهم بأن الله عز وجل ينتقم من المعتدين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ) في خطاب من الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] بشارة وإنذار ، ومن رشحات هذا الإنذار توجيه الأمر من عند الله عز وجل للمسلمين بأن يقاتلوا المعتدين , والحب بالنسبة للإنسان كيفية نفسانية وميل إلى المحبوب وضده البغض ، وقد يترتب على الحب الفعل الحسن ، أي هناك مغايرة بين الحب وعالم القول والفعل .
وأما بالنسبة لحب الله عز وجل فهو رضاه ، ونزول الفضل منه تعالى ، وصرف البلاء وقد قضي ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) أي أن الله عز وجل يمحو عن المؤمنين البلاء ، ويثبت لهم الخير والنعم .
وتتعدد أسباب حب الله عز وجل منها إتباع نهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفي التنزيل [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
وقد وردت نصوص عديدة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيّن طرقاً مباركة للفوز بحب الله , ففي الحديث القدسي (ما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) ( ).
وأما بغض الله عز وجل فيأتي بسبب الإقامة على الكفر والإصرار على المعاصي ومقارفة الكبائر التي تجلب السخط الإلهي .
وجاءت خاتمة الآية بالذم للمعتدين بلحاظ فعل التعدي والظلم ، وليس أشخاصهم ، وفيه نكتة وهي أن باب التوبة مفتوح للناس جميعاً .
وعن ابن مسعود (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ غَيْرُ ذِرَاعٍ ثُمَّ يُدْرِكُهُ الشَّقَاءُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَمُوتُ فَيَدْخُلُ النَّارَ) ( ).
ولما أخبر الله عز وجل عن عدم حبه للمعتدين تفضل وذكر جزاء لهم في الدنيا بقوله تعالى [كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
والطبع الختم ، ويقول مفسرون في الآية أعلاه بصيرورة المعتدين مصرين على التكذيب بالآيات ، لا تنفع معهم المعجزة أو التذكير .
ولكن الآية أعم ، ومن دلالاتها عجز الكافرين عن مواصلة الإعتداء والظلم والجور ، ومنعهم من المكر والدهاء في كيفية الإعتداء ، فيفعلون ما هو غلط وخطأ فتحصل الفتنة بينهم ، وهذا المعنى من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).حينما احتجوا على جعل آدم خليفة في الأرض بأن من ذريته [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )
فمن علم الله عز وجل أنه يطبع على قلوب المعتدين فيصدهم عن التمادي في التجاوز ، ويمنعهم من إغراء غيرهم بمحاكاتهم بذات التعدي ، لذا ترى النفوس تنفر من الكفر والجحود ومحاربة الإسلام ، وهذه النفرة من مصاديق علم الله عز وجل الذي إحتج به على الملائكة لبيان أن الفساد في الأرض محدود ومنقطع ، وأن الله عز وجل يجعل النفوس تنفر منه ، وهذا ما لا تعلمه الملائكة إذ أنها لم تحط علماً بما ستكون عليه نفوس الناس ، ولا يعلم منافع وبركات النفخ من روحه في آدم إلا هو سبحانه .
ومن معاني [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] نهي المسلمين عن محاكاة الكفار والتشبه بهم في تعديهم .
وهل يكون مفهوم الآية ولا تعتدوا فاذا اعتديتم فان الله لا يحبكم لأنه لا يحب المعتدين ، الجواب لا دليل على هذا المعنى ، وتقدير خاتمة آية البحث ، ولا تعتدوا فان الله لا يحب الكافرين المعتدين ) بلحاظ أن قتال الذين كفروا للإسلام تعد وظلم .
وعند القول بنسخ الآية فلابد من تفكيكها ، إذ يكون شطر منها محكماً ولا يقبل النسخ ، ومنه قوله تعالى [ولاتعتدوا] فهذا النهي محكم وحكم دائم ومتجدد ، والأمر بعدم الإعتداء ملازم للإيمان ، ليكون من خصال [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ] ( ) الأمر بعدم الإعتداء والنهي عن الاعتداء ، وكذا بالنسبة لقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] فانه قانون محكم ولا يقبل النسخ ، فينحصر إحتمال النسخ بقوله تعالى [الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ]ويحتمل أمرين :
الأول : لا تقاتلوا الذين يقاتلونكم .
الثاني : قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم وغيرهم من الكفار.
ومن معاني وتقدير عطف هذه الآية على الآية السابقة وجوه :
الأول : واتقوا الله وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم .
الثاني : واتقوا الله عند قتالكم الذين يقاتلونكم .
الثالث : واتقوا الله ولا تعتدوا , وعن جابر بن عبد الله قال (عن جابر بن عبد الله قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ونحن مجتمعون ، فقال : يا معشر المسلمين ، اتقوا الله ، وصلوا أرحامكم ، فإنه ليس من ثواب أسرع من صلة رحم ، وإياكم والبغي ، فإنه ليس من عقوبة أسرع من عقوبة بغي ، وإياكم وعقوق الوالدين ، فإن ريح الجنة يوجد من مسيرة ألف عام ، والله لا يجدها عاق ، ولا قاطع رحم ، ولا شيخ زان ، ولا جار إزاره خيلاء ، إنما الكبرياء لله رب العالمين ، والكذب كله إثم إلا ما نفعت به مؤمنا ، ودفعت به عن دين ، وإن في الجنة لسوقا ما يباع فيها ، ولا يشترى ، ليس فيها إلا الصور ، فمن أحب صورة من رجل أو امرأة دخل فيها) ( ).
الرابع : واتقوا الله أن الله لا يحب المعتدين .
الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد
لقد كانت حياة الأنبياء محفوفة بالمخاطر لتجرأ وتعدي الذين كفروا ، فتفضل الله عز وجل وجعل لهم واقية مدة التبليغ ، وحتى على فرض عدم تعدي الذين كفروا ، فان الأنبياء يأتون أقوامهم بسنن عبادية لم يعهدوها ، ويأمرونهم بأفعال عبادية مخالفة لحال الأنفة وأتباع الهوى الذي توارثوه ، فمن حكّم عقله تلقى دعوة الأنبياء بالقبول ووطّن نفسه على تحمل الأذى والمكروه .
ومن الآيات أن بعثة النبي تحدث إنشقاقاً في المجتمعات ، ويكون الإيمان مائزاً ، وفي نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان السيف فيصلاً بين أهل الإيمان وبين الذين أصروا على الكفر والجحود ، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابن السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه إقتران تشريع الخمس مع الإخبار عن ما أنزل الله من القرآن يوم معركة بدر ، وهل المقصود من قوله تعالى أعلاه [وَمَا أَنزَلْنَا] أعم من آيات القرآن وشمول الآية لنزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم بدر ، الجواب لا ، لتقييد الآية بأن النزول على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس من مسلم أو مسلمة وفي كل زمان إلا وقد علما بواقعة أحد وأن المسلمين خسروا فيها ولكنهم لم ينهزموا ، خاصة وأنها جاءت بعد معركة بدر التي إنتصر فيها المسلمون إنتصاراً ساحقاً بمعجزة جلية ظاهرة للناس في كل زمان مع أن الآية حسية .
وإجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ بالدعاء (اللهم إن ظهر على هذه العصابة ظهر الشرك ولم يقم لك دين)( ).
وقال أبو جهل (اللهم انصر خير الدينين اللهم ديننا القديم ودين محمد الحديث ونكص الشيطان على عقبيه حين رأى الملائكة عليهم السلام وتبرأ من نصرة أصحابه وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ملء كفه من الحصباء فرمى بها وجوه المشركين فجعل الله تلك الحصباء عظيما شأنها لم يترك من المشركين رجلا إلا ملأت عينيه والملائكة عليهم السلام يقتلونهم ويأسرونهم ويجدون النفر كل رجل منهم مكبا على وجهه لا يدري أن يتوجه يعالج التراب ينزعه من عينيه
ورجعت قريش إلى مكة منهزمين مغلوبين وأذل الله بوقعة بدر رقاب المشركين والمنافقين فلم يبق بالمدينة منافق ولا يهودي إلا وهو خاضع عنقه لوقعة بدر , وكان ذلك يوم الفرقان يوم فرق الله بين الشرك والإيمان وقالت اليهود تيقنا : أنه النبي الذي نجد نعته في التوراة والله لا يرفع راية بعد اليوم إلا ظهرت) ( ).
وفيه شاهد بأن راية المسلمين يوم أحد هي الأظهر ولم يخسر المسلمون المعركة وإن تعرضوا إلى إنكسار وسقط سبعون شهيداً منهم .
وهل يصح تقدير الآية : قاتلوا لحفظ سلامة شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب نعم ،لتتجلى فيه أمور :
أولاً : توالي نزول آيات القرآن إلى أن يتم تنزيل آياته وسورة كاملة ، وهذا المعنى من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ) بتقريب أن الله عز وجل يحفظ شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتوالى نزول القرآن عليه إذ لا ينزل على غيره من البشر ، وليس من حصر لأسباب حفظ الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها تسخير المسلمين للذب والدفاع عنه ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) تعدد مصاديق جهاد وجهود المسلمين في سبيل الله ، وقد تجلى تفاني المسلمين والمسلمات لحفظ شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشواهد متعددة في معركة أحد .
وبين الدفاع عن الرسول والدفاع عن شخصه الكريم عموم وخصوص مطلق ، إذ أن الدفاع عنه متصل ومستمر من أيام أبينا آدم وإلى يوم القيامة، وهو من المعجزات العقلية والحسية لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه ، وأهلي أحب إليه من أهله ، وعترتي أحب إليه من عترته ، وذاتي أحب إليه من ذاته) ( ).
وعن أنس (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله ، وماله ، والناس أجمعين) ( ).
فان قلت الحب أعم من الدفاع الجواب الدفاع فرع أسمى مراتب الحب المقرون بالإيمان والتقوى ، إلى جانب ما في هذا الدفاع من الآجر .
وقد دافع الإمام علي عليه السلام عن النبي محمد صلى الله وآله وسلم يوم أحد وهو حامل لواءه , وقتل دونه مصعب بن عمير , ونفر من شباب الأنصار , وقاتل دونه أبو دجانة , وجعل ظهره ترساً لظهر رسول الله , وقاتل دونه طلحة وأم عمارة , وغيرهم .
لقد إبتدأت معركة أحد بنصر سريع وساحق للمسلمين ، إذ تفضل الله عز وجل بمقدماته , ومنها بعث الفزع والرعب في قلوب الذين كفروا وتتج لى معاني المقدمة وذي المقدمة في المقام بنظم آيات القرآن ، ومجئ آية إلقاء الرعب بين صفوف الذين كفروا , ثم صدق الوعد من عند الله عز وجل بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ * وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ] ( ).
ولما ترك أكثر الرماة المسلمين مواضعهم هجمت خيل العدو من خلفهم وشاع القتل بين المسلمين , وإنهزم كثير منهم ، لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقى في موضعه ، وهو معجزة حسية في السنة الدفاعية مع حاجة الناس جميعاً إلى سلامته بما فيهم الذين كفروا فمن حاربه يوم أحد ، وتجلت هذه الحقيقة بفتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة في السنة الثامنة للهجرة ودخول أهلها الإسلام , وخروجهم في الغزو مع المسلمين.
كما أنعم الله على عدد كثير منهم فصاروا أمراء وأئمة في الأمصار وأخذ التابعون يلاحقونهم للإستماع لأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وإقتباس العلوم والدلائل منه .
وهل يدل عدم مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موضعه يوم أحد بأنه يعلم بأن أهل البيت والصحابة يذبون ويدافعون عنه ، الجواب إنما ثباته من وجوه :
الأول : ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) فاذا كان نطق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الدنيا ، وفي المباحات من الوحي لأصالة الإطلاق وعموم اللفظ ، فان ثباته في ميدان الوغى من الوحي من باب الأولوية القطعية .
الثاني : إنه من التوكل على الله ورجاء مجئ النصر من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ]( ).
الثالث : بيان مصداق لكبرى كلية في التأويل العملي لقوله تعالى [كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي] ( ).
الرابع : مجئ البشارات والرؤى المباركة لتحقيق النصر ، وعدم حدوث هزيمة للمسلمين .
الخامس : إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأديب أمراء المسلمين بأن قائد الجيش يجب ألا ينهزم ، وفي ثباته يكون الفتح والنصر إلا أن يشاء الله ، وحتى لو قتل الأمير من المسلمين فان ثباته في موضعه حتى الموت , ونيل مرتبة الشهادة يبعث الفزع في قلوب الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ) .
فمن الإعجاز في السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تأديب وتعليم قادة وأمراء الإسلام كيفية الصبر وبذل النفس في سبيل الله مما يؤدي إلى إمتناع غير المسلمين من النيل منهم والإساءة لهم .
ثانياً : إتقان المسلمين والمسلمات أداء الفرائض العبادية كما أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤخر الوفود التي تأتي المدينة لدخول الإسلام عنده أياماً ليحضروا الصلاة ويستمعوا لخطبه وأقواله ، ويكونوا شهوداً على معجزات النبوة ، ثم يختار أحدهم ليؤمهم في الصلاة .
ثالثاً : إنتشار الإسلام وفتح مكة الذي فيه تثبيت للدين وأداء لفريضة الحج تحت لواء الإسلام ، لذا سمّاه الله عز وجل بالفتح المبين ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يؤدي الصلاة في البيت الحرام قبل الهجرة ، فيلقى أشد الأذى والإستهزاء من قريش فمثلاً تواطئ نفر من كبار كفار قريش على إلقاء سلا جزور على ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي في البيت الحرام فقام بالقائه عُقبة بن أبي مُعيط ، وفي حادثة أخرى قام بخنق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بردائه وكاد يقتله.
ليؤدي ملايين المسلمين كل عام مناسك الحج والعمرة من غير أذى أو ضرر بفضل الله عز وجل ودفعه القتل عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ومعارك الإسلام الأخرى ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ).
رابعاً : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأحكام الحلال والحرام بلحاظ أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع وقيامه بتفسير آيات القرآن في سنته القولية والفعلية ، إذ كانت السنة النبوية مرآة للقرآن .
فان قلت كل ما قاله أو فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل معركة أحد هو من السنة ، الجواب نعم ، ولكن كل يوم جديد من حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتضمن وجوهاً مشرقة من السنة النبوية منها ما هو مستحدث في موضوعه ، ومنها ما هو تأكيد وتثبيت لمصاديق من السنة النبوية السابقة لمعركة أحد .
خامساً : كل يوم من أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا مناسبة كريمة لنزول الوحي عليه ، وبين الوحي والقرآن عموم وخصوص مطلق ، فالوحي أعم .
سادساً : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل يوم معركة أحد برزخ دون إرتداد طائفة من المسلمين، قال تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
سابعاً : كل يوم من أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحياة الدنيا فضل من عند الله على الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ثامناً : لقد أبى الله عز وجل إلا أن يظهر الإسلام , ويتم نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويمتنع القرآن عن التحريف والتبديل .
ومن الآيات أن القرآن نزل نجوماً وعلى نحو التوالي في نزول الآيات وإقتران شطر منها بوقائع وأحداث صارت تسمى علم أسباب النزول ، وهذا التوالي بشارة لسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والموت إلى أن يتم الله نزول آيات القرآن .
وورد عن ابن عباس أنه قال (لما نزلت { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } ( )دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة عليها السلام , فقال : إنه قد نعيت إلي نفسي فبكت فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تبكي فإنك أول أهلي لحوقا لاحقا بي : فضحكت) ( ).
ومن معاني في سبيل الله وجوه :
الأول : إزاحة الموانع التي تحول دون عبادة الله حق عبادته , ودخول الناس الإسلام .
الثاني : الحرب على عبادة الأصنام ، وإتخاذ الأوثان زلفة للتقرب إلى الله عز وجل ، وهذه الحرب في سبيل الله لأنها إزاحة للباطل ، وإستئصال للكفر والجحود ، وقد تكون عبادة الأوثان مقدمة لظهور الطواغيت والذين يدعون الربوبية والسلطة المطلقة بالقياس بأنه أفضل من الحجر والأوثان ، ومن اللطف الإلهي بالناس الإجهاز على الوثنية بالمعجزة والبرهان الساطع الذي يدل على النبوة وأن الأنبياء رسل الله عز وجل إلى الناس لنجاتهم في النشأتين.
الثالث : الجهاد العلمي ، وتعلم أحكام الدين وسنن المرسلين ومعرفة الشرائع , والتمييز بين الحلال والحرام ، وإتيان الأول ، وإجتناب الثاني .
الرابع : بذل الوسع والجهد والطاقة في سبل طاعة الله وإتيان الواجبات، وحبس النفس عن المحرمات .
الخامس : الجهاد والدفاع عن بيضة الإسلام , والجهاد هو بذل الجهد والوسع في القتال لإعلاء كلمة التوحيد ، وقتال الذين ينطقون بالشهادتين لا يسمى جهاداً ، فلا يصح القتال للإختلاف المذهبي والكلامي ، وفيه ضعف للإسلام ، وهذا القتال من مصاديق الوهن في قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
فالغاية من الجهاد هو الدفاع وإعلاء كلمة الحق ورفع راية الإسلام والذين ينطقون الشهادتين ، ويستقبلون القبلة خمس مرات في اليوم ممن يرفع راية الإسلام ، فقتالهم ومحاربتهم إضعاف للإسلام ونزف وخسارة وقتل من جهة المقاتِلين بالكسر , والمقاتَلين بالفتح .
السادس : من معاني في سبيل الله الجهاد العملي بالعمل وعمارة الأرض وتوفير المعيشة بالكسب الحلال .
السابع : القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو من أعظم القربات ، ومن مصاديق في سبيل الله.
الثامن : من معاني في سبيل الله ، حفظ نفس المؤمن ، لذا فمن الإعجاز في الشريعة الإسلامية إجتماع الجهاد والقتال في سبيل الله مع التقية وأحكامها ، فتأمر آية البحث المسلمين بالقتال ، وتدعو آية أخرى للتقية والتحلي بالصبر ، على تحمل الأذى ، قال تعالى [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً]( ).
التاسع : الإنفاق في سبيل الله واخراج الحقوق الشرعية والمبادرة إلى دفع الزكاة وعدم حبسها .
العاشر : القتال من أجل حفظ النظام العام في المجتمعات وديمومة الحياة الدنيا ، ولما إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض لأنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )أخبرهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ولا يختص هذا الإخبار بالملائكة بل يشمل الخلائق كلها فهو وعد بأهلية الإنسان للخلافة في الأرض وإصلاحه لها .
ومن وجوه هذا الإصلاح قتال المسلمين في سبيل الله وطاعة له سبحانه ، فيأمر الله عز وجل المسلمين بالقتال , وقيّد القتال بأنه في سبيل الله .
الحادي عشر : قتال المسلمين من أجل إستدامة الحياة الدنيا فلولا القتال لم تدم الحياة لتخلف شرط العبادة ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
ومن خصائص آية البحث الخطاب العام للمسلمين والمسلمات بالقتال في سبيل الله لقوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] لتخرج النساء والضعفاء والمرضى بالتخصيص من الأمر بالقتال ، ومن خصائص صيغة الجمع في المقام أمور :
الأول : دعوة المسلمين والمسلمات للإعانة في القتال وتهيئة مقدماته ، وهو من الشواهد على لغة العموم في قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ] ( ).
ويدل تقييد قتال المسلمين بأنه في سبيل الله على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه لم يدع للقتال دون نفسه أو أمواله أو قومه ، إنما تكون الغاية العامة للقتال أنه في سبيل الله ، ويتلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات خطاب التكليف في الآية كما يتلقاه كل مسلم , ومن الإعجاز في السنة الدفاعية أن أول الذين حاربوا النبي محمداً هم كفار قريش , ولم يبدأهم القتال , بل هاجر من مكة لنشر الإسلام .
وهل قيد القتال بأنه في سبيل الله ترغيب بالإسلام ، الجواب نعم إذ أنه يدعو الناس إلى تعظيم شعائر الله ، ويحثهم على الإمتناع عن نصرة الكافرين الذين يصرون على الإعتداء على الزهاد والركع السجود .
وهناك صلة بين إنشاء أول بيت للناس بمكة لعبادة الله كما في قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] ( )وبين الآية أعلاه من سورة الذاريات.
ليكون دليلاً ومعلماً هادياً لكيفية العبادة وأنها طواف وصلاة ونسك ، وفي التنزيل في خطاب لإبراهيم وإسماعيل [أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ).
لذا تفضل الله عز وجل وأخبر بأن الأهلة ونظام سير الهلال هو للناس جميعاً والحج بقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ][ وَالْحَجِّ] ويكون من معانيه [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ] ( ) ولا يختص الأمر بأداء المناسك بل يشمل حساب الأشهر الحرم والتقيد بها لقوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ] ( ).
ويشمل التنزه عن الفسوق والفجور والإخلاق المذمومة عدة أشهر الحج .
ومن الإعجاز الغيري لآيات القرآن أن آية البحث [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ..] ( ) رقيب سماوي على المسلمين وإلى يوم القيامة ، فانها تمنع من قتالهم للدنيا والمال والإستيلاء على الأراضي وتوسعة الممالك وحمية الجاهلية والعصبية القبلية ، ولا يعني هذا التفريط بالحقوق ، إنما تكون الضابطة أن القتال في سبيل الله ، وزجر البغاة والمرتدين مثل حروب الردة ، بعد إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى في السنة الحادية عشرة والثانية عشرة للهجرة ، لما في الإرتداد من النكوص عن الإسلام والإمتناع عن أداء الفرائض ومنها الصلاة والزكاة ، ولأنها عودة للوثنية أو مقدمة لهذه العودة ، ولم تقم هذه الحروب لأن تلك القبائل أرادت الإنفصال عن سلطة الدين كما يحاول بعضهم تصوير الأمر .
ولا يصح أن ينعت بعض المسلمين طوائف منهم بالإرتداد ، وهم ينطقون بالشهادتين ويصلون الفرائض إذ يتوجه الخطاب بالقتال في آية البحث لهم جميعاً وبعرض واحد ومن معانيه :
أولاً : وقاتلوا في سبيل الله ولا تتقاتلوا فيما بينكم .
ثانياً : وتعاونوا للقتال في سبيل الله وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ) .
ثالثاً : وقاتلوا في سبيل الله الكفار الذين يقاتلونكم .
وتحتمل حروب الردة وقتال البغاة :
أولاً : إنها من مصاديق آية البحث [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] لصدق أن القول من أجل إقامة صرح الدين وإعلاه كلمة التوحيد .
ثانياً : ورود دليل آخر لحروب الردة وقتال البغاة .
ثالثاً : الإتحاد في الدليل العام والتعدد في الدليل الخاص ، فقتال البغاة له دليله الخاص ، قال تعالى [فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي] ( ) .
ومن خصائص القرآن أنه يدعو المسلمين إلى الوحدة فيما بينهم ، وتعاهد معني الأخوة ، ومن مصاديق هذا التعاهد الخروج للقتال في سبيل الله خاصة ، والإمتناع عن الخروج في الفتنة العمياء .
رابعاً : قتال المسلمين بلحاظ الجهة التي يتوجهون إليها بسيوفهم وهم خصوص الذي يقاتلونهم وفيه تخفيف عنهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] ( ).
فصحيح أن الآية أعلاه جاءت في مورد الصوم , وفي آياته الخمسة المتتالية في سورة البقرة ، ولكنها قانون عام في أحكام الشريعة ببركة فريضة الصيام , فقيود القتال رحمة وتخفيف ويسر من عند الله ، ومن مصاديق هذا اليسر سلامة المسلمين من الفتنة في القتال وعجز السلاطين على سوقهم إلى سوح المعارك حباً للدنيا وزينتها .
وتمنع الآية من صيرورة المسلمين فريقين يكون فريق منهم مع طائفة من غيرهم ، وهذا المنع من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ] ( ).
الثاني : تجدد الخطاب للمسلمين في كل زمان بالقتال , وأن يكون قتالهم في سبيل الله ، وخاصاً بالذين يقاتلونهم بالفعل ، وإذا كانت دولة أو أهل ملة يهددون ويتوعدون المسلمين بالقتال والغزو والهجوم المباغت فهل يصدق عليهم أنهم ممن يقاتل المسلمين .
الجواب لا ، إنما أرادت الآية الذين يتلبسون فعلاً بقتال المسلمين ، ويزاولون التعدي ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) .
الثالث : وجوب نبذ المسلمين الفرقة والإختلاف فيما بينهم , إذ يستلزم حال القتال أعلى مراتب الإتحاد والألفة والوفاق ، وهل القتال في سبيل الله من مصاديق الإعتصام والتمسك الوارد بقوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ) .
الجواب نعم ، لما فيه من الأمر من عند الله والحاجة للدفاع ، ومن خصائص الأمم والجماعات والأفراد بذل الوسع في الدفاع عن النفس ، ويتصف المسلمون بأمور :
أولاً : مجئ الأمر لهم بالدفاع من عند الله عز وجل .
ثانياً : صيغة الجمع في القتال ، مما يدل على حرمة التخلف عن القتال ، إن كان وجوبه وجوباً عينياً ، وحتى على القول بأن وجوبه كفائي وهو الصحيح والغالب فان الجمع تبقى بذات الأثر والموضوعية .
ثالثاً : التنزه عن غلبة النفس الغضبية والشهوية ، فلا يبتدئ المسلمون القتال ، ولا يقاتلون من لم يقاتلهم ، وحالما يكف الطرف الآخر يكفون عنه ، لأن آيات ومعجزات النبوة التي تلاحقه أعظم من السيف ، وهذه الحقيقة من الشواهد على عدم ثبوت نسخ مائة آية من القرآن بآية السيف ، إلا مع ورود دليل خاص بالنسخ بخصوص كل آية على نحو مستقل .
رابعاً : يدل الأمر من عند الله للمسلمين بالقتال بالدلالة التضمنية على نصرته لهم على أتباع الشيطان , وهو من مصاديق ولاية الله وملكه المطلق للسموات والأرض .
خامساً : فوز المسلمين بالثواب العظيم من جهات :
الأولى : يقاتل المسلمون إمتثالاً لأمر الله .
الثانية :لا يقاتل المسلمون إلا في سبيل الله ، وقصد القربة له سبحانه .
الثالثة : تهيئة مقدمات القتال , وما فيها من بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ] ( ) مجئ الأجر والثواب على هذا الإعداد والدعوة إليه والسعي فيه .
الرابعة : قتال المسلمين مع البصيرة والتدبر ، والتمييز بين العدو وغيره، وتقسيم الأعداء إلى عدو مقاتل وعدو غير مقاتل .
ولقد تفضل الله عز وجل ونهى المسلمين عن إتخاذ غيرهم بطانة وخاصة ووليجة لهم بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ( ).
ليكون من مصاديقه عصمة المسلمين من إتخاذ بطانة تذكي نار الخصومة بينهم ، وتأجيج الخلاف بين طوائف المسلمين ، وتزين لهم الإقتتال فيما بينهم ، سواء كانت هذه البطانة عند طرف واحد منهم أو عند أكثر من طرف ، لتكون آية البحث من مصاديق إطفاء الله عز وجل لنار الفتنة والحرب , قال تعالى [ُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل ألا يرفع المسلمون راية للحرب إلا للقتال في سبيل الله ، ويكون بعضهم رقيباً على نفسه وعلى غيره من المسلمين .
وليس من حصر لأهل الملل والنحل , وأخبر القرآن عن اليهود والنصارى وأهل الكتاب ، كما أخبر عن الذين كفروا والكفار والمشركين ، ولكن آية البحث حصرت قتال المسلمين بالذين يقاتلون المسلمين دون غيرهم .
وفي قيد ( في سبيل الله ) شاهد بأن الذين يقاتلون المسلمين لم يكن قتالهم في سبيل الله ، لأن القتال أعلى مراتب التضاد والتناقض ، فان قلت إن أبا جهل توجه بالدعاء إلى الله عز وجل عشية بدر بقوله (اللهم أقطعنا للرحم و آتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة) ( ).
وأخرج عن عطية قال ( قال أبو جهل يوم بدر : اللهم انصر إحدى الفئتين ، وأفضل الفئتين ، وخير الفئتين . فنزلت { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح })( ).
لقد أراد أبو جهل التغرير بالناس ، وإيهام أصحابه ، وجرهم إلى القتال ، وإلا فهم جميعاً يعلمون أنهم على الباطل , ودعاؤه من الإصرار على الكفر والجحود .
وفي الآية أعلاه دعوة للمسلمين للدعاء وسؤال النصر والفتح ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) لبيان المائز بين المسلمين وأعدائهم , وفيه مسائل :
الأولى : تفضل الله عز وجل بهداية المسلمين إلى الدعاء وسؤال الحاجات منه سبحانه .
الثانية : الإطلاق في مسألة الدعاء من غير تقييد بالموضوع وما هية الحاجة ، ولا يقدر على هذا الأمر إلا الله عز وجل , لتتجلى في هذه الآية معاني من أبهى معاني الربوبية .
الثالثة : هل يمكن القول أن الدعاء يكفي ويغني عن القتال , الجواب جاءت الآيات بالأمر بالدعاء والأمر بالقتال ، ومع الدعاء والإجتهاد فيه لا تصل النوبة إلى القتال إلا أن يشاء الله .
وفي تفسير آية البحث وقوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ] ( ) وجوه :
الأول : بيان عدم جواز قتال النساء والصبيان والشيخ الفاني وأصحاب الصوامع .
الثاني : إرادة الكف عن قتال المشركين الذين كفوا أيديهم عن المسلمين ثم نسخت بآية السيف التي تفيد الإطلاق في قتال المشركين .
الثالث : الآية غير منسوخة .
الرابع : المراد من [الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ]يعني قريشاً لبيان أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية ومصالحة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً( ) بأن يرجع إلى المدينة ويأتي مع أصحابه عامه القابل وتخلي قريش له مكة ثلاثة أيام .
ولما حان الوقت في السنة التالية وتجهز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمرة القضاء خاف أصحابه أن تنقض قريش وعدها ، فتصدهم عن البيت الحرام ، ويلجأ كفار قريش إلى قتال المسلمين ، فكره المسلمون قتالهم في الشهر الحرام , وفي الحرم المكي فأنزل الله عز وجل قوله [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]وفيه مسائل :
الأولى : منع الحرج عن المسلمين في القتال .
الثانية : بعث الفزع والخوف في قلوب المشركين ، وزجرهم عن صدّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في عمرة القضاء ، وهو من الإعجاز في الآية القرآنية بأن تنزل آية تبعث المسلمين على الإستعداد للقتال, ويصيب الفزع الذين كفروا فيمتنعوا عن التعدي ونقض العهود ، قال تعالى [وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ] ( ).
الثالثة : بيان قانون وهو أن الصلح والمهادنة ليس برزخاً دون إستمرار جهاد المسلمين في طاعة الله وإقامة الشعائر ، لذا قيدت الآية قتالهم بأنه في سبيل الله سبحانه .
ومن إعجاز آية البحث ودلائل الحكمة والأحكام فيها عدم إمكان حذف قيد أو شرط أو كلمة فيها ، وكل كلمة منها تدل على الأخرى بالإضافة إلى موضوعية عطف الآية على الآية السابقة التي أختتمت بالأمر بتقوى الله .
وتقدير الجمع بينهما هو : واتقوا الله وقاتلوا في سبيل الله .
ترى ما هي النسبة بين تقوى الله وبين القتال في سبيله ، الجواب فيه وجوه :
الأول : إرادة نسبة التساوي وأن القتال في سبيل الله هو التقوى .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على جهتين :
الأولى : تقوى الله أعم وأوسع من القتال في سبيله سبحانه .
الثانية : القتال في سبيل الله أعم وأوسع من التقوى .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين تقوى الله وبين القتال في سبيل الله .
والصحيح هو الجهة الثانية من الوجه الثاني .
وهل يصح تقدير الجمع بين خاتمة الآية السابقة وأول هذه الآية (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم لعلكم تفلحون ) الجواب نعم .
وهو من معاني العطف بين الآيتين ، ومن معاني التقوى , إذ أن غاية التقوى الصبر على حر السيوف ، وبذل النفس في سبيل الله.
وهل النصر في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )من الفلاح الذي أختتمت به الآية السابقة وهي آية الأهلة ، الجواب نعم ، ومن الإعجاز في المقام أن معركة بدر واقعة جرت في شطر من نهار اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، إلا أن الفلاح والعز والنجاح الذي فاز به المسلمون نتيجة هذه المعركة ينبسط على كل أيام الحياة الدنيا ، وتتغشى أفراد منه كل مسلم ومسلمة , وفي كل جيل من أجيالهم ، فلا غرابة أن يحتل البدريون منزلة خاصة في التأريخ .
ويدل الجمع بين الآيتين على أن القتال طريق النصر ، وفيه سلامة للمسلمين في دينهم .
وتقدير الجمع بين أول وآخر الآية هو (وقاتلوا في سبيل الله إن الله لا يحب المعتدين) وفيه مسائل :
الأولى : الذين يقاتلون المسلمين هم المعتدون ، لبيان أن قتال المسلمين عن حاجة ، ويتجلى هذا المعنى بالأمر من عند الله عز وجل بالقتال ، وفيه زجر عن التعدي على الإسلام وثغور المسلمين .
الثانية : من معاني عدم حب الله عز وجل للمعتدين أمره تعالى للمسلمين بقتال الذين يقاتلونهم من المعتدين ، بلحاظ كبرى كلية وهي أن النسبة بين المعتدين والذين يقاتلون المسلمين هي العموم والخصوص المطلق، بالإضافة إلى حقيقة وهي أن قتال الذين يقاتلون المسلمين هم أشد وأبغض المعتدين .
ولما إحتجت الملائكة على تفضل الله بجعل خليفة في الأرض لأن فريقاً من الناس يفسدون في الأرض ويقتلون النفس التي حرم الله من غير ذنب، تفضل الله وأخبرهم بـ [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علمه سبحانه أنه أمر المسلمين بقتال الكفار الذين يعتدون على أهل الحق والهدى ، ومن علم الله عز وجل أن الذين يفسدون في الأرض يقاتلهم المؤمنون في الدنيا وينتظرهم العذاب الأليم في الآخرة .
ويخاطب الله الذين كفروا يوم القيامة بالحجة والبرهان[فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ]( ).
الثالثة : من خصائص قتال المسلمين للذين كفروا إستئصال الكفر والجحود من الأرض ، فقوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] أمر متجدد إلى المسلمين في كل زمان ، والقتال من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متعددة قوة وضعفاً ، ويحتمل في إتصاله ودوامه وجوهاً :
الأول : بقاء القتال بين المسلمين والذين كفروا على مرتبة واحدة من جهة الشدة وتعدد الملاقاة .
الثاني : تناقص القتال بين المسلمين والذين كفروا على نحو تدريجي ، والنقص في أيامه بالنسبة لأيام المسلم والمهادنة .
الثالث : إزدياد حدة القتال مع تقادم الأيام والسنين .
الرابع : عدم وجود قاعدة في المقام ، فمرة تزداد حدة القتال وأخرى تخف وطأته .
والصحيح هو الثاني ، وهو الذي تدل عليه الوقائع التأريخية ، وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
نعم كانت معركة أحد التي وقعت بعد معركة بدر بأحد عشر شهراً أشد من معركة بدر من جهات :
الأولى : كثرة أفراد كل من الفريقين ، إذ كان عدد أفراد جيش المسلمين في معركة بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر , وعدد جيش المشركين نحو ألف رجل .
أما في معركة أحد فان عدد جيش المسلمين ألف رجع نحو ثلثهم مع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول ، بينما بلغ عدد أفراد جيش المشركين نحو ثلاثة آلاف .
وفي معركة الخندق إزداد عدد جيش المشركين فكان عشرة آلاف إلا أنه لم يحدث قتال عام بين الجمعين مع شدة الحصار على المسلمين ، ولم تشهد الجزيرة حصاراً مثل حصار يوم الخندق وسميت المعركة باسم معركة الأحزاب لكثرة القبائل التي إجتمعت على قتال المسلمين .
الثانية : حدوث الكر والفر بين الفريقين ، وإبتداء المعركة بأنتصار المسلمين ثم صارت الريح للكافرين .
الثالثة : إصابة النبي محمد صلى الله علية وآله وسلم بجراحات عديدة .
الرابعة : تعدد المبارزة ، وممن سقط فيها ثمانية من حملة لواء المشركين وأحداً بعد أخر ، حتى بقي لواؤهم صريعاً في الأر ض (حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فلاثوا به) ( ) أي أجتمعوا حوله .
الخامسة : كثرة قتلى المسلمين .
السادسة : الإنذار والوعيد من عدم حب الله عز وجل للعبد أو لفعل مخصوص لنزول البلاء معه ، فمن إعجاز الآية أنها لم تقل إن الله لا يحب التعدي بينما ورد قوله تعالى [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ] ( ) وورد قوله تعالى [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ] ( ) .
وذكرت ذات آية البحث المعتدين ليشمل عدم حب الله وجوهاً :
أولاً : ذات فعل التعدي .
ثانياً : شخص المعتدي .
ثالثاً : جماعة المعتدين .
رابعاً : التعاون والتآزر في الإعتداء والظلم .
خامساً : الإصرار على التعدي وتجاوز الحد والجور .
سادساً : الغايات من التعدي وسوء القصد .
ترى ما هي النسبة بين الفساد والتعدي .
الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، ليكون قتال المسلمين حرباً على الفساد , وواقية منه ، وزجراً للمفسدين من التعدي على المسلمين ، أو مؤازرة وإعانة المعتدين ، لذا حينما قام كفار قريش باستصراخ قبائل الجزيرة العربية لنصرتهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم يجدوا إلى الإعراض والصدود .
ولهذه المعركة أسماء :
الأول : معركة الأحزاب .
الثاني : معركة الخندق .
الثالث : الاسم الجامع .
(عن ابن عباس { ولما رأى المؤمنون الأحزاب . . . } ( )إلى آخر الآية قال إن الله تعالى قال لهم في سورة البقرة { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء }( ) فلما مسهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب في الخندق { قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله } فتأول المؤمنون ذلك فلم يزدهم إلا إيماناً وتسليماً) ( ).
ورد الاسم الجامع لهما للبيان ،كما ورد عن ابن شهاب قال (قاتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر في رمضان سنة اثنتين ، ثم قاتل يوم أحد في شوّال سنة ثلاث ، ثم قاتل يوم الخندق وهو يوم الأحزاب وبني قريظة في شوّال سنة أربع) ( ).
وإذا كان ورد اسم بدر في القرآن بلحاظ أن موضع المعركة عند بئر بهذا الاسم ، وجاء القرآن لتأكيد النصر بهذا الموضع بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) فان اسم جبل أحد لم يذكر في القرآن وكذا لفظ( الخندق) لم يذكر في القرآن وورد لفظ (الأحزاب), وسميت سورة باسمها .
الآية الثانية :
قوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ] ( ) .
والقائل بنسخ هذه الآية يقول بمباشرة القتل والقتال للكفار , وإن لم يبدأوا به ، مع التحري عن الكافرين لقتلهم .
إبتدأت الآية بقوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ] وفيه مسائل :
الأولى : عطف الآية على الآية السابقة لها .
الثانية : الأمر للمسلمين بقتل الذين كفروا .
الثالثة : تعيين الذين يُقتلون بلحاظ العطف على الآية السابقة ، وهم الذين يقاتلون المسلمين بما هم مسلمون ، وإبتدأت الآية السابقة بالأمر بالقتال بقوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) .
وبين القتال والقتل عموم وخصوص , فقد يقاتل الإنسان ولكن لا يَقتل إنما يدفع المعتدي ونحوه , أما حدوث القتل ، فيأتي عن قتال أو من غير قتال والذي يقاتل قد يقتل هو نفسه ، أما قوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ] فهو قتل من طرف واحد ، ولكن لغة العطف على الآية السابقة تدل على أن هذا القتل هو من رشحات قتال المسلمين فيه ، مما يفيد وقوع قتلى شهداء من المسلمين، وهو الذي حصل في معركة بدر وأحد ، وقد قتل من المسلمين في معركة بدر أربعة عشر رجلاً .
ووقع منهم سبعون شهيداً في معركة أحد ( )، ومن معاني الجمع بين الآيتين أمور :
الأول : البشارة للمسلمين بالنصر والفتح ، وتقدير الجمع بينهما : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم وستقتلونهم حيث ثقفتموهم .
الثاني : الإنذار والوعيد للمشركين ، وزجرهم عن قتال الذين آمنوا .
الثالث : تقييد قتل المشركين بأنه في سبيل الله ، وتقدير الآية وأقتلوهم في سبيل الله حيث ثقفتموهم .
الرابع : الآية خاصة بالذين يقاتلون المسلمين ويهجمون عليهم ويتجاوزون حدود الله ، ويتعدون على ثغور المسلمين ، ويحتمل قوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ] ( ) وجوهاً :
الأول : حيث وجدتموهم أي وإن لم يكونوا في ساحة الوغى ، بلحاظ أنهم محاربون أينما كانوا في سفر أو حضر .
الثاني : أي حيث لقيتموهم في ميدان المعركة ، قال تعالى بخصوص معركة أحد [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ] ( ) فتوجه الخطاب في الآية أعلاه إلى المسلمين والمسلمات جميعاً إلى يوم القيامة مع ذكر الجمعين بصيغة الغائب , والمراد جمع المسلمين وجمع المشركين ، لبيان مسألة وهي جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والصحابة في معارك الإسلام الأولى ، ولزوم إقتباس المسلمين من هذه المعارك المواعظ والعبر .
الثالث : إرادة الظفر بالمشركين .
الرابع : صيرورة المشركين في حال قهر ووهن وضعف ، قال تعالى في خطاب للمسلمين [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ) ومع قلة كلمات الآية فانها تتضمن قوانين وأحكام في ملاقاة الذين كفروا , وإستئصال كلمة الكفر من الأرض إذ جاءت الآية بأمور :
الأول : الأمر للمسلمين بقتل المشركين أينما وجدوهم ، ويحتمل المقصود من المشركين وجهين :
أولاً : عموم المشركين من أهل مكة وغيرها ، وممن يقاتل المسلمين أو يحرض على قتالهم , ويمد جيش الكفار بالمؤن والسلاح ، ومن لم يقاتل المسلمين ، ولم يشارك في قتالهم أو مقدمات هذا القتال .
ثانياً : المقصود خصوص المشركين الذين يقاتلون المسلمين .
والمختار هو ثانياً أعلاه لعطف آية البحث على الآية السابقة لها ، والمراد من الضمير (هم) في [وَاقْتُلُوهُمْ]هم الذين يقاتلون المسلمين لقوله تعالى في الآية السابقة [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ..].
فلا يصح تقدير الضمير بما هو أعم من الذين جاء الضمير بخصوصهم ، فلا يقال في الآية (أو قاتلوا في سبيل الذين يقاتلونكم وأقتلوا المشركين حيث ثقفتموهم ) .
الثاني : الأمر للمسلمين باخراج الذين أخرجوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الأوائل من مكة لبيان حقيقة تأريخية وهي أن هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه كانت على نحو الإكراه، وأن الذين كفروا أرغموهم وأجبروهم على الخروج , فكان فيه النصر المبين ، قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] ( ) ليكون في الآية أمور :
أولاً : البشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالعودة والرجوع إلى مكة .
ثانياً : دخول المسلمين إلى مكة فاتحين , فمع أن الذين أخرجوا من مكة هم أكثر المهاجرين ، فان الخطاب في الآية [وَأَخْرِجُوهُمْ] يتوجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى المهاجرين والأنصار .
ثالثاً : دعوة المسلمين إلى الصبر في جهاد الذين كفروا .
رابعاً : تأديب المسلمين وإخبارهم بأن فتح مكة لا يأتي إلا بعد أن يصيب الضعف والوهن الذين كفروا .
خامساً : الوعيد للذين كفروا بأن القتل قريب منهم حتى في حال إنتهاء المعركة ومغادرة ساحة الوغى ، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم دخول الناس فيه جماعات ، فلا يعلم الكافر بالذين يدخلون الإسلام من أهل بلدته أو قريته أو الذين يلاقونه في السوق أو يصاحبونه في السفر , ويشعر هو نفسه أن دخوله الإسلام أمر راجح وقريب .
وقد أمر الله عز وجل المسلمين بقتل المشركين كما في آية البحث [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ] ( ) نعم مع التقييد بالإمتناع عن القتال والقتل في الأشهر الحرم .
وكان القتال محرماً عند العرب في الأشهر الحرم وهي شهر رجب ، وشهر ذي القعدة وذي الحجة والمحرم , والظاهر أنه من بقايا الحنيفية التي جاء بها إبراهيم وقدسية البيت الحرام عند العرب ، وجاء الإسلام وأمضى هذا القانون ، وفيه نفع عظيم للمسلمين وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد بالإتصال بالقبائل في موسم الحج وفي شهري ذي القعدة وذي الحجة حيث يدعوهم إلى الإسلام .
(وقيل لها الحرم لأن الله حرّم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم إلا سبيل الخير) ( ) .
وعن عاصم بن قتادة وجماعة قالوا ( أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِمَكّةَ ثَلَاثَ سِنِينَ مِنْ أَوّلِ نُبُوّتِهِ مُسْتَخْفِيًا ثُمّ أَعْلَنَ فِي الرّابِعَةِ فَدَعَا النّاسَ إلَى الْإِسْلَامِ عَشْرَ سِنِينَ يُوَافِي الْمَوْسِمَ كُلّ عَامٍ يَتّبِعُ الْحَاجّ فِي مَنَازِلِهِمْ وَفِي الْمَوَاسم بِعُكَاظٍ وَمَجَنّةَ وَذِي الْمَجَاز ِ يَدْعُوهُمْ إلَى أَنْ يَمْنَعُوهُ حَتّى يُبَلّغْ رِسَالَاتِ رَبّهِ وَلَهُمْ الْجَنّةُ فَلَا يَجِدُ أَحَدًا يَنْصُرُهُ وَلَا يُجِيبُهُ حَتّى إنّهُ لَيَسْأَلُ عَنْ الْقَبَائِلِ وَمَنَازِلِهَا قَبِيلَةً قَبِيلَةً .
وَيَقُولُ يَا أَيّهَا النّاسُ قُولُوا : لَا إلَهَ إلَا اللّهُ تُفْلِحُوا وَتَمْلِكُوا بِهَا الْعَرَبَ وَتَذِلّ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ فَإِذَا آمَنْتُمْ كُنْتُمْ مُلُوكًا فِي الْجَنّةِ وَأَبُو لَهَب ٍ وَرَاءَهُ يَقُولُ لَا تُطِيعُوهُ فَإِنّهُ صَابِئٌ كَذّابٌ فَيَرُدّونَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَقْبَحَ الرّدّ وَيُؤْذُونَهُ وَيَقُولُونَ أُسْرَتُك وَعَشِيرَتُكَ أَعْلَمُ بِكَ حَيْثُ لَمْ يَتّبِعُوك وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ .
وَيَقُولُ اللّهُمّ لَوْ شِئْتَ لَمْ يَكُونُوا هَكَذَا قَالَ وَكَانَ مِمّنْ يُسَمّى لَنَا مِنْ الْقَبَائِلِ الّذِينَ أَتَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَدَعَاهُمْ وَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ بَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَة وَمُحَارِبُ بْنُ حصفة وَفَزَارَةُ وَغَسّانُ وَمُرّةُ وَحَنِيفَةُ وَسُلَيْمٌ وَعَبْسُ وَبَنُو النّضْر ِوَبَنُو الْبَكّاءِ وَكِنْدَةُ وَكَلْبٌ وَالْحَارِثُ بْنُ كَعْبٍ وَعُذْرَةُ وَالْحَضَارِمَةُ فَلَمْ يَسْتَجِبْ مِنْهُمْ أَحَدٌ ) ( ).
وفي سبب نزول قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ] ( )أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية من المسلمين قبل معركة بدر بنحو شهرين .
وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن جحش الأسدي أميراً عليهم ، وهو من المهاجرين الأوائل ، وقد أسلم قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم وكان قد هاجر إلى الحبشة ثم هاجر إلى المدينة وأستشهد يوم أحد (يعرف بالمجدع في الله، لأنه مثل به يوم أحد وقطع أنفه) ( ).
فانطلقت السرية ووصلوا إلى موضع يسمى (نخلة) بين مكة والطائف ، أي أن مكة تقع بين المدينة وبين موضع نخلة الذي وصلت إليه السرية وتبعد نخلة عن المدينة المنورة نحو أربعمائة وثمانين كيلو متراً ، وهي مسافة طويلة .
ولكن الغرض من السرية هو إعتراض قافلة لقريش تمر بنخلة فصارت السرية قريبة من مكة وموطن قريش .
وكان عدد أفراد السرية قليلاً فهم إثنا عشر كلهم من المهاجرين , وقيل هم عشرون ، وقيل ثمانية ليس فيهم من الأنصار , وهم :
الأول : سعد بن أبي وقاص الزهري .
الثاني : عكاشة بن محصن الأسدي .
الثالث : عتبة بن غزوان بن جابر السلمي.
الرابع : أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس .
الخامس :سهيل بن بيضاء الحارثي .
السادس : عامر بن ربيعة الوائلي العنزي.
السابع : واقد بن عبد الله بن عبد مناف التميمي.
الثامن : خالد بن البكير الليثي .
والتاسع هو أميرهم عبد الله بن جحش ، وفي رواية معهم عمار بن ياسر (وتخلف عنه سعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان ، أضلا راحلة لهما )( ).
وقام النبي بكتابة كتاب وسلمه إلى عبد الله بن جحش وأمره ألا يفتحه وينظر فيه إلا بعد مسيرة يومين والوصول إلى محل مخصوص ، وهو أمر لم يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع غيره من أمراء السرايا والغزوات، فسار عبد الله وأصحابه وبعد يومين فتح الكتاب وإذا فيه :
(إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا وتعلم لنا من اخبارهم فلما نظر في الكتاب قال سمعا وطاعة) ( ).
وظاهر كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يأمرهم بقتال ولا إستيلاء على أموال لأنهم كانوا في شهر رجب ، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بقتال إنما لرصد أخبار قريش ومعرفة أحوالهم ، فهذه السرية مما يسمى في هذا الزمان سرية إستكشاف .
ثم قال عبد الله لأصحابه : قد نهاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أستكره أحداً منكم ، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع ، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لبيان أن الطريق إلى نخلة محفوف بالمخاطر ، وكذا العودة منها ولصيرورة السرية على مقربة من قريش ، الذين يريدون أن يظفروا بالمهاجرين فيعذبوهم ويجعلوهم عبرة لغيرهم وزاجراً لشباب قريش لمنعهم من الهجرة .
ولكن أصحاب عبد الله بن جحش نهضوا جميعاً معه وتوجهوا إلى منطقة نخلة .
ترى لماذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم النظر في كتابه إلا بعد المسير يومين ، الجواب لبعد الشقة ، إذ يستغرق السير إلى موضع نخلة نحو عشرة أيام ، خاصة وأن أفراد السرية كانوا يتناوبون على ركوب الإبل، فحينما يسيرون يومين ويقطعون أكثر من خمس المسافة بلحاظ أن أفراد الجيش يمشون بوتيرة أسرع في أيام المسير الأولى ، فأنهم لا يهمّون بالعودة ومخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووصلت سرية عبد الله بن جحش إلى منطقة نخلة في الليلة الأخيرة من شهر رجب وهي من مدة الأشهر الحرم ، ووجدوا في نخلة قافلة قريش التي أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنها ، وهي في طريقها إلى مكة ، وبينهما وبين مكة ليلة واحدة ، وكان مع القافلة أربعة هم : عمر بن الحضرمي ، والحكم بن كيسان ، وعثمان ، والمغيرة بن عبد الله ، وكانت تجارتهم أدم( ) وزيت .
فاذا انتظر الصحابة الخروج من شهر رجب الحرام إلى شعبان فأنهم لا ينالون من القافلة شيئاً لأنها تدخل مكة ، فرأى الصحابة أن الفرصة مؤاتية للإجهاز على القافلة , ولم يثبت عندهم أنه من الشهر الحرام , إذ أن الشهر القمري يكون على أحد وجهين :
الأول : تمام الشهر ثلاثين يوماً .
الثاني : نقصان الشهر ويكون عدد أيامه تسعاً وعشرين يوماً ، لأن عدد أيام السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وبعض اليوم ، وتجمع كسور اليوم كل ثلاث سنين لتكون يوماً كاملاً ، وتعرف بالسنة القمرية الكبيسة .
لقد كان العرب يعظمون الأشهر الحرم ، وفي تقيد المسلمين بآدابها ثواب عظيم .
وعن جابر بن عبد الله قال (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى ويغزو ، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ) ( ).
وكان اليوم الذي لقوا فيه القافلة مردداً بين آخر جمادى الآخرة وبين أول رجب الذي إختلف أفراد السرية من المسلمين فيه على وجهين :
الأول : الذين أرادوا الإجهاز على القافلة ، وأنها غنيمة ورزق ساقه الله ، وأنهم لم يعلموا هل هو آخر يوم من جمادى الآخرة أم أول يوم من شهر رجب ، وكأنهم اعتمدوا أصل الإستصحاب وأصالة البراءة بإحتساب شهر جمادى ثلاثين يوماً ، وقالوا إذا تركتموهم هذه الليلة فأنهم يدخلون مكة فيصيرون في مأمن .
الثاني : الذين قالوا بأن اليوم أول رجب وأنه هناك عهد بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين بعدم القتال في الشهر الحرم ، وأنه لا يصح ، وقالوا لأصحابهم (ولا نرى أن تستحلوه لطمع أشفقتم عليه) ( ) وأجهزوا على ابن الحضرمي فقتلوه , إذ رماه واقد بن عبد الله بسهم فقتله.
ووقع في الأسر من المشركين عثمان بن عبد الله , والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة , وهرب المغيرة المخزومي فاعجزهم ولم يدركوه ، فدخل مكة وأخبر قريشاً ، ودخلوا المدينة بالأسيرين والعير معهم غنيمة .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ، فأوقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأسيرين ، وامتنع عن أخذ شيء من الغنيمة ، وظن أفراد السرية أنهم هلكوا ووبخهم أصحابهم من المسلمين .
وقيل وقعت الحادثة بين آخر رجب وأول يوم شعبان الذي هو ليس من الأشهر الحرم وأن أفراداً من سرية المسلمين قالوا لإن تركتموهم الليلة حتى يخرج شهر رجب الأصم فأنهم يدخلون الحرم فلا يجوز قتلهم ليس من طرف الزمان بل من جهة حرمة المكان والحرمة ، والأصح الأول ، وهو أن اليوم كان مردداً بين جمادى الآخرة وبين أول رجب .
فركب وفد من كفار قريش وجاءوا إلى المدينة ودخلوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا على نحو الإستفهام الإنكاري : أتحل القتال في الشهر الحرام ؟
فلم يجبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم قتلوه في اليوم الأخير من شهر جمادى الآخرة بناء على ظنهم ، خاصة مع بعد المسافة ، وليس من شاهد عند قريش إلا المغيرة المخزومي والأسيرين ولا عبرة بشهادة الكافر في المقام ، ولكن أفراد السرية من المسلمين لم يكذبوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ أخبروه عن اليوم الذي وقعت فيه الحادثة كما ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلمه بالوحي .
وهل يدل الخبر على وحدة حكم الهلال مع إختلاف الآفاق وبعد المسافة بين مكة والمدينة ، إذ أن موضع نخلة الذي وقع فيها القتل أقرب إلى مكة ، وهو من مصاديق قوله تعالى قبل آيتين [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ] ( ) فمن عمومات قوله تعالى [مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ]تعيين الأشهر الحرم وعدم جواز التعدي والقتل فيها , الجواب لا يفيد الخبر أعلاه هذا المعنى وإن كان هو المختار , بالنسبة للبلدان التي يجمعها ليل واحد.
وكانت للأشهر الحرم موضوعية في نشر الإسلام وإتصال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبائل وعرض نبوته ومعجزاته عليهم عند مجيئهم في موسم الحج لأن شهر ذي القعدة وشهر ذي الحجة من الأشهر الحرم ، ليكون من معاني وتقدير الآية أعلاه وجوه :
الأول : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للأشهر الحرم .
الثاني : يسألونك عن الأهلة ، قل هي مواقيت لأشهر المحل .
الثالث: يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت لفريضة الصيام ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ).
الرابع : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت لإجتناب القتل والقتال .
الخامس : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت لتبليغ الدعوة الإسلامية.
وتفاءل بعض أهل الكتاب في المدينة ممن يقولون بالزجر ويتفاءلون أو يتشاءمون بالأسماء لأن اسم القاتل هو واقد بن عبد الله ، فقالوا وقدت وإشتعلت الحرب ، وأن هذا القتل بداية لمعارك بين المسلمين والذين كفروا من قريش .
واسم المقتول هو عبد الله بن عمرو الحضرمي أي عمرت وطالت الحرب، ومعنى الحضرمي بحسب هذا اللحاظ حضرت الحرب .
فتفضل الله عز وجل وأنزل قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ] ( ).
وفي مصحف عبد الله بن مسعود (يسألونك عن الشهر الحرام عن قتال فيه) بتكرير عن ، وكذلك قرأها الربيع والأعمش ، وقرأ عكرمة : عن الشهر الحرام قتل فيه قل قتل دون ألف فيهما) ( ).
لقد أراد كفار قريش تعيير النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بقتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام ، وإتخاذه ذريعة لصد الناس عن دخول الإسلام ولبعث النفرة في النفوس من المسلمين وأنهم يقتلون في الشهر الحرام الذي جعل الله فيه العرب يعتدلون ويأمنون في الحل والترحال ، فتفضل الله وتولى الجواب بنفسه من تساؤل المشركين ، وأسقط ما في أيديهم وحال دون إفتتان الناس بهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وقيل أن الذين سألوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ] هم المسلمون ليعلموا حكم القتال فيه من جهة الشريعة .
وقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ] يتضمن مسائل :
الأولى : إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه:
أولاً : توجه الخطاب في الآية من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : توثيق القرآن للأسئلة التي توجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : نصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإجابة على الأسئلة التي توجه إليه من قبل الناس ، وهو فرد خاص من مصاديق ولاية الله عز وجل له ،وفي التنزيل [فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ] ( ) .
الثانية :عدم إبطاء الإجابة على السؤال ، فمع بعد المسافة بين السماء والأرض فان جبرئيل كان ينزل بالإجابات وبالآيات التي تكون ملائمة في موضوعها وحكمها لأسباب النزول والوقائع الحادثة في حينه ، وفيه دعوة
للمسلمين لإستحضار ذات الآية القرآنية في الوجود الذهني عند ذكر ذات الحادثة أو وقائع شبيهة لها .
وفيه عون ومدد لهم لحفظ آيات القرآن , ومن معاني ذكر سؤال المسلمين والناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الشهر الحرام تأكيد قدسية الأشهر الحرم .
الثالثة : السؤال عن ذات الشهر الحرام من جهات :
الأولى : أي الأشهر الحرم بلحاظ أن لفظ الشهر في الآية اسم جنس .
الثانية : هل حرمة الأشهر الحرم من التنزيل والحكم الشرعي ، وبقايا حنيفية إبراهيم عليه السلام , أم أمر إبتدعه العرب لإعتدال أمورهم وجعلوه نوع مهادنة وموادعة .
والصحيح هو الأول , ليكون ذكرها في القرآن من مصاديق قوله تعالى [مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ] ( ).
الثالثة : هل ينقطع السؤال بنزول قوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ] ( ) الجواب لا ، لإرادة بيان ذات الأشهر الحرم، وما المقصود بحرمة هذه الشهور ، وهناك إستثناء في حلية القتال أو الدفاع فلذا نزل قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ..] ( ) .
الرابعة :تبين الآية موضوع السؤال ، وأنه يتعلق بالإذن بالقتال في الشهر الحرام أو عدمه .
ولم تقل الآية يسألونك عن القتال في الشهر الحرام ، بل قالت : يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ] لبيان إستيعاب الآية القرآنية للأسئلة المتعددة في الموضوع المتحد ، إذ تأتي الأسئلة من وجوه :
أولاً : ما هي الأشهر الحرم .
ثانياً : لماذا ثلاثة أشهر حرم سرد ، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وشهر واحد فرد وهو رجب الذي يقع بين جمادى الآخرة وشعبان ، وكل منهما من الأشهر الحل .
ثالثاً : قدم تأريخ حرمة الأشهر الحرم ، وتفضل الله عز وجل وأخبر عن إقتران هذه الحرمة بأوان خلق السموات والأرض.
وأخرج عن أبي بكرة : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب في حجته فقال : ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً: منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ذو العقدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)( ).
وهذا الإقتران من الشواهد على خلافة الإنسان في الأرض وتفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإحياء هذه الحرمة وبقائها إلى يوم القيامة ، فان قلت أكثر الناس لا يعلمون بحرمة هذه الشهور، بل ولا يتخذونها في التقويم وعدّ الأيام والأشهر إنما يعتمدون الحساب الشمسي خاصة وأنه متوافق في كل السنين من جهة حلول ذات اليوم في فصل الصيف أو الخريف أو الشتاء أو الربيع .
والجواب لا تعارض بين إتخاذ الحساب الشمسي في المعاملات ونحوها ، وبين نشر حرمة القتل والإقتتال بين الناس في الأشهر الحرم .
رابعاً : الأصل هو لا حرمة للذي يصر على الكفر , فسأل المسلمون هل لمن حارب الإسلام حرمة في الأشهر الحرم ، وكأنهم يتطلعون إلى الإذن بالقتال فيه ، وفي التنزيل [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ).
لقد كان قتل عمرو بن الحضرمي من قبل سرية عبد الله بن جحش شاهداً على لجوئهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمور :
الأول : عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خبر السماء .
الثاني : رجاء المسلمين نزول آية تبين لهم الحكم الشرعي بخصوص القتل والإقتتال في الشهر الحرام .
الثالث : بيان خشية المسلمين من الله عز وجل ، وهو شاهد على بلوغ المسلمين مراتب من المعرفة , فيرجون العمل وفق الكتاب ويتطلعون لنزول آيات يعملون بها بخصوص الأشهر الحرم دفاعاً وهجوماً .
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على حرمة القتال بين المسلمين لتوجه الخطاب للمسلمين بأن يقاتلوا مجتمعين الطرف الآخر وهم المشركون الذين يقاتلونهم ، وأن يكون قتال المسلمين في سبيل الله .
ثم جاء بعد آيتين [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ] ( ) لتعيين الجهة التي يقاتلها المسلمون إذ يقاتلون الذين أشركوا على نحو الخصوص .
ومن إعجاز القرآن إبتداء آيات القتال هذه بأن يكون قتال المسلمين في سبيل الله ليتغشى مضامين هذه الآيات كلها ، ويكون تقديرها على وجوه :
أولاً :ولا تعتدوا فان الذين يقاتلون في سبيل الله لا يعتدون .
ثانياً : وأقتلوهم في سبيل الله .
ثالثاً : وأخرجوهم في سبيل الله من حيث أخرجوكم .
رابعاً : والفتنة أشد من القتل لأنها نوع حائل وبرزخ دون جذب الناس للإيمان والسعي في سبيل الله .
خامساً : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ، وهذا الإمتناع عن القتل أيضاً في سبيل الله .
سادساً : فان قاتلوكم فاقتلوهم في سبيل الله .
سابعاً : لا يشمل القتال في سبيل الله النساء والصبيان والشيخ الفاني ، وصاحب الصومعة .
والأنبياء على قسمين :
الأول : الذين لم يؤمروا بالقتال إنما كان سلاحهم الحجة والبرهان والمعجزة .
الثاني : الذين جمعوا مع الحجة والمعجزة قتالهم للذين كفروا بأمر من عند الله ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
وفي الآية أعلاه إخبار عن إصابة المؤمنين بالجروح والكلوم في حال القتال وإستشهاد عدد منهم , وتبين هذه الآيات المنزلة الرفيعة للمسلمين إذ تخاطبهم بالقتال في سبيل الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وهل هناك فريق ثالث من الأنبياء قاتل إجتهاداً من عنده أو للضرورة , الجواب لا , من باب الأولوية بخصوص ولدي آدم , إذ قال تعالى[لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ]( ).
ثامناً : القتل والخزي جزاء الذي يقاتلون من يحارب في سبيل الله .
تاسعاً : الترغيب بالجهاد في سبيل الله ، وبيان أنه واقية من تعدي الذين كفروا ، وعن أنس (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ، ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما ، ولملأت ما بينهما ريحاً ، ولنصيفها على رأسها يعني الخمار خير من الدنيا وما فيها .
وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة عن ابن عباس . لو أن امرأة من أهل الجنة بصقت في سبعة أبحر كانت تلك الأبحر أحلى من العسل) ( ).
عاشراً :فان انتهوا بسبب صبر وقتال المسلمين في سبيل الله .
ويحتمل المراد من قوله تعالى[فَإِنْ انتَهَوْا]وجوهاً :
الأول : كف الكفار عن قتال المسلمين .
الثاني : توبة الكفار ودخولهم في الإسلام .
الثالث : إنتهاء الكفار عن الشرك بالله .
الرابع : إمتناع الذين كفروا عن المكر والكيد بالمسلمين ، وعن إعانة الذين يقاتلون المسلمين بالمال والمؤونة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة .
ومن إعجاز نظم القرآن أن لفظ [فَإِنْ انتَهَوْا] ورد ثلاث مرات فيه وكلها في موضوع واحد مرتين في آيتين متتاليتين( ) ، وأخرى في قوله تعالى[وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ) .
الحادي عشر : فان انتهى الذين كفروا عن محاربة الإسلام وقتال المسلمين ، فكفوا عنهم في سبيل الله بلحاظ أن هذا الكف دعوة لهم لدخول الإسلام لإقترانه بالمعجزات الباهرات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني عشر : وقاتلوهم في سبيل الله حتى لا تكون فتنة ، وفيه شاهد على حاجة أهل الأرض لقتال المسلمين في سبيل الله ، وكأن هذا القتال ضرورة لذا يقدر بقدر , فاذا إنتهوا عن العدوان والتعدي يمتنع المسلمون عن قتالهم ، ويظهر أن قريشاً أصيبت بالخذلان ودبّ الوهن في صفوف المشركين ، وأخذ الناس يهاجرون من بين ظهرانيهم للمدينة .
ولعله من أسباب خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للعمرة ،وكان خروجه في شهر ذي القعدة السنة السادسة للهجرة الموافق سنة 628م ، فلم يخرج للقتال ، وكان عدد الذين خرجوا معه من الصحابة ألف وأربعمائة ، ويستطيع النبي صلى الله عليه وآله وسلم السير إلى مكة للقتال ، ولكنه لا يفعل شيئاً إلا بأمر وإذن من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) ليكون مسيره وأصحابه هذا شاهداً على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا ينتهز أي فرصة لحمل الناس على دخول الإسلام ، ولا يتعرض لأموال المشركين ولا أشخاصهم وعوائلهم ما داموا يكفون أيديهم عن المسلمين .
وهل سير النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى العمرة ومن غير سلاح من مصاديق قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ] ( ) الجواب لا ، فلم ينته المشركون من قتال المسلمين في السنة السادسة للهجرة، ولكن هذا السير مقدمة لإنتهائهم ، ودعوة لدخولهم الإسلام .
ولبيان قانون وهو أن الله عز وجل لطيف بالناس جميعاً ، فيأمر النبي بكف يده وأيدي المسلمين عن المشركين حتى قبل أن ينتهوا كي يكون هذا الكف مقدمة لإنتهائهم عن العدوان ، ودعوة للتدبر بآيات القرآن والإنتفاع الأمثل من السنة النبوية .
ومن الآيات أن المسلمين استجابوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج من المدينة في لباس الإحرام لإعلان بدأ تطهير البيت الحرام من الأصنام ، وتنزيهه من مفاهيم الشرك إلى يوم القيامة سواء عند الطواف بالبيت الحرام أو في السعي بين الصفا والمروة أو مناسك الحج والعمرة الأخرى .
وكان لتحويل القبلة إلى مكة موضوعية في السير إلى مكة للعمرة وفي التعجيل في فتحها ، وتنافس المسلمين في النفرة في جيش الغزوات ، قال تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]( ).
فحينما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة كان يصلي إلى بيت المقدس بأمر من عند الله , وفرح اليهود الذين يسكنون المدينة باستقباله بيت المقدس ، وبقي نحو تسعة عشر شهراً يصلي إليه وأخذ يتطلع إلى السماء ينتظر نزول الملك بالوحي بنسخ القبلة وتحويلها إلى البيت الحرام، فنزل جبرئيل بالآية أعلاه.
فصارت الكعبة قبلة للمسلمين ، ليستحضروا ذكرها في الوجود الذهني خمس مرات في اليوم مما يبعث الشوق في نفوسهم لعمارة البيت , وصارت تنفر من إستحواذ المشركين على قبلة عموم المسلمين والبيت الذي طهّره الله ليكون تحويل القبلة إنذاراً للذين أشركوا , وحثاً لهم على دخول الإسلام ، ووعيداً بأن المسلمين يستحضرون كل يوم ذكر البيت الحرام في أذهانهم ، ويتوجهون له في صلاتهم ويشتاقون للطواف حوله ، ليكون معنى الآية أعلاه أعم من الإستقبال في الصلاة وتذكية الذبيحة , وإحتضار الميت , ومنه وجوه :
أولاً :الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يجعل عنايته بالبيت الحرام وهو أعم من الفتح ، لذا توجه إلى مكة لأداء العمرة في السنة السادسة للهجرة ، فكان صلح الحديبية ثم توجه إليها في شهر ذي القعدة من السنة السابعة لأداء العمرة للعقد الذي تم بينه وبين قريش .
وعن مجاهد قال (رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالحديبية أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين ، فلما نحر الهدي بالحديبية قال له أصحابه : أين رؤياك يا رسول الله؟ فأنزل الله { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } ( )إلى قوله { فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً } فرجعوا ففتحوا خيبر ، ثم اعتمر بعد ذلك فكان تصديق رؤياه في السنة المقبلة)( ).
ثانياً : يأتي الأمر بفتح مكة من عند الله ، مع البيان بأنه قريب لقوله تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ] ( ).
ثالثاً : تعدد معاني ترضاها ، منها بشارة فتح مكة وإزاحة الأوثان عن الكعبة .
وعن عباس قال (دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم الفتح وعلى الكعبة ثلثمائة وستون صنماً ، فشد لهم إبليس أقدامها بالرصاص ، فجاء ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخرّ لوجهه فيقول : { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً }( ) حتى مر عليها كلها) ( ).
رابعاً : اليسر والتخفيف في فتح مكة فقريش التي زحفت بالجيوش العظيمة في معركة بدر في السنة الثانية للهجرة ، ومعركة أحد في شهر شوال من السنة الثانية للهجرة ومعركة الخندق في شهر شوال من السنة الخامسة , عجز كبار الكفار فيها عن جمع جيش للدفاع .
خامساً : صيرورة مكة هي الغاية بالفتوحات اللاحقة لنزول الآية , ويكون فتح غيرها من القرى مقدمة لفتحها ، ولعله من عمومات قوله تعالى في الثناء على مكة ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ).
سادساً : صيرورة تحويل القبلة إلى مكة مقدمة لفتحها وباعثاً للمسلمين للسعي إلى دخولها فاتحين .
سابعاً : إن أهل الكتاب كيهود المدينة يعلمون أن تحويل القبلة إلى مكة حق ، وكذا فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها ، فلا يظن المشركون بأنه يموت أو يقتل قبل فتحها .
ثامناً : لزوم تعاهد المسلمين صبغة الإسلام في مكة وما حولها .
تاسعاً : إختتام الآية بقوله تعالى [وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] ( )وفيه إنذار ووعيد للذين كفروا لإصرارهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتدل آية القبلة أعلاه على فضل الله في فتح مكة من غير حاجة لقتال غير المشركين الذين صدوا المسلمين عنها مع أن فتحها كان في السنة الثامنة للهجرة .
وتتضمن آية البحث أموراً :
الأول : أمر الله عز وجل للمسلمين بقتل المشركين ، ومن الإعجاز إبتداء الآية بذكر الفعل مع فاعل ، تدل عليه واو الجماعة ، ومفعول به يدل عليه الضمير (هم )، مما يدل على إتصال مضامين آية البحث بالآية السابقة إذ جاء الخطاب فيها للمسلمين ، لذا وردت واو الجماعة فاعلاً في أول هذه الآية ، وذكرت الآية السابقة أن الذين يقاتلهم المسلمون هم خصوص الكفار الذين يقاتلون المسلمين .
ليكون تقدير آية البحث : يا أيها الذين آمنوا أقتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ) .

ترى لماذا إبتدأت الآية السابقة بلفظ [وَقَاتِلُوا] وإبتدأت هذه الآية بلفظ [وَاقْتُلُوهُمْ]الجواب إرادة تأكيد لزوم عدم إسراف المسلمين في القتل وتأكيد ما ورد بينهما بقوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
ليتجلى قانون من إعجاز القرآن وهو أن ذات نظم آيات القرآن تفسير لها ، وتأكيد لمضامينها القدسية ، كما في قوله تعالى[قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ) فلو كانت النار برداً وحده لجمد إبراهيم ولكن جعلها الله سلاماً وهو أعم من دفئ النار .
ومن معاني السلام في الآية أعلاه أمور :
أولاً : عجز الذين كفروا عن مواصلة الإنتقام من إبراهيم بصيغ وسبل أخرى .
فيكتفي القوم الكافرون بعقوبة النار , ويدركون أن نجاته من النار معجزة خارقة ، وبالنسبة للمقام فان الله عز وجل يحذر المسلمين من قتل غير الذين يقاتلونهم من الكفار ، فمنهم من يروم دخول الإسلام ومنهم من يخشى من رؤساء الكفر والضلالة.
لقد إجتهد قوم نمروذ بجمع الحطب لإيقاد النار لإبراهيم , وتبتلى المرأة بالمرض فتقول لئن عافاني الله لأجمعن لإبراهيم حطباً ، وفيه شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين من وجه تلقي الناس لمعجزاته بالقبول وإتخاذها مادة كريمة للمناجاة بينهم في المنتديات والأسواق والبيوت ، كما بادر أهل البيت وشطر من الناس بدخول الإسلام ، لينالوا اسم المهاجرين والأنصار ، وفيه شرف عظيم ومنزلة لم ينلها أحد قبلهم ، ولا ينالها أحد بعدهم إلى يوم القيامة ، ومن الإعجاز أن هذا الإفراد بالشرف جرى توثيقه في القرآن ، وفي عدة مواضع منه، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ..] ( ).
فان قلت قد حارب رؤساء الكفر من قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , والجواب نعم ، ولكنهم لم يستطيعوا أن يجعلوا قلوب الناس معهم ، إذ كان البغض لأبي جهل وأصحابه ظاهراً على الألسن في مكة وغيرها .
ثانياً : الأمن والسلامة لإبراهيم في حله وترحاله , وكأن الآية تقول أن إبراهيم عليه السلام أبتلى بالحرق بالنار فصرف الله عنه طيلة أيام حياته الأذى الذي يأتي من رؤساء الكفر .
وقد ذهب إلى مصر وكاد يقتل لولا فضل الله فبعد أن ألقي إبراهيم في النار لم يبق مع نمروّ في بلدته ، وخرج بزوجته سارة ومعه لوط وهو ابن أخيه فتوجهوا إلى الشام ثم دخلوا مصراً , وتتصف سارة بشدة الجمال ، وحينما دخلت مصر شاع خبر جمالها , وأخذ الناس يتحدثون عنها ، فبلغ الملك ، فدعا إبراهيم عن صلته بها , قال : إنها أختي ، خشية أن يقول هي زوجتي فيقتله ويضمها إليه ، فقال الملك : زوجنيها .
وفي الليل(جاء الملك حلم فخنقه وخوّفه ، فكان هو وأهله في خوف وهول حتى علم أنه قد أتي من قبلها ، فدعا إبراهيم فقال : ما حملك على أن تَغُرَّني زعمت أنها أختك ؟ .
فقال : إني خفت إن ذكرت أنها زوجتي أن يصيبني منك ما أكره ، فوهب لها هاجر أم إسماعيل وحملهم وجهزهم , حتى إستقر قرارهم على جبل إيليا) ( ).
والرواية ضعيفة من جهة الصدور والدلالة ، وصحيح أن إبراهيم قال هي أختي وفيه نص عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن ليس من جهة الترويج بل لدفع الضرر ، وهل سلامة إبراهيم عليه السلام وسلامة زوجته سارة من شر الملك من السلام المذكور في قوله تعالى [يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ) .
الجواب نعم ، فان قلت القدر المتيقن من الآية أن ذات النار التي أريد لها أن تحرق إبراهيم صارت برداً وسلاماً ، والجواب هذا أحد مصاديق الآية وموضوعها أعم ، وإن كان هذا المعنى يذكر هنا لأول مرة في التأريخ ليفتح آفاقاً من العلم .
والمراد على هذا المبنى أن دخول إبراهيم في النار يكون له سلاماً في حياته كلها ، لذا تكرر في القرآن لفظ السلام في قصة إبراهيم فتخاطبه الملائكة بذات اللفظ ، وكأنه من الجزاء على فتنة النار ، قال تعالى [وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَمًا] ( ) وقال [إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَمًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ]( )وقال [إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ]( ) .
ثالثاً : الأمن والسلامة لإبراهيم في الآخرة جزاء من عند الله ، وهو المستقرأ من أصالة الإطلاق لقوله تعالى [وسَلاَمًا] لتبين آية نار البرد والسلام قانوناً وهو إذا أبتلي المؤمن ببلاء شديد فان الله عز وجل يجعله أمناًً له فيما بقي من عمره ، ولبيان أن منزلة وحال الشهداء عند الله أعظم وأحسن بل ينال الذين يجاهدون في سبيل الله منزلة الشهداء .
وعن أبي الدرداء قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يجمع الله في جوف رجل غباراً في سبيل الله ودخان جهنم ، ومن اغبرت قدماه في سبيل الله حرم الله سائر جسده على النار ، ومن صام يوماً في سبيل الله ختم له بخاتم الشهداء، تأتي يوم القيامة لونها مثل لون الزعفران، وريحها مثل المسك.
يعرفه بها الأولون والآخرون, يقولون: فلان عليه طابع الشهداء . ومن قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة)( ).
ومن معاني إبتداء الآية السابقة بالأمر بالقتال هو الكف عن الكفار إذا مالوا إلى الموادعة أو إنهزموا وولوا ، ولكن الأمر بقتلهم في هذه الآية يجعلهم في حال فزع وخوف متصل , ويكون هذا الخوف مقدمة لإختيارهم دخول الإسلام ، وفيه نجاة من القتل على الكفر والضلالة .
ومن وجوه التعدي في المقام قتل الذي لم يقاتل المسلمين ، ومنه عدم الكف عنهم عندما ينتهون ويفرون ، وهو لا يتعارض مع الأمر بإخراج الكافرين من حيث أخرجوا المسلمين ، لدلالة قوله تعالى [فأخرجوهم] على عدم قتل المشركين عند فرارهم وكف أيديهم ، وعدم قتال الكفار الذين شاركوا في إخراج المسلمين من مكة , ولكنهم لم يقاتلوهم سواء في معركة بدر أو أحد أو الخندق أو غيرها .
(ورجل ثقف وثقف: حاذق فهم، وقالوا: ثقف لقف. وقال أبو زياد: رجل ثقف لقف: رام راوية.
وثقف الخل ثقافة، وثقف، فهو ثقيف، وثقيف، الأخيرة على النسب: حذق وحمض جداًّ.
وثقف الرجل: ظفر به، وفي التنزيل: (و اقتلوهم حيث ثقفتموهم).
والثقاف، والثقافة: العمل بالسيف، قال:
وكأن لمع بروقها … في الجو اسياف المثاقف) ( ).
وتحتمل الآية وجهين :
أولاً : خذو المشركين حيث وجدتموهم في حال الحرب أو السلم والمهادنة وفي الحضر والسفر .
ثانياً : إرادة خصوص قيام الحرب والطلب والوعيد بالقتال وحمل السلاح ، والذين لم يكفوا أيديهم عن المسلمين والمختار هو الثاني لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً إذ ورد لفظ [تثقفونهم ] مرتين في القرآن والثانية قوله تعالى [فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ] ( ) .
ويأتي في الآية التي وردت بعد آية البحث قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
ويكون تقدير آية البحث : وأقتلوهم حيث ثقفتموهم وهم في حال حرب وقتال معكم ، وتكرر الضمير (هم) (كم) ثمان مرات في الآية الكريمة.
الثاني : عطفت آية البحث إخراج الذين كفروا على قتلهم مما يدل على الإسلام ينهى عن الإبادة ، ويدعو إلى التثبيت قبل بدء القتال عن حال الذين يريدون قتاله ، وينهى عن الإبادة الجماعية ، والقتل على الهوية والنسب .
إذ عطفت الآية إخراج الذين كفروا على قتلهم , ويفيد العطف هنا المغايرة بالفعل مع إتحاد الجهة ، ومن إعجاز آية البحث مجئ الإخراج بعد القتل ، وعدم مجيئه قبل القتل .
ولو قالت الآية ( وأخرجوهم من حيث أخرجوكم وأقتلوهم حيث ثقفتموهم ) لقال بعضهم بالجمع بين الإخراج والقتل ، ولكن الله هو الرؤوف الرحيم الذي تفضل وجعل الإخراج بعد القتل ، مما يعني الإكتفاء بإخراجهم من مكة إن أصروا على الكفر من غير أن يقتلوا ، ويدل عليه ما ورد عن ابن عباس (قال : أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعضادتي الباب يوم فتح مكّة وقد لاذ الناس بالبيت،
وقال : الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثمّ قال : ما تظنون؟
قالوا : نظنّ خيراً،
أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت،
قال : وأنا أقول كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم) ( ).
وهل يشمل إخراج المسلمين للذين كفروا من الديار التي أخرجوهم منها ذراري وعوائل وأقرباء الذين كفروا ، وإخلاء دورهم أم لا ، الجواب هو الثاني ، فالقدر المتيقن من الآية إخراج الأشخاص الذين قاموا بإخراج المسلمين ، أما الذراري ونحوهم فلا ذنب لهم ، وليس عليهم بأس ، قال تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] ( ) وهؤلاء الذراري إن أخرجوا مع آبائهم صاروا أعداء للإسلام ، وإتصفوا بشدة البأس ، وقد يجتمعون للإغارة على ثغور المسلمين خاصة بعد أن يستقر المسلمون في ديارهم ، وينشغلوا بأمور الحياة ، وفيه شواهد كثيرة من تأريخ الأمم وإن كان أمر المسلمين مختلف لأن هذه الآيات تستنهضهم للدفاع ، وتجعلهم في حال ترقب وترصد ، وقال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ] ( ) ثم أن الدعوة إلى دخول الإسلام تتوجه لهؤلاء الذراري مقرونة بمعجزات النبوة ليكونوا عوناً للمؤمنين ، وقد يكون إنحيازهم لطرف الكفار وخروجهم معهم برزخاً دون تدبرهم في المعجزات .
وشهدت السنوات الأولى للإسلام دخول الشباب الذين قتل آبائهم على الكفر في الإسلام ، وإخلاصهم في الجهاد في سبيل الله ، وأراد بعضهم إثارة الحمية في نفوسهم ، فكان ردهم إيمانياً , بعيداً عن الحمية والثأر .
ولو أُخرجت العوائل قهراً فهل هو من التعدي الذي تذكره الآية السابقة [وَلاَ تَعْتَدُوا] أم أنه ليس من التعدي ، الجواب هو الأول مع عدم وجود الراجح الظاهر لبيان أن الإسلام رحمة للناس جميعاً ، وهل قوله تعالى [وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ] منسوخة بآية السيف ، وعلى فرض أنه منسوخ يحتمل وجهين :
أولاً : قتل الذين أخرجوا المسلمين من ديارهم وإن لم يقاتلوهم إلا أن يكونوا قد دخلوا الإسلام :
ثانياً : لا تخرجوا الذين أخرجوكم من ديارهم .
الثالث : توبيخ الكفار ، وبيان قبح فعلهم وسوء إختيارهم بقوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ومن وجوه الفتنة في المقام وجوه :
أولاً : الإصرار على البقاء على الكفر .
ثانياً : الإعراض عن المعجزات والآيات الباهرات التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : التحريض على قتال المسلمين فتنة ، وكذا إعانة الذين كفروا وتهيئة مقدمات القتال .
رابعاً : الإصرار على البقاء على عبادة الأوثان .
خامساً : مواصلة الكفار قتال المسلمين فتنة لهم ولمن وراءهم من الكفار.
وتبين آية البحث قانوناً دائماً يتغشى الحياة الدنيا ، وهو أن الفتنة أشد من القتل للتحذير منها ودعوة الناس للإمتناع عنها .
ومثلما تكرر لفظ [فَإِنْ انتَهَوْا] في هذه الآيات الثلاثة ، فقد تكرر لفظ الفتنة ، في بيان لقبحها ، ولزوم تنزيه الأرض منها ، وجاءت مرة معربة بقوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( ) وأخرى نكرة بقوله [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ]( ) .
وهل تدل إعادة لفظ الفتنة منكرة على المغايرة أم أنها ذات الفتنة ، الجواب المقصود حال البرزخية ، وبينهما عموم وخصوص مطلق ، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم ، ولكن الفتنة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، والتي تكون أشد من القتل هي أعلى مراتب الفتنة ، ومنها التي تخص الدين والشرائع , وما يكون مقدمة للفساد وإشاعة القتل مجتمعين ومتفرقين .
وعندما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض ذكروا أمرين كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )ورد الله عز وجل عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) لبيان أن من علم الله عز وجل ما يكون أشد من سفك الدماء ومن الفساد ، وهو من الفتنة ، وهذا ما لم تذكره الملائكة ، وقد ذكره الله عز وجل في الكتاب الباقي إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار سلامة القرآن من التحريف .
وجاء قانون الفتنة أشد من القتل بعد الأمر من عند الله عز وجل للمسلمين باخراج الذين كفروا من حيث أخرجوا المسلمين ليكون من معاناه بلحاظ نظم الآية أمور :
أولاً : وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ) لأن إخراجهم للمسلمين فتنة أشد من القتل بلحاظ أنها حرب على الإيمان , ومنع للناس من دخول الإسلام .
وهل عدم إخراج الذين كفروا من ديار المؤمنين فتنة , الجواب لا دليل عليه ، لقاعدة كلية وهي صدور الفتنة من الذين كفروا .
ثانياً : والفتنة أشد من القتل , لذا فان معاقبتهم بأخراجهم من ديارهم حق ، وهو جزاء تأديبي وتذكير لهم بوجوب دخول الإسلام .
ثالثاً : تأكيد قبح إخراج المسلمين من ديارهم وأن خطره شديد ، وهو سبب للإضرار بالإسلام والتنزيل ، وتعريض شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقتل لولا أن منّ الله عز وجل على المسلمين ووقاهم شر هذا الإخراج .
رابعاً : من معاني الآية دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة دفع شر الفتنة عنهم ، وكأن الآية تقول أخراج الكافرين لكم من دياركم فتنة ، وقد صرفها الله عز وجل وأظهركم عليهم , فقاتلوهم أينما وجدتموهم جزاء على فتنتهم وقتالهم لكم .
خامساً : لما أمرت الآية السابقة المسلمين بالقتال في سبيل الله وتوجه قتالهم إلى خصوص الذين يقاتلونهم ، تفضل الله عز وجل وأخبر بأن الفتنة أشد من القتل ، ولكنها تستلزم الصبر , وفيه الأجر والثواب ، فقد يقال بقتال الذين يبغون الفتنة للمسلمين من باب الأولوية القطعية , وأن الذين يبغون الفتنة لكم ولغيركم يلزم قتالهم ، ولا أصل لهذا القول ، والقدر المتيقن من آية البحث هو إرادة قتال الذين يقومون بقتال المسلمين على نحو فعلي .
ترى لماذا ورد ذكر الفتنة مع الآية التي تبدأ بالأمر للمسلمين بقتال الكفار الذين يقاتلونهم ، الجواب إرادة يقظة وفطنة المسلمين ، وبعثهم على أخذ الحائطة من الذين كفروا ممن يقاتلهم أو غيرهم .
وورد عن قتادة ما يفيد النسخ المتعدد بين هذه الآيات إذ أن قوله تعالى [وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ] ( ) منسوخ ، والآية التي نسخته هو قوله تعالى [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ] ( ) أي بين الآية الناسخة والمنسوخة آية واحدة .
وعن مقاتل أن قوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ]منسوخة بقوله تعالى [وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ولا دليل على هذا النسخ إنما هو تخصيص وإستثناء وتخفيف ورحمة وبيان لقدسية البيت الحرام ، وقيل نسخت الآية أعلاه آية السيف في سورة التوبة .
لتكون الآية [وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ( ) ناسخة ومنسوخة .
وقال آخرون هذه الآية محكمة ولا يجوز الإبتداء بالقتال في الحرم .
والمختار أن قوله تعالى [وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ] محكمة وغير منسوخة .
وإبتدأت آية البحث بحرف العطف الواو [واقتلوهم] ويحتمل العطف في الآية وجوهاً :
الأول : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم واقتلوهم .
الثاني : ولا تعتدوا واقتلوهم .
الثالث : إن الله لا يحب المعتدين واقتلوهم حيث وجدتموهم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث ، أما بالنسبة للوجه الأول فتبين الآية لزوم الشدة في قتال المسلمين لغيرهم ، وأن لا تأخذهم رأفة ورحمة بالذين يقاتلونهم من الذين كفروا ، وهو من مصاديق القول بعدم نسخ الآية السابقة ، لأن الأمر بالقتال خاص بالذين يقاتلون المسلمين .
ويبعث الجمع بين هذه الآية والآية السابقة الفزع والخوف في قلوب الكافرين مطلقاً ، وليس الذين يقاتلون المسلمين وحدهم ، إذ يدركون معه قانوناً وهو أن قتالهم النبوة والإسلام يؤدي إلى قتلهم .
ويتجلى الجمع بين قانونين هما :
ويتجلى قانون أمر الله عز وجل للمسلمين بالدفاع بقتال الذين يقاتلونهم ، كما في الآية السابقة .
ليكون الفزع الذي يصيب الذين كفروا من مصاديق قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (نصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأوتيت جوامع الكلم وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً , وبعث كل نبي إلى خاص من الناس وبعثت إلى الأسود والأحمر) ( ) .
وبلحاظ الحديث أعلاه فان قتال المسلمين للذين كفروا من التفسير العملي لآية البحث ومصداق لقوله [وبعثت إلى الأسود والأحمر] إذ يريد الذين كفروا مسائل :
الأولى : منع وصول الدعوة الإسلامية إلى الناس .
الثانية : البقاء على الكفر والجحود .
الثالثة : صدّ الناس عن دخول الإسلام .
الرابعة : إرادة قتل المسلمين .
فمن معاني قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ] ( ) أن الكفار هم الذين يبدأون القتال .
وأما بالنسبة للوجه الثاني فيفيد العطف بأن قتل الذين يقاتلون المسلمين من الذين كفروا ، ليس من التعدي ، وكذا بالنسبة لجمع قواهم والمناجاة بينهم للهجوم على الإسلام ، لذا جاءت الآية التالية بقوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) .
ليكون من معاني تقييد آية البحث بالآية التالية هو : وأقتلوهم حيث ثقفتموهم إلا إذا إنتهوا ) أي حيث ثقفتموهم وهم حربيون [الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً] ( ) ويجمعون المال والسلاح والرجال للإجهاز عليكم بعد أن قاتلوكم وسألت الدماء بين الطرفين مما يدل على أن هذه الآيات محكمات, وكل موضوع فيها وثيقة سماوية.
ومن الإعجاز في المقام أن رؤساء الذين قاتلوا في معركة بدر وأحد والخندق هم ذات كفار قريش، ويصح تقدير الجمع بين الآيتين: ولا تعتدوا واقتلوهم , وفيه منغ للحرج في جهاد المسلمين مع لزوم إستحضار القواعد الفقهية للإحتراز من التعدي .
وهل من فرق بينهما الجواب نعم ، أما على الأول فيتعلق النهي عن الإعتداء بالقتال ومقدماته ، فأما الثاني فيشمل البشارة بنصر المسلمين والنهي عن الإسراف في القتل ، وعن قتل الذي لم يقاتل المسلمين ، وهو من أسرار توالي هذه الآيات ومجيؤها بخصوص القتال لبيان قوانينه وقواعده.
(قال ابن زَيْد ، والربيعُ : قوله : { وَلاَ تَعْتَدُواْ } أي : في قتالِ مَنْ لم يقاتلْكم ، وهذه الموادَعَةُ منسوخةٌ بقوله تعالى : { وقاتلوا المشركين كَآفَّةً }( ) وقال ابن عَبَّاس وغيره : { وَلاَ تَعْتَدُواْ } في قتْلِ النساءِ ، والصبيانِ ، والرهبانِ ، وشبههم؛ فهي مُحْكَمَةٌ ) ( ).
أي هناك إختلاف في موضوع وتأويل الآية بين ابن عباس وبين ابن زيد والربيع , والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، فالمراد من الذين لم يقاتلوا المسلمين أعم من الأصناف التي لا تزاول القتال ولا تقدر عليه كالنساء والصبيان والرهبان وشبههم .
ولو دار الأمر بين قول ابن عباس وقول الربيع وابن زيد مجتمعين أو متفرقين ، فالصحيح هو قول ابن عباس بلحاظ جهة الصدور , مع صحة النسبة والسند .
والمختار أن الآية محكمة ، ثم أن عدم قتال الذين لم يقاتلوا المسلمين لا يختص بالنهي الوارد في قوله تعالى [ولا تعتدوا] فيحصر ذات منطوق الآية قتال المسلمين بالذين يقاتلون المسلمين دون غيرهم .
والأصل هو البراءة في غيرهم ، لقد كانت آيات الموادعة رحمة للمسلمين وغيرهم من الناس ، وهو شاهد بان الإسلام لم يأت بالسيف ولم ينتشر به ، بل إنتشر بالموادعة وإقامة الحجة والبرهان وتوالي وتعاقب المعجزات التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ترى ما هي النسبة بين الإنتهاء في قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا] ( ) وبين الميل إلى المسلم والمهادنة من قبل الذين كفروا في قوله تعالى [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] ( ) .
الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالإنتهاء أعم وأوسع من الميل إلى السلم لأنه يشمل أموراً :
أولاً : الكف عن القتال :
ثانياً :التفرق في البلاد .
ثالثاً : نزع السلاح والإنشغال في أمور الدنيا .
رابعاً : التدبر بمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الإقرار الضمني بصدقها وصحتها ، وكأن دخولهم الإسلام يستلزم مدة وفترة للإنقياد للحق ونزع رداء الضلالة .
خامساً : تعدد تقدير ومتعلق قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا] ( ) ومنه :
الأولى : فان إنتهوا عن القتال .
الثانية : فان إنتهوا عن التعدي على ثغور المسلمين .
الثالثة : فان إنتهوا عن تكذيب التنزيل ومعجزات النبوة .
الرابعة : فان إنتهوا عن تهيئة مقدمات قتال المسلمين ، وإعانة المحاربين لهم بالمال والسلاح .
الخامسة : فان إنتهوا عن المكر وإثارة الشك والريب .
السادسة :فان إنتهوا عن الفتنة لقوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( ) وفي الآية مسائل( ) :
المسألة الأولى : عطف الآية على الآية التي قبلها التي تتضمن الأمر بالقتال والنهي عن التعدي ليفيد العطف على الجامع بينهما وجوهاً :
الأول : قتل المشركين فرع قتالهم .
الثاني : قتل المشركين الذين يقاتلون المسلمين ليس من التعدي .
الثالث : قتل المشركين من مصاديق في سبيل الله .
الرابع : إن الله عز وجل لا يحب الذين يقاتلون المسلمين ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : لا يحب الله المعتدين .
الصغرى : الذي يقاتلون المسلمين معتدون .
النتيجة : لا يحب الله الذين يقاتلون المسلمين .
ويمكن تأسيس قانون وهو أن العطف بين الآيات أعم من أن يختص بالشطر من الآية الذي يكون قبل حرف العطف ، وفيه مناسبة لإستقراء العلوم من المعنى الأعم والأوسع في العطف ، وتأكيد التداخل بين آيات القرآن ، وعدم الذهاب إلى النسخ إلا مع الدليل القاطع ، وحتى مع القول بالنسخ فانه لا يمنع من موضوعية ودلالة الآية المنسوخة عند العطف بين الآيات .
ويمكن تقدير العطف بين الآيتين على وجوه :
الأول : واقتلوا الذين يقاتلونكم حيث ثقفتموهم معتدين .
الثاني : واقتلوا الذين يقاتلونكم من الذين كفروا ولا تعتدوا , للتضاد والتناقض بين القتال في سبيل الله والتعدي .
الثالث : واقتلوهم في سبيل الله حيث ثقفتموهم ، ويحتمل الجمع بين الآيتين مسائل :
الأولى : إختصاص التقييد [في سبيل الله] الوارد في الآية السابقة بحال القتال , وليس القتل المذكور في هذه الآية .
الثانية : لا يكون قتل الذين كفروا إلا في سبيل الله .
الثالثة : قتل الذين كفروا في طول قتالهم , ورشحة له لبيان الحال التي صار عليها المسلمون من المنعة والقوة , وفي التنزيل[الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] ( ).
والصحيح هو الثانية والثالثة أعلاه .
ويكون من معاني وأسرار تعقب هذه الآية للآية السابقة (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ .) ( ) في نظم القرآن وجوه :
الأول : بيان سنخية القتال بين المسلمين والذين كفروا، وأنه تجري فيه الدماء ، وعندما أخبر الله الملائكة [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) إحتجوا بافساده في الأرض وسفك الدماء ، فجاءت هذه الآية لتبين للذين يحاربونهم أن قتال المسلمين لهم ليس من سفك الدماء الذي إحتج به الملائكة , إنما هو مصداق لإحتجاج الله بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )من جهات :
الأولى : عدم إمهال الله للمفسدين .
الثانية : وجود أمة مؤمنة تحارب الفساد بالسيف .
الثالثة : قتل الكافرين ليس من سفك الدماء الذي تنكره الملائكة .
الرابعة : نزول ذات الملائكة لقتل الذين كفروا ، وتوجه الأمر من عند الله للملائكة [فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( ).
الثاني : بعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا بأن المسلمين يقاتلون ويقتلون الذين يقاتلهم .
الثالث : تضمنت الآية السابقة الأمر للمسلمين بالقتال , وتعيين الجهة التي يقاتلونها وهم الذي يقاتلونهم من الكفار .
وإبتدأت هذه الآية بالأمر بقتلهم أينما وجدوا مع عزمهم على تجديد القتال .
الرابع : بيان آية البحث للأمر إلى المسلمين باخراج الذين كفروا من الديار التي أخرجوا المسلمين منها .
ومن الإعجاز أن الآية لم تنسب الديار وملكها إلى طائفة منهم , لأن الأرض ملك لله عز وجل ليكون قوله تعالى [وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ]( )من عمومات قوله تعالى [إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
ومن معاني العاقبة في الآية أعلاه البشارة للمسلمين بفتح مكة وتعدد أمصار دولة الإسلام .
الخامس : وجوب تقيد المسلمين بقانون عدم الإعتداء وإستحضاره في الوجود الذهني ، وفي عالم القول والفعل ، وهل هو من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الجواب نعم ، فيجب أن يأمر المسلمون بالتنزه عن الإعتداء ويحولون دون صدور الإعتداء من بعضهم .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدفع دية بعض المشركين الذين يقتلون خطأً ، وأول قتيل منهم هو ابن الحضرمي وعقله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لأن قتل المسلمين له صار في الشهر الحرام ( ). وقد تقدم بيانه .
السادس : كما تحذر وتنهى الآية السابقة عن التعدي والإعتداء فكذا بالنسبة لهذه الآية فأنها تحذر من الفتنة بقوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] وهذا التحذير على وجوه :
أولاً : التحذير من الذين كفروا ومكرهم .
ثانياً : ذات الكفر والشرك فتنة ، ليكون من معاني الآية أن إختيار الإنسان الكفر أشد من قتله لنفسه .
فكما تعني الآية أن الذي يقوم بالفتنة أشد مما لو قتل غيره بغير حق ، فكذا يكون معناها بأن مثير الفتنة يكون أشد ممن قتل نفسه .
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ) لبيان حقيقة وهي أن الآية أعم من أن تختص بالغير .
ثالثاً : تحذير المسلمين من الفتنة فيما بينهم ، وكأن الآية تقول : ستقتلون الذين كفروا حيث وجدتموهم , وستخرجونهم من حيث أخرجوكم ، فإياكم ووقوع الفتنة بينكم .
لذا كان من آخر القرآن نزولاً قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
وقد علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن هذه السورة تنعى له نفسه ، ومن معانيها تنبيه المسلمين لحقيقة وهي لزوم عدم وقوع الفتنة بينهم بعد النصر وإستتباب الأمن للمسلمين .
فصحيح أن الطائفة والأمة إذا كان مشغولة بعدو فانها تجتنب الصراع فيما بين أطرافها فاذا إنصرف العدو وزال ضرره فقد تنشغل الجماعات والأفراد فيما بينهم والشواهد التأريخية عليه كثيرة ، فتفضل الله سبحانه وحذر المسلمين في آية البحث من الفتنة فيما بينهم ، وفيه دعوة لهم لإستحضاره ذكرى دماء الشهداء , وكيف أنهم قدموا أنفسهم من أجل إقامة صرح دولة الإسلام .
السابع : يفيد الجمع بين خاتمة الآية السابقة وأول آية البحث النهي عن الإعتداء في ذات الوقت بالأمر بالقتل ، وجاء النهي عن الإعتداء وبيان قبحه الذاتي مطلقاً بدليل قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) وتعقبه الأمر للمسلمين بقتل الذين يقاتلون المسلمين من الكفار ، لإفادة برهان وإحتجاج مضمونه أن قتلهم ليس من الإعتداء لذا شاركت الملائكة به ، وهم الذين إحتجوا على سفك الإنسان الدم في الأرض وبينّوا أنهم مشغولون بالتسبيح والتقديس لله عز وجل , ولكنهم نزلوا بأمر من عند الله ليتولوا قتل الذين كفروا ممن أصر على الهجوم على مصر الإسلام الوحيد وهو المدينة المنورة ، وهم ينوون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
المسألة الثانية : فإن انتهوا عن القتال وتحريض الناس على المسلمين )، وفيه بيان لنهج الإسلام , وأنه لا يأمر بالقتل والقتال إلا للدفاع ضد القوم المشركين .
إن قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا] تخفيف عن المسلمين وعوائلهم وإخبار بأن يومهم أفضل وأقل وطأة من أمسهم ، وأن غدهم أفضل وأحسن من يومهم ، وأن الكفار لن يستمروا في قتالهم ، ومن أسبابه قيام المسلمين بملاقاتهم بالمثل في ميدان الوغى ، وفي قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] رحمة بالمسلمين والناس جميعاً بما فيهم الكفار الذين يقاتلون المسلمين ، إذ تطل عليهم الآية كل يوم وفيها أمور :
الأول : دعوة الكفار للإنتهاء من قتال المسلمين .
الثاني : بيان قانون وهو لا يجوز القتال إلا ان يكون دفاعاً وفي سبيل الله.
الثالث : تأكيد بقاء باب المغفرة مفتوحاً للناس جميعاً لبيان أفضلية نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وورد القرآن رأفة للناس باخباره بأن الرحمة والمغفرة تدرك الذين يكفون عن قتال المسلمين ، وهل تأتي المغفرة لهم حال الإنتهاء من قتال المسلمين أم لابد من التوبة والإيمان ، الجواب هو الثاني .
وتقدير الآية : من إنتهى عن القتال والكفر فان الله غفور رحيم ) .
الرابع : ولو كفّ الذين يحاربون المسلمين عن قتالهم مع بقائهم على الكفر والجحود فهل ينالهم قسط ونصيب من المغفرة من أجل هذا الكف، الجواب لا ، نعم هو مناسبة لعدم تراكم ومضاعفة الذنوب والتعدي مع إستدامة الظلم للنفس بالبقاء على الكفر والجحود .
الخامس : تهيئة أذهان المسلمين لأيام تثبيت أحكام الشريعة والبناء بعد إنتهاء الذين كفروا عن القتال .
ترى لماذا لم تقل الآية (سينتهون) للإخبار عن قرب إنتهائهم عن القتال أو (سوف ينتهون ) لبيان طول المدة التي يقاتلون فيها المسلمين .
الجواب إرادة جعل المسلمين في حال يقظة وإستعداد لقتال الذين كفروا وكشف حقيقة وهي أن الكفار لا زالوا يصرون على قتال المسلمين ، ويزاولون القتال ، ولم يكفوا بعد .
وصحيح أن الآية وردت بصيغة الجملة الشرطية [فَإِنْ انتَهَوْا] ولكنها تتضمن معنى الإخبار عن إنتهاء الذين كفروا عن القتال ، وتدل عليه آية البحث بما فيها من الأوامر للمسلمين بقتال الذين كفروا وإخراجهم من مكة والديار التي أخرجوا المسلمين منها .
وتتضمن هذه الآية والآية السابقة الجمع بين أمور :
الأول : الأمر للمسلمين بقتال الذين يقاتلونهم م الكفار ولزوم عدم التراخي والعقود عن قتالهم .
الثاني : قتال الذين كفروا حتى يصير المسلمون في حال الغلبة والظفر ، لذا نعتهم الله عز وجل بأنهم الأعلى من غيرهم ، قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
الثالث : ضرورة إمتناع المسلمين عن الإعتداء من جهات :
الأولى : إجتناب قتال الذين لم يقاتلوا المسلمين .
الثانية : التقيد بأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان مصداق عملي لقوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا].
الثالثة : ترك الإعتداء حتى على الذين يقاتلون المسلمين عندما يكفون عن القتال , وتقدير الآية (فان إنتهوا فانتهوا عنهم ).
وقيد عنهم أعلاه لبيان بقاء المسلمين في حال تهيئ للقتال والحذر مع الذين يقاتلونهم , ومع الذين ينتهون إذا عادوا ، وفي التنزيل [وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا]( ).
وجاء الأمر من عند الله للمسلمين بالقتال وشرط أن يكون القتال في سبيله ، وهو الغني غير المحتاج فلماذا جاء هذا القيد .
الجواب من جهات :
الأولى : بيان قانون وهو لا يجوز إلا ان يكون في سبيل الله .
الثانية : إقامة الحجة على الناس بأن المسلمين لا يقاتلون إلا في سبيل الله عز وجل .
الثالثة : يحتمل مفهوم قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]وجوهاً :
الأول : صبر وتحمل المسلمين لأذى الذين كفروا .
الثاني : لا يقاتل المسلمون الذين يقاتلونهم من الكفار لولا أن جاء الأمر والإذن من عند الله بقتالهم .
وفي ولدي آدم ورد قوله تعالى [لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ] ( ) وفيه معنيان :
المعنى الأول : إمتناع هابيل عن البدء بالقتال وإن بدأه قابيل .
المعنى الثاني : إعلان هابيل مسك يده عن أخيه قابيل وعدم دفعه أو مدافعته.
ولا تعارض بين المعنيين , وكل منهما في المقام صحيح .
وقال مجاهد (وكان واجبا عندهم أن لا يدافع أحد عن نفسه) ( ) ولا دليل على هذا القول .
ترى لماذا لا يكون المسلمون أزاء الذين يقاتلونهم مثل هابيل , والجواب، لقد كانت مسألة قابيل وهابيل موعظة ، وأبى الله إلا أن تعمر الأرض بعبادته ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) , فيقاتل المسلمون الذين كفروا طاعة لله عز وجل .
وقد ورد عن سعد بن أبي وقاص (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي.
قال : أفرأيت إن دخل علي بيتي فبسط إليّ يده ليقتلني؟ قال : كن كابن آدم ، وتلا { لئن بسطت إلىّ يدك لتقتلني }( ) الآية .
وأخرج أحمد ومسلم والحاكم عن أبي ذر قال : ركب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حماراً وأردفني خلفه , فقال : يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس جوع لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك( )، كيف تصنع؟ قلت: الله ورسوله أعلم!.
قال : تعفف يا أبا ذر ، أرأيت إن أصاب الناس موت شديد( ) يكون البيت( ) فيه بالوصيف( ) يعني القبر؟.
قلت: الله ورسوله أعلم! قال: اصبر يا أبا ذر. قال: أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً حتى تغرق حجارة الزيت( ) من الدماء، كيف تصنع؟ قلت: الله ورسوله أعلم! قال: اقعد في بيتك واغلق بابك.
قلت: فإن لم أترك؟: فائت من أنق منهم فكن فيهم. قلت: فآخذ سلاحي؟ قال: إذن تشاركهم فيما هم فيه، ولكن إن خشيت أن يروّعك شعاع السيف فالق طرف ردائك على وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك فيكون من أصحاب النار.
وأخرج البيهقي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اكسروا سيفكم يعني في الفتنة، واقطعوا أوتاركم، والزموا أجواف البيوت، وكونوا فيها كالخيّر( ) من ابني آدم )( ).
وهو موضوع خاص يتعلق بما قد يحدث بين المسلمين ، ومع هذا فانه لا يتعارض مع قوله تعالى(الفتنة أشد من القتل) بل يكون شاهداً على الإعجاز في آية البحث ، وبيانها للضرر العام الذي يترشح عن الفتنة ، ومنه الخوف من إحتمال وقوعها وظهور أماراتها .
لتبعث هذه الأحاديث على إيقاظ هممّ المسلمين وتدعوهم إلى التآلف والوحدة وعدم الخروج عن الجماعة .
الثالث : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار , ونزل إبليس مع آدم وحواء لفتنة الأجيال من ذريتهما ، فالذين يقاتلون المسلمين جنود لإبليس وأعوان للشيطان ، فأبى الله عز وجل إلا أن تتجلى معالم ملكيته المطلقة للأرض والسماء ووجود العلقة والصلة المستمرة بينهما بأيات كونية ثابتة ومتجددة وبالكتب السماوية وبعثة الأنبياء والمرسلين ، ونزول الملائكة للوحي للأنبياء وللقتال مع المسلمين ، وإزاحة مفاهيم الكفر عن الأرض .
وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم لتبقى الأرض محلاً ووعاء لعبادة الله .
ثانياً : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم دفاعاً عن الإسلام , وعن أنفسكم وأهليكم .
ثالثاً : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم لصد الناس عن إتباع الذين كفروا .
رابعاً : من الإعجاز وأسرار قصد القربة وإرادة القتل في سبيل الله إنجذاب الناس للمسلمين في قتالهم ورغبتهم في إعانتهم ، ونفرتهم من الذين كفروا، وإمتناعهم عن نصرة أعداء الإسلام , ليكون من وجوه تقدير الآية :
قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم كي يهجر الناس عبادة الأوثان ، ويدركوا وجود أمة صابرة تقاتل لنصرة الحق ، وهداية للناس .
خامساَ : لقد إقترنت الصلاة بالإسلام ، ومما نزل في مكة من القرآن سورة الفاتحة التي يتلو آياتها كل مسلم ومسلمة عدة مرات في الصلاة اليومية ومنها [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) فأنعم الله عز وجل عليهم بأن أمرهم بقتال الذين يقاتلونهم من الذين كفروا ، ليكون من الصراط المستقيم، وبلغة للعبور على الصراط يوم القيامة .
سادساً : تقدير الآية : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم واتركوا العصبية , وتنزهوا عن حمية الجاهلية والثأر .
سابعاً : يا أيها الذين آمنوا إن لم تقاتلوا الذين يقاتلونكم من الكفار فأنهم يقتلونكم .
المسألة الثالثة : ترغيب الناس جميعاً بالكف عن قتال المسلمين فمن معاني [فَإِنْ انتَهَوْا] أمور :
أولاً : يا أيها الذين كفروا إنتهوا عن قتال المسلمين .
ثانياً : يا أيها الناس إمنعوا الذين كفروا عن قتال المسلمين .
ثالثاً : دعوة الناس لحث الذين كفروا للإنتهاء عن قتال المسلمين فاذا جاء رؤساء الكفر إلى قبيلة لطلب العون منهم لقتال المسلمين فأنهم لا يستجيبون لطلبهم ويأمرونهم بالكف عن قتال المسلمين .
المسألة الرابعة : لما أختتمت آية البحث بقوله تعالى [كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ] فان من معاني الإنتهاء الذي إبتدأت به الآية التالية هو الإنتهاء عن الكفر والضلالة.
قانون الفتنة أشد من القتل
الفتنة لغة الإختبار والإمتحان ، ويقال فتنت الذهب بالنار , أي أدخلته في النار لتعلم جودته وأنه ذهب خالص , و(الفتان هو الحجر الذي يجرب به الذهب والفضة)( ).
والفتنة : الشيطان , والفُتان بضم الفاء جماعة ، والفتن إحراق الشئ بالنار .
و(الإرجاف زند الفتنة)( ) أي أن الإرجاف بين الناس وسيلة وآلة لإثارة الفتنة لذا (يُقال للدّاعي إلى الفِتْنَة: عَوى واسْتَعْوى فاسْتَعْوَوْا)( ).
والفتنة الإبتلاء والإمتحان بالخير والشر ، قال تعالى [وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً]( ).
ويتوجه الخطاب في الآية أعلاه للمسلمين وقدمت الآية الشر خلافاً للأصل وهو تقديم الخير والأمر الصالح على الطالح ولابد فيه من إعجاز ، وهو توثيق الآية لحال الفقر والعوز والأذى والضرر الذي لحق المسلمين في بدايات الإسلام، سواء بتعذيب قريش لأهل البيت والمسلمين الأوائل وخروجهم من ديارهم, وفي الهجرة إلى الحبشة والطائف والمدينة , وما فيها من المخاطر والأهوال.
وقد قام كبار الكفار من رجالات قريش بتجهيز الجيوش لقتال المسلمين ، وهو كله شر وأذى ، لذا قال الله تعالى في آيات البحث [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( )وقال[وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ]( ).
لتأتي بعدها الفتنة في الخير والشر والغلبة وبسط الحكم للمسلمين .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لأنا في فتنة السراء أخوف عليكم من فتنة الضراء ، إنكم قد أبتليتم بفتنة الضراء فصبرتم ، وإن الدنيا خضرة حلوة ) ( ).
ليكون الإمتحان في الخير متعقباً لإبتلاء الإنسان بالشر سبباً لتقيد المسلمين بسنن التقوى ، بعد التمحيص والإبتلاء ، لذا ورد قوله تعالى في الآية السابقة[وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
فالفتنة في الشر واقية من الإعتداء وبرزخ دون الغرور.
وليعمل المسلمون بقياس الأولوية القطعية ، وهو أمر عقلائي فاذا كانوا يتعاهدون الصلاة والصيام ومصاديق الصلاح وإخلاص الطاعة لله عز وجل ورسوله في حال الشدة والبلاء بالفقر والفاقة والفتنة بالعدو الكافر فمن باب الأولوية القطعية أن يتعاهدوا العبادة وسنن الصلاح في حال الغبطة والخير ، وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول :نبلوكم بالشر فتنة للصبر في الشر .
الثاني : نبلوكم بالشر مقدمة للصبر في الخير .
الثالث : نبلوكم بالخير للشكر لله عز وجل على السلامة والنجاة من الإفتتان بالشر .
الرابع : نبلوكم بالخير للصبر في موارد الخير والسعة والغنى والأمر والسلطنة .
الخامس : نبلوكم بالشر والخير للتنزه عن النفاق .
السادس : من خصائص [ْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) الإبتلاء بالشر والخير، فلا يقول أهل ملة أخرى أن المسلمين نالوا مراتب الشرف من غير إبتلاء .
السابع : نبلوكم بالشر والخير لتفوزوا بالثواب في الآخرة .
الثامن : نبلوكم بالشر والخير ، وهي سنة الحياة الدنيا ، إذ أنها دار إمتحان وإختبار ، بل بدأ الإمتحان من يوم كان آدم في الجنة حيث نهاه الله عز وجل عن الأكل من الشجرة فأكل وحواء منها ، بإغواء من إبليس ، قال تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ]( ).
وهل يصح القول بأن آدم وحواء فشلا وسقطا في أول إختبار لهما في الجنة حيث الملائكة تحيط بهما وإستمعا لقول من حذرهما الله والملائكة منه، الجواب لا، إذ بدأ إختبار آدم بتعليم الأسماء فاتقنها.
وعندما عجز الملائكة عن معرفة الأسماء التي سألهم الله عز وجل قال تعالى [ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ] ( ) وفيه توفيق ونجاح لآدم في الإبتلاء من جهات :
الأولى : أمر الله عز وجل لآدم بالإخبار عن الأسماء تشريف له .
الثانية : تسمية الله عز وجل لآدم بإسمه إكرام له في السموات والأرض وبين الملائكة .
الثالثة : أمر الله عز وجل لآدم بأن يعلم الملائكة بأسماء المسميات من غير خلط بينها ، وهو غاية الإكرام بأن يكون آدم عالماً لايفرط بأي من الحقائق وأن تلامذته الملائكة , وهي منزلة لم ينلها أحد من الخلائق ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
الرابعة : قيام آدم بتعليم الملائكة الأسماء بدقة وضبط وصدق وطاعة لله عز وجل ، لبيان أن من خصائص الخليفة في الأرض حسن التعليم والدقة في تعليمه لغيره ، مما يجعل الإنسان صالحاً لوراثة الأرض ،وتوارث الأمر بعبادة الله وفعل الصالحات والنهي عن إرتكاب السيئات والإفساد في الأرض ، وقتل النفس بغير حق .
ويكون من علم الله سبحانه قيام الحجة على الذي يفسد في الأرض والذي يقتل النفس .
لقد بدأت الفتنة مع الإنسان قبل هبوطه إلى الأرض ، فلم ينزل آدم إلى الأرض إلا وقد أخذ الموعظة من أن الفتنة تقود إلى الخسران المبين ، وأن الحياة الدنيا دار الإفتتان ، وليس من حصر لمعاني [الفتنة] ومن معانيها في المقام الشرك والكفر والضلالة والبلاء والضرر والشر وإتباع الهوى والسعي لإرتداد المسلمين ، ومنها ما يقوم بها الذين كفروا من مقدمات الإفتتان بينهم وبين المسلمين ، ومنها إخراج المسلمين من بلادهم وحملهم على ترك ديارهم وبيوتهم وعوائلهم .
ومن مصاديق الفتنة أن هذا الإخراج من جوار البيت الحرام .
لقد كان في وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في مكة فيض وبركة وسلام ، ولكن المشركين أكرهوهم على الهجرة وحرموا أنفسهم وأهل مكة من حضورهم بين ظهرانيهم .
والفتنة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً، وهي أشد من القتل، فقد وردت الآية بصيغة الإطلاق ولغة العموم .
وألف لام الجنس في [الفتنة ]وتدل القرائن على أن من الفتنة في المقام إخراج المسلمين من ديارهم ، وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه سعي خبيث لمنع الناس من دخول الإسلام وبقاء عدد المسلمين قليلاً عند الملاقاة ، وجعل الناس في حال جهالة وعمى ، وقد وصف الله عز وجل الكفار بالموت وهم أحياء .
قال تعالى[أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ]( ) أي كان جاهلاً ضالاً , فتفضل الله عز وجل وهداه للإسلام .
وتبين الآية حقيقة وهي أن إخراج المسلمين من ديارهم بداية القتل والإقتتال بين المسلمين والذين كفروا ، وصيرورة المسلمين في حال حرج شديد ، ومن معاني الآية بيان صبر المسلمين في تلقي أذى الذين كفروا لهم، لتعلم أجيال المسلمين والناس عموماً كم تأذى المسلمون الأوائل من الكفار وما لحقهم من الأذى بسبب قيامهم بطرد الذين آمنوا وملاحقتهم وتشويه مبادئ الإسلام التي آمنوا بها.
وعلى القول بأن الآية منسوخة فيحتمل قوله تعالى[وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]وجوهاً:
الأول : بيان أن الفتنة ليست أشد من القتل ، لأن المسلمين صاروا في حال منعة وعزّ وقدرة على القتال فلا يخشون القوم الظالمين .
الثاني : صيرورة القتل أشد من الفتنة .
الثالث : محو معاني ودلالات الفتنة أشد من القتل .
الرابع : من معاني النسخ التساوي بين الفتنة والقتل .
الخامس : التباين والتفصيل ، فمرة تكون الفتنة أشد من القتل , وأخرى يكون العكس أو التساوي بينهما .
والصحيح أن قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] قانون محكم لا يقبل النسخ ، وفيه إنذار للكافرين بأن بقاءهم على الكفر تزيين ما هو قبيح ، ومحاولة لصدّ الناس عن الإسلام والهدى ، لذا فان الفتنة تجعل طائفة من الناس تبقى في منازل الكفر ، فيكون هذا البقاء أشد من قتل النفس التي حرّم الله لأن الفتنة تجعل بعض الناس في حال ضلالة وجحود سواء بالنسبة للفتّان صاحب الفتنة أو الذين ينصتون له أو يهابونه ، ويخافون منه ، وقد تكون الفتنة ظاهرة جلية وقد تكون خفية مستترة . ومع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى فقد ورد التحذير والتنبيه من عند الله تعالى بقوله [وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ] ( ).
ليتوجه ذات الخطاب إلى المسلمين وعلمائهم وأمرائهم بلزوم عدم الميل من الحق إلى غيره ونقيضه من الباطل ونحوه ، وهل منه إتخاذ البطانة والوليجة غير الصالحة ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]( ).
الجواب نعم ، وهذا الخبال من الفتنة التي تذكرها الآية لأنه قد يكون مقدمة لقتال، أو سبباً في خسارة فادحة ، أو فتنة بين المسلمين وتعدد المذاهب عندهم , وتحمس كل فريق لمذهبه , وقد يقع إقتتال بين أرباب المذاهب الفقهية أو الكلامية ، وقد حصلت شواهد منه ، مع أن كلا الفريقين يؤمن بقوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ].
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وجعل وقائع الإسلام الأولى موعظة وعبرة لهم ، وقد تأتي فتنة ذاتية بين المسلمين يتكبد فيها المسلمون من الخسائر أكثر مما خسروه في معركة أحد أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من معاني هذا القانون وجوه :
أولاً : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة البيان في القرآن ، والإخبار بماهية وضرر الفتنة وأنها أشد من القتل .
ثانياً : فضح الذين كفروا والمنافقين، وبيان مكرهم وكيدهم للإسلام.
ثالثاً : تأكيد ما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون من الأذى، لأن الفتنة والحيلة في إيذاء المسلمين أشد ضرراً من القتل .
ومن الإعجاز في الآية البحث أنها لم تقل (والفتنة أشد من القتال) فقد يقع قتل في القتال وقد لا يقع، فجاءت الآية بما يدل على شدة الضرر من الفتنة.
ويحتمل لفظ القتل في الآية وجوهاً:
أولاً : الفتنة أشد من قتل الذي يُراد فتنته.
ثانياً : الفتنة أشد من ماهية القتل وسفك الدماء.
فحينما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد بقوله تعالى[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، ورد الله عز وجل عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن علم الله عز وجل أن الفتنة أشد من سفك الدماء وتفضل وذكرها في القرآن لبيان فضله تعالى في تحذير المسلمين منها.
ثالثاً : الفتنة التي قام بها الذين كفروا أشد من قتلهم أي لو كان قتل الذين كفروا بسبب قيامهم بالفتنة لكان هذا لقتل جزاء لهم، ولا تعارض بين هذه الوجوه، لعموم ضرر الفتنة، وفيه رد متقدم زماناً على الذين يقولون لماذا الأمر في آية البحث[وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ]( ).
وهل يمكن القول أن قوله تعالى[وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] توسعة وحكومة لقوله تعالى[وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ]( )، ليشمل الأمر للمسلمين بقتال كل من:
الأول الذين يسعون في إرتداد أفراد من المسلمين، لأن هذا السعي من أجلى مصاديق الفتنة المذكورة في آية البحث.
الثاني : الذين يؤذون المسلمين والذين حملوهم على الهجرة وترك بلادهم، فيكون تقدير الآية السابقة :
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم والذي يبغون الفتنة لكم) بلحاظ أن الفتنة أشد من القتل.
الثالث : الكفار الذين يصدون الناس عن دخول الإسلام.
الرابع : الذين يجمعون الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الخامس : المنافقون الذين يسعون في بث الشكوك وأسباب الريب، قال تعالى[لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً]( ) .
والجواب لا تشمل آية القتال هذه الأصناف، وليس لآية (والفتنة أشد من القتل) التوسعة في الجهات التي يقاتلها المسلمون ، ومن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يقتل المنافقين، وكان يصبر على أذاهم .
ومن إعجاز نظم الآية مجيء قانون(الفتنة أشد من القتل) بعد الأمر بقتال الكفار الذين قاتلوا المسلمين وإخراجهم المسلمين من ديارهم بغير حق.
وجاءت السنة النبوية بالإخبار عن فتنة آخر الزمان إذ يحذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فتنة الدجال.
وعن أبي أمامة الباهلي قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أكثر خطبته حديثاً حدثناه عن الدجال وحذرناه ، فكان من قوله أن قال : إنه لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم أعظم من فتنة الدجال ، وإن الله لم يبعث نبياً إلا حذر من الدجال ، وأنا آخر الأنبياء ، وأنتم آخر الأمم ، وهو خارج فيكم لا محالة ، فإن يخرج وأنا بين ظهرانيكم فأنا حجيج لكل مسلم ، وإن يخرج من بعدي فكل حجيج نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم ، وأنه يخرج من خلة بين الشام والعراق ، فيعيث يميناً ويعيث شمالاً ، يا عباد الله فاثبتوا ، وإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي .
إنه يبدأ فيقول : أنا نبي ولا نبي بعدي ، ثم يثني فيقول : أنا ربكم ولا ترون ربكم حتى تموتوا ، وإنه أعور وإن ربكم عز وجل ليس بأعور ، وإنه مكتوب بين عينيه كافر ، يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب ، وإن من فتنته أن معه جنة وناراً ، فناره جنة وجنته نار .
فمن ابتلي بناره فليستعن بالله وليقرأ فواتح الكهف فتكون عليه برداً وسلاماً كما كانت النار على إبراهيم ، وإن من فتنته أن يقول لأعرابي : أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول له : نعم . فيمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه فيقولان : يا بني اتبعه فإنه ربك . وإن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة فيقتلها ينشرها بالمنشار حتى يلقى شقتين .
ثم يقول : انظروا إلى عبدي هذا فإني أبعثه الآن ، ثم يزعم أن له رباً غيري , فيبعثه الله فيقول له الخبيث : من ربك؟ فيقول : ربي الله وأنت عدوّ الله الدجال ، والله ما كنت أشد بصيرة بك مني اليوم .
وإن من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر ، ويأمر الأرض أن تنبت ، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه فلا يبقى لهم سائمة إلا هلكت ، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر ، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت ، حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه وأمده خواصر وأدره ضروعاً .
وأنه لا يبقى من الأرض شيء إلا وطأه وظهر عليه إلا مكة والمدينة ، فإنه لا يأتيها من نقب من نقابها إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلته حتى ينزل عند الظريب الأحمر عند منقطع السبخة ، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات ، فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه ، فتنقي الخبث منها كما ينقي الكير خبث الحديد ، ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص .
فقالت أم شريك بنت أبي العسكر ( ): يا رسول الله فأين العرب يومئذ؟ قال : هم قليل ، وجلهم ببيت المقدس ، وإمامهم رجل صالح ، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي الصبح إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم الصبح ، فرجع ذلك الإمام يمشي القهقرى ليتقدم عيسى يصلي ، فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول له تقدم فصل فإنها لك أقيمت ، فيصلي بهم إمامهم ، فإذا انصرف .
قال عيسى : أقيموا الباب ، فيفتح ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي ، كلهم ذو سيف محلى وساج .
فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء وينطلق هارباً ، ويقول عيسى : إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها ، فيدركه عند باب لدّ الشرقي فيقتله ، فيهزم الله اليهود فلا يبقى شيء ما خلق الله يتوارى به يهودي إلا أنطق الله الشيء ، لا حجر ولا شجر ولا دابة ولا حائط إلا الغرقدة ( )، فإنها من شجرهم لا تنطق إلا قالت : يا عبد الله المسلم هذا .. فتعال فاقتله .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وإن أيامه أربعون سنة ، السنة كنصف السنة ، والسنة كالشهر ، والشهر كالجمعة ، وآخر أيامه كالشررة ، يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بها الآخر حتى يمسي ، فقيل له : يا رسول الله كيف نصلي في تلك الأيام القصار؟ قال : تقدرون فيها للصلاة كما تقدرون في هذه الأيام الطوال ثم صلوا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليكونن عيسى ابن مريم في أمتي حكماً عدلاً ، وإماماً مقسطاً ، يدق الصليب ، ويذبح الخنزير ، ويضع الجزية ، ويترك الصدقة ، فلا يسعى على شاة ولا بعير ، وترفع الشحناء والتباغض ، وتنزع حمة كل ذات حمة ، حتى يدخل الوليد يده في فيّ الحية فلا تضره ، وينفر الوليد الأسد فلا يضره ، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها ، وتملأ الأرض من المسلم كما يملأ الإناء من الأناء .
وتكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلا الله ، وتضع الحرب أوزارها ، وتسلب قريش ملكها ، وتكون الأرض كثاثور الفضة ، تنبت نباتها كعهد آدم حتى يجتمع النفر على القطف من العنب يشبعهم ، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم ، ويكون الثور بكذا وكذا من المال ، ويكون الفرس بالدريهمات .
قيل : يا رسول الله وما يرخص الفرس؟ قال : لا يركب لحرب أبداً . قيل له : فما يغلي الثور؟ قال : لحرث الأرض كلها . وإن قبل خرج الدجال ثلاث شداد ، يصيب الناس فيها جوع شديد ، يأمر الله السماء أن تحبس ثلث مطرها ، ويأمر الأرض أن تحبس ثلث نباتها ، ثم يأمر السماء في السنة الثانية فتحبس ثلثي مطرها ، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها ، ثم يأمر السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله فلا تقطر قطرة ، ويأمر الأرض فتحبس نباتها كله فلا تنبت خضراء ، فلا تبقي ذات ظلف إلا هلكت إلا ما شاء الله . قيل : فما يعيش الناس في ذلك الزمان؟ قال : التهليل ، والتكبير ، والتسبيح ، والتحميد ، ويجري ذلك عليهم مجرى الطعام)( ).
رابعاً : بيان أن الفتنة قد تؤدي إلى إشاعة القتل بين الناس لأن هذا القتل من الفتنة كما تكون الفتنة مقدمة له .
خامساَ : إفادة قانون وهو أن مقدمة وأسباب القتل أشد منه .
وقد وردت الآية بلفظ [أشد] وهو أفعل تفضيل .
ترى ما هو موضوع الشدة في المقام فيه وجوه :
أولاً : الفتنة أشد من القتل في ذات الفعل ، فالقتل إزهاق للروح ومفارقة لها للجسد ، أما الفتنة فهي نار مشتعلة قد تحرق الأخضر واليابس.
ثانياً : الفتنة أشد من القتل في الضرر على النفوس والمجتمعات .
ثانياً : من مصاديق الفتنة ما يكون برزخاً دون تدبر الناس في معجزات النبوة ، ومنها ما يكون مانعاً دون دخول الناس الإسلام ، إذ يقوم الكفار بتحريض الناس على الجحود وملاحقتهم بالوعد والوعيد للبقاء في منازل الكفر والصدود عن الحق والهدى .
رابعاً : لقد تضمنت الآية السابقة الأمر للمسلمين بقتال الذين يقاتلونهم من الكفار ، وجاءت آية البحث بالأمر للمسلمين بقتلهم حيث وجدوهم ، وإخراجهم من أرضهم لبيان حقيقة وهي أن الذين كفروا قاموا بالفتنة من جهات :
الأولى : الإصرار على الكفر والجحود فتنة للذات والغير .
الثانية : إيذاء الكفار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يدعوهم في مكة إلى الإيمان والهدى ، وقد ورد (عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يوارى إبط بلال) ( ).
والمراد من إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث أعلاه وجوه :
الأول : إنكار الذين كفروا لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إصرار الذين كفروا على عبادة الأوثان .
الثالث : الأذى الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشخصه الكريم وبدنه ، ولم يختص هذا الأذى بأيام ما قبل الهجرة بل إستمر حتى بعد الهجرة ففي معركة أحد كسر الذين كفروا رباعيته أي أسنانه الأمامية وأسالوا الدم من وجهه بعد أن شجوه بالحجارة وكلموا شفته .
وعن أبي سعيد الخدري (أَنّ عُتْبَة بْنَ أَبِي وَقّاصٍ رَمَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَوْمئِذٍ فَكَسَرَ رَبَاعِيَتَهُ الْيُمْنَى السّفْلَى ، وَجَرَحَ شَفَتَهُ السّفْلَى ، وَأَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ شِهَابٍ الزّهْرِيّ شَجّهُ فِي جَبْهَتِهِ وَأَنّ ابن قَمِئَةَ جَرَحَ وَجْنَتَهُ .
فَدَخَلَتْ حَلْقَتَانِ مِنْ حَلَقِ الْمِغْفَرِ وَجْنَتَهُ وَوَقَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حُفْرَةٍ مِنْ الْحُفَرِ الّتِي عَمِلَ أَبُو عَامِرٍ لِيَقَعَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فَأَخَذَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ) ( ).
الرابع : ما لحق أهل البيت من الأذى ومنه حصارهم في شعب أبي طالب لأكثر من سنتين .
الخامس : الأذى والتعذيب الذي نزل بأصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رجالاً ونساءً .
السادس : ما يلحق المهاجرين والأنصار من الأذى الشديد ، ومنه دخولهم معركة بدر وأحد والخندق وحنين وغيرها .
ويتجلى ما يلاقيه المسلمون من الأذى في آية البحث والآيات الثلاثة السابقة من جهات :
الجهة الأولى : دلالة قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ] ( ) على الأذى الشديد ، فليس من أذى أشد وأمرّ من القتال من جهات :
الأولى : مقدمات القتال .
الثانية : الفزع والخوف الذي يصاحب القتال .
الثالثة : ما يستلزمه القتال من المؤن والأسلحة ونحوها .
الرابعة : سيلان الدماء وقطع الأطراف والرؤوس من الفريقين .
الخامسة : ما يخلفه القتال من الضرر عند طرفيه ، وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين فخفّف عنهم هذه الأضرار كماّ وكيفاً ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
وقد نسى المسلمون الأذى الذي لاقاه المهاجرون الأوائل والشقاء الذي تحملوه في طريق الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة وأيام الهجرة .
فجاء القانون السماوي [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ليكون دعوة للمسلمين لإستحضار الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه من أجل إقامة صرح الإسلام ومنع الذين كفروا من قتال التابعين وتابعي التابعين إلى يومنا هذا .
وإن قاتلوكم فان هذا القتال يبقى محدوداً ومحصوراً في بقعة أو مصر من الأرض ، ويقابل بالدفاع والقتال من المسلمين ، وتقدير الآية السابقة : يا أيها الذين آمنوا قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم .
ويحتمل الأمر بالقتال في الآية وجوهاً :
الأول : إرادة الواجب العيني على كل مسلم قادر على حمل السلاح بأن يقاتل في سبيل الله .
الثاني : المراد الواجب الكفائي ، إذ يجب القتال على الذين يكفي معهم صدّ الذين كفروا وهزيمتهم .
الثالث : التفصيل والمعنى الأعم ، فمرة يكون الواجب عينياً وأخرى كفائياً .
والصحيح هو الثالث.
فان قلت لماذا جاءت الآية [ وقاتلوا ] بصيغة العموم وما يفيد الوجوب العيني , الجواب من جهات :
الأولى : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا [سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ] ( ) .
الثانية : إنه من مصاديق [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بأن يكون الأمر من الله للمسلمين عامة بالقتال زاجراً للذين كفروا ، فيمتنعوا عن القتال ، فيكون فيه تخفيف ورحمة للمسلمين وغيرهم من الناس ، كما في قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ) فاذا أدرك الإنسان مسلماً أو غير مسلم أنه إذا قتل غيره يقاد به فانه يجتنب القتل ليدرك معه القبح الذاتي للقتل وسفك الدماء ، وتكون فيه نجاة للذي ينوي القتل ، والذي يراد قتله ز
وكذا بالنسبة لآية البحث مع أن موضوعها أعم إذ أنها تنجي المسلمين والناس من معارك عديدة .
الثالثة : ترغيب المسلمين بالجهاد ، وطرد الكسل والخمول والميل إلى القعود عن نفوسهم .
الرابعة : بعث المسلمين للمناجاة بقتال الذين يقاتلونهم من الذين كفروا.
الخامسة : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والحث على قتال الذين كفروا والنهي عن التخاذل والخور والجبن .
السادسة : البشارة للمسلمين بالنصر والغلبة ، فالله سبحانه مولى المسلمين ، وهو الذي يأمرهم بالقتال ، فلابد أن ينعم عليهم بالنصر ما داموا يقاتلون في سبيله ودفاعاً عن أنفسهم وعن الإسلام والنبوة ، وفي التنزيل [بَلْ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ] ( ) .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] صيرروتها سبباً لقتال المسلمين بلحاظ أن سر وبداية هذا القتال هو الفتنة والمناجاة بين الكافرين بمحاربة الإسلام والنبوة .
ويبين هذا القانون الإرتقاء والسمو في التدبر والتفقه عند الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن المتبادر إلى الأذهان أن القتل وسفك الدماء أشد الأمور في الحياة الدنيا ، وجاءت هذه الآية لطرد الغفلة عن الناس ببيان أن الفتنة شر عام على المجتمع ، وقد يحدث القتل على نحو القضية الشخصية ، أما الفتنة فأنها تضر بالخاص والعام وتؤذي المجتمع ، وقد تعطل معها الأعمال ويختلف الناس فيما بينهم .
ومن القبح الغيري للفتنة أنها تضر ذات الفتّان الذي يفتن الناس في دنياه وآخرته ، ليكون من معاني الآية : والفتنة أشد على صاحبها في الآخرة من القتل ) .
لبيان أن الإثم والوزر الذي يبوء به صاحب الفتنة شديد ، وهل هذا المعنى من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : زجر الناس عن القيام بالفتنة .
الثانية : صيرورة الناس في حرز من الفتنة .
الثالثة : علم الناس جميعاً بأن محاربة الإسلام ، وإخراج المسلمين من ديارهم فتنة أشد من القتل ، يعاقب الله عز وجل عليها في الآخرة .
الرابعة : تأكيد علم الله عز وجل بما يفعل الكافرون من الإضرار بالمسلمين ، وفي التنزيل [وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] ( ).
الخامسة : كشف قانون الفتنة أشد من القتل للناس جميعاً مناسبة للتوبة، والتنزه عن الإضرار بالإسلام ، وهذا القانون من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ] ( )وتتعدد معاني الفتنة في الحديث ومنها ما يكون خارج موضوع هذه الآية .
كما ورد عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه (قال : إن الفقير عند الغني فتنة ، وإن الضعيف عند القوي فتنة ، وإن المملوك عند المليك فتنة ، فليتق الله وليكلفه ما يستطيع ، فإن أمره أن يعمل بما لا يستطيع فليعنه عليه ، فإن لم يفعل فلا يعذبه) ( ).
ويلقى المؤمنون الثواب العظيم في الآخرة بسبب فتنة وإيذاء الكافرين لهم , وورد في المرسل عن رسول الله (أن رجلاً قال : يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ قال : كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) ( ).
فالمراد من الفتنة في قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( ) هو فعل ما فيه صدّ عن الإسلام ، ومنع الناس من دخول الإسلام ، وحثهم على قتال المسلمين ، ومنه إثارة أسباب الشك والريب بالتنزيل والنبوة , وذات قتال الذين كفروا للمسلمين فتنة .
لقد أمر الله عز وجل المسلمين بالآية السابقة بالقتال في سبيله لينزل قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] فيكون مدداً وعوناً للمسلمين من جهات :
الأولى :تنبيه الناس بلزوم هجران الفتنة .
الثانية : إخبار الذين كفروا والناس جميعاً أن الله عز وجل يعلم ما يقوم به الذين كفروا من الفتنة ، وإرادة إفتتان المسلمين لتكون هذه الآية سبباً لبعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا .
الثالثة : تبطل آية البحث الفتنة بذاتها , وتبعث في النفوس الحيطة والحذر منها .
الرابعة : تطرد الآية الغفلة عن المسلمين في أسباب القتال والمصائب ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ).
ومن الفتنة غايات القتال , فجاءت الآية لتنزيه المسلمين وجعل قتالهم في سبيل الله وخالصاً لوجهه ، وكأن الآية تقول للمسلمين : قاتلوا في سبيل الله فان الله معكم يفضح أهل الفتنة , وينزل الآيات التي تنهى عنها وتحذر منها .
لقد أراد الكفار إتخاذ الفتنة سلاحاً في محاربة النبوة والتنزيل فتفضل الله عز جل وجعل هذه الآية واقية من الفتنة , ومانعاً من إيجادها وإنصات الناس لها .
وهل نقض الكفار للعهد من الفتنة ، الجواب نعم ، لتكون آية البحث واقية من نقض العهد وبيان قبحه وعدم إنتفاع الكفار منه .
وذكرت هذه الآيات أمرين :
الأول : قتال المسلمين للذين كفروا مع نية وقصد القتال في سبيل الله .
الثاني : إخراج المسلمين للذين كفروا من ديارهم ، وتقييد هذا الإخراج بالذين أخرجوا المسلمين من أرضهم وبيوتهم ليكون الذين كفروا من قريش على فرق :
الأولى : الذين قاموا باخراج المسلمين في مكة .
الثانية : الذين قاتلوا المسلمين في معركة بدر وأحد .
الثالثة : الذين أخرجوا المسلمين من مكة , وقاتلوهم في معركة بدر وأحد .
الرابعة : الذين لم يخرجوا المسلمين من مكة ولم يقاتلوهم .
وقد قاتل المسلمون الذين قاتلوهم ، وتم فتح مكة ودعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيعته والنطق بالشهادتين ، وقد أعطى الأمان للناس وإستثنى خمس عشر ، أثني عشر رجلاً وثلاث نساء ، وقد أسلم أكثرهم منهم هباء بن الأسود .
عن جبير بن مطعم (قال: كنت جالساً مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منصرفه من الجعرانة فاطلع هبار بن الأسود من باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقالوا: يا رسول الله هبار بن الأسود , أي حذراً منه لأنه من الكفار , ولم يعلموا أنه جاء ليعلن إسلامه , قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ” قد رأيته ” .
فأراد رجل من القوم أن يقوم إليه , لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبق وأن أباح قتله يوم فتح مكة .
فأشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه أن اجلس , فوقف هبار فقال: السلام عليك يا نبي الله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ولقد هربت منك في البلاد وأردت اللحاق بالأعاجم ثم ذكرت عائدتك وصلتك وصفحك عمن جهل عليك .
وكنا يا نبي الله أهل شرك فهدانا الله بك وأنقذنا من الهلكة فاصفح عن جهلي وعما كان يبلغك عني فإني مقر بسوء فعلي معترف بذنبي .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ” قد عفوت عنك وقد أحسن الله إليك حيث هداك إلى الإسلام والإسلام يجب ما قبله ” ) ( ).
وكان أكثر أهل مكة يتطلعون إلى دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فاتحين ، ومن الدلائل عليه عدم خروج جيش لقتالهم وصدّهم عن فتحها ، إنما خرجت جماعات صغيرة من الذين كفروا سرعان ما تفرقوا وتشتتوا في أول قتال مع المسلمين .
ومن الآيات في المقام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر جيشه أن يدخلوا من عدة جهات إلى مكة ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ]( ).
وتقدير مفهوم قوله تعالى: وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ]، هو: وأخرجوا الذين أخرجوكم من ذات مكة التي أخرجوكم منها ولا تخرجوا غيرهم من ذويهم وأقاربهم وأبناء عمومتهم والمستضعفين).
الجهة الثانية :ترشح الأذى والضرر على المسلمين بلحاظ رجحان كفة الذين كفروا في العدد والعدة والسلاح والمؤون ، فقد إلتفت رؤساء الكفر إلى سرعة إنتشار الإسلام وتلقي الناس معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرضا والقبول ، وكيف أنها صارت حديث الركبان ، فبادروا إلى غزو المسلمين في المدينة ، ولجؤوا إلى القتال في وقت لا يزال المسلمون قليلي العدد ، حديثي العهد بالإسلام ، فظنوا أن الجزع سيدّب إلى نفوسهم ويرجعون عن الإسلام , خاصة مع وجود المنافقين بين ظهرانيهم , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا] ( ) .
فان قلت لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالنصر مع قلتهم وضعفهم بدليل قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) والجواب هذا صحيح ولكنه لا يمنع من الأذى أثناء القتال وفي مقدماته ، وعند إلتقاء الفريقين ولمعان السيوف كما سقط أربعة عشر شهيداً من المسلمين يوم بدر.
(الْقُرَشِيّونَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَاسْتُشْهِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمّ مِنْ بَنِي الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ : عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطّلِبِ قَتَلَهُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، قَطَعَ رِجْلَهُ فَمَاتَ بِالصّفْرَاءِ . رَجُلٌ .
مِنْ بَنِي زُهْرَةَ
وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ . عُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقّاصِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ ، وَهُوَ أَخُو سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ ، فِيمَا قَالَ ابن هِشَامٍ ؟ وَذُو الشّمَالَيْنِ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَضْلَةَ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ خُزَاعَةَ ، ثُمّ مِنْ بَنِي غُبْشَانَ . رَجُلَانِ .-
مِنْ بَنِي عَدِيّ
وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ : عَاقِلُ بْنُ الْبُكَيْرِ ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ ، وَمِهْجَعُ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ . رَجُلَانِ .
مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ
وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ : صَفْوَانُ ابن بَيْضَاءَ رَجُلٌ . سِتّةُ نَفَرٍ .
وَمِنْ الْأَنْصَارِ
وَمِنْ الْأَنْصَارِ ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ : سَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ ، وَمُبَشّرُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ زَنْبَرٍ . رَجُلَانِ .
مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ
وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ : يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَهُوَ الّذِي يُقَالُ لَهُ ابن فُسْحُمٍ . رَجُلٌ .
مِنْ بَنِي سَلِمَةَ
وَمِنْ بَنِي سَلِمَةَ ؟ ثُمّ مِنْ بَنِي حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ : عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ . رَجُلٌ .
مِنْ بَنِي حَبِيبٍ
وَمِنْ بَنِي حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضَبِ بْنِ جُشَمَ : رَافِعُ بْنُ الْمُعَلّى . رَجُلٌ .
مِنْ بَنِي النّجّارِ
وَمِنْ بَنِي النّجّارِ . حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ بْنِ الْحَارِثِ . رَجُلٌ .
مِنْ بَنِي غَنْمٍ
وَمِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ : عَوْفٌ وَمُعَوّذٌ ابْنَا الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ سَوَادٍ وَهُمَا ابْنَا عَفْرَاءَ . رَجُلَانِ . ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ) ( ).
وذكر أن عمير بن أبي وقاص من القتلى يوم بدر , وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ردّه يومئذ لأنه إستصغره إذ كان عمره ست عشرة سنة ولكنه أخذ يبكي رغبة بالخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، فأذن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم , والذي قتله هو العاصي بن سعيد .
وعمير هذا أخو سعيد بن أبي وقاص , واسم أبي وقاص هو مالك بن أُهيب بن عبد مناف بن زُهرة .
وأول من قتل من المسلمين يوم بدر هو حارثة بن سراقة رماه حبّان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته فمات ، وبشّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمه بأنه في الفردوس .
ومن الإعجاز في السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تكرار رجحان كفة المشركين من جهة العدد , والعدة , والسلاح في كل معارك الإسلام الأولى ، ولم يستطيعوا أن يحققوا نصراَ في أي منها لبيان أمور :
الأول : موضوعية الإيمان وصدق إخلاص المسلمين في القتال .
الثاني : النفع العظيم من نزول الملائكة لنصرتهم في كل معركة منها ، وفي معركة بدر ورد عن ابن عباس قال (بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول اقدم حيزوم فنظر إلى المشرك امامه فخر مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد خطم انفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك اجمع فجاء الانصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين) ( ).
وكان ابن عباس يومئذ طفلاً صغيراً في مكة ,ووقع أبوه العباس بن عبد المطلب أسيراً بيد المسلمين في معركة بدر لبيان أن بعض بني هاشم لم ينصروا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وخرجوا مع المشركين .
وكان عبيد بن أوس بن مالك الأنصاري هو الذي أسر العباس بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وقرنهم في حبل وأتى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال له (لقد أعانك عليهم ملك كريم ” ، وسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقرناً. وبنو سلمة يدعون أن أبا اليسر كعب بن عمرو آسر العباس وكذلك قال ابن إسحاق) ( ).
وكان نوفل أسن من العباس ومن حمزة ، وفداه العباس من الأسر ، وقيل هو الذي فدى نفسه ، وكانا شريكين في المال , والتجارة في أيام الجاهلية .
ولما أسر نوفل يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (افد نفسك برماحك التي بجدة ” . قال : والله ما علم أحد أن لي بجدة رماحا غيري بعد الله أشهد أنك رسول الله ففدى نفسه بها وكانت ألف رمح)( ).
وهاجر نوفل إلى المدينة أيام معركة الخندق وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين ، وفدى العباس ابن أخيه عقيل بن أبي طالب .
(وعن عقيل بن أبي طالب قال: نازعت علياً وجعفر بن أبي طالب في شيء، فقلت: والله ما أنتما بأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، إن قرابتنا لواحدة، وإن أبانا لواحد، وإن أمنا لواحدة. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” أنا أحب أسامة بن زيد ” 0 قلت: إني ليس عن أسامة أسألك، إنما أسألك عن نفسي. فقال: ” يا عقيل: إني والله لأحبك لخصلتين: لقرابتك ولحب أبي طالب إياك وكان أحبهم إلى أبي طالب وأما أنت يا جعفر فإن خلقك يشبه خلقي، وأما أنت يا علي فأنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي) ( ).
كما أسر يوم بدر من بني علقمة بن المطلب , ونعمان بن عمرو بن علقمة بن المطلب .
الجهة الثالثة : يدل مجئ الآية بلغة الأمر [وَقَاتِلُوا] وبصيغة المضارع الذين يقاتلونكم على أن قتال المسلمين ضد الكفار مستمر ومتجدد وأن الكفار عازمون على قتال المسلمين ، لذا حينما إنتهت معركة أحد .
وعندما أراد المشركون الإنصراف من المعركة أطلّ أبو سفيان ، وهو من رؤساء جيش المشركين يومئذ ونادى المسلمين .
(إنّ مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ لِلْعَامِ الْقَابِلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِرَجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ قُلْ نَعَمْ هُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَوْعِدٌ) ( ).
وهذا الوعيد من الأذى الذي لاقاه المسلمون لما فيه من لزوم الحيطة والحذر من المشركين ، وهو مناسبة لشماتة المنافقين وبثهم الإشاعات في المدينة وقد يخشى بعض المسلمين الفتنة عند قتال الذين كفروا ويهاب جمعهم الأنصار ، وتحريضهم لطوائف أخرى من الكفار ، وإستعانتهم بكسرى فارس ، وقيصر الروم ، فتضمنت آية البحث بعث الطمأنينة في نفوس المسلمين في إنتفاء الفتنة من هذا الجانب ، وأخبرت عن قتال المسلمين للذين كفروا منع من الفتنة ووأد لها .
وتبين آية البحث لزوم دفع الأفراد القادمة من الفتنة والشر ، فلم تقل الآية : وقاتلوهم لإزاحة الفتنة أو لصرفها ورفعها ، بل قالت [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ] مما يدل على أن قتال المسلمين حاجة ودفع للقتل ، بلحاظ ما ورد قبل آيتين من قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ليكون من معاني الجمع بين الآيتين وجوه :
أولاً : وقاتلوهم كيلا تقتلوا بالفتنة .
ثانياً : وقاتلوهم فان قتال الذين كفروا أخف وطأة من الفتنة .
ثالثاً : وقاتلوهم قبل أن تحل آفة الفتنة والشر .
وقد ورد في الآية بعد التالية قوله تعالى [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ]لبيان معجزة للقرآن في علوم الغيب وهي إن لم يقاتل المسلمون الذين كفروا في معركة بدر وأحد والخندق ، تقع فتنة عمياء تكون أشد من القتل، وهو الذي يتجلى بتهديد ووعيد الذين كفروا من قريش وسعيهم لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
فلم تقل الآية أعلاه (وقاتلوهم بعد الفتنة ) ولم تقل (قاتلوهم حتى لا يفتنوكم) إنما أخبرت عن كون قتال المسلمين للذين كفروا برزخاً دون الفتنة العامة ، التي لم تعين جهة صدورها ، فيكون من معاني الفتنة في الآية أعلاه والتي هي أشد من القتل أمور :
أولاً : إرادة الذين كفروا قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثانياً : منع توالي نزول آيات القرآن ، فمن إعجاز القرآن أن نزوله كان نجوماً وعلى مدى ثلاث وعشرين سنة .
الثاني : معركة أحد [الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ] ويحتمل المراد وجوهاً :
أولاً : الذين سبق وأن قاتلوا المسلمين .
ثانياً : الذين سبق وأن قاتلوا المسلمين ومعهم غيرهم من لم يقاتل المسلمين في الماضي وهم يقاتلون المسلمين في المستقبل .
ثالثاً : الذين يقاتلون المسلمين ولم يقاتلوهم من قبل نزول آية البحث .
رابعاً : إرادة أشخاص طوائف من الذين كفروا تقاتل طائفة منهم المسلمين وتكف عنهم ، ثم تقاتل طائفة أخرى .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية وأسرار مجيئها بصيغة المضارع ، ليكون المسلمين على أهمية الإستعداد للقاء الذين كفروا، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( ).
لقد وردت الآيتان بصيغة المضارع وإرادة تعدد القتال ليكون التخفيف فيه من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
ومن الإعجاز في هذه الآيات دلالتها على المنع من الإكثار في القتال والإسراف في القتل ، لذا فمع أن هذه الآيات تأمر المسلمين بالقتال فأنها تضمنت نهيهم عن التعدي وأخبرت عن بغض الله للمعتدين .
الثالث : قوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ].
ومن الإعجاز في نظم هذه الآيات مجئ آيتين متتاليتين كل واحدة تأمر المسلمين بالقتال وبينهما عموم وخصوص مطلق ، إذ أن آية البحث أعم بلحاظ تتبع الذين كفروا ممن يقاتل المسلمين ، وملاحقتهم وقتلهم وتشريدهم ، فيكون من معاني [وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ] ( ) أن عزم المسلمين على قتالهم حيثما وجدوا مقدمة لطردهم من ديارهم ، أن عزم المسلمين على قتالهم حيثما وجدوا مقدمة لطردهم من ديارهم ، لدلالة قوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ] على البشارة لفتح مكة لأن الذين أخرجوا المسلمين منها لا يزالون فيها .
وتتضمن آية البحث أعظم البشارات ، وتدل على غضب الله عز وجل للمسلمين ، وإنتقامه من الظالمين الذين آذوهم وعذبوهم ، فقد ذكرت إخراجهم للمسلمين في ثنايا بشارة صيرورة المسلمين في حال رفعة وعز وقوة وتضمنت أوامر للمسلمين :
أولاً : قتل الذين قاتلوهم من الكفار .
ثانياً : ملاحقة الذين كفروا في الحضر والمدد.
ثالثاً : إخراج الذين كفروا ذات الديار التي أخرجوا المسلمين منها .
ويدل الأمر بالإخراج على بقاء المسلمين فيها ، وعدم مغادرتها ، وبعث اليأس في نفوس الكفار من العودة إليها ، بلحاظ تجدد مضامين الآية، وتقدير الآية : أبقوا الذين أخرجوكم خارج مكة ، ولا تأذنوا لهم بالعودة إلا أن يدخلوا الإسلام .
ومن معاني [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ]تعدد زمان ومكان قتل المسلمين للذين كفروا ، وفيه بداية لعهد جديد لا تنحصر فيه المواجهة بين المسلمين الذين كفروا بميدان المعركة .
فقد إنتهت معركة بدر بفرار الذين كفروا في نفس يوم المعركة ، وهو السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وإنتهت معركة أحد بأنسحابهم من ميدان المعركة في ذات يوم القتال ،وهو النصف من شهر شوال في السنة الثالثة للهجرة ، وأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام برصد جيش الذين كفروا والتأكد من عدم تلونهم على المدينة وإرادة الهجوم عليها .
وأنسحب الذين كفروا من معركة الخندق بعد حصارهم للمدينة أكثر من عشرين ليلة ومن غير أن يقع إلتقاء بين الجمعين ولم يلاحقهم المسلمون.
وفي الليالي الأخيرة للحصار إزداد عدد المنافقين الذين يتسللون ويستأذنون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم للذهاب إلى أهليهم وترك مواضعهم ، وفي التنزيل [وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا] ( ).
وطاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الليلة الأخيرة يتفقد أصحابه خلف الفندق ، فوقف على رأس حذيفة وقال :
ما هذا؟
فقال حذيفة ، ولم يسأله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن اسم أبيه ، ولم يقل له تأكيداً : حذيفة اليماني ، بل إكتفى بذكره لإسمه مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرف أصحابه بأسمائهم المجردة مع كثرتهم .
فقال : حذيفة : قال حذيفة فتعاضدت للأرض هيبة وحياء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأن حذيفة لا يرتدي من العدو والبرد الشديد إلا مرطاً لأمرأته لا يجاوز ركبته ( ).
والمرط كساء من صدف أو خز أو كتان تتلفح به المرأة كما يؤتزر به .
(وأخرج البيهقي عن حذيفة بن اليمان قال لقد رأيتنا مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ألا رجل يأتيني بخبر القوم يكون معي يوم القيامة فلم يجبه منا احد ثم الثانية ثم الثالثة مثله ثم قال يا حذيفة قم فأتنا بخبر القوم) ( ).
فأستحى حذيفة من القيام ولكنه تمالك نفسه وقام ليقن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنه كان في القوم خبر ، فأتني بخير القوم ، أي أن الأحزاب الذين يحاصرون المدينة لأكثر من عشرين ليلة ليكون قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أنه كان في القوم خبر) من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية.
ومع أن حذيفة في أشد حال من الفزع والخوف وشدة البرد ، فأنه بادر إلى طاعة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما فيه من الخطر والضرر على حياته لأن مضمون أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو لزوم أن يدّس حذيفة نفسه في جيش المشركين مع كثرته وشدة بأس القوم ، وتألفهم لمدة عشرين ليلة في موضع واحد ، إلى جانب مدة السير مشياً وعلى الرواحل من مكة إلى المدينة ، مما يعني صعوبة أن ينفذ إليهم غريب ويكون بين صفوفهم .
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحاط حذيفة بالدعاء فقال (اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته)( ) لتنزل السكينة على حذيفة ويزول عنه دفعة ومرة واحدة الخوف والفزع وغادر بدنه البرد.
وحينما مشى حذيفة بأتجاه الأحزاب الذين وراء الخندق قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتّى تَأْتِيَنِي) ( ) وفيه مسائل :
الأولى : تعيين وظيفة حذيفة ولزوم إتخاذ الصمت .
الثانية : لزوم صبر حذيفة وعدم قيامه بقتل بعض الكفار ، ليكون هذا الأمر مستثنى من قوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ].
خاصة وان الخطاب في الآية أعلاه عام وشامل للمسلمين وجماعتهم وليس للمنفرد من المسلمين ، وهو من الإعجاز في موافقة السنة النبوية للأوامر والنواهي الواردة في القرآن وعدم خروجها عنها .
الثالثة :البشارة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحذيفة بأنه سيعود سالماً مع شدة الأمر الذي بعثه فيه .
الرابعة : وجوب عودة حذيفة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد إنجاز عمله ، وعدم ذهابه الى بيته .
الخامسة : تنزه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نعت عدوه بكلمات غليظة وإن كانوا يستحقونها ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) بأصرارهم على الكفر وإرادتهم قتله وقتل المسلمين ، وأن مثل هذه الكلمات تزيد من حنق وغضب المسلمين عليهم ، إنما وصفهم بالقوم ، وهم جماعة الناس .
السادسة : تأكيد النبي صلى الله عليه وآله على سرية ذهاب حذيفة ولزوم إخفاء هويته وعدم كشف نفسه لهم .
السابعة : بيان رغبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعودة حذيفة ، قال حذيفة (فتقاصرت للارض فقلت: بلى يا رسول الله.
كراهية أن أقوم.
فقمت فقال: إنه كائن في القوم خبر فأتني بخبر القوم.
قال: وأنا من أشد الناس فزعا وأشدهم قرا.
قال: فخرجت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته ” قال: فوالله ما خلق الله فزعا ولا قرا في جوفى إلا خرج من جوفى فما أجد فيه شيئا ! قال: فلما وليت قال: يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني.
قال: فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيديه على النار ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل الرحيل ) ( ).
وإبتدأ قول حذيفة أعلاه بالفاء للدلالة على عدم وجود مهلة أو فترة بين أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم له وبين خروجه إلى مواضع العدو ، لبيان الفرق بين المؤمنين يومئذ ومنهم حذيفة ، وبين المنافقين الذين كانوا يأتون بالأعداء ليتسللوا إلى بيوتهم خشية مداهمة الكفار للمسلمين من خلف الخندق ، إذ قال حذيفة ( فخرجت ..)
(وقام رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يصلي تلك الليلة) ( )
وتسلل حذيفة إلى جيش المشركين وبعث الله عز وجل تلك الليلة ريحاً عاتية وكانت ليلة السبت ، فلم تقر لقريش خيمة أو قدراً.
وكان المنادي الرحيل الرحيل هو أبو سفيان ، ولم يكن حذيفة يعرفه من قبل ، وأنتزع سهماً من كنانته أبيض الريش واراد أن يرميه على ضوء النار ، ولكنه ذكر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لَا تُحْدِثْ شَيْئًا حَتّى تَأْتِيَنِي) ( ) قال حذيفة (فأمسكت ورددت سهمي إلى كنانتي) ( ).
ولم ينسحب الجيش إلا بالبيان وإعلان العذر ، إذ قال أبو سفيان بن حرب (فقال أبو سفيان بن حرب: يا معشر قريش إنكم لستم بدار مقام، لقد هلك الخف والحافر وأجدب الجناب وأخلفتنا بنو قريظة ولقد لقينا من الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل؛ وقام فجلس على بعيره وهو معقول، ثم ضربه فوثب على ثلاث قوائم فما أطلق عقاله إلا بعدما قام، وجعل الناس يرحلون وأبو سفيان قائم حتى خف العسكر، فأقام عمرو بن العاص وخالد بن الوليد في مائتي فارس ساقة للعسكر ورداءا لهم مخافة الطلب) ( ).
وفيه دلالة على النظام في الإنسحاب والإحتراز عند مغادرة الموضع ، وفيه شاهد بان المشركين كانوا يخشون المسلمين ولكن المسلمين لم يهجموا عليهم بل تركوهم يغادرون خائبين .
وحذيفة بن اليمان إسمه حذيفة بن حسيل بن جابر العبسي حليف لبني عبد الأشهل من الأنصار , ويكنى أبا عبد الله واسم أمة الرباب بنت كعب من بني عبد الأشهل من الأنصار ، وسمي باليمان لمحالفته لهم , أو لأنه أصاب دماً في قومه ، وهرب إلى المدينة وحالف بني عبد الأشهل فسمي إلى جده (اليمان لأنه نسب إلى جده اليمان بن الحارث بن قطيعة بن عبس بن بغيض واسم اليمان جروة بن الحارث بن قطيعة بن عبس وإنما قيل لجروة اليمان لأنه أصاب في قومه دما فهرب إلى المدينة فخالف بني عبد الأشهل فسماه قومه اليمان لمحالفته اليمانية) ( ).
أي أن الذي أصاب الدم ليس والد حذيفة إنما هو جده وهو خلاف ما يتبادر إلى الإذهان بأن والد حذيفة هو الذي أصاب دماً ، وكان لحذيفة وأخيه صفوان ووالدهما صحبة وشهدوا معركة أحد.
وقتل المسلمون حسيلاً خطأ , وهم يظنون أنه من المشركين إذ إلتحق بجيش المسلمين متأخراً ، وكان هو وثابت بن وقش في الأطام( ) مع النساء والصبيان وهما شيخان كبيران ، (فقال أحدهما لصاحبه وهما شيخان كبيران لا أبالك ما ننتظر فوالله ان بقى لواحد منا من عمره إلا ظمء حمار انما نحن هامة اليوم أو غدا .
أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول اللهصلى الله عليه وسلم لعل الله يرزقنا شهادة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذا أسيافهما ثم خرجا حتى دخلا في الناس ولم يعلم بهما فأما ثابت بن وقش فقتله المشركون وأما حسيل بن جابر فاختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه ولا يعرفونه .
فقال حذيفة أبي والله أبي قالوا والله ان عرفناه وصدقوا , فقال حذيفة يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يديه فتصدق حذيفة بديته على المسلمين فزاده عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيرا) ( ) .
وتصدق حذيفة بديته على الذي قتله (وقيل أن الذي قتل حسيلا عتبة بن مسعود) ( ).
ومع أن حذيفة فجع بأبيه في معركة أحد فقد بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليدخل جيش المشركين في معركة الخندق ، وتوثق صفحة جهاد له في تأريخ الإسلام .
قانون تقدم الدفاع على الإخراج في آية البحث
إبتدأت آية البحث بالأمر بقتل الذين كفروا ممن يقاتل المسلمين ، وجاءت الآية بالإطلاق المكاني بقوله تعالى [حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ]ولم تقل الآية (وقاتلوهم حيث تثقفوهم ).
ليكون من معاني الآية بشارة بنصر المسلمين وهو أمر تمكين ومنه الإخبار عن تفرق المشركين ، وصيرورتهم في حال ضعف ومسكنة غير قادرين على القتال والدفاع ، ولو بقي الأمر بالقتل وحده لأفاد إستباحة قتل الذين قاتلوا المسلمين جميعاً إلا الذين دخلوا الإسلام ، ولكن ورد بعد الأمر بالقتل بأخراجهم من حيث أخرجوا المسلمين لتقييد القتل وعد إطلاقه ، لأن الإكتفاء بالإخراج نقيض القتل ، ولو قدمت الآية الإخراج على القتل ، وقالت (وأخرجوهم من حيث أخرجوكم وأقتلوهم حيث تثقفوهم ) لفسر الآية بعضهم بأن الإخراج مقدمة للقتل .
مما يدل على أن الإسلام يحرم القتل العام والإبادة الجماعية حتى بالنسبة لأشخاص الذين يحاربونه .
لذا وردت الآيات والنصوص بأكرام الأسير ، قال تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا] ( ) .
كما جاءت الآيات بالندب إلى عتق الصبية وصيرورتهم ، وهو الذي تدل عليه الشواهد التأريخية وحال المسلمين في هذا الزمان بانتفاء العبيد بينهم من غير لجوء إلى تشريع وقانون وضعي ، بل بالمبادرات الفردية من المسلمين بقصد القربة ورجاء الثواب ولقضاء الكفارات .
والأمر من الله عز وجل للمسلمين بإخراج الذين كفروا من مكى لقيامهم باخراج المسلمين منها من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وهناك مسألة وهي هل قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون بإخراج الذين كفروا من مكة عند فتحها ، وعلى فرض أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عفى عنهم ،ولم يخرجهم فهل هو من نسخ السنة للقرآن ، الجواب لا تصل النوبة إلى النسخ في المقام إنما أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدخلوا الإسلام وبايعته حتى النساء ، ليصبح تغير الموضوع إذا تبدل الحكم ، وتقدير الآية : وأخرجوهم ما داموا على حال الكفر كما أخرجوكم ) فلما دخلوا الإسلام صاروا إخواناً للمسلمين، قال تعالى [فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ]( ) بالإضافة إلى حقيقة وهي ليس كل أهل مكة أخرجوا المسلمين من ديارهم ، وقد قتل في معركة بدر وأحد والخندق رؤساء الكفر من قريش ممن أخرج المسلمين من ديارهم ، وتقدير الآية وأخرجوهم إن وجدوا أحياء وعلى حال الكفر )ولا يختص موضوع الآية بمكة وحولها وإن كانت هي موضوع النزول .
ومن معاني عطف الإخراج على القتل بعث الرحمة والشفقة في نفوس المسلمين حتى في حال القتال ، والإكتفاء بالطرد من الديار ليكون فيه موعظة للذين كفروا عامة بأن لا يطردوا المسلمين من ديارهم وأهليهم ، إذ يفيد قوله تعالى [مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ]توثيق حال الإستضعاف التي كان عليها المسلمون وأنهم لم يقاتلوا ولم يحاربوا الذين أخرجوكم ، ولو إمتنعوا عن الخروج وقاتلوا المشركين لقتلوا المسلمين ، أما وقد صارت الغلبة للمسلمين فان الله عز وجل يأمرهم بالإكتفاء بأخراج الذين كفروا من ديارهم ما دام أنهم كفوا عن قتالهم ، لقوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وقد تضمنت الآية السابقة نهي المسلمين من التعدي بقوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا] لتأكيد عدم التجاوز في القتل على الحال التي يكتفي فيها بإخراج الذين كفروا أو القيام بإخراج الذين كفروا من ديارهم ممن لم يقم بإخراج المسلمين منها ، قال تعالى [إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ] ( ).
لقد جعل الله عز وجل هذه الآية بشارة للمسلمين وعوناً لهم لمواصلة الجهاد والصبر في القتال لأنها تبين حال الظفر التي يرزقونها ، وهل القدر المتيقن من الإخراج في الآية هو التلبس بطرد المسلمين من مكة أمر يكفي إيذائهم وتعذيبهم وحملهم على الهجرة ، الجواب هو الثاني ، وهو من مصاديق الظلم الذي نزل بالمسلمين ، وقيل أن أول آية نزلت في الجهاد ، وهو قوله تعالى [ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ] ( ) وتتضمن آية البحث الإخبار عن ضعف شوكة المشركين وبعث المسلمين على الدفاع عن أنفسهم وحث الذين يريدون دخول الإسلام على اللحوق بالمسلمين وعدم الخشية من الذين كفروا .
وتبين الآية حقيقة وهي أن إخراج المسلمين من ديارهم ليس مستديماً وأنهم يعودون فاتحين ، مع قهر لمفاهيم الشرك والضلالة ، وليكون هذا الإخراج من الفتنة التي تذكرها الآية ، وكأنها تخبر بأن إخراج المسلمين من ديارهم من قبل المشركين فتنة لذات المشركين هي أشد من قتلهم ، إذ تؤدي إلى قتل فريق منهم وإخراج فريق أخر من ديارهم ومن معاني مصاديق الفتنة في الآية إرادة المشركين حمل المسلمين على الإرتداد وترك الإيمان بالتعذيب ، والجمع بين قصد الإرتداد والتعذيب أشد من القتل .
ويفيد قوله تعالى [وأخرجوهم] جهل همّة المسلمين في إخراج الذين كفروا من مكة التي أخرجوهم منها مع إجتناب التعدي والمثلة والغلول ، وذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخرج الذين لم يسلموا من مكة يوم الفتح( ) .
كما ورد قوله تعالى [وَاحْصُرُوهُمْ] ( ) أي قيدوهم ولا تأذنوا لهم بالتقلب في البلاد .
الآية الثالثة :
قوله تعالى [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ] ( )فيقصدون من نسخ الآية أنه حتى إذا كفّ الذين كفروا فيجب قتالهم وملاحقتهم , ومنهم من لم يحصر لفظ المشركين بالذين كفروا من عبده الأوثان , فيضر الإسلام والمسلمين .
وهذه ثالثة ثلاثة آيات متتالية يقال أن آية السيف نسختها مع أنها تبدأ بالقتال والأمر بالقتل إذ وردت كالآتي :
أولاً : [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ…] ( ) إذ تأمر الآية المسلمين بالقتال وملاقاة الذين كفروا .
ثانياً : [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ…]( ) وتتضمن الأمر بقتل المشركين في ساحة الوغى وفي غير حال الحرب والقتال .
وورد الأمر بقتل المشركين في ذات الآية بقوله تعالى [فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ] لإفادة جواز قتل الكافر في المسجد الحرام إذا قاتل المسلمين .
ثالثاً : [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ…]( ) وفيه بيان للجهة التي يقاتلها المسلمون وعلة هذا القتال بمنع الفتنة وإغراء الناس بالكفر .
وتتضمن الآية وجوهاً :
الوجه الأول : توجه الأمر للمسلمين بقتال الذين كفروا ، ليفيد الجمع بين هذه الآية والآيتين السابقتين مسائل :
الأولى : تقييد قتال المسلمين بأنه في سبيل الله، لورود هذا القيد في الآية قبل السابقة .
الثانية : وتقدير الجمع بين الآيتين : وقاتلوهم في سبيل الله حتى لا تكون فتنة ) ومن خصائص هذا القيد .
بيان قانون وهو أن الدفاع واقية من الفتنة ، ، وإن لم تحدث فتنة ولم تظهر مقدماتها فهل يجب القتال , الجواب لا ، إذ تتقوم العلة التامة بوجود المقتضي وفقد المانع .
الثالثة : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم حتى لا تكون فتنة ) ، وهو من معاني تعيين الجهة والطائفة التي يقاتلها المسلمون وعدم جواز قتال غيرهم ، وأن في هذا القتال فتنة .
الرابعة : ورود صيغة الشرط في كل آية من هذه الآيات, (فان قاتلوكم) وتكرار(وان انتهوا) في آيتين متعاقبتين, كما جاءت الآية التالية بقوله تعالى[فَمَنْ اعْتَدَى].
الوجه الثاني : لم تقل الآية : وقاتلوا حتى لا تكون فتنة ) إنما قيدت الآية الجهة التي يقاتلها المسلمون بضمير الغائب هم في [وقاتلوهم] ليكون من إعجاز هذه الآيات العطف من جهات :
الأولى : العطف بالحرف [الواو ] الذي يفيد عطف اللاحق على السابق له .
الثانية : مجئ الضمائر بعد تعيين الطائفة التي يقاتلها المسلمون وهم الكفار الذين يقاتلون المسلمين .
الثالثة : موضوع هذه الآيات وهو ذات القتال بين المسلمين والكفار الذين يقاتلونهم ) إذ تضمنت هذه الآيات الأربعة (190-193) الأمر للمسلمين والدلالة على صفة الذين يقاتلونهم بالعطف الذي يفيد البيان والحصر من جهات :
الأولى : المأمورون بالقتال , وهم المسلمون الذين يؤدون الفرائض ويسعون لحج بيت الله الحرام ويجتهدون بتقوى الله ، وهو الذي تدل عليه آية الأهلة السابقة لآية الأمر بالقتال ، وفيه حث للمسلمين للتآلف ونبذ الفرقة لتكون آيات القتال هذه من البلغة والغاية لقوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ) .
فتكون آيات البحث بلغة للآية أعلاه بتقدير : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم لتعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ).
وأما بالنسبة للغاية فيكون التقدير : واعتصموا بحبل الله جميعاً لتقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تفرقوا لحاجتكم في القتال إلى الوحدة والإتحاد .
ويمكن القول أن كل آية قرآنية تدعو المسلمين إلى التمسك بالقرآن ، وإلى إجتناب الفرقة والخلاف ، وفيه شاهد على كون المسلمين [ْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وحينما تفضل الله عز وجل وأخبر الملائكة بجعل آدم خليفة في الأرض، وعمارة ذريته لها ، وإستباحتهم العمل والتصرف فيها جيلاً بعد جيل ، أنكر الملائكة هذه المنزلة والشأن العظيم لبني آدم ، فقالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ).
وكما تفضل الله عز وجل على آدم بالخلافة فانه تفضل على الملائكة بالرد بالحجة والبرهان [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
فجعل الله أمة من المسلمين يؤدون الفرائض ويتصفون بالتقوى ، ويختارون قتال الذين كفروا والمفسدين إلى يوم القيامة ليخر الملائكة سجداً لله عز وجل ، ثم ينزلوا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معاركهم مع الذين كفروا ويساهموا في بناء صرح الإسلام ، فمن الشواهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين وأمته على الأمم السابقة أمور :
الأول : إختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وشطر من أصحابه الهجرة في سبيل الله.
الثاني : صيرورة هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبيلاً لمحاربة الذين كفروا وبلغة لإقامة دولة الإسلام .
الثالث : قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في سبيل الله .
الرابع : تكرار وإتصال قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه للذين كفروا .
الخامس : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل مع بذل الذين كفروا الجهد وإظهارهم التعاون والتآزر في قتله قبل الهجرة وبعدها .
ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجلي الوحي في أقواله وأفعاله أنه ترك مكة مهاجراً منها في ذات الليلة التي عزم المشركون على إغتياله في فراشه فيها ، ليدخلها بعد ثمان سنوات فاتحاً ومعه عشرة الاف مسلم ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد غزا إبرهة مكة بذات العدد من الرجال فكانت عاقبتهم القتل بمعجزة من عند الله ، قال تعالى [وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ]( ).
ودخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون مكة فاتحين لتبقى أجيالهم تؤدي مناسك الحج والعمرة كل عام ، وأفعال العمرة كل يوم ، ويكون مصداقاً لقوله تعالى [وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ] ( )وهو من أسرار مجئ آيات القتال هذه بعد آية الأهلة والحج بقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ..] ( ).
الثانية : من وجوه الحصر في هذه الآيات تعيين الجهة التي يقاتلها المسلمون وهم الكفار الذين يصرون على قتال المسلمين ، ويتجلى قيد الإصرار في هذه الآيات بقوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) فلا قتال مع الذين ينتهون عن قتال المسلمين .
ومن الدلائل في عدم نسخ هذه الآيات أن إنتهاء الكفار عن قتال المسلمين يسبب ضعفاً عند الذين كفروا , ويبعث الوهن في صفوفهم ، ويكون كفهم عن قتال المسلمين مقدمة لتدبرهم بمعجزات النبوة ودخولهم الإسلام .
أما على القول بأن الآية منسوخة وأنه يجب قتال الذين كفروا مطلقاً فقد لا ينتهون عن القتال ، ويسعون للألفة بينهم ، ويصرون على الجحود بمعجزات النبوة .
ومن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إتصال وتجدد آيات نبوته ومنها آيات القرآن رسماً وتلاوة ومضموناً وموضوعاً ودلالة وتأويلاً وأثراً وتأثيراً ، فمن ينتهي عن قتال المسلمين تتوجه له آيات النبوة بكرة وعشياً ، وهو من أسرار وجوب تلاوة المسلمين لآيات القرآن وجوباً عينياً خمس مرات في اليوم على كل مسلم ومسلمة .
ليستمع الناس ويسمعوا آيات القرآن فلا يكون القتال وما تترشح عليه من معاني النفرة برزخاً بينهم وبين الإقرار بنزولها من عند الله عز وجل .
وظاهر هذه الآيات أنها ليست منسوخة ، كما أن النفع الذي يترشح عن عدم نسخها أعظم وأكثر من إشاعة الإقتتال والقتل ، ويريد المسلمون التفقه في الدين وعمارة الأرض والكسب للعيال والإستراحة من القتال ، لذا وردت قيود القتال في هذه الآيات .
والنسبة بين الذين كفروا والذين يقاتلون المسلمين منهم عموم وخصوص مطلق ، إذ أن الذين يقاتلون المسلمين طائفة من الذين كفروا ، ولما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم تفضل وجعل الآيات تترى من بين يديه وعلى يمينه وشماله ، وتصل أخبار نبوته وأنباء معجزاته إلى الناس في قراهم وبيوتهم ، لذا ترى المرأة دخلت الإسلام بعرض واحد من الرجل وتختار الهجرة ومنهن من خرجت إلى ميادين الوغى لتقاتل بين يدي رسول الله كأم عمارة الأنصاري ومعها زوجها وولداها .
الثالثة : قد تقدم البيان بأن من وجوه الحصر في هذه الآيات أن قتال المسلمين في سبيل الله ، ليكون المسلمون على مرتبة سامية من الفقاهة إذ يجعلون قتالهم إبتداء وإستدامة في مرضاة الله , ومن أجل إعلاء كلمة التوحيد .
ولو أراد أحد الأمراء والرؤساء أن يقاتل وأصحابه وأتباعه من المسلمين لأمور قبلية وبلدية وعصبية فان قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ) حجة عليهم جميعاً بلزوم الإمتناع عن هذا القتال ، ولا يعلم مقدار وكم وعدد الحروب والمعارك التي صرفها الله عز وجل عن المسلمين بقيد [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] إلا هو سبحانه إذ يخشى الآمر والسلطان خذلان أتباعه له فيجتنب القتال ويلجأ إلى الصلح والمهادنة أو الصبر والسكينة .
ومن الآيات أن القتال إذا كان في غير مرضاة الله لا يحقق غاياته ، وإذا حقق بعضها على نحو الموجبة الجزئية فان الخسائر والأضرار التي تصيب الطرفين كبيرة وتكون خسائر الطرف الذي إختار القتال أكثر من منافعه ، ولا تستمر منافع هذا القتال طويلاً ، إذ تأتي وقائع وأحداث وبلاء يحول دون الإنتفاع منها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ).
والشواهد عليه كثيرة في التأريخ القديم والحديث إلى جانب ما فيه من الإثم والوعيد بالعقاب الأخروي ، أمّا إذا كان القتال في سبيل الله فان منافعه متصلة ومتجددة في الدنيا والآخرة ، فقاتل المسلمون في سبيل الله الذين كفروا في معركة بدر وأحد والخندق ، وزحفوا لفتح مكة ليستأصل الكفر من الجزيرة ويشع ضياء الإيمان في ربوع وأرجاء الأرض .
الرابعة : تقييد إخراج الذين كفروا من ذات المواضع التي أخرجوا المسلمين منها لبيان إرادة الحصر والتعيين , فيختص الإخراج بالذين طردوا المسلمين من ديارهم أو أكرهوهم على الخروج أو آذوهم وعذّبوهم حتى هربوا من ديارهم .
وهو من الإعجاز في لفظ [أخرجوكم]ونسبة الإخراج للذين كفروا حتى وإن هاجر المسلمون كرهاً ، أو رغبة في أداء الفرائض العبادية بأمن وسلامة ، ولإرادة نشر الإسلام ، قال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] ( ).
ولم تقل الآية ( وأطردوهم من حيث أخرجوكم) لبيان إرادة الإكتفاء بالمثلية في الإخراج من غير إيذاء ولأن إخراج الذين كفروا من الديار مناسبة لجذب الناس للإيمان ، ومنع فتنة الكافرين لهم ، ولتنكسر شوكتهم أمام الناس ، ويرى الجميع سوء عاقبة إخراج المسلمين ، وفي التنزيل [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ) .
ويجوز الجمع بين آية الإخراج هذه والآية التي قبلها ، ويكون تقديره على وجوه :
الأول : وأخروجهم من حيث أخرجوكم ولا تعتدوا ، ومن وجوه الإعتداء في المقام أمور :
أولاً : إخراج الذين كفروا من الديار التي خرجوا إليها .
ثانياً : إخراج وطرد الذين لم يقاتلوا المسلمين ولم يخرجوهم من ديارهم وإن كان أبناء وإخوان الذين أخرجوهم .
ثالثاً : القتل عند الإخراج .
ولو كان أحد أقطاب الذين أخرجوكم قد مات أو قتل قبل أن يتمن المسلمون من إخراجهم فلا يصح إخراج أبنائه وإخوانه وإن لم يدخلوا الإسلام بعد ، لعمومات قوله تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] ( ) ليكون عدم إخراجهم دعوة لهم لدخول الإسلام وبرزخاً دون تعديهم على المسلمين ، وزاجراً لهم ولغيرهم عن إخراج المسلمين من ديارهم .
الثاني : تقدير الجمع بين الآيتين : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ) لبيان أن إخراج الذين كفروا يتم بقتالهم ويتم بالمهادنة والصلح والشرط , وقد يلجأ الذين كفروا إلى الخروج من ديارهم طلباً لسلامتهم ، فجاءت هذه الآيات لتؤكد لهم بأن دخول الإسلام هو الأفضل والأحسن لهم في الدنيا والآخرة ، ففيه حقن لدمائهم وسلامة لهم من الخروج والإخراج من ديارهم .
(وأخرج أحمد والبزار عن معاذ بن جبل أنه قال : يا نبي الله حدثني بعمل يدخلني الجنة ، قال : بخ بخ لقد سألت لعظيم ، لقد سألت لعظيم ، لقد سألت لعظيم ، وأنه ليسير على من أراد الله به الخير ، تؤمن بالله ، وباليوم الآخر ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتعبد الله وحده لا تشرك به شيئاً حتى تموت وأنت على ذلك .
ثم قال : إن شئت يا معاذ حدثتك برأس هذا الأمر ، وقوام هذا الأمر وذروة السنام ، فقال معاذ . بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : إن رأس هذا الأمر أن تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله .
وأن قوام هذا الأمر الصلاة والزكاة ، وأن ذروة السنام منه الجهاد في سبيل الله ، إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، ويشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، فإذا فعلوا ذلك فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) ( ).
ويبين الحديث أعلاه وجوهاً ومصاديق لقوله تعالى [فِي سَبِيلِ اللَّهِ ] المذكورة في قوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ] ( ).
وتوجه الأمر في الآية أعلاه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسلمين وهل يكون هذا الحديث ناسخاً للتقييد الوارد في الآية أعلاه بتقريب هل يفيد الحديث قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً وليس للذين يقاتلونه وحدهم .
الجواب لا، والمختار أن السنة النبوية لا تنسخ القرآن ، كما أن لفظ الناس يحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة عموم الناس ، وإفادة الألف واللام الجنس .
الثاني : المقصود خصوص الذين يقاتلون المسلمين من كفار قريش فتفيد الألف واللام العهد كما في قوله تعالى [فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ] ( ) فان الآية تدل على عصيان فرعون لأمر موسى عليه السلام , ودعوته للإسلام .
الثالث : المعنى : أقاتل الذين يقاتلونني من الناس .
والصحيح هو الثاني والثالث ، ومع ورود الإحتمال يبطل الإستدلال ، ويدل عليه إقرار أهل الكتاب على مللهم ، وعدم إكراههم على ترك دينهم، قال تعالى[لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ] ( ).
الوجه الثالث : بعد أن بينت الآية قبل السابقة شدة ضرر الفتنة ولزوم إجتنابها وأنها أشد وأمرّ من القتل , وذكرت هذه الآية علة وغاية وقتال المسلمين للذين كفروا , وهي على قسمين :
الأول : المنع من الفتنة .
الثاني :صيرورة الدين والعبادة لله عز وجل وحده ، كما ورد قوله تعالى [وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ] ( ) لإرادة إزاحة الشرك في الأرض .
وبين لفظ [الفتنة] الوارد في قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] وبين لفظ [فِتْنَةٌ] في آية البحث عموم وخصوص مطلق .
ومن إعجاز القرآن بيان أن القتال واقية لذا قد تخصص الفتنة بحسب المقام والحال والقرائن فيقال فتنة الدين ، فتنة المال ، فتنة الكرسي ، فتنة السلطان , ونحوها من ضروب الفتنة والإفتتان , وليس من الفتنة كلها ، وفيه مسائل :
الأولى : دعوة المسلمين للجهاد في سبيل الله .
الثانية : إجتهاد المسلمين في أداء الفرائض وسيلة لدفع الفتنة .
الثالثة : قيام المسلمين بالإحتجاج ورد الجدال وفضح أهل الريب والفتنة التي تترشح عن الشك والريب .
الرابعة : فضح المنافقين ، والإحتراز مما يثيرونه من أسباب الفتنة ، خاصة وأنهم بين ظهراني المسلمين ويحضرون صلاة الجماعة ويخرجون معهم إلى القتال ، ومن فتنة المنافقين رجوع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول بنحو ثلث جيش المسلمين في الطريق إلى معركة أحد ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] لما فيه من تعريض لحياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للقتل أو الأسر .
وكان المسلمون بحاجة إلى السواد لتدارك النقص في عددهم أزاء كثرة جيش الذين كفروا والذي يبلغ يومئذ ثلاثة آلاف رجل ، ولم يبق من جيش الإسلام مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا سبعمائة ، ولكن الله عز وجل أنزل الملائكة مدداً لإعانتهم ونصرهم .
ومن معاني الفتنة حال الإرباك والتشتت والحرج وفقدان النظام ومنه الكفر والشرك وإختيار الوهم وغير الحق .
لقد أراد الكفار أن يجعلوا على أبصار الناس غشاوة تحول دون رؤيتهم الحق .
ويكون الناس في الفتنة على مشارب شتى ووجوه :
الأول : الذي يأتي بالفتنة .
الثاني : الذي يساهم في الفتنة .
الثالث : الذي ينقل الفتنة .
الرابع : الذي يتلقى الفتنة بالقبول , ويكون طرفاً فيها .
الخامس : الذي يحترز من الفتنة .
السادس : الذي يحارب الفتنة ويتصدى لها .
والفرد الأقل من الوجوه أعلاه هو الأخير لولا أن منّ الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتبين آية البحث حاجة الأرض لبعثته , ولتكون أمة عظيمة تحارب الفتنة في كل زمان وبأمر من عند الله .
لقد إبتدأت مع بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحرب على الفتنة ، وذات الفتنة حرب على الدين والنفوس والأخلاق والسعادة الإنسانية ، فتفضل الله عز وجل وأخبر المسلمين والناس بلزوم محاربتها ، ولا يتصدى لها إلى المسلمون وبأمر من عند الله تجلى بيانه في هذه الآيات .
وليس أشد على الفرد والجماعة من القتال ، وهذه الشدة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
ولو أجريت إحصائية للناس الذين قتلوا في المعارك والحروب على طول التأريخ لتبين خسارة الكثير من القواد والملوك والعقول وضياع أماني ورغائب وصيرورة نساء لا حصر لهن أرامل مع نزول اليتم والفقر والعوز بعوائل كثيرة , وفجع آباء وأمهات وحدث إنقطاع للنسب ، ومنع من التكاثر والتوالد ، وهو من مصاديق إحتجاج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ) .
ويعلم الله عز وجل ما تكون من ذرية لكل واحد من الملايين الذين قتلوا في المعارك المختلفة لو لم يقتلوا .
ومع التحقيق في ماهية هذه المعارك والدماء التي سالت فيها ، ترى أكثرها عديمة العلة العقلائية , لذا فان الأمر من عند الله للمسلمين بالقتال رحمة بالناس لقطع دابر تلك المعارك وسبب القتال ، فيقاتل المسلمون كي يُستأصل القتال ويتوجه الناس لعبادة الله ، وتنمو عندهم ملكة التقوى والخشية منه تعالى .
ومن قوانين الحرب تناجي الناس بالقتال ولكن يدب إلى نفوسهم المسلمين عند إطالة مدة المعركة أو عند تجدد القتال .
فيكون يوم المقاتلين أشد من أمسهم وغدهم أشد من يومهم ، وجاءت هذه الآيات لإستثناء قتال المسلمين من هذه القانون وبيان أنه أمر مختلف تماماً من جهات :
الأولى : قتال المسلمين بأمر من عند الله عز وجل ، ونزول المدد منه سبحانه , وإتصاف هذا المدد بعدم وجود حد لطرف الكثرة فيه ، قال تعالى بخصوص معركة بدر [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) فتنزل الملائكة لنصرتهم مع أن الملك الواحد من ملائكة السماء يكفي لقتل وإبادة جيش المشركين جميعاً .
ولكن القتل أو الأسر لا يصيب إلى الشطر الأقل من المشركين وفيه شاهد بأن الله عز وجل لا يريد الإبادة لجيش المشركين ، أن رجوعهم إلى أهليهم مناسبة للتوبة والإنابة ، وفيه شاهد بانتفاء الدليل على نسخ آية السيف لآيات القتال ، وأن المقصود منها ليس قتل المشركين جميعاً .
الثالثة : بيان هذه الآية للغايات الحميدة لقتال المسلمين .
لقد كانت الفتنة سبباً للمعارك والقتال والضلالة عند الناس ، فجاء الإسلام لإجتناب الفتنة وأسباب الغواية , فأبى أرباب الفتنة إلا القتال دونها والدفاع عنها بأنفسهم وأموالهم ، وظنوا أن الغلبة لهم وهذا الظن من الفتنة أيضاً لأنهم لم يتعظوا بالآيات والمعجزات .
الرابعة : مجئ الأجر والثواب للمسلمين بقتالهم ، وفيه نجاتهم من عذاب البرزخ , ومن العطش والجوع في مواطن يوم القيامة ، وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد قال كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة) ( ).
الخامسة :الوقاية من الغرر والإنشغال بالدنيا وزينتها في موطن الإختبار والإبتلاء ، قال تعالى [إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ] ( ).
الوجه الرابع : بعد الأمر للمسلمين بملاقاة الذين كفروا ممن زحف لقتالهم وإرادة الإجهاز على النبوة والتنزيل ، والأمر من عند الله عز وجل للمسلمين بقتل الذين يقاتلونهم حيث وجدوهم لبيان قانون وهو إنقطاع زمان قتل الذين كفروا للأنبياء وإجهاضهم للدعوة إلى عبادة الله ، وتعذيب المؤمنين وقتلهم وتشريدهم .
تفضل الله عز وجل وأمر المسلمين بالقتال وقتل الذين كفروا ، ويتضمن هذا الأمر الوعد من عند الله عز وجل بالمدد والنصر ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] ( ).
ليكون من معاني نصرة المسلمين لله عز وجل في هذه الآية وجوه :
الأول : قتال المسلمين بقصد في سبيل الله ، فيكون هذا القصد هو سور الموجبة الكلية واللواء العقائدي والنفسي الذي يجتمعون حوله ، ويتآلفون به.
الثاني : طاعة المسلمين لله عز وجل بأمره لهم بالقتال فحالما نزلت هذه الآيات بادر المسلمون إلى الدفاع عن النبوة والتنزيل بالنفوس والأموال .
الثالث : بذل المسلمين الوسع في القتال حتى تحقق النصر على الذين كفروا ، وهذا البذل من مصاديق [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] فلابد أن يحقق الجهاد غاياته الحميدة مع الأمن من التعدي والظلم للغير .
وعلامة إخلاص المسلمين في القتال بلوغ مرتبة إخراج الذين كفروا من الأرض التي أخرجوا المسلمين منها وهو مكة .
الوجه الخامس : مع كثرة الأوامر في هذه الآيات بالقتال فانها نهت عن قتال الذين كفروا عند المسجد الحرام , لتأكيد قدسيته ، وفيه مسائل :
الأولى : إكرام الله عز وجل للمسجد الحرام ، وبيان تفضل الله عز وجل له بتعاهده وحفظه بالذات وكوعاء للعبادة .
الثانية : تأكيد قانون وضع الله البيت الحرام للناس جميعاً بقوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] ( ) ومنع القرآن القتال فيه شاهد على البركة من وجوه :
الأول : نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : نزول القرآن .
الثالث : إستدامة البركة في البيت الحرام بحرمة القتل فيه .
الرابع : بيان قانون ، وهو لزوم شكر المسلمين لله عز وجل على مدده ونصره لهم بتنزيه الحرم عن القتال فيه .
الخامس : البشارة للمسلمين بتحقق النصر وإن لم يقاتلوا في البيت الحرام .
الثالثة : دلالة الآية ونهي المسلمين عن القتال عند المسجد الحرام على الوعد من عند الله لهم بالنصر والغلبة .
ليفيد الجمع بين مضامين هذه الآية مسائل :
الأولى :قاتلوا الذين يقاتلونكم من الذين كفروا .
الثانية : أقتلوا الذي يقاتلونكم من الذين كفروا أينما وجدتموهم .
ومن إعجاز آية البحث أنها لم تقل ( واقتلوهم حيث ثُقفوا ) وكذا ورد قوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ] ( ) فلم تقل الآية ( واقتلوهم حيث وجدوا ).
ومن الإعجاز في المقام إرادة عدم السعي والتمحيص عن الذين كفروا أو التفتيش عنهم , والذهاب إلى الوضع الذي يبلغ المسلمين أنهم موجودون فيه .
فهذا ما لم يقصد في هذه الآيات ، إنما أراد الله عز وجل التخفيف عن المسلمين وعن الناس جميعاً بأنه متى ما وجدوا الذين يقاتلونهم فيقتلونهم لأنهم ينوون العودة للقتال مرة أخرى .
وفي قوله تعالى [حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ][حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]مناسبة وفرصة للذين كفروا ليتفرقوا في البلاد ويتواروا عن الأنظار ، ويمتنعوا عن الإجتماع للفتنة والقتال .
الثالثة : يا أيها الذين آمنوا أخرجوا الذين كفروا مما أخرجوكم منه ، واتركوهم في البلاد .
ليكون من إكرام الله عز وجل للبيت الحرام أن الكفار الذين يطردون من جواره لا يلاحقون ويقتلون أو يؤسرون في الطريق خارج الحرام ، إنما يتركون وشأنهم كعقوبة عاجلة لهم على فتنتهم للذين آمنوا , وإخراجهم من مكة .
ليكون من معاني قوله تعالى [وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ]موادعة ومهادنة وأمن للناس بما فيهم الذين كفروا ، والإكتفاء باخراجهم وفيه دعوة للناس لدخول الإسلام من وجوه :
أولاً : بيان الضبط والدقة في جهاد المسلمين ونهجهم وسيرتهم بين الناس .
ثانياً :يتقيد المسلمون مجتمعين ومتفرقين بالأوامر والنواهي الإلهية .
ثالثاً : من الإعجاز في الآية أن الذي يخرج من الحرم يكون آمناً خارجه مع أنه إعتدى على المسلمين , ولكنهم لا يعتدون عليه بأكثر من معاقبته بالمثل, قال تعالى[وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ]( ).
رابعاً : جعل الذين أخرجوا المسلمين من ديارهم في حال عوز وإرباك وغربة ، ليس لهم من يأويهم ، ليشكر المسلمون الله تعالى في هجرتهم بأن آواهم الأنصار .
خامساً : إقتران الحكمة بعمل المسلمين ، وإدراك الناس لحقيقة وهي أن هذه الحكمة بهداية وتوفيق من عند الله سبحانه .
سادساً : خلو مكة من الذين كانوا يؤذون المؤمنين ويصدون الناس عن الإسلام ، ويرهبون الذي يظهر ميلاً للإسلام , وتصديقاً بمعجزات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
سابعاً : تجلي حقيقة معرفة المسلمين للناس , وهم على أقسام :
الأول : الذين آذوا وعذبوا المسلمين .
الثاني : الذين قاتلوا المسلمين بالسيف .
الثالث : من قام باخراج المسلمين من مكة ومن ديارهم ، وحملهم على الهجرة إلى الحبشة والمدينة .
الرابع : المستضعفون في مكة الذين ليس لهم رأي أوشأن .
الخامس : المسلمون الذين كانوا يخفون إيمانهم .
السادس : عامة الناس .
وجاءت الآية بخصوص الفرد الثالث أعلاه ، وهو من الإعجاز إذ تتضمن آية البحث نهي المسلمين عن قتال الذين قاتلوهم في معركة بدر وأحد والخندق إذا وجدوهم في البيت الحرام سواء في الأشهر الحرم أو مطلق أيام السنة .
نعم قد يكون بعض رؤساء الكفر جمع بين قتال المسلمين في معارك الإسلام وقام بتعذيب وإخراج المسلمين من ديارهم ، وإن كان عدد من هؤلاء قتلوا في المعارك مثل أبي جهل , وأمية بن خلف .
وفي معركة بدر دفن شهداء الإسلام في جانب من أرض المعركة وعددهم أربعة عشر رجلاً، ولا تزال قبورهم شاخصة إلى الآن .
وأما قتلى المشركين وعددهم سبعون قتيلاً فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقائهم في القليب، وعن أنس بن مالك، قال: سَمِعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ وَهُوَ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ ، يَا عُتْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ وَيَا شَيْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا أُمَيّةُ بْنَ خَلَفٍ ، وَيَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ ، فَعَدّدَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي الْقَلِيبِ : هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبّكُمْ حَقّا ، فَإِنّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبّي حَقّا ؟ .
فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَتُنَادِي قَوْمًا قَدْ جَيّفُوا ؟ قَالَ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أنُ يُجِيبُونِي . قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ يَوْمَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ بِئْسَ عَشِيرَةُ النّبِيّ كُنْتُمْ لِنَبِيّكُمْ ، كَذّبْتُمُونِي وَصَدّقَنِي النّاسُ وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النّاسُ وَقَاتَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النّاسُ ثُمّ قَالَ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبّكُمْ حَقّا ؟ لِلْمَقَالَةِ الّتِي قَال ابن إسْحَاقَ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ
عَرَفْتُ دِيَارَ زَيْنَبَ بِالْكَثِيبِ … كَخَطّ الْوَحْيِ فِي الْوَرَقِ الْقَشِيبِ
تَدَاوَلُهَا الرّيَاحُ وَكُلّ جَوْنٍ … مِنْ الْوَسْمِيّ مُنْهَمِرٍ سَكُوبِ
فَأَمْسَى رَسْمُهَا خَلَقًا وَأَمْسَتْ … يَبَابًا بَعْدَ سَاكِنِهَا الْحَبِيبِ
فَدَعْ عَنْك التّذَكّرَ كُلّ يَوْمٍ … وَرُدّ حَرَارَةَ الصّدْرِ الْكَئِيبِ
وَخَبّرَ بِاَلّذِي لَا عَيْبَ فِيهِ … بِصِدْقِ غَيْرِ إخْبَارِ الْكَذُوبِ
بِمَا صَنَعَ الْمَلِيكُ غَدَاةَ بَدْرٍ … لَنَا فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ النّصِيبِ
غَدَاةَ كَأَنّ جَمْعَهُمْ حِرَاءٌ … بَدَتْ أَرْكَانُهُ جُنْحَ الْغُرُوبِ
فَلَاقَيْنَاهُمْ مِنّا بِجَمْعٍ … كَأُسْدِ الْغَابِ مُرْدَانٍ وَشِيبِ
أَمَامَ مُحَمّدٍ قَدْ وَازَرُوه … عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي لَفْحِ الْحُرُوبِ
بِأَيْدِيهِمْ صَوَارِمُ مُرْهَفَاتٌ … وَكُلّ مُجَرّبٍ خَاظِي الْكُعُوبِ
بَنُو الْأَوْسِ الْغَطَارِفُ وَازَرَتْهَا … بَنُو النّجّارِ فِي الدّينِ الصّلِيبِ
فَغَادَرْنَا أَبَا جَهْلٍ صَرِيعًا … وَعُتْبَةَ قَدْ تَرَكْنَا بِالْجَبُوبِ
وَشَيْبَةَ قَدْ تَرَكْنَا فِي رِجَالٍ … ذَوِي حَسَبٍ إذَا نُسِبُوا حَسِيبِ
يُنَادِيهِمْ رَسُولُ اللّهِ لَمّا … قَذَفْنَاهُمْ كَبَاكِبَ فِي الْقَلِيبِ
أَلَمْ تَجِدُوا كَلَامِي كَانَ حَقّا … وَأَمْرُ اللّهِ يَأْخُذُ بِالْقُلُوبِ ؟
فَمَا نَطَقُوا ، وَلَوْ نَطَقُوا لَقَالُوا … صَدَقْتَ وَكُنْتَ ذَا رَأْيٍ مُصِيبَِ)( ).
ليكون من معاني قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] أمور :
الأول : رؤية الناس لسوء عاقبة الذين أخرجوا المسلمين من ديارهم .
الثاني : إلحاق الذين كفروا الضرر بأنفسهم باخراجهم المسلمين من مكة .
الثالث : توقي المسلمين من الفتنة وتقيدهم بأحكام آية البحث ، وعدم إخراجهم لغير الذين أخرجوهم من ديارهم ، وهو من مصاديق دعاء إبراهيم ، كما ورد في التنزيل [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا]( )فمن لم يعتد على المسلمين لم يلحقه أذى , والذين أخرجوا المسلمين من ديارهم لم يبطش بهم المسلمون إنما شملهم الأمن بفضل الله وبأمر من عنده تعالى إلى المسلمين بالحكم بالعدل وإجتناب الفتنة وإستئصالها ، أي أن المسلمين يتقيدون بالأوامر الإلهية ولا يقومون بالفتنة أو مقدماتها ، كما أنهم يعاقبون الكفار الذين أثاروا الفتنة باخراجهم من مكة ليتنزه الحرم من مفاهيم الضلالة والكفر .
وفيه شاهد بأن الذين أخرجوا المسلمين من مكة قد يقيمون على الكفر ويصرون على الضلالة والعناد ، ويسعون إلى الفتنة حتى بعد فتح مكة ودخول أهلها الإسلام , فجاءت هذه الآيات لزجرهم وتأديبهم .
لذا جاء القرآن بذكر المؤلفة قلوبهم الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم ، وجعل لهم الله عز وجل سهماً ونصيباً في الصدقات ، قال تعالى [ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ] ( ).
الوجه السادس : تقدير آية البحث والجمع بين أولها وآخرها على وجوه :
أولاً : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) ليكون قتال المسلمين للذين كفروا بسبب فتنة الذين كفروا لأنفسهم وغيرهم باصرارهم على الكفر ، ومحاربتهم الإسلام ، وقتالهم المسلمين , وتقدير الآية : وادفعوا وادفعوهم حتى لا تكون فتنة ) .
(وحتى ) حرف يفيد معنى إنتهاء الغاية ، وهو بمعنى ( إلى أن ) .
ثانياً : وقاتلوهم حتى يكون الدين لله ) ولم تكتف الآية بالقتال لمنع الفتنة ، بل قيدته بأن يكون الدين لله عز وجل لأن رأس الفتنة قد يخرج فجأة ومن طائفة من الكفار غير الذين قاتلهم المسلمين ، فجاءت ضابطة كلية لبيان أن الغاية من القتال تعظيم شعائر الله ، وإقرار الناس بالتوحيد ، وإقامة الفرائض العبادية ، ونبذ عبادة الأصنام ، وتقديس الأوثان .
وهل تكفي غاية واحدة وهي منع الفتنة ، أم لابد من صيرورة الدين لله، لوقف المسلمين القتال ،الجواب هو الثاني ، وهناك تباين بين الغايتين , وهو من عطف العام على الخاص .
أما الأولى : وهي منع الفتنة ، فتتضمن مسألة وهي إن لم يقاتل المسلمون ويدافعوا عن الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن أنفسهم تكون فتنة ، فعندما لا يقاتلون في سبيل الله تتولد الفتنة من رحم الكفر والجحود والضلالة ز
لذا فان الفتنة أعم من الشرك ، ومن مصاديقها قيام الكفار بتعذيب المسلمين وحمل طائفة منهم على الإرتداد.
أما بالنسبة لقوله تعالى [وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ] ( ) فانه غاية لتفيد هذه الآيات مجتمعة وجوهاً :
الأول :قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم .
الثاني : إن لم تقاتلوا الذي يقاتلونكم تكن فتنة .
ليكون من معاني غايات قتال المسلمين : الدفاع ودرء الفتنة .
الثالث :بيان الإعجاز في نزول الآيات ، فذات القتال فتنة وإبتلاء ، فجاءت هذه الآيات لتخبر بأن قتال وتعدي الذين كفروا فتنة ، أما قتال المسلمين للذين كفروا فهو دفع للفتنة ودرء لها ، ومن أجل إقامة الدين وتثبيت معالم التوحيد ، وسنن الحلال والحرام .
الثانية: بيان موضوعية ونفع معجزات النبوة في جذب الناس بالإيمان .
الثالثة : حالما ينتهي الذين كفروا من القتال يتوجه المسلمون للتفقه في الدين وأداء الفرائض ، وهو نعمة عظمى عليهم إذ بدأ الإسلام بالدعوة إلى الله وأداء الصلاة والفرائض العبادية من غير أمر بقتال الذين كفروا إلا إذا بدأوا هم القتال .
الرابعة : قد تقدمت الآية السابقة [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) لبيان نكتة وهي أن الثواب الذي يأتي للمسلمين بعد كفّ الذين كفروا عن قتالهم بذات مرتبة ثواب الجهاد وإن لم يقاتلوا ، وأن إنتهاء الذين كفروا من القتال مناسبة للجوء المسلمين إلى العبادة والإستغفار ومجالس الذكر ودعوة الناس للإنابة ، وترغيبهم بالتوبة ، وحثهم على دخول الإسلام ، قال تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( ).
ثالثاً : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم فان إنتهوا فلا عدوان إلى على الظالمين ) .
ويحتمل قوله تعالى[فَإِنْ انتَهَوْا] وجوهاً :
الأول : فان إنتهوا عن الشرك والكفر والجحود .
الثاني : فان إنتهوا عن الضلالة ودخلوا الإسلام .
الثالث : فان إنتهوا عن قتال المسلمين .
الرابع : فان إنتهوا عن الفتنة .
الخامس : فان إنتهوا عن نقض العهود والمواثيق .
السادس : فان إنتهوا عن الكيد والمكر .
والقدر المتيقن من الآية هو الثالث أعلاه بلحاظ أن الآية تتحدث عن القتال .
وتدعو الآية المسلمين إلى عدم أخذ الناس بالظنة بما فيهم الذين قاتلوهم إذا إنتهوا من القتال ، ولبيان أن آخر الآية لا ينسخ أولها .
وتقدير آية البحث : فان إنتهوا فلا تقاتلوهم ).
وقد يُسئل إذا إنتهوا ولكن الدين لم يصبح كله لله في مكة والمدينة وما حولهما مثلاً .
والجواب من جهات :
الأولى : المراد فان إنتهوا عن القتال فكفوا أيديكم عنهم .
الثانية : لا ينحصر كون الدين لله بقتال الذين كفروا .
الثالثة : لابد وأن يكون الدين لله عز وجل .
الوجه السابع : حرف العطف (الواو) في [ويكون الدين ..] من عطف العام على الخاص، والأهم على المهم ، والطويل في أجله على القصير في أجله، والإيجاب على النفي فإرادة جعل الدين لله عز وجل أعم من وأد الفتنة.
ترى لماذا لم تقل الآية : وقاتلوهم حتى يكون الدين لله ولا تكون فتنة ) فيأتي النفي بعد الإيجاب .
والجواب من وجوه :
الأول : بيان حقيقة وهي ترشح الفتنة عن عدم قتال المسلمين للذين كفروا أي أن الذين كفروا يريدون أن يقتلوا المؤمنين ويكرهوهم على الإرتداد ويمنعوا الناس من دخول الإسلام ، فاذا قاتلهم المسلمون ثبتوا على إيمانهم ودفعوا الفتنة.
الثاني : يسعى الذين كفروا لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقف نزول آيات القرآن خاصة وأنها أخذت تنزل بقتال الذين كفروا ، فمن إعجاز القرآن الغيري نزول قوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ] من غير خوف من مناجاة الذين كفروا فيما بينهم للإجهاز على الإسلام والنبوة والتنزيل, وفي التنزيل[فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًاوَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
الثالث : إرادة الإخبار بأن الفتن التي تترشح عن قتال الذين كفروا للمسلمين برزخ قد يؤخر صيرورة الدين كله لله عز وجل, فأراد الله عز وجل إزاحة هذا البرزخ بأمره للمسلمين بقتال الذين كفروا, وتقدير الآية على وجوه:
الأول : يا أيها الذين آمنوا إن قاتلتم في سبيل الله الذين يقاتلونكم فسوف لن تكون فتنة .
الثاني : إن قاتلتم في سبيل الله الذين يقاتلونكم يكون الدين والعبادة لله وحده ، ليكون من معاني قصد القربة إلى الله في القتال إخلاص الدين لله عز وجل .
والمراد من الدين في الآية اسم الجنس واللام في (لله) للإختصاص , وبيان وجوب كون الدين من الكلي المتواطئ وهو إخلاص العبادة لله عز وجل .
و(عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : القتال قتالان : قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ، وقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله فإذا فاءت أعطيت العدل) ( ).
الثالث : يا أيها الذين آمنوا إن قاتلتم في سبيل الله الذين يقاتلونكم إنتهوا عن القتال ) .
وهو بشارة ووعد من عند الله عز وجل للمسلمين بالنصر ، وإخبار عن نزول الملائكة لنصرة المسلمين وكانت جيوش الذين كفروا عظيمة وكثيرة الرجال والسلاح .
و(عَنِ ابن عَبَّاسٍ،”فِي قَوْلِهِ: ” وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ” وَيَخْلُصُ التَّوْحِيدُ لِلَّهِ”، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، وَقَتَادَةَ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: قَالُوا: حَتَّى يَقُولَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: حَتَّى لا يُعْبَدَ إِلا اللَّهُ) ( ).
وذكر أن آية البحث ناسخة لقوله تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ] ( ) ولا تصل النوبة إلى النسخ بين الآيتين ، فمن شرائط النسخ إتحاد الموضوع ، والأمر في آية البحث مطلق في قتال الذين كفروا ويستثنى من القتال حال إنتهاء الذين كفروا منه .
وكذا الآية أعلاه فانها تتعلق بانتهاء الذين كفروا , ولكن بتقييد موضوع الإنتهاء ودلالته على دخول الإسلام , وعدم كفاية الإنتهاء عن القتال ، وبين الإنتهاء المذكور في آية البحث والمذكور في الآية أعلاه عموم وخصوص مطلق .
فالمراد منه في آية البحث كف الذين كفروا عن القتال ، والنهي عن إعانتهم ، ويراد منه أيضاً التوبة ودخول الإسلام .
وروي عن قتادة (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه فكان هذا كذا حتى نسخ فأنزل الله عز و جل : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) أى شرك ويكون الدين لله أي أن لا إله إلا الله عليها قاتل رسول الله وإليها دعا فإن انتهوا فلا عدوان الا على الظالمين) ( ).
ولا دليل على النسخ في المقام إذ أن غاية عدم إبتداء المسلمين بالقتال في المسجد الحرام ، هو صيرورة الدين لله ، وتعظيم شعائر الله ، قال تعالى [وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] ( ).
وكما ذكر بأن آية البحث ناسخة ، فقد ورد أنها منسوخة
قال النحاس حجن(وأكثر أهل النظر على هذا القول أن الآية منسوخة وأن المشركين يقاتلون في الحرم وغيره بالقرآن والسنة قال الله عز و جل فأقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
وبراءة نزلت بعد سورة البقرة بسنين وقال عز و جل : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة
وأما السنة فحدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرنا قتيبة قال حدثنا مالك عن ابن شهاب عن انس أن رسول الله دخل مكة وعليه المغفر( ) فقيل إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال اقتلوه) ( ) .
ولا دليل على هذا النسخ من جهات :
الأولى : ورود آية البحث بصيغة الأمر العام للمسلمين بالقتال [وَقَاتِلُوهُمْ].
الثانية : لقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن إذن خاص له بأن أباح الله عز وجل له القتال في مكة ساعة من نهار .
وورد عن ابن عباس قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة : إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض والشمس والقمر ، ووضع هذين الاخشبين فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولا يحل لأحد بعدي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها ، ولا ينفر صيدها ، ولا يلتقط لقطتها إلا من عرفها . قال العباس : إلا الإِذخر فإنه لقينهم وبيوتهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلا الإِذخر ) ( ).
أي أن لا يحل قتال حتى الذين كفروا فيه إلا أن يبدأوا بالقتال ، ويدل حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه على عدم نسخ قوله تعالى [وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ]( ) وأن الآية أعلاه محكمة ، وقد يقال أنها جاءت للوعيد والتهديد والتخويف ، والجواب إنما تأتي آيات القرآن على نحو الحقيقة والقطع , وليس الوعيد وحده ، نعم ينزل الأمر من عند الله عز وجل بالأمر بالقتال فيصيب الذين كفروا الفزع والخوف فيكفون عن القتال ، ويمتنعون عن المناجاة بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتال المسلمين ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
فصحيح أن الآية أعلاه وردت بخصوص معركة الخندق ، ولكن موضوعها أعم ، وهي باقية إلى يوم القيامة ، ومن مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ] ( ) إذ يمحو الله عز وجل معارك كثيرة بالأمر للمسلمين بالقتال وبالوعيد للذين كفروا وباستعداد وتوثب وعزم المسلمين على القتال .
وتبين آية البحث أن الذين كفروا لم ينتهوا عن القتال إلا بملاقاتهم بمثله، وتقدير الآية وتأويلها .
وقاتلوهم فان قاتلتموهم فلم تكن فتنة وكان الدين لله ، وتم قتل بعض أقطاب قريش وإنتهاء شطر منهم عن الشرك والضلالة .
الثالثة : أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقتل ابن الأخطل قضية عين ، ومسألة شخصية ، وليست هي من مصاديق قوله تعالى [وقاتلوهم]ففي القتال أطراف .
الأول والثاني : طرفا القتال .
الثالث : القتال والمناوشة بالسيوف بين الفريقين .
أما القتل فهو صدور الفعل من طرف واحد ووقوعه على الطرف الآخر ، كما في مسائل الفقه فان العقد يقع بين طرفين كعقد النكاح والبيع والإجارة ، أما الإيقاع كالوقف والطلاق فانه يقع من طرف واحد مع ما له من أثر على طرف آخر .
ويبين نهي المسلمين عن القتال بالمسجد الحرام مصداقاً لسنخية قتالهم وأنه [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] لدلالة إمتناعهم عن الإبتداء بالقتال في المسجد الحرام على إيمانهم ، وتنزههم عن غلبة النفس الغضبية والشهوية ، وانهم لا يطمعون في أموال أو كنوز أو سلطان .
وإذا أجريت إحصائية في تأريخ الإسلام وبدايات الدعوة الإسلامية تتجلى حقيقة وهي أن أكثر الناس الذين دخلوا الإسلام دخلوه بالإقرار بالمعجزة والتسليم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبطلان عبادة الأوثان وإتخاذ الأصنام وسائط ، وكان قتال المسلمين من أجل تنزيه البيت الحرام من الأوثان ، وتغيير صفة مجاوريه من صبغة الكفر إلى صبغة الإيمان والتقوى ، وقال تعالى في خطاب لإبراهيم وإسماعيل [أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ) .
وتفضل الله عز وجل وأكرم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بالإمتناع عن قتل الذين كفروا عند المسجد الحرام ، ولم تقل الآية ( ولا تقاتلوهم في المسجد الحرام ) لإرادة المعنى الأعم ، إذ أن ( عند ) أعم من حرف الظرفية (في) .
فعند ظرف مكان واسم لمكان الفعل ، كما في قوله تعالى [وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً] ( ) .
ويأتي ظرف زمان كما لو قلت : تناولت السحور عند الثلث الأخير من الليل .
ومن الإعجاز في نظم القرآن ودلالاته الفقهية إحاطة آيات الحج بآيات القتال هذه ، فقد تقدم هذه الآيات قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ..]( ) ثم جاءت آيات القتال ، ثم وردت بعدها آيات تخص حج بيت الله الحرام ، ولزوم أداء المناسك على نحو الإتقان كما في قوله تعالى بعد ثلاث آيات [وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ]( ).
ليكون من معاني الفتنة التي تحذر منها هذه الآية [حتى لا تكون فتنة].
وجوه :
الأول : من الفتنة صد المسلمين عن حج بيت الله الحرام.
الثاني : بقاء الأصنام وعبادة الأوثان في البيت الحرام، وعن ابن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: {جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً}( ) {وجاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد})( ).
الثالث : محاولة الكفار إغواء أفراد القبائل الذين يأتون إلى مكة في موسم الحج.
الرابع : حج بيت الله الحرام مناسبة لتعظيم شعائر الله، وتثبيت أحكام الشريعة، فمن الفتنة إستحواذ الكفار على الموسم.
الخامس : قيام الكفار بتحريض الناس على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام أيام الموسم، وعندما يفد العرب إلى مكة لأداء العمرة، وكانت لقريش منزلة عندهم يترشح عنها إصغاؤهم لها، فجاءت هذه الآيات لبعث النفرة في النفوس من كفار قريش، والتحذير من فتنتهم وإفتناهم الناس .
الوجه الثامن : مع نصر المسلمين يكون الدين لله عز وجل وتبقى وقائع فردية ، وظلم على نحو القضية الشخصية ، لذا قال تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ]( ).
ويدل عليه قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا] لبيان حدّ قتال المسلمين والغاية التي يبلغونها في القتال ، بأن يستمر قتال المسلمين للذين كفروا إلى أن يكفوا عن القتال ، وقد ورد قوله تعالى [سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا] ( ).
ويحتمل الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث وجوهاً :
الأول : الآية أعلاه تفسير لأول آية البحث وما فيه من الأمر بقتال الذين كفروا .
الثاني : هؤلاء من الذين إنتهوا عن القتال .
الثالث : الآية أعلاه تفسير لخاتمة آية البحث وأن هؤلاء من الذين يصدر عنهم الظلم والجور بعد إنتهاء القتال بين المسلمين والذين كفروا .
والصحيح أن الآية أعلاه جامعة لمضامين آية البحث مع التباين فيها لمجئ الآية أعلاه بصيغة الجملة الشرطية ، لقوله تعالى [فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ] مما يدل على أن آية البحث غير منسوخة ، وأن الذين كفروا إذا كفوا عن قتال المسلمين ، وإمتنعوا عن الفتنة ، فهؤلاء يقتلون أو يؤسرون ويؤخذون لقوله تعالى [فَخُذُوهُمْ].
ولا تفيد الواو في [وَاقْتُلُوهُمْ] الترتيب لأن الكتاب والسنة جاءا بالوصية بالأسير ، وهذه الآية تدل عليه أيضاً .
ومن الإعجاز تقديم الآية للأخذ ، لبيان صيرورة الذين كفروا في حال وهن ولجوء إلى المكر والخبث والدهاء وإثارة الفتنة .
ترى ما هي النسبة بين الأخذ والأسر ، الجواب فيه وجوه :
الأول : إرادة نسبة التساوي بين الأخذ والأسر .
الثاني : المراد نسبة العموم والخصوص المطلق ، وفيه جهتان :
الأولى : الأخذ أعم من الأسر .
الثانية : الأسر أعم من الأخذ .
الثالث : المراد نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإتقاء وأخرى للإفتراق .
الرابع : هناك تباين بين الأخذ والأسر .
والمختار هو الجهة الأولى من الوجه الثاني أعلاه ، فالأخذ أعم من الأسر ، كما أنه يشمل حال القتال وغيره ، ولا يصح تفسير الآية : وخذوهم ثم أقتلوهم , إنما المراد على وجوه :
الأول : فخذوهم حيث ثقفتموهم .
الثاني :واقتلوهم حيث ثقفتموهم .
الثالث : فخذوهم حيث ثقفتموهم أو اقتلوهم حيث ثقفتموهم .
ومن معاني الرحمة في آيات البحث تقديم الأخذ على القتل , وكأن الآية تقول إذا كان بالإمكان أخذ الذين كفروا من غير قتال فيقدم الأخذ ، وأخذ الذين كفروا من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، فيشمل وجوهاً :
الأول : أسر المسلمين للذين كفروا ، وتقدير الآية : فخذوهم أسرى .
الثاني : حبس الذين كفروا .
الثالث : إقتياد الذين كفروا .
الرابع : تحذير وإنذار الذين كفروا ثم إطلاقهم ، قال تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ] ( ).
الخامس : أخذ الذين كفروا وقتل الذي يستحق القتل منهم .
السادس : أخذ الذين كفروا لإخراجهم من الديار التي أخرجوا المسلمين منها ، وتقدير : فخذوهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ) .
السابع : إرادة إنتهاء المشركين عن القتال ، أي يكون أخذهم مانعاً من تعديهم وهجومهم على ثغور المسلمين .
الثامن : أخذ المشركين ليدخلوا الإسلام ، ويتوبوا إلى الله ، لذا كان بعض الأسرى يعلن إسلامه وهو بالأسر ، ومنهم من فدى نفسه بالمال ، فانطلق من الأسر فمشى قليلاً ثم عاد وأسلم ، لبيان أنه دخل الإسلام عن إيمان , وليس عن طمع أو خوف أو خشية .
التاسع : فخذوهم لمنعهم من الفتنة وتحريض الناس على قتال المسلمين، فقد تأخذ رؤوس القوم كرهائن فيكف الآخرون عن القتال .
العاشر : فخذوهم ليروا الحجة والبرهان والمعجزة .
الحادي عشر : فخذوهم لبيان أن كفتكم أرجح منهم ، ليكون أخذ المسلمين للذين كفروا من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
الثاني عشر : فخذوهم رحمة بهم ، لأن أخذ الذين كفروا خير لهم من قتالكم لهم ، وقتلكم إياهم .
الثالث عشر : فخذوهم ليتأدب من خلفهم ، ويكف عن قتالكم .
الرابع عشر : فخذوهم كيلا يرث منهم أبناؤهم الكفر والضلالة .
الخامس عشر : وخذوهم كي تؤدوا مناسك الحج والعمرة من غير فتنة ومكر من هؤلاء خاصة وانه ورد بعد ثلاث آيات إحتمال منع العدو للمسلمين في أداء مناسك الحج والعمرة لقوله تعالى [فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ] .
والمراد الحصر بالمرض , والحصر والمنع من قبل العدو ، ومن الإعجاز في الآية أعلاه ورود أسباب أخرى للحصر منها العوائق الطبيعية .
والمشاق والعناء في طول المسافة ، ومنها الخلافات والخصومات بين المسلمين, والإقتتال أحياناً بين الطوائف بما جعل بعض وفد الحاج يحبسون عنه ، لذا فان بسط الأمن من النعم العظمى على المسلمين وهو مقدمة لأدائهم الحج والعمرة وعودتهم إلى بلدانهم سالمين غانمين .
وهل يبعث قوله تعالى [وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ]الطمأنينة في قلوب المشركين الذين في الحرم , الجواب نعم ، وفيه زجر لهم من التعدي على المسلمين عندما يقدمون للحج والعمرة ، ولعل آية البحث من أسباب صلح الحديبية , وقبول كفار قريش بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عمرة القضاء , وبقائه وأصحابه في مكة ثلاثة أيام من شهر ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة ، وكان عدد أصحابه ألفين عدا النساء والصبيان .
وقد أعتمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربع عمر وهي :
الأولى : عمرة الحديبية التي تم فيها الصلح .
الثانية : عمرة القضاء في السنة السابعة وتسمى عمرة القضية , وعمرة القصاص, والتي دخل فيها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البيت الحرام, هو وأصحابه, وتغيب عنها كفار مكة مدة بقائهم.
الثالثة : عمرة الجعرانة، وجاءت بعد معركة حنين, وتقسيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغنائم على أصحابه.
(عَنْ مُحَرِّشٍ الْكَعْبِيِّ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ لَيْلًا مِنْ الْجِعْرَانَةِ حِينَ أَمْسَى مُعْتَمِرًا فَدَخَلَ مَكَّةَ لَيْلًا فَقَضَى عُمْرَتَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ تَحْتِ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ بِالْجِعْرَانَةِ كَبَائِتٍ حَتَّى إِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ خَرَجَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ فِي بَطْنِ سَرِفَ حَتَّى جَامَعَ الطَّرِيقُ طَرِيقَ الْمَدِينَةِ بِسَرِفَ) ( ).
ومن الإعجاز في هذه الآية والآيتين السابقتين :
الأول : تكرار مادة [قتل] بصيغ متعددة : قاتلوا ، أقتلوهم ، وقاتلوهم .
الثاني : تعيين الجهة التي يقاتلها المسلمون ، وهم المشركون الذين يقاتلونهم .
الثالث : النهي عن القتال عند البيت الحرام إلا أن يبدأ المشركون بالقتال فيه ، ومن إعجاز القرآن أن الآية تخاطب وتأمر المسلمين ، ليكون فيه تخويف ووعيد للذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ) .
لتكون كل آية من القرآن من مصاديق الجند في قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) فتصير الآية القرآنية من جند الله عز وجل في التخويف والوعيد للذين كفروا .
ووردت بين آيات القتال الآية السابقة [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
وتتعلق بالتوبة والإنابة , وكف المشركين عن قتال المسلمين وتخص الآية مغفرة الله عز وجل لعباده , ولم يجعل أحداً من الخلائق واسطة لنزول مغفرته وعفوه عن الناس ، فيأتي الأنبياء [مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( ) لتكون كل من البشارة والإنذار دعوة للذين كفروا للإنتهاء عن الكفر والإمتناع عن الإضرار بالمسلمين .
ويجتهد المؤمنون في الجهاد ، وتسيل دماؤهم وينفقون الأموال في سبيل الله كي ينتهى الذين كفروا عن جحودهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) إذ يخرج المسلمون إلى الناس بالجهاد وبذل الأموال لجذبهم إلى الإيمان والخلود في الجنان والأمن والسلامة من لهب النيران .
والمختار أن قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ). آية محكمة وغير منسوخة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ويصل إلى منازل الحكم والسلطنة أشخاص وطوائف وملل وأكثرهم يعطي الأمان لمن إنتهى عن القتال ، ومن يسرف في سفك الدماء تنفر النفوس من فعله ، فيكون حكم الإسلام من باب الأولوية القطعية بنشر شآبيب الرحمة بين الناس .
وتكرر ذات اللفظ [فَإِنْ انتَهَوْا] في آية البحث ، والآية السابقة وهناك مسألتان:
الأولى : لماذا تكرر قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا].
الثانية : هل يفيد التكرار ذات المعنى أم كل فرد منهما له معنى مستقل ، أما الأولى ففيه وجوه :
الأول : التكرار تأكيد موضوعية إنتهاء الكفار عن القتال .
الثاني : تعقب العفو والرحمة لإنتهاء الكفار عن الجحود والضلالة والصدود عن الدعوة إلى عبادة الله .
الثالث : ورود لفظ [فَإِنْ انتَهَوْا] في آيتين متتاليتين للتذكير بأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة وطريق للتوبة والإنابة .
الرابع : مجئ آية خاصة بالإخبار عن إنتهاء الذين كفروا ، ومن الإعجاز إكتفاء الآية بذكر إنتهائهم وكفهم عن الكفر مع الإخبار عن قانون دائم وهو [إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) .
الخامس : مجئ الآية بحرف العطف الفاء الذي يفيد الترتيب والتعقيب وليس الإشراك والإقتران .
ومن معاني التعقيب بالفاء عدم وجود فترة بين المعطوف والمعطوف عليه كما يقال ضربه فبكى ، فان قلت قد تكون هناك فترة كما في قول : رأيت الهلال فصمت ، فيرى الهلال عند الغروب أما الصيام فيكون في النهار ، أو يقال تزوج فولد له ، وبين الزواج والولادة تسعة أشهر ، ولا يفهم من الكلام أنه حالما تزوج ولد له .
والجواب أن الفترة في مسألة الهلال أو الولادة مطابقة لماهية الفعل من غير تراخ .
فقد يكف ويتوب الذي يحارب الإسلام ، وبعدها يبتلى بأذى ، فتأتي الفاء في هذه الآية لتؤكد أن هذه الإبتلاء ليس عقوبة وإنتقاماً من عند الله عز وجل على ما تقدم له من الكفر والجحود ، ويحتمل قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) وجوهاً :
الأول : كفّ الذين كفروا عن قتال المسلمين ، وهو الظاهر من نظم هذه الآيات ، وتقدير الجمع بين الآية أعلاه والاية التي قبلها (فان قاتلوكم فاقتلوهم فان إنتهوا فان الله غفور رحيم ).
الثاني : المراد التوبة والإنتهاء عن قتال المسلمين وعن الكفر ، لإختتام الآية بذكره ، وتقدير الجمع بين الآيتين : كذلك جزاء الكافرين فان انتهوا عن الكفر فان الله غفور رحيم ).
الثالث : فان إنتهوا عن الفتنة والتعدي والشرك .
الرابع : فان إنتهوا عن الظلم والجحود ، لقوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ] ( ).
وأما المسألة الثانية فالجواب أن التكرار يفيد ذات المعنى , ويفيد التعدد والغيرية فيه أيضاً بلحاظ نظم الآية وسياق الآيات المتجاورة .
ترى لماذا لم تقل الآية (فان انتهوا فان الله يغفر لهم ) الجواب أختتمت الآية بقانون يتغشى الناس جميعاً من أيام أبينا آدم وإلى قيام الساعة ، ويكون حاضراً في جميع مواطن الآخرة ، وهو حاضر في الجنان مع تعددها وسعتها ، وبلوغ [عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ] ( ) .
وهل يصاحب هذا القانون أهل النار ، الجواب مع شدة عذاب أهل النار فان هذا القانون حاضر ، لأن الكفار يستحقون أشد منه ، ومن وجوه حضوره خروج بعض أهل النار منها .
وعن الإمام علي عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إن أصحاب الكبائر من موحّدي الأمم كلها ، الذين ماتوا على كبائرهم غير نادمين ولا تائبين ، من دخل منهم جهنم لا تزرقّ أعينهم ولا تسودّ وجوههم ، ولا يقرنون بالشياطين ولا يغلون بالسلاسل ، ولا يجرعون الحميم ولا يلبسون القطران ، حرم الله أجسادهم على الخلود من أجل التوحيد ، وصورهم على النار من أجل السجود .
فمنهم من تأخذه النار إلى قدميه ومنهم من تأخذه النار إلى عقبيه ، ومنهم من تأخذه النار إلى فخذيه ، ومنهم من تأخذه النار إلى حجزته ، ومنهم من تأخذه النار إلى عنقه ، على قدر ذنوبهم وأعمالهم ، ومنهم من يمكث فيها شهراً ثم يخرج منها ، ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها ، وأطولهم فيها مكثاً بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى ، فإذا أراد الله أن يخرجهم منها ، قال من في النار من أهل الأديان والأوثان ، لمن في النار من أهل التوحيد : آمنتم بالله وكتبه ورسله ، فنحن وأنتم اليوم في النار سواء .
فيغضب الله لهم غَضَباً لم يغضَبْه لشيء فيما مضى ، فيخرجهم إلى عين بين الجنة والصراط فينبتون فيها نبات الطراثيث في حميل السيل ، ثم يدخلون الجنة . . . مكتوب في جباههم :
هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمن . فيمكثون في الجنة ما شاء الله أن يمكثوا ، ثم يسألون الله تعالى أن يمحو ذلك الاسم عنهم ، فيبعث الله ملكاً فيمحوه ، ثم يبعث الله ملائكة معهم مسامير من نار فيطبقونها على من بقي فيها ، يسمرونها بتلك المسامير فينساهم الله على عرشه ويشتغل عنهم أهل الجنة بنعيمهم ولذاتهم. وذلك قوله{ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين})( ).
وعن مجاهد في قوله{فإن انتهوا} قال: فإن تابوا)( ) ولكن الآية أعم في موضوعها ودلالتها .
إذ ورد لفظ [فان انتهوا] مرة أخرى في القرآن وهو قوله تعالى [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ] ( ) .
ولم تقل الآية فان تولوا فاقتلوهم ) إنما جاءت الآية أعلاه بالوعد الكريم بالنصر والظفر للمسلمين لإخبار الآية بأن الله مولى المسلمين كما أنها تبعث السكينة في نفوسهم من أن تولي وهروب الذين كفروا لا يعني رجوعهم إلى فئة وعودتهم للقتال مرة أخرى ، وأن عادوا فان الآية أعلاه تخبر عن وجوب قتالهم .
فان قلت إذا كان قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا] أعم من التوبة ويشمل الكف عن قتال المسلمين مع البقاء على الكفر ، فكيف يكون معنى قوله تعالى في خاتمة الآية [فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] والذي قد يكون أمارة على إرادة التوبة والإنابة .
الجواب يكون المراد منه العفو والرحمة للمسلمين لأنهم قاتلوا المشركين ، وجعلوهم يكفون عن القتال والتعدي ، ليكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : فان إنتهوا عن الكفر وتابوا إلى الله فان الله غفور لهم رحيم بهم .
الثاني : فان إنتهوا عن الكفر وتابوا إلى الله فان الله غفور لكم رحيم بكم .
الثالث : فان انتهوا عن قتالكم وتولوا مقيمين على كفرهم فان الله غفور لكم رحيم بكم .
ومن رحمة الله بالمسلمين في المقام إعانتهم في أداء الفرائض والمناسك وتمكينهم من الذين كفروا إن عادوا للتعدي ، لذا جاء في الآية الثانية من آيتي [فَإِنْ انتَهَوْا]في المقام [فَإِنْ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ] لبيان التخفيف عن المسلمين عندما يكف فريق من الذين كفروا عن القتال فأن المسلمين يتوجهون إلى قتال غيرهم ممن يصر على الكفر ومحاربة الإسلام ، لتفيد الآية وجوهاً :
أولاً : فان إنتهوا فلا تعتدوا عليهم ، أي فلا تهجموا عليهم وتقتفوا أثرهم .
ثانياً : فان إنتهى الكفار الذين يقاتلونكم عن القتال فتوجهوا إلى غيرهم من الظالمين الذين يمكرون بكم .
ثالثاً : فان إنتهى الكفار عن قتالكم فان الله عز وجل يلقي بأسهم بينهم جزاء عاجلاً على ظلمهم .
وفيه آية وبيان للمائز في كيفية تضاؤل وإنتهاء صبغة الكفر بأن الذين يتوبون منهم يتوب الله عليهم ويتلقاهم بالرحمة وأن الذين ينتهون عن قتال المسلمين يبتليهم الله عز وجل بالعدوان بينهم ، بأن يعتدي بعضهم على بعض .
وجاءت الآية بصيغة الحصر [فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ] وفيه إخبار عن الأمن والسلامة للذين آمنوا وتابوا ، قال تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى] ( ).
رابعاً : فان إنتهوا عن قتالكم فكفوا أيديكم عنهم إلا الذين يصرون على الإضرار بكم ، ويستمرون على الظلم .
فان قلت الكفر والشرك بالله أم الكبائر وهو أشد ضروب الظلم ، والجواب هذا صحيح ولا تنفي الآية ظلم الذين كفروا وقبح ظلمهم ، ولكن نظم الآية يدل على المقابلة بالإعتداء لمن يقوم بالتعدي على المسلمين ، لتمنع الآية المسلمين من الإنتقام والبطش بالذين كفروا ، كما في قوله تعالى [فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ] ( ) وهو الذي يتجلى في التفصيل بين فوز الذي يدخل الإسلام بالعفو والرحمة من عند الله وبين الذي يصر على الكفر ، فانه يكون عرضة لتلقي العدوان .
الوجه التاسع : تبين آية البحث قدسية البيت الحرام، من جهات:
الأولى : تسمية البيت بالمسجد الحرام، وتأكيد أنه محل لعبادة الله وأنه محرم بذاته.
الثانية : لا تختص حرمة البيت الحرام بالأشهر الحرم، بل ذات البيت يحب أن يكون مطهراً، ومنزهاً عن الأوثان والمعاصي.
الثالثة : البشارة للمسلمين بفتح مكة وإتخاذهم البيت مسجداً.
الرابعة : تقييد آخر آية البحث لأولها، وبيان الإستثناء في قتال الذين كفروا , وتقدير الآية: واقتلوا الذين يقاتلونكم حيث وجدتموهم إلا في المسجد الحرام فلا تمسوهم إلا أن يقاتلوكم فيه.
ومن إعجاز آية البحث أنها قيدت قتال المشركين الذي يبيح للمسلمين قتالهم بأن يكون في المسجد الحرام لقوله تعالى[حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ] ومفهوم الآية أن قاتلوكم خارج المسجد الحرام، ثم دخلوا إليه لاجئين فلا تقاتلوهم، قال تعالى[وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا]( ).
الإعجاز في عمرة القضاء
من خصائص الحياة الدنيا التخفيف في الإبتلاء عن الإنسان مطلقاً براً كان أو فاجراً ، ليكون هذا التخفيف ثواباً عاجلاً للمؤمن ،وإنذاراً وحجة على الكافر والفاسق .
وهذا التخفيف من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) وفيه بيان لحال التغير والتبدل التي تعتري الإنسان وتلاقيه في شؤون حياته .
ولا يختص التخفيف بالقضية الشخصية بل يشمل النوعية ، وإرادة الجماعة والطائفة والأمة ، وهو مناسبة لتدبر المسلمين بماهية الحياة , ولزوم التقوى , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )الجواب نعم ، فان قلت إنما أمرت هذه الآيات المسلمين بالقتال .
وفي القتال أمور مكروهة وهي :
الأول : سقوط قتلى من طرفي القتال .
الثاني : حال الهلع والفزع , ونماء الضغائن .
الثالث : تعدد وكثرة الجراحات والكلوم .
فبينما ينتشر في حال السلم خبر أحدهم إذا أصابته مصيبة أو تعرض إلى الأذى .
فانه في حال القتال تكثر وتهون المصائب .
والحرب أولها نجوى وأوسطها شكوى وآخرها بلوى ، ولا ينطبق هذا القانون على آيات الدعوة للقتال في آية البحث من جهات :
الأولى : الأمر بالقتال أعم من وقوعه ، إنما يتضمن قبول المسلمين به وإستعدادهم له .
الثانية : قد يكون الأمر بالقتال مانعاً من القتال ، وهو من إعجاز القرآن لتحقق الغايات الحميدة بهذا الأمر وبفضل من الله عز وجل فيغني الأمر بالقتال عن ذات القتال ، ويتجلى هذا الأمر بالقيود والشرائط التي تضمنتها هذه الآيات مع تواليها وتعاقبها ، مما يدل على ضعف القول بنسخ هذه الآيات إذ ان كل شرط منها قانون يقود إلى تحقق الغايات من القتال بالأمر به من غير وقوعه .
فان قلت قد ورد قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] ( ) الجواب إنما أفادت الآية أعلاه كتابة القتال أي فرضه وفرض القتال أعم من فرض الصلاة والصيام كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) .
ولا نقول بحصر موضوع ومضامين هذه الآيات بالأمر بالقتال بل تفيد وقوع القتال ، وهو الذي تدل عليه الآيات القرآنية الآخرى التي تتضمن الإخبار عن معارك الإسلام الأولى ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) .
الثالثة : تقييد قتال المسلمين بأنه في سبيل الله , وفيه الصلاح والأجر والفلاح .

قانون كل آية قرآنية تنهى عن الفتنة وتحذر منها
الحمد لله الذي جعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ومن وجوه البيان في المقام وجوه :
الأول : القبح الذاتي للفتنة فهي بذاتها سوء وشر .
الثاني : منافاة الفتنة للفطرة الإنسانية .
الثالث : القبح الغيري للفتنة ، فلا يعلم أضرار الفتنة إلا الله عز وجل ، وقد يحصي قوم أضرار فتنة مخصوصة ، ولكن يقع بعد أيام أو سنين او حتى بعد أجيال ما يثير ذات الفتنة ، ويحدث من الضرر بسببها أكثر مما وقع ساعة ولادتها ، ومنه الكلام الجارح والضار ، والطعن والقذف وأسباب الحسد ، وبعض الكلمات التي تحرض على الفتنة والإقتتال .
ولقد تصدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمنع الفتنة بين المسلمين , وهي على وجوه :
أولاً : المنع من الفتنة بين المهاجرين والأنصار .
ثانياً : دفع الفتنة بين المهاجرين أنفسهم .
ثالثاً : التصدي للفتنة بين أفراد المسلمين .
الرابع : تدارك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحضوره في المواضع والمنتديات التي قد يطّل منها رأس الفتنة ووأدها في مهدها.
الخامس : جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمنع حدوث الفتنة بين الأنصار أنفسهم ، إذ كانوا طائفتين هما الأوس والخزرج .
وقد وقع قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قتال شديد بين الأوس والخزرج في موضع من المدينة يسمى ( بعاث ) يقع قبل بيوت بني قريظة وبعد حرة العريض .
وسميت الواقعة باسمه و (قتل فيها خلق من أشراف الاوس والخزرج وكبرائهم، ولم يبق من شيوخهم إلا القليل) ( ).
وكان التعدي ظاهراً بينهم حتى قبل يوم بعاث فمثلاً ذكر ابن إسحاق أنه (قَتَلَ سُوَيْدَ بْنَ صَامِتٍ مُعَاذُ ابن عَفْرَاءَ غِيلَةً فِي غَيْرِ حَرْبٍ رَمَاهُ بِسَهْمِ فَقَتَلَهُ قَبْلَ يَوْمِ بُعَاثٍ) ( ).
لبيان أن هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت نعمة عظيمة على الأنصار من الأوس والخزرج ، ونهاية الإقتتال بينهم ومنعاً للأحقاد والتناحر بينهم إلى يوم القيامة .
وكانت الغلبة في يوم بعاث للأوس (وَكَانَ عَلَى الْأَوْسِ يَوْمَئِذٍ حُضَيْرُ بْنُ سِمَاكٍ الْأَشْهَلِيّ أَبُو أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ ؛ وَعَلَى الْخَزْرَجِ عَمْرُو بْنُ النّعْمَانِ الْبَيَاضِيّ ، فَقُتِلَا جَمِيعًا . قَالَ ابن هِشَامٍ : قَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ
عَلَى أَنْ قَدْ فُجِعْت بِذِي حِفَاظٍ … فَعَاوَدَنِي لَهُ حُزْنٌ رَصِينٌ
فَإِمّا تَقْتُلُوهُ فَإِنّ عَمْرًا … أَعَضّ بِرَأْسِهِ عَضْبٌ سَنِينٌ) ( ).
ويدل قتل رئيسي الفريقين يومئذ على شدة القتال بينهم وكثرة الخسائر في كل فريق منهم ، ليكون من مصاديق إحتجاج الملائكة في جعل آدم خليفة في الأرض [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) إذ شاع القتل بين أبناء العموم الواحدة ومع إتحاد الأصل الأبوة للأوس والخزرج .
ودخل الأوس والخزرج الإسلام على نحو تدريجي ، وكانت هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة سبباً بتسارع وتيرة دخولهم خاصة الكبراء والرؤساء منهم ، لبيان مسألة وهي أن هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة من الوحي ، وهي وسيلة لصيرورة أهل المدينة من الأوس والخزرج مسلمين ليكونوا وعوائلهم بأمن وسلام عند خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لقتال الذين كفروا كما وقع في معركة بدر وأحد ، ونزل قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) ليقضي على الأحقاد والضغائن .
ولكون الآية أعلاه من الآيات التي تحارب الفتنة وتنهى عنها ثم تفضل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآخى بين المهاجرين والأنصار ، وجعل لكل واحد من المهاجرين أخا من الأنصار أو بالعكس وقد يكون إثنان من الأنصار أخوين في الله .
لتكون هذه الأخوة سوراً جامعاً للمسلمين ، وواقية من الخلاف والفتنة بينهم ، ومن ضروب التباين بين هذه الأخوة والأخوة النسبية ، أنه بالنسب ينتصر لأخيه في الباطل والظلم ، أما الأخوة الإيمانية فينتفي معها موضوع الظلم وليس من صبغة لهذه الأخوة إلا التقوى والخشية من الله .
ومرّ شاس بن قيس وهو شيخ كبير ذو حسد على المسلمين في المدينة فرأى الأوس والخزرج يتبادلون أطراف الحديث فغاظه الأمر وما عليه الأنصار من الألفة فأدرك أنه لا سبيل لبقائه وقومه مع الأوس والخزرج إذا إتحدوا وأتفقوا فدّس إليهم شخصاً من أصحابه .
فجلس معهم وأخذ يذكرهم بيوم بعاث ، وأنشد أبياتاً من شعر الفريقين آنذاك التي تثير الحماسة وتتضمن تفاخر كل فريق ورجحان كفته على الآخر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( ) إذ إختلف الحضور من الأوس والخزرج ، ودبّ الخلاف بينهم .
وتطاول شخصان هما أوس بن قيظي من الأوس وجبار بن صخر من الخزرج ،وتحدى أحدهما الآخر وتوعده شراً ، وقال إن شئتم رددتها الآن جذعة أي طرية متجددة , فأجابه الطرف الآخر مجتمعين (قد فعلنا موعدكم الظاهرة – والظاهرة الحرة – السلاح السلاح فخرجوا .
وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله إلى الاسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم من الكفر وألف به بينكم .
فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم فبكوا وعانق الرجال من الأوس الرجال من الخزرج ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله في شاس بن قيس قوله تعالى (قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا) ( ) الآية) ( ).
ومن الإعجاز في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن السنة النبوية القولية والفعلية تدفع الفتنة ، وتصرف المسلمين عنها ، وهو من مصاديق كون السنة النبوية مرآة للقرآن وتفسيراً وبياناً وتعضيداً له في أوامره ونواهيه ، وفي إصلاحه للمجتمعات وتهذيبه للنفوس والألسنة .
إذ تأتي الفتنة باللسان وعالم الفعل ، وبالتصريح والتعريض والتلميح والتذكير بالخصومات والخلافات والتفاخر بالأمجاد ، فجاء الإسلام بقانون الملازمة بين الأفضلية والتقوى بقوله تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
ولم يرد لفظ [أَكْرَمَكُمْ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وفي خطاب للناس جميعاً ، ترى لماذا لم تخاطب الآية المسلمين بذات المعنى فلم يقل لهم القرآن : يا أيها الذين آمنوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) .
والجواب أن المسلمين والمسلمات نالوا مرتبة التقوى ، وأن الآية أعلاه دعوة للناس لدخول الإسلام ، وهي من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) ومن وجوه الخير والتفضيل في الآية أعلاه بخصوص هذا القانون ونهي كل آية قرآنية عن الفتنة أمور :
الأول :إتخاذ المسلمين الآية القرآنية واقية من الفتنة .
الثاني : صرف الآية القرآنية المسلمين عن الفتنة .
الثالث : مناجاة المسلمين بإجتناب الفتنة .
الرابع : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب الإحتراز من الفتنة وآثارها .
الخامس : من خصائص القرآن تنمية ملكة الأمن من الفتنة في نفوس المسلمين ، لذا تفضل الله عز وجل وأمرهم بتلاوة القرآن على نحو الوجوب العيني خمس مرات في اليوم ، وكل مرة يتلون فيها القرآن مجتمعين ومتفرقين ،وهي تدعوهم إلى الإتحاد في مرضاة الله وإجتناب المعاصي والسيئات التي هي أيضاً فتنة في الشر .
وتنهى الآية القرآنية عن الفتنة من جهات :
الأول : منطوق الآية .
الثاني: مفهوم الآية .
الثالث : منطوق ومفهوم الآية .
الرابع : دلالة وتفسير الآية القرآنية .
الخامس : الجمع بين آيتين من القرآن .
ويدل عليه تنزه المسلمين عن الفتنة من باب الأولوية ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الفتنة أشد من القتل .
الصغرى : المسلمون يتنزهون عن القتل بغير حق .
النتيجة : المسلمون يتنزهون عن الفتنة .
وتبين هذه الآية الإذن القتل بالحق بخصوص الذين يقاتلون المسلمين على نحو التعيين ، وعند تلبسهم بالقتال ليكون من معاني قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا]على وجوه :
أولاً : فان إنتهوا عن القتال فلابد أن ينتهوا عن الفتنة .
ثانياً : فان إنتهوا عن الفتنة فليكفوا أيديهم عنكم ، إذ تجمع هذه الآيات بين القتال والفتنة والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، فقتال الذين كفروا للمسلمين فتنة ، ولكن ليس كل فتنة فيها قتال ، فقد تكون مقدمة للقتال أو يصرف الله شرها وهذا الصرف من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ] ( ) .
فكون الفتنة أشد من القتل لا يدل على أن كل فتنة فيها قتال وقتل ، بل لبيان ما فيها من الشر والضرر والأذى .
وما يصرفه الله عز وجل من ذات الفتنة وأثرها أكثر من الأثر الذي يترتب عليها ، وما يمحى من الفتن أكثر مما يتحقق منها في المبرز الخارجي ، ولاحصر لكيفية محو الفتن ، فقد يبعث الله عز وجل الفرقة والخلاف بين الذين كفروا فيشغلهم عن المؤمنين ، قال تعالى [تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى] ( ) .
وهل الفتنة التي تقع بين الذين كفروا أنفسهم من مصاديق قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] أم أن القدر المتيقن من الآية هو فتنة المسلمين ، الجواب هو الأول , وجاءت الآية مطلقة وعامة لبيان قبح الفتنة وأضرارها، وإذا وقع القتل فانه يقع لمرة واحدة , أما الفتنة فانها نار ذات لهب لابد من إطفائها ، فجاء القرآن ليدعو الناس جميعاً لإجتناب الفتنة إيجاداً ونقلاً وحكاية وإنقياداً لها.
ومن وجوه ومعاني قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]أي فتنة الذين كفروا للمسلمين وسعي الذين كفروا لإرتدادهم ، ومنه الإقامة على الكفر والضلالة مع تعيير المسلمين بقتلهم ابن الحضرمي في الشهر الحرام مثلاً، فتفضل الله عز وجل وأجاب الذين كفروا بأن فتنتكم بالكفر والجحود أعظم من القتل في الحرم ، وقتل عمرو بن الحضرمي في الشهر الحرام والآية قانون ثابت في الإرادة التكوينية .
ليبقى قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ضياء ينير دروب المسلمين ويهدي الناس جميعاً إلى حياة آمنة خالية من الفتنة والإفتتان ، وهذه الآية حرب على الشيطان وأعوانه من الإنس والجن ، وهي تدعو المسلمين إلى وأد الفتنة وإطفاء نارها ، ومنع إبتلاء الناس بها , ليكون هذا المنع من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ومن ضروب الفتنة في بدايات الدعوة الإسلامية مسائل:
الأولى : نصب الكفار الأصنام في البيت الحرام ليتقربوا بها إلى الله زلفى .
الثانية : المناجاة بين الكفار لقتال المسلمين, وإتخاذهم دار الندوة للتصدي للنبوة, وفي التنزيل[وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً]( ).
الثالثة : منع المسلمين من الإقامة في مكة وأداء فرائض الصلاة، ولو أن مشركي قريش لم يؤذوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في مكة ويحملوهم على الهجرة ، فهل ينزل بهم القتل والخزي ، الجواب لا ، خاصة وانهم لم يصابوا بالقتل والأسر والخزي إلا بعد ساروا إلى معركة بدر وأصروا على القتال فيها ، وكانت هذه المعركة إنذاراً من تجدد القتال مع المسلمين ، ومن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يقتل الأسرى بل كانوا على أقسام :
الأول : الذين دفعت قريش الفدية والبدل لفكهم , ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقبض من هذا البدل شيئاً إنما تركه للذي تولى أخذ الأسير .
الثاني : الذين أطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم سراحهم وفكهم من الأسر من دون مقابل ، وإشترط عليهم ألا يقاتلوه مرة أخرى ، وفي هذا الشرط أمارة على علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن قريشاً ستعود للقتال مرة أخرى .
وتحتمل هذه العودة إلى القتال وجوهاً :
الأول : إرادة قريش الثأر لقتلاهم إذ خسروا سبعين من رجالهم وفرسانهم وقد بكت قريش على قتلاهم ثم استدركوا ومنعوا البكاء والنحب كيلا تضعف معنوياتهم في الإنتقام ، أو يسمع النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه فيشمتوا بهم (قال ابن عقبة : اقام النوح شهرا) ( ) وأمروا ان لا يبعثوا في طلب الأسرى خشية زيادة المسلمين مقدار الفداء.
الثاني : عزم قريش على الإنتقام ودفع الخزي الذي لحقهم بين العرب وفي الأمصار ، فلقد كانت قريش مهابة الجانب لأنهم مجاوروا البيت الحرام، وتقطع قوافلهم الصحراء من مكة إلى الشام وإلى اليمن ، وجدة على البحر من غير أن يتعرض لها أحد من القبائل أو من قطاع الطرق ، وأدركت قريش بعد معركة بدر خسران منزلتها ، وإصابة شأنها بالوهن والضعف .
الثالث : سعي قريش لإستئصال الإسلام .
الرابع : إستصحاب عزم قريش على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسر أو قتل المهاجرين من أصحابه ، فقد أرادت قريش إدخالهم إلى مكة أسرى يدعونهم إلى الإرتداد عن دينهم ، قال تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا] ( ) .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق وبواعث قريش على القتال .
ومن إعجاز القرآن تقييد قدرة المشركين على إرتداد المسلمين بالإستطاعة ، وتقييد أداء حج المسلمين البيت الحرام بالإستطاعة بقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ) وقد تفضل الله عز وجل بأمور :
الأول : عجز الذين كفروا عن بلوغ مرتبة الإستطاعة التي يقهرون بها المسلمين ويحملون جماعة منهم على الإرتداد .
الثاني : الأمر للمسلمين بهذه الآيات بقتل الذين كفروا إن قاتلوهم , والذي يعني بالدلالة التضمنية زجر الكفار عن قتال المسلمين .
الثالث : منع ذات الإستطاعة من الوصول إلى الذين كفروا ، سواء بالسلاح أو المؤون أو الفطنة أو القدرة في ميدان القتال ، وحتى لو إجتمع عندهم الرجال فان الله عز وجل يبعث الفزع والخوف في نفوسهم ، وينزل الملائكة في القتال لنصر المسلمين وتثبيت الإيمان في قلوبهم .
فقد زحفت قريش بخيلائها وجيوشها في معركة بدر للثأر وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسر الصحابة ، فرزق الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الصبر والصدق في ملاقاة العدو , وأنزل الله الملائكة لنصرتهم ، كما في قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
وأخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله تعالى أعلاه (لم يمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد ولا بملك واحد لقول الله { إن تصبروا وتتقوا}.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله { إن تصبروا وتتقوا } الآية . قال : كان هذا موعداً من الله يوم أحد عرضه على نبيه صلى الله عليه وسلم ، أن المؤمنين إن اتقوا وصبروا أيدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ، ففر المسلمون يوم أحد , وولوا مدبرين فلم يمدهم الله ) ( ) .
ولا دليل على هذا المعنى ، وإذا كانت الآية تعلق نزول الملائكة على الصبر فقد أظهر المسلمون الصبر من جهات :
الأولى : الخروج إلى معركة أحد ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) .
الثانية : كل متر يقطعه المسلمون في الطريق إلى معركة أحد شاهد على صبرهم ، وتجديد لهذا الصبر ، ليكون الصبر في المقام كالنية المصاحبة للفعل العبادي وانبساطها على جميع أجزائه .
الثالثة : صبر المؤمنين وعدم رجوعهم مع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول الذي أخذ يحرض الأنصار على الرجوع وسط الطريق في موضع يسمى الشوط بين المدينة وأحد .
(قَالَ ابن إسْحَاقَ : حَتّى إذَا كَانُوا بِالشّوْطِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ ، انْخَزَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابن سَلُولَ بِثُلُثِ النّاسِ وَقَالَ أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي ، مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ فَرَجَعَ بِمَنْ اتّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ وَالرّيْبِ .
وَاتّبَعَهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ يَقُولُ يَا قَوْمِ أُذَكّرُكُمْ اللّهَ أَلّا تَخْذُلُوا قَوْمَكُمْ وَنَبِيّكُمْ عِنْدَمَا حَضَرَ مِنْ عَدُوّهِمْ فَقَالُوا : لَوْ نَعْلَمُ أَنّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَمَا أَسْلَمْنَاكُمْ وَلَكِنّا لَا نَرَى أَنّهُ يَكُونُ قِتَالٌ . قَالَ فَلَمّا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ وَأَبَوْا إلّا الِانْصِرَافَ عَنْهُمْ قَالَ أَبْعَدَكُمْ اللّهُ أَعْدَاءَ اللّهِ فَسَيُغْنِي اللّهُ عَنْكُمْ نَبِيّهُ) ( ).
الرابعة : كان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عيون في مكة يبعثون بأخبار قريش واستعدادهم للهجوم , وعدد أفراد جيشهم ، وكان نحو أربعة أضعاف جيش المسلمين الذي هو سبعمائة مقاتل ، فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرض بالإستعانة بغيرهم من حلفائهم من اليهود , وأظهر المسلمون الرضا بأمره .
وعن الزهري ( أَنّ الْأَنْصَارَ يَوْمَ أُحُدٍ ، قَالُوا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَا نَسْتَعِينُ بِحُلَفَائِنَا مِنْ يَهُودَ ؟ فَقَالَ لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِمْ)( ).
وهذا الإسغناء من مصاديق الوحي , وصبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وشاهد على مراتب التقوى السامية التي بلغوها إذ تتجلى أبهى مصاديق التقوى في حال الشدة ولقاء العدو .
وظاهر كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يحرم الإستعانة باليهود ولم يظهر الكراهة لها ، ولكنه متوكل على الله ويعلم بفضله بنزول الملائكة للنصرة .
ومن فضل الله عز وجل أنه يرضى من العباد بالقليل وقد أظهر المسلمون أسمى معاني الصبر ، والمختار أن الله عز وجل أنزل الملائكة في معركة أحد وأنهم قاتلوا فيها ، قال تعالى [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( ).
والذين قالوا أن المسلمين لم يصبروا , ولم ينزل الملائكة في معركة أحد ، يفسرون قوله تعالى [فَوْقَ الأَعْنَاقِ] بأن معناه أضربوا الرؤوس ، عن عكرمة , وأن الأعناق هي الرقاب , قاله الضحاك وعطية العوفي( ).
لقد واجهت جيش المهاجرين والأنصار شدائد في معركة أحد وفي الطريق إليها , ومنها :
الأول : قدوم جيش عرمر من قريش والقبائل التي معهم من الأحباش وكنانة وأهل تهامة .
وكانت قريش تجيد الإشاعة ومحاولة بث الرعب في قلوب الأعداء ، ولكن الله عز وجل ثبّت المسلمين ورزقهم الصبر , ومن الآيات أن ذات الصبر في معركة أحد من أظهر وجوه التقوى فلا يدل قوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] ( ) على التعدد والغيرية بين كل من الصبر والتقوى ، ويمكن أن يكون لهما مصداق واحد .
الثاني : إنخزال ثلث جيش المسلمين وسط الطريق إلى أحد وليس من جيش في التأريخ ينخزل وينسحب ثلثه في الطريق إلى قتال جيش يفوقه أضعافاً بالعدد والعدة والمؤونة إلا وانكسروا وخارت قوى أفراد جيشهم إلا جيش الإسلام ، الذين منّ الله عليهم مجتمعين ومتفرقين بالصبر ، ومعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتقدم صفوفهم .
ليكون من الإعجاز الغيري في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) البشارة بنصر المسلمين في معركة أحد من باب الأولوية لأنهم خرجوا للمعركة وهم في حال عز ودولة خاصة وأن الذين يلاقون في معركة بدر هم ذات الذين إنتصروا عليهم في معركة بدر .
الثالث : كثرة جيش العدو , وكونه نحو أربعة أضعاف جيش المسلمين.
الرابع : ترك الرماة المسلمين مواضعهم على الجبل ومجئ خيل المشركين من خلف جيش المسلمين .
الخامس : إصابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجراحات الشديدة.
السادس : وقوع سبعين شهيداً من المسلمين .
وكان جيش المسلمين في معركة أحد يتألف من :
الأول : البدريون الذين سبق وأن شاركوا في معركة بدر .
الثاني : المسلمون الذين فاتهم الخروج إلى معركة بدر ، وإعتذروا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرجوا إلى معركة أحد بلهفة ، وهذه اللهفة برزخ من الإنصات إلى رأس النفاق في دعوته للرجوع .
وفيهم نزل قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تََمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ).
الثالث : الذين وصلوا إلى المدينة مهاجرين بعد معركة بدر من أهل الصفة وغيرهم ، لقد فتحت معركة بدر باباً لدخول الناس الإسلام والهجرة إلى المدينة ، وهو من مصاديق نسبة النصر في الآية إلى الله عز وجل في معركة بدر , لتكون المنافع أكثر من أن تحصى في أفرادها وسنخيتها وموضوعها .
وهل ذات النصر في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( )من جنود الله كما في قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) أم أنه نتيجة وثمرة الجنود من عند الله ، الجواب إنه يصدق المعنيان معاً ، فهذا النصر من جند الله ، وهو ثمرة لجهاد نصر الله ، كما أنه بلغة لتحقيق النصر ، وزيادة جنود الله عز وجل .
الرابع : الذين بلغوا الحلم أيام معركة أحد , إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يختبر الشباب .
وردّ يوم أحد أسامة بن زيد وعبد الله بن عمر ، وزيد بن ثابت والبراء بن عازب وأسيد بن ظُهير ، وأجازهم يوم الخندق( ) ، وأجاز يوم أحد رافع بن خديج.
الخامس : الذين دخلوا الإسلام حديثاً .
وهل نزل قوله تعالى [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ] قبل معركة أحد أو أثناء المعركة أو بعدها , الجواب هو الأخير ، إذ كان المسلمون في حال دفاع ، ولكن قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]دعوة للمسلمين للتهيئ لغزو الذين كفروا ، ولو إستمرت حال الدفاع عن ثغر الإسلام الوحيد وهو المدينة ، فان المسلمين يبقون في حال خوف وحذر من الذين كفروا الذين ربما بادروا لمباغتة المسلمين في عقر دارهم ، وفي ورود قوله تعالى [وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ] ( ) في آية البحث مسائل :
الأولى : البشارة بعجز قريش عند قهر المسلمين في قتالهم معهم .
الثانية : الإخبار من عند الله عن عجز الذين كفروا عن مواصلة الهجوم على المسلمين .
الثالثة : دعوة المسلمين للإستعداد للخروج للغزو ، وهل تختص هذه الدعوة بالبيت الحرام ، الجواب لا، فيدل تقييد عدم قتال المشركين في المسجد الحرام إلا بعد أن يبدأوا في قتال المسلمين على قتالهم وقتلهم خارج المسجد الحرام عند إصراهم على الكفر , والفتنة , وإرادة قتال المسلمين .
الرابعة : بشارة صيرورة المسلمين في حال عز ومنعة وقوة وقدرة على الهجوم .
الخامسة : تأكيد قدسية المسجد الحرام ، وتأديب أجيال المسلمين على تنزيهه من الفتن والإقتتال ، وبيان حقيقة وهي إتصافه بمنزلة عظيمة في السموات والأرض .
(عن أبي شريح العدوي قال : قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغد من يوم الفتح فقال : إن مكة حرَّمها الله ولم يحرِّمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقولوا : إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما لي ساعة من نهار ، ثم عادت حرمتها اليوم بالأمس )( ).
أي أن حرمة مكة لم تأت من قبل إتفاق ومناجاة الناس وسنهم لقانون وضعي بتنزيه مكة عن المحرمات ، بل جاءت حرمتها من عند الله ، فلابد أن تكون ثابتة إلى يوم القيامة وهذه الحرمة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
وأخبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن حرمتها , وحرمة القتل أو جرح الغير في مكة وليكون قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً) الوارد أعلاه هو أن هذا السفك من مصاديق ما ورد في الآية السابقة [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل أن تكون أحكام النهي عن القتال في المسجد الحرام دائمة وثابتة إلى يوم القيامة لبقاء الإيمان وعمل المسلمين بالقرآن والسنة .
وحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا يوم الفتح في السنة الثامنة للهجرة ، ويدل بالدلالة التضمنية على عدم وقوع النسخ في آية البحث وعلى بقاء إستثناء البيت الحرام من القتال فيه , إلا إذا إبتدأ الكفار القتال فيه .
ويتجلى إعجاز الوحي كلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن أخبر عما قد يجتهد بعضهم باباحة القتال في مكة تأسياً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه قاتل فيها ، ودخلها فاتحاً .
فقال صلى الله عليه وآله وسلم بالنص الذي لا يقبل الترديد أن قولوا : أن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم ) ليملي النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين الأمر بالمعروف بصيانة وتطهير البيت الحرام ، والنهي عن إستباحة الدم فيه .
ليكون من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة حينما جاءوا باستفهام إنكاري عن جعل الإنسان خليفة في الأرض [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) فكان إحتجاج الله عز وجل عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).

سماحة آية الله العظمى الشيخ صالح الطائي حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ورد في الآية الثالثة والأربعين من سورة النساء قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا] .
وقدمت الآية المجئ من الغائط على ملامسة النساء ، مع أن ذكر النساء أولى وأسمى ، وقد وردنا السؤال إشكالاً من بلاد الغرب أجيبونا مأجورين .
أ.د . كريم مهدي صالح
وزير النقل السابق (جمهورية العراق)

سيادة الدكتور الفاضل الوزير حفظه الله
السلام عليكم
الجواب من جهات:
الأولى : إبتداء الآية بالنداء[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] والذي ورد في القرآن تسعاً وثمانين مرة ، وهو يشمل عموم الرجال والنساء من المسلمين إلا أن لفظ التذكير ورد للغالب ، كما تقول : القمران , لإرادة الشمس والقمر مع أن الشمس أكثرضياء ونوراً من القمر , وقال المتنبي :
وما التأنيث لاسم الشمس عيب … ولا التذكير فخر للهلال
أي أن بداية الآية وإختتامها بالنداء للمسلمين والمسلمات يدل على إكرام القرآن للمرأة وأنها بذات المنزلة مع الرجل من جهة التكاليف ، وهو أمر ظاهر بالبرهان والوجدان إذ تجب الصلوات اليومية الخمسة وجوباً عينياً على الذكر والأنثى البالغين , وكذا الصيام والفرائض الأخرى .
الثانية : قد تقدم ذكر النساء الجنب في ذات آية البحث ووجوب الغسل عليهن بقوله تعالى [وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ] ( )وتقدير الآية : يا أيها اللائي آمنّ لا تقربن الصلاة وأنتن سكارى حتى تعلمن ما تقولن ولا جنباً إلا عابرات سبيل حتى تغتسلن ).
فان قلت لا تشرب النساء الخمر أيام التنزيل ، والجواب نعم ، والمراد من السكر في الآية أعم ويشمل النعاس ، إذ ورد عن الإمام جعفر عليه السلام في الآية (لا تقربوا الصلوة وانتم سكارى
يعنى سكر النوم ، يقول وبكم نعاس يمنعكم ان تعلموا ما تقولون في ركوعكم وسجودكم وتكبيركم ، وليس كما يصف كثير من الناس يزعمون ان المؤمنين يسكرون من الشراب ، والمؤمن لا يشرب مسكرا ولا يسكر) ( ).
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال : لم يعن بها الخمر ، إنما عنى بها سكر النوم)( ).
وهذا المعنى لا يتعارض مع المعنى الظاهر للآية وهو نهي المسلمين عن الإقتراب للصلاة وهم سكارى .
وأخرج ابن المنذر (عن محمد بن كعب القرظي قال : نزلت أربع آيات في تحريم الخمر أولهن التي في البقرة ، ثم نزلت الثانية { من ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً }( ) ، ثم أنزلت التي في النساء ، بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بعض الصلوات إذ غنى سكران خلفه ، فأنزل الله { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى . . . }( ) الآية . فشربها طائفة من الناس وتركها طائفة ، ثم نزلت الرابعة التي في المائدة ، فقال عمر ين الخطاب ، انتهينا يا ربنا .
وأخرج ابن جرير عن محمد بن قيس قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه الناس وقد كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، فسألوه عن ذلك؟ فأنزل الله { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما }( ) فقالوا : هذا شيء قد جاء فيه رخصة ، نأكل الميسر ونشرب الخمر ونستغفر من ذلك ، حتى أتى رجل صلاة المغرب فجعل يقرأ { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد } [ الكافرون : الآيات الثلاث ] فجعل لا يجوّد ذلك ولا يدري ما يقرأ ز
فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى }( ) فكان الناس يشربون الخمر حتى يجيء وقت الصلاة فيدعون شربها ، فيأتون الصلاة وهم يعلمون ما يقولون ، فلم يزالوا كذلك حتى أنزل الله { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام } إلى قوله { فهل أنتم منتهون } فقال: انتهينا يا رب) ( ).
ومن خصائص الآية القرآنية بقاؤها حية غضة طرية إلى يوم القيامة فتنهى الآية عن أداء الصلاة بحال النعاس سواء ما يسبق النوم أو ما يكون بعده لأن الله عز وجل يحب لعباده الإنقطاع إليه في الصلاة رحمة بهم في النشأتين .
الثالثة : الآية في مقام التخفيف وإباحة الصلاة بالطهارة الترابية في حال السفر الذي ذكرته الآية بقوله تعالى[إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ]( )، ويترشح إباحة التيمم والطهارة الترابية في الحضر أيضاً للمشاكلة والنصوص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام.
وقد ورد ذات القول[أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ] مرة أخرى في سورة المائدة( ).
الرابعة : بيان حقيقة وجدانية وهي أن الرجال يقومون بالسفر والترحال أكثر من النساء، فيكون موضوع فقدان الطهارة المائية بالنسبة لهم أكثر إبتلاء من النساء.
الخامسة : التخفيف عن المرأة , في نسبة علة الطهارة والغسل إلى الرجل.
والعلم عند الله.

                                        صالح الطائي
                                      10 رمضان 1437

سماحة المرجع الديني آية الله الشيخ الطائي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته عساكم بخير إن شاء الله بالتوفيق والسداد والصحة والعافية.
وأزاحمكم بسؤال هو: ما هو حكم نقل الأعضاء من الميت سريرياً في حالة إذا الشخص موصي بذلك ؟
وفي حال لم يوصي بذلك ؟
وفي حال أخذ أذن أهله فقط ؟
الشيخ حسين الكعبي

فضيلة العلامة الشيخ حسين الكعبي حفظه الله / دولة الكويت
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الموت هو زهوق الروح ومفارقتها الجسد ويقع بموت الدماغ وتوقف القلب عن النبض الذي يصبح جثة هامدة ، ثم جاء الطب الحديث ووسائل إدامة مسمى الحياة .
والموت السريري مصطلح طبي لتوقف الدورة الدموية والتنفس بسبب عدم خفقان القلب وعجزه عن ضخ الدم عبر الشرايين .
والموت الدماغي هو التوقف التام لنشاط الدماغ ، والمختار أن بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً ، فالموت السريري أعم .
ووضعت في أمريكا وأوربا قوانين للتبرع بالأعضاء عند الموت الدماغي تختلف من بلد إلى آخر وتتعلق بذات الميت أو وصيته أو ورثته .
ولا يعني موت الدماغ الموت التام والسكون مادام القلب ينبض لأصالة إستصحاب الحياة ، وفي قصة أهل الكهف قال تعالى [ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ]( ) فليس من حركة حسية إلى أن بعثهم الله بعد ثلاثمائة وتسع سنوات, وفي قصة أهل الكهف بشارات إحياء ذي السكتة الدماغية والقلبية .
وقال شطر من الأطباء بكفاية موت جذع الدماغ باحتساب الإنسان ميتاَ ، وقالوا بأنه يصبح ميتاً من الناحية الطبية والشرعية .
والمختار عدم الحكم بموت الإنسان بتوقف وموت الدماغ، ولا يصدق الموت إلا بتوقف القلب والتنفس التام خاصة , ويتوقف على الموت قسمة التركة ، وجواز نكاح المرأة بعد عدة الوفاة إذا رضيت ، ثم أن علوم الطب في إرتقاء ، وقد يحصل علاج لضروب من الموت السريري كما لو تم صناعة أجهزة غير وسائل الإنعاش القلبي الرئوي وجهاز الصدمات الكهربائي وبما يزيد من نسبة إعادة الميت سريرياً إلى الحياة.
وما دام العلم لم يصل إلى هذه المراتب فيجوز تبرع الإنسان بأعضائه في حال صيرورته ميتاً سريرياً ولو أوصى بالتبرع بأعضائه ، ثم ظهرت أجهزة وعلاجات تنجيه وتوقظه من رقدة الموت السريري فهل يعمل بوصيته وتأخذ الأعضاء منه , أم ينتفع منها لإعادته إلى الحياة الطبيعية ، الجواب هو الثاني لتغير الموضوع وتبعية الحكم له .
وإذا وصى المسلم بالتبرع بأعضائه في حال موته سريرياً وإنعدام الأمل بشفائه لمن يحتاجها من المسلمين ، فالوصية جائزة .
وأما إذا كان قلب المسلم ورئتاه تقوم بوظائفها , وأن كان بواسطة الإنعاش فلا يصح قطع أعضائه منه إلا مع اليأس طبياً من حياته ، ونسأل الله عز وجل أن تمحى وتنتهي هذه المسألة الإبتلائية باكتشاف وصناعة الأطباء لأعضاء صناعية من البلاستك ونحوه ، وقد تم بعض منه ، فلا تصل النوبة حبنئذ إلى قطع أعضاء الميت التي قد تكون نعمفسها متهالكة، قال تعالى [) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ) .
ولا موضوعية لإذن الورثة لأنهم يرثون تركته وأمواله ، إلا إذا كانت حياة مسلم آخر متوقفة على أعضاء الميت سريرياً فيجوز العمل بأخذ إذنهم لقاعدة تقديم الأهم على المهم، وقاعدة الميسور، ونفي الحرج في الدين، وبعض ينفق في ثوابه، ومع فقد أو عدم الوارث، فالحاكم الشرعي.
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: كسر عظم الميت لكسر عظام الحي)( )، وفيه مصداق لعموم الرحمة الإلهية في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتشمل الأحياء والأموات من الناس جميعاً إذ أنه لم يقيد الحديث بعظم المسلم بل ذكر الميت مطلقاً لإرادة عموم الناس، وهو من الشواهد والبيان لقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وورد عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام قال (إن حرمة بدن المؤمن ميتا كحرمته حيا)( ).
فهل يشمل الحديث المقام والحاجة لعضو منه عند موته السريري، الجواب لا، لأن القدر المتيقن من الحديث ستر الميت وتجهيزه وتكفينه ودفنه.
ولم يخلق الله شيئاً إلا بحكمة تدل على ربوبيته المطلقة فهو الحكيم الذي أحسن تدبير كل بديع، فخلق الموت وجعله خاتمة للحياة وزمان التكليف، ومدة الإختبار، إلى جانب ما فيه من أبواب المنفعة للناس، وتنظيم شؤون حياتهم وإعانتهم على أمور الدنيا والآخرة، فقد روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال، إن قوماً أتو نبياً لهم، فقالوا أدع لنا ربك يرفع عنا الموت فدعا لهم.
فرفع الله تبارك وتعالى منهم الموت، وكثروا حتى ضاقت بهم المنازل وكثر النسل، وكان الرجل يصبح فيحتاج أن يطعم أباه وأمه وجده وجد جده ويرضيهم ويتعاهدهم، فشغلوا عن طلب المعاش فاتوه، فقالوا: سل ربك أن يردنا إلى آجالنا التي كنا عليها فسأل ربه عز وجل فردهم إلى آجالهم.
أي أن الموت رحمة للناس وركن من عالم التكوين وزينة للحياة الدنيا لمن يعلم أنه مرحلة إنتقال إلى عالم الخلود ويحرص على إقتران العمل اللازم بالعلم والإدراك.
لقد جعل الله الموت واعظاً للإنسان ورادعاً ومؤدباً له، يعلم أنه ملاقيه فيجتنب فعل القبيح ويمتنع عن التوغل اللاشرعي في دروب الطمع والظلم والطغيان بل أنه يحرص على التواضع ولا يبتعد عن الزهد، وروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لو لا ثلاثة في ابن آدم ما طأطأ رأسه شيء: المرض والموت والفقر، وكلهن فيه وأنه لمعهن وثاب)( ).
والعلم عند الله.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn