معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 145

المقدمــــة
الحمد لله بديع السموات والأرض حمداً كثيراً دائماً متصلاً ، الحمد لله الذي يستجلب كل خير ومحبوب بسؤاله واستغفاره , والتوكل عليه .
الحمد لله الذي يدفع عنا كل مكروه وبلاء ، وقد تفضل سبحانه وأنزل قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) للبشارة والأمل ورجاء إستدامة الغبطة .
الحمد لله الذي جعل الدعاء سلاحاً , وأمراً ميسراً لكل إنسان يلتقي به عامة الناس مع الأنبياء بقصد القربة إلى الله ، (عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء {الحمد لله}) ( ).
الحمد لله الذي بعث النبي محمداً على فترة من الرسل [بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( ) وصلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين وسلم تسليماً .
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار وعاءً زمانياً متصلاً لتلاوة القرآن وتفضل بطرد الغفلة عن تلاوته بوجوب الصلاة اليومية المتعددة على كل مسلم ومسلمة .
وذكرت قاعدة علم الأصول وهي (ما من عام إلا وقد خص)ولا أصل لهذه القاعدة في علم الكلام ومضامين المشيئة الإلهية مطلقة إلا ما ورد دليل خاص به .
وأكثر عمومات القرآن مطلقة لا يستثنى فرد منها ، كما في قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) [إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ]( ) و[وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( )و[وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ]( )
والحمد لله الذي أنار سبل الهداية وقرّب العباد إلى مقامات الإيمان , وأصلح من شاء إلى الهدى وسلّم التقوى .
الحمد لله الذي أنعم علينا بهذا السفر من التفسير الذي هو نعمة عظمى بأجزائه المتتالية ومضامينه القدسية .
الحمد لله [الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ] ( ) وتفضل عز وجل وجعل القراءة والكتابة من خصائص الإنسان في خلافته في الأرض لبيان علو مرتبته بين الخلائق ، ولتكون هذه النعمة مقدمة ونوع طريق لتوثيق التنزيل والإحاطة به علماً وتلاوة المسلمين لآيات القرآن في الصلاة كل يوم من غير تحريف أو تبديل , وسيأتي في الجزء التالي من هذا السفر وهو السادس والأربعون بعد المائة قانون ماذا يتوارث المسلمون من القرآن .
ولابد من تشريع قوانين وعلوم خاصة بالصلة بين فضل الله بتعلم الإنسان وبين حفظ القرآن رسماً وتلاوة ومضامين قدسية ، لتكون القراءة والكتابة مجتمعتين ومتفرقتين من مصاديق كل من الحفظ ومعاني الرحمة في قوله تعالى [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ( ).
وعندما إحتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )وعلة الإحتجاج هي إفساده في الأرض وقتله النفس التي حرّم الله أجابهم الله سبحانه [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
ومن علم الله عز وجل صيرورة القراءة والكتابة وسيلة لحفظ التنزيل والعمل بأحكامه ، وحفظ ذات إحتجاج الملائكة أعلاه وإقامة الله الحجة عليهم بالقرآن وهو الكتاب السماوي الخالد إلى يوم القيامة ، ويتجلى خلوده بمشيئة وفضل من الله من وجوه كثيرة دائمة ومتجددة منها :
الأول : الإعجاز الذاتي والبلاغي للقرآن .
الثاني : بيان القرآن لأحكام الشريعة .
الثالث : قانون @حاجة الناس لآيات القرآن .
الرابع : قانون @وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة اليومية كل يوم ، وليس من حصر لمنافع هذه التلاوة , وفيها تعاهد لآيات وسور القرآن، وواقية من تحريفه وحرز من ضياعه .
الخامس : القرآن مائدة السماء التي تفضل الله عز وجل بها على الناس جميعاً .
السادس : ما تبعثه تلاوة القرآن من الطمأنينة في النفس ، وتغشي حال الرضا الجوارح والأركان ، وهل يختص هذا الأمر بالتلاوة أم يشمل الإشتغال بعلوم وتأويل القرآن ورشحات آياته , الجواب هو الثاني , وكل فرد منها روضة من رياض الجنان .
السابع : الثواب العظيم في تلاوة آيات القرآن ، وقد وردت نصوص كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويبين فيها ثواب قراءة القرآن ، ويندب المسلمين إلى تهذيب النفوس بتلاوة القرآن ، وعن الإمام الرضا عليه السلام يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ( اجعلوا لبيوتكم نصيبا من القرآن، فان البيت إذا قرء فيه يسر على أهله، وكثر خيره، وكان سكانه في زيادة، وإذا لم يقرأ فيه القرآن ضيق على أهله، وقل خيره، وكان سكانه في نقصان) ( ).
ومن الإعجاز في المقام الإلتفات والإنتقال من خطاب المسلمين ووعدهم بالحشر والجمع إلى الله عز وجل في الآية السابقة إلى الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع تعلق موضوعه بذات المسلمين وبما فيه تخفيف عنهم ، لبيان قانون وهو تعدد وجوه التخفيف عن المسلمين في الدنيا والآخرة ، فوفود المسلمين على الله عز وجل نعمة عظمى ثم أخبرت آية البحث عن لين ورفق ورأفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين ، وذات الإخبار في آية البحث رحمة ونعمة .
ليكون من وجوه تقدير آية البحث : فبما رحمة من الله أخبر عن لين جانبك للمسلمين )، بتقريب أن ذات الإخبار عن لين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعموم المسلمين والمسلمات رحمة وفضل من الله عز وجل الذي قال في الثناء على نفسه ، وصدق وثبات ودوام إخباره [وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ]( ).
ولو لم تنزل آية البحث هل يلتفت المسلمون والناس إلى رفق ورأفة وحسن سمت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين وكيفية جذبهم إلى أداء الفرائض وجعل التقوى ملكة عندهم , الجواب نعم ، ولكن على نحو الموجبة الجزئية ، بينما جاءت آية البحث للقطع بقانون لين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأكيده , ومنع الجدال والمغالطة فيه، وهل لين ورفق وصفح النبي عمن آذاه من مصاديق البلاغ في قوله تعالى[وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ]( ).
الجواب نعم .
ليكون من إعجاز الآية الغيري إثبات مضامينها القدسية ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن فضاً قاسياً أو شديداً مع المسلمين وفيه حجة عند الأجيال المتعاقبة من المسلمين والناس جميعاً بأن أهل البيت والصحابة لم ينفضوا أو يتفرقوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : لو كان النبي فظاً غليظ القلب لأنفض المسلمون من حوله .
الصغرى : لم ينفض المسلمون من حول النبي .
النتيجة : لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فظاً غليظ القلب .
ومن الإعجاز في آية البحث بيانها للمتعدد من وظائف النبوة وأعباء الرسالة ، وما يختص به المؤمنون من النعم التي تجري على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذاتها لتصبح مقدمة وأصلاً لنعم عديدة متتالية من وجوه :
الأول : لين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين نعمة عظمى أصلح الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معانيها صرف الأذى الذي يأتي من طرف المسلمين أو غيرهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يجعله في مأمن من حال الغيظ والغضب، الجواب نعم ، وفيه بيان لقانون وهو أن موضوع الرحمة في آية البحث أعم من أن يكون من جهة أو طرف واحد ، ولذا نسبت الآية الرحمة إلى الله فلا يقدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو الملائكة التحكم في سلوك وقول وفعل الناس ، ولا يقدر على ضبط أفعال العباد إلا الله عز وجل، وفي التنزيل [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] ( ).
الثاني : عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الفضاضة وأسباب الغضاضة , وتنزهه عن الكدورات والقسوة في تبليغ آيات القرآن وأحكام الحلال والحرام .
وهذه العصمة من مصاديق [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) وأن سيرة وعمل النبي من عمومات سلطان الله وعظيم قدرته ، فأظهر آية من آياته في سلوك النبي , لتطلع عليها وتقتبس منها الأجيال المتعاقبة من الناس .
الثالث : بعث الناس على الإيمان بمعجزة وآية في نفوسهم بحسن سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين والناس عندها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ] ( ) إذ أن لين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل الأحوال، وفي ساعات الرخاء والشدة ، والسلم والحرب ، وأداء العبادات والمناسك ، وحمل الناس على أدائها برغبة وشوق معجزة جلية ، وآية حسية .
شاء الله عز وجل أن تكون عقلية أيضاً ببركة القرآن ، ونزوله ببيان الخصال الحميدة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : إخبار القرآن عن إحاطة العصمة بفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبلوغ صفة النبوة إلى قلبه بأن جعله الله طاهراً زكياً لا يحمل إلا الحسن والإحسان وإرادة الخير المحض ، ليكون شاهداً على التأريخ بصفات الكمال الإنساني التي إرتقى إليها برحمة من الله عز وجل ، ومنهم من قسّم فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قسمين :
الأول : بشري , فيحب ويكره ، ويرضى ويغضب ، ويأكل وينام مع إختصاصه بفيض من الله في هذا الأمر مثل صوم الوصال ، ليومين والليلة التي بينهما أو لثلاثة أيام والليلتين اللتين بينهما .
الثاني : الجانب النبوي وهو خاص بالتبليغ والوحي .
ولا دليل على هذا التقسيم الإستقرائي ، إنما هناك تداخل بينهما وفناء الجانب البشري بالنبوة ، لذا قال الله تعالى [قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً] ( ) لبيان الملازمة بين صفة الرسالة والبشرية ، وقد يستدل على إستقلال جانب البشرية بحديث تأبير النخل وقد تقدم بيانه , وبما ورد (عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إنما أنا بشر ، وإنكم تختصمون إليّ ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه ، فإنما أقطع له قطعة من النار) ( ).
ولكن الحديث إخبار عن حكم النبي بالبينات والأيمان ، ولبناء صرح القضاء وجعل المسلم يخشى الله عز وجل عند الإدعاء والشهادة واليمين ، مع تذكيرهم بالحساب الأخروي .
وتدعو الآية المسلمين والمسلمات للشكر لله تعالى على نعمة أن نبيهم ليس غليظ القلب بمعجزة خارقة للعادة.
لقد جعل الله عز وجل تطهير قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقدمة لولوجه إلى السماء ليلة الإسراء قبل الهجرة النبوية على المدينة ، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا] ( ).
وكان من نواميس وقوانين السماء أنه لا يعرج فيها إلا من هو طاهر القلب نقي السريرة وإذا أنعم الله عز وجل بنعمة فانه أعظم من أن يذهبها أو يمحوها ، فبقت نعمة طهارة قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصاحبة له ، وتفضل الله عز وجل بذكرها في القرآن ، بلين الجانب وحسن العشرة.
وعن أنس بن مالك قال ( كان أبو ذر، ، يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغه في صدري، ثم أطبقه. ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء، فلما جئت إلى السماء الدنيا.
قال جبريل لخازن السماء: افتح.
قال: من هذا؟ قال: جبريل.
قال: هل معك أحد؟
قال: نعم، معي محمد. قال: أرسل إليه؟
قال: نعم.
فلما فتح علونا السماء الدنيا وإذا رجل قاعد على يمينه أَسْوِدَة وعلى يساره أسودة، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى. فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح. قلت: لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم. وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نَسَم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار. فإذا نظر، عن يمينه ضحك، وإذا نظر، عن شماله بكى.) ( ).
وسيأتي التفصيل في باب (النعم التي تذكرها آية البحث ) ( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الرحمة والرأفة بالناس والخلائق كلها لذا وردت البسملة في بداية كل سورة من القرآن باستثناء سورة التوبة لأنها نزلت بلغة الإنذار ، والتخويف والوعيد للذين كفروا فوردت البسملة في ثنايا آيات سورة النمل وحكاية ملكة دولة عظمى وهي بلقيس عن لسان نبي من الأنبياء السابقين بشارة وإنذاراً لملكة اليمن وقومها، كما ورد في التنزيل [قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ) .
لتكون التسمية تركة الأنبياء للمسلمين وليدل تعاهدهم وأجيالهم المتعاقبة لها بقدسية صيغة القرآنية من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )،وهل من موضوعية للبسملة في لين جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتنزهه عن القسوة وغلظة القلب ، الجواب نعم، قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
وتفضل الله عز وجل برحمة خاصة للمسلمين تتجلى برفق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتفكروا برحمة الله ، ويتدبروا فيما يتغشاهم من مصاديقها الخاصة والعامة .
الحمد لله الذي جعل فيوضات علم التفسير من اللامتناهي، ففي كل يوم يدعو القرآن العلماء إلى التحقيق والغوص في بحار تأويل آياته، واستنباط المسائل والدلالات العلمية منه، وتحتمل إفاضات علم التفسير وجوهاً :
الأول : إنه من مصاديق وعمومات قوله تعالى[قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي]( ).
الثاني : إنه من رشحات وبركات مضامين الآية أعلاه .
الثالث : ليس من صلة بين معاني ومضامين الآية أعلاه، ووجوه وأفراد التفسير والتوسع فيه.
والمختار هو الثاني، وكل آية قرآنية خزينة تفيض بالعلوم .
لقد جعل الله عز وجل كلامه بحوراً لا تنفد ودراستها وتدارسها، واستظهار المسائل منها أمراً متصلاً وغير متناه، فهي أصل ليس له حد من طرف الكثرة , وتتفرع عنه العلوم والإفاضات، فلا غرابة أن تجد كل جزء من هذا السِفر (معالم الإيمان في تفسير القرآن) يتضمن قوانين متعددة في أبواب المعارف المختلفة لتكون مدخلاً لإستنباط الذخائر العلمية منخزائن الآية القرآنية .
وصحب سلمان المحمدي رجل ليتعلم منه فانتهى إلى دجلة وهي تطفح، فقال له سلمان : أنزل فاشرب . فشرب ، قال له : ازدد ، فازداد . قال : كم نقصت منها؟ قال : ما عسى أن أنقص من هذه؟ قال سلمان : فكذلك العلم ، تأخذ منه ولا تنقصه( ).
الحمد لله الذي أنزل آية البحث لتخبر أجيال المسلمين والناس عن الخصال الحميدة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتكون هذه الخصال ضياء ينير دروبهم ويصلح حالهم، وينمي عندهم ملكة الأخوة الإيمانية، كما كانت خصاله هذه من بشارة الأنبياء السابقين بنبوته ، فلما تفضل الله عز وجل وقال [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) أنعم عليهم بمقدمات هذه الأخوة ، وتقريبهم إليها وتعاهدهم لمفاهيمها وسننها .
وفي حديث طويل عن ابن اسحاق قال : كان مما أنزل الله على موسى في إخباره عن بني إسرائيل، وفي أحداثهم ما هم فاعلون بعده إلى أن قال : وأوصى الله إلى شعياء النبي: أن أئت ملك بني إسرائيل، فمره أن يوصي وصيته، ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته، واجتهد بالدعاء وتضرع إلى الله.
واسم شعياء في العهد القديم إشعياء بن آموص ومعنى إشعياء: خلاص الرب ، وذكر أنه كان متزوجاً من امرأة تسمى النبية كما في سفر إشعياء , وقيل سميت به لأنها زوجة نبي ، وليس من امرأة بلغت مرتبة النبوة ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى]( ).
وأوحى الله إليه أن يخبر الملك بأن الله إستجاب لدعائه ورأى بكاءه وتضرعه، وقد أخرّ أجله خمس عشرة سنة، فاجتهد بالشكر لله عز وجل إلى أن ذكر ما أوحى الله إلى شعياء ومنه :
ألست أسمع السامعين، وأبصر الناظرين، وأقرب المجيبين، وأرحم الراحمين؟ الآن ذات يدي قلت، كيف ويداي مبسوطتان بالخير، أنفق كيف أشاء، ومفاتيح الخزائن عندي لا يفتحها ولا يغلقها غيري، ألا وإن [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ]( ) إنما يتراحم المتراحمون بفضلها؛ أو لأن البخل يعتريني.
أو لست أكرم الأكرمين والفتاح بالخيرات، أجود من أعطى، وأكرم من سُئل؛ لو أنّ هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة التي نوّرت في قلوبهم فنبذوها، واشتروا بها الدنيا، إذن لأبصروا من حيث أتوا، وإذن لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى العداة لهم.
فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور، ويتقوّون عليه بطعمة الحرام.
وكيف أنوّر صلاتهم، وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادّني، وينتهك محارمي، أم كيف تزكو عندي صدقاتهم وهم يتصدّقون بأموال غيرهم، أو جر عليها أهلها المغصوبين، أم كيف أستجيب لهم دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد، وإنما أستجيب للداعي اللين، وإنما أسمع من قول المستضعف المسكين، وإن من علامة رضاي رضا المساكين.
فلو رحموا المساكين، وقرّبوا الضعفاء، وأنصفوا المظلوم، ونصروا المغصوب، وعدلوا للغائب، وأدّوا إلى الأرملة واليتيم والمسكين، وكلّ ذي حقّ حقه، ثم لو كان ينبغي أن أكلم البشر إذن لكلمتهم، وإذن لكنت نور أبصارهم، وسمع آذانهم، ومعقول قلوبهم، وإذن لدعمت أركانهم، فكنت قوّة أيديهم وأرجلهم، وإذن لثبَّت ألسنتهم وعقولهم.
يقولون لمَّا سمعوا كلامي، وبلغتهم رسالاتي بأنها أقاويل منقولة، وأحاديث متوارثة، وتآليف مما تؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا ، وأن يطلعوا على الغيب بما توحي إليهم الشياطين طلعوا، وكلهم يستخفي بالذي يقول ويسرّ، وهم يعلمون أني أعلم غيب السماوات والأرض، وأعلم ما يبدون وما يكتمون، وإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض قضاء أثبته على نفسي، وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بدّ أنه واقع .
فإن صدقوا بما ينتحلون من علم الغيب، فليخبروك متى أنفذه، أو في أيّ زمان يكون، وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون، فليأتوا بمثل القُدرة التي بها أمضيت، فإني مظهره [عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] ( ) .
وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا ما يشاءون فليؤلِّفوا مثل الحكمة التي أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين، فإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض أن أجعل النبوّة في الأجراء، وأن أحوّل الملك في الرعاء ،قال تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( )، والعزّ في الأذلاء [تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ]( ) ، والقوّة في الضعفاء، والغنى في الفقراء، والثروة في الأقلاء، والمدائن في الفلوات، والآجام في المفاوز، والبردى في الغيطان، والعلم في الجهلة، والحكم في الأميين، فسلهم متى هذا، ومن القائم بهذا، وعلى يد من أسنه، ومن أعوان هذه الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون .
فإني باعث لذلك نبيا أمِّيا، ليس أعمى من عميان، ولا ضالا من ضالِّين، وليس بفظّ ولا غليظ بيان العلامات والخصال الحميدة للنبي، ولا صخاب في الأسواق، ولا متزين بالفُحش، ولا قوّال للخنا.
أسدده لكل جميل، أهب له كلّ خلق كريم، أجعل السكينة لباسه، والبرّ شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والعرف خلقه؛ والعدل والمعروف سيرته، والحقّ شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملَّته، وأحمد اسمه وهو ذات بشارة عيسى عليه السلام بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل حكاية عن عيسى [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( )، أهدي به بعد الضلالة.
وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأشهر به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلَّة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفُرقة، وأؤلِّف به قلوبا مختلفة لبيان بشارة ومصداق لقوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( )، وأهواء مشتتة، وأممًا متفرّقة.
وأجعل أمته [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، توحيدا لي، وإيمانا وإخلاصا بي، يصلون لي قياما وقعودا، وركوعا وسجودا ، يُقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني.
ألهمهم التكبير والتوحيد، والتسبيح والحمد والمدحة، والتمجيد لي في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، يكبرون ويهلِّلون، ويقدّسون على رءوس الأسواق، ويطهرون لي الوجوه والأطراف، ويعقدون الثياب في الأنصاف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم صدورهم، رهبان بالليل، ليوث بالنهار، ذلك فضلي أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم ( ).
لقد تطلع الملائكة لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانتظرت الأجيال من الناس هذه البعثة وبشر بها الأنبياء السابقون .
ومن وجوه البشارة به والتي تبعث السكينة في نفوس أصحاب الأنبياء والتابعين لهم حسن خلق النبي ودلالة هذا الخلق الكريم على صدق نبوته لأنه نوع إعجاز يفوق قدرة البشر في مضمار الصبر والمصابرة .
فجاءت آية البحث مصداقاً لهذه البشارات، وشاهداً على صدق الأنبياء، ومدخلاً كريماً لتثبيت سنن الإيمان في الأرض ، وفيه دعوة لأهل الكتاب وأتباع الأنبياء السابقين للإقرار بنبوته ، قال تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
وهل الصدق والأمانة اللتان يتصف بهما النبي من صغره، وعرف بهما قبل بعثته وإعلانه لها من اللين الذي تذكره آية البحث أم أنهما أمران منفصلان عنها.
الجواب لا تزاحم أو تعارض بين الأمرين، وكل منهما، وكل منهما صحيح، لأن اللين وحسن الخلق عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا ينحصر بالكيفية النفسانية، إنما هو[وَحْيٌ يُوحَى]( )، وحضور للرحمة الإلهية في أخلاق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتجلى باللطف والعبرة والكرم الطاغي، والحلم والصبر الحاضر حتى في ساعة تلقي الأذى.
وعن عبد الله بن مسعود قال: لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم « وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يحكي نبياً من الأنبياء وهو يقول : اللهمَّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون)( ).
وعن عبيد بن عمير قال: إن كان نوح ليضربه قومه حتى يغمى عليه، ثم يفيق فيقول : اهد قومي فإنهم لا يعلمون)( ).
وقد جاءت آيات قرآنية تحث على حسن الخلق وتذم سوء الخلق والظن قال تعالى [وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسم الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ]( ) وقد تفضل الله بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وفي كل منهما أجر عظيم , ووردت أحاديث نبوية عديدة في ذم سوء الخلق , ولزوم إجتنابه .
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام) ( ).
الحمد لله الذي بدأ آية البحث [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ] وهي التاسعة والخمسون بعد المائة الرحمة وشآبيب الرأفة ونسبتها له سبحانه ، فلو قالت الآية : فبما رحمة لنت لهم ، لقيل باحتمال إرادة رحمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين ، ولأن الله عز وجل جعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) فقد شمل البيان ذات آيات القرآن من جهات :
الأولى : التفسير الذاتي للآية القرآنية .
الثانية : تفسير آيات القرآن بعضها لبعض .
الثالثة : البيان المستقرأ من الجمع بين الآية القرآنية والآيات الأخرى سواء المجاورة لها أو غيرها .
الرابعة : تفسير السنة النبوية للآية القرآنية من وجوه :
أولاً : مجئ الوحي بما يفيد تفسير آية قرآنية مخصوصة أو عدة آيات تتحد في الموضوع أو يتعدد موضوعها ويتباين الحكم فيها .
ثانياً : قصد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تفسير آية مخصوصة ، سواء بسؤال من المسلمين أو غيرهم ، أو يقوم بتفسير الآية إبتداء منه .
ثالثاً : قانون @ ملائمة الحديث أو الفعل النبوي لمضامين الآية القرآنية ، ومن الإعجاز في السنة النبوية القولية والفعلية أنها مرآة للقرآن وآياته .
وقد خفّف الله عز وجل على المسلمين وبيّن جهة صدور الرحمة المذكورة في آية البحث وأنها من عنده تعالى .
ترى لماذا لم تقل آية البحث : فبما رحمة نزلت من الله ، الجواب لإرادة تعدد الجهات التي ترد منها رحمة الله عز وجل وحضورها في الحال، وهي سابقة للفعل ومصاحبة له ومتأخرة عنه .
لبيان أن الرحمة في أفعال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سابقة ومصاحبة لها ومتأخرة عنها ، وتتجلى بالوحي .
وهل هذه الرحمة بقوله تعالى[فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ]( ) بمقدار اللين والرفق النبوي أم أكبر منه .
الجواب هو الثاني ، فهي أعم وتدعو المسلمين في كل زمان لينهلوا منها بالذات ومن غير واسطة ، أو من الأفراد التي تجلت في لين وود ورأفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قانون ، وهو أن هذه الرحمة بالذات لم ولن تغادر الأرض ، وهي تتغشى المسلمين والمسلمات ، ويتزودون منها فيتحلون بالخلق الحميد وينبذون أسباب الخصومة ، ويرجعون إليها فيسود الوئام والوفاق بينهم .
وقد ترد الرحمة بالواسطة من الملائكة ومن بين المسلمين أنفسهم وبالشفاعة والذكر ، وصرف الأذى وأسباب الشدة والغضب.
ولتبقى هذه الرحمة متجددة في موضوعها لتنزل منها مصاديق متجددة كل يوم وإلى يوم القيامة للتباين بين العلة وهو الرحمة , والمعلول وهو لين ورفق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين.
الحمد لله المبدئ المعيد، الذي جعل الحياة والموت أمرين وجوديين بيده وحده وفي التنزيل[خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ]( ) .
وقدمت الآية أعلاه الموت لبيان أن العدم الذي سبق الحياة أمر مخلوق من عند الله، وليكون من معاني قوله في الآية السابقة[وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ]( )، أن الموت حياة وهو إنتقال من عالم إلى آخر، وأيقن المسلمون والمسلمات بالموت والحياة من بعده فعملوا وحملوا زادهم، وخافوا الحساب وسألوا العفو من عند الله .
وتضمنت آية البحث أمر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعفو عنهم ليأمن المسلمون في النشأتين، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وقد أنعم الله علينا فصدر الجزء الرابع والأربعون بعد المائة من تفسيرنا للقرآن خاصاً بتفسير الآية أعلاه .
الحمد لله القاهر للخلائق مجتمعة ومتفرقة، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي سبق علمه الوقائع والأحداث , والتي لم تقع إلا بمشيئته وعلمه, وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسوله ، بعثه بمكارم الأخلاق ومنها ما ورد في آية البحث التي إختص بها هذا الجزء المبارك , وهو الخامس والأربعون بعد المائة من(معالم الإيمان في تفسير القرآن) وهي :
الأول : الرفق ولين الجانب , والحرص على تعاهد وإتباع المسلمين له في الأوامر والنواهي التي نزلت عليه من عند الله عز وجل .
الثاني : العفو والصفح عن المسلم الذي يقصر أو يخطأ .
الثالث : إجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسؤال المغفرة والعفو للمسلمين .
ومن أسرار إجتماع عفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المسلمين وإستغفاره لهم بيان قانون وهو حاجة المسلمين والناس إلى عفو الله عنهم ومغفرته لذنوبهم ، وعدم كفاية عفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المسلم لنجاته , فلابد من قيامه بالإستغفار والتوبة ، فتفضل الله عز وجل وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ليستغفر لهم ويسأل الله المغفرة عنهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( )وإستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين باب لقضاء الحوائج ، وهو صفحة مشرقة من عمومات قوله تعالى وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ .
لبيان إعجاز في الآية أعلاه وهو أن المسارعة إلى المغفرة التي تذكرها الآية متعددة على وجوه منها :
أولاً : إستغفار المسلم لنفسه ومبادرته للتوبة والإنابة .
ثانياً : إستغفار المسلم لوالديه في حياتهما وبعد مماتهما ، وهو من مصاديق البر بهما ، وورد في التنزيل حكاية عن نوح [رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ] ( ).
ثالثاً : قيام المسلم بالإستغفار لأخيه المسلم .
رابعاً : مبادرة المسلم للإستغفار لعموم المسلمين .
خامساً : إستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين ، مجتمعين ومتفرقين .
وهل يشمل الإستغفار في الآية إستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأفراد قومه الذين بقوا على الكفر , الجواب لا , إنما يستفاد من دليل آخر .
الرابع : قانون @ مشاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل بيته وأصحابه في أمور الحرب والسلم والصلح والمهادنة لقوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ]( ) ومع أن الأوامر التي تتضمنها آية البحث موجهة من عند الله سبحانه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فانها موعظة وترغيب للمسلمين عامة والحكام منهم خاصة للعمل بها ،وإتخاذها منهاجاً ، لتكون تأديباً للمسلمين وسبباً لإدامة الحياة الدنيا بتعاهد المسلمين لأداء الفرائض والعبادات الذي هو علة خلق الناس ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وكل آية من عند الله مصدر لأفراد غير متناهية من الرحمة ، ويمكن تشريع باب خاص في هذا السفر وهو ( الآية رحمة ).
يضاف إلى الأبواب الثابتة في تفسير كل آية من آيات القرآن في هذا التفسير , وهي:
الأول : الإعراب واللغة .
الثاني : إعجاز الآية .
الثالث : إعجاز الآية الذاتي .
الرابع : إعجاز الآية الغيري .
الخامس : الآية سلاح .
السادس : مفهوم الآية .
السابع : إفاضات الآية
الثامن : الآية لطف .
التاسع : إكرام الآية للمسلمين .
العاشر : الآية بشارة ، قال تعالى [الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ).
الحادي عشر : الآية إنذار ، فان قلت قد ذكر الإنذار في القرآن نحو مائة وعشرين مرة بينما آيات القرآن هي ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية أي أن أكثر آيات القرآن ليس فيها لفظ الإنذار ومادة (نَذر) .
والجواب يتضمن البيان في هذا التفسير دلالة الآية القرآنية على الإنذار سواء في منطوقها أو مفهومها أو حكمها .
الثاني عشر: التفسير الذاتي للآية .
الثالث عشر: الصلة بين أول وآخر الآية .
الرابع عشر: أسباب النزول .
الخامس عشر: من غايات الآية .
السادس عشر: التفسير ، ويتعلق بكل شطر من الآية على نحو مستقل .
السابع عشر: علم المناسبة .
الثامن عشر: بحث بلاغي .
التاسع عشر : بحوث كلامية وأصولية وفقهية ونحوية ومنطقية بحسب الموضوع والحكم .
وقد أنعم الله علينا في هذا الجزء باضافة أبواب من العلوم المستقرأة من الآية القرآنية على نحو العموم الإستغراقي وهي :
العشرون : الآية موعظة , لبيان معاني الإتعاظ والإعتبار التي تتجلى من الآية القرآنية .
الحادي والعشرون : الآية رحمة .
الثاني والعشرون : الحاجة إلى آية البحث .
الثالث والعشرون : النعم التي تذكرها آية البحث .
أي أن تفسير وتأويل كل آية من القرآن يتضمن هذه الوجوه , وأبدأ بها قبل تفسير كل كلمة أو جملة أو شطر من الآية القرآنية , مع أن كل وجه منها مدرسة في تفسير ذات الآية وعلم التفسير مطلقاً .
لقد جعل الله عز وجل الحاجة ملازمة للإنسان في حياته وحواسه ومعاشه وعمله، وبلحاظ كثرة وسرعة الشهيق والزفير وأن إبطاء أحدهما يعني الموت تستقرأ هذه الحاجة وتذكر في هذا السفر الحاجة إلى الآية القرآنية .
ويمكن تقسيم هذه الحاجة بحسب اللحاظ والموضوع كما يأتي في قانون الحاجة إلى الآية القرآنية , وهو مبحث مستقل عن الأبواب أعلاه .

حرر في 19/10/2016
17 محرم الحرام 1437

قوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]الآية 159 .
الإعراب واللغة
وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن زيد وأبي نهيك أنهما قرآ « فإذا عزمت يا محمد على أمر فتوكل على الله ) ( ). والصحيح ما مرسوم في المصاحف .
فبما رحمة من الله : الفاء حرف إستئناف وعطف .
الباء : حرف جر .
ما : زائدة وفق الصناعة النحوية ،وليس من حرف في القرآن إلا وله دلالات متعددة .
رحمة : اسم مجرور بالباء متعلق بـ(لنت).
من الله : جار ومجرور متعلق بمحذوف نعت لرحمة .
لنت لهم : لنت : فعل ماض مبني على السكون.
والتاء : فاعل .
واللام : حرف جر .
هم : ضمير في محل جر متعلق بـ(لنت).
ولو كنت فظاً : الواو حرف عطف .
لو : أداة شرط غير جازمة .
كنت : فعل ماض ناقص مبني على السكون .
التاء : ضمير اسم كان .
فظاً : خبر كان منصوب .
غليظ القلب : غليظ : خبر ثان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره ، وهو مضاف .
القلب : مضاف إليه ، مجرور وعلامة جره الكسرة تحت آخره .
لأنفضوا من حولك : اللام واقعة في جواب لو .
أنفضوا : فعل ماض مبني على الضم .
الواو : فاعل .
من حولك : جار ومجرور متعلق بـ (انفضوا ).
الكاف : ضمير , مضاف إليه .
فاعف عنهم : الفاء رابطة لجواب شرط مقدر ، وتكون للسببية والإستئناف .
اعف : فعل أمر مبني على حذف حرف العلة ، والفاعل ضمير مستتر تقديره (أنت) يعود إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
عنهم : جار ومجرور متعلق بـ (اعف).
وجملة [اعْفُ عَنْهُمْ] لا محل لها جواب شرط مقدر أي حتى وإن قصّروا فأعف عنهم واستغفر لهم .
الواو : حرف عطف .
استغفر : فعل أمر والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت .
لهم : جار ومجرور متعلق بـ (استغفر ).
وشاورهم في الأمر : الواو : حرف عطف ، شاورهم : فعل أمر مبني على السكون ، والفاعل ضمير مستتر تقديره (أنت ) .
في الأمر : جار ومجرور متعلق بـ (شاورهم) .
فاذا عزمت : الفاء حرف عطف .
إذا : ظرف للزمن المستقبل ، يتضمن معنى الشرط في محل نصب .
عزمت : فعل ماض مبني على السكون ، التاء : فاعل .
فتوكل على الله : الفاء رابطة لجواب الشرط .
توكل : فعل أمر مبني على السكون .
على : حرف جر ، لفظ الجلالة : مجرور وعلامة جره الكسرة ، وجملة (توكل) لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم .
إن الله يحب المتوكلين : إن حرف مشبه بالفعل .
ولفظ الجلالة اسم (إن).
يحب : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعة الضمة الظاهرة على آخره ، والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو).
المتوكلين : مفعول به منصوب ، وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم .
وجملة (يحب المتوكلين) في محل رفع خبر (إن).
واللّين : اليسر والسهولة والسماحة سواء في المعاملة أو في الأمر والطلب والإستجابة ، وهل المداهنة والمصانعة من اللين ، الجواب لا ، قال تعالى [وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ] ( ) .
والقدر المتيقن من اللين في آية البحث إتخاذه وسيلة وصيغة لبيان الأحكام من غير تفريط بشطر منها .
وفي مصطلحات القراءة تسمى الواو والياء والألف حروف اللين لقبولها المد .
ومن معاني اللين الإنقياد ، ولكنه خارج بالتخصص عن المقام ، لأن الآية قيدت اللين بالتعدي وأن النبي يلين للمسلمين في كيفية توجيهه الأمر والنهي لهم ، بالإضافة إلى مسألة ومرتبة أخرى وهي أمر الله عز وجل له بأن يشاور المسلمين بعد أن يلين لهم ، فلا ينقاد لهم إنما يشاورهم في الأمور التي يصح التشاور فيها ثم يتوكل على الله بالفعل بما يوحى إليه سبحانه ، ويسمى اللين في الخلق : الدماثة .
(الدمِثُ: اللَّينُ، دَمِثَ يَدْمَثُ دَمَثاً) ( ).
ويقال رجل هيّن لين) وهذا أيضاً خارج عن معنى اللين في الآية ، فليس من وهن أو ضعف إنما هي النبوة والإمامة والرئاسة في أمور الدين والدنيا وجلب المنافع لأتباع التنزيل ، ولكن بلين ولطف لأن الله عز وجل يرحم الناس , ويجعلهم يتلقون الدعوة إلى الله سبحانه بالقبول والرضا .
وضد اللين الصلب والشديد والخشن ، وأصل اللين من صفات الأجسام وأستعير للرفق وحسن العشرة والمعاملة .
والفظ : الشديد الذي يتصف بالقسوة والذي يهاب جانبه في غير مواضع منع الهيبة يقال فظ يفظ من باب تعب فظاظة .
(الغليظُ الجانِبِ، السَّيِّىءُ الخُلُقِ ، القاسِي الخَشِنُ الكلامِ ، فَظٌّ بَيِّنُ الفَظاظَةِ والفِظاظِ، بالكسر ، والفَظَظِ ، محرَّكةً ، وماءُ الكَرِشِ يُعْتَصَرُ ويُشْرَبُ في المَفاوِزِ. وقد فَظَّه وافْتَظَّه عَصَرَه . والفَظيظُ ، كأَميرٍ ماءُ الفَحْلِ أو المرأةِ . والفُظاظَةُ ، بالضم فُعالَةٌ منه ، ومنه قولُ عائشةَ لمَرْوانَ ولكنّ الله لَعَنَ أباكَ وأنتَ في صلْبِه، فأنتَ فُظاظَةٌ من لَعْنَةِ الله. ويُرْوَى فُضُضٌ، وفَظٌّ بَظٌّ إتْباعٌ) ( ).
ويقال أمر غليظ أي شديد , وفي التنزيل [وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا] ( ).
وقال الهذلي
له ظَبية وله وَفضةٌ … إذا أنفضَ القومُ لم يُنْفِضِ
والظبية: خريطة يجعل الراعي فيها أداته. وقال آخر، وهو هذلي:
ويَحْسِبُ نفسَه مَلِكاً إذا ما … توسَّد ظبيةَ الأقِطِ الجُلالِ) ( ).
وأنفض القوم أي نفذ زادهم وفي المثل :
(النفاض يقطر الجلب ) أي إن فنى الزاد والميرة واللبن ونفذ الطعام قطروا الإبل أي جلبوها للبيع قِطاراً قِطاراً ، بلحاظ أن الأولوية لحفظ النفس بتوفير الأكل والشرب ولو ببيع الأعيان.
والانفضاض : ما انفضّ من الشّيء( ) : التّفرّق وكل شيء تفرّق من شيء فهو فُضاضٌ وفي الحديث: إنه قيل لفلان إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لعن أباك وأنت في صُلبه فأنت فَضَضٌ من لعنة الله، الأصمعي: شيء فَضيض مَفضوض. سيبويه: الفَضاضة: ما انفضّ من الشّيء( ).
وشاورهم أي اطلب رأيهم في المراد من الفعل والقول، والمشورة على وزن المعونة، هي النصيحة والرأي السديد .
وتقول شَاوَرْتُه في الأَمر واسْتشرته بمعنى , وفلان خَيِّرٌ شَيِّرٌ أَي يصلُح لِلْمُشاورَة، وشاوَرَه مُشاوَرَة وشِوَاراً، واسْتَشاره طَلَب منه المَشُورَة وأَشار الرجل يُشِيرُ إِشارَةً إِذا أَوْمَأَ بيديْه , ويقال شَوَّرْت إِليه بِيَدِي وأَشرت إِليه أَي لَوَّحْت إِليه وأَلَحْتُ أَيضاً وأَشارَ إِليه باليَدِ أَوْمأَ وأَشارَ عليه بالرَّأْيِ وأَشار يُشِير إِذا ما وَجَّه الرَّأْي.
ويقال فلان جيِّد المَشُورة والمَشْوَرَة لغتان.
قال الفراء المَشُورة أَصلها مَشْوَرَة ثم نقلت إِلى مَشُورة لخفَّتها , اللَّيث المَشْوَرَة مفْعَلَة اشتُقَّ من الإِشارة( ).
والعزم تكامل النية، وإنعقاد القلب على فعل أمر(وما لفلان عزيمة، أي: ما يثبتُ على أمرٍ يَعْزُِم عليه، وما وجدنا له عَزْما، وإن رأيه لذو عزم)( ).
وقال الجرجاني : عزم القلب، والعزم: جزم الإرادة بغير تردد ( ).
وهناك برزخ بين العزم والجزم وإنتفاء التردد، وهذا البرزخ من الكلي المشكك الذي قد يتسع أو يضيق فقد يعزم الإنسان على الفعل ولكن يبدو له ما يجعله يتردد، ويتمهل في الفعل لذا أختتمت آية البحث بتعقب التوكل على الله للعزم، وصدور الفعل بالثقة والكفاية من الله عز وجل، وهو من عمومات وإطلاق معاني البرهان في قوله تعالى[وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ]( )، أي أن البرهان قد يقطع العزم ويحول بين صاحبه وبين الفعل .
فان قلت قد ورد في سورة يوسف ما يفيد بان امرأة العزيز عزمت على مراودة يوسف ولكنه امتنع، وعصمه الله , وهو العاصم .
والجواب هذا صحيح، ولكن وجه الإستدلال هو أن البرهان والفضل واللطف من عند الله عز وجل يحول بين العبد ومزاولة الفعل إذا كان فيه أذى أو ضرر [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
وتبين الآية أنه مع المشاورة مع المؤمنين الذين عفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستغفر لهم فلابد من التوكل على الله في إتيان الفعل.
ومن أسماء الله الوكيل وهو الذي تولى ويتولى شؤون الخلائق كلها إيجاداً وإستدامة ورزقاً.
والمُتَوَكِّل على الله الذي يعلم أَن الله كافِلٌ رزقه وأَمْرَه فيرْكَن إِليه وحْدَه ولا يتوَكَّل على غيره، ابن سيده: وَكِلَ بالله وتوَكَّل عليه واتَّكَل استَسْلم إِليه وتكرّر في الحديث ذكر التَّوكُّل يقال توكَّل بالأَمر إِذا ضَمِن القِيامَ به ووَكَلْت أَمري إِلى فلان أَي أَلجَأْتُه إِليه واعتمدت فيه عليه , ووَكَّل فلانٌ فلاناً إِذا استَكْفاه أَمرَه ثِقةً بكِفايتِه أَو عَجْزاً عن القِيام بأَمر نفسه، ووَكَل إِليه الأَمرَ سلَّمه( ).
في سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة , وهي على شعبتين :
الشعبة الأولى : صلة هذه الآية بالآيات المجاورة السابقة , وهي على وجوه :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة لها ، وهو قوله تعالى [وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ] ( ) وفيها مسائل :
المسألة الأولى : إبتدأت هذه الآية بحرف الإستئناف الفاء في (فبما) بينما إبتدأت الآية السابقة بحرف العطف الواو [وَلَئِنْ] وقد يتبادر إلى الذهن عدم العطف بين الآيتين ، لخلو آية البحث من أداة وعلامة للعطف ، ولكن العطف ظاهر بين الآيتين بلحاظ أمور :
أولاً : إتحاد موضوع الآيتين إذ يتعلق موضوعهما بحال المسلمين وثباتهم على الإيمان لحين أجل كل واحد منهم وإلى يوم القيامة .
ثانياً : مجئ الضمير (هم) في آية البحث من غير أن يكون لها متعلق في أول الآية ، فلم تقل الآية ( فبما رحمة من الله لنت للمسلمين ) ليدل ورود ذكرهم في آية البحث بصيغة الضمير (لنت لهم) على الإتصال بين الآيتين ، وتكرر ذات الضمير في الآية أربع مرات ، كلها تتعلق بذات الموضوع سواء بإرادة المسلمين أو بالمعنى الأعم .
ثالثاً : ورود واو الجماعة في آية البحث بقوله تعالى [لاَنْفَضُّوا] .
رابعاً : تتضمن آية البحث الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو التعيين ، وهل يشمل الخطاب في الآية السابقة [وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ] النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، وهو إمام المسلمين في تلقي ذات الخطاب وتبليغه، وفيه وجوه :
الأول : يتلقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذات الخطاب بعرض ومرتبة واحدة مع عموم المسلمين .
الثاني : إختصاص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمرتبة أسمى وأعلى في تلقي الخطاب القرآني العام لصفة النبوة التي شرّفه الله عز وجل بها ، ونزول الوحي عليه لقوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ).
الثالث : تلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخطاب القرآني قبل المسلمين لنزول الآية القرآنية عليه فيعيها قلبه ، ويقوم بتبليغها المسلمين ، ويأمر بكتابتها.
الرابع : يتلقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخطاب القرآني كامام للمسلمين يقودهم للعمل بمضامين هذا الخطاب كطريق وسبيل للإقامة الدائمة في النعيم، وهو من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة .
خامسا : تضمن الآيتين معاني نصرة وإتباع المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى مغادرتهم الحياة الدنيا ، إذ تدل آية البحث على أنهم لن يفارقوها إلا بصفة الإيمان , لأن تقدير الآية على وجوه :
الأول : ولئن متم يا أيها الذين آمنوا ) أي بصفة الإيمان ، قال تعالى [وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ] ( ) وفيه بعث لليأس في نفوس الكفار من إرتداد بعض المسلمين وبيان عجزهم وعدم إستطاعتهم على إيقاع بعض المسلمين في مستنقع الضلالة .
لتكون آية السياق بشارة وبياناً لقوله تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا] ( ) لتبين آية السياق قانوناً يتعلق بالآية أعلاه ، وهو أن الذين كفروا لم يستطيعوا حمل المسلمين على الإرتداد حتى وإن قاتلوهم من أجل ترك الإسلام ، ليكون من باب الأولوية سلامة المسلمين من النكوص والإرتداد، وليتفضل الله بالمدد والتعضيد في الواجبات العبادية في حال الهدنة والمهادنة والسلم من باب الأولوية القطعية وتيسير مقدمات لين ورفق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين في تبليغ الأحكام , وأداء الواجبات , والأمر والنهي, وسنن الحلال والحرام .
الثاني : يا أيها الذين لئن قتلتم ) لدلالة ورود نداء الإيمان وإتصال آية السياق به بالعطف على مصاحبة الإيمان للمسلم لحين قتله .
الثالث : لئن قتلتم في سبيل الله ) .
وقد ورد هذا القيد قبل آيتين ، لبيان رحمة الله بالمسلم ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يكون قتله في سبيل الله ، فلا يجازيه على هذا النداء والتضحية وما تدل عليه من الإخلاص في الدين وصدق الإيمان إلا الله عز وجل ، قال تعالى [وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ] ( ).
ومن الآيات ورود لفظ [الشَّكُورُ]مرة واحدة في القرآن ، وبما يفيد القلة من بين الناس ، والشهادة في سبيل الله أسمى مراتب الشكر لله عز وجل ، وأن القتل في سبيله رحمة من الله لقوله تعالى [مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا] ( ).
سادساً : إفادة حرف (الفاء) الذي تبدأ به آية البحث معنى العطف ، وهو لا يتعارض مع معنى الإستئناف ، إذ تفيد الفاء لغة العطف والترتيب والتعقيب .
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا فبما رحمة من الله لان لكم النبي ولئن متم أو قتلتم فان الخلق الحميد يصاحبكم ) ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) إقتباس المسلمين من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخلاقه الحميدة وتحليه بالصبر وجذبه الناس إلى الإسلام والعمل بأحكام الشريعة بالحكمة والإمتناع عن الشدة ، ودفعه الغضب.
ومن مصاديق هذا الإقتباس بيان مصاديق لقوله تعالى في صفات المتقين [وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ) بتقريب وهو إنطباق لين الجانب على كل فرد من أفراد ومضامين الآية أعلاه.
وسرقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يظن بالمسلمين سوءً، ولم يأمر بالتحري عنها في أحياء وأطراف المدينة، بل أظهر لين الجانب وتطلع إلى فضل الله عز وجل بردها عليه.
وعن النؤاس بن سمعان قال: سرقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لئن ردها الله لأشكرن ربي ، فوقعت في حي من أحياء العرب فيهم امرأة مسلمة ، فوقع في خلدها أن تهرب عليها ، فرأت من القوم غفلة فقعدت عليها ثم حركتها فصبحت بها المدينة.
فلما رآها المسلمون فرحوا بها ، ومشوا بمجيئها حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما رآها قال { الحمد لله } فانتظروا هل يحدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صوماً أو صلاة.
فظنوا أنه نسي , فقالوا: يا رسول الله قد كنت قلت لئن ردها الله لأشكرن ربي . قال : ألم أقل {الحمد لله })( ).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكظم غيظه ، ولقد تلقى الأذى الشديد من كفار قريش ، وزحفوا بالجيوش العظيمة لقتاله واستشهد عمه حمزة ونخبة من الصحابة بين يديه في معركة أحد وأصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجراحات بالغة يومئذ وسال الدم من جبهته وكسرت أسنانه الأمامية وشقت شفته ، ليتم بعدها بخمس سنوات فتح مكة .
ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة في السنة الثامنة للهجرة فاتحاً برحمة من عند الله ومصاديق ظاهرة من لين الجانب والتخفيف حتى استقر الأمر وهدأت الحال وإطمأن الناس ، وخرجوا من بيوتهم ، وتطلعوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وماذا سيفعل أزاء رؤساء الشرك الذين حاربوه ، وجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى البيت الحرام ، (فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن( ) في يده) ( ).
لذا إقترحنا إنشاء قطار الطواف تخفيفاً وملائمة للزيادة في أعداد وفد الحاج( ).
وحالما علم أهل مكة بدخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم البيت الحرام سارعوا إليه أفواجاً ليروا ماذا يفعل من المناسك ، وبماذا يأمر الناس وكيف يعاقب رؤساء الكفر والضلالة ، بلحاظ أن هذه العقوبة هي التي تتبادر إلى الأذهان خاصة وأن أهل مكة أعلم بشعابها ، فهم يعلمون كيف تناجوا بمحاصرة بني عبد المطلب وبني المطلب في شعب أبي طالب ومنعوا المعاملة والنكاح معهم لأنهم لم يتخلوا عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله .
وقامت قريش بتعذيب المسلمين الأوائل خصوصاً المستضعفين منهم واستشهد بعضهم في التعذيب مثل سمية أم عمار بن ياسر.
لقد شهد أهل مكة هذه الوقائع كما شهدوا إيذاء المشركين لشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بدنه وشتمه ونعته بأوصاف غير لائقة ، وهي منافية للوقائع وتجليات الوحي ،وفي التنزيل [ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ] ( ) أي أعرضوا عن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحثوا الناس على الإعراض عنه والاستخفاف والجحود بالمعجزات، وعندما عجزوا عن صدّ الناس عنه نعتوه بأنه ساحر ، وأنه شاعر ، وفي التنزيل [أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ] ( ) .
وهناك تباين وتضاد بين الشاعر والمجنون ، إذ يلزم الشاعر إحضار قواعد وموازين الشعر ، وضبط القافية ، وإختيار الكلام المناسب من جهة الفصاحة والبلاغة , ومنه سبكه وفهمه للموضوع ، فحينما نعت الذين كفروا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مرة بأنه مجنون وأخرى شاعر فقد فضحوا أنفسهم وأكدوا إختيارهم التضاد والإفتراء الذي لا يلاقي من الناس في كل زمان إلا الإعراض والذم والقبيح.
ولما إختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم الهجرة بأهل بيته ومعه نفر من أصحابه، جهز كفار قريش الجيوش في معركة بدر في السنة الثانية للهجرة ، ومعركة أحد في السنة الثالثة للهجرة، ومعركة الخندق في السنة الخامسة للهجرة .
لقد دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البيت الحرام بعد يوم الفتح فطاف بالبيت عابداً شاكراً لله عز وجل، وزاجراً عن الغلو فيه بعد معجزة الفتح في ذاتها وكيفيتها وعظيم نفعها وأثرها ومنافعها إلى يوم القيامة، ولما قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم طوافه دعا عثمان بن طلحة الذي كان عنده مفتاح الكعبة فأخذه منه لتفتح له.
(فدخلها فوجد بها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها)( ).
ورَأَى فِيهَا الصّوَرَ , وَرَأَى فِيهَا صُورَةَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ يَسْتَقْسِمَانِ بِالْأَزْلَامِ , فَقَالَ قَاتَلَهُمْ اللّهُ وَاَللّهِ إنْ اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطّ , وَرَأَى فِي الْكَعْبَةِ حَمَامَةً مِنْ عَيْدَانٍ فَكَسَرَهَا بِيَدِهِ وَأَمَرَ بِالصّوَرِ فَمُحِيَتْ .
ثُمّ أَغْلَقَ عَلَيْهِ الْبَابَ وَعَلَى أُسَامَةَ وَبِلَالٍ فَاسْتَقْبَلَ الْجِدَارَ الّذِي يُقَابِلُ الْبَابَ حَتّى إذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَدْرُ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ وَقَفَ وَصَلّى هُنَاكَ ثُمّ دَارَ فِي الْبَيْتِ وَكَبّرَ فِي نَوَاحِيهِ وَوَحّدَ اللّهَ ثُمّ فَتَحَ الْبَابَ وَقُرَيْشٌ قَدْ مَلَأَتْ الْمَسْجِدَ صُفُوفًا يَنْتَظِرُونَ) ( ).
لقد وقفت قريش وأهل مكة بخشية وخوف من هيبة النبوة , ويتطلعون إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ماذا يفعل بهم وما الذي يحكم به ، ليقف المسلمون صفوفاً خمس مرات في اليوم بخضوع وخشوع مستقبلين البيت الحرام وإلى يوم القيامة صلاة يقرون مجتمعين ومتفرقين أنها واجب عيني عليهم وعلى أبنائهم .
وقد يقال أن القدر المتيقن من الآية هو الحفاظ الفعلي على أداء الصلاة، ولكن معاني اللفظ القرآني متعددة، وليس فيها إلى الأجر وحسن الجزاء.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :صلاة الرجل في الجماعة تُضَعَّف على صلاته في بيته وفي سوقه، خمسًا وعشرين ضعفًا. وذلك أنه إذا توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لم يَخطُ خَطوة إلا رُفع له بها درجة، وحطّ عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مُصَلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة ( ) .
وهل يشترط بهذا الإنتظار أن يكون في المسجد أو المصلى ومحل الصلاة، الجواب لا، إنما يكفي حضور الصلاة التالية في الوجود الذهني، وهل هذا الحضور من عمومات قوله تعالى[حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى]( )، الجواب نعم , لأًصالة الإطلاق في لفظ المحافظة ولإرادة الثواب العظيم العاجل والآجل .
لقد وقفت قريش يوماً ينظرون عند هجوم إبرهة وعزمه على تهديم الكعبة، وعندما أخذ أموالهم ومنها (مِائَتَا بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيّدُهَا ، فَهَمّتْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَهُذَيْلٌ ، وَمَنْ كَانَ بِذَلِكَ الْحَرَمِ بِقِتَالِهِ ثُمّ عَرَفُوا أَنّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ فَتَرَكُوا ذَلِكَ)( ).
وأرسل أبرهة حُناطة الحميري إلى مكة، وقال له اسأل عن سيد أهل هذا البلد وأخبره أني لم آت لقتالهم، ولا أريد سفك الدماء إنما جئت لهدم هذا البيت , وأحضره معك فدخل حناطة مكة ودلوه على عبد المطلب بن هاشم فأخبر عبد المطلب بمقالته.
فقال له : إنه بيت الله وبيت خليله إبراهيم، وإن شاء الله حفظه وسلّمه، أما نحن فلا طاقة لنا بقتال أبرهة.
وليت قريشاً قالت ذات الكلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإذ جاء أبرهة إلى مكة لهدم البيت وإمتنعت قريش عن قتاله، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج من مكة بنبوته ومعجزاته وبآيات التنزيل فخرجوا خلفه طالبين له بالرجال والسلاح والخيل لقتاله وإرادة قتله وأصحابه فأخزاهم الله، قال تعالى[وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
ولما دخل عبد المطلب على أبرهة هابه وأجلّه لما رأى من طلعته البهية التي كانت مرآة وبشارة لولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من صلبه، وأجلسه قريباً منه.
ثم قال للترجمان : قل له حاجتك ، وظن أبرهة والجالسون أنه سيطلب الإمتناع عن هدم البيت والإنصراف عنه مع عرض الأموال والجزية والولاء لأبرهة مقابل رجوعه، ولكنهم تفاجئوا بانه طلب من الملك أن يرد عليه مائتي بعير أخذها رجال أبرهة.
فأستغرب أبرهة، وظن أنه أعطى عبد المطلب مرتبة وشأناً أكثر مما يستحق، وقال له إنما جئت لهدم بيت هو دينك ودين آبائك وإنما أحضرتك كونك سيد قومك وشريفهم، أي الأصل أن تسألني نيابة عنهم الإمتناع عن هدم البيت والذي تأتيه القبائل العربية من كل مكان في موسم الحج , وأيام السنة الأخرى للعمرة.
فقال عبد المطلب كلمته المشهورة التي يدرسها كل مسلم ومسلمة في سن الصبا في المدارس وتبقى عالقة في الذهن (إنّي أَنَا رَبّ الْإِبِلِ وَإِنّ لِلْبَيْتِ رَبّا سَيَمْنَعُهُ.
قَالَ أبرهة: مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنّي.
قَالَ أَنْتَ وَذَاكَ)( ).
وهل علوق هذه الكلمة في الأذهان من مصاديق البركة والهدى في قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ) الجواب نعم , ولبيان إتصال هذه البركة وسبق زمانها على الرسالة الخاتمة .
ترى لماذا قال عبد المطلب كلامه هذا ، الجواب من وجوه :
الأول : تأكيد إيمانه بأن البيت هو لله عز وجل، وأنه أمن وأمان , قال تعالى[وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا] ( ).
وهل أبرهة من الناس الذين وضع الله البيت الحرام لهم، لكي يحجوا إليه الجواب نعم , وكان هلاكه وجنوده من الهدى الذي تذكره الآية أعلاه لما فيه من العبرة والموعظة لذا جاءت أول آيات سورة الفيل بصيغة الخطاب والإستفهام التقريري [أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ]( ).
الثاني : حفظ الله عز وجل للبيت الحرام، وتدل عليه الآية أعلاه من سورة البقرة , بتقدير: إن أول بيت وضع للناس ببكة ليحفظه الله، ليبقى أول بيت في الأرض إلى يوم القيامة.
الثالث : إنذار أبرهة، وتخويف جنوده من التعدي على البيت.
الرابع : عجز قريش عن قتال أبرهة.
الخامس : التقية والإحتراز من قول كلام يغيظ الملك ويجعله يبطش به، خاصة وأن عبد المطلب عنده رسالة تتجلى برعاية وحفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ولادته وصباه، وهو الذي تعرض لمحاولات إغتيال حتى عندما كان صبياً.
السادس : إرادة سلامة قريش وأهل مكة من فتك أبرهة وجنوده، قال تعالى[إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ]( )، لذا أمرهم عبد المطلب بمغادرة مكة والخروج إلى رؤوس الجبال، ولتكون الآية في هلاك أبرهة جلية وأنها من عند الله عز وجل.
السابع : إرادة بيان ورؤية الناس جميعاً لغضب وسخط الله عز وجل على جيش أبرهة، ليكونوا عبرة لأهل زمانهم.
وتفضل الله عز وجل بنزول القرآن لتجعلهم آياته عبرة وموعظة لأهل الأرض إلى يوم القيامة بنزول سورة كاملة خاصة بهم بقوله تعالى[أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ* وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ]( ).
ومن الإعجاز في السورة أعلاه وهي سورة مكية , وجاءت في المفصل في آخر نظم القرآن أن كلمات كثيرة منها لم ترد في آية أخرى , وهي:
الأولى : الفيل.
الثانية : تضليل.
الثالثة : أبابيل، أي جماعات متتالية يتبع بعضها بعضاً.
الرابعة : ترميهم) وكأن هذا الرمي حدث مرة، ولن يحدث بعدها لإتعاظ الناس وتصديق الناس بالمعجزة , ليكون من دلالات هذا اللفظ حفظ البيت الحرام وعماره ومجاوريه .
الخامسة : بحجارة) لبيان خصوصية تلك الحجارة وكأنها ليست من الأرض.
السادسة : كعصف) وهو التبن، وقيل ورق الزرع البالي الذي يؤكل.
السابعة : مأكول.
وعن ابن عباس({ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل }( ) لما أقبل أصحاب الفيل يريدون مكة ورأسهم أبو يكسوم الحبشي حتى أتوا المغمس أتتهم طير في منقار كل طير حجر ، وفي رجليه حجران فرمتهم بها ، فذلك قوله : { وأرسل عليهم طيراً أبابيل }( ).
يقول : يتبع بعضها بعضاً { ترميهم بحجارة من سجيل }( ) يقول من طين.
قال : وكانت من جزع أظفار مثل بعر الغنم فرمتهم بها { فجعلهم كعصف مأكول }( ) وهو ورق الزرع البالي المأكول : يقول : خرقتهم الحجارة كما يتخرق ورق الزرع البالي المأكول)( ).
وورد لفظ(سجيل) ثلاث مرات في القرآن مرة في أصحاب الفيل، وإثنتين بخصوص قوم لوط، لبيان قبح فعلهم وسوء عاقبته، وإرادة تحذير الأمم منه، قال تعالى[إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ]( ).
وهل واقعة الفيل من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الجواب نعم، وهي معجزة سابقة لزمانه، ومقدمة لنبوته، وكأنه من وجوب المقدمة لوجوب ذيها.
ومن الإعجاز في المقام عجز كفار قريش عن تكذيب مضامين سورة الفيل، وتوثيقها لواقعة هجوم أبرهة.
المسألة الثالثة : يدل قوله تعالى [وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ] ( ) على حقيقة وهي أن المسلمين والمسلمات لم يفارقوا الدنيا إلا على دين الإسلام ، والثبات على التوحيد ، ولقد نطق المسلم بالشهادتين إختياراً وإيماناً وتسليماً بالآيات الكونية والمعجزات التي جرت على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فان قلت ينطبق هذا الكلام على المسلمين الأوائل والسابقين إلى الإسلام ومن دخله إبتداءً أمس واليوم وغداً ، بينما تلقى أغلب المسلمين عقائد التوحيد وملة الإسلام وراثة عن آبائهم ، والجواب نعم ، ولكن هذا التلقي ملحق بالإختيار الطوعي .
ويدل ثبات المسلمين على الإسلام على صدق نزول آية البحث التي تنفي في دلالتها التضمنية الشدة والقسوة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي بعثه الله عز وجل [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) ليفوز المسلمون بأبهى وأعظم مصاديق هذه الرحمة، ومنها الموت أو القتل على حال الثبات على الإسلام وقيد الإيمان ، وليكون من مصاديق الرحمة التي تذكرها الآية أعلاه وجوه :
الأول : قانون @كل آية قرآنية رحمة للعالمين .
الثاني : تلاوة المسلم للآية القرآنية رحمة للعالمين ، لذا يأتيه الثواب مضاعفاً من عند الله .
الثالث : قانون @كل جمع بين آيتين من القرآن رحمة للعالمين .
الرابع : قانون @كل أمر ونهي في القرآن رحمة بالعالمين , قال تعالى[وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ]( ).
الخامس : قانون @كل بشارة ووعيد في القرآن رحمة بالعالمين .
فمن الإعجاز في المقام أن المتضادين والمتناقضين يجتمعان في أمور منها أنهما رحمة من الله بالعالمين ومنها توجهها للناس جميعاً ، وإمكان العمل بهما .
ومن الرحمة في المقام عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الغضب والسخط على المسلمين لبناء صرح الرأفة والرحمة في عقائد وصفوف المسلمين، ولا يضر به النادر من الحوادث الشخصية والفردية وقد ورد بخصوص موسى عليه السلام [فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا]( ).
وقد إستمرت الشواهد والآثار التي تدل على واقعة الفيل حتى بعد البعثة النبوية كما ذكرها الشعراء في قصائدهم .
(قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ في أرجوزة له:
وَمَسّهُمْ مَا مَسّ أَصْحَابَ الْفِيلِ … تَرْمِيهِمْ حِجَارٌ مِنْ سِجّيلْ
وَلُعّبَتْ طَيْرٌ بِهِمْ أَبَابِيلْ) ( ).
وكانت كيفية وصول أبرهة للحكم من مصاديق قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ) فهو لم يكن من أهل اليمن ولا من بيوتات الملك ليتعظ المسلمون والناس ، ولبيان مسألة وهي لزوم إجتناب الإنسان الغرور والطغيان عندما ينعم الله عز وجل عليه بالملك والجاه والشأن دفعة أو تدريجياً أو وراثة .
ذكر أنه (لما ملك حسان بن أبى كرب تبان أسعد، سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب وأرض الاعاجم، حتى إذا كانوا ببعض أرض العراق كرهت حمير وقبائل اليمن السير معه، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم وأهليهم، فكلموا أخاً له يقال له عمرو، وكان معه في جيشه، فقالوا له : اقتل أخاك حسان , ونملكك علينا وترجع بنا إلى بلادنا)( ).
وأجمعوا على ان يقوم بقتل أخيه الملك , ولم ينهه أحد من الخاصة إلا أن أفراد الحاشية إسمه ذو رعين وكتب له بيتين من الشعر .
(أَلَا مَنْ يَشْتَرِي سَهَرًا بِنَوْمِ … سَعِيدٌ مَنْ يَبِيت قَرِيرَ عَيْنٍ
فَإِمّا حِميَرٌ غَدَرَتْ وَخَانَتْ … فَمَعْذِرَةُ الْإِلَهِ لِذِي رُعَيْن) ( ).
ثم كتب ذو رعين البيتين في رقعة وختمها وسأل عمرو أن يضعها عنده ويحتفظ بها فأجابه .
وقتل عمرو أخاه حسان وعاد إلى اليمن بالجيش , ولكن سُلبت عنه نعمة النوم مع أن الملك وذا السلطان والمال يود قلة ساعات النوم لإدارة أموره واعماله ، ولكن عمرو لم يطق السهر وصارت نفسه تشتاق إلى النوم كل يوم وأدرك قسوة السهر ، فلجأ إلى الأطباء والثقاة من الكهان والعرافين ، ويستطيع الملوك معرفتهم والتمييز بينهم ، فقال له أحدهم (إنّهُ مَا قَتَلَ رَجُلٌ قَطّ أَخَاهُ أَوْ ذَا رَحِمِهِ بَغْيًا عَلَى مِثْلِ مَا قَتَلْت أَخَاك عَلَيْهِ إلّا ذَهَبَ نَوْمُهُ وَسُلّطَ عَلَيْهِ السّهَرُ) ( ).
فأخذ عمرو يبطش ويقتل الذين أغروه وأمروه بقتل أخيه ، ولما أراد قتل ذي رعين( ) ذكّره بالبيتين ، حذره وزجره فيهما عن قتل أخيه ، وسأله أن يخرج الرقعة التي كتبها واودعها عنده ، فأخرجها وقرأ البيتين وتذّكر انه ألقاها عليه ، وانه كان ناصحاً فتركه.
ولما مات عمرو تفرقت حمير ، فوثب عليهم رجل من حِمير ، وهو ليس من بيوت الملك يسمى لخنيعة ينوف فقتل عدداً من رؤسائهم وأخيارهم ، وأساء لبيوت أهل الملك منهم كيلا ينافسوه في الملك أو يخرجوا عليه .
ومن فجور وفسوق لخنيعة أنه كان يعمل عمل قوم لوط فيبعث على الغلام من أبناء الملوك ويدخله مشربة( ) له أنشأها خاصة لهذا العمل القبيح كيلا يطمع بالملك من بعده ، وعندما يفرغ منه يطلّ من على مشربته على حرسه وجنده ، وقد أخذ مسواكاً في فيه علامة لفراغه من فعله الخبيث الذي سخّر له ملكه وحكمه , وليعلن هؤلاء شهادتهم على الغلام فيلحقه الذل والهوان , وأشاع لخنيعة الفساد وقتل الأشراف ، وصار الناس في حال سخط وغضب، وقال شاعرهم يخاطبه :
تَقْتُلُ أَبْنَاءَهَا وَتَنْفِي سَرَاتَهَا … وَتَبْنِي بِأَيْدِيهَا لَهَا الذّلّ حِمْيَرُ
تُدَمّرُ دُنْيَاهَا بِطَيْشِ حُلُومُهَا … وَمَا ضَيّعْت مِنْ دِينِهَا فَهُوَ أَكْثَرُ
كَذَلِكَ الْقُرُونُ قَبْلَ ذَاكَ بِظُلْمِهَا … وَإِسْرَافِهَا تَأْتِي الشّرُورُ فَتَخْسَرُ( )
وكان من بين بيوت المملكة شاب جميل وعاقل إسمه ذو نواس بن ثُبات أخي الملك حسان الذي قتله أخوه عمرو .
فأرسل لخنيعة في طلبه ، وجاءه رسوله يدعوه فعرف ماذا يريد منه وأنه لا يرضى إلا بأذلاله وظلمه والتعدي عليه في نفسه وعرضه فأخذ معه سكيناً جديداً حاداً صغيراً ، وخبأه بين قدمه ونعله ، كيلا يستطيع الحرس رؤيته أو الإطلاع عليه.
وحينما حضر وثب عليه لخنيعة ولكن ذو نواس واثبه وأخرج السكين وقتله.
ثم حز رأسه فوضعه في ذات الكوة التي يطل منها على أصحابه للشماتة والإخزاء ووضع مسواكه في فيه ، مما يدل بأن هذا الأمر شائع أي عندما يفعل جريمته يطل من الكوة ، وكأنه يقول للحرس والجنود عيرّوه وذكّروه ، فقالوا للغلام ذي نواس عندما خرج
( ذَا نُوَاسٍ أَرَطْبٌ أَمْ يَبَاسٌ فَقَالَ سَلْ نَخْماس اسْترطُبان ذُو نُوَاسٍ . اسْترطُبان لاباس) ( ) ونخماس : الرأس بلغة حِمير ، أي إسألوا الرأس يخبركم ماذا فعل ذو نواس للفت إنتباههم بأن الرأس الذي يرون إنما هو منفصل عن الجسد هذه المرة.
فتمعنوا بالكوة ونظروا إلى رأس لخنيعة ، وهل هو نفسه في كل مرة يطلع فيها عليهم ، وفي فيه المسواك ، وإذا هو رأس ميت مقطوع عن الجسد.
وسرعان ما شاع خبر قتل لخنيعة ، وكيفية قتله فذهبوا إلى ذي نُواس (فَقَالُوا : مَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَنَا غَيْرُك : إذْ أَرَحْتنَا مِنْ هَذَا الْخَبِيثِ) ( ).
ويبين هذا الخبر الإنحطاط الأخلاقي في بعض المجتمعات العربية والرأس منها قبل البعثة النبوية، وما فيه من إغراء العوام بالفاحشة، وحاجة الناس إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأبدل ذو نواس إسمه وتسمى باسم يوسف وسار إلى نجران وخيّر أهلها بين إتباعه على دينه وبين القتل ، إذ كان أهل نجران على النصرانية وروي أن سبب تنصرهم هو شخص من أتباع عيسى عليه السلام وبقايا أهل دينه إسمه فيمون بعد أن كانوا أهل شرك يعبدون الأصنام.
وكان يأكل من كسبه إذ يعمل بناءً ، وكان لا يعمل في يوم الأحد ، بل يخرج فيه إلى فلاة من الأرض ويتعبد الله ، وكان قبل في قرية من قرى الشام ، ولكنه متى ما إكتشف الناس أمره غادر القرية إلى غيرها حتى وصل إلى نجران ففطن له رجل من أهل نجران إسمه صالح، ومال إليه ميلاً شديداً ، وكان يتبع فيميون ، وفي يوم أحد وعندما خرج فيميون إلى فلاة من الأرض للتعبد والنسك تبعه صالح في خفية منه .
وجرت كرامات ظاهرة لفيميون منها دعاؤه وهو يصلي حينما توجه له التنين وهو ضرب من الحيتان الكبيرة ، فمات التنين.
واُستدرج إلى بيت بذريعة البناء ولكن صاحبه فاجأه بأن إبنه ضرير وسأله أن يدعو له فرد الله له بصره وشاع أمره في القرية فخرج منها ومعه صالح يتبعه ودخلا بعض أرض العرب فعدوا عليهما، وأخذتهما سيارة من العرب ، وباعوهما في نجران واشترى فيميون أحد أشرافهم ، واشترى صالحاً شخص آخر ، وكان أهل نجران يومئذ يعبدون نخلة طويلة عندهم لها يوم عندهم يتخذونه عيداً ويعكفون عليها فيه ، ويعلقون عليها الثياب الجديدة ويهدونها حلي النساء، وخصّ فيميون سيدُه ببيت ، فكان يقوم الليل يصلي فيه ، فيضيء نوراً في البيت من غير مصباح ، فسأله سيده عن دينه فأخبره أنه على دين النصرانية وانه يعبد الله الذي لا شريك له ، وأن عبادتهم النخلة أمر باطل وقبيح ، ولو شاء لدعا الله عليها لاقتلعها فقال سيده : فادع عليها فان إقتلعتها بدعائك (دَخَلْنَا فِي دِينِك ، وَتَرَكْنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ) ( ).
فتطهر فيميون وصلى ركعتين، وسأل الله عز وجل على تلك النخلة فارسل الله ريحاً اقتلعت النخلة من جذورها (فَحَمَلَهُمْ عَلَى الشّرِيعَةِ مِنْ دِينِ عِيسَى ابن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ) ( ) .
وقيل اسم فيميون يحيى وأنه ابن الملك وإختار السياحة في الأرض .
وسميت نجران لأن أول رجل سكنها هو نجران بن زيد بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، فسار ذو نواس بجنوده إلى نجران وخيرّهم بين ترك النصرانية وبين القتل، فاختاروا القتل ، وقتل منهم نحو عشرين ألفاً وفيهم نزل قوله تعالى [قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ* إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ] ( ).
والأخدود الحفر المستطيل في الأرض كالجدول.
وفي الآية أعلاه ورد عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر الساحر قال للملك إني قد كبرت فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر فبعث إليه غلاماً يعلمه فكان في طريقه راهب فقعد إليه الغلام وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر ضربه وإذا رجع من عند الساحر قعد إلى الراهب فسمع كلامه.
فإذا أتى أهله ضربوه، فشكى ذلك إلى الراهب فقال : إذا احتبست على الساحر فقل : حبسني أهلي، وإذا احتبست على أهلك فقل : حبسني الساحر، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال : اليوم أعلم الساحر خير أم الراهب، فأخذ حجراً ثم قال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذا الدابة حتى يمضي الناس، فرمى بها فقتلها ومضى الناس , فأتى الراهب فأخبره , فقال الراهب : أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما قد أرى وإنك ستبتلى فإذا ابتليت فلا تدل عليّ.
وكان الغلام يبري الأكمه والابرص ويداوي الناس من سائر الأدواء،
فسمع جليس للملك قد كان عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال : لك هذا إن أنت شفيتني فقال : إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت بالله دعوت الله عز وجل فشفاك، فآمن بالله تعالى فشفاه الله , فأتى الملك يمشي فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك : وسأله بما شفيت قال : بدعاء الغلام .
فأرسل إلى الغلام فقال له الملك : أي بني قد بلغ من سحرك ما يبرئ الأكمه والابرص وتفعل وتفعل .
فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الراهب فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه .
ثم جيء بالغلام ، فقيل له ارجع عن دينك، فأبي فدفعه إلى نفر من أصحابه , فقال لهم اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به فاذا بلغ ذروته فإن رجع عن دينه وإلاّ فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل.
فقال : اللهم اكفنيهم كيف شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك.
فقال له : ما فعل أصحابك؟ فقال : أكفانيهم الله عز وجل فدفعه إلى نفر من أصحابه , فقال احملوه في قرقور( )، فتوسطوا به البحر فلجوا به فإن رجع عن دينه وإلاّ فاقذفوه فيه.
فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت فأنكفأت بهم السفينة فغرقوا به، فجاء يمشي الى الملك فقال له الملك : ما فعل أصحابك؟
قال : أكفانيهم الله عز وجل،
فقال للملك : إنّك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به،
قال : ما هو؟
قل : تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي ثم تضع السهم في كبد القوس ثم قل : بسم الله رب الغلام،
ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني،
فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في صدغه فوضع الغلام يده في موضع السهم فمات،
فقال الناس : آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام ثلاثاً ثلاثاً،
فأُتي الملك فقيل له : أريت ما كنت تحذره قد والله نزل بك حذرك،
قد آمن الناس كلهم. فأمر (بحفر) الأُخدود بأفواه السكك وأضرم النيران وقال : من لم يرجع عن دينه فاقذفوه فيها، أو قيل له اقتحم،
ففعلوا ذلك حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال الغلام : يا أُمّه اصبري فإنك على حق) ( ).
لقد غيّرت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سير الأيام وسنخية الوقائع والأحداث ، وماهية وكيفية الإرتقاء إلى الحكم ، وإدارته والسياسة فيه ، إذ أصبح الإيمان هو الملاك ، وصار الناس يريدون من الحاكم حسن السيرة والصدق والرحمة والرأفة ليكون من معاني قوله تعالى في آية السياق [وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ] بيان علة التخفيف العام الذي تفضل الله عز وجل به على المسلمين والناس , قال تعالى[وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( )، وقال تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ] ( ).
فليس من أخدود وقتل عام للمسلمين , فان قلت قد وقعت معركة بدر وأحد والخندق وسقط في معركة أحد سبعون شهيداً من المسلمين.
الجواب نعم ، قد غادر الشهداء مقبلين غير مدبرين ، وصاروا سبباً لبعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا واستشهادهم مقدمة ونوع طريق لمصاديق لقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ).
ولم يخسر المسلمون فقد دخل الإسلام بسبب شهادة هؤلاء السبعين آلاف وأفواج من الناس , قال تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ).
المسألة الرابعة : ذكرت آية السياق حال المسلمين عند الموت أو القتل بالحشر والجمع والرجوع إلى الله عز وجل ليثيبهم على إيمانهم وعملهم الصالحات ، هذا بخصوص الآخرة.
أما في الحياة الدنيا فأنهم في نعيم بصحبة حسن سمت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنهل والتعلم من لين جانبه ، والرفق واللطف في التبليغ ، ومن معاني قوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ]إرادة علم المسلمين بأن قول وفعل النبي معهم إنما هو بوحي ولطف من عند الله عز وجل بهم .
لقد أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يجاهد الكفار ويغلظ على المنافقين كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ) بصيغة الجملة الإنشائية , ولم تتضمن آية البحث الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يلين جانبه إلى المسلمين والمسلمات ، إنما جاءت بصيغة الجملة الخبرية بأن النبي محمداً قد لان للمسلمين ورفق ورأف بهم ، وتقدير آية البحث على وجوه :
أولاً : ولئن متم فأنتم راضون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثانياً : ولئن متم فقد إنتفعتم من لين جانب رسول الله في الدنيا والآخرة.
ثالثاً : ولئن متم وقد أكرمكم الله بلين ورفق رسول الله بكم .
وتتجلى نسبة الإكرام إلى الله عز وجل بإخبار آية البحث بأن لين ورفق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو برحمة من عند الله عز وجل .
رابعاً : ولئن متم ، وقد عفا رسول الله عنكم فالى الله تحشرون .
خامساً : ولئن متم وقد استغفر لكم رسول الله فالى الله تحشرون.
سادساً : ولئن متم على العفو والتسامح بينكم فالى الله تحشرون .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ثلاث والذي نفسي بيده ان كنت لحالفاً عليهن ، لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا ، ولا يعفو عبد عن مظلمة إلا زاده الله بها عزاً ، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر( ).
سابعاً : تواضعوا واتقوا الله، ولئن متم فالى الله تحشرون، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن شر الناس عند الله يوم القيامة من يكرم اتقاء شره ( ) .
وعن عوف بن مالك قال : كيف أنت يا عوف إذا افترقت هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وسائرهن في النار) قلت ومتى ذاك يا رسول الله ؟ قال : ( إذا كثرت الشرط وملكت الإماء وقعدت الحملان على المنابر واتخذوا القرآن مزامير وزخرفت المساجد ورفعت المنابر واتخذ الفيء دولا , والزكاة مغرما , والأمانة مغنما , وتفقه في الدين لغير الله وأطاع الرجل امرأته وعق أمه واقصى أباه يلعن آخر هذه الأمة أولها وساد القبيلة فاسقهم , وكان زعيم القوم أرذلهم , وأكرم الرجل اتقاء شره فيومئذ يكون ذلك ويفزع الناس يومئذ إلى الشام نعصمهم من عدوهم ) قلت : وهل يفتح الشام ؟.
قال : نعم وشيكا ثم تقع الفتن بعد فتحها ثم تجيء فتنة غبراء مظلمة ثم يتبع الفتن بعضها بعضا حتى يخرج رجل من أهل بيتي يقال له المهدي فإن أدركته فأتبعه وكن من المهتدين ( ).
المسألة الخامسة : لقد قطعت آية السياق بأمور :
الأول : موت أو قتل المسلم، إذ أن تقدير الآية : ولئن مت أو قتلت لالى الله تحشر .
الثاني : حياة الناس بعد الموت.
لقد جعل الله عز وجل إحياء عيسى عليه السلام لبضعة اشخاص من الأموات معجزة حسية لأهل زمانه، وتفضل الله عز وجل وذكره في القرآن ليصبح دليلاً سمعياً قطعياً لأجيال الناس المتعاقبة على إحياء الموتى في الآخرة، وفي التنزيل حكاية عن عيسى [أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
الثالث : حشر وجمع المسلمين والناس إلى الله عز وجل وأخبرت آية البحث بأن النبوة وبعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طريق مبارك إلى هذا الحشر وسلامة المسلمين فيه .
(عن سلمة بن سلامة وقش وكان من أهل بدر قال : كان لنا جار يهودي في بني عبد الأشهل ، فخرج علينا يوماً من بيته قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بيسير حتى وقف على مجلس بني الأشهل ، قال سلمة : وأنا يومئذ أحدث من فيه سناً ، عليّ بردة مضطجعاً فيها بفناء أهلي، فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار.
قال : ذلك لأهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثاً كائن بعد الموت.
فقالوا له : ويحك يا فلان ، ترى هذا كائناً أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم.
فقال : نعم ، والذي يحلف به يودّ أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه, ثم يدخلونه إياه فيطينونه عليه وأن ينجو من تلك النار غداً.
قالوا له : ويحك وما آية ذلك؟! قال : نبي يبعث من نحو هذه البلاد ، وأشار بيده نحو مكة واليمن .
فقالوا : ومتى نراه؟ قال : فنظر إليّ من أحدثهم سناً أن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه ( ).
قال سلمة : فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بين أظهرنا ، فآمنا به وكفر به بغياً وحسداً .
فقلنا : ويلك يا فلان ألست بالذي قلت لنا؟! قال : بلى، وليس به)( ).
المسألة السادسة : لقد ذكرت الآية السابقة أموراً :
الأول : الموت ، وزهوق الروح .
الثاني : القتل بآلة .
الثالث : حشر المسلمين والناس والجمع في الآخرة .
وتبعث هذه الوجوه الخوف في نفس الإنسان وتذكره بالقطع بمغادرته الدنيا وإن عاش فيها سنين عديدة وطال عمره , قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ] ( ) .
وتتصف آيات القرآن بأن كل آية رحمة فمع ما في آية السياق من التذكير بالموت ، وجعل المسلم يتوقع قتله أو موته في أية ساعة وتغمره السعادة لأنه يعود إلى الله عز وجل بعد أن قضى أيام عمره بعبادته فلا يلقى عند الله إلا الأجر والثواب .
وإبتدأت آية البحث بذكر رحمة الله لفظاً وموضوعاً وأثراً ، وأنها تأتي إبتداء , وتجري على لسان ويد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه دعوة للمسلمين للتدبر بالسنة النبوية وإستقراء معاني الرحمة منها ، والعمل بمضامينها بالتراحم والرأفة بين المسلمين ، وفي الثناء عليهم قال تعالى [رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] ( ).
ومن البشارات بلحاظ آية السياق حشر المسلمين إلى الله بصفة التراحم بينهم ، وصيرورته سبباً للعفو والمغفرة وقبول الشفاعة باذن الله .
المسالة السابعة : لما أختتمت الآية السابقة بالإخبار عن حشر المسلمين إلى الله عز وجل جاءت آية البحث لتبين أنهم يحشرون بعد أن رجعوا إلى النبي في السؤال والإقتداء والفعل ، ولم ينفروا منه أو يتفرقوا عنه ، وفيه نجاة لهم يوم القيامة من حساب شديد.
لبيان قانون وهو أن القرب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الإيمان والسلامة من النفاق مدخل للأجر والثواب يوم القيامة، وتجلى هذا القرب بصفة المعية وصبغة الإيمان والتقوى بقوله تعالى[مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ]( ).
وتدل آية البحث بالدلالة التضمنية على صدور المسلمين عن أمر الله ورسوله لأن عدم إنفضاضهم عنه مناسبة لأمور :
الأول : الإنصات لآيات القرآن وحفظها والتدبر في معانيها .
الثاني : الإقتباس من السنة النبوية ، والتعلم في مدرستها الجامعة لكل العلوم ، وقيل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعيد الكلام ثلاث مرات .
وإذا كان المقصود في مجلس واحد ، فهو بعيد.
الثالث : محاكاة المسلمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته وعباداته ، وحسن خلقه ، لقد جعل الله عز وجل المسلمين شرعاً سواء في الإقتباس من أخلاق النبوة والتعلم منها ، والتحلي بها منهاجاً وتهذيباً وصلاحاً ، ليكون من معاني آية السياق وجوه :
الأول : ولئن متم على أخلاق النبوة .
الثاني : ولئن متم بالتأسي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : ولئن متم على نهج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : ولئن متم وقد ألان كل واحد منكم لأخيه جانبه في القول والعمل ، ومن اللين حسن المناجاة بطاعة الله والأمر بالمعروف ، والتعاون في الخيرات , والنهي عن المنكر، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
الخامس : ولئن متم فقد تركتم اللين وحسن المعاشرة ميراثاً لذريتكم والأجيال التي بعدكم .
وفيه شاهد على توفيق وإصلاح المسلمين لتوارث الأمانة في باب الرأفة والرحمة المقتبسة من أخلاق النبوة، قال تعالى [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا] ( ).
المسألة الثامنة : من معاني الجمع بين الآيتين أن المسلم يموت أو يقتل بعد أن يفوز باستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم له ، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) من جهات :
الأولى : إخبار القرآن عن إستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين .
الثانية : تغشي إستغفار النبي صلى الله عليه وآله للمسلمين والمسلمات جميعاً الأموات منهم والأحياء ، ولما تخلف عدد من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه إلى تبوك ، وربط أبو لبابة وصاحباه أنفسهم بسارية المسجد عند عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فنزل القرآن بما يفيد العفو والمغفرة.
(عن ابن عباس، قال: لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا لبابة وصاحبيه، انطلق أبو لبابة وصاحباه بأموالهم، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقالوا: خذ من أموالنا فتصدَّق بها عنا، وصلِّ علينا , يقولون: استغفر لنا , وطهرنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا آخذ منها شيئًا حتى أومر.
فأنزل الله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم)( ).
يقول: استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوا.
فلما نزلت هذه الآية أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جزءًا من أموالهم، فتصدَّق بها عنهم ) ( ).
ولما يعلم المسلم بأنه لا يموت ولا يقتل إلا بعد أن يفوز باستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم فان نفسه تسكن وتطمئن للموت ، ويشتاق إلى لقاء الله وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً]( ).
وقد توجه أخوة يوسف إلى أبيهم يعقوب النبي , وسألوه أن يستغفر لهم ما اقترفوه في يوسف وإرادة قتله وإضرارهم بأبيهم ، وصيرورته أعمى قد فقد بصره من شدة حزنه وبكائه على يوسف ، وفي التنزيل [قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا]( ).
(روي أنَّ يوسُفَ عليه السلام لما غَفَر لإِخوته ، وتحقَّقوا أَنَّ أباهم يغفر لهم ، قال بعضُهم لبعض : ما يُغْنِي عنا هذا إِنْ لم يغفر اللَّه لَنَا ، فطلبوا حينئذٍ من يعقُوبَ عليه السلام أنْ يطلب لهم المغفرَةَ مِنَ اللَّه تعالى ، واعترفوا بالخَطَإِ ، فقال لهم يعقوب : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي } ( ).
وعن ابن عباس؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال لعليٍّ عليه السلام : ” إِذَا كَانَ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ ، فَإِنِ استطعت أَنْ تَقُومَ في ثُلُثِ اللَّيْلِ الآخِرِ ، فَإِنَّها سَاعَةٌ مَشْهُودَةٌ وَالدُّعَاءُ فِيهَا مُسْتَجَابٌ ، وقد قال أخي يعقوبُ لبنيه : {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي}، يقول : حَتَّى تَأْتِيَ لَيْلَةُ الجُمُعَةِ)( ).
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين مع كثرتهم وأجيالهم بأن يستغفر لهم سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولم يأت هذا الإستغفار من قبل المسلمين وحدهم ، إنما جاء من عند الله وعلى نحو الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يدل على الوجوب العيني، وترشحه على عموم المسلمين بالإلحاق، ليستغفر كل مسلم للمسلمين والمسلمات , ويكون من علامات[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، إستغفار كل واحد منهم لعموم المسلمين.
المسألة التاسعة : من الإعجاز في آية السياق عطف القتل على الموت بقوله تعالى[وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ] وهو على وجوه :
الأول : أنه من عطف الخاص على العام.
الثاني : إنه من عطف الأشد على الشديد.
الثالث : أنه من عطف العرض على الأصل في باب الحتم.
الرابع : إنه من عطف الفرع على الأصل.
الخامس : إنه عطف المنخرم على أصل أوان الأجل .
السادس : إنه من عطف ما فيه الحياة والشهادة على الإنقياد إلى الآخرة بزهوق الروح .
ليجتمع المعطوف والمعطوف عليه بأمور:
الأول : تلقي الخطاب من عند الله عز وجل.
الثاني : لغة الإكرام في الخطاب القرآني الموجه للمسلمين في آية السياق، وتقدير الآية: يا أيها الذين آمنوا لئن متم أو قتلتم.
الثالث : العطف على نداء (يا أيها الذين آمنوا) قبل آيتين( )، وتقدير لغة العطف في الآية على وجهين:
أولاً : يا أيها الذين آمنوا لئن متم لإلى الله تحشرون.
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا لئن قتلتم لإلى الله تحشرون.
وهل يصح تقدير الآية: ولئن متم وقتلتم بالعطف بالواو.
الجواب نعم بلحاظ التفكيك بين الأمرين، والوقوع على الشطر الأكبر من المسلمين، وقتل طائفة منهم، قال تعالى[فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً]( ) .
وعن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن بدر فشق عليه , وقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه ، لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرين الله ما أصنع ، فشهد يوم أحد فاستقبله سعد بن معاذ رضي الله عنه ، فقال : يا أبا عمرو إلى أين؟ قال : واهاً لريح الجنة أجدها دون أحد ، فقاتل حتى قتل ، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة بسيف ، وطعنة برمح ، ورمية بسهم ، ونزلت هذه الآية { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه }( ) وكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه)( ).
وجاءت آية البحث للتخفيف وبيان فضل الله عز وجل على المسلمين بتوالي النعم الإلهية التي أمر الله عز وجل بها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
المسألة العاشرة : أختتمت آية السياق بالإخبار عن حشر المسلمين والمسلمات إلى الله عز وجل بعد الموت، وجاءت آية البحث بالإخبار عما يصاحبهم ويلازمهم من الفيض واللطف الإلهي من جهات :
الأولى : رحمة الله عز وجل، وصحيح أن الآية تذكر خصوص لين جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين إلا أن رحمة الله عز وجل بالمسلمين في آخرتهم أعم من موضوع ذات آية السياق والبحث منها أن المسلمين لم ينفضوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما كانوا ينهلون من الفيوضات النبوية ورشحات الوحي.
الثانية : رشحات لين النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم إذ ينكشف الغطاء في الآخرة وتتجلى الأعمال وكونها علة ومعلولاً ووفق قاعدة السبب والمسبب ، والفاعل والمؤثر ، والفعل والأثر المترتب عليه ، قال تعالى بخصوص الآخرة [لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] ( ).
وعن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن ابن آدم لفي غفلة عما خلق له ، إن الله إذا أراد خلقه قال للملك أكتب رزقه ، أكتب أثره ، أكتب أجله ، أكتب شقياً أم سعيداً ، ثم يرتفع ذلك الملك ويبعث الله ملكاً فيحفظه حتى يدرك ، ثم يرتفع ذلك الملك ، ثم يوكل الله به ملكين يكتبان حسناته وسيئاته ، فإذا حضره الموت ارتفع الملكان.
وجاء ملك الموت ليقبض روحه ، فإذا أدخل قبره رد الروح في جسده وجاءه ملكا القبر فامتحناه ، ثم يرتفعان ، فإذا قامت الساعة انحط عليه ملك الحسنات وملك السيئات فبسطا كتاباً معقوداً في عنقه ، ثم حضر معه واحد سائق وآخر شهيد ، ثم قال ، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن قدامكم لأمراً عظيماً لا تقدرونه فاستعينوا بالله العظيم)( ).
والمراد من ملكي القبر : منكر ونكير , أي ينكرهما الميت , وهو لا يعرفهما عندما كان في الدنيا، وفي إبراهيم عليه السلام وحديثه مع الملكين اللذين نزلا ضيفين عليه[قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ]( )، ويسأل منكر ونكير الميت في قبره بحساب إبتدائي .
وهل هما الملكان اللذان صاحباه في الدنيا ، وكان يكتبان حسناته وسيئاته , أم غيرهما , الجواب هو الثاني .
الثالثة : حضور نعمة الله عز وجل على المسلمين بصدورهم عن القرآن وما يأمر به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم إبتعادهم عنه ، أو إعراضهم عن مقامات النبوة .
فمن معاني قوله تعالى[وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] ( ) مجيء الثواب للمسلمين لأنهم لم ينفضوا ويتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواء في حال السلم أو في معركة بدر وأحد والخندق ، وتلك آية في الصبر وسعة الصدر.
ليبقى المسلمون محيطين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يسيحون في رياض التنزيل ويكتنزون الحسنات ويتطلعون إلى فضل الله بمضاعفتها لتحضر معهم في الآخرة.
فيكون من وجوه تقدير الجمع بين الآيتين ،لإلى الله تحشرون بعدم إنفضاضكم عن رسول الله .
الرابعة : إتصاف المسلمين يوم القيامة بحضورهم وقد عفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قصورهم تقصيرهم ، فمن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه يأتي يومئذ شهيداً على المسلمين ، ليشهد لهم بالعفو والرضا عنهم ويثني عليهم باتباعهم له ، فيما جاء به من عند الله .
ليكون من معاني قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صلّوا كما رأيتموني أصلّي)( ) أي صلوا كما رأيتموني أصلي لأشهد لكم يوم القيامة ولتقفوا على مرتفع يومئذ تطلوا منه على الخلائق ، وكذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع حيث وقف في عرفات بعد أن صلى الظهر يوم عرفة، وبقي إلى وقت الغروب وقال: لتأخذوا عني مناسككم)( )، وذهب الإمام أحمد إلى أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة وإستدلوا بحديث الشعبي عن(عُرْوَةُ بْنُ مُضَرِّسٍ قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَهُوَ بِجَمْعٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ جِئْتُكَ مِنْ جَبَلَيْ طَيِّءٍ أَتْعَبْتُ نَفْسِي وَأَنْصَبْتُ رَاحِلَتِي وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ جَبَلٍ إِلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ فَقَالَ مَنْ شَهِدَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ يَعْنِي صَلَاةَ الْفَجْرِ بِجَمْعٍ وَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نُفِيضَ مِنْهُ وَقَدْ أَفَاضَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عَرَفَاتٍ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ)( ).
وفي الإقناع: (ووقت الوقوف: من طلوع الفجر يوم عرفة .
وقول مالك والشافعي وأبي حنيفة والإمامية وهو إبتداء الوقوف من الزوال من يوم عرفة وهو التاسع من شهر ذي الحجة، والمراد من الزوال أي إبتداء ميل الشمس عن كبد السماء، وأخذها بالسير نحو الغروب.
وعليه إتفاق علماء المسلمين في هذا الزمان ببركة السنة النبوية وتأديب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين ولين جانبه ورفقه بالمسلمين في إرشادهم إلى كيفية أداء المناسك، وتقدير الحديث( خذوا عني مناسككم لأشهد لكم يوم القيامة أنكم اتبعتموني ، ولم تحرفوا التنزيل والعمل بأحكام الشريعة ، وهو من الرشحات الأخروية، لقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) في عالم الآخرة .
(عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل ، والنبي ومعه الرجلان وأكثر من ذلك ، فيدعى قومه فيقال لهم : هل بلغكم هذا؟
فيقولون : لا . فيقال له : هل بلغت قومك؟ فيقول نعم.
فيقال له : من يشهد لك؟
فيقول : محمد وأمته . فيدعى محمد وأمته.
فيقال لهم : هل بلغ هذا قومه؟
فيقولون : نعم . فيقال : وما علمكم؟ فيقولون : جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا . فذلك قوله { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } قال : عدلاً { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً }( ) .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أنا وأمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق ، ما من الناس أحد إلا ودّ أنه منا ، وما من نبي كذّبه قومه إلا ونحن نشهد أنه بلغ رسالة ربه) ( ).
الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : لإلى الله تحشرون وقد استغفر لكم رسول الله ).
وهو من خصائص ومنافع عطف آية السياق على نداء الإيمان ، لبيان قانون وهو ترتب الأجر والثواب في الآخرة على نداء الإيمان ومخاطبة المسلمين به وتلاوتهم له، لذا حق لهم أن يكثروا من تلاوته وأن يجعلوه حرزاً وواقية وإماماً، وهذا النداء من عمومات قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
وتقدم في آية السياق ذكر قتل المسلم على موته ليستحضر المسلمون الآية عند حدوث قتل بينهم متحداً كان أو متعدداً ، وعلى نحو القضية الشخصية أو في ميدان المعركة ، وفيه تهيئة لأذهان المسلمين للقتل سواء للذات أو لذي رحم أو صديق وصاحب، إنها مدرسة الموعظة في الإسلام التي تكون حاضرة في كل آية من آيات القرآن , ويمكن تشريع باب جديد في تفسير كل آية قرآنية إسمه الآية موعظة.
المسألة الحادية عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها النبي أعف عن المسلمين , وهذا العفو لأمور :
الأول : إختيار المسلمين الإسلام، ونطقهم بالشهادتين.
الثاني : عفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المسلمين من الجزاء العاجل وشكر الله لهم على الإيمان.
الثالث : بيان قانون وهو ملازمة العفو لأداء الفرائض والعبادات.
الرابع : لما مدح الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وقال[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، جاءت هذه الآية بمصداق لهذا الخلق الكريم وهو العفو والصفح.
الخامس : مفارقة المسلمين الدنيا بالموت أو القتل ، وهم وعموم الناس في هذه المغادرة سواسية , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] ( )، ولكن ما يمتاز به المسلمون هو الموت على الإيمان بالله والملائكة والرسل واليوم الآخر ، والتصديق بالتنزيل مطلقاً ، وهذا الإطلاق من جهات :
الأولى : التصديق بنزول القرآن ، وأن ما بين الدفتين كله كلام الله عز وجل أبى إلا أن يكون دستور الحياة إلى يوم القيامة فجعله [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) .
الثانية : يدل قوله تعالى[وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ] على قانون وهو أن الذنوب لا يغفرها إلا الله عز وجل ، وفي التنزيل [وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ] ( ).
وعن علي بن ربيعة أنه شهد الإمام علي عليه السلام (اتى بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الركاب قال بسم الله فلما استوى على ظهرها قال الحمد لله ثم قال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا إلى قوله وإنا إلى ربنا لمنقلبون ثم قال الحمد لله ثلاثا والله أكبر ثلاثا رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك قلت من أي شئ ضحكت يا أمير المؤمنين قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت ثم ضحك قلت
من أي شئ ضحكت يارسول الله قال ان ربك ليعجب من عبده إذا قال اغفر لي ذنوبي يعلم انه لا يغفر الذنب غيره التكبير والتحميد عند الاستواء على الدابة) ( ).
الثالثة : تمنع آية البحث الخلاف والخصومة في مسألة هل يجوز أن يستشير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين أم لا ، لأنه يكتفي بالوحي والتنزيل فتكون المشورة أما أمراً زائداً وتحصيل بشري لما هو حاصل من عند الله ، أو أن المشورة تتضمن وتؤدي ما هو خلاف الوحي والحق .
وحتى لو أستشهد باستشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وأحد لقيل أنه قضية في واقعة ولها سبب يتعلق بتعهد الأنصار بالذب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة والدفاع عنه كما يدافعون عن أنفسهم وذراريهم .
فجاءت آية البحث لتمنع من هذا الخلاف والجدال في المقام لإفادتها الأمر والقطع بوجوب هذه الإستشارة لأن الله عز وجل أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الوجوب .
الرابعة : إجماع المسلمين على عدم وجود زيادة أو نقيصة في القرآن .
الخامسة : العمل بمضامين التنزيل .
السادسة : التصديق بالكتب السماوية التي أنزلت على الأنبياء السابقين منها :
أولاً : الصحف التي أنزلت على إبراهيم عليه السلام ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى] ( ).
ثانياً : الزبور الذي أنزل على داود عليه السلام .
ثالثاً : التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام .
رابعاً : الإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه السلام ، قال تعالى [وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ] ( ).
وهل يجب الإيمان بالكتب السماوية بتعيين أسمائها ، أم يكفي الإيمان الإجمالي بها ، الجواب هو الثاني .
المسالة الثانية عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : استغفر لهم لإلى الله تحشرون من معاني الجمع بين الآيتين الإشتراك والتداخل في الجهة التي يتوجه إليها الخطاب بسنخية الإيمان مع تجلي موضوعية النبوة وعظيم نفعها إذ يتوجه الخطاب في آية السياق إلى المسلمين والمسلمات ، بصيغة الإخبار عن إختتام حياة كل واحد منهم بالموت أو القتل .
وتوجهت آية البحث بالخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبصيغة الأمر المتعدد والجملة الإنشائية ، ومنه أن يستغفر للمسلمين ، ليكون هذا الأمر عيداً عند أجيال المسلمين إذ يفوزون بالإستغفار من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولتكون المناجاة بينهم هي الإستغفار والعفو ، وليكون من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) إستقبال الولوج الحتمي إلى عالم الآخرة بالعفو والصفح ومغفرة بعضهم ذنب بعضهم الآخر والاستغفار بينهم ، ليكون من معاني آية البحث وجوه :
أولاً : إستغفر للمسلمين ليغفر الله عز وجل لهم .
ثانياً : استغفر للمسلمين لتنمية ملكة الإستغفار بينهم .
ثالثاً : يا أيها النبي استغفر للحي والميت , والموجود والذي لم يولد من المسلمين ليغادر المسلم الدنيا وهو سعيد بنيله إستغفار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له .
المسألة الثالثة عشرة : لما أخبرت آية السياق عن حشر وجمع المسلمين عند الله عز وجل بايمانهم وصبرهم وجهادهم ليجازيهم بالثواب العظيم ، تضمنت آية البحث إخبارهم بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر لهم الله عز وجل ويسأله سبحانه أن يغفر لهم ، قال تعالى مخاطباً النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ] ( ).
(عن ثوبان قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثاً) ( ).
ومن معاني الجمع بين الآيتين إخبار المسلمين والناس بفوز المسلمين بسبق إستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم قبل ولوجهم عالم الآخرة ، فما أن يدخل المسلم القبر حتى يرى إستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمامه ، ليكون واقية له من الحساب الإبتدائي لمنكر ونكير وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) ، لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو ملازمة الرحمة الإلهية في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في عالم البرزخ ويوم القيامة ، ليكون تقدير الآية أعلاه : وما ارسلناك إلا رحمة للعالمين في الحياة الدنيا ) نعم حجب الذين كفروا هذه الرحمة عنهم في النشأتين .
ومن معاني الجمع بين الآيتين حضور إستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم في الدنيا والآخرة ، وهو نعمة عظمى تتغشى المسلمين والمسلمات في الدنيا والآخرة ، فما أن يولد المسلم حتى يحضر عنده إستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فيكون له واقية من البلاء ، وضياء ينير له دروب الهداية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
المسألة الرابعة عشرة : لقد أختتمت آية السياق بقانون الحشر إلى الله ، وليس بين هذا القانون وبين آية البحث من فاصلة ، لبيان إعجاز في نظم آيات القرآن ، وهو إختتام الآية القرآنية بقانون وإختتام الآية التالية لها بقانون ، ويتعلق القانون الذي إختتمت به الآية السابقة بعالم الآخرة ، أما القانون الذي إبتدأت به آية البحث فيتعلق موضوعه بالحياة الدنيا ولين جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين ، ويشمل نفعه وبركاته الحياة الدنيا والآخرة ، وهو قانون لين ورق جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين ورأفته بهم ، وبذله الوسع لنجاتهم من أوهام الضلالة ، والأخذ بأيديهم إلى سبل الفوز في الآخرة .
الوجه الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : وحدة الموضوع بين الآيتين إذ تتحدث الآيتان عن حال المسلمين ، وفضل الله عز وجل عليهم في الحياة الدنيا وبعد الموت ، ولا يضر بهذا الإتحاد الإختلاف في جهة الخطاب ، إذ تخاطب آية السياق المسلمين، بينما تخاطب آية البحث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولكن هذا الخطاب بخصوص رحمة الله بالمسلمين، وجعل قول وعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيراً محضاَ، ونفعاً دائماً له.
وقد ورد قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( )، وهل يمكن تقديره، وما ينطق إلا لنفع المسلمين إن هو إلا وحي يوحى ) .
الجواب نعم،, وليس فيه تكلف أو خلط للألفاظ الذي لا أصل له، إذ أن الوحي خير محض , والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق إلا وفي كلامه خير ونفع للمسلمين .
فقد جاءت الآية أعلاه لبيان الإعجاز في السنة النبوية، ولزوم التقيد بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العبادات والمعاملات والأحكام وتلقيه بالتسليم والتصديق وقبول قوله في حال الحرب والسلم بالإستجابة والإمتثال .
وتحتمل النسبة بين الوحي الذي تذكره الآية أعلاه وبين الرحمة الواردة في آية البحث بقوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ]وجوهاً :
الأول : نسبة العموم والخصوص المطلق، فالرحمة التي تنزل من عند الله لتصير علة تامة لرفق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين فرع الوحي الذي تذكره الآية أعلاه .
وتقدير الجمع بين الآيتين : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ومنه رحمة من الله لنت للمسلمين بها.
الثاني : نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء بين الوحي والرحمة، ومادة للإفتراق، أما مادة الإلتقاء فمن جهات:
الأولى : كل من الرحمة والوحي فضل من عند الله عز وجل .
الثانية : صبغة القرآنية لكل من الآيتين .
الثالثة : تعلق موضوع كل من الرحمة والوحي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا يقدر على الوحي وعلى الرحمة التي تذكرها آية البحث إلا الله عز وجل ، أما مادة الإفتراق فمن جهات :
الأولى : التباين الموضوعي بين الوحي والرحمة في المعنى الإلهام والإصطلاح , فالوحي هو الإلهام والإخبار بخفاء والأمر من عند الله، أما الرحمة ففيض ونعمة تتغشى الناس.
الثانية : في الوحي أطراف :
أولاً : مجيء الوحي ولا يقدر إلا الله عز وجل، لذا تفضل الله عز وجل بذكر الآية للوحي بصيغة الفعل المبني للمجهول(وحي يوحى) لتأكيد أنه ليس من الخلائق من يقدر على الوحي بالمعنى الإصطلاحي إلى النبي، وتقدير الآية ( إن هو إلا وحي يوحيه الله) .
فالقرآن يفسر بعضه بعضاَ , وكل آية بيان وعصمة للآية الآخرى , وقد ورد قوله تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي]( )، وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أي الخلق أعجب إيماناً؟ قالوا الملائكة . . قال : الملائكة . . . كيف لا يؤمنون، قالوا : النبيون . . . قال : النبيون يوحى إليهم فكيف لا يؤمنون، ولكن أعجب الناس إيماناً ، قوم يجيئون من بعدكم ، فيجدون كتاباً من الوحي ، فيؤمنون به ويتبعونه . فهؤلاء أعجب الناس إيماناً( ).
ثانياً : ذات الوحي والأمر النازل من عند الله الذي يخص به أنبياءه لأنه في أمور الدين وأحكام الشريعة وبخصوص أسماء النار ورد عن ثعلب عن ابن الأعرابي : ما الوَحَى ؟ فقال : هو المَلِكُ . فقلت : ولمَ سُمِّيَ المَلِكَ وَحىً ؟ فقالَ : الوَحَى النَّارُ فكأنَّ المَلِكَ مِثْلُ النَّارِ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ ( ).
وهذا المعنى غريب في ذاته وفي تعليله، و(وأصل الوُحِيّ: الكتابة في الحجارة، قال أبو زيد: وَحَى وأوحى بمعنى، ولم يتكلّم فيه الأصمعي لأنه في القرآن وكان لا يتكلّم في مثله ( ).
ثالثاً : تلقي النبي الوحي ليعمل به ومن معانيه الأمر والاذن والنهي.
أما بالنسبة على رحمة فصحيح أنها تتحد مع الوحي في ذات الأطراف، ونزول الوحي وكذا الرحمة من عند الله، إلا أن الرحمة قد تكون أعم من الأمر والنهي ، والبعث على الفعل.
الثالثة : إرادة الإطلاق وحضور الوحي في كل ما ينطق ويتكلم به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , أما الرحمة التي تذكرها الآية فهي مقدمة ونوع طريق وعلة لرفق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين.
الثالث : نسبة التساوي بين الوحي والرحمة .
الرابع : نسبة العموم والخصوص المطلق , فالرحمة التي تذكرها آية البحث أعم وأوسع من الوحي لأنها وحي وتنزيل ولطف وهداية وإرشاد.
والمختار هو الأول فاذا ذكرت آية البحث رحمة الله بخصوص لين وعطف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين وكانوا يرونه سهلاً في إستجابته لحاجتهم، وهو يسمع ما يقولون بانصات وفي التنزيل[وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( )، أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يسمع من كل أحد، ويقبل العذر في الصدق والكذب .
ومن معاني الآية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصغي للقولين المتناقضين الصادرين من شخصين من غير أن يرد على أحدهما، ونزلت الآية أعلاه في جماعة من المنافقين كانوا يعيبون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إستماعه وإصغائه لما يقوله المسلمون والمسلمات .
وبينت الآية بأن إصغاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين خير لهم، وهو وسيلة وطريق لتوبة المنافقين، وزجرهم عن النفاق وإخفاء الكفر مع إظهارهم الإيمان، ثم قالت الآية [يُؤْمِنُ بِاللَّهِ] لبيان أنه لا يفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا الحق والخير، ولبيان أن الإستماع مطلقاً لا يعني التصديق أو ترتبه على كل قول مسموع .
ولما خاطبت آية السياق المسلمين بخصوص أشق شيئ على الإنسان، وهو مغادرة الحياة الدنيا قهراً بالموت، وعدم إختيار الإنسان كيفية المغادرة أو العلم باوانها لقوله تعالى[وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ]( )، فقد توجهت آية البحث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبرت عن رحمة الله عز وجل على المسلمين , لتجعلهم في حرز من الخوف والفزع من الموت وطروه عليهم، ليكون من معاني قوله تعالى[فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، إتباع نهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإنتفاع من الرفق والعطف واللين والرأفة التي يتصف بها لأمور الدين والدنيا .
المسألة الثانية : كل من الآيتين كلام من عند الله عز وجل للمسلمين بصيغة الإكرام والتفضيل والنسبة في جهة الخطاب فيها هي العموم والخصوص المطلق ، إذ أن الخطاب في آية السياق هو الأعم ، فيتوجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات ، بينما يختص الخطاب في آية البحث بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ذات اللفظ ، وإن كان معناه أعم .
ووردت آية السياق بلغة الخطاب للمسلمين وتقديرها بصيغة الفرد والخطاب للمسلم المنفرد : ولئن قتلت في سبيل الله أو مت لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) وعلى هذا التقدير هل المغفرة والرحمة المقصودة في الآية خاصة بالمخاطب , الجواب لا، إنما تبقى على عمومها، وتكون وجوه:
أولاً : لمغفرة لك أيها المسلم .
ثانياً : لمغفرة لابويك ، جزاء من الله بسبب موتك أو قتلك وأنت على الإسلام .
ثالثاً : لمغفرة من الله ورحمة لذريتك عند قتلك في سبيل الله أو موتك على الإسلام خير من زينة الدنيا التي يجمع الناس , فمن إعجاز آية السياق أنها ذكرت مفارقة المسلم للحياة الدنيا بأحد وجهين :
الأول : القتل ، وقيدته في سبيل الله ، وهل تدل الآية بالدلالة التضمنية على تحذير المسلم من القتل في غير سبيل الله ، كالخصومة والفتنة والعصبية ، الجواب نعم ، وهو من إعجاز الآية وصيغ التأديب فيها ، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي)( ).
وفي الآية تأديب وتعليم للمسلمين وإذا كان الغرق و الحرق وحوادث المركبات الأرضية كالسيارة والبحرية كالباخرة ، والجوية كالطائرة تلحق بالموت ، وكذا بالنسبة للكوارث والآفات الأرضية والسماوية ، فان القتل في الفتن والمنازعات يحتمل وجوهاً :
أولاً : إنه يلحق بالقتل في سبيل الله لأن المسلم يغادر الدنيا بصفة الإيمان ولباس التقوى ، قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ) بتقريب أن المسلم وإن قتل في المنازعات والأمور الدنيوية فان الصالحات التي عملها ترافقه وتصاحبه في الآخرة ، وكأنه قتل في سبيل الله .
ثانياً : يلحق القتل في الخصومة الدنيوية والفتنة والحمية بالموت في قوله تعالى في آية السياق [أَوْ مُتُّمْ] أو في الآية السابقة [وَلَئِنْ مُتُّمْ] .
ثالثاً : القتل في الأمور الدنيوية والحمية ونحوه فرد خاص بحسب الحال والموضوع والحكم ، ويكون تقدير آية السياق : ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم أو قتلتم حمية أو عن خصومة ونزاع ونحوه .
وذكر القتل في سبيل الله والموت في آية البحث من بيان الفرد الأهم وإلا فان طرق مغادرة الناس عامة والمسلمين خاصة للدنيا متعددة وكثيرة ، وحتى بالنسبة للغرق والحرق والهدم ونحوه يمكن إحتسابها طرقاً مستقلة في كيفية الموت .
والمختار هو ثانياً أعلاه ، وأن الموت بالحوادث والقتل في غير سبيل الله يلحق بالموت الذي تذكره آية السياق بقوله تعالى [أَوْ مُتُّمْ].
و(جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فقال : يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال : فلا تعطه مالك قال أرأيت إن قاتلني قال قاتله قال أرأيت إن قتلني قال فأنت شهيد قال أرأيت إن قتلته قال هو في النار ]) ( ).
وعن (جَابِرَ بْنَ عَتِيكٍ أَخْبَرَهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ، فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ عَلَيْهِ، فَصَاحَ بِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَاسْتَرْجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَقَالَ : غُلِبْنَا عَلَيْكَ يَا أَبَا الرَّبِيعِ . فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ، فَجَعَلَ جَابِرٌ يُسَكِّتُهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : دَعْهُنَّ، فَإِذَا وَجَبَ فَلاَ تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوُجُوبُ ؟
قَالَ : إِذَا مَاتَ. فَقَالَتِ ابْنَتُهُ : وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ شَهِيداً, فَإِنَّكَ كُنْتَ قَدْ قَضَيْتَ جِهَازَكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْقَعَ أَجْرَهُ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ، وَمَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ ؟ قَالُوا : الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ : الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالْحَرِقُ شَهِيدٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ) ( ).
والحديث بيان لإكرام المسلم وفوزه بالأجر والثواب وإلحاقه بالذي يقتل في سبيل الله بفضل وإكرام من عند الله عز وجل للمؤمنين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ).
المسألة الثالثة : ذكرت كل من آية البحث والسياق لفظ الجلالة ، إذ ورد مرة واحدة في آية البحث ، ومع قلة كلمات آية البحث فقد ورد فيها ثلاث مرات ، وسيأتي بيانه في البحث العرفاني ( ).
لقد إبتدأت آية البحث بالإخبار عن رحمة الله عز وجل ومن مصاديقها تعدد ذكر إسمه سبحانه ، ليكون هذا الذكر بذاته سبباً وموضوعاً لنشر رحمة الله عز وجل .
لقد إبتدأت آية السياق بالإخبار عن إحتمال قتل المسلم في سبيل الله ، ولا يختص هذا القتل بمن أراده وسعى إليه على نحو الإختيار كالذي يخرج إلى ميدان الدفاع والجهاد أو الذي يقوم بالمرابطة في الثغور إستجابة لأمر الله عز وجل ودفاعاً للشرور والضرر عن المسلمين وعوائلهم ومن معهم في مدنهم من أهل الكتاب كاليهود والنصارى ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
فقد يأتي القتل للمسلم على نحو قهري ، وإضطراري ، وهل له تمام الأجر الذي يناله الذي يختار ملاقاة العدو ويذوق حر السيف ، الجواب تبين آية البحث عظيم الفضل الإلهي بالجمع بين الشهداء بوحدة الموضوع وهو القتل في سبيل الله ، ومن مصاديق هذا السبيل وجوه :
الأول : الدفاع عن بيضة الإسلام .
الثاني : حمل السيف والقتال في دفع المشركين كما في شهداء معركة بدر وأحد .
الثالث : تعظيم شعائر الله .
الرابع : الصبر في طاعة الله ، وما يسمى القتل على الهوية .
الخامس : الضرب في الأرض لنشر معالم الدين وأحكام الشريعة .
السادس : قتل المسلم غيلة وغدراً لأنه مسلم ، وهل يختص هذا الأمر بالمنفرد من المسلمين وعلى نحو القصد والتعيين أم يشمل الذين يقتلون جماعة وبكيفية عشوائية كالقصف والرمي من الجو والأرض والبحر أو السلاح الكيمياوي والبايولوجي ونحوه ، كما لو أستهدف أهل قرية ، الجواب هو الثاني لذا وردت الآية بصيغة الجمع [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ) أي قتلتم متفرقين أو متحدين . ومن الإعجاز في المقام أن سبيل الله متحد وكأنه اسم جنس لتقع تحته مصاديق كثيرة ثابتة ، ومستحدثة ، ولكنها وفق ضوابط كلية وهي الإخلاص في الدين ، وقصد مرضاة الله ، وعدم مخالفة أحكام الشريعة وسنن الحلال والحرام ، ولزوم إجتناب التعدي والظلم .
ولو دار الأمر بين القتل وبين دفع الضرر بالمال أو التقية أو مغادرة المكان .
فالصحيح هو الثاني ، قال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] ( ).
المسألة الرابعة : إبتدأت آية السياق بصيغة الشرط (لئن) لأن موضوعها هو مفارقة الحياة الدنيا وبهاءها وجمالها وحلاوتها وما فيها من الإبتلاء بينما وردت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية لأنها تتضمن الرحمة من عند الله ، فتأتي أفراد غير متناهية في كل من :
الأول : تأتي الرحمة للناس بصفة الإنسانية .
الثاني : خلافة الإنسان في الأرض ، فمن معاني قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) توالي الرحمة من الله على الناس على نحو دفعي وتدريجي ودائم متصل وطارئ عرضي .
الثالث : فضل الله عز وجل على الناس والخلائق أي أن الله عز وجل هو الذي أبى إلا أن تكون رحمته لا متناهية على كل مخلوق ، كماً وكيفاً ، وهو سبحانه لا يعطي إلا بالأتم الأوفى .
المسألة الخامسة : يفيد الجمع بين آية البحث وآية [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ] في سبيل الله ، أن لين وحسن خلق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يجعل المسلمين يقبلون على مواطن الجهاد بشوق ورغبة ، فيفارق المسلم الحياة وهو راض عن نفسه ، محب لرسول الله طائع لله وله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ] ( ).
ليكون من إعجاز الآية القرآنية الغيري بلوغ المسلم أسمى المراتب في طاعة الله عز وجل، وإنشغاله بمحبته والشوق إلى لقائه، وهو من أبهى مصاديق الصبر لما فيه من العزوف عن زينة ومباهج الدنيا، ويتجلى بقوله تعالى[وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ] ( ).
المسألة السادسة : لقد إتصفت معارك الإسلام الأولى بأمر مبارك خاص وهو قيادة وإمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجيش المسلمين فيها مثل معركة بدر وأحد والخندق وحنين , وكان يتولى بنفسه تنظيم الصفوف وإصلاح الجيش للقتال ، وفي قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( )بيان وتوثيق سماوي لقيادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في ميدان المعركة .
ويحتمل يكون تقدير الجمع بين الآيتين وجوهاً :
الأول : ولو كنت فضاً غليظ القلب لأنفضوا من حولك وما قاتلوا وقتلوا في سبيل الله .
الثاني : ولو كنت فضاً غليظ القلب لأنفضوا عنك وتركوك وحدك في الميدان .
الثالث : ولو كنت فضاً غليظ القلب لعزفوا عن المجئ إليك والإكثار من سؤالك والعزم الدائم على اللجوء إليك .
الرابع : ولو كنت فضاً غليظ القلب لحال شطر منهم إلى الصلح، ويقول الله عز وجل [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ]( )، ومن مصاديق المعية في الآية أعلاه تفضل الله برفق ولين جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين.
المسألة السابعة : تبين آية السياق قانوناً وهو أن الذين تلقوا بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق والقبول والإنقياد في معرض القتل والشهادة لقوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] وفيه بيان لمنزلة المسلم عند الله ولزوم أن يكون شأنه عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرآة لهذه المنزلة ، وهو الذي تجلى بقوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ] ( ).
وهل يمكن تقدير الجمع بين الآيتين : فبما رحمة من الله لنت لهم ليقُتلوا في سبيل الله) .
الجواب لا دليل على هذا التقدير ، فمن إعجاز آية السياق الترديد في خاتمة آية حياة المسلم أما الموت أو القتل ، وحسن سمت النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين جميعاً رجالاً ونساءً ، كباراً وصغاراً .
المسألة الثامنة : لقد أخبرت آية البحث بأن سهولة أخلاق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين وصبره وإحتماله من الصحابة حتى في حال فرار أكثرهم يوم معركة أحد ، إنما هو رحمة من الله عز وجل ، وكذا فان المسلم إذا مات أو قتل فانما هو برحمة من الله عز وجل سواء بذات الموت أو القتل ، أو مقدمات أي منهما .
وفي الجمع بين الآيتين دعوة للمسلمين للتحلي بحسن السمت ، والأخلاق الحميدة فيما بينهم ، فلا يغادر أحدهم الدنيا إلا وهو راض عن عامة المسلمين ، وهم يستغفرون له ، ولا يذكرونه إلا بخير .
المسألة التاسعة : جاءت آية السياق خطاباً للمسلمين , وإخباراً عن كيفية مغادرتهم الدنيا وأنهم قد يقتلون قتلاً ، وهذا القتل في سبيل الله ، لبيان أن الذين كفروا سيهجمون عليه ويعتدون عليه ، ووردت آية البحث خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبياناً لحسن خصاله ، وتنزهه عن الفضاضة ، فلا يفارق المسلم الدنيا إلا وقد تزود من أخلاق النبوة وإنتفع منها ، مع التسليم بأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حق وصدق ، لأن لين الجانب برحمة من الله مما يدل على أنه أسمى وأعلى من حسن السمت الذي يكون عليه الإخيار من الناس .
ويحتمل أثر صبر وتحمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوهاً :
الأول : صبر النبي وحسن سمته نوع طريق لتحقيق النصر مع قلة القتل في صفوف المسلمين .
الثاني : أنه سبب وجزء علة لكثرة الشهداء في صفوف المسلمين .
الثالث : إنه سبب لكثرة القتلى من جيوش الذين كفروا .
الرابع : لا صلة للين عريكة وحسن سمت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قلة أو كثرة القتلى في المعارك .
والصحيح هو الأول والثالث أعلاه ، وهو من الإعجاز في نسبة رأفة ورحمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين وورأفته بهم بأمرمن عند الله عز وجل ، ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : فبما رحمة من الله لنت للمسلمين ليقل عدد الشهداء .
الثاني : فبما رحمة من الله لنت للمسلمين ليواظبوا على المرابطة .
الثالث : فبما رحمة من الله لنت للمسلمين ليكف الذين كفروا عن قتالكم .
الرابع : فبما رحمة من الله صبر وصابر المسلمون في مواطن القتال .
وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
ومن معاني الجمع بين آية البحث والآية أعلاه وجوه :
أولاً : حسن خلق وسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإمتثال لأمر الله تعالى أعلاه [اصْبِرُوا] إذ أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام في تلقي الأوامر الإلهية .
وكون السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع لا يتعارض مع تلقيه للأوامر الإلهية مع المسلمين ، ويكون تقدير الآية أعلاه على جهات :
الأولى : يا أيها الذين اصبروا كما صبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : يا أيها الذين آمنوا إقتبسوا الصبر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : يا أيها الذين آمنوا الصبر شعبة من حسن الخلق .
ثانياً : لين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المصابرة في مرضاة الله عز وجل ،لبيان قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أول من يعمل بمضامين الآية القرآنية وهو سابق المسلمين ، قال تعالى في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ] ( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا استفتح الصلاة كبّر ثم قال : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) ( ).
ثالثاً : كانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مدرسة في الفقه والأخلاق وحسن السمت ، وقد بذل الوسع في التبليغ وإرشاد المسلمين إلى سبل الصلاح .
(عن عياض بن حمار المجاشعي : أنه شهد خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمعه يقول : إن الله أمرني أن أعلمكم ما جهلتم من دينكم مما علمني يومي هذا ، إن كل مال نحلته عبداً فهو له حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنه أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ) ( ).
وتقدير آية المصابرة على وجوه :
أولاً : وصابروا كما صابر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : إتخذوا من لين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم طريقاً للمصابرة .
ثالثاً : لين الجانب وحسن الخلق عون على المصابرة ، وتخفيف لها ، وفي التنزيل [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ).
وقال ابن عطية (المقصد الظاهر بهذه الآية أنها في تخفيف الله تعالى ترك نكاح الإماء بإباحة ذلك ، وأن إخباره عن ضعف الإنسان إنما هو في باب النساء ، أي لما علمنا ضعفكم عن الصبر عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء ، وكذلك قال مجاهد وابن زيد وطاوس ، وقال طاوس : ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء) ( ).
ولو دار الأمر في موضوع التخفيف في الآية أعلاه بين إرادة الإطلاق أو التقييد والحصر بخصوص نكاح الإماء ، فالأصل هو الإطلاق من جهات :
الأولى :تأكيد فضل الله عز وجل على المسلمين .
الثانية : عموم موضوع التخفيف .
الثالثة : إنقطاع مسألة الإماء في الحياة اليومية العامة للمسلمين ، أما الآية القرآنية فان أحكامها باقية إلى يوم القيامة ، خاصة وأنها لم ترد في مسألة الإماء على نحو التعيين أو تذكرها بالخصوص ، وأن جاءت في نظم ذات الآيات .
الرابعة : بيان مصداق لقانون من الإرادة التكوينية ، وهو تجلي التخفيف من عند الله في كل مسألة وحكم من أحكام الشريعة .
الخامسة : تأكيد مصداق لقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) بالتخفيف عن المسلمين .
السادسة : إقامة الحجة على الناس لأن الإنصاف من أحكام الإسلام وما فيه من الأوامر والنواهي باليسر والسهولة ، وعن جابر بن عبد الله (إن عمر أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إنّا نسمع أحاديث من يهود (قد أخذت بقلوبنا) أن نكتب بعضها؟
فقال : أمتهوكون أنتم كما تهوّكت اليهود والنصارى لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حياً ما وسعه إلاّ اتباعي) ( ).
المسألة العاشرة : لقد شهدت آية السياق للمسلمين أنهم يقتلون في سبيل الله ، ومن الإعجاز في الترديد في عاقبة المسلمين بين الموت والقتل بقوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ]( ) الثناء على المسلمين بأن كل واحد منهم معرض للقتل في سبيل الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )بلحاظ وجوه :
أولاً : إقتران الإيمان والتصديق ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باحتمال القتل في سبيل الله .
ثانياً : تلقي المسلمين الإخبار السماوي عن إحتمال قتلهم في سبيل الله بالرضا والغبطة ، وبخصوص شوق الصحابة لخوض معركة أحد نزل قول الله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ).
ثالثاً : من أسرار الحياة الدنيا عدم علم الإنسان بأوان ومكان وكيفية موته أو قتله ، فتضمنت آية السياق البشارة لعموم المسلمين متفرقين بأن كل واحد منهم قد يقتل ، وهذا القتل في سبيل الله ، وفيه تأكيد لعدم مغادرتهم لمنازل طاعة الله ورسوله في أيام حياتهم ، بتقريب أن المسلم في كل ساعة يتوقع قتله ، وهو في تلك الساعة التي مرت عليه أو التي ستمر عليه عابد شاكر لله متقيد بالأوامر والنواهي التي جاءت بالقرآن والسنة النبوية .
(وأخرج البيهقي عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي عن أبيه عن جده قال : بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا جاءه رجل فقال : يا رسول الله ما الإِيمان؟ قال : الصبر والسماحة . قال : فأي الإِسلام أفضل؟ قال : من سلم المسلمون من لسانه ويده . قال : فأي الهجرة أفضل؟ قال : من هجر السوء . قال : فأي الجهاد أفضل؟ قال : من أهرق دمه وعقر جواده . قال : فأي الصدقة أفضل؟ قال : جهد المقل قال : فأي الصلاة أفضل؟ قال : طول القنوت) ( ).
ومن خصائص آية السياق أنها ثناء على المسلمين لتعاهدهم الفرائض والعبادات ، وهو من الشواهد على عدم طرو التحريف على آيات التنزيل وأحكام الشريعة الإسلامية إلى يوم القيامة ، وهو من عمومات قوله تعالى [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ( ).
وصحيح أن العطف يفصل بين مضامين الآية أعلاه وأنه يفيد المغايرة إلا أنه لا يمنع من كون أحدهما متفرعاً عن الآخر بمعنى أن الحفظ من رحمة الله سبحانه , وترشح أفراد من رحمة الله من حفظ الله مصاديق لا متناهية منها :
الأول : حفظ الآيات الكونية .
الثاني : إستدامة تفكر الناس بالآيات الكونية .
الثالث : حفظ نظام سير الكواكب .
الرابع : حفظ الحياة الدنيا ، وصرف الفناء عن الناس ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) إذ يدل ذكر الآية للغاية من الخلق على حفظ الناس من أجل عبادتهم لله عز وجل .
الخامس : حفظ النبوة والتنزيل في الأرض ، ليكون كل واحد منهما إماماً في جذب الناس للهدى والإيمان .
السادس : حفظ رحمة الله عز وجل في الأرض إذ ينزل الله رحمته ، ويحفظها لينتفع منها الناس .
السابع : تفضل الله بحفظ الفرائض والمناسك ، ومنع من ضياعها أو تحريفها ، (عن أبي ثعلبة الخشني قال : إن اللّه فرض فرائض فلا تسبقوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحدّ حدوداً فلا تعتدوها , وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها.) ( ).
الثامن : حفظ الإسلام ومبادئ الإيمان حتى في حال موت أو قتل الأفراد من المسلمين على نحو متعاقب ، وهو من أسرار حرمة الإرتداد وعصمة المسلمين منه ، ليكون من معاني الحفظ في قوله تعالى [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا]( )توارث أجيال المسلمين مناهج الإسلام والتقيد بأداء الفرائض ، إذ تأتي الرحمة من الله عز وجل للمسلمين بلين ورفق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لييأس الشيطان وأعوانه من إغوائهم .
المسألة الحادية عشرة : من الإعجاز في الجمع بين آية البحث والسياق تضمن كل آية منهما لفظ الرحمة ، إذ ورد في آية السياق قوله تعالى [وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ).
وإبتدأت آية البحث بذكر الرحمن بقوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ] والنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق ، فمادة الإلتقاء من جهات :
الأولى : إتحاد لفظ [رَحْمَةٌ] مع أن كل كلمة من القرآن تدل على رحمة الله بالمسلمين والناس جميعاً .
الثانية : ورود كل من اللفظين بصيغة التنكير التي تفيد معنى الإطلاق ، ولبيان قانون وهو أن كل فرد من رحمة الله هو نعمة عظمى ، وهو خير محض وبرهان وآية متجددة لا يقدر عليها إلا الله ، بلحاظ أن كل رحمة دعوة للإيمان , وهو من أسرار مجئ لفظ ( رحمة ) في آية البحث بصيغة التنكير .
فان قلت قد تكون ذات الرحمة من الله عز وجل ومن الإنسان كما في إطلاق سجين من الحبس أو الرزق الكريم بمبلغ مالي معين ، وقيام شخص بهبة ذات المال لنفس الشخص .
والجواب هذا المعنى لا يصح لقانون الإحسان بين العباد رحمة من عند الله عز وجل ، فحينما يطلق الحاكم سجيناً إنما هو برحمة من عند الله وكذا بالنسبة للهبة والصدقة.
وعن ( شهر بن حوشب قال: سمعت أم سلمة تحدّث: أن رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: اللهم مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك! قالت: قلتُ: يا رسول الله، وإن القلب ليقلَّب؟ قال: نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا وقلبه بين إصبعين من أصابعه، فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدَانا، ونسأله أن يهبَ لنا من لدنه رحمةً إنه هو الوهاب. قالت: قلتُ: يا رسول الله، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: بلى؛ قولي: اللهم ربّ النبي محمدٍ، اغفر لي ذنبي، وأذهب غَيظَ قلبي، وأجرني من مُضِلات الفتن).
بالإضافة إلى آثار رحمة الله فهي من اللامتناهي على ذات العبد المرحوم أو غيره , قال تعالى [فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى] ( ).
الثالثة : إرادة الرحمة من عند الله عز وجل في كل من اللفظين ، ويمكن تأسيس قانون وهو إذا ورد لفظ الرحمة في القرآن على نحو الإطلاق والتنكير فهو من عند الله ، ولا يكون المراد الرحمة من غير الله إلا مع القرينة الصارفة والأمارة الدالة عليه ، كما ورد الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ) إذ إبتدأت الآية بالحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ولم يرد لفظ [حَرِيصٌ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، ولم يصف القرآن نبياً أو رسولاً أو غيره بالرحمة بالعباد بقوله تعالى [رَحِيمٌ] إلا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : صيغة القرآنية في كل من لفظي الرحمة في الآيتين .
الخامسة : حاجة المسلمين والناس للرحمة المذكورة في كل من الآيتين .
السادسة : تعلق موضوع الرحمة في الآيتين بالمسلمين والمسلمات.
وأما مادة الإفتراق فمن جهات :
الأولى : وردت الرحمة في آية السياق مطلقة من غير تقييد في نسبتها ، أما في آية البحث فقد وردت بأنها من عند الله بقوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ].
الثانية : موضوع الرحمة في آية السياق عام من غير تعيين موضوع له , أما آية البحث فقد ذكرت الرحمة على نحو الحصر الموضوعي بصرورتها علة للين جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين.
الثالثة : ذكرت آية السياق الرحمة في وسط الآية وبعد ذكر المغفرة من عند الله عز وجل، بينما إبتدأت آية البحث بذكر الرحمة .
الرابعة : أخبرت آية السياق بأن أي فرد من أفراد الرحمة الإلهية خير مما يجمع الذين كفروا من المال ومتاع الدنيا , عن سهل بن سعد (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعظ رجلاً فقال : ازهد الدنيا يحبك الله ، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس) ( ) .
الخامسة : ذكرت آية السياق الرحمة من عند الله عز وجل على نحو التفضيل والترجيح وأنها خير مما يجمع الذين كفروا، بينما ذكرت آية البحث الرحمة على أنها سبب وفضل في حسن خلق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين.
وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة، أنه إن قيل: كيف يكون: لمغفرة من الله ورحمة” جوابًا لقوله :”ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم، فإن الوجه فيه أن يقال فيه كأنه قال: ولئن متم أو قتلتم فذلك لكم رحمة من الله ومغفرة، إذ كان ذلك في سبيلي، قال: لمغفرة من الله ورحمة، يقول: لذلك خير مما تجمعون، يعني: لتلك المغفرة والرحمة خير مما تجمعون( ).
ونسب إلى الجمهور قراءة (مما تجمعون) بتاء الخطاب، وقال الثعلبي: قرأه العامة : (تجمعون) بالتاء لقوله : { وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ } ( )، وقرأ حفص : بالياء على الخبر عن الغالبين، يعني خير ممّا يجمع الناس من الأموال ( ).
ولكن لغة الخطاب وقراءة (خير مما تجمعون) لا تستقيم في المعنى والدلالة بلحاظ أن ما يجمع المسلمون من رحمة الله.
والرزق الكريم الذي تفضل به الله عليهم باب للعبادة باخراج الزكاة منه، والإنفاق في سبيل الله والإحسان إلى الفقراء , ومن لين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين أنه كان ينفق ما كان عنده على المسلمين ، وكان يقسم بينهم بالسوية .
وعن أبي موسى أن العلاء بن الحضرمي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مالاً أكثر منه فنثر على حصير ، وجاء الناس فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطيهم وما كان يومئذ عدد ولا وزن ، فجاء العباس , فقال : يا رسول الله ، إني أعطيت فدائي وفداء عقيل يوم بدر ، أعطني من هذا المال ، فقال : خذ ، فحثى في قميصه ثم ذهب ينصرف فلم يستطع ، فرفع رأسه وقال : يا رسول الله ، أرفع علي .
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول : أما أخذ ما وعد الله فقد نجز ولا أدري الأخرى { قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم }( ) هذا خير مما أخذ مني ولا أدري ما يصنع في المغفرة ( ).
وعن يسار بن الحكم قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برّ من العراق ، وكان معطاء كريماً ، فقسمه بين الناس ، فبلغ ذلك قوماً من العرب ، فقالوا : أنأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنسأله، فوجدوه قد فرغ منه ، فأنزل الله {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك}( ) قال : محبوسة { ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً } يلومك الناس { محسوراً } ليس بيدك شيء.
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن المنهال بن عمر وقال : بعثت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بابنها فقالت : قل له اكسني ثوباً ، فقال : ما عندي شيء ، فقال : ارجع إليه فقل له اكسني قميصك ، فرجع إليه فنزع قميصه فأعطاه إياه . فنزلت { ولا تجعل يدك مغلولة } ( ).
وقد ورد ذكر (القميص) في القرآن ست مرات كلها بخصوص يوسف عليه السلام وقميصه وهو من إعجاز القرآن وأسرار مجئ اللفظ المخصوص في ذاته ودلالته فقد صاحب ذكر القميص حياة يوسف عليه السلام من أيام صباه.
فعندما قام أخوة يوسف بالقائه بالجب جعلوا يدلونه في البئر، وربطوا يديه، وقاموا بنزع قميصه , وعن السدي قال : يا إخوتاه ، ردوا عليّ قميصي أتوارى به في الجب . فقالوا له : ادع الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر يؤنسوك . قال : فإني لم أر شيئاً ( ).
وفي رواية أبي الجارود عن الإمام الباقر عليه السلام في قوله (وجاؤا على قميصه بدم كذب) قال انهم ذبحوا جديا على قميصه( ).
لقد أرادوا قتل يوسف كما قتل ابن آدم قابيل أخاه هابيل برضخ رأسه بصخرة، ولكن أخاهم يهوذا منعهم وذكرّهم بالميثاق الذي أعطوه لأبيهم يعقوب النبي بأن لا يقتلوه، وكان يهوذا يأتيه بالطعام والزاد وهو في البئر .
وفي طريقهم إلى البيت أخذوا جدياً من الغنم، فذبحوه ونضحوا من دمه على قميص يوسف، وعندما وصلوا إلى البيت علت أصواتهم بالبكاء، وعددهم عشرة فسرعان ما يحاكي بعضهم بعضاً بالتباكي، والبكاء لفقد أخيهم.
وقد ورد في التنزيل [وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ]( )، ففزع يعقوب وتبادر إلى ذهنه أن أمراً حلّ بغنمهم كأكل الذئب لبعضها أو تعرضها للنهب والسرقة قال لا، وتفقدهم مع كثرتهم فلم ير يوسف معهم فأخبروه بأن الذئب أكله، وهو سر بكائهم، فبكى يعقوب بكاء شديداً، ثم سأل عن قميصه قال تعالى[وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ]( )، وبكى مرة أخرى إذ ذكر يوسف عندما رأى قميصه، ووضعه على وجهه وخضبه من دم القميص .
ثم قال : إن هذا الذئب يا بني لرحيم، لأنه أشفق على القميص ولم يخرقه بينما أكل يوسف ، لبيان قانون وهو أن الله عز وجل يخزي القاتل، ويظهر كذبه ويفضحه بين الناس، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ]( )، ليكون القميص من مصاديق السلطان الذي تذكره الآية أعلاه .
لقد لاصق هذا القميص جسد النبي يوسف فاخلص له، وصار أمارة على أن يوسف عليه السلام لم يقتل، وضياء وأملاً لمواساة يعقوب النبي وصار قميص آخر ليوسف عليه السلام في واقعة لاحقة برهاناً وحجة ودليلاً عن عفة وطهارة وعصمة يوسف عليه السلام وتنزهه عن فعل السيئة والفاحشة وإمتناعه عن إجابة امرأة العزيز فيما أرادت ليكون صبره وعمله دعوة للمسلمين والناس لإجتناب السيئات ، قال تعالى [وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ] ( ) .
ومن الآيات تكرار لفظ قميصه وكلها وردت بخصوص يوسف عليه السلام ليصبح القميص مرة أخرى سبباً لنجاته وشاهداً على عصمته .
وورد لفظ قميصه في أربع آيات متتاليات( ) كما ورد مرة أخرى بقيام يوسف بارسال قميصه إلى أبيه ليكون بشارة وتأكيداً لسلامته وأنه حي .
وفي التنزيل [اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ] ( ).
(عن ابن عباس قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا خير البشر ، فقال : ذاك يوسف صديق الله ابن يعقوب إسرائيل الله ابن اسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله . إن الله كسا إبراهيم ثوباً من الجنة ، فكساه إبراهيم إسحاق ، فكساه اسحاق يعقوب ، فأخذه يعقوب فجعله في قصبة حديد ، وعلقه في عنق يوسف ، ولو علم إخوته إذ ألقوه في الجب لأخذوه .
فلما أراد الله أن يرد يوسف على يعقوب وكان بين رؤياه وتعبيرها أربعين سنة ، أمر البشير أن يبشره من ثمان مراحل ، فوجد يعقوب ريحه فقال { إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون }( ) فلما ألقاه على وجهه ارتد بصيراً ، وليس يقع شيء من الجنة على عاهة من عاهات الدنيا إلا أبرأها بإذن الله تعالى ) ( ).
المسألة الثانية عشرة : من الإعجاز في سياق هذه الآيات ورود مادة (غفر) في آية البحث والسياق ، وكل واحدة منهما بشارة عظمى للمسلمين ، وباعث لهم لإستئناف العمل في سبل التقوى ، ونيل المغفرة , وهل هو من عمومات قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) الجواب نعم .
وتضمنت آية البحث الأمر من عند الله عز وجل للنبي محمد بأن يستغفر للمسلمين ، ولو دار الأمر بين إرادة خصوص الذين فروا من معركة أحد أم المسلمين مطلقاً ، فالصحيح هو الثاني ، بدليل آية السياق بقوله تعالى [لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ] والتي تتضمن أموراً :
الأول : إرادة معنى العموم وتغشي المسلمين والمسلمات بالمغفرة من عند الله عز وجل .
الثاني : المغفرة فضل ورحمة من الله .
الثالث : لقد خص الله عز وجل الشهيد بمرتبة عظيمة ، وأخبر سبحانه عن حياة الشهيد عند الله عز وجل من حين مغادرته الدنيا وكأنه ليس ثمة فترة إنتقال بين الموت والحياة في الآخرة ، قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) .
ولكن حينما يتعلق الأمر بالعفو والمغفرة من عند الله عز وجل فانها شاملة للمسلمين سواء من مات أو قتل شهيداً منهم ، وهو نعمة عظمى تبعث الرغبة في النفوس لدخول الإسلام ، والشوق للقاء الله عز وجل ومن خصائص ملك الله عز وجل للسموات والأرض والخلائق كلها أنه [عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) وجعل سبحانه قدرته في رحمة العباد واللطف بهم ، فانزل آيات القرآن ، وجعلها معصومة من التحريف والتغيير لتتلقى الأجيال المتعاقبة بشارة مغفرته للمؤمنين .
وهل يدل نظم آية السياق [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ) على حصر المغفرة بتعقبها لوقوع الموت أو القتل ، الجواب لا ، من وجوه :
الأول : إرادة أصالة التنجيز في الفضل الإلهي ، فلو دار الأمر بين التنجيز والتعليق فيه ، وبين حضوره للعبد في الدنيا أم الآخرة ، فالصحيح هو الأول ، ومنه المغفرة والعفو .
الثاني : عدم التعارض بين مجئ المغفرة في الدنيا ومجيئها في الآخرة
الثالث : إخبار آية السياق عن تفضيل المغفرة والرحمة من الله عز وجل على ما يجمع الناس من المال والخير وزينة الدنيا ، وبما أن الذي يجمعون خاص بالحياة الدنيا إذ أن الآخرة دار حساب من غير عمل فكذا بالنسبة للمغفرة إلا مع القرينة التي تدل على الخلاف .
الرابع : مجئ آية البحث بالأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإستغفار للمسلمين ، وترشح الإستجابة عن هذا الأمر على نحو القطع واليقين ، وتحتمل هذه الإستجابة وجوهاً :
أولاً : هذه الإستجابة من الوحي ، وعمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
ثانياً : ترشح الإستجابة عن ذات الأمر من غير أن ينزل إذن خاص من الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإستجابة وقيامه بالإستغفار.
ثالثاً : الإستجابة مبادرة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي يختار وقت ومكان وكلمات هذا الإستغفار .
رابعاً : تكون المرة الأولى من إستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين إستجابة لأمر الله عز وجل في قوله تعالى [وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ]وما عداها يكون تطوعاً ونافلة .
والصحيح هو أولاً وثانياً أعلاه ، من غير تعارض بينهما ، وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين ، وتقدير الآية : واستغفر لهم وسنجعلك تستغفر لهم بالوحي والأمر .
المسألة الثالثة عشرة : بين مادة [غفر]الواردة في كل من آية البحث والسياق عموم وخصوص مطلق ، فقد جاءت في آية السياق على نحو التحقق والتنجز ، وتفضل الله عز وجل بمحو الذنوب عن المسلمين مجتمعين ومتفرقين , أما آية البحث تتضمن الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يستغفر للمسلمين ، وتحتمل الصلة بينهما وجوهاً :
الأول : استغفر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين فغفر الله لهم ، وليس من موضوعية لتأخر آية الأمر في النظم بالإستغفار في المقام لعلم الله سبحانه بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استغفر ويستغفر للمسلمين .
الثاني : معنى المغفرة في آية السياق هي إسقاط ومحو الذنوب في الآخرة، وقد ذكر قوله تعالى [لَمَغْفِرَةٌ] بعد ذكر الموت والقتل في سبيل الله .
الثالث : التباين الموضوعي فاستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين باب للأجر والثواب في الدنيا , وسبيل لإبتداء المسلم العمل بعد العفو والمغفرة .
الرابع : تعدد أسباب المغفرة للمسلم لينال الأجر والثواب وباستثناء الوجه الأول فان الوجوه الأخرى من مصاديق آية البحث وجمعها مع آية السياق .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : لما قضى الله الخلق كتب كتاباً فوضعه عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي) ( ).
المسألة الرابعة عشرة : ورد ذكر اسم الجلالة في آية السياق مرتين يتعلق موضوع الأولى باختيار المسلمين القتل في سبيله والتقرب إليه سبحانه ، أما الثانية التي يتفضل الله عز وجل بها فانها تتضمن البشارة والجزاء الحسن من عند الله عز وجل على الإيمان إذ أن تقدير آية السياق على وجهين :
الأول : لئن متم مسلمين لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون .
الثاني : لئن قتلتم في سبيل الله لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون) وأيهما أعظم درجة وأجراً منهما ، الجواب هو الثاني أعلاه لإختيار القتل دفاعاً عن بيضة الإسلام ، وفي محاربة المشركين الذين لم يكتفوا بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مكة تجنباً لأذاهم , وإظهارهم الإستخفاف والسخرية به ، وتعذيب أصحابه ، بل هجموا بالجيوش العظيمة على دار الهجرة وهي المدينة في معركة بدر واحد والخندق , وفي التنزيل [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ).
لقد كانت قريش تجتمع في دار الندوة التي تطل على البيت الحرام ليتدارسوا أحوال القبائل ويتذكروا الحروب والوقائع والأشعار التي ذكرت فيها ، وصيغ المدح والذم والهجاء ، ويولوا عناية خاصة لمعرفة أحوال الناس والتجارات وشؤون موسم الحج ، حتى إذا ما بعث الله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صارت مسألة دخول الناس الإسلام الأهم في أحاديثهم ومنتدياتهم ، وعزموا على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يعد العدة للهجرة في موسم الحج ، ويعرض نفسه على القبائل لإجارته وحمايته ، وقيامه بتبليغ رسالة الله عز وجل ، قال تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] ( ).
ولو هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكان بعيد مثل الحبشة فهل تلحق به قريش , الجواب نعم ، بدليل أنه أمر نفراً من أهل بيته وأصحابه بالهجرة فأرسلت قريش وفداً إلى النجاشي ملك الحبشة لإعادتهم إلى قريش .
لقد أفزع قريشاً إطمئنان المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة وبقائهم على دينهم وعدم إفتتانهم بدين أهل البلد وهو النصرانية ، فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة إلى الحبشة وزودوهما بتوجيه وإرشاد مع هداية ثمينة إلى النجاشي وبطارقته .
وخشي أبو طالب والمسلمون في مكة على المهاجرين منهم ، فكتب أبو طالب قصيدة يسأل النجاشي فيها حسن جوارهم إذ قال :
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ فِي النّأْيِ جَعْفَرٌ .. وَعَمْرٌو وَأَعْدَاءُ الْعَدُوّ الْأَقَارِبُ
وَهَلْ نَالَتْ أَفْعَالُ النّجَاشِيّ جَعْفَرًا … وَأَصْحَابَهُ أَوْ عَاقَ ذَلِكَ شَاغِبٌ
تَعَلّمْ – أَبَيْت اللّعْنَ – أَنّك مَاجِدٌ … كَرِيمٌ فَلَا يَشْقَى لَدَيْك الْمُجَانِبُ
تَعَلّمْ بِأَنّ اللّهَ زَادَك بَسْطَةً … وَأَسْبَابَ خَيْرٍ كُلّهَا بِك لَازِبُ
وَأَنّك فَيْضٌ ذُو سِجَالٍ غَزِيرَةٍ … يَنَالُ الْأَعَادِي نَفْعَهَا وَالْأَقَارِبُ( )
وإبتدأ وفد قريش سعيهم الخبيث بأن إتصل بالبطارقة واحداً بعد آخر وقدم لهم الهدايا وأخبرهم عن الغاية من مجيئهم إلى الحبشة، وهو إعادة نفر منهم صبوا عن دين آبائهم بدين إبتدعوه ولم يذكروا لهم أن دين آبائهم هو الوثنية وعبادة الأصنام، إذ أنه على تضاد مع دين النصرانية، وما جاء به عيسى عليه السلام من عند الله عز وجل، وطلب من البطارقة الإشارة على الملك برد هؤلاء الغلمان عليهم خاصة وأنهم لم يدخلوا دين النصرانية .
ثم حضر وفد قريش عند النجاشي فخاطبوه بصفة السلطان، فقد ورد عن ابن إسحاق بإسناده عن أم سلمة زوج النبي قالت(فَقَالَا لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ إنّهُ قَدْ ضَوَى إلَى بَلَدِك مِنّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِك ، وَجَاءُوا بِدِينِ ابْتَدَعُوهُ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ وَقَدْ بَعَثْنَا إلَيْك فِيهِمْ أَشْرَافَ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدّهُمْ إلَيْهِمْ فَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا ، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ .
قَالَتْ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُمْ النّجَاشِيّ , فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ صَدَقَا أَيّهَا الْمَلِكُ قَوْمَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا ، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَأَسْلِمْهُمْ إلَيْهِمَا ، فَلْيَرُدّهُمْ إلَى بِلَادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ .
فَغَضِبَ النّجَاشِيّ ، ثُمّ قَالَ لَاهَا اللّهِ إذْن لَا أُسْلِمَهُمْ إلَيْهِمَا ، وَلَا يَكَادُ قَوْمٌ جَاوَرُونِي ، وَنَزَلُوا بِلَادِي ، وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ حَتّى أَدْعُوهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ عَمّا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولَانِ أَسْلَمْتهمْ إلَيْهِمَا ، وَرَدَدْتهمْ إلَى قَوْمِهِمْ وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتهمْ مِنْهُمَا ، وَأَحْسَنْت جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي)( ).
لقد تجلت آيات إيمانية في هجرة نفر من الصحابة إلى الحبشة لتصبح سبيل نجاة وخلاص لأفراد وجماعات وطوائف من المسلمين في كل زمان ويدرك أهل كل جيل شواهد مصاحبة لهم، صارت ضياء ومناراً، وسبباً للسعة والمندوحة وصرف البلاء عن المؤمنين، وهو من مصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ) وقوله تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] ( ).
ومن الإعجاز في هجرة الصحابة إلى الحبشة بلحاظ آية السياق مسائل:
الأولى : لم تكن هذه الهجرة للغزو، فلم يشرع الجهاد والدفاع عن الإسلام والمدينة بعد، إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة يتلقى وأهل بيته وأصحابه الأذى بصبر.
الثانية : التأكيد العملي لصدق إيمان الصحابة وقيامهم بهجران الأوطان، ومفارقة الأهل والأحبة، وملاعب الصبا طلباً لمرضاة الله وللحفاظ على إيمانهم .
الثالثة : بعث رسالة إلى كفار قريش وغيرهم بأن قواعد الإسلام أنشئت وأن الكفار لا يستطيعون هدم أركانه، وقد ورد قوله تعالى[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( )، وقد هاجر شطر من الصحابة الأوائل لبناء قواعد للإسلام، ونواة الإيمان خارج الجزيرة ومن قبل ظهور دولة الإسلام، ولكنه من مقدمات ومصاديق قوله تعالى[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( ).
الرابعة : ذم وتبكيت كفار قريش، وتوبيخهم على سوء فعلهم وإيذائهم المسلمين، وحملهم أبناء عمومتهم على الهجرة وتحمل الأخطار، وقسوة ديار الغربة .
فمن بين أبرز المهاجرين إلى الحبشة عثمان بن مظعون , وقال : يُعَاتِبُ أُمَيّةَ بْنَ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ ، وَهُوَ ابن عَمّهِ وَكَانَ يُؤْذِيهِ فِي إسْلَامِهِ وَكَانَ أُمَيّةُ شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ فِي زَمَانِهِ ذَلِكَ
أَتَيْمَ بْنَ عَمْرٍو لِلّذِي جَاءَ بِغْضَةً … وَمِنْ دُونِهِ الشّرْمَان وَالْبَرْكُ أَكْتَعُ
أَأَخْرَجْتنِي مِنْ بَطْنِ مَكّةَ آمِنًا … وَأَسْكَنْتنِي فِي صَرْحِ بَيْضَاءَ تُقْذَعُ
تَرِيشُ نِبَالًا لَا يُوَاتِيك رِيشُهَا … وَتِبْرِي نِبَالًا رِيشُهَا لَك أَجْمَعُ
وَحَارَبْت أَقْوَامًا كِرَامًا أَعِزّةً … وَأَهْلَكْت أَقْوَامًا بِهِمْ كُنْت تَفْزَعُ
سَتَعْلَمُ إنْ نَابَتْك يَوْمًا مُلِمّةٌ … وَأَسْلَمَك الْأَوْبَاشُ مَا كُنْت تَصْنَعُ( ).
وقتل أمية بن خلف يوم بدر كافراً، وقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتل أخيه أبي بن خلف يوم أحد إذ طعنه فصرعه ثم مات .
وهرب صفوان بن أمية يوم فتح مكة، وشاء الله أن يوثق هروبه بشعر من أحد مشركي مكة يومئذ، وهو حسان بن قيس البكري الذي كان يتوعد أمام زوجته بأنه سيأتي بالأسرى من المسلمين لها خّداماً، وحينما رأته منهزماً فاراً عاتبته فقال :
إنك لو شهدت يوم الخندمة … إذ فر صفوان وفر عكرمة
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة … يقطعن كل ساعد وجمجمة
ضرباً فلا تسمع إلا غمغمة … لهم نبيب خلفنا وهمهمه
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
ثم رجع صفوان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشهد معه حنيناً والطائف وهو كافر وامرأته مسلمة أسلمت يوم الفتح قبل صفوان بشهر ثم أسلم صفوان وأقرا على نكاحهما .
وكان عمير بن وهب بن خلف قد استأمن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين هرب يوم الفتح هو وابنه وهب بن عمير فآمنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهما وبعث إليه مع وهب بن عمير بردائه أو ببرده أماناً له فأدركه وهب بن عمير ببرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو بردائه فانصرف معه فوقف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وناداه في جماعة الناس : يا محمد إن هذا وهب بن عمير يزعم أنك آمنتني على أن أسير شهرين .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” انزل أبا وهب ” . فقال: لا حتى تبين لي , فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” انزل فلك مسير أربعة أشهر ” .
وخرج معه إلى حنين واستعاره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلاحاً فقال: طوعاً أو كرهاً فقال: ” بل طوعاً عارية مضمونة ” . فأعاره. وأعطاه رسول الله صلى الله وآله وسلم من الغنائم يوم حنين فأكثر. فقال صفوان: أشهد بالله ما طابت بهذا إلا نفس نبي فأسلم وأقام بمكة ( ).
المسألة الخامسة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا يعفو عنكم النبي ليستغفر لكم ) وفيه بشارة مصاحبة للإيمان وبيان قانون من خزائن اللطف الإلهي ، وهو مجئ النعم مع نداء الإيمان ، فصحيح أن نداء الإيمان نعمة عظمى على المسلمين خاصة ، الذين يتوجه لهم النداء بالذات ، وعلى الناس جميعاً لما ينالهم من رشحات هذا النداء المبارك العامة ، ليتلوا المسلمون نداء الإيمان جهراً بشوق وفخر وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ويفيد الجمع بين الآيتين أن في إعجاز القرآن الذاتي والغيري أنه أعظم طريق للترغيب بالهداية للإيمان ، وهو من أسرار تقسيم القرآن إلى سور والسور إلى آيات ، فكما تدعو الآيات الكونية إلى الإيمان مثل آية الشمس وآية القمر ، وآية جريانها بأنتظام ، وعدم تخلف أحدهما عن ميقات إطلالته على أهل الأرض ، قال تعالى [لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] ( ) فان كل آية قرآنية تدعو بذاتها للهدى والإسلام من جهات :
الأولى : رسم الآية القرآنية وما يجلبه من السكينة للنفس .
الثانية : نظم الآية القرآنية والإختلاف في الكلمات ، والتباين في عدد كلمات كل آية من القرآن .
الثالثة : الإعجاز البلاغي للآية القرآنية ، الأمر الذي جعل أساطين اللغة ، وفصحاء العرب يقفون مبهورين في ذهول أمام تركيب اللفظ القرآني ، وتعدد معانيه ، وإذ ينشغلون بالتدبر بالآية القرآنية ، وإستقراء المسائل والعلوم والغايات منها ، تطل عليهم آية قرآنية أو آيات يأتي بها الأمين جبرئيل عليه السلام قادماً من اللوح المحفوظ ، بعد أن إنتظر آلاف السنين كي ينزل بها مرة واحدة وإلى يوم القيامة , ويقابلها الناس بدخول الإسلام .
وهل كان لمدة حال تدبر المسلمين وأهل الكتاب والكفار في الآية القرآنية من موضوعية في ترتيب وتعيين أوان نزول الآية القرآنية ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ]( ) وقوله تعالى [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ).
الرابعة : تلاوة المسلمين للآية القرآنية ، وعذوبة هذه التلاوة وترتب الإرتقاء في المعارف على هذه التلاوة .
ومن الإعجاز في المقام صيرورة تلاوة آيات القرآن واجباً عينياً على كل مسلم ومسلمة في الصلاة اليومية ، ومن هذه التلاوة ما تكون جهراً ليتفكر السامع والمستمع ، ومنها ما يكون إخفاتاً ليتدبر القارئ في الآية مع إدراك غيره أنه منقطع إلى الله بتلاوة القرآن في أبهى ساعة خضوع وخشوع إلى الله عز وجل ، فأنعم الله عز وجل على المسلمين بآية البحث والإخبار عن عفو ومغفرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنهم .
المسألة السادسة عشرة : تكرر لفظ الرحمة في آية البحث والسياق ، وهو نوع إيقاع إذ يتألف من أطراف :
الأول : الراحم .
الثاني : موضوع الرحمة .
الثالث : المرحوم الذي يتلقى الرحمة .
وليس من مخلوق إلا وهو محتاج إلى رحمة الله عز وجل , وتأتيه الرحمة المتعددة في كل لحظة مع غنى الله عز وجل عن الخلائق كلها ، قال تعالى [وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ] ( ) ومن فضل الله مجئ رحمته على نحو متعدد ودفعي من غير تزاحم أو تعارض بين أفرادها .
وكل آية من القرآن بذاتها رحمة متجددة من عند الله ، وتدعو إلى رحمته والنهل منها ، وتأتي هذه الرحمة بالنص وذكر مادة الرحمة كما في آية البحث والسياق أو تأتي بالمعنى والدلالة التضمنية أو الإلتزامية .
وقد ورد لفظ الرحمن في آية السياق بقوله تعالى [وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ).
وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : ورحمة من الله لكم خير مما يجمعون .
ثانياً : وسؤالكم الرحمة من الله خير مما يجمعون ، ليكون من معاني الرحمة في آية السياق ما يأتي بالدعاء والمسألة بفضل من الله ، وهو من عمومات قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
ثالثاً : ورحمة تأتي لكم ورحمة تأتي لأبنائكم من الله خير مما يجمعون ، فمن خصائص الإنسان الحرص على الجمع والعناية بالتركة لأبنائه ، إذ أنه يدرك في حياته نفع المال في قضاء الحوائج وتيسير الأمور والجاه وشدة الفقر وضراوته على النفس والبدن ، فيسخر خبرته وما لاقاه في حياته من أجل الأمن والغبطة والسراء لأولاده كل إنسان بحسب حاله وشأنه ، فقد يفرح الإنسان أنه يترك لأولاده داراً للسكن , ومنهم من يسعى لمضاعفة أملاكه وشركاته، قال تعالى [كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] ( ) .
وجاءت أحكام الزكاة لتنزيه الإنسان عن الشراهة في الجمع ، وللإيمان بأن الله عز وجل هو [هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] ( ) فهو الذي يبعثك على إخراج الصدقات من مالك لتدفعها إلى الفقير الذي لك معه رحم أو جوار أو لا تعرفه إلا ساعة دفع الزكاة له ، وقد لا تعرف لمن أعطيت زكاة مالك إذ كانت بواسطة العلماء ونحوهم ، وهو من الإعجاز وصيغة العموم في مجئ آية الصدقات بخصوص أخذ وإستلام الصدقات ممن تعلقت بمالهم الزكاة الواجبة أو بخصوص الصدقة المستحبة ، قال تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ] ( ) .
وتبين الآية قانوناً وهو أن الميراث ينفد ولا يفي بحاجات الورثة وقد يكون سبباً للفتنة والخصومة بينهم ، والشواهد في كل زمان كثيرة ، أما بالنسبة لرحمة الله فهي خير محض ، ونفع دائم .
رابعاً : لقد صاحبت رحمة الله الإنسان من حين خلق آدم , وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لما نفخ الله في آدم الروح فبلغ الروح رأسه عطس فقال { الحمد لله رب العالمين }( ) فقال له تبارك وتعالى : يرحمك الله ) ( ).
ومن أسرار آية السياق التذكير برحمة الله على الناس ، وإنتفاع اللاحق من الرحمة التي جاءت للسابق والأب وكذا العكس إي إنتفاع السابق مما يأتي اللاحق من الرحمة , وقد ورد قوله تعالى بخصوص قصة موسى والخضر [وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي] ( ).
ويحتمل متعلق النفع في إستخراج الكنز والرحمة المذكورة في الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : إختصاص النفع بالغلامين سواء كان الكنز ذهباً وفضة , أو خزينة ولوحة من العلم .
الثاني : إنتفاع الغلامين وصيرورة المال سبباً لزواج كل منهما ، وإنجاب أولاد يبقى الكنز ميراثاً لهم ، ويحتمل هذا الكنز من جهة بقائه لورثة الغلامين جهات :
الأولى : بقاء ذات الكنز .
الثانية : وراثة أبناء الغلامين ، ما يعادل مقدار الكنز سواء تباينت العملة أو جنس المال أو لم يختلف .
الثالثة : تلقي الورثة مالاً أكثر من الكنز لإتصال رحمة الله بالنماء في المال .
الرابعة : بقاء مقدار من المال أقل من ذات الكنز .
الخامسة : عدم بقاء شيء من الكنز لذرية الغلامين.
والمختار هو الثالثة أعلاه لتجدد رحمة الله على الغلامين وآبائهم وأبنائهم ، فان قلت النقاش في الكبرى وهو ما الدليل على بلوغ الغلامين ثم بناء كل واحد منهما بزوجة وإنجابهما الأولاد .
الجواب ذات الآية أعلاه التي تتضمن الرحمة من عند الله للآباء والأبناء ، ولو دار الأمر بين شمولهما بأسباب الرحمة المتعارفة عن الناس بالتزاوج والتوالد أو لا ، فالصحيح هو الأول ، ولما أكرمهما الله بإخراج الكنز فانه سبحانه أراد لهما السعة والمندوحة في العيش وأسباب الرغد والهناء ، وأكل الطيبات ورغبة الناس وأهليهن بالزواج من أصحاب الكنز ، مع تعاهد الإيمان والثبات على الإسلام من قبل الغلامين وذريتهما ، وهو من معاني الرحمة في الآية .
وعن ( أبي ذر رفعه قال: “إن الكنز الذي ذكر الله في كتابه: لوح من ذهب مصمت مكتوب فيه: عجبت لمن أيقن بالقدر لم نصب ؟ وعجبت لمن ذكر النار لم ضَحِك ؟ وعجبت لمن ذكر الموت لم غفل؟ لا إله إلا الله، محمد رسول الله”)( ).
ليكون هذا الكنز معجزة وهو يجمع بين المال لأنه من الذهب الخالص وبين الحكمة ولأنه إبتدء بالبسملة , وفيه بشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووصية للغلامين وذريتهما للتصديق به عند بعثته ، أذ تجددت هذه الوصية أيام بعثة النبي موسى بن عمران عليه السلام ، وبحضور الخضر عليه السلام .
الثالث : إنتفاع المؤمنين من أهل بلدة الغلامين .
الرابع : إرادة إنتفاع المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة من قصة كنز الغلامين .
وباستثناء مسألة إختصاص الغلامين فان الوجوه أعلاه كلها صحيحة ، ولودار الأمر بين عموم الرحمة أو حصرها فالأصل الجلي هو الأول .
وفيه مصداق لقانون عموم الرحمة الخاصة ، فتأتي الرحمة من عند الله لشخص أو قرية أو طائفة فينتفع منها الناس جميعاً .
وهل منه خصوص الرحمة التي تذكرها آية البحث الجواب نعم ، لبيان قانون وهو تعدد مصاديق الرحمة المذكورة في آية البحث ونفعها وأثرها .
ومن الإعجاز في لفظ (رحمة) في آية البحث وآية السياق وهي الآية قبل السابقة ورود كل منهما بصيغة التنكير ، ليكون إنتفاع المسلم منها متعدداً ودائماً ، ويمكن تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
أولاً : رحمة من الله خير مما يجمعون .
ثانياً : فبما رحمة من الله لنت لهم هو خير مما يجمعون .
ثالثاً : فبما رحمة ورحمة من الله لنت لهم ) أي تتعدد مصاديق الرحمة التي تجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم رفيقاً رؤوفاً بالمسلمين .
الوجه الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا…] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إبتدأت آية السياق بنداء الإيمان الذي هو خطاب مبارك موجه إلى المسلمين والمسلمات في كل زمان وإلى يوم القيامة ، فلما جعل الله عز وجل القرآن غضاً طرياً وشريعة باقية مع وجود الإنسان في الأرض فلابد من منادى يتلقى الخطاب من عند الله عز وجل بصيغة الإيمان ، والنداء هو دعوة موجهة إلى المخاطَب بصيغة مخصوصة للإصغاء وتلقي ما يريده المتكلم وأركان النداء هي :
الأول : المنادي الذي يبدأ ويوجه النداء ويختار كلمات النداء وجهته .
الثاني : حرف النداء ، وهو على جهات :
الأولى : لفظ (يا) في نداء الإيمان .
الثانية : الهمزة المفتوحة المحدودة أ .
الثالثة: الهمزة المفتوحة المحدودة آ .
الرابعة: أي المقصورة .
الخامسة: يا .
السادسة: أيا .
السابعة: آي الممدودة .
الثامنة: هيا .
التاسعة : (وا) لنداء المندوب .
وجاءت آية السياق بحرف النداء (يا) في [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]وهو أم حروف النداء وأكثرها إستعمالاً ، وتأتي في النداء المحض وفي النداء المقترن بالندبة أو الإستغاثة أو التعجب , وتختص بمناداة الله عز وجل ، وفي نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ويجوز حذفها كما في قوله تعالى [يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا]( ) وتقديره : أيا يوسف ، وقوله تعالى [وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ] ( ) ويمتنع حذفها في ثمان حالات وهي :
الأولى : ثبات نداء الإيمان مع لفظ الجلالة .
الثانية : المستغاث مثل الغوث ، الغوث يا الله .
الثالثة : المندوب .
الرابعة : المتعجب منه .
الخامسة : المنادى البعيد .
السادسة : الضمير مع ندرة وشذوذ ندائه مثل يا أنت ، لأن أنت ضمير رفع والموضع حاله النصب .
السابعة : النكرة غير المقصودة وحكمها النصب وهي مناداة كلي في المعين ، وشخصاً على نحو الإجمال من غير أن يتوجه النداء إلى شخص بعينه تراه أو تشير إليه أو تذكره بالاسم والصفة ، كما في قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ) كمل لو قلت : يا مسلم لئن مت لإلى الله تحشر ) من غير تعيين شخص معين ، وكما في سؤال الأعمى في الطريق : يا محسن دلني على المسجد .
الثامنة : النكرة المقصودة : وهي التي يتوجه فيها الخطاب إلى شخص أو جهة معلومة ويقصدها المنادي .
الثالث : المنادى : وهو الذي يتوجه إليه النداء متحداً كان المنادى أو متعدداً , حاضراً أو غائباً .
الرابع : الفعل المقدر بأدعو أو أنادي .
وما ان يولد الإنسان من أبوين مسلمين أو أحدهما مسلم حتى يكون نداء الإيمان ذخيرة له ، ويطل عليه لمناداته ودعوته ، وفيه إكرام له قبل وبعد سن البلوغ ، إذ لا يختص هذا النداء بالبالغين من المسلمين والمسلمات ، لذا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحث على تعليم الصبيان الصلاة في سن السابعة .
المسألة الثانية : هل يصح تقدير الجمع بين الآيتين يا أيها الذين آمنوا لو كان النبي فظاً غليظ القلب لأنفضضتم من حوله ) الجواب لا ، للتباين في صيغة الخطاب والدلالة ، فقد جاءت آية البحث لبيان فضل الله عز وجل لهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتخفيف عنهم بالحسن الخلق وسمت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولين جانبه معهم وتأكيد نعمة الله عز وجل على النبي في عصمته مما هو ضد اللين ، ومن الفضاضة والقسوة والشدة ، أما إذا كان الخطاب للمسلمين في المقام فهو مختلف ، وتقديره على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا لا تنفضوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : يا أايها الذين آمنوا لا تصدروا إلا عن القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا لا تنفضوا من حول الرسول النبي حتى وإن كان فظاً غليظ القلب .
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا أشكروا الله لسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الفضاضة وغلظة القلب .
لقد تنزه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الفضاضة وغلظة القلب ، أما واجب المسلمين فهو إتباعه فيما جاء به من عند الله ، فلا موضوعية أو أثر للفضاضة وغلظة القلب في التنزيل ومجيئه وحسب الوقائع والأحداث ولزوم عمل المسلمين بالأوامر والنواهي الإلهية ، ليكون الجمع بين الآيتين : يجب على المسلمين عدم الإنقضاض حتى مع الفضاضة والغلظة ، ولو إنفضت طائفة من المسلمين عن النبي على فرض شدته وغلظته ، فانهم لا ينفضون إلا كمسلمين فلا يتركون أمراً من الواجبات إلا جاءوا به ، ولا يأتيهم نهي عن شيء أو فعل إلا إجتنبوه .
وهناك تباين موضوعي بين البقاء على الإيمان والإنفضاض عن النبي ، فمع أن حرف [لو] حرف إمتناع لإمتناع ، ويدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن فاضاً غليظ القلب ، فان المسلمين يبقون على الإيمان حتى في حال كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم شديداً قاسياً مع المسلمين أو مع غيرهم وغليظ القلب ، لأن الآية تدل على أن الإنفضاض يتم بصفة الإيمان ، من وجوه :
الأول : إبتداء آية البحث بكلمة الرحمة من عند الله وفيوضاتها .
الثاني : مضمون آية البحث هو الرفق والعفو والمغفرة , والدلالة على على فوز المسلمين بها مجتمعين ومتفرقين .
الثالث : بدليل قوله تعالى في آية السياق [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
الرابع : وصف ومخاطبة آية البحث المسلمين بصفة الإيمان .
الخامس : ثناء الآية على المسلمين لقربهم وعدم إبتعادهم عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه بعث للفزع والخوف في قلوب الذين كفروا .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين آية البحث والسياق : يا أيها الذين آمنوا برحمة من الله لان لكم رسول الله )
من الإعجاز في نظم الآيات مجئ آية السياق خطاباً للمسلمين والمسلمات لتتضمن إكرامهم مع نهيهم عن محاكاة الذين كفروا فيما يبثون من أسباب الريب , ويظهرون من صيغ المغالطة , واعزاز الآية للمسلمين بنداء الإيمان ، وكيف أنه شاهد على صلاحهم وأهليتهم للتنزه عن مثل هذه المحاكاة ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى الله عليه وآله وسلم : من تشبه بقوم فهو منهم ) ( ) .
وجاءت آية البحث باكرام آخر للمسلمين ، وهو بتوجه الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإخبار بصيغة الجملة الخبرية بأن الله عز وجل قد تغشاهم برحمته وجعل رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم يلين لهم ويرفق بهم .
لقد تولى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعظم مسؤولية في تأريخ الإنسانية وتحمل من أجلها أشد الأذى ، وكان الموت والقتل قريباً منه في كل يوم من أيام حياته , وقال تعالى [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] ( ) .
ولم يمنعه الخطر القريب وكثرة الأعداء واجهارهم بارادة قتله من تبليغ الرسالة بأحسن وأسمى كيفية ، وهل هذا التبليغ من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( )أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو حسن السمت والسيرة الجليلة ، والتهذيب التام .
المختار هو الأول ، فان قلت بناء على إختيار الأول فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ينفرد بمرتبة من الخلق الرفيع لم يصلها غيره من البشر ، الجواب نعم , وسواء قلت بالوجه الأول أو الثاني فانه صلى الله عليه وآله وسلم ينفرد باسمى مرتبة في الأخلاق وهي من رشحات النبوة والرسالة الخالدة الممتنعة بفضل الله عن النسخ والتبديل .
ومن جهاد وحسن خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم لين جانبه للمسلمين وصبره على الأذى ، وتأديبهم بتحمل الأذى في مرضاة الله عز وجل ، فاذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمتنع عن الدعاء على الذين كفروا رجاء هدايتهم فانه درس للمسلمين للصبر عليهم مع السعي في إقامة الحجة والبرهان بلزوم نبذهم الكفر ومفاهيم الضلالة .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين يا أيها النبي أعف عن الذين آمنوا واستغفر لهم).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إختبار وعمل، والآخرة دار الحساب والجزاء، وهل يمكن القول أن الحياة الدنيا دار شكر وجزاء أيضاً، الجواب نعم، وهو الذي تدل عليه كل من آية النداء والبحث، أما بالنسبة لآية السياق وهي آية النداء فمن جهات:
الأولى : توجه النداء بصيغة المدح والثناء من الله عز وجل إلى المسلمين والمسلمات، وفيه دعوة إلى الملائكة والخلائق بإكرامهم، ولمّا إحتجت الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، تفضل الله عز وجل وأجابهم بما يفيد الحجة والبرهان الدائم المتجدد[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ففي كل يوم من أيام الإنسان في الحياة الدنيا هناك برهان متعدد يدل على الحكمة الإلهية في أمور متداخلة :
الأول : جعل خليفة في الأرض.
الثاني : صيرورة الإنسان هو الخليفة.
الثالث : ملازمة النبوة للخلافة.
الرابع : إستحقاق الإنسان لمرتبة الخلافة بالتقوى، وسنن العبادة لله عز وجل.
الثانية : إرادة العموم الإستغراقي في نداء الإيمان , ويحتمل تقدير نداء الإيمان وجوهاً:
أولاً : إرادة الذين نطقوا بالشهادتين.
ثانياً : المقصود المسلمون والمسلمات من الذين صدقوا في إيمانهم ظاهراً وباطناً إذ أن المدار على إيمان القلوب.
ثالثاً : المراد المسلمون والمسلمات عدا المنافقين الذين يبطنون الكفر، قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
رابعاً : المراد من لفظ وخطاب (يا أيها الذين آمنوا) المسلمون والمسلمات الذين يؤدون الفرائض العبادية من الصلاة والزكاة والصوم والحج والخمس.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق نداء الإيمان إذ يتوجه لكل الذين آمنوا بالله ورسوله ذات الأمر والنهي، قال تعالى [إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ] ( ).
فيتخلف عنه المنافقون عن صيغ الإمتثال وقصد القربة الذي هو قيد في العبادات , بإختيارهم والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار.
ومن أسرار تكرار نداء الإيمان في القرآن دعوة المنافقين للتوبة والإنابة من وجوه :
أولاً : إرادة فضل الله عز وجل على المسلمين بجذبهم إلى منازل التوبة والإنابة، وما يتوبون ويهجرونه من المعاصي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
ثانياً : ترشح معاني اللطف الإلهي من نداء الإيمان على عموم المسلمين والمسلمات والناس جميعاً، ليكون باعثاً على الصلاح، والتنزه عن مفاهيم النفاق.
ثالثاً : ذات نداء الإيمان حجة في تنزيله يهدي الإنسان إلى الهدى والرشاد، وهو من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، فيتلوا المسلمون والمسلمات الآية أعلاه عدة مرات لتجذبهم إلى الإيمان، ويتلوها المنافقون.
الثالثة : حث المسلمين على شكر الله عز وجل لتفضله بتفضيلهم بالتمييز والفعل بينهم وبين الذين كفروا في القول والفعل ، فقوله تعالى [لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) نعمة عظمى ، وشاهد على شهادة من عند الله للمسلمين بالإيمان والتقوى .
الرابعة : لما إختار المسلمون الإيمان ، وقالوا بأداء الفرائض العبادية ، وصاروا المصداق لعلة خلق الناس بقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) تفضل الله عز وجل وجازاهم بالعاجل نهيهم عن التشبه بالذين كفروا ليكون هذا التباين ، وتقيد المسلمين النهي بلغة للصبر ، والتحلي بالحكمة والحث على طاعة الله ، وتلقي نبأ موت أو قتل أحد المؤمنين بالإسترجاع والرضا ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ]( ).
وعن الإمام الصادق عليه السلام قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال الله عز وجل: إني جعلت الدنيا بين عبادي قرضا فمن أقرضني منها قرضا أعطيته بكل واحدة عشرا إلى سبعمائة ضعف، وما شئت من ذلك ، ومن لم يقرضني منها قرضا فأخذت منه شيئا قسرا فصبر أعطيته ثلاث خصال لو أعطيت واحدة منهن ملائكتي لرضوا بها مني ثم تلا الصادق عليه السلام قول الله تعالى ” الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم ” فهذه واحدة من ثلاث خصال ” ورحمة ” اثنتان ” واولئك هم المهتدون ” ثلاث) ( ).
الخامسة : آية السياق مدرسة لتفقه المسلمين في الدين ، ومعرفتهم بعدوهم الظاهر والخفي ، وهي ضياء سماوي يكشف زيف النفاق ، ويرجع كيد الذين كفروا إلى نحورهم .
السادسة : توجه المسلمين بالشكر لله عز وجل على نعمة إمتلاء قلوب الذين كفروا بالحسرة والأسى والغيظ ، وفي التنزيل [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] ( ) .
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين (يا أيها الذين آمنوا إن النبي يعفو عنكم ويستغفر لكم ).
لقد إبتدأت آية السياق بنداء الإيمان الذي يدل بالدلالة التضمنية على تفضل الله عز وجل بالشكر والجزاء للمسلمين على الهداية والإيمان ، وفي التنزيل [مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا] ( ).
ومن مصاديق هذا الجزاء أمر الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعفو عن المسلمين وأن يستغفر لهم ، وإلا فماذا تكون عقوبة الذي يقف بين يدي الله عز وجل وقد آذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأساء إليه إن لم يدركه العفو والمغفرة .
ومن خصائص آية البحث منع إستيلاء الكآبة على نفس المسلم الذي يؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم سواء كان وقع هذا الأذى قبل دخول الإسلام أم بعده .
فيخرج المسلم للدفاع والغزو أو للضرب في الأرض بقصد التجارة وتتغشاه الطمأنينة بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عفا عنه وتجاوز عن سيئاته وتقصيره ، إنما من بركة الإسلام ونداء الإيمان الذي إبتدأت به آية السياق ، أما الذي يبقى على الكفر ممن أساء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقول أو الفعل ، فانه يلقى البلاء في الدنيا ، والعذاب في الآخرة .
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها النبي إستغفر للمسلمين الذين لم يقولوا لأخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ) .
لبيان الثواب العاجل للمسلمين في صبرهم وعدم محاكاتهم الذين كفروا ممن لا يريد للمسلمين النصر والعز والأمن الدائم ، لقد اضطر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للدفاع عن النفوس والعقيدة في معارك الإسلام الأولى مثل معركة بدر وأحد والخندق ، وحتى معارك الإسلام اللاحقة فانها جاءت للدفاع أو الإحتراز بعد وصول أنباء عن نية الذين كفروا الهجوم على المدينة .
وإذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] ( ).
فان الذين كفروا يكون جزاءهم : فاذا عزموا فالهزيمة والخزي عاقبتهم، وفي معركة أحد قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين فأعف عنهم وأستغفر لهم ليجعل الله ذلك حسرة في قلوب الذين كفروا ) .
لقد ورد موضوع الحسرة في قلوب الذين كفروا بصيغة التنكير ولغة الإشارة (ذلك) ليكون اسم الإشارة في المقام علماً مستقلاً بذاته تستقرأ منه المسائل على متجدد ومتصل من وجوه :
أولاً : مضمون آية البحث وما يدل عليه اسم الإشارة (ذلك)واسباب غزو قلوب الذين كفلاوا بالحسرة التي تترشح عن آية البحث .
ثانياً : لحاظ نظم آيات القرآن ، والصلة بين كل آية من آيات القرآن وآية السياق .
ثالثاً : إرادة المعنى اللغوي اسم الإشارة (ذلك) وإفادته قصد القريب والبعيد ، والمتحد والمتعدد.
رابعاً : تجليات السنة النبوية القولية والفعلية والدفاعية والتدوينية وموضوعيتها في بعث الحسرة في قلوب الذين كفروا .
خامساً : معاني اسم الإشارة (ذلك) الوارد في آية السياق بلحاظ تجدد الحوادث والوقائع في كل زمان , والشواهد التي تدل على حصول الحسرة في قلوب الذين كفروا ، فلا يختص موضوع الآية وإخبارها عن إصابة الذين كفروا بالحسرة بالمعاصرين لزمان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل هي متجددة بغزو الحسرة إلى قلوب الذين كفروا في كل جيل وطبقة من الناس ، وهو من أسرار مجئ الآية بلغة العموم في اسم الإشارة (ذلك) ومنه توجه نداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إلى المسلمين والمسلمات للمعاصرين للذين كفروا في زمانهم أو مصرهم وبلدهم ، أو في غير مصرهم وزمانهم ، وتدب الحسرة في قلوب الذين كفروا بلحاظ قوله تعالى [فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ] ( ) من جهات :
الأولى : نزول آية البحث من عند الله عز وجل .
الثانية : تصديق المسلمين بنزول القرآن وآياته وخلوه من الزيادة أو النقيصة .
الثالثة : أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعفو عمن آذاه من المسلمين .
الرابعة : توجه الأمر من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يستغفر الله للذين آمنوا بالله ونبوته .
الخامسة : توجه الخطاب من الله سبحانه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة النبوة والرسالة .
السادسة : القطع بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبادر إلى الإمتثال لأمر الله عز وجل بالعفو والإستغفار عن المسلمين , وهولا يتعارض مع مجيئهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وسؤاله الإستغفار لهم , قال تعالى [وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا]( ).
السابعة : مجئ الأمر من الله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعفو عن المسلمين والإستغفار لهم على نحو العموم الإستغراقي .
الثامنة : إكتساب المسلمين لغة التسامح والود فيما بينهم بلحاظ أنها من رشحات عفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنهم , وسؤاله الله عز وجل المغفرة لهم .
المسألة الثامنة : تقدير الجمع بين الآيتين : وشاورهم في الأمر ليجعل الله ذلك حسرة في قلوب الذين كفروا ).
وقد يقال أن القدر المتيقن لخصوص أسباب حسرة وأسى الذين كفروا في آية السياق هو مضامينها القدسية ، ولكن إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره ، ومن سنن الإبتلاء في الدنيا قانون ملازمة الحسرة للكفر ، فلا يفارق قلوب الذين كفروا الأسى ، وتظهر الحسرة في أقوالهم وأفعالهم بالتردد ومعاني الخيبة والكآبة والنكوص .
ومن وجوه الحسرة في قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] أمور :
أولاً : أمر الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمشاورة المسلمين .
ثانياً : بلوغ المسلمين مرتبة المشاورة لخاتم النبيين ، قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ] ( ).
ثالثاً : إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين فالذي يدخل الإسلام يفوز بمشاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له .
رابعاً : دلالة المشاورة النبوية على قرب المسلمين من النبي محمد صلى الله عليه آله وسلم وهي منزلة رفيعة تبعث الحسرة في نفوس المشركين بالذات والعرض .
خامساً : إنصراف المسلمين عن الذين كفروا ، وإعراضهم عما يثيرون من أسباب الشك والريب والمغالطة .
ولما جاءت الآية قبل السابقة بنهي المسلمين عن تقليد الذين كفروا في إعابتهم على الشهداء خروجهم للدفاع , وعلى المسلمين سعيهم في الضرب في الأرض طلباً للتجارة وتعظيماً لشعائر الله ، أخبرت آية البحث عن عدم تفرق المسلمين عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يدل على إعراضهم عن قول الذين كفروا ، وهذا الإعراض أمر وجودي إذ يتقوم بالحيطة والحذر منهم ، والإحتراز من مكرهم وكيدهم , قال تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في التحذير من المنافقين [وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً] ( ).
سادساً : لما أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بمشاورة أهل بيته وأصحابه فلابد من نتائج حميدة تترشح عنها بخصوص ذات المشاورة والموضوع الذي يشاور به النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين .
وتقدير الآية : وشاورهم في الأمر وأنظر في قولهم ورأيهم وموافقته للوحي أو موافقة الوحي له ) ، فيأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمشورة الصحيحة والقول السديد ، وحينما قدمت جيوش قريش من الذين كفروا لمعركة بدر وأتى خبرهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بادر إلى إستشارة أصحابه من المهاجرين والأنصار وأطلعهم على قدوم جيش كفار قريش ، وما يتصفون به من الإصرار على تحقيق غاياتهم الخبيثة ، ورغبتهم في القتال ، وكيف أنهم أشداء فيه ، والمتعارف أن أهل النعمة والمال يتجنبون القتال والحرب ، وإن قاتلوا فأنهم لا يحسنون فنونه ، ولا طاقة لهم بالمطاولة فيه ، ويسخرون ويقدمون عبيدهم ، ويستأخرون غيرهم للقيام به .
ولكن قريشاً كانوا مع ما هم عليه من النعم وحياة المدينة وإكرام القبائل لهم لأنهم أهل بيت الله ومجاوريه كانوا أشداء في القتال , وعندهم فرسان مشهورين بالجلد والمجادلة بالسيوف فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأخبار المسلمين وتهيئة أذهانهم للقتال وترك لهم حق إختيار إجتنابه إذ أن الإسلام لم ينتشر بالسيف ، انما كانت المعجزات مصاحبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ثم ابتدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم السؤال وطلب المشورة من عامة أصحابه من المهاجرين والأنصار الذين حضروا معركة بدر يومئذ (ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَشِيرُوا عَلَيّ أَيّهَا النّاسُ) ( ).
قال ابن اسحاق (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” أشيروا على أيها الناس ” وإنما يريد الانصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله
إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الانصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم.
فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال: ” أجل ” قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله.
قال: فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقول سعد ونشطه، ثم قال: ” سيروا
وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم) ( ).
لبيان أن مشورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه خير محض ، وتأكيد لقانون وهو ترشح مصاديق كثيرة من الرحمة والرأفة عما أخبرت عنه آية البحث من الرحمة بقوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ]
المسألة التاسعة : تقدير الجمع بين الآيتين : فاذا عزمت فتوكل على الله ليجعل الله ذلك حسرة في قلوب الذين كفروا ) من خصائص الاستشارة تعدد أقوال الرجال وإختلاف الآراء حتى مع الأمانة في مضمون المشورة وتقوى وصلاح المستشارين .
لذا قيدت الآية سنخية العمل بعدم الإستشارة بعزم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أي فاذا عزمت بصفتك كنبي ، وهو أمر يبعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يختار إلا ما هو صواب وصحيح وهدى للناس .
والمراد من اسم الإشارة (ذلك) بلحاظ هذه المسألة أمور :
الأول : تعقب عزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الفعل للمشورة ، وما يسمعه من أصحابه .
الثاني : دلالة الآية على الحتم والقطع بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد ويجاهد في الدفاع عن الإسلام ، وأن الدعوة لابد وان تصل إلى الناس .
الثالث : تجلي البركات في فعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتوكله على الله .
الرابع : بعث الحسرة في نفوس الذين كفروا لعجزهم عن التوكل على الله لأنهم لا يؤمنون به سبحانه ، كما أنهم يحاربون رسوله .
الخامس : دلالة آية البحث بالدلالة التضمنية على رضا وإستجابة المسلمين لما يختاره النبي من العمل بعد المشورة مما يبعث اليأس في نفوس الذين كفروا حصول فتنة وفرقة في صفوف المسلمين ، وقد أرادها المنافقون ففشلوا وأخزاهم الله ، وفي التنزيل حكاية عنهم [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ..] ( ).
الشعبة الثانية :صلة هذه الآية بالآيات المجاورة التالية وهي على وجوه :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بالآية التالية [إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : بعد أن توجه الخطاب من عند الله في آية البحث إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تفضل الله وخاطب المسلمين في آية السياق، وتحتمل النسبة بين صيغتي الخطاب وجوهاً :
أولاً : التساوي ، وأن المراد في كل من آية البحث وآية السياق مخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتقدير لغة الجمع فيها [إِنْ يَنْصُر اللَّهُ] ( ) لإرادة ومخاطبة النبي بصيغة الإكرام التي تدل عليها لغة الجمع في آة البحث .
ثانياً : نسبة العموم والخصوص المطلق .
ثالثاً : نسبة العموم والخصوص من وجه ، وهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين الخطاب في آية البحث والخطاب في آية السياق .
رابعاً : نسبة التباين والإختلاف في الخطابين .
والصحيح هو ثانياً أعلاه ، وتقدير الآية التالية يا أيها النبي ويا أيها الذين آمنوا إن ينصركم الله فلا غالب لكم ) .
الثانية : لقد جاءت آية البحث بصيغة الخبر الصادق ، بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لان ورفق بالمسلمين بفضل ورحمة من عند الله ، وتضمنت الأمر المتعدد والقاطع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعفو عن المسلمين ويستغفر لهم ويشاورهم في الأمور.
أما آية البحث فانها جاءت بصيغة الجملة الشرطية لبيان قانون وهو إذا نصر الله المسلمين فلا أحد يخذلهم ، وكذا العكس ، فان حجب الله عز وجل عن المسلمين النصر فلا أحد غيره ينصرهم .
ومن معاني الجمع بينهما السعي لتحقيق الشرط الذي ينفع المسلمين بالدعاء والإجتهاد بطاعة الله عز وجل والصبر محل الأذى في مرضاته ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] ( ).
الثالثة : يحتمل النصر المذكور في آية السياق [إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ] وجوهاً:
أولاً : إرادة خصوص النصر في ميدان المعركة .
ثانياً : المقصود المدد والتوفيق في أمور الدين والدنيا .
ثالثاً : الغلبة للأنبياء ، وإظهار دين الإسلام وتثبيت سنن الإيمان في الأرض ، قال تعالى والغلبة [كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ] ( ) والغلبة هنا تكون بالسيف ، وتكون بالحجة وإقامة البرهان ، وحسن العاقبة ، ومن الأنبياء والرسل من إعتدى عليه قومه واستضعفوه ، ومنهم من قتله قومه ، ومنهم من لم يقاتل أو يحارب مما يدل على أن الغلبة في المقام أعم من النصر في ميدان القتال ، ومن معاني الغلبة المعجزة وأثرها المبارك في دفع الجدال وفضح المغالطة.
رابعاً : إرادة ظهور أمر النبي والرسول فيما بعد وإقرار الناس بمعجزته.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، ومنها مصاديق الغلبة من عند الله .
الرابعة :أخبرت آية السياق بأن النصر من عند الله وأنه إذا جاء للمسلمين فلا تستطيع الخلائق وإن إجتمعت رده أو تأخير أوانه ، قال تعالى [وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ] ( ).
وذكرت آية البحث رحمة الله ، بقوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ] ( )وبين الرحمة والنصر عموم وخصوص مطلق ، فالرحمة أعم وأوسع ، فكل نصر هو رحمة وليس العكس .
لبيان قانون وهو ما أن أخبرت آية البحث عن رحمة الله وبصيغة التنكير في مضمونها ، وموضوعها مع تقييدها بأنها من عند الله ، جاءت آية السياق لتدل على شمول مضامين الرحمة التي تذكرها آية البحث المسلمين والمسلمات ، وأن من مصاديق هذه الرحمة نصر المسلمين في ميادين القتال.
الخامسة : إبتدأت آية السياق بذكر نصر الله بصيغة الخطاب للمسلمين ، وهل تقديم النصر على الخذلان بشارة تحقق النصر ، الجواب نعم، بلحاظ أن هذا التقديم من فضل الله عز وجل ، وتدل عليه آيات القرآن ، ومنها ما جاءت بالبشارة ، كما في قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( ) وفيه وجوه :
أولاً : مجئ النصر للمسلمين .
ثانياً : نسبة نصر المسلمين إلى الله عز وجل .
ثالثاً : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نسبة نصرهم بأنه نصر من الله ، مما يدل على أنه كامل وقاطع ، وتتجلى فيه المعجزات والبينات .
رابعاً : إقتران الفتح بنصر الله وإذا أعطى الله سبحانه فانه يعطي بالأتتم والأوفى .
خامساً : بيان رشحات من النفع العظيم للنصر من عند الله بدخول الناس في الإسلام جماعات وطوائف وقبائلاً .
سادساً : لزوم الثناء على الله والشكر له على نعمة النصر والغلبة .
سابعاً : حث المسلمين على الدعاء لجلب النصر وتحقيقه واقعاً ، والتعجيل به ومجيئه سهلاً يسيراً إذ أن كيفية حصول النصر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، لذا يكون تقدير [إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ ..] ( ) على وجوه متعددة نبينه إن شاء الله في الجزء التالي( ).
السادسة : أسرار تعقب آية إنتفاء الناسخ والمانع لنصر الله لآية البحث التي يتجلى مضمونها بأمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصفح والعفو والرحمة من المسلمين ، أن أحكام آية البحث نوع طريق إلى تحقق النصر الإلهي .
ومن مصاديق قوله تعالى في الثناء على القرآن ، وإعجازه ولغة التكامل فيه [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ) وجوه :
أولاً : بيان علة الأمر الذي يأتي في القرآن .
ثانياً : نسبة أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل إذ إبتدأت هذه الآية بقوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ] ( ).
ثالثاً : بيان سلامة الأنبياء من الغضاضة والفضاضة وأسباب الكدورة ، ومن يلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو يجادله أو يحاوره لا يجد منه إلا حسن الخلق ، واللطف وشآبيب المودة .
لقد أراد الله عز وجل لمن يلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإشتياق إليه ، ولا يختص هذا الإشتياق بالمسألة الشخصية بل بالوحي والتنزيل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ) فهذا الوحي هو سر إنجذاب الناس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنصاتهم لما يقول لتكون كلماته دستوراً خالداً في الأرض .
رابعاً : ذكر علة عدم إنفضاض وتفرق المسلمين عن رسول الله ، وهي رحمة الله ليكون تبليغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن والأحكام على أتم وجه ، لذا تفضل الله عز وجل وقال [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي]( ).
وتبين الآية قانوناً وهو أن عفو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن المسلمين ، وإستغفاره لهم طريق لتحقيق النصر والغلبة على الذين كفروا ، وهو أمر مدرك بالوجدان ، وقد إلتفتت إليه الدراسات العسكرية الحديثة في مسألة الصلة بين القائد وجنوده ، وهي قاصرة عن مضامين آية البحث مع قلة كلماتها ، إذ يكون للضبط وقواعد النظام ومواد العقاب شأن وموضوعية في هذه الصلة .
وتضمنت آية البحث الإطلاق في العفو النبوي عن الصحابة ، مع الإستغفار لهم ، ومشاورتهم في أمور الحرب والسلم ، وقد تقول هناك مجالس للشورى خاصة عند الدول ، وهذا صحيح وهو من رشحات التجربة والوجدان ، وتركة التنزيل وسيرة الأنبياء , ولكن آية البحث تتصف بأمور :
أولاً : المشورة في آية البحث بأمر من عند الله عز وجل .
ثانياً : آية البحث أصل سماوي للمشورة بين الناس في الحياة الدنيا ، فاذا كان النبي نفسه يقوم بالإستشارة فمن باب الأولوية أن يتخذ الملوك والحكام والأمراء الاستشارة نوع طريق للعمل والإنشاء .
ثالثاً : الإطلاق في المشورة النبوية بقوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ]( ) من غير تقييد بموضوع مخصوص .
رابعاً : إرادة العموم من طرف المستشار ، فليس من إستثناء لأحد من أهل البيت والصحابة في الإستشارة ، نعم لا تشمل الإستشارة المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ] ( ) .
لقد خلق الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً , والحاجة ملازمة لعالم الإمكان , والإستشارة نعمة في قضاء الحوائج .
ولا تختص مسألة الحاجة بالفرد والجماعة فحتى الأمة والطائفة تكون في وإن كانت متحدة ، وهل يدل التفضيل الوارد بخصوص المسلمين [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) الإستغناء وعدم الحاجة أو قلة الحاجة , الجواب لا ، فالمسلمون محتاجون إلى رحمة الله ، وهم بحاجة إلى كل آية من آيات القرآن في أمور دينهم ودنياهم .
وهل الحاجة للآية القرآنية متحدة ام متعددة , الجواب هو الثاني من جهات:
الأولى : تعلق الحاجات بذات الفرد والجماعة والأمة بالذات والعرض.
الثانية : إرادة حاجات الدنيا والآخرة .
الثالثة : تعدد وجوه الهداية إلى قضاء الحاجة في ذات الآية القرآنية , فكل كلمة وجملة منها تعطي حاجات متعددة للفرد والجماعة ، ويمكن إنشاء علم جديد ، وباب من أبواب تفسير كل آية , وهو الحاجة إلى آية البحث( ), قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
الوجه الثاني : ابتداء كل من آية البحث والسياق بصيغة الخطاب بصبغة الإكرام والتشريف .
وفيه مسائل :
الأولى : جاءت آية البحث خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصبر وجهاده حسن سمته وخلقه مع المسلمين ، فلما قال الله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) فان مصاديق الخلق الحسن تتجلى في صلات ومعاشرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل بيته وأصحابه .
وقد ورد (عن ابن عباس أن الرجال استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ضرب النساء فأذن لهم فضربوهن فبات فسمع صوتا عاليا فقال : ما هذا .
قالوا : أذنت للرجال في ضرب النساء فضربوهن فنهاهم , وقال : خيركم خيركم لأهله ، وأنا من خيركم لأهلي) ( ).
وجاء الإذن الأول لتتجلى الحجة وبيان الضرر الفادح في ضرب النساء، وليأتي النهي عن ضربهن بعد قيام البرهان ، وهذا النهي من مصاديق آية البحث وما فيها من الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلين الجانب والعفو والإستغفار .
ولتكون هذه الخصال الحميدة حاضرة في كل بيت من بيوت المسلمين ، ويكون رب الأسرة هو الرائد في التقيد بها .
وجاءت الآية التالية خطاباً للمسلمين [إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ] ( ) وتحتمل النسبة بين الخطابين وجوهاً :
الأول : التساوي , وأن المراد من صيغة الجمع في أول آية السياق هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ووردت صيغة الجمع للأكرام والتشريف .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وأن المراد بلغة الجمع في آية السياق أعم .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه , فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين الخطابين مع إمتناع نسبة التباين بين الخطابين .
والصحيح هو الثاني إذ يتوجه الخطاب في آية البحث لخصوص شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد إخبارها بأن الله عز وجل ألان قلبه للمسلمين برحمة وفضل من الله .
أما آية البحث فجاءت خطاباً للمسلمين بصيغة الجملة الشرطية ويدخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ذات الخطاب وتقديره : إن ينصرك الله يا محمد فلا غالب لك ).
الثانية : من الإعجاز في نظم آيات القرآن تقدم آية البحث وما فيها من معاني الرحمة والمغفرة .
وتعقبتها آية السياق بالإخبار عن النصر وأنه من عند الله ليكون من معاني الجمع بين الآيتين قرب النصر بالرحمة التي تأتي من عند الله ، وكل فرد من مضامين آية البحث مقدمة للنصر وسبب لتيسيره من وجوه :
أولاً : إخبار آية البحث عن رحمة الله وبصيغة الإطلاق والنسبة إلى الله عز وجل بقوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ ] إذ تتغشى رحمة الله المسلمين جميعاً في حال الحرب والسلم .
وتقدير الجمع بين الآيتين : فبما رحمة من الله ينصركم الله فلا غالب لكم ) وفيه بيان للتباين بين المسلمين والذين كفروا بأن المسلمين تتغشاهم رحمة الله عز وجل فتكون علة تامة لرجحان كفة المسلمين في اللقاء في ميدان المعركة .
فيكون من معاني [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) ، فريق وجمع تصاحبه رحمة الله وهم المسلمون , وفريق وجمع يلازمهم الخوف والرعب وهم الذين أشركوا بالله .
ثانياً : لين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين باعث لبذلهم الوسع في سبيل الله والدفاع عن بيضة الإسلام .
لقد لاقت الدعوة الإسلامية الصدود والعداوة من الذين كفروا ،ولم يكتفوا بالحرب باللسان بل حملوا السيوف وزحفوا بالجيوش العظيمة .
ثالثاً : عفو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن هفوات وأخطاء أصحابه في ميدان القتال ، وتخلف بعضهم عن القتال ، وقبول عذرهم بلغة للجهاد اللاحق ، والتعاون الوثيق بين المسلمين ، وترك التعيير ونبذ الخصومة بينهم ، وإجتناب النميمة ، قال تعالى [وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ] ( ) ومن الهمزة الطعن في الإنسان بحضوره وإعانته , واللمزة غيبته وذكره بسوء إذا أدبر .
واللمزة الطعان في النعاس وفي أنسابهم .
وورد عن أنس بن مالك قال (رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم المؤمن كيّس فطن حذر وقاف ثبت،
لا يعجل،
عالم ورع،
والمنافق همزة لمزة حطمة،
(لا يقف عند شبهة ولا عند محرم) كحاطب الليل لا يبالي من أين كسب ولا فيما أنفق ) ( ).
رابعاً : لقد أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يستغفر للمسلمين ، ولا يعلم منافع إستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمته في النشأتين إلا الله عز وجل ، وهذا الإستغفار من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وهل ينتفع الكفار من إستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بذات المرتبة والدرجة التي ينتفع بها المسلمون , الجواب لا .
ومن خصائص الأنبياء وقوانين النبوة الإستغفار لقومهم ، وإن أصروا على العناد والجحود ، وعن عبد الله بن مسعود قال : لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يحكي نبياً من الأنبياء وهو يقول : اللهمَّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون ) ( ) وعنه قال ( كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحكي نبياً من الأنبياء قد ضربه قومه وهو يمسح الدم عن جبينه ويقول : اللهمَّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ( ).
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين أن يكونوا عند مواجهة كفار قريش في حال خلو من تبعات الذنوب والتقصير والإساءة .
(عن سخبرة( ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من ابتلي فصبر ، وأعطي فشكر ، وظلم فغفر ، وظلم فاستغفر ، ثم سكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقيل : يا رسول الله ما له؟ قال { أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } ) ( ).
إعجاز الآية الذاتي
أخبرت آية البحث عن خصلة من الأخلاق الحميدة التي يتصف بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي لين الجانب مع المسلمين، لينفي هذا القانون القول بأن اللين في محل الشدة ضعف، وإن كان موضوعه أن الأصل تقوم الصلة بين النبي والمسلمين بالرحمة والشفقة والرأفة.
ومن الإعجاز نسبة هذا اللين إلى رحمة الله، مما يدل أنه معجزة في السلوك والسيرة النبوية، لا يقدر عليه أحد، إنما هو بفضل من الله وحضور الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحال التي تلزم اللين، فيظهر اللين، وكذا في الحال التي تلزم الغضب والشدة فلا يظهر إلا ذات اللين والرفق.
وهل من موضوعية للين جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل بيته وأصحابه في مصاديق قوله تعالى في وصف المسلمين [رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] ( ).
الجواب نعم، لتكون هذه الرحمة من رشحات قوله تعالى في آية البحث[فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ]( )، لتكون أفراد هذه الرحمة أصلاً في منهاج عمل المسلمين، وسراً يحكم الصلات بينهم ويكون من معاني تقدير الآية وجوه :
أولاً : فبما رحمة من الله لنت لهم ليلين بعضهم لبعض.
ثانياً : فبما رحمة من الله لنت للمسلمين ليتراجوا بينهم.
ثالثاً : فبما رحمة من الله لنت للمسلمين ليزدادوا إيماناً.
لقد كان بعض الوقود التي تأتي للمدينة لدخول الإسلام، أو إستقراء المعجزات التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبقون أياماً في المدينة ليروا المعجزة في كيفية نزول الوحي عليه، فيرجعوا إلى قومهم ليعودوا معهم مسلمين
وتفضل الله عز وجل وأخبرهم والناس جميعاً بأن سيرة وحسن خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين من الوحي.
رابعاً : فبما رحمة من الله لنت للمسلمين ليكون دعوة للناس للإيمان.
لقد كانت أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معدودة بين ظهراني المسلمين، وقد ورد التنبيه والتحذير بقوله تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( )، ويجب أن يقوم بتبليغ أحكام الرسالة كاملة جمعاً بين قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( )، وقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( ).
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجاهد من أجل سلامة المسلمين والمسلمات من الإرتداد بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى , فالأصل أن يأخذهم بشدة، ويحملهم على الجادة بالإلحاح والغلظة وتوبيخ المقصر ومعاقبة المذنب، وذم المتخلف عن أدائه الواجب أو المستحب، وتقبيح الذي يصر على المعصية والمتخلف عن الدفاع.
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ليناً معهم بفضل من الله عز وجل لبيان قانون وهو أن الله عز وجل هو الذي يصلح النفوس، ويهذب الأفعال، وكأن الآية أعلاه بالأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ وعد وعهد من الله عز وجل لإعانة المسلمين لإصلاحهم لأمور الدين والدنيا , وفي التنزيل [يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ] ( ).
وتبين الآية موضوعية بقاء المسلمين حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلقي التنزيل ، ومحاكاته عبادته، ويتقنون أدائها والمناسك , قال صلى الله عليه وآله وسلم قال (خذوا عني مناسككم) ( ).
ومن إعجاز الآية تضمنها الثناء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نهجه وحسن سمته، وإذا كان لين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه برحمة من الله ففي سلامته من الفضاضة وجوه:
الأول : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الفضاضة وأسباب الفضاضة فرع لين الجانب.
الثاني : بيان قانون عدم إجتماع الضدين ، فلما تفضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإتصافه بالرفق واللين فإن ضده من الغلظة والشدة والفضاضة يبتعد عنه.
الثالث : عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الفضاضة والشدة رحمة ونعمة أخرى مستقلة، وتقدير الآية على جهات :
الأولى : فبما رحمة من الله لنت لهم.
الثانية : فبما رحمة من الله لم تكن فظاً.
الثالثة : فبما رحمة من الله رقّ للمسلمين قلبك.
الرابعة : فبما رحمة من الله لم ينفضوا من حولك.
ولا تعارض بين الوجوه الثلاثة أعلاه، وليس من حصر لمصاديق رحمة الله حتى في الموضوع المتحد.
وتبين الآية أن اللين والرفق أمر شاق وبعيد المنال ، ولا يستطيع الإنسان أن يبلغ مرتبة اللين مع الناس إلا بفضل من عند الله فمع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله وينزل عليه جبرئيل والملائكة ، ويسعى بجد لجذب الناس لمنازل الهداية والإيمان ، ويعلم أن اللين مقدمة ووسيلة لجذبهم فانه نال مرتبة اللين رحمة من عند الله .
وفيه دعوة للمسلمين للدعاء والمسألة في باب الأخلاق الحميدة ومعاشرة الناس بالأحسن .
ويمكن تسمية هذه الآية آية [فَبِمَا رَحْمَةٍ] ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في آية البحث.
وتفصل الآية بين السنة النبوية التي هي فرع الوحي وبين الكيفية النفسانية ، فحتى لو صار النبي صلى الله عليه وآله وسلم شديداً قاسياً وغليظ القلب فان الوحي والسنة على حالهما لا يطرأ عليهما النقص والتغيير ، ولا يقصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ الآيات واحكام الشريعة , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ]( ).
إعجاز الآية الغيري
تبدأ آية البحث بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتفيد توالي نزول الرحمة من عند الله , والتي جاءت مطلقة ونكرة , وتتضمن إرادة العموم ليكون قوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ]بشارة وسكينة للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة ، فقد جعل الله عز وجل الأخلاق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سهلة فيها عذوبة وتبعث على التدبر فيها بالذات وعلتها وأثرها .
(سئل الإمام علي عليه السلام عن إثبات الصانع،
فقال: البعرة تدل على البعير، والروثة تدل على الحمير، وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علوي بهذه اللطافة ومركز سفلي بهذه الكثافة كيف لا يدلان على اللطيف الخبير) ( ).
وكل كلمة وفعل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاهد على رفقه بالمسلمين ، وحرصه على الأخذ بأيديهم إلى المكث الدائم في جنات الخلد .
وكانت أخلاقه الحميدة مع الناس سبباً لدخولهم الإسلام أمس واليوم وغداً .
(وأخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل عن علي بن أبي طالب عليه السلام : أن يهودياً كان له على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دنانير ، فتقاضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : ما عندي ما أعطيك . قال : فإني لا أفارقك يا محمد حتى تعطيني . قال : إذن أجلس معك يا محمد فجلس معه فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر والمغرب والعشاء والغداة .
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتهددون اليهودي ويتوعدونه ، فقالوا : يا رسول الله ، يهودي يحبسك؟ قال : منعني ربي أن أظلم معاهداً ولا غيره .
فلما ترحل النهار أسلم اليهودي , وقال : شطر مالي في سبيل الله ، أما والله ما فعلت الذي فعلت بك إلا لأنظر إلى نعتك في التوراة : محمد بن عبد الله مولده بمكة ومهاجره بطيبة وملكه بالشام ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ، ولا متزين بالفحشاء ولا قوّال للخنا ) ( ).
وتدعو الآية المسلمين والناس جميعاً إلى التدبر باعجاز القرآن الذي يتجلى بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيرته مع المسلمين ، وكيف أنها أمر خارق في عالم السلوك وحسن السمت والأخلاق الرفيعة التي لا تأتي إلا بواسطة الوحي ورحمة الله ، إذ تبين آية البحث صبغة الرحمة التي يتصف بها الوحي ، وتخبر عن صيغه المباركة , وأنه خير محض للمسلمين والناس , وفيه نكتة وهي دعوة المسلمين للتطلع للوحي وسؤال تواليه والإنتفاع الأمثل منه , والعمل بمضامينه القدسية , وللوقاية من الفتنة ومسالك النفاق , قال تعالى [اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
ويمكن أخذ كل حديث وفعل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وبيان كيف أنه يتضمن اللين والرفق بالمسلمين وعصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الفضاضة والقسوة وغلظة القلب ، لتكون سيرته بشارة ومرآة لحياة المسلمين في الجنة ، فبعد أن دخلوا الإسلام ونطقوا بالشهادتين استقبلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرفق واللين ليكون بشارة الأمن في الآخرة ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) .
وهل رفق ولين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين من مصاديق الآية أعلاه .
أم أن القدر المتيقن من الآية هو عالم الآخرة ، الجواب هو الأول ، فلا يخاف المسلم عند دخول الإسلام من الذين كفروا وبطشهم ، ولا يحزن على تركه الكفر وعاداته .
ومن الأمور الشاقة على الإنسان أن يختار العفو عند الإساءة إليه على نحو متعمد وحال الظلم المبين والظاهر ،ويضاف له بالنسبة لمقام النبوة إدراك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يقوم ولا يفعل إلا ما يأمره الله عز وجل به فالأصل أن لا يجد من الناس إلا الإستجابة والإمتثال .
ومع هذا يأتيه الأمر من عند الله بوجوب العفو والصفح بلحاظ أن موضوع الآية أعم من واقعة أحد وما جرى فيها من الحوادث ، وترتب الضرر على مخالفة الرماة لأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزولهم من مواضعهم على الجبل التي كانوا يجمعون منها ظهور المسلمين ، فجاءت خبالة المشركين من خلفهم , وأكثروا القتل في المسلمين ، وظهر الإرباك في صفوفهم وحينما أمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يرأف بالمسلمين ويرفق بهم ويعطف عليه , ويعفو عنهم , ويستنفر لهم الله فانه سبحانه ضمن نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع بقائه وسط الميدان في نفر قليل من أهل بيته وأصحابه ، ونصره بنزول جنود من الملائكة [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
ليكون من مصاديق رحمة الله التي إبتدأت بها آية البحث نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين مع اللين والعفو ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : أمن جانبك للمؤمنين لينصرك الله .
ثانياً : ما دام نصر الله لك حقاً وصدقاً فارفق بالمسلمين .
ثالثاً : لقد وعد الله عز وجل بالنصر والغلبة على الأعداء فارفق بالمسلمين وأعف عنهم .
رابعاً : لقد كفل الله عز وجل للمسلمين النصر فاعف عنهم .
خامساً : لقد جاهد معك المسلمون في سوح القتال فأرفق بهم وأعف عنهم وأستغفر الله لهم .
الآية سلاح
توجه الخطاب من عند الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بذاته رحمة ومنعة للمسلمين ، ويخاطب الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بما يدل على علو شأنه ومنزلته من غير أن يغادر مقامات العبودية ، فليس من تعارض بين أمور :
الأول : عبودية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لله عز وجل , ويرد في الأذان عشر مرات في اليوم ، أشهد ألا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله .
كما يرد في التشهد إشهد أن محمداً عبده ورسوله ، وهل منزلة العبودية أسمى مرتبة من الرسالة فقدمت في هذا التشهد ، الجواب لا ، إنما تقدمت لسبقها الزماني (قال الرضا عليه السلام: حدثنى أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي عن أبيه علي ابن أبي طالب عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا ترفعوني فوق حقي فان الله تبارك وتعالى اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا: قال الله تبارك وتعالى : ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) ( ).
الثاني : نيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة النبوة ثم الرسالة الخاتمة ليفوز بمرتبة لم يبلغها أحد من البشر ، وتتجلى ببقاء الإيمان وتلاوة كلام الله والعمل بأحكام الشريعة السماوية إلى يوم القيامة بنبوته .
الثالث : إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باختصاصه في الخطاب في القرآن ، ومن وجوه تفضيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين أن أخبارهم تذكر في القرآن على نحو القصة والبيان والتوثيق ، بينما يرد الخطاب من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة (افعل) (لا تفعل) وعلى نحو التعدد والكثرة .
وهذا الأمر والنهي يرد بصيغة المنطوق والتصريح ، ويأتي تارة أخرى بصيغة المفهوم والدلالة أو بهما معاً وفي آية واحدة كما في آية البحث إذ تتضمن في مفهومها الأمر من الله للنبي بحسن الخلق والمعاشرة مع المسلمين ، وتنهاه عن الجفاء والغفلة أي افعل اللين وخفض الجناح , وأقبل العذر ولا تفعل الفظاظة والقسوة والشدة وعدم قبول العذر ، ثم جاء الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الآية ، وهو متعدد ، كما يأتي في البحث الأصولي ( ) .
لقد أكرم الله عز وجل في آيات القرآن كلاً من :
الأول : الإنسان مطلقاً بنعته بصفة الخلافة ، وجعلها سبب عمارته الأرض .
الثاني : العبادة بصيرورتها علة خلق الناس ، بقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
لقد ورد حكم الخلافة في الأرض بصيغة المفرد [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ولكن لما جاء أمر العبادة ووجوب طاعة الناس جميعاً له سبحانه وردت آية العبادة أعلاه بصيغة الجمع ، فلابد أن يقوم كل فرد من الجن والإنس بعبادة الله عز وجل , وفيه مسائل :
الأولى : هداية الناس لعبادة الله عز وجل .
الثانية : دعوة الجن للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباعه ، ومن إعجاز القرآن بلحاظ الآية أعلاه مجئ سورة كاملة باسم سورة الجن توثق قانون إنصات الجن لسماع آيات القرآن ، قال تعالى [قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ] ( ).
(عن ابن عباس في قوله : { وأنه لما قام عبد الله كادوا يكونون عليه لبداً }( ) قال : لما سمعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلوا القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه يتلو القرآن ، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول فجعل يقرئه { قل أوحي إليَّ أنه استمع نفر من الجن }( ))( ).
(وأخرج ابن المنذر عن عبد الملك ( )قال : لم تحرس الجن في الفترة بين عيسى ومحمد ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حرست السماء الدنيا ورميت الجن بالشهب فاجتمعت إلى إبليس فقال : لقد حدث في الأرض حدث فتعرفوا فأخبرونا ما هذا الحدث؟ .
فبعث هؤلاء النفر إلى تهامة وإلى جانب اليمن وهم أشراف الجن وسادتهم فوجدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي صلاة الغداة بنخلة ، فسمعوه يتلوا القرآن ، فلما حضروه قالوا : أنصتوا ، فلما قضى يعني بذلك أنه فرغ من صلاة الصبح ولوا إلى قومهم منذرين مؤمنين لم يشعر بهم حتى نزل { قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن }( ) يقال : سبعة من أهل نصيبين .
وأخرج ابن الجوزي في كتاب صفوة الصفوة بسنده عن سهل بن عبد الله قال : كنت في ناحية ديار عاد إذ رأيت مدينة من حجر منقورة في وسطها قصر من حجارة تأويه الجن ، فدخلت فإذا شيخ عظيم الخلق يصلي نحو الكعبة وعليه جبة صوف فيها طراوة ، فلم أتعجب من عظم خلقته كتعجبي من طراوة جبته ، فسلمت عليه فرد عليّ السلام ، وقال : يا سهل إن الأبدان لا تخلق الثياب ، وإنما يخلقها روائح الذنوب ومطاعم السحت ، وإن هذه الجبة عليَّ منذ سبعمائة سنة لقيت بها عيسى ومحمداً عليهما السلام ، فآمنت بهما ،فقلت له : ومن أنت؟ .
قال : أنا من الذين نزلت فيهم { قل أوحي إليَّ أنه استمع نفر من الجن } قال : كانوا من جن نصيبين) ( ).
الثالثة : إرادة منع الغلو بالأنبياء والرسل ، إذ يلتقون مع عامة الناس بالعبودية لله عز وجل وعبادته وهم الأئمة في طاعتهم لله عز وجل , قال تعالى في الثناء عليهم [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ).
الرابعة : نهي الناس عن إتخاذ الجن أرباباً أو الخشية منهم إنما هم عباد لله عز وجل ، وقد فاز الناس بأن جعل الله عز وجل النبي محمداً إماماً للإنس والجن ، ليكون من شكرهم لله عز وجل إتباعه ونصرته خاصة وهم خلفاء الله في الأرض وليس الجن .
الخامسة : مقدمات ومصاديق عبادة الناس لله عز وجل صيرورة النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رؤف بالمسلمين حسن الخلق .
الثالث : الأنبياء جميعاً إذ شهد لهم بالقرآن بصدق نبوتهم , وصار وعاء وآية سماوية في الأرض توثق صبرهم , وجهادهم ودعوتهم إلى الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ).
وفي الآية أعلاه دلالة على تبيان مسالك الهدى النبوية لعموم المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )وفيه شاهد على إختصاص أجيال المسلمين بحضور مناهج وسنن الأنبياء عندهم ، ويكون من الشواهد على كونهم [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
مفهوم الآية
من مفاهيم قوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ]مسائل :
الأولى : مجئ مصاديق من الرحمة الإلهية للناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أن النسبة بين الرحمة في قوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ] وبين لين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عموم وخصوص مطلق ، فالرحمة أعم موضوعا وحكماً وأثراً ودلالة .
الثانية : تفقه المسلمين في الدين ، فان اللين الذي يتجلى في سيرة النبي محمد صلى الله عليه آله وسلم خارق للسلوك البشري بلحاظ كظم غيظه ، ومقابلته الإساءة بالإحسان ، وتوالي العفو منه ، والتجاوز عن الذنب الشخصي الذي لا سبب له والذي يجلب الأذى والضرر للمسلمين لولا رحمة الله ، ولكن هذا الضرر يصرفه الله عز وجل عن المسلمين لقوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
ويحتمل صرف ودفع هذا الضرر وجوهاً:
الأول : يدفع الله عز وجل الضرر عن المسلمين بذات الرحمة التي ذكرتها آية البحث في قوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ].
الثاني : يصرف الله عز وجل الضرر بمصاديق الرحمة التي تذكرها الآية قبل السابقة بقوله تعالى [وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ).
الثالث : مجيء فرد أو أفراد من رحمة الله عز وجل خاصة بصرف البلاء عن المسلمين .
الرابع : يصرف البلاء بالدعاء والصدقة ، قال تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه، والملاك هو تفضل الله عز وجل بصرف البلاء والضرر والأذى الشديد عن المسلمين برحمة منه، وذكرت الآية دفع الضرر مع بقاء الأذى من الذين كفروا، ولكن هذا الأذى من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة، فيمحو الله الضرر , وقد يمحوه في أوقات كثيرة فلا يبقى منه إلا صرف الطبيعة والمسمى ليلاقيه المسلمون بالصبر والتقوى والشكر لله عز وجل على صرف الأذى والبلاء وهو من بديع الآيات والنفع والأثر في قراءة كل واحد منهم على نحو الوجوب العيني في الصلاة اليومية[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
الثالثة : دعوة المسلمين لنسبة كل قول وفعل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أزاءهم إلى رحمة الله عز وجل , والتدبر في معاني سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنها خير محض.
الرابعة : إرادة صفة العموم الإستغراقي، فليس من المسلمين من حرم من لين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من الشواهد على بطلان على القول : ما من عام إلا وقد خصّ).
وإذا دار الأمر بين العموم والخصوص في مضامين الآية القرآنية، فالأصل هو العموم، والتودد وحسن الصلات مع المسلمين، ولا يختص إنتفاع المسلمين من الرحمة الواردة في آية البحث بلين ورفق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين، إنما تدعو الآية المسلمين للنهل من هذه الرحمة.
ومن مفاهيم قوله تعالى[لِنْتَ لَهُمْ] وجوه :
الأول : بيان حسن الصلة بين النبي محمد صلى الله عليه و آله وسلم والمسلمين.
الثاني : إنتفاء الكدورة والغضاضة عند المسلمين أثناء أداء العبادات والفرائض .
الثالث : تقدير قوله تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، هو: وانك لعلى خلق عظيم برحمة من الله .
الرابع : من خصائص النبوة اللين والرفق بالمؤمنين .
الخامس : إشراقة خلق كريم على الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باقتران الإمامة والرئاسة باللين والمودة والإحتمال، وتلقي الأذى، وفيه تأديب للحكام والأمراء المسلمين بتحمل الأذى .
ومن مفاهيم قوله تعالى[وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ]( )، وجوه :
الأول : بيان تنزه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأخلاق المذمومة وأصلها .
الثاني : طهارة قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برحمة من الله , وتقدير الآية على وجهين :
أولاً : فبما رحمة من الله لم تكن فظاً .
ثانياً : فبما رحمة من الله لم تكن غليظ القلب .
الثالث : بعث الشوق في نفوس الناس لمعرفة أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تسعهم جميعاً .
الرابع : فضح غلاظ القلوب، وإقامة الحجة عليهم بأن سيد البشرية منزه عن الغضاضة وغلظة القلب.
الخامس : دعوة المسلمين والمسلمات والناس جميعاً للتنزه عن الغضاضة وغلظة القلب، قال تعالى[لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
السادس : بيان قانون وهو أن الإسلام ينتشر بالرفق واللطف ، قال تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ) لإرادة بيان الحق وإقامة الحجة بالرفق ، وتحمل الأذى .
وقد ورد لفظ اللين في تأريخ النبوة بخطاب الله عز وجل لموسى وهارون ، وكيفية الإحتجاج على فرعون فمع أنه إدعى الربوبية ، أمرهما الله بدعوته إلى التوحيد بصيغ الرفق ، قال تعالى [فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى] ( ) .
وجاء القرآن ببيان صفحة مشرقة من هذا اللين بان أمر موسى عليه السلام [فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى] ( ).
لبيان المقدمات التي هي أيسر وأسهل ، وفيه دعوة للملأ من آل فرعون وعامة الناس ، وتلك آية فان اللين مع المعاند ينفع في هداية غيره من الناس ، ومن غرور وإستكبار فرعون أن المناظرة والجدال بينه وبين موسى عليه السلام جرت أمام الملأ ، ثم دعاه موسى عليه السلام إلى إقامة الحجة والبرهان في يوم الزينة وهو يوم عيد عندهم فاستجاب له ، فكان إيمان السحرة يومئذ مقدمة لهدم عرش فرعون .
وعن (عبد الرحمن بن غنم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يدخل الجنة جواظ ولا جعظري ولا العتل الزنيم ، فقال له رجل من المسلمين : ما الجوّاظ والجعظري والعتل الزنيم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما الجوّاظ فالذي جمع ومنع ، تدعوه { لظى نزاعة للشوى }( ) .
وأما الجعظري فالفظّ الغليظ ، قال الله : { فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك }( ) ، وأما العتل الزنيم فشديد الخلق رحيب الجوف مصحح شروب واجد للطعام والشراب ظلوم للناس) ( ) .
السابع : المراد من غلظة القلب قسوته ، والدلالة على الشدة في اللفظ ، والبطش في الفعل وإمتناعه عن قبول الإعتذار ، وعن العفو ولو بعد حين ، فقد يغضب الإنسان ، ولكنه بعد حين يرق قلبه ، ويترك العقاب وحتى اللوم ، أو يرى أن الأمر يستحق معاقبة المذنب ، ولكنه يؤخر العقاب بحلم وصبر وتؤدة ليأتي بعده التخفيف والعفو ، أما غلظة القلب فانها قد تغلق باب العفو ، وتمنع من التراخي في العقاب المستحق مما يسبب النفرة .
لقد أراد الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تبليغ الأحكام ووصولها إلى أكبر عدد من الناس ، وليس من نبي مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جهة كثرة أصحابة .
وقد بلغ عدد الذين حضروا معه في حجة الوداع مائة ألف وأربعة عشر ألفاً على قول .
وعن جابر بن عبد الله في حديث عن حجة الوداع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (فَصَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِي الْمَسْجِدِ ثُمّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتّى إذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ نَظَرْتُ إلَى مَدّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلُ ذَلِكَ وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلُ ذَلِكَ وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلُ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ، وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ فَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ عَمِلْنَا بِهِ فَأَهَلّ بِالتّوْحِيدِ ” لَبّيْكَ اللّهُمّ لَبّيْكَ لَبّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبّيْكَ إنّ الْحَمْدَ وَالنّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ . وَأَهَلّ النّاسُ بِهَذَا الّذِي يُهِلّونَ بِهِ) ( ).
أما مفهوم قوله [لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] ( ) ففيه وجوه :
الأول : القطع واليقين بأن المسلمين لم يفارقوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً من أيام النبوة .
الثاني : بيان حاجة النبوة لعدم إنصراف الناس عن النبي لتقدم التبليغ بحضور المستمع والمتلقي .
الثالث : تأكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلما كان المسلمون لم يتفرقوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهم شهود سنته وسيرته وكيفية نزول الوحي عليه ، ومضامين آيات القرآن .، ليكون من معاني آية البحث أن الله عز وجل نزّه النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من الفظاظة وغلظة القلب كي يجتمع الناس من حوله ويدركون صدق النبوة التي تترى على يديه .
وورد في حديث ضعيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض ) ( ).
لقد نعت المشركون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأنه مجنون أو ساحر ، فتفضل الله عز وجل الناس تحيط به في كل يوم من أيام حياته ويتناقلون أخباره التي تتجلى فيها معاني الإعجاز ، ومعالم الإيمان ، ليكون سبباً لإنقضاضهم عن رؤساء الكفر والضلالة ، وهو من النعم العظيمة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال [مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ] ( ) .
ويكون تقدير آية البحث : فبما رحمة من الله لنت لهم لينفضوا عن المشركين ، لعدم إمكان إجتماع الضدين خاصة مع التعدد والإختلاف في المكان .
الرابع : دعوة أجيال المسلمين المتعاقبة للتأسي بأهل البيت والصحابة وعدم إنفضاضهم أو تفرقهم عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من الإعجاز الغيري في دلالالة آيات القرآن على إصلاح المسلمين في كل زمان لتلقي أحكام الشريعة بالقبول والرضا والتعلم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأدب والخلق الحميد .
ومن مفاهيم الآية تحذير المسلمين من إستشارة الذين كفروا بالإنصات لهم فيما يبدون من الرأي ، وفي التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ] ( ).
الآية لطف
يتجلى اللطف في آية البحث بابتدائها بالرحمة والكشف عن حقيقة وهي أن هذه الرحمة من عند الله عز وجل وتجري في قول وفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصيغ الرأفة والرفق واللين والصفح ، والأخذ بأيدي المسلمين نحو سبل النجاة في النشأتين ز
ومع مجئ الفرائض العبادية على نحو تدريجي إذ شرعت الصلاة في مكة قبل الهجرة النبوية , وشرّع الصيام والزكاة في السنة الثانية للهجرة , فانها تشبه الأمر الدفعي في إتيانها خاصة بالنسبة لمن أسلم في السنة الثانية وما بعدها وهم أكثر عدداً من الذين أسلموا قبلها وكذا الذين اسلموا بعد صلح الحديبية ، وحصول الأمن وتوقف القتال بين المسلمين والذين كفروا ، فجاءت آية البحث لإعانة المسلمين لأداء الواجبات العبادية ، ومن معاني اللطف في الآية دعوة المسلمين لسؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما يجب عليهم في باب العبادات والمعاملات .
وتدعو الآية المسلمين للرجوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسؤاله عن أحكام الدين ، والصدور عنه ، والتقيد بما يأمرهم به ، لذا ورد لفظ [يَسْأَلُونَكَ] خمس عشرة مرة في القرآن , ليقابل الصحابة لين ورفق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهم بصدق الإيمان والإخلاص والتفاني في طاعة الله .
(عن ابن مسعود قال : لقد شهدت من المقداد مشهداً لأن أكون أنا صاحبه أحب إليَّ مما عدل به ، أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يدعو على المشركين قال : والله يا رسول الله ، لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون }( ) ولكن نقاتل عن يمينك وعن يسارك ، ومن بين يديك ومن خلفك ، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشرق لذلك وسر بذلك ) ( ).
ويمكن إحتساب آية البحث من (آيات اللطف) في القرآن لأن مضامينها كلها لطف ورأفة من الله عز وجل ومن رسوله ، ولما قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ] ( ) تفضل سبحانه وأخبر في آية البحث بلزوم الإنتفاع من صحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرب منه واللجوء إليه في المسألة ، وألا يتلوا أو يعرضوا عنه .
ويمكن بيان اللطف في آية البحث بلحاظ مضامينها القدسية في وجوه :
الأول : من معاني قوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ] تقريب المسلمين إلى سبل التقوى ، وفيه زيادة لإيمانهم ، مع بيان قانون وهو أن لين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة من الله عز وجل جرت على لسانه وفي فعله .
الثاني : تقوم الصلة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين باللين من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقابله المسلمون بحسن الأدب والإنصات والإنصياع .
يمكن تقدير الآية : فبما رحمة من الله لنت لهم ليلينوا مع غيرهم الجواب نعم ، ويمكن إستقراء معاني نبذ الإرهاب وإشاعة القتل من آية البحث للزوم سيادة مفاهيم اللين والرأفة والإستماع للطرف الآخر ، فالإضافة إلى ما جاء به الإسلام من الإحتراز في الدماء وعدم سفكها ، ولما إحتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) لأنه يفسد ويقتل النفس التي حرم الله عز وجل تفضل الله عز وجل واحتج عليهم بعلمه المطلق ومنه آية البحث ، وما تبعثه من الأخلاق الحميدة ، بين المسلمين بصيرورة الرفق واللين هو السائد بينهم ، وهو ضد للفساد ومقدمة للتنزه عنه وعن القتل .
وعن الإمام علي عليه السلام(عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطي على العنف النور)( ).
وتتجلى رحمة الله التي تذكرها آية البحث في سنخية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكيفية إتيان كل فرد منهما ، وتلقي المسلم وغيره لهذا الأمر والنهي ، إذ يكون اللطف والرفق هو الصبغة في الأمر والنهي مع حضور العفو والإستغفار فقد يختار الإنسان العزوف عن أمر أو نهي بعضهم لإصراره على ترك الواجب أو إرتكاب المعصية ، فجاءت آية البحث لتمنع المسلم والمسلمة من هذا الإختيار ، ولتدعوهما إلى تعاهد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقترانهما بالصفح والعفو حتى وإن جاءت إساءة وأذى بسببهما .
الثالث : إخبار المسلمين عن قانون وهو أن عفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنهم لم يأت عن تراخ أو تهاون ، إنما جاء عن أمر من عند الله لأنه سبحانه يحبهم ويشكر لهم إسلامهم ، ويدعوهم بهذا العفو لتعاهد الفرائض والعبادات ، ليكون من معاني [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) وجوه :
أولاً : وما ألنت قلب النبي محمد إلا ليعبدون .
ثانياً : وما أمرت النبي محمداً أن يعفو عن المسلمين إلا ليعبدون .
ثالثاً : وما أمرت النبي محمداً أن يستغفر للمسلمين إلا ليعبدون .
رابعاً : وما أمرت النبي محمداً أن يستشير المسلمين إلا ليعبدون .
خامساً : وما تعاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتوكل على الله إلا ليعبده الناس .
الرابع : من اللطف الإلهي في آية البحث تعدد الأوامر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الرحمة بالمسلمين ، وجعل الإسلام روضة بهيجة ليعيش المسلم في سعادة ، ويدخر الصالحات ليوم القيامة ، ولو إكتفت الآية بالأمر بالعفو عن المسلمين لكانت نعمة عظمى ، ولكن آية البحث إبتدأت برحمة الله ، وهو سبحانه لا يعطي إلا بالأوفى والأتم,مما يررجوه العبد , ومما يفوق تصوره من الخيرات .
وتتعدد الأوامر من الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في آية البحث ، وفيه شاهد على حسن إمتثاله لأوامر الله ، وإظهاره الإستجابة للمتعدد من التكاليف في آن واحد.
وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (إنما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق) ( ) .
فمع لين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعفوه عن المسلمين ، توجه الأمر له بالإستغفار لهم .
وهل فيه نكتة وهي قد يعفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإنسان إساءته له ، ولكن الله عز وجل قد لا يعفو له تلك الإساءة إذا كانت متوجهة لمقام الرسالة والتنزيل وشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيحتاج أن يعفو عنه الله عز وجل , فجاءت الآية لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعفو عنهم ، وأن يسأل الله عز وجل أن يعفو ويغفر مثل تلك الإساءة لصاحبها .
وهذا المعنى من الإعجاز الذاتي والغيري لآية البحث .
وتقدير آية البحث : فبما رحمة من الله تعفو عن المسلمين ويستغفر لهم) بلحاظ قاعدة كبرى كلية وهي أن الله يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإستغفار للمسلمين ليغفر لهم .
الخامس : بيان حاجة المسلمين للإستغفار ، وقد فازوا باستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم ، وفيه شاهد على إكرام المسلمين ، وتقريبهم إلى منازل طاعة الله ورسوله ، وكأن الآية تقول لهم : استغفر لكم رسول الله فبادروا لفعل الصالحات .
إفاضات الآية
لقد نزل القرآن بالأوامر والنواهي وأحكام الحلال والحرام ، وقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغها للناس وحملهم على العمل بها ، وهو أصعب وأشق عمل في تأريخ الإنسانية ، إذ ينقل الناس من عبادة الأوثان وإتباع الهوى ومن حال أشق مما يسمى نظام الغاب في جزيرة قاحلة جرداء يتصف أهلها بالعصبية والبطش والغدر إلى حال الإنقياد للأوامر الإلهية التي تبعث العفة في النفس وتجعل التقوى حاضرة في أقوال وأفعال الناس .
وتجعل القبيلة هو الإسلام والولاء له ليصبح الأعداء بين عشية وضحاها أخوة ، وتتقوم هذه الأخوة بسنن التقوى والتـأسي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحسن خلقه ، ولين عريكته ، وتنزهه عن الغضب والقسوة والشدة ، وعن خال بن أبي عمران قال (بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو على مضر إذ جاءه جبريل فأومأ إليه أن اسكت فسكت ، فقال يا محمد : إن الله لم يبعثك سباباً ولا لعاناً ، وإنما بعثك رحمة للعالمين ، ولم يبعثك عذاباً ، ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ، ثم علمه هذا القنوت : اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونخضع لك ونخلع ونترك من يفجرك ، اللهم إياك نعبد ، ولك نصلي ونسجد ، إليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ونخشى عذابك ، إن عذابك الجد بالكفار ملحق ) ( ).
وفي الحديث أعلاه نكتة من جهات :
الأولى : رحمة الله التي تجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لين الجانب شعبة من الوحي .
الثانية : حضور جبرئيل بأمر من عند الله عز وجل في توجيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى لين الجانب .
الثالثة : مضامين آية البحث أعم من أن تختص بالمسلمين أو القول والفعل إنما تشمل الدعاء ، لبيان موضوعية وأثر دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الناس .
وفيه ترغيب لهم بالفوز بدعائه وإجتناب سخطه ، ولين جانب الزعيم والقائد مدرسة لأتباعه عامة والرؤساء منهم خاصة ، أما بالنسبة للنبي فان لين الجانب موعظة للأمة ، وإختص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن أخلاقه الحميدة مدرسة وموعظة للناس جميعاً وإلى يوم القيامة ، وتدل الآية على تنزه قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الكدورات ومن التدبير بالشدة والقسوة .
(عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال الله عزّ وجلّ : اطلبوا الحوائج من السمحاء فاني جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم فإني جعلت فيهم سخطي) ( ) .
ليكون من معاني [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ] ( ) إدراك المسلمين لقانون وهو اليسر والسهولة في سؤال النبي وطلب الحاجة منه أو التوجه له بالمسألة ، لذا ورد قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ] خمس عشرة مرة كلها خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل السؤال عن مسألة فقهية كما في قوله تعالى[يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسم اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ] ( ) الجواب نعم ، فهذه المسألة حاجة من حاجات الدنيا والآخرة من جهات :
الأولى : توجه المسلم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال شاهد على الإيمان وإرادة الصلاح .
الثانية : سؤال غير المسلم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مقدمة ونوع طريق لإسلامه ، وذات السؤال والإجابة عليه حجة عليه ، ومن وراءه .
الثالثة : دلالة التوجه العام إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال , وتعدد هذا السؤال شاهد على لين جانب النبي وتحليه بمظاهر الرحمة .
الرابعة : اللجوء إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رجاء للإستماع للوحي .
الخامسة : في كل مصداق من مصاديق [يَسْأَلُونَكَ] الواردة في القرآن حكمة وقانون .
السادسة : يدل السؤال الوراد في الآية أعلاه على أن السائلين جماعة من المسلمين فجاء الجواب من عند الله عز وجل ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ] حضور الجواب الجامع المانع من عند الله عز وجل , وفيه تخفيف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا تنفر نفسه من كثرة السؤال سوء مع إتحاد جهة السؤال أو الموضوع أو التعدد في أحدهما أو هما معاً .
فمن إفاضات الآية القرآنية أنها رحمة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , لقد سأل المسلمون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عن أصل الله عز وجل ورسوله من الأكل والشرب ، فجاء الجواب بصيغة الأمر إلى النبي محمد [قل] ليكون معنى الآية على وجوه :
أولاً : يسألونك فتأمرك .
ثانياً : أسألوا النبي نجيب .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا إنتفعوا من وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم فأسألوه :
رابعاً : من أراد التثبت من صدق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فليسأله بأمور الحلال والحرام ، بل مطلقاً ، إذ سألوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن قيام الساعة واوانها فلم يزجرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعتذر بانه لا يعلم إنما جاء الجواب عند الله قال سبحانه [يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا] ( ) وفيه شاهد على لين الجانب ومصاحبته للنبوة.
الآية بشارة
إبتدأت آية البحث بالإخبار عن نزول رحمة من الله في موضوع مخصوص وهو لين وعطف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين ويحتمل وجوهاً:
الأول : نسبة التساوي بين هذه الرحمة وبين لين وعطف النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق فرحمة الله التي تذكرها آية البحث أعم من لين ولطف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين.
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه، فجاء لين ورفق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برحمة من عند الله، والإجتهاد والرياضة من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : رحمة الله التي تذكرها آية البحث عامة في نفحها وبركاتها بها يلين ويرق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين وبها يتنزه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الشدة والقسوة وغلظة القلب.
والصحيح هو الثاني والرابع أعلاه.
ومن معاني البشارة في آية البحث أن الرحمة التي ذكرتها لا تغادر الأرض وأهلها وإن إنتقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
وتحتمل الرحمة في قوله تعالى[فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ] ( )، وجوهاً:
الأول : سبق هذه الرحمة لولادة وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إقتران نزول هذه الرحمة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : نزول هذه الرحمة عند الحاجة إليها، وفي المواطن التي تلزم أن يرفق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين.
والمختار هو الأول.
وهو من أسرار خلافة الإنسان في الأرض مرتبة النبوة، والإنتفاع الأمثل من رفق ولين الأنبياء في جذب الناس إلى منازل الإيمان.
ومن معاني البشارة في لين ورفق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين رضاهم بإختيار الإسلام، والتسليم بأن قول وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحي تترشح بركاته عليهم.
ومن معاني البشارة في آية البحث تحقق عفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المسلمين وإستغفاره لهم لتكون من معاني البشارة أنها تشمل أحوال المسلمين في الأرض، إذ يحضر معهم عفو وإستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم، وأختتام الآية بتوكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الله عز وجل بشارة إتقان وتيسير العمل الذي يأتي به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الآية إنذار
في الآية تخويف وتحذير للذين كفروا فعند إنصات الإنسان لآية البحث يتبين له إخبار الآية عن قانون سماوي له مصاديق متكثرة في الواقع تتجلى برأفة ورفق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين، قال تعالى[لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
فمن أراد التأكد من صدق نزول آيات القرآن من عند الله فلينظر إلى سنة وسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل بيته وأصحابه، ومن الإعجاز في المقام أن سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم باقية عند الناس إلى يوم القيامة، وجاء زمان التداخل بين الأمم والشعوب ليترجم القرآن وأخبار السنة النبوية إلى اللغات المختلفة فتكون حجة ودعوة للناس للهداية والإيمان، وإنذاراً للذين كفروا، ويكون من معاني قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( )، حث الناس من مختلف الأمم على التدبر في آيات القرآن والنهل من علومه، وصيرورة التقوى قريبة من كل إنسان ببلوغه التبليغ والدعوة إلى الإيمان والتي تقترن بإعجاز القرآن، وإخبار آية البحث كمعجزة عقلية عن آية حسية وهي حسن سمت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورفقه ورأفته بالمسلمين.
فحتى إذا كانت اللغة الذي يقرأ أو يستمع بها للقرآن غير العربية وبواسطة الترجمة ، فانه يدل على إعجاز القرآن ومصاحبة المعجزة الحسية له ، وهي سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تخبر عنها آية البحث ، والتي لا تخبر عن مصداق واحد بل تخبر عن آلاف الأحاديث والوقائع والأفعال الصادرة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وكلها تتصف بعطفه على المسلمين ، وكل قول وفعل من مصاديق رفق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين إنذار للمشركين من الإقامة على الضلالة والكفر والجحود .
وفي عفو واستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين رسالة تحذير وتبكيت وتوبيخ للذين كفروا ، ببلوغ المسلمين بمرتبة سامية بصيغة النزاهة وإستقبال الأيام بالصالحات من غير تبعية لفعل سابق .
ويبعث الأمر في الآية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمشاورة المسلمين الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ).
وهل في توكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الله عز وجل إنذار للذين كفروا , الجواب نعم , لأن من مواضيع التوكل ملاقاة الذين كفروا بالسيف وإحقاق الحق ، ومنع رؤساء الكفر من إكراه الناس على البقاء على مفاهيم الضلالة وعبادة الأوثان .
الآية موعظة
لقد أراد الله عز وجل بيان مرآة للأخلاق الحميدة والسنن التي يتصف بها أهل الجنة من الرفق والمودة فيما بينهم ، فتجلى بالمثال الدنيوي برفق ولين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد أثنى الله عز وجل على أهل الجنة بقوله تعالى [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ] ( ) وقد ظهرت آيات الصفاء والود ونزع الثارات القبلية والأحقاد من قلوب المسلمين بدخولهم الإسلام.
وهل قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بين المسلمين من الرحمة التي تذكرها آية البحث ، الجواب نعم .
الآية رحمة
من إعجاز الآية القرآنية أنها رحمة بذاتها ومضمونها وموضوعها وتلاوتها وما يترشح قراءتها من الفضل والفيض من عند الله ، وتضمنت آية البحث النص على الرحمة من عند الله وذكرتها بالاسم [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ] ( ) لتكون تذكيراً للمسلمين والناس برحمة الله والنهل منها ، والتفقه في الدين ومعرفة مصاديق هذه الرحمة في القرآن والسنة والأخبار ، وما هو أثر هذه الرحمة ، وبين رحمة الله التي تذكرها آية البحث ولين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عموم وخصوص مطلق ، فالرحمة أعم في ذاتها وموضوعها وأثرها .
ومن إعجاز آية البحث ذكرها كلمة الرحمة على نحو التعيين ونزول هذه الرحمة من عند الله عز وجل بقوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ] ( ) لبيان قانون وهو إذا جاءت الرحمة من عند الله فلا تستطيع الخلائق حجبها أو ردها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] ( ).
لقد أخبرت الآية عن رحمة الله ثم توالت النعم المترشحة عنها , وتقدير الآية وما فيها من الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه :
الأول : فبما رحمة من الله رحمت ورأفت بالمسلمين .
الثاني : فبما رحمة من الله صرت ليناً عطوفاً على المسلمين ، ليشكروا الله عز وجل على هذه النعمة ويتخذوها نوع طريق للتفقه في الدين .
الثالث : فبما رحمة من الله طمع الناس ومنهم المشركون بعفوك ، فمن الإعجاز في الشريعة الإسلامية مجئ الذين شاركوا في قتل المسلمين إلى النبي محمد صلى الله عليه آله وسلم ليعلنوا التوبة ويدخلوا الإسلام .
وعن وحشي يحدث عن كيفية قتله حمزة بن عبد المطلب يوم معركة أحد وأنه كان يطلب عتقه بهذا القتل ، وقد ناله ، وفي دخول الإسلام العتق من النار .
قال وحشي (وأقمت فلما فتح الله عز وجل مكة هربت فدخلت الطائف فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله ضاقت علي الأرض بما رحبت فقلت : ألحق باليمن أو بالشام أو ببعض البلاد فوالله إني لفي ذاك من همي ، إذ قال لي رجل من الناس والله لن يقتل محمد صلى الله عليه وسلم أحدا من الناس جاءه يدخل في دينه ويشهد بشهادته قال : فخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يرعه إلا وبي قائم على رأسه أشهد بشهادة الحق فلما رأني قال : وحشي قلت : نعم . قال : اجلس فحدثني كيف كان قتلك حمزة فجلست بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فحدثته , فقال : ويحك غيب عني وجهك بأن لا أراك .
قال : فكنت أتنكب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، حين كان حيا حتى قبض الله عز وجل رسوله عليه السلام فلما غزا المسلمون مسيلمة خرجت بحربتي التي قتلت بها حمزة رضي الله عنه ، حتى إذا كنت باليمامة والتقى الناس نظرت إلى مسيلمة فوالله ما عرفته فإذا رجل من الأنصار يريده من ناحية أخرى وكلانا يتهيأ له حتى إذا أمكنني رفعت عليه حربتي فوقعت فيه وشد عليه الأنصاري فضربه بالسيف فربك أعلم أينا قتله فإن كنت أنا قتلته فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقتلت شر الناس) ( ).
الرابع : فبما رحمة من الله جعل دخول الإسلام توبة وسبيلاً للفوز بعفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم سواء عن فعل إرتكبه المسلم قبل دخوله الإسلام كما لو كان ممن حارب الله ورسوله أو عن تقصير وأساءة بعد دخوله الإسلام .
وعن جبير بن مطعم (كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه في مسجده منصرفه من الجعرانة ، فطلع هبار بن الأسود من باب النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما نظر القوم إليه قالوا : يا رسول الله ، هبار بن الأسود ، فقال : قد رأيته ، فأراد رجل القيام إليه ، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن اجلس ، ووقف عليه هبار ، فقال : السلام عليك يا نبي الله ؟ إني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، ولقد هربت منك في البلاد ، وأردت اللحوق بالأعاجم ، ثم ذكرت عائدتك وفضلك وصفحك عمن جهل عليك .
وكنا يا نبي الله أهل الشرك ، فهدانا الله بك ، وسعدنا بك من الهلكة ، وكنا يا نبي الله أهل الشرك ، فاصفح عن جهلي ، وعما كان يبلغك عني ، فإني مقر بسوأتي ، معترف بذنبي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قد عفوت عنك ، فقد أحسن الله إليك حيث هداك إلى الإسلام ، والإسلام يجب ما قبله ) ( ).
وهل لين جانب النبي للمسلمين مثل أي زعيم أو قائد أو إمام يلين جانبه لأصحابه ويرفق باتباعه , الجواب لا ، إنه لين سامي لا يستطيع القادة والأمراء بلوغ معشاره وإن إجتهدوا لأنه صادر بأمر ورحمة من عند الله وجاء على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فان قلت قد يجري اللين من الأمراء والقادة برحمة من الله .
والجواب نعم هذا صحيح , ولكن هناك تباين بينه وبين اللين الذي تذكره آية البحث من جهات :
الأولى : توجه الرحمة من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته .
الثانية : سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي .
الثالثة : اللين والرفق الذي يتحلى به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فريدة خاصة لن تتكرر ، ولكن يترشح عنها اللين بين المسلمين وعند قادتهم ، وهل يكون لينهم ورقتهم بالنسبة للين ورفق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كالضياء بالنسبة للشمس الجواب لا تصل النوبة إلى هذا القياس ، إنما لينهم فرع وإقتباس من لين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس جميعاً .
قانون التخفيف
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إختبار وإمتحان وإبتلاء ، وقد يقال بالتزاحم أو التعارض بين الإبتلاء والتخفيف ، ويبين القرآن إنتفاء هذا التزاحم والتعارض بآيات الرحمة واللطف ، ومعاني الفضل الإلهي ، كما وردت آيات تتضمن النص على التخفيف منها قوله تعالى [الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ) ومنها قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ).
وتتضمن الآية أعلاه نكتة وهي أن الضعف ملازم للإنسان مطلقاً ، ويفوز المسلمون بالتخفيف الملائم للضعف , من جهات :
الأولى : كل آية قرآنية عون ومدد للمسلمين في أمور الدين والدنيا .
الثانية : يتجلى التخفيف عن المسلم في كل مرة يؤدي فيها الصلاة أو أي فريضة أخرى ، فعندما يقول الله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) ففيه فائدة عظمى من جهة التخفيف عن المسلمين وإصلاح الذات وتهذيب اللسان وعصمة الجوارح وتنقية النفوس .
الثالثة : كل من بشارات وإنذارات القرآن تخفيف وسبيل لهداية المسلمين .
الرابعة : نزول الملائكة مدداً من عند الله عز وجل في حال القتال والحرب ، مع تأديب وإرشاد وإصلاح المسلمين للصبر والإقامة على العبادات والفرائض وسنن التقوى ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا….] ( ).
وهل تختص منافع هذا المدد بميدان المعركة واوان وقوعها .
الجواب لا ، إذ أن منافع نزول الملائكة يوم بدر ، وفي معركة أحد والخندق باقية ومجددة مع الإيمان إلى قيام الساعة ، وهو من أسرار ذكرها وتوثيقها في القرآن.
وهل لين جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين من التخفيف عنهم , الجواب نعم ، فلم يكن أشق على بعض من الناس أيام البعثة مثل تقيدهم بأداء العبادات والفرائض ، فبعد فرض الصلاة وأدائها خمس مرات في اليوم ، فرض الله عز وجل الصيام والزكاة في السنة الثانية للهجرة ، فالذي دخل الإسلام يومئذ كان عليه أن يقيم الصلاة ويصوم شهر رمضان مع إنتفاء المانع لمرض أو سفر ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( )وقال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: جاء أعرابي احد بنى عامر فسأل عن النبى صلى الله عليه واله فلم يجده فقالوا هو بقزح , فطلبه فلم يجده قالوا : هو بمنى قال : فطلبه فلم يجده ، فقالوا هو بعرفة فطلبه فلم يجده ، قالوا هو بالمشعر قال : فوجده في الموقف قال : حلوا لي النبي صلى الله عليه واله ، فقال الناس : يا اعرابى ما انكرك (ما انكرت خل) اذا وجدت النبى وسط القوم وجدته مفخما .
قال : بل حلوه لي حتى لا اسئل عنه احدا .
قالوا : فان نبى الله اطول من الربعة واقصر من الطويل الفاحش ، كأن لونه فضة وذهب ، أرجل الناس جمة واوسع الناس جبهة ، بين عينيه غرة أقنى الانف واسع الجبين ، كث اللحية مفلج الاسنان ، على شفته السفلى خال ، كأن رقبته ابريق فضة ، بعيد ما بين مشاشة المنكبين كأن بطنه وصدره سواء سبط البنان عظيم البراثن اذا مشى مشى متكفيا واذا التفت التفت بأجمعه كأن يده من لينها متن ارنب ، اذا قام مع انسان لم ينفتل حتى ينفتل صاحبه واذا جلس لم يحلل حبوته حتى يقوم جليسه .
فجاء الاعرابى فلما نظر إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم عرفه قال بمحجنة على رأس ناقة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عند ذنب ناقته ، فأقبل الناس تقول : ما أجرأك يا أعرابى ؟ قال النبى صلى الله عليه واله وسلم : دعوه فانه اديب .
ثم قال : ما حاجتك ؟ قال : جاءتنا رسلك أن تقيموا الصلوة وتؤتوا الزكوة وتحجوا البيت وتغتسلوا من الجنابة ، وبعثنى قومي اليك رايدا أبغى ان استحلفك وأخشى أن تغضب ، قال : لا أغضب انى انا الذى سمانى الله في التورية والانجيل محمد رسول الله المجتبى المصطفى ليس بفاحش ولا سخاب في الاسواق ولا يتبع السيئة السيئة ، ولكن يتبع السيئة الحسنة ، فسلنى عما شئت وانا الذى سمانى الله في القرآن ” ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ” فسل عما شئت ، قال : ان الله الذى
رفع السموات بغير عمد هو أرسلك ؟ قال : نعم هو أرسلنى ، قال : بالله الذى قامت السموات بأمره هو الذى انزل عليك الكتاب وأرسلك بالصلوة المفروضة والزكوة المعقولة ؟ قال : نعم ، قال : وهو أمرك بالاغتسال من الجنابة وبالحدود كلها ؟ قال : نعم ، قال : فانا آمنا بالله ورسله وكتابه واليوم الاخر والبعث والميزان والموقف والحلال والحرام ، صغيره وكبيره ، قال : فاستغفر له النبي صلى الله عليه واله ودعا له)( ).
وشرعت الزكاة بدفعها مع النصاب ، ثم جاء الخروج إلى معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة , للقاء جيش المشركين الذي فاق عدد المسلمين أضعافاً مع كثرة أسلحة الذين كفروا ليكون أداء المسلمين لهذه الفرائض معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتجلى بفعل المسلمين ، وهل تختص بأيام النبوة وحديثي العهد بالإسلام .
الجواب لا ، ففي كل زمان يكون أداء المسلمين للفرائض وإقبالهم عليها بشوق من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية ، ليأتي لين جانب النبي الذي يتجلى بسنته القولية والفعلية تخفيفاً عنهم في أدائهم في كل زمان ومكان .
لقد أمر الله عز وجل رسوله محمداً بأن يعفو عن المسلمين ويستغفر لهم في ذات آية البحث مما يدل على أن كل فرد منهما غير لين الجانب لموضوعية ومعاني العطف في الآية بالفاء والواو ، والذي يفيد المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه ، ويصاحب قانون التخفيف كل فريضة أو نهي في الإسلام وهو من أسرار نفخ الله من روحه في آدم عليه السلام ، ومصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) بلحاظ عموم التخفيف إذ يتعلق بذات المسلم والكيفية النفسانية التي يكون عليها عند أداء العبادات إذ يغمره الشوق لأداء الفريضة في وقتها تملأ قلبه الغبطة والسعادة عند التوثيق لأدائها ، ومن التخفيف في الشريعة وجود الرخصة والعفو والإستثناء في كل فرض وحكم عبادي (عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) ( ).
ومن مصاديق رحمة الله في المقام أن الله عز وجل هدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم للخلق الحميد وأصلحه لإمامة المسلمين بصيغ اليسر والتخفيف ، قال تعالى [وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى] ( ) لبيان قانون وهو أن حال الرأفة واللطف والسخاء التي يظهر بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل يوم وكل مناسبة إنما هو بتوفيق ورحمة من عند الله ، ومضامين آية البحث من مصاديق قوله تعالى [نُيَسِّرُكَ] وقوله تعالى [ِللْيُسْرَى] .
ليكون قانون التخفيف رحمة من عند الله عز وجل للمسلمين والمسلمات والناس جميعاً ، ويمكن تشريع قانون آخر وهو في كل كلمة شرعي في الإسلام تخفيف ، ويتصف هذا التخفيف بأمور :
الأول : تعدد مصاديق التخفيف في الحكم الشرعي .
الثاني : حضور وتجلي التخفيف في كل حكم من الأحكام الشرعية الخمسة : الوجوب ، الإستحباب ، الإباحة ، الكراهة ، الحرمة .
الثالث : إستدامة التخفيف لبيانه وثبوته في القرآن والسنة .
الرابع : تجدد مصاديق التخفيف حسب مستحدثات المسائل ، وهو من أسرار قوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ] فمن معاني اللين في المقام عدم التشديد أو القهر في الأداء.
(عن الإمام الصادق عليه السلام قال: جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إن عثمان يصوم النهار ويقوم الليل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مغضبا يحمل نعليه حتى جاء إلى عثمان فوجده يصلي، فانصرف عثمان حين رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال له: يا عثمان لم يرسلني الله بالرهبانية، ولكن بعثني بالحنيفية السهلة السمحة، أصوم واصلي وألمس أهلي، فمن أحب فطرتي فليستن بسنتي ومن سنتي النكاح) ( ).

قانون الحاجة إلى الآية القرآنية
تتجلى الحاجة العامة والخاصة إلى الآية القرآنية من جهات :
الأولى : التسليم بنزول الآية من عند الله عز وجل وما فيه من إكرام للناس عامة والمسلمين خاصة .
الثانية : دلالة الآية القرآنية على الإخبار بأن الله عز وجل لم ولن يترك الناس وشأنهم ، فعندما أخبر الله الملائكة بقوله [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) إحتجوا وتضرعوا إلى الله بالقول [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ] ( ) .
فبعث الله عز وجل السكينة في نفوسهم وطمأنهم على حال الإنسان في الأرض وأن رحمته تتغشى أهل الأرض بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) فخروا إلى الله سجداً شاكرين ، ومن علم الله عز وجل تفضله بنزول القرآن وجعل عدد آياته ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية ، وكل آية كنز سماوي مصاحبة للناس في حلهم وترحالهم وينهلون منه العلوم واسباب الرزق .
الثالثة : توثيق خلق الإنسان وكيفية إقامته في الأرض ، فهو ليس مثل الحيوان والشجر والنبات ، إذ نمت وكبرت في الأرض ، فقد خلق الله عز وجل آدم في السماء ، ونفخ فيه من روحه وأسكنه هو وحواء في الجنة آنا ما ، قال تعالى [وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ]( ) فيحق للناس أن يقولوا نحن أبناء سكنة الجنة ، والمكان المقدس لهذا الخلق من الأسباب التي نحتج فيها على علماء المنطق الذين يسمون الإنسان (الحيوان الناطق ) بلحاظ أن المائز بينه وبين باق الحيوانات هو النطق .
وفي الأسماء والمصطلحات مندوحة وسعة ، فالأولى إختيار اسم للإنسان ينزهه عن الإلتقاء الدائم مع الحيوان وعن وصفه بالحيوان مع إمكان هذه التسمية وتعددها ، ومن خصائص التوثيق القرآني لخلق الإنسان بعثه على الإيمان ، ودعوته للتفقه في الدين ، وليكون قانون الحاجة إلى الآية القرآنية طريقاً وشاهداً على أمور :
أولاً : الحاجة إلى رحمة الله عز وجل ، إذ يدرك المسلم وغيره بتلاوة أو سماع الآية القرآنية والتدبر فيها حاجته إلى فضل الله .
ثانياً : حاجة الإنسان إلى موضوعية التنزيل في حياته وإتخاذه ضياء ومناراً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
ثالثاً : الآية القرآنية مستشار مصاحب للمسلم في حياته ، ليكون من معاني قوله تعالى في آية البحث [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] أي شاور المسلمين بما حفظوا وتعلموا من آيات القرآن , وهل تشمل المشاورة أزواج النبي والزهراء وعموم المسلمات , الجواب نعم , وفي قصة موسى عليه السلام , وإبنتي شعيب , ورد في التنزيل[قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ] ( ).
رابعاً : يحتاج الإنسان الآية القرآنية لتملأ السكينة قلبه، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
خامساً : إرادة الأجر والثواب في تلاوة أو سماع الآية القرآنية والتدبر في معانيها ، وهو من الإعجاز في وجوب تلاوة القرآن في الصلاة ، وتشريع إستحباب صلاة الجماعة ولزوم إنصات المصلين لقراءة الإمام , قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا] ( ).
ومن حكمة الله عز وجل أنه جعل الحاجة ملازمة للإنسان، مع إدراك الإنسان مطلقاً مؤمناً كان أو كافراً لهذا القانون وسنخية هذه المصاحبة في كل ساعة من ساعات حياته، وبخصوص الصحة والمرض، والرزق ، والسعة واليسر والعسر ، وشؤون العمل والأماني وأمور الدين والدنيا، ثم تفضل الله عز وجل قضاء حاجة الإنسان بالتنزيل والنبوة، وأنزل القرآن ليبقى[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) .
وتحتمل حاجة الإنسان للقرآن وجوهاً :
الأول : حاجة الإنسان لسور وآيات القرآن على نحو العموم المجموعي .
الثاني : يحتاج الإنسان كل آية من القرآن .
الثالث : من حاجات الإنسان الجمع بين كل آيتين أو ثلاثة من القرآن, وإستقراء الدروس والمواعظ منها.
الرابع : يحتاج الإنسان القرآن إماماً في الهدى , ومبشراً للمؤمنين بالخير والفضل من الله والنجاة من النار.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )، وهل حاجة الإنسان الى النبوة والتنزيل مساوية لحاجته إلى الأكل والشرب أم أنها أقل أو أكثر منها .
الجواب كل فرد منهما حاجة للإنسان إلا أن النفع والخير والفلاح في النبوة والتنزيل، وهي تجلب الرزق الكريم وتصرف البلاء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) وإذا كان الأكل والشرب يسد حاجة الجسد فان النبوة والتنزيل غذاء للروح والبدن والأركان والجوارح ، وكل آية من القرآن طريق إلى الرفعة والسمو وتلاوتها والعمل بمضامينها من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وفي الحاجة إلى الآية القرآنية ترغيب بالإيمان ودعوة للزهد في الدنيا والأحتراز من فعل السيئات.
الحاجة إلى آية البحث
تتجلى الحاجة إلى آية البحث بابتدائها بالخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في باب الأحكام والسنن ، لتشرئب الأعناق ، وتصغى الأسماع بماذا يأمر الله عز وجل رسوله الكريم .
فتبدأ الآية بذكر رحمة الله عز وجل بقوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ]( )، وليس من مخلوق إلا وهو محتاج إلى رحمته سبحانه في كل آن وفي أموره كلها .
ومن ثناء الله عز وجل على نفسه أنه ذكر الرحمة في الآية بصيغة التنكير لبيان قانون وهو أن رحمة الله عز وجل من اللامتناهي ، وفيه دعوة للناس للدعاء والمسألة , رجاء الفوز برحمة الله في أمورهم كلها ، ومن رحمة الله عز وجل ما ورد في الآية التالية وعلى نحو الترديد [إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ]( ).
فمن رحمة الله عز وجل تفضله بنصر المسلمين , والنصر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة من جهات :
الجهة الأولى : أوان وزمان ومدة تحقيق النصر ، فقد يتم على نحو المباغتة للعدو لعمومات قوله تعالى [إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ) والغزو السريع ، وقد يكون تدريجياً أو يستغرق وقتاً طويلاً .
الجهة الثانية : إتحاد أو تعدد النصر ، فقد نزل القرآن بخصوص معركة بدر بالنصر والغلبة للمسلمين ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
وقيدت الآية أعلاه النصر بأنه بمعركة (بدر) في إشارة إعجازية لأمور :
الأول : مجئ أفراد أخرى من النصر للمسلمين في قادم الأيام.
الثاني : إحتمال تعرض المسلمين لخسارة أو هزيمة في قادم الأيام , وما ذكره أبو سفيان : ( الحرب سجال )( ) يوم إنسحابه والمشركين خائبين من معركة أحد لا أصل له كبرى وصغرى .
أما الكبرى فتدل آية البحث على أمور:
أولاً : النصر بيد الله، ومن عنده سبحانه .
ثانياً : ينصر الله عز وجل أولياءه والذين آمنوا به وبرسله وكتبه، قال تعالى[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ).
ثالثاً : توالي المدد والعون من عند الله لنصر المؤمنين.
وأما الصغرى وهي خاصة بمعركة أحد، فمن وجوه:
أولاً : لم ينتصر المشركون في معركة أحد.
ثانياً : إبتداء المعركة بالنصر الساحق للمسلمين، إذ إنهزم المشركون في أول النهار وسلّط الله عليهم المسلمين، وصاروا يقتلونهم , قال تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]( ).
ثالثاً : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وثلة من أهل بيته وأصحابه في ميدان المعركة حتى عاد له أكثر أصحابه.
وقال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة من أُحد وقد أصابهم ما أصابهم، قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا؟ وقد وعدنا الله النصر فأنزل الله تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ] ( )، بالنصر والظفر وذلك أن النصر والظفر كان للمسلمين في الابتداء، {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أُحدًا خلف ظهره واستقبل المدينة وجعل عينين، وهو جبل عن يساره وأقام عليه الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جُبير , وقال لهم: احموا ظهورنا فإن رأيتمونا قد غَنِمْنَا فلا تشركونا وإن رأيتمونا نُقتل فلا تَنْصرونا .
وأقبل المشركون فأخذوا في القتال , فجعل الرماة يرشقون خيل المشركين بالنبل والمسلمون يضربونهم بالسيوف، حتى ولّوا هاربين فذلك قوله تعالى{إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} أي تقتلونهم قتلا ذريعا بقضاء الله)( ).
رابعاً : نزول الملائكة مدداً للمسلمين في معركة أحد شاهد على أن المسلمين لم ينهزموا ولم يخسروا المعركة .
أما قول أبي سفيان يومئذ : الحرب سجال ) وهو من رؤساء المشركين يوم أحد ففيه وجوه :
أولاً : لأنه يرى بأنهم انتصروا في معركة أحد .
ثانياً : لم ير أبو سفيان الملائكة في ميدان معركة أحد وأثرهم في بعث الفزع والخوف في قلوب المشركين وهو منهم ، وقتل بعضهم , إذ أوحى الله إلى الملائكة[أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( ).
ثالثاً : كان قول أبي سفيان هذا لإرادة المغالطة والتمويه .
الجواب هو الأخير ، إذ كانت هزيمة المشركين جلية وظاهرة لأنهم لم يحققوا أي غاية خبيثة جاءوا من أجلها، فقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سالماً من المعركة، ولم يؤسروا الصحابة سواء من المهاجرين أو الأنصار ، ولم يستطيعوا أن يطأوا أرض المدينة، لتكون معركة أحد شاهداً ومعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حرمة المدينة المنورة بقدومه المبارك لها، وإقامته فيها .
ومن الآيات أن قبره الشريف فيها ليكون لها شأن في التأريخ وفي موسم الحج، وهناك تباين في الدلالات والموعظة وفي رحلة الحج ما لو كان قبر النبي صلى الله وآله وسلم في المدينة عما لو كان في مكة المكرمة بجوار البيت الحرام .
نعم تشهد الوقائع والتأريخ بما أصاب المسلمين في معركة أحد من الخسارة وفقد سبعين شهيداً ، مع تقدم الوعد من عند الله بالنصر ، وإبتداء المعركة بهزيمة جيش المشركين ، ولكن خاتمة المعركة لا تعني نصراً للمشركين, وقد حددت آية ( ببدر) ( )، معالم النصر , ومنه كثرة الأسرى والغنائم.
قال تعالى بخصوص معركة أحد [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ] ( ).
الثالث : تقدم الوعد من عند الله للمسلمين بالنصر والغلبة على المشركين ، لبيان قانون وهو القطع والحتم بتنجز مصداق عملي متعدد لكل وعد متحد من عند الله سبحانه , فحينما يأتي وعد من الله فلابد أن تتعقبه شواهد عملية له , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
الرابع : البشارة بصدق رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان قانون وهو أن رؤيا النبي من عمومات الوحي ، ومن الأنبياء من كان يرى في منامه ، وأول ما بدء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم الرؤيا الصادقة .
وعن (أبي ميسرة وبريدة: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا
انطلق بارزا سمع صوتا: يا محمد، فيأتي خديجة ويقول: يا خديجة قد خشيت أن يكون خالط عقلي شئ، إني إذا خلوت أسمع صوتا وأرى نورا.
وعن عائشة : أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة، وكان يرى الرؤيا فتأتيه مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلا فكان يخلو بغار حراء فسمع نداء يا محمد، فغشي عليه .
فلما كان اليوم الثاني سمع مثله نداء فرجع إلى خديجة وقال: زملوني زملوني فو الله لقد خشيت على عقلي، فقالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَل، وتكسب المعدم( )، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق( ).
فانطلقت خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل، فقال ورقة: هذا والله الناموس الذي انزل على موسى وعيسى (عليهما السلام)، وإني أرى في المنام ثلاث ليال أن الله أرسل في مكة رسولا اسمه محمد وقد قرب وقته، ولست أرى في الناس رجلا أفضل منه، فخرج (صلى الله عليه وآله) إلى حراء فرأى كرسيا من ياقوتة حمراء، مرقاة من زبرجد، ومرقاة من لؤلؤ،
فلما رأى ذلك غشي عليه، فقال ورقة: يا خديجة فإذا أتته الحالة فاكشفي عن رأسك، فإن خرج فهو ملك، وإن بقي فهو شيطان، فنزعت خمارها فخرج الجائي .
فلما اختمرت عاد، فسأله ورقة عن عن صفة الجائي فلما حكاه قام وقبل رأسه وقال: ذاك الناموس الاكبر الذي نزل
على موسى وعيسى (عليهما السلام)، ثم قال: أبشر فإنك أنت النبي الذي بشر به موسى وعيسى عليهما السلام وإنك نبي مرسل) ( ).
الخامس : حث المسلمين على الدعاء وسؤال ملازمة النصر لهم في كل معركة مع الذين كفروا ، بلحاظ قانون , وهو دوام النعم بالدعاء .
السادس : التوثيق السماوي لمعركة بدر ومعرفة كل مسلم لها ، ومن الإعجاز في المقام بيان قانون، وهو أن معرفة الاسم على وجوه :
أولاً : إنها مقدمة ونوع طريق لمعرفة المسمى .
ثانياً : فهم المسمى والتفقه فيه .
ثالثاً : عدم غياب الاسم والمسمى عن الوجود الذهني .
رابعاً : الدعوة لإستحضار تفاصيل المسمى .
خامساً : معرفة المتعدد من المسمى على فرض وجوده .
سادساً : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا وزجرهم عن التعدي على الإسلام والمسلمين , وذكر اسم معركة بدر في القرآن والإخبار عن نصر المسلمين فيها من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( ).
السابع : من وجوه ذكر اسم معركة بدر وتوثيقها في آية [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) التذكير بحال المسلمين يومئذ وبيان قلة عددهم ، والنقص في أسلحتهم ورواحلهم ليكون رجحان نصرهم في المعارك اللاحقة من باب الأولوية , وبدليل الإستصحاب , ووجود المقتضي وفقد المانع .
الثامن : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين ، لذا نسبت الآية النصر لله عز وجل ، وفيه منع من الغلو بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وزجر للمسلمين عن الإتكال على النفس والقوة البدنبة ، لذا أختتمت آية البحث بالتأكيد على الإستعانة بالله وتسليم الأمور إليه بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ] ( ) .
وهل كان خروج المسلمين لمعركة بدر وقتالهم فيها من التوكل على الله ، الجواب نعم ، وهو من أبهى معاني اللجوء إليه سبحانه ، ليكون من معاني وتقدير معنى آية ببدر (ولقد توكلتم على الله ببدر فنصركم الله وأنتم أذلة ).
ويصح تقدير الآية أيضاً : ولقد توكلتم على الله ببدر وأنتم أذلة فنصركم الله ).
لقد إبتدأت معركة أحد بزحف المسلمين وتقدمهم ، وإستعداد الذين كفروا للهزيمة والفرار بلحاظ آية البحث والآية التالية , ويحتمل وجوهاً :
الأول : هذا التقدم والهجوم من رحمة الله التي تذكرها آية البحث .
الثاني : إنه من مصاديق تفاني المسلمين في الذب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدم تفرقهم عنه , والذي تذكره آية البحث بقوله تعالى [وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] ( ).
الثالث : إنه شاهد على حسن توكل المسلمين على الله ، وعزيمتهم في الدفاع ومحاربة المعتدين الغزاة من كفار قريش ومن والاهم من الأحباش وغيرهم .
ومن مصاديق هذا التوكل قلة عدد المسلمين في مقابل كثرة عدد المشركين ، فقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة بحماس وشوق للقاء العدو ، ويدل على بيان وتوثيق صبغة هذا الخروج قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ).
وفي الطريق إلى معركة أحد قام رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول بتحريض طائفة من الأنصار على الرجوع بحجج واهية منها :
أولاً : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إستجاب لمشورة الشباب منهم بالخروج من المدينة ، ولقاء العدو خارجها .
ثانياً : كان رأي عبد الله بن أبي بن أبي سلول البقاء في المدينة للقاء العدو ، ويقول أن رأيه هذا عن تجربة وخبرة .
ثالثاً : إدعاء عدم وقوع قتال .
وتجلت معاني مشورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه عندما بلغه أن المشركين إقتربوا من المدينة ومجيئهم بجيش عرمرم للقتال، فقال لأصحابه كما ورد عن ابن إسحاق (إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها.
وكان رأى عبدالله بن أبى بن سلول مع رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألا يخرج إليهم ) ( ).
وفيه نكتة وهي قد يصدر من المنافق قول حسن ، وقد يأمر بالمعروف وإن لم يأته ، وهو من أسرار عدم قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمنافقين ، ومن الإعجاز في مجئ آيات القرآن في ذم المنافقين والتحذير من أخلاق النفاق لإرادة حملهم على التوبة ، وقد تاب أكثرهم وهجر النفاق وتخلص منه .
لقد كانت طائفة من شباب المسلمين تتوق لقتال المشركين ورجال منهم فاتهم حضور معركة بدر وشرف الإشتراك فيها ، فالحوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج وملاقاة جيش المشركين خارج المدينة ، خاصة وأن النصر في معركة بدر كان في موضع بعيد عن المدينة ، إذ يبعد ميدان معركة بدر عنها نحو مائة وخمسين كيلو متراً ، بينما وصل المشركون في معركة أحد إلى مشارف المدينة , وقد أجهدهم السير وقطع المسافة .
فان قلت وأجهد رواحلهم ، فالجواب هذا صحيح ، ولكنهم جلبوا معهم مائتي فرس يقودونها لم تركب ظهورها في الطريق لتكون جاهزة لدخول المعركة , وهذه النعم والقدرات من مصاديق فضل الله عز وجل عليه بالتجارة من وجوه :
الأول : تجارة قوافل قريش بين مكة والشام .
الثاني : اجارة قوافلهم بين مكة واليمن .
الثالث : إزدهار تجارتهم بين الشام واليمن .
وكانت هذه النعمة مقدمة وحجة عليهم بلزوم عبادة الله وتعاهد مناسك حج بيت الله الحرام بصيغ التوحيد ، قال تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] ( ) فأصروا على قتال النبوة والإيمان فأبدلوا نعمة الأمن بالخوف والفزع .
فان قلت كيف كان رأي النبي صلى الله عليه وآله وسلم موافقاً لقول عبد الله بن أبي في البقاء في المدينة , ثم استجاب للذين سألوه الخروج للعدو ، الجواب إنه من الإعجاز في قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] ( ) لبيان قانون وهو أن هذه المشاورة ليست سالبة بانتفاء الموضوع دائماً ، إنما هو أمر نافع وخير محض في كل الأحوال , وسواء أخذ بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لم يؤخذ بها ، أو كان عنده رأي سابق للمشورة أو لا .
لذا قيدت الآية فعل النبي بأمرين هما :
الأول : العزم .
الثاني : التوكل على الله .
وتقديره في المقام : وشاورهم في الخروج للقاء العدو ، فاذا عزمت على الخروج بعد المشورة فتوكل على الله وأخرج للقاء العدو .
فلم يرض عبد الله بن أبي بترك قوله إلى جانب أنه خسر الرئاسة والملك بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ كان الأوس والخزرج يصلحونه ليكون ملكاً عليهم لمنع تجدد القتال بينهم .
ولم يرض بفقد هذه الأمور ولم يعلم أن شرف الإنتساب للإسلام خير منها جميعاً .
وإذا كان الأنصار يرومون تنصيبه ملكاً عليه لمنع التنازع بينهم وعلى نحو الإحتمال والرجحان ، فقد أنعم الله عز وجل عليهم بايواء ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكونوا أئمة للناس ، وأمراء وقادة ، وليخلدهم القرآن بالذكر ، قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] ( ).
لتبين هذه الوقائع حاجة الناس للقرآن وآية البحث وما فيها من الرحمة التي أصابت أبناء وأحفاد الأنصار .
(وأخرج ابن أبي شيبة عن قيس بن سعد بن عبادة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . أنه قال : اللهمَّ صل على الأنصار ، وعلى ذرية الأنصار ، وعلى ذرية ذرية الأنصار .
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو سلك الناس وادياً وشعباً وسلكتم وادياً وشعباً لسلكت واديكم وشعبكم ، أنتم شعار والناس دثار ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار .
ثم رفع يديه حتى اني لأرى بياض ابطيه فقال : اللهمَّ اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار ) ( ).
الرابع : هذا التقدم من مصاديق نصر الله الذي تذكره الآية التالية .
الخامس : إبتداء معركة أحد بنصر المسلمين من مصاديق الرحمة التي تذكرها آية البحث ومن مصاديق النصر الذي تذكره الآية التالية .
والصحيح هو الأخير ، وهو من فضل الله عز وجل وبيان قانون وهو أن الله عز وجل إذا وعد المسلمين والعباد مطلقاً فان مصاديق من الوعد تتجلى بالعاجل ، وفي أفراد الزمان الطولية اللاحقة ، وتأتي بأبهى حلة في الآخرة .
وسيأتي في الجزء التالي تعاقب قتل حملة لواء المشركين في أول ساعات معركة أحد , وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية التالية [إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ] ( ).
الثالثة : قلة أو كثرة الخسائر لتحقيق النصر والغلبة ، فقد يأتي النصر مع قلة عدد القتلى في الجانب المنتصر أو العكس ، ويجعلون في الخطط العسكرية الحديثة موضوعية للخسائر المحتملة عند إرادة الإقدام على هجوم أو خطة معينة ، ويجري التفاضل بين الخطط الهجومية أو الدفاعية وفق هذه الضابطة سواء عند تساوي الوجوه الأخرى أو تباينها .
وهل تتضمن آية [ببدر] هذا المعنى ، الجواب نعم ، وتقدير الآية : ولقد نصركم الله ببدر مع قلة الخسائر ).
الرابعة : كيفية تحقق النصر والطريق إليه .
ومن الإعجاز أن النصر الذي يأتي من عند الله عز وجل يكون بكيفية فريدة قد لا تتكرر في التـاريخ إلا بذات المعجزة ، والضابطة فيه تجلي أمور وترشح مسائل في المعركة والنصر تفوق التصور الذهني ، ولا يمكن أن تتحقق وفق حسابات القادة وغيرهم من الجنود أو الناس ، ليكون من الإعجاز أنه في كل زمان تستقرأ مسائل ومواعظ ودروس من نصر الله في معركة بدر ، ليكون من وجوه تقدير آية ببدر :
أولاً : ولقد نصركم الله ببدر بمعجزة .
ثانياً : ولقد نصركم الله ببدر نصرة لم تتكرر .
ثالثاً : ولقد نصركم الله ببدر بقوته ومشيئته .
رابعاً : ولقد نصركم الله ببدر بأمره للملائكة بالنزول لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرتكم ، قال تعالى بخصوص هذه المعركة [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ] ( ).
الخامسة : الآثار المترتبة على النصر , وإتصال وتجدد النفع منه .
قانون النعم التي تذكرها الآية القرآنية
نؤسس هذا العلم في هذا الجزء وهو الخامس والأربعون بعد المائة من معالم الإيمان في تفسير القرآن ليضاف إلى الأبواب الأخرى الثابتة في تفسير كل آية من القرآن , وأسأل الله أن أضيفه إلى تفسير آيات سابقة من سورة الفاتحة والبقرة وآل عمران ، بلحاظ كبرى كلية وهي أن كل آية قرآنية خزينة لا تنفد من النعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي] ( ) .
وبين كلمات الله ونعمه عموم وخصوص مطلق ، لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً ورزقه الكريم من كلماته ونعمه وسعة رحمته ، ونزول كل آية من القرآن نعمة قائمة بذاتها وهي تتضمن النعم العظيمة في مضمونها وما فيها من الأوامر والنواهي .
ومع قلة كلمات الآية القرآنية فان النعم التي تترشح عنها متجددة إلى يوم القيامة ، وهو من الشواهد على أن معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية ، وتحتمل هذه النعم في إستدامتها وجوهاً :
الأول : إستمرار ذات النعمة من غير زيادة أو نقصان .
الثاني : النقص والتضاؤل في النعمة مع تقادم الأيام .
الثالث : الزيادة في سنخية وكم وكيف النعمة مع تقادم الأيام .
الرابع : موضوعية حال الناس في شكرهم للنعم أو ضده .
والصحيح هو الثالث والرابع ، أما الثالث فلابتداء آية البحث بالإخبار عن رحمة الله عز وجل ، وهو قانون يتغشى الأكوان والعوالم المختلفة .
وأما الرابع فلقوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
فان قلت تفيد الآية أعلاه الزيادة في النعم بالشكر لله عز وجل ، والجواب لا دليل على ثبوت هذا التقييد في الآية إنما تبين وجهاً وسبباً من أسباب الزيادة في النعم والرزق وطول العمر وأسباب الهداية والصلاح ونحوها ، وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره .
ومن إعجاز الآية القرآنية إبتداؤها بنعمة كما في آية البحث إذ إبتدأت بالإخبار عن رحمة الله ، وليس من نعمة أعظم من هذه النعمة التي تحتاج إليها السموات والأرض وما فيهن وما بينهن ، لذا لاقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحسد والبغضاء من الذين كفروا , فتفضل الله فتغشاه وأهل بيته وأصحابه بالنعم ، ومنها آيات القرآن وذكر رحمة الله فيها على نحو الطريق والبلغة .
النعم التي تذكرها آية البحث
مما يختلف فيه إثنان من الموحدين وأرباب العقول أم كل آية قرآنية نعمة عظمى كما أنها مقدمة وطريق لجلب النعمة الكونية التي هي خير محض كتوالي نزول المطر وإخضرار الأرض ومن النعم في آية البحث :
الأول : توجه الخطاب في آية البحث للمسلمين وبصيغة الإكرام والثناء.
الثانية : مجئ الآية بعد معركة أحد وما اصاب المسلمين فيها من الخسارة الفادحة ، ليكون من معاني النعمة المواساة من عند الله عز وجل .
الثالثة : تذكير المسلمين بمعركة بدر وأن الله عز وجل نصرهم فيها ، ليكون من وجوه تقدير آية البحث : ولقد نصركم الله فلا غالب لكم .
الرابعة : البشارة بأنه بعد معركة بدر لا يستطيع الذين كفروا أن يغلبوا المسلمين .
الخامسة : نعمة بيان قانون إستقراء النصر الذي يأتي للمسلمين من عند الله ، وعدم طرو ضده .
السادسة : مجئ الآية بصيغة التنبيه والتحذير من خذلان وترك الله عز وجل لنصرة المؤمنين ، ليكون هذا التحذير حث لهم على الدعاء والمسألة والتضرع إلى الله عز وجل بنصرهم وعدم خذلانهم .
السابعة : بيان قانون وهو أن الله عز وجل خاذل الذين كفروا فليس لهم من ناصر أو معين .
الثامنة : الأمر من الله عز وجل إلى المسلمين بالتوكل عليه وتفويض أمورهم له سبحانه ، وإستحضار ذكره ورجاء عونه ومدده عند العزم على الفعل والقيام به .
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية بذكر الله عز وجل ورحمته , وأختتمت بقانون وهو حب الله تعالى للمتوكلين عليه سبحانه .
لقد تغشت رحمة الله عز وجل الخلائق وتبين آية البحث مصداقاً لها بما يأتي بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد إبتدأت آية البحث بالإخبار عن رحمة الله عز وجل وفضله سبحانه على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، لقد أكرم الله عز وجل المسلمين بأن جعل سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معهم تتقوم برحمة الله ، وفيه بيان لقانون الملازمة بين رحمة الله والوحي من عند الله سبحانه .
فما دام الوحي ينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه يقترن بالرحمة له وللمسلمين والمسلمات جميعاً ، وهل من موضوعية لآيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شفقته ورفقه بالمسلمين والمسلمات .
الجواب نعم ، ليجتمع الوحي والتنزيل معاً في حسن سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ورأفته بهم وتنزهه عن توبيخهم أو تبكيتهم أو رد الأذى الذي يأتيه بمثله , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
والمختار أن الآية أعم في دلالتها وموضوعها من جهة سعة رحمة الله في المقام فالى جانب الرحمة التي تأتي من نزول الآيات ومن الوحي ، فهناك مصاديق أخرى من الرحمة يتفضل بها الله عز وجل بخصوص رأفته بالمسلمين ، وهو ظاهر آية البحث ، ومن مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي] ( ).
ويدعو قوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ] ( ) العلماء والمحققين إلى إستقصاء وإستقراء المسائل من صيغة التنكير التي وردت فيها آية البحث وما فيها من الدلالة على عجز الناس عن الإحاطة بمصاديقها وصيغها , ولكن هذا العجز ليس برزخاً دون إستقصاء العلوم منها .
وهل الرحمة التي تذكرها آية البحث خاصة بلين جانب النبي محمد للمسلمين أم أن نفعها وبركاتها أعم وأكثر , الجواب هو الثاني ، ويحتمل تقدير الآية وجوهاً :
الأول : فبما رحمة من الله لنت لهم ولانوا لك .
الثاني : فبما رحمة من الله لنت لهم فشكروا الله على هذه النعمة .
الثالث : فبما رحمة ونعمة وفضل من الله لنت لهم .
الرابع : فبما رحمة بك وبنبوتك لنت لهم .
الخامس : فبما رحمة من الله على المسلمين والمسلمات لنت لهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( ) .
ويستديم لين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين ورحمة الله تتغشاه والمسلمين حتى إذا ما إنتقل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى بقيت ذات الرحمة ولين النبي مع أزواجه وأهل بيته وأصحابه ثروة وضياءً ينير مسالك الهدى للمسلمين .
ومن إعجاز آية البحث أنها إبتدأت بذكر رحمة الله ونفعها وأثرها كلعلة للخلق النبوي الحميد , ثم إنتقلت الآية إلى ذكر أمر ممتنع في ذات موضوع الآية مع تضاده معه بقوله تعالى [وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ] ( ) وفيه بيان لقانون وهو تنزه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الغضاضة وعن القسوة وغلظة القلب ، وفيه دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل على هذه النعمة , وحرز من أسباب الشك وزجر لأهل الريب وفضح للمغالطة والإفتراء بخصوص سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسنته مع المسلمين والناس جميعاً ، والآية من مصاديق بلوغ الأنبياء أسمى مراتب الخلق الكريم .
وذكر الآية للرحمة التي أدت إلى لين قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين رحمة أخرى ، لقانون وهو ذكر النعمة في القرآن نعمة, وهو من مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ( ).
وتقدير آول آية البحث على وجوه :
الأول : فبما رحمة من الله نزلت آية البحث .
الثاني : فبما رحمة من الله جاءتكم رحمة من الله لان بها قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين ، أي أن الرحمة الأولى أعلاه هي غير الرحمة التي تذكرها آية البحث ، ويمكن القول لولا رحمة الله لما نزلت الرحمة ، وكل من فردي الرحمة من مصاديق قوله تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ] ( ).
وتحتمل عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الفضاضة وغلظة القلب وجوهاً :
الأول : الرحمة التي بها نزلت آية البحث .
الثاني : الرحمة التي ذكرتها وإبتدأت بها آية البحث .
الثالث : رحمة أخرى من فضل الله .
الرابع : مجئ رحمة خاصة في كل مرة يلين بها قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ويمتنع عن الفضاضة والكدورات ، وكل فرد من أفراد هذه الرحمة نعمة عظمى ، وفي التنزيل [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه لذا ورد لفظ الرحمة في آية البحث بصيغة التنكير ، وبعد ذكر رحمة الله ورفق ورأفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين إنتقلت الآية إلى أمر قبيح ممتنع وجوداً ، وهذا الإمتناع برحمة من الله عز وجل لبيان الرحمة التي تأتي منه سبحانه بنزول نعمة والمنع من ضدها .
إذ تبين آية البحث السلامة والعصمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من جهات :
الأولى : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الفضاضة والجفاء والقسوة .
الثانية : إتصاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم برقة القلب ويترشح عنها العفو والسماحة واللطف وحسن الخلق ، لتكون آية البحث حجة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتصنع أو يتكلف حسن الخلق ، فهناك إتحاد في السنخية بين الباطن والظاهر الحسن ، ونوع تطابق وتوافق بين قلب وسرائر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين صيغ اللين والرفق والعفو التي تتجلى في سيرته وعمله ، وكذا يجب أن يكون المسلمون عامة والعلماء والأمراء منهم خاصة ، وهو من مصاديق لزوم الإقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدليل قوله تعالى [لَقَدْكَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) .
وصحيح أن الآية أعلاه جاءت بصيغة الجملة الخبرية إلا أنها تتضمن معنى الوجوب ، فان قلت قد ذكرت الآية علة سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القسوة والشدة وغلظة القلب , فمن ذا الذي يخشون تفرقه عنهم ، الجواب من وجوه :
أولاً : لو أتصف المسلمون بالفضاضة وغلظة القلوب لتفرق بعضهم عن بعض.
ثانياً : مع الفضاضة والقسوة تمتنع طائفة من الناس من دخول الإسلام ، لذا فان قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( ) شاهد على سلامة المسلمين من القسوة والجور والظلم والشدة في الكلام والمعاملة .
ثالثاً : الفضاضة والغلظة تعطيل لجانب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
رابعاً : نزول قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) شاهد على سلامة المسلمين من الفضاضة وغلظة القلوب .
خامساً : قيدت آية البحث إنفضاض المسلمين في حال أن المسلمين اذا إتصفوا بالقسوة والشدة فان بعضهم ينفض من حول بعضهم الآخر ، وتضعف صلة الرحم ، وتتعطل آداب الجوار .
ومن أسرار آية البحث أنها زاجر ومانع عما يغري العدو بالمسلمين ، إذ تدعو الآية المسلمين للتعاون والتآزر والتشاور , وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : بيان الفضل العظيم من الله عز وجل بمصاحبة رحمة الله لسيرة وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين ، وهل هذه المصاحبة من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
الجواب نعم ، فيكون تقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : فبما رحمة من الله أنك لعلى خلق عظيم .
ويمكن تأسيس قانون وهو إذا ورد لفظ الرحمة في أول الآية القرآنية فانه يتغشى مضامينها القدسية وكلماتها ومعانيها ، وهو الذي يتجلى في آية البحث .
الثاني : فبما رحمة من الله لنت لهم للمسلمين ورفقت بهم .
الثالث : فبما رحمة من الله لم تكن فظاً أو شديداً مع المسلمين .
الرابع : فبما رحمة من الله صرت يا محمد رؤوفاً بالمسلمين وفي مأمن وواقية من قسوة القلب ، فقد يكون الإنسان متسامحاً وصابراً ويظهر تحمل الأذى ولكنه يتمنى نزول البلاء بمن يؤذيه ويتطلع إلى الوقت والفرصة التي ينتقم بها منه .
فأخبرت آية البحث بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجمع بين أمور وهي اللين والرفق وطهارة القلب والسلامة من القسوة والشدة ، وقال تعالى في الثناء على المؤمنين الذين بشرّهم بالجنة وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ .
ليكون من معاني الجمع بين كظم الغيظ وكتمان الغضب على الأذى وبين نقاء القلب وخلوه من الحقد والكدورة الأمن والسلامة لمن صدر منه الأذى والإساءة .
الخامس : فبما رحمة من الله صرت على خلق عظيم .
السادس : وانك لعلى خلق عظيم برحمة من الله .
الثانية : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة الرحمة من الله التي تصاحب سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم في حلهم وترحالهم .
وهل يختص موضوع هذه الرحمة بخصوص سيرة النبي معهم هو أم أعم في موضوعها ودلالتها ، الجواب هو الثاني ، إذ أن الرحمة تتغشى المسلمين بالتراحم بينهم ، قال تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ]( ).
ويحتمل التراحم بين المسلمين الذي تذكره الآية أعلاه بلحاظ قوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ]وجوهاً :
الأول : إرادة إتحاد الموضوع في تنقيح المناط , وتقدير آية البحث (فبما رحمة من الله تتراحمون بينكم ).
الثاني : التراحم بين المسلمين فرع الرحمة التي تذكرها آية البحث ، وتقدير الآية : فبما رحمة من الله ليلين لكم النبي محمد صرتم تتراحمون بينكم .
الثالث : ليس من حصر لأفراد رحمة الله عز وجل ، وتراحم المسلمين بينهم أمر مستقل غير الرحمة التي ذكرتها آية البحث .
والمختار هو الثاني والثالث من غير تعارض بينها ، لتعدد مصاديق رحمة الله عز وجل في الزمان والمكان والموضوع المتحد ، فان قلت قد ورد عن جندب أنه قال : جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها فصلى خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى راحلته فأطلق عقالها ثم ركبها ثم نادى : اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أتقولون هو أضل أم بعيره ، ألم تسمعوا ما قال ؟ قالوا : بلى . قال : لقد حظر رحمة الله واسعة إن الله خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يعاطف بها الخلائق جنها وإنسها وبهائمها وعنده تسع وتسعون رحمة ) ( ).
واذا كانت رحمة الله عز وجل واحدة في الدنيا فكيف تكون متعددة في نفس الزمان والوقت والموضوع .
والجواب : إتحاد الرحمة في المقام نوع جنس متعددبحيث تتغش أهل الأرض الكائنات في كل ساعة ، قال تعالى (لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) ( ).
الثالثة : تأكيد قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبد لله عز وجل شرّفه الله بأن جعله يتلقى الأوامر من عنده سبحانه من غير واسطة بشر .
وتبين الآية بيان عظيم رحمة الله عز وجل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وتجلي مصاديق منها بسيرة وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وحضورها بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : الكيفية النفسانية بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من العادات والسجايا المذمومة كالحسد والحقد .
الثاني : تجلي حسن السريرة ونقاء القلب بنظر وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل يدخل فيه مطلق الإستماع للغير كما في قوله تعالى [وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ] ( ) .
الجواب نعم , لبيان قانون في أصل سنخية الإنسان بالتداخل بين حاسة السمع والبصر والنطق وتأثير بعضها على بعض في الوظيفة والعمل ، وهو الذي تجلى ويتجلى لأطباء الأبدان في العلوم والمختبرات الحديثة .
الثالث : بيان حاجة الناس لرحمة الله في قول وفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , فهو الإمام في مسالك الخير ، وهو الذي يقوم بتبليغ آيات التنزيل للناس جميعاً والمسلمين خاصة .
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على حين إنقطاع من الرسل ، قال تعالى [قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ] ( ).
(عن قتادة قال : كان بين عيسى ومحمد (عليهما السلام) خمسمائة وستون سنة) ( ).
الرابعة : مخاطبة آية البحث لكل مسلم ومسلمة والناس جميعاً إلى يوم القيامة [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ] ( ).
لبيان قانون وهو حضور رحمة الله عز وجل في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين الناس بالإقتباس منها ، أو بمجيئها لهم مباشرة أو بالواسطة .
وعن(عبد الله بن عمرو يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ان قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف يشاء ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك) ( ).
الخامسة : بيان قبح الغلظة في المعاملة والقسوة في الصلات مع الناس مطلقاً ، ومع المؤمنين خاصة .
وهل تدل الآية في مفهومها على توجيه اللوم للذين آمنوا لأن الأصل ألا ينفضوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل الأحوال ، وتقدير الآية : ولو كنت فظاً غليظ القلب فيجب ألا ينفضوا عنك .
الجواب لا دليل عليه ، وهو مفهوم ممتنع لأن الآية جاءت بصيغة حرف الإمتناع (لو).
السادسة : التفصيل والتمييز بين أفراد ومصاديق السنة النبوية وبين الذي يكون سبباً لتفرق المسلمين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو الفضاضة وغلظة القلب .
السابعة : بعث السكينة في نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم باحاطة أصحابه له ، وحضورهم عنده في حال السلم والحرب لأنها تخبر عن عدم تفرقهم عنه .
ومع إتباع الصحابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والتفاتهم حوله تتجلى معاني الأخوة بينهم ، ويكونون في مأمن من أسباب الفرقة والإختلاف ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ) القرب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم الإبتعاد عنه ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : أعفو عنهم كي لا يتفرقوا عنك .
الثاني : استغفر لهم ليبقوا حولك .
الثالث : شاورهم في الأمر ليجتمعوا عندك .
الرابع : توكل على الله لزيادة إيمان المسلمين, وبيان معجزات حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
التفسير
قوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ]
يتوجه الخطاب في آية البحث إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن مفهومه أعم إذ أن لين الجانب نوع مفاعلة من أطراف :
الأول : إلانة وأصلاح الأخلاق والآداب بمشيئة من الله عز وجل .
الثاني : النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي ألان الله عز وجل أخلاقه.
الثالث : لين الجانب والعريكة .
الرابع : الذين ألين لهم جانب النبي ، وهم المسلمون .
وفيه بيان موضوعية لين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياة المسلمين ، وإصلاحهم لعبادة الله والتفقه في الدين ، ونشر شآبيب الرحمة والرأفة بينهم .
لقد كانت بدايات الإسلام أمراً مستحدثاً في تأريخ النبوة ، فقد كان أصحاب الأنبياء قلة في الغالب ، وهم من قوم النبي وأهل مدينته أو قريته ، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكانت بعثته في مكة المكرمة وآمن بنبوته نفر من أهل بيته وقومه ، ولكن الذين كفروا بها منهم هم في بدايات البعثة وشآبيب التنزيل هم الأكثر ، وحاربه رؤساؤهم بالسيف .
فهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة بعد أن آمن عدد من أهلها في بيعة العقبة الأولى والثانية , لتأويه وتنصره المدينة وأهلها وتلالها وشعابها , ويخرج معه أهلها لقتال قومه الين إختاروا الزحف للقتال في معركة بدر فكان النصر العظيم للمسلمين الذي وثّقه وإلى يوم القيامة قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) ليكون من معاني الآية بلحاظ آية البحث وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لقد نصركم الله ببدر .
الثاني : لقد نصركم الله ببدر مع لين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكم .
الثالث : لقد نصركم الله لعدم تفرقكم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : لقد نصركم الله ببدر كيلا تتفرقوا عن النبي في معركة أحد .
فلا أحد يعلم ما هي نتائج معركة أحد وعظم الخسارة .
الخامس : فبما رحمة من الله نصركم الله ببدر .
السادس : ولقد نصركم الله ببدر إن الله يحب المتوكلين .
السابع : لقد نصركم الله ببدر وأمر رسوله أن يعفو عنكم , ويستغفر لكم.
لقد أراد الله عز وجل من المسلمين عامة وحكامهم خاصة نشر شآبيب الرحمة والمودة بينهم ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : لقد لان جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكم فليعطف بعضكم على بعض ، قال تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ] ( ) .
ولا يعلم موضوعية ونفع قوله تعالى [لِنْتَ لَهُمْ] في حياة المسلمين وأجيالهم المتعاقبة إلا الله عز وجل , إذ تدعو الآية المسلمين إلى التدبر في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعرفة مصاديق الود واللين والمودة بين المسلمين .
وعن النعمان بن بشير عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، مثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو ، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) ( ).
الثاني : يا ايها الذين آمنوا اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليلن كل واحد منكم لأخوته , ومن إعجاز القرآن العقلي والحسي أنه أنشأ أخوة جديدة في حياة الناس تسمو على أخوة النسب وتضاف لها , بقوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
فان قلت أخوة النسب مترشحة من الرحمة ووحدة الإنتماء ، ويتفرع عنها الميراث وأمور العصبية والديات والنصرة ، والجواب هذا صحيح ، ولكن أخوة الإيمان تتضمن الرحمة والنصرة والنفع في الدنيا والآخرة ، وقد آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار .
(عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آخى بين المسلمين من المهاجرين والأنصار ، فآخى بين حمزة بن عبد المطلب وبين زيد بن حارثة , وبين عمر بن الخطاب ومعاذ بن عفراء ، وبين الزبير بن العوّام وعبد الله بن مسعود , وبين أبي بكر وطلحة بن عبيد الله ، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع .
وقال لسائر أصحابه : تآخوا وهذا أخي – يعني علي بن أبي طالب عليه السلام قال : فأقام المسلمون على ذلك حتى نزلت سورة الأنفال ، وكان مما شدد الله به عقد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم قول الله تعالى { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا }( ) إلى قوله { لهم مغفرة ورزق كريم }.
فأحكم الله تعالى بهذه الآيات العقد الذي عقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار ، يتوارث الذين تآخوا دون من كان مقيماً بمكة من ذوي الأرحام والقرابات ، فمكث الناس على ذلك العقد ما شاء الله ، ثم أنزل الله الآية الأخرى فنسخت ما كان قبلها فقال[وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ]( ) ، والقرابات ورجع كل رجل إلى نسبه ورحمه ، وانقطعت تلك الوراثة) ( ).
وهل تخص الأخوة الإيمانة الأقران والأصحاب من طبقة واحدة أو بلد واحدة الجواب لا ، إنما الآية عامة ، فشمل المؤمنين في كل مكان ، كما تشمل معاني الأخوة الإيمانية الأب والابن والجد والحفيد والزوج والزوجة.
ومن الإعجاز في قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) صيغة الإطلاق مما يدل على وحدة الحكم بالنسبة للمؤمنين من الأجيال السابقة ، واللاحقة من المسلمين ، لذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لم يكذب إبراهيم في شيء قط إلا في ثلاث كلهن في الله : قوله إني سقيم( ). ولم يكن سقيماً ، وقوله لسارة أختي ، وقوله [بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا]( ).
وأخرج أبو يعلى عن أبي سعيد ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يأتي الناس إبراهيم فيقولون له : اشفع لنا إلى ربك . فيقول : إني كذبت ثلاث كذبات . فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما منها كذبة إلا ماحل بها عن دين الله ، قوله : { إني سقيم }( ) وقوله : { بل فعله كبيرهم هذا } وقوله لسارة إنها أختي ( ).
الثالث : فبما رحمة من الله لنت للمسلمين والمسلمات الموجود منهم والمعدوم ، لتكون آية البحث عيداً عبادياً متجدداً في كل زمان , فان قلت جرت العادة بأن يخصص يوم لكل عيد سواء في الإسلام أوعند أهل الكتاب ، وحتى عند الذين كفروا ، كما ورد في فرعون وإحتجاج موسى عليه السلام ، حيث يجتمع الناس يوم الزينة في صعيد واحد متفرغين عن العمل ، ويتزينون فيه ، ويكون لهم فيه سوق , وفي التنزيل حكاية عن موسى [قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى] ( ).
وهل يدرك المسلمون أن لين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله , الجواب نعم , وتدل عليه آيات القرآن على نحو التصريح وبيان أن قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي , ويتجلى اللين في السنة النبوية من وجوه :
الأول : قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيانه للأحكام وتلاوته لآيات القرآن .
الثاني : إنصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين وإجابته عن اسئلتهم , وإعانتهم بلطف لأداء العبادات . وهل لين جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عمومات قوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ]( )، الجواب نعم , كمنهج في السيرة والأخلاق , وإن كان موضوع الآية الأحكام .
الثالث : فعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وجذب المسلمين على طاعة الله وإتقان أداء العبادات ، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتعاهد صلاة الجماعة إماماً للمسلمين ، وهو من مصاديق حرصه على سعادة المسلمين ونجاتهم في النشأتين .
(عن أبي صالح الحنفي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله رحيم ولا يضع رحمته إلا على رحيم . قلنا : يا رسول الله كلنا نرحم أموالنا وأولادنا . قال : ليس بذلك ولكن كما قال الله { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم }) ( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حريصاً على دخول الناس في الإسلام ، يرفق بهم ويعفو عنهم ، ويشق عليه إصرار طائفة من قومه على الكفر والجحود ، ولكن هذه المشقة لم تجعله يغادر مقامات اللين لأنها كيفية نفسية إعجازية غير قابلة للنسخ أو النقض .
عن عكرمة قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : جاء جبريل فقال لي : يا محمد إن ربك يقرئك السلام ، وهذا ملك الجبال قد أرسله الله إليك وأمره أن لا يفعل شيئاً إلا بأمرك . فقال له ملك الجبال : إن الله أمرني أن لا أفعل شيئاً إلا بأمرك ، إن شئت دمدمت عليهم الجبال ، وإن شئت رميتهم بالحصباء ، وإن شئت خسفت بهم الأرض . قال : يا ملك الجبال فإني آتي بهم لعله أن يخرج منهم ذرية يقولون : لا إله إلا الله . فقال ملك الجبال عليه السلام : أنت كما سمَّاك ربك رؤوف رحيم )( ).
وتقدير الآية بخصوص متعلق الرحمة على وجوه :
الأول : فبما رحمة من الله بك لنت لهم ) بلحاظ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم محتاج إلى رحمة الله ، كما هو حال البشر جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ) وفي التنزيل في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ] ( ).
ومن معاني رحمة الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلين جانبه إنقياد المسلمين له فيما جاء به من عند الله وإنصياعهم لأوامره وخشية الذين كفروا من التعدي عليه ، وتقدير آية البحث فيما رحمة من الله لنت للمسلمين فصار الكفار يخافون منك .
وعن (جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة( ).
الثاني : تقدير آية البحث فبما رحمة من الله بالمسلمين لنت لهم ) لقد أراد الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هداية الناس إلى الإيمان والصلاح ، وما أن ينطق الإنسان بالشهادتين حتى تتوجه له مصاديق لا متناهية من رحمة الله ، ويستبشر الملائكة بايمانه ، ويدعون له ويستغفرون له ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا] ( ) .
ومن إعجاز الآية تقييد الرحمة بأنها (من الله) وليس من غيره سبحانه لبيان أن موضوعية الوحي في السنة النبوية أعم من الإيمان والإشارة والأمر والنهي إنما تشمل صدور قول وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي ورشحاته ، لبيان قانون وهو أن ما يوحيه الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن يقوم بتبليغه من غير زيادة أو نقصان وليبقى سالماً من التحريف بفضل الله إلى يوم القيامة ، وأن ما يوحيه له من السنة يأتي به النبي كاملاً ولا يغفل أو ينسى أو يترك بعضه ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ).
ومن الإعجاز توالي تجليات الإعجاز في السنة النبوية مع الإرتقاء العلمي والشواهد الواقعية التي تدل على صدق نبوته وموضوعية الوحي في حياة المسلمين والناس جميعاً .
الثالث : فبما رحمة من الله بأهل البيت والصحابة لنت لهم ، بلحاظ تعلق اللين بمن حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في البيت والصلات وحسن المعاشرة .
الرابع : فبما رحمة من الله في تبليغ الأحكام لنت لهم ، لقد كان الناس قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعبدون الأوثان لا يجتمعون على قيد وفعل عبادي مؤقت بزمان مخصوص أو غير مؤقت ، فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن بالفرائض في سنوات متتالية .
ومن الإعجاز في المقام مسائل :
الأولى : إبتداء الفرائض بأداء الصلاة فقد شرعت في ليلة الإسراء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء عندما كان في مكة وقبل هجرته إلى المدينة المنورة .
وتتصف فريضة الصلاة بأنها يومية , وواجب عيني مطلق غير مشروط, كالزكاة التي لا تجب إلا عند تحقق النصاب في اعيان مخصوصة من الكسب والرزق , وغير مقيد كما في الصيام المقيد بالصحة والحضر , أو حج البيت المقيد بالإستطاعة ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ).
الثانية : آية إتقان المسلمين الصلاة قبل نزول أي من الفرائض العبادية الأخرى ، وهو من الإعجاز في الشريعة الإسلامية , وفيه شاهد على الضبط والإتقان في أحكام الشريعة الإسلامية , وكيفية أدائها .
ومن الآيات أن الصلاة تتقوم بتلاوة القرآن ، فتجب القراءة في كل ركعة من الركعات السبع عشرة اليومية ، وليس في الصيام أو الزكاة قراءة ، نعم في الحج صلاة واجبة , وهي صلاة الطواف التي تجب فيها قراءة آيات من القرآن .
الثالثة : تعدد الرخصة في أداء الفرائض ، سواء في الصلاة أو الصيام أو غيرهما ، وفي الصيام , قال تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] ( ).
وهل هذه الرخص من مصاديق لين قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب لا , إنما هي من أمر الله عز وجل ورحمته بالمسلمين ، نعم يدخل لين قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حث المسلمين على الأخذ بالرفق في العبادات والإمتناع عن التشديد على النفس فيها .
(عن جابر بن عبد الله : إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرّ برجل في ظل شجرة يرش عليه الماء فقال : مابال صاحبكم هذا؟
قالوا : يا رسول الله صام،
قال : إنّه ليس من البرّ أن تصوموا في السّفر،
وعليكم برخصة الله تعالى التي رخص لكم فاقبلوها،
وكذلك تأويل قوله ج : الصائم من السّفر كالمفطر في الحضر) ( ).
ويبين الحديث أعلاه أن الرخص من عند الله عز وجل وليس من النبي الذي هو نفسه تأتيه الرخص ذاتها .
وروي عن الإمام جعفر الصادق عن الإمام الباقر عليهما السلام(عن جابر قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكّة عام الفتح في رمضان فصام حتى إذا بلغ كراع الغميم فصام النّاس،
فبلغه إنّ الناس قد شقّ عليهم الصّيام فدعا بقدح ماء وشرب بعد العصر والنّاس ينظرون فأفطر بعض النّاس وصام بعضهم فبلغه إنّ النّاس صاموا فقال : أولئك العصاة.
وعاصم الأحول عن (بريد) العجلي عن أنس بن مالك قال : كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وآل وسلم فمنّا الصائم ومنا المفطر فنزلنا في يوم حار واتخذنا ظلالاً فسقط الصوّام وقام المفطرون فسقوا الرّكاب فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ذهب المفطرون اليوم بالأجر) ( ).
الخامس : فبما رحمة بعامة الناس لنت للمسلمين لينتفع الناس من الرأفة النبوية وأثرها وكيفية تلقي المسلمين لها ، وإتخاذهم لها نبراساً وبلغة للإرتقاء في درجات الهدى ، والإقامة الدائمة في منازل التقوى لحين مغادرة الحياة الدنيا ، وليكون من معاني الآية وجوه :
أولاً : فبما رحمة من الله لنت للمسلمين وليجتنب الناس محاربة الإسلام .
ثانياً : فبما رحمة من الله لنت للمسلمين ليملأ الرعب قلوب الذين كفروا ، وهذا اللين والتواضع من مقامات النبوة , وعمومات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ).
ثالثاً : فبما رحمة من الله لنت لهم ترغيباً للناس لدخول الإسلام فقد فطر الله النفوس على الميل إلى أهل اللين والسماحة والجود .
السادس : فبما رحمة من الله لنت لهم ليبقى ذكرك في العالمين فضلاً من الله عليك وعلى المسلمين .
من الإعجاز في الشريعة الإسلامية ، الإعلان والإشعار بحلول أوان الصلاة بالأذان بالصوت الجهوري ، وفيه ندب لإتيان الصلاة في أول وقتها ، والحرص على إتيانها جماعة ، ويرد في الأذان اسم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة مقترناً باسم الله عز وجل فبعد قول الله أكبر ، تأتي الشهادة بالتوحيد : أشهد أن لا إله إلا الله ، ثم تأتي الشهادة بالرسالة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة .
السابع : فبما رحمة من الله لنت لهم كي تبقى في حرز وأمن من الفضاضة وغلظة القلب ، إن السجايا النفسية الحسنة تستلزم التعاهد وتنمية السجايا والعادات الرذيلة , فتحتاج إلى التنقيح وتهيئة سبل الصلاح وصبغ الإستقامة والتوبة .
ولين الجانب أمر حسن [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ) وتستلزم الأخلاق الكريمة ، والعادات الحميدة للتعاهد والتجديد ، فجاءت آية البحث بصيغة الماضي ، لتفيد معنى الثبات والدوام ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : فبما رحمة من الله لنت لهم في السابق .
ثانياً : فبما رحمة من الله تلين لهم.
ثالثاً : فيما رحمة من الله تلين للأجيال اللاحقة من المسلمين بما تركته لهم من التخفيف والتيسير في أحكام الشريعة والإشفاق عليهم.
وقيل أن حسن الخلق هو الوسط بين القوة الغضبية والشهوية، وبين الإفراط والتفريط، وهو صحيح، ولكن معاني الآية أعم وأعظم لموضوعية ومنزلة وأثر الوحي في كل قول وفعل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فحتى إذا غضب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإن المسلمين يعلمون أنه من اللين والرفق وإرادة النفع والمصلحة , وسرعان ما يزول هذا الغضب , ولا تترتب عليه الآثار وهو من مصاديق ما ورد في آية البحث من سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غلظة القلوب .
وردت مادة (لان) في القرآن خمس مرات منها مرتان لا صلة لها بموضوع الكيفية النفسانية التي تطرأ على البشر ، إذ وردت في قوله تعالى [وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ *أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ] ( ) لبيان معجزة ونعمة على النبي داود عليه السلام إذ كان يكسب من عمل يده ، فتفضل الله عز وجل بأن جعل له الحديد كالطين والعجين يصنع منه ما يشاء من غير أن يضعه في النار ، أو يضربه بالمطرقة على نحو متكرر ومتعدد الجهات مع بقاء الحديد على جوهره وسنخيته .
و[سَابِغَاتٍ] أي دروع واقية تكسو أصحابها من غير نقيصة تسبب إصابة للابسها .
مع تقديرها وضبطها وحلقاتها ، وما دام الحديد ليناً فيجب إتقانها وضبطها وحلقاتها , وعدم جعل المسمار رقيقاً أو غليظاً .
وكان كسب داود من يده إلا أن مضمون الآية أعم إذ تتضمن الآية إعداد المقدمات لملاقاة الأعداء كما في قصة جالوت الذي قتله داود .
(عن ابن عباس قال : كانوا ثلثمائة ألف وثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، فشربوا منه كلهم إلا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، عدة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر ، فردهم طالوت ومضى في ثلثمائة وثلاثة عشر ، وكان اشمويل دفع إلى طالوت درعاً , فقال له : من استوى هذا الدرع عليه فإنه يقتل جالوت بإذن الله تعالى .
ونادى منادي طالوت ، من قتل جالوت زوجته ابنتي ، وله نصف ملكي ومالي . وكان الله سبّب هذا الأمر على يدي داود بن ايشا ، وهو من ولد خصرون بن فارض بن يهود بن يعقوب) ( ).
وكانت عدة جيش المسلمين يود بدر ذات العدد الذي كان مع طالوت وهو ثلاثمائة وثلاثة عشر ، وكانت معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية إذ أنتصر بنزول الملائكة لنصرته ، وبعدد أصحابه مع قلته والنقص الظاهر في أسلحتهم وهيئاتهم ، وكان عدد جيش المشركين نحو ألف مع الخيل والرواحل .
لقد آلان الله عز وجل الحديد لداود لينتفع منه بنو إسرائيل في حربهم مع المشركين والطغاة الجبابرة ، ويبعث الفزع في قلوب أعدائهم ، ويكفوا عن إيذائهم والتعدي عليهم ، فمنّ الله عز وجل عليهم أن نجاهم من فرعون وجنوده .
وقد خفّف الله عز وجل عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فنصرهم بالملائكة مدداً ، قال تعالى في بيان عظيم فضله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا] ( ).
ووردت مادة (لان) في ثناء الله عز وجل على نفسه وعلى القرآن وعلى المؤمنين في قوله تعالى [اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ] ( ) فمن عظمة القرآن أن جلود المسلمين تقشعر من الرهبة والخوف , والخشية مما فيه من الوعيد , ثم تلين الجلود والقلوب معاً لما فيه من الوعد والبشارة ومعاني الرحمة .
وفيه نكتة تتضمن الشهادة للمؤمنين بالتدبر في القرآن ومعانيه ودلالة آياته.
وهل الرحمة التي لان بها قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين من مصاديق الجنود , فالرحمة التي تذكرها آية البحث التي تذكرها آية البحث أعم ومنها نزول جبرئيل والملائكة ليرحم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين، ويرفق بهم ، ويمتنع عن إيذائهم ، كما يتفضل الله بالوحي والبرهان وحجب أسباب الكدورة عن الوصول إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله في إمامته للمسلمين ، وتوليه لشؤونهم ، قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ] ( ).
ويصح قراءة آية البحث على وجوه :
أولاً : فبما رحمة من الله وجنود لم يروها لنت لهم .
ثانياً : فبما رحمة من الله ومنها جنود لم تروها لان لكم النبي .
وأيهما أشق وأشد صعوبة إلانة الحديد أم إلانة القلوب، الجواب هو الثاني ، ويدل عليه الوجدان والشواهد في هذا الزمان والصناعات الحديثة ، وصهر الحديد والتحكم في صناعته مع بقاء غلظة قلوب , والفتن ومقدمات القتال .
ومن مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] ( ) أمور :
الأول : البشارة للمسلمين بأن تفضل الله عز وجل بلين الحديد لداود مقدمة وإخباراً عن لينه للناس في آخر الزمان بالكسب والعلم , وصيرورة هذا اللين نعمة ومقدمة لصناعات كثيرة .
الثاني : دعوة المسلمين والناس للإنتفاع من نعمة تصنيع الحديد في الخير وعمل الصالحات ، وهو من مصاديق توجه سليمان النبي وهو ابن داود عليهما السلام بالشكر لله عز وجل [وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ]( ) .
فالانة الحديد نعمة على سليمان وعلى والديه ، ومع الشكر توجه سليمان بالدعاء والمسألة إلى الله أن يهديه لعمل الصالحات وان يسخر لين الحديد وصناعة السلاح منه في مرضاة الله ، فصحيح أن آية إلانة الحديد ذكرت الدروع وكيف أنها [سَابِغَاتٍ] ( ) وواسعة ووافية إلا أن معناها أعم إذ يصنعون منها السيوف , والبيضة وهي الواقية من حديد التي يضعها المقاتل على رأسه , وتسمى أيضاً المغفر والخوذة ، وهو ما ينسج من الدرع على قدر الرأس لوقايته من الضرب .
وهل يصح تقدير الآية : ولولا رحمة من الله لما لنت لهم ) أم أن النبي يستطيع بنفسه أن يلين للمسلمين ويعطف عليهم بذات السيرة والمنهاج الوارد في التنزيل وأخبار السنة .
الجواب هو الأول ، وفي معركة بدر في السنة الثانية لهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وقبل نشوب القتال بين الفريقين ، قام عتبة بن ربيعة بتحذير أصحابه من كفار قريش من القتال ، ودعاهم إلى الرحيل وترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وشأنهم ، ولكن أبا جهل أغلظ عليه في القول وعيّره , فبادر عتبة إلى البراز بجهالة وحمية العصبية (التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له) ( ).
أي أكتفى بأن اعتم بثوب له ، وفيه علامة وزجر له عن القتال وشاهد على حضور البرهان للتنبيه والإنذار سواء لأن عتبة كان معروفاً بالإصلاح بين الناس كان يدعو قومه إلى أن يخلوا بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما يجاهد من أجله لجذب الناس إلى الإسلام كما قيل بخصوصه .
(قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ ، قَالَ حُدّثْت أَنّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَكَانَ سَيّدًا ، قَالَ يَوْمًا وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، أَلَا أَقُومُ إلَى مُحَمّدٍ فَأُكَلّمَهُ وَأَعْرِضَ عَلَيْهِ أُمُورًا لَعَلّهُ يَقْبَلُ بَعْضَهَا فَنُعْطِيهِ أَيّهَا شَاءَ وَيَكُفّ عَنّا ؟ وَذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ حَمْزَةُ وَرَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَزِيدُونَ وَيَكْثُرُونَ .
فَقَالُوا : بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ قُمْ إلَيْهِ فَكَلّمْهُ فَقَامَ إلَيْهِ عُتْبَةُ حَتّى جَلَسَ إلَى رَسُولِ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ يَا ابن أَخِي ، إنّك مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ مِنْ السّطَةِ فِي الْعَشِيرَةِ وَالْمَكَانِ فِي النّسَبِ وَإِنّك قَدْ أَتَيْت قَوْمَك بِأَمْرِ عَظِيمٍ فَرّقْت بِهِ جَمَاعَتَهُمْ وَسَفّهْت بِهِ أَحْلَامَهُمْ وَعِبْت بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ وَكَفّرْت بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ فَاسْمَعْ مِنّي أَعْرِضْ عَلَيْك أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا لَعَلّك تَقْبَلُ مِنْهَا بَعْضَهَا .
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ : قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعْ قَالَ يَا ابن أَخِي ، إنْ كُنْت إنّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالًا جَمَعْنَا لَك مِنْ أَمْوَالِنَا حَتّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوّدْنَاك عَلَيْنَا ، حَتّى لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَك ، وَإِنْ كُنْت تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلّكْنَاك عَلَيْنَا ؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا الّذِي يَأْتِيك رِئْيًا تَرَاهُ لَا تَسْتَطِيعُ رَدّهُ عَنْ نَفْسِك ، طَلَبْنَا لَك الطّبّ ، وَبَذَلْنَا فِيهِ غَلَبَ التّابِعُ عَلَى الرّجُلِ حَتّى يُدَاوَى مِنْهُ أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ . حَتّى إذَا فَرَغَ عُتْبَةُ وَرَسُولُ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَسْتَمِعُ مِنْهُ قَالَ أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ ؟ .
قَالَ نَعَمْ قَالَ فَاسْمَعْ مِنّي ؛ قَالَ أَفْعَلُ فَقَالَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ { حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ كِتَابٌ فُصّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنّةٍ مِمّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِيهَا يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ . فَلَمّا سَمِعَهَا مِنْهُ عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَا ، وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ مِنْهُ ثُمّ انْتَهَى رَسُولُ اللّه صَلّى اللّه عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى السّجْدَةِ مِنْهَا .
فَسَجَدَ ثُمّ قَالَ قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ فَأَنْت وَذَاكَ[ مَا أَشَارَ بِهِ عُتْبَةُ عَلَى أَصْحَابِهِ]
فَقَامَ عُتْبَةُ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ نَحْلِفُ بِاَللّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الّذِي ذَهَبَ بِهِ . فَلَمّا جَلَسَ إلَيْهِمْ قَالُوا : مَا وَرَاءَك يَا أَبَا الْوَلِيدِ ؟ قَالَ وَرَائِي أَنّي قَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا وَاَللّهِ مَا سَمِعْت مِثْلَهُ قَطّ ، وَاَللّهِ مَا هُوَ بِالشّعْرِ وَلَا بِالسّحْرِ وَلَا بِالْكِهَانَةِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي ، وَخَلّوا بَيْنَ هَذَا الرّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ فَاعْتَزِلُوهُ فَوَاَللّهِ لَيَكُونَنّ لِقَوْلِهِ الّذِي سَمِعْتُ مِنْهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ وَعِزّهُ عِزّكُمْ وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النّاسِ بِهِ قَالُوا : سَحَرَك وَاَللّهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ قَالَ هَذَا رَأْيِي فِيهِ فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ) ( ).
والمختار أن البرهان الزاجر عن المعصية أو البرهان والحجة التي تقرب الإنسان إلى فعل الخير رحمة عامة من عند الله للناس جميعاً برهم وفاجرهم ، ولا تختص بالأنبياء وحدهم أو هم والصالحين ، وفي يوسف ورد قوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ).
نعم يكون البرهان من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، وظهوره وتجليه وجعل الإنسان يلتفت له ويتعظ منه من رحمة الله ، وعطفه وإحسانه ، وتتجلى مصاديق عديدة للبرهان في قوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ].
ويتجلى هذا البرهان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أيضاً ليكون من أسباب زيادة إيمانهم ، قال تعالى في الثناء على المؤمنين [وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] ( ).
وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : فبما رحمة مستحدثة من عند الله إدخرها للمسلمين .
ثانياً : فبما رحمة ملازمة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : فبما رحمة خصّ الله عز وجل بها الذين آمنوا جزاءّ عاجلاً لهم في الحياة الدنيا .
رابعاً : فبما رحمة من الله تكون طريقاً للأجر والثواب في الآخرة .
خامساً : فبما رحمة من الله تحضر في صلات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين كنعمة عظمى .
سادساً : فبما رحمة من الله أسألوا الله عز وجل ألا تغادر الأرض ، ومن خصائص النعمة الإلهية بقاؤها ، وعدم إرتفاعها ، وقد لان عطف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أهل بيته وأصحابه ، فهل إنقطع هذا العطف بمغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى أم أنه باق ومصاحب للمسلمين .
المختار هو الثاني ،وهو من أسرار نسبة الرحمة إلى الله عز وجل ,
ولكن كيف يكون بقاء هذه الرحمة , الجواب من وجوه :
الأول : إرادة العموم في مضمون الآية , وعودة الضمير (هم) في قوله تعالى [لِنْتَ لَهُمْ]إلى جميع المسلمين والمسلمات لأصالة العموم .
الثاني :تلاوة المسلمين لآية البحث ونزولها من السماء شاهد على لين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : مصاديق السنة النبوية القولية والفعلية التي تدل على لين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : سعي المسلمين في أجيالهم المتعاقبة إلى الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في رأفته ورفقه بالمسلمين ، قال تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).

قانون [لِنْتَ لَهُمْ]
لم يرد لفظ [لِنْتَ ] في القرآن إلا في آية البحث ، وبخطاب كريم من عند الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولم يرد وصفاً للأنبياء ، فهل يتفرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الخصلة الكريمة من بين الأنبياء .
الجواب لا ، وإثبات صفة حسنة لنبي من الأنبياء لا يعني نفيها وعدمها عند غيره منهم ، قال تعالى[إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ]( ).
بل يكون لين الجانب صفة ملازمة للنبوة لاتحاد السنخية ووحدة الموضوع في تنقيح المناط ، نعم لين الجانب من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
وقد ورد في موسى عليه السلام قوله تعالى [وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ] ( ).
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على فترة من الرسل ، والناس من حوله يعبدون الأصنام ، وينقادون لهواهم ، تسود بينهم أخلاق الغزو والنهب ووأد البنات ، فتفضل الله عز وجل بمصاحبته بالمعجزة ،وهي عون له للتحلي بلين الجانب ، إذ أنها عون ومدد وسلاح ، لذا نسبت آية البحث إتصاف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باللين بأنه برحمة من الله .
وهل تختص هذه الرحمة بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب لا ، إنما هي متعددة في موضوعها ، ومتجددة في مصاديقها من جهات :
الأولى : كل آية من القرآن من مصاديق الرحمة التي تذكرها آية البحث إذ تنمي ملكة الصبر والخلق الحميد .
الثانية : إستدامة الوحي من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة عظمى ورحمة تبعث على لين الجانب .
الثالثة : إصلاح المسلمين للعمل بالأوامر والنواهي الإلهية وكيفية الحديث ولغة الخطاب مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا] ( ) فلا يصح مناداة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باسمه كما ينادي المسلمون بعضهم بعضاً ، إنما ينادى بصيغ الإكرام والتوقير , وما يدل على الإقرار برسالته فيناديه المسلمون : يا نبي الله ، يا رسول الله .
الرابعة : دفع الغضب وأسباب الغلظة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , إذ أن الأشياء كلها مستجيبة لأمر الله عز وجل ، وقد ورد في القرآن دفع ما هو أشد وأكثر ضرراً من الغضب عن الأنبياء ، كما في قوله تعالى بخصوص يوسف عليه السلام [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ) .
وفي الآية أعلاه بلحاظ القانون محل البحث أمور :
الأولى : إن السوء والفحشاء أمران مستجيبان لله عز وجل .
الثاني : صرف ودفع السوء والإثم والمعصية عن نبي الله يوسف عليه السلام .
فان قلت : قد ورد ما يدل على إنصراف يوسف عليه السلام عن الفاحشة ، إذ ورد (عن ابن عباس في قوله تعالى {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا}( )، قال : حَلّ سراويله وقعد منها مقعد الرجل من امرأته وإذا بكفّ قد مُدّت فيما بينهما ليس فيها عضد ولا معصم مكتوب فيها [وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ] ( ).
قال : فقام هارباً وقامت،
فلمّا ذهب عنهما الرُعب عادت وعاد،
فلمّا قعد منها مقعد الرجل من امرأته فإذا بكف قد مدّتْ فيما بينهما ليس فيها عضد ولا معصم مكتوب فيها [وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ).
فقام هارباً وقامت فلمّا ذهب عنهما الرُعب عادت وعاد،
فلمّا قعد منها مقعد الرجل من امرأته،
قال الله تعالى لجبريل (عليه السلام) : يا جبرئيل أدرك عبدي قبل أن يُصيب الخطيئة،
فرأى جبريل عاضّاً على أصبعه أو كفّه وهو يقول : يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب عند الله في الأنبياء؟
فذلك قوله تعالى { كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَآءَ}] ( )
فقد ورد عن الإمام الرضا عليه السلام أن يوسف لم يهم بالفاحشة بفضل الله عز وجل أصلاً .
الثالث : بيان قانون وهو أن العباد الذين أخلصهم الله عز وجل لنفسه منزهون عن المعصية ، وأنهم يبتعدون عنها مثلما يصرفها الله عنهم ، وعندما سأل علي بن محمد بن الجهم الإمام علي بن موسى الرضا في مجلس المأمون بحضور أهل المقالات من أهل الإسلام ومن أهل الكتاب والديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين ، قال له : يا ابن رسول تقول بعصمة الأنبياء ؟ فقال : نعم .
إلى أن قال (وأما قوله عزوجل في يوسف: “ولقد همت به وهم بها”( ) فإنها همت بالمعصية، وهم يوسف بقتلها إن أجبرته لعظم ما داخله، فصرف الله عنه قتلها والفاحشة، وهو قوله: كذلك لنصرف عنه السوء ” يعني القتل ” والفحشاء ” يعني الزنا)( ).
الرابع : إرادة صرف السوء عن الأنبياء والمخلصين من عباد الله والآية بشارة للمسلمين وترغيب بتعاهد سنن التقوى لأنها برزخ دون فعل المعصية وإرتكاب الفحشاء .
الخامس : تدل الآية بالأولوية القطعية على صرف الحدة والغضب والفضاضة وقسوة القلب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه إمام عباد الله المخلصين في النشأتين .
وهل يهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالغضب والشدة على أصحابه ولكن الله عز وجل يصرف هذا الهم ، الجواب من فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً ، أن يصرف الله سبحانه الهم بالغضب والفضاضة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويمنعها مع ظهور بداياتها ، وهذا الهم لم يثبت وقوعه ، ليكون من أسباب عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، تفضل الله عز وجل بصرف الهم بالشدة والقسوة ، والمنع من إستيلاء الغضب على لسانه أو فعله .
فلقد أراد الله عز وجل لسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون إماماً للمسلمين ، وضياءً ينير لهم دروب الهداية ، وهي من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) الآية التي يقرأها كل مسلم عدة مرات على نحو الوجوب العيني في الصلاة ، ومن معاني الصراط الإسلام والقرآن
(عن أبي بريدة في قول الله تعالى : {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}( ) قال : صراط محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآله (عليهم السلام)) ( ).
وذكر في الفلسفة أنه ما من عام إلا وقد خصّ ولكن هذه القاعدة ذاتها لابد وان تخُص ولا تكون عامة إذ تنخرم بعمومات المعجزة والفيض الإلهي، وما يتجلى من عموم الإستثناء والتخصيص في القرآن الذي لا يقدر عليه إلا الله ، كما تقدم في آية المخلصين أعلاه إذ يصرف الله عز وجل عنهم أفراد السوء والفحشاء وإن بانت وتشعبت وتولدت منها مصاديق في زمن العولمة والتداخل والإختلاط ، وتدل عليه أداة التشبيه في الآية أعلاه [كذلك] مما يفيد أن قانون صرف السيئات عن عباد الله المخلصين قبل وبعد واقعة وقصة يوسف عليه السلام .
لتكون الآية أعلاه وعداً للمسلمين وترغيباً لهم بالإرتقاء في منازل التقوى والصلاح ، ومن معاني هذا القانون دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة [اللين والرقة ]التي إتصف بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وترشح منافعها على كل المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، ومن معاني تسمية لين الجانب في المقام بالقانون إستدامة نهل وإنتفاع المسلمين منه في كل زمان ، بالإقتباس من السنة النبوية ، وما تدل عليه من رأفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين فلا يموت أو يقتل المسلم إلا وهو راض عن رسول الله , مؤمن بنبوته , مقر بأن لين جانبه وحسن خلقه إنما هو معجزة له .
وتقدير آية البحث : فبما معجزة الله لنت لهم ) ، بتقدير أن رحمة الله في المقام معجزة ونعمة عظمى على أهل الأرض ، وفيها دعوة لهم لدخول الإسلام والتدبر في حسن خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بآية من عنده تعالى بما جبل عليه نفس النبي والفطرة النبوية التي جعله عليها .
ومن الآيات عدم إنحصار الخصال الكريمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلين الجانب ، إنما أصلحه الله عز وجل لتلقي الوحي بروح زكية طاهرة ، وتبليغه للناس بسكينة وطمأنينة وثقة بأنه كلام الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا] ( ).
قانون [لِنْتَ لَهُمْ] شكر من الله للمسلمين
لما أخبرت آية السياق عن صيرورة المسلمين إلى الموت أو القتل في سبيل الله ، جاءت آية البحث لتتضمن الأمر من الله وشكرهم في الحياة الدنيا على إيمانهم وحسن سمتهم ، وعدم مغادرتهم الدنيا إلا بالثبات على الإيمان ، ويتجلى هذا الشكر بأمور أكثر وأعظم من أن تحصى سواء تلك التي في الدنيا أو في الآخرة ، منها ما يكون من عند الله عز وجل فمن أسماء الله عز وجل الشكور.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي ( من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)( ).
وقد يتبادر إلى ذهن المؤمن أن ضروب الشكر والجزاء من الله التي في الآخرة هي التي تستعصي على الشكر والثناء وحدها دون التي في الدنيا لقصر مدتها ، والجواب لا ، إنما مصاديق شكر الله عز وجل للعبد في الدنيا لا تدرك الخلائق أمدها أيضاً ، ولا تستطيع إحصاءها .
وبين النعمة والشكر نوع ملازمة كما قال الله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) فكذا يجوز القول وان تعدوا شكر الله لكم لا تحصوه ) ولا يختص مورد القصور هذا في العدد والإحصاء بالمسلمين بل يشمل الناس جميعاً لذا يكون التقدير على وجوه :
الأول : يا ايها الناس أن تعدوا شكر الله لكم لا تحصوه ) .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إن تعدوا شكر الله لكم لا تحصوه.
الثالث : يا ايها المسلم إن تعد شكر الله لك لا تحصيه ، فان قلت قد علمنا شكر الله عز وجل والذين آمنوا ، فكيف يكون شكر الله للناس عامة ، الجواب هذا الشكر من فضل الله عز وجل وكنوز تفضله بخلافة الإنسان في الأرض .
ومن مصاديق شكر الله عز وجل للمسلمين مضامين آية البحث من جهات :
الأولى :تفضل الله عز وجل بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إكرام وشكر له وللمسلمين ، والله عز وجل [غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( ).
الثانية : إبتداء الآية بالإخبار عن رحمة الله عز وجل وشمول المسلمين بها ، كما مبين في باب تفسير [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ].
الثالثة : الإطلاق بصيغة الرحمة التي تذكرها الآية الكريمة [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ] والتي تتضمن معنى الإستدامة والتجدد والكثرة في مصاديق الرحمة .
الرابعة : عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الغضاضة والقسوة لأنه في مقام التبليغ والتطلع إلى الوحي .
ونسبت الآية اللطف والرأفة في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين إلى الله عز وجل، ولا يعني هذا إختصاص الوحي بجانب اللين والرأفة، فاثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره.
ليتجلى الإعجاز ومنع الجدال والخصومة بين المسلمين في المباح من السنة، والمباح هو إستقراء تساوي طرفي الفعل والترك، وقيل يسمى الحلال والحل والجائز .
والمختار أن هذه الأسماء الثلاثة أعم من المباح، وبينها وبينه عموم وخصوص مطلق، إذ تشمل المستحب والواجب .
قانون اللين في التبليغ
تتعدد وظائف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص التنزيل من وجوه :
الأول : تلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الآية القرآنية من جبرئيل عليه السلام .
الثاني : قيام النبي بوعي وفقه وحفظ الآية القرآنية في ذات ساعة التبليغ بها ، وهو معجزة عقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فعدد آيات القرآن ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية ، ومنها آيات طوال مثل آية الدين وعدد كلماتها هو مائة وثمان وعشرون كلمة ، وعدد حروفها خمسمائة وأربعون حرفاً ، وفيها ثلاث وثلاثون ميماً.
وسمي جبرئيل الأمين لأنه ينزل بالآية بذات الكلمات والحروف ، قال تعالى في الثناء عليه [مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ] ( ) .
الثالث : قيام النبي الأمين محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة ذات الكلمات حالما ينفصل عنه الوحي .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسمى قبل البعثة النبوية (الصادق الأمين) لصدق كلامه ، وأمانته في المعاملة والقول والإجارة وعمله في مال خديجة ، لتكون هذه الأمانة مقدمة وتوطئة لأمانته في الوحي ودعوة للناس لتصديقه بنبوته , وما يخبر عنه من الوحي والتنزيل ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
الرابع : أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكتاب الوحي من أصحابه بتدوين وكتابة ما نزل به جبرئيل في الحال ويكون نزوله في المرة الواحدة على أقسام :
أولاً : نزول جبرئيل بشطر من آية قرآنية .
ثانياً : نزول جبرئيل بآية قرآنية .
ثالثاً : نزول جبرئيل بعدة آيات قرآنية مرة واحدة .
رابعاً : نزول جبرئيل بسورة كاملة من القرآن وقد تكون من السور القصار أو غيرها .
إذ يمكن تقسيم سور القرآن من جهة الطول والقصر إلى أقسام :
الأول : السور السبع الطوال وهي : سورة البقرة ، آل عمران ، النساء ، المائدة ، الأنعام ،الأعراف ، الأنفال ، التوبة ) وكان عدد من العلماء يعدون الأنفال والتوبة سورة واحدة .
الثاني : المئون : هي السور التي يقرب عدد آياتها من مائة آية أو يزيد عليها مثل سورة يونس ، هود ، يوسف ، إبراهيم ،الحج ، النحل ، الأسراء ، الكهف ، مريم ، إلى سورة القصص (عن واثلة بن الأسقع أن النبى صلى الله عليه وآله و سلم قال أعطيت مكان التوراة السبع الطوال وأعطيت مكان الزبور المئين وأعطيت مكان الإنجيل المثاني , وفضلت بالمفصل) ( ).
ويدل حديث أعطيت مكان التوراة أعلاه على أن ترتيب السور في القرآن توفيقي من عند الله عز وجل لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول (أُعطيت) أي أن الله عز وجل هو الذي تفضل بجعل تأليف القرآن بالكيفية التي بين الدفتين والباقية إلى يوم القيامة ، وهل هذا التأليف من مصاديق سلامة القرآن من التحريف أم أن القدر المتيقن منها هو صحة وسلامة كلمات وحروف القرآن وفق ما نزل به جبرئيل ، الجواب هو الأول ، وفي حديث لـ (سعيد بن خالد صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسبع الطوال في ركعة رواه ابن أبى شيبة في مصنفه وفيه أنه عليه الصلاة والسلام كان يجمع المفصل في ركعة) ( ).
وفيه تأكيد نبوي لنظم آيات وسور القرآن في التلاوة ليكون أهل البيت والصحابة شهوداً على ترتيب القرآن ، ولزوم تعاهدهم لهذا الترتيب ، وهل هذه التلاوة من مصاديق قوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ] ( ) الجواب نعم ، لما فيها من قطع سبيل الخلاف والخصومة في نزول وترتيب آيات وسور القرآن ، بلحاظ أن نظم القرآن وتلاوة السور يشمل في ضبطه ترتيب الآيات القرآنية .
وقيل (في القرآن ميادين وبساتين ومقاصير وعرائس وديابيج ورياض، فميادينه ما افتتح بالم، وبساتينه ما افتتح بالمر، ومقاصيره الحامدات، وعرائسه المسبحات، وديابيجه آل عمران، ورياضه المفصل، وقالوا الطواسم والطواسين وآل حم والحواميم.
وأخرج الحاكم عن ابن مسعود قال: الحواميم ديباج القرآن. وفي مسند أحمد من حديث معاذ بن أنس مرفوعاً آية العز – الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً) الآية) ( )
الثالث : والذي يبدأ من سورة العنكبوت وينتهي بسورة ق ، ومنهم من شطر هذا القسم إلى خمسة أقسام .
الرابع : المفصل : وهو اسم يطلق على السور إبتداء من سورة (ق) إلى آخر القرآن وقيل بعد سورة الحجرات .
وسمي بالمفصل لكثرة الفصل بين سورة وأخرى لقلة المنسوخ منه لذا يسمى بالمحكم ولما فيه من الوعد والوعيد والبشارة والإنذار .
وعن سعيد بن جبير قال : أن الذي يدعونه المفصل هو المحكم ) وقيل أنه يبدأ بسورة الحجرات .
ويقسم المفصل إلى ثلاث أقسام :
الأول : سور طويلة .
الثاني : سور وسط .
الثالث : سور قصار .
علم المناسبة
لم يرد لفظ [فَبِمَا رَحْمَةٍ] في القرآن إلا في آية البحث وكذا لفظ(بما رحمة)و(ما رحمة) لبيان مسألة وهي موضوعية آية البحث في حياة المسلمين ، ولزوم عنايتهم بمضامينها ، ولتأكيد قانون وهو أن الآية وإن نزلت خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنها أمر عام للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
وورد لفظ الرحمة في القرآن نحو مائتين وثمان وستين مرة ، وأكثرها بصفة الاسم لله عز وجل ، كما في قوله تعالى [وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ] ( ) ويدل لفظ الرحمة على العطف والرأفة والرفق والشفقة ، ويبعث ذكر الرحمة في القرآن صفة لله عز وجل الطمأنينة والأمل في نفوس المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
ومنهم من قيد الرحمة الواردة في مواضع من القرآن بلحاظ الموضوع وترتب الأثر ففي قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وان المراد من الرحمة في الآية أعلاه هي الجنة ، ولكن الآية أعم في موضوعها ودلالتها ، إذ يكون الرجاء الذي تذكره الآية على وجوه :
أولاً : رجاء رحمة الله بذات المؤمنين المهاجرين .
ثانياً : إرادة التوفيق والفلاح في دار الهجرة والغربة ، وقد تزوج المهاجرون في المدينة ، ولم تمر الأيام حتى صاروا أمراء وحكاماً وملكوا الأموال .
ثالثاً : من رحمة الله التي يرجوها المؤمنون ذكر الله عز وجل لهم في القرآن ، وفيه فخر الدنيا والآخرة ، وقد تفضل الله عز وجل بذكرهم والإخبار عن توبته عليهم وغفران ذنوبهم ، وفي التنزيل [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ).
رابعاً : إرادة تحقق النصر والغلبة والفتح للمسلمين .
خامساً : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والجراحات من الرحمة التي يرجوها المؤمنون .
سادساً : توالي نزول آيات القرآن .
سابعاً : التوثيق للعمل بأحكام آيات القرآن .
ثامناً : إتيان الفرائض وإجتناب ما نهى الله عز وجل عنه ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( )وفي قوله تعالى [كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ]( ) قيل المراد من الرحمة في الآية أعلاه المغفرة والعفو ولكن موضوعها أعم ويتعلق بخلق الإنسان وإنشاء الأكوان من غير مثال كما في قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
ومنه معايش الناس وهدايتهم إلى الإيمان ، وإرادة الرحمة في الآخرة ، وهي أعظم وأوسع وأعم وتتصف بالتأبيد والدوام .
وهل من الرحمة التي كتبها الله عز وجل على نفسه الرحمة التي وردت في آية البحث بقوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ] ( ) الجواب نعم ، فلم تكن هذه الرحمة التي تذكرها آية البحث أمراً عرضياً طارئاً بل هو فضل من عند الله عز وجل خصّ به المسلمين قبل أن يخلقوا ومنها بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن .
وفي قوله تعالى [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ) ذكر أن الرحمة هنا بمعنى الثواب ، ونسب إلى سعيد بن جبير والآية أعم في موضوعها بدليل مضمون ذات الآية وهو [وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
وهل قوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ] من مصاديق الرحمة في الآية أعلاه من سورة الأعراف ، الجواب نعم ، وفيه شاهد بأن المسلمين نالوا مرتبة [الْمُحْسِنِينَ] بفضل الله بدخولهم الإسلام وأدائهم الفرائض ، فتجلت وجوه من رحمة الله بلين ورفق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهم.
قوله تعالى [وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ]
وقيل المعنى : (ولو كنت فظّاً لأعلنوا الكفر وتفرّقوا عنك) ( ) .
ولا دليل على هذا المعنى ، وهو يتعارض مع منطوق ونظم هذه الآيات ،ويتناقض مع قانون تدل عليه آيات القرآن منطوقاً ومفهوماً ، وهو سلامة المسلمين من الإرتداد ، الذي تدل عليه آية البحث ذاتها بأن تذكر المسلمين بصفة الإيمان وتأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعفو عنهم والإستغفار لهم .
لقد دخل الإسلام بفخر أهلُ البيت والصحابةُ وعموم أجيال المسلمين الإسلام وأقروا بوجوب عبادة الله عز وجل ، فلا يتخلون عن الإيمان في أي حال من الأحوال حتى لو كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معهم فظاً غليظ القلب .
وقد تفضل الله عز وجل بدعوتهم والناس جميعاً للإيمان بالآيات الكونية ومعجزات القرآن والبراهين والأسرار في النفوس ومنها إيمانهم ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
وجاءت الآية خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والخطاب الذي يأتي من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن على وجوه :
الأول : الخطاب الخاص للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي ينفرد به تشريفاً وإكراماً وبياناً وحجة على الناس ، ومنه قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( ) فلا يستطيع أحد أن يقول هذا الكلام إذ لا نبي بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحتى الأنبياء السابقين فانهم بعثوا لقولهم .
الثاني : الخطاب العام الذي يتوجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويدخل معه قيد غيره كما في قوله تعالى [قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
الثالث : الخطاب الجامع ونحو الذكر والتعيين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وللمسلمين كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ]( ).
فيأتي الخطاب خاصاً في لفظه عاماً في كلمة لبيان عظيم منزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأكيد إمامته للمسلمين وإذا لم يرد دليل على أن خطاب ما أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أم عام للمسلمين ، فالأصل هو عموم الحكم .
ومن خصائص آية البحث أنها تجمع بين توجه الخطاب من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان صفات كريمة له ، وتحتمل هذه الصفات وجوهاً .
الأول : لين الجانب والعصمة من الغضاضة وغلظة القلب أمر خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : يشترك مع النبي في ذات الصفات علماء وأمراء المسلمين .
الثالث : يتحلى عموم المسلمين بهذه الصفات ولا عبرة بالقليل النادر .
والمختار هو الأول وفيه دعوة لكل المسلمين وعلمائهم وأمرائهم خاصة بالإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
ومن خصائص آية البحث دلالتها على أن لين الجانب والأمن من الغلظة والشدة باب للثواب وجني الحسنات .
ومع أن الآية وردت بصيغة الإمتناع فان ورودها بصيغة الماضي بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن فضاً أو قاسياً أو شديداً مع المسلمين ، لتكون دليلاً على ثبوت ملكة الرفق والرحمة والرأفة بالمسلمين عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فيلجأ إليه في أمورهم الخاصة والعامة ويشتاقون إليه ، ويحرصون على قربه والإصغاء له سواء وهو على المنبر أم مطلقاً ، ويبذلون الوسع من أجل عدم مفارقته أو مغادرة محله .
ومن الشواهد أنك ترى صحابياً يروي حديثاً واحداً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيخلد ذكره عند عموم المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ] ( ).
وهل في الآية توبيخ للمسلمين لأنهم ينفضون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان فظاً غليظ القلب.
الجواب ، ليس من توبيخ للمسلمين في الآية خاصة وأنها جاءت خطاباً للنبي محمد صلى عليه وآله وسلم لإرادة التأديب والصلاح ، وفيها ثناء على المسلمين لأنها تدل بالدلالة التضمنية على عدم تفرقهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . لبيان الأصل وهو قانون عدم إنفضاض المسلمين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أي حال من الأحوال ، ولابد من التمييز بين ماهية التبليغ وصيغه .
ومن مفاهيم الآية الوعد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن المسلمين لم يتفرقوا عنه في سوح المعارك .
لقد أشاع المشركون من أهل مكة بعد معركة بدر أنهم يريدون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصاروا ينفقون الأموال ويجهزون الجيوش لهذه الغاية وللقضاء على الإسلام ،فبشر الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأن المسلمين لم يخلوا بينه وبين المشركين ، لأن الله عز وجل ألان قلبه لهم وعصمه من الغلظة والقسوة والصخب والتقريع والتوبيخ للغير ، وحتى حينما يأتي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم شاهد في خصومة ونحوها ، وهو لا يعرفه فانه يكتب إلى بلدته وقريته يسأل عنه ويمهله فان جاء الجواب بالثناء عليه أمضى شهادته ، وإن جاء بخلافه فانه يكتم أمره ولا يخبر به أحداً .

قوله تعالى [فَاعْفُ عَنْهُمْ]
أمر من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعفو عن المسلمين رحمة من الله بهم ، وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا أمرت النبي محمداً أن يعفو عنكم)ليكون هذا الأمر إكراماً من عند الله عز وجل للمسلمين ، وترغيبا للناس بالإسلام .
وفي الآية بيان مصداق لجزاء الله عز وجل العاجل للمسلمين على إيمانهم بالله ورسوله بأن يتفضل الله عز وجل بأمر نبيه بالعفو عن كل مسلم ومسلمة حتى أولئك الذين آذوه أو الذين تركوا مواضعهم في معركة أحد مثل الرماة ، والذين كان عددهم خمسين وعليهم عبد الله بن جبير ، فلما رأوا هزيمة المشركين نزلوا من على الجبل للإستحواذ على الغنائم ، ولم يبق منهم إلا أميرهم ونحو ثمانية من أصحابه قتلوا كلهم ، وكذا العفو عن الذين فروا من المعركة .
وتتضمن الآية إرادة بيان فضل الله عز وجل على المسلمين بأن الله عز وجل يأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سيد الكائنات أن يعفو عنهم.
من أسماء الله عز وجل العفو , وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ]( ) والعفو لغة على وجوه منها :
أولاً : المحو والبلى والطمس , يقال عفوت بما لي عليك من الدين أي أسقطته .
ثانياً : الفضل والزيادة ، ومنه ما ورد عن ابن عباس قال ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عَوْرَتي، وآمن رَوْعَتِي واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك اللهم أن أُغْتَال مِنْ تَحْتِي) ( ).
ثالثا : التعدد والكثرة ، يقال عفوته أي كثّرته ، يتعدى ولا يتعدى بالهمزة , فيقال : أعفيته، ويقال عفا النبات والريش إذا كثر وزاد ، وقال لبيد :
وَأنَاسٌ بَعْدَ قَتْلٍ قَدْ عَفَواْ … وَكَثِيرٌ زَالَ عَنْهُمْ فَانْتَقَلْ( )
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أحفوا الشوارب واعفوا اللحى)( ).
وفي التنزيل [ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا] ( ) إرادة كثرتهم وزيادة عددهم والعفو في الأصطلاح هو التجاوز عن الذنب ، وترك العقاب ، وهل يشترط فيه العلو ، وصدوره من العالي إلى الأدنى , الجواب لا ، لأنه يتعلق بالحق مطلقاً , الذي قد يكون للأدنى .
والمحو هو صيرورة الشيء والأمر والحق زائلاً ، أما الغفر فهو محو أثر الشيء ، لذا غالباً ما يذكر بعد العفو ويرد في الأسماء الحسنى في القرآن على نحو الترتيب لبيان فضل الله عز وجل على الناس ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا]( ) و[وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا] ( ).
وتبين الآية إختصاص الله عز وجل بمصاديق من العفو لا يقدر عليها غيره ، إذ أنه يأمر سيد البشرية محمداً أن يعفو ويغفر ويتجاوز عن المسلمين فيما أتوه من الأذى له .
فمن معاني العفو التي ينفرد بها الله عز وجل أنه يعفو عن السيئات ويأمر أنبياءه بالعفو ، ليكونوا أسوة وأئمة للناس بالمبادرة إلى العفو والمغفرة، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) ويحتمل متعلق موضوع العفو في الآية وجوهاً :
الأول : إرادة الذين تركوا مواضعهم يوم معركة أحد .
الثاني : المقصود الذين فروا من المعركة يوم أحد .
الثالث : الذين يسيئون إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو القضية الشخصية .
الرابع : الذين يتعدون بغير حق ، كما في قصة ذي الخويصرة يوم تقسيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لغنائم هوازن في معركة حنين .
(وأخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري قال بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقسم قسما إذ أتاه ذو الخويصرة فقال يا رسول الله أعدل .
قال : ويلك , ومن يعدل إذا لم أعدل خبت وخسرت إن لم أكن أعدل قال عمر يا رسول لله ائذن لي فيه أضرب عنقه , فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المراة أو مثل البضعة تدردر يخرجون على خير فرقة من الناس .
قال أبو سعيد فاشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه وأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي نعته .
وأخرجه أبو يعلى وزاد في آخره فقال علي أيكم يعرف هذا فقال رجل من القوم هذا حرقوص وأمه ههنا , فأرسل إلى أمه فقال لها ممن هذا قالت ما أدري إلا أني كنت في الجاهلية أرعى غنما لي بالزبدة فغشيني شيء كهيئة الظلمة فحملت منه فولدت هذا) ( ).
الخامس : المراد العفو عن المنافقين مثل عبد الله بن أبي بن أبي سلول الذي ورد ذكر نفاقه في القرآن , كما في قوله تعالى [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ]( ).
السادس : إرادة عموم المسلمين.
وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : ترشح العفو عن لين الجانب ، وتقدير الآية : فبما رحمة من الله لنت لهم فأعف عنهم ).
الثاني : بيان الصلة بين اللين والعفو وأن اللين سبب للعفو وأن الفاء فاء سببية .
الثالث : يأتي العفو شكراً للمسلمين لأنهم لم يتفرقوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتكون الفاء للسببية أي بسبب أنهم لم يتفرقوا عنك أعف عنهم ،لبيان أن الله عز وجل بنعم بنعمة وينزل رحمة ينتفع منها المسلمون ثم يثبتهم على هذا الإنتفاع لبيان خصائص الإيمان وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابع : المراد من الفاء الإستئناف وان العفو من عند الله عز وجل نعمة وفضل من اله عز وجل .
الخامس : بيان عدم الملازمة بين عفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصحابة وبين قتالهم معه وبين يديه ، وتقدير الآية على جهات :
الأولى : فأعف عنهم لأنهم أمنوا بالله ورسوله .
الثانية : فأعف عنهم لأنهم إختاروا الإسلام وتحملوا الأذى في جنب الله .
الثالثة : من خصائص النبوة عفو النبي عن أصحابه وأنصاره .
الرابعة : فاعف عن المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأهليهم في مرضاة الله .
الخامسة : فأعف عن الأنصار الذين آووا ونصروا ولحقهم الأذى في أنفسهم ومعاشاتهم بأختيارهم الإسلام ، وإيوائهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين ، وحملهم السلاح للقتال دون النبوة والتنزيل مع ظهور المنافقين بينهم ، فجاءت آيات القرآن التي تذم النفاق والمنافقين عوناً لهم ، وتنزيهاً لهم عن الميل والركون لهم ، ثم أخبرت آية البحث بأن الله عز وجل أعان ونصر الأنصار وحصنهم من أخلاق النفاق بان ألان لهم قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث .
وهو من وجوه تقدير الآية : فأعف عنهم كيلا يتفرقوا عنك ) بلحاظ أن أسباب التفرق والإنفضاض عن النبي أعم مما ذكرته الآية من أمرين هما الفضاضة وغلظة القلب ، وبتقريب أن عدم العفو عن الإنسان سبب لنفرة نفسه وإختياره الإنفراد والوحدة .
وقد يحضر صلاة الجماعة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه يفارق المسجد حالما تنقضي الصلاة ، الجواب لا مانع من هذا التأويل .
ومن معاني مجئ الآية بصيغة الأمر وإرادة الزمن الحال والمستقبل منه حضور العفو النبوي عن المسلم المقصر قبل تقصيره .
وهل فيه إغراء بالتقصير والإساءة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجواب لا ، فلا تحث الآية المسلم أو المسلمة على الإساءة للنبي لعلمهما بانه يعفو عنهما ، ليكون من خصائص [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) علمهم بالعفو عنهم ومع هذا فانه لا يذنبون أو يقصرون أو يخرجون عن طاعة الله ورسوله .
وليكون أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعفو عن المسلمين من مصاديق الرحمة في قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
آية البحث والنسخ
قيل أن قوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم] نسخ مائة آية، ولا دليل عليه، وقد ذكرنا عدم ثبوت نسخ بعض هذه الآيات( )، وهل في آية البحث أمر منسوخ الجواب لا , وتتضمن الآية أموراً:
الأول : تغشي رحمة من الله الصلات بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثاني : لين ورفق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : تنزه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الفضاضة.
الرابع : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غلظة القلب وما يترشح عنها من القسوة والبطش وسرعة الغضب، وعدم المسامحة وقبول العذر وسؤالهم له في أمور الدين والدنيا ، وفي التنزيل [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسم اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ] ( ) .
إذ تبين الآية أعلاه لجوء المسلمين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمعرفة أحكام الحلال والحرام ، وتفضل الله عز وجل بالإخبار عما يحل للمسلمين من الأطعمة ، وبيان فضل الله عز وجل بتعليم المسلمين وإرشادهم إلى الأحكام الشرعية ولزوم التقيد بها .
وتأكيد الآية أعلاه لقانون وهو لزوم ذكر اسم الله عز وجل على الذبائح والصيد ، ووجب الخشية من الله وعدم التعدي أو إختيار اللهو في الصيد .
الخامس : التفاف وتزاحم الناس حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورجوعهم إليه وصدورهم عنه وسؤالهم لهه في أمور الدين والدنيا، وفي التنزيل[يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا]( )،
السادس : يقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر ونهي المسلمين ، ومن خصائص هذا الأمر والنهي أنه نافذ على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( )ومع هذا جاءت آية البحث بالأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون في مقام العبودية لله ويتلقى الأوامر .
بأن يعفو عن المسلمين ، وهو من مصاديق ما ورد عن الإمام الرضا عن آبائه عليهم السلام (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” لا ترفعوني فوق حقي فإن الله تبارك وتعالى اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا ” .
قال الله تبارك وتعالى: ” ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) ( ).
ومن الآيات أن الأمر توجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الآية على نحو متعدد أربع مرات ، وكل كلمة علم مستقل ، ويستلزم العمل بمضمونها قهر النفس الغضبية والشهوية ، وما جبّل الإنسان من الرد والزجر عن التعدي عليه وظلمه والإساءة إليه ، خاصة إذا كان في منزلة الرئاسة والحكم والشأن .
ومن بديع خلق الإنسان أنك تراه يتحمل الأذى والحساب ممن هو أعلى منه ، ويتجنب التقصير أمامه ، أما بالنسبة للأذى منه فانه يأبى تلقي الأذى والإساءة , ويحاسب على التقيد والإساءة أزاءه ، ونحو الشأن والمقام الذي هو فيه .
فجاءت الأوامر المتتالية في آية البحث لسيد البشرية أن يعفو عن الناس ، ويغفر عن السيئة ليكون نوع طريق لبناء صرح الإسلام ، قال تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] ( ) لبيان معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي صبر وتحمله من مقام الإمامة والرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا ، وحينما يدرك الإنسان أنه لا يقول أو يفعل أمراً إلا بأذن وأمر من عند الله عز وجل فانه يأبى أن تأتيه الإساءة من عامة الناس ، إذ ليس لهم إلا أن يتبعوه ، ويتلقون ما يصدر منه سواء كان قولاً أو فعلاً بالقبول والرضا والشكر لله ، خاصة إذا كانوا قد آمنوا بنبوته ورسالته ، ومع هذا فان الله عز وجل تفضل وأمره بالعفو عنهم والذي يدل بالدلالة التضمنية أنهم قد يسيئون له ويؤذونه ، وليس لهم من جزاء إلا العفو ، وهذا العفو ثابت ودائم وحكم لا يقبل النسخ .
السابع : تفضل الله عز وجل بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإستغفار للمسلمين ، سواء أساءوا له أو مطلقاً ، وبين متعلق الإستغفار والعفو في آية البحث عموم وخصوص مطلق ، فالإستغفار أعم موضوعاً وحكماً وأفراداً , فيعفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمن قصّر في واجباته العبادية والدفاعية ، ويستغفر لكل المسلمين .
وفي العفو أطراف وهي :
أولاً : الذي يعفو ويصفح .
ثانياً : مادة العفو .
ثالثاً : موضوع العفو .
رابعاً : الفرد أو الجماعة المعفو عنهم .
أما بالنسبة للإستغفار ففيه أطراف :
أولاً : الذي يستغفر ويسأل الله العفو والمغفرة .
ثانياً : الأمر والمسألة المستغفر عنها .
ثالثاً: مادة الإستغفار ، وقول استغفر الله .
رابعاً : تعيين الجهة التي يستغفر لها .
خامساً : التوجه إلى الله عز وجل بالسؤال والإستغفار .
فلم تقل الآية (فاعف عنهم واغفر لهم) وتقدير آية البحث :فاعف عنهم واستغفر لهم ).
سادساً : رجاء الإستجابة من عند الله والمغفرة للمسلمين والمسلمات ، قال تعالى [إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا] ( ).
(وأخرج البيهقي عن أبي حرب الهلالي قال : حج أعرابي ، فلما جاء إلى باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ راحلته ، فعقلها ثم دخل المسجد حتى أتى القبر ، ووقف بحذاء وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، جئتك مثقلاً بالذنوب والخطايا ، مستشفعاً بك على ربك لأنه قال في محكم كتابه { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً }( ) .
وقد جئتك بأبي أنت وأمي مثقلاً بالذنوب والخطايا ، استشفع بك على ربك أن يغفر لي ذنوبي , وأن تشفع فيَّ ، ثم أقبل في عرض الناس وهو يقول :
يا خير من دفنت في الترب أعظمه … فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه … فيه العفاف وفيه الجود والكرم) ( ).
الثامن : تفضل الله عز وجل بأمره إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يشاور المسلمين في أمور الحرب والسلم ، ليرتقوا إلى منزلة لم تصلها طائفة او أمة من الأمم من جهات :
الأولى : أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باكرام المسلمين بمشاورتهم ليدركوا في كل مرة يشاورهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يشاورهم عن تردد , أو هون أو ضعف منه ، ولكنه أمر الله عز وجل.
الثانية : تثبيت أمر مشورة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في القرآن ، ولابد له من غايات ودلالات( ) .
الثالثة : عدم التقييد في موضوع أو جهة المشورة , فلا تختص بالرؤساء أو أهل البيت أو كبار الصحابة ، نعم يخرج بالتخصيص موضوع العبادات والفرائض وأحكام الحلال والحرام .
الرابعة : بعث المسلمين لحسن المشورة والتهيئ لها والتدبر فيها .
الخامسة : تأكيد قانون وهو وجود مصداق لقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) في كل موضوع وحكم في الشريعة .
السادسة : إرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية وإستحضارهم لآيات القرآن والسنة النبوية عند المشورة وإبداء الرأي .
السابعة : تنمية ملكة الأمانة عند المسلمين (عن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ”)( ).
بحث أصولي
يأتي الأمر وجمعه أوامر على وجهين :
الأول : الأمر المطلق غير المقيد بشرط كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ]( ).
الثاني : الأمر المقيد الذي يتضمن لزوم تحقق شرط الإمتثال والإستجابة ، كما في قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
ومن مباحث الأمر إفادته المرة أو التكرار ، وهل ينطبق ذات المبحث على النهي ، الجواب نعم ، ولكنه أقل بكثير في سنخيته ، إذ أن الأصل في النهي هو الإستدامة والتجدد ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً] ( ) فحرمه الربا متجددة في كل حال وزمان ، أما بالنسبة للأمر المطلق فقيل أنه لا يفيد المرة أو التكرار ، وإنما يفيد طلب الماهية ، وتحقق المصداق من قبل المكلف إلا مع القرينة التي تدل على أحدهما .
ولابد من الفصل والتمييز بين الأوامر القرآنية والنبوية من جهة والأوامر التي بين الناس ، فالأصل في الأمر الذي يرد في القرآن إفادته التكرار غلا مع الدليل على كفاية المرة الواحدة .
(عن ابن عباس : أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحج في كل سنة . أو مرة واحدة؟ قال : لا . بل مرة واحدة ، فمن زاد فتطوّع ) ( ).
وجاءت في الآية أربعة أوامر متوجهة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحتمل وجوهاً :
أولاً : كفاية المرة الواحدة في كل فرد منها .
ثانياً : وجوب التكرار والتعدد في كل أمر منها .
ثالثاً : إفادة بعضها الإتيان مرة واحدة ، وبعضها التكرار والتعدد ، وقد يكون بعض الأوامر لا يقبل بذاته وسنخيته التكرار .
والمختار هو ثانياً أعلاه ، وهو من الإعجاز في إبتداء الآية بذكر رحمة الله .
فيقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعفو عن المسلم وإن تعددت أساءته له ، ويستغفر للذي يقصد ويسئ وغيره من أهل البيت عموم المسلمين .

قوله تعالى [وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ]
يحتمل الأمر من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله بالإستغفار للمسلمين من جهة الإتحاد والتعدد وجوهاً :
أولاً : يأتي الأمر مرة واحدة ليشمل المتعدد من الإستغفار .
ثانياً : دلالة صدور الأمر من عند الله عز وجل على لزوم تكرار الإستغفار .
ثالثاً : يأتي الوحي من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل مرة للإستغفار للمسلمين سواء على المنبر أو في عموم حديث النبي مع أهل بيته وأصحابه ، أم عند المناجاة بينه وبين الله عز وجل .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق آية البحث ، وهو من فضل الله عز وجل ليكون قوله تعالى [وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ]نعمة متجددة ينهل منها المسلمون في كل زمان .
وهل في الآية دعوة للأئمة والعلماء أن يستغفروا للمسلمين تأسياً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإقراراً بأن هذا الأمر نعمة عظمى من عند الله .
الجواب نعم ،مع إرادة المعنى الأعم .
ولو لم يأت الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإستغفار للمسلمين فهل يستغفر لهم , الجواب نعم ، لأن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعله من الوحي ، فيستغفر لهم بذات العدد والمرتبة والكيفية التي إستغفر بها بفضل الله عز وجل , إذن لماذا نزل الأمر بالإستغفار بآية قرآنية ، الجواب من وجوه :
الأول : البشارة لأهل البيت والصحابة والتابعين وأجيال المسلمين بالمغفرة من عند الله.
الثاني : حث المسلمين على الشكر لله عز وجل على هذه النعمة من جهات :
الأولى : أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإستغفار للمسلمين .
الثانية : توثيق القرآن لهذه النعمة .
الثالثة : تلاوة المسلمين لآية البحث كل يوم تذكير لهم بلزوم شكر الله عز وجل على نعمة إستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم .
الثالث : منع الصحابة من جدال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إستغفاره الخاص والعام للمسلمين ، فلا يأتيه بعضهم ويقول له تستغفر لفلان ولا تستغفر لي , أو يقول على نحو التعجب : أتستغفر لفلان وقد فعل كذا , أو يقول أحدهم لبعض الصحابة بقصد الإنكار : أنظروا فان النبي يستغفر لفلان . أو السؤال من النبي كيف يستغفر لفلان , كما في واقعة موت رأس النفاق عبد الله بن أبي .
الرابع : رجاء كل مسلم ومسلمة الفوز باستغفار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : بيان موضوعية الإستغفار عن الذات والغير في سنن التوبة والإنابة ، ورجاء مرضاة الله .
السادس : ترغيب المسلمين باستغفار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم في حياته وبعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى .
(روى الإمام جعفر الصادق عن الإمام علي عليهما السلام قال : قدم علينا أمرؤ عندما دفنّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبر النبي عليه الصلاة والسلام وحثا على رأسه من ترابه وقال : يا رسول الله قلت فسمعنا قولك , ووعيت من الله فوعينا عنك , وكان فيما أنزل الله عليك {وَلَوْ أنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيما} فقد ظلمت نفسي فجئتك لتستغفر لي فنودي من القبر أنه قد غفر لك ) ).
(وعن العُتْبي، قال: كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه ولآله وسلم، فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: [وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا]( ) وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول:
يا خيرَ من دُفنَت بالقاع أعظُمُه … فطاب منْ طيبهنّ القاعُ والأكَمُ …
نَفْسي الفداءُ لقبرٍ أنت ساكنُه … فيه العفافُ وفيه الجودُ والكرمُ …
ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني ، فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم.
فقال : يا عُتْبى، الحقْ الأعرابيّ فبشره أن الله قد غفر له) ( ).
وقد يصدر من الصحابة تقصير أوذنب , فلا يلقون من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا العفو والصفح , ولا يخص الأمر معركة أحد والأخطاء التي وقعت طائفة من المسلمين فيها .
ففي السنة التاسعة من الهجرة أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتجهز وأراد الخروج إلى معركة تبوك , بعد أن بلغته أخبار تفيد التهديد وإرادة الهجوم على المدينة .
وقد ورد قوله تعالى بخصوص معركة تبوك[وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ]( )، وهم مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية، فلم يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك، إذ إختاروا حياة الدعة وطيب الثمار، وخافوا من العسر والحر في الطريق وليس عن شك أو نفاق أو خشية من ملاقاة جيوش الروم.
وعن عبدالله بن كعب بن مالك، وكان قائد كعب من بنيه حين عَمى -قال: سمعت كعب بن مالك يحدّث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقال كعب بن مالك: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزاة غيرها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر، ولم يعاتَب أحدٌ تخلف عنها، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد عِير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد.
ولقد شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة حين توافقنا على الإسلام، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذْكَر في الناس منها وأشهر، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفت عنه في تلك الغزاة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قَلَّما يريد غزوة يغزوها إلا وَرّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حَرٍّ شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازًا، واستقبل عدوا كثيرًا فَجَلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فأخبرهم وَجْهَه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثير، لا يجمعهم كتاب حافظ -يريد الديوان.
فقال كعب: فَقَلّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله، عز وجل، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظل، وأنا إليها أصعر( ).
فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا، فأقول لنفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمَّر بالناس الجد.
فأصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غاديا والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، وقلت: الجهاز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت بعدما فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا من جهازي. ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا.
فلم يزل ذلك يَتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم -وليت أنّي فعلتُ -ثم لم يقدر ذلك لي، فطفقت إذا خرجتُ في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فَطُفتُ فيهم يحزنني ألا أرى إلا رجلا مَغْموصا عليه في النفاق، أو رجلا ممن عذره الله، عز وجل ز
ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟” قال رجل من بني سَلمة: حبسه يا رسول الله بُرْداه، والنظر في عَطْفيه. فقال له معاذ بن جبل: بئسما قلت! والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تَوجَّه قافلا من تبوك حضرني بَثّي فطفقت أتذكر الكَذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا؟ أستعين على ذلك كلّ ذي رأي من أهلي.
فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أظلّ قادما، زاح عني الباطل , وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا. فأجمعتُ صدقه.
وصَبَّح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس. فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له -وكانوا بضعة وثمانين رجلا -فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علانيتهم ويستغفر لهم، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئت، فلما سلَّمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال لي: “تعال”، فجئت أمشي حتى جلستُ بين يديه، فقال لي: “ما خلَّفك، ألم تك قد اشتريت ظهرك.
قال: فقلت: يا رسول الله، إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سَخَطه بعذر، لقد أعطيتُ جَدَلا ولكنه والله لقد علمتُ لئن حَدّثتك اليوم حديث كَذب ترضى به عني، ليوشكن الله يُسْخطك علي، ولئن حدثتك بصدق تَجدُ عَليّ فيه، إني لأرجو أقرب عقبى ذلك عفوًا من الله، عز وجل والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك .
قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك.
فقمت وبادرني رجال من بني سلمة واتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عَجَزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لك. قال: فوالله ما زالوا يؤنّبوني حتى أردت أن أرجع فأُكذِّب نفسي: قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد.
قالوا: نعم، لقيه معك رجلان، قالا ما قلتَ، وقيل لهما مثل ما قيل لك. قلت: فمن هما؟ قالوا: مُرَارة بن الربيع العامري، وهلال بن أمية الواقفي.
فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة. قال: فمضيت حين ذكروهما لي -قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين عن كلامنا -أي الثلاثة -من بين من تخلف عنه، فاجتنَبنَا الناس وتغيّروا لنا، حتى تنكرَتْ لي في نفسي الأرضُ، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان.
وأما أنا فكنت أشَب القوم وأجلَدهم، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم.
وأقول في نفسي: حَرّك شفتيه برد السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، فإذا التفت نحوه أعرَض، حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مَشَيت حتى تسورت حائط أبي قتادة -وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي -فسلمت عليه.
فوالله ما رد علي السلام، فقلت له: يا أبا قتادة، أنشدُك الله: هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت. قال: فعدتُ فنشدته فسكت، فعدت فنشدته فقال: الله ورسوله أعلم. قال: ففاضت عيناي وتوليت حتى تسوّرت الجدار.
فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نَبَطِيٌّ من أنباط الشام، ممن قَدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ قال: فطفِقَ الناس يشيرون له إليّ.
حتى جاء فدفع إلي كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا فإذا فيه: أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هَوان ولا مَضْيَعة، فالحق بنا نُواسكَ. قال: فقلت حين قرأتها: وهذا أيضًا من البلاء. قال: فتيممت به التنور فَسَجرته حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتيني.
فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال: فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: بل اعتزلها ولا تقربها.
قال: وأرسل إلى صاحبيّ بمثل ذلك قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.
قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت له: يا رسول الله، إن هلالا شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: “لا ولكن لا يقربَنَّك.
قالت: وإنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما يزال يبكي من لدن أن كان من أمرك ما كان إلى يومه هذا.
قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. قال: فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما أدري ما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استأذنته وأنا رجل شاب؟ قال: فلبثنا بعد ذلك عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا.
فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا: قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صارخا أوفى على جبل سَلْع( )، يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر. قال: فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء فرج، فآذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قِبَل صاحبيّ مبشرون، وركض إلي رجُل فرسًا، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، فنزعت ثوبي، فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، يقولون: لِيَهْنك توبة الله عليك.
حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس في المسجد حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يُهرول، حتى صافحني وهَنَّأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره.
قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال وهو يبرُق وجهه من السرور: “أبشر بخير يوم مَرّ عليك منذ ولدتك أمّك.
قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: “لا بل من عند الله. قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، حتى يعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله.
قال: أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك”. قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت: يا رسول الله، إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت.
قال: فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى.
والله ما تعمدت كَذبَةً منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي.
قال: وأنزل الله تعالى[لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ]( ).
قال كعب: فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني للإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ألا أكون كَذَبْتُه فأهلك كما هلك الذين كَذَبوه حين كَذَبُوه , فإن الله تعالى قال للذين كَذَبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، قال الله تعالى[ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ* يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ]( ).
قال: وكنا خُلّفنا -أيها الثلاثة -عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا، فبايعهم واستغفر لهم.
وأرجأ رسولُ الله أمرَنا، حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله تعالى[وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا] وليس تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خُلِّفنا بتخلفنا عن الغزو، وإنما هو عمن حلف له واعتذر إليه، فقبل منه ( ).
ويبين هذا الحديث بلحاظ آية البحث مسائل :
الأولى : لين جانب النبي محمد مع الذين تخلفوا , ولم يذكرهم بسوء وهو في طريقه إلى تبوك أو عند الرجوع منها .
الثانية : مع إلحاح كعب بن مالك فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغضب عليه، ولم يأمر بطرده وأخراجه من المسجد.
لبيان قانون وهو أن المسلمين شرع سواء في دخول المسجد ولا يحق لأحد منع أحدهم حتى مع الذنب والمعصية ما دام يأتي للمسجد للصلاة .
الثالثة : تأكيد مصداق لآية البحث وهو أن المسلمين الذين تخلفوا عن معركة تبوك لم ينفضوا ويتفرقوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يقابلوا مقاطعة المسلمين لهم إلا بالرضا والصبر والإستغفار .
الرابعة : تأكيد مصداق لقوله تعالى [فَاعْفُ عَنْهُمْ] فقد عفى الله عز وجل عن المؤمنين الذين تخلفوا عن معركة تبوك , وعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وفيه بيان للمائز بين المؤمن والمنافق ، وإن إتحد ذات الفعل .
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إنما الأعمال بالنيات..) ( ).
الخامسة : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإستغفار للمسلمين ومنهم الذين تخلفوا عن تبوك .
لقد وردت الآية بصيغة الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من الجملة الإنشائية , وفيه أطراف .
الأول : الآمر ، وهو الله عز وجل .
الثاني : صيغة الأمر (افعل) كما في آية البحث ، أو نحوها .
الثالث : موضوع الأمر والمادة المأمور بها .
الرابع : المأمور باتيان الفعل .
ومع مجئ الآيات بجعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آمراً للمسلمين وندب المسلمين لوجوب طاعته كما في قوله تعالى [أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ] ( ) وتأتي أحياناً آية قرآنية تتضمن الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن يأمر المسلمين ، كما في قوله تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وهناك أمران :
الأول : متعلق الإستغفار والجهة والطائفة التي يستغفر لها رسول الله وتحتمل وجوهاً :
أولاً : إرادة الذين فروا من معركة أحد ، قال تعالى إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ.
ثانياً : المقصود الرماة من الصحابة الذين تركوا مواضعهم طمعاً بالغنائم عندما رأوا الهزيمة أحاطت بجيش المشركين .
ثالثاً : المراد الصحابة الذين قصّروا وأساءوا من عموم الصحابة .
رابعاً : إرادة عموم أهل البيت والصحابة .
خامساً : المقصود المسلمون والمسلمات جميعاً إلى يوم القيامة .
والمختار هو الأخير ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) شمول إستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأحياء والأموات من المسلمين والذين لم يولدوا منهم بعد ، فيدرك المسلمون في كل زمان أن إستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتغشاهم , وهو حاضر عندهم وينهلون منه كما إنتفع منه آباؤهم وأسلافهم ، وأن أبنائهم ينتفعون منه الإنتفاع الأمثل .
الثاني : موضوع الإستغفار والفعل والذنب الذي يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله عز وجل أن يغفره للمسلمين , وفيه وجوه :
أولاً : إرادة خصوص فرار شطر من الصحابة من معركة أحد .
ثانياً : ما يصدر من عدد من الصحابة من ضروب التقصير مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : إرادة الإستغفار لعموم أهل البيت والصحابة .
رابعاً : إستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين والمسلمات جميعاً الأحياء منهم والأموات .
والصحيح هو الأخير ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ] ( ).
وتحتمل صيغة الإستغفار وجوهاً :
أولاً : نزول صيغة إستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين من عند الله عز وجل ، فيأتي بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما أمره الله سبحانه .
ثانياً : نزول الأمر من الله بالإستغفار ليختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم صيغة الإستغفار .
ثالثاً : إرادة المتعدد من صيغ الإستغفار .
رابعاً : الجمع بين صيغ توقيفية من عند الله للإستغفار ، وصيغ أخرى يختارها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
خامساً : إرادة التباين في صيغة الإستغفار بين المسلمين بحسب المنزلة وسنخية الفعل الذي يستغفر منه .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث .
ترى من ماذا يستغفر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين ، وما هي الذنوب التي يسأل الله عز وجل أن يغفرها لهم .
الجواب ليس من حصر لموضوع أو زمان الذنوب والسيئات التي يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله سبحانه أن يغفرها لأهل البيت والصحابة والمسلمين ، لذا جاءت الآية بصيغة الإطلاق [وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ] .
ومنهم كالأمام علي عليه السلام لم ير الذنب والمعصية ، فقد آمن بالله ورسوله منذ صباه ولم يسجد لوثن وجاهد وإجتهد في طاعة الله ، فهل يشمله إستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكبار الصحابة والبدريون, الجواب نعم ، فهذا الإستغفار خير محض وللأولوية القطعية إذ ورد الأمر من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يستغفر لنفسه مع ذكر لفظ الذنب , بقوله تعالى [وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ] ( ).
وأيهما أعظم وأهم :
الأول : اللين ورقة القلب .
الثاني : اللين والعفو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : العفو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإستغفار .
الرابع : إستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين ومشاورته لهم .
الخامس : عفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المسلمين ومشاورته لهم .
السادس : مشاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين .
السابع : توكل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الله عز وجل.
والمختار أن كل فرد من مضامين هذه الآية والأوامر التي توجهت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أمر عظيم بذاته وعند المقارنة بينه حتى وإن لم يلزم التساوي بينها , نعم التوكل على الله تعالى عند الفعل هو الأهم .
وتبين الآية عدم التعارض بين التوكل على الله والأخذ بالأسباب قال تعالى[وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً]( ).
بحث أصولي
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار وإبتلاء ومن وجوه الإمتحان فيها الأحكام التكليفية وأشقها الواجب الذي يفيد لزوم إتيان الفعل وفيه الثواب وحرمة الترك والإثم عليه .
ويقسم الواجب أقساماً متعددة بحسب اللحاظ ، ومنها :
الأول : الواجب العيني ، هو الذي يجب على كل مكلف كالصلاة اليومية .
الثاني : الواجب الكفائي ، وهو الذي يجزي فيه إتيان أحد المسلمين الواجب فيسقط عن الأخرين كرد السلام والصلاة على الميت ، وهل يمكن جعل قراءة الإمام في الصلاة من الواجب الكفائي الجواب ، نعم بخصوص صلاة الجماعة وحدها ، وإن لم يذكره الأصوليون في مباحاتهم ، إذ تجب القراءة في الصلاة ، ولكن في صلاة الجماعة يتولى الإمام القراءة نيابة عن المصلين ، مما يفيد فرعاً جديداً في الواجب ، وهو قد يتحول الواجب العيني إلى كفائي ، مثلما قد يتحول الواجب الكفائي إلى واجب عيني كما في المرابطة والدفاع عن الثغور ، لذا ورد التنزيل بصيغة الإطلاق في الأمر بالمرابطة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
ويمكن تقسيم الواجب إلى أقسام :
الأول : الواجب العام على الناس جميعاً مثل الإقرار بالتوحيد وعبادة الله عز وجل .
الثاني : الواجب الخاص بالمسلمين كالدفاع عن بيضة الإسلام .
الثالث : الواجب النبوي ، وهو الأمر الخاص بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويكون من مختصاصته كما في آية البحث بقوله تعالى [وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ] إذ يترشح وجوب الإستغفار على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليجمع المسلمين .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر لنفسه وللمسلمين على نحو الخصوص والعموم، قال تعالى[وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ]( )، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا أيها الناس استغفروا الله وتوبوا إليه فإني استغفر الله وأتوب إليه في كل يوم مائة مرة)( ).
وبخصوص إستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن أبي بن أبي سلول رأى النفاق وغيره من المنافقين، وورد عن ابن عباس قال: لما نزلت آية براءة {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم} قال النبي صلى الله عليه وسلم : اسمع ربي قد رخص لي فيهم ، فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم فنزلت {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم})( ).
وتتعدد مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما ينفرد به من بين المسلمين , ومنها في باب التكاليف ليتجلى للأجيال المتعاقبة من المسلمين والناس معجزات خاصة تبين صدق الرسالة وإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يطلب الدنيا، ولم تزيده الفتوحات وكثرة الأصحاب وتوالي الغنائم إلا خضوعاً وخشوعاً وشكراً لله عز وجل إذ كان.
وعن الإمام محمد الباقر عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم عند عايشة ليلتها، فقالت: يا رسول الله لم تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال: يا عايشة ألا أكون عبدا شكورا؟ قال: وكان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقوم على أطراف أصابع رجليه، فأنزل الله سبحانه: طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)( ).
ليتصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزة حسية خاصة به في باب الأوامر والنواهي الإلهية وهي أنه إنفراده بأداء أقسام الواجب كلها النبوي والعيني والكفائي، وهل هو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، الجواب نعم.

بحث عرفاني
إبتدأت الآية بالإخبار عن رحمة الله وكيف أنها سبب في حسن سمت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبلوغه أسمى مراتب الكمالات الإنسانية ، فلم ينل هذه المنزلة والسيرة البهية بالمجاهدة والمرابطة ، ولكم الزاد وكثرة القيام ، إنما هذه الأمور كلها فروع لرحمة الله عز وجل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأمة التي تذكرها آية البحث .
وقد يلتقي النبي مع غيره من البشر بالفعل الحسن ومصاديق التقوى ، ولكن النبي يمتاز بأن فعله يوحي من عند الله عز وجل ليكون أسوة وقدوة للناس ، قال تعالى [كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ] ( ) ومنة مصاديق الأسوة والمنال الذي يجتذب حسن خلق النبي ورفقه بالمسلمين ودعاؤه وإستغفاره لهم .
لقد لاقى المسلمون شتى صنوف الأذى من المشركين ، فخفف الله عز وجل عليهم بالخلق الرفيع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجاوزه عن أخطائهم حتى وإن كانت في سوح المعارك وترتب عليها الضرر الفادح كما في معركة أحد وترك الرماة لمواضعهم التي رتبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها وحثهم على عدم تركها بكل الأحوال ، وأخبرهم بـأن حصتهم وسهامهم من الغنائم محفوظة .
(وأخرج أحمد والبخاري والنسائي عن البراء قال جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة يوم أحد وكانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير ووضعهم موضعا وقال إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزموهم قال فأنا والله رأيت
النساء يشددن على الجبل وقد بدت أسوقهن وخلا خيلهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون وقال عبد الله بن جبير فنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير اثني عشر رجلا فأصابوا منا سبعين وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة سبعين أسيرا وسبعين قتيلا ) ( ).
وتدل آية البحث على رفق ورأفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين وأصحابه قبل معركة أحد وبعدها ، وهو الذي تدل عليه أخبار السنة النبوية فلم يوبخ ويذم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين تركوا مواضعهم على الجبل أو الذين إنهزموا من المعركة في قوله تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] ( ) ولم ينعتهم بالنفاق أو اسم يتضمن الخزي والتبكيت ، لبيان أن رحمة الله التي ذكرتها آية البحث مصداق لقوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
لقد أراد الله عز وجل للمؤمنين الحفظ والسلامة وحسن الذكر وإقتداء الأجيال بهم، ويحتمل حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند هزيمة أصحابه وجوهاً :
الأول :إظهار الصبر ، وترك ما لا فائدة فيه .
الثاني : بيان حال الأسى والجزع لتقصير شطر من الصحابة يوم معركة أحد وما ادى إليه من الخسارة الفادحة .
الثالث : إستبطان الجزع ، فلا يظهر في وجهه وعلى لسانه أمارات الجزع.
والصحيح هو الأسى ومع أن الوجه الثالث أعلاه أمر حسن ومحمود ويدل على الرحمة والتدبير والرجاء إلا أن رحمة الله عز وجل التي تذكرها آية البحث جعلت سيرة وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسمى منه ، وأحسن من الحسن ، وهو من مصاديق طهارة قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا يصل إليه الجزع خاصة وأنه لم يفعل إلا ما أمره الله عز وجل ، وأن النصر قريب وآت ، قال تعالى[يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا] ( ) .
ومع ورود الآية أعلاه بخصوص يوم القيامة ، فأنها قانون كلي ينطبق على الحياة الدنيا ومسألة النصر للمؤمنين فيها من باب الأولوية القطعية ، وكل ما هو آت قريب ولكن قد لا يكون ذات الإنسان حياً وحاضراً أوان تحقق الأمر المدعوم ، لذا أمرت الآية أعلاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر الجميل الخالي من الجزع والسخط ، ومقدمات اليأس والقنوط .
والنسبة بين الرحمة من عند الله والصبر هي العموم والخصوص المطلق ، إذ أن الصبر في مرضاة الله من رحمته تعالى وأسباب الهداية ، وهو من الصراط في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) لبيان أن التحلي بالصبر ملكة تحتاج المدد واللطف والعون من عند الله ، وقد أخبر سبحانه أن الإنسان ضعيف بقوله تعالى [وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ) فتفضل سبحانه برحمته لتتغشى المسلمين والمسلمات فيكون فيها تدارك وتقويم لهذا الضعف ، ومنها لين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين ليأخذ بأيديهم في سبل الهداية والنفوس ، ولبناء صرح الإيمان في الأرض ومن أركانه الرحمة والرأفة والتسامح والعفو والتجاوز عن الإساءة من أجل ان يكون هذا التجاوز مقدمة لإستدامة صلاة الجماعة ولإجتماع المسلمين على فعل الخير بقصد القربة إلى الله وهو برزخ دون التفرق والإختلاف ، قال سبحانه [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ).
لقد ورد اسم الجلالة ثلاث مرات في آية البحث ، وهو الخالق والمعبود الذي يتصف بصفات كمال تسمو على التصور الذهني في أعلى مراتبه .
واسم الجلالة علم على الذات والدليل على الأسماء الحسنى والصفات العظمى ، وخصائص الكمال ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى] ( ).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ بن جبل (هل تدري ما حق الله على العباد”؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: “[فإن] حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا” . قال: ثم سار ساعة. ثم قال: “يا معاذ بن جبل”، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: “فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك”؟، قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: “فإن حق العباد على الله أن لا يعذبهم”)( ).
ومن رأفة الله عز وجل بالمسلمين منع الجدال والخلاف في عفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المسلمين فقد يقول بعضهم لماذا يغفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفلان إساءته وتقصيره ، فجاءت الآية بالإخبار بأن هذا العفو أمر مكتوب ونازل من عند الله .
وفي الآية ترغيب للمنافقين بالتوبة ، وإشعار بأنهم لا يجدون عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا العفو والإستغفار ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ).
علم المناسبة
من الإعجاز ومعاني الرحمة في القرآن ورود مسألة ومادة غفر من وجوه :
الأول : إستغفار الأنبياء لأنفسهم ، وعلى القول بعصمة الأنبياء ، وهو المختار ، هل من تعارض بين العصمة والإستغفار ، أو قل هل يدل إستغفار النبي لنفسه على ارتكاب المعصية ، الجواب لا ، إنما هو إستغفار النبي لنفسه إقرار منه بالعبودية لله عز وجل وتسليم لمشيئته وتقرب إليه سبحانه ، ورجاء عفوه ورضاه ، ولبيان مقام العبودية ، وهو تأكيد حسن الأدب والسمت ولتعليم المسلمين صيغ الإستغفار ، وزجر الناس عن العناد والإستكبار وللعلم بأن الإستغفار طريق لمصاديق من رحمة الله وللأجر والثواب ومحاكاة الأنبياء في إستغفارهم من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) .
ومن الإعجاز في مدرسة النبوة قانون ملازمة الإستغفار للأنبياء وورد في آدم وحواء قوله تعالى [قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ] ( ) ومع صبر وجهاد نوح وبذله الوسع في الدعوة إلى الله عز وجل .
وورد في التنزيل حكاية عنه [قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ] ( ) ونوح من الرسل الخمسة أولي العزم وكذا إبراهيم عليه السلام ، الذي ورد في التنزيل حكاية عنه [وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ] ( ) وفي موسى ورد في التنزيل [قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] ( ).
وفي داود عليه السلام ورد قوله تعالى [فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ] ( ).
(عن قتادة عن الحسن وابن سمعان،
عمن يخبره عن كعب الأحبار قال : وأخبرني أبو الياس عن وهب بن منبه قالوا جميعاً : إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه،
فتحولا في صورتهما فعرجا وهما يقولان : قضى الرجل على نفسه.u وعلم داود إنه عني به،
فخر ساجداً أربعين يوماً لا يرفع رأسه إلاّ لحاجة ولوقت صلاة مكتوبة،
ثم يعود ساجداً ثم لايرفع رأسه إلاّ لحاجة لابدّ منها،
ثم يعود ويسجد تمام أربعين يوماً،
لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي حتّى نبت (الزرع) حول رأسه وهو ينادي ربّه عزّ وجلّ ويسأله التوبة،
وكان يقول في سجوده :
سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء،
سبحان خالق النور،
سبحان الحائل بين القلوب،
سبحان خالق النور،
إلهي خليت بيني وبين عدوي إبليس،
فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي،
سبحان خالق النور،
إلهي تبكي الثكلى على ولدها إذا فقدته وداود يبكي على خطيئته،
سبحان خالق النور،
إلهي لم اتعظ بما وعظت به غيري،
سبحان خالق النور،
إلهي أنت خلقتني،
وكان في سابق علمك ما أنا إليه صائر،
سبحان خالق النور،
إلهي يُغسل الثوب فيذهب درنه ووسخه والخطيئة لازمة بي لا تذهب عني،
سبحان خالق النور،
إلهي أمرتني أن أكون لليتيم كالأب الرحيم وللأرملة كالزوج الرحيم فنسيت عهدك،
سبحان خالق النور،
إلهي الويل لداود إذا كشف عنه الغطاء فيقال : هذا داود الخاطىء،
سبحان خالق النور،
إلهي بأي عينين أنظر بهما إليك يوم القيامة،
وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي،
إلهي بأي قدم أقوم بها أمامك يوم تزول أقدام الخاطئين،
سبحان خالق النور،
إلهي ويل للخاطئين يوم القيامة من سوء الحساب،
سبحان خالق النور،
إلهي مضت النجوم وكنت أعرفها بأسمائها،
فتركتني والخطيئة لازمة بي،
سبحان خالق النور،
إلهي من أين تطلب المغفرة إلاّ من عند سيده،
سبحان خالق النور،
إلهي مطرت السماء ولم تمطر حولي،
سبحان خالق النور،
إلهي أعشبت الأرض ولم تعشب حولي بخطيئتي،
سبحان خالق النور،
إلهي أنا الذي لا أطيق حرّ شمسك فكيف أطيق حرّ نارك،
سبحان خالق النور،
إلهي أنا الذي لا أطيق صوت رعدك فكيف أطيق صوت جهنم،
سبحان خالق النور،
إلهي كيف يستتر الخاطئون بخطاياهم دونك وأنت شاهدهم حيث كانوا،
سبحان خالق النور،
إلهي قرح الجبين وجمدت العينان من مخافة الحريق على جسدي،
سبحان خالق النور،
إلهي الطير تسبّح لك بأصوات ضعاف تخافك وأنا العبد الخاطىء الذي لم ارع وصيتك،
سبحان خالق النور،
إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصاب،
سبحان خالق النور،
إلهي أنت المغيث وأنا المستغيث فمن يدعوا المستغيث إلاّ
المغيث،
سبحان خالق النور،
إلهي قد تعلم سري وعلانيتي فاقبل عذري،
سبحان خالق النور.
اللهمّ إني أسألك إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب،
أن تعطيني سؤلي فإن إليك رغبتي،
سبحان خالق النور،
اللهم برحمتك اغفر لي ذنوبي ولاتباعدني من رحمتك لهواني،
سبحان خالق النور،
اللهمّ إني أعوذ بك من دعوة لاتستجاب وصلاة لا تُتَقَبَّل وذنب لايغفر وعذر لا يقبل،
سبحان خالق النور،
إلهي أعوذ بنور وجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني،
سبحان خالق النور،
فررت إليك بذنوبي وأعترف بخطيئتي،
فلا تجعلني من القانطين ولا تخزني يوم الدين،
سبحان خالق النور،
إلهي قرح الجبين وجمدت الدموع وتناثر الدود من ركبتي وخطئيتي الزم بي من جلدي،
سبحان خالق النور.
قال : فأتاه نداء : يا داود أجائع أنت فتطعم،
أظمآن أنت فتسقى،
أمظلوم أنت فتنصر؟
ولم يجبه في ذكر خطيئته بشيء،
فصاح صيحة هاج ماحوله ثم نادى : يارب الذنب الذنب الذي أصبته.
ونودي : ياداود ارفع رأسك فقد غفرت لك.
فلم يرفع رأسه حتّى جاء جبرئيل (عليه السلام) فرفعه.
قال وهب : إن داود (عليه السلام) أتاه نداء : أني قد غفرت لك.
قال : يا رب كيف وأنت لاتظلم أحداً.
قال : إذهب إلى قبر أوريا فناده وأنا أسمعه نداك فتحلل منه.
قال : فانطلق حتّى أتى قبره وقد لبس المسوح حتّى جلس عند قبره ثم نادى : يا أوريا.
فقال : لبيك من هذا الذي قطع عليَّ لذتي وايقظني؟
قال : أنا داود.
قال : ما جاء بك يا نبي الله؟
قال : أسألك أن تجعلني في حل ممّا كان مني إليك
قال : وما كان منك إليَّ؟
قال : عرضتك للقتل.
قال : عرضتني للجنّة وأنت في حلّ.
فأوحى الله تعالى إليه : ياداود ألم تعلم أنّي حكم عدل لا أقضي بالتعنت والتغرير،
ألا أعلمته أنك قد تزوجت إمراته.
قال : فرجع إليه فناداه فأجابه.
فقال : من هذا الذي قطع عليَّ لذتي؟
قال : أنا داود.
قال : يانبي الله أليس قد عفوت عنك؟
قال : نعم،
ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وتزوجتها.
قال : فسكت فلم يجبه،
ودعاه فلم يجبه،
وعاوده فلم يجبه،
فقام عند قبره وجعل التراب على رأسه ثم نادى : الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يؤخذ برقبته فيدفع إلى المظلوم،
سبحان خالق النور،
الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النّار،
سبحان خالق النور،
الويل لداود ثم الويل الطويل له حين تقربه الزبانية مع الظالمين إلى النّار.
سبحان خالق النور.
قال : فأتاه نداء من السماء : يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك.
قال : يارب كيف لي أن تعفو عني وصاحبي لم يعف عني.
قال : ياداود أعطيه يوم القيامة مالم تر عيناه ولم تسمع أُذناه فأقول له : رضى عبدي؟
فيقول : يارب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي.
فأقول له : هذا عوض من عبدي داود فأستوهبك منه فيهبك لي.
قال : يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي.
فذلك قوله سبحانه : {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأنَابَ* فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ}( )، يعني ذلك الذنب {وَإِنَّ لَهُ} بعد المغفرة {عِندَنَا} يوم القيامة {لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَئابٍ} يعني حسنٌ مرجع ) ( ).
ومن بيان وإعجاز القرآن أن كل إستغفار لنبي قصة فيها موعظ وعبر ومصاديق الحكمة ليكون إستغفار الأنبياء من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ) .
وجاء الإستغفار في القرآن على لسان سليمان [قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ] ( )
وسيبقى إستغفار الأنبياء حجة على الناس وترغيباً لهم بالإستغفار والإنابة ومحبوبة بالذات وعشقاً للتوبة وصيرورتها محبوبة بالذات والأثر وفيه آية في إنتفاع المسلمين من هذا الإستغفار المبارك ووراثتهم للأنبياء في هذا المنهاج .
وتعاهد المسلمين للإستغفار إلى يوم القيامة من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ]
تدل الآية بالدلالة التضمنية على بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حياً بين ظهراني المسلمين بعد نزول هذه الآية لأنها تأمره بأن يعفو عن المسلمين ويستغفر لهم ، ويشاورهم في مسائل الدفاع , وبناء صرح الدولة الإسلامية ، ولما جاء قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ).
جاءت آية البحث ونحوها من الآيات التي تفيد بحفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يتم نزول آيات القرآن ويتحقق الفتح والأمن للمسلمين ، فاذا ذكرت آية البحث استغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لله ، فانها تفيد سيادة وشيوع الأمن والسلامة بينهم ، وإذا أعطى الله عز وجل فانه يعطي بالأتم والأوفى .
وعن ابن عباس قال : لما نزلت { وشاورهم في الأمر } قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أما ان الله ورسوله لغنيان عنها ، ولكن جعلها الله رحمة لأمتي ، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً ، ومن تركها لم يعدم غياً( ).
لقد أكرم الله عز وجل المسلمين بأن جعل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الذي [ مَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، يشاورهم ويطلب رأيهم في حال الحرب والسلم، ويستمع لهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، بأن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشاورهم ويستشيرهم، وهذه المشورة بأمر من عند الله في القرآن، وليس بغيره من وجوه الوحي، ومن أسرار ذكرها في آية البحث إرادة سلامة المسلمين من الغلو بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل تكون هذه المشورة سبباً لعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما هو خلاف الوحي، الجواب لا، ليكون المعنى، أن الله يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمشاورة أصحابه، وأن يعمل بما يوحى إليه، نعم قد تكون المشورة موافقة للوحي، أو أن الوحي موافق للمشورة وقد تجلى في معركة الخندق , بأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمشورة سلمان المحمدي في حفر خندق حول المدينة.
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بارتقائهم إلى مرتبة المستشارين ، وكل فرد منهم مستشار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي مرتبة لم ينلها المؤمنون من الأمم السابقة ، وفيه شاهد ومصداق لقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) وتدل هذه المنزلة بالدلالة التضمنية على أن المسلمين أصحاب عقول وأهل حكمة وصدق وأمانة.
وقد ورد الثناء على المسلمين في القرآن بقوله تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا] ( ).
و(عن المسيب بن نجبة ، عن علي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : المستشار مؤتمن ، فإذا استشير فليشر بما هو صانع لنفسه) ( ).
وهل المشورة مطلقة في كل الأمور , الجواب لا ، لذا وردت الآية بصيغة المفرد [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ]لتكون المشورة في أمور الحرب والسلم والمهادنة ، والبعوث والأمور العامة , وشؤون الإقتصاد , أما بالنسبة للعبادات والأحكام الشرعية فهي قوانين سماوية لا تقبل الترديد أو الرأي .
وتدعو الآية العلماء إلى تأليف مجلدات ودروس خاصة إسمها ( استشارة النبي ) ترى لماذا أمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمشاورة أهل بيته وأصحابه ، الجواب من جهات :
الأولى : بيان قانون الملازمة بين النبوة والمشورة , فما من نبي إلا وقد شاور أصحابه في الكيفية التي تنفعهم وفق أحكام الشريعة .
الثانية : تنمية ملكة الإيمان عند المسلمين , وبيان عظيم شأنهم عند الله ورسوله .
الثالثة : البشارة للمسلمين بتولي شؤون الحكم والأمارة وإدارة شؤون الرعية بالعدل والإنصاف ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ] ( ) أنه إذا مات أو قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتولوا الحكم وتشاوروا بينكم.
الرابعة : إرادة عصمة المسلمين من الإستبداد أو الطغيان أو الغرور والإعتداد بالرأي .
الخامسة : بيان مصداق لقانون حاجة الإنسان ، فلقد جعل الله الإنسان كائناً محتاجاً ، فتأتي المشورة للإنتفاع من عقول الرجال .
السادسة : تأكيد حب الله للمسلمين ، إذ أكرمهم بأمر النبي باستشارتهم ، ومن إعجاز القرآن مجئ مسألة حب المسلمين لله وحب الله عز وجل لهم ، مع المغفرة والعفو وتجليها بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ [قُلْ] في الآية الكريمة [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
السابعة : تأديب المسلمين بأن المشورة لا تصل إلى أصل الفرائض وكيفية أدائها وشرائطها ، ومقدماتها الواجبة ، وهو من إعجاز القرآن بأن يأتي الأمر مطلقاً [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] ( ) ولكن التقييد مستقرأ من وجوه :
أولاً : لفظ المفرد [الأَمْرِ] حتى على فرض أن المراد منه الجنس .
ثانياً : مجئ آيات القرآن المحكمة الأخرى بالبيان والتقييد .
ثالثاً : بيان وتقييد السنة النبوية لموضوع المشورة .
رابعاً : خاتمة آية البحث ونسبة صدور الفعل النبوي عن العزيمة والتوكل على الله .
الثامنة : بعث الفزع والحسرة في قلوب الذين كفروا , وقد جاء في الآية قبل السابقة [لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ] ( ).
التاسعة : صدور الفعل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين متكاملاً خالياً من النقص .
العاشرة : منع حدوث اللوم والأسى في صفوف المسلمين إذا وقع مكروه أو حدث أذى , فقد سبقته الإستشارة والبيان .
الحادية عشرة : تبكيت المنافقين وزجرهم وبعث الخوف في نفوسهم ، لقد كان إنسحاب نحو ثلث جيش المسلمين من معركة أحد وقبل الوصول إلى ميدان المعركة بسبب تحريض رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول وكانت حجته أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بمشورة الشباب من المسلمين الذين إشتاقت نفوسهم للقاء وقتال العدو خارج المدينة بينما إرتأى عبد الله بن أبي البقاء في المدينة .
(قَالَ ابن إسْحَاقَ : حَتّى إذَا كَانُوا بِالشّوْطِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ ، انْخَزَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابن سَلُولَ بِثُلُثِ النّاسِ وَقَالَ أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي ، مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ فَرَجَعَ بِمَنْ اتّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ وَالرّيْبِ وَاتّبَعَهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ يَقُولُ يَا قَوْمِ أُذَكّرُكُمْ اللّهَ أَلّا تَخْذُلُوا قَوْمَكُمْ وَنَبِيّكُمْ عِنْدَمَا حَضَرَ مِنْ عَدُوّهِمْ فَقَالُوا : لَوْ نَعْلَمُ أَنّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَمَا أَسْلَمْنَاكُمْ وَلَكِنّا لَا نَرَى أَنّهُ يَكُونُ قِتَالٌ . قَالَ فَلَمّا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ وَأَبَوْا إلّا الِانْصِرَافَ عَنْهُمْ قَالَ أَبْعَدَكُمْ اللّهُ أَعْدَاءَ اللّهِ فَسَيُغْنِي اللّهُ عَنْكُمْ نَبِيّهُ) ( ).
وهل تشمل المشاورة في آية البحث النساء ، إنما وردت صيغة المذكر في [وَشَاوِرْهُمْ] لتغليب المذكر ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) فان الصيام مفروض على كل مسلم ومسلمة بالغين ، ويكون تقدير الآية على وجوه :
أولاً : وشاور المؤمن في الأمر .
ثانياً : وشاور المؤمنة في الأمر .
ثالثاً : وشاور المؤمنين في الأمر .
رابعاً : وشاور المؤمنات في الأمر .
فان قيل قد ورد حديث : شاوروهن وخالفوهن ) ونسب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تارة وأخرى إلى الإمام علي عليه السلام ، ولا أصل لهذا الحديث ، وهو خلاف آيات القرآن وأخبار السنة النبوية ، وبخصوص إبنة شعيب حينما أشارت على أبيها في العناية بموسى عليه السلام والإنتفاع منه , ومن إخلاصه وصدقه ورد قوله تعالى [قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ] ( ).
وقد أخذ شعيب بمشورتها لتفتح أبواب من الخير وأسباب نشر لواء التوحيد وإظهار نبوة موسى عليه السلام .
وفي صلح الحديبية (قال النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم لأصحابه: قُومُوا فانحَروا ثم احْلِقُوا، قال: فوالله ما قام منا رجل حتى قال ذلك ثلاث مرّات ; فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس .
فقالت أُمُّ سلمة: يا رسول الله أتحبّ ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحدا منهم كلمة، حتى نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه; فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما) ( ).
ومنهم من قيد مشورة النساء بشؤون المنزل وأمورها الخاصة ، ولا دليل على هذا التقييد .
ولقد قاتلت عدد من المؤمنات بين يدي رسول الله في معركة أحد وغيرها مما يدل على أنهن يبصرن الأحداث ويشاركن بالرأي والفعل .وقال بعضهم (لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم مسلمة )( ) .
ولكن ليس من امرأة عاقلة إلا وقد أشارت في حياتها بأراء فاصابت ، وعمل بقولها ، أو أعرض عنه فتبين بعد حين موافقته للصواب .
وقد ورد قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فاطمة الزهراء : فاطمة بضعة مني ) ( ).
وتتقوم المشاورة بأطراف :
الأول : المشاور بكسر الواو الذي يقوم بمشاورة غيره .
الثاني : موضوع المشاورة .
الثالث : المشاوَر الذي تتوجه له الإستشارة .
الرابع : نتيجة المشاورة .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها تبين شخص المشاور وأنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل من فرق بين أمرين :
الأول : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمشاورة أصحابه من تلقاء نفسه .
الثاني : مشاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بأمر من عند الله في القرآن كما في آية البحث .
الجواب نعم إنه فرق عظيم ، فمع أن مشاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه من تلقاء نفسه من الوحي أيضاً ، فلا ينطق إلا باذن من الله ، فان ورود مسألة المشورة في القرآن , وفي آية البحث بالذات له دلالات إعجازية ومنافع لا تحصر منها :
الأول : الحسن الذاتي للمشورة إذ أمر الله عز وجل نبيه الكريم بها ، ويمكن تأسيس قانون وهو أن الذي يوصي به الله عز وجل نبيه هو أفضل واحسن الأعمال .
الثاني : دعوة المسلمين والناس جميعاً إلى الإقتباس مما أمر الله عز وجل به نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فانه مدرسة الأجيال العظمى بذاتها وتجددها في كل زمان , ومنه المشورة , إذ تتضمن آية البحث حث المسلمين على التشاور بينهم ، وتنهى أولي الأمر منهم عن الإستقلال بالرأي وامضاء ما يرونه في عالم الفعل .
ثم جاءت آيات القرآن بالوضوح في هذا الباب بقوله تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]( ).
وهل تدعو آية البحث أولي الشأن والملأ من الذين كفروا بالتشاور بينهم ومع أتباعهم , الجواب لا ، لانتفاء علة التشاور , ومنها رجحان العقل ولأن مشورتهم في الباطل ، ويدل عليه تجلي معاني الحسرة والندم بينهم يوم القيامة ، قال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ] ( ).
الثالث : دعوة الناس للتدبر في الأمور ، وإختيار الرأي السديد .
الرابع : تقاسم المسؤولية وتجلي التعاون بين المستشير والمستشار .
الخامس : المشورة بين المسلمين من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) لما فيها من إكرام للمسلمين وإقرار باختيارهم ما فيه الصواب والسداد .
السادس : المشورة أمر توليدي ، فتستشير شخصاً ليقوم هو نفسه باستشارة آخرين في ذات الموضوع وفي غيره .
السابع : بيان تنزه المؤمنين عن النفاق ، إذ جاءت الآيات بالتحذير من مشاورة المنافقين والكفار والركون إليهم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً] ( ).
الثامن : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكرم أصحابه ويستشيرهم في أمور الحرب والسلام .
التاسع : بيان قانون وهو أهلية المسلمين للمشورة ، ولما احتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض أجابهم الله عز وجل بالحجة والبرهان [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علمه تعالى تقديم المسلمين المشورة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخذه بها إذا كانت موافقة للوحي والتنزيل .
العاشر : بيان قانون وهو لم يستشهد المسلم في ساحة المعركة إلا بعد مشورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بأمر من عند الله ، وبعد عزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوكله على الله في إختيار سنخية الفعل الخاص والعام وكيفيته وأوانه , فليس من ندم أو خطأ في ضروب الدفاع ، وكذا فان الشهيد يفوز بحياة الخلد عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ).
الحادي عشر : أختتمت آية البحث بالإذن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالفعل المقيد بالتوكل على الله عز وجل ، وأخبرت آية السياق بأن الله عز وجل هو الذي يحيي ويميت لبعث السكينة في نفوس المسلمين بأن فقد المؤمن مع التوكل على الله من مشيئة الله ، قال تعالى [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ] ( ).
الثاني عشر : أختتمت آية السياق بقوله تعالى [وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( )، وفيه بلحاظ خاتمة آية البحث مسائل :
الأولى : ترغيب المسلمين بالمشورة وإبداء الرأي السديد .
الثانية : نيل المسلمين الثواب والأجر العظيم بحسن المشورة , وقبول ما يأمر به الله ورسوله ، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] ( ).
الثالثة : إرادة تيسير أمور المسلمين والتوفيق في الدعوة إلى الله عز وجل.
لقد فاز المسلمون الأوائل بدخول الإسلام طواعية ، وتحمل الأذى في جنب الله ، ودخول المعارك دفاعاً عن النبوة والتنزيل فذكرهم الله عز وجل في الكتاب الخالد إلى يوم القيامة ، وفازوا بصحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال الحرب والسلم ، وصلوا خلفه الصلوات الخمسة ، ويمكن أن تكون الصلاة بامامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معاني ودلائل الصحبة , وقد تعددت وتباينت أعداد الصحابة بلحاظ القواعد والضوابط الكلية لهذه الصحبة .
ثم جاءت مرتبة عظيمة أخرى للصحابة وهي مشاورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم ، وفيه نكتة وهي مع أن النبي لا ينطق إلا وحيا فان الله أمره بالمشورة ، وفيه مسائل :
الأولى : مجئ الأمر بالمشورة من عند الله وحده .
الثانية : تفقه المسلمين في الدين .
الثالثة : زجر المنافقين من إثارة الشكوك وأسباب الريب بخصوص إستشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : دعوة المسلمين لعدم الإنصات للمنافقين والذين في قلوبهم مرض , ليس بخصوص الإستشارة وحدها ، بل بعموم سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين في الأوامر والنواهي وأحكام الحلال والحرام .
وهل يتضمن قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] البشارة للمسلمين بالفتوحات , الجواب نعم , لما تدل عليه الآية بالدلالة الإلتزامية على تأديب للأمراء والحكام والمسلمين بأخذ المشورة والإستماع إلى الرأي من الملأ وعامة المسلمين ، وقد يقول قائل إنما المشورة للخاصة والبطانة، والجواب لا دليل على هذا الحصر والتقييد ، والأصل هو العموم وإرادة إستشارة كل المسلمين من جهات :
الأولى : آية البحث برهان وحجة في المقام لما فيها من الإطلاق وعدم التقييد .
الثانية : تفضل الله عز وجل بالثناء على المسلمين بنعتهم بأهل العقول ، قال تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا] ( ).
الثالثة : إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قرب فتح الشام والعراق ، ومن الآيات في نبوته مجئ هذا الإخبار أحياناً في أشد الأحوال وأشق الأيام ، كما في واقعة الخندق حيث كان عشرة آلاف من مشركي مكة ومن والاهم يحيطون بالمدينة ، وكذا في حال الرخاء والسعة ، كما في حديث عدي بن حاتم عندما جاء إلى المدينة للقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الإسلام , وقد تقدم ذكره عرضاً في فتوى قطار الطواف( ).
لقد بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شهر ربيع الآخر سنة تسع للهجرة الإمام علي عليه السلام في مائة وخمسين (رجل من الانصار على مائة بعير وخمسين فرسا ومعه راية سوداء ولواء أبيض إلى الفلس وهو صنم ليهدموه فشنوا الغارة على محلة آل حاتم مع الفجر.
فهدموا الفلس وحرقوه وملؤا أيديهم من السبي والنعم والشاء.
وفى السبي أخت عدى بن حاتم وهرب عدي إلى الشام ووجدوا في خزانة الفلس ثلاثة أسياف : رسوب والمخذم , وسيف يقال له اليماني وثلاثة أدراع ) ( ).
ولما وصلوا إلى ركك وهو أحد جبال طي اقتسموا الغنائم وعزلوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يُقسم آل حاتم ، ولم يجعلوا أي فرد منهم من حصة وسهام أحد .
ومن الآيات في السنة الدفاعية أن غنائم المسلمين لا تقسم في ساحة المعركة أو في ذات اليوم بل يسير الجيش ويقطع مسافة ، ولابد له من أسباب وغايات منها :
الأول : الخشية من إنشغال أفراد الجيش من المسلمين بتوزيع الغنائم فيداهمهم العدو .
الثاني : قد لا ترضي القسمة بعضهم فيتوانى عن الدفاع أو يسبب الفتنة والإنشغال عن العدو .
الثالث : دعوة المسلمين للإنقطاع إلى التسبيح والشكر لله على نعمة النصر .
الرابع : بيان مصداق لقانون وهو أن المسلمين لم يقاتلوا طمعاً في دنيا أو مكاسب أو مغانم ، إنما يريدون مرضاة الله .
الخامس : تخفيف حال الطمع وتنزيه المسلمين منه ، فقد يرغب أحدهم بحاجة من الغنائم ويتلهف لحيازتها ، ولكن عندما يجد بهم المسير وتمر الساعات والأيام فان رغبته تلك تفتر ، وتتقدم عنده الغبطة بتحقيق النصر ، وإرادة القسمة بالحق والرضا بما يجعل له من السهام .
السادس : التشاور بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بخصوص الغنائم ومعرفة قيمة كل فرد منها للحيلولة دون البخس عند التقسيم , وهو من مصاديق آية البحث وقوله تعالى ( وشاورهم في الأمر ) وما تترشح عنه من المنافع .
السابع : اصطفاء سهام خاصة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم باخراج الخمس [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ….] ( ).
الثامن : ترك ما يستثنى من التقسيم ، كما في هذه الواقعة أعلاه إذ لم يقسم آل حاتم .
وعن الإمام علي عليه السلام (سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن العزم فقال : مشاورة أهل الرأي ، ثم اتباعهم .
وأخرج الحاكم عن الحباب بن المنذر قال : أشرت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر بخصلتين فقبلهما مني . خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعسكر خلف الماء ، فقلت يا رسول الله أبوحي فعلت أو برأي؟ قال : برأي يا حباب . قلت : فإن الرأي أن تجعل الماء خلفك ، فإن لجأت لجأت إليه ، فقبل ذلك مني . قال : ونزل جبريل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أي الأمرين أحب إليك تكون في دنياك مع أصحابك أو ترد على ربك فيما وعدك من جنات النعيم؟ فاستشار أصحابه .
فقالوا : يا رسول الله تكون معنا أحب إلينا ، وتخبرنا بعورات عدونا ، وتدعو الله لينصرنا عليهم وتخبرنا من خبر السماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما لك لا تتكلم يا حباب! فقلت : يا رسول الله اختر حيث اختار لك ربك . فقبل ذلك مني) ( ) , ومن المشورة تفويض الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (“المُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ”)( ) لتعليم المسلمين الإستشارة ، وتأديبهم على النصح فيها للإنتفاع منها على النحو الأمثل ، وكيلا تضعف المشورة بينهم .
وهل يمكن أن تنقطع المشورة عند المسلمين , الجواب لا , بدليل قوله تعالى [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ] ( ).
وتدل آية البحث على إتصاف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمور مباركة وهي :
الأول : توجه الأمر من عند الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمشورة وسؤال أصحابه , وأن يشيروا عليه بالرأي السديد والفعل اللازم .
الثاني : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باستشارة أصحابه .
الثالث : بيان قانون وهو صلاح أهل البيت والصحابة لحسن المشورة وفيه دليل على أنهم دخلوا الإسلام عن حكمة وتدبر وبصيرة ، وفيه شاهد على صدق المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمشورة أصحابه ، ولما كان أصل هذه المشورة من القرآن ، وفي آية البحث فان قبول وعمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمشورة أصحابه من السنة النبوية . ومن مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الخامس : بيان قانون وهو عدم إفتراء الصحابة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم , فمع ان الاية صريحة بالأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمشورة أصحابه فلم يدّع العشرات أو أكثر منهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إستشارهم في الأمور الفلانية والفلانية .
بحث بلاغي
من ضروب حسن النسق مجئ كلمات متتالية يتعقب بعضها بعضاً بما يفيد إستقلال كل كلمة واحدة منها بمعنى ، مع ميل النفس وحسن الإصغاء لهذا التوالي والتعاقب وعدم النفرة منه ، ويتجلى حسن النسق في القرآن على نحو الإعجاز ، وعجز البشر عن الإتيان بمثله كما يأتي في الشعر والنثر.
ويحاكي الباحثون في علم البلاغة بعضهم بعضاً بذكر مثال مخصوص من القرآن مع ذات البيان والتفسير( ) ، وهو قوله تعالى [وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ]( ) وهو أمر حسن , ولكن آيات القرآن كلها تتصف بحسن النسق فلابد من بذل العلماء والمحققين الوسع للإتيان بامثلة أخرى من آيات القرآن التي يتجلى بها حسن النسق واضحاً ، ومنه آية البحث إذ جاءت الأوامر من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم متتالية متعاقبة وهي :
الأول : ( فاعف عنهم ) ليضاف العفو إلى لين الجانب والرفق ورقة القلب التي يتصف بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : واستغفر لهم .
الثالث : وشاورهم في الأمر .
ومن معاني ودلالات حسن النسق في آية البحث بيان تعدد الوظائف والجهود التي يبذلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضوع وزمان متحد .
وهل هو من مصاديق التبليغ الرسالي كما في قوله تعالى [الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا] ( ).
الجواب نعم، بأن يأتي التبليغ بأبهى حلة، وبما يفوق قدرة الناس في البلاغة والوصف الذي يتعدى الواقع إلى التصور الذهني، بلحاظ كبرى كلية، وهي أن النعم التي في الجنة أعظم وأعم وأوسع مما تحيط به العقول والأوهام .
لقد أبهر حسن النسق القرآني قريشاً وأهل مكة والذين من حولها وكانوا يتصفون بالفصاحة، ويحفظون أمهات القصائد الشعرية ذات الأوزان المتناسقة، والمضامين ذات الأغراض والغايات الصريحة والجلية أو التي تأتي بالتعريف والإشارة .
بحث أصولي
يأتي الأمر بالقول أو الفعل والإشارة الدالة على إتيان فعل مخصوص ، وفيه أطراف :
الأول : الآمر الذي يصدر الأمر .
الثاني : الأمر وموضوعه .
الثالث : صيغة الأمر وهي (أفعل) أو الفعل المضارع المقرون باللام (ليفعل) واسم الفعل نحو (صه) .
وترد صيغة الأمر لمعان كثيرة , منهم من أوصلها إلى أكثر من عشرين معنى منها .
الأول : الوجوب وهو المتبادر إلى الذهن ، والأصل فيها ، كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ).
الثاني : الندب والإستحباب .
الثالث : التأديب ، كما في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
( لربيبه عمر بن أبي سلمة: “قل: باسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك) ( ).
الرابع : الإباحة كما في قوله تعالى [وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ] ( ) إذ تعقب الإباحة وجوب تقوى الله والخشية منه ، ليدخل الشكر لله في الآية أعلاه في مصاديق التقوى وكذا عدم الإسراف .
الخامس : الإرشاد : وهو الهداية إلى مصلحة دنيوية ، وبينه وبين الندب عموم وخصوص مطلق ، فالندب نفعه ومصلحته دنيوية وآخروية ، أما الإرشاد فنفعه على قول دنيوي كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ] ( ).
السادس : إرادة الإعانة على الوجوب والمقدمة له ، كما في الأكل والشرب في ليلة الصيام ، قال تعالى [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ]( ).
السابع : التهديد ، كما في قوله تعالى في خطاب للكفار [اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ]( ).
الثامن : الإنذار : كما في قوله تعالى [قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ]( ).
التاسع : الإنشاء والتكوين كما في قوله تعالى [كُنْ فَيَكُونُ]( ).
العاشر : التمني : كما في قول الشاعر :
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي .. بصبح وما الإصبح منك بأمثل .
وبين التمني والترجي عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء هي الطلب , أما مادة الإفتراق فان التمني طلب المحال ، والترجي طلب ممكن التحقق والتنجز .
وهل يجوز أن يتضمن الدعاء التمني أم لا ، بلحاظ أن الله عز وجل جعل الأمور تجري وفق قواعد وقوانين ، الجواب هو الأول بقيد أن يكون هذا التمني في الخير والصالحات ، وليس في الشر والضرر .
فمثلاً يتلو أو يسمع المسلم قوله تعالى [وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ] ( ) فيتمنى المسلم هذا العمر له ، ويسأل الله عز وجل عمراً من ألف سنة أو أكثر .
وقد أنعم الله عز وجل على نوح وجعله معمراً ليكون بياناً لعظيم قدرة الله وترغيباً للمسلمين بالدعاء والتمني وتحويل التمني إلى رجاء وإلى حقيقة بفضل الله الذي لا تستعصي عليه مسألة ، وليس من حاجب أو برزخ بين المسلم والدعاء ، وهو من أعظم النعم المصاحبة للناس جميعاً ، وتحتمل هذه النعمة وإستجابة الدعاء فيه وجوه :
أولاً : إختصاص الإذن بالدعاء بسن البلوغ وما بعده .
ثانياً : جواز الدعاء قبل سن البلوغ ، ولكن الإستجابة مقيدة بما بعد تحقق البلوغ .
ثالثاً : صحة الدعاء قبل البلوغ وإمكان الإستجابة في حينه .
والصحيح هو ثالثاً أعلاه ، فلا ملازمة بين سن التكليف والإذن بالدعاء وإستجابته ، ليكون من معاني قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) أي إدعوني كباراً وصغاراً , رجالاً ونساءاً , مجتمعين ومتفرقين ، وفي حال السراء والضراء , والرخاء والشدة ، وتدل عليه لغة العموم في لفظ الداعي الوارد في قوله تعالى [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ]( ) ولا يضر هذا بمعنى الإطلاق في المقام , والأمر الخاص في خاتمة الآية .
وورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال : عاش نوح عليه
السلام ألفي سنة وخمسائة سنة، منها ثمانمائة سنة وخمسون سنة قبل أن يبعث، وألف سنة إلا خمسين عاما ” وهو في قومه يدعوهم ومائتا عام في عمل السفينة، وخمسمائة عام بعد ما نزل من السفينة ونضب الماء فمصر الأمصار وأسكن ولده البلدان، ثم إن ملك الموت جاءه وهو في الشمس فقال: السلام عليك، فرد عليه نوح عليه السلام وقال له: ما حاجتك يا ملك الموت ؟ فقال: جئت لإقبض روحك، فقال له: تدعني أدخل من الشمس إلى الظل؟ فقال له: نعم، فتحول نوح عليه السلام ثم قال: يا ملك الموت فكان ما مر بي في الدنيا مثل تحولي من الشمس إلى الظل، فامض
لما امرت به، قال: فقبض روحه عليه السلام)( ).
الحادي عشر : الإتعاظ والإعتبار كما في قوله تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ).
الثاني عشر : التعجب كما في قوله تعالى [انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ] ( ).
الثالث عشر : الإمضاء كما في قوله تعالى حكاية عن إسماعيل [يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ]( ).
الرابع عشر : التحدي كما في قول السحرة بعد إيمانهم لفرعون [فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ]( ) .
الخامس عشر : الوعيد .
السادس عشر : التفويض في الفعل .
ويمكن إستقراء وجوه أخرى ، مع إمكان رد الوجوه أعلاه بعضها لبعض ليكون التقسيم العام إلى الوجوب والندب هو الأنسب ، مع تفرع كل واحد منهما إلى فروع خاصة الندب .
وجاءت في آية البحث عدة أوامر , وهي :
الأول : قوله تعالى [فَاعْفُ عَنْهُمْ] .
الثاني : قوله تعالى [وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ] .
الثالث : قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ].
الرابع : قوله تعالى [فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ].
والأصل في الأمر حمله على الوجوب إلا مع القرينة الصارفة إلى الندب والإستحباب ، وهي معدومة في المقام وصيغة الأمر حقيقة في الوجوب ، وفي غيره قد تكون حقيقة أو مجازاً .
وكل فرد من هذه الأوامر الأربعة يحمل على الوجوب ، وهو من مصاديق رحمة الله الولادة في أول آية البحث [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ]للمائز الذي يتصف به الوجوب بالنسبة للندب وفروعه , فقد أراد الله عز وجل رحمة المسلمين في الدنيا والآخرة بأن جعل بركات حضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم تتجلى بالتعدد من الأوامر الإلهية له بما يتضمن النفع العام المتجدد للمسلمين .
ولتكون مصاديق الرحمة الواردة في آية البحث من الأمور الحاضرة في كل ساعة من أيام المسلمين ، وتكون سابقة وشفيعة لهم يوم القيامة ، وتقدير الآية : فبما رحمة من الله بالمسلمين في الدنيا والآخرة لنت لهم ).
وتوجه الأمر من الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتوكل عليه سبحانه وصيرورة العزم مقدمة لهذا التوكل ، والمراد منه الفعل ، وكل فرد من هذه الأوامر يفيد الوجوب والحتم ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : يجب عليك يا نبي الله أن تعفو عن المسلمين .
ثانياً : يجب عليك يا رسول الله أن تستغفر للمسلمين .
ثالثاً : يجب عليك يا محمد أن تشاور المسلمين .
رابعاً : يجب عليك يا خاتم النبيين أن تتوكل على الله .
ويمكن التقدير والقراءة بوجه آخر ، وهو : لأن الله إختارك الله للنبوة والرسالة فلابد أن تعفو عن المسلمين وتستغفر لهم وتشاورهم في الأمر وتتوكل على الله.

قوله تعالى [فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ]
تتضمن الآية أكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفتح سبل مباركة من رحمة الله التي وردت في أول الآية للمسلمين .
تحتمل مرتبة توكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الله بالنسبة لتوكل المسلمين على الله وجوهاً :
أولاً : إرادة نسبة التساوي بين توكل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الله وتوكل المسلمين .
ثانياً : إتحاد سنخية التوكل على الله ، وهو من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة في كل زمان ، فيتساوى فيه المسلمون والمؤمنون من أهل الملل السابقة والله واسع كريم ، وقد ورد لفظ [َ تَوَكَّلُوا] في القرآن مرتين في خطاب لبني إسرائيل ، قال تعالى [وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ] ( ).
ثالثاً : إرادة المائز والفضل في توكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الله بالنسبة لعموم المسلمين .
رابعاً : لقد أنعم الله عز وجل على الأنبياء وفضلهم بالوحي ، ولابد من موضوعية له في قول وفعل النبي .
والمختار هو الثالث إذ أن توكل النبي على الله عز وجل أعم في موضوعه ودلالته وأثره ونفعه على الإنسانية ، ومن مصاديقه وجوه :
الأول : فاذا عزمت فتوكل على الله في الصبر والدفاع عن الإسلام .
الثاني : فاذا عزمت في أمور ومصالح المسلمين فتوكل على الله .
الثالث : فاذا عزمت بعد إستشارة المسلمين فأعمل بما يوحي لك الله .
الرابع : فاذا عزمت بصفة النبوة والرسالة ، فتوكل على الله الذي إختارك لهذه المنزلة ، لبيان قانون وهو أن الله عز وجل يبعث الأنبياء ليتكلموا ويعملوا ويجاهدوا في سبيل الله ، وهو الأمر الذي يتجلى بآية البحث ( فاذا عزمت كنبي لله عز وجل فتوكل عليه سبحانه).
ومن خصائص النبوة أن النبي لا يفعل أمراً إلا بالتوكل على الله بينما المشركون يجحدون بالله ليرى الناس كيف ان التوكل نماء في عدد المسلمين ، وسبب لمضاعفة أرزاقهم ،ووسيلة للبركة في أموالهم ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا] ( ).
ترى ما هي النسبة بين التقوى والتوكل على الله ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالتوكل فرع ومصداق للتقوى ورشحة منها ، لذا فان الأمر الإلهي بالتوكل عليه دعوة للتقوى والخشية من الله بالسر والعلانية .
وتبين الآية قانوناً وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير ملزم بما يشير عليه أصحابه ، فله أن يأخذ بالمشورة وله ألا يأخذ بها ، وفي كلتا الحالتين يجب على المسلمين القبول والرضا .
وفي الآية تأديب للمسلمين، وتعليم وإرشاد لهم لبيان قانون وهو عدم الملازمة بين الرأي والمشورة التي يأتي بها المهاجر أو الأنصاري وبين ما يقوم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من فعل بعد المشورة من جهات :
الأولى : تعدد الأقوال وأفراد المشورة ، فمن عمومات قوله تعالى[خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( )، تعدد الرؤى والأفكار عند الناس في الموضوع المتحد.
الثانية : التباين في الخبرة والتجربة .
الثالثة : إستحضار المستشير للغايات الحميدة من الفعل .
الرابعة : تأكيد قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لايقول ولا يفعل إلا ما يأمره الله عز وجل به .
الخامسة : بيان خاتمة آية البحث لعزم المسلم وحسن توكله على الله عز وجل .
قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]
صحيح أن الدنيا دار إمتحان وإبتلاء , ولكن الله عز وجل لم يترك العباد وشأنهم ,فمن رحمة ورأفة الله عز وجل أن منح الإنسان رتبة عظيمة بين الخلائق بأن رزقه الخلافة في الأرض قبل أن تنفخ الروح في آدم.
ومن الآيات تفضل الله عز وجل بإشهاد الملائكة على هذه النعمة والمنزلة , وفي التنزيل[وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
وتفضل الله عز وجل ببعث الأنبياء والرسل، وأنزل الكتب السماوية التي تهدي الناس إلى سبل التقوى وتجذبهم إلى طاعة الله، وإدراك قانون وهو(الدنيا مزرعة الآخرة).
ومن معاني التوكل على الله إستحضار ذكره تعالى عند الإقدام على الفعل والتسليم بقانون وهو أن مقاليد الأمور بيده سبحانه , وتفويض الأمور له سبحانه والقطع بأن الفعل لا يأتي تاماً في ذاته وغاياته إلا بفضل من عند الله .
وقد يكون التوكل بالإمساك عن الفعل ليكون الترك في هذه الحال أمراً وجودياً ولا يختص التوكل على الله بالفعل والإقدام عليه، بل يشمل الإستقامة وإصلاح الذات والغير، وقد ينوي المسلم فعلاً وهو يتوكل على الله عز وجل فيصرفه الله عز وجل إلى غيره لأنه سبحانه هو أعلم بحلب المصالح والحظوظ الدنيوية، كالرزق والعافية والجاه وكثرة الأولاد وإصلاحهم، وهو سبحانه أعلم بالمفاسد والقادر على صرفها، ومن أبهى مصاديق هذا الجلب والصرف التوكل على الله والدعاء.
لقد تضمنت الآية إعجازاً في مناهج النبوة وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يفعل ما يريد إلى بعد المشورة والتوكل على الله وهدى الوحي .
والتوكل على الله من أعلى مراتب التقوى، وهو شاهد على بلوغ، ودليل على اليقين والثقة بفضل الله عز وجل وهو ضابطة الإيمان [وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ]( )، وهل التوكل على الله عبادة الجواب إنه فرع العبادة ومصداق عليه، قال تعالى[فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ]( ).
وعن الأوزاعي في المرسل قال: اللهم إني أسألك التوفيق لمحابك من الأعمال وصدق التوكل عليك وحسن الظن بك)( ).
وعندما إنتصر المسلمون في معركة بدر وأخذ الناس يدخلون الإسلام جماعات، ظهر النفاق من بعضهم بأن يخفي الكفر مع إعلانه الإيمان، والتوكل على الله باب للفوز بالثواب، ونيل الأجر وهو مدرسة لتهذيب الأخلاق، والسلامة من الفتن والطمع والغرور وهو حرب على الإستكبار، وهو حرب على التطير وأمن منه، ومما يترشح عنه من الخوف والقلق والحزن، وفي التنزيل[قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).

بحث بلاغي
من ضروب الإطناب التعليل لإرادة البيان والتقرير وزيادة الإظهار ، والإعانة على حسن التلقي ، ومنع الترديد والجدال ، وقد يأتي التعليل جواباً على سؤال مقدر ، أو إنذاراً أو بشارة كما في قوله [لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] ( ) .
ومن حروف التعليل لام التعليل كقوله تعالى [فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا] ( ) والكاف كما في قوله تعالى [وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ] ( ) وقد يأتي لبيان الغاية للأمر أو النتيجة والأثر للفعل .
وقد يأتي التعليل بالباء التي تفيد معنى السببية كما في قوله تعالى [إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ] ( ).
ومن إعجاز القرآن مجئ التعليل فيه تفسيراً وبياناً وسوراً لمعاني الآية القرآنية ، كما في خاتمة آية البحث ، في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).
فحينما أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالتوكل عليه في إتيان الفعل ، فانه أخبر عن قانون كلي يتغشى الحياة الدنيا من أيام أبينا آدم وإلى يوم القيامة وهو حب الله عز وجل للذين يتوكلون عليه من الأولين والآخرين ، ليكون من الإعجاز في آية البحث أن يأتي القانون الكلي تعليلاً للفعل الحسن وباعثاً عليه ، وتأديباً وإرشاداً للمسلمين .
ومن معاني التعليل في المقام الإخبار عن صحة الفعل والبشارة بالأجر والثواب العظيم عليه والمدد والإحسان من عند الله عز وجل للذين يحبهم ، الذين اخلصوا له الطاعة ، وعلموا أن الأمور كلها بيده سبحانه ، وفي التنزيل [لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn