معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 143

المقدمة
الحمد لله حمداً كثيراً متصلاً متتالياً يزيد على ما ينطق به اللسان لصدوره من الجوارح والأركان، الحمد لله نور السموات والأرض الذي جعل الخلائق تنقطع إليه بالحمد والثناء والتسبيح والتهليل، الحمد لله الذي جعل الحمد سر الوجود، ومادة الحركة وعلة ديمومة الحياة الإنسانية، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الحمد لله الحق، الذي جعل النبوة حقاً، والتنزيل حقاً، والنشور حقاً، والجنة حقاً، والنار حقاً، وتفضل وجعل القرآن طريقاً إلى الجنة , وواقية من النار ودلّ المسلمين على سبل النجاة في الدنيا والآخرة بتلاوة كل واحد منهم ذكراً أو أنثى قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، عدة مرات في اليوم ضمن تلاوة القرآن على نحو الوجوب العيني في الصلاة اليومية الواجبة صلاة الصبح والظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء.
الحمد لله الذي إختص لنفسه صفات العظمة والجلال، ونعوت القدرة والكمال، وملأت الآفاق آلاء بديع صنعه، وتجلى للخلائق بهاء جوده وكرمه وعظيم إنعامه.
الحمد لله الذي جعل القرآن مدرسة الثناء عليه سبحانه لا ينفك عنها كل مسلم ومسلمة إلى القيامة ليكون من الشواهد على قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
فكل آية من آيات القرآن هي ثناء وحمد وشكر وتمجيد لله عز وجل من جهات:
الأولى : نزول الآية القرآنية من عند الله.
الثانية : إتصاف الآية القرآنية بأنها كلام الله.
الثالثة : شهادة رسم ونظم آيات القرآن على نزولها من عند الله عز وجل.
الرابعة : تلاوة المسلمين والمسلمات لآيات القرآن , وعذوبة هذه التلاوة، وطراوتها في الأسماع , و(أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا.
قال: لم ؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض ما قبله ! قال: قد علمت قريش أنى من أكثرها مالا.
قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر لهقال: وماذا أقول ؟ فو الله ما منكم رجل أعرف بالاشعار منى، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده منى، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذى يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذى يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته.
قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: قف عنى حتى أفكر فيه. فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره، فنزلت “ذرنى ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدوا وبنين شهودا)( ).
الخامسة : المضامين القدسية لكل آية من القرآن .
السادسة : العلوم المستقرأة من كل آية من القرآن .
السابعة : سلامة آيات القرآن من التحريف والتبديل والتغيير.
الحمد لله الذي جعل كل آية من القرآن كنزاً يفيض بالعلوم في كل زمان، وجاءت أيام العولمة لتكون ذخائر القرآن قريبة من كل إنسان ، تتجلى في العبادات والمعاملات والأحكام وسنن الأخلاق التي جاء بها القرآن ، ووردت في ثنايا آياته .
وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ).
الحمد لله الذي جعل الآية القرآنية شاهداً على ربوبيته المطلقة، ودليلاً على إحاطة سلطانه بالموجود والمعدوم، والظاهر والخفي من الأشياء.
الحمد لله الذي جعل الآية القرآنية دعوة للإيمان، وسبيلاً للخلود في الجنان، وواقية من إغواء الشيطان، وحرزاً للوقاية من لهيب النيران.
الحمد لله الذي جعل القرآن مفتاحاً للرزق الكريم , ومن خصائص الرزق الذي يأتي بالقرآن وجوه :
الأول : اليسر والسهولة في كسب الرزق بالقرآن .
الثاني : من منافع القرآن الرزق بالسلامة في البدن من الأمراض والأوجاع .
الثالث : إتصاف رزق القرآن بأنه عام وشامل للحياة الدنيا والآخرة ، وأيهما أكثر الرزق والنعم التي تأتي بالقرآن في الدنيا أم التي تأتي لقارئه وتاليه في الآخرة .
الجواب هو الثاني ، وقد وردت نصوص عديدة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نفع وحضور القرآن وسوره في مواطن الآخرة ضباءً وإماماً وشافعاً .
الرابع : ذات تلاوة القرآن رزق كريم , وهي مقدمة للرزق والفضل من عند الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ).
الخامس : الشأن والجاه والعز الذي يترشح عن تلاوة وحفظ القرآن والتحلي بأخلاقه ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ، ويضع به آخرين) ( ).
الرزق الذي يأتي بالقرآن ومعه خاص وعام ، فيتلوه المسلم فيأتي الثواب له ولوالديه وذريته ، وهل تلاوة القرآن من بر الوالدين ، أم أن القدر المتيقن من برهما هو إكرامهما , والعصمة من عقوقهما ، الجواب هو الأول .
وهو من بديع التكاليف في الحياة الدنيا ، بأن يأمر الله عز وجل الإنسان بطاعة والديه والإحسان لهما ، قال تعالى [وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا] ( ) فيقوم المسلم بتلاوة القرآن فيكون من البر بهما والإحسان لهما .
ويمكن تأسيس قانون وهو أن الله عز وجل يأمر بالشئ ، ويجعل مصاديق الإمتثال له أكثر من أن تحصى .
فتكون هذه المصاديق على وجوه :
الأول : ما هو ظاهر جلي .
الثاني : المصداق الخفي والمستتر .
الثالث : ما يأتي بالواسطة .
الرابع : الإمتثال الإنطباقي .
الخامس : ما يأتي بالمدد والعون واللطف من عند الله ، ومنه التقريب للإمتثال .
السادس : الإمتثال القهري ، والمترشح عن القوة والقهر ، كما في مشركي مكة فقد دخلوا الإسلام طوعاً وقهراً ، ومنهم المؤلفة قلوبهم ، ولكن ذريتهم أحسنوا إسلامهم وتعاهدوا الأحكام الشرعية , بل ذات المؤلفة قلوبهم لم يبقوا على حال الجفاء مع التنزيل والنبوة .
وهل علوم التفسير والتأويل من الرزق الكريم ، الجواب نعم ، وهي سبب لتوالي النعم ، ولا يختص هذا الباب من الرزق بعلماء التفسير ، وتأليف المجلدات الخاصة بالتأويل ، والإستنباط ، إذ يشمل كل من سأل عن تفسير آية من القرآن ، رجاء العلم والإرتقاء في سلم المعرفة .
لذا فقد ورد لفظ [يَسْأَلُونَكَ] في القرآن خمس عشرة مرة ، منها قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ …] ( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الحمد والثناء وإن قصّر الإنسان بوظائف الشكر لله فان الملائكة والخلائق منقطعة إلى التسبيح والحمد له سبحانه .
قال تعالى [يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
ونزل القرآن ليبقى الحمد لله مصاحباً للإنسان إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) وعندما إحتج الملائكة على نيل الإنسان هذه المرتبة السامية بين الخلائق ، وهو الذي يفسد في الأرض ، ويقتل ويزهق الروح التي أكرم الله الإنسان بالنفخ منها فيه ، أجاب الله سبحانه [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ومن علمه سبحانه توالي الشكر لله عز وجل من أجيال المسلمين والمسلمات في الليل والنهار ، وعلى نحو الوجوب والندب إلى يوم القيامة .
الحمد لله الذي لم يجعل حاجباً أو واسطة بينه وبين حمد العباد له وليس ثمة فترة بين قول العبد الحمد لله وبين إختراقه السماوات السبع وسماع الملائكة له ، لتصدح الآفاق بثناء وحمد المسلمين والمسلمات لله عز وجل على نعمة نزول القرآن .
ومن الآيات أن تلاوة القرآن ذاتها حمد له سبحانه في المعنى والدلالة والمفهوم والأثر ، فمن الآيات من تتضمن النص بالحمد لله ومن إعجاز القرآن الذاتي أن أيامه تبدأ بعد البسملة بآية [ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وذات التلاوة دليل على حمد وشكر المسلمين لله عز وجل ، وكذا فان مفهوم التلاوة هو شكر لله عز وجل ، أما أثر التلاوة فهو حمد وثناء من ذات التالي والمستمع لله عز وجل رجاء الرحمة والعفو ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
وليس من حصر لأوان ومصاديق وسنخية الرحمة المذكورة في الآية أعلاه ،وذكرت الآية الكريمة نزول الفيض والرحمة بالإنصات للقرآن مما يدل بالأولوية القطعية بأن تلاوة القرآن أكثر ثواباً وأجراً ، وهي سبب لنزول الرحمة , وفي المقام نكتة عقائدية من جهات :
الأولى : مجئ الثواب للمسلم بقراءة القرآن .
الثانية : الأجر والثواب للمسلم عند الإستماع لآيات القرآن .
الثالثة :من سبل الثواب ترشح البركة والأجر عن الإنصات للقرآن والتدبر في مضامينه القدسية ومعانيه .
الرابعة : بيان الثواب العظيم لصلاة الجماعة وتلاوة الإمام فيها للقرآن ، وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ خمسا وعشرين)( ).
وليس من دليل أقوى من القرآن ، وهذا القانون من وجوه تعاهد المسلمين للوحدة والأخوة الإيمانية بينهم ، فآيات القرآن برزخ دون الفرقة والخصومة والشقاق بينهم ، وهو البلسم والواقية من الفتن أو إستدامتها ، وعن الإمام علي عليه السلام قال : (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ستكون فتن قلت : وما المخرج منها؟ قال : كتاب الله . فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل وليس بالهزل ، وهو حبل الله المتين ، وهو ذكره الحكيم ، وهو الصراط المستقيم)( ).
ومن خصائص علم الناسخ والمنسوخ أنه شاهد على سلامة القرآن من التحريف والتبديل والتغيير .
ولقد ورد ذكر الشهر الحرام والأشهر الحرم في هذا الجزء وتقييد جواز قتال المسلمين فيهن بأن يقاتلهم الذين كفروا في ذات الشهور الحرم ، وأكتب هذه الجزء في النصف الثاني من شهر رمضان المبارك للسنة السابعة والثلاثين بعد الأربعين والألف من سني الهجرة النبوية المباركة ، ومع قدسية شهر رمضان وتعدد الأشهر الحرم وأنها أربعة أشهر فلم يكن شهر رمضان من الأشهر الحرم ، ولكن اختص في القرآن بأمور :
الأول :شهر رمضان هو الوحيد من بين الشهور الذي ورد ذكره في القرآن .
الثاني : إكرام شهر رمضان بأن نزل القرآن من عند الله فيه ، قال تعالى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ] ( ).
الثالث : إقتران فريضة الصيام بشهر رمضان ، ومن الإعجاز الملازمة بين كل يوم من أيام شهر رمضان وبين صيام المسلمين والمسلمات ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( ).
الرابع :وجوب صيام شهر رمضان , وإنبساط هذا الوجوب على المكلفين من المسلمين والمسلمات ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( ).
الخامس : مجئ ليلة القدر في ليالي شهر رمضان ، والتردد فيها في الليالي العشرة الأخيرة من الشهر ، ليجتهد المسلمون فيهن بالدعاء والإستغفار والعبادة .
وكما ذكر شهر رمضان في القرآن فقد ذكرت ليلة القدر فيه مع ذكر عظيم فضلها ، ولزوم الإنتفاع الأمثل منها ، قال تعالى [لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ]( ) .
ومن فيوضات شهر رمضان إتمام هذا الجزء وهو إشراقة علمية وحلة من المعارف القرآنية تطل على أهل الأرض الموجود والمعدوم ، ليكون علوم والتفسير عامة مناراً للعلماء , ومنهاجاً للصلاح , ومصداقاً لما نلهج به كل يوم في الصلاة متضرعين إلى الله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
الحمد لله الذي أنعم علينا بتوالي أجزاء هذا التفسير بفيض ولطف منه سبحانه ، وآية في إثارة ذخائر القرآن ، وفيه شاهد على أن علوم القرآن من اللامتناهي ، وإخبار للناس بأن ما أستقرأ من كنوز القرآن كالقطرة من البحر الزاخر بالدرر واللآلئ .
ومن علوم القرآن الناسخ والمنسوخ ، مع مرور أكثر من ألف وأربعمائة سنة على نزول القرآن فان الدراسات والتحقيق فيه لا زالت في بداياتها ، ولم يتفق العلماء على معشار من الآيات التي قيل أنها منسوخة ، وأغلب الآيات التي يقال أنها منسوخة يأتي تفسير وبيان ينفي هذا النسخ ، وهو من مصاديق قانون عجز العقول عن إدراك كنه آيات القرآن وما فيها من الدلالات التي تتجدد وتستحدث في كل أوان وعند كل مناسبة وحال، والنسخ تعقب شئ أو حكم لمثله وحلوله محله ، ومنه نسخ الشمس للظل، لأنها تطلع على ذات الموضع الذي كان فيه الظل .
وورد النسخ بقوله تعالى[مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا]( ) وفي معناه وجوه :
الأول : إرادة الآية الكونية، قال تعالى[وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ]( ).
وفيه دعوة للناس عامة والمسلمين خاصة للدعاء والتضرع لتثبيت الآية التي فيها نفع للناس ومحو البلاء والشدة والآفات السماوية والأرضية.
لقد جعل الله عز وجل كل آية قرآنية رحمة لأهل الأرض، وهل هو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) الجواب نعم .
فالآية أعلاه إنحلالية من جهات :
الأولى : كل آية من القرآن رحمة .
الثانية : ليس من حصر لوجوه الرحمة في الآية القرآنية .
الثالثة : كل فرد من السنة النبوية القولية والفعلية رحمة بالناس .
الرابعة : إستدامة الحياة الإنسانية ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : توارث المسلمين تلاوة القرآن وأحكام الإسلام ، وفي كل زمان يشرق عليهم علم الناسخ والمنسوخ , ويغادر كل جيل من المسلمين الدنيا وهم لم يحيطوا علماً بمسائل قانون (الناسخ والمنسوخ في القرآن ) .
السادسة : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالجن أيضاً وهو من مصاديق العموم في قوله تعالى [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) فلم تقل الآية (رحمة بالناس).
ومن الدلائل على هذه العموم قوله تعالى [وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ]( ).
الثاني : المقصود آيات القرآن وما يطرأ عليها من الناسخ , أو تكون من المنسوخ ، وفي قوله تعالى [نُنسِهَا]وجوه :
الأول : ننسها أي نمحها .
الثاني : إرادة تثبيت الآية ، وننسها بمعنى نمسكها ، لذا ورد في مصحف عبد الله بن مسعود ( ما نمسك من آية أو ننسخها نجئ بخير منها أو مثلها)( ).
الثالث : المقصود تأخير الآية ، فمنهم من قرأ (ننسأها) ويقال نسأت الأمر أخرته إلى أجل آخر ، ومنه بيع النسيئة .
وملاك النسخ في القرآن هو الرحمة والإرفاق بالمسلمين والتخفيف عنهم ومجئ الدليل بالرخصة ورفع الحرج ، وأختتمت آية النسخ بقوله تعالى [أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) ويعلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون أن الله عز وجل هو الملك القادر على كل شيء .
ولا تستعصي عليه مسألة ، لبيان أن باب الدعاء مفتوح للمسلمين إلى يوم القيامة , وأن النسخ عون لهم في تقريب الحوائج وإزاحة الموانع عن بلوغ الرغائب .
ترى ما هي النسبة بين قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ]( )وقوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا] ( ).
أو قل ما هي النسبة بين قانون المحو والإثبات وقانون النسخ ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق .
فمضامين آية المحو أوسع وأعظم وأكبر ، ترى هل يمكن ترجيح الوجه الأول بأن المقصود بالنسخ هو الآيات الكونية لقوله تعالى في آية النسخ [نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا]إذ ليس من تفاضل في آيات القرآن ، وكلها كلام الله الذي [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ] ( ) .
الجواب لا ، مع إمكان الجمع بين الوجهين , لأن المراد من الخير والتفضيل في المقام هو النفع للمسلمين والناس جميعاً ، لذا كانت الآية السابقة لآية النسخ خطاباً للمسلمين ، وورد فيها لفظ الخير وانه ينزل من عند الله بقوله تعالى [مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ( ) .
لبيان أن النسخ رحمة بالمسلمين وخير نازل من عند الله على نحو التجدد وأنه رحمة خصّ الله عز وجل بها المسلمين ، ومن الإعجاز في نظم الآيات إختتام الآية أعلاه بقوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ثم جاءت آية النسخ لبيان أن النسخ رحمة بالناس جميعاً ، وفيه أمارة على أن آيات الصفح والعفو والموادعة لن تنسخ بآية السيف خاصة وأن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كافية لجذب الناس للإيمان ، وبعث النفرة في النفوس من مفاهيم الكفر والضلالة وعبادة الأوثان .
ومن قواعد النسخ أنه لا يقع إلا عند تعذر الجمع بين آيتين ، وذات الأمر متعذر ، فليس من آيتين في القرآن إلا ويمكن الجمع بينهما .
ولقد جاء الجزء السابق وهو الثاني والأربعين بعد المائة من ( معالم الإيمان في تفسير القرآن ) بتتمة تفسير الآية التسعين والحادية والتسعين بعد المائة من سورة البقرة وهما (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) ( ).
وقلنا تتمة لورود تفسير هاتين الآيتين ضمن تفسير سورة البقرة من هذا السفر( ).
ويمكن الإستدلال بآية النسخ وقوله تعالى [نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا] على أن القرآن لا ينسخ بالسنة النبوية ، لأن السنة ليست خيراً من القرآن ولا مثله ، وإن كانت من الوحي , بالإضافة إلى دلالة الآية أعلاه على صدور النسخ من عند الله عز وجل ، ولا يجوز التقليل من شأن وموضوعية علم الناسخ والمنسوخ في القرآن فهو من درر العلم السامية .
عن أبي عبد الرحمن السلمي قال (مرّ علي بن أبي طالب برجل يقص فقال : أعرفت الناسخ والمنسوخ؟ قال : لا . قال : هلكت وأهلكت) ( ).
وظاهرة تعلق النسخ بحكم الآية وليس رسمها ، وتقدير الآية : ما ننسخ من حكم آية أو ننسه نأت بخير منه أو مثله.
والأصل هو حمل اللفظ على معناه الحقيقي ، وقيل إرادة نسخ حكم الآية من المجاز وخلاف الأصل ، ولكن لا تصل النوبة إلى المجاز إنما الحكم هو من ذات الآية ومن رشحاتها ، وفي التنزيل [إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ] ( ).
وجاء هذا الجزء من التفسير وهو الثالث والأربعين بعد المائة في مسألة نسخ بضع آيات من سورة البقرة وآل عمران وقراءة في موضوع نسخها أو عدمه ، مع إمكان الجمع بين الآية الناسخة والمنسوخة فمن شرائط النسخ عدم إمكان الجمع بين الآيتين .
وفي قوله تعالى [لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ] قال ابن سلامة : نسخ هذا بآية السيف على قول جماعة ) ( ) وفيه مسائل :
الأولى : إرادة بيان أن الأقل هم الذين قالوا بنسخ هذه الآية بآية السيف، وأن الأكثر من المفسرين لم يقولوا به ، وهو ظاهر كلامه .
الثانية : ظاهر كلام ابن سلامة أنه لا يقول بهذا النسخ لنسبته إلى جماعة.
الثالثة : لم يبين موضوع النسخ ودليله وإكتفى بذكر قول جماعة .
الرابعة : إحصاء بعض المؤلفين لما ذكر من الآيات المنسوخة سواء بآية السيف أو غيرها ليس بحجة .
فليس للباحثين الإكتفاء بنقل هذه الأقوال بل لابد من التحقيق فيها أو لا أقل ذكر العلماء الذين لم يقولوا بنسخ تلك الآيات .
ولو ورد تفسير للآية في كتب بعض العلماء ولم يذكر أن الآية منسوخة أو أنها غير منسوخة ، فينزل الكلام على الأصل وهو أن الآية غير منسوخة ، وهل ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القول بأن من إحدى آيات القرآن منسوخة أي أنه قال هذه الآية نسختها الآية الفلانية ، أو العكس، كما لو قال هذه الآية نسخت الآية أو الآيات الفلانية , بلحاظ أن النسخ هو رفع الحكم الثابت الظاهر في إطلاقه الزماني .
الجواب لا، فكيف بالقول بأن آية السيف نسخت مائة آية من القرآن .
إن عدم ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآية منسوخة من القرآن بعينها آية إعجازية من جهات :
الأولى : علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتجدد مضامين ودلالات الآية القرآنية وإلى يوم القيامة .
الثانية : ترغيب المسلمين بكل آية من القرآن رسماً وتلاوة ومضموناً وتفسيراً .
الثالثة : عدم التعجيل بالقول بنسخ الآية القرآنية .
الرابعة : دلالة ضبط المسلمين للأحاديث النبوية وعدم الوضع فيها ، وطرح الحديث الموضوع وعدم تثبيته في كتب المسلمين .
الخامسة : تعددت علوم الناسخ والمنسوخ ، وذكروا بعض الآيات التي تكون ناسخة ومنسوخة في ذات الوقت , ويحتاج إلى الدليل في نسخها لغيرها وفي صيرورتها منسوخة .
وقد تذكر آية بأنها منسوخة ، ثم يقع الإختلاف في الناسخ ، ويكون مردداً بين عدة آيات ، وقد تذكر معها السنة النبوية كناسخ محتمل .
وسيأتي في تفسير قوله تعالى [لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ] ( )أن بعضهم قال بأنها منسوخة بالنهي عن السلام على الكفار ، لورود لفظ [سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ] في ذات الآية ، ومنهم من قال أنها منسوخة بالأمر بالقتال ومنهم من تأولها فأباح السلام على الكفار( ) .
ومن مسائل النسخ أن بعض العلماء يقول بنسخ الآية ويقصد نسخ شطر منها ، إذ أن الشطر الآخر لا يقبل النسخ , أو يريد معنى الإستثناء .
وقد يستدل بقول أو فعل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نسخ آية كما في قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] ( ) (نسخها الله تعالى بآية السيف)( ).
ولا دليل على النسخ في المقام من جهات :
الأولى : المدار على عموم اللفظ للآية القرآنية وليس سبب النزول وحده.
الثانية : يمكن الإنتفاع من سبب النزول وموضوعيته في تفسير الآية .
الثالثة : الإجماع بأن تمام الآية غير منسوخة باستثناء قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] ( ) .
الرابعة : القول بأن قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] ( ) محكم مصداق لقوله تعالى [فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( ) وشاهد على أن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية كافية في الدعوة إلى الإسلام.
الخامسة : إرادة إستثناء الذين كفروا من قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] ( ) لأنهم ليسوا على دين وملة لقانون وهو أن الإشراك بالله ليس ديناً ، إنما هو جحود وصدود عن الحق ، وقد قال تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
السادسة : من إعجاز القرآن الغيري أنه يتضمن الإحتجاج على أهل كل ملة وزمان , فتعالت أصوات في هذا الزمان بأن الإسلام إنتشر بالسيف , فكان قوله تعالى[لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ]( )، رداً عليهم , ونصراً للنبوة الخاتمة, فلماذا القول بأنه منسوخ .
السابعة : ترى ماذا تدل السنة النبوية هل الآية منسوخة أم لا , الجواب لا , بشواهد من السنة تتضمن عدم إكراه عدد من الناس على الإسلام حتى بعد نزول هذه الآية , وعلى المهادنة مع أهل الكتاب ممن لم يحارب الإسلام, وفي مضامين رسائل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملوك زمانه حجة وبرهان لأنه كان يرغبهم بالإسلام ويبين أنه دين الله , وأن الله سبحانه بعثه رسولاً للناس جميعاً .
ومن نعم الله عز وجل أني أقوم بالتأليف والتصحيح والمراجعة لكتبي في التفسير والفقه والأصول والأخلاق بمفردي ليس معي إلا رحمة الله وعظيم فضله وإحسانه .
وفي قوله تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ] ( ) ورد عن أنس قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { قل بفضل الله وبرحمته } قال : فضل الله القرآن ، ورحمته أن جعلهم من أهله) ( ).

حرر في 5/تموز/2016
29 شهر رمضان 1437

الآية الأولى
قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) ذكر أن الآية منسوخة بآية السيف)( ).
وتبعث هذه الآية المسلمين على العفو والرحمة ، وتدعوهم إلى الشفقة وتذكرهم بأمور :
الأول : حاجة المسلمين إلى رحمة الله ، لقد جعل الله عز وجل الإنسان ممكناً ، وكل ممكن محتاج , وأظهر معاني الحاجة في الحياة الدنيا ، وهي الحاجة إلى رحمة الله .
الثاني : تذكير المسلمين بلزوم تعاهد الإستغفار والتوسل إلى الله عز وجل لطلب العفو والمغفرة .
الثالث : إخبار الآية عن قانون يشمل الحياة الدنيا وعالم الآخرة ، وهو [اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ].
الرابع : بيان مصداق لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بأن أخبرت آية البحث بأن الله عز وجل غفور ورحيم للناس جميعاً .
وليس من برزخ وحاجب بين رحمته وبين الناس جميعاً وليس من واسطة لمغفرته للناس.
ومن معاني الآية أنها تخاطب كل إنسان بأن حبلاً ممدوداً بينك وبين الله فبادر إلى الإستغفار، وفاز برحمة الله.
كما تدعو الذين قاتلوا المسلمين بأن يلجأوا إلى التوبة والإنابة ، وتبين الآية قانوناً وهو أن توبة هؤلاء الكفار وغيرهم لا تتعلق برضا وعفو المسلم الذي قاتله هؤلاء الكفار ، وإذا كان أحدهم قتل مؤمناً أو أكثر في معركة بدر أو أحد ، فهل يعفو الله يوم القيامة ، أم لابد من عفو الذين قتلهم عنه، لأنهم يبعثون يوم القيامة بدمائهم وجراحهم .
الجواب هو الثاني ، ولكن الله عز وجل يتفضل عليهم بالهبات العظيمة حتى يرضوا عن المؤمن الذي قتلهم في أيام كفره وجحوده .
وهو من مصاديق قوله تعالى [فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] لبيان قانون وهو أن الله عز وجل يعطي المؤمنين من فضله ما يجعلهم يرضون عمن آذاهم وأخرجهم من ديارهم وقتل بعضهم إذا تاب إلى الله عز وجل وحسن إسلامه .
وأخرج الترمذي وغيره بسند ضعيف عن أنس قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن داود النبيّ حين نظر إلى المرأة( ) وأهم،
قطع على بني إسرائيل، وأوصى صاحب البعث , فقال : إذا حضر العدو فقرّب فلاناً بين يدي التابوت، وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به من قدم بين يدي التابوت وكان التابوت لم يرجع حتّى يقتل أو ينهزم عنه الجيش، فقتل زوج المرأة .
ونزل الملكان يقصان عليه قصته، ففطن داود فسجد، فمكث أربعين ليلة ساجداً حتّى نبت الزرع من دموعه وأكلت الأرضة من جبينه، وهو يقول في سجوده : ربّ زلّ داود زلة أبعد ممّا بين المشرق والمغرب، ربّ إن لم ترحم ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثاً في الخلوف من بعده.
فجاءه جبرئيل (عليه السلام) من بعد أربعين ليلة , فقال : ياداود إن الله غفر لك الهمّ الذي هممت به.
فقال داود : عرفت أن الربّ قادر على أن يغفر لي الهمّ الذي هممت به،
وقد عرفت أن الله عدل لا يميل، فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال: ربّ دمي الذي عند داود؟ فقال جبرئيل : ما سألت ربك عن ذلك،
ولئن شئت لأفعلن. قال : نعم. فعرج جبرئيل وسجد داود فمكث ماشاء الله ثم نزل،
فقال : قد سألت الله تعالى ياداود عن الذي أرسلتني فيه فقال : قل لداود إن الله يجمعكما يوم القيامة فيقول له هِب (لي) دمك الذي عند داود. فيقول : هو لك يارب. فيقول : فإن لك في الجنّة ما شئت وما اشتهيت عوضاً) ( ).
والحديث ضعيف بابن لهيعة ويزيد بن أبان الرقاشي , والمراد بالملكين هو قوله تعالى[وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ* إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ]( ) ويسأل الملكان داود الهداية إلى سواء الصراط في موضوع الخصومة, وما فيه من الموعظة, وهو خليفة الله في الأرض , قال تعالى[يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين والمسلمات بأن يسألوا الله عز وجل الهداية إلى الصراط المستقيم .
والنهي ترك فعل إبتداء أو إستدامة أما الإنتهاء فهو الكف عن الفعل ، ومن الإعجاز في آية البحث أنها لم تأمر الذين كفروا بالإنتهاء من الكفر وقتال المسلمين , ولكنها أخبرت عن إحتمال إنتهائهم عن قتال المسلمين .
نعم وردت آية تدعو الذين كفروا بالكف عن الكفر والجحود وعن قتال المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
ولكن هذه الآيات تتضمن حمل الذي يقاتلون المسلمين على الإنتهاء من قتالهم ، ومن أسرار قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا] أمور :
الأول : بيان قانون أن الذين كفروا لا ينتهون عن قتال المسلمين إلا بملاقاتهم بالسيوف بقوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ]( ).
الثاني : بعث المسلمين على الجهاد والبذل في سبيل الله بلباس التقوى إلى أن ينتهي الكفار عن قتالهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ]( ).
الثالث : لزوم تعاون المسلمين في قتال الذين كفروا لمجئ آية القتال بصيغة الجمع الإستغراقي للمسلمين جميعاً بالقتال ، فان قلت من المسلمين لا يجب عليه القتال ، قال تعالى [لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ] ( ) , والجواب هذه صحيح , وفيه مسائل :
الأولى : خروج الذين لا يقدرون على القتال بالتخصيص من لزوم الإمتثال للأمر الإلهي [وَقَاتِلُوا..].
الثانية : من معاني صيغة العموم في آية البحث إرادة مساهمة كل المسلمين في القتال ومقدماته , وتهيئة أسباب النصر للمسلمين .
الثالثة : يجب على الذي لا يستطيع القتال أن لا يصدّ الذين يقاتلون في سبيل الله عن الدفاع عن بيضة الإسلام .
الرابعة : آيات القتال حرب على النفاق ، ومانع من قيام المنافقين بالإرجاف في المدينة وإثارة الشكوك ، وفي التنزيل [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا] ( ).
وعلى القول بأن قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]آية غير منسوخة , وهو المختار , فيحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة قتل المشركين وإن إنتهوا عن القتال لأن آية السيف تقول [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ] ( ) ولكن الآية أعلاه تأمر المسلمين بالكف عن الذين كفروا عند توبتهم وصلاحهم .
أما آية البحث فان معناها أعم ويشمل بلحاظ هذه الآيات وجوهاً :
أولاً : إرادة إنتهاء الذين كفروا من قتال المسلمين .
ثانياً : المقصود توبة الذين كفروا .
ثالثاً : المراد إنتهاء الذين كفروا عن الفتنة والتحريض على المسلمين ومحاولة تفريق صفوفهم .
رابعاً : إمتناع الكافرين عن التعدي والظلم لقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ].
وتلك آية إذ يتوجه النهي إلى المسلمين عن الإعتداء والظلم ، ثم تبين الآية قانوناً محكماً صريحاً لا يقبل النسخ أو الإجمال أو الترديد وتعدد التأويل .
الثاني : البشارة بامتناع الذين كفروا عن قتال المسلمين , وتنسب الآية الإنتهاء إلى الذين كفروا أنفسهم , ترى لماذا لم تنسب الآية إنتهاءهم إلى علته , كما لو قالت : فان جعلتوهم ينتهون ) الجواب من جهات :
الأولى : من رحمة الله عز وجل نسبة الإنتهاء إلى الذين كفروا رجاء فوزهم برحمة الله بدخولهم الإسلام , وفيه حجة على الذين يصرون على البقاء في منازل الكفر , بأن هذا البقاء باختيارهم .
الثانية : إنتهاء الذين كفروا عن قتال المسلمين أمر وجودي وفعل وعمل من قبل الذين يكفون عن القتال .
الثالثة : مجئ الآية بصيغة الفعل المبني للمعلوم [فَإِنْ انتَهَوْا] لا يمنع من تقدم هذه الإنتهاء بالسبب والعلة , وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : فان انتهوا يبعث الله عز وجل الرعب والخوف في قلوبهم ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ) ويكون الرعب مقدمة للإنتهاء والكف عن قتال المسلمين .
ثانياً : فان إنتهوا بفضل الله عز وجل على المسلمين .
ثالثاً : فان إنتهوا لأن الله عز وجل جعلهم ينتهون , ويكفون عن قتال المسلمين , وعن أم سلمة (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول : اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك . قلت : يا رسول الله وإن القلوب لتتقلب؟! .
قال : نعم . ما من خلق الله من بشر من بني آدم إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله ، فإن شاء الله أقامه ، وإن شاء أزاغه . فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب. قلت : يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي . قال : بلى . قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي ، وأذهب غيظ قلبي ، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني ) ( ).
رابعاً : كفّ الكفار عن القتال من الشواهد على أن نزول آيات القتال كان حاجة وسبباً للنفع العام ، ومن مفاهيمه لولا نزول آيات القرآن لما إنتهى الذين كفروا عن قتالكم وعن الشرك والضلالة .
خامساً : فان انتهوا بمشيئة الله ، وله سبحانه الأمر كله ، قال تعالى [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ] ( ).
الثالث : وهو عدم حب الله عز وجل للمعتدين ) لبيان حرمانهم من الأجر والثواب ، وحجب فضل الله عز وجل عنهم ، وإن كانت رحمته تأتيهم في الدنيا لأنها دار الرحمة للبر والفاجر .
وهل يصح تقدير قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( )، أي لا يحب الله المعتدين حتى على الذين كفروا ممن يقاتل المسلمين أم أنهم خارجون بالتخصيص أو التخصيص من معاني الإعتداء لأنهم يستحقون التعدي ، الجواب هو الأول ، وأن الله عز وجل لا يرضى بالإعتداء على الذين كفروا أيضاً ، ولكن ليس كل إعتداء ، إذ قال تعالى [فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] .
وتدل الآية في مفهومها على نهي المسلمين عن معاقبة الذين كفروا بأكثر من تعديهم على الإسلام والمسلمين، وهو من مصاديق المثلية في الإعتداء الوارد في الآية ، وقد يظن بعضهم بوجود تضاد بين قوله تعالى [ولا تعتدوا] وقوله تعالى [فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] .
ولكن المراد من الآية أعلاه هو : قاتلوا الذين كفروا مثلما قاتلوكم وتقدير ( لا تعتدوا ) على وجوه :
أولاً : لا تعتدوا بالقتال في الشهر الحرام .
ثانياً : لزوم إستحضار المسلمين تقوى الله عز وجل في الوجود الذهني وفي الفعل ومنه الرد على الذين كفروا في تعديهم وظلمهم ، ومن مصاديق التقوى في المقام صيرورة الرد عليهم دعوة لهم وللناس لدخول الإسلام .
ثالثاً : من اعتدى عليكم في الشهر الحرام فاعتدوا عليه بالشهر الحرام ومن اعتدى عليكم بالأشهر الحلّ فأعتدوا عليه بالحل ّ .
(عن ابن عباس : في قوله { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وقوله { وجزاء سيئة سيئة مثلها }( ) وقوله { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل }( ) وقوله { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به }( ) قال : هذا ونحوه نزل بمكة ، والمسلمون يومئذ قليل فليس لهم سلطان يقهر المشركين ، فكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى ، فأمر الله المسلمين من يتجازى منهم أن يتجازى بمثل ما أوتي إليه أو يصبر أو يعفو ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وأعز الله سلطانه أمر الله المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم ، ولا يعدو بعضهم على بعض كأهل الجاهلية ، فقال
{ ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً }( ) الآية . يقول : ينصره السلطان حتى ينصفه من ظالمه ، ومن انتصر لنفسه دون السلطان فهو عاص مسرف ، قد عمل بحمية الجاهلية ولم يرض بحكم الله تعالى) ( ).
ومن إعجاز القرآن تأكيده على الصبر ، ومجئ الآيات بالحث على الصبر من جهات :
الأولى : بيان الملازمة بين الإيمان والصبر .
الثانية :ذكر القرآن لصبر الأنبياء السابقين وتحملهم وانصارهم وأتباعهم المشاق والأذى في جنب الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ) .
وجاءت السنة النبوية ببيان صفحات مشرقة من صبر الأنبياء ، لتكون موعظة ودرساً للمسلمين .
الثالثة : الأمر المتعدد من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر على الأذى ، قال تعالى [وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ] ( ) وفي الآية أعلاه مسائل :
الأولى : رجحان كفة الصبر وهو محبوب وحسن ذاتاً وأثراً .
الثانية : تزكية قول وفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : الصبر أمر وجودي ، فيه الأجر والثواب .
الرابعة : صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الخامسة : حث المسلمين على قبول صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرضا به ، وإتخاذه منهجاً .
السادسة : صيرورة صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة وبرهاناً بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف إنما إنتشر بصبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
السابعة : صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة للناس لدخول الإسلام ، وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) ( ) وفيه بلحاظ قوانين صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مسائل :
الأولى : تحمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أشد الأذى ، وإظهاره الصبر معه .
الثانية : تنمية ملكة الصبر عند المسلمين والمسلمات .
الثالثة : بيان قانون التناسب الطردي بين علو المرتبة في الإيمان وبين الأذى .
الرابعة : تأكيد مصداق لأفضلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين .
الخامسة : بيان قانون تلقي الأنبياء الأذى في جنب الله ، فمع أنهم أفضل الناس وليس منهم أحد إلا وقد تلقى الوحي من عند الله ، إلا أن الله عز وجل أذن في تلقيهم الأذى من القوم الكافرين ، ليكونوا أسوة للمؤمنين ، قال تعالى [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ] ( ).
السادسة : في هذا الحديث دعوة للمسلمين والمسلمات للتفقه في الدين، والإرتقاء في المعارف الإلهية والإحاطة بشطر من قصص الأنبياء والآيات التي تتضمن الإخبار عن أذاهم ، فمثلاً تلقي نوح من قومه أشد الأذى ، وفي التنزيل [قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ] ( ).
أي نرميك بالحجارة حتى تموت ، وذم الذين كفروا أتباع نوح من المؤمنين بما يتضمن إيذاءه والتعدي عليه ، كما ورد في التنزيل [وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ] ( ) أي سفلة الناس .
وعن مجاهد وقتادة (في قوله { واتبعك الأرذلون } قال : الحوّاكون ) ( ) ولكن الآية أعم ، ولا تختص بصنف وأهل صنعة من الناس ، فمن الشواهد على صدق النبوة تفضل الله عز وجل بجعل الذين يتبعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مختلف الرتب والمهن والأنساب ، نعم أكثرهم من المستضعفين ، ليكون إيمانهم وإيمان غيرهم حجة في إجتماعهم وزوال الفوارق بينهم بالإيمان ، وعن مجاهد قال (مكث نوح عليه السلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يصيح ويدعوهم إلى الله يسره إليهم ثم يجهر به لهم ، ثم أعلن أي جهر في دعوته وأخذ يناديهم ويحثهم على الإيمان .
فجعلوا يأخذونه فيخنقونه حتى يغشى عليه فيسقط على الأرض مغشياً عليه ، ثم يفيق فيقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون .
فيقول الرجل منهم لأبيه : يا أبت ما لهذا الشيخ يصيح كل يوم لا يفتر؟ فيقول : اخبرني أبي عن جدي أنه لم يزل على هذا منذ كان ، فلما دعا على قومه أمره الله أن يصنع الفلك فصنع السفينة ، فعملها في ثلاث سنين كلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه يعجبون من نجارته السفينة) ( ) .
وإذ توعد نوحاً قومه برجمه فان قوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كفار قريش سعوا إلى قتله وباشروا فعل القتل وكسروا رباعيته وأسالوا الدماء من وجهه الشريف وهو يتنادون قُتل محمد .
و(عن خالد بن رباح، عن الأعرج، قال: لما صاح الشيطان إن محمداً قد قتل، قال أبو سفيان بن حرب: يا معشر قريش، إيكم قتل محمداً؟ قال ابن قميئة: أنا قتلته. قال: نسورك كما تفعل الأعاجم بأبطالها) ( ).
وبعث الله عز وجل هوداً إلى قومه ، (وقال ابن إسحاق : هود بن (شالخ) بن أرفخشد بن سام بن نوح) ( ).
وقيل بينه وبين نوح بطون متعددة تصل إلى سبعة ، وكان هود في حال غنى وسعة وثروة وقوة ، ولكنهم جحدوا بنبوته ونعتوه بالكذب والسفاهة ، وفي التنزيل [قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ] ( ) والملأ هم وجهاء القوم ، وسادات البلد وأهل الحل والعقد ، والمراد من السفاهة خفة العقل والجهالة والضلالة .
وذكّرهم هود بنعم الله عز وجل عليهم ، كما ورد في التنزيل [وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً] ( ) وقد ذكرت أقوال في ضخامة أجسادهم .
(وقال الكلبي : كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستّين ذراعاً. وقال أبو حمزة الثمالي : سبعون ذراعاً. وقال ابن عباس : ثمانون،
وقال وهب : كان رأس أحدهم مثل قبة عظيمة وكان عين الرجل يفرخ فيها السباع)( ).
وتحتاج هذه الأقوال إلى دليل , وقد يكشف التنقيب عن الآثار بعض الحقائق عن طول الإنسان في الأحقاب البالية ، وهل هو بمثل قياس وطول الإنسان في هذه الأزمنة ، ومنذ أيام النبوة وضبط الأوصاف من ذاتها لمعدل متوسط طول الإنسان , أم غيره وأطول منه بكثير .
والمختار هو الأول ، وإذا كانت هناك فوارق فهي بمقدار يميزهم عن غيرهم ، ليكون حجة ودعوة لشكر الله على هذه النعمة ، والذراع وحدة قياس يبلغ طولها خمسة وسبعين سنتمترا وقيل أقل من هذا الطول .
ولاقى نبي الله صالح عليه السلام من قومه الأذى الشديد ، وجحدوا بآية الناقة التي كانت معجزة حسية جلية ، ونعتوه بأنه مسحور كما ورد في التنزيل [قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ] ( ).
أي من المسحورين الذين عمل بهم السحر وجعلوا يتصرفون تحت أثر السحر ، وليس بارادتهم لغرض تكذيبه في دعوته لعبادة الله ، أما النبي محمد فقد كان الأذى الذي لاقاه أشد وأمّر إذ نعتوه بأنه ساحر ، وفي التنزيل [قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ] ( ) فلم يكتفوا بنعته بالساحر بل رموه بالجنون ، لصد الناس عن معجزاته .
(وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب من عاش بعد الموت وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس؛ أن صالحاً بعثه الله إلى قومه فآمنوا به ، ثم إنه لما مات كفر قومه ورجعوا عن الإِسلام ، فاحيا الله لهم صالحاً وبعثه إليهم فقال : أنا صالح , فقالوا : قد مات صالح ، إن كنت صالحاً { فأت بآية إن كنت من الصادقين } ( ) .
فبعث الله الناقة فعقروها وكفروا فاهلكوا ، وعاقرها رجل نساج يقال له قدار بن سالف) ( ) .
ولكن تكذيب قوم صالح له كان في حياته وقبل أن يموت , وهو المتبادر من ظاهر الآيات , والتبادر من علامات الحقيقة .
وجاءت آية الناقة من غير أن يكون قد مات ثم بعث أما كونه مات ثم بعثه الله مرة أخرى فهو أمر جائز لعظيم قدرة الله ، ولكن لا دليل عليه في القرآن والسنة .
ويفتح قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]ذخائر وشآبيب من الرحمة والفيض من عند الله عز وجل إذ أنه يتضمن الوعد من عند الله للكفار الذين يقاتلون المسلمين بالعفو والمغفرة والرحمة إذا تابوا بلحاظ أن قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا]شرط يستلزم جواباً لأن الجملة الشرطية تتألف من جزئين :
الأول : جملة الشرط ، وفيها فعل الشرط مثل إذا ، لو ، إن , كما في آية البحث .
الثاني : جواب الشرط وهو الذي يأتي بعد الفاصلة التي بين الجزئين كالفاء.
ويدل بالأولوية أن قاتل النفس تقبل توبته ، ومن الإعجاز الغيري للقرآن تحقق المصداق الواقعي للوعد الإلهي أيام التنزيل ، فقد دخل الإسلام أكثر الذين حاربوا وقاتلوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، وتولي عدد منهم الأمرة والولاية والزعامة .
فمثلاً خالد بن الوليد الذي سبّب بخسارة المسلمين في معركة أحد بهجومه على الرماة المسلمين من الخلف وقتل وأصحابه من خيالة الكفار من تبقى من الرماة المسلمين وعددهم نحو ثمانية مع أميرهم عبد الله بن جبير، وعندما دخل خالد الإسلام تولى الأمرة في غزوات عديدة , وكان من الأمراء عند فتح مكة.
ترى لماذا لم تقل الآية (فان انتهوا فان الله يغفر لهم )الجواب إرادة المعنى الأعم في الآية , ليكون من معانيها وجوه :
الأول : فان انتهى الذين كفروا عن قتالكم فان الله غفور لكم .
الثاني : فان انتهى الذين كفروا عن قتالكم فان الله غفور لهم .
الثالث : فان انتهى الذين كفروا عن قتالكم فان الله رحيم بهم .
الرابع : فان انتهى الذين كفروا عن قتالكم فالله رحيم بالمسلمين والناس من جهات :
الأولى : عدم إعانة الناس للذين كفروا في القتال لإنتفاء موضوع الإعانة وصيرورته سالباً بانتفاء الموضوع .
الثانية : توقف القتال مطلقاً تخفيف ورحمة إذ يتنفس الناس الصعداء ، ويداوون جراحاتهم ويعودون للحياة اليومية في العمل والتجارة والمكاسب.
الثالثة : إنتهاء الذين كفروا عن القتال نصر للإسلام ، وهذا النصر رحمة بالمسلمين والناس .
الرابعة : توبة الذين كفروا مناسبة لتفقههم في الدين ، ومعرفتهم لأحكام الحلال والحرام .
الخامسة : عندما ينتهي الذين كفروا عن القتال يزول برزخ وغمامة بين الناس ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما فيهم الذين كانوا يقاتلون المسلمين , لذا ترى شطراً منهم دخل الإسلام فجأة وأخلص في إيمانه .
السادسة : من الرحمة في انتهاء الذين كفروا عن القتال توجه المسلمين إلى قتال غيرهم .
السابعة : في انتهاء الذين كفروا عن القتال إصلاح للذراري ، وقطع لدابر الفتنة في الأجيال اللاحقة ، ليكون من الإعجاز في قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] أن مغفرة ورحمة الله عز وجل بالمسلمين والناس متجددة إلى يوم القيامة .
ومن مصاديق ردّ وإحتجاج الله عز وجل على الملائكة حينما قالوا بصيغة الإستفهام [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) بيان أمور بخصوص موضوع آية الإنتهاء هذه :
الأول : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند طغيان الكفر والضلالة وتفشيه في البيت الحرام الذي جعله الله عز وجل [مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا]( ).
ومن معاني الأمن في الآية أعلاه أي الأمن من الشرك والكفر والضلالة لذا جاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة الناس جميعاً .
الثاني : مبادرة أهل البيت والصحابة من المهاجرين والأنصار للتصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإعانته ونصرته ، وتحمل الأذى والمشاق في طلب مرضاة الله عز وجل .
الثالث : توالي نزول آيات القرآن التي تتضمن الأوامر والنواهي ، والتدريج في مراتب القتال وملاقاة الأعداء , وهو من أسرار نزول آيات القرآن نجوماً آية بعد آية , وآيات بعد آيات , وسورة بعد سورة .
الرابع : نزول آيات الأمر للمسلمين بالقتال مع تقييده بما يتضمن الإعجاز في الضبط والدقة , وعدم التجاوز عن السبل التي تحقق الغايات الحميدة من القتال .
وفي الآية ترغيب بالإيمان ودعوة له من جهتين :
الأولى : حث الذين كفروا على التوبة والإنابة .
الثانية : دلالات قوله تعالى(فإن إنتهوا) وفيه وجوه:
الأول : بيان قانون وهو أن الله عز وجل يحب إنتهاء الذين كفروا عن الكفر، لما في هذه الجملة الشرطية من دعوة لهم للإيمان وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثاني : تدل الآية بالدلالة التضمنية على وجوب أخذ المسلمين الحيطة والحذر من القوم الكافرين لأنها تبين أن عدوهم لا زال متربصاً بهم ، ويسعى للإضرار بهم فلابد من موضوعية لنظم الآيات في المقام ، وما تتضمنه الآية السابقة لقوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا]الذي إبتدأ بحرف العطف الفاء والآية التي قبلها هي [وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ]( ) .
ولبيان هل الآية منسوخة أو لا ، فلابد من تقدير الجمع بينها وبين الآية السابقة وهو على وجوه :
أولاً : وأقتلوهم حيث ثقفتموهم كي ينتهوا عن الكفر ) فان قلت القتل زهوق الروح وبالقتل ينتهي ذات الإنسان فلا يكون له فعل إختياري كالإنتهاء عن الكفر أو القتال ، والجواب من جهتين :
الأولى : تكون عقوبة الذين يقتل وهو متلبس بالكفر المصير إلى النار , قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] ( ).
والنسبة بين الذين تذكرهم الآية أعلاه والذين يقاتلون المسلمين منهم عموم وخصوص مطلق وعقوبة الذين يقاتلون المسلمين أشد .
الثانية : نجاة فريق من الذين كفروا من القتل ، بالكف عن القتال والهروب والإنزواء ، لذا فمن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وجاءت آية البحث لتبعث الذين كفروا على التوبة من قتال المسلمين والنجاة من شدة العذاب الذي يلاقيهم في الآخرة ، ومن قوانين النبوة أن كل نبي يدعو قومه للإسلام والنجاة من براثن الكفر , وما يتعقبه من العذاب الأليم ، وفي التنزيل [وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ] ( ).
(أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله { إني أراكم بخير} قال: رخص السعر { وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط })( ) .
وهذا جانب من تفسير الآية وبيان الأذى الذي يترشح عن الطمع وغلاء الأسعار ، والآية أعم في موضوعها إذ أن شعيباً يخاطب قومه جميعاً، البائع والمشتري ، وحتى الذي يتضرر من غلاء الأسعار أو لا صلة له بها، فيدعوهم إلى عبادة الله وأداء الفرائض وحسن المعاملة والتنزه عن الظلم ،لذا جاء ردهم بعد آيتين من الآية أعلاه بما يبين أنه يدعوهم لنبذ الأصنام وترك عبادة الأوثان ، وأنهم يأبون التخلي عنها أو عن الإحتكار وغلاء الأسعار [قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ] ( ).
وفي الآيات أعلاه شاهد على كون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر الأنبياء أذى من قومه وغيرهم ، إذ كان قوم شعيب ينصتون له ويجادلونه ، ويتوعدونه مع إعلان الإمساك عن الإضرار به ، كما ورد في التنزيل حكاية عنهم [وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ] ( ).
وعن الإمام علي عليه السلام أنه خطب (فتلا هذه الآية في شعيب { وإنا لنراك فينا ضعيفاً } قال : كان مكفوفاً ، فنسبوه إلى الضعف { ولولا رهطك لرجمناك } قال علي : فوالله الذي لا إله غيره ما هابوا جلال ربهم، ما هابوا إلا العشيرة ) ( ).
وفيه شاهد بأن الإمام عليه السلام يذكر في خطبه آيات من القرآن ويفسرها ويتخذها موعظة للناس ، ودعوة لهم للإخلاص في العبودية لله عز وجل ونبذ العصبية .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في المرسل قال كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ( ذاك خطيب الانبياء ” بحسن مراجعته قومه) ( ).
وعن محمد بن إسحاق قال (وشعيب بن ميكائيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعثه الله نبيا فكان من خبره وخبر قومه ما ذكر الله في القرآن وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذكره قال : ذاك خطيب الأنبياء لمراجعته قومه) ( ).
وإذ قال أهل مدين لشعيب لولا عشيرتك لقتلناك فان قريشاً أرادوا قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أن عشيرته هم رؤساء قريش ، ثم ساروا بالجيوش العظيمة لمحاربته وقتاله وأصحابه ومع هذا فان الله عز وجل رحيم بهم ويقول [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ].
ثانياً : وأقتلوهم حيث ثقفتموهم إن لم ينتهوا عن قتالكم ) لبيان أن المشركين يجتمعون بعد كل معركة بينهم وبين المسلمين ، ويتناجون بالزحف على المدينة ، وقتال المسلمين والطمع بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه إذ سعى رؤساء المشركين في بدايات معركة أحد إلى عزل وفصل الأنصار وحثهم على إجتناب القتال لإرادة تفريق أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإضعاف جيش المسلمين .
إذ أرسل أبو سفيان إلى الأنصار أن خلوا بيننا وبين ابن عمنا ، فننصرف عنكم ، فلا حاجة بنا إلى قتال ، فردوا عليه بما يكره .
والإنتهاء عن القتال أعم من أن يختص بسوح المعارك ، فمثلاً بين معركة بدر وأحد ثلاثة عشر شهراً ، ويصدق على الكفار في كل تلك الفترة أنهم لم ينتهوا عن القتال ، إذ كانوا يحرضون عليه ، ومنعوا البكاء على قتلاهم في مكة إلى أن يأخذوا الثأر ، وأوقفوا قافلة أبي سفيان القادمة من الشام وتتألف من ألف بعير محملة بالبضائع ولم يوزعوا البضائع على أهلها لإنفاقها في القتال ، وكذا بالنسبة للمدة بين معركة أحد والخندق التي تصل إلى نحو سنتين.
وهل كل المشركين لم ينتهوا عن القتال حتى فتح مكة الجواب لا ، ففي كل معركة بين المسلمين والذين كفروا يحصل شرخ في جيش الذين كفروا من جهات :
الأولى : سقوط عدد من المشركين قتلى في المعركة ، قال تعالى بخصوص معركة احد [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
وتبين الآية أعلاه قتل طائفة من الذين كفروا في كل معركة لهم مع المسلمين ، مع إصابتهم بالكبت والقهر والذل والهوان .
الثانية : وقوع أسرى من الذين كفروا بيد المسلمين ، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن معركة بدر وهي أولى معارك المسلمين وقع فيها من المشركين سبعون أسيراً ومن أسراره صيرورة المشركين في حال فزع وخوف من الأسر بيد المسلمين في كل معركة لاحقة لمعركة بدر ، وهو من أسباب إمتناع طائفة من الناس للمجئ مع جيش المشركين .
الثالثة : خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه للغزو بين الحين والآخر ، ليس من أجل القتال ، إنما لبعث الخوف في قلوب المشركين ، وإخبارهم عما عليه المسلمون من المنعة والقوة والقدرة على القتال , وبقاء المدينة في أمن .
الرابعة : دخول طائفة من الناس الإسلام ، من داخل مكة والمدينة والقرى المحيطة بهما ، ففي كل يوم يدخل إلى المدينة أفراد ووفود لإعلان إسلامهم .
الخامسة : حال القنوط واليأس التي أحاطت بالذين كفروا إذ يعودون في كل مرة من القتال مقهورين لم يبلغوا أي غاية لهم من القتال ، وهذه الحال من مصاديق قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
ومن الدلائل على عدم نسخ قوله تعالى[فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) المسائل المستنبطة من الجمع بين هذه الآية والآية أو الآيات السابقة لها .
ثالثاً : واقتلوهم حيث ثقفتموهم إن وجدتموهم يعدون العدة لقتالكم ، بلحاظ إن إستعداد العدو للقتال والزحف والغزو وتهيئة مقدماته يستلزم من المسلمين الحيطة والحذر ، فجاءت الآية للإذن بالإجهاز عليه وطلب أفراده مجتمعين ومتفرقين ، وفيه شاهد على كثرة عدد المسلمين وإنتشارهم في الأفاق ، وبلوغ أخبار العدو إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاً : وأقتلوهم حيث ثقفتموهم فان إنتهوا عن قتال المسلمين فهل يخرجهم المسلمون من الديار التي أخرجوهم منها أم لا ، وهل تفيد الواو في [وَأَخْرِجُوهُمْ]الجمع بين القتل والإخراج , أم أنها تفيد معنى العطف والإستئناف .
والمختار إخراج المسلمين لهم من الديار وإن إنتهوا عن قتالهم ما داموا بهيئة القتال ، ومن الإعجاز في الآية صيغة الجمع فيها بحيث لو كانوا أفراداً متفرقين ليس فيهم ضرر على الإسلام فهل يجب قتلهم وإخراجهم من الديار مثل مكة .
الجواب لا ، لحديث هذه الآيات عن الذين يقاتلون المسلمين من الكفار مجتمعين على الباطل , ومتحدين في التصدي والنبوة والتنزيل .
لذا فمن مصاديق الآية هو (وأقتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم حيث وجدتموهم )وأخرجوا الذين يقاتلونكم من حيث أخرجوكم ، وأجعلوا إخراجكم لهم من الديار في سبيل الله .
ليكون خالياً من العصبية والحمية ، كما أنه لا يخلف الضغائن والأحقاد والثارات ، وهو من الإعجاز في الغايات الحميدة في سبيل الله إذ أنها دعوة للإيمان موجهة من عند الله بالقرآن ومن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي ومن المسلمين بالأمر من عند الله إلى الذي يقاتلونهم وإلى الناس جميعاً .
ولو سعى المسلمون في طرد الذين كفروا من الديار ، ولكنهم توسلوا بالمسلمين بالبقاء وعزموا على الإستجابة لطلبهم وإبقائهم في سبيل الله رجاء إسلامهم ، فهل يصح هذا من المسلمين أم لابد من إخراجهم ، الجواب هو الأول ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] وهو من الشواهد على أن الآية أعلاه غير منسوخة ، وتقدير الآية وأخرجوهم من حيث أخرجوكم فان إنتهوا قبل الإخراج فكفوا أيديكم عنهم .
خامساً : هل المراد من الإنتهاء في قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا] قطع الفعل بعد الإبتداء به أم أنه يشمل الأمر والفعل الذي لم يؤت منه فرد , الجواب هو الأول ، إذ أخبرت هذه الآيات عن قتال الذين كفروا للمسلمين بقوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ].
وقيل بأن قوله تعالى (فإن انتهوا) نسخ معنى لأن تحته الأمر بالصفح (قل قتال) (لا إكراه) ( ).
ولم يرفع هذا القول إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو الصحابة أو الائمة ، كما أن دلالة الآية أعلاه لا تفيد أنها منسوخة فهي رحمة مزجاة للناس جميعاً ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ودعوة متجددة للذين يقاتلون المسلمين , ولغيرهم من عموم الناس من باب الأولوية القطعية.
الثالث : حث المسلمين على دعوة الذين كفروا إلى الهداية والإيمان، بالبيان والحجة والبرهان، قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند لقاء ومواجهة العدو في ميدان الوغى يدعوهم قبل القتال إلى الإيمان وينذرهم سوء عاقبة الكفر والصدود، ويحثهم على ترك الجهالة وطرد الغفلة ، ولا يقوم بالإبتداء بالقتال , ولا يأذن بالقتال حتى يبدأ العدو، لذا قال تعالى[فَإِنْ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ]( ).
وقال الطبري: فكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في قوله:”فإن انتهوْا فلا عُدوان إلا على الظالمين” لا يجوز أن يقول :”فإن انتهوا” إلا وقد علم أنهم لا يَنتهون إلا بعضهم، فكأنه قال: فإن انتهى بعضُهم، فلا عُدوان إلا على الظالمين منهم، فأضمر كما قال: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ( ) يريد: فعليه ما استيسر من الهدي، وكما يقول: “إلى مَن تقصد أقصد” يعني: إليه)( ).
ولكن معنى وأحكام الآية أعم من جهات :
الأولى :بيان الآية لقانون من الإرادة التكوينية قبل وبعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : إنذار الذين كفروا في كل زمان ومكان .
الثالثة : إرادة تفقه المسلمين في المعارف الإلهية .
الرابعة : صيرورة المسلمين في مقام الحكم وقد يواجه المسلم كافراً بعد المعركة ، ولا يعلم هل إنتهى عن القتال والعدوان والكفر أم لا , فتأتي هذه الآية لتكون مناراً وضياءً ينير للمسلم سبل الحكم في المقام ، فلا يقف المسلم متحيراً حتى يباغته الذي كفر .
فكما تخاطب الآية المسلمين مجتمعين فانها تخاطب المسلم المنفرد وتحول دون لحوق الضرر به , أو تعرضه للقتل بسبب الإحتياط والإحتراز ، وكذا تخاطب السرية من المسلمين والجماعة القليلة ، ليكون قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا] ترغيباً للمسلم بدعوة من يلاقيه من الكفار إلى الإسلام .
الخامسة : لما تفضل الله عز وجل وجعل المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) فانه سبحانه أصلح المسلمين للفصل والتمييز في الأمور ، والعمل وفق أحكام الآيات ، إذ يتضمن قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ]( ) ذكر ضدين :
الأول : الذين إنتهوا عن الكفر والجحود .
الثاني : الظالمون الذين بقوا مصرين على العناد .
والفيصل هو التوبة والإنابة .
ومن إعجاز القرآن أن لفظ [انتَهَوْا] ورد ثلاث مرات في القرآن ، وفيه مسائل :
الأولى : ورود هذه الثلاثة بصيغة الجملة الشرطية وبذات أداة الشرط مع الفاء [فَإِنْ انتَهَوْا].
الثانية : تعلق موضوع الإنتهاء بذات القوم الكافرين .
الثالثة : ورود فردين من هذا اللفظ في آيتين متتاليتين ، وفيه رحمة بالمسلمين ، وتخفيف عنهم في التفقه في أمور الدين لما في هذه الآيات من التعدد في الموضوع الذي يترتب على كفّ الكافرين عن قتال المسلمين وتوبتهم من الكفر والجحود ، وهذه الآيات هي :
الأولى : [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ] ( ).
الثانية : [فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( ).
الثالثة : ويحتمل المراد من لفظ [انتَهَوْا]في هذه الآيات وجوهاً :
أولاً : إرادة المعنى المتحد وهو واحد في كل هذه الآيات سواء المراد الإنتهاء عن قتال المسلمين أو عن الكفر .
وبين الأمرين عموم وخصوص مطلق ، فالذي ينتهي عن الكفر ويتوب إلى الله يكف عن قتال المسلمين لأنه يصبح واحداً منهم .
فان قلت قد يصير منافقاً ، الجواب حتى المنافق لا يقاتل المسلمين ، إنما يكون معهم ويحضر صلاة الجماعة ، ويخرج معهم للغزو ، ولكن الإيمان لم ينفذ إلى قلبه .
ثانياً : المراد من كل فرد من لفظ [انتَهَوْا]في هذه الآيات معنى مستقل ومنفصل عن الوارد في الآيتين الأخريين .
ثالثاً : إتحاد المعنى بين لفظين من هذه الثلاثة ، فالمقصود من لفظ [انتَهَوْا] الوارد في قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) هو ترك مواطن الكفر وإعلان دخول الإيمان ،والنطق بالشهادتين ، أما موضوع الآيتين الآخريتين فهو أعم .
وتفيد الفاء في [فَلَا عُدْوَانَ] التعقيب والتسبيب والترتيب ، ويترشح الترتيب على التعقيب على نحو الإنطباق والمراد من لفظ [فَلَا عُدْوَانَ] ليس التعدي والظلم ، إنما هو المقابلة بالمثل وجزاء الظالمين .
وتقدير الآية (فان انتهوا فلا عقاب وقتل وأسر إلا على الذين يصرون على الكفر ).
وبين الذين تريد الآية إنتهاءهم عن الكفر والظلم وبين لفظ الظالمين نسبة التساوي ، إذ يحب الله عز وجل للناس التوبة والإنابة لذا تفضل ببعث الأنبياء وجعلهم متعاقبين إلى أن ختم النبوة بالذي جعل أحكام نبوته ثابتة في الأرض , والكتاب الذي أنزله عليه سالماً من التحريف إلى يوم القيامة ، وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فنال منزلة سيد الأنبياء في الدنيا والآخرة.
(عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ – آدم فمن سواه – إلا تحت لوائي ، وأنا أوّل من تَنْشَقُّ عنه الأرض ولا فخر . . .
فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم عليه السلام فيقولون : أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك . فيقول : إني أذنبت ذنباً أهبطت منه إلى الأرض ، ولكن ائتوا نوحاً .
فيأتون نوحاً فيقول : إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا ، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم .
فيأتون إبراهيم فيقول : ائتوا موسى . فيأتون موسى عليه الصلاة والسلام فيقول : إني قتلت نفساً ، ولكن ائتوا عيسى . فيأتون عيسى عليه السلام .
فيقول : إني عُبِدْتُ من دون الله , ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم . فيأتوني فأنطلق معهم فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها ، فيقال : من هذا؟ .
فأقول : محمد . فيفتحون لي , ويقولون : مرحباً . فأخرّ ساجداً فيلهمني الله عز وجل من الثناء والحمد والمجد ، فيقال : ارفع رأسك . . . سل تُعْطَ، واشفع تُشَفّعْ ، وقل يسمع لقولك . فهو المقام المحمود الذي قال الله: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً })( ).
وقال الجصاص (وَقَوْلُهُ : { فَإِنْ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ } الْمَعْنَى : فَلَا قَتْلَ إلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ .
يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : الْقَتْلُ الْمَبْدُوءُ بِذِكْرِهِ فِي قَوْلِهِ : {
وَقَاتِلُوهُمْ } وَسَمَّى الْقَتْلَ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ بِكُفْرِهِمْ عُدْوَانًا لِأَنَّهُ جَزَاءُ الظُّلْمِ فَسُمِّيَ بِاسْمِهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا })( ).
ولكم المراد من العدوان في الآية أعم , ولا يختص بالقتل وبين العدوان والقتل عموم وخصوص مطلق ، من معاني العدوان في الآية وجوه :
الأول : إخراج الذين كفروا من الديار التي أخرجوا المسلمين منها .
الثاني : الأخذ والأسر للظالمين .
الثالث : قتال الظالمين في البيت الحرام إن قاتلوا المسلمين فيه .
الرابع : التوبيخ والتغليظ في الكلام ، قال تعالى [جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ).
الخامس : إرادة الجزاء بالمثل من ضروب تعدي وظلم الذين كفروا .
السادس : إنذار المنافقين ، وإخبارهم بأنهم ظالمون لأنفسهم بإخفائهم الكفر .
السابع : الآية مقدمة وبيان وبشارة لفتح مكة ، وإنذار للكافرين والظالمين من أهلها ممن كان يؤذي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، ويتعدى على أحكام وسنن القرآن والتنزيل ، ولا زال مصراً على الكفر .
وعن أنس قال (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل يوم الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه قيل له: هذا ابن خطل متعلق بأستار الكعبة.
فقال: اقتلوه.) ( ).
قال ابن شهاب ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ محرما) ( ).
وابن خطل إسمه عبد الله , وقيل هلال من بني تيم الأدرم بن غالب ، ترى لماذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتله , الجواب أنه كان قد أسلم فبعثه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصدقاً أي يجمع الصدقات .
وبعث معه رجلاً من الأنصار ، وكان معهما مولى لهم يخدمه ، وهو مسلم أيضاً ، فنزلوا منزلاً ، فأمر ابن خطل المولى أن يذبح له تيساً ويصنع له طعاماً ، ونام ابن خطل حتى إستيقظ وظن أن الطعام جاهز , فوجد أن المولى لم يصنع الطعام فقتله ثم إرتد مشركاً .
وكانت عنده قنينتان هما فُرتنا وصاحبتها تغنيان له بهجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاباح النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتلهما ، وقتلت أحداهما وهربت الأخرى حتى أستؤمن لها ، فأمنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعاشت بعده مدة , وتولى سعيد بن حريث المخزومي وأبو مرزة الأسلمي قتل ابن خطل .
(وَعِنْدَمَا قَتَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ابن خَطَلٍ قَالَ لَا يُقْتَلُ قُرَشِيّ صَبْرًا بَعْدَ هَذَا كَذَلِكَ قَالَ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ) ( ).
وجاء قوله تعالى [فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] مطلقاً في محو السيئات والذنوب والشرك بالله .
وقال ابن العربي (قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } : يَعْنِي انْتَهَوْا بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ ، وَيَرْحَمُ كُلًّا مِنْهُمْ بِالْعَفْوِ عَمَّا اجْتَرَمَ .
وَهَذَا مَا لَمْ يُؤْسَرْ ، فَإِنْ أُسِرَ مَنَعَهُ الْإِسْلَامُ عَنْ الْقَتْلِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ الرِّقُّ)( ).
وإستدل بما روي عن عمران بن حصين (قَالَ كَانَتْ ثَقِيفُ حُلَفَاءَ لِبَنِى عُقَيْلٍ فَأَسَرَتْ ثَقِيفُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَأَسَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم رَجُلاً مِنْ بَنِى عُقَيْلٍ وَأَصَابُوا مَعَهُ الْعَضْبَاءَ فَأَتَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَهْوَ فِى الْوَثَاقِ .
قَالَ يَا مُحَمَّدُ . فَأَتَاهُ فَقَالَ : مَا شَأْنُكَ .
فَقَالَ بِمَ أَخَذْتَنِى وَبِمَ أَخَذْتَ سَابِقَةَ الْحَاجِّ فَقَالَ إِعْظَامًا لِذَلِكَ أَخَذْتُكَ بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِكَ ثَقِيفَ . ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَنَادَاهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم رَحِيمًا رَقِيقًا فَرَجَعَ إِلَيْهِ فَقَالَ : مَا شَأْنُكَ . قَالَ إِنِّى مُسْلِمٌ) ( ).
ولكن موضوع الآية هو عفو ومغفرة الله عز وجل فسلامة الإنسان من الموت العاجل محبوساً أو أسيراً أو رقاً , أو بقي حراَ وسلم ونجا من الأسر ونحوه نوع طريق للفوز بمغفرة الله عز وجل إذا دخل الإسلام ، وهناك تباين بين الحبس والرق .
قال ابن حزم (قوله تعالى: (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم) ( ) وهذا من الاخبار التي معناها الامر تأويله فاغفروا لهم واعفوا عنهم ثم اخبار العفو منسوخة بآية السيف قال تعالى: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم…))( ).
ولا دليل على القول بأن آيات العفو منسوخة بآية السيف ولو أجريت إحصائية لآيات القرآن لتبين أن آيات العفو والمغفرة أكثر بكثير من آيات القتال ، كما أنه لم يرد لفظ السيف في القرآن .
ومن الإعجاز أن الآية أختتمت باسمين من أسماء الله عز وجل وهما [غَفُورٌ رَحِيمٌ] فهو الغفور الذي يغفر للناس مطلقاً مع الإنتهاء عن الكفر ، وهو الرحيم الذي يأمر المسلمين بالعفو والصفح والرحمة .
يمكن تأسيس قانون وهو : لو تردد الأمر بين الجمع بين آيات الصفح وآيات الدفاع أم نسخ الثانية للأولى ، فالصحيح هو الأول .
ومن إعجاز القرآن أن الجمع بين كل آيتين منه أمر ممكن ، إذ لا تزاحم ولا تعارض بين آياته .
وقال ابن الجوزي أن الآية على معنين :
الأول : الإنتهاء عن الكفر .
الثاني : الإنتهاء عن قتال المسلمين .
(فعلى القول الأول الآية محكمة والثاني يختلف في المعنى فمن المفسرين من يقول فإن الله غفور رحيم إذ لم يأمركم بقتاله في الحرم بل يخرجون منه على ما ذكرنا في الآية التي قبلها فلا يكون نسخ أيضا , ومنهم من يقول المعنى اعفوا عنهم وارحموهم عند .
فيكون لفظ الآية لفظ خبر ومعناه الأمر بالرحمة لهم والعفو عنهم وهذا منسوخ بآية السيف) ( ).
والمختار أن الآية عامة وتشمل :
الأول : الإنتهاء عن قتال المسلمين ومعه تفضل الله وأخبر المسلمين والناس جميعاً بأن الله غفور رحيم ليكون هذا الإنتهاء مقدمة لدخولهم الإسلام .
الثاني : الإنتهاء عن الكفر فان الله عز وجل غفور رحيم للذين يدخلون الإسلام رحيم بهم .
الثالث : ومن معاني الآية : فان انتهوا فان الله غفور رحيم بالمسلمين الذين حملوا هؤلاء الكفار على الكف عن قتالهم .
الرابع : تقدير مفهوم الآية على شعبتين .
الأولى :فان لم ينتهوا عن قتالكم فان الله غفور لكم رحيم بكم ، ليكون من معانيه أن إستمرار المسلمين بقتال الذين كفروا سبب للمغفرة لهم .
الثانية : فان لم ينتهوا عن قتالكم فان الله رحيم بكم إذ يمدكم بنصره .
وكل معركة للمسلمين مع الذين كفروا من مصاديق هذه الآية منطوقاً ومفهوماً .
ففي معركة بدر كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرجو إمتناع كفار قريش عن القتال .
فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال ( لما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين , وقلل المشركين في أعين المسلمين
وأخرج البيهقي عن علي قال : لما دنا القوم منا وصاففناهم إذا برجل منهم يسير في القوم على جمل أحمر , فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صاحب الجمل الأحمر , ثم قال : إن يك في القوم أحد يأمر بخير فعسى أن يكون صاحب الجمل الاحمر .
فجاء حمزة فقال : هو عتبة بن ربيعة وهو ينهى عن القتال ويأمر بالرجوع , ويقول يا قوم أعصبوها اليوم برأسي وقالوا جبن عتبة , وأبو جهل يأبى ذلك وأخرج أيضا نحوه من طريق ابن شهاب ومن طريق عروة وزاد بعد قوله الأحمر وأن يطيعوه يرشدوا) ( ) .
ومعنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يأمر بخير) على وجوه محتملة :
أولاً : إرادة الخير لجيش قريش لأن المعركة تؤدي إلى قتل طائفة منهم وأسر طائفة أخرى , وتقدير الحديث : أحد يأمر بخير لهم .
ثانياً : المقصود الخير في سلامة المسلمين من القتال وجريان الدماء بينهم وبين كفار قريش , وتعقب هذه المعركة بمعارك أخرى .
ثالثاً : نهي المشركين عن قتالهم للمسلمين خير محض وهذا أمر لا يختلف فيه إثنان .
رابعاً : إرادة الخير للفريقين ، لذا قال الله تعالى بخصوص يوم بدر [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
ترى ما هي النسبة بين وقوع القتال وإلتقاء الجمعين , الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فقد يلتقي الجمعان ولكن لا يقع بينهما قتال ، وهو الأمر الذي يرجوه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل معركة حتى بعد نزول آيات القتال ومنها آية السيف ، لتجلي معجزاته وكفايتها لجذب الناس إلى منازل الإيمان .
نعم ورد لفظ [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ثلاث مرات في القرآن تخص واحدة معركة بدر , أما الأخريان فتخصان معركة أحد( )، وقد وقع القتال فعلاً بين المسلمين والذين كفروا في معركة بدر وأحد التي إجتهد الذين كفروا في الإعداد والتهيئ لها ، بينما إنصرف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتعاهد صلاة الفريضة جماعة , معتوالي نزول آيات القرآن عليه, وبيانه لأحكام الحلال والحرام .
ولكن كفار قريش أظهروا العزم على الثأر والإنتقام لقتلاهم في معركة بدر حالما عادوا منها ، كما إنشغلوا بالتحريض على القتال والتجهيز للمعركة , وتولى الإعداد للتهيء للهجوم على مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد حتى الذين لم يشتركوا في معركة بدر .
فأبو سفيان مثلاً لم يشارك في معركة بدر ، ولكن عندما دخلت فلول قريش منكسرة إلى مكة عائدة من معركة بدر (نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا.
فخرج في مائتي راكب من قريش لتبر يمينه، فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له نيب من المدينة على بريد( ) أو نحوه.) ( ).
والمراد من نذره ألا يمس رأسه ماء من جنابة أي لا يطأ امرأة لأنه في مصيبة وحزن وأراد تحريض يهود المدينة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فخرج في الليل حتى أتى بني النضير في جنح الليل وطرق باب حي بن أخطب ولكنه أبى أن يفتح له الباب , وأنصرف إلى سلام بن مشكم ، وكان سيد بني النضير في زمانه فطرق بابه واستأذن عليه ، فأذن له وأكرمه وبات عنده ليلة واحدة وقراه وأسقاه الخمر .
وبيّن له أحوال الناس وكيف أن أهل يثرب يدخلون الإسلام وأن وفودا من القبائل تأتي إلى المدينة لتعلن إسلامها وان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الحاكم في المدينة ، ولا يحكم إلا بأمر الله ، وأن اليهود لم يلقوا منه أذى .
وأدرك أبو سفيان قوة الإسلام وأنه يستطيع مباغتة المسلمين في عقر دارهم ، فعاد إلى أصحابه , وبعث رجالاً منهم إلى ناحية من المدينة يقال لها العريض ، فحرقوا بعض النخيل فيها وقتلوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له كانا في حرث لهما خارج المدينة ، وأنصرفوا راجعين إلى مكة .
لقد أراد أبو سفيان الإخبار بالسيف والقتل عن قدومه ووصوله إلى أطراف المدينة وليعطي إنذاراً وتحذيراً للمسلمين ، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبر قدوم أبي سفيان وتعديه وقتله لرجلين من المسلمين ، فندب المسلمين للخروج ، وقاد بنفسه الجيش , وطلب أبا سفيان واستعمل على المدينة أبا لبابة بشير بن عبد المنذر ، وكان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا بعد معركة بدر بشهرين .
وبادر أبو سفيان إلى الفرار بأصحابه , وطرحوا سويقاً ( ) كثيراً من أثقالهم وأمتعتهم ليخففوا عن أنفسهم ورواحلهم في الهروب , فسميت غزوة السويق .
وهذه التسمية شاهد على أن الذين كفروا ولوا منهزمين لا يلوون على شيء ليس لهم همّ إلا السلامة والنجاة من القتل والأسر إذ أنهم إستصحبوا وقائع معركة بدر وإستحضروا ما لحق أفراد جيشهم يومئذ ، والإستصحاب دليل عقلي ومن فنون القتال والعمل ، قبل أن يكون مبحثاً أصولياً .
وعلى فرض أن الآية [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] منسوخة فيحتمل النسخ وجوهاً :
الأول : أقتلوا المشركين قبل ان ينتهوا ويتوبوا .
الثاني : أقتلوا المشركين وإن إنتهوا عن قتالكم.
الثالث : أصبروا للمشركين حتى ينتهوا .
الرابع : تقدير الجمع بين آية السيف وهذه الآية : فاذا إنسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم سواء إنتهوا عن الشرك والكفر أم لا زالوا مقيمين عليه ولم ينتهوا بعد .
الخامس : أقتلوا المشركين ولا تجعلوا موضوعية لإنتهائهم من الشرك أو عدمه .
السادس : ليعلم الكفار الذين يقاتلون المسلمين أن مصيرهم القتل وإن انتهوا من القتال .
السابع : أقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ولا تدعوهم إلى السلم والصلح .
ومع قولنا بأن الآية غير منسوخة ، فالمقصود من النسخ هو الثاني والسابع .
أما إذا كان المراد من الإنتهاء هو الكف عن الشرك والكفر باختيار الإسلام فالمعنى مختلف وليس في الآية نسخ إذ أن ذات آية السيف تأمر المسلمين بأخلاء سبيلهم وإكرامهم مع البشارة لهم بالمغفرة والرحمة ، وهو من الإعجاز في آية السيف وتضمنها معاني الرأفة والرحمة والحث على التوبة .
وتمام آية السيف هو [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
وذكر أن قوله تعالى [وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ] ( ) منسوخ بقوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه وبقوله تعالى وقاتلوا المشركين كافة) ( )( ).
ولكن ليس من نسخ في المقام للتباين الموضوعي بين معنى وتأويل الآيتين .
وقد تقدم مزيد كلام في الجزء السابق من هذا السفر .
فالإعتداء الذي ينهى الله عز وجل عنه هو التجاوز على حق الغير والإضرار به وظلمه ، أما التعدي الذي يأمر به الله عز وجل المسلمين بقوله تعالى [فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ] فهو من الجزاء والقصاص ، كما في قوله تعالى [وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا] ( ) وإنما ورد بذات اللفظ لإرادة المشاكلة والمقارنة في ذات الفعل .
وتقدير الآية : فمن إعتدى عليكم وظلمكم ، فجازوه بذات الفعل عقوبة وزجراً له .
ومن دلائل نفي النسخ في المقام أن الإعتداء المأمور به من عند الله ليس من سنخية الإعتداء المنهي عنه ، وتقدير الجمع بين الآيتين( ) على وجوه :
الأول : ولا تعتدوا إلا أن يعتدى عليكم فتردوا ذات التعدي , وردكم هذا ليس تعدياً إنما هو جزاء ، قال تعالى [وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ] ( ).
الثاني : إن الله لا يحب المعتدين الذين يعتدون عليكم ).
الثالث : فمن إعتدى عليكم فان الله لا يحب المعتدين .
لذا توجه الأمر لكم بمعاقبتهم بالإعتداء عليهم بمثل إعتدائهم .
الرابع : لا تبدأوا الإعتداء على غيركم , لأن إعتداؤكم رد بالمثل , وجزاء وعقوبة .
بينما أخبرت هذه الآيات عن القبح الذاتي للإعتداء وأن الله عز وجل لا يحب المعتدين ، وأمرت المسلمين بالرد بالثل على الذين إعتدوا عليهم ، مما يدل على أن المأمور به ليس إعتداء , إنما هو برزخ دون الإعتداء .
وقد أخبرت آيات القرآن بحب الله عز وجل للمسلمين ، بقوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( ) [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ] ( ) [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ) .
ومن إحسان المسلم لنفسه وذريته إختياره الإسلام وتعاهده لمبادئه , وتقيده بسنن الإيمان .
وجاء موضوع الإعتداء في هذه الآيات بخصوص الأشهر الحرم ، وما هو الأعم منها ، فمن وجوه تأويل الآية :
أولاً : فمن إعتدى عليكم وقاتلكم في الأشهر الحرم , فقاتلوه في ذات الأشهر (عن جابر عن عبد الله قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى ويغزو ، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ ) ( ).
ثانيا : فمن إعتدى عليكم فلا يكون ردكم أكثر مما إعتدى به ، وهو مقدمة الحكم للمسلمين بين الناس بالعدل ، لذا فان حكم القصاص لا يثير حفيظة أكثر الناس لأنه عدل , أما قتل غير القاتل والمعتدي فهو من التعدي والظلم ، لذا قال الله تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] ( ).
ثالثاً : إذا جاء العدو للقتال فقاتلوه وإن إنسحب وانتهى فاتركوه .
وفي الآية إذن للمسلمين لتعيين حد الإنتهاء في المقام , والذي يصدق على صرف الطبيعة منه مع الأمن .
ومن الإعجاز أن سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصداق للجمع بين هذه الآيات وتأكيد كونها محكمة مع نفي النسخ بينها .
أما القول بأن قوله تعالى [وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً] ( )،ناسخ لقوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ]( ) فلا دليل عليه إنما يراد منه المعنى الأعم في الكم والكيف عند القتال ، فقوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ] يفيد قتال خصوص الذين يهجمون على ثغور المسلمين ، أما قوله تعالى [وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً]فهو تفسير للآية أعلاه والمراد قاتلوا في سبيل الله المشركين وإن قاتلوكم كافة فقاتلوهم كافة .
وفيه بشارة صيرورة الإسلام في حال قوة ومنعة بحيث يستطيع المسلمون أن يقاتلوا المشركين إذا إجتمعوا عليهم ، قال تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
وكافة سور الموجبة الكلية ، ويفيد معنى الإحاطة والشمول وإنتفاء الإستثناء ،وليس من معنى الكف والتوقف ، وإن إتفق معه في أصل الوضع
وتقترن التاء بكافة على نحو الدوام سواء كان متعلقها مفرداً أو جمعاً ، ومذكراً أو مؤنثاً ، وتكون حالاً في الغالب , وقيل أن كافة اسم فاعل بمعنى كفّ عن ، والتاء للمبالغة ، ومعنى قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) تكفهم عن الكفر الذي هم فيه ، ولكن معنى كافة هو الإحاطة والشمول .
أي لجميع الناس ومنه قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً] ( ).
ويجوز أن يكون كافة حالاً من الفاعل أو المفعول به ، أي يكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا قاتلوا في سبيل الله كافة المشركين الذين يقاتلونهم كافة .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا قاتلوا في سبيل الله كافة المشركين لأنهم يقاتلونكم كافة .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا كافة قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم كافة .
والمختار هو الوجه الثاني أعلاه ، فورد لفظ (كافة ) في الآية مرتين، وقد يكون شبهة بدوية بأن يكون لفظ كافة الأول للمسلمين ، والثاني للمشركين .
والمختار أن اللفظين مجتمعين ومتفرقين يتعلقان بذات المشركين ، أي إذا قاتلكم المشركون جميعاً ، فان قتالكم يجب أن يتوجه لجميعهم ، وفيه وعد من عند الله عز وجل بالمعونة والنصر للمسلمين ، وإلا فان ذات الأمر [وَقَاتَلُوا] يفيد الإحاطة والشمول بالنسبة للمسلمين .
وتقديره : وقاتلوا كافة المشركين كافة ).
وفي تكرار لفظ (كافة ) في الآية أعلاه من سورة التوبة إنذار للمشركين وإخبار بأن المسلمين قادرون على قتالهم جميعاً ، وأن الإسلام صار بحال من العزة والمنعة بحيث يلاقي المسلمون جيوش الكفر مجتمعة ، وهذه الحال نعمة عظيمة على المسلمين تستلزم الشكر الدائم .
ولتكون هذه الآيات وحال المسلمين التي بلغوها مقدمة لإنتهاء الذين كفروا عن القتال , وأوان لميلهم للصلح والمهادنة .
وفيه أمارة على بقاء قوله تعالى [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) آية محكمة غير منسوخة .
الآية الثانية
ذكر أن الآية[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ..]( ) منسوخة بآية السيف( ) ولكن الآية من مصاديق الرحمة المتجددة للناس كافة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد تكرر لفظ يسألونك في القرآن .
والتقدير يسألونك يا محمد ، هذا من جهة الخطاب في آية البحث ، وأن الله عز وجل يخاطب ويذكر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم باسمه كما في قوله تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ]( ).
أما المسلمون والناس جميعاً فلا يصح أن ينادوه باسمه لقوله تعالى [لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا]( ).
إنما ينادونه بلفظ: يا نبي الله, يا رسول الله .
وورد لفظ [يَسْأَلُونَكَ] في القرآن خمس عشرة مرة كلها موجهة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من مصاديق تفضيله على الأنبياء السابقين ، كما ورد لفظ [اسأل ] ست مرات في القرآن ، منها أربعة موجهة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ثلاثة منها لسؤال أهل الكتاب للبيان والإحتجاج منها قوله تعالى [وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ]( ).
وفي الآية أعلاه وجوه:
الأول : عن ابن عباس { واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا } قال : سل الذين أرسلنا إليهم قبلك من رسلنا)( ).
لذا ورد عن مجاهد أنه قال : في قراءة ابن مسعود : واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا)( ) أي أهل الكتاب.
والمدار على القراءة المرسومة في المصاحف .
الثاني : المراد من الآية الإخبار عن وقائع ليلة الإسراء (جمعوا له ليلة أسري به ببيت المقدس)( ).
الثالث : المراد ليس سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأنبياء السابقين حقيقة إنما (أن المعنى اسأل أمة من أرسلنا قبلك .
الرابع : أنه لم يرد سؤالهم حقيقة وإنما المعنى أن شرائعهم متفقة على توحيد الله بحيث لو سئلوا هل مع الله آلهة يعبدون لأنكروا ذلك ودانوا بالتوحيد) ( ).
والمختار هو الأول والثاني بالإضافة إلى الرجوع إلى الكتب السماوية السابقة إذ جاءت بالدعوة إلى التوحيد , وهو من الشواهد على تفسير آيات القرآن بعضها لبعض .
فلما وردت آية الإسراء بقوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ]( ).
جاءت هذه الآية لبيان أن الإسراء لم يكن رحلة في عالم السماء وحدها إنما كانت مواعظ ودروساً وتكاليف وآيات ، ومنها إلتقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأنبياء السابقين ، وسؤاله لهم وهي مرتبة لم ينلها أحد من الأنبياء والرسل قبله .
وفيه نكتة وهي أن العلوم التي عند الأنبياء السابقين صارت عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأنه نال ذات مرتبة سكن آدم عليه السلام في الجنة , مع زيادة بالإلتقاء بالأنبياء السابقين ، وبالأمن والسلامة من إغواء إبليس .
ولتكون هناك صلة بين لفظ [يسألونك] وبين لفظ [وأسال] في القرآن إذ يسأل الناس النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الذي يوحي له الله عز وجل ،كما أنه إستمع من الأنبياء وسألهم إبتداء .
وقد ورد في حديث الإسراء لقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإبراهيم وموسى وهارون وأنبياء آخرين .
ويعلم الأنبياء السابقون حرمة الأشهر الحرم ، لقوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ]( ).
ترى لماذا جعل الله عز وجل ربع أشهر السنة حرماً ، الجواب من جهات :
الأولى : إنه من مصاديق ملك الله عز وجل للزمان كما أنه سبحانه يملك السموات والأرض فهو الذي يخبر عن تقسيم السنة إلى شهور , منها الأشهر الحرم وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم .
الثانية : دعوة الناس للتقيد بأفراد الزمان وتواليها , وضبط الأهلة ومنازل القمر ، ورصد أوان وبداية الشهر ، ومن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن أول قتيل وقع بين المسلمين والذين كفروا كان مردداً أوان قتله بين الشهر الحرام وهو رجب وشهر ربيع ، وقيل مردداً بين شهر رجب وبين شهر شعبان .
الثالثة : تولي المسلمين تصريف شؤون وضبط المعاملات ، ومنع الغبن والظلم .
الرابعة : بيان النفع العظيم للأشهر الحرم وقدسيتها عند العرب في قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ رسالته ودعوة الناس للإسلام، خاصة في موسم الحج حيث تفد القبائل العربية إلى مكة.
الخامسة : تنمية ملكة الفقاهة عند المسلمين ومعرفة الحساب .
السادسة : إعانة الناس على الهدنة والصلح والوئام ونبذ الإقتتال والحروب ، فاذا جاءت ثلاثة شهور متتالية ليس فيها قتال فان أطراف القتال يميلون إلى الراحة والدعة ، وكذا بالنسبة لشهر رجب الأصم فانه دعوة لوقف الإقتتال .
السابعة : الأشهر الحرم مناسبة للمصلحين والآمرين بالمعروف للمشي بين الناس وإصلاح ذات البين ، قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ).
ومن الشواهد بأن قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ] ( )ليس منسوخاً بآية السيف هو إمكان الجمع بينهما ، فلم تقل الآية أعلاه بحرمة القتال في الأشهر الحرم ، إنما ورد النهي عن إبتداء القتال فيه ، وإلا فان قانون حرمة القتال فيها باقية إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وفي قصة قتال أهل يثرب للملك تبع في النهار وإرسالهم الطعام والموائد له ليلاً موعظة إذ إستحيا منهم ودخل معهم في حوار وجدال وبينوا له أن مدينة يثرب عصية عليه لأنها مهاجر خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكف عن قتالهم .
قال ابن إسحاق (كان تبع الآخر وهو تبان أسعد أبو كرب حين أقبل من المشرق بعد أن ملك البلاد جعل طريقه على المدينة، وكان حين مر بها في بدايته لم يهج أهلها وخلف عندهم ابناً له فقتل غيلةً .
فقدمها عازماً على تخريبها واستئصال أهلها، فجمع له الأنصار حين سمعوا ذلك ورئيسهم عمرو بن الطلة أحد بني عمرو بن مبذول من بني النجار وخرجوا لقتاله، وكانوا يقاتلونه نهاراً ويقرونه ليلاً. فبينما هو على ذلك إذ جاءه حبران من بني قريظة عالمان، فقالا له: قد سمعنا ما تريد أن تفعل، وإنك إن أبيت إلا ذلك حيل بينك وبينه ولم نأمن عليك عاجل العقوبة.
فقال : ولم ذلك ؟ فقالا : إنها مهاجر نبي من قريش تكون داره. فانتهى عما كان يريد وأعجبه ما سمع منهما فاتبعهما على دينهما، واسمهما كعب وأسد، وكان تبع وقومه أصحاب أوثان.
وسار من المدينة إلى مكة، وهي طريقه، فكسا الكعبة الوصائل والملاء، وكان أول من كساها، وجعل لها باباً ومفتاحاً، وخرج متوجهاً إلى اليمن فدعا قومه إلى اليهودية فأبوا عليه حتى حاكموه إلى النار، وكانت لهم نار تحكم بينهم فيما يزعمون تأكل الظالم ولا تضر المظلوم .
فقال لقومه : أنصفتم . فخرج قومه بأوثانهم وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما حتى قعدوا عند مخرج النار، فخرجت النار فغشيتهم وأكلت الأوثان وما قربوا معها ومن حمل ذلك من رجال حمير، وخرج الحبران تعرق جباههما لم تضرهما، فأصفقت حمير على دينه.
وكان قدم على تبع قبل ذلك شافع بن كليب الصدفي، وكان كاهناً، فقال له تبع: هل تجد لقومٍ ملكاً يوازي ملكي ؟ قال: لا إلا لملك غسان. قال: فهل تجد ملكاً يزيد عليه ؟ قال: أجد لبار مبرور، أيد بالقهور، ووصف في الزبور، وفضلت أمته في السفور، يفرج الظلم بالنور، أحمد النبي، طوبى لأمته حين يجي، أحد بني لؤي، ثم أحد بني قصي ! فنظر تبع في الزبور , فإذا هو يجد صفة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم ) ( ).
وفي هذا الخبر بيان لشآبيب الرحمة على أهل يثرب ببركة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل ولادته وقبل بعثته , وشاهد بأفادة الآية أعلاه معنى الرحمة للعالمين برسالته قبل أن يولد , ولتكون هذه المعاني مقدمة لوجود أمة تنصره في المدينة من الأوس والخزرج .
وذكر في نسخ الآية أن العرب كانوا يمتنعون عن القتال في الجاهلية في الأشهر الحرم ، حتى خرج عبد الله بن جحش وقتل عمرو بن الحضرمي فنزلت الآية .
وقيل ثم صارت الآية منسوخة بقوله تعالى [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]أي في الحلال والحرام .
ولم تقل آية البحث ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل ليس فيه قتال) كي يقال بأن الآية منسوخة بلحاظ ورود الأمر بعد النهي , والإيجاب بعد النفي ، ولم تكتف الآية بالإخبار عن وقوع القتال في الشهر الحرام ، بل أخبرت بأن القتال فيه كبير وفيه مسائل :
الأولى : إرادة إنذار الذين كفروا ورفع الظن بأنهم في مأمن من القتال والقتل في الأشهر الحرم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ).
الثانية :بيان قانون وهو أن الذين كفروا حجبوا عن أنفسهم الأمن في الأشهر الحرم ، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار ، وكما في القصر في الصلاة فانه تخفيف ورحمة للمؤمنين وليس للذي يسافر لإرتكاب المعصية فكذا بالنسبة للكافر الذي يقاتل المسلمين فلا أمن له حتى في الشهر الحرام .
الثالثة : من الإعجاز في الآية الإبهام والعموم في الجهة التي تسأل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عن الشهر الحرام بقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ].
ومع أن المدار على علوم اللفظ , وليس سبب النزول فان هذا السبب ورد متعدداً ، فيأتي السؤال .
وعن ابن عباس وعن ابن مسعود في الآية ({ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ }( ) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سَرِيَّة، وكانوا سَبْعَة نفر، عليهم عبد الله بن جَحْش الأسدي، وفيهم عَمَّار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عُتْبَة بن ربيعة، وسعد بن أبي وَقَّاص، وعتبة بن غَزْوان السُّلمي -حليف لبني نَوْفل -وسُهَيل بن بيضاء، وعامر بن فُهيرة، وواقد بن عبد الله اليَرْبوعي، حليف لعمر بن الخطاب.
وكتب لابن جحش كتابًا، وأمره ألا يقرأه حتى ينزل بطن مَلَل فلما نزل بطن مَلَل فتح الكتاب، فإذا فيه: أنْ سِرْ حتى تنزل بطن نخلة. فقال لأصحابه: مَنْ كان يريد الموت فَلْيمض ولْيوص، فإنني مُوص وماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فسار، فتخلف عنه سعد بن أبي وقَّاص، وعتبة، وأضلا راحلة لهما فَأتيا بُحْران يطلبانها، وسار ابن جحش إلى بطن نخلة، فإذا هو بالحكم بن كيسان، والمغيرة بن عثمان، وعمرو بن الحضرمي، وعبد الله بن المغيرة. وانفلت [ابن] المغيرة، [فأسروا الحكم بن كيسان والمغيرة] وقُتِل عَمْرو، قتله واقد بن عبد الله. فكانت أوّل غنيمة غنمها أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
ويأتي السؤال عن الشهر الحرام من المسلمين أنفسهم .
قال الطبري (يسألك يا محمد أصحابُك عن الشهر الحرام وذلك رَجبٌ عن قتالٍ فيه ) ( ).
وتتضمن نسبة السؤال عن الشهر الحرام إلى المسلمين إعجازاً من جهات :
الأولى : تفقه المسلمين في المعارف الإلهية .
الثانية : عدم وقوف المسلمين مكتوفي الأيدي إذا باغتهم الذين كفروا بالقتال.
ومن أسرارالإذن بالقتال في الشهر الحرام أن الذين كفروا لا يجعلون له حرمة ، وقد يباغتون المسلمين في ديارهم ، وقد يهجمون على الثغور ، فجاءت الآية لأخذ المسلمين الحائطة والإستعداد للقتال في الشهر الحرم , ولبعث اليأس في قلوب الذين كفروا .
فان قلت كانت العرب تغمد سيوفها عندما يدخل الشهر الحرام ، لذا سمي شهر رجب برجب الأصم ، لعدم سماع قعقعة السلاح طيلة أيامه ، والجواب كانت هذه الحال على نحو القضية الشخصية والقبلية ، وتعطيل العرب لطلب الثأر ونحوه في الشهر الحرام .
أما حينما صار القتال عقائدياً وعلى الملة والدين ، وبين الإيمان والكفر ، وأدرك رؤساء الكفر أن الإسلام يزداد قوة يوماً بعد يوم , وهم فقدوا الكثير من رجالهم وشبابهم قتلى في معركة بدر وأحد ، وأذعنوا لدفع العوض والبدل عن الأسرى ، وأصابت قريش الذلة والهوان بين القبائل العربية ، وأدركوا عجزهم عن قهر المسلمين في ميادين الوغى ، فقد يفاجئون المسلمين بغتة في الأشهر الحرم .
ليكون من معاني ودلالات قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ]( ) تحذير المسلمين ، وطرد الغفلة عنهم ، قال تعالى [وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ]( ).
وهو من مصاديق طرد الغفلة عن المسلمين بقوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ).
وورد عن ابن عباس (قوله :” يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير”، وذلك أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وردُّوه عن المسجد الحرام في شهر حرام، ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل. فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القتالَ في شهر حرام .
فقال الله جل وعز:” وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله” من القتل فيه , وأنّ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف آخرَ ليلة من جمادى، وأول ليلة من رجب , وأن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يظنون أنّ تلك الليلة من جمادى، وكانت أول رجب ولم يشعروا، فقتله رجلٌ منهم واحدٌ , وأنّ المشركين أرسلوا يُعيرونه بذلك فقال الله جل وعز:” يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير” وغير ذلك أكبر منه،” صد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه” إخراجُ أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب محمدٌ، والشرك بالله أشدُّ) ( ).
لبيان أن موضوع الآية لا يختص بأول سرية بعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقتلهم لابن الحضرمي ، وليس في الحديث أعلاه ذكر لمسألة السؤال الواردة في الآية بقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ].
ولعل المراد لأنه بعد أن أنكر المشركون ما فعله المسلمون توجه المسلمون وغيرهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال عن الشهر الحرام وهل يجوز القتال فيه ، ومن إعجاز الآية حصر السؤال عن الشهر الحرام بموضوع القتال فيه ، وهل هو جائز أو لا .
الثالثة : من إعجاز الآية عدم حصر موضوعها بجواز القتال في الشهر الحرام فقد يؤدي هذا الحصر إلى إرجاف المنافقين في المدينة وإلى بث الشكوك وكثرة الجدال ، لذا جاءت الآية بالبيان والبرهان , وبما هو أعم من ذات السؤال .
ففي الوقت الذي أباحت فيه الآية للمسلمين القتال في الشهر الحرام ، وعدم الوجس والفزع من شدته وضراوته في هذا الشهر ، فأنها ذكرت تجاوز وتعدي الذين كفروا على الشهر الحرام نفسه ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] .
والإعتداء في الآية أعم من أن يختص بالتعدي على المسلمين والناس فيشمل التعدي على الحرمات , وعلى الحدود وعلى ذات أفراد الزمان , والنظام الذي جعله الله عز وجل حاكماً فيها .
وورد في الخبر عن جابر بن عبد الله (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر) ( ) .
ولابد من تأويل هذا الحديث ، والمراد أن الله عز وجل هو خالق الدهر ، وكان العرب يذمون الدهر عندما تنزل بهم المصائب والكوارث ويقولون : نزلت بنا مصائب الدهر ، ويلومون الليل والنهار ويتشاءمون من الهلال ، لأنه حال أوان قضاء الدين .
فأخبر الله عز وجل بأن الله عز وجل هو خالق الدهر وخالق الموت والحياة ، وأن الوقائع تنزل بأمر وإذن من عند الله فلا يصح سب الدّهر وهذه الوقائع , قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ..] ( ) .
ومن معاني الحديث الوارد أعلاه وجوب تلقي إطلالة كل شهر من أشهر السنة الحلّ والحرام بالقبول وعدم النفرة من شهر بعينه لأن هذه القسمة من حكمة الله ورأفته بالناس جميعاً , والمسلمين على نحو الخصوص .
ترى لماذا لم تقل الآية ( يسألونك عن القتال في الشهر الحرام ) الجواب من جهات :
الأولى : بيان موضوعية الشهر الحرام .
الثانية : تفقه المسلمين في الدين ، وتمييزهم بين الشهر الحرام وغيره من الشهور .
الثالثة : لجوء المسلمين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للسؤال عن أحكام الدين وأمور الحلال والحرام .
الرابعة : إحتراز المسلمين من الدماء , وإحتياطهم في القتال وإنتظارهم الأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرد والدفاع .
الخامسة : تسليم المسلمين بأن النبي محمداً لا يجيب إلا عن الوحي والتنزيل .
ولما إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض كما ورد بقوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) تفضل الله عز وجل بالإحتجاج عليهم بما يفيد إكرام الإنسان وأهليته للخلافة ببركة النبوة والتنزيل ، فقال سبحانه [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ومن علمه سبحانه أن المسلمين يعلمون أن من أشهر السنة ما هي حرم لا يجوز القتال فيها ، ولكن لو إعتدى الذين كفروا على المسلمين في أحد الأشهر الحرم , فما هو العمل، فجاءت الآية بالجواب[قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول : إرادة القتال بين المسلمين والذين كفروا .
الثاني : إحتمال القتال بين المسلمين لقوله تعالى [فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ]( ) أي قد تتضمن الآية الإخبار عن وقوع قتال كبير بين طوائف المسلمين في الأشهر الحرم.
الثالث : المقصود المعنى الأعم ، وإرادة قتال المسلمين للكفار وقتال المسلمين فيما بينهم ، وقتال الكفار بعضهم مع بعض .
والصحيح هو الأول ، فلا صلة بين مضامين هذه الآية وبين القتال الذي قد يقع بين المسلمين ، إذ أنه محرم ولا يجوز لا في الأشهر الحرم ولا الحل ، لذا ذكرت آية البحث ما في الشهر الحرام من صد الكفار عن سبيل الله وجحودهم بالشهر الحرام والبيت الحرام ، وقيامهم باخراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من مكة .
ومن الدلائل في الآية على عدم إرادة إقتتال المسلمين فيما بينهم مجئ الآية بالخطاب للمسلمين [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا] ( ).
ومن الإعجاز في آية السيف انها ذكرت إنتهاء الأشهر الحرم على نحو الجملة الشرطية بقوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ] ( ) وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : المراد أشهر حرم من سنة مخصوصة , وهي السنة التاسعة للهجرة .
الثاني : إستمرار حكم قتل الذين كفروا في كل موضع حتى بعد تعاقب السنين وحلول أشهر حرم أخرى .
الثالث : المراد خصوص الأشهر الحرم في سنة واحدة , أما لو حلّت الأشهر الحرم في سنة تالية فتنشر الحرمة .
والمختار هو الأول والثالث أعلاه , ويحتمل المراد من الأشهر الحرم في قوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ] وجهين :
الأول :إرادة العهد والمدة التي جعلها الله عز وجل للمشركين بقوله تعالى [فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ] ( ) إذ وردت آية السيف بعدها بثلاث آيات .
الثاني : المراد الأشهر الحرم من السنة التاسعة للهجرة وفيه وجوه :
الأول :المراد شهر شوال وذو الحجة ومحرم ،وإن بدأ الإنذار والوعيد وإبتداء مدة الأجل والرخصة والأمان أثناءه ووسط هذه الأشهر ، قاله الزهري ( ).
الثاني : أول الأشهر هو اليوم العاشر من شهر ذي الحجة وهو يوم الحج الأكبر ، وآخرها العاشر من شهر ربيع الآخر ، وبه قال الإمام الباقر عليه السلام ( ).
الثالث : أول الأشهر هو يوم العشرين من شهر ذي القعدة وآخرها يوم العشرين من شهر ربيع الأول .
أي أن المراد من قوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ]وجوه :
الأول : إرادة الأشهر الحرم من السنة التاسعة وهي شهر ، ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم .
الثاني : هي الأشهر التي أذن الله عز وجل فيها للمشركين أن يسيحوا في الأرض ، ويسافروا طلباً للمعاش والكسب آمنين .
الآية الثالثة
ذكر أن قوله تعالى [وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ] ( ).نسخت بآية السيف على قول (جماعة) ( ) .
والآية كاملة هي [قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ]إذ ذهب بعضهم إلى نسخ آية السيف لآيات الموادعة وآيات المهادنة وآيات الصفح ، ولا دليل عليه .
وتتعلق هذه الآية بالإحتجاج وهو مرتبة أعلى من الجدال ، ويمكن القول أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، فكل إحتجاج هو جدال وليس العكس ، لأن الإحتجاج يتقوم بالحجة والبرهان ، وقدر ورد لفظ الجدال في القرآن واللغة بمعنى الإحتجاج كما في قوله تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ) .
وهو خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يحتج على الذين كفروا وعلى أهل الكتاب بما هو أحسن من الأدلة والبراهين ، وفيه دعوة للمسلمين للإحتجاج بالقرآن وآياته ومضامينه القدسية لتسمية الأحسن بقوله تعالى [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا]( ).
ولبيان خصلة كريمة يتصف بها المسلمون وهي جدالهم بالأحسن والأفضل ، بالإقتباس من القرآن وهو الكتاب الذي ينطق بالحق , ويتضمن أخبار الماضين وعلوم الغيب وأحوال الآخرة .
وهذه الصفة من الشواهد على كون المسلمين [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ويمكن تأسيس قانون وهو كل آية قرآنية حجة وموضوع للإحتجاج كما أن النفع العظيم المستقرأ منها هو أعظم النفع , قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ] ( ).
والمراد من النسخ أي تعطيل أمر الإحتجاج وإبداله بالسيف لأن الله عز وجل يقول [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ]( ) .
لكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينقطع عن الإحتجاج مع أهل الكتاب والذين كفروا حتى بعد نزول الآية أعلاه من وجوه :
الأول : أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باقامة الحجة والبرهان .
الثاني : توالي نزول آيات الإحتجاج والعفو والرحمة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن الإعجاز الغيري للقرآن أمور :
أولاً : مجئ آيات القرآن بصيغ البيان والحكمة .
ثانياً : سمو لغة البلاغة العالية في آيات القرآن ، بما لم يعهده العرب من قبل ، وهم أهل الفصاحة والبلاغة .
ثالثاً : قيام المسلمين وعموم الناس بنقل آيات القرآن في الحضر والسفر، ليصير بعضهم رسولاً لبعضهم الآخر في التبليغ , ويكون من معاني ومصاديق قوله تعالى [وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ] ( ) أنه حالما تنزل الآية ويقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغها لمن حوله حتى تنتشر وتشيع بين الناس .
أي أن الآية تخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه من إعجاز القرآن ما أن تقوم بالبلاغ والتبليغ حتى يصل إلى أهل المدينة ومكة وما حولها ، هذا في أيام التنزيل ، أما ما بعدها من السنين والأحقاب فلا يعلم فضل الله عز وجل في المقام إلا هو سبحانه , ومنه أن القرآن هو أكثر الكتب السماوية التي تقرأ من قبل أهل الأرض كل يوم , وهو من الشواهد على البركة في القرآن , قال تعالى[وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ]( ).
رابعاً : تبعث آيات العفو والرحمة الرغبة في نفوس الناس لدخول الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
أما آية السيف والقول بأنها نسخت مائة آية فأنها قد تجعل رؤساء الكفر يحرضون الناس على الإسلام وإرادة النفرة منه .
ومن الآيات في خلق الإنسان أن النفوس تنفر من القتال وتجدده وكثرة القتلى .
وهو من أسرار نفخ الله من روحه في آدم ، فجاء القرآن في مضامينه القدسية مرآة لهذا النفخ المبارك ، فكل آية منه تشهد برحمة الله وعفوه عن الناس إلا الذين يصرون على الكفر والجحود , وحتى الآيات التي تتضمن ذم الذين كفروا وتتوعدهم بالنار كما في قوله تعالى في سوء عاقبة الذين كفروا يوم القيامة [يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ] ( ) فانها تقرب الناس للإيمان وتجعل المسلمين يتعاهدون مقامات الهدى والصلاح.
إن كل آية من آيات العفو والرحمة الواردة في القرآن وثيقة سماوية بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت بالسيف والقتال والقتل ، كما أن السنة النبوية وهي المصدر الثاني للتشريع تدل على مجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بآيات العفو والرحمة والمغفرة .
الثالث : لا يختص النفع من إحتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذات الجهة التي يتوجه إليها الإحتجاج ، إنما يشمل جهات :
الأولى : إحتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) فكل فرد من إحتجاجات النبي نعمة عظيمة على أهل الأرض ورحمة بالناس .
الثانية : نزول آيات من القرآن تكون حجة وجواباً لأسئلة الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا ورد قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ] خمس عشرة مرة في القرآن , منها قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي] ( ).
الثالثة : إحتجاج النبي وإجابته على الأسئلة ورده للمغالطة ، ودفعه للجدال وسيلة مباركة لدخول كثير من الناس الإسلام ، ومنهم من علق دخوله الإسلام بسؤال أو أسئلة يوجهها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيجيبه فيدرك مصداق الرسالة ، ويبادر إلى النطق بالشهادتين ، ليبقى إحتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضياءً يهتدي به الناس في ظلمات مباهج الدنيا ، والأفكار والأوهام المتداخلة .
الرابعة : في إحتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الذين كفروا تنمية لملكة الإيمان عند المسلمين , وكل إحتجاج من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدرسة في الفقاهة ، ومرتبة في المعارف والعلوم ، وهي هبة من عند الله عز وجل لهم , ومن مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) .
لذا أنعم الله عز وجل على المسلمين وجعل كل واحد منهم يتلو هذه الآية عدة مرات في اليوم الواحد ، وفي حال خشوع وخضوع لم يشهد لها التأريخ مثيلاً ، ومن الآيات أن هذه الحال تتكرر خمس مرات في اليوم ، وتكون أبهى وأجمل في صلاة الجماعة لذا ورد التأكيد على إستحبابها ، وحرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إتيانها وتعاهد أهل بيته وأصحابه لها .
وحينما كان يأتي وفد إلى المدينة ليدخلوا الإسلام يؤخرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دار الضيافة ليحضروا أوقات الصلاة ويتقنوا أجزاءها ، ويحرصوا على أركانها ، ويعلموا بموضوعية قراءة القرآن فيها , وشأن أدائها جماعة .
و(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ خمسا وعشرين) ( ).
لقد إبتدأت الآية بالأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قل] وهو من الشواهد على عدم نسخ الآية وأنها محكمة إلا أن يدل دليل على النسخ ، ومضمون هذا الأمر على وجوه :
الأول : قل يا محمد ، بلحاظ النبوة والرسالة ، أي أن الله عز وجل يأمر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بصفته النبي والرسول من عنده .
الثاني : الآية إنحلالية , وتقديرها : يا أيها الذين آمنوا قولوا ..) .
الثالث : يتوجه الأمر في آية البحث إلى المسلمين والمسلمات بأن يقول كل واحد منهم : أتحاجوننا .
الرابع : تصح الآية بأن يكون الذي يتوجه له قول النبي والمسلمين على وجوه :
الأول : صيغة العموم والمراد الذين كفروا .
الثاني : لغة الجمع والمراد أهل الكتاب .
الثالث : صيغة المفرد , والمراد كل فرد من غير المسلمين ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : قل أتحاجني إذا كان الذي يجادل النبي صلى الله عليه وآله وسلم شخصاً مفرداً .
ثانياً : قل أتحاجونني .
ثالثاً : قولوا أتحاججنا لقصد المفرد الذي يجادل المسلمين .
رابعاً : يا أيها المسلم قل أتحاجوننا ) لبيان صفحة مشرقة من إعجاز آية البحث بأن يكون الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم [قل] غضاً طرياً حاضراً في حياة المسلمين إلى يوم القيامة ،ومن الآيات أن المسلمين يعلمون بالفطرة الإيمانية أن هذا الأمر يتوجه إليهم أيضاً .
خامساً : يا ايها المسلمة قولي أتحاجوننا .. لتأكيد أن المسلمات على مرتبة من العلم والتفقه في الدين .
سادسا : يا أيتها المسلمة قولي لنساء أهل الكتاب والذين كفروا أتحاججني في الله[ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ]( ).
الآية سلاح بيد المسلمين في مواجهة السفهاء بالوعد والوعيد , الوعد للمسلمين بالثواب العظيم ، والوعيد للذين كفروا بالعذاب الأليم يوم القيامة.
وتفيد الآية المباعدة والتباين في عالم الأفعال بين المسلمين والذين كفروا، ليكون من مفاهيم آية البحث وجوه :
أولاً : دعوة الناس إلى الإيمان .
ثانياً : حث الذين كفروا على ترك الكفر والضلالة .
ثالثاً : بيان قبح الكفر وأفعال الضلالة .
رابعاً : من أعمال الذين كفروا قتالهم المسلمين .
خامساً : تقدير الآية : لنا أعمالنا من الصالحات , ولكم أعمالكم من القبائح والآثام في الآخرة .
وصحيح أن الآية وردت بصيغة الإحتجاج على أهل الكتاب إلا أن موضوعها أعم ، وهو على وجهين :
الأول : قل أتحاجوننا يا أهل الكتاب .
الثاني : قل أتحاجوننا يا أيها الذين كفروا .
الثالث : قل أتحاجوننا يا أيها الناس من غير المسلمين .
وفي صيغة الجمع في (أتحاجوننا) دعوة للمسلمين للوحدة والتآلف بينهم، وإخبار بأنهم أمة واحدة تتوجه لهم خصومة أهل الكتاب وغيرهم، وأن عليهم القيام بالإحتجاج بالحق والعدل .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء، ومن وجوه الإبتلاء فيها للمسلمين أمور:
الأول : خصومة وإحتجاج أهل الكتاب على المسلمين، ومجئ هذا الإحتجاج في الله عز وجل وآياته مع أن الرسالة والتنزيل أمران يجمعان بين المسلمين وأهل الكتاب .
الثاني : قتال الذين كفروا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو المسلمين وإرادة قهر المسلمين وإذلالهم وأخذهم أسرى أو قتلهم ، ويدل عليه زحف المشركين ومجيؤهم بجيوش عظيمة في معركة بدر وأحد والخندق.
لذا فان قوله تعالى [فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ] ( ) ليس من التعدي إنما هو مقابلة للذين كفروا بالمثل , وبما ينوون فعله بالمسلمين ولكن الله عز وجل جعل المسلمين هم الأعلى منهم .
الثالث : حاجة المسلمين للتحلي بالصبر ، وهذا الصبر من جهات :
الأولى : الصبر على آذى الذين كفروا .
الثانية : الصبر في طاعة الله وإتيان الفرائض .
الثالثة : الصبر عن المعاصي والسيئات .
الرابع : الصبر في حسن السمت والمعاملة ، والتحلي بالأخلاق الحميدة ، قال تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
ويمكن تأسيس قانون , وهو المسلمون هم الأمة الصابرة ، وكما قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] .
فيمكن تقدير الأمر الإلهي إلى المسلمين بالصبر في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا اصبروا في سبيل الله .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا صابروا في سبيل الله .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا رابطوا في سبيل الله .
وقد ورد لفظ [ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ] ( ) ثلاث مرات في القرآن ويفيد معنى الوعد والوعيد وتأكيد قانون البعث والوقوف بين يدي الله عز وجل للحساب وتبرأ المسلمين من قول وفعل غيرهم ، وهل هو من الموادعة الجواب نعم , وفيه شاهد على إجتهاد المسلمين في مرضاة الله ، وعلى قيامهم بأداء الفرائض والواجبات .
ويحتمل القول بنسخ هذه الآية وجوهاً :
الأول : إرادة الآية من سورة البقرة .
الثاني : المقصود الآية من سورة القصص .
الثالث : المراد الآية من سورة الشورى .
الرابع : المقصود كل آية من هذه الآيات الثلاث , وكلها منسوخة بآية السيف .
والجواب هو الأخير بلحاظ الجمع بين أقوال بعض المفسرين , أما بالنسبة للآية من سورة البقرة ، فقال ابن سلامة بنسخها بآية السيف , ونسبه إلى جماعة ( ).
وقال ابن حزم أن سورة القصص ( جميعها محكم غير آية واحدة وهي قوله تعالى: (وقالوا لنا اعمالنا ولكم أعمالكم…) ( ) الآية نسخت بآية السيف) ( ).
وقال النحاس قوله تعالى[وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ]( ).
للعلماء فيه أربعة أقوال
منهم من قال هي منسوخة بالنهي في السلام على الكفار
ومنهم من قال هي منسوخة بالأمر بالقتال
ومنهم من تأولها فأباح السلام على الكفار
والقول الرابع أن هذا قول جميل ومخاطبة حسنة وليس من جهة السلام ولا نسخ فيه
فالقول الأول يحتج قائله بما صح عن رسول الله في الكفار لا تبدؤوهم بالسلام , قال ففي هذا نسخ
وهذا القول وإن كان قد صح عن رسول الله لا تبدؤهم بالسلام فهو غلط لأن الآية ليست من هذا في شيء وانما هي من المتاركة كما يقول الرجل للرجل دعني بسلام تستعمله العرب للمتاركة
والقول الثاني أنها منسوخة بالأمر بالقتال قول جماعة من العلماء
قال : وقد بينا ذلك في قوله عز و جل وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما
والقول الثالث قول من أباح السلام على الكفار غلط لأن هذه الآية ليست من السلام في شيء فإنما هي من التسلم والمتاركة وحظر السلام على الكفار واجب بكتاب الله عز و جل وسنة رسول الله قال الله تعالى[وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى]( ).
وكذا كتب رسول الله إلى قيصر والسلام على من اتبع الهدى
والقول الرابع أنها مخاطبة حسنة قول حسن)( ).
وروى عن مجاهد (قال : أناس من أهل الكتاب أسلموا فكان أناس من اليهود إذا مروا عليهم سبوهم ، فأنزل الله هذه الآية فيهم)( ).
وفي قوله سبحانه{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ}( ).
قال أبو العالية والكلبي: هذا قبل أن يؤمروا بالقتال، ثم نسختها آية القتال)( ).
وقال السدي أنها منسوخة بآية القتال( ).
وقال الكرمي في سورة الشورى من المنسوخ سبع آيات منها قوله تعالى [لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ]( ) وهو منسوخ بآية السيف( ) .
ويتعلق قوله تعالى [وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ] ( ) بقوم من أهل الكتاب آمنوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن ، ووردت الآية بصيغة الماضي مما يدل على أنها غير منسوخة لأن النسخ لا يتعلق بالقصص والأخبار ، وجاءت الآية معطوفة بحرف العطف الواو .
لقد كان الناس أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أقسام :
الأول : أهل الكتاب من اليهود والنصارى .
الثاني : الكفار المشركون مثل أقطاب قريش الذين يقدسون الأصنام ، وهل من موضوعية لتقديس الأنبياء وأتباعهم للبيت الحرام في إنحراف المشركين وإتخاذهم الأصنام والأوثان بلحاظ أن البيت بناء من حجارة إمتحن الله تعالى الناس به إلى يوم القيامة , الجواب إنما وضع الله عز وجل البيت للناس أنفسهم , وليكون آمناً وموضعه قبلة لهم في الصلاة ، ويحجون إليه كل عام ، ولكن المشركين ركبوا جادة الجهالة ، وغلبت عليهم الغفلة .
الثالث : طائفة من الناس على الحنيفية الإبراهيمية .
ومن خصائص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها عامة تدعو الناس جميعاً للتوحيد والنطق بالشهادتين ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ).
وقوله تعالى [وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ..] ( ) معطوفة على قوله تعالى [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ] ( ) لبيان صفاتهم وخصالهم التي وردت في ثلاث آيات 52-55 من سورة القصص وهي :
الأولى : بيان أن القوم من أهل الكتاب والمراد من الكتاب هنا التوراة التي أنزله الله عز وجل على موسى والإنجيل الذي أنزله الله عز وجل على عيسى .
الثانية : تأكيد أن الكتاب السماوي لأهل التوحيد من الملل السابقة نازل من عند الله ، مما يدل بالدلالة التضمنية على أن المسلمين يؤمنون بالتوراة والإنجيل ، وفيه برزخ دون نفرة أهل الكتاب من دخول الإسلام ، فلا يقول أحدهم كيف أنسلخ من ديني مرة واحدة ، إذ يأتيه الجواب بأن الله عز وجل الذي أنزل الكتب السماوية كلها يدعو الناس للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويخبر الناس بأن القرآن جامع للأحكام الشرعية.
وتفضل الله عز وجل وجعله بياناً وتفصيلاً, سالماً من التحريف والتبديل والتغيير إلى يوم القيامة، قال تعالى[وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ]( ).
الثالثة : الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بنزول القرآن ، ويعود الضمير في قوله تعالى[هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ]( ) إلى القرآن لأن الآيات في سياق الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : تجلي إيمان فريق من أهل الكتاب بالقرآن بأنهم حينما يسمعون آيات القرآن يقولون آمنا به ، أي بنزول القرآن من عند الله ، ومن الإعجاز في هذه الآيات عدم إنحصار هذا الفريق من أهل الكتاب بالعرب , فيشمل اليهود ، وهم غير العرب ويشمل النصارى من العرب وغيرهم .
مما يدل على أن إعجاز القرآن ليس في بلاغته وحدها ، لذا سمّى الله عز وجل كلماته بالآيات أي علامات مبهرات للناس جميعاً .
وفي قوله تعالى [وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ]مسائل :
الأولى : دعوة المسلمين لتلاوة آيات القرآن على الناس .
الثانية : بيان منافع تلاوة آيات القرآن .
الثالثة : بيان الإعجاز في إقامة المسلمين الصلاة , وتلاوتهم آيات القرآن في كل فريضة من الصلاة .
الرابعة : تأكيد الإعجاز الغيري للقرآن بأن سماع الناس له وسيلة مباركة لجذبهم إلى منازل الإيمان .
الخامسة : الثناء من عند الله على أهل الكتاب الذين دخلوا الإسلام لعدم إكتفائهم بإعلان الإيمان بنزول القرآن من عند الله ، إنما أعلنوا للناس جميعاً أن القرآن هو الحق من عند الله عز وجل ، وفي التصديق بنزول القرآن تصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون إيمان فريق من أهل الكتاب وفق القياس الإقتراني هو :
الكبرى : من يؤمن بنزول القرآن يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الصغرى : يؤمن أهل الكتاب بنزول القرآن .
النتيجة : يؤمن أهل الكتاب بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهناك قانون جلي وهو الملازمة بين نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن .
السادسة : إقامة الحجة على المشركين العرب ، فاذا كان أهل الكتاب ، يقرون بأن القرآن هو الحق من عند الله عز وجل فمن باب الأولوية القطعية أن يؤمن به المشركون العرب .
وكان رجال من قريش يسألون اليهود عن نبوة محمد في سنين البعثة الأولى بلحاظ أن اليهود أهل كتاب وعندهم أخبار النبوة , وما في التوراة من البيان والبشارات .
فتفضل الله عز وجل وقام بالإخبار عن شهادة أهل الكتاب بصدق نزول القرآن ، ليكون من معاني هذه الآية إخبار العرب بعدم اللجوء إلى سؤال عامة أهل الكتاب عن صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي إيمان فريق منهم بأن القرآن هو الحق حجة عند السؤال عن صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وجاءت خمس عشرة آية بلفظ [يسألونك] ولكن هذه الآية جاءت بالبيان وتوفير السؤال على الناس ، وفيه زجر وتبكيت للذي ينكر نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما يسأله الناس عنها ، وهو من إعجاز القرآن الغيري ، ومصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) ومنهم من كان يقول للمشركين بأن دينكم وبقاءكم على دين آبائكم خير من دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتفضل الله عز وجل بالإحتجاج بقول فريق من أهل الكتاب .
السابعة : ترغيب الناس بدخول الإسلام ، ومن الإعجاز ورود لفظ أهل الكتاب بصيغة الإطلاق ، وكأن كل أهل الكتاب يؤمنون بالقرآن لبيان نكتة من جهات :
الأولى : لا عبرة في إنكار بعضهم للحق ، فما دام تنزيل القرآن حق وصدق ، فكأن الذي آمنوا بنزوله هم أهل الكتاب جميعاً .
الثانية : إكرام الذين آمنوا بالقرآن من أهل الكتاب ، وصيرورتهم حجة على من سواهم من الناس ، وأسوة للناس في مسالك الرشاد , وهل فيه أجر إضافي لهم.
الجواب نعم ، لذا قال تعالى [أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا] ( ) ومن وجوه صبرهم في المقام تحمل الأذى من الذين كفروا وما يظهرونه من اللوم لهم على دخولهم الإسلام .
الثالثة : تنمية ملكة الإحتجاج عند المسلمين وذكر الموضوع والدليل الذي يكون حجة على الخصم , وفيه دحض للمغالطة .
الثامنة : بيان النصر العظيم للإسلام بايمان أهل الكتاب بنزول القرآن من عند الله ، وهو شاهد بأن الإسلام لم ينتصر بالسيف ، ولم يقاتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهل الكتاب ، ولم يحاربهم ومع هذا فأنهم آمنوا بآيات القرآن عندما سمعوها تتلى من قبل المسلمين .
التاسعة : بعث المسلمين لتلاوة آيات القرآن في الصلاة وخارجها ، وعدم الإلتفات إلى الذين يستخفون بهم ، ويحاولون الإستهزاء بهم ، ونعتهم بالسفه كما في قوله تعالى [سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ]( ).
العاشرة : بيان قانون وهو وصول تلاوة القرآن إلى أهل الكتاب والناس ، وأنهم يسمعون آيات القرآن طوعاً وإنطباقاً ، ولما تفضل الله عز وجل وقال [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) فان الآية دليل على أن الله عز وجل يتكفل بوصول آيات القرآن إلى الناس جميعاً ، وهو من الأسرار الملكوتية في الآية أعلاه .
فكما أنزل الله عز وجل ملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بد وأحد والخندق وحنين ، فانه سبحانه يبعث ملائكة سيارة يقومون بجعل أهل الكتاب والذين كفروا يسمعون آيات القرآن .
وهل يختص الأمر بسماع آيات القرآن , الجواب لا ، إنما يشمل الإحاطة علماً بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والتدبر في معانيها ومضامينها القدسية .
الحادية عشرة : من صفات أهل الكتاب الذين آمنوا بنزول القرآن من عند الله أنهم لم يقولوا ( إنه حق من ربنا ) بصيغة التنكير ، إنما قالوا [إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا] ليفيد الألف واللام العهد والحصر وأن علوم التنزيل إجتمعت في القرآن وهو من الشواهد على قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
وتتضمن الآية الإخبار عن قطع أهل الكتاب الذين آمنوا بأن القرآن لم يأتي بوضع ملك كجبرئيل ، ولم ينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعنى إنما هو كلام الله عز وجل نزل من عنده بواسطة الملك على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه تأكيد وشهادة على أمانة الملك جبرئيل والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نزول القرآن .
ومن معاني صيرورة أهل الكتاب الذين يدخلون الإسلام أسوة لغيرهم من الناس ، وسبباً لتثبيت الإيمان في قلوب المسلمين مغادرة طائفة منهم ملتهم ودخول الإسلام طوعاً , فيتبعهم فريق من الناس من دون أن تصل النوبة إلى السيف , وفيه أمارة على عدم نسخ آية السيف لآيات الموادعة.
الثانية عشرة : تزكية أهل الكتاب الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنفسهم كما ورد في التنزيل [إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : ثناء المسلمين الذين دخلوا الإسلام ممن كانوا أهل كتاب على أنفسهم ، وأنهم لم يدخلوه عن محاكاة لغيرهم أو عن نفع وإرادة الدنيا ، إنما هم على مرتبة من الفقاهة ويستطيعون معها التمييز بين الحق والباطل ، وبين الصدق والكذب ، لذا قالوا أنهم آمنوا بالقرآن لأنه الحق من عند الله عز وجل .
الثانية : تدل الآية بالدلالة التضمنية على أن أهل الكتاب قد تلقوا البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كتب سماوية سابقة وأنهم كانوا يتطلعون إليها ، ويتبعون علامات أوانها ، لذا ما أن سمعوا آيات القرآن حتى أعلنوا مطابقة البشارة لصدق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : شهادة المسلمين الذين دخلوا الإسلام بعد أن كانوا من أهل الكتاب بأن الإسلام هو دين الله في الأرض قبل وبعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفي التنزيل [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( ).
الرابعة : بيان قانون وهو وجود أمة مؤمنة من أهل الكتاب تتطلع إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليؤمنوا به ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ] ( ) .
وهل هذه الأمة مجتمعة في مكان واحد ، الجواب لا ، إنما هم أفراد وجماعات منهم من أدرك أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآمن به وأسلم , ومنهم من بلغه نبأ بعثته بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى فأسلم ، وهو من الدلائل على توالي تجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته ، وقيام الائمة والخلفاء والعلماء بالدعوة إلى الإسلام بالحجة والبرهان .
الخامسة : تنزيه المسلمين ممن كانوا من أهل الكتاب أنفسهم عن الرياء والطمع ، وأنهم لم يدخلوا الإسلام عن خوف من القتل ، ليكون إخبارهم بأنهم مسلمون قبل نزول القرآن على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف وأنهم دخلوا لموافقة صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للبشارات المذكورة في الكتب السماوية السابقة به .
السادسة : جواز تزكية الفرد والجماعة أنفسهم خاصة وأن هذه التزكية سبيل هداية للناس .
لقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإيمان أهل بيته وطوائف من شتى المذاهب والملل ومن أهل مكة ومن المدينة .
ومن أسرار نزول القرآن نجوماً وعلى مراحل متعاقبة توثيق هذه الحقيقة ، وبيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في سبيل الله ، وهل يحتمل شمول مضامين آية البحث لأهل الكتاب الذين يصدقون بنزول القرآن مع بقائهم على ملتهم وديانتهم ، وأن المراد من قولهم [إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ] ( ) لإرادة الإسلام بمعنى الإنقياد لأمر الله عز وجل والتسليم بأنه سبحانه يبعث النبي بعد النبي وتنسخ الشريعة اللاحقة الشريعة السابقة ، والإقرار بأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتمة للنبوات لما ورد في التنزيل حكاية عنهم [إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا] ( ) .
الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( )ليكون هؤلاء شهوداً على تأريخ التنزيل وتكون شهادتهم حجة عليهم عند الله وبين الناس فيقرون بأن القرآن هو الحق ومع هذا يتخلفون عن دخول الإسلام .
فيبادر الكثير من الناس لدخوله بشهادتهم ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ]( ) الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : دخول الناس الإسلام واقية للمسلمين من الهزيمة .
الثانية : كثرة الداخلين في الإسلام حجة على غيرهم ، إذ يتبادر إلى الأذهان عدم إجتماع هؤلاء على خطأ .
الثالثة : تولي دخول الناس الإسلام وعدم مغادرتهم له أو إرتدادهم شاهد بأن الإسلام دين الحق وسبيل النجاة ، أما الذين دخلوا الإسلام منهم , ففي إسلامهم منافع من وجوه :
أولاً : لقد صاروا شهوداً على صدق نزول القرآن من عند الله .
ثانياً : إنهم أسوة حسنة للناس جميعاً بلزوم دخول الإسلام .
ثالثاً : تأهيل هؤلاء الصحابة للإمارة , وإعانة الناس على التفقه في الدين .
رابعاً : كثرة عدد المسلمين بإسلامهم وذراربهم .
خامساً : كل واحد من الذين دخلوا الإسلام من أهل الكتاب حرب على النفاق وهو فاضح للمنافقين وحجة عليهم .
سادساً : صيرورة كل فردمن هؤلاء المؤمنين سفيراً للنبوة والتنزيل .
وفي دخول أهل الكتاب في الإسلام وإقرارهم بأن القرآن حق وصدق تخفيف عن المسلمين والناس ،وبرزخ دون تجدد القتال في أوقات متتابعة ومواضع متعددة .
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بأن تكون أمة مؤمنة من أهل الكتاب حاضرة أوان نزول القرآن فتعلن للملأ والناس أن القرآن نازل من عند الله وفيه علوم الأولين والآخرين وأنباء الغيب وأحكام الحلال والحرام ، فيكون الناس على أقسام :
أولاً : الذين يدخلون الإسلام ، ويحسنون إسلامهم والشكر لله عز وجل على نعمة الهداية والتوفيق إلى الصلاح .
ثانياً : الذين يكتفون بالإمتناع عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا عجزت قريش عن جمع الرجال لمنع فتح المسلمين لمكة وفيه شاهد بأن أهلها كانوا يشتاقون لدخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة وتنزيهها من ضروب الكفر والشرك والأصنام .
ثالثاً : الذين يصرون على الجحود ، ويبقون مقيمين في منازل الكفر ، وحتى هؤلاء فان شهادة أهل الكتاب على صدق نزول القرآن تلح عليهم بلزوم دخول الإسلام , وتبعث النفرة في نفوسهم من هذه الإقامة ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ] ( ).
إن حال الإضطراب والإرباك التي صار عليها الذين كفروا سلاح وبرزخ يبعثهم على الكف عن تحريض الناس على الإسلام ، والإمتناع عن ذم القرآن والتنزيل لأن أهل الكتاب شهدوا بصدق نزوله ، وهل كانت هذه الشهادة بعد إنتهاء نزول آيات القرآن أو أثناء تعاقب نزولها .
الجواب هو الثاني ، وهو من إعجاز القرآن بأن يشهد أهل الملل والنحل وأرباب الفصاحة والبلاغة من العرب على صدق نزوله والآيات تتعاقب في نزولها لتدل بذاتها وتواليها على صدق شهادة الذين أقروا بأن القرآن كلام الله .
فمثلاً جاء خالد بن عقبة بن أبي معيط إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة قبل الهجرة وقال (اقرأ عليّ القرآن فقرأ عليه : ” إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى الفحشاء والمنكر والبغي ” إلى آخر الآية .
فقال : له أعد فأعاد .
فقال : والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر وما يقول هذا بشر) ( ).
وأسلم خالد هذا يوم الفتح وإليه يشير أزهر بن سيحان بخصوص يوم الدار بقوله من الطويل :
يلومونني أن جلت في الدار حاسراً … وقد فرّ منها خالد وهو دارع( )
الثالثة عشرة : إقرار أهل الكتاب بالتوحيد ، وأنهم لا يعبدون إلا الله عز وجل ولم يقولوا بالثلاثة أو بالولد لله عز وجل ، لقوله تعالى في هذه الآيات [إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا] ( ) .
وهو من الدلائل على أن المراد هم المسلمون الذين دخلوا الإسلام وكانوا من أهل الكتاب ، ولا يمنع هذا القول من إرادة غيرهم من أهل الكتاب من الموحدين , فحينما تصل النوبة إلى التنزيل فان المسلمين وأهل الكتاب جميعاً يتفقون على أن الكتاب لا ينزل إلا من عند الله عز وجل ، وهو رب العالمين .
لتكون هذه الآية دعوة للمسلمين لشكر الله تعالى رب العالمين ، وهو من الإعجاز في جعل كل مسلم ومسلمة يتلو قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) عدة مرات في اليوم ، ليكون من معاني الحمد والثناء على الله عز وجل تجديد المسلمين الشكر له سبحانه على نزول آيات القرآن وإقرار أهل الكتاب بأنها حق وصدق نازل من عند الله .
ومن الإعجاز في قوله تعالى [قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا] ( )أن أهل الكتاب يشهدون على السور والآيات التي لم تنزل بعد بأنها من القرآن وأنها من عند الله ، إذ جاءت شهادتهم أثناء مدة توالي نزول القرآن ، وهناك مسائل :
الأولى : من الإعجاز الذاتي للآية القرآنية أنها تدل على أنها كلام الله ، وتتضمن الإخبار القاطع بأن الآيات والسور الأخرى من القرآن نازلة من عند الله سبحانه.
الثانية : من الإعجاز الغيري للآية القرآنية أنها تبعث على الشهادة على صدق نزول القرآن كله من عند الله عز وجل ، لتكون شهادة أهل الكتاب عامة والذين دخلوا الإسلام منهم خاصة دعوة للناس للتطلع إلى نزول المزيد من آيات القرآن ، وتلقيها بالقبول , أما المسلمون فأنهم يتلقونها بالقبول والفخر والعمل بمضامينها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) بأن يشهد الناس على نزول القرآن من عند الله عز وجل وتكون هذه الشهادة سابقة لنزول أكثر آياته وسوره .
الثالثة : تدل شهادة أهل الكتاب على أن القرآن هو الحق على صدق وأمانة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانه [َمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) .
ويحتمل موضوع الآية أعلاه وجوهاً :
أولاً : نزول آيات القرآن .
ثانياً : السنة النبوية جزء من الوحي .
ثالثاً : إرادة المعنى الأعم وشمول القرآن والسنة بمضامين الآية أعلاه .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية أعلاه وبين الوحي والقرآن عموم وخصوص ، فالقرآن سنام الوحي ، ولكن الوحي أعم ويشمل السنة النبوية , وعن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “البقرة سِنام القرآن وذِرْوَته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا، واستخرجت {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} من تحت العرش فوصلت بها أو: فوصلت بسورة البقرة ويس قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة، إلا غفر له، واقرؤوها على موتاكم”)( ).
الرابعة عشرة : يبين قوله تعالى [وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ] ( )جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في تلاوة القرآن على الناس وإتخاذ كل آية منه برهاناً على صدق نزوله من القرآن .
وهل في الآية شاهد على سلامة القرآن من التحريف ، الجواب نعم ، بلحاظ أن أي آية يسمعونها من القرآن حجة للشهادة على نزوله من عند الله سبحانه .
فان قلت موضوع الآية أعلاه هو أيام التنزيل , وليس من تحريف آنذاك خاصة وأن المسلمين وأهل الكتاب كانوا يسمعون من فيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , والجواب نعم هذا صحيح ، ولكن مضامين الآية القرآنية باقية إلى يوم القيامة ففي كل زمان هناك طائفة من أهل الكتاب تشهد بصدق نزول القرآن من عند الله ، ومنهم من يدخل الإسلام ، والشواهد عليه كثيرة .
لذا فمن الإعجاز في الآية أعلاه ورودها بصيغة الجملة الشرطية غير مقيدة بزمان مخصوص [وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ] كما انها لن ترد بصيغة الفعل الماضي .
فلم تقل ( وإذا تُلي عليهم ..) لتفيد صيغة المضارع الدوام والتجدد في كل زمان ، فينتقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى وآيات القرآن تتلى على أهل الكتاب وغيرهم ، ويأتي علم التفسير لبيان ذخائر من آيات القرآن , ويكون عوناً ومدداً للناس في التفقه في علوم القرآن ، والتدبر في معاني آياته .
ويحتمل موضوع قوله تعالى [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ] ( ) وجوهاً :
الأول : أهل الكتاب من اليهود والنصارى أيام نزول القرآن .
الثاني : المراد الأمم السالفة من أهل الكتاب للإخبار عن توارثهم لبشارة نزول القرآن .
الثالث : من إعجاز القرآن أن الآية لم تذكر أهل الكتاب بل ذكرت الذين آتاهم الله الكتاب ، وبين الفريقين عموم وخصوص مطلق ، فالذين آتاهم الله الكتاب على شعب :
الأولى : الأنبياء والرسل السابقون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال : مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفاً . قلت : يا رسول الله كم الرسل منهم؟ قال : ثلثمائة وثلاثة عشر جم غفير .
قال : يا أبا ذر أربعة سريانيون : آدم ، وشيث ، ونوح ، وخنوخ وهو إدريس ، وهو أوّل من خط بقلم ، وأربعة من العرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك ، وأوّل نبي من أنبياء بني إسرائيل موسى ، وآخرهم عيسى ، وأوّل النبيين آدم ، وآخرهم نبيك « ، أخرجه ابن حبان في صحيحه وابن الجوزي في الموضوعات .
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال : قلت : يا نبي الله كم الأنبياء؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً « .
وأخرج أبو يعلى وأبو نعيم في الحلية بسند ضعيف عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كان فيمن خلا من اخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي ، ثم كان عيسى بن مريم ، ثم كنت أنا بعده( ).
ومن الآيات في عالم الثواب تفضل الله بجعل ثواب المرة الواحدة من التلفظ بالحمد لله بعدد الأنبياء والمرسلين، وعن عطاء عن ابن عمر قال : جاء رجل من الحبشة إلى النبي عليه السلام عليه السلام يسأله فقال له رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} سل واستفهم .
فقال : يا رسول الله فضلتم علينا بالصوَر والألوان والنبوّة أفرأيت إن آمنت بمثل ما آمنت به وعملت بمثل ما عملت به أأني لكائن معك في الجنّة؟
قال : نعم ثمّ قال النبي (عليه السلام) : والذي نفسي بيده ليرى بياض الأسود في الجنّة مسيرة ألف عام،
ثمّ قال رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} من قال لا إله إلاّ الله كان له بها عهد عند الله , ومن قال سبحان الله وبحمده كتب له مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة.
قال رجل : كيف نهلك بعدها يا رسول الله؟
قال : إنّ الرجل ليأتي يوم القيامة لو وضع على جبل لأثقله،
قال : فتقوم النعمة من نعم الله سبحانه فيكاد أن تستنفد ذلك كلّه إلاّ أن يتطوّل الله تعالى برحمته( ).
الثانية : المراد أتباع الأنبياء السابقين.
الثالثة : المقصود اليهود والنصارى لأن عندهم التوراة والإنجيل.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق آية البحث، لأن نزول القرآن بشارة يتوارثها الأنبياء من أيام أبينا آدم صلى الله عليه وآله وسلم ليكون الناس بخصوص نزوله على أقسام :
الأول : الذين سبق زمانهم نزول القرآن ويتلقون البشارة بنزوله.
الثاني : الذين عاصروا أيام نزول القرآن وشهدوا كيفية النزول .
الثالث : الذين تلقوا آيات القرآن مجتمعة بين دفتين وهم التابعون وتابعوا التابعين إلى يوم القيامة .
الخامسة عشرة : تقدير قوله تعالى [إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ] ( )على وجوه :
الأول : كنا من قبله مسلمين أي على دين الإسلام الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه طرد للنفرة من النفوس من دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس للإسلام ، وإخبار بأن الذي يأتي به من الأحكام والأوامر والنواهي موجود في الكتب السماوية السابقة ، وهو من الشواهد على نصرة أهل الكتاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى في الثناء على النصارى [وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ] ( ).
ويحتمل موضوع الآية أعلاه وجوهاً :
أولاً : إنهم ناس من النصارى آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخلوا الإسلام .
ثانياً : المراد النجاشي وأصحابه ، وما عنده من الكتب المتوارثة والأنباء عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن سعيد بن المسيب وغيره (بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمرو بن أمية الضمري ، وكتب معه كتاباً إلى النجاشي ، فقدم على النجاشي ، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه ، وأرسل النجاشي إلى الرهبان والقسيسين فجمعهم ، ثم أمر جعفر بن أبي طالب أن يقرأ عليهم القرآن ، فقرأ عليهم سورة مريم ، فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع ، وهم الذين أنزل فيهم { ولتجدن أقربهم مودة } إلى قوله { مع الشاهدين } ) ( ).
ثالثاً : المراد جماعة من نصارى الحبشة لحقوا بجعفر بن أي طالب حين عودته من الحبشة .
رابعاً : الآية عامة بخصوص النصارى الذين آمنوا ويؤمنون بنزول القرآن من عند الله .
خامساً : بيان مقدمات وعلة دخول فريق من أهل الكتاب الإسلام .
سادساً : دعوة المسلمين للتطلع لدخول فريق من أهل الكتاب الإسلام بسماعهم آيات القرآن والتدبر في مضامينها القدسية .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية .
الثاني : إنا كنا من قبله مسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لابد وأن يبعث وينزل عليه هذا القرآن ليكون الوعد الذي يتوارثه الأنبياء السابقون وأتباعهم على وجوه :
الأول : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : نزول القرآن من عند الله .
الثالث : أوان وزمان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : موضع بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو مكة المكرمة .
الخامس : محل ومحط هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو المدينة المنورة والتي كانت تسمى يثرب .
ومن الآيات أن إسمها بالكتب السماوية السابقة (يثرب) وبقيت على ذات الاسم حتى دخلها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً وخلّد القرآن هذا الاسم بقوله تعالى [وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ] ( ).
وجاء القول أعلاه حكاية عن طائفة من المنافقين في معركة الخندق مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمّى المدينة طيبة , وذلك في معركة أحد , في السنة الثالثة للهجرة .
وعن زيد بن ثابت (قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أحد رجع ناس خرجوا معه ، قال : فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرقتين : فرقة تقول : نقاتلهم ، وفرقة تقول : لا نقاتلهم وفي رواية القطان : فرقة يقولون : نقتلهم ، وفرقة يقولون : لا نقتلهم فنزلت: [فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا]( )، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة)( ).
لبيان إصرار المنافقين على تسمية يثرب مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غيرّه إلى اسم طيبة والإخبار بأن ما يفعله المنافقون لا يضر بالإسلام والمسلمين في الاسم والمسمى ، لقد أراد الله عز وجل أن يبقى ذات الاسم (يثرب) الذي يتضمن البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاضراً في الكتاب الخالد إلى يوم القيامة ، وفي الوجود الذهني للناس وفي المجتمعات ليكون حجة ودعوة متجددة للإسلام .
الثالث : إن كنا من قبله مسلمين ) بنبوة الأنبياء السابقين ونزول الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل , وتبشر هذه الكتب كلها بنزول القرآن وتدعو إلى التصديق به ، ومن الآيات أن ذات القرآن يدعو للتصديق بها .
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله ({ الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون}( ) قال : نزلت في عبد الله بن سلام لما أسلم أحب أن يخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعظمته في اليهود ، ومنزلته فيهم ، وقد ستر بينه وبينهم ستراً فكلمهم ودعاهم فأبوا .
فقال : أخبروني عن عبد الله بن سلام كيف هو فيكم؟ قالوا : ذاك سيدنا وأعلمنا قال : أرأيتم إن آمن بي وصدقني أتؤمنون بي وتصدقوني؟ قالوا : لا يفعل ذاك . هو أفقه فينا من أن يدع دينه ويتبعك ، قال أرأيتم إن فعل؟ قالوا : لا يفعل .
قال : أرأيتم إن فعل؟ قالوا إذاً نفعل . . قال : أخرج يا عبد الله بن سلام فخرج , فقال : أبسط يدك أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فبايعه ، فوقعوا به وشتموه , وقالوا : والله ما فينا أحد أقل علماً منه ، ولا أجهل بكتاب الله منه قال : ألم تثنوا عليه آنفاً؟ قالوا : انا استحينا أن تقول اغتبتم صاحبكم من خلفه .
فجعلوه يشتمونه فقام إليه أمين بن يامين فقال : أشهد أن عبد الله بن سلام صادق ، فابسط يدك فبايعه ، فأنزل الله فيهم { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون ، وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين } يعني إبراهيم واسمعيل وموسى وعيسى وتلك الأمم وكانوا على دين محمد صلى الله عليه وسلم ) ( ).
السادسة عشرة : حينما ينال إنسان أو جماعة مرتبة فان الذين نالوها من قبل يتفاخرون بما بلغوه ، ويذكرون ما بلغوه من المراتب ويودون ثناء الناس عليهم
فلما سارع الناس لدخول الإسلام ، ووقفوا صفوفاً في الصلاة ، قال أهل الكتاب بأننا سبقناكم إلى الإسلام ، لتأتيهم الدعوة إلى الإيمان والإقرار بالجنان بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل هم مثل الأعراب في قوله تعالى [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ] ( ) الجواب لا ، وهو قياس مع الفارق ، إذ وردت هذه الآيات بالثناء على أهل الكتاب الذين يؤمنون بأن القرآن هو الحق ونازل من عند الله .
وهل في قولهم [إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا]بالشهادة للقرآن وأنه نازل من عند الله عز وجل إشارة إلى التحريف الذي طرأ على الكتب السماوية السابقة أم أن القدر المتيقن منه هو الإقرار بأنه الكتاب الجامع للأحكام الشرعية ومضامين الشريعة الناسخة .
وهل يدل إقرارهم بأن القرآن هو الحق على عدم وجود النسخ فيه ، الجواب لا ، فمن إعجاز القرآن وجود النسخ في آياته ، قال تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا] ( ) ولكن هذا لا يعني كثرة النسخ والمحاكاة بالقول فيه .
فاذا قال أحد المفسرين بأن الآية الفلانية منسوخة إتبعه كثير من المفسرين ، ومن الأمور التي تلزم العناية والدراسة أن أحد المفسرين يؤسس نوع قانون في المقام يتعلق بالنسخ فيتبعه الباقون خاصة مع تقدم زمانه كما في القول أن آيات العفو والصفح نسختها آية السيف والمختار أنه لا أصل لهذا القول إسماً ومسمى .
لقد أراد أهل الكتاب التباهي والإفتخار بسبقهم إلى الإسلام ، ليكونوا دعاة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولتتجلى آيات من الإعجاز في نبوته أن الدعوة إلى التصديق به وإتباعه سابقة له ومصاحبة له ومتأخرة عليه .
وتأتي هذه الدعوة طوعاً وإنطباقاً وقهراً .
السابعة عشرة :لقد تفضل الله عز وجل وأخبر بأنه يؤتي هذه الطائفة من أهل الكتاب الذين دخلوا الإسلام أجرهم مرتين أجر تعاهد الإسلام وإتباع الكتب السماوية قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وأجر وثواب دخولهم الإسلام .
(عن مقاتل بن حيان قال : لما نزلت { أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا } فخر مؤمنوا أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : لنا أجران ولكم أجر ، فاشتد ذلك على الصحابة , فأنزل الله {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته}( ) فجعل لهم أجرين مثل أجور مؤمني أهل الكتاب , وسوى بينهم في الأجر) ( ).
وتبعث الآية المسلمين على السعي في سبيل الله والتحلي بالتقوى ، والصدق في المعاملة ، وتخبر عن قانون وهو أن الأجر من عند الله غير محدود أو مقيد بحد من كثرة الكثرة ، وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، فاذا كان هؤلاء المسلمون الذين كانوا يعملون على نهج الكتب السماوية السابقة يؤتون أجرهم مرتين ، فان الله عز وجل يرزق المؤمنين الذين يتلقون الإسلام وراثة عن آبائهم أجرهم مرتين .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ( ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدرك النبي صلى الله عليه و سلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران وعبد مملوك أدى حق الله عز و جل وحق سيده فله أجران ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها فأحسن أدبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران) ( ).
وقيل من الذين أسلموا ممن كانوا من أهل الكتاب ( سلمان المحمدي ، وعبد الله بن سلام ) ( ).
وعن الربيع في الآية (” أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ” ، قَالَ: كَانَ قَوْمٌاً كَانُوا فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ مُتَمَسِّكِينَ بِالإِسْلامِ مُقِيمِينَ عَلَيْهِ صَابِرِينَ عَلَى مَا أُوذُوا، حَتَّى أَدْرَكَ رِجَالٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَحِقُوا بِهِ”) ( ).
وبين أهل الكتاب والذين يذكرهم الربيع أعلاه عموم وخصوص مطلق، إذ أنهم من أهل الكتاب أيضاً وإن لم يكونوا من اليهود أو النصارى .
الثامنة عشرة : لقد ذكرت هذه الآيات الصفات الحميدة لهؤلاء المؤمنين، وهو من الشواهد على أن في القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) وأخبر الله عز وجل أنهم ينصفون القرآن ويعلنون إيمانهم به ، ثم يسمعهم الذين كفروا اللغو ، لبيان أن هذا اللغو بسبب إيمانهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبالقرآن .
فاذا سمعوا التعريض والتوبيخ على الإيمان أعرضوا عنه واجتنبوا أصحابه .
ترى لماذا لم يجادلوهم أو يحتجوا عليهم ، الجواب : قد بينت هذه الآيات إحتجاجهم بالبرهان القاطع من جهات :
الأولى : إتصاف هؤلاء المؤمنين بأنهم من أهل الكتاب .
الثانية : شهادة الله عز وجل لهم بأنه تفضل عليهم بنزول الكتاب لقوله تعالى[ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ].
الثالثة : قطع هؤلاء المؤمنين بأن القرآن هو الحق والكتاب الذي كانوا يتطلعون لنزوله من عند الله , وفيه الكفاية والغنى .
وكأنهم يقولون للناس إتبعونا في شهادتنا وأدخلوا الإسلام ، فقد خبرنا الكتب السماوية السابقة وعندنا البشارات والإنذارات ، والتي تدعو إلى التصديق بالقرآن .
لقد كانت أخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدد من آيات القرآن معلومة عند أهل الكتاب، وأخرج ابن مردويه عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً أوحى الله إلى موسى بن عمران: أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة ، فإنه من يقرأها في دبر كل صلاة مكتوبة أجعل له قلب الشاكرين ، ولسان الذاكرين ، وثواب النبيين ، وأعمال الصديقين ، ولا يواظب على ذلك إلا نبي، أو صديق ، أو عبد امتحنت قلبه بالإِيمان ، أو أريد قتله في سبيل الله)( ).
الرابعة : لما أخبروا عن إسلامهم فان من خصائص المسلمين الإعراض عن اللغو , قال تعالى[وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا]( ).
الخامسة : بيان إنشغال المسلمين بطاعة الله , وتلقي التنزيل والإنصات إلى تلاوة القرآن .
التاسعة عشرة :تبين هذه الآيات من سورة القصص أن إعراض الذين آمنوا عن اللغو والجهة التي يصدر منها وهم الذين كفروا ليس على نحو السالبة الكلية ، إنما يخاطبونهم بصيغ الحجة التي لا يرجو صاحبها الجواب من الخصم ولا ينتظر الرد عليها لأنها قانون كما في قوله تعالى [وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا] ( ).
(عن أبي برزة الأسلمي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال : رأيت قوماً من أمتي ما خلقوا بعد،
وسيكونون فيما بعد اليوم أحبّهم ويحبّونني،
ويتناصحون ويتبادلون،
يمشون بنور الله في الناس رويداً في خفية وتقية،
يسلمون من الناس،
ويسلم الناس منهم بصبرهم وحلمهم،
قلوبهم بذكر الله يرجعون،
ومساجدهم بصلاتهم يعمرون،
يرحمون صغيرهم ويجلّون كبيرهم ويتواسون بينهم،
يعود غنيّهم على فقيرهم وقويّهم على ضعيفهم،
يعودون مرضاهم ويتبعون جنائزهم.
فقال رجل من القوم : في ذلك يرفقون برفيقهم؟
فالتفت إليه رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال : كلاّ،
إنّهم لا رفيق لهم،
هم خدّام أنفسهم،
هم أكرم على الله من أن يوسّع عليهم لهوان الدنيا عند ربهم ثمَّ تلا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} هذه الآية {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} )( ).
ليرد هؤلاء على اللغو والشتم والتعريض والتشكيك والنفاق بالقول [لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ]( ) فهل هذه الآية محكمة أو منسوخة ، الجواب هو الأول ، فهؤلاء المؤمنون لا يقاتلون بسبب اللغو والشتم والأذى الذي يأتيهم باللسان ويطرق أسماعهم في الليل والنهار من أهل الجهالة والضلالة، خصوصاً وان هؤلاء المؤمنين صاروا نبراساً يقتدي بهم الناس ، بالإضافة إلى أن ذات فعلهم بدخول الإسلام حجة عقلية وحسية وداعية إلى الله وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
ليكون من الشواهد على تعدد أسباب نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وانه لا يتوقف على آية السيف وحدها ، فتتجلى منافع عظيمة في كل يوم من أيام الدنيا لكل آية من آيات القرآن التي قيل أن آية السيف ناسخة لها .
والمراد من [لَنَا أَعْمَالُنَا] أي تصديقنا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلاوة القرآن والشهادة بأنه نازل من عند الله عز وجل ، ومن معاني الحق في قوله تعالى [إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا]وجوه :
أولاً : المراد التنزيل ،وأن القرآن ليس من وضع إنسان أو ملك ، وتقدير لفظ ( من ربنا ) على جهات :
الأولى : القرآن كلام صادر من عند الله تعجز الخلائق عنه .
الثانية : التسليم والقطع بأن القرآن نازل من عند الله.
الثالثة : إن الله عز وجل هو الذي إختار النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لينزل عليه القرآن .
ليكون من معاني الحق في المقام أنه ليس للناس إلا التسليم والرضا والقبول بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة : الإقرار بالوحي النازل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم تصديقه.
ثانياً : التسليم بأن أحكام القرآن كلها حق وصدق ، ليكون في قول أهل الكتاب [إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا] دعوة للناس لتلقي أحكام الحلال والحرام ، والأوامر والنواهي في القرآن بالقبول والتصديق .
ثالثاً : لا ينزل من عند الله إلا الحق والصدق .
رابعاً : حث الناس على الشكر لله عز وجل على نعمة نزول الحق من عنده سبحانه .
ومن أسماء الله الحسنى الحق ، وفي التنزيل [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ] ( ) والحق لغة مصدر حق الشيء إذا ثبت ووجب ، والحق في الإصطلاح هو ما يثبت لله عز وجل على الإنسان من فعل أو قول يجب أن يؤديه , ومنه قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ]( )وقوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( ).
وعن معاذ بن جبل قال ( كنت رديف النبي صلى الله عليه وآله و سلم فقال لي : يا معاذ تدري ما حق الله على عباده ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ثم قال : تدري ما حقهم عليه اذا فعلوا ذلك ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : حقهم عليه أن لا يعذبهم ) ( ).
ومن الحق ما منحته الشريعة للناس كافة من الملك والشأن الخاص والرزق الكريم الذي لا يجوز التعدي والتجاوز عليه ، لذا قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]ويطلق الحق على الصدق .
وتتعدد معاني الحق فتشمل الموجود والحكمة والإعتقاد المطابق للواقع واليقين والواجب ، والأمر الثابت الذي لا يقبل الإنكار .
وبين الحق والإختصاص عموم وخصوص مطلق , فكل حق هو إختصاص وليس العكس ، ومن حق الإختصاص في الشريعة طريق الدار ، ومسيل الماء ونحوه ، فلا يزاحم صاحبه فيه ، ولكنه لا يحق له البيع أو الإجارة أو الهبة ونحوها .
خامساً : من معاني الحق في قوله تعالى [إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا]سلامة القرآن من التحريف .
سادساً : إفادة القرآن معاني الحق والصدق ، وهو بالحق نزل وبالحق جاء .
سابعاً :عدم طرو ووصول يد التحريف إلى القرآن إلى يوم القيامة .
ثامناً : تأكيد نسخ شريعة القرآن للشرائع السابقة .
لذا ورد لفظ [الْحَقُّ] بألف ولام التعريف والمراد العهد .
تاسعاً : إخبار أهل الكتاب عن إختتام التنزيل بالقرآن , وتقدير الآية : إنه الحق الذي لا تنزيل بعده .
عاشراً : إرادة خلو آيات القرآن من التزاحم أو التعارض وهو من إعجاز القرآن الذاتي والغيري , إذ يتحدى المسلمون الذين كانوا على ملة أهل الكتاب الناس بأن من صفات القرآن الذي جاء الأنبياء السابقون بالبشارة به.
الحادي عشر : بيان لزوم تعاهد المسلمين بالعمل بالقرآن وأحكامه ، وعن معقل بن يسار قال (قال رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} إعملوا بالقرآن،
أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه وآمنوا به ولا تكفروا بشيء منه،
وما اشتبه عليكم،
فردّوه إلى الله وإلى أولي العلم من بعدي كيما يخبروكم ) ( ).
الثاني عشر : تأكيد حاجة الناس إلى القرآن في كل زمان وعدم إمكان الإستغناء عنه تلاوة ومضموناً وتفسيراً وبياناً للأحكام .
الثالث عشر : إرادة شهادة القرآن على الناس يوم القيامة ، وشفاعته للمؤمنين ، ونجاة أهله وحملته وقرائه من العذاب يومئذ .
(عن ابن مسعود قال : إن هذا القرآن شافع مشفع وما حل مصدق من جعله أماماً قاده إلى الجنة ، ومن جعل خلفه ساقه إلى النار) ( ).
ومنهم من يعرف الحق في هذا الزمان ووفق الإصطلاح القانوني ونظرية الحق أنه يتألف من أربعة عناصر ، عنصران داخليان هما :
الأول :الإنتماء .
الثاني : التسلط .
وعنصران خارجيان هما :
الأول : ثبوت الحق في مواجهة غيره .
الثاني : الحماية القانونية.
لبيان تقوم التشريع القانوني بحفظ القيمة المالية والملكية الأدبية والمعنوية والإعتبار بالحماية بمواد القانون .
ولما سمع الإمام علي عليه السلام قول الخوارج (لا حكم الا الله) (قال: كلمة حق يراد بها باطل نعم إنه لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة وإنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر , ويبلغ الله فيها الاجل ويجمع به الفئ , ويقاتل به العدو , وتأمن به السبل , ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر , ويستراح من فاجر) ( ).
الناسخ لآية السيف
هل يمكن تأسيس مبحث وهو الناسخ لآية السيف , الجواب لا مانع من فتح هذا التحقيق , والمدار على الدليل أو عدمه, وإرادة المعنى الأعم للنسخ . ويتقوم بوجوه :
الأول : ذكر الآيات التي يحتمل أنها ناسخة لآية السيف .
الثاني : ذكر الآيات التي تمنع من إطلاق العمل بآية السيف .
الثالث : دلالة آية السيف نفسها على التخصيص والعمل بها في مدة مخصوصة ، لإحتمال إذا جاءت الأشهر الحرم من السنة التالية لنزول الآية ، فلا يجوز القتال فيها إلا أن يبدأ المشركون القتال .
الرابع : موضوعية الزمان وتقادم أفراده في التأويل والعمل بمضمون الآيات والجامع بينها .
الخامس : تبدل الحال وتغير الأسباب التي نزلت فيها آيات القرآن ، ولا يعني هذا تعطيل العمل بأحكام آية من القرآن , ولكنه من السعة والمندوحة في العمل بآيات القرآن .
إن إقرار أهل الكتاب واهل البلاغة من العرب بصدق نزول القرآن من عند الله شاهد بأن الأمر لا يصل إلى نسخ آية السيف لآيات الموادعة والصفح والعفو ، فان شهادة أهل الكتاب بصدق نزول القرآن دعوة للناس جميعاً للتدبر في المضامين القدسية لآياته , وليس من إنسان إلا ويحب أن يسمع الكلام النازل من عند الله ، وفي التنزيل [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ] ( ).
ومن إعجاز نظم القرآن مجئ الآية أعلاه بعد آية السيف مباشرة ، وكأنها ناسخة لآية السيف ، أو أنها تمنع من العمل بآية السيف في مواطن مخصوصة منها الإستجارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء كانت الإستجارة في الأشهر الحرم أو غيرها , وفي الحرم أو مواطن القتال وطلب الأمن أو حال السلم .
وعلى فرض آن آية السيف قد تكون منسوخة فأنها تصير ناسخة ومنسوخة .
فان قلت قد قاتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الشهر الحرام فهل يكون هذا القتال حجة للمسلمين لأن يقاتلوا فيه أيام النبوة وبعدها ، الجواب لا ، كما في حرمة مكة فقد أباح الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القتال فيها ساعة من نهار ، ثم لم يأذن له ولا لغيره بالقتال فيها .
(وأخرج الشيخان عن أبي شريح العدوي ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام يوم الفتح فقال ان مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر ان يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها فقولوا له إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس .
وأخرج ابن سعد أنا الواقدي حدثنا إبراهيم بن محمد العبدري عن أبيه قال قال عثمان بن طلحة لقيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة قبل الهجرة فدعاني إلى الاسلام فقلت : يا محمد العجب لك حيث تطمع إن اتبعك وقد خالفت دين قومك وجئت بدين محدث , وكنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس فأقبل يوما يريد ان يدخل الكعبة مع الناس فغلظت عليه ونلت منه وحلم عني .
ثم قال يا عثمان : لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت , فقلت : لقد هلكت قريش وذلت , فقال بل عمرت يومئذ وعزت ودخل الكعبة .
فوقعت كلمته مني موقعا ظننت ان الامر سيصير إلى ما قال فأردت الاسلام فإذا قومي يزبرونني زبرا شديدا .
فلما كان يوم فتح مكة قال لي : يا عثمان ائت بالمفتاح فأتيته به فأخذه مني ثم دفعه إلي وقال خذها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم فلما وليت ناداني فرجعت إليه , فقال ألم يكن الذي قلت لك فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت فقلت: بلى أشهد انك رسول الله)( ).
وفيه مسائل:
الأولى : بيان الأذى الشديد الذي كان يلاقيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قومه.
الثانية : فتح الكعبة للناس جميعاً قبل البعثة , وحجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من دخولها مع التعريض والإيذاء له لأنه أخبر عن كونه رسول رب العالمين.
الثالثة : صدور الأذى والشتم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من سادن الكعبة الذي يجب أن يكون شاهداً على التوحيد , متعاهداً لمبادئه, وصدره رحباً واسعاً.
الرابعة : بيان حقيقة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتردد في دعوة أي فرد للإسلام، ومنهم الذين يكون لهم شأن ومنزلة في المجتمع، لأن إسلامهم عون وسبب لجذبهم وغيرهم إلى الإسلام.
الخامسة : إقامة النبي صلى الله وآله وسلم الحجة على الناس بدعوتهم إلى الإسلام على نحو القضية الشخصية ليصاحب الندم والأسى الذي يتخلف عن دعوته.
السادسة : دلالة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي ) على تحدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرؤساء من قريش وعدم الخشية منهم، ولبيان حسن توكله على الله، وفي التنزيل[فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
السابعة : من المغيبات التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة هو فتح مكة، ولم يطرأ في ذهن عثمان بن طلحة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يهاجر إلى المدينة ثم يعود فاتحاً.
الثامنة : إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن ظهور وعلو دولة الإسلام , وحديث طلحة هذا من مصاديق قوله تعالى[لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( ).
التاسعة : تحقق ما أخبر عنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
العاشرة : تذكير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس بفضل الله عز وجل عليه بالنصر.
الحادية عشرة : تأكيد حقيقة أن الإسلام والفتح عز وفخر لقريش وليس ذلاً لها.
الثانية عشرة : عدم إنتقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ممن آذاه وتسميته يوم فتح مكة يوم الرحمة شاهد على نسخ ذات آية السيف أو قل التوقف عن العمل بمضامينهاً , وفي ساعة أباح الله عز وجل مكة فيها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وبالنسبة للأشهر الحرم فورد الإذن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالقتال فيها دفاعاً , وعندما يبدأ الذين كفروا القتال فيها ويستحلون حرمتها .
ولم يقع في فتح مكة قسم ولا غنائم ، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبي أحد من أهلها .
الرابع : الوقائع والأحداث التي حدثت بعد نزول آية السيف ، ولم يأمر فيها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهدر دماء المشركين .
الخامس : من خصائص السنة النبوية أنها تفسير وبيان للقرآن ، وفيها شواهد كثيرة تدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعفو ويصفح عن المشركين حتى بعد نزول آية السيف ، ومنها وقائع فتح مكة إذ قال (اليوم يوم المرحمة ) ( )
ويوم فتح مكة قال سعد بن عبادة (الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمَ تُسْتَحَلّ الْحُرْمَةُ الْيَوْمَ أَذَلّ اللّهُ قُرَيْشًا فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ حَتّى إذَا حَاذَى أَبَا سُفْيَانَ نَادَاهُ يَا رَسُولَ اللّهِ أُمِرْت بِقَتْلِ قَوْمِك ؟ زَعَمَ سَعْدٌ وَمَنْ مَعَهُ حِينَ مَرّ بِنَا قَالَ يَا أَبَا سُفْيَانَ الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمَ تُسْتَحَلّ الْحُرْمَةُ الْيَوْمَ أَذَلّ اللّهُ قُرَيْشًا) ( ) .
أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأخذ الراية منه وقال اليوم يوم المرحمة اليوم أعز الله فيه قريشاً.
(وَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ الْفِهْرِيّ : وَيُقَالُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ عَلِيّا عَنْهُ فَأَخَذَ اللّوَاءَ فَذَهَبَ عَلِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ بِهَا حَتّى دَخَلَ بِهَا مَكّةَ فَغَرَزَهَا عِنْدَ الرّكْنِ) ( ).
السادس : القدر المتيقن من آية السيف هم كفار قريش الذين أصروا على محاربة النبوة والإسلام ، وأكثروا من الإجهاز على المسلمين وجمع الجيوش والزحف بها إلى المدينة المنورة لإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع : بيان قانون وهو لو دار الأمر بين الآية هل هي منسوخة أو لا فالأصل أنها غير منسوخة ، ويشمل آية السيف نفسها .
ومع أننا لا نقول بنسخ السنة النبوية للقرآن ، فان النصوص الواردة برأفة ورحمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالناس وعفوه عن المشركين في كثير من الوقائع والمناسبات ، وكيف أنه لا يرد من سأله شاهد على إستدامة العمل بآيات العفو والصفح .
(عن ابن (ابري) قال : لما هزم المسلمون أهل أسفندهان انصرفوا فجاءهم يعني عمر فاجتمعوا،
فقالوا : أي شيء تجري على المجوس من الأحكام فأنهم ليسوا بأهل كتاب وليسوا من مشركي العرب،
فقال : علي بن أبي طالب عليه السلام : بل هم أهل الكتاب وكانوا متمسكين بكتابهم وكانت الخمر قد أحلّت لهم فتناولها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله فتناول اخته فوقع عليها , فلما ذهب عنه السكر ندم وقال لها : ويحك ما هذا الذي أتيت وما المخرج منه ؟قالت : المخرج منه أن تخطب الناس،
فتقول : يا أيّها الناس إنّ الله أحل نكاح الأخوات فإذا ذهب (هذا) في الناس وتناسوه خطبتهم فحرمته،
فقام خطيباً،
فقال : يا أيّها الناس إنّ الله أحلّ نكاح الأخوات فقال الناس جماعتهم : معاذ الله أن نؤمن بهذا أو نقرّ به ما جاءنا به نبي ولا أُنزل علينا في كتاب فرجع إلى صاحبته فقال : ويحك إنّ الناس قد أبوا عليّ .
قالت : إذا أُبّوا عليك فأبسط فيهم السوط قال : فبسط فيهم السوط،
فأبى الناس أن يقرّوا فرجع إليها فقال : قد بسطت فيهم السوط فأبوا أن يقرّوا قالت : فجرّد فيهم السيف،
قال : فجرّد فيهم السيف فأبوّا أن يقرّوا،
وقال لها : ويحك إنّ الناس قد أبوا أن يقرّوا،
قالت : خُدّ لهم أخدوداً ثم أوقد فيها النيران ثم اعرض عليها أهل مملكتك فمن تابعك فخلّ عنه ومن أبى فأقذفه في النار،
فخدّ لهم أخدوداً فأوقد فيها النيران وعرض أهل مملكته على ذلك فمن أبى قذف في النار ومن أجاب خلّى سبيله،
فأنزل سبحانه فيهم : {قُتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود} إلى قوله : {عَذَابُ الْحَرِيقِ})( ).
الآية الرابعة
قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ]( ) .
ومن معاني هذه الآية أمور :
الأول : جلاء ووضوح معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية , وهي سبيل مبارك لدخول الإسلام من غير إكراه، ليكون من معاني قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، التسليم بهذه المعجزات ودعوة الناس للإيمان بها من غير إكراه.
الثاني : بيان قانون وهو أن الناس لم يدخلوا في الإسلام بالإكراه، لتتجلى منافع آية (لا إكراه) في هذه الأزمنة بتكذيبها الذي يدعي أن الإسلام إنتشر بالسيف .
الثالث : تأديب الآية للمسلمين بعدم إكراه الناس على الإسلام لذا قبلت الجزية من اليهود والنصارى الذين في دولة الإسلام لقاء حفظهم وسلامتهم وأدائهم لعبادتهم بالكيفية الخاصة بهم من غير أذى أو ضرر .
الرابع : النهي والمنع عن إكراه الناس للمسلمين على ترك دينهم، وقد لاقى المسلمون الأوائل أشد الأذى من الكفار، لحملهم على الإرتداد .
ومن خصائص هذه الآية أنها مصداق لقوله تعالى[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( ).
الخامس : الآية بشارة صيرورة المسلمين في منعة ولهم دولتهم، ولا يستطيع أن يحملهم على ترك الإسلام، إذ يستطيعون الهجرة إليها، ولم تكن تلك الدولة يومئذ إلا بلدة واحدة هي المدينة ( يثرب ) لتشع منها أنوار الرسالة إلى أقطار الأرض كلها , لتكون آية (لا إكراه) من مصاديق قوله تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
السادس : التخفيف عن المسلمين في الدعوة إلى الله ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
ويمكن الرد على أولئك الذين قالوا أن آية [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] ( ) منسوخة بآية السيف باحتمال عكس ما يقولون ، وأن هذه الآية هي التي نسخت أو تنسخ آية السيف ، لولا أن آية ( لا إكراه ) نزلت بعد غزوة بني النضير في شهر ربيع أول من السنة الرابعة للهجرة .
وهل يتعارض القولان ويتساقطان كما في علم الأصول ، الجواب لا ، لعدم ثبوت أي منهما , ولأن معاني كل من الآيتين أعم ، ومنها ما يتجلى في أسباب نزول هذه الآية .
وعن ابن عباس في قوله ({ لا إكراه في الدين } قال : نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين ، كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو رجلاً مسلماً ، فقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ، فأنزل الله فيه ذلك)( ) .
(عن سعيد بن جبير في قوله { لا إكراه في الدين } قال : نزلت في الأنصار خاصة , كانت المرأة منهم إذا كانت نزورة أو مقلاة تنذر : لئن ولدت ولداً لتجعلنه في اليهود تلتمس بذلك طول بقاءه ، فجاء الإِسلام وفيهم منهم .
فلما أجليت النضير , قالت الأنصار : يا رسول الله أبناؤنا وإخواننا فيهم ، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنزلت { لا إكراه في الدين } فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد خير

أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فهم منهم، فأجلوهم معهم ) ( ).
وقد تقدم باب أسباب نزول هذه الآية( ).
والدين لغة هو الطريقة والطاعة والإنقياد , ويأتي بمعنى الجزاء .
عن أبى حاتم عن الأصمعى قال: كان ملكٌ من ملوك غسان يعذر النساء، لا يبلغه عن امرأة جمالٌ إلا أخذها، فأخذ بنت يزيد بن الصعق الكلابى، وكان أبوها غائباً، فلما قدم أخبر، فوفد إليه، فصادفه منتدياً، وكان الملك إذا انتدى لا يحجب عنه أحدٌ، فوقف بين يديه وقال:
يا أيها الملك المقيت أما ترى … ليلاً وصبحاً كيف يختلفان
هل تستطيع الشمس أن تؤتى بها … ليلاً وهل لك بالمليك يدان
فاعلم وأيقن أن ملكك زائلٌ … واعلم بأن كما تدين تدان
فأجابه الملك:
إن التى سلبت فؤادك خطةٌ … مرفوضةٌ ملآن يا ابن كلاب
فارجع بحاجتك التى طلبتها … والحق بقومك في هضاب أباب
ويروى ” إراب ” . ثم نادى أن هذه السنة مرفوضة، فقال أبو عبيدة: ما أنشد هذا البيت ملكٌ ظالمٌ إلا كف من غربه( ).
والدين في الإصطلاح هو التسليم لله عز وجل , والإنقياد لأوامره ، وفي التنزيل[ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ]( ).
وعلى هذا تكون معاني الدين في الآية أعلاه أعم من الدخول فيه ، إذ يكون نفي الإكراه فيه مسألة سيالة تتغشى جميع آنات وعمل المسلم , وأصول وفروع الشريعة الإسلامية ، مما يدل على أنها أعم من أن تتعلق بالنسخ .
ومن إعجاز القرآن أن المسلمين والمسلمات في كل زمان يتلون هذه الآيات في الصلاة , وفي المدارس والأسواق والجدال والإحتجاج خاصة وأنها جاءت بعد آية الكرسي التي لها شأن وفضل خاص ، وهو قوله تعالى [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ]( ).
[قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] ( ) وموضوع الآية مختلف إذ أنه يخص الكفار من أهل الكتاب ممن لا يؤمن بالله عز وجل ولا يقر بالبعث واليوم الآخر , ويستحل المحرمات كشرب الخمر والزنا والربا.
وعن الزهري قال (أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجزية من مجوس أهل هجر ، ومن يهود اليمن ونصاراهم من كل حالم دينار)( ).
ومثله عن مسروق ، وكل من الزهري ومسروق من التابعين ولو كان لبان ولرواه عدد من الصحابة ، وورد في أخبار أهل الكتاب أيام التنزيل والوقائع التي حدثت عند دفع الجزية , وسؤالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التخفيف والتـأجيل وإستجابته لهم.
ومن الإعجاز أن القتل في الآية أعلاه ليس مطلقاً , إنما هو مقيد بدفع الجزية ، فما أن يرضوا بدفعها حتى يتوقف المسلمون عن قتالهم بخلاف المشركين من العرب فلابد من إيمانهم .
وجاءت آية البحث بعد آية الكرسي التي وردت نصوص عديدة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتضمن فضلها وعظيم شأنها بين آيات القرآن ، وهي ضياء للقارئ ونور للمستمع ، وعن الإمام الحسن بن علي عليه السلام ، (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ آية الكرسي في دبر الصلاة المكتوبة كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى) ( ).
وعن ابن عباس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة أعطاه الله قلوب الشاكرين ، وأعمال الصديقين ، وثواب النبيين ، وبسط عليه يمينه بالرحمة ، ولم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت فيدخلها) ( ).
لقد كان نزول آية الكرسي فتحاً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى يوم القيامة فهي مدد وعون لكل واحد منهم , وفي أمور الدين والدنيا ، وهي واقية من شياطين الإنس والجن .
وأخرج الطبراني عن أبي أيوب قال : (كنت مؤذى في البيت ، فشكوت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانت روزنة في البيت لنا ، فقال : أرصده فإذا أنت عاينت شيئاً فقل : أجيبي يدعوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فرصدت فإذا شيء قد تدلى من روزنة ، فوثبت إليه ، وقلت : اخسأ يدعوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخذته فتضرع إلي ، وقال لي : لا أعود .
فأرسلته فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ما فعل أسيرك؟ فأخبرته بالذي كان فقال : أما إنه سيعود . ففعلت ذلك ثلاث مرات كل ذلك آخذه وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالذي كان ، فلما كانت الثالثة أخذته .
قلت : ما أنت بمفارقي حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فناشدني وتضرع إليّ وقال : أعلمك شيئاً إذا قلته من ليلتك لم يقربك جان ولا لص ، تقرأ آية الكرسي ، فأرسلته ثم أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ما فعل أسيرك؟ قلت : يا رسول الله ناشدني وتضرع إلي حتى رحمته ، وعلمني شيئاً أقوله إذا قلته لم يقربني جن ولا لص . قال : صدق وإن كان كذوباً) ( ).
وأختتمت آية الكرسي بقوله تعالى [وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ]( ) لبيان عظيم قدرة الله عز وجل وأن الأشياء كلها مستجيبة لمشيئته بالكاف والنون ، فقد ورد في التنزيل [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
ولو شاء الله سبحانه لحمل الناس على الإيمان بذات المشيئة ، وقلوب الناس كلها بيده يقلبها كيف يشاء ، فبعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ) ليكون هذا الرعب على وجوه :
الأول :أنه برزخ دون تحقيق الذين كفروا النصر في قتالهم مع المسلمين ، خاصة وأن الآية أعلاه وردت في معركة أحد ، إذ زحف ثلاثة آلاف رجل من المشركين على المدينة , وهم يرومون قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ويتباهون بكثرة عددهم وتفوقهم في العدة والعدد والمؤن والسلاح على المسلمين ، فتفضل الله عز وجل بأن جعل الفزع والخوف ينفذ إلى قلب كل واحد منهم ، وهذا الفزع من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثاني : إكرام الله عز وجل للمسلمين برؤيتهم لحال عدوهم لظهور مبرز خارجي على المشركين عندما يملأ قلوبهم الرعب والفزع ، لبيان أن ذات الرعب أذى وعقوبة ، وهو سبب لشدة الأذى والضرر الذي يظهر على جوارح وأفعال المشركين ، ومن الشواهد عليه سرعة إنسحابهم من معركة بدر وأحد ، مع تركهم الأسرى والأزواد.
الثالث : منع المشركين من إكراه الناس على الكفر فلما تفضل الله عز وجل وجعل رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجميع الناس ليس من إستثناء فيها ، لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) فانه سبحانه منع الحواجز بين رسالته والتنزيل وبين الناس جميعاً.
الرابع : من خصائص الرعب أنه يجعل صاحبه ينشغل بنفسه وتضعف همته ، ويقصر في أمله ، وهو من الإعجاز ، فلما سعى المشركون في الصد عن سبيل الله إبتلاهم الله بأنفسهم ، وهل هذا الرعب علة لأمراض بدنية تصيب الذين كفروا , الجواب نعم لإنعكاس أمراض النفس على البدن ، وكذا العكس .
وتمام آية البحث هو [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
ويتعلق النسخ بأول الآية [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] وفيه أقوال :
الأول : الآية منسوخة بآية السيف ، قال ابن حزم منسوخة وناسخها قوله تعالى [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]( ) ( ).
الثاني : الآية منسوخة وناسخها هو قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ…] ( ).
قال النحاس (فمن العلماء من قال هي منسوخة لأن رسول الله قد أكره العرب على دين الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام
فممن قال بذلك سليمان بن موسى قال نسخها يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين
وقال زيد بن أسلم أقام رسول الله بمكة عشر سنين يدعو الناس إلى الإسلام ولا يقاتل أحدا فأبى المشركون إلا قتاله فاستأذن الله عز و جل في قتالهم فأذن له) ( ).
الثالث : الآية غير منسوخة وأن الآية نزلت في أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام إذ أدوا الجزية ).
والمختار هو أن الآية غير منسوخة وأن موضوعها أعم من أهل الكتاب من جهات :
الأولى : بيان قانون وهو أن الناس لم يدخلوا الإسلام بالإكراه، حتى أولئك الذين دخلوا بالسيف فان الآية تخبر عن سرائرهم وأنهم كانوا يقرون في قرارة أنفسهم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم إتباعه .
الثانية : بيان فضل الله عز وجل باصلاح النفوس ، وصيرورة كل من دخل الإسلام دخله طواعية .
وكأن الآية تقول حالما ينطق المسلم بالشهادتين فان الله عز وجل يصلحه لتلقي الفرائض ويطرد عنه الشك والريب ، وذات أداء الفرائض واقية من إستدامة الشك والريب أو تجددهما .
الرابعة : من معاني قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] إنذار الذين كفروا من حمل المسلمين على الإرتداد ، أو عن ترك بعض الشعائر وضروب العبادة .
الخامسة : المراد إن الإسلام هو دين الحق والهدى , وأن الذي يدخله طوعاً أو قهراً إنما يفعل واجباً، قال تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( ).
السادسة : نهي المسلمين والناس عن القول باكراه بعض الناس بالسيف على دخول الإسلام ، فحتى الذي يخير بين الإسلام والسيف لا يعد مكرهاً في إختياره الإسلام لأنه حق وواجب .
قانون إختيار الإسلام بالإكراه ليس إكراهاً
لقد جعل الله عز وجل الإنسان خليفة في الأرض لينال مرتبة عظيمة لم ينلها جنس من الخلائق ، وقال تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ] ( ) ثم تفضل الله وخاطب النبي داود [يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ ..] ( ) لبيان أن خلافة الإنسان لم تنقطع في الأرض ، وأن الأنبياء توارثوا الخلافة في الأرض .
وهل إنقطعت خلافة الإنسان في الأرض بارتفاع النبوة وانتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، فهل بقيت الخلافة الجواب نعم ، فقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وأهل الأرض ببقاء هذه الخلافة ، وتفضل بحفظ القرآن أماماً للناس، ويتضمن أحكام الشريعة ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) .
ليكون حفظ القرآن بآيات باهرات من عند الله عز وجل ، ويكون هذا الحفظ من إعجاز القرآن في تلاوة المسلمين له وتدوينه وجمعه بين دفتين ، والمسارعة في استنساخ وطبع نسخ القرآن على نحو يومي .
ليكون الكتاب في طبعه ونشره اليوم وغداً أكثر الكتب السماوية, وكذا بالنسبة لتلاوته من قبل أهل الأرض ، إذ يجب على كل مسلم ومسلمة قراءة القرآن في الصلاة خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني .
وفي كل تلاوة للمسلم الذي يدخل الإسلام كرهاً إزاحة لشطر من كابوس الريب وأوهام الضلالة .
ومن الإعجاز في المقام مجئ آيات القرآن بذم المنافقين وبيان قبح النفاق ، وإشراك الأناث من المنافقات بالذكر في القرآن لطرد الغفلة عن المسلمين وعدم التهاون مع النساء بخصوص الإيمان ، فقد تقوم المرأة بصد أبيها أو زوجها أو أخيها أو إبنها عن الإيمان وعن الجهاد في سبيل الله ، فجاء التحذير من المنافقين مطلقاً ، قال تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه إبتداؤها بذم المنافقين والمنافقات وبيان إشتراكهما في الخصال الخبيثة باخفاء الكفر والجحود مع أنهم يظهرون الإيمان والتسليم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخبرت الآية عن حرمانهم من فضل الله الذي يأتي دفعة وتدريجياً غير المكتوب من الرزق , ولكن الآية أختتمت بذكر المنافقين دون المنافقات في قوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ] ولم تقل ( إن المنافقين والمنافقات هم الفاسقون )، ولم تقل (نسوا الله فنسيهم وهم الفاسقون) لإفادت الآية الإشارة إلى المنافقين في ذات المرتبة والأثر في النعت بالفسوق والخروج عن الطاعة , وللدلالة على إرادة المنافقين والمنافقات مجتمعين ومتفرقين، الجواب هذا صحيح , ولكنه لا يمنع من إفادة نكتة في المقام من جهات :
الأولى : رأفة الله عز وجل بالمرأة وعدم نعتها بالفسوق , وهذا الأمر لا يعفيها من العذاب الأخروي , لذا ورد ذكر المنافقات بالخصوص في العذاب الأخروي .
الثانية : كراهة نعت الناس المرأة بالفاسقة .
الثالثة : بيان قانون وهو إقتباس المرأة من الرجل في الجملة وإرادة شدة الذم للمنافقين من الرجال .
الرابعة : تهذيب ألسنة المسلمين .
الخامسة : ترغيب النساء بالتوبة والصلاح .
السادسة : بعث المسلمين للرأفة في دعوة المرأة للصلاح والتنزه من مفاهيم النفاق .
ومن إعجاز نظم آيات القرآن ذكر الآية التي جاءت بعد الآية أعلاه للمنافقين وأتت بمرتبة واحدة من العذاب يوم القيامة ، فبعد أن أختتمت الآية أعلاه بنعت المنافقين بالفسق والفجور ، جاءت الآية التالية [وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ] ( ).
ومن آيات الوعد والوعيد القرآنية تنزيه المسلمين والمسلمات عن النفاق وإزاحة مسألة الإكراه في دخول الإسلام ، لمن أكره عليه ، ومن معاني قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ]أن كل مسلم ومسلمة يشكران الله عز وجل على نعمة الإسلام ويقران بأنها أعظم النعم ، وهو من عمومات قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
وإذ أكره مؤمن شخصاً على الإسلام ، فلا تمر الأيام حتى يكون هذا المؤمن أحب إليه ، ويجتهد بالثناء عليه والشكر له بين الناس ، وهو من الشواهد على عدم الإكراه في الدين ، إذ أن المدار على إستدامة الحال والمفهوم ، وإذا تغير الموضوع تبدل الحكم ، فمن أكُره على الإسلام في بداية دخوله له أصبح يدعو الناس للإسلام ويبذل وسعه في الجهاد في سبيل الله ، والشواهد في المقام أكثر من أن تحصى .
وفي الطريق لفتح مكة جاء العباس بأبي سفيان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ: “وَيْحَك، يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأْنِ لَك أَنْ تَعْلَمَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ؟” قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ مَا أَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَك وَأَعْظَمَ عَفْوَك قَدْ كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي أَنّهُ لَوْ كَانَ مَعَ اللّهِ إلَهٌ لَقَدْ أَغْنَى عَنّي شَيْئًا بَعْدُ. قَالَ: “يَا أَبَا سُفْيَانَ، أَلَمْ يَأْنِ لَك أَنْ تَعْلَمَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ “؟ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي، مَا أَحْلَمَكَ وَأَكْرَمَك وَأَعْظَمَ عَفْوَك .
أَمّا هَذِهِ فَوَاَللّهِ إنّ فِي النّفْسِ مِنْهَا لَشَيْئًا بَعْدُ. فَقَالَ الْعَبّاسُ فَقُلْت: وَيْحَك، اشْهَدْ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَاشْهَدْ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قَبْلُ – وَاَللّهِ – أَنْ تُقْتَلَ فَقَالَ: فَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقّ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ) ( ) .
ومن مفردات علم الأصول أن الإمتناع بالاختيار لا ينافي الإختيار .
ونؤسس هنا لقانون وهو أن دخول الإسلام بالإكراه لا يصدق عليه إكراهاً من جهات :
الأولى : إنه إختيار الحق والهدى .
الثانية : إرادة قصد الواجب والإعتقاد الصحيح بالإكراه .
ولو صام شخص اليوم الأول من رمضان بنية الندب والإستحباب ثم تبين أنه من شهر رمضان , فقد صح صومه , وأجزأه عن الفريضة لأن الفعل وقع وفق الخطاب التكليفي .
الثالثة : ليس المدار على بداية دخول المسلم الإسلام إن كان بالإكراه بل المدار على إستدامة إنتمائه للإسلام ، إذ تدل هذه الإستدامة وأدائه الفرائض على أنه ليس مكرهاً ،أو أن الإكراه صار إلى إنقطاع وزوال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) أي أن ذات الإكراه يمحى عنه موضوعاً وأثراً ، ليكون على وجوه :
الأول : محو الإكراه مرتبة وعلو شأن .
الثاني : إنه باب للأجر والثواب لمن حمله على دخول الإسلام .
الثالث : مسألة إكراه الإنسان على دخول الإسلام فرد قليل حدث في بداية الإسلام ، ولا عبرة بالقليل النادر .
لقد بدأ الإسلام ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآمن الإمام علي عليه السلام وخديجة أم المؤمنين وعدد من الصحابة ، وليس من سبب للإكراه آنذاك ، إذ كان المسلمون أنفسهم مستضعفين وفي أذى شديد من الكفار وإضطرار إلى الهجرة ، فهاجر فريق منهم إلى الحبشة وهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونفر من أهل بيته وأصحابه إلى المدينة , وبعد أن قتل عدد من المسلمين تحت التعذيب ، ومن الحجج في المقام أن القتل شمل الرجال والنساء , إذ قتل ياسر وسمية والدي عمار ابن ياسر.
إذن متى صار الإكراه في حمل الناس بالإكراه على دخول الإسلام ، الجواب ليس من إكراه عام للناس على الإسلام , وتدل الآيات على أن فتح مكة لم يكن إكراهاً لدخول الناس في الإسلام، لقوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ).
وتنفي الآيات أعلاه مسألة إكراه الناس في دخول الإسلام من جهات :
الأولى : خطاب الآية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يرى وسيرى دخول الناس الإسلام ، أي أنه لم يكرههم بنفسه أو بواسطة أصحابه على دخول الإسلام .
الثانية : نسبة نصر المسلمين لله عز وجل وانه منه وله سبحانه ، ومن معانيه إرادة إستدامة هذا النصر وأثره المبارك ، وهو الذي يتجلى بالشواهد والوجدان في كل يوم من أيام الحياة الدنيا .
الثالثة : عطف الفتح على نصر الله عز وجل لإرادة التعدد بين النصر والفتح ، وهو لا يمنع من إجتماعهما في موضوع متحد كما في فتح مكة ، لأن كل فتح هو نصر من عند الله عز وجل .
الرابعة : لم يسلم المسلمون من أذى الذين كفروا حتى بعد نزول سورة النصر أعلاه ، وعن عكرمة قال : (لما نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح }( ) قال المشركون بمكة : لمن بين أظهرهم من المؤمنين ، قد دخل الناس في دين الله أفواجاً ، فاخرجوا من بين أظهرنا ، فعلام تقيمون بين أظهرنا؟ فنزلت { والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له } الآية) ( ).
وفيه نكتة وهي أن الناس كانوا يدخلون الإسلام جماعات وقبائل حتى مع الأذى الذي يلاقون الذين كفروا مما يدل على عدم وجود نوع إكراه في دخولهم الإسلام .
وفي قول المشركين للمسلمين [قد دخل الناس في دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ] أمور:
أولاً : إنه شاهد على إقرار المشركين بأن الناس دخلوا في الإسلام طواعية.
ثانياً : لم يخش المشركون دخول الناس في الإسلام على أنفسهم مع أن المسلمين كانوا في حال حرب وقتال وغزو معهم ، والظاهر أن المقصود من قول عكرمة هو فترة ما بعد صلح الحديبية ، ولكن المشهور هو نزول سورة النصر عند فتح مكة .
وعن ابن عباس قال (لما نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح } قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نعيت إلى نفسي إني مقبوض في تلك السنة) ( ).
ثالثاً : لقد ذهب عكرمة إلى القول بأن سبب نزول قوله تعالى [وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ] ( ) هو قول المشركين في مكة , ولا دليل على هذا القول موضوعاً وحكماً وجهة صدور القول ، وعكرمة من التابعين ، وقد ورد عنه ذكر سبب آخر لنزول الآية أعلاه .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة , قال : لما نزلت{ إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً }( ) { ما كان لأهل المدينة }( ) الآية . قال المنافقون : هلك أهل البدو الذين تخلفوا عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يغزوا معه ، وقد كان ناس خرجوا إلى البدو وإلى قومهم يفقهونهم ، فأنزل الله تعالى { وما كان المؤمنون لينفروا كافة }( ) الآية . ونزلت { والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة } ( )الآية( ).
ولكنه لا يمنع من الإنتفاع من الخبر بأن الذين كفروا يعلمون بأن الناس لم يدخلوا الإسلام كرهاً .
الخامسة : لقد نسبت سورة النصر دخول الناس الإسلام إلى أنفسهم بقوله تعالى [وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ]( ) وهو شاهد على أن دخولهم الإسلام تم باختيارهم ، ليرزقهم الله عز وجل الثواب من وجوه :
أولاً : دخول الإسلام طواعية .
ثانياً : شهادة هؤلاء المسلمين على أنهم لم يدخلوا الإسلام بالإكراه .
ثالثاً : ثواب البقاء في الإسلام والتفاخر بالإتصاف بصبغة الإسلام .
رابعاً : ثواب السلامة من الإرتداد بلحاظ أن البقاء في الإسلام أمر وجودي متجدد في كل ساعة ، ليأتي الثواب للمسلم في كل دقيقة وساعة على تعاهد هذه النعمة ، وهو من أسرار مضاعفة الحسنات للمسلمين والمسلمات أضعافاً كثيرة .
خامساً : شهادة الذي دخل الإسلام على دخول إخوانه الإسلام من غير إكراه أو إجبار ، بمعنى أنه يشهد على نفسه أنه دخل الإسلام باختياره ، ويشهد على غيره من المسلمين بأنهم لم يكرهوا على دخول الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ].
سادساً : تلاوة المسلمين لسورة النصر ، وما فيها من الإخبار عن كون دخول الناس للإسلام إختيارياً ومن غير إجبار .
سابعاً : ترغيب المسلمين بالتسبيح والتهليل والشكر لله عز وجل على نعمة النصر وغلبة المسلمين لقوله تعالى [فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ] ( ).
السادسة : مجئ نصر الله على نحو الحتم والقطع وتمام الفتح ، وإن وردت الآية بصيغة الجملة الشرطية [إِذَا جَاءَ ..].
السابعة : كل من التسبيح والإستغفار والشكر لله عز وجل طريق لتثبيت الإيمان في قلوب المسلمين والمسلمات .
الثامنة : لم تقل الآية إذا جاء نصر الله والفتح ، فأحمل الناس على دخول الإسلام ) ، إنما أخبرت بان الناس يدخلون الإسلام باختيارهم ، وكذا لم تقل الآية بأنه إذا دخل الناس الإسلام فأكرهوا الباقين ، أو الذين في مناطق نائية على دخول الإسلام ، إنما أمرت الآية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتسبيح والتهليل والإستغفار ، وليس تجهيز الجيوش للغزو والفتح ، فقد تم الفتح بدخوله صلى الله عليه وآله وسلم مكة وإزاحة الأوثان من جنبات البيت ومن جوف الكعبة الشريفة .
والدين لغة هو الطريقة والمنهاج والشريعة , وقوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] أعم من أن يختص بالإسلام ، ومن معاني الآية أن المعتقد والمبدأ الذي يحتفظ فيه الإنسان بين جنباته وإضلاعه لا يعلمه إلا الله ، فقد يكره الإنسان على طريقة أو مذهب ، ولكنه في قرارة نفسه على المذهب الذي يختار , لتبين الآية حقيقة وهي أن المسلمين لم يكرهوا على الإسلام .
ومن معاني الآية تبكيت الذين كفروا وإخبارهم بأن المسلمين لا يضمرون في نفوسهم إلا الإيمان , فالآية كاملة هي [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) وفيه دلالة بأن موضوع الآية هم المسلمون إذ تثني عليهم وتخبر بأنهم يؤمنون بالله .
وتبعث الآية الطمأنينة في قلوب المسلمين ، وعدم الإفتتان بالذي أصر على الكفر أو بقي على ملته من اليهودية أو النصرانية ، فان الذين دخلوا الإسلام دخلوه عن رشد وتدبر وليس غواية .
و(أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن وسق الرومي قال : كنت مملوكاً لعمر بن الخطاب ، فكان يقول لي : أسلم فإنك لو أسلمت استعنت بك على أمانة المسلمين، فإني لا أستعين على أمانتهم بمن ليس منهم ، فأبيت عليه فقال لي: { لا إكراه في الدين }( ).
وزمان هذا الخبر هو أيام حكم عمر بن الخطاب لأنه وعده بتولي شاناً وولاية من أمور المسلمين إذا أسلم ، وحينما إمتنع لم يكرهه على الإسلام مع أنه مملوك له , مما يدل على أن آية [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] غير منسوخة بآية السيف .
لقد جاء قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] بصيغة الخبر ليكون قانوناً من قوانين التنزيل ، فلا يقال أن هذا القانون منسوخ إلا بالدليل القطعي ، كما أن القول بأن آيات الموادعة منسوخة بآية السيف لم يثبت ، ولم يصدر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وليس هو قولاً مشهوراً من الصحابة ، ولم ينقله التابعون عنهم .
بالإضافة إلى أن موضوع الدين عام يشمل الطريقة والمذهب والشريعة ، أما بالنسبة للإسلام فقد ورد التخصيص بقوله تعالى [وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ] ( ).
لقد جعل الله عز وجل مقاليد الأمور كلها بيده ، وتفضل وجعل الإيمان على نحو التمكين والقبول والرضا والإختبار ، وتفضل وقرب الناس إلى منازل الإيمان والهداية .
ومن اللطف في المقام أن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية مصاحبة للناس إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار خلافة الإنسان في الأرض ، فعندما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض بأن الإنسان يدنس الأرض بالفساد ويسفك الدم الحرام،فتفضل الله عز وجل , وقال [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن علم الله عز وجل جعل معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية مصاحبة للناس جميعاً .
ومن معاني نفي الإكراه في الآية وجوه :
الأول : لا إكراه في بقاء الإنسان على الوثنية والكفر .
الثاني : لا إكراه أو منع للمسلمين من إعلان إسلامهم في مكة أو غيرهم من بقاع الأرض .
الثالث : لا إكراه للمسلمين بمنعهم عن أداء فرائض الصلاة والعبادات .
الرابع : لا إكراه للإنسان للبقاء على ديانة أهل الكتاب إذا إختار الإسلام .
الخامس : لا إكراه للمرأة في دينها إذا إختارت الإسلام .
السادس : لا إكراه من قبل الكافر لأولاده إذا إختاروا الإسلام ، لأن الإسلام واجب على الناس ، فاذا إختاره الابن ليس للأب أن يمنعه أو أن يؤذيه أو يحرمه مما له من الحقوق ، قال تعالى [وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا]
وعن زيد بن أسلم عن أبيه (قال سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية أسلمي أيتها العجوز تسلمي إن الله بعث محمداً بالحق قالت العجوز أنا عجوز كبيرة وأموت إلى قريب فقال عمر اللهم اشهد ثم قال : لا إكراه في الدين) ( ).
مما يدل على أن الصحابة لا يقولون بنسخ هذه الآية بآية السيف , وأنهم يكتفون بالتبليغ وبيان الحق وأن سبيل النجاة هو الإسلام ، مع أنهم في منازل الحكم والسلطنة وفي عاصمة الإسلام آنذاك المدينة المنورة على الظاهر .
(عن سعيد بن جبير في قوله { لا إكراه في الدين } قال : نزلت في الأنصار خاصة . قلت : خاصة ، كانت المرأة منهم إذا كانت نزورة أو مقلاة تنذر : لئن ولدت ولداً لتجعلنه في اليهود تلتمس بذلك طول بقاءه ، فجاء الإِسلام وفيهم منهم ، فلما أجليت النضير قالت الأنصار : يا رسول الله أبناؤنا وإخواننا فيهم ، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنزلت { لا إكراه في الدين } فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قد خير أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فهم منهم ، فأجلوهم معهم .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الشعبي قال : كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يعيش لها ولد ، فتنذر إن عاش ولدها أن تجعله مع أهل الكتاب على دينهم ، فجاء الإِسلام وطوائف من أبناء الأنصار على دينهم ، فقالوا : إنما جعلناهم على دينهم ، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا ، وأن الله جاء بالإِسلام فلنكرهنهم ، فنزلت { لا إكراه في الدين } فكان فصل ما بينهم إجلاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني النضير ، فلحق بهم من لم يسلم ، وبقي من أسلم ) ( ).
وقال ابن الجوزي (اختلفوا فيه فقيل هو من العام المخصص خص منه أهل الكتاب فعلى هذا هو محكم , وقيل نزلت قبل الأمر بالقتال ثم نسخ بآية السيف) ( ).
ومن معاني الآية أنه [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ]وجوه :
الأول : حرمة حمل المسلمين على الإرتداد , لتكون هذه الآية إنذاراً للذين كفروا وزاجراً لهم ولغيرهم من أهل الكتاب الذين يسعون أو يرومون ترك المسلم لدينه قال تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا ..] ( ).
الثاني : إدراك المسلم في قرارة نفسه بأنه لم يكره على الإسلام ، وأن المسلمين الآخرين الأحياء والأموات لم يكرهوا على دخول الإسلام ، وهو آية وسبب لبعث السكينة في نفوس المسلمين رجالاً ونساء ، قال تعالى [ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا] ( ).
الثالث : إرادة البشارة للمسلمين بأن الناس سيدخلون وسوف يدخلون الإسلام من غير إكراه أو إجبار ، وتترشح عن هذه البشارة بشارة أخرى وهي أن الإسلام لم ولن ينتشر بالسيف , وكأن آية [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ]ناسخة لقوله تعالى [فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ] ( ).
الرابع : دعوة الآية المسلمين للإجتهاد في دعوة الناس للإسلام، فحينما تضع الحرب أوزارها مع الذين كفروا وتكون للمسلمين دولة وألوية فان المسلمين مدعوون لإقامة الشعائر وترغيب الناس بالإسلام .
الخامس : حث المسلمين على إتخاذ معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة لجذب الناس للإسلام .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : لا إكراه في الدين فبينوا معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية .
الثاني : لا إكراه في الدين ليكتب لكم الله عز وجل دخول الإسلام والبقاء عليه بالإختيار ، وهو أمر وجودي والأمر الوجودي أشرف من العدمي .
الثالث : لا إكراه في الدين أمس واليوم وغداً .
الرابع : عهد من الله عز وجل للمسلمين والناس أنه لا إكراه في الدين .
الخامس : [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) ومن ملكه أنه لا إكراه في الدين .
السادس : يا أيها الناس أشكروا الله عز وجل بأنه لا إكراه في الدين .
السابع : لا إكراه في الدين فلا تصل النوبة إلى سلّ السيوف في كل الأحوال .
لقد علم الله عز وجل أن أمصار الأرض ستتقارب وأن الشعوب وأهل الملل سيتصل ويختلط بعضهم ببعض كما هو الحال في زمان العولمة هذا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ).
لتكون الصلات والإتصال بين أهل المشرق والمغرب في هذا الزمان من مصاديق التعارف الذي تذكره الآية أعلاه ، ويكون المسلمون فيها أقل من غيرهم إلى حين ، فلا يعقل أن تكون آية السيف هي الحاكمة لأن فيه الهلاك والدماء ، فجاءت هذه الآيات بالأمر بالبلاغ والبشارة والإنذار بقوله تعالى [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ]( ). وأخبرت عن نفي الإكراه في الدين والمنع منه ، وتضمنت أحكام التقية بقوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( ) .
لتكون هذه الآيات مجتمعة ومتفرقة دعوة لدخول الناس الإسلام ووسيلة لزيادة عدد المسلمين وإنتشارهم في أقطار الأرض كلها وتلاوة القرآن في كل موضع منه ، وهو من مصاديق البشارة والدلالة في قوله تعالى [فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الإسلام دين الحق والهدى ، وهو دين الفطرة فالهداية له من ذات المكلف أو بواسطة فرد أو جماعة وبالترغيب أو التهديد ليس من الإكراه , إنما هو رحمة , فهو موافق لإدراك العقل والحكمة ، ومن الآيات هناك ملازمة بين علة الخلق وإدراك العقل .
وعن الأمام الصادق عليه السلام (قال: إن الله خلق العقل، فقال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال له: وعزتي وجلالي ما خلقت شيئا أحب إلي منك لك الثواب وعليك العقاب) ( ).
لقد جعل الله عز وجل قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] مناسبة للتكليف في الدنيا ، وبياناً بأن المسلمين على مرتبة واحدة في الهداية وأصل الإنتساب إلى الإسلام .
وموضوع الآية هو دخول الفرد الإسلام أما بالنسبة لذريته فأنهم يرثون الإسلام بعز وفخر ورضا ، ولو كان شخص دخل الإسلام كرهاً ، فان تلقي أولاده الإسلام تركة منه سبب لمحو صفة الإكراه في إسلامه , ويترشح الثواب من عملهم الصالحات في الدنيا على أبيهم حياً وميتاً ، وهذا المعنى من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
ومن معاني دين الله أداء التكاليف ، وتعاهدها ، لذا فان الآية تحذير وإنذار إلى الذين ظلموا بإجتناب إكراه المسلمين على ترك عباداتهم ومناسكهم .
وتحذر الآية من بعث الفرقة والخلاف بين المسلمين في أمور الدين وتعدد المذاهب بينهم بما يبعث الخصومة والعداوة بينهم .
وتبين الآية إشراقة قانونية ونظاماً يضبط الصلات الإجتماعية ، ويوجه مصادر التشريع , وجهات الحكم إلى إجتناب حمل الناس قهراً على إعتقاد وطريقة مخصوصة .
فتقدير الآية وفق المعنى اللغوي : لا إكراه في الإعتقاد والمبدأ والرأي والطريقة .
ولما إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض بسبب إفساده في الأرض وسفكه الدماء ، تفضل الله عز وجل وأجابهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علم الله عز وجل أنه ينزل قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] فيبقى مناراً تقتبس منه الأنظمة القوانين والقواعد والأحكام بما يمنع من الفساد في الأرض وسفك الدماء بلحاظ أن الإكراه على دين غير دين الحق هو فساد وقد يؤدي إلى سفك الدماء ، أما الدعوة إلى دين الحق وهو الإسلام , ففيها مسائل :
الأولى : من أكره على الإسلام تمسك به ولم يغادر الدنيا إلا على الإسلام ، قال تعالى [فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ).
الثانية : لا يكره الكتابي على الإسلام ، وهو من الشواهد على أن الآية ليست منسوخة .
الثالثة : لو أحصيت حالات إكراه المشركين في بداية الإسلام لدخوله لوجدتها أفراداً قليلة ، ولا عبرة بالقليل النادر ، ثم حلّ بالإختيار في نفوسهم ليكون النسخ في ذات نفس الذي دخل الإسلام كرهاً ، بأن ينسخ الإختيار الإكراه ، كما ينسخ الظل الشمس ، وهو من المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال الإنتماء للإسلام , فلا غرابة أن ينال بعضهم أمرة أو قيادة لجيش أو إمامة صلاة أو دفة قضاء عند المسلمين.
ولم تقل الآية (لا إكراه في دين الله ) وعلى فرض إرادة الإسلام من بين معاني الدين في قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] فالمراد أن من يدخل الإسلام كرهاً فانما إختار الواجب والحق وليس هو بإكراه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] فان قلت وكذا آية السيف فان الذي دخل الإسلام بالسيف إنما هو إختيار الواجب العبادي .
والجواب إن آية السيف لا تدل على حمل الناس على دخول الإسلام وحده , إنما تتضمن القتل أو التوبة وقدمت القتل والأسر والحصر والرصد لهم ، وهو أمر خاص بمشركي قريش الذين حاربوا الإسلام , وكان بينهم وبين المسلمين معارك وقتال متجدد .

الآية الخامسة
ذكر أن في سورة آل عمران عشر آيات منسوخات منها قوله تعالى [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ] ( ) قيل نسختها آية السيف( ) .
وعلة القول بأنها منسوخة بآية السيف أنها من آيات الموادعة ، ولا دليل على هذا العموم ، بأن كل آية موادعة نسختها آية السيف ، وهو خلاف معاني الرحمة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويتعارض في الجملة مع موضوعية معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الآيات أن معجزات الأنبياء حسية مثل معجزة الناقة لنبي الله صالح ، ومعجزة العصا لموسى عليه السلام , وفي التنزيل حكاية عن عيسى عليه السلام [قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ] ( ).
أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد أنعم الله عز وجل عليه وعلينا بأن جعل معجزاته عقلية وحسية ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : بيان تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين في باب المعجزة مع موضوعية مسألة المعجزة والتباين فيها بين الأنبياء .
المسألة الثانية : إذا كانت معجزات الأنبياء السابقين بحسب البديع المشهور في زمانهم ، كالسحر في أيام موسى عليه السلام , والطب أيام عيسى عليه السلام , فان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ملائمة لكل الأزمنة لأن الإسلام هو الديانة الباقية إلى يوم القيامة .
الثالثة : إرادة إتصاف معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحجة على الناس في الأمصار المختلفة ، لذا جاءت أحكام الحلال والحرام عامة للناس ، وكل أهل زمان يدركون أنها نزلت لهم ومن أجلهم .
الرابعة : المعجزة العقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو القرآن وهو حجة بين الناس جميعاً ، ومصدر لتجلي المعجزات المستحدثة من ثنايا آياته , وقد نزل باللغة العربية ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
وأختتمت الآية أعلاه بالخطاب إلى المسلمين جميعاً ذكوراً وأناثاً , وعرباً وغير عرب من مختلف القوميات والألسنة , وتقدير خاتمتها بلحاظ جهة الخطاب على وجوه :
أولا : لعلكم تعقلون أيها العرب .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا لعلكم تعقلون .
ثالثاً : يا أيها الناس لعلكم تعقلون .
أما من جهة موضوع الخطاب , فالآية على وجوه :
أولاً : لعلكم تعقلون صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل.
ثانياً : لعلكم تعقلون وجوب إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : لعلكم تعقلون أن الناس لم يدخلوا الإسلام كرهاً .
رابعاً : لعلكم تعقلون أحكام الحلال والحرام .
خامساً : لعلكم تعقلون دلالات نزول القرآن بالعربية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ).
سادساً : لعلكم تعقلون معاني القرآن , وما فيه من المواعظ والصبر .
سابعاً : لعلكم تعقلون أن الدنيا دار زوال , وأن لغة أهل الجنة هي العربية .
ثامناً : لعلكم تعقلون لخصوصية نزول القرآن باللغة العربية , وهي تعدد معاني اللفظ العربي بما يتناسب مع المقاصد السامية , وإحاطة كلمات القرآن المحدودة باللامحدود من الوقائع والأحداث .
تاسعاً : لعلكم تعقلون نزول القرآن بلسان قوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ] ( ) فجاء قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] لتغلب الهداية وتعم الناس.
عاشراً : لقد كان أهل بيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار من العرب ، وهم الذي أسسوا قواعد صرح الإسلام بتدبرهم بآيات القرآن .
الحادي عشر : لعلكم تعقلون كل آية من القرآن رسماً ودلالة ومضموناً وتفسيراً .
الثاني عشر : لعلكم تعقلون باتخاذ آيات القرآن بلغة كريمة للغايات الحميدة في النشأتين .
الثالث عشر : لعلكم تعقلون لأن القرآن نزل بلسان أهل مكة والمدينة والجزيرة ، ولأن العربية لغة الصلاة والمناسك .
الرابع عشر : لعلكم تعقلون لأن في عربية نزول القرآن تنمية لملكة العلم والمعرفة .
الخامس عشر : لعلكم تعقلون بنزول القرآن إذ يمكن تفكيك وتعدد معاني الآية وقراءتها على وجوه :
الأول : لعلكم تعقلون بنزول القرآن من الله فذات النزول معجزة من عند الله ، وتقدير الآية (إنا أنزلناه لعلكم تعقلون ) .
الثاني : لعلكم تعقلون نزول القرآن من عند الله بواسطة لغة القرآن العربية .
الثالث : لعلكم تعقلون بعض علة نزول القرآن باللغة العربية ، وفيه إكرام ورحمة للعرب .
المسألة الخامسة : بيان علو مرتبة المسلمين ، وتدبرهم بالمعجزات العقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وكل آية من القرآن هي معجزة عقلية قائمة بذاتها , ليكون قوله تعالى [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ]( ) على وجوه :
الأول : بلاغ النبي محمد عن كل آية قرآنية معجزة عقلية وحسية.
الثاني : بيان قانون وهو كفاية إبلاغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآيات نوع طريق وعلة لدخول الناس الإسلام .
الثالث : إرادة البشارة والرحمة للذين يدخلون الإسلام ببلاغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : هذه الآية شاهد على عدم نسخ الآية التي تقدم البحث فيها وهي [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ].
على فرض أن المقصود بالدين هو الإسلام ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : إنما عليك البلاغ فلا تصل النوبة لإكراه الناس على الإسلام )، إذ أن البلاغ وحده يكفي لدخولهم الإسلام , قال تعالى [فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ] ( ).
ثانياً : فانما عليك البلاغ وسيدخلون الإسلام وإن تولوا يوماً ما، أي أن الآية لا تعني الموادعة وحدها ، بل تدعو إلى الصبر والإمهال .
ثالثاً : فإنما عليك البلاغ , أما هداية الناس فهو أمر بيد الله ، وفي التنزيل [إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ] ( ).
رابعاً : فإنما عليك البلاغ [فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ]( ).
خامساً : لقد قام الرسل من قبلك بالتبليغ وإنما عليك البلاغ ، وفي التنزيل [ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ] ( ).
سادساً : فإنما عليك البلاغ , والذين إمتنعوا عن الإسلام يخسرون الدنيا والآخرة .
سابعاً : فإنما عليك البلاغ ، والشكر لله عز وجل على دخول الناس الإسلام ، بهذا البلاغ ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية ، بأنه بلّغ آيات القرآن , فدخلوا الإسلام وقاتلوا دونه .
ثامناً : فانما عليك البلاغ فبلّغ أحكام القرآن والحلال والحرام فإنما عليك البلاغ فعلى المسلمين التبليغ والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
تاسعاً : فانما عليك البلاغ والله عز وجل يكمل لكم الدين , ويتم عليكم نعمته .
عاشراً : فانما عليك البلاغ وإحتجاجك على أهل الكتاب والذين كفروا من البلاغ.
الحادي عشر : فانما عليك البلاغ بمضامين آية البحث ذاتها ، وتقديره على جهات :
الأولى : فانما عليك البلاغ بأنك أسلمت وجهك لله عز وجل .
الثانية : فانما عليك البلاغ بأن المسلمين أمة اتبعتك .
الثالثة : فانما عليك البلاغ بأنك والمسلمين أسلمتم وجوهكم لله عز وجل .
الرابعة : فانما عليك البلاغ فقل للذين يحاجونك أسلمت وجهي لله عز وجل .
الخامسة : فانما عليك البلاغ فقل للذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى أنك أسلمت وجهك لله .
السادسة : فانما عليك البلاغ فقل أسلم المسلمون والمسلمات وجوههم لله سبحانه وتعالى .
السابعة : فانما عليك البلاغ بأن قل للذين أوتوا الكتاب أأسلمتم لبيان أن البلاغ تبليغ ودعوة للإسلام وإحتجاج .
الثامنة : فانما عليك البلاغ بأن تقول للأميين والذين أشركوا أأسلمتم لتأكيد قانون وهو قيام الحجة عليهم .
التاسعة : فانما عليك البلاغ بأن الإسلام سور الموجبة الكلية الجامع للناس جميعاً .
وقد تقدم أن البلاغ (الكفاية، ويقال فيه بلغة وبلاغ أي كفاية) .
العاشرة : فان اسلموا فانما عليك البلاغ لتفقههم في الدين ومعرفتهم بأحكام الحلال والحرام .
وكانت الوفود تترى إلى المدينة وهم على أقسام :
الأول :الذي يأتي إلى المدينة ليعلن دخوله الإسلام .
الثاني : الذي أسلم في قومه وبلدته أو قريته وجاء للمدينة للبيعة والتشريف برؤية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإستماع منه .
الثالث : الرائد الذي يبعثه قومه لمعرفة معجزات النبوة ورؤية أحوال المسلمين وعبادتهم ليرجع ويخبر قومه ليختاروا دخول الإسلام ، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (الرائد لا يكذب أهله) ( ).
الرابع : الوفود التي تأتي للمدينة ليعلنوا إسلامهم وإسلام قومهم من خلفهم .
ومن معجزات النبوة الحسية وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم يؤخر هؤلاء الأفراد والوفود في المدينة ليروا الآيات عن قرب ويتقنوا أداء الصلاة التي هي عمود الدين ، وينمي في نفوسهم حب صلاة الجماعة .
الحادي عشر : فانما عليك البلاغ إن أسلم الذين أوتوا الكتاب .
الثاني عشر : فانما عليك البلاغ إن لم يسلم أهل الكتاب .
وتبين الآية قانوناً وهو أن الأصل في النبوة هو البلاغ والتبليغ ، وهو صفة للنبوة ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : كل نبي يقوم بالتبليغ .
الصغرى : محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي .
النتيجة : محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقوم بالتبليغ .
وفي الآية حذف , وتقديرها على وجوه :
الأول : فانما عليك البلاغ بانه لا إله إلا الله .
الثاني : فانما عليك البلاغ بأنك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : قد ورد لفظ (قل) خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن أكثر من مائة مرة ، وكل واحدة منها من مصاديق البلاغ الوارد في الآية ، وهو من الشواهد على عدم نسخ الآية ، ويمكن الجمع بين آية البحث وكل آية من الآيات التي ورد فيها الأمر من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) مع إمكان بيان وتفسير هذا الجمع في مجلدات عديدة .
مع شطر الآية الواحدة في هذا التقدير ، فمثلاً ورد لفظ (قل) مرتين في الآية [قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ] ( ) وتقدير الآية وفق هذا الجمع على وجوه :
أولاً : إنما عليك البلاغ , قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق .
ثانياً : إنما عليك البلاغ , قل الله يهدي للحق .
ثالثاً : إنما عليك البلاغ , أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي .
رابعاً : إنما عليك البلاغ , فما لكم كيف تحكمون .
وجاءت صيغة فعل الأمر (قل) خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أربع مرات في قوله تعالى [قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ] ( ).
الرابع :فانما عليك البلاغ [فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ] ( ).
الخامس : إنما عليك البلاغ [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ) .
السادس : إنما عليك البلاغ [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي]( ).
السابع : إنما عليك البلاغ قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم [قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ] ( ).
والنسبة بين البلاغ الوارد في آية البحث ولفظ (قل) المتوجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو العموم والخصوص المطلق، فالبلاغ أعم لذا فان الآية غير منسوخة بلحاظ كثرة الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ باللسان .
والجهاد بالقول جامع مشترك بين الأنبياء ، فكل واحد منهم جاهد بلسانه ودعا قومه للإيمان , وكان مبشراً للذين يؤمنون بالرزق الكريم والوعد بالجنة ، ونذيراً للذين يصرون على الكفر والإعراض عن الآيات بالعذاب الأليم ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ..]( ).
لذا فمن إعجاز آية البحث أنها إبتدأت بذكر الإحتجاج والأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) ثم أختتمت بالإخبار بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه البلاغ والدعوة إلى الله .
ولبيان أن البلاغ أعم من الإحتجاج , ومن قول مخصوص فاحتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلاغ ، وإرتقاؤه المنبر بلاغ ، وصلاته بلاغ وصيامه بلاغ ، وحجه بلاغ ، لذا قال صلى الله عليه وآله وسلم (خذوا عني مناسككم) ( ) وخروجه للدفاع عن الإسلام بلاغ ، وإخباره عن المغيبات بلاغ ، وكل من أمره ونهيه بلاغ , وسنته الفعلية بلاغ ، وسبيل هداية ودعوة للمسلمين للإقتداء به ، قال تعالى [كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
ولقد جاءت الآية خطاباً موجهاً إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ] فهل تختص بشخصه الكريم وفعله أم تشمل المسلمين بالإلحاق ، الجواب هو الثاني ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا عليكم البلاغ .
الثاني : يا أيتها اللائي آمنّ عليكن البلاغ .
الثالث : يا أيها المسلم عليك البلاغ .
الرابع : يا أيتها المسلمة عليكِ البلاغ .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا عليكم البلاغ إقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه دعوة لحفظ سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإتخاذها إماماً .
السادس : يا أيها الذين آمنوا عليكم البلاغ لا إكراه في الدين ، وفيه وجهان:
الأول : لا إكراه للناس في دينهم ويكفي البلاغ في دعوتهم إلى الإسلام .
الثاني : الآية وعد من عند الله بأنه لا يكره أحد المسلمين على الإرتداد أو ترك الشعائر عندما يقومون بالتبليغ , وفيه ترغيب لهم بالدعوة إلى الله.
إن قوله تعالى [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ] قانون يومي متجدد يحكم حياة المسلمين ، وكل فرد منهم داعية إلى الله عز وجل بأداء الفرائض وفعل الصالحات ، والإنزجار عن عمل قبّحه الشرع ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) فالآية ليست منسوخة لأنها متجددة في كل آن من آنات الزمان وإلى يوم القيامة في أمرها ونورها وهدايتها للمسلمين .
ومن مفاهيم الآية أمور :
الأول : دعوة المسلم لتعاهد الإيمان والثبات في منازله .
الثاني : الآية حرب على النفاق من جهات :
الأولى : الأمر بالمعروف بالبلاغ بقبح النفاق .
الثانية : بلاغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والآيات التي تتضمن ذم النفاق وإنذار المنافقين .
الثالثة : ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخصال النفاق ولزوم إجتنابها ، وذكر أن صلاة العشاء الآخرة هي أشد الصلوات على المنافقين لأنها تأتي في ساعة النوم ، وكانوا يتسللون عن صلاة الجماعة .
الرابعة : إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأسماء بعض المنافقين (وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم }
قال : أعمالهم . خبثهم والحسد الذي في قلوبهم ، ثم دلّ الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد على المنافقين ، فكان يدعو باسم الرجل من أهل النفاق .
وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري في قوله {ولتعرفنهم في لحن القول }( ) قال : ببغضهم علي بن أبي طالب ( ).
وهناك مسائل :
الأولى : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية حال نزولها من البلاغ الذي تذكره آية البحث مما يدل على أن الآية غير منسوخة لأن التنزيل كان مصاحباً لأيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : صلاة المسلم بلاغ من وجوه :
أولاً : الوضوء للصلاة بلاغ .
ثانياً : إنتظار الصلاة في المسجد بلاغ .
ثالثاً : وقوف المسلم بين يدي الله عز وجل بلاغ .
رابعاً : صلاة الجماعة بلاغ .
خامساً : تلاوة المسلم للقرآن في الصلاة بلاغ .
سادساً : قيام المسلم بتكبيرة الإحرام وحال الخشوع والخضوع في الصلاة بلاغ .
سابعاً : كل فعل من أفعال الصلاة كالركوع والسجود بلاغ .
ثامناً : تعاهد المسلمين لأوقات الصلاة بلاغ .
تاسعاً : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بخصوص الصلاة بلاغ .
عاشراً :توارث أجيال المسلمين الصلاة بلاغ .
الحادي عشر : أداء المسلمين الصلاة كما أداها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلاغ .
(عن أبي قلابة ، عن مالك بن الحويرث ، قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن شببة متقاربون فأقمنا عنده عشرين ليلة فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلينا , سألنا عمن تركنا في أهلنا, فأخبرناه وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رحيما رفيقا .
فقال : ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم وصلوا كما رأيتموني أصلي ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكبركم) ( ).
وبلاغ المسلمين في الصلاة على وجوه :
أولاً : بلاغ المسلم لأخيه المسلم .
ثانياً : بلاغ المسلم لإبنه وإبنته .
ثالثاً : بلاغ المسلم لأبيه وأمه .
رابعاً : بلاغ المسلم لأهل الكتاب .
خامسا : بلاغ المسلم للذين كفروا وأهل الملل المتباينة .
وتبين آية البحث الملازمة بين الإسلام والبلاغ ، وأن الإسلام هو دين البلاغ ، والآية من الشواهد على وراثة المسلمين لوظائف النبوة، وما قام به الأنبياء من البلاغ ، فانقطعت النبوة بارتفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، ولكن البلاغ والتبليغ بقيا في الأرض ، وهما مستمران إلى يوم القيامة وفيه مسائل:
الأولى : إنه من الشواهد على كون المسلمين [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثانية : سلامة القرآن من التحريف إذ يتعاهد المسلمون آيات القرآن ويتخذون كل آية منها بلاغاً ، فالى جانب تلاوة المسلمين لآيات القرآن في الصلاة فانهم يستحضرونها في المجالس والمنتديات وفي طلب الرزق ويتخذونها بلغة كريمة .
الثالثة : الآية القرآنية حجة وبرهان ، ودليل سماوي معصوم عن الرد ، قال تعالى [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً]( ).
الرابعة : لقد جاءت القرآن بالقصص ذات العبرة والموعظة ، قال سبحانه [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ..] ( ) وهل في قصص القرآن بلاغ , الجواب نعم .
وهو من أبهى وأعظم البلاغ ، إذ يميل الإنسان بطبعه إلى الإستماع إلى القصة والخبر والنبأ , فكيف إذا كانت القصة نازلة من عند الله عز وجل لتكون هبة للمسلمين وغيرهم .
والقصة القرآنية من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( ) بلحاظ أن قصص الأنبياء والصالحين تتضمن في منطوقها البشارة والغبطة والرضا بفضل الله والوعد الكريم بالسعادة في الدنيا واللبث الدائم في الجنة لمن إقتدى بهم , لذا تجد أكثر قصص القرآن بخصوص دعوة الأنبياء الناس للإسلام ، وما لاقوه من الأذى بسببها ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ) .
وتتضمن الآية في مفهومها الإنذار والوعيد للذين كفروا والذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
أما أخبار الذين كفروا في القرآن فهي في منطوقها إنذار ووعيد لهم وحجة عليهم .
وإخبار عن حال الذين كفروا وما يلاقونه من العذاب يوم القيامة ، ليبعث في مفهومه السكينة في نفوس المسلمين لنجاتهم ، وفي التنزيل [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ] ( ) وكل قصة وخبر في القرآن موضوع لإقتباس الدروس وإستقراء فرائد الحكمة .
وإستنباط مصاديق الحكم منه .
ومن الآيات أن الإقتباس من الآية القرآنية متصل ومتجدد إلى يوم القيامة ، وهل هذا الإقتباس والإستنباط خاص بالمسلمين , الجواب لا، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ]وأن هذا البلاغ عام وشامل للناس جميعاً , وليس من برزخ بينهم وبين الإقتباس من علوم وكنوز القرآن ، وهو من الشواهد بأن هذه الآية غير منسوخة ، فالذي يقول بنسخ الآية يريد القتل بدل البلاغ , الذي هو أعظم وأكثر نفعاً من الحد , إذ تدعو ذات الآية الناس جميعاً للأخذ والإقتباس منها ومن آيات القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ( ).
لقد ورد لفظ [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ] ثلاث مرات في القرآن :
الأولى : قوله تعالى [وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ] ( ).
الثانية : قوله تعالى [وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ]( ).
وتبين الآية أعلاه من سورة الرعد أن الناس لم يتركوا وشأنهم إذا أعرضوا عن قبول الدعوة إلى الهدى والإيمان ، إذ أن الله عز وجل يبتليهم بضروب الأذى والضرر سواء في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى ليكون من معاني قوله تعالى [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ]أمور:
الأول : كفاية البلاغ من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : بقاء بلاغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم متجدداً حتى بعد وفاته وإنتقاله إلى الرفيق الأعلى .
الثالث : سلامة القرآن من النقص أو التحريف أو الضياع .
فحالما يُبلغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول الآية القرآنية فانها تحفظ في صدور المسلمين .
وكان المسلمون يكتبون القرآن في الرقاع( ) والعسب( ) واللخاف( ) والأكتاف( ) والأديم( ) والقرطاس( ) والأقتاب( ) .
(عن البراء بن عازب قال : لما نزلت { لا يستوي القاعدون من المؤمنين }( ) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ادع فلاناً . وفي لفظ : ادع زيداً ، فجاء ومعه الدواة واللوح والكتف ، فقال : اكتب { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله } وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم ، فقال : يا رسول الله إني ضرير؟! فنزلت مكانها { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله } ( )) ( ).
وتتلى آيات القرآن من قبل كل مسلم ومسلمة في الصلاة اليومية , وترجح هذه التلاوة عدم نسخ آيات القرآن إلا ما خرج بالدليل .
الرابع : موضوعية البلاغ الصادر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هداية الناس ودخول شطر منهم الإسلام.
الخامس : إقامة الحجة على الناس بالبلاغ والتبليغ من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : بعث السكينة في نفس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بأن نفع واثر وبركة بلاغة الآية القرآنية باقية إلى يوم القيامة .
مما يدل على أن موضوع آية البحث أعم من أن يتعلق به النسخ ، فالآية محكمة وهي بشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من عند الله عز وجل بأن البلاغ للهداية , وهو برزخ دون الضلالة .
ثم أن موضوع البلاغ هو آيات القرآن والتي تنفذ إلى شغاف القلوب ، وتحضر في الوجود الذهني للقارئ والسامع طوعاً أو قهراً أو إنطباقاً .
لذا ورد وصف البلاغ بأنه مبين في قوله تعالى [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ] ( ) .
وهذه الآية مقيدة للإطلاق في صفة البلاغ الذي تذكره آية البحث من سورة آل عمران [وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ] ( ) .
لبيان مسائل :
الأولى : الأمر بالإحتجاج على أهل الكتاب وعلى الذين كفروا.
الثانية : عدم جعل الإحتجاج على أهل الملل الأخرى , وعلى الذين كفروا هو الأهم في حياة المسلمين ، بل لابد من الإختصار فيه على البلاغ والتبليغ , للزوم التفقه في الدين , والجهاد وأداء العبادات .
وتبين الآية تجلي إحتجاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإنقطاع إلى الله عز وجل , وتعاهد الفرائض والإخبار عن وجوب طاعة الله عز وجل , والعمل ليوم الحساب , وعن عائشة قالت : (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكبر عشرا ويحمد عشرا ويسبح عشرا ويهلل عشرا ويستغفر الله عشرا , ويقول اللهم اغفر لي واهدني وارزقني عشرا , ويقول اللهم إني أعوذ بك من الضيق يوم الحساب عشرا) ( ).
وآية البلاغ هذه شاهد على عبودية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل , وأنه لا يدعو إلى ملك وسلطنة وأمارة ، إنما يجذب الناس إلى النجاة يوم الحشر وتطاير الصحف , والعبور على الصراط , والميزان , وفي التنزيل [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى] ( ).
الثالثة : في الآية حرب على الغلو بالأنبياء والأولياء والصالحين أو إتخاذ الأصنام وسائط في التقرب إلى الله عز وجل ، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (اتخذني الله عبدا قبل أن يتخذني نبيا) ( ).
الرابعة : تبين الآية أن المسلمين في سباق مع الزمن بخصوص أداء العبادات وإظهار معاني الطاعة لله عز وجل ، وهو من معاني مصاديق الإحتجاج العملي على أهل الكتاب والذين كفروا .
أما بالنسبة لأهل الكتاب فان أنبياءهم دعوا إلى عبادة الله وبشرًوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد يكون في الفرد من الإحتجاج جدال وخصومة ومغالطة وعناد ، فلذا جاءت الآية بالجامع المشترك بين المسلمين وأهل الكتاب وهو التسليم لله عز وجل بالربوبية المطلقة , مع نبذ الأنداد , وبخصوص نوح قال الله تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ] ( ).
إن إخبار الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وهو في حال المنعة والدولة وكثرة الأنصار والأتباع أن ليس عليه إلا البلاغ شاهد على صدق نبوته ، لذا فأن الآية ليست منسوخة ، إنما تبين معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن دعوته بدأت بالتبليغ وتستمر بالتبليغ، وفيه كفاية وحجة ودعوة للناس لدخولهم الإسلام ، وهذا التبليغ ليس مجرداً أو منفرداً ، بل يقترن بأمور :
الأول : بشارة الأنبياء السابقين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفي عيسى ورد قوله تعالى [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( ).
وعن أبي أمامة قال ( قلت: يا رسول الله، ما كان أول بَدْء أمرك؟ قال: “دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى بي، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام”)( ) .
الثاني : توالي نزول آيات القرآن , وكل آية معجزة من عند الله عز وجل .
الثالث : تعاقب نصر جيش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معارك الإسلام ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : كل نصر للمسلمين في معركة بدر وأحد والخندق وحنين معجزة قائمة بذاتها .
الثاني : نصر المسلمين في معارك الإسلام الأولى ، كله بمعجزة واحدة .
الثالث : كل نصر للمسلمين في معارك الإسلام معجزات متعددة وتوليدية .
والصحيح هو الثالث ، وهو حجة متجددة في كل زمان تدعو الناس إلى الهداية والإيمان ، وتزجر الكافرين وتمنعهم من قتال المسلمين , فلا غرابة أن تجد بياناً مستحدثاً وعلوماً مستنبطة من واقعة معركة بدر وأحد في أجزاء كثيرة من هذا السِفر ، وما يأتي به العلماء وذوو الإختصاص في المستقبل بخصوص معارك الإسلام الأولى ، أكثر واعظم وستكون تلك المعارك علماً مستقلاً للدراسة في فصول ومراحل الدراسة في الكليات العسكرية في العالم بأسره .
وهل في هذه المعارك شاهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أعظم وأنجح قائد في التأريخ ، الجواب نعم ، ولكن لا تصل النوبة إليه لأنه نبي رسول وقوله وفعله بأمر من عند الله عز وجل ، لا ترقى المنافسة والتسابق معه , قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
ومن وجوه العظمة في المقام أن ذخائر العلوم والفنون والفيوضات التي وقعت وجرت على يدي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تلك المعارك نهر جار بالحكمة والمعرفة وحجة على الناس .
وهل سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المعارك من مصاديق قوله تعالى [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ] ( ) الجواب نعم ، لما فيها من الدلائل والبراهين على صدق نبوته ، لذا قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) ( ) , وفيه وجوه :
الوجه الأول : توجه الخطاب للمسلمين والمراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون .
ولم تقل الآية : ولقد نصرك الله ببدر ) بل خاطبت النبي والمسلمين ( نصركم الله ) وفيه مسائل :
الأولى : الثناء من عند الله سبحانه على أهل بدر .
الثانية : دعوة المسلمين لإقتباس الدروس والمواعظ من أهل بدر وقتالهم .
الثالثة : دعوة أهل بدر من المهاجرين والأنصار إلى عدم نسبة النصر إلى قوتهم وشجاعتهم وعندما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معركة بدر وبلغ موضعاً إسمه الأثيل أمر بقتل النضر بن الحارث فقتله الإمام علي عليه السلام .
وكان النضر يؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ويصد الناس عن الإسلام ، وكان يشتري الكتب من بلاد فارس والروم والحيرة ويروي عنها في مكة أخبار الملوك والسلاطين ويقول : محمد يأتيكم بأخبار عاد وثمود وأن أنبئكم بأخبار الأكاسرة والقياصرة ، وكان يظهر الإستهزاء بآيات القرآن عندما يسمعها .
وقالت (قتيلة بنت النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار. قال الزبير: كانت تحت عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر بن عبد شمس بن عبد مناف، فولدت له علياً والوليد ومحمداً وأم الحكم. قال أبو عمر: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أباها يوم بدرٍ صبراً.
حدثنا خلف بن قاسم، قال: حدثنا الحسن بن رشيق قال: حدثنا الدولابي قال: حدثنا يزيد بن سنان أبو خالد قال: حدثنا عبد الله بن خالد ابن نمير أبو بكر قال: حدثنا أبو محصن عن سفيان بن حصين عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ صبراً النضر بن الحارث من بني عبد الدار) ( ).
(قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَقَالَتْ قُتَيْلَة بِنْتُ الْحَارِثِ أُخْت النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ تَبْكِيهِ , وقيل هي بنت النضر , من الكامل :
يَا رَاكِبًا إنّ الْأَثِيلَ مَظِنّةٌ … مِنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ وَأَنْتَ مُوَفّقُ
أَبْلِغْ بِهَا مَيْتًا بِأَنّ تَحِيّةً … مَا إنْ تَزَالُ بِهَا النّجَائِبُ تَخْفِقُ
مِنّي إلَيْك وَعَبْرَةً مَسْفُوحَةً … جَادَتْ بِوَاكِفِهَا وَأُخْرَى تَخْنُقُ
هَلْ يَسْمَعَنّي النّضْرُ إنْ نَادَيْتُهُ … أَمْ كَيْفَ يَسْمَعُ مَيّتٌ لَا يَنْطِقُ
أَمُحَمّدُ يَا خَيْرَ ضَنْءِ كَرِيمَةٍ … فِي قَوْمِهَا وَالْفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرّقُ
مَا كَانَ ضُرّك لَوْ مَنَنْتَ وَرُبّمَا … مَنّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ
أَوْ كُنْتَ قَابِلَ فِدْيَةٍ فَلْيُنْفِقَنْ … بِأَعَزّ مَا يَغْلُو بِهِ مَا يُنْفِقُ
فَالنّضْرُ أَقْرَبُ مَنْ أَسَرّتْ قَرَابَةً … وَأَحَقّهُمْ إنْ كَانَ عِتْقٌ يُعْتَقُ
ظَلّتْ سُيُوفُ بَنِي أَبِيهِ تَنُوشُهُ … لِلّهِ أَرْحَامٌ هُنَاكَ تُشَقّقُ
صَبْرًا يُقَادُ إلَى الْمَنِيّةِ مُتْعَبًا…رَسْفَ الْمُقَيّدِ وَهُوَ عَانٍ مُوَثّقُ) ( ).
أي إن كنت موفقاً في السير ، ولم تزغ عن الطريق فانك تصل الأثيل في صبيحة الليلة الخامسة من سيرك وكانت ترثي أباها في هذه القصيدة إذ قتله النبي (فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بكى حتى أخضلت الدموع لحيته وقال : ” لو بلغني شعرها قبل أن أقتله لعفوت عنه) ( ).
والأثيل موضع قريب من محافظة بدر , ويسمى في هذه الأيام قرية الحسينية , وتبعد عن المدينة المنورة نحو مائة وخمسة وثلاثين كيلو متراً .
وابن بطوطة الأثيل وقال (فنزلنا بقرب مسجد ذي الحليفة الذي أحرم منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمدينة منه على خمسة أميال، وهو منتهى حرم المدينة. وبالقرب منه وادي العقيق. وهنالك تجردت من مخيط الثياب واغتسلت ولبست ثوب احرامي وصليت ركعتين وأحرمت بالحج مفرداً. ولم أزل ملبياً في كل سهل وجبل وصعود وحدور إلى أن أتيت شعب علي عليه السلام، وبه نزلت تلك الليلة.
ثم رحلنا منه ونزلنا بالروحاء، وبها بئر تعرف ببئر ذات العلم. ويقال: إن علياً عليه السلام قاتل بها الجن.
ثم رحلنا ونزلنا بالصفراء. وهو وادٍ معمور، فيه ماء ونخل وبنيان، وقصر يسكنه الشرفاء الحسنيون وسواهم، وفيها حصن كبير، وتواليه حصون كثيرة وقرى متصلة.
ثم رحلنا منه، ونزلنا ببدر حيث نصر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنجز وعده الكريم، واستأصل صناديد المشركين. وهي قرية فيها حدائق نخل متصلة، وبها حصن منيع يدخل إليه من بطن وادٍ بين جبال. وببدر عين فوارة يجري ماؤها وموضع القليب الذي سبح به أعداء الله المشركون. هو اليوم بستان. وموضع الشهداء رضي الله عنهم خلفه .
وجبل الرحمة الذي نزلت به الملائكة على يسار الداخل منه إلى الصفراء ، وبإزائه جبل الطبول، وهو شبه كثيب الرمل ممتد. ويزعم أهل تلك البلدة أنهم يسمعون هنالك مثل أصوات الطبول في كل ليلة جمعة وموضع عريش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان به يوم بدر، يناشد ربه جلّ وتعالى، متصل بسفح جبل الطبول، وموضع الواقعة أمامه، وعند نخل القليب مسجد يقال له مبرك ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
وبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة من الاثيل بشيرين لأهل المدينة ، وإفترقا في العقيق ليدخل كل واحد منهما من ناحية إلى المدينة والظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرهما بكلمات مخصوصة في نص البشارة .
لأن الحال جلي ، وهما يذكران ما حدث , وكله بشارة ورحمة، ثم أطلت الطلعة البهية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أرجاء المدينة لتشع بها نوراً يبقى يضئ دروب السالكين إلى الهدى في ربوع الأرض إلى يوم القيامة .
وعندما دخل زيد المدينة على ناقة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم القصواء وأخذ بالنداء بأعلى صوته فلما وصل إلى المصلى (صاح على راحلته: قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وابنا الحجاج، وأبو جهل، وأبو البختري، وزمعة بن الأسود، وأمية بن خلف، وأسر سهيل بن عمرو ذو الأنياب في أسرى كثيرة. فجعل الناس لا يصدقون زيد بن حارثة، ويقولون: ما جاء زيد إلا فلاًّ! حتى غاظ المسلمين ذلك وخافوا) ( ) .
أي أن الذين قالوا بأن زيداً فرّ منهزماً ليس المنافقين وحدهم ، لأن فريقاً من أهل المدينة لم يصدقوا بغلبة المسلمين بعددهم القليل وقلة أسلحتهم ومؤونهم على جيش المشركين ذي الشوكة والقوة ، نعم أراد المنافقون تحريف الحقائق ونفي النصر .
(فقال رجلٌ من المنافقين لأسامة بن زيد: قتل صاحبكم ومن معه. وقال رجلٌ من المنافقين لأبي لبابة بن عبد المنذر: قد تفرق أصحابكم تفرقاً لا يجتمعون منه أبداً، وقد قتل علية أصحابه وقتل محمد، هذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب، وجاء فلاًّ. قال أبو لبابة: يكذب الله قولك) ( ).
وخرج أهل المدينة الى الروحاء يهنئون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر المبين ، وقدّم بعض الذين تخلفوا عن الخروج إعتذارهم , وقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إعتذارهم .
(فقال سلمة بن سلامة بن وقش: ما الذي تهنئوننا به؟ فوالله ما قتلنا إلا عجائز صلعاً. فتبسم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وقال: يا ابن أخي، أولئك الملأ، لو رأيتهم لهبتهم، ولو أمروك لأطعتهم، ولو رأيت فعالك مع فعالهم لاحتقرته، وبئس القوم كانوا على ذلك لنبيهم.
فقال سلمة: أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، إنك يا رسول الله لم تزل عني معرضاً منذ كنا بالروحاء في بدأتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: أما ما قلت للأعرابي وقعت على ناقتك فهي حبلى منك، ففحشت وقلت ما لا علم لك به! وأما ما قلت في القوم، فإنك عمدت إلى نعمةٍ من نعم الله تزهدها. فاعتذر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم معذرته) ( ).
الوجه الثاني : ردّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه على سلمة بن سلامة من البلاغ الذي يقوم به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قانون أن معركة بدر فتح عظيم وأنه سيكون نوع طريق وسبيل لدخول الناس الإسلام ، لأنه كسر حاجز الخوف والخشية من رؤساء قريش الذين كانوا يصدون الناس عن الإسلام، خاصة وان أهل مكة تحت أمرتهم وسلطانهم كما تحتاج القبائل العربية الوفود إلى مكة في موسم الحج وغيره ، لذا سماها الله عز وجل أم القرى بقوله تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ).
وبين الإنذار والبلاغ عموم وخصوص مطلق فكل إنذار بلاغ وليس العكس ، ومعركة بدر ونصر المسلمين فيها إنذار دائم ومتجدد إلى الذين كفروا وزجر لهم عن الهجوم على المسلمين وثغورهم .
الوجه الثالث : آية [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( ) بلاغ يومي متجدد إلى يوم القيامة ، وفيه غنى عن نسخ آية السيف لآيات البلاغ ، ويمكن تشريع قانون وهو :
كل آية قرآنية بلاغ يومي لذا ففي كل يوم جديد من أيام الحياة الدنيا .
فتطل آية النصر هذه على المسلمين والمسلمات , لتقول لهم أموراً :
الأول : أنتم الذين نصركم الله ببدر .
الثاني : الشكر لله على نعمة النصر في معركة بدر .
الثالث : لولا نصر الله لكم في معركة بدر لما صرتهم في هذه الحال من العز والمنعة .
الرابع : لقد نصركم الله ببدر لتستمروا في البلاغ والتبليغ .
الخامس : ذات النصر في يوم بدر بلاغ وتبليغ وبلغة نحو الأهداف السامية .
السادس : نصر الله عز وجل لكم ببدر مقدمة للبلاغ والتبليغ ، وهذا أمر لا ينكره أحد ، ولكن من الإعجاز أن هذه المقدمة متصلة ودائمة وهي حاضرة في كل يوم ومصر ، يكون فيه حال المسلمين خلافاً للمألوف بما فيه تحد ودعوة للإيمان ، وهو أن المقدمة تنقطع بوقوع ذي المقدمة كما في الوضوء فانه مقدمة للصلاة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ]( ).
ويكون نصر الله عز وجل للمسلمين مقدمة دائمة لغايات حميدة وفضائل متصلة .
وهو من مصاديق العموم في قوله تعالى [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ] وتقديره : فإنما عليكم البلاغ ).
وتقديره بالنسبة للمسلمات : فانما عليكن البلاغ ) وهو من أسرار مجئ الخطاب وشآبيب الرحمة في آية النصر ببدر لعموم المسلمين والمسلمات [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ] ( ).
السابع : بيان قرب رحمة الله عز وجل من المسلمين وأنه سبحانه يمدهم بالأمن والسلامة ، إذ أن نصر المسلمين في معركة بدر غاية بذاتها ، وهي بلغة ووسيلة كريمة لتحقيق غايات حميدة للإسلام ورحمة بأجيال الناس جميعاً إلى يوم القيامة ، ولما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) ردّ الله عز وجل عليهم بالحجة والبرهان , فقال [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) فخروا سجداً لله سبحانه , وكأنهم إستعدوا من ساعتئذ للنزول يوم معركة بدر لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لأن هذا النصر مكتوب منذ أن خلق الله عز وجل آدم .
ومن عظيم قدرة الله وبدائع الحياة الدنيا أن نصر للمؤمنين أمر ثابت منذ خلق الله عز وجل آدم عليه السلام ، وهو مستمر , ونفعه دائم ومتجدد إلى يوم القيامة .
وورد لفظ “البلاغ” في آيات من القرآن
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ﴿٢٠ آل عمران﴾
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿٩٢ المائدة﴾
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴿٩٩ المائدة﴾
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغ(الرعد 40)
فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿٣٥ النحل﴾
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿٨٢ النحل﴾
وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿٥٤ النور﴾
وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿١٨ العنكبوت﴾
وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿١٧ يس﴾
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ﴿٤٨ الشورى﴾
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴿١٢ التغابن﴾
وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴿١٩٦ البقرة﴾
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴿٢٣١ البقرة﴾
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ ﴿٢٣٢ البقرة﴾
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ ﴿٢٣٤ البقرة﴾
وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ﴿٢٣٥ البقرة﴾
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ﴿٤٠ آل عمران﴾
حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴿٦ النساء﴾
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴿٦٣ النساء﴾
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴿٦٧ المائدة﴾
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴿٦٧ المائدة﴾
يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ﴿٩٥ المائدة﴾
وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴿١٩ الأنعام﴾
رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ﴿١٢٨ الأنعام﴾
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿١٤٩ الأنعام﴾
وليس من حصر لموضوع البلاغ في قوله تعالى [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ] وفيه وجوه :
الوجه الأول : فانما عليك البلاغ في التوحيد وإخلاص العبودية لله عز وجل .وعن جابر بن عبد الله (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله، ثم قرأ{فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر }( ) ) ( ).
الوجه الثاني : فانما عليك البلاغ في آيات القرآن ، وعلى الله عز وجل حفظها وجذب قلوب الناس إليها ، قال تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
وهل من موضوعية للبلاغ في حفظ القرآن ، الجواب نعم ، لأن الله عز وجل هو الذي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبلاغ , وفيه مسائل :
الأولى : ما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من السخرية والإستهزاء من قومه، إذ يقابل كفار قريش الدعوة إلى الله بالجحود، وآيات القرآن بالإستخفاف والإنكار.
الثانية : الأذى الجسدي الذي تعرض له النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قريش ( وعن عبد الله بن مسعود قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلى ورهط من قريش جلوس، وسلا جزور قريب منه.
فقالوا: من يأخذا هذا السلا فيلقيه على ظهره ؟ فقال عقبة بن أبى معيط: أنا. فأخذه فألقاه على ظهره. فلم يزل ساجدا حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” اللهم عليك بهذا الملأ من قريش، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة، اللم عليك بشيبة بن ربيعة، اللهم عليك بأبى جهل بن هشام، اللهم عليك بعقبة ابن أبى معيط، اللهم عليك بأبي بن خلف – أو أمية بن خلف – ” شعبة الشاك.
قال عبد الله: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعا، ثم سحبوا إلى القليب غير أبى، أو أمية بن خلف، فإنه كان رجلا ضخما فتقطع( ).
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو لقومه بالهداية، وعندما ينزل جبرئيل يعرض عليهم الإنتقام منهم، يقول له (أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا)( ).
فلماذا دعا على هؤلاء الملأ من قريش عندما أكثروا من إيذائه الجواب لم يكن دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن غضب وإنفعال، إنما كان باذن من عند الله عز وجل لعمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، وفيه وجوه :
أولاً : بعث الخوف والفزع في قلوب المشركين .
ثانياً : دعوة الناس لعدم الإصغاء لرؤساء الكفر .
ثالثاً : رجاء إزاحة أسباب المنع والصد عن الإسلام التي تصدر عن الملأ من قريش .
رابعاً : دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أفراد مخصوصين من كبار قريش بشارة هلاكهم في معركة بدر، حتى إذا ما قتلوا في المعركة أدرك الناس معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتبقى معلماً في تأريخ النبوة إلى يوم القيامة .
خامساً : من الإعجاز في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه أنه لم يدع على كفار قريش قاطبة، إنما قيّد الدعاء وخصه بافراد مخصوصين، باسم الإشارة (بهذا الملأ من قريش) ثم ذكرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأسماء .
الثالثة : العناء والحصار الذي لاقاه أهل بيت النبوة من آمن منهم بدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد وقف بنو هاشم وقفة رجل واحد في الدفاع والذب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من أسباب سلامته في مكة قبل الهجرة، باستثناء عمه أبي لهب الذي كان يجتهد بشدة عداوته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويؤلب عليه الناس، ولكن سعيه الخبيث هذا خاب .
وأقبل الناس على دخول الإسلام، وهو من الإعجاز في صدق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأي دعوة تحارب من داخل بيت صاحبها لا تلقى الرواج بين الناس إلا إذا كانت دعوة حق وهدى، ومن فضل الله أن إعلان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنبوته مقترن بالمعجزات العقلية والحسية , قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ] ( ).
الرابعة : لقد كان أبو طالب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ينصره ويذب عنه ويمنع من إيذائه في رسالته ودعوته إلى الإيمان وكانت له هيبة في مكة وخارجها وهو معروف عند بعض ملوك أهل زمانه، ولما مات إشتد أذى قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فخرج إلى مدينة الطائف ولا زالت تحمل ذات الاسم إلى يومنا هذا وكان يرجو نصرة ساكنيها من قبيلة ثقيف له، وإجارتهم له من قومه، وعسى أن يقبل شطر من أهل المدينة بدعوته وهو من مصاديق قوله تعالى[فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ] .
إن السعي والجهد الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التبليغ عصي عن النسخ إذ كان صلى الله عليه وآله وسلم يعرض نفسه للقتل والهلاك بهذا التبليغ رجاء نزول شآبيب الرحمة للناس .
وكان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف الهجرة الأولى له من مكة، وفيها حجة ودرس بليغ .
وعندما وصل إلى الطائف عرج على أخوة ثلاثة من سادات ثقيف هم :
الأول : عَبْدُ يَالَيْل بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ.
الثاني : مَسْعُودُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ .
الثالث : حَبِيبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ( ).
فدعاهم إلى الإسلام وأخبرهم بأنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسألهم التصديق به ونصرته ، وذكر لهم ما لاقاه من قريش من الأذى والعناد ، وأنه جاء إلى الطائف مستجيراً لاجئاً ، وكان أحدهم متزوجاً امرأة من بني جُمح من قريش , فأدرك هؤلاء الأخوة شدة الأمر ولم يسألوه عن معجزات النبوة ولكنهم خشوا مواجهة قريش بزهوها وعظيم منزلتها وأثرها ، وحاجة أهل الطائف إلى مكة وموسم الحج ، وكانت لقريش بساتين في الطائف، كما أنهم يقومون بشراء الأعناب والثمار منها ، ويحضرونها موسم الحج .
ومن وظائف السقاية والرفادة في قريش أنهم كانوا يشترون الأعناب ليعصروها مع ماء زمزم لتحليته .
وكانت السقاية والرفادة فيمكة لبني هاشم , والسدانة واللواء لبني عبد الدار ، والسقاية هي القيام بسقي الحجيج بأحواض من الماء يحلونها بالزبيب والتمر .
أما الرفادة فهو الطعام الذي كان يصنع لوفد الحاج ويوزع عليهم على نحو الضيافة .
ولاقى هؤلاء الأخوة دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجفاء والغلظة من وجوه :
أولاً : (فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمْ هُوَ يَمْرُطُ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إنْ كَانَ اللّهُ أَرْسَلَك) ( ) أي أنه يتعدى ويتجاوز على الكعبة فيمزق ما عليها من الكسوة والستائر فيكون محل لوم العرب ، وقد يقومون بقتله لتعديه.
يريد بقوله هذا أنه يقطع بنفي نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ترى لماذا بادر لإنكار النبوة ، الجواب إنه الخوف من مواجهة كفار قريش وثقيف والدخول معهم في حرب وظن أنه يخسر الحرب، ولم يعلم أن الله عز وجل ينصر رسوله والمؤمنين ، قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] ( ).
لقد فتح الله عز وجل على ثقيف بقدوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلدهم وقيامه بدعوتهم للإسلام خزائن الأرض ، وشرف الدنيا والآخرة ، وهو الأمر الذي تجلى بما بلغته وتبلغه المدينة المنورة إسماً ومسمى وأكرمها الله عز وجل بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقيماً فيها وبالحجرة الشريفة ، لتكون مزاراً للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، فالأصل أن يشتاق المسلمون إلى مكة المكرمة لأن فيها البيت الحرام وهي قبلة المسلمين .
فأنعم الله عز وجل عليهم وجعلهم يشتاقون أيضاً لثاني الحرمين وهي المدينة المنورة ، وممن يشتاق لها ذرية عبد ياليل بن عمرو وأخويه .
وفي قصة رمي النجوم عند بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إرتبك أهل الطائف حينما رأوا شدة النار في السماء ، إذ رجمت الشياطين في ليلة من الليالي بعد بعثته صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا يتخذون مقاعد في السماء الدنيا يستمعون للأمر النازل من السماء ، فاختلفت عليهم الشهب وهي تحرقهم , كما ورد في التنزيل حكاية عنهم [وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا] ( ).
فقال أهل الطائف (هلك أهل السماء ! لما رأوا من شدة النار في السماء واختلاف الشهب، فجعلوا يعتقون أرقاءهم، ويسيبون مواشيهم.
فقال لهم عبد ياليل بن عمرو بن عمير: ويحكم يا معشر أهل الطائف ! أمسكوا عن أموالكم وانظروا إلى معالم النجوم، فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها فلم يهلك أهل السماء، وإنما هو من ابن أبى كبشة، وإن أنتم لم تروها فقد أهلك أهل السماء.
فنظروا فرأوها، فكفوا عن أموالهم ) ( ).
مما يدل على شأن ومنزلة عبد ياليل ومعرفته بأثر وإطلالة ضياء نبوته , ولكنه أبى إلا الجحود بالنبوة حتى بعثه أهل الطائف بعد فتح مكة وبعد أن قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك ليستمع من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أدركوا أنهم لا يستطيعون قتال العرب ، وضاقت عليهم الأرض، وأخذ المسلمون يتخطفونهم خارج الطائف مع بلوغهم توالي البراهين بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فخشى عبد ياليل أن تفعل به ثقيف مثلما فعلوا بأحد أمرائهم حينما جاء يدعوهم إلى الإسلام وهو عروة بن مسعود إذ كان فيهم مطاعاً مكرماً ، ولكنهم حينما سمعوه يدعوهم إلى الإسلام رموه بالنبل من كل وجه .
وأمتنع عبد ياليل في بادئ الأمر من الذهاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكيف يذهب له وهو الذي جحد بنبوته في الطائف، ولاقى منهم ومن عبيدهم وغلمانهم وصبيانهم أشد الأذى ، إذ رموه بالحجارة وسالت الدماء من قدميه ، واشترط عبد ياليل على ثقيف أن يرسلوا معه عدداً من الرجال كيلا ينتقموا منه عندما يدعوهم إلى الإسلام ، فبعثوا معه ( رجلين من الاحلاف وثلاثة من بنى مالك ; وهم الحكم بن عمرو بن وهب بن معتب،
وشرحبيل بن غيلان بن سلمة بن معتب، وعثمان بن أبى العاص، وأوس بن عوف أخو بنى سالم، ونمير بن خرشة بن ربيعة.
وقال موسى بن عقبة: كانوا بضعة عشر رجلا فيهم كنانة بن عبد ياليل – وهو رئيسهم – وفيهم عثمان بن أبى العاص وهو أصغر الوفد ) ( ).
لقد أبى الله عز وجل إلا أن يعز ويكرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وليلقى الذين آذوه الخزي والعار وصاروا على أقسام :
أولاً : الذين هلكوا وماتوا ، قبل ظهور دولة الإسلام .
ثانياً : الذين لاقوا أجلهم بحوادث فردية تدل على الإنتقام والبطش الإلهي بهم .
ثالثاً : رؤساء الكفر والضلالة الذين قتلوا في معركة بدر , وألقوا في القليب .
رابعاً : الذين أدركتهم التوبة , وحسن إسلامهم .
لقد كان أمراً عظيماً في مكة عندما عاد جيش المشركين وليس معهم كبار قريش مثل أبي جهل ، وعتبة بن ربيعة وأخيه شيبة وإبنه الوليد وأمية بن خلف وغيرهم من القتلى والأسرى .
لقد تجلت معالم فتح مكة المكرمة من يوم عودة جيش المشركين منهزماً من معركة بدر ، وهو من مصاديق ودلالات قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
وهل إستقرأ أهل مكة هذا المعنى وأن الفتح قادم الجواب نعم ، ولقد إمتلأت نفوس المسلمين والمستضعفين في مكة بالغبطة والفخر ، وأخذوا يعيرون الكفار ، لذا فان قيام قريش بجمع الجيوش لمعركة أحد من أسباب الوهن والخزي الذي لحقهم , ومحاولة للتغطية على ما لقوه من الفضيحة والعار .
ثانياً : وبعد أن قال أحد هؤلاء الأخوة من ثقيف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك نبياً ورسولاً للناس ، قال الآخر ، أما وجد الله أحداً يرسله غيرك .
وكان هذا القول معروفاً ومتداولاً ومما يحاول الكفار صد الناس عن الإسلام بواسطته .
وعن ابن عباس (لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً أنكرت العرب ذلك ، ومن أنكر منهم قالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمد . فأنزل الله { أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم . . . }( ) الآية . { وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم . . . }( ) الآية . فلما كرر الله عليهم الحجج قالوا : وإذا كان بشراً فغير محمد كان أحق بالرسالة { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم }( ) .
يقولون : أشرف من محمد يعني الوليد بن المغيرة من مكة ، ومسعود بن عمرو الثقفي من الطائف ، فأنزل الله رداً عليهم { أهم يقسمون رحمة ربك }( ) الآية ) ( ).
ومن الآيات أن قوم كل نبي يحتجون على بعثته بشخصه ويرجون بعث غيره رسولاً [اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ] ( ).
لقد كان هؤلاء الأخوة مرآة لحال ثقيف وأهل الطائف في الصدود عن النبوة والتنزيل وحينما دعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام هل تلى عليهم آيات من القرآن , الجواب نعم ، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يتخذ تلاوة آيات القرآن حجة وبرهاناً , وكانت السور المكية تتصف بصيغة الوعيد والتخويف الإنذار , مثل قوله تعالى [كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ] ( ).
ثالثاً : أما الأخ الثالث فقد قال للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (وَاَللّهِ لَا أُكَلّمُك أَبَدًا . لَئِنْ كُنْت رَسُولًا مِنْ اللّهِ كَمَا تَقُولُ لَأَنْتَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدّ عَلَيْك الْكَلَامَ وَلَئِنْ كُنْت تَكْذِبُ عَلَى اللّهِ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلّمَك) ( ).
ويدل هذا الكلام على الحيرة والتردد الذي عليه عبد ياليل وأخوته ، وأنهم لم يمتنعوا عن الإسلام لإنتفاء المقتضي ، بل أن المقتضي موجود والحجة قائمة ، ولكنهم خشوا لحوق الضرر بهم من ثقيف نفسها ومن قريش ، لذا تجد ثقيفاً أكثر عداوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام المتعاقبة .
وكان فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة معجزة وآية باهرة تدعو الناس إلى دخول الإسلام وتزجر القبائل وأهل القرى حول مكة عن التعدي على الإسلام ، ولكن ثقيفاً إختارت مهاجمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في طريق عودتهم إلى المدينة ، فكانت معركة حنين درساً بليغاً للمسلمين ، ولكنها إنتهت بهزيمة نكراء لثقيف ، ووقوع أموالهم غنائم للمسلمين ، وعوائلهم سبايا عند المسلمين ليخزي الله عز وجل الذين يصرون على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بعد تجلي الآيات الباهرات .
وليكون من دلالات ذهاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف وعرض نفسه ونبوته ودعوته على أهلها مسائل :
الأولى : إرادة النصرة والعون والمدد .
الثانية : إقامة الحجة على أهل الطائف والقرى والمدن القريبة من مكة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر جماعة من أهل بيته وأصحابه بالهجرة إلى الحبشة ، ولم يهاجر إلى المدينة إلا بعد أن يأس من أهل مكة وما حولها من القرى ،وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
الثالثة : إرادة الشهادة على خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأمصار ودعوته الناس للإسلام .
الرابعة : بيان حقيقة وهي صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدم خشيته من أهوال الطريق ، ولحوق الأذى به أو قتله ، فقد كانت العرب تميل إلى القتل والغدر في الفلوات ليضيع الدم ، وإذا كانت قريش تهاب جانب بني هاشم في مكة فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكون وحيداً في طريق السفر ، لذا سمّي السفر لأن الإنسان يسفر فيه , ويبتعد عن أسوار بلدته وحيطانها وأهلها ، ويصبح مكشوفاً .
وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذهب إلى الطائف بمفرده ، وفي رواية كان معه زيد بن حارثة .
الخامسة : إرادة التحدي لأهل الطائف ، وبيان برهان بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غادر مكة مكرهاً ومن أجل الدعوة إلى الله ، قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ] ( ).
الوجه الثالث : فانما عليك البلاغ ,وكذا الرسل والأنبياء السابقين ، فليس عليهم إلا البلاغ ، قال تعالى [فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ] ( ).
قيل أن التبليغ خاص بالأنبياء ومنهم من جعله يشمل مرتبة العلماء دون عامة المسلمين ، ولا دليل عليه ، والمختار أن التبليغ في الآية عام يشمل المسلمين ذكوراً وأناثاً ، كل واحد منهم بحسب مرتبته ودرجته وعلمه .
وقيل هناك فرق بين التبليغ والدعوة , وأن الداعية لا يلزمه التفقه في الدين ، والتبحر في أحكام الحلال والحرام والإحاطة بالفتاوى بخلاف المبلغ الذي يلزمه الإحاطة بالإحكام والقيام بتبليغها للناس .
والمختار أنه بين التبليغ والدعوة عموم وخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق ، وأن كل مسلم يقتدي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيبلغ الأحكام بقدر ما يفقهه منها ، وقيام المسلمين بالتبليغ من مصاديق قوله تعالى [كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) ولا يختص التبليغ من حيث جهته بالتوجه إلى غير المسلمين ، إنما هو عام يشمل ذلت المسلمين بقيامهم بالتبليغ فيما بينهم .
أما النسبة بين التبليغ وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهي العموم والخصوص المطلق ، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعم من التبليغ ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
الوجه الرابع : فانما عليك البلاغ , وليس القتال والقتل إذ تفيد لفظة (إنما) معنى الحصر .
وإذا إتصلت ما الحرفية بالحرف المشبه بالفعل(إن) تكون (ما) كافة لها عن العمل، كما في قوله تعالى[وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ] ( )، وكما لو قلت (إنما الصيام صحة ُ) .
إما إذا إتصلت (ما) غير الحرفية بإن , مثل (ما) الموصولة فتبقى (إن) للتوكيد، وتكون عاملة فتنصب المبتدأ وترفع الخبر، لأن (ما) الموصول بمعنى (الذي) وإذا حذفت تغير المعنى كما في قوله تعالى[أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ]( )، وإعرابه :
أن : حرف مشبه بالفعل يفيد التوكيد .
ما : اسم موصول مبني في محل نصب اسم (أن) .
أنزل : فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره (هو).
إليك : جار ومجرور .
من ربك : جار ومجرور متعلق بــ(انزل).
الحق : خبر (أن) مرفوع، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
فان قلت قد قاتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وقتل في المعارك بعض المشركين , الجواب هذا القتال دفاع ودفع للمشركين ، وصرف لكيدهم ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
ولو أجريت إحصائية لتبين أن الذين عفا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنهم من المشركين أكثر من أقرانهم الذين قتلوا صبراً ، ومع أن الله عز وجل أباح مكة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ساعة من نهار يوم الفتح فانه لم يقتل الذين آذوه وأصحابه من جهات :
الأولى : يأتي البلاغ بمعنى المنتهى وأقصى القصد والغاية كما في قوله تعالى [ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً] ( )، ويرد بمعنى المنتهى كما في قوله تعالى[أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ]( )، أي منتهية في التوكيد، وورد تكليف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبلاغ على نحو الإطلاق ليبلغ غايته وأقصاه.
وليس من بلاغ في الحياة الدنيا أمس واليوم وغداّ مثل بلاغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سعته وعظمته ومدته ونفعه وتجليات الإعجاز فيه، وهو من الشواهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين، وعلى أهل الأرض في علومهم واختراعاتهم وإكتشافاتهم.
الثانية : ليس من حصر لوجوه البلاغ التي جاء بها القرآن , فكل آية منه بلاغ متعدد وإنحلالي ومتجدد في كل زمان كما أنه كشجرة سدر ، تدخل أغصانها كل بيت في الأرض.
لقد أراد الله عز وجل أن تكون بلاغات القرآن ضياء ينير دروب الهداية للناس، ونوراًحاضراً عن أيمانهم وشمائلهم يذب عنهم كيد الشيطان , ويدفع غواية النفس الأمارة بالسوء.
الثالثة : قد يرد الأمر بالبلاغ بلفظ آخر غير لفظ وصيغة البلاغ وهو كثير في القرآن منه لفظ(قل) والدعوة إلى الله ولغة الإحتجاج والجدال ودفع الشك والوهم، قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
الرابعة : لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآية في العبادة لم يعهدها أهل الأرض، بأن يتوجه المسلمون والمسلمات خمس مرات في كل يوم للصلاة، وليس من مراتب في هذه الصلاة، فلا يكون أداء العالم مختلفاً عن أداء غيره من المسلمين بما يمتاز عليهم بكثرة ركعات الصلاة الواجبة، أو أركان وأجزاء الصلاة، وليس فيها فرق بين الغني والفقير، والملك والرعية وقد يتقدم العبد سيده في صفوف الصلاة، ويتفوق عليه في كيفية أداء الصلاة وحال الخشوع والخضوع فيها .
وجاء فقراء المهاجرين فقالوا : يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالدرجات العُلَى والنعيم المقيم. فقال: “وما ذاك؟” قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق.
قال : “أفلا أعلمكم شيئًا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين”. قال: فقالوا: يا رسول الله، سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله. قال: “ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء” ( ).
(وأخرج أبو نعيم في الدلائل ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دحية الكلبي إلى قيصر وكتب إليه معه ، فلقيه بحمص ودعا الترجمان ، فإذا في الكتاب من محمد رسول الله ، إلى قيصر صاحب الروم ، فغضب أخ له وقال : تنظر في كتاب رجل بدأ بنفسه قبلك ، وسماك قيصر صاحب الروم ولم يذكر أنك ملك.
قال له قيصر : إنك والله ما علمت أحمق صغيراً ، مجنوناً كبيراً : تريد أن تحرق كتاب رجل قبل أن أنظر فيه؟ فلعمري لئن كان رسول الله كما يقول : فنفسه أحق أن يبدأ بها مني ، وإن كان سماني صاحب الروم ، فلقد صدق ، ما أنا إلا صاحبهم وما أملكهم ، ولكن الله سخّرهم لي , ولو شاء لسلطهم علي .
ثم قرأ قيصر الكتاب ، فقال : يا معشر الروم ، إني لأظن هذا الذي بشّر به عيسى ابن مريم ، ولو أعلم أنه هو مشيت إليه حتى أخدمه بنفسي ، لا يسقط وضوءه إلا على يدي .
قالوا : ما كان الله ليجعل ذلك في الإِعراب الأميين ويدعنا ، ونحن أهل الكتاب قال : فأصل الهدى بيني وبينكم الإِنجيل ، ندعو به فنفتحه ، فإن كان هو إياه اتبعناه ، وإلا أعدنا عليه خواتمه كما كانت , إنما هي خواتم مكان خواتم .
قال : وعلى الإِنجيل يومئذ اثنا عشر خاتماً من ذهب ختم عليه هرقل ، فكان كل ملك يليه بعده ظاهر عليه بخاتم آخر ، حتى ألقى ملك قيصر وعليه إثنا عشر خاتماً ، يخبر أوّلهم لآخرهم أنه لا يحل لهم أن يفتحوا الإنجيل في دينهم ، وإنهم يوم يفتحونه يغير دينهم ويهلك ملكهم ، فدعا بالإنجيل ففض عنه أحد عشر خاتماً حتى بقي عليه خاتم واحد .
فقامت الشمامسة والأساقفة والبطارقة ، فشقوا ثيابهم وصكوا وجوههم ونتفوا رؤوسهم! قال : ما لكم؟ .
قالوا : اليوم يهلك ملك بيتك ، وتغير دين قومك .
قالوا : لا نطاوعك في هذا أبداً . قال أبو سفيان : والله ما يمنعني من أن أقول عليه قولاً أسقطه من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها علي ، ولا يصدقني حتى ذكرت قوله ليلة أسري به . قلت : أيها الملك ، أنا أخبرك عنه خبراً تعرف أنه قد كذب . قال : وما هو؟ قلت : إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد إيليا ، ورجع إلينا في تلك الليلة قبل الصباح .
قال : وبطريق إيليا عند رأس قيصر . قال البطريق : قد علمت تلك الليلة . فنظر إليه قيصر فقال ما علمك بهذا؟ قال : إني كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد .
فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني ، فاستعنت عليه عمالي ومن يحضرني كلهم ، فعالجته فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول به جبلاً ، فدعوت الناجرة ، فنظروا إليه ، فقالوا هذا باب سقط عليه التجاق والبنيان ، فلا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من اين أتى ، فرجعت وتركته مفتوحاً .
فلما أصبحت غدوت ، فإذا الحجر الذي من زاوية الباب مثقوب ، وإذا فيه أثر مربط الدابة ، فقلت لأصحابي ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي ، فقد صلى الليلة في مسجدنا .
فقال قيصر : يا معشر الروم ، أليس تعلمون أن بين عيسى وبين الساعة نبي بشركم به عيسى عليه السلام؟ وهذا هو النبي الذي بشر به عيسى ، فأجيبوه إلى ما دعا إليه ، فلما رأى نفورهم قال : يا معشر الروم ، دعاكم ملككم يختبركم كيف صلابتكم في دينكم ، فشتمتموه وسببتموه , وهو بين أظهركم فخروا له سجداً ) ( ).
الخامسة : جاءت الآية من باب الإحتجاج لقوله تعالى [فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ.. ] ( ) لبيان أن التبليغ وحده سبيل لجذب الناس للإسلام .
ولما أخبرت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )
وإحتجت الملائكة بسبب إسرافه في الفساد وسفكه للدماء أجاب الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) وهل المقصود من سفك الدماء في قوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )الإطلاق بأن يكون إحتجاج الملائكة على سفك أي دم في الأرض بما فيه القتل في سبيل الله والقصاص .
الجواب لا ، فالمراد في الآية خصوص قتل النفس التي حرم الله عز وجل من جهات :
الأولى : عطف سفك الدم على الفساد مما يدل على المحاكاة والتشابه بينهما .
الثانية : صيغة الإنكار في إحتجاج الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا] ( ) .
الثالثة : لقد أمر الله عز وجل بقتال الذين يحاربون الله ورسوله ويصرون على قتال المسلمين .
الرابعة : قتال المسلمين في سبيل الله ، وفيه تنزيه للأرض من الفساد .
ومن أسرار العطف في الآية أعلاه أن قتل النفس فرع الفساد وأشد بغضاً منه ، ولبيان أن الفساد طريق لقتل النفس ، فقال الله عز وجل أنه سبحانه يحول دون أن يؤدي الفساد إلى القتل ببعثة الأنبياء ونزول الكتب السماوية .
لذا ترى في كل زمان أن أهل التوحيد أكثر تنزهاً ودفعاً للقتال , وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوصي أمراء السرايا بوعظ وإنذار العدو , وعدم البدء بالقتال , مما يدل على أن آية السيف لم تنسخ مائة آية , ومنها آيات الموادعة والصفح .
وجاء القرآن ليبين أن أول قتل حدث في الأرض هو من مصاديق إحتجاج الملائكة أعلاه إذ قتل قابيل بن آدم أخاه هابيل حسداً وبغياً ، وليس أشد فاجعة على الإنسان من فقد ولده مقتولاً ظلماً ( ).
الآية السادسة : قوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( ).
قال ابن حزم وابن سلامة أن الآية منسوخة بآية السيف ( ) .
ونسب ابن الجوزي نسخها إلى القيل وهو تضعيف له ، وأردف بأن الآية غير منسوخة (وإنما المراد جواز تقواهم إذا أكرهوا المؤمنين على الكفر بالقول الذي لا يعتقد وهذا الحكم باق غير منسوخ) ( ).
وتمام الآية [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ] ( ) .
ولا خلاف بأن الآية محكمة إنما ورد القول بالنسخ بخصوص قوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً].
وتبين الآية قانوناً يتعلق بصلة المسلمين بأهل الملل الأخرى بما يكفل سلامة دينهم , وثباتهم في منازل الإيمان .
فلا تمنع الآية من الصلات الإجتماعية والمعاملات التجارية والشركة مع أهل الكتاب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى] ( ) كما أنها تحذر من ولاية الكافرين على نحو الخصوص أي أنها لا تمنع من الكلام والجدال معهم والإحتجاج عليهم .
وقد تقدم خبران عن أسباب نزول الآية( ) .
لقد كان الإنتساب عند العرب قبل الإسلام للقبيلة والعشيرة والبطن والفخذ ، وكان اليهود على ملتهم وهي الجامع المشترك لهم، وكذا النصارى فجاء الإسلام , وجعل الإنتساب على أساس الإنتماء للإسلام أو عدمه .
ولقد جعل الله عز وجل الدنيا أياماً متعاقبة يتقلب الإنسان بينها حتى يغادرها ، ويبقى غيره يعمرها بالعمل ، وهو من أسرار خلافة الإنسان في الأرض من جهات :
الأولى : وجود الإنسان الدائم في الأرض ، فلا يمر يوم على الأرض إلا ويعمرها البشر .
الثانية : موضوعية ذكر الله وعبادته في عمارة الإنسان الأرض .
الثالثة : إتعاظ الحي من أهل الدنيا بالذي يفارقهم بالموت .
وتلك آية في عالم الإفتتان في الحياة الدنيا فعندما يموت الإنسان يتحقق الفراق من وجوه :
الأول : مفارقة الروح الجسد .
الثاني : مغادرة الميت الحياة الدنيا لحظة إنقطاع نفسه .
الثالث : مفارقة الإنسان للأهل والأحبة ، ولمّا حضرت الإمام الحسن بن علي عليه السلام الوفاة بكى , فقيل له أتبكي ومكانك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وقد قال فيك ما قال : قال إنما أبكي لخصلتين : لهول المطلع وفراق الأحبة .
الرابع : مفارقة الأهل للذي يخطفه الموت من بينهم وعجزهم عن حجبه عنه ، أو جعل بديل عنه ، وكم تمنى الطواغيت وأرباب الأموال أن يرجأ عنهم الموت أو يأخذ أشخاصاً بدلاً عنهم ، ممن أكبر منهم في العمر وأقل عملاً وشاناً بين الناس ، وكان هناك متبرعون للموت بديلاً عنهم ، فقال تعالى [إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( ).
الخامس : الموت طلاق قهري بين الإنسان والعمل ، فقد جعل الله عز وجل للإنسان سعة ومندوحة في الدنيا , بأن يعمل باختياره وهذا الإختيار ليس مطلقاً بل هو مقرون بفضل ولطف من عند الله ، وتقريب إلى فعل الطاعات , وبعث للنفرة في النفوس من فعل السيئات ، ومن مصاديق اللطف قوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] وكذا الآيات التي تقدم البحث فيها ، وهي :
الآية الأولى : [فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( )
الآية الثانية : [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ..]( )
الآية الثالثة : [وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ] ( ).
الآية الرابعة : [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ]( ).
الآية الخامسة : [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ] ( ) .
الآية السادسة : [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( ).
الآية السابعة : [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال (قال آدم، عليه السلام، لهابيل وقابيل: إن ربي عهد إلي أنه كائن من ذريتي من يُقَرِّب القربان، فقربا قربانا حتى تَقَر عيني إذا تُقُبّل قربانكما، فقربا. وكان هابيل صاحب غنم فقرب أكُولة غنمه، خَيْر ماله، وكان قابيل صاحب زرع، فقرب مشاقة من زرعه .
فانطلق آدم معهما، ومعهما قربانهما، فصعدا الجبل فوضعا قربانهما، ثم جلسوا ثلاثتهم: آدم وهما، ينظران إلى القربان، فبعث الله نارًا حتى إذا كانت فوقهما دنا منها عنق، فاحتمل قربان هابيل وترك قربان قابيل، فانصرفوا .
وعلم آدم أن قابيل مسخوط عليه، فقال: ويلك يا قابيل رد عليك قربانك. فقال قابيل: أحببتَه فصليتَ على قربانه ودعوت له فتُقُبل قربانه، ورد عليَّ قرباني. وقال قابيل لهابيل: لأقتلنك
فأستريح منك، دعا لك أبوك فصلى على قربانك، فتقبل منك. وكان يتواعده بالقتل، إلى أن احتبس هابيل ذات عشية في غنمه، فقال آدم: يا قابيل، أين أخوك؟ .
قال: وبَعثتني له راعيا ؟ لا أدري. فقال [له] آدم: ويلك يا قابيل. انطلق فاطلب أخاك.
فقال قابيل في نفسه: الليلة أقتله. وأخذ معه حديدة فاستقبله وهو منقلب، فقال: يا هابيل، تقبل قربانك ورد علي قرباني، لأقتلنك.
فقال هابيل: قربتُ أطيب مالي، وقربتَ أنت أخبث مالك، وإن الله لا يقبل إلا الطيب ،[ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِي] ( )، فلما قالها غضب قابيل فرفع الحديدة وضربه بها .
فقال : ويلك يا قابيل أين أنت من الله ؟ كيف يجزيك بعملك ؟ فقتله فطرحه في جَوْبة من الأرض ، وحثى عليه شيئًا من التراب)( ).
وتدعو الآية في دلاتها إلى إتحاد وتعاون المسلمين ، وتخبر عن كونهم أمة واحدة يفعلون ما يأمرهم الله عز وجل به .
لقد قسمت الآية الناس إلى قسمين ، فجعلت المسلمين أمة تتصف بالإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ومن معاني خروجهم للناس في المقام إمتناعهم عن إتخاذ الذين كفروا أولياء ، ليكون في هذا الإمتناع مسائل :
الأولى : دعوة الناس لدخول الإسلام .
الثانية : بعث الخوف والفزع والرعب في قلوب الذين كفروا بعزوف المسلمين عن الإنصات لهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ).
الثالثة : حث الناس على الإعراض عن الذين كفروا وعدم إتخاذهم أولياء .
الرابعة : بيان حال العز والمنعة عند المسلمين بالعصمة عن ولاية الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الخامسة : صيرورة الذين كفروا في حال يأس وقنوط ، إذ يدركون أن المسلمين أمة مستقلة في عبادتها , وفي صلاتها الإجتماعية.
السادسة : بيان قانون وهو أن المسلمين لا يعملون إلا بأمر من عند الله، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ومن أسرار سلامة القرآن من التحريف والتبديل ، وقيام كل مسلم ومسلمة بتلاوة آياته خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني.
وهل يمكن تأسيس قانون وهو كل آية من القرآن تدعو المسلمين إلى إجتناب ولاية الكافرين .
الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن ، وفيوضات آياته على معاني كل آية منه .
السابعة: تنمية ملكة الأخوة بين المسلمين وبعثهم على التعاون فيما بينهم ، والتحلي بالأخلاق الحميدة والألفة بينهم بحيث تكون سيرتهم وحسن الصلات بينهم ترغيباً للناس بدخول الإسلام .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء .
الثاني : لا يتخذ المؤمنون الكافر ولياً .
الثالث : لا يتخذ المؤمن الكافرين أولياء .
الرابع : لا يتخذ المؤمن الكافر ولياً .
الخامس : لا تتخذ المؤمنات الكافرين أولياء .
السادس :لا تتخذ المؤمنة الكافرين أولياء .
السابع : لا يتخذ المؤمنون الكافرات أولياء .
الثامن : لا يتخذ المؤمن الكافرات أولياء .
التاسع : لا يتخذ المؤمن الكافرة ولياً .
العاشر : لا تتخذ المؤمنة الكافرة ولياً .
لبيان أن التقية في إظهار المودة والإنصياع لهم ليست مطلقة أو عامة للمسلمين , إنما هي فقط في مواضع :
الأول : دفع الأذى والضرر .
الثاني : مواطن الحاجة .
الثالث : ضروب الضرورة وشبهها .
الرابع : إرادة جلب المصلحة ودفع المفسدة ، فقد تؤدي التقية إلى هداية وإسلام المتقى منه أو إسلام غيره ، وحينما يرى المسلم متنزهاً عن ولاية الذي كفر ، ثم عندما يشعر بدنو الأذى وقرب الضرر يظهر التقية ويتظاهر بالمودة له , فإنه قد يتعظ , ومع عدمه فان المسلم لم يتضرر , وفاز بالثواب على الصبر والتقية .
ويقال اتقيت الشئ تقية وتقاء : أي حذرته وخشيته , والتقوى في الإصطلاح : وقاية النفس والسعي لسلامتها من الآثام بترك ما نهى الله عنه ، قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ).
لبيان أن التقوى أمر وجودي وعمل وكسب يتقوم بالخشية من الله عز وجل ، والسعي لطلب مرضاته , والإمتناع عن المحظور والذي يجلب فعله غضب الله .
أما التقية فهي ستر المسلم لما يعتقده من الحق ، وإظهار خلافه وقاية لنفسه من الضرر من القوم الظالمين عند الشعور بدنو أذاهم وظهور مقدماته .
وأول من استعمل التقية نبي الله شيت بن آدم خشية من قابيل الذي قتل أخاه هابيل .
(ذكر أن آدم مرض أحد عشر يوماً وأوصي إلى ابنه شيث وأمره أن يخفي علمه عن قابيل وولده لأنه قتل هابيل حسداً منه له حين خصّه آدم بالعلم، فأخفى شيث وولده ما عندهم من العلم، ولم يكن عند قابيل وولده علم ينتفعون به.) ( ).
وورد في القرآن والسنة ما يدل على تقية إبراهيم عليه السلام من القوم الظالمين ، وفي التنزيل [إِنِّي سَقِيمٌ] ( ).
والتقية ليست عامة على كل المسلمين إنما هي خاصة بأسبابها ، وتقدر الضرورات بقدرها من وجوه :
الأول : الأفراد , فقد تخص التقية فرداً واحداً ، فيراه المسلمون يتظاهر بالمودة والولاء للذين كفروا فلا يساورهم الشك في إيمانه ، ويدركون أنه يقول أو يفعل المنافي تقية ، فيسألون الله عز وجل رفع أسباب هذه التقية ، ويكونون في عصمة من محاكاته ، مما يبعث الفزع في قلوب الذين كفروا .
الثاني : عالم الأقوال والأفعال ، فلا تقع التقية من المسلم إلا بخصوص الفعل الذي يصرف الأذى والشر عنه ، فلا يجوز له ترك الصلاة اليومية بأي حال من الأحوال ، ولا يترك المناجاة مع الله عز وجل ، قال تعالى [مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( ).
وبين الإكراه الوارد في الآية أعلاه وبين التقية التي تذكرها آية البحث عموم وخصوص مطلق ، فكل إكراه هو تقية , وليس العكس.
الثالث : أوان التقية ، إذ أنها محصورة بأسبابها ، فحالما تزول الأسباب تنتفي الحاجة للعمل بالمسبَب ، لذا وردت الآية بصيغة الإستثناء [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( ).
الرابع : موضع ومكان التقية ، إذ تكون التقية وفق الحاجة المكانية والزمانية ، ومن الآيات أن الله عز وجل يجعل المسلمين في سعة ومندوحة في كل زمان , وتكون التقية في حال وجودها في موضع مخصوص .
الخامس : موضوعية التقية ، فاذا كانت التقية بخصوص الصيام مثلاً ، فيبقى المسلمون يؤدون صلاتهم ويتلون القرآن ، ويسافرون من بلد التقية إلى مكة ، والمدينة لأداء فريضة الحج وزيارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي) ( ).
وقال ابن بطوطة : لما وصلنا إلى المدينة كرمها الله على ساكنها أفضل الصلاة وأذكى السلام ، ذكر لي علي بن حج وهو من العلماء الفقراء من أهل غرناطة (أنه رأى تلك الليلة في النوم قائلاً يقول له: اسمع مني واحفظ عني:
هنيئاً لكم يا زائرين ضريحه … أمنتم به يوم المعاد من الرجس
وصلتم إلى قبر الحبيب بطيبةٍ … فطوبى لمن يضحي بطيبة أو يمسي .
وجاور هذا الرجل بعد صحبه بالمدينة. ثم رحل إلى مدينة دهلي قاعدة بلاد الهند، في سنة ثلاث وأربعين، فنزل في جواري. وذكرت حكاية رؤياه بين يدي ملك الهند، فأمر بإحضاره، فحضر بين يديه، وحكى له ذلك، فأعجبه واستحسنه، وقال له كلاماً جميلاً بالفارسية، وأمر بإنزاله، وأعطاه ثلاثمائة تنكة من ذهب. ووزن التنكة من دنانير المغرب ديناران ونصف دينار، وأعطاه فرساً محلى بالسرج واللجام، وخلعة، وعين له مرتباً في كل يوم. وكان هنالك فقيه طيب من أهل غرناطة، ومولده ببجاية، يعرف هنالك بجمال الدين المغربي. فصحبه علي بن حجر المذكور، وواعده على أن يزوجه بنته. وأنزله بدويرة خارج داره، واشترى جارية غلاماً. وكان يترك الدنانير في مفرش ثيابه ولا يطمئن بها لأحد. فاتفق الغلام والجارية على أخذ ذلك الذهب. وأخذاه وهربا. فلما أتى الدار لم يجد لهما أثراً، ولا للذهب. فامتنع عن الطعام والشراب، واشتد به المرض أسفاً على ما جرى عليه، فعرضت قضيته بيد يدي الملك، فأمر أن يخلف له ذلك، وبعث إليه من يعلمه بذاك، فوجدوه قد مات رحمه الله تعالى) ( ).
والآية غير منسوخة ، إنما التقية إستثناء محدود لبعض المسلمين وفي حالات مخصوصة لدفع الضرر .
وهل التقية من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، الجواب بالتقية صرف للضرر , وفضل من الله بدفع الأذى وبين الضرر والأذى عموم وخصوص مطلق , فكل ضرر هو أذى وليس العكس .
ومن الآيات إستحالة إطباق التقية على جميع آنات يوم المسلم ، فقد تلزمه التقية في ساعة من نهار أو أسبوع أو شهر أو مرة في العمر، وقد لا يحتاج إليها في حياته كلها , من غير أن يحرم من ثوابها , وهو من الدلائل على عدم نسخ آية التقية .
قانون منافع التقية
يمكن تشريع قانون وهو أن كل آية من القرآن ذات نفع عظيم يشمل المسلمين مجتمعين ومتفرقين ، ومنه قانون التقية الذي جاء إستثناء من قانون كلي ثابت وهو حرمة إتخاذ المسلمين الذين كفروا أولياء وأئمة ومتبوعين في أمور الدين وأحكام الشريعة .
وآية التقية سالمة من النسخ , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
وتقدير الآية أعلاه في المقام وجوه :
الأول : وان تعدو نعمة الله في آية التقية لا تحصوها .
الثاني : وأن تعدو نعمة الله في تلاوتكم لآية التقية لا تحصوها .
الثالث : وان تعدوا نعمة الله عليكم وعلى أهليكم بآية التقية لا تحصوها .
الرابع : وأن تعدوا نعمة الله على الناس في التقية لا تحصوها.
الخامس : وإن تعدوا نعمة الله في صرف البلاء عنكم بالتقية لا تحصوها .
السادس : يا أيها الذين آمنوا لقد أنعم الله عز وجل عليكم بالتقية كي تعدوا نعمة الله فلا تحصوها .
السابع : يا أيها الذين آمنوا عليكم بالتقية فأنها نعمة من عند الله أعظم من أن تحصوها .
إنما أرادت آية التقية بيان أمور :
الأول : تفقه المسلمين في الدين , وإجتناب التشديد على النفس ، قال تعالى [وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ] ( ) .
الثاني : بيان الرخصة والسعة عند الضرورة والحاجة ، ولبيان أن الإسلام رحمة وخير محض ، قال تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ).
الثالث : جعل المسلم مستعداً للتقية .
الرابع : منع المسلمين من توجيه اللوم إلى الذي إختار التقية منهم ، وهو من الشواهد بأن الآية غير منسوخة بآية السيف .
الخامس : نهي المسلمين عن تحريض المسلم على ملاقاة الأذى بالتخلي عن التقية ، قال تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا] ( ) .
وفي الآية وعد من عند الله عز وجل بأنه ينصر المسلمين ، ويصرف أسباب التقية ، ويلقي بأس الذين كفروا فيما بينهم .
السادس : بيان السعة والمندوحة في الإسلام , وأنه دين الرحمة للذي يدخله والذي يبقى خارجه ، فالتقية رأفة ومقدمة للرأفة والمودة ، وهي من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) لذا فالآية غير منسوخة للملازمة الدائمة بين نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والرحمة فلا تنفك عنها إلى يوم القيامة .
وقد تكون آية الرحمة المطلقة أعلاه شاهد على أنها ناسخة لآية السيف وليس العكس والقول بأنها ناسخة لآيات الموادعة بلحاظ أن هذه الآيات من رشحات ومعاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
لقد كفل الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم النصر والغلبة وظهور الإسلام مع قيام طائفة من المسلمين بالتقية .
السابع : لقد أراد الله عز وجل للإسلام الإستدامة في الأرض شريعة ومبادئ وحكماً .
وأن يبقى المسلمون أمة عظيمة في الأرض ، فتفضل وأذن لهم بالتقية من الظالمين ، لتكون هذه التقية مقدمة لإزاحة الظلم وقهر الطواغيت ، ويدل مفهوم الإستثناء في الآية [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً]( ) على أن ولاية المؤمن للكافر ليست مستديمة ودائمة , إنما هي أمر عرضي يزول بزوال أسبابه وإنقضاء موضوعه .
الثامن : لقد فضّل الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين ، فأنزل عليه آيات القرآن وكل آية حجة متجددة وبرهان قاطع إلى يوم القيامة ، ومنه آية التقية التي تتضمن في دلالتها الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإذن للمسلمين بالتقية وعدم توجيه اللوم إلى الذي يختار التقية ويمالي الذين كفروا لينال حاجته ومبتغاه وليصرف شرهم وكيدهم عنه ، وعن ماله وعياله وعامة الناس .
ولا يعلم المنافع التي جاءت للمسلمين والإسلام من آية التقية إلا الله عز وجل ،ولا تصل النوبة إلى القول بنسخها مع عدم الدليل عليه ، لأن هذه المنافع تترى في كل زمان .
التاسع : لقد أثنى الله عز وجل على المسلمين ، وقال [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
و[خَيْرَ] اسم تفضيل ومن معانيه في المقام أمور :
أولاً : عمل المسلمين بالتقية من الذين كفروا .
ثانياً :لم يعمل المسلمون بالتقية إلا بأمر من عند الله .
ثالثاً : إمضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمصاديق التقية التي لجأ إليها بعض المسلمين .
رابعاً : صيرورة التقية سلاحاً حاضراً عند المسلمين يظهرونه عند الضرورة والحاجة ، وأدنى مراتب إحتمال الأذى والضرر .
خامساً : إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية من جهات :
الأولى :معرفة المسلمين الإذن من عند الله بالتقية والإستجابة للملأ والرؤساء من الذين كفروا عند الحاجة .
الثانية : تلاوة المسلمين لآية التقية بكرة وعشية , وفي الصلاة لتكون شاهداً عليهم وباعثاً على العمل الصالح ، ووسيلة نجاة في النشأتين ، فحالما يداهم المسلم الضرر من الذين كفروا يستحضر في الوجود الذهني آية التقية ، فيعمل بمضامينها .
الثالثة : توجه المسلمين بالشكر لله عز وجل على نعمة التقية ، وما فيها من أسباب الأمن ، فهي بذاتها حرز وواقية وما يترشح عنها سبيل للنجاة والأمن .
الرابعة :ترغيب المسلمين بالإسلام بلجوئهم إلى التقية ، وإرادة صرف شر الذين ظلموا إذ يميل أكثر الناس إلى الدعة ويجتنب تلقي الأذى وتحمل الشدائد .
فجاءت آية التقية وعداً لهم بأن الإسلام يحقق رغائبهم ، ولا يرهقهم بالأذى العرضي الصادر من الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ).
ومن الشواهد إيذاء المشركين للمسلمين قبل الهجرة وأثناءها وبعدها ، وإمضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتقية التي صار عليها عمار بن ياسر خاصة بعد أن قُتل والداه مسلمين ( ياسر وسمية ) صبراً .
وعن ابن عباس قال (لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهاجر إلى المدينة ، قال لأصحابه : تفرقوا عني ، فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل ، ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل ، فإذا سمعتم بي قد إستقرت بي الأرض ، فالحقوا بي . فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت ، فأصبحوا بمكة فأخذهم المشركون وأبو جهل ، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى ، فجعلوا يضعون درعاً من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه ، فإذا ألبسوها إياه قال : أحد . . أحد . . وأما خباب ، فجعلوا يجرونه في الشوك .
وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقيةً .
وأما الجارية ، فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدها فأدخل الحربة في قلبها حتى قتلها ، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار ، فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بالذي كان من أمرهم ، واشتد على عمار الذي كان تكلم به . فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت : أكان منشرحاً بالذي قلت أم لا؟ قال : لا . قال : وأنزل الله { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان }( ) .
وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار ، عن أبيه قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر آلهتهم . بخير ، ثم تركوه فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : شر ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال : كيف تجد قلبك؟ قال : مطمئن بالإيمان . قال : إن عادوا فعد . فنزلت { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } .
وأخرج ابن سعد عن محمد بن سيرين : إن النبي لقي عماراً وهو يبكي ، فجعل يمسح عن عينيه ويقول : أخذك الكفار فغطوك في الماء فقلت كذا وكذا . . . فإن عادوا فقل ذلك لهم ) ( ).
وهل تتعارض آية السيف مع التقية , الجواب لا، فمن شرائط النسخ عدم إمكان الجمع بين الآيتين ، وتقدير الجمع بين الآيتين : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم إلا من يتقيهم تقية فلا يتوجه له الأمر بقتلهم , أي هناك أفراد أو جماعات أو طائفة من المسلمين غير قادرة على القتال ، أو أنها إذا قاتلت تخسر الجولة فهؤلاء تشملهم أحكام التقية حتى وإن كان المسلمون يقاتلون ويظهرون في موضع ومصر آخر .
وقد يبعث قتال المسلمين في المدينة الخوف والخشية في قلوب المشركين في مكة ،وما حولها مثلاً ، فيصبون جام غضبهم على المسلمين فيها ،وعندما يعود جيش المشركين وقد خلّفوا القتلى والأسرى منهم ، فانهم يسعون للإنتقام من المسلمين في البلد ، فيكون المسلمون فيها بين أمرين : إما القتل وإما التقية ، إذ أن قتلهم للمشركين في هذه الحال شبه متعذر ، كما أن الإسلام يحرم القتل العشوائي والإرهاب ، وبعث الفزع والخوف في قلوب الناس عامة، فجاءت التقية درأ للفتنة , ودفعاً لضررها .
وقد يظن بعضهم أنه بعد إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى يضعف حال المسلمين , وتقوى شوكة المشركين والمرتدين ، ولكن فضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عظيم ومتصل .
وأيهما أكثر الذين دخلوا الإسلام بالسيف أم الذين دخلوه طوعاً ، الجواب هو الثاني ، فقد أدركوا أن الإسلام حق ، وأن كل آية من القرآن معجزة ثم تأتي السنة النبوية فيتدبرون فيها ، فتقر أعينهم , وتمتلأ نفوسهم بالغبطة والسعادة .
ومن المتسالم عليه قانون كل آية من القرآن رحمة من عند الله بالمسلمين والناس جميعاً ، مما يعني أنه لا تصل النوبة إلى نسخها وتعطيل مضامينها من غير حجة من القرآن والسنة ، فكيف وقد جاءت دعوة النسخ من التابعين او تابعي التابعين ، الأمر الذي يدل بالدلالة التضمنية .
وهل قوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( ) رخصة أم عزيمة ، المختار أنها على وجوه ثلاثة :
الأول : حكم الآية واجب وعزيمة .
الثاني : حكم الآية برزخ بين العزيمة والرخصة .
الثالث : حكم الآية رخصة .
فان قلت هناك تباين بين هذه الوجوه الثلاثة ولم يقل به أحد ، الجواب نعم لأن أحكام التقية مطلقة ومتعددة , وبحسب حال الخوف والضعف ونقص الأمن وشدة بطش الكافرين أو قلته .
لقد أراد الله عز وجل لأحكام الإسلام الإستدامة إلى يوم القيامة , وللمسلمين السلامة والحفظ والأمن ، فتفضل بأحكام التقية من الذين كفروا لذا فقوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( ) محكم ومضامينه رحمة وتخفيف عن المسلمين والناس جميعاً .
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) فكما في قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ) بأن القصاص والقود من القاتل سبب لنجاة الذي يعزم على القتل والذي يُراد قتله ، فمتى ما أدرك الإنسان أنه يُقتل إذا قتل شخصاً آخر ظلماً وجوراً ، فانه يمتنع عن قتله , ويصرف النظر حتى عن جرحه لأمور :
الأول : قد يؤدي الجرح إلى الوفاة ، ويكون سبباً للقصاص إذا كان الجرح علة للوفاة وهي متصلة به .
الثاني : شمول أحكام القصاص للجروح ، قال تعالى [وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ] ( ).
الثالث : الخوف من عند الله عز وجل , وإمتلاء النفوس بالنفرة من القتل.
فكذا بالنسبة للتقية فانها أمن وسلامة للمسلم ، وهي تخفيف عن غيره من الناس ممن يكف عن الإضرار بالمسلم عندما يظهر المسلم التقية والمودة والمداراة وحسن العشرة مع غيره ، فان قلت من ضروب الولاية في المقام الطاعة والإستجابة للأوامر ، الجواب نعم، بشرط سلامة العقيدة .
وقيل تدل هذه الآيات على أن الذي يتولى الكفار عن عمد وإختيار كافر مثلهم ، والجواب لا دليل عليه خاصة وأن التقية الواردة في الآية أعلاه مطلقة في موضوعها , ومقيدة في سنخيتها بابطان الإيمان ، لذا ذم الله عز وجل المنافقين ونعتهم بداء في القلوب بقوله تعالى [فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ] ( ) ليكون من خصائص التقية تنمية ملكة التوكل على الله ورجاء فضله ورفده .
لقد كان كل يوم من أيام الإسلام الأولى سبباً لتضييق التقية والحاجة إليها لتوالي آيات النصر المبين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فيخشى المنافقون القحط وإمتناع الذين كفروا عن مبرتهم وإقراض المال وإن كان بالربا الفاحش ، فتفضل الله عز وجل ونصر الإسلام , وتدفقت أموال الزكاة والغنائم والمكاسب على المدينة ، وإزدهرت فيها التجارة والزراعة والصناعة ، واقترنت هذه الثروة والثورة بنزول آيات تحريم الربا , وهذا الإقتران من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وبرزخ دون إساءة إستعمال الأموال الطائلة التي صارت بأيدي المسلمين .
لذا جاء النهي عن الربا بصيغة العموم بقوله تعالى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَولم يرد لفظ مضاعفة في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان القبح الذاتي للربا وأنه يؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل ولمنع المسلمين من الإفتتان بالربا لكثرة الأرباح فيه .
إذ تدعو الآية في مفهومها المسلمين إلى الصبر والقناعة والرضا بالربح القليل الذي يأتي من التجارة والكسب الحلال والإمتناع عن الربا وإن كانت أرباحه كثيرة ، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] ( ).
ومن معاني الآية أعلاه بلحاظ التقية أمور :
الأول : لا تعارض بين تقوى الله والتقية من الذين كفروا إذ تأتي التقية أمراً عرضياً يزول بانتفاء سببه .
الثاني :التقية من تقوى الله عز وجل ، لأنها بأمر ورخصة من عنده سبحانه .
الثالث : إن الأمر من عنده تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( ) بشارة للمسلمين بالتخفيف عن المسلمين وزوال موضوع التقية عما يكره عليه المسلم أو يضطر إليه أو يختاره طلباً للعافية ، إذ جاءت التقية على نحو الإستثناء ، بينما ورد الأمر من الله عز وجل بتقواه على نحو الوجوب المطلق غير المقيد , بقوله تعالى [اتَّقُوا اللَّهَ] ( ).
الرابع : في التقية من الذين كفروا عند الحاجة إليها فلاح للمسلمين .
الخامس : التناسب العكسي بين بلوغ المسلمين مراتب الفلاح وبين الحاجة إلى التقية .
لتكون خاتمة الآية بشارة ووعداً كريماً من عند الله ، وبياناً للثواب في النشأتين على التنزه عن أكل مال الربا ، وهل إجتناب الربا واقية من التقية .
الجواب نعم ، وهو من الإعجاز والتكامل في أحكام آيات القرآن ، ومضامين الشريعة الإسلامية .
ومن مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي] ( ) بلحاظ أن النهي عن أكل الربا نعمة من جهات :
الأولى : إجتناب الحاجة إلى غير المسلمين ممن عندهم الأموال ، وما يترشح عن هذه الحاجة من التقية .
الثانية : تتضمن آية النهي عن أكل الربا البشارة للمسلمين بالزيادة والسعة في رزقهم والكثرة والوفرة في أموالهم ، بما يغنيهم عن الربا من وجوه :
أولاً : إقراض المال بالفائدة الربوية .
ثانياً : إقراض المال بالربح والفائدة الربوية تحت تأثير الحاجة أو الأمن .
ثالثاً: كتابة القرض الربوي .
رابعاً : الشهادة على القرض الربوي .
وفي الغنى عن الربا نجاة من اللعنة وأسباب الطرد من رحمة الله.
(عن جابر بن عبد الله قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ، وموكله ، وشاهديه ، وكاتبه ، وقال : هم سواء)( ).
الثالثة : منع الربا رحمة بالمسلمين والناس , وبرزخ دون الظلم والجور .
الرابعة : في منع الربا سكينة للنفوس وطمأنينة خاصة وعامة ، وإستقرار في الأسواق .
الخامسة : تنزه المسلمين عن الربا وسيلة للكسب الحلال والإنتفاع الأمثل للإنسان من سعيه وكسبه ، فبدل أن يدفع أرباحه للمربي فانه يكد ويسعى لنفسه وعياله .
السادسة : في الإمتناع عن الربا غنى وسلامة من التقية وإنتفاء للحاجة إليها ، فلا تصل النوبة إلى نسخ قوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً]بآية السيف ، وفيه علم جديد يتجلى بالإستدلال بعدم وصول النوبة إلى النسخ أو عدمه بأن يكون العمل بمضامين الآية القرآنية سواء في العبادات أو المعاملات أو الأحكام برزخاً دون التقية أو الحاجة إليها ، لتبقى حالات فردية , ولا عبرة بالقليل النادر .
السابعة : من فضل الله عز وجل ومصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) أنه لا يأمر بشيء إلا وقد هيئ مقدماته وأسبابه ، وأعان المسلمين على إتيانه وفعله ، ولا ينهى عن شيء إلا وقد أمدّ المسلمين بأسباب الوقاية منه ، وتلطف بهم من وجوه :
الأول : بعث النفرة في نفوس المسلمين من الأمر المبغوض .
الثاني : الأمر من عند الله للأمر والمبغوض بأن يبتعد عن المسلمين ، كما في قوله تعالى في يوسف عليه السلام [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ).
فتدل الآية أعلاه على أن الله عز وجل أمر السوء بالإبتعاد عن يوسف عليه السلام وعدم الإقتراب منه :
الثالث : إنتفاء مقدمات الفعل القبيح أو قلتها أو نقصها ، ومن العصمة إنتفاء المعصية ، فقد ينوي الإنسان فعل فاحشة ، فيطلبها فلا يجدها ، ليشكر الله عز وجل فيما بعد على حرمانه منها ، وهل هذا الشكر في الدنيا أو الآخرة .
الجواب إنه مطلق ، وهو فرصة للتوبة , وقد لا يلتفت الإنسان لنعمة صرف السيئة عنه في حينها أو في أيام عمره مطلقاً فتكشف له أعماله يوم القيامة ، لبيان قانون وهو ما من إنسان إلا وقد أسبغ الله عليه فضله وإحسانه بصرفه عن السوء والفحشاء , وصرف أفراد كثيرة من السوء عنه ، فان قلت حتى الطواغيت وعتاة الظلمة الجواب نعم ، وهو من مصاديق رحمة الله بأهل الأرض .
ولا يختص هذا الصرف بالطاغوت والظالم بل هو رحمة للذي دفع الله عز وجل عنه أثر الظلم كالقتل والسجن ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) عندما إستفهموا عن جعل خليفة في الأرض سوف يفسد فيها ويسفك الدماء ز
وهل تكون التقية وسيلةً لغزو الرأفة لقلوب الذين كفروا فيكفوا شرهم عن المسلم , الجواب نعم ، ولا تختص هذه الرأفة بساعة صرف الأذى عن المسلم ، بل هي مقدمة لهداية ذات الكافر.
الرابع : قيام المسلمين بالأمر والمعروف والنهي عن المنكر ، والتعاون بينهم والمناجاة في نبذ الباطل ، قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى..] ( ).
قانون التقية طريق لتوبة الكافر
يتجلى إعجاز الآية القرآنية في أمور :
الأول : رسم وألفاظ الآية القرآنية ، وما تختص به من العذوبة والحلاوة .
الثاني : معاني الآية القرآنية .
الثالث : ما في الآية القرآنية من الأحكام ، ومسائل الحلال والحرام .
الرابع : علوم الغيب التي تتجلى في الآية القرآنية ، وتحقق مصاديق الآية في الواقع الخارجي .
الخامس : صلة الآية القرآنية بالآيات الأخرى المجاورة لها أو آيات القرآن الأخرى ، وقد تجلت علوم ومسائل مستنبطة من هذا العلم في كل جزء من أجزاء هذا التفسير ، وورد الجزء الخامس والعشرون بعد المائة خاصاً بالصلة بين الآية (152) والآية (151) .
والجزء السادس والعشرون بعد المائة في الصلة بين شطر من آية 153 بشطر من الآية 151.
والجزء السابع العشرون بعد المائة في الصلة بين شطر من الآية 153وشطر من الآية 154 من سورة آل عمران .
وفيه تأسيس لعلوم قد تتصل إلى أحقاب وقرون لأنها من اللامتناهي إذ تكون أجزاء التفسير وفق هذا المبنى كثيرة ومتكثرة وبلحاظ مدارس وكفاءة الذين يتولون التفسير وموضوعيته وكيفيته ، فيكون العمل فيه على نحو المؤسسة العلمية بأن يشترك بتفسير كل آية علماء من الإختصاصات المختلفة كاللغة والبلاغة والنحو والفقه والأصول والتأريخ والقانون والفلك والطب والهندسة وغيرها وقد تقدم تفصيله على نحو البيان( ).
السادس : بلوغ الآية القرآنية أسماع الناس ورسوخها في الوجود الذهني طوعاً وقهراً , ولو على نحو الموجبة الجزئية أي يكون الرسوخ لعدد من الآيات أو شطر من آية مما يدرك معه المسلم وغيره موضوعيتها في حياته اليومية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ] من جهات :
الأولى : على النبي صلى الله عليه وآله وسلم البلاغ أما أثر وموضوعية ونفع البلاغ فهو على الله عز وجل .
الثانية : بلاغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حجة على الناس .
الثالثة : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبلاغ جهاد وسلاح لا يعلم نفعه وبركاته إلا الله عز وجل .
الرابعة : إرادة التخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وىله وسلم والمسلمين والثناء عليهم لتلقي الدعوة إلى الإيمان بالقبول والرضا .
الخامسة : تفقه المسلمين في الدين ومعرفة قانون دائم في الحياة الدنيا ، وهو أن البلاغ بآيات القرآن والسنة النبوية كاف لجذب الناس منازل الإيمان والهدى .
وتحتمل الصلة بين البلاغ والتقية وجوهاً :
الأول : إرادة حال التساوي ، وأن التقية هي الوعاء الأنسب للبلاغ .
الثاني : العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : البلاغ أعم من موارد التقية ، فيصح في حال التقية وعند إنتفاء أسبابها وموضوعها .
الثانية : التقية أعم وأوسع من البلاغ .
الثالث : العموم والخصوص من وجه ، فهناك موارد من التقية ليس فيها بلاغ , كما يأتي البلاغ والإنذار في غير حال التقية .
الرابع : إرادة التباين بين البلاغ والتقية ، فليس من صلة وإتحاد بينهما ، فحينما يكون البلاغ فلا تقية ، وكذا العكس .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه ، فيأتي البلاغ والدعوة إلى الله في كل الأحوال ، إذ ورد بصيغة الإطلاق ، بينما جاء ذكر التقية على نحو الإستثناء بقوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( ).
ومن خصائص الإطلاق في البلاغ الإسلامي توجهه للكافر من جهات :
الأولى : مجئ لغة القرآن بصيغة العموم كما في النداء إلى الناس جميعاً [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] والذي ورد عشرين مرة في القرآن منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا] ( ).
لبيان أن آيات القرآن كافية للإحتجاج على الذين كفروا وإبطال مفاهيم الجحود وعبادة الأوثان والإنصياع التام إلى الطواغيت .
ويحتمل لفظ البرهان في الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : المعجزات الباهرات التي جرت على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : علو شأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وظهور لواء الإسلام وتوالي النصر للمسلمين ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( ).
الرابع : كل آية من القرآن برهان .
الخامس : المواعظ والعبر التي تترشح عن دخول الإسلام والتنزه عن محاربة المسلمين ، فمن يدخل الإسلام يجد السعة والمندوحة والخير ، وتملأ السكينة نفسه في حسن عاقبته في الآخرة ، أما الذي يعادي الإسلام ويحارب الإسلام فيبتلى بأنواع البلاء ، ويلحقه الخزي في الدنيا ليكون مرآة ومقدمة لعذاب الآخرة ، ودعوة للتوبة والإنابة .
لذا فان تقية المسلم من الكافر نوع صبر ومصابرة ، وقد أوصى الله عز وجل المسلمين بالصبر وندبهم إليه وبشرهم بالثواب العظيم الذي يترتب عليه ، قال تعالى [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ).
الثانية : توجه الخطاب القرآني إلى الكفار على نحو الخصوص بالتبكيت والإحتجاج المقرون بالبيان الجلي والواضح ، وفي التنزيل [إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
يبين الله إتصاف الأصنام والعبود من دون الله كالشمس والقمر والطاغوت بالعجز عن الإستجابة , وبالحاجة لأن الحاجة ملازمة لعالم الإمكان مع العجز عن جلب المنفعة أو دفع الضرر عن الفرد والجماعة .
الثالثة : ذكر القرآن لأقوال الكفار وإصرارهم على الباطل ، وإتخاذهم المغالطة نوع طريق للعزوف عن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم للإيمان بالله ، والتنزه عن الشرك ، وفي التنزيل [وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ] ( ).
الرابعة : نزول القرآن بالإنذار للذين كفروا ، ولا يختص هذا الإنذار بالآخرة ، بل يشمل أيام الحياة الدنيا ، وحلول البلاء في ساحتهم ، ولا تعارض بين التقية والإنذار للذين كفروا .
ومن الآيات أن التقية لا تصدر من المسلمين جميعاً أزاء جهة مخصوصة ، وغالباً ما تأتي التقية على نحو القضية الشخصية .
ونتيجة الخوف من الكافر لإرادة دفع ضرره وأذاه ، ولو تنزلنا وقلنا بأن قوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( ) منسوخة بآية السيف ،فان إمتناع المسلم عن التقية مع حال الإستضعاف يؤدي إلى إيذائه وربما قتله لعجزه عن دفع الضرر عن نفسه ، لذا فان مورد آية السيف غير مورد التقية .
ومن شرائط النسخ إتحاد الموضوع ، وهو شبه منتف في المقام ، ثم أن إتخاذ بعض المسلمين التقية لا يتعارض مع إمتناع غيرهم عن التقية وعدم حاجتهم لها .
ولا تعارض بين التقية وأداء الصلاة والفرائض الأخرى ، كما أن كل مرة يؤدي فيها المسلم الفريضة صلاة أو صوماً أو حجاً أو غيره دعوة للكافر للتوبة والإنابة .
ومن الكفار من يأخذه العناد , ويصر على الجحود فتأتي التقية لصرف شره ، وجعله يتدبر في نفسه والحال التي هو عليها ، ويتقي المسلم من شخص من الكفار ، ولكن منافع التقية أعم ، ولا تختص بفرد معين ، إذ ينتفع منها ذات المسلم وعموم المسلمين والناس جميعاً ، لأنها عنوان الثبات على الإيمان وإظهار الولاء والرضا والقبول بعمل الكافر ظاهراً ، وتحت الإكراه ولحفظ المؤمن .
ومن الآيات في عدم نسخ آية التقية حرمة المؤمن ومنزلته عند الله عز وجل وحب الله له وإرادة سلامته من الأذى والضرر ، فالتقية تخفيف وسبيل نجاة .
(وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : فِتْنَةُ السَّوْطِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ السَّيْفِ قَالُوا لَهُ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ إنَّ الرَّجُلَ لَيُضْرَبُ بِالسَّوْطِ حَتَّى يَرْكَبَ الْخَشَبَ يَعْنِي الَّذِي يُرَادُ صَلْبُهُ يُضْرَبُ بِالسَّوْطِ حَتَّى يَصْعَدَ السُّلَّمَ ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مَا يُرَادُ بِهِ إذَا صَعِدَ) ( ) .
أي أنه يعلم بأن صعوده إلى السلم يعني الصلب , ولكنه يصعد إلى محل الصلب لشدة أذى السوط وتوالي ضربه به .
وحذيفة الذي إتصف بخصلة وهي معرفته بالمنافقين روي أنه كان (يُدَارِي رَجُلًا ، فَقِيلَ لَهُ : إنَّك مُنَافِقٌ ، فَقَالَ لَا ، وَلَكِنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مَخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ كُلُّهُ) ( ).
وقد إتخذ النبي إبراهيم التقية نهجاً مع فرعون مع أنه من الرسل الخمسة أولي العزم ، وقد واجه نمرود بكلمة الحق وفضحه في طغيانه وكبره .
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (إن إبراهيم ، عليه السلام ، لم يكذب غير ثلاث : ثنتين في ذات الله ، قوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}( )، وقوله { إِنِّي سَقِيمٌ }( )، قال: وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ومعه سارة، إذ نزل منزلا فأتى الجبار رجل ، فقال : إنه قد نزل بأرضك رجل معه امرأة أحسن الناس .
فأرسل إليه أي الجبار , فجاء إبراهيم .
فقال: ما هذه المرأة منك؟ قال: هي أختي.
قال : فاذهب فأرسل بها إليّ، فانطلق إلى سارة , فقال : إن هذا الجبار سألني عنك فأخبرته أنك أختي , فلا تكذبيني عنده ، فإنك أختي في كتاب الله ، وأنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك، فانطلق بها إبراهيم ثم قام يصلي .
فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها، فتناولها، فأخذ أخذًا شديدًا ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت له فأرسل، فأهوى إليها، فتناولها فأخذ بمثلها أو أشد. ففعل ذلك الثالثة فأخذ، [فذكر] مثل المرتين الأوليين .
فقال ادعي الله فلا أضرك. فدعت، له فأرسل، ثم دعا أدنى حجابه ، فقال : إنك لم تأتني بإنسان، وإنما أتيتني بشيطان، أخرجها وأعطها هاجر، فأخرجت وأعطيت هاجر، فأقبلت، فلما أحس إبراهيم بمجيئها انفتل من صلاته ، قال : مَهْيَم، قالت : كفى الله كيد الكافر الفاجر ، وأخدمني هاجر)( ).
لقد أراد الذين كفروا إستباحة المدينة إنتقاماً منهم لأنهم صدقوا بنبوته ،وأووه وأصحابه ونصروه ، خاصة وان عدد الأنصار في معركة بدر أكثر من عدد المهاجرين .
ومجموع أفراد الجيش هو ثلاثمائة وثلاثة عشر ، (قَالَ ابن إسْحَاقَ : فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مَنْ شَهِدَهَا مِنْهُمْ وَمَنْ ضُرِبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ ثَلَاثُ مِائَةَ رَجُلٍ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا ؟ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ رَجُلًا ، مِنْ الْأَوْسِ وَاحِدٌ وَسِتّونَ رَجُلًا ، وَمِنْ الْخَزْرَجِ مِائَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلا( ).
وبينهما أهل المدينة في حال ترقب وحذر ومن تخلف من المسلمين عن القتال يبثون هم والمسلمات الطمأنينة والرجاء في نفوس الناس .
فما لبث أن قدم الأسرى من الذين كفروا , وعليهم شقران مولى رسول الله .
ومن الإعجاز في آية البحث أن قوله تعالى [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) ينهى عن حصر ولاية المؤمنين بالكافرين ،وليس التداخل في الولاية والصلات بأن يتخذ المؤمن إخوانه المؤمنين أولياء , ويتخذ الكافرين أحياناً أولياء بلحاظ الموضوع وسنخية العمل .
وهل يمكن أن يكون القيد من دون المؤمنين إحترازياً وموضوعياً وإرادة خصوص موضوع معين ، الجواب لا ، وكأن الآية تنهى عن الإطلاق في إتخاذ الكافرين أولياء , وفي كل شيء في القول والعمل عدا الإعتقاد والعبادات أي أن الذي يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين لم ينسلخ عن صبغة الإيمان ، ولكنه يكون محروماً من الأجر والثواب لا يدركه فضل الله عز وجل ، وهذا المعنى مستقرأ من ذات الآية وقوله تعالى [فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ]( ).
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء إلا أن تتقوا منهم تقاة) فيكون معنى الآية النهي عن مودة الذين كفروا والإنقياد لهم في أي مسألة دنيوية أو أخروية .
الثاني : لا يتخذ المؤمنون الكافرين وحدهم أولياء إلا أن تتقوا منهم تقاة ) جموداً على النص وظاهر الآية .
الثالث : لزوم إتخاذ المؤمنين لإخوانهم المؤمنين أولياء إلا مع التقية من الذين كفروا ليشترك بالولاية معهم الذين كفروا .
والمختار هو الثاني والثالث أعلاه وقوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ] إستثناء منقطع لأن اسم الإشارة في [يَفْعَلْ ذَلِكَ] يخص أمراً آخر غير التقية وهو الولاية , تكون التقية صبغة له , وشكوى إلى الله سبحانه .
ومن إعجاز نظم آية البحث أنها بدأت بصيغة الجملة الخبرية [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ] ثم إنتقلت إلى لغة الخطاب [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] لبيان أن ولاية المسلم للكافر المترشحة عن التقية مقدرة بأسبابها والحاجة إليها ، فتزول مع تلك الأسباب ويرجع للأصل وهو ولاية المسلم للمؤمنين ، وفيه نكتة وهي عدم ترتب الأثر للتقية بمن حول المسلم الذي يضطر إليها ، ولا تستمر تلك التقية إلى الذراري , لذا فهي لا تضرهم في عقيدتهم ، إلا إذا كانت أسباب التقية متصلة ومستمرة ، وقد جعل الله عز وجل الهجرة سبيلاً للنجاة .
ولم تكن هجرة لوط للقتال , إذ ورد في التنزيل [إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ]( )، وحتى هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن للقتال في أصلها إنما كانت لطلب النجاة من جهات :
الأولى : سلامة النبوة وإستدامة وجودها بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , خاصة وأنه ليس من نبي في الأرض بعده.
الثانية : من خصائص القرآن نزوله نجوماً آية بعد أخرى , وسورة بعد سورة ، وقد تنزل سور متعددة ثم تأتي آية فيخبر جبرئيل النبي محمداً أن يضعها في موضع مخصوص من سورة قد نزلت قبل سنوات , وقد تنزل آيات في مكة , ثم ينزل تمام السورة في المدينة فتضاف إلى سورها , فتكون هناك آية مكية في سورة مدنية وبالعكس .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (إنّه ما نزل عليَّ القرآن إلا آية آية وحرفاً حرفاً خلا سورة براءة،
وقل هو الله أحد، فإنّهما أُنزلتا عليَّ ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة كل يقول : يا محمد استوص بنسبة الله خيراً ) ( ).
وفي الإعجاز في البسملة أنها آية ليس مثلها آية ، ونصفها آية وهي نصف آية .
وكذا نصف نصفها آية , وليس مثل البسملة آية في موضوعها وموضوعيتها وإفتتاح الأمور بها.
أما كونها آية فللنصوص الواردة بحقها عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية يقول: بسم الله الرحمن الرحيم ثم يقف، الحمد لله رب العالمين ثم يقف، الرحمن الرحيم ثم يقف ) ( ).
وأما نصفها آية فهو قول [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) ، في سورة الفاتحة، وهي نصف آية إذ ورد قوله تعالى [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ).
وأما نصف نصفها آية فهو قوله تعالى [الرَّحْمَنِ] ( ) إذ أنه آية مستقلة جاءت فاتحة لسورة الرحمن .
ويحتمل نزول القرآن من جهة موضوعية الهجرة وجوهاً :
الأول : السور التي نزلت قبل الهجرة أكثر من الآيات التي نزلت بعدها .
الثاني : نسبة التساوي بين السور التي نزلت قبل الهجرة والتي أنزلت بعدها .
الثالث : السور التي نزلت بعد الهجرة أكثر من الآيات التي نزلت قبلها .
والصحيح هو الأول فعدد السور التي أنزلت قبل الهجرة أكثر وإن كان عدد السور التي أنزلت قبل الهجرة هي الأكثر .
ومع أن عدد السور المكية هو ست وثمانون سورة، وعدد السور المدنية هو ثمان وعشرون سورة ومدة نزول القرآن في مكة أكثر منها في المدينة فان الآيات التي نزلت في المدينة تبين الأحكام الشرعية، لإتصاف السور المكية بالقصر وقلة الكلمات بالقياس إلى السور المدنية، لذا فمن إعجاز القرآن أن بداياته يكون بالسور المدنية.
وكل سورة فيها ذكر فريضة فهي مدنية , وقد كان فرض الصلاة في مكة , وسورة الأعلى مكية , وفيها ذكر للصلاة والزكاة , قال تعالى[قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فَصَلَّى]( )، وقيل أن هاتين الآيتين مدنيتان .
وكل سورة في ذكر حد من الحدود أو ذكر المنافقين فهي في المدينة عدا سورة العنكبوت في قوله تعالى [وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ]( ).
لذا كانت هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة ومصلحة لأهل الأرض والأجيال المتعاقبة من المسلمين والناس إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بأن تكون هجرته طريق هداية وسبيل نجاة للموجود والمعدوم من وجوه :
أولاً : توالي نزول آيات القرآن بعد الهجرة .
ثانياً : سلامة شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة إلى المدينة .
ثالثاً : كثرة عدد المسلمين والمسلمات بعد الهجرة .
رابعاً : تحقق النصر المبين للمسلمين بعد الهجرة .
خامساً : صيرورة هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبباً لإستدراج كفار قريش وزحفهم بالجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ولم يعلموا أن الملائكة بأنتظار هذا الزحف من يوم خلق الله عز وجل آدم ليكون [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) بلحاظ أن قوله تعالى [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )مطلق ومن مصاديقه إستعدوا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في قتالهم مع المشركين .
سادساً : نزول آيات الأحكام ، ولم ينزل قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ) إلا في حجة الوداع .
سابعاً : توارث المسلمين الإسلام وأحكامه وسننه إلى يوم القيامة ، ولم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا إلا بعد أن صار عدد المسلمين يكفي لتثبيت الإسلام في الأرض ويكون في حرز وواقية من المحو والتغيير في السنن وأمناً وحرزاً من طرو التحريف على آيات القرآن .
الثالثة : من خصائص هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة أنها واقية وسبيل نجاة أهل بيته واصحابه ، إذ إشتد العذاب عليهم في مكة ، وهذا العذاب إيذان من قريش لغيرهم من أهل القرى والأمصار بمزاولة تعذيب المسلمين وإن كانوا من أبنائهم وأفراد قبيلتهم .
ليكون من الإعجاز في هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمور :
الأول :وقف تعذيب قريش للمسلمين في مكة .
الثاني : دعوة المسلمين في مكة للهجرة ومغادرتها، قال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ).
الثالث : ترغيب الناس بدخول الإسلام .
الرابع : حث المسلمين على بيان معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى تلاوة القرآن وعدم الخشية من الذين كفروا .
الخامسة : تهيئة مقدمات الهجرة للمسلمين من مكة وغيرها ، فقد يلاقي المسلم الأذى والتعذيب في بلده ، ويظن أن مغادرتها أشد ضرراً عليه من هذا العذاب لأنه يهرب إلى المجهول والأخطار المحتملة في الطريق أو محل الإقامة ، فكانت هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ترغيباً للمسلمين بالهجرة ووسيلة لحفظهم وسلامتهم ،ونصر لتكاثرهم الذاتي ، فاذا نجى المسلم من التعذيب والقتل فانه يتزوج وينجب أولاداً مسلمين ويتكاثرون إلى يوم القيامة .
لذا فمن الإعجاز في المقام أن ياسر وسمية قتلا تحت تعذيب رؤساء الكفر في مكة وهما عجوزان بينما هاجر عمار إلى المدينة وشارك في معارك الإسلام .
ليكون من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم إستشهاد الأب والأم في سبيل الله وهجرة الأبناء مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للجهاد في سبيل الله إلى أن دخلوا مكة فاتحين ، وكان عمار بن ياسر ممن دخل مكة فاتحاً ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الرابعة : لقد نزل قوله تعالى [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( ) في المدينة المنورة وبعد هجرة النبي محمد إليها ، وتحتمل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة بلحاظ آية التقية وجوهاً :
الأول : الهجرة ليست من التقية لأن القدر المتيقن من آية التقية هو العمل بمضامينها بعد نزولها .
الثاني : هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عمومات التقية ومقدمة لها .
الثالث : موضوع التقية أجنبي عن التقية ، لأنه نوع جهاد .
الرابع : وردت التقية بولاية الذين كفروا على نحو الإستثناء عند الحاجة، وليس في هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ولاية للذين كفروا والصحيح هو الرابع أعلاه ، ويكون الثاني في طوله بلحاظ المعنى الأعم للتقية وإجتناب الأذى الذي يأتي من الذين كفروا لبيان أن التقية رحمة بهم وسبيل إلى نجاتهم ، لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو لقومه بالهداية والصلاح.
وهل التقية من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة من ولاية الذين كفروا ، أم أنها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
الصحيح هو الثاني ، فالتقية على مراتب لا ينتقل المسلم إلى مرتبة أعلى إلا عند الحاجة إليها ، بلحاظ أنها من موارد الضرورة التي تقدر بقدرها .
ليكون من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، بأن يأتي الأمر من عند الله عز وجل للمسلمين في صيرورة المحرم مباحاً ومأذوناً به من عند الله ، فلا يلزم أحد المسلم عند اللجوء إلى التقية ، ولا تكون موضع تبكيت أو تغيير ، قال تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( ).
ومن خصائص هذا الشطر من آية البحث [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ( ) والشواهد على عدم نسخه شهادة للمسلمين بالإيمان ، إذ ورد أول الآية على نحو القانون الثابت منذ أيام أبينا آدم إلى يوم القيامة [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ] ( ) ثم خاطبت الآية المسلمين بالقول [إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً]وهو من الإلتفات بالإصطلاح البلاغي ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان حقيقة وهي أن المسلمين هم المؤمنون في زمن التنزيل وإلى يوم القيامة هم المسلمون دون غيرهم .
الثانية : الأخبار عن كون التقية قانوناً مطلقاً يتغشى حياة المؤمنين، فقد جاءت وتأتي أيام على المؤمنين لا يحتاجون فيها التقية ، وقد نصت آية البحث على هذا المعنى بقوله تعالى [وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ]( ).
الثالث : التقية أمر عرضي طارئ لا يخل بالقانون العام من الإرادة التكوينية وهو تنزه المؤمنين عن إتخاذ الكافرين أولياء .
الرابعة :بشارة المسلمين بأن التقية لن تضرهم في دينهم وفي سلامتهم وفي تعاهدهم للولاية فيما بينهم ، وقد جاءت آيات كثيرة في ولاية المؤمنين والندب إليها .
الخامسة : بيان السعة والمندوحة والإذن من عند الله بالتقية حتى تصل إلى الولاية للذين كفروا مع أنها في أغلب الحالات لا تصل إلى مرتبة الولاية ، ولكن الله عز وجل لم يجعل حداً لطرف الكثرة بخصوص التقية رحمة بالمسلمين , وليكون حجة على الذين كفروا بذاته ومصاديقه .
ومن فضل الله عز وجل على المسلمين أن الذين كفروا يرضون بما هو أدنى من الولاية .
وهل تقليب الله للقلوب الوارد في الحديث مطلق أم مقيد ، الجواب هو الثاني إذ أنه مقيد بما يكون فيه تثبيت معالم التوحيد وأحكام الشريعة ، وهداية الناس لأداء الفرائض ويقلب الله عز وجل القلوب لتكون المؤمنون في مأمن من التقية أو كثرة أفرادها وتعدد موضوعها .
وقال تعالى[رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا]( )، إذ تجمع هذه الآية توحيد الربوبية , وإقرار المسلمين بالعبودية المطلقة لله، والتسليم بالأسماء الحسنى لله عز وجل .
ومن خصائص آية البحث إرادة عدم جزع المسلمين من التقية خاصة وأنها من مصاديق الصبر ، قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ) لذا فان أحكام التقية غير منسوخة لأنها مناسبة لشكر المسلمين لله عز وجل وإخبار عن قبح الظلم والكفر الذي يجعل المسلم يظهر خلاف الأيمان ، وهل تحث آية التقية المسلمين على الدعاء ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : دعاء المسلمين للسلامة من التقية وعدم الحاجة إليها ، فقد يكون مكتوباً على أحد من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
الثانية : دعاء المسلمين لبعضهم بصرف أسباب التقية ، فمن إعجاز آية البحث دلالتها على عدم تغشي التقية لكل المسلمين ، إنما تخص أفراداً منهم ، فيدعو لدعامة المسلمين فيمحو الله عنه حال التقية أو يخففها عنه .
الثالثة : حث المسلم على الدعاء لبعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا وصيرورتهم في حال عجز عن إملاء التقية على المسلمين .
الرابعة : من خصائص الدعاء أنه محبوب بذاته ، وهو خير محض فيدعو المسلم للأمن في باب التقية فيرزقه دخول الذين يتقيهم الإسلام ، ليصبحوا أخوة له في الإيمان ، وليس من حصر للشواهد في هذا الباب ، وقد تكون التقية سبباً لهذا الدخول أو من أسبابه ، لذا فهي نعمة من عند الله على المسلمين وأعدائهم والناس جميعاً .
وتقدير قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) ومنها التقية ومنافعها ورشحاتها ، وما فيها من أسباب حفظ المسلمين في ملتهم دمائهم وأموالهم وأمصارهم ومساجدهم ، وهل تقية المسلم خاصة في نفعه له ، أم أنها عامة للأجيال اللاحقة من المسلمين ، الجواب هو الثاني وهو من الشواهد على أن الآية غير منسوخة لأن نفع القضية الشخصية من التقية يعود على المسلمين وعلى ذرية الذي يتخذ التقية منهاجاً ، ليأتوا في زمان يتصف بالأمن من التقية .
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً ، إذ تفضل الله عز وجل بقانون ، وهو الملازمة بين عالم الإمكان والحاجة ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : كل ممكن محتاج .
الصغرى : الإنسان ممكن .
النتيجة : الإنسان محتاج .
وتأتي هذه الحاجة على نحو القضية الشخصية والنوعية العامة ، فكما يحتاج الفرد الجماعة فان الجماعة تحتاج الفرد سواء من بين أفرادها أو من غيرهم .
كما تحتاج الأخرى لتجعل الآية المسلمين يتفقهون في أمور الدين والدنيا ، ويدركون ماهية الحياة وضروب الإفتتان فيها ، ويتنزهون عن الكبر والغرور .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الضبط والإنضباط في إختيار الولاية وجهة العون والنصرة والفتنة التي يأمرون إليها في الرخاء والشدة ، بأن تتصف بالإيمان والصلاح ، ولا يلجأون إلى الذين كفروا إلا عند الحاجة والضرورة ، لتكون آية التقية مورداً لنفع المسلمين في أشخاصهم ومواردهم.
ومن مصاديق تفسير آية التقية ما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي) ( ) لأن التقية على وجوه :
الأول : أنها حلية من الأدب ، بلحاظ أنها إمتثال لأمر الله عز وجل وعمل برخصة .
(عن جابر بن عبد الله : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرّ برجل في ظل شجرة يرش عليه الماء فقال : مابال صاحبكم هذا.
قالوا : يارسول الله صام،
قال : إنّه ليس من البرّ أن تصوموا في السّفر،
وعليكم برخصة الله تعالى التي رخص لكم فاقبلوها،
وكذلك تأويل قوله : الصائم من السّفر كالمفطر في الحضر)( ).
إذ يدل الحديث أعلاه على مجئ السنة النبوية بالترغيب بالرخص التي أذن الله بها ، ومنها التقية التي يترشح عنها اللامحدود من الرخص وإلى يوم القيامة .
الثاني : التقية مناسبة لتحصين صفوف المسلمين ، وبناء صرح الإسلام ، وصرف للأذى والبلاء عن المسلمين ، إذ أن تقادم الأيام سبب لإزدياد قوتهم وثبات إيمانهم وإزدياد عددهم ، بالتناسل ودخول الناس الإسلام ، مع حرمة الإرتداد .
الثالث : التقية وعاء كريم لتنزيه الأرض من الفساد وسفك الدماء ، فحينما يتقي المسلم من الكافر فانه يمنع من تعديه على حرمات المسلمين .
الرابع : في التقية إطاعة لعمر المسلم ، ليقضي أيامه بتقوى الله ، وتلك من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يتقي المسلم الكافر ويظهر ولاءه له في ساعة من نهار أو أيام من الأسبوع ليفوز بعمر جديد وسنوات يقضيها بطاعة الله عز وجل والإجتهاد في إجتناب الكفر ، والتخفيف من ذات التقية في موضوعها وكيفيتها وأفرادها .
ويكون إتخاذ الولي من الناس في أمور :
الأول : الإستعانة وطلب العون في الحاجات فقد جعل الله عز وجل الناس بالناس .
الثاني : طلب المدد والنصرة على العدو والطرف الآخر .
الثالث : المشورة وإتخاذ البطانة والوليجة والعمل برأيها ، وكأنها صاحبة القرار .
الرابع : الأنقياد للقول والرأي .
الخامس : الإقتداء في السنة والعمل ، لذا فان من معاني قوله تعالى [كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) لزوم إجتناب التأسي بالذين كفروا .
السادس : الدعوة لجهة الولاية باللسان والعمل وبيان أنهم على صواب وسلامة في القول والفعل .
لقد وردت آيات كثيرة في الولاية نقضاً وابراماً وتوجيهاً وتحذيراً، وامراً وزجراً، ويمكن ان نطلق عليها( آيات الولاية) وفيها عبر ومواعظ وحكم وهي مدرسة للهداية والصلاح وتتوقف عليها احكام ومسائل عديدة، وتحدد عمل المسلم اليومي .
ويدل نعت المسلمين بالمؤمنين في آية البحث[لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ] على أن الله عز وجل هو ولي المسلمين قال تعالى[اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]( )، ومن معاني النور في المقام هداية المسلمين إلى التقية عند الحاجة إليها لتكون في طول ولايتهم لله عز وجل .
وهناك تباين بين ولاية الله عز وجل وولاية المؤمن للمؤمن كما في قوله تعالى[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]( )، وبين أفراد التقية.
لأن ولاية الله عز وجل هي الإقرار بالعبودية له تعالى، وأداء الفرائض، والإنصياع لإوامره وإجتناب ما نهى عنه لتتصف ولاية بعض المؤمنين لبعض بأمور :
الأول : ولاية المؤمنين لبعضهم فرع ولايتهم لله عز وجل.
الثاني : إقتباس المؤمنين الولاية بينهم من ولايتهم لله عز وجل ولرسوله، قال تعالى[إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ]( ).
الثالث : ولاية المؤمنين فيما بينهم نوع طريق ومقدمة لولايتهم لله عز وجل، من غير أن يلزم الدور بين هذا الأمر، والأمر الأول أعلاه.
الرابع : ترشح فعل الخيرات عن ولاية المؤمنين بعضهم لبعض لذا ذكرت ذات آية ولاية المؤمنين خصالهم بقوله تعالى[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ]( ).
وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ، وأهل المنكر في الدنيا أهل المنكر في الآخرة ، إن الله ليبعث المعروف يوم القيامة في صورة الرجل المسافر ، فيأتي صاحبه إذا انشق قبره فيمسح عن وجهه التراب ويقول : ابشر يا ولي الله بأمان الله وكرامته ، لا يهولنَّك ما ترى من أهوال يوم القيامة .
فلا يزال يقول له : احذر هذا واتق هذا يسكن بذلك روعه حتى يجاوز به الصراط ، فإذا جاوز به الصراط عدل ولي الله إلى منازله في الجنة ، ثم يثنى عنه المعروف فيتعلق به فيقول : يا عبد الله من أنت خذلني الخلائق في أهوال القيامة غيرك فمن أنت؟ فيقول له: أما تعرفني، فيقول : لا .
فيقول : أنا المعروف الذي عملته في الدنيا، بعثني الله خلقاً لأجازيك به يوم القيامة ( ).
وهل تفيد آية البحث بأن التقية ولاية، فيه وجوه :
الأول : تقدير آية البحث [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] فلا ضير عليكم أن تتخذوهم أولياء عند الضرورة والحاجة .
الثاني : [ لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] والتقية غير الولاية ، لثبات ولاية الله في نفوس المؤمنين.
الثالث : [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] فلكم أن تتخذوهم أولياء بأن تكتفوا بالتقية وتلجأوا إليها ، أو تختاروا التحدي والصبر والإمتناع عن التقية .
والمقصود من الرخصة في التقية أنها لا ترقى إلى مرتبة الولاية، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ]( ).
فجاء النهي أعلاه عن ولاية الذين يميلون إلى الكفر، ليكون النهي عن ولاية الكافرين من باب الأولوية القطعية، نعم يمكن أن يقال بالجمع بين الآية أعلاه وآية التقية، ويكون تقديره : لا تتخذوا أباكم وأخوانكم أولياء إن إستحبوا الكفر على الإيمان إلا أن تتقوا منهم تقاة.
وتفتح الآية الدراسات في الولاية من وجوه :
الأول : منافع إتخاذ المسلم المؤمنين أولياء ، وكيف أن ولايتهم خير محض من جهات :
الأولى : نفع هذه الولاية للمسلم في تثبيت إيمانه ، ووقايته من الإرتداد .
الثانية : بعث السكينة في قلب المسلم .
الثالثة : قضاء حوائج المسلم في الدنيا والآخرة .
الرابعة : تلقي المسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقبول .
الخامسة : إبقاء المسلم الإيمان وولاية المؤمنين إرثاً لأولاده وذريته .
السادسة : تنمية ملكة التقوى عند المسلم ، لما في هذه الولاية من الدروس المقتبسة والعلوم المستفيضة .
السابعة : ولاية المسلم للمؤمنين , وإتخاذه لهم أولياء من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ) .
الثامنة : تقوية شوكة المؤمنين وإعانة بعضهم بعضاً بالولاية وما يترشح عنها من الإحسان والصفح .
التاسعة : تفقه المسلمين في الدين ,ومعرفتهم لأحكام الحلال والحرام .
العاشرة : صيرورة الولاية مقدمة ووسيلة لقيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعن الإمام علي عليه السلام ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اطلبوا المعروف من رحماء أمتي تعيشوا في أكنافهم ، ولا تطلبوه من القاسية قلوبهم ، فإن اللعنة تنزل عليهم ، يا علي إن الله خلق المعروف وخلق له أهلاً ، فحببه إليهم وحبب إليهم فعاله ، ووجه إليهم طلابه كما وجه الماء في الأرض الجدبة لتحيا به ويحيى به أهلها ، إن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة ) ( ).
الثاني : منافع إتخاذ المسلم المؤمنين أولياء بالنسبة للذين يحاربون الإسلام والمسلمين ،وفيه مسائل :
الأولى : إنذار الذين كفروا ، وتبكيتهم برؤية تعاضد المسلمين في القول والعمل .
الثانية : إصابة الذين كفروا بالرعب والفزع لما يرون من مصاديق المودة التي يظهرها المسلمون فيما بينهم .
الثالثة : من معاني الولاية بين المسلمين التفاني في مرضاة الله والمبادرة إلى الدفاع عن الملة والدين والحرمات مما يجعل الذين كفروا في حسرة وغيظ ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ] ( ).
الرابعة : بعث الفرقة والخلاف بين الذين كفروا ، ومن الإعجاز في آيات القرآن توجه خطابات الدعوة إلى الإسلام إلى المكلفين رجالاً ونساءً من غير أن تكون معلقة بإذن من شخص أو جهة أو ملك ، فجاء النداء العام الإستغراقي [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] ( )في القرآن ، ليبين أنه ليس من حاجب بين الله عز وجل وبين العباد ، وهو من أسرار جعل الإنسان يتصف بالعقل والتدبر ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا]( ).
الخامسة : تولي المسلم للمؤمنين برزخ دون إضرار الذين كفروا به وبالإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) .
فمن أسباب صرف ضرر الذين كفروا عن المسلمين هو تعاضد وتعاون المسلمين فيما بينهم .
الثالث : منافع إتخاذ المسلم المؤمنين أولياء على الناس جميعاً ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان مصداق لقانون نعت المسلمين بكونهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثانية : دعوة الناس للإيمان وحثهم على التدبر بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها ما يكون في النفوس والولاية .
الثالثة : تجلي شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل تقيد المسلمين بالولاية بينهم حجة على الناس الجواب نعم .
الرابعة : زجر الناس عن الإنقياد للذين كفروا ، أو طاعتهم ، وقد تضمن القرآن بيان الخزي الذي يلحق يوم القيامة أتباع الظالمين، قال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ] ( ) .
ولن تقل آية البحث ، لم يتخذ المؤمنون الكافرون أولياء لبيان حال المسلمين في الزمن الماضي وإرادة الأجيال اللاحقة من المسلمين الإقتداء عليهم .
ولم تقل : لن يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء للإخبار عن حال المسلمين في الزمن المستقبل ) ، وليكون معنى الجملة الخبرية إرادة الأمر للمسلمين والمسلمات .
إنما جاءت الآية بصيغة النفي المطلق وأداته (لا) التي هي أعم من لم ، ومن لن ، وهو من إعجاز اللفظ القرآني ودلالة صيغة الإطلاق فيه ، ما فيها من الإعجاز من جهات :
الأولى : الإخبار عن حال الموحدين من أهل الملل السابقة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
الثانية : بيان قانون وهو إتحاد سنخية الإيمان وإن تباينت الأزمنة والأمكنة لبيان أن الأرض محكومة بوجود أمة من الموحدين في كل زمان .
الثالثة : بيان قانون وهو أن الله عز وجل يمد المؤمنين في كل زمان بما يجعلهم في عصمة من إتخاذ الذين كفروا أولياء ،فان قلت هل تنخرم هذه العصمة بالتقية التي ذكرتها ذات آية البحث ، الجواب لا، من وجوه :
أولاً : التقية بأمر من عند الله عز وجل.
ثانياً : مجئ الإذن بالتقية بذات آية الولاية .
ثالثاً : التقية من الذين كفروا تعاهد لولاية المؤمنين بعضهم لبعض .
رابعاً : عدم خروج التقية عن ولاية الله عز وجل .
الرابعة : بيان حال المسلمين وسلامتهم وإلى يوم القيامة من إتخاذ الذين كفروا أولياء فسبحان الله الذي يأذن بالتقية في ذات الآية التي تنبأ عن حصر ولاية المؤمنين بعضهم لبعض .
الخامسة : ترغيب المسلمين بالدعاء لبقائهم على الولاية الإيمانية فيما بينهم .
السادسة : تحدي الذين كفروا بأن المسلمين لم يتخذوا الذين كفروا أولياء .
السادس : بعث اليأس في نفوس الكافرين في كل زمان من إتخاذهم المسلم عضداً وولياً ، وفي الآية مسائل :
الأولى : يجعل الله عز وجل المؤمنين في حرز وواقية من ولاية الذين كفروا .
الثانية : يشكر الله عز وجل المؤمنين في الدنيا بالأمن والسلامة من ولاية الذين كفروا ، ليكون هذا الأمن عملاً صالحاً للمسلمين ، وفيه الأجر والثواب ، كما أنه مقدمة للعمل الصالح .
الثالثة : من العقاب العاجل للذين كفروا حجب ولاية الذين آمنوا منهم ، والتي هي خير محض ، تترشح عنها البركة ، والدعوة إلى الفلاح والصلاح ، أي أن الذين كفروا حجبوا عن أنفسهم نعمة ولاية المؤمنين لهم متحدين ومتفرقين من جهات :
الأولى : حجب الكافر عن نفسه ولاية المؤمن له .
الثانية : حجب الكافر عن نفسه ولاية المؤمنين له .
الثالثة : منع الكافرين عن أنفسهم ولاية المؤمن لهم .
وصحيح أن المؤمن شخص واحد , ولكنه ينفع طائفة وأمة بأيمانه، وقد أثنى الله عز وجل على إبراهيم بقوله تعالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ] ( ).
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في طريقه إلى تبوك الثناء على أبي ذر ومع وجود المنافقين بينهم ليكون هذا الثناء تأديباً وزجراً لهم عن أخلاق النفاق ، خاصة وان المعجزات كانت تصاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريقه إلى تبوك .
وأصبح المسلمون وهم في الطريق , وليس عندهم ماء للشرب والوضوء وإذا كانت الطهارة الترابية بديلاً للطهارة المائية ، فان الماء حاجة لشرب أفراد الجيش وللدواب ، والطريق طويل ، والزمان وقت القيض وهو صميم الحر , وكان خروجهم في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة وبعد ستة أشهر على حصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للطائف .
وسميت غزوة العسرة وهي آخر غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بلغه بأن جيش الرومان يزحف لإستئصال دولة الإسلام ، إذ وردت الأخبار بواسطة الأنباط والتجار الذين يأتون بالزيت والتجارة من الشام إلى المدينة بأن الروم تجمع الجيوش للإغارة على المسلمين .
فأراد بعث الخوف في قلوب الذين يعتدون على الإسلام وثغور المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ) ولكي لا يقال أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يلاق في حياته جيشاً قوياً .
وأخرج الواقدي وابو نعيم عن أبي قتادة قال بينا نحن مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} نسير في الجيش إذ لحقهم عطش كادت تقطع أعناق الرجال والخيل والركاب عطشا فدعا بركوة فيها ماء فوضع أصابعه عليها فنبع الماء من بين أصابعه فاستقى الناس وفاض الماء حتى ترووا وأرووا خيلهم وركابهم وكان في العسكر اثنا عشر الف بعير والناس ثلاثون ألفا والخيل إثنا عشر ألف فرس قال وكان في تبوك أربعة أشياء فبينا رسول الله يسير منحدر المدينة وهو في قيظ شديد عطش العسكر بعد المرتين الأوليين عطشا شديدا حتى لا يوجد ماء قليل ولا كثير فأرسل أسيد بن حضير فخرج فيما بين تبوك والحجر فجعل يضرب في كل وجه فيجد راوية من ماء من امرأة من بلي فكلمها وجاء بها فدعا فيها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالبركة ثم قال هلموا اسقيكم فلم يبق سقاء إلا ملأوه ثم دعا.
بركابهم وخيولهم فسقوها حتى نهلت ويقال إنه امر بما جاء به أسيد فصبه في قعب عظيم فأدخل يده فيه وغسل وجهه ورجليه وصلى ركعتين ثم رفع يده مدا ثم انصرف وان القعب ليفور فقال ردوا واتسع الماء وانبسط الناس حتى يصف عليه المائة والمائتان فارووا وإن القعب ليجيش بالرواء ( ).
ومنهم من قال أن عدد جيش المسلمين يومئذ أربعون ألفاً ، وقد يراد منه جبر الكسر أي أن الأصل في عددهم هو أكثر من ثلاثين ألفا فأحتسبهم أربعين .
وقال بعضهم أنهم سبعون ألفاً ، وهو بعيد حتى على إرادة إحتساب التابعين كالخدم والغلمان ، وكما ورد لفظ [يَسْأَلُونَكَ]خمس عشرة مرة في القرآن ، ويراد توجه المسلمين وغيرهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال والإستفهام وإرادة البيان ، فقد توجه المسلمون يومئذ إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشكون العطش ، وما يهددهم في حياتهم عند إستمرار إفتقاد الماء ، هذه النعمة العظيمة التي لا تعرف إلا عند فقدانها ،قال تعالى [وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ] ( ) فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه بالدعاء وسأل الله عز وجل الماء (فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء) ( ).
ولا تعارض بين الخبر أعلاه ونزول السحاب , لإمكان تعدد المعجزة في الموضوع المتحد .
قد تجلت معاني النفاق من بعضهم غزوة تبوك .
فقد رأى المسلمون آية نزول المطر في أيام القيظ , وكفاية المسلمين منه وسألوا أحد المنافقين عن تلك الآية فقال : سحابة مرت ، أي حدث إتفاقاً , وكما في حديث فقدان ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وجعل يتخلف الرجل بعد الرجل في الطريق فيخبرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه تخلف فلان ، فيجيبهم دعوه فان يك فيه خير فسيلحقه الله بكم ، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه، لبيان أن الذي يخرج للقتال من غير رضا فانه يبعث الشؤم والشك بين صفوف الجيش .
ثم قيل (يا رسول الله تَخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره.
فقال: ” دعوه إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه “)( ) .
وتلوم بعير أبي ذر عليه أي تلبث وأبطأ عليه , فأخذ متاعه وحمله على ظهره ، وسار على قدميه في أثر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان بعض الصحابة يبقى يرصد الطرق ، ويخشى ممن يتبع الأثر أو يباغت الجيش ، فنظر أحدهم فقال : يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي وحده على الطريق .
لقد رأى أمراً غريباً وهو أن رجلاً يقطع هذه الصحراء وحده وسيراً على قدميه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كن أبا ذر ، فتطلع المسلمون وأخذ الماشي يقترب منهم , فتأملوه وعرفوه فقالوا : يا رسول الله هو أبو ذر كما أخبرت (فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ رَحِمَ اللّهُ أَبَا ذَرّ ، يَمْشِي وَحْدَهُ وَيَمُوتُ وَحْدَهُ وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ) ( ).
(عن معاذ بن جبل أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك فقال انكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك وانكم لن تأتوها حتى يضحي النهار فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا فأتاها والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء فغرف من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شيء ثم غسل فيه وجهه ويديه ثم اعاده فيها فجرت العين بماء كثير فاستقى الناس ثم قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يوشك يا معاذ ان طالت بك حياة ان ترى ما ها هنا قد ملئ جنانا) ( ) .
فسميت غزوة تبوك لأنه الموضع الذي إنتهى إليه رسول الله وتسمى أيضاً غزوة العسرة ، قال تعالى [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ) وتبعد تبوك عن المدينة المنورة (778)ميلاً وكانت من ديار قضاعة التي تخضع لسلطان الروم يومئذ .
وانتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك صباحاً فخطب في المسلمين مسنداً ظهره إلى نخلة , وهو من الإعجاز في نبوته وسنته الدفاعية ، فحالما وصل منتهى وغاية السفر وعظ الجيش وشحذ هممهم , وكل كلمة من خطبته درس وعبرة وموعظة .
إذ قام (فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: ” أيها الناس أما بعد ; فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الامور عوازمها وشر الامور محدثاتها .
وأحسن الهدى هدى الانبياء، وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير الاعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة .
ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرا، ومن الناس من لا يذكر الله إلا هجرا، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل، وخير ما وقر في القلوب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغلول من حثى جهنم، والشعر من إبليس، والخمر جماع الاثم، والنساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون .
وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل أكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره .
والشقي من شقى في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع والامر إلى الآخرة، وملاك العمل خواتمه، وشر الروايا روايا الكذب، وكل ما هو آت قريب .
وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتألى على الله يكذبه، ومن يستغفره يغفر له، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله، ومن يبتغ السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضعف الله له .
ومن يعص الله يعذبه الله، اللهم اغفر لي ولامتي، اللهم اغفر لي ولامتي، اللهم اغفر لي ولامتي ” قالها ثلاثا ثم قال: ” أستغفر الله لي ولكم) ( ).
وأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أياماً في تبوك وأتى يحنة بن رؤبة صاحب أيلة وهي العقبة وصالح رسول الله وكتب لهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً وهو عندهم (بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبى صلى عليه وآله وسلم لأهل أذرح أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة والله كفيل عليهم بالنصح والاحسان ومن لجا اليهم من المسلمين) ( ).
وتحتمل غزوة تبوك بلحاظ آية البحث وجوهاً :
الأول : هذه الآية من مصاديق [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ] ( ) .
الثاني : غزوة تبوك من التقية من الذين كفروا إذ لم يقع فيها قتال .
الثالث : موضوع غزوة تبوك أمر مستقل ، فليس هو من مصاديق آية السيف أو التقية على نحو الحصر والتعيين .
والمختار هو الثالث فقد كانت غزوة تبوك فتحاً من غير قتال ، مثلما كان صلح الحديبية فتحاً من غير قتال ، ولتجري أجيال المسلمين دراسة مقارنة بين عدد المهاجرين والأنصار الذي خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة بدر وعددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، ومعهم فَرَسان وسبعون بعيراً .
وبعد سبع سنوات يخرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك ثلاثون ألفاً من المسلمين في أشق الأحوال من الحر والجوع ونقص المؤون ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
لقد كانت جيوش الروم والفرس تخشى الدخول في أعماق الجزيرة العربية، لقلة الماء والزاد للجيوش والدواب، وسعة الفلوات, كما كانوا يخافون من غدر العرب، والإغارة عليهم في الليل، وهو من أسباب إعتمادهم على قريش في التجارة , قال تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ), خاصة بعد نشوب القتال بين الروم والفرس.
إذ كانت قوافل قريش تأخذ البضائع من الشام إلى اليمن لتنقل في البحر إلى الهند والصين وفارس، وتأتي بالبضائع من اليمن إلى الشام ومنها إلى أوربا .
وخلافاً للمألوف سار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجيش عرمرم يتألف من ثلاثين ألفاً وسط الصحراء وفي شدة الحر ومع قلة المؤن لبيان المعجزة في المقام , وأن المدد الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يختص بنصرة الملائكة له في المعارك، بل يكون المدد حاضراً عند التجهز للقتال والسير في طريق المعركة وفي صرف كيد الكافرين، وعند العودة من المعركة، وهو من مصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى].
وهل يكون خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ناسخاً لآية التقية، أو أنه تأييد للقول بنسخها، والمختار أن السنة النبوية لا تنسخ القرآن، ثم أن تجهيز النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجيوش لايتعارض مع التقية من الكفار , ونزلت آيات للقتال بخصوص الذين أجهزوا على المسلمين في المدينة المنورة في السنوات الأولى للإسلام .
إن إتخاذ المسلم للمؤمنين أولياء عزُ له ، وكذا إستغناؤه عن الكافر وعدم إتباعه أو الإنقياد له، ولكن لو إتبعه ووالاه باللسان تقية فهل يخل بحال العز التي هو عليها .
الجواب لا ، لأن التقية بأمر من عند الله عز وجل ، وهو سبحانه الذي شهد للمسلمين بالعز ، وتقدير الآية أعلاه : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين وإن عملوا بالتقية ) .
وتقترن ولاية المسلم للمؤمنين بالمودة والمحبة ، ولكن تقيته من الكفار خالية من المودة في القلب ، أو النصرة والإخلاص فيها .
وقد تقدم في هذا السِفر ورود لفظ [َاتَّقَوْا]في القرآن تسعاً وستين مرة .
وورد لفظ [اتَّقُونِي] ( ) بصيغة الخطاب ( )، ولم يرد في القرآن لفظ (أتقوا الكفار)أو (أتقوا الذين كفروا).
لقد جاءت آيات القرآن والسنة النبوية بالحث على الصبر ، والتقية فرع الصبر ، ومصداق من مصاديقه ، وهو من الشواهد بأن الآية غير منسوخة .
ومن معاني آية التقية أنها وعد من عند الله عز وجل على عدم حاجة المسلمين للجوء إلى التقية من الذين كفروا ومظاهرتهم ونصرتهم .
الآية السابعة : قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) نسختها قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ .
وتمام الآية من سورة آل عمران التي قيل أنها منسوخة هو [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ] ( ) وجاءت على أقسام :
الأول : قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ويتوجه الخطاب في الآية للمسلمين ، وجاء بعد أن تضمنت الآية السابقة لها الثناء عليهم وإكرامهم بالنعت [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ويحتمل الواو في [يَضُرُّوكُمْ] وجوهاً :
أولاً : إرادة الذين كفروا والمشركين , وتقدير الآية : لن يضر الذين كفروا خير أمة أخرجت للناس إلا أذى ) وفيه بيان لقانون وهو حين أنعم الله عز وجل على المسلمين بنعمة نيل مرتبة [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) فانه رزقهم الوقاية والسلامة من الضرر من الآخرين , وفي هذه الوقاية مسائل :
الأولى : بقاء المسلمين في منزلة [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] فيصرف الله عز وجل الضرر عن المسلمين ليقيموا في منزلة [خَيْرَ أُمَّةٍ] إلى يوم القيامة .
الثانية : الآية وعد من عند الله عز وجل للمسلمين بأن يبقوا في آمن وسلامة من الضرر .
الثالثة : دعوة الناس لدخول الإسلام ، إذ أن صرف الضرر عن المسلمين معجزة حسية ظاهرة , فيجهز الذين كفروا الجيوش لقتال المسلمين ، ويعلنون عدم الرجوع إلا بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسر أصحابه خصوصاً المهاجرين ، ولا يلبث الذين كفروا أن يعودوا بالخسارة والذل والهوان وفقدان الأحبة والملأ قتلى وأسرى .
وفي معركة أحد زحف المشركون بثلاثة آلاف رجل لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الذين يتجاوز عددهم في ميدان المعركة سبعمائة رجل ، وليس عندهم مدد إلا من عند الله عز وجل ، فأي حساب عسكري مستقرأ من تلك المواجهة ويجعل الرجحان لكفة المشركين وأن الغدر يلحق بالمسلمين من غير شك أو ريب فيه .
فجاء الوعد من عند الله عز وجل [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) ليكون معجزة في السنة الدفاعية ، لذا فان الآية غير منسوخة ، إنما موضوعها وعد كريم من عند الله , وبيان لعظيم فضله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ] ( ).
ثانياً : لن يضر المشركون المسلمين إلا أذى .
ثالثاً : المقصود الفاسقون من أهل الكتاب ، وتقدير الآية : لن يضركم الفاسقون من أهل الكتاب .
ومن الإعجاز إخبار الآية السابقة لآية البحث عن كون المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) تفضل الله عز وجل وبعث السكينة في نفوسهم بأنهم في مأمن من الضرر والشر من الفاسقين .
ومع مجئ الآية السابقة بصيغة الجملة الخبرية والإمضاء والفعل الماضي [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] فقد وردت آية البحث بصيغة المضارع ولغة المستقبل والحكم المستديم ، وتحتمل الآية بلحاظ أفراد الزمان الطولية :
الأول : لن يضر الفاسقون المسلمين أيام النبوة .
الثاني : لن يضر الفاسقون المسلمين أيام التنزيل .
الثالث : لن يضر الفاسقون المسلمين أيام الصحابة .
الرابع : المراد حال الحرب والقتال , وأنهم لم يضروا المسلمين في المعارك والقتال .
الخامس : إستدامة حكم الآية , وبقاؤه إلى يوم القيامة ففي كل زمان لن يضر الفاسقون والكافرون المسلمين حتى يوم القيامة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ،وكلها من مصاديق الآية الكريمة لأصالة الإطلاق من جهات :
الأولى : إرادة بحث أصولي إذا تردد الأمر بين الإطلاق والتقييد فالأصل هو الإطلاق .
الثانية : أصالة الإطلاق في ذات اللفظ القرآني .
الثالثة : إتصاف الآية القرآنية ببقاء حكمها غضاً جلياً إلى يوم القيامة ، ليكون قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] شاهداً على سلامة القرآن من التحريف ، وهو من الدلائل على إمتناع الآية عن النسخ ولو كان من الإستحسان ، ففي كل يوم تطل آية البحث على المسلمين [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] وهو من أعظم الهبات في تأريخ الإنسانية ز
وعندما إحتجت الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض بقولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) ردّ الله عز وجل عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) فرضي الملائكة وأستبشروا وخروا إلى الله عز وجل ساجدين .
فمن علم الله تعالى البشارة للمسلمين في كل ساعة [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] وتقدير الآية على وجوه :
الأول : لن يضركم الذين يفسدون في الأرض إلا أذى .
الثاني : لن يضركم الذين يسفكون الدماء إلا أذى .
الثالث : أصبروا على الأذى الذي يأتي من الذين كفروا .
وقد تقدم أن النسبة بين الضرر والأذى هي العموم والخصوص المطلق ، فكل ضرر هو أذى وليس العكس ، أي أن الضرر أشد وأشق ، فان قلت قد لاقى المسلمون الضرر والشدة في أيام النبوة وبعدها .
والجواب نعم ، ولكن هذا الضرر وأثره منقطع ، كما أن المراد من الآية العموم ، وأن الضرر الذي يأتي من الكفار يزول في ساعته ولن يستديم ، فيريدون إستئصال الإسلام فيشيعون القتل في المسلمين ، ولكن عدد المسلمين يزداد كثرة كما أنهم يزدادون صلابة وتحدياً وثباتاً في منازل الإيمان ، وهو من مصاديق نفي الضرر عن المسلمين لبيان أن الآية محكمة وسالمة من النسخ ، وإن قال بعض علماء النسخ بأنها منسوخة , ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : لن يضركم الكفار في دينكم , وأن الأذى لا يقع في أمور أخرى غير الدين .
لبيان قانون وهو أن الضرر ما كان في الدين والعقيدة , وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالوقاية والسلامة فيه ،وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ] ( )، الذي ورد في الآية السابقة لآية البحث.
وتقدير الجمع بين الآيتين : لن يضركم الفاسقون عند ظلمهم وتعديهم في أمور :
أولاً : أداء المسلمين الفرائض والعبادات ,وحينما قال الله تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( )، فانه سبحانه ضمن لهم الأمن بأداء الصلاة , ووفرة الرزق الكريم لإخراج الزكاة .
ثانياً : لن يضركم الفاسقون في منزلتكم الرفيعة كخير أمة .
ثالثاً : لن يضركم الذين كفروا في خروجكم للناس بالدعوة إلى التوحيد والنبوة .
رابعاً : ما دمتم خير أمة فلن يضركم الذين كفروا .
خامساً : لقد جعلكم الله خير أمة كيلا يضركم الذين كفروا .
سادساً : لأن من أهل الكتاب مؤمنين فلن يضركم الفاسقون إلا أذى .
سابعاً : لأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر فلن يضروكم إلا اذى .
ثامناً : أخرجوا للناس بالبلاغ والدعوة إلى الله فلن يضركم الفاسقون إلا أذى .
الثاني : يبشركم الله عز وجل بأن الكفار لن يضروكم إلا أذى .
الثالث : إجتهدوا في طاعة الله فلن يضركم الكفار إلا أذى .
الرابع : سيزحف المشركون ليقاتلوكم فلن يضروكم إلا أذى .
الخامس : لن يضركم الكفار إلا أذى [وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ) .
وعندما عزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على السير إلى مكة لفتحها عندما نقضت قريش العهود، أخبر أصحابه بالأمر، وأمرهم بالإسراع بالتجهيز، وعدم التهاون، وتوجه بالدعاء :
(اللهم خذ العيون والاخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها ( ).
وهذا الدعاء من مصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] لأن مباغتة العدو سبب في عجره عن الملاقاة والمسايفة فاراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء دفع الضرر عن المسلمين، وتخفيف الأذى عنهم لبيان قانون وهو موضوعية الدعاء في صرف الضرر عن المسلمين , وتقدير الآية : بدعاء النبي لن يضروكم إلا أذى.
وقام حاطب بن أبي بلتعة اللخمي وهو من الصحابة بكتابة كتاب إلى قريش يخبرهم بتجهز النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للهجوم على المشركين في مكة .
وفيه ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل , وأقسم بالله لو صار اليكم وحده لنصره الله عليكم فانه منجز له ما وعده( ).
وقيل فيه: إن محمداً قد نفر فاما إليكم، وإما إلى غيركم فعليكم الحذر ).
وهو بعيد لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر عن الجهة التي يريد وهي مكة , وقد جاء وفد خزاعة يشكو إليه نقض قريش العهد كما قدم أبو سفيان يطلب المهلة .
وإختار حاطب امرأة لايصال كتابه لقريش كيلا تلفت الأنظار، ويُشك بأمرها وإسمها كنود وقيل سارة، وجعل لها عوضاَ وجعلاً عشرة دنانير إن هي أوصلت الرسالة إلى رؤساء قريش.
فقامت بجعل الرسالة في قرون رأسها وظفرت عليه شعرها , إذ وصاها بأن تخفي الكتاب ولا تمر على الطريق لأن فيه حرساً، فنزل الوحي من عند الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يخبره بما فعل حاطب , وهذا الوحي من مصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى].
وفيه بيان لقانون وهو موضوعية الوحي في صرف الضرر عن المسلمين، وتقدير الآية أعلاه : بالوحي من عند الله للنبي محمد لن يضروكم إلا أذى).
فبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام والزبير بن العوام كما عن إسحاق ( وقال غيره بعث علياً والمقداد)( ).
ولم تسلك المرأة الطريق العام , ومع هذا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشار إلى الموضع الذي يجدانها فيه، وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فان بها ضعينة معها الكتاب .
وقال ابن عقبة: أدركاها ببطن مريم، وطلبا منها الكتاب فانكرت وجود كتاب عندها، فاستنزلاها، والتمساه في رحلها ومتاعها فلم يجدا شيئاً ، ولكنهما لم يتركاها وشأنها ز
وقال لها الإمام علي عليه السلام : إنّي أَحْلِفُ بِاَللّهِ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا كَذَبْنَا ، وَلَتُخْرِجِنّ لَنَا هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنّك ، فَلَمّا رَأَتْ الْجِدّ مِنْهُ قَالَتْ أَعْرِضْ فَأَعْرَضَ فَحَلّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا ، فَاسْتَخْرَجَتْ الْكِتَابَ مِنْهَا ، فَدَفَعَتْهُ إلَيْهِ فَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ( ).
وكان حاطب بن أبي بلتعة بدرياً , وقد آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد آخى بينه وبين عويم بن ساعدة , كما أرسله إلى المقوقس .
وجاء الإمام علي عليه السلام بكتاب حاطب وسلّمه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية، وعلوم الغيب فيها بفضل الله ووجوه الوحي التي ينزلها عليه، وفيه بشارة النصر وفتح مكة من عند الله .
إذ يبعث إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الكتاب وموضع المرأة العزم في نفوس المسلمين على الخروج معه لفتح مكة، وإمتناع المهاجرين من التردد أو الخشية على أهليهم وعمومتهم في مكة المكرمة .
ولإتمام الحجة ودفع الشك قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة حاطب، وعندما حضر قال له: ياحاطب ما حملك على هذا؟ فلم ينكر الكتاب وأقرّ به، ولكنه أظهر الإعتذار( فقال :يا رسول الله أما والله إنى لمؤمن بالله وبرسوله ما غيرت ولا بدلت، ولكننى كنت امرءا ليس لى في القوم من أصل ولا عشيرة، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم) ( ).
وقيل نزل في حاطب قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ]( )، وأستدل بخبر حاطب هذا في مسألتين :
الأولى: قتل الجاسوس، وورد الإستدلال فيه من وجهين:
الأول : قال فريق بجواز قتله، لأن عمر بن الخطاب سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتله بسبب بعثه لأهل مكة يخبرهم عن عزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على غزوهم.
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : وما يدريك لعل الله قد أطلع على أهل بدر( ).
أي يجوز قتل الجاسوس إذا لم يكن من أهل بدر، وبه قال مالك.
الثاني : لا يقتل الجاسوس لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتل حاطب، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة( ).
الثانية : ( جَوَازُ تَجْرِيدِ الْمَرْأَةِ كُلّهَا وَتَكْشِيفِهَا لِلْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الْعَامّةِ فَإِنّ عَلِيّا وَالْمِقْدَادَ قَالَا لِلظّعِينَةِ لتُخْرِجِنّ الْكِتَابَ أَوْ لِنَكْشِفَنّك، وَإِذَا جَازَ تَجْرِيدُهَا لِحَاجَتِهَا إلَى ذَلِكَ حَيْثُ تَدْعُو إلَيْهَا ، فَتَجْرِيدُهَا لِمَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ أَوْلَى( ).
والمختار أنه لا دليل على أي من المسألتين، أما بالنسبة للمسألة الأولى أعلاه فالنقاش في الكبرى وهي ثبوت كون حاطب بن بلتعة جاسوساً، فهو لم يكن عيناً من قبل المشركين جعلوه بين ظهراني المسلمين , ولابد من الإحتراز في الدماء .
وبالنسبة للوجه الأول منها فان إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، وكون البدري لا يقتل بسبب ما فعل من كتابة الكتاب لا يعني أن غيره يقتل.
وأما بالنسبة للوجه الثاني أعلاه فان قصة حاطب لا تكفي للإستدلال في موضوع الجاسوس، وموضوع الجاسوس من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة في فعله وشأنه وما يكشفه ويبعثه من الأسرار والأخبار , وكل واحد له حكمه الخاص .
وقد حذر الله عز وجل المسلمين من مقدمات التجسس عليهم بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ]( ).
وأما بالنسبة للمسألة الثانية فهي ليست علة تامة للإستدلال بجواز كشف وتجريد المرأة إنما كان حد قول الإمام عليه السلام هو التهديد والتخويف ولم يتم فعلاً تجريد المرأة من ثيابها كي تصلح الواقعة للإستدلال.
لقد إستجاب الله عز وجل لدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأخذ العيون والأخبار عن قريش بنزول الوحي عليه فأخبره بما فعل حاطب ووأمره بالبعث لجلب الكتاب.
وهل أتمت هذه المرأة سفرها إلى مكة أم أنها أعيدت إلى المدينة، الجواب هو الثاني، لمنع أن تنقل رسالة شفوية وإن كان أثرها أقل وأدنى أثراً لطرو الشك فيها , ولكن قريشاً تدرك وجود أمارات وأسباب للفتح .
ومن إعجاز آية البحث بيانها لقانون دائم وهو إذا إختار الكفار قتال المسلمين فالنتيجة فرار الذين كفروا ، وهو الذي حصل في كل معركة من معارك المسلمين ، حتى معركة أحد التي نزلت فيها نكسة ونكبة بالمسلمين بعد ترك الرماة المسلمين مواضعهم خلافاً لوصية وتأكيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدم تركها بأي حال من الأحوال ، قال تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] ( ).
فقد إختار الذين كفروا يوم معركة أحد الإنسحاب من ساحة المعركة ، وغادروها في ذات يوم المعركة مع رجحان كفتهم عدداً وعدة , والمشقة في سرعة وتأمين الإنسحاب .
لقد أصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجراحات في وجهه وبدنه وسقط سبعون من المسلمين شهداء ، ولكن المعركة لم تنته بخسارة المسلمين ، إنما قاتل دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفر من أهل البيت والصحابة ، وما لبثوا حتى إجتمعت طائفة من الصحابة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاكرين الله عز وجل على سلامته ، وإنكشاف كذب إشاعة قتله .
(فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا.
فقال الله عز وجل في الذين قالوا: إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم: ” وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ” الآية.
فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم، فلما نظروا إليه نسوا ذلك الذى كانوا عليه وهمهم أبو سفيان، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الارض “.
ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم.
فقال أبو سفيان يومئذ: اعل هبل، حنظلة بحنظلة، ويوم أحد بيوم بدر ) ( ).
إذ كان نصر المسلمين في معركة بدر عظيماً ، وهو فتح متجدد إلى يوم القيامة ، بينما لم ينل الذين كفروا يوم أحد نصراً , ولم يكسبوا معركة .
وفي رواية (ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، يوم لنا ويوم علينا ويوم نساء ويوم نسر، حنظلة بحنظلة، وفلان بفلان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا سواء، أما قتلانا فأحياء يرزقون وقتلاكم في النار يعذبون ) ( ).
إن وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة وخروجه سالماً من القتل معجزة حسية له , وشاهد على حفظ الله عز وجل له , ليكون دعاء النبي يعقوب عليه السلام الوارد في التنزيل [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ( ) على وجوه من جهة المصداق :
الأول : إرادة سلامة يوسف عليه السلام .
الثاني : سلامة وحفظ ابن يعقوب الآخر ، وهو أخو يوسف لأمه وأبيه ، إذ سأله أبناؤه أن يبعثه معهم .
الثالث :المقصود حفظ أولاد يعقوب كلهم .
الرابع :إرادة حفظ الولد والمال والعرض .
الخامس : توجه يعقوب بالدعاء لحفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القوم الكافرين ، إذ رأى يعقوب غدر أخوة يوسف به ، فخشى على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أعدائه الذين يجهرون بالسعي لقتله .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، لتدل الآية على مصداق من قانون في النبوة وهو دعاء الأنبياء السابقين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد كان جيش المشركين هم أول من غادر ميدان معركة أحد ، وهو من ضروب الخزي لهم ، ولم يتركهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشأنهم بل خرج هو وأصحابه في طلبهم لبعث الفزع في قلوبهم حتى بلغ حمراء الأسد على بعد ثمانية أميال من المدينة .
ورجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معركة أحد يوم السبت النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وعندما خرج إلى المسجد لصلاة الفجر ، عندما أذن بلال ، إذا وجوه الأوس والخزرج يظهرون خوفهم من عودة وكرة العدو إلى المدينة مرة أخرى خاصة مع كثرة جيوشهم ، وما أصاب المهاجرين والأنصار من الجراحات وفقد الأحبة .
فأغار عبد الله بن عمرو بن عوف المزني يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما حضر بين يديه أخبره أنه أقبل من أهله في مكة حتى إذا كان بملل ) ( ).
رأى قريشاً قد نزلوا في قدومهم من معركة أحد (فقلت: لأدخلن فيه ولأسمعن من أخبارهم. فجلست معهم فسمعت أبا سفيان وأصحابه يقولون: ما صنعنا شيئاً، أصبتم شوكة القوم وحدتهم، فارجعوا نستأصل من بقى! وصفوان يأبى ذلك عليهم. ولما سلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخرج من الصلاة أمر بلالاً أن ينادي بين المسلمين للخروج طلب عدوهم.
( وقالوا: لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمدينة يوم الأحد أمر بطلب عدوهم، فخرجوا وبهم الجراحات) ( ) .
ليكون خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلف جيش كفار قريش بعد معركة أحد شاهداً على أمور :
الأول : سلامة جيش المسلمين من الضعف والعجز .
الثاني : طاعة المهاجرين والأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى في أشد الأحوال ، فمع كثرة جراحاتهم إمتثلوا لأمره بمطاردة الذين كفروا .
الثالث : بيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فحالما أظهروا الخشية من كرة الذين كفروا وإغارتهم على المدينة جاء أحد المسلمين قادماً من مكة ليخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التلاوم بين أمراء جيش المشركين الذي يدل على إقرارهم بالخسارة والتسليم بعدم تحقق أي من غاياتهم الخبيثة .
الرابع : بيان مصداق لقوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( )، بأن ينهى الله عز وجل المسلمين عن الوهن والضعف ، ثم يتفضل عليهم ويجعلهم في منعة من الوهن والحزن والخوف في أشق الأحوال .
كان حال المسلمين بعد معركة أحد أشد ما مرّ عليهم بعد أي معركة من معارك الإسلام .
ويمكن تأسيس قانون وهو حضور قوانين التخفيف عن المسلمين في كل حال من أحوالهم ، وقوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) من قوانين التخفيف عن المسلمين ، وصرف الشر عنهم وإعانتهم في أمور الدين والدنيا , وإقالة عثرتهم .
لقد جاءت الآية بصيغة الخطاب للمسلمين ، لتكون وعداً من عند الله عز وجل حاضراً في كل يوم , وتكون الآية في مفهومها إنذاراً للذين كفروا وتقديرها (لن تضروا المسلمين إلا أذى ) .
ليكون من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة اليومية بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ، لأنها تجعل هذا القانون مصاحباً لهم عند الهّم بالهجوم على المسلمين ، وعند إرادة الكيد والمكر بهم ، وفي حال تهيئة مقدمات غزو ثغور المسلمين ونحوها .
وهل يمكن الإستدلال على عدم نسخ الآية بالبرهان الإني أي من المعلول إلى العلة ، كالإستدلال بالدخان على وجود النار ، الجواب نعم ، فالفزع الذي يصيب الذين كفروا من قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) شاهد على أن الآية غير منسوخة ، وهي باقية في موضوعها ونفعها منطوقاً ومفهوماً.
نعم قيل في علم المنطق أن الإستدلال من المعلول إلى العلة لا يفيد اليقين وقد يكون طريقاً لليقين ، والجواب هو عدم إنحصار الإستدلال بالدليل الإني .
إنما جاء التحقيق والإستدلال بـ(البرهان اللمي ) وهوالإستدلال بالعلة والعلم بها على العلم بالمعلول كالإستدلال بطلوع الشمس على وجود النهار , وبالمنطوق ولغة الخطاب في الآية ، وتوجهه للمسلمين على نحو الخصوص ، لقد وردت آية البحث في مضامين قدسية ثلاثة :
الأول : لن يضروكم إلا أذى .
الثاني : إن يقاتلوكم يولوكم الأدبار .
الثالث : ثم لا ينصرون .
وبين موضوع الشطر الأول والثاني عموم وخصوص مطلق ، فموضوع الضرر الذي تذكره آية البحث أعم من حال القتال وضرب السيف لبيان الإطلاق في فضل الله عز وجل على المسلمين في نفي ضرر الذين كفروا عنهم ، وأن السلامة منه لا تختص بحال القتال وحدها بل تشمل حال الموادعة والمهادنة والصلح ، وعند قيام الذين كفروا بالمكر واللجوء إلى تحريض القبائل والدول على المسلمين ، كما في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ).
ومن إعجاز القرآن أن لفظ [جَمَعُوا]لم يرد في القرآن إلا في آية البحث وكأن فيه أمارة على أن جمع الذين كفروا الجيوش ضد الإسلام منقطع ولن يستمر .
وورد في أسباب نزول الآية أعلاه أنها نزلت بخصوص معركة أحد ، ولم تمر الأيام بعد معركة الخندق حتى عجز رؤساء الكفر من قريش ومن والاهم عن جمع الجيوش لغزو المدينة إلى أن جاء صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة وهو فتح , ثم فتح مكة في السنة الثامنة وهو نصر وفتح عظيم , ليكون من معاني آية البحث وجوه :
الأول : لن يضركم الذين كفروا في سعيهم لصد الناس عن الإسلام ، أي أن الله عز وجل يبشر المسلمين بدخول الناس في الإسلام أفواجاً وجماعات , وإن سعى الذين كفروا من قريش في منعهم وتخويفهم , قال تعالى[يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( ).
الثاني : لن يضركم الذين كفروا في معاشاتكم وأرزاقكم .
لقد توافد المسلمون إلى المدينة من مكة والقرى والبادية ، وصارت طرقها مزدحمة بهم ، وأستحدث ركن الصفة بجوار المسجد النبوي لإيواء الفقراء المهاجرين ، فجاءت آية البحث بشارة لأهل المدينة والمسلمين عموماً بأن الله عز وجل هو [الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] ( ) الذي يتفضل برزق المسلمين رزقاً كريماً .
الثالث : لن يضروكم في مكرهم وكيدهم ، لم يقعد الذين كفروا عن المكر يوماً واحداً ، وفي كل يوم ترد المدينة أخبار عن عزمهم تجهيز الجيوش لقتال المسلمين وإستباحة المدينة وقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسر المهاجرين والأنصار ، فتفضل الله عز وجل بالبشارة للمسلكين بالأمن من الكيد .
الرابع : لن يضروكم بواسطة المنافقين والمنافقات إلا أذى وفيه دعوة للمسلمين لعدم الإنتقام والبطش بالمنافقين الذين هم بين صفوف المسلمين ، ويؤدون معهم الصلاة ويخرجون معهم للغزو .
الخامس : لله ملك السموات والأرض وبيده مقاليد السموات والأرض وقد أبى أن يقوم الذين كفروا بربوبيته بالإضرار بالمؤمنين إلا اذى ، فمن دلالات عدم نسخ قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) أنها شاهد على عظيم قدرة الله وسعة سلطانه .
السادس : لن يضركم إلا أذى ، لأن الله عز وجل يجازي الذين آمنوا في الدنيا بصرف الضرر عنهم ،وهو نعمة عظمى لبيان أن الدنيا دار إمتحان وإبتلاء , ولكن هذا الإبتلاء مقيد بخصوص المؤمنين بالسلامة من الضرر وشر الذين كفروا .
السابع : تدل الآية على وحدة المسلمين إذ يتوجه لهم الخطاب على نحو الإستغراق الشامل للذكور والأناث من أجيالهم المتعاقبة إلى يوم القيامة بقوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ]لبيان أن هجوم المشركين على المسلمين في معركة بدر وأحد والخندق وحنين لن يضرهم ويضرهم ، ولا يضر التابعين وتابعي التابعين إلى يوم القيامة ، وكذا بالنسبة للهجومات اللاحقة فانها لن تضر الموجود والمعدوم من المسلمين ولا يأتي منها ضرر على السابق من المسلمين وإن كان من المهاجرين والأنصار ليدرك المسلم إنتفاء الضرر عن الإسلام مطلقاً في كل أفراد الأزمنة الماضي والحاضر والمستقبل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
الثامن : لن يضروكم إلا أذى فلا تتوقفوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهل هذا الأمر والنهي طريق لصرف الضرر والأذى .
الجواب نعم ، فان الأذى الذي تخبر عنه آية البحث من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، وتقدير الآية على جهات :
الأولى : لن يضروكم إلا أذى فأجتهدوا في دفعه فلا تدل الآية على القطع بنزول الأذى بالمسلمين ، إنما تبين مرتبة ما يأتي من الشر من الذين كفروا .
الثانية : لن يضروكم إلا أذى فتوجهوا إلى الله عز وجل بالدعاء لصرف الأذى عنكم .
الثالثة : لن يضروكم إلا أذى فتعاونوا على دفعه ورفعه والتخفيف من وطأته وضرره ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
الرابعة : لن يضروكم إلا أذى سيرجع إلى نحورهم .
التاسع : لن يضروكم [فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ] ( ).
ومن الشواهد على أن آية البحث غير منسوخة أنها نعمة متجددة يرى المسلمون شواهد ومصاديق منها فيشكرون الله عز وجل .
ولو تنزلنا وقلنا بأن الآية منسوخة بآية[قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ] ( )، فان الأذى يحدث بالجراحات التي تصيب المسلمين أثناء القتال وسقوط عدد منهم شهداء , وإن كان قليلاً .
ولما تم فتح مكة خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند خروجه إلى حنين واستعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي .
وكان أسلم يوم الفتح أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجعل والياً على مكة من المهاجرين ولا من الأنصار بل جعل أحد مسلمي الفتح.
وعن زيد بن أسلم أنه قال: لما استعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عتاب بن أسيد على مكة كان رزقه كل يوم درهما، فقام فخطب الناس فقال :
أيها الناس، أجاع الله كبد من جاع على درهم فقد رزقني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم درهما كل يوم، فليست لي حاجة إلى أحد( ).
وبقي كعب أميراَ على مكة إلى أن قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وأقره أبو بكر عليها فلم يزل إلى أن مات( ).
وأقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة بعد انصرافه من الطائف ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع والأول وربيع الآخر وجمادى الأولى وجمادى الآخرة وخرج في رجب من سنة تسع بالمسلمين إلى غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها ( ).
وفي الطريق إلى المدينة، وبينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يسيرون ، إذ كمنت هوازن في جنبتي الوادي لتباغت المسلمين في طريق عودتهم من فتح مكة بهجوم سريع وشديد ، وهو الذي يسمى في الإصطلاح العسكري في هذا الزمان خطة الحمامة وأن كسب أول المعركة كسب لنصفها لذا يسعى أطراف القتال للمبادرة إلى الهجوم إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، فلا يبدأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القتال لأن رسالته [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) ولأن النصر من عند الله عز وجل .
لقد إنهزمت طلائع المسلمين الأمامية ، فمروا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فناداهم , وطلب منهم الرجوع ولكنهم لم يلتفتوا .
ويحتمل هذا الإنهزام وجوهاً :
الأول : إنه من الضرر العام بالمسلمين وأن قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، قد يكون فيه استثناء , وقيل في الفلسفة ما من عام إلا وقد خص.
الثاني : إنه من الأذى الذي لحق بالمسلمين، وهو من مصاديق آية البحث .
الثالث : إنه ليس من الضرر ولا الأذى، إنما هو غمامة سرعان ما زالت لأن الأمور بخواتيمها .
أما الأول أعلاه فلا دليل عليه، وليس من إستثناء في فضل الله عز جل، وهو سبحانه إذا أعطى يعطي بالأوفى والأتم.
وأما الثاني فهو المختار، وأن ما حدث في أول معركة حنين وهزيمة الطلائع الأولى من المسلمين من الأذى.
وفيه آية إعجازية أن الأذى يأتي للمسلمين ويكون مقدمة للضرر ولكن الله عز وجل يحول دون بلوغه مرتبة الضرر والشدة وهو من المضامين القدسية لقوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] وتقدير الآية: لن يجعل الله الذين كفروا يضرونكم وإن آذوكم).
ولم تكن ثقيف وحدها في المعركة ضد المسلمين، فكان معهم (نصر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بنى هلال وهم قليل ولم يشهدها من قيس عيلان إلا هؤلاء غابت عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب ولم يشهدها منهم أحد له اسم .
وفي جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه شئ إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب وكان شجاعا مجربا , وفى ثقيف سيدان لهم، وفى الاحلاف قارب بن الاسود بن مسعود بن معتب، وفى بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحرث ابن مالك وأخوه أحمر بن الحرث.
وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري فلما أجمع السير إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حط مع الناس أموالهم ونساءهم وأبناءهم( ).
وكما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبعث عيوناً ليرصدوا العدو وحاله وموضعه، فان العدو قد يبعث عيوناً ولكنه قياس مع الفارق، إذ كانت عيون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين يرجعون سالمين ومعهم الخبر اليقين النافع المبين.
أما عيون العدو فانهم يصيرون في ضنك وشدة فعندما بعث مالك بن عوف النصري رئيس هوازن وقائد جيش المشركين عيوناً عادوا إليه فزعين مرعوبين من هول مارأوا.
قال ابن إسحاق وبعث مالك بن عوف (عيونا من رجاله فأتوه وقد تفرقت أوصالهم قال ويلكم ما شأنكم قالوا رأينا رجالا بيضا على خيل بلق والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى فوالله مارده ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد ( ).
وتجلى الملائكة على هيئة رجال ابيض إنذار وتحذير للذين كفروا، وحث لهم للإمتناع عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وهل هو من مصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] .
الجواب نعم بتقريب أن الكفار يكيدون ويمكرون ويسعون للإضرار بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ولكن الله عز وجل يصرف كيدهم بآية من عنده سواء آية سماوية أو أرضية أو إنسية، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
ليكون من مصاديق عدم نسخ آية البحث أن كل واقعة وحادثة يمر بها المسلمون تدل على موضوعية الآية وحضور مضامينها القدسية، وكيف أن الله عز وجل ينعم على المسلمين فيصرف عنهم الضرر الشديد، ليبقى الأذى الذي يمكن للمسلمين تحمله وإقتباس الدروس منه، ويحتمل هذا الأذى وجوهاً :
الأول : هذا الأذى هو الأصل، والضرر عرض.
الثاني : الأصل هو الضرر، والأذى فرع منه.
الثالث : كل من الضرر والأذى أصل .
والمختار أن الأصل هو الضرر، وأن صيرورته أذى بلطف ورحمة من عند الله عز وجل والرحمة هي الرأفة والشفقة .
الرَّحْمنُ والرَّحِيْمُ اسْمَانِ مُشْتَقّانِ من الرَّحْمَةِ. والمَرْحَمَةُ الرَّحْمَةُ، رَحِمْتُه رَحْمَةً ومَرْحَمَةً، وتَرَحَّمْتُ عليه( ).
وليس من حصر لمصاديق رحمة الله، ومنها إيصال الإحسان واللطف والمعروف والنفع إلى العبد، وصرف الأذى والشر والكيد عنه .
ويمكن تسمية الحياة الدنيا بأنها(دار الرحمة) فان قلت قد ورد ( عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة ، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة . فلو يعلم الكافر كل الذي عند الله من رحمته ، لم ييأس من الرحمة . ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب ، لم يأمن من النار( ).
أي أن الدار الآخرة هي دار الرحمة، والجواب ليس من تعارض في المقام إذ أن الرحمة الواحدة من عند الله في الدنيا كافية لتسمية الحياة دار الرحمة، وكذا الآخرة لما فيها من مصاديق وجوه الرحمة وكثرتها ، لتكون رحمة الله بالناس في الحياة الدنيا باعثاً للسكينة في النفوس من أهوال الآخرة .
وخرج كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني الشاعر المعروف مع أخيه بجير وكان أبوهما زهير بن أبي سلمى من أصحاب المعلقات السبعة ومطلع قصيدته هو :
أمِنْ أُمّ أَوْفَى دِمْنةٌ لمْ تكَلَّمِ … بِحَوْمَانَةِ الدَّرَاجِ فَالمُتَثلَمِ( ).
وأتى كعب وأخوه بجير أبرق العزاف والأبرق جبل الرمال والصخور .
ويقال كان يسمع فيه بعض الليالي صوت عزف وتقول العرب بأن بابرق العزاف من الجن أكثر من ربيعة ومضر، وقيل ويسمى في هذا الزمان القوز والذي يبعد عن مكة نحو (350) كم.
فقال بجير لكعب أثبت في غنمنا هنا حتى آتي هذا الرجل فأسمع ما يقول فجاء بجير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم فبلغ ذلك كعباً فقال:
ألا أبلغا عني بجيراً رسالة … على أي شيء ويب غيرك دلكا
على خلق لم تلف أماً ولا أباً … عليه ولم تدرك عليه أخاً لكا
سقاك أبو بكر بكأس روية … فأنهلك المأمور منها وعلكا
فبلغت أبياته رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من لقي كعباً فليقتله. وأهدر دمه وكتب بذلك بجير إليه ويقول له النجاء ( )، أي أن أخاه بجير يحذره ويدعوه للنجاة بنفسه , من غير تعارض بين هذا التحذير وبين حثه على دخول الإسلام, كما يحمل لفظ النجاء على معنى التوبة والنجاة بدخول الإسلام.
ثم كتب بجير إلى أخيه كعب يخبره بصفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لا يقتل مسلماً، فكل من جاءه مسلماً قبل منه وأسقط ما كان قبله .
وقد وردعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :الهجرة والإسلام يجب ما قبله ( ).
وعند فتح مكة أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتل ابن خطل ولما بلغ كعب بن زهير مقتل ابن خطل يوم الفتح فزع وخاف على نفسه مع أنه ليس من الذين أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقتلوا يوم الفتح، وإن كان مهدور الدم.
فجاء كعب إلى المدينة ونزل على صاحب له، ثم دخل المسجد وتوجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم متلثماً بعد الصلاة وبايعه وسأله الأمان فأمنه.
وقال أنا كعب ووقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال قصيدته اللامية والتي مطلعها :
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مُتَبْولُ … مُتَيّمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ( ).
وقد تقدم ذكر القصيدة.
وأنشدها كعب إلى آخرها وذكر فيها المهاجرين فأثنى عليهم – وكان قبل ذلك قد حفظ له هجاء في النبي صلى الله عليه وآله وسلم, والقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بردته, دلالة على رضاه عنه , وللمنع من إيذائه
وعاب الأنصار على كعب إذ لم يذكرهم فغدا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقصيدة يمتدح فيها الأنصار فقال :
(من سره كرم الحياة فلا يزل … في مقنب من صالحي الأنصار )
( ورثوا المكارم كابرا عن كابر … إن الخيار هم بنو الأخيار )
( المكرهين السمهري بأذرع … كسوافل الهندي غير قصار )
( والناظرين بأعين محمرة … كالجمر غير كليلة الأبصار )
( والبائعين نفوسهم لنبيهم … للموت يوم تعانق وكرار )
( يتطهرون يرونه نسكا لهم … بدماء من علقوا من الكفار )
(دربوا كما دربت ببطن خفية.غلبت الرقاب من الأسود ضوار)
( وإذا حللت ليمنعوك إليهم … أصبحت عند معاقل الأغفار )
( ضربوا عليا يوم بدر ضربة … دانت لوقعتها جميع نزار)
( لو يعلم الأقوام علمي كله … فيهم لصدقني الذين أماري)
(قوم إذا خوت النجوم فإنهم . للطارقين النازلين مقاري)
وصارت قصيدة بانت سعاد مكتبة أدبية وشعرية مستقلة بجمالها ودلالاتها وسحرها وشهرتها في الأجيال , وكثرة معارضتها من العلماء والشعراء .
ومن المعارضات لها لامية البوصيري , وهو محمد بن سعيد بن حماد البوصيري المصري 608-696 هجرية.
وأصله من المغرب من قلعة حماد , ولكنه ينسب إلى بوصير من أعمال بني سويف بمصر وأمه منها، وتوفى بالإسكندرية , وأبيات القصيدة هي :
إلى متى أنتَ باللذاتِ مشغولُ وَأنتَ عنْ كلِّ ما قَدَّمْتَ مَسْؤُولُ
في كلِّ يومٍ تُرجى أن تتوبَ غداً وَعَقْدُ عَزْمِكَ بالتَّسْوِيفِ مَحْلُولُ
أما يُرى لكَ فيما سَرَّ من عملٍ يوماً نشاطٌ وعَّما ساء تكسيلُ
فَجَرِّدِ العَزْمَ إنَّ الموتَ صارِمُهُ مُجَرَّدٌ بِيَدِ الآمالِ مَسْلُولُ
واقطع حبالَ الأمانيِّ التي اتَّصَلتْ فإنما حَبْلُها بالزُّورِ مَوْصولُ
أنفقتَ عُمركَ في مالٍ تُحَصِّلُهُ وَمَا عَلَى غيرِ إثْمٍ منكَ تحصيلُ
ورُحْتَ تعمرُ داراً لابقاءَ لها وأنْتَ عنها وإن عُمِّرْتَ مَنْقُولُ
جاءَ النَّذِيرُ فَشَمِّرْ لِلْمَسِيرِ بلا مهلٍ فليس مع الإنذارِ تمهيلُ
وصُنْ مَشِيبَكَ عنْ فِعْلٍ تُشانُ به فكلُّ ذي صبوة ٍ بالشيبِ معذولُ
لاتنكنهُ وفي القودينِ قد طلعتْ منهُ الثُّريَّا وفوق الرَّأسِ إكليلُ
فإنَّ أَرْواحَنا مِثْلَ النُّجُومِ لها مِنَ المَنِيَّة ِ تَسْيِيرٌ وَتَرْحِيلُ
وإنَّ طالِعَها مِنَّا وَغَارِبَها جِيلٌ يَمُرُّ وَيَأْتي بَعْدَهُ جِيلُ
حتى إذا بعثَ الله العبادَ إلى يَوْمِ بِهِ الحكمُ بينَ الخلْقِ مَفْصولٌ
تبينَ الربحُ والخسرانُ في أممٍ تَخالفَتْ بيننا منها الأقاوِيلُ
فأخسرُ الناسِ من كانتْ عقيدتهُ فِي طَيِّها لِنُشُورِ الخَلْقِ تَعْطِيلُ
وأمة ٌ تعبدُ الأوثانَ قد نصبتْ لها التصاويرُ يوماً والتماثيلُ
وأمة ٌ ذهبتْ للعجلِ عابدة َ فنالها مِنْ عَذابِ الله تَعْجِيل
وأمة ٌ زعمتْ أنَّ المسيحَ لها ربٌ غدا وهو مصلوبٌ ومقتولُ
فثلثتْ واحداً فرداً نوَحِّدُهُ وَلِلْبَصَائِرِ كالأَبصارِ تَخْيِيلُ
تبارَكَ الله عَمَّا قالَ جاحِدُه وجاحِدُ الحَقِّ عِنْدَ النَّصْرِ مَخْذُول
والفوزُ في أمة ٍ ضوءُ الوضوءِ لها قد زانها غُررٌ منه وتحجيلُ
تظلُّ تتلو كتاب اللهِ ليسَ بهِ كسائِرِ الكُتْبِ تَحْرِيفٌ وتَبْدِيلُ
فالكتبُ والرُّسلُ من عند الإلهِ أتتْ ومنهمُ فاضِلٌ حَقَّا ومفضولُ
والمصطفَى خيرُ خَلْقِ الله كلِّهِمِ لهُ على الرسلِ ترجيحٌ وتفضيلُ
مُحَمَّدٌ حُجَّة ُ الله التي ظَهَرَتْ بِسُنَّة ِ مالها في الخلقِ تحويلُ
نَجْلُ الأكارمِ والقومِ الذين لهم عَلَى جَمِيعِ الأَنَامِ الطَّوْلُ والطُّولُ
مَنْ كَمَّلَ الله معناهُ وصورتهُ فلَمْ يَفُتْهُ عَلَى الحَالَيْنِ تَكْمِيلُ
وخَصَّهُ بوقارٍ قرَّ منه لهُ في أنفسِ الخلقِ تعظيمٌ وتبجيلُ
بادِي السكينة ِ في سُخْطٍ لهُ وَرِضاً فلم يزلْ وهو مرهوبٌ ومأمولُ
يُقابِلُ البِشْرَ منه بالنَّدَى خُلُقٌ زاكٍ على العدلِ والإحسانِ مجبولُ
مِنْ آدمٍ ولحينِ الوضعِ جوهرهُ الـ مكنونُ في أنفس الأصدافِ محمولُ
فلِلنُّبُوَّة ِ إتْمامٌ ومُبْتَدَأٌ به وَللفَخْرِ تَعْجِيلٌ وَتأْجِيلُ
أتتْ إلى الناسِ من آياتهِ جُمَلٌ أَعْيَتْ عَلَى الناسِ مِنْهُنَّ التَّفاصيلُ
أَنْبَا سَطِيحٌ وَشِقٌّ وَابن ذِي يَزَنٍ عنه وقُسٌّ وَأحبارٌ مَقاوِيل
وعنه أَنْبَأَ موسى وَالمسيحُ وقد
بأنه خاتمُ الرُّسلِ المباحِ له مِنَ الغَنائِم تقسيمٌ وتَنْفِيلُ
وليسَ أَعْدَلَ منه الشاهِدُونَ لهُ ولا بأعلمَ منهُ إنْ هُمُ سيلوا
وإنْ سألتهُمْ عنه فلا حرجٌ إِنَّ المَحَكَّ عَنِ الدِّينارِ مَسْؤُولُ
كم آية ٍ ظَهَرَتْ في حينِ مَوْلِدِهِ بهِ البشائرُ منها والتَّهاويل
علومُ غيبٍ فلا الأرصادُ حاكمة ٌ وَلا التقاويمُ فيها وَالتَّحاويل
إذِ الهَواتِفُ والأنوارُ شاهِدُها لَدَى المَسامِع وَالأبصارِ مَقْبُول
ونار فارسَ أضحتْ وهي خامدة ٌ وَنَهْرُهُمْ جامِدٌ والصَّرْحُ مَثْلول
ومُذْ هدانا إلى الإسلامِ مَبْعَثُه دهى الشياطينَ والأصنامَ تجديلُ
وانظر سماءً غدتْ مملوءة ً مرساً كأنها البيتُ لما جاءهُ الفيلُ
فردَّتِ الجنَّ عنْ سمع ملائكة ٌ إذْ رَدَّتِ البَشَرَ الطَّيْرُ الأَبابِيل
كلٌّ غَدا وله مِنْ جِنْسِهِ رَصَدٌ لِلجنَّ شُهْبٌ وللإنسانِ سجِّيل
لَوْلا نبيُّ الهدَى ما كانَ في فَلَكٍ على الشياطينِ للأَمْلاكِ تَوْكِيل
لَمَّا تَوَلَّتْ تَوَلّى كلُّ مُسْتَرِقٍ عَنْ مَقْعَدِ السَّمْعِ منها وهْوَ مَعْزُول
إنْ رُمتَ أكبرَ آياتٍ وأكملها يا خيرَ مَنْ رُوِيَتْ لِلناسِ مَكْرُمَة ٌ
وانظرْ فليس كمثلِ الله من أحدٍ ولا كقولٍ أتى من عندهِ قيلُ
لو يستطاعُ لهُ مثلٌ لجيءَ به والمستطاعُ من الأعمالِ مفعولُ
لله كمْ أَفحَمَتْ أفْهامَنا حِكْمٌ منه وكمْ أَعْجَزَ الألْبابَ تَأْويلُ
يَهْدِي إلى كُلِّ رُشْدٍ حِينَ يَبْعثُهُ إلى المسامعِ تتيبٌ وترتيلُ
تَزْدادُ منه عَلى تَرْدادِهِ مِقَة ً وكلُّ قولٍ على التردادِ مملولُ
ما بَعْدَ آياتِهِ حَقٌّ لِمُتَّبِعِ والحَقُّ ما بَعْدَهُ إلاَّ الأَباطِيلُ
وما محمدٌ إلا رحمة ٌ بُعِثَتْ للعالمينَ وفضلُ اللهِ مبذولُ
هو الشفيعُ إذا كان المعادُ غداً واشتدَّ للحشرِ تخويفٌ وتهويلُ
فما على غيرهِ للناسِ معتمدٌ ولا على غيرهِ للناسِ تعويلُ
إنَّ امْرأً شَمَلَتْهُ مِنْ شَفَاعَتِهِ عِناية ٌ لامْرُؤٌ بالفَوْزِ مَشْمُول
نالَ المَقامَ الذي ما نالَهُ أحَدٌ وطالما ميَّزَ المقدارَ تنويلُ
وأدركَ السؤلَ لمَّاقامَ مجتهداً ومَا بِكلِّ اجتهادٍ يُدْرَكُ السُّولُ
لو أنَّ كُلَّ عُلاً بالسَعْيِ مُكْتَسَبٌ ما جازَ حين نزولِ الوحيِ تزميلُ
أَعْلَى المَراتِبِ عند الله رُتبَتُهُ فاعلم فما موضعُ المحبوبِ مجهولُ
من قاب قوسينِ أو أدنى له نزلٌ وحُقَّ منه له مثوى ً وتحليلُ
سَرع إلى المسجِدِ الأقصَى وَعاد بِهِ ليلاً بُراقٌ يبارى البرقَ هذلول
يا حبَّذا حالُ قُربِ لاأكيِّفُهُ وحبَّذا حالُ وصْلٍ عنه مغفولُ
وَكَمْ مواهِبَ لم تَدْرِ العِبادُ بها أتتْ إليه وسترُ الليلِ مسدولُ
هذا هو الفضلُ لا الدنيا وما رجحتْ به الموازينُ منها والمكاييلُ
وكم أتتْ عنْ رسول اللهِ بيَّنَة ٌ في فضلها وافقَ المنقولَ معقولُ
نورٌ فليسَ له ظلٌ يُرى ولهُ مِنَ الغَمامَة ِ أَنَّى سَارَ تَظْليل
ولا يُرى في الثَّرى أثرٌ لأخمصهِ إذا مشى وله في الصخرِ توحيلُ
دنا إليهِ حنينُ الجِذعِ من شغفٍ إذْ نالهُ منه بَعْدَ القُرْبِ تَزْيِيلُ
فَلَيْتَ مِنْ وَجهِهِ حَظِّي مُقابَلَة ٌ وَلَيْتَ حَظِّيَ منْ كَفَّيْهِ تَقْبِيلُ
بيضٌ ميامينُ يستسقى الغمامُ بها للشمسِ منها وللأنواءِ تخجيلُ
ما إنْ يَزالُ بها في كلِّ نازِلَة ٍ للقُلِّ كثرٌ وللتصعيبِ تسهيلُ
فاعجبْ لأفعالها إن كنتَ مدركها واطربْ إذا ذُكرتْ تلك الأفاعيلُ
كم عاود البرءُ من إعلالهِ جسداً بلمسهِ واستبانَ العقلَ مخبولُ
وَرَدَّ ألفَيْنِ في رِيِّ وَفي شِبَعٍ إذ ضاق باثنينِ مشروبٌ ومأكولُ
وردَّ ماءً ونوراً بعدَ ماذهبا رِيقٌ لهُ بِكِلا العَيْنَيْنَ مَتْفُولُ
ومنبعُ الماء عذباً من أصابعهِ وذاكَ صُنْعٌ به فينا جَرَى النيلُ
وكم دعا ومحيَّا الأرضِ مكتئبٌ ثمَّ انثنى وله بِشرٌ وتهليلُ
فأصْبَحَ المَحْلُ فيها لا مَحَلَّ لَهُ وغالَ ذكرَ الغلا من خصبها غولُ
فبالظِّرابِ ضُرُوبٌ لِلْغَمامِ كما عَنِ البِناءِ عَزالِيها مَعازيلُ
وآضَ من روضها جيدُ الوجودِ به مِنْ لُؤْلُؤِ النَّورِ تَرْصِيعٌ وتكليلُ
وَعَسْكَرٍ لَجبٍ قَدْ لَجَّ في طَلَبٍ لغزوهِغَرَّهُ بأسٌ وترعيلُ
دعا نزالِ فولَّي والبوارُ به من الصَّبا والحصى والرُّعبِ منزولُ
واغيرتا حين أضحى الغارُ وهو بهِ كمثلِ قلبي معمورٌ ومأهولُ
كأَنَّمَا المُصطَفى فيهِ وصاحِبُه الصَّـ ـديقُ ليثانٍ قد آواهما غيلُ
وَجلَّلَ الغارَ نَسْجُ العنكبوتِ عَلَى وَهْنٍ فيا حَبَّذا نَسْجٌ وَتَجْلِيلُ
عناية ٌ ضلَّ كيدُ المشركينَ بها وما مَكايِدُهمْ إلاَّ الأضاليلُ
إذْ يَنظُرُونَ وهمْ لا يُبْصِرُونَهُما كأنَّ أبصارهم من زيغها حُولُ
إنْيقطع الله عنه أمة ً سفهتْ نفوسها فلها بالكفرِ تعليلُ
فإنما الرُّسلُ والأملاكُ شافعها لِوُصْلة ٍ منه تَسکلٌ وَتَطْفِيلُ
ماعُذْرُ من منعَ التصديقَ منطقهُ وقد نبا منه محسوسٌ ومعقولُ
والذئبُ والعيرُ والمولودُ صدَّقَهُ والظُّبْيُ أَفْصَحَ نُطْقاً وَهْوَ مَحْبُولُ
والبَدْرُ بادَرَ مُنْشَقًّا بِدَعْوَتِهِ له كما شقَّ قلبٌ وهو متبولُ
وَالنَّخْلُ أثْمَرَ في عام وسُرَّ بِهِ سلمانُ إذ بسقتْ منه العثاكيلُ
إنْ أَنْكَرَتْهُ النَّصَارَى واليَهُودُ عَلَى ما بيَّنتْ منه توراة ٌوإنجيلُ
فقد تكرَّرَ منهم في جحودهم للكفرِ كفرٌ وللتجهيل تجهيلُ
قلْ للنصارى الألى ساءت مقالتهم فما لها غير محضِ الجهلِ تعليلُ
مِنَ اليَهُودِ اسْتَفَدْتُمْ ذَا الجُحودَ كما من الغرابِ استفادَ الدفنَ قابيلُ
فإنَّ عِنْدَكُمُ تَوْراتُهُمْ صَدَقَتْ ولمْ تُصَدَّقْ لكمْ منهمْ أناجِيلُ
ظلمتونا فأضحوا ظالمينَ لكم وذاكَ مِثْلُ قِصاصٍ فيهِ تَعْدِيلُ
منكمُ لنا ولكم من بعضكمْ شغلٌ والناسُ بالناسِ في الدنيا مشاغيلُ
لقدْ عَلِمْتُمْ ولكِنْ صَدَّكُمْ حَسَدٌ أنّا بما جاءنا قومٌ مقابيلُ
أما عرفتم نبي الله معرفة َ الأبـ ـأَبْناء لكنكم قَوْمٌ مناكِيلُ
هذا الذي كنتم تستفتحون به لولا اهتدى منكمُ للرشدِ ضِلِّيلُ
فَلا تُرَجُّوا جزِيلَ الأجْرِ مِنْ عَمَلٍ إنَّ الرَّجاء مِنَ الكُفَّارِ مَخْذُولُ
تؤذنونَ بزقٍّ من جهالتكمْ به انتفاخٌ وجسمٌ في ترهيلُ
موتوا بغيظٍ كماقد ماتَ قبلكمُ قابيلُ إذ قرَّبَ القربانَ هابيلُ
ياخي من رويتْ للناسِ مكرمة ٌ عنهُ وفُصِّلَ تَحْرِيمٌ وَتَحْلِيلُ
كَمْ قد أتتْ عنكَ أخبارٌ مُخَبِّرَة ٌ في حُسْنِها أشْبَهَ التَّفْرِيعَ تَأْصِيلُ
تَسْرِي إلَى النَّفْسِ منها كلما ورَدَتْ أنْفاسُ وَرْدٍ سَرَتْ وَالوَرْدُ مَطْلولُ
مِنْ كُلِّ لَفْظٍ بَلِيغٍ راقَ جَوْهَرُهُ كأنُهُ السَّيْفُ ماضِ وَهْوَ مَصْقُولُ
لم تبقِ ذكراً لذي نُطقٍ فصاحتهُ وهل تضيءُ مع الشمسِ القناديلُ
جاهَدْتَ في الله أبْطَالَ الضَّلالِ إلى أن ظلَّ للشركِ بالتوحيدِ تبطيلُ
شَكا حُسامُكَ ما تَشْكو جُمُوعُهُمْ ففيه منها وفيها منه تَفْلِيلُ
لله يَوْمُ حُنَيْنٍ حينَ كانَ بهِ كساعة ِ البَعْثِ تَهْوِيلٌ وَتَطْوِيلُ
ويوم أقبلتِ الأحزابُ وانهزمتْ وكمْ خبا لهبٌ بالشركِ مشعولُ
جاءوا بأسلحة ٍ لم تحمِ حاملها إنَّ الكُماة َ إذا لم ينصروا ميلُ
مِنْ بَعدِما زُلزلتْ بالشِّرْكِ أبْنِيَة ٌ وانْبَتَّ حَبْلٌ بأيْدِي الرَّيْبِ مَفْتُولُ
وظنَّ كلُّ امرىء ٍ في قلبهِ مرضٌ بأنَّ موعدهُ بانَّصرِ ممطولُ
فأنزَلَ الله أمْلاكاً مُسَوَّمَة لبوسها من سكيناتٍ سرابيلُ
شاكى السلاح فما تشكو الكلالَ ومن صنعِ الإلهِ لها نسجٌ وتأثيلُ
مِنْ كُلِّ مَوْضونَة ٍ حَصْداءَ سابِغَة ٍ تَرُدُّ حَدَّ المَنايا وهْوَ مَفْلُولُ
وَكلِّ أَبْتَرَ لِلْحَقِّ المُبِينِ بهِ وللضلالة ِ تعديلٌ وتمييلُ
لم تبقِ للشركِ من قلبٍ ولا سببٍ إلاَّ غَدَا وَهْوَ مَتبُولٌ وَمَبْتُولُ
وَيَوْمُ بَدْرٍ إذِ الإسلامُ قد طَلَعَتْ به بُدُوراً لها بالنصْرِ تَكميلُ
سيءتْ بما سرنا الكُفَّار منه وقد أفنى سراتهمُ أسرٌ وتقتيلُ
كأنَّما هُوَ عُرْسٌ فيه قد جُلِيَتْ على الظبا والقنا روسٌ مفاصيلُ
والخَيْلُ تَرْقُصُ زَهْواً بالكُماة ِ وما غيرَ السيوفِ بأيديهمْ مناديلُ
ولا مُهُورَ سِوَى الأرْوَاحَ تَقْبَلُها الْبِيـ ـضُ البهاتيرُ والسُّمْرُ العطابيلُ
فلوْ تَرَى كلَّ عُضْوٍ مِنْ كماتِهِمُ مُفَصَّلاً وهْوَ مَكفُوفٌ ومَشْلولُ
وكلُّ بيْتٍ حَكى بَيْتَ العَرُوضِ لهُ بالبِيضِ والسُّمْرِ تَقْطِيعٌ وتَفْصِيلُ
وداخلتْ بالردى أجزاءهم عللٌ غدا المرفَّلُ منهاوهوَ مجزولُ
وَكلُّ ذِي تِرَة ٍ تَغْلِي مَراجلُهُ غَدا يُقادُ ذَليلاً وهْوَ مَغلول
وكلُّ جرحٍ بجسمٍ يستهلُّ دماً كأنهُ مبسمٌ بالرَّاحِ معلولُ
وعاطلٌ مِنْ سلاحٍ قد غدَا ولهُ أساورُ من حديدٍ أو خلاخيلُ
والأرضُ مِنْ جُثَثِ القَتْلَى مُجَلَّلَة ٌ والتُّرْبُ مِنْ أَدْمُعِ الأحياءِ مَبْلولُ
غَصَّتْ قلوبٌ كما غصَّ القليبُ بهم فللأسى فيهمُ والنارِ تأكيلُ
فأصْبَحَ البِئْرُ إذْ أَهْلُ البَوارِ به مِثْلُ الوَطيسِ بهِ جُزْرٌ رَعابيلُ
وأصبحتْ أِّيماتٍ محصناتُهُمُ وأمهاتُهُمُ وهي المثاكيلُ
لاتمسكُ الدمعَ من حزنٍ عيونهمُ إلاَّ كما يمسكُ الماءَ الغرابيلُ
وصارَ فَقْرُهُم لِلمسلِمينَ غِنَى وفي المَصائِبِ تَفْوِيتٌ وتَحْصِيلُ
ورَدَّ أَوْجُهَهُمْ سُوداً وأعْيُنَهُمْ بِيضاً مِنَ الله تَنكيدٌ وتَنْكِيلُ
سالتْ وساءتْ عُيونٌ منهمُ مَثَلاً كَأنَّما كلُّها بالشَّوْكِ مَسْمُولُ
أبْغِضْ بها مُقَلاً قد أشْبهَتْ لَبَناً طفا الذبابُ عليهِ وهو ممقولُ
ويومَ عَمَّ قلوبَ المسلمينَ أسى ً بِفَقْدِ عَمِّكَ والمَفْقُودُ مَجْذُولُ
ونال إحدى الثنايا الكَسْرُ في أحدٍ وجاءَ يَجْبُرُ منها الكَسْرَ جِبْرِيلُ
وفي مواطنَ شتى كم أتاكَ بها نَصْرٌ مِنَ الله مَضْمُونٌ ومَكْفُولُ
ومَلَّكَتْ يَدَاكَ الْيُمْنَى مَلائكَة ٌ غُرٌ كرامٌ وأبطالٌ بهاليلُ
يُسارِعُونَ إذا نَادَيْتَهُمْ لِوَغَى إنَّ الكرامَ إذا نودوا هذاليلُ
مِنْ كُلِّ نِضْوٍ نُحولٍ ما يزالُ به إلى المكارمِ جدٌّ وهو مهزولُ
بنانهُ بدمِ الأبطالِ مختضبٌ
آلَ النبي بمنْ أو ما أشبهكم لقد تعَذَّرَ تشبيهٌ وتمثيلُ
وهل سبيلٌ إلى مدحٍ يكون به لأهْلِ بَيْتِ رَسولِ الله تَأْهِيلُ
يا قَوْمِ بايَعْتُكُمْ أَنْ لا شَبِيهَ لَكُمْ مِنَ الوَرَى فاسْتقِيلوا البَيْعَ أوْ قِيلُوا
جاءت على تلو آياتِ النبي لهم دلائلٌ هي للتاريخِ تذييلُ
مَعاشِرٌ ما رَضُوا إنِّي لَمُبْتَهِجٌ بهِمْ وما سَخِطُوا إنِّي لمَثْكُولُ
وإنَّ من باع في الدنيا محبتهم مبغضهُ اللهَ في الأخرى لمرذولُ
وحسبُ من نكلتْ عنهمْ خواطرهُ إنْ ماتَ أو عاشَ تنكيلٌ وتثكيلُ
إنَّ المَوَدَّة َ في قُرْبَى النبيِّ غِنى ً لا يَسْتَمِيلُ فُؤَادي عنهُ تَمْوِيلُ
وكَمْ لأصْحَابِهِ الغُرِّ الكِرامِ يَدٌ عِنْدَ الإلهِ لها في الفضلِ تَخْوِيل
قومٌ لهمْ في الوغى من خوفِ ربهمُ حسنُ ابتلاءٍ وفي الطاعاتِ تبتيلُ
كأنهمْ في محاريبِ ملائكة ٌ وفي حُروبِ أعادِيهمْ رَآبِيلُ
حَكَى العَباءة َ قَلْبي حينَ كانَ بها لِلآلِ تَغْطِيَة ٌ والصَّحْبِ تَخْليل
وَلِي فُؤَادٌ ونُطْقٌ بالوِدادِ لَهمْ وبالمَدائحِ مَشغوفٌ ومَشْغولُ
فإن ظننتُ بهم ختلاً لبعضهمُ إني إذنْ بِغُرورِ النفْس مَخْتُول
أ~مة ُ الدينِ كلٌَ في محاولة ٍ إلى صوابِ اجتهادٍ منه مَوْكُولُ
لِيَقْضيَ الله أَمْراً كانَ قَدَّرَهُ وكُلُّ ما قَدَّرَ الرّحْمنُ مفعُولُ
حسبي إذا ما منحتُ المصطفى مدحي في الحشرِ تزكية ٌ منهُ وتعديلُ
مَدْحٌ بهِ ثَقُلَتْ ميزانُ قائلِهِ وخَفَّ عنهُ من الأوزارِ تثقيلُ
وكيفَ تَأْبَى جَنَى أَوْصافِهِ هِمَمٌ يروقها من قطوفِ العزِّ تذليلُ
وليس يدركُ أدنى وصفهِ بشرٌ أيقطعُ الأرضَ ساعٍ وهو مكبولُ
كُلُّ الفَصاحَة ِ عِيٌّ في مَناقِبِهِ إذا تَفَكَّرْتَ والتَّكْثِيرُ تَقْلِيلُ
لو أجمعَ الخلقُ أن يحصوا محاسنهُ أَعْيَتْهُمُ جُمْلَة ٌ منها وتَفْصِيلُ
عُذْراً إليك رسولَ الله مِنْ كَلِمي إنَّ الكريمَ لديهِ العُذْرُ مقبولُ
إنْ لَمْ يكنْ مَنْطِقِي في طيبِهِ عَسَلاً فإنه بمديحي فيكَ مَعْسُولُ
ها حُلَّة ً بخِلاَلٍ منكَ قد رُقِمَتْ مافي محاسنها للعيبِ تخليلُ
جاءت بحبى وتصديقي إليكَ وما حبيِّ مشوبٌ ولا التصديقُ مدخولُ
ألبستها منك حُسناً فازدهتْ شرفاً بها الخواطرُ منا والمناويلُ
لم أنتحلها ولم أغصبْ معانيها وَغيرُ مَدْحِكَ مَغصوبٌ ومَنْحُولٌ
ومَا على قَوْلِ كعْبٍ أَنْ تُوازِنَهُ فَرُبَّمَا وَازَنَ الدُّرَّ المَثَاقيلُ
وهلْ تعادلهُ حُسناً ومنطقها عن منطق العربِ العرباء معدولُ
وَحَيْثُ كُنَّا معاً نَرْمِي إلى غَرَضٍ فحبذا ناضلٌ منا ومنضولُ
إن أقفُ آثارهُ إني الغداة َ بها على طريق نجاحٍ منك مدلولُ
لمَّا غفرتَ له ذنباً وصنتُ دماً لولا ذِمامُكَ أَضْحى وَهْوَ مَطْلولُ
رَجَوْتُ غُفْرانَ ذَنْبٍ مُوجِبٍ تَلَفِي لهُ منَ النَّفْسِ إملاءُ وَتَسْوِيلُ
وليسَ غيرَكَ لِي مَوْلى ً أؤَمِّلُهُ بَعْدَ الإلَهِ وَحَسْبِي مِنْكَ تَأْمِيلُ
ولي فُؤَادُ مُحِبِّ ليسَ يُقْنِعُهُ غيرُ اللقاءِ ولا يشفيهِ تعليلُ
يميلُ بي لك شوقاً أو يخيل لي كأنما بيننا من شُقة ٍ ميلُ
يهمُّ بالسعيِّ والأقدارُ تمسكهُ وكيفَ يعدوُ جوادٌ وهو مشكولُ
مَتَى تَجُوبُ رسولَ الله نَحْوَكَ بِي تِلْكَ الجِبالَ نَجِيبَاتٌ مَراسِيلُ
فأَنْثنِي وَيَدي بالفَوْزِ ظافِرَة ٌ وثوبُ ذنبي من الآثامِ مغسولُ
في مَعْشَرٍ أَخْلصوا لله دِينَهُمُ وفَوَّضُوا إنْ هُمُ نالوا وإنْ نِيلُوا
شُعْثٍ لهُمْ مِنْ ثَرَى البَيْتِ الذي شَرُفَتْ به النبيُّون تطييبٌ وتكحيلُ
مُحَلِّقي أَرْؤُسٍ زِيدَتْ وجُوهُهُمْ حسناً بهِ فكأنَّ الحلقَ ترجيلُ
قد رَحب البيتُ شَوْقاً وَالمقَامُ بهمْ والحِجْرُ والحَجَرُ الملْثُومُ والميلُ
نذرتُ إن جمعتْ شملي ببابكَ أوْ شَفَتْ فُؤَادِي بِهِ قَوْداءُ شِمْلِيلُ
ألُّ من طيبة ٍ بالدمعِ طيبَ ثرى ً لِغُلَّتي وغَلِيلي منه تَبْلِيل
دامَتْ عليكَ صلاة ُ الله يَكْفَلُها مِنَ المهَيْمِن إبلاغٌ وتَوْصِيلُ
ما لاحَ ضوء صباحٍ فاشتسرّبه( ) من الكواكبِ قنديلٌ فقنديلُ
وإنتقد بعضهم عدداً من أبيات بردة البوصيري، ونعتوها بالغلو، ودافع عنها قوم وأثبتوا خلوها من الغلو وسميت بالبردة لأن صاحبها ألقاها في المنام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ألقى بردته على كعب بن زهير في اليقظة فأنه ألقاها على البوصيري بالمنام وقيل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاركه في نظمها وأنه كان يتمايل عند سماعها فلما بلغ البوصيري قوله : فمبلغ العلم فيه أنه بشر توقف، فأضاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه خير خلق الله كلهم، ولم يثبت هذا القول .
ويفيد قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] وجوهاً :
الأول : إنه من رحمة الله في الدنيا بالمسلمين لما فيه من مصاديق الرأفة بهم.
الثاني : إنه من رحمة الله عز وجل بالذين كفروا إذ أنه برزخ دون تماديهم بالغي والطغيان , وإسرافهم في إيذاء المسلمين .
الثالث : إنه رحمة بعموم الناس في الحياة الدنيا، لما فيه من الإعجاز الظاهر في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكيف يصرف الله عز وجل عن المسلمين البلاء ويدفع عنهم كيد الذين كفروا.
الرابع : إنه من رحمة الله بالمسلمين في الآخرة لما فيه من الأجر والثواب.
لينال المسلمون الأجر والثواب على الأذى الذي لاقوه، وعلى الضرر الذي صرفه الله عز وجل عنهم فان قلت لايدل قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] على وجود ضرر في الأصل وأن الله قد محاه.
فقد يكون الأصل هو الأذى وحده فيأذن الله عز وجل بتوجهه إلى المسلمين، وقد يكون هناك ضرر فيمحوه الله.
وجاءت الآية وعد من عند الله عز وجل بأن الذين كفروا وإن إجتهدوا بالإضرار بالمسلمين فلا يرقى أذاهم إلى الضرر، بالإضافة إلى مسألة وهي أن الذين كفروا لايرضون بالأذى، ولا يبغون الإضرار بالمسلمين .
وهل منع الكفار من الإضرار بالإسلام سبب لرحمتهم في الآخرة، الجواب لا، إنما يؤخذون بأشد الأحوال، ليمنعوا في الدنيا من بلوغ غاياتهم الخبيثة ويلاقوا العذاب في الآخرة، قال تعالى[وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ]( )، ويترشح عن صرف الضرر عن المسلمين الحسرة في نفوس الذين كفروا وهو من الكبت والخيبة الواردة في قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
إن آيات المرادعة والصفح والإمهال من رحمة الله عز وجل، قال سبحانه [قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ]( ).
وسيبقى قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]باباً للرحمة والمغفرة والتدارك، وتجلي المعجزات للمسلمين والذين كفروا والناس جميعاً، بأن يتبدد أثر كيد الذين كفروا ويذهب هباء بأسباب خارقة للعادة .
وعن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ان الله يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار وبالنهار ليتوب مسئ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ( ).
لو دار الأمر بين نسخ قوله تعالى[لن يضروكم الا أذى] وبين بقائه بشارة للمسلمين بالسلامة من الضرر في عقيدتهم وأشخاصهم ودولتهم ومعاناتهم فان البشارة هي نعمة عظمى غير منسوخة لأنها فضل متجدد من عند الله عز وجل , فلو أجتمع الكفار فانهم يعجزون عن الإضرار بالمسلمين .
ونزل قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، في زمان يتناجى فيه الذين كفروا بمحاربة الإسلام، والإستهزاء بآيات القرآن، وكان المسلمون قلة بالنسبة لهم ، لذا وصفهم الله عز وجل بأنهم أذلة واستجاب لهم دعاءهم وأنزل عليهم النصر في معركة بدر، قال تعالى[فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
لقد دخل المسلمون الإسلام واتبعوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وهم يعلمون بحال الضعف التي هم عليها، وشدة بطش عدوهم، وإصرار الكفار على الإضرار بهم، فتفضل الله عز وجل وخفف عنهم بالبشارة في هذه الآية، وهل ينقطع موضوعها بالنسخ على فرض القول به ، الجواب لا .
فمن إعجاز القرآن تجدد موضوع كل آية من آياته ليكون رابطاً بين عالم الشهود وعالم الغيب يجعل المسلمين يشعرون بالغبطة ويستحضرون عالم الآخرة في الوجود الذهني , ويسعون لمنازل الكرامة فيها بالعمل الصالح في الدنيا .
وتقدير الآية بهذا اللحاظ على وجوه :
الأول : لن يضروكم إلا أذى فاجتهدوا في اكتناز الحسنات.
الثاني : لن يضروكم إلا أذى فاقيموا الفرائض وأمروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر، لذا جاءت آية البحث بعد آية (كنتم خير أمة) ( )، والتي تتضمن الثناء على المسلمين لقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتخاذهم له جلباباً في الدنيا .
وقد يتبادر إلى الذهن أن موضوع قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] هو خصوص ميادين القتال، والملاقاة في ساحات الوغى مع الذين كفروا، فتفضل الله عز وجل وأخبر في ذات الآية عن حال القتال بين المسلمين والذين كفروا، وهو أنهم ينهزمون عند اللقاء، وتمام الآية الكريمة هو [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ] ( )، وفيه مسائل :
الأولى : الآية من عطف الخاص على العام، فانتفاء مجئ الضرر من الذين كفروا للمسلمين مطلق في حال الحرب والسلم، والذي إبتدأت به آية البحث، ثم عطف عليه الإخبار عن حال القتال.
الثانية : إخبار الآية الكريمة عن إنتفاء الضرر عن المسلمين على نحو القانون الدائم والمستديم سواء عند حلول الموادعة أو الحرب، أو في الحضر والسفر .
وقد يخشى المسلمون على أفراد منهم يعيشون بين ظهراني الذين كفروا وفي ظل دولتهم ، فجاءت الآية مطلقة في بشاراتها لذا فهي غير منسوخة بلحاظ إستدامة موضوعها، وهي خير محض، ويترشح عنها الخير والنفع على نحو دائم .
الثالثة : جاء موضوع القتال في الآية على نحو الجملة الشرطية، (وان يقاتلوكم) وورد جواب الشرط بما يفيد الإخبار عن فرارهم أمام المسلمين.
وجاءت الآية السابقة لآية البحث بالثناء على المسلمين من جهات :
الأولى : إخبار الآية بأن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثانية : تفضل الله عز وجل بجعل المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ].
الثالثة : البيان والتحدي والدعوة للناس جميعاً للتدبر في خصال المسلمين التي جعلتهم يرتقون لمنزلة [خَيْرَ أُمَّةٍ]وقد ذكرت ذات الآية السابقة شطراً منها :
الأول : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف وما هو خير وصلاح .
الثاني : إجتهاد المسلمين بالنهي عن المنكر ، والزجر عن القبيح ،وهل يصدق على كل مسلم ومسلمة أنهما يأمران بالمعروف وينهيان عن المنكر , أم أن القدر المتيقن من الآية الأمر الكفائي ، وقيام طائفة من المسلمين بهذا الأمر والنهي لقوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
والمختار هو الأول وأن كان كل مسلم ومسلمة يأمران بالمعروف وينهيان عن المنكر باللسان وفعل الطاعات .
ولا تعارض بين الإطلاق الوارد في آية [خَيْرَ أُمَّةٍ] وبين الأمر الوارد في الآية أعلاه ، وكل منهما ورد في سورة آل عمران وليس بينهما إلا خمس آيات .
الثالث : إيمان المسلمين بالله عز وجل وإقرارهم بالتوحيد ، وتأخر موضوع الإيمان في آية البحث لبيان أن أفعال المسلمين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر يأتيان عن قصد القربة وطاعة لله عز وجل ورجاء الأجر والثواب من عنده سبحانه، وليكون تقدير الآية على وجوه :
أولاً : كنتم خير أمة تؤمنون بالله ، ليكون الإيمان علة وسبباً لنيل المسلمين هذه المرتبة العظيمة ، ومن الإعجاز في آيات القرآن أن كل واحدة منها تدعو إلى الإيمان ، وترغب فيه ، وتبين أنه حاجة .
ثانياً : كنتم خير أمة أخرجت للناس تؤمنون بالله فما أبهى حلة الإيمان الزاهية التي يخرج بها المسلمون لأهل الأرض .
وكأن قوله تعالى [خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ] ( ) أي زينة الإيمان وأن حضور المسلمين إلى المسجد لأداء الصلاة هو من زينة الإيمان ، ومن خروجهم إلى الناس بلباس الإيمان وعمارة المساجد .
ترى لماذا لم تقل الآية (تؤمن بالله ) بلحاظ تعلق الفعل بالأمة الجواب من إعجاز الآية ورود لفظ ( تؤمنون ) لإرادة إنحلال اللفظ وشموله لكل مسلم ومسلمة ، ولو قالت الآية ( تؤمن بالله ) لأنصرف المعنى إلى الإجمال ،ولكن الآية تخاطب كل مسلم ومسلمة وتشهد لهما بالإيمان ،وهو من فضل الله عز وجل وأنه يعطي بالأتم والأوفى ، وفي الآية حرب على النفاق وزجر عنه .
ثالثاً : كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف ) لبيان أن نيل المسلمين لمرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ] بأيمانهم بالله ، وبأمرهم بالمعروف ، ليكون معنى الجمع أعلاه على جهات :
الأولى : كنتم خير أمة ، ولابد أن تقوم خير أمة بالأمر بالمعروف.
الثانية : كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف فيما بينكم .
الثالثة : كنتم خير أمة ومن خصائص خير أمة أمر الناس بالمعروف .
الرابعة : كنتم خير أمة لأنكم تأمرون بالمعروف ، لبيان قانون وهو أن الأمر بالمعروف نوع طريق لنيل أسمى المراتب بين الناس لأنه خير محض وسبيل لتهذيب النفوس وإصلاح المجتمعات .
الخامسة : كنتم خير أمة لسعيكم للمراتب العالية يوم القيامة بالأمر بالمعروف .
السادسة : لأنكم تقومون بالأمر بالمعروف فقد فزتم بنيل مرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ] .
السابعة : كنتم خير أمة فتعاهدوا الأمر بالمعروف .
رابعاً : كنتم خير أمة تنهون عن المنكر .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء ليكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طريقاً للتوفيق فيها ، ومانعاً من الوقوع في المعصية وإرتكاب الرذيلة .
(عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم : خذوا العطاء ما كان عطاء ، فإذا كان رشوة عن دينكم فلا تأخذوه ، ولن تتركوه يمنعكم من ذلك الفقر والمخافة ، إن بني يأجوج قد جاؤوا ، وإن رحى الإسلام ستدور ، فحيث ما دار القرآن فدوروا به ، يوشك السلطان والقرآن أن يقتتلا ويتفرقا ، إنه سيكون عليكم ملوك يحكمون لكم بحكم ولهم بغيره ، فإن أطعتموهم أضلوكم ، وإن عصيتموهم قتلوكم .
قالوا : يا رسول الله فكيف بنا ان أدركنا ذلك؟ قال : تكونون كأصحاب عيسى ، نشروا بالمناشير ، ورفعوا على الخشب ، موت في طاعة خير من حياة في معصية ، إن أول ما كان نقص في بني إسرائيل أنهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر شبه التعزير ، فكان أحدهم إذا لقي صاحبه الذي كان يعيب عليه آكله وشاربه كأنه لم يعب عليه شيئاً ، فلعنهم الله على لسان داود ، وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون .
والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليسلطنَّ الله عليكم شراركم ، ثم ليدعون خياركم فلا يستجاب لكم ، والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ، ولتنهن عن المنكر ، ولتأخذن على يد الظالم فلتأطرنه عليه اطراً ، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ) ( ).
خامساً : من خصائص ( خير أمة ) أنها تنهى عن المنكر ويدل هذا النهي بالدلالة التضمنية على تنزه المسلمين عن المنكر ، فان قلت من المسلمين من يفعل المعاصي .
الجواب جاءت آية [خَيْرَ أُمَّةٍ]لمنعه من المعصية ، وكذا جاءت آية البحث لتخبره بإكرام الله عز وجل له بالسلامة والأمن من الضرر الذي يأتي من الذين كفروا ولزوم شكر الله عز وجل على هذه النعمة بالتنزه عن المعصية ، وقد تفضل الله عز وجل بالآيات التي ترغب بالتوبة والإنابة .
ومن الإعجاز في الصلاة اليومية وجوب التلاوة فيها ، ومنها قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) ليكون كل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مصاديق هذا الصراط ، وكذا التوبة والإنابة ، قال تعالى [فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
سادساً : صرتم خير أمة لأنكم تؤمنون بالله) لبيان أن الإيمان بالله عز وجل علة الإرتقاء في مراتب التفضيل، وهو الواقية من ضرر الذين كفروا، وهو من مصاديق قوله تعالى[أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا]( )، وفيه بيان لتخفيف ضرر الكفار عن المسلمين، بأن تجعلهم الآية السابقة يميلون إلى الإيمان، ويدركون الضرر المصاحب للشرك والمترشح عنه في النشأتين .
ومن الشواهد على أن قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] غير منسوخ أنه باعث للمسلمين على العمل وتعظيم شعائر الله، من غير خشية من القوم الظالمين، ولا يعني هذا إنتفاء الحيطة والحذر لصرف الضرر والأذى.
والذي قال بنسخ آية البحث ذكر أنها منسوخة بآية [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ]( )، ولكن لا تعارض بين الآيتين، ويمكن الجمع بينهما، ويسبب القتال الأذى والضرر، نعم قد يقال أن القتال يمنع من تجدد ضرر الذين كفروا، قال تعالى[وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ).
وأختلف في أوان وموضوع نزول قوله تعالى[قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] قال مجاهد : نزلت هذه الآية حين أمر رسول الله صلى الله عليه وآله سلم بحرب الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك.
وقال الكلبي : نزلت في قريظة والنضير من اليهود واراد رسول الله صلى الله عليه وسلم (أخذ الجزية فأنزل الله) عز وجل : {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ واليوم الآخر} ( ).
ومما قيل أنه منسوخ قوله تعالى[لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ]( )، قيل نسخها قوله تعالى[قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ..]( )، وتتضمن الآية الإعجاز بالإخبار عن المغيبات وأن المسلمين سيلاقون الأذى والإبتلاء في النفوس وفي الأموال، بما يتضمن النقصان فيها كماً وكيفاً وقيمة، وهو من وجوه الإختيار والإمتحان .
كما يبتلى المسلمون في أنفسهم بالأوجاع والأمراض والجراحات والقتل، لقد ذكرت الآية وجوهاً من الإبتلاء هي :
الأول : النقص أو التلف في الأموال، ومنها تعطيل الزراعات والإنشغال عن المكاسب والتجارات.
الثاني : الإمتحان بالنفوس بالكلوم وزهوق الأرواح، وهل منه المرابطة في الثغور , الجواب نعم، لما فيها من تعطيل الأعمال ومن الأذى، وهو من مصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] وعدم نسخ هذه الآية، لأن المرابطة في الثغور مستمرة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا]( )، ليكون من معاني إمتناع الضرر عن المسلمين يقظتهم وحذرهم ومرابطتهم في الثغور وعجز العدو عن مباغتتهم من الأطراف، وأما الضرر فيأتي بالإقامة في الثغور وفراق الأهل تعطيل الأعمال مدته ، وما قد يحدث في المرابطة من المواجهات الفردية .
الثالث : تلقي الأذى من أهل الكتاب بقيام بعضهم بالجدال والمغالطة وإثارة الشك بآيات القرآن ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصيرورته سبباً لتجرأ المنافقين والذين كفروا على الإسلام والمسلمين .
وموضوع النسخ في الآية هو قوله تعالى[وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] بلحاظ أن الصبر في المقام من الموادعة , ولا دليل عليه لأن الصبر محبوب بذاته، وهو مقترن بالإيمان، ومصاحب للمسلمين في حياتهم الدنيا، وفيه الأجر والثواب لذا وصفت الآية كلاً من الصبر والتقوى بأنها من عزائم الأمور ، قال تعالى[فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ]( ).
.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
التاريخ: 5/7/2016

م/ ثبوت رؤية هلال شوال 1437هـ
الحمد لله الذي جعل الآيات الكونية مواقيت للعبادات والفرائض التي يؤديها المسلمون، وهو من الشواهد على كونهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] فقد كان شطر من الناس يعبدون القمر , ليأتي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن , ويبين تفضل الله عز وجل بتسخير القمر للمسلمين في صيامهم وفطرهم وأدائهم الحج , وفي المعاملات والديون والعدة , ليتعاهدوا سنن التوحيد في الأرض، ويتطلعوا إلى الهلال في رأس كل شهر، وهو من الشواهد على عدم كفاية الحساب الفلكي حتى الدقيق , بالإستدلال الإني من المعلول إلى العلة، وإن كان لا يفيد اليقين في علم المنطق، ولكن آيات القرآن والسنة النبوية دليل يترشح عنه القطع في المقام.
وقد ثبتت في هذه الليلة ليلة الأربعاء 6/7/2016 رؤية هلال شهر شوال لسنة 1437 بالعين المجردة , ويكون يوم الأربعاء هو أيام شهر شوال، ويطل علينا بالأحزان والغصة نتيجة التفجيرات العشوائية الإجرامية في بغداد حيث سقط مئات الشهداء , وكذا في غيرها من المناطق والمدن .
نعزي العالم الإسلامي وذوي الشهداء، ونسأل الله عز وجل الأمن والأمان , وإتحاد وتآلف المسلمين , قال تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]. ونسأل الله عز وجل أن يجعل أجر الصائمين الذين يخشون التفجير والإرهاب مضاعفاً .
وعن الإمام علي عليه السلام قال : ليس العيد من لبس الجديد، إنما العيد لمن آمن بالوعيد.
وقد تم في هذه الليلة بفيض من الله تأليفي ومراجعتي للجزء السادس والثلاثين بعد المائة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) إذ يتضمن تفسير قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ونطبعه على نفقتنا الخاصة مع أنه من أفضل موارد الخمس والحقوق الشرعية والحمد لله الذي بيده مقاليد الأمور كلها.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn