معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 147

المقدمــــة
الحمد لله ثم الحمد لله على كل نعمة ظاهرة أو خفية تقدمت في زمانها أو هي حاضرة ، الحمد لله الذي جعل النعم التالية على الفرد والجماعة والأمة أكثر وأعظم من السابقة , وهو من الشواهد على عظيم فضله تعالى وأنه [عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) .
الحمد لله الذي جعل الحمد له خير صاحب للإنسان في السراء والضراء ، وبين منافعه في الحالتين عموم وخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما.
ومن الأولى ما يكون معها الحمد من مصاديق قوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) بلحاظ أن الحمد لله مصداق للتقوى ، وشاهد على بلوغ مراتب الحكمة وإدراك قانون تعدد النعم وان الحمد لله علامة الرضا والغبطة ، وسبيل الصلاح في الدنيا ، وطريق النجاة في الآخرة ليكون وجوب تلاوة كل مسلمة ومسلمة سورة الفاتحة عدة مرات في الصلاة اليومية نعمة عظمى من عند الله عز وجل إذ تبدأ بالبسملة ثم الحمد لله رب العالمين وفيها تنمية لملكة الحمد عن المسلمين مجتمعين ومتفرقين ، وليكون باب الحمد لله من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ووعاءً ووسيلة لإكتناز الحسنات سواء بالتذكير به ، أو البعث على النطق به أو بالتلفظ به .
(عن أبي أمامة قال : رآني النبي صلى الله عليه وآله و سلم وأنا أحرك شفتي فقال : ما تقول يا أبا أمامة ؟ قلت : أذكر الله قال أفلا أدلك على ما هو أكثر من ذكرك الله الليل مع النهار ؟ تقول : الحمد لله عدد ما خلق ، والحمد لله ملء ما خلق ، والحمد لله عدد ما أحصى كتابه ، والحمد لله ملء ما أحصى كتابه ، والحمد لله عدد كل شيء ، والحمد لله ملء كل شيء وتسبح الله مثلهن ثم قال : تعلمهن عقبك من بعدك) ( ).
الحمد لله الذي لم يجعل حاجزاً أو مانعاً يحول بين العبد وبين الحمد له سبحانه ، فكما جعل الإنتساب والإنتماء إلى الإسلام واجباً مطلقاً غير مقيد بشرط وجعله سالماً من البرزخ والمانع الخارجي الذي يحول دون هذا الإنتساب المبارك مثل الحكام والسلطان فان الله سبحانه تفضل على الإنسان وأصلحه لقول الحمد لله سراً وعلانية وفي الليل والنهار من غير وجود ما يمنع من هذا الحمد ، وهو من مصاديق [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) .
فمن ملك الله عز وجل للأرض خلافة الإنسان فيها وجعله يدرك النعم الإلهية عليه ، ونطقه بالحمد لله من غير عائق أو حاجز ومنه ملازمة الحمد لله لوجود السموات والأرض وشكر الخلائق ومنها الإنسان .
وهل من خصوصية لحمد الإنسان لله عز وجل .
الجواب نعم ، ويتجلى هذا المعنى بتفضل الله عز وجل بالنفخ من روحه في آدم ، وجعل الإنسان مخلوقاً عاقلاً يتصف بالتفكر والتدبر والتدبير ليكون قوله [الْحَمْدُ لِلَّهِ] ( ) مفتاحاً لخزائن البركة ، ومنها فيوضات علوم الآية القرآنية ، بلحاظ أن كل آية من القرآن كنز للمعارف وسبب كريم للرزق والمندوحة فيه ، وهل هذه المندوحة من عمومات قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ) .
الجواب نعم لتتغشى البصيرة المترشحة عن حفظ وتلاوة الآية القرآنية والتدبر في معانيها أمور الدين والدنيا .
الحمد لله الذي أنزل الملائكة مدداً للمسلمين ليتوجه كل مسلم بالحمد والشكر لله عز وجل في الصباح والمساء ، فان قلت إنما نزلت الملائكة يوم معركة بدر وأحد والخندق وحنين ، ومنها قوله تعالى بخصوص معركة أحد [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ) .
والجواب يحتمل النفع من نزول الملائكة مدداً يومئذ وجوهاً :
الأول : إرادة القدر المتيقن وهو أوان معارك الإسلام ، فنزل الملائكة لنصرة المسلمين في ميدان المعارك ثم غادروا عند إنقضاء كل معركة ، لإنذار الذين كفروا بأن الملائكة يعودون مرة أخرى إذا غزا الذين كفروا ديار المسلمين ، وفي التنزيل [وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا]( ).
الثاني : الملازمة بين أيام النبوة ونزول الملائكة فكما إنقطع الوحي بمغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى فان نزول الملائكة للنصرة إنقطع لتبقى آيات القرآن والوقائع التأريخية شاهداً على هذه النعمة ، وليشكر المسلمون الله عز وجل على هذه النعمة .
الثالث : بقاء الملائكة في الأرض لنصرة المسلمين عند تجدد ذات أسباب نزولهم وحيث يشاء الله لأن الله عز وجل إذا أنعم على أهل الأرض نعمة فانه أكرم من أن يرفعها .
الرابع : تفضل الله عز وجل بنزول الملائكة لنصرة المسلمين عند الحاجة .
والمختار هو الثالث والرابع أعلاه ، ليكون من معاني نزولهم تحذير المسلمين من الغلول والأخذ من الغنائم خلسة قبل قسمتها وفيه دعوة للمسلمين للإتعاظ , وتجديد معالم الإيمان في النفوس وعالم الأفعال بما يحكم النية ويضبط الجوارح فلا يأخذ المسلم إلا ما هو حق له .
وقد جاء هذا الجزء وهو السادس والأربعون بعد المائة من تفسيري للقرآن خاصاً بتفسير وتأويل الآية المائة والواحدة والستين من سورة آل عمران [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] ( ).
الحمد لله الذي جعل الغبطة والسعادة تتغشاني وطلبتي فضلاء الحوزة العلمية والمؤمنين عندما صدر الجزء السادس والأربعين قبل نحو عشر سنوات ، ولم نكن نرى الجزء الذي بين يديك والفارق العظيم بينهما إلا بفضل وفيض ولطف من عند الله عز وجل خاصة وأني أقوم بتأليف ومراجعة وتصحيح أجزاء هذا التفسير وكتبي الفقهية والأصولية والكلامية بمفردي ليس من عون ومدد إلا من عند الله عز وجل لبيان أن مدد الله عز وجل من اللامتناهي من جهات :
الأولى : إستدامة وتجدد رشحات نزول الملائكة لنصرة المسلمين في معارك المسلمين الأولى وتحتمل وجوهاً :
الأول : إتحاد رشحات وبركات المدد الملكوتي في معارك الإسلام لوحدة سنخية النازلين والغاية الحميدة من نزولهم .
الثاني : كل مدد ملكوتي في أحد المعارك له رشحات وفيوضات خاصة .
الثالث : تأتي فيوضات ورشحات إضافية متجددة للمدد الملكوتي بدعاء المسلمين وتحليهم بالصبر لقوله تعالى [وَإِنْ تَصْبِرُوا] ( ).
الرابع : من فيوضات المدد الملكوتي تنزه المسلمين عن أخذ الغلول .
وبأستثناء الوجه الأول أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق رحمة الله عز وجل في نزول الملائكة لنصرة المسلمين ، وهو من أسرار مجئ آيات المدد الملكوتي بصيغة المضارع ، فسبحان الله الذي نزّل الملائكة مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتبقى نعمة المدد حاضرة في حياة المسلمين إلى يوم القيامة ينتفعون منها بالذات والأثر المبارك .
الثانية : لقد هبط الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معارك مخصوصة في تأريخ النبوة لتثبيت دعائم الإيمان في الأرض وبناء صرح دولة العدل والحق ، وبعث الناس على أداء الفرائض والعبادات فيكون هذا الهبوط من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )، لبيان قانون وهو أن الله عز وجل يصلح الناس للعبادة ، ومنه بعث الأنبياء والرسل وإنزال الكتب السماوية .
وفاز المسلمون بنعمة وهي هبوط الملائكة لنصرتهم لتكون فيوضات نعمة نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هذه حاضرة في أداء المسلم للصلاة اليومية وإلى يوم القيامة ،ويكون من مصاديق الآية أعلاه أن إصلاح الناس للعبادة لا يختص بالخلق ، إنما يتصل ويستمر اللطف الإلهي لجذب الناس إلى مقامات الهداية والإيمان .
الثالثة : حينما شاء الله عز وجل خلق آدم تفضل وأخبر الملائكة بقوله [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فلم يذكر الله عز وجل ذات خلق آدم ، ولم يقل أني سأخلق آدم ، أو سأخلق خليفة لعلم الملائكة بأن الله عز وجل قادر على كل شيء ، وأنه يخلق ما يشاء بالكاف والنون إنما ذكر خلق الإنسان بصفة الخلافة وهو تشريف وإكرام يلزم الناس الشكر لله عليه , ومن وجوه الشكر تلاوة القرآن بصفة الإيمان , والتفكر في دلالة آياته .
وهل فيه شاهد على أن خلق الإنسان أعم من الخليفة وأن المراد من الخليفة هو المعنى الأخص كما لو إختص بالأنبياء ، الجواب لا دليل على إستقراء هذا التخصيص من مفهوم الآية هذا إنما قد يستفاد من دليل آخر .
وأيهما أعظم وأكثر أثراً نزول القرآن أم هبوط الملائكة , الجواب هو الأول ، فهو الحجة العظمى التي تهدي إلى سواء السبيل ، والشاهد العقلي على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وقد تجري وتقع المقارنة والتفضيل على نحو التفصيل من جهات :
الأولى : التفضيل بين هبوط الملائكة للنصرة في معارك الإسلام وبين نزول آية من القرآن .
الثانية : هبط الملائكة في معركة واحدة من معارك الإسلام، وبين نزول آية من القرآن ، كما في هبوطهم في معركة بدر لقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الثالثة : التفصيل وأن بعض آيات القرآن أكثر أثراً ونفعاً من هبوط الملائكة لنصرة المسلمين .
الرابعة : التفضيل الموضوعي وهو أن الجمع بين آيات قرآنية متعددة في موضوع مخصوص أكثر نفعاً وأثراً .
والمختار أنه ليس من تفضيل بين نعم الله عز وجل مع تعدد وتباين الموضوع لكبرى كلية وهي أن كل نعمة منها عظيمة بالذات والأثر , ومن اللامتناهي .
وإذا كان ولابد من التفضيل في المقام فان هبوط وبقاء الآية القرآنية الواحدة أعظم أثراً ونفعاً من هبوط الملائكة للنصرة في معركة مخصوصة إذ أن الآية كلام الله عز وجل وفيه ديمومة الحياة الإنسانية في الأرض , وفي تلاوتها والتدبر في معانيها الأجر والثواب .
ومنه الآية التي جاء هذا الجزء المبارك من معالم الإيمان في تفسير القرآن في بيان بعض علومها ، وخزائن الدرر التي فيها لتبقى منهلاً للعلماء ومؤدباً للمسلمين .
فان قلت مسألة الغلول والأخذ من الغنائم خلسة ليست إبتلائية لأكثر المسلمين والمسلمات ، إذ تنقضي أيام حياتهم وليس من تعد من الذين كفروا ونشوب معركة معهم , وقد يتم الصلح أو تقع المعركة ولكن ليس من غنائم .
والجواب هذا صحيح ، وهو من فضل الله عز وجل ونوع تخفيف عن المسلمين ، وفيه دعوة لهم للشكر لله عز وجل ، وبيان للناس جميعاً بأن بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
وهل قوله تعالى [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]( ) نسخت مائة آية من القرآن الجواب لا أصل له ، وقد بينّا في أجزاء متعددة عدم ثبوت هذا القول( ) فقد أختص الجزء الثاني والأربعين بعد المائة ببيان عدم نسخ آية السيف لكل من الآيات :
الأولى : قوله تعالى[فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثانية : قوله تعالى[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ…]( ).
الثالثة : قوله تعالى[وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ]( ).
الرابعة : قوله تعالى[لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ]( ).
الخامسة : قوله تعالى[فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ]( ).
السادسة : قوله تعالى[إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ]( ).
وتضمن الجزء الثالث والأربعين بعد المائة بياناً لعدم ثبوت نسخ الآيات التالية:
الأولى : قوله تعالى[وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( ).
الثانية : قوله تعالى[فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ]( ).
الثالثة : قوله تعالى [فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمْ الَّذِي يُوعَدُونَ]( ).
الرابعة : قوله تعالى[فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]( ).

وفيه آية علمية مستحدثة وصفحة مشرقة في علوم القرآن تؤكد وفي زمن العولمة على السماحة في دين الإسلام وأنه لا يدعو إلى السيف والإنتشار به ، وتحتمل آية البحث وجوهاً :
الأول : ندب المسلمين إلى القتال وحيازة الغنائم .
الثاني : بيان قانون من سنن الأنبياء .
الثالث : تأديب المسلمين وإصلاحهم لأمور الرياسة والحكم وهو من مصاديق قوله تعالى [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الرابع : منع الفرقة والشقاق بين المسلمين .
الخامس : التذكير باليوم الآخر ، وما فيه من الأهوال (عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السموات والأرض لوسعت ، فتقول الملائكة : يا رب لمن يزن هذا؟ .
فيقول الله : لمن شئت من خلقي . فتقول الملائكة : سبحانك، ما عبدناك حق عبادتك ، ويوضع الصراط مثل حد الموسى ، فتقول الملائكة : من تنحى على هذا؟ فيقول : من شئت من خلقي . فيقولون : سبحانك . . . ! ما عبدناك حق عبادتك ) ( ).
وباستثناء الوجه الأول فان الوجوه الأخرى من مصاديق آية البحث ، إذ تكون الآية القرآنية واقية وعلاجاً بما يسمى في هذا الزمان بـ (الطاقة الإيجابية ) كما يأتي بيانه في ثنايا هذا الجزء.
إذ تبعث الآية القرآنية المسلم على العمل والتقيد بآداب التقوى وتهب له السكينة وتنمي عنده ملكة الحب في الله والنفرة من القبائح ومنها أخذ الغلول خلسة .
سبحان الله الذي بعث الأنبياء لإصلاح الناس للخلافة في الأرض بآداب التقوى ، وأداء الفرائض والعبادات .
(أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة بين يديها نوى أو حصى تسبح به، فقال: “أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا وأفضل؟” فقال: سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض .
وسبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك”)( ).
سبحان الله الذي جعل علوم آيات القرآن من اللامتناهي سواء بذات الآية أم بصلتها وجمعها مع الآيات القرآنية الأخرى ، ومنها آية البحث التي تطرد القنوط واليأس عن المؤمن ، قال تعالى [وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ] ( ).
وتمنع الآية من الغل لتفتح أبواب الرزق على المسلمين بالتكافل ، وتعاهد معاني الأخوة بينهم ، وهو من أسرار مؤاخاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار ، فان أراد أحدهم أن يأخذ الغلول فان أخاه لا يرضى , وينهاه ويمنعه وإن سبقت يده لأخذ قطعة من الغنائم فان أخاه يقوم باعادتها إلى مجمع الغنائم ، أو يرجعها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد تقسيم الغنائم .
وهل في هذه الإعادة فضيحة وخزي .
الجواب لا ، وهو من التقوى والتوبة ، إنما تكون الفضيحة يوم القيامة بالنسبة لمن يأخذ الغلول ولا يرجعها إذ يحضرها معه يوم القيامة بعلامة وصفة يعرف أهل المحشر أنها غلول .
وتتضمن آية البحث عدم إنتهاء الأمر عند حضور الغلول إنما يكون موضوعاً ومادة في الحساب لقوله تعالى في آية البحث [ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ] ( ) .
وتبين آية البحث إرتقاء المسلمين إلى مرتبة سامية بحيث إبتدأت الآية بخطاب الله عز وجل للمسلمين بالمثل والأسوة بسنة الأنبياء ، وما يدل على خوضهم القتال لمحاربة الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ) .
ومن خصائص الربانيين الذين مع الأنبياء التنزه عن الغلول والأخذ من المال العام للأمور الشخصية ، وفي قوله تعالى بخصوص داود النبي عليه السلام [وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ] ( ) أن الحديد صار بيد داود كالطين المبلول يعجنه كيف يشاء لعمل الدروع من غير إدخاله في نار وضرب بالمطرقة ، وذكر أن سببه (أن داوُد (عليه السلام) لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكراً،
فإذا رأى رجلاً لا يعرفه،
تقدم إليه يسأله عن داوُد،
فيقول له : ما تقول في داوُد واليكم هذا؛ أي رجل هو؟
فيثنون عليه ويقولون : خيراً فينا هو.
فبينا هو في ذلك يوماً من الأيام إذ قيّض الله ملكاً في صورة آدمي،
فلما رآه داوُد تقدم إليه على عادته فسأله،
فقال له : نِعمَ الرجل هو لولا خصلة فيه. فراع داوُد ذلك وقال: ما هي يا عبد الله؟
قال : إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال. قال : فتنبه لذلك،
وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يستغني به عن بيت المال فيتقوت منه ويطعم عياله،
فألان الله له الحديد فصار في يده مثل الشمع،
وعلمه صنعة الدروع،
وكان يتخذ الدروع وإنه أول من اتخذها.
فيُقال : إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف،
فيأكل ويطعم عياله منها , ويتصدق منها على الفقراء والمساكين) ( ).
ومن الإعجاز أن داود لم يصنع السيوف التي تدل على الهجوم والقتل مما ألان له الحديد ولو صنع منها السيوف لأرتفعت قيمتها ، ولكن القتال والفتنة بين الناس تزداد ، فقيد الله عز وجل تسخير نعمة إلانة الحديد له بصناعة الدروع للدفاع والوقاية لقوله تعالى [أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ] ( ) مما يدل على أن الأنبياء يحثون على الدفاع عن بيضة الإسلام حتى مع مجئ النعم التي تساعدهم على النصر والغلبة إن إبتدأوا الكفار بالقتال .
وتبعث صناعة الدروع عند المسلمين الرعب في قلوب الذين كفروا ، والذي يصنع الدروع ووسائل الدفاع يستطيع صناعة السيوف والأسلحة الهجومية .
لقد كان المسلمون في مكة المكرمة قلة مستضعفين ، يلاقون الأذى والعذاب من كفار قريش ، وهل سخرية كفار مكة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتكذيبهم له من الأذى الذي يلاقيه وأهل البيت والمسلمون الأوائل ، أم أن القدر المتيقن من الأذى الذي يأتيهم في المقام خاص بما يلاقونه من الإيذاء البدني والنفسي لأشخاصهم.
الجواب هو الأول ، وكل أذى يلحق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو أذى لأصحابه وكذا العكس ، فان ما يلاقيه المسلمون الأوائل هو أذى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) ( ).
ليكون الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه :
الأول : صدود الملأ من قومه عن المعجزات والآيات الباهرات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا]( ) .
الثاني : إصرار الرؤساء من قوم النبي على عبادة الأصنام مع أنهم مجاوروا البيت الحرام .
الثالث : قيام الملأ من قريش بفرض حصار إقتصادي وإجتماعي على أهل البيت ،لنصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذبهم عنه ، فلا أحد يبيعهم أو يشتري منهم ، ولا أحد ينكح منهم أو يُنكحهم ، وهم من سادات العرب .
ولم تمر الأيام والليالي حتى صار الناس يتشرفون بالإنتساب لهم والتقرب إليهم بالسبب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى] ( ) ولتنتشر ذرية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عموم أقطار الأرض وتنال مقاماً رفيعاً بين المسلمين والناس جميعاً.
الرابع : الإيذاء المباشر لشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وقد شارك أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الإيذاء ليكون سبباً لإغراء السفهاء في إيذائه ، ولصد عامة الناس عن التصديق بنبوته .
فاذا رأى الناس عم النبي يعلن تكذيبه له، ويحثهم على عدم التصديق به فانهم قد يمتنعون عن إتباعه، ولكن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانت قاهرة، كما أنه إختار الهجرة إلى المدينة المنورة لوجود الناصر وللإعراض والإبتعاد عن إيذاء قريش له .
وورد (عن الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) ( ) دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لي: “يا عليُّ، إنَّ الله أمَرَنِي أنْ أُنْذِرْ عَشِيرَتِي الأقْرَبِين.
قال: “فضقت بذلك ذرعا، وعرفت أنى متى ما أنادهم بهذا الأمر أَرَ منهم ما أكره، فصمتُّ حتى جاء جبرائيل،
فقال: يا محمد، إنك إلا تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربك. فاصنع لنا صاعا من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عسا من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب، حتى أكلمهم، وأبلغهم ما أمرت به”،
ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه، فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب; فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به.
فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حِذْية( ) من اللحم فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصحفة( )، قال: “خذوا باسم الله” .
فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة، وما أرى إلا مواضع أيديهم; وايم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد ليأكل ما قدمت لجميعهم.
ثم قال: “اسْقِ النَّاسَ”، فجِئْتُهُمْ بذلك العس، فشربوا حتى رووا منه جميعا، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله.
فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكلمهم، بدره أبو لهب إلى الكلام، فقال: لَهَدَّ ما سحركم به صاحبكم.
فتفرّق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: “الغد يا عليّ، إن هَذَا الرَّجُل قدْ سَبَقَنِي إلى ما قَدْ سَمِعْتَ مِنَ القَوْلِ، فَتفرّق القوم قبلَ أنْ أُكَلِّمَهُمْ فأعِدَّ لَنا مِنَ الطَّعَامِ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ، ثُمَّ اجْمَعْهُمْ لِي”.
قال: ففعلت ثم جمعتهم، ثم دعاني بالطعام، فقرّبته لهم، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة، قال: “اسقهم” .
فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا منه جميعًا، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: “يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، إنِّي والله ما أعْلَمُ شابا فِي العَرَبِ جَاءَ قَوْمَهُ بأفْضَلَ ممَّا جئْتُكُمْ بِهِ، إنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وَقَدْ أمَرَنِي الله أنْ أدْعُوكُمْ إلَيْهِ، فَأيُّكُمْ يُؤَازِرُني عَلى هَذَا الأمْرِ، عَلى أنْ يَكُونَ أخِي”وكَذَا وكَذَا؟
قال: فأحجم القوم عنها جميعا، وقلت وإني لأحدثهم سنا، وأرمصهم( ) عينا، وأعظمهم بطنا، وأخمشهم ساقا. أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك، فأخذ برقبتي، ثم قال: “إن هذا أخي”وكذا وكذا، “فاسمعوا له وأطيعوا”، قال: فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع!) ( ).
(عن ابن عباس قال : لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين}( ) ورهطك منهم المخلصين خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى صعد على الصفا فنادى يا صباحاه . . فقالوا من هذا الذي يهتف؟ قالوا : محمد . فاجتمعوا إليه ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش.
فقال النبي: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ , قالوا : نعم . ما جربنا عليك إلا صدقاً.
قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا! فنزلت { تبت يدا أبي لهب وتب}( )) ( ).
ليكون من إعجاز القرآن نزول الآية أعلاه في ذم أبي لهب وزوجه مع أنه عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان حقيقة وهي علم الله بمغادرة أبي لهب الدنيا وهو مقيم في منازل الكفر والجحود ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : تبت يدا أبي لهب فانه يخسر الدنيا والآخرة ، ومعنى تب : خسر .
الثاني : التحدي بأن أبا لهب لا يؤمن إلى أن يموت، وهل فيه أمارة على قرب أجله , الجواب نعم ، إذ مات في السنة الثانية للهجرة بعد معركة بدر بسبع ليال وهو من الخسران أيضاً ، والحرمان من أيام الدنيا , وما فيها من مناسبة للتدبر والتفكر بالمعجزات والآيات الباهرات .
الثالث : تأكيد لفظ [تبّ] في قوله تعالى[تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( )، لإنذار أبي لهب في نفسه وذريته ونزول العذاب بهم إن إتبعوه على نهجه ، ومن الآيات أن أبا لهب رأى هلاك إبنه عتبة بدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليه بعدما آذاه وأكثر من الإساءة إليه.
(وروى عروة بن الزبير عن رجال من أهل بيته قالوا : كانت بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند عتبة بن أبي لهب فأراد الخروج إلى الشام فقال : الأبتر محمد فلأوذينّه في ابنته فأتاه فقال : يا محمد هو يكفر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى،
ثم تفل في وجهه ورد عليه ابنته وطلّقها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم سلّط عليه كلباً من كلابك قال : وأبو طالب حاضر فوجم لها، وقال :
ما كان أغناك يا بن أخي عن هذه الدعوة. فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره بذلك ثم خرجوا إلى الشام،
فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم : هذه أرض مسبعة،
فقال أبو لهب لأصحابه : أعينونا يا معشر قريش هذه الليلة فإني أخاف على ابني دعوة محمد،
فجمعوا أحمالهم وفرشوا لعتبة في أعلاها وناموا حوله،
فجاء الأسد فجعل يتشمم وجوههم ثم ثنى ذنبه فوثب وضرب عتبة بيده ضربة، وأخذه فخدشه،
فقال : قتلني ومات مكانه. فقال في ذلك حسان بن ثابت :
سائل بني الأصغر إنْ جئتهم
ما كان أنباءُ أبي واسع
لا وسّع الله له قبره
بل ضيّق الله على القاطع
رمى رسول الله من بينهم
دون قريش رمية القاذع
واستوجب الدعوة منه بما
بُيّن للنّاظر والسامع
فسلّط الله به كلبه
يمشي الهوينا مشية الخادع
حتى أتاه وسط أصحابه
وفد عليهم سمة الهاجع
فالتقم الرأس بيافوخه
والنحر منه قفرة الجائع
ثم علا بعدُ بأسنانه
منعفراً وسط دم ناقع
قد كان هذا لكمُ عبرة
للسيّد المتبوع والتابع
من يرجعِ العامَ إلى أهله
فما أكيل السبع بالراجع) ( ).
لقد كانت سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية قدسية عقائدية وأخلاقية لتهذيب عمل المسلمين ، وبعثهم على التعفف من أكل الغلول من جهات :
الأولى : إكثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تلاوة آية البحث .
الثانية : بيان صلى الله عليه وآله وسلم لوجوب التنزه عن أكل الغلول .
الثالثة : التحذير والزجر عن أكل الغلول .
الرابعة : ذكر الغلول وقبحه على المنبر .
الخامسة : إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن سوء عاقبة آكل الغلول يوم القيامة (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الحجر ليزن سبع خلفات ليلقى في جهنم فيهوى فيها سبعين خريفاً ، ويؤتى بالغلول فيلقى معه ثم يكلف صاحبه أن يأتي به وهو قول الله { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة })( ).
السادسة : تأكيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الذين يبعثهم أمراء بلزوم إجتناب الغلول ، ومن الإعجاز في الآية البحث أمور :
الأول : بيان قانون في منهاج النبوة بعصمة الأنبياء من الغلول ، مع أن حال أي نبي يختلف عن غيره من المؤمنين والأتباع لأن له الإمامة والرياسة ، وقد أنعم الله عز وجل عليه بالوحي ، ومع هذا فانه يتساوى مع عامة أفراد جيش المسلمين بالتقيد بوجوب الإمتناع عن أكل الغلول ، ويكون أسوة لهم وللمسلمين ، ليكون من فضل الله عز وجل على المسلمين الإنتفاع الأمثل من سنن الأنبياء والإجتهاد لمحاكاتهم والإقتداء بهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
وهل يبعث إجتناب المسلمين أخذ الغلول الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا , الجواب نعم , من جهات :
الأولى : إمتناع المسلمين عن أخذ الغلول شاهد على صدق إيمانهم ، وخشيتهم من الله وطاعتهم له سبحانه .
الثاني : بيان قانون وهو إنقطاع المسلمين للجهاد في سبيل الله في سوح المعارك .
الثالثة : عدم إنشغال المسلمين بزينة الحياة الدنيا .
الرابعة : رجاء المسلمين حسن الإقامة في الآخرة ، ومنه طلب الشهادة ، ويدل قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ) عدم جعل المسلمين الغنائم غاية لهم في الدفاع عن بيضة الإسلام .
الخامسة : تنزه المسلمين عن الغلول شاهد على الأطلاق الحميدة التي يتصف بها المسلمون ببركة القرآن وأحكام الشريعة الإسلامية ، وفيه ترغيب للناس لدخول الإسلام .
السادسة : إمتناع المسلمين عن أكل الغلول نوع طريق إلى الأخوة بينهم وشاهد عليه وبرزخ دون الفرقة والخلاف بينهم ، قال تعالى [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]( ).
ويمكن تقدير الآية بلحاظ عدد الأنبياء المذكورين في القرآن على وجوه :
الأول : ما كان آدم عليه السلام أن يغل ، وعاش آدم ألف عام ، ودفن في مكة.
الثاني : ما كان إدريس عليه السلام أن يغل ، وإسمه (أخنوخ) وقيل عاش أكثر من ثمانمائة عام .
الثالث : ما كان نوح عليه السلام أن يغل ، وأختلف في عمره كثيراً ، وعن ابن عباس (قال : بعث الله نوحاً وهو ابن أربعين سنة ، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا ) ( ).
و(إن ملك الموت جاءه وهو في الشمس فقال: السلام عليك، فرد عليه نوح عليه السلام وقال له: ما حاجتك يا ملك الموت ؟ فقال: جئت لإقبض روحك، فقال له: تدعني أدخل من الشمس إلى الظل.
فقال له: نعم، فتحول نوح عليه السلام ثم قال: يا ملك الموت فكأن ما مر بي في الدنيا مثل تحولي من الشمس إلى الظل، فامض لما امرت به، قال: فقبض روحه عليه السلام) ( ) .
الرابع : ما كان هود عليه السلام أن يغل , وقيل كان عمره أكثر من أربعمائة سنة .
الخامس : ما كان صالح عليه السلام أن يغل , قال تعالى [فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ]( ).
السادس : ما كان إبراهيم عليه السلام أن يغل ، وقيل بلغ عمره مائتي سنة .
السابع : ما كان لوط عليه السلام أن يغل .
الثامن : ما كان إسماعيل عليه السلام أن يغل ، قال تعالى [وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا]( )، وقيل عاش 137 سنة .
التاسع : ما كان إسحاق عليه السلام أن يغل وقيل بلغ عمره 180 سنة .
العاشر : ما كان يعقوب (اسرائيل) عليه السلام أن يغل ، قيل بلغ عمره 147 سنة .
الحادي عشر : ما كان يوسف عليه السلام أن يغل ، قيل بلغ عمره 110 سنة .
الثاني عشر : ما كان شعيب عليه السلام أن يغل .
الثالث عشر : ما كان أيوب عليه السلام أن يغل ، قيل كان عمره 93 سنة .
الرابع عشر : ما كان ذو الكفل عليه السلام أن يغل .
الخامس عشر : ما كان يونس عليه السلام أن يغل .
السادس عشر : ما كان موسى عليه السلام أن يغل وهو كليم الله وأتاه الله عز وجل آيات ومعجزات متعددة ، قال تعالى [وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا] ( ).
السابع عشر : وما كان هارون عليه السلام أن يغل ، قيل بلغ عمره 122 سنة , ومات في سيناء .
الثامن عشر : وما كان الياس عليه السلام أن يغل .
التاسع عشر : وما كان اليسع أن يغل , قال تعالى[وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنْ الأَخْيَارِ]( ).
العشرون : وما كان داود عليه السلام أن يغل , ومات وعمره مائة سنة .
الحادي والعشرون : وما كان سليمان عليه السلام أن يغل ومات عمره 520 سنة منها 40 سنة في الملك وراثة عن أبيه داود النبي عليه السلام .
الثاني والعشرون : ما كان ليحيى عليه السلام أن يغل .
الثالث والعشرون : ما كان لعيسى عليه السلام أن يغل ، وعمره عندما رفعه الله إليه 33 سنة .
الرابع والعشرون : ما كان لمحمد صلى اله عليه وآله وسلم أن يغل وعمره الشريف 63 سنة .
الحمد لله الذي جعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، في كل زمان ومكان، فليس من مسألة معضلة بعد نزول القرآن وإن كانت مستحدثة، ولقد بينت الآية التي إختص بها هذا الجزء المبارك حرمة الغلول والأخذ من بيت المال، والإستحواذ على المال اعلام خلسة وحيلة ومكراً، فان قلت لم تتضمن الآية النهي بلا تفعل، الجواب قد يأتي النهي بصيغة الجملة الخبرية يرون الإعجاز في آية البحث دلالة الإنذار والوعيد باحضار الذي يغل ما غلّه يوم القيامة على النهي والزجر والتخويف، وفي التنزيل[وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ]( ).
كان علي بن الحسين صلوات الله عليه يعظ الناس ويزهدهم في الدنيا، ويرغبهم في أعمال الآخرة بهذا الكلام في كل جمعة في مسجد الرسول صلى الله عليه واله وحفظ عنه وكتب، كان يقول: أيها الناس اتقوا الله، واعلموا أنكم إليه ترجعون، فتجد كل نفس ما عملت في هذه الدنيا من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا، ويحذركم الله نفسه، ويحك ابن آدم الغافل ، وليس بمغفول عنه ، ابن آدم إن أجلك أسرع شئ إليك، قد أقبل نحوك حثيثا يطلبك، ويوشك أن يدركك، وكأن قد أوفيت أجلك، وقبض الملك روحك، وصرت إلى منزل وحيدا فرد إليك فيه روحك، واقتحم عليك فيه ملكاك: منكر ونكير لمساءلتك وشديد امتحانك، ألا وإن أول ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده، وعن نبيك الذي ارسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن إمامك الذى كنت تتولاه، تم عن عمرك فيما أفنيته ؟ ومالك من أين اكتسبته وفيما أتلفته ؟ فخذ حذرك وانظر لنفسك، وأعد للجواب قبل الامتحان والمسألة والاختبار، فإن تك مؤمنا تقيا، عارفا بدينك، متبعا للصادقين، مواليا لاولياء الله لقاك الله حجتك، وأنطق لسانك بالصواب فأحسنت الجواب، فبشرت بالجنة والرضوان من الله، والخيرات الحسان، واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان، وإن لم تكن كذلك تلجلج لسانك، ودحضت حجتك، وعميت عن الجواب، وبشرت بالنار، واستقبلتك ملائكة العذاب بنزل من حميم وتصلية جحيم( ).
حرر في 30/11/2016
30 صفر الخير 1438

قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] الآية 161.
الإعراب واللغة
وما كان لنبي : الواو : للإستئناف .
ما : نافية .
كان : فعل ماض ناقص .
لنبي : جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر (كان) مقدم .
أن يغل : أن حرف مصدري ونصب .
يغل : فعل مضارع منصوب ، والفاعل ضمير تقديره (هو) والمصدر المؤول من (أن يغل) في محل رفع اسم كان مؤخر.
ومن يغلل : الواو : حرف عطف.
من : اسم شرط جازم مبني في محل رفع مبتدأ .
يغلل : فعل مضارع مجزوم ، وهو فعل الشرط ، والفاعل: ضمير مستتر تقديره (هو).
يأت : فعل مضارع مجزوم ، وهو جواب الشرط ، وعلامة جزمه حذف حرف العلة .
والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) .
بما غل : الباء حرف جر .
ما : اسم موصول مبني في محل جر متعلق بـ (يأت) .
غلّ : فعل ماض مبني ، والفاعل ضمير تقديره (هو).
يوم القيامة : يوم ظرف زمان منصوب متعلق بالفعل (يأت)،
القيامة : مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الكسرة الظاهرة تحت آخره .
ثم : حرف عطف ، توفى : فعل مضارع مبني للمجهول وعلامة رفعه الضمة المقدرة على الألف .
كل نفس : نائب فاعل مرفوع وعلامة رفعة الضمة الظاهرة على آخره .
نفس : مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة .
ما كسبت : ما: اسم موصول مبني في محل نصب مفعول به .
كسبت : فعل ماض ، والتاء: تاء التأنيث الساكنة , والفاعل ضمير مستتر تقديره (هي).
وهم لا يظلمون : الواو للحال .
هم : ضمير منفصل مبني في محل رفع مبتدأ .
لا : نافية .
يظلمون : فعل مضارع مرفوع مبني للمجهول وعلامة رفعه ثبوت النون، الواو: نائب فاعل .
سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة , وهي على شعبتين :
الشعبة الأولى : صلة هذه الآية بالآيات المجاورة السابقة , وهي على وجوه :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة [إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى :الصلة بين الآيتين كالصلة بين الأصل والفرع فمسألة الغل وإخفاء قطعة من الغنائم لا تتم إلا بعد حصول القتال وتحقق النصر .
ليكون من إعجاز النظم والسياق بين الآيتين أمور :
الأول : تنزيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله وفعله ، ومن الآيات أن ما يأتي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الغنائم والخمس يقوم بتوزيعه في الحال .
الثاني : بعث الغبطة في نفوس المسلمين لبشارة الآية السابقة بالنصر، وحينما يتلو المسلم قوله تعالى [وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ] من بعده يخشى الحرمان من نصرة الله مع إدراك الحاجة إليها في كل أوان ، فتفضل الله عز وجل وجاءت آية البحث متعقبة لها لبعث الرضا والسرور في نفوس المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ] ( ) .
ليكون التحذير من ترك نصرة الله للمسلمين محاطاً بالبشارة بالنصر، والإخبار عن جلبهم الغنائم، وفيه دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل، وهل هذا الشكر من مصاديق الدعاء والتضرع بتحقق النصر والغلبة للمسلمين ودفع الترك والخذلان عن الموجود واللاحق منهم .
الجواب نعم، وهو من مصاديق قوله تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( )، بلحاظ أن تجدد النصر للمسلمين بعد معركة بدر من الزيادة أعلاه، وكذا محو الخذلان عنهم.
وتقدير الآية السابقة على وجوه:
أولاً : لئن شكرتم ينصركم الله كما نصركم في المعارك السابقة.
ثانياً : لئن شكرتم لا يخذلكم الله.
ثالثاً : إن توكلتم على الله وأنتم مؤمنون ينصركم الله ولن يخذلكم.
الثالث : بيان حقيقة وهي أن معارك تنتظر المسلمين في دفاعهم ضد الذين كفروا، وأن النصر حليف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فيجب التنزه عن أخذ الغلول.
وقد تقدم في الجزء السابق أن النصر الوارد في الآية السابقة مطلق , فهل يختص إحتمال الخذلان من عند الله المذكور في آية البحث بسوح المعارك .
الجواب لا، إنما هو أعم، وفيه مسائل:
الأولى : تنبيه وتحذير المسلمين.
الثانية : بيان عظيم فضل الله عز وجل على المسلمين.
الثالثة : بعث المسلمين على اليقظة والفطنة بالإلحاح بالدعاء وسؤال النصر من عند الله عز وجل، وبيان أن الدعاء عمل وكسب، وفيه خير كثير، وهو وسيلة وسلاح لدفع الأذى والضرر، وهل هو من مقدمات ومصاديق صرف ومحو الضرر الوارد في قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ) .
الجواب نعم، وتلك آية في بديع صنع الله عز وجل وإكرامه للمسلمين بسلامتهم من الكيد ومكر العدو الكافر بإختيارهم الدعاء منهاجاً، ومنه تقبل الله عز وجل لصبرهم وجهادهم في سبيل الله , قال تعالى[وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا]( ).
وفي دعاء إبراهيم وإسماعيل[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( )، ويحتمل سؤال إبراهيم وإسماعيل قبول الله لعملهما وجوهاً :
الأول : قبول بناء البيت، وعن ابن عباس: جاء إبراهيم وإسماعيل يبري نبلا قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر.
قال : فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا! وأشار إلى الكعبة، والكعبة مرتفعة على ما حولها .
قال، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت. قال: فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: “ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم”( )، حتى دور حول البيت)( ).
الثاني : قبول دعوتهما الناس لحج بيت الله الحرام , قال تعالى في خطاب لإبراهيم[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
الثالث : إرادة تقور وصدق إيمان إبراهيم وإسماعيل.
الرابع : جهاد إبراهيم وإسماعيل في سبيل الله، وهل منه ترك إبراهيم لإسماعيل وأمه هاجر عند البيت الحرام من غير مؤونة أو زرع أو كسب أو ماء جار لولا رحمة الله ببئر زمزم، الجواب نعم.
الخامس : الأجر والثواب لذرية إبراهيم بجهاده.
السادس : إرادة قيام إبراهيم وإسماعيل بتبليغ أحكام النبوة، وسنن الوحي، والدعوة إلى الله.
السابع : مجئ الثواب إلى إبراهيم عليه السلام من سعي وجهاد إسماعيل في سبيل الله، وتقديره على وجوه :
أولاً: سؤال ابراهيم قبول عمله.
ثانياً : دعاء إبراهيم قبول عمل إبنه إسماعيل .
ثالثاً : سؤال ابراهيم قبول سعيه وجهده ونبوته وأبوته في عمل إسماعيل عليه السلام .
رابعاً : رجاء إبراهيم وإسماعيل الأجر والثواب على عملهما المشترك .
خامساً : دعاء إسماعيل لقبول عمله , سواء عمله مع إبراهيم في بناء البيت الحرام، أو عمله وجهاده على نحو الإتحاد مع إبراهيم أو الإستقلال، وعمله وجهاده بعد إنتقال إبراهيم عليه السلام إلى الرفيق الأعلى.
الثامن : سؤال إبراهيم وإسماعيل قبول دعائهما في ذريتهما، وفوزهما بالثواب من عمل المسلمين .
التاسع : دعاء إبراهيم واسماعيل لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لورود الآية التالية لآية رفع قواعد البيت بقوله تعالى[رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ]( ).
وهل كان إبراهيم وإسماعيل يتلقيان الوحي على نحو الإشتراك أم المتعدد ، الجواب هو الثاني ، فكل نبي له وحي خاص من عند الله ، وهذا لا يمنع من إتحاد الوحي بينهما في موضوع مخصوص بفضل من الله عز وجل ، وهو الواسع الكريم ، واستقلال الوحي لكل منهما عون لهما للإجتهاد في الدعاء الجامع لهما والمستقل لكل منهما .
ويحتمل الضمير (نا) في (ربنا) و(تقبل منا ) وجوهاً :
الأول : إرادة عمل إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في رفع قواعد البيت الحرام .
الثاني : قبول أعمال وجهاد كل من إبراهيم وإسماعيل على نحو مستقل .
الثالث : المقصود من الضمير (نا) أعم ويشمل الذين يحجون البيت الحرام والمسلمين .
والمختار هو الأخير لأصالة الإطلاق في الدعاء ، ليكون من أسرار دعاء الأنبياء قانون جني النفع والثواب منه إلى يوم القيامة ، وهو من الإعجاز في توثيقه في القرآن ، الكتاب الخالد الباقي في رسمه وتلاوته والتعبد به من قبل الناس إلى يوم ينفخ في الصور .
وفيه ترغيب للمسلمين بالدعاء والإعتقاد بأن نفعه باق ومتجدد إلى يوم القيامة ، وفيه حث على الإجتهاد في الدعاء ورجاء الأجر والثواب على الدعاء والمسألة من عند الله .
ولا يختص الثواب باكتناز الحسنات في الآخرة بل يأتي بالرزق الكريم ، والصلاح في الذرية والأبناء( ) ، وقيام إبراهيم وإسماعيل ببناء البيت الحرام شاهد على تنزههما عن أكل الغلول لأن هذا البناء جهاد وعمل في سبيل الله من غير إرادة ربح أو كسب في الدنيا .
وفيه دعوة للمسلمين والمسلمات لإقتباس الإمتناع عن أكل الغلول بالإنقطاع إلى الله في أداء مناسك الحج وإجتناب الجدال والخصومة بسببه ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ] ( ).
المسألة الثانية : بعث المسلمين للتطلع إلى النصر والظفر بالعدو الكافر فضلاً ورحمة من عند الله عز وجل ، فان قلت قد حصل نصر للمسلمين في معركة بدر ، فهل يرجو ويتطلع المسلمون إلى نصر آخر .
الجواب نعم ، وهو الذي تدل عليه كل من آية البحث والسياق بصيغة الفعل المضارع ، وتحث آيات القرآن المسلمين على الشوق إلى تحقيق النصر ، ترى ما هي الحقائق التي تتجلى من صيغة المضارع [إِنْ يَنْصُرْكُمْ] فيه وجوه :
أولاً : تأكيد فضل الله عز وجل على المسلمين ، ويحتمل نصر الله من جهة متعلق فضل الله وجوهاً :
الأول : النصر فضل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والصحابة الذين معه في ميدان المعركة ، قال تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ] ( ) .
الثاني : نصر الله فضل من الله على المسلمين في أيام البعثة النبوية .
الثالث : إنتفاع الرجال والنساء من الصحابة الأمثل من فضل الله بالنصر، لذا جاءت آيات النصر بصيغة الخطاب على نحو العموم الإستغراقي للمسلمين، كما في قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، والمختار أن المراد من جهة الخطاب في الآية أعلاه عموم المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة( ).
الرابع : نصر الله فضل على المسلمين والمسلمات الموجود والمعدوم الحي والميت والذي لم يولد بعد .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية السياق ، والشواهد على لزوم الإمتناع عن أخذ قطعة من الغنيمة غيلة وخفية.
ثانياً : صيرورة المسلمين في حال سعة وسراء وغنى .
ثالثاً : دعوة المسلمين للإجتهاد بالدعاء للفوز بالنصر والغلبة على الذين كفروا .
ومن أسبابه الغنائم التي وردت إلى المدينة وأكثر تلك الغنائم كانت في معركة حنين .
ويحتمل الإمتناع عن أكل الغلول الذي تأمر به وتدل عليه آية البحث وجوهاً :
الأول : تنزه المسلمين عن أخذ الغلول عن أسباب السعة والغنى عندهم .
الثاني : إنه من مصاديق الغنى لأن أموال الغنائم توزع بينهم بالتساوي .
الثالث : إجتناب الأخذ خلسة من الغنائم من رشحات حال السعة والغنى عند المسلمين ، إذ يرى المسلم عدم الحاجة إلى الغلول ، ولا يخشى الفقر والفاقة .
الرابع : تنزه المسلمين عن أكل الغلول ، أنما هو إستجابة لأمر الله عز وجل الذي تدل عليه مضامين آية البحث .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، والأصل هو الوجه الأخير أعلاه ، لتتفرع عنه الوجوه الأخرى أعلاه وما لا يحصى من المنافع ، ومن إعجاز القرآن أن ما فيه من الأوامر خير محض ، ونفع دائم ومتجدد ، وهو من معاني الصيغة العقلية لإعجازه .
ثالثاً : من معاني صيغة المضارع في قوله تعالى [إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ] ( ) تجدد وتعاقب النصر ، بحيث ينصر الله عز وجل المسلمين فيجتنبوا الغلول فيأتيهم النصر من جديد مرة أخرة كفرع للنصر الأول ، الجواب نعم ، وتلك معجزة في السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكأن آية البحث تقول للمسلمين إجتنبوا الغلول كي ينصركم الله عز وجل مرة أخرى بفضل ومدد منه سبحانه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية إجتهاده في الدعاء عشية ونهار المعركة وسؤال النصر من عند الله، ليكون دعاؤه في هذه الساعات تعليماً وإرشاداً للمسلمين، وبياناً لقانون بأن النصر لا يتحقق بكثرة الأفراد والسلاح والخيل وحدها، إنما يأتي النصر بالدعاء الذي يكون على وجوه :
الأول : الدعاء وسؤال النصر تسليم بأن مقاليد الأمور بيد الله عز وجل، وهو الذي يهب النصر للمسلمين، وهو من مصاديق وعمومات قوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الثاني : في الدعاء تقريب للنصر.
الثالث : يقلل الدعاء الخسائر عند المؤمنين.
الرابع : يزيد الدعاء في الغنائم .
الخامس : من منافع الدعاء ترغيب المسلمين بقراءة آية البحث، وبعثهم على التدبر في مضامينها، والتقيد بأحكامها.
السادس : الدعاء واقية للمسلمين من الغلول، وهل تختص الوقاية في المقام بالذي يدعو الله بهذا الخصوص أم يشمل حتى الذي لا يدعو الله الإحتراز من الغلول، الجواب هو الثاني، وهو من فضل الله عز وجل وسعة رحمته بالمسلمين.
وهل يجنب الدعاء المسلمين الغلول , الجواب نعم وهو من مصاديق قوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، وتقديره على وجوه:
الأول : إدعوني للنصر أستجب لكم.
الثاني : إدعوني لكثرة الغنائم أستجب لكم.
الثالث : إدعوني للحصانة من الغلول أستجب لكم.
وعن كعب قال: أعطيت هذه الأمة ثلاث خصال لم يعطها إلا الأنبياء ، كان النبي يقال له : بلغ ولا حرج ، وأنت شهيد على قومك ، وادع اجبك . وقال لهذه الأمة { ما جعل عليكم في الدين من حرج}( ) وقال {لتكونوا شهداء على الناس}( ) وقال {ادعوني أستجب لكم}( ))( ).
المسألة الثالثة : لقد جاءت آية السياق بصيغة الجملة الشرطية [إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ] ( ) أما آية البحث فوردت بصيغة الجملة الخبرية وبيان قانون من حياة الأنبياء ، بامتناع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين عن الغل والأخذ خفية من الغنائم .
وهل قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] ( ) من مصاديق قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ) الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن بأن يأتي موضوع مستقل ويتضمن تأديب المسلمين ، وهدايتهم إلى سبل الصلاح بالإمتناع عن سوء الظن وعن السرقة والغيلة ، وأخذ الغلول ليكون من معناه أنه يحكي قصص الأنبياء ، وأسرار حياتهم التي كانت تتقوم بسنن التقوى والفلاح .
ويكون من معاني الجمع بين آية البحث والسياق : إن ينصركم الله كما نصر الأنبياء السابقين ) وفيه آية في إتحاد سنخية الإيمان وتوارث الأنبياء والمؤمنين النصر والغلبة على الذين كفروا .
وهل يمكن القول أن الأنبياء كان بإمكانهم الغلول والأخذ خفية من الغنائم لو أرادوا ولكنهم إمتنعوا عن هذا الفعل , الجواب نعم ، وفيه مسائل:
الأولى : تأديب المسلمين بأنهم إن صار بإمكانكم الغلول فلا تقدموا عليه لأنه فعل قبيح بالذات ، وقد سبق وأن تنزه الأنبياء عنه.
الثانية : الأنبياء بشر تحصنوا بالوحي وأسمى مراتب التقوى وفي خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال الله تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ).
الثالثة : الغلول مسألة إبتلائية مصاحبة للأنبياء والمؤمنين في كل زمان، قد تفضل الله عز وجل بعصمة الأنبياء منها , وتدعو أية البحث المسلمين الإمتناع عنه .
الرابعة : إصلاح المسلمين للدفاع عن الأنبياء، ومنع الإفتراء عليهم من قبل الذين كفروا.
وأيهما أكثر أثراً في حياة المسلمين وإصلاحهم للإمتناع عن الغلول :
الأول : آية البحث وما فيها من بيان لزوم الإمتناع عن الغلول .
الثاني : تنزه الأنبياء عن الغلول .
الثالث : النصوص والأخبار الواردة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص النهي عن الغلول وبيان قبحه.
الجواب لا تصل النوبة إلى هذا التفاضل والترجيح , وإذا كان لابد من الترجيح فان الآية القرآنية هي الأكثر أثراً ونفعاً .
المسألة الرابعة :لقد وعد الله عز وجل المسلمين بأنه لا غالب لهم ، ولا يستطيع أحد الإنتصار عليهم في معارك القتال ، ومن وجوه عصمة المسلمين من الخسارة الفادحة والهزيمة إمتناعهم عن أخذ الغلول وعن التعدي على الحقوق العامة وبيت المال ، ولو قام عدد من المسلمين بأخذ الغلول فهل يكون هذا الأخذ سبباً لحصول غلبة العدو الكافر عليهم لقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] ( ) .
الجواب لا , من وجوه :
أولاً : مجئ الوعد من عند الله عز وجل بعدم وجود غالب للمسلمين مطلقاً من غير تقييد , ويقال في علم الأصول ما من عام إلا وقد خصّ , ولعل المراد أمور الدنيا والمسائل الإبتلائية للناس إذ أنه ليس قانوناً كونياً، فهناك عمومات محفوظة من بديع صنع الله وعظيم قدرته وإحاطته بكل شيء علماً , منه قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
ومنه قوله تعالى[وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ]( )، إذ تفيد الآية العموم والإطلاق، فمع كثرة عدد الأنبياء وطول أعمار بعضهم، فلم يقم أحد منهم بأخذ الغلول، وهل يرث النبي السابق النبي اللاحق تلك الخصلة الحميدة، الجواب نعم، ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ]( ) وراثة السلامة من أكل الغلول.
ثانياً : جاءت البشارة للمسلمين بالنصر والغلبة بصيغة العموم [إِنْ يَنْصُرْكُمْ] بينما ورد المنع من أخذ الغل وحضور وإحضار الغلول على نحو القضية الشخصية .
وفيه إعجاز وتحد لبيان أن الذين أقدموا على الغلول على فرض وقوعه أفراد وعدد قليل , بلحاظ مجموع أعداد المسلمين والمجاهدين منهم خاصة.
ثالثاً : تبعث آية السياق المسلمين على الدعاء لتقريب وتحقيق النصر بينما جاءت آية البحث للزجر عن أكل الغلول ، والإمتناع عن أكل الغلول وسيلة مباركة لتقريب النصر.
رابعاً : يحدث الغلول على فرض وقوعه بعد تحقق النصر ، ويعلم الله عز وجل بوقوعه قبل أن يقع , فجاءت آية البحث تحذيراً سابقاً لأوان المعركة والنصر ليستعد لها المسلمون بالعزم على التنزه عن أكل الغلول.
خامساً : وردت آية البحث بالإخبار بصيغة النفي والقطع بأنه ليس من نبي من الأنبياء أكل الغلول وأخذ خفية من الحق العام والغنائم مع عظيم منزلته بين المؤمنين.
لقد كان عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرين ألفاًً، وجاءت آية البحث لتخبر عن عصمتهم مجتمعين ومتفرقين عن أكل الغلول والأخذ خفية من الغنائم ، وهو من إعجاز آية البحث إذ تتألف من بضع كلمات لتخبر عن قانون يحكم سيرة الأنبياء ويؤكد خصلة كريمة يشترك فيها كل الأنبياء ، وهي سلامتهم وعصمتهم من أخذ الغلول ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل تشمل أبا البشر آدم لأنه نبي أم لا تشمله لعدم وجود غنائم في أيام حياته .
الثانية : هل يشمل أول آية البحث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
أما الأولى فالجواب نعم ، لأصالة العموم في آية البحث والذي تدل عليه صيغة التنكير في الآية ، ليكون من معاني قوله تعالى[وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( )، بشارة الأنبياء بالثواب والأمن يوم القيامة للمؤمن الذي لم يغل , والإنذار للذي يغل ويسرق .
وهل يعني هذا أن آدم لو جاءته غنائم فانه لا يغل .
الجواب نعم ، ولكن المراد تنزه آدم عليه السلام عن مفاهيم الغل والسرقة وإخفاء قطعة من الكسب ، وهل يكون تقدير الآية بخصوص آدم عليه السلام ، لو كانت هناك ثمة غنائم في زمن آدم فانه لا يغل) .
الجواب نعم ، ولكنه ليس المضمون الوحيد للآية وبهذا الخصوص ، إنما تبين الآية الإخبار من عند الله بأن العصمة من أكل الغلول ملكة عند كل نبي ، وهي جزء من الكيفية النفسية والسمو والرفعة عنده .
ومن خصائص آدم أن الله عز وجل خلقه ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وكلمه قبلاً .
(عن أبي ذر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المسجد فجلست. فقال: “يا أبا ذر هل صليت؟” قلت: لا. قال: “قم فصل” .
قال: فقمت فصليت ثم جلست فقال: “يا أبا ذر تَعَوَّذ بالله من شر شياطين الإنس والجن” قال: قلت: يا رسول الله أوللإنس شياطين؟ قال: “نعم” .
قلت: يا رسول الله الصلاة؟ قال: “خير موضوع من شاء أقل ومن شاء أكثر”. قال: قلت: يا رسول الله فالصوم؟ قال: “فرض مُجْزِئ وعند الله مزيد” قلت: يا رسول الله فالصدقة؟ قال: “أضعاف مضاعفة، قلت: يا رسول الله فأيها أفضل؟ قال: “جهد من مقل أو سر إلى فقير.
قلت: يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟ قال: “آدم” قلت: يا رسول الله ونبي كان؟ قال: “نعم نبي مكلم” قال: قلت: يا رسول الله كم المرسلون؟ قال: ثلثمائة وبضعة عشر جمًّا غفيرًا” وقال مرة: “وخمسة عشر قال: قلت: يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم؟ قال: آية الكرسي { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ }( )( ).
أما الثانية فالجواب تشمل الآية النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : دلالة أسباب النزول على عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أكل الغلول .
الثانية : النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم الأنبياء وبفعله تتجلى معالم النبوة .
الثالثة : كل عمل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان مرآة لسنن الأنبياء .
الرابعة : سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة للمسلمين والناس لإستحضار هذه السنن والعمل بمضامينها المباركة , وهو من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، وتلاوة المسلمين له مرات متعددة كل يوم .
الخامسة : تقدير آية البحث ، ما كان لنبي أن يغل ، فيا أيها الذين آمنوا كونوا كالأنبياء وتنزهوا عن الأخذ غيلة من الغنائم .
ومن الإعجاز في آية البحث الزجر عن الغلول بالتذكير بيوم القيامة وبيان صفحة من علم الغيب ، وأهوال الآخرة بأن يحضر الذي يأكل الغلول ومعه ما أخذ من الغنائم وأموال المسلمين خلسة والذي سخّر مقامه وشأنه وأمانته على هذه الأموال للإستحواذ عليها , ولو على نحو السالبة الجزئية .
فبخصوص الدنيا تذّكر الآية بسنة الأنبياء وتدعو المسلمين للإقتداء بها ، وبخصوص الآخرة تبين حال الذين يأخذون الغلول وما يتعرضون له من الخزي والفضيحة بين الخلائق من الحرج والفضيحة والحساب على الغلول يومئذ .
وتنمي آية البحث الصبر عند المسلمين ، وتحثهم على الرضا بما قسم الله لهم من الفوز بالثواب العظيم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أول من يدخل الجنة من خلق الله تعالى ، فقراء المهاجرين الذين تسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ، فيقول الله تعالى لمن يشاء من الملائكة : ائتوهم فحيوهم . فتقول الملائكة : ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك ، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟! . . . قال الله تعالى : إن هؤلاء عبادي كانوا يعبدونني في الدنيا ولا يشركون بي شيئاً ، وتسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ، فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب { سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار }( ).
الصحيح هو الثاني لذا ذكرت الكسب والحساب بقوله تعالى [ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ] ( ) .
المسألة الخامسة : من معاني الجمع بين آية البحث وآية السياق أن مجئ النصر من الله عز وجل للمسلمين في ميدان المعركة وخارجها ليس برزخاً دون وقوف الذي يأخذ من الغنائم غيلة للحساب بين يدي الله عز وجل .
فان قلت يقف الناس للحساب يوم القيامة سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين وسواء أخذ المسلم من الغنائم خلسة أم لم يأخذ.
الجواب هذا صحيح ، ولكن المراد هو الوقوف للحساب بخصوص أخذ الغلول ، وإن كانت الآية أعم من هذا الوقوف ، إذ ذكرت حضور الذي يغل ومعه ما أخذه خلسة كعقد وقلادة من الذهب ، أو خاتم من الفضة او سيف أو درع أو بيضة( ) .
ليبعث الجمع بين الآيتين على إستحضار المسلم لعالم الحساب في كل فعل يقدم عليه ، فيبادر إلى إتيان الصالحات ، ويتجنب فعل السيئات ، ويلجأ إلى الإستغفار كل يوم .
وعن عبد الله بن مسعود قال (كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدُهم ذنبًا أصبح قد كُتب كفارة ذلك الذنب على بابه، وإذا أصاب البول شيئًا منه قرضه بالمقراض .
فقال رجل: لقد آتى الله بني إسرائيل خيرا -فقال عبد الله: ما آتاكم الله خيرا مما آتاهم، جعل الماء لكم طهورًا، وقال: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ }( ) وقال { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا })( ).
لقد ذكر الله عز وجل نصر المسلمين لبعثهم على الشكر له سبحانه ، وهذا الشكر واقية من الغلول وصرف وإنصراف عنه ، وهو من الإعجاز في سياق الآيات بأن تأتي آية بشارة ونصر عام ثم يأتي ذكر شخصي قبيح , وفيه بيان لقانون وهو أن الفضل الإلهي على المسلمين يجب أن يكون زاجراً للمسلم عن القبيح وإرتكاب السيئات ، وهذا الزاجر دعوة للمسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بخصوص حال السلم والحرب .
المسألة السادسة : من معاني الجمع بين آية البحث والآية السابقة دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة إنعدام الغالب لهم من أهل الأرض، ويتجلى الشكر في المقام بالنزاهة عن أخذ قطعة من الغنائم خلسة وبقصد الإستيلاء عليها قبل القسمة بين المسلمين ، بحيث يأخذ هذا الغال سهمه وحصته من الغنائم أيضاً وكأنه لم يغل ، ويكون تقدير الجمع بينهما بصيغة الجمع على وجوه :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا لا غالب لكم فلا تغلوا .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا لا تغلوا كي لا يكون لكم غالب .
الثالث : يا ايها الذين آمنوا لا غالب لكم وإن غللتم .
أما الوجه الأول فصحيح ، وفيه دعوة للمسلمين لسؤال النصر من عند الله ، والعصمة من الهزيمة ، وأما الوجه الثاني والثالث فان إنتفاء الغالب للمسلمين فضل ورحمة من عند الله عز وجل .
ولابد من التفكيك بين نصر المسلمين ومسألة الغل ، وهو الذي تدل عليه آية البحث وصيغة الإنذار فيها بأن الغلول يحضره صاحبه معه يوم القيامة .
ويمكن قراءة الآية بصيغة المفرد من جهة التكليف : يا أيها الذي آمن لقد نصركم الله فلا غالب لكم فلا تغل ولا تسرق من الغنائم .
وهذا المعنى من الإعجاز في مجئ الآية السابقة بالإخبار عن نصر المسلمين وعدم وجود غالب لهم ، وفيه طرد الوهم والظن عند المسلم بأنه قد تأتي أيام صعبة يغلب فيها الذين كفروا ويحتاج معها إلى التعجيل بالغل والسرقة من الغنائم للإدخار والخشية على العيال , قال تعالى[نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ]( ).
فجاء الجمع بين نصر الله للمسلمين وإنتفاء الغالب لهم بعث السكينة في نفوسهم برزق كريم متصل من عند الله عز وجل ، لذا جاءت آية البحث بصيغة الفعل المضارع , والإخبار عن تجدد جلب الغنائم فلم تقل الآية ( ومن غّل يأت بما غل يوم القيامة) وإرادة ما مضى من الغلول , إنما جاءت بالإخبار عن إحتمال وقوع الأخذ من الغنائم خلسة في المستقبل ، أي ستكون هناك غنائم للمسلمين فلا يغل أو يأخذ منها أحد لأن الغلول يحضره صاحبه معه ، لبيان أن الذي يخفي قطعة من الغنائم في الدنيا لا يستطيع أن يغلها ويخفيها يوم القيامة ، وكأنه دين برقبته وهل فيه ثقل ووطأة عليه في البرزخ ويوم القيامة , ففيه وجوه :
الأول : إختصاص الثقل بما إذا كان الغلول ثقيلاً كما لو أخذ دابة أو جارية ، وعن بعض الأعراب (أنه سرق نافجة مسك ، فتليت عليه الآية فقال : إذاً أحملها طيبة الريح خفيفة المحمل) ( ) وقوله هذا ليس بتام إنما تكون ثقيلة عليه لشدة وطأتها كغلول كمعصية إلا أن يشاء الله .
الثاني : عموم ثقل الغل وإن كان خفيف الوزن كالقطعة من الذهب لأن هذا الإحضار عقوبة .
الثالث : ليس من ثقل مادي في الغل لأنه يحضر على نحو الإستقلال وليس على ظهر المسلم , ولكن وطأته وثقله على النفس أشد , وليس من يواسي صاحب الغل , قال تعالى [يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ]( )، وجاءت آية البحث لمنع صيرورة الغل موضوعاً لإنشغال وفزع المسلم يومئذ .
والمختار هو الثاني , وفيه فضل من الله عز وجل على المسلم في الدنيا وإنذار وتحذير له ، وسيأتي فريد كلام في تفسير قوله تعالى [وَمَنْ يَغْلُلْ] ، بينما ذكرت الآية آية السياق بشائر النصر للمسلمين وتنجزه .
ومن خصائص الإيمان مصاحبة الطمأنينة له بخصوص الرزق الكريم ، وكان المشركون يخوّفون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ويتوعدونهم بالبطش بهم ، وبانتقام آلهتهم والأصنام التي يدعونها جهلاً وعناداً ، وفي التنزيل [وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ] ( ) .
فان قلت قد ورد قوله تعالى [إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا] ( ) والجواب موضوع الهلع أعم , وقد ورد إستثناء المؤمنين في ذات الآية أعلاه من الهلع ومن المنع والشح ، قال تعالى [إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا *إِلاَّ الْمُصَلِّينَ ] ( ) ليكون من مصاديق الإستثناء أعلاه الإيمان ومنافع الصلاة والمواظبة عليها وإمتناع المؤمنين عن أخذ من الغنائم والسلب خفية وبدون حق.
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (إن يمين الله مَلأى لا يَغِيضُها نفقة، سَحَّاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يَغِض ما في يمينه” قال: وعرشه على الماء )، وفي يده الأخرى القبْض، يرفع ويخفض)( ).
المسألة السابعة : تضمنت آية البحث التخويف والإنذار من خذلان الله عز وجل للمسلمين ، وتركهم في أشد أوقات الحاجة والضيق وهي ساعة القتال ، ولمعان السيوف ، ويبذل كل فريق الوسع لتحقيق النصر ، فتفضل الله وهدى المسلمين إلى قانون ثابت في الحياة الدنيا من جهتين :
الأولى : النصر بيد الله عز وجل , وفي التنزيل [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] ( ).
الثانية : إحتجاب النصر عمن يخذله الله عز وجل .
وفيه دعوة للمسلمين للإجتهاد في طاعة الله رجاء النصر ، والإمتناع عن فعل المعصية خشية منع الله عز وجل تأييده ونصره .
وجاءت آية البحث لبيان مصداق لهذا الإمتناع بأن لا يأخذ المسلم من الغنائم خفية ، ومن غير أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا أمراء السرايا ، ليكون هذا الإمتناع واقية من خذلان الله عز وجل للمسلمين .
وتقدير الآية : يمتنع المسلمون عن الغل من الغنائم فينعم الله عز وجل عليهم بعدم الخذلان , ومن معاني مجئ آية السياق بصيغة الجملة الشرطية الإخبار بأن تنزه المسلمين عن أكل الغلول مقدمة للنصر ، ووسيلة لتقريبه من جهات :
الأولى : نزول النصر والبركة على الذين آمنوا وتعاهدوا طاعة الله ورسوله ، وهو من مصاديق الرحمة في قوله تعالى وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
الثانية : بعث المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حفظ الغنائم كوديعة لحين القسمة .
الثالثة : ترشح معاني التفاني والفداء عن الأمانة والإخلاص ليكون حفظ الغنائم وتسليماً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عمومات قوله تعالى [أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]( ).
المسألة الثامنة : لو خذل الله عز وجل المسلمين فلا ناصر لهم ، وليس من غنائم تقع في أيديهم ، فيكون الغلول سالبة بانتفاء الموضوع ، فاختار الله عز وجل للمسلمين النصر والغلبة مع الأمن من الخذلان والترك من عنده سبحانه .
ولو خيّر أي مسلم بين النصر والغنيمة مع إجتناب الغلول وبين خذلان الله والحرمان من النصر والغنائم ، فإنه يختار الأول، وجاءت آية البحث للهداية إليه ، وجعل النصر بلغة وغاية والإمتناع عن أكل الغلول طريق إليه ، واقية من الخذلان والهزيمة ، ليتجلى فيه قانون وهو أن الآية القرآنية سبيل هداية للنصر والغلبة على الأعداء ووسيلة سماوية مباركة لتثبيت الإيمان في الأرض . وفيه دعوة للتدبر والتفكر في آيات القرآن ، ومعاني التأديب والصلاح فيها ، قال تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] ( ).
المسألة التاسعة : لقد أخبرت الآية السابقة المسلمين بأن النصر أمر عظيم ورحمة مزجاة من عند الله مع بيان قانون وهو إذا خذل الله عز وجل قوماً أو أمة فليس لهم ناصر من دون الله إذ أن الناصر هو الخاذل ، والمعز هو المذل , ولأن الله عز وجل أخبر عن قانون ملازمة العز للمؤمنين فضلاً منه , وفي التنزيل [قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ] ( ) .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها لم تأت بصيغة الجملة الخبرية بل بلغة الأمر والدعاء لتكون تلاوتها رجاء وسؤالاً من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لنيلهم مرتبة العز وإقامتهم فيها إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) وهل منه مضامين آية البحث , الجواب نعم من جهات :
الأولى : دلالة آية البحث بالدلالة التضمنية على تحقيق المسلمين النصر في معارك لاحقة لمعركة بدر ، وهل هو من الإستصحاب وفق الإصطلاح الأصولي .
الجواب نعم لوحدة الموضوع في تنقيح المناط , وتأكيد فضل الله على المسلمين بالمدد والنصر من عنده سبحانه .
الثانية : تكرار لفظ [يَنْصُرْكُمْ] في الآية مرتين ، وإدراك المسلمين لقانون وهو إنحصار النصر بيد الله عز وجل وحده .
الثالثة : دخول الإسلام ، والتحلي بالإيمان مرتبة عظيمة من العز والفخر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الرابعة : نصر الله عز وجل للمسلمين خذلان وذل للذين كفروا ، ويكون تقدير الآية أعلاه من سورة آل عمران : يعز الله المسلمين بالنصر , ويذل الذين كفروا بالهزيمة والخيبة و الخسران .
الخامسة : عصمة المسلمين من أخذ الغلول عز لهم في النشأتين.
السادسة : حرص المسلمين على وراثة الأنبياء في مراتب العز والرفعة بين الناس باجتناب السرقة والإختلاس من الغلول والمال العام .
فلا يأتيهم الخذلان والترك من الله عز وجل ، بلحاظ أن هذا الترك أمر وجودي وهو من مشيئة الله .
لقد تفضل الله عز وجل بالآية السابقة ، وبيانها بأن النصر بيد الله وهو الناصر ، وإذا خذل الله المسلمين فليس لهم من ناصر إذ أن الخلائق كلها مستجيبة له ، وجاءت آيات القرآن لتبين أن الله عز وجل ولي المسلمين ، وهو الذي ينجيهم من الآفات وأسباب الهلكة ، قال تعالى [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ] ( ).
وتتحدث آية البحث عن الغلول والذي يدل بالدلالة التضمنية على فوز المسلمين بالنصر والغلبة على الذين كفروا ، وأن السبايا والغنائم تقع في أيدي المسلمين .
المسألة العاشرة : من أسرار قوله تعالى [وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ] ( ) حث المسلمين على التوجه بالدعاء لسؤال الله عز وجل تثبيت النصر الذي أحرزه المسلمون كما في النصر في معركة بدر ومنافعه على المسلمين وعلى الناس عامة ، ومن الإعجاز في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )دعوة المسلمين لإحصاء منافع هذا النصر عليهم وعلى أهل الكتاب ودعوة الذين كفروا ممن قاتلهم وغيرهم للتوبة والإنابة , قال تعالى [وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى]( ).
ومن الآيات أن هذه المنافع متجددة في ذات الجنس والماهية وفي غيرها فيتلو كل جيل من المسلمين الآية أعلاه ويتدبرون في منافعها ويغادر الحياة الدنيا ، ليأتي جيل آخر ليتدبر ويتفكر في ذات المنافع والفوائد ويستقرأ فوائد أخرى ، وتتجلى لهم مصاديق عظيمة لقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( ) لبيان قانون أن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أقسام :
القسم الأول : المعجزة العقلية , وهو القرآن وآياته رسماً ولفظاً وبلاغة ومضامين ودلالة (روي أن قيس بن عاصم المنقري قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : أتل علي مما أنزل عليك فقرأ عليه سورة الرحمن .
فقال : أعدها فأعادها ثلاثا , فقال : والله إن له لطلاوة وإن عليه لحلاوة وأسفله لمغدق وأعلاه مثمر وما يقول هذا بشر وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله])( ).
وهل من حصر لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية الجواب لا ، فكل آية من القرآن معجزة عقلية إنشطارية تتفرع عنها معجزات عديدة من جهات :
الأولى : الإعجاز اللفظي والبلاغي.
الثانية : الإعجاز المتجدد .
الثالثة : الإعجاز الحاضر عند وقوع الحوادث والوقائع .
الرابعة : الإعجاز المستحدث ، ومنه ما تتضمنه الآية القرآنية من علوم الغيب ، وهل في آية البحث من المغيبات , الجواب نعم ، من وجوه :
الأول : إخبار آية البحث عن تنزه الأنبياء عن الغلول على نحو الموجبة الكلية .
الثاني : شمول آية البحث لصفحة من الوقائع والأحداث من أيام أبينا آدم عليه السلام بخصوص السلامة من الغل والسرقة .
الثالث : كشف آية البحث لقانون من عالم الآخرة ، وهو مجئ الذي يغل ويسرق من المال العام معه يوم القيامة .
الرابع : إطلاع الخلائق على مسألة الغلول , والثناء على المسلمين الذين إمتنعوا ويمتنعون عن الغلول .
الخامس : الجزاء والحساب للناس جميعاً يوم القيامة ، قال تعالى [وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ] ( ) .
السادس : تأكيد العدل يوم القيامة لأن الحكم فيه لله عز وجل وحده ، قال تعالى [وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ]( ).
القسم الثاني : المعجزة الحسية ، وليس من حصر للمعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ تعدد وجوه السنة النبوية ، وقد ذكر العلماء منها ثلاثة وهي :
الأول : السنة القولية .
الثاني : السنة الفعلية .
الثالث : السنة التقريرية .
وقد أضفنا لها وجوهاً :
الرابع : السنة التدوينية .
الخامس : السنة الدفاعية .
السادس : السنة الأسرية .
السابع : السنة الإقتصادية .
الثامن : السنة التشريعية.
التاسع : السنة الحكمية , وصيغ القضاء النبوي الذي فرع الوحي ، ومن الآيات أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حكم بين أطراف متعددة من وجوه :
الأول : الحكم بين طرفين من المسلمين ، وهو على أقسام :
أولاً : الحكم بين شخصين من المسلمين .
ثانياً : الحكم بين طائفتين من المسلمين .
ثالثاً : الحكم بين فرد واحد من المسلمين وبين جماعة منهم .
الثاني : الحكم بين أهل الكتاب في الأمور التي يختلفون فيها من جهة المكاسب والأحكام .
و(عن ابن عباس قال كان قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودي مائة وسق من تمر فلما بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم قتل رجل من قريظة فقالوا : ادفعوه إلينا لنقتله .
فقالوا : بيننا وبينك النبي صلى الله وعليه وآله وسلم فنزلت شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ.
الثالث : حكم النبي محمد بين المسلم والكتابي .
الرابع : حكم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين عامة الناس من مختلف المشارب .
وهل ينحصر مجئ الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خلافاتهم بما يقع في أيام النبوة أم يشمل الخلافات لما سبق أيام النبوة والهجرة .
الجواب هو الثاني ، وكأنه من الإستصحاب القهقري فمن كان له الحق عند غيره , وحال مانع دون إنتزاع حقه حتى بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وظهرت دولة الإسلام ، جاء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وسأل إنتزاع حقه ، فيقوم النبي صلى الله عليه وآله سلم بوعظهم ويحث على صلاحهم والصلح بينهم ثم يبين لهم الحكم .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعمل بقانون البينة على من أدعى واليمين على من أنكر ، مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم يعلم صاحب الحق من بين المتخاصمين ، ولكنه يريد أن يبين للمسلمين والحكام من بعده لزوم إعتماد هذا القانون ، كحكم ظاهري ، وسبيل لفك المنازعات .
و(عن عدي بن عدي الكندي ، عن أبيه ، قال : جاء رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يختصمان في أرض , فقال أحدهما : أرضي .
وقال الآخر : بل هي أرضي حرثتها وزرعتها فأحلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي بيده الأرض) ( ).
وقد ورد عن أم سلمة أنها (قالت سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحية خصم عند باب أم سلمة فخرج إليهم فقال إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون أعلم بحجته من بعض فأقضي له بما أسمع فأظنه صادقا فمن قضيت له من حق أخيه فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليدعها)( ).
وهل يدل هذا الحديث على فرض صحة سنده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحكم بظنه كبشر وقاض ، أم أنه لا يحكم إلا بالوحي .
الجواب هو الثاني ، ولكن الحديث يكشف حقيقة وهي قد يأكل الإنسان حق غيره بالحجة الظاهرة أو بغياب البينة فتكون عاقبته النار ، ولا ينفعه حكم الحاكم له ، ولأن الحكم إما أن يكون بالدليل الواقعي والقطعي أو يكون بالدليل الظاهري مثل البينة وهما شاهدان عدلان ، وربما وقع الخطأ والإشتباه من الشاهدين أو أحدهما ، ولكن الحاكم يحكم بقولهما .
أما الطرف الخصم الذي يشهد له الشاهدان فيعلم في الغالب مقدار حقه ، وحقيقة موافقة الشهادة أو مخالفتها له ، فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإنذار والتحذير والموعظة والتخويف من أكل حق الغير ، وهل منه الغلول .
الجواب النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه ، فالذي يأخذ من الغنائم خلسة إنما يتجاوز على المال العام وحق المجاهدين قبل القسمة والذي له فيه سهم وحصة أي لو كانت قيمة الغنائم ألف دينار وغلّ وأخفى منها عشرة دنانير ، فان له حصة من هذه العشرة بلحاظ أنه أحد المجاهدين ، ومنها حصة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته ، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابن السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
ولم يرد لفظ [خُمُسَهُ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، ومن إعجاز القرآن تذكيرها بلزوم الإيمان بالله عز وجل والقرآن ، ومنه مضامين ودلالات الآيات التي أنزلها يوم معركة بدر ، وفي الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث مسائل :
الأولى : التذكير بوجوب الإمتناع عن الغلول والسرقة من الغنائم لأن فيها سهماً عز وجل ولرسوله وأهل بيت النبوة ، وفيه شاهد على حب الله عز وجل للمسلمين .
ومن إعجاز القرآن بيان الأحكام على نحو التفصيل المانع من الجهالة والغرر في باب الأموال والحقوق الشرعية المتعلقة ليكون تقدير آية البحث : ومن يغلل ففيه خمس لله ولرسوله ) وفيه غاية التحذير والإنذار والوعيد .
الثانية : بعث المسلمين على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلزوم التنزه عن السرقة من الغنائم خفية لأن فيه سهم الله عز وجل ، وهو من أسرار إخبار آية البحث بحضور القطعة التي غلت مع صاحبها يوم القيامة ، لأن الله عز وجل له سهم فيها .
وهل أكل الغلول من الإفتراء على الله ، الجواب لا ،إنما يصدر الإفتراء من الذين كفروا ، قال تعالى [وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ] ( ).
الثالثة : التخويف والإنذار من الغلول والإقدام على السرقة من الغنائم لأن لله عز وجل ولرسوله وأهل البيت سهماً وحصة منها ، ولا يجوز التصرف بمال الغير من غير إذنه , ولإرادة إكرام المسلمين ،وبعثهم على التنزه عن الظلم مطلقاً .
(عن أبي امامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : اياكم والظلم فإن الله يقول يوم القيامة : وعزتي لا يجيزني اليوم ظلم ، ثم ينادي مناد فيقول : أين فلان ابن فلان؟ فيأتي فيتبعه من الحسنات أمثال الجبال ، فيشخص الناس إليها أبصارهم ، ثم يقوم بين يدي الرحمن .
ثم يأمر المنادي ينادي : من كانت له تباعة أو ظلامة عند فلان ابن فلان فهلم ، فيقومون حتى يجتمعوا قياماً بين يدي الرحمن فيقول الرحمن : اقضوا عن عبدي فيقولون : كيف نقضي عنه؟ فيقول : خذوا له من حسناته .
فلا يزالون يأخذون منها حتى لا تبقى منها حسنة ، وقد بقي من أصحاب الظلامات فيقول : اقضوا عن عبدي فيقولون : لم يبق له حسنة فيقول : خذوا من سيئاته ، فاحملوها عليه ، ثم نزع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الآية وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ ( ).
الرابعة : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين بمجئ الغنائم إليهم ، ليكونوا ورثة الأنبياء في تحقيق النصر على الذين كفروا فان قلت كيف تأتيهم الغنائم ، إنما هم الذين يجلبونها ، وهي نتيجة لقتالهم وجهادهم .
والجواب هذا صحيح ولكن الغنائم فرع النصر ، ونصر المسلمين من عند الله عز وجل ، لذا فمن الإعجاز في نظم الآيات في المقام أن آية نصر الله تقدمت على آية الغنائم والنهي عن الغلول هذه .
الخامسة : بيان آية الخمس لقانون وهو أن إخراج المسلمين الخمس من الغنائم ملازم للإيمان لقوله تعالى في آية الخمس [إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) ولبيان حقيقة في الإرادة التشريعية وهي نزول قانون الخمس مع أول معركة من معارك الإسلام وهي معركة بدر .
فليس في الخمس مسألة نسخ أو تدرج في الحكم ، ولم تنزل آية قبله أو بعده تتضمن تعيين نسبة أكثر أو أقل من الخمس ، ومن الآيات أن المسلمين والمسلمات , وفي كل زمان يعلمون حق الخمس هذا ويتسالمون عليه ، ولا يحصل عندهم ترديد بين ناسخ ومنسوخ , أو أكثر وأقل في المقام ، للدلالة على موضوعية تشريع الخمس في الإسلام ، ولعمومات قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ] ( ) .
ومن الإعجاز الموضوعي للقرآن نزول الآية أعلاه بخصوص فريضة الصيام لتكون حجة ودليلاً في الفرائض العبادية الآخرى .
وليكون التنزه عن إقتطاع قطعة من الغنائم ظلماً ، وخلاف سنن الإيمان ، وأخلاق المؤمنين , وفيه بعث للنفرة في نفوس المسلمين من أخذ الغلول .
لقد أثنى الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقال سبحانه [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) ليقتدي المسلمون بسنته وأخلاقه ونهجه في الأمانة والعصمة من أخذ الغلول الذي هو معصية في الدنيا ، وعار في الآخرة ، وإن أخذها أحدهم فان الندم والأسى يصاحبه , لكبر ما فيها من التعدي على الحق الخاص والعام .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن كل معجزة حسية له تصبح معجزة عقلية بذكرها في القرآن وبذاتها وإنتفاع المسلمين منها .
القسم الثالث : المعجزة الحسية العقلية ، وهي أقوال وأفعال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تكون ذات صبغة خارقة للعادة ، وتوثق في القرآن لتبقى مناراً للأجيال ، وشمعة في دروب الهداية والصلاح .
ولما تفضل الله عز وجل وأمر المسلمين بالإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباع ما جاء به وإتباع سنته ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) فانه سبحانه ذكر شذرات مباركة من هذه السنة في القرآن ليعمل بها المسلمون وتكون قوانين عامة يقتبسون منها المسائل والحكم , ويكنزون بواسطتها الحسنات ، ومنها الزجر عن أكل المسلم للغلول , أو قل نهي المسلم عن أكل الغلول والذي لا يختص بالمجاهدين بل يشمل المسلمين عموماً ، وهل يشمل النساء أيضاً أو أنهن خارجات بالتخصيص مثل أسقاط الجهاد عنها .
الجواب ، هو شمول النساء بالتكليف والأمر بعدم أخذ الغلول وأن التي تأخذه يحضر معها يوم القيامة ، ولا ملازمة بين إسقاط الجهاد عن المرأة وبين شمولها بمضامين آية البحث وما فيها من بيان حرمة الغلول ،وقد يصل الغلول إلى المرأة في مخدعها وبيتها ، وقد تلت وقرآت آية البحث وأدركت حرمة الغلول فتأمر باخراجه من بيتها أو أنها تمتنع عن دخوله بيتها وهو من فيوضات آية البحث ومصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
وإذا كانت آية البحث معجزة عقلية ، فمن أي قسم من الأقسام الثلاثة أعلاه تكون آية إمتناع المسلمين عن أكل الغلول ، الجواب إنه منها جميعاً بحسب اللحاظ والموضوع والحكم وإستدامة تنزه المسلمين جميعاً ، وفيها حصة وسهم لله عز وجل ولرسوله .
لقد جعل الله عز وجل يوم القيامة موعداَ للحساب والجزاء ، فتفضل الله عز وجل وأخبر في آية البحث عن مصداق من مصاديق الحساب يومئذ ، وهل يكون من مفاهيم النهي عن أكل الغلول الثناء على المسلمين في عالم الآخرة لنجاتهم من أخذ قطع من الغنائم خلسة ، فتحضر الغنائم وتشهد للمسلمين بالتعفف عن أخذها .
الجواب نعم ، بلحاظ أن الإمتناع عن أكل الغلول أمر وجودي، ونية وعزم وفعل ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ] ( ) .
ويبين الله عز وجل البركات التي ترشحت عن عصمة المسلمين من أكل الغلول ، ومنافع هذه العصمة في النشأتين .
المسألة الحادية عشرة : إبتدأت آية البحث ببيان خصلة حميدة يتصف بها الأنبياء على نحو العموم الإستغراقي ، فليس من نبي يأخذ الغلول ، وإن كانت الأموال تجتمع عنده وتجبى إليه لبيان قانون وهو ملازمة الأمانة للنبوة ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الأمين لا يأكل الغلول .
الصغرى : كل نبي لا يأكل الغلول .
النتيجة : كل نبي أمين .
ويروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لما انزل عليه[حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ]( )، قام إلى المسجد , والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته فلما فطن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم .
فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الانس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمعذق،
وإنه ليعلو وما يعلى، ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش: صبأ والله الوليد، والله
ليصبأن قريش كلهم، وكان يقال للوليد: ريحانة قريش، فقال لهم أبو جهل: أنا أكفيكموه،
فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزينا ، فقال له : مالي أراك حزينا يا ابن أخي ؟ قال : هذه قريش يعيبونك على كبر سنك , ويزعمون أنك زينت كلام محمد ، فقام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه .
فقال: تزعمون أن محمدا مجنون ؟ فهل رأيتموه يخنق قط ؟ قالوا: اللهم لا،
قال: تزعمون أنه كاهن ؟ فهل رأيتم عليه شيئا من ذلك ؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون
أنه شاعر ؟ فهل رأيتموه أنه ينطق بشعر قط ؟ قالوا: اللهم لا، قال: تزعمون أنه كذاب.
فهل جربتم عليه شيئا من الكذب ؟ قالوا: اللهم لا، وكان يسمى الصادق الامين قبل النبوة من صدقه ، قالت قريش للوليد: فما هو ؟ فتفكر في نفسه ثم نظر وعبس .
فقال: ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فهو ساحر، وما يقوله سحر يؤثر ) ( ).
أما آية السياق فأبتدأت بالخطاب للمسلمين بأن مفاتيح النصر وتمامه بيد الله عز وجل ، وهو يتفضل عليهم بالنصر والغلبة على الذين كفروا ليشكروا المسلمون الله عز وجل على نعمة النصر والتدبر في كيفيته وأسرار الإعجاز الحسية الظاهرة ، والفعلية كنزول الملائكة وإمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب ، ومن الشكر لله عز وجل تعاهد الأمانة في الغنائم , والرضا بالقسمة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن أبي سعيد الخدري قال : بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقسم قسماً إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي فقال : اعدل يا رسول الله .
فقال : ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لي فيه فاضرب عنقه . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء ، ثم ينظر في نضيه فلا يرى فيه شيء ، ثم ينظر في رصافه فلا يرى فيه شيء ، ثم ينظر في نصله فلا يوجد فيه شيء ، قد سبق الفرث والدم آيتهم رجل أسود إحدى يديه – أو قال ثدييه – مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة ، تدردر يخرجون على حين فرقة من الناس قال : فنزلت فيهم[وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ]( ) الآية .
قال أبو سعيد : أشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأشهد أن علياً حين قتلهم وأنا معه جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
ومع النصر تأتي الغنائم ، ومع الخذلان يكون الحرمان منها ، وهل إنتفع المسلمون من الغنائم , الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : بيان قانون وهو حرمان الكفر صاحبه من المال ، فَعِلة أخذ الغنائم إصرار الكافر على محاربة الإسلام والنبوة بالسيف والغنائم كان المسلمون يأخذونها من الكفار :
الأول : الذهب والفضة المسكوكين .
الثاني : الحيوان والدواب .
الثالث : الطعام .
الرابع : الأسرى من الرجال .
الخامس : السبايا من النساء والأطفال .
السادس : الأرض ، والتي تسمى الأنفال .
ويدل قوله تعالى [فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) أن الله عز وجل جعل لهم سعة ومندوحة في الغنائم والمكاسب بما يكفيهم مع زيادة فيه لمقام حرف (من) في قوله تعالى [مِمَّا غَنِمْتُمْ] الوارد للتبعيض .
(عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث سرية فغنموا خمس الغنيمة ، فضرب ذلك الخمس في خمسة ، ثم قرأ { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } ( )قال : قوله { فأن لله خمسه } مفتاح كلام { لله ما في السموات وما في الأرض }( ) .
فجعل الله سهم الله والرسول واحداً { ولذي القربى } فجعل هذين السهمين قوّة في الخيل والسلاح ، وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل لا يعطيه غيره ، وجعل الأربعة أسهم الباقية ، للفرس سهمين ، ولراكبه سهم ، وللراجل سهم) ( ).
الثانية : المشقة والعسر في جمع المسلمين بين الجهاد وبين العمل لكسب المعيشة كالفلاحة والتجارة ، فتأتي الغنائم من الكفار الذين يحاربون الإسلام لتكون مدداً وسبباً للتفرغ للجهاد ، وتأتي الأموال من الزكاة لإعانة الفقراء والمحتاجين ولتطهير أموال المسلمين ، قال تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ] ( ) ولو أخذ المسلم قطعة من الغنائم خلسة ثم قام بتزكية أمواله ، فهل ينجيه من الحساب على تلك القطعة يوم القيامة لأن الزكاة تطهير له وتزكية لأمواله أم لابد من حضور الغلول معه للنص ومضمون آية البحث ، المختار هو الأول، وهو من مصاديق سبق رحمة الله عز وجل لغضبه موضوعاً وزماناً وحكماً (عن ابن عباس . إن آدم عليه السلام طلب التوبة مائتي سنة حتى أتاه الله الكلمات ، ولقنه إياها قال : بينا آدم عليه السلام جالس يبكي ، واضع راحته على جبينه إذ أتاه جبريل فسلم عليه ، فبكى آدم وبكى جبريل لبكائه فقال له : يا آدم ما هذه البلية التي أجحف بك بلاؤها وشقاؤها ، وما هذا البكاء؟ قال : يا جبريل وكيف لا أبكي وقد حوّلني ربي من ملكوت السموات إلى هوان الأرض ، ومن دار المقام إلى دار الظعن والزوال ، ومن دار العنة إلى دار البؤس والشقاء ، ومن دار الخلد إلى دار الفناء؟ كيف أحصي يا جبريل هذه المصيبة؟ فانطلق جبريل إلى ربه فأخبره بمقالة آدم فقال الله عز وجل : انطلق يا جبريل إلى آدم فقل : يا آدم ألم أخلقك بيدي؟ قال : بلى يا رب قال : ألم أنفخ فيك من روحي؟ قال : بلى يا رب قال : ألم أسجد لك ملائكتي؟ قال : بلى يا رب قال ألم أسكنك جنتي؟ قال : بلى يا رب قال : ألم آمرك فعصيتني؟ قال : بلى يا رب قال : وعزتي وجلالي وارتفاعي في علو مكاني لو ان ملء الأرض رجالاً مثلك ثم عصوني لأنزلتهم منازل العاصين ، غير أنه يا آدم قد سبقت رحمتي غضبي ، قد سمعت صوتك وتضرعك ، ورحمت بكاءك ، وأقلت عثرتك ، فقل : لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءاً وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت خير الراحمين ) ( ).
الثالثة : كثرة المسلمين في المدينة وتوافد المهاجرين إليها على نحو يومي متصل ومع ضيق الموارد فيها ، لذا كان هناك أهل الصفة , والصفّة هي عريش في جوار المسجد النبوي الشريف يأوي إليها الغرباء من المسلمين .
فيأتي لهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعض الصحابة من الأنصار بالطعام الذي يسد جوعهم ، وكانوا يتعاهدون الصلاة اليومية ويعلمونها من يفد عليهم من المسلمين وتراهم جاهزين للخروج للبعث والدفاع في أي ساعة للنفير .
ولم تمر الأيام والليالي ، حتى صاروا أمراء وحكاماً في الأمصار ، ومنها ذات أنهار وحدائق وبهجة .
ليكون من معاني آية البحث وقوله تعالى [وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] ( ) البشارة بورود الأموال والكنوز عند الصبر والإمتناع عن الغل والسرقة من الغنائم ، فيمتنع المسلمون عن الغل ليأتيهم الرزق من الزكاة والفيء والتجارات والزراعات والعطاء ، وهل هو من إطلاقات قوله تعالى [فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ] ( ) أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو القبلة والتوجه في صلاة التطوع , وحال الإشتباه في القبلة .
المختار هو الثاني , وإن كانت الآية أعم في مضمونها ودلالتها .
(عن عامر بن ربيعة قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلاً ، فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجداً فيصلي فيه ، فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة ، فقلنا : يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة ، فأنزل الله { ولله المشرق والمغرب ) ( ).
الرابعة : آية البحث من مصاديق منع الفرقة والخلاف بين المسلمين وإجتناب المسلمين للغل والسرقة من الغنائم من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] ( ).
الخامسة : كفاية المحتاجين من المسلمين والمسلمات وتفرغهم للعبادة وأداء الفرائض ، وما فيه من إتقانها ، وهذا الإتقان حاجة لهم وللأجيال المتعاقبة من المسلمين لوراثتهم كيفية أداء الفرائض وضبطها وأوقاتها وشرائطها ، فحينما قال الله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ) فانه سبحانه هيء أسباب أداء الصلاة والزكاة وكذا بالنسبة للفرائض الأخرى مثل الصيام وحج بيت الله الحرام ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) للبعث على تعاهد الفرائض كما أمر الله عز وجل بها .
ومن الإعجاز الغيري للقرآن أن الآية أعلاه واقية من الغل والسرقة من الغنائم وكذا بالنسبة للحديث النبوي أعلاه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ) لذا جاءت الآية التالية لآية البحث بالحث على التقوى وإتباع مرضاة الله عز وجل في السر والعلانية ، بقوله تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ…] ( ) .
السادسة : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا وجعلهم ينفرون من مفاهيم الكفر والضلالة ، ويدركون قانوناً من جهات :
الأولى : القبح الذاتي والغيري للكفر والصدود عن معجزات النبوة .
الثانية : الملازمة بين الكفر وبين الفقر وسلب الأموال ، وإقتران غزو المسلمين لهم بضياع أموالهم وذراريهم .
الثالثة : تجلي حفظ المال والأهل بدخول الإسلام ، ومن الآيات عدم إنحصار مصاديق الحفظ بالذات والأبدان إنما يشمل السلامة من الشرك ومفاهيم الضلالة ، ويشمل الحفظ في الآخرة من عذاب النار ، قال تعالى [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ] ( ).
الرابعة : من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صيرورة أعداءه في حال خوف وخشية على أموالهم وذراريهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ).
الخامسة : صيرورة أموال الذين كفروا غنائم بدلالة آية البحث التي تتضمن في مفهومها إنذارهم بأن أموالهم ستأخذ منهم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ).
ولا يختص الأمر بذات الأموال بل يشمل الذرية إذ يتعرضون للقتل أو للسبي وتنفر النفوس خاصة في هذا الزمان من السبي ، ولكن لابد من إستحضار أحوال الناس في زمان النبوة من وجوه :
الأول : عدم حدوث السبي في ذراري المسلمين ، ولا أهل الكتاب من اليهود والنصارى .
الثاني : يختص الأسر والسبي بالكفار الذين يحاربون الإسلام .
الثالث : هذا السبي من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) إذ دخل كثير من الأسرى والسبايا الإسلام وصلحوا وذراريهم ، ليكون هذا الزمان نفسه شاهداً على حقيقة وهي عدم وجود عبيد أو إماء في الإسلام ، فقد أعتقوا وأصبحوا أحراراً ونالوا مراتب المواطنة وأختلطوا بالأنساب والشعوب ، وربما صاروا رؤساء وأمراء على أبناء الذين أسّروهم ، وهو أمر يفتخر به الطرفان ، وكل المسلمين , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
السادسة : حتمية ظهور دولة الإسلام لدلالة الغنائم على النصر والظفر للمسلمين ولمجئ الآية السابقة بالإخبار عن قرب النصر منهم.
المسألة الثانية عشرة : تضمنت آية السياق النفي ، نفي وجود غالب للمسلمين , ويحتمل وجوهاً :
الأول : نفي الغالب للمسلمين بخصوص معركة معينة .
الثاني : عدم وجود غالب للمسلمين في حال السلم والحرب .
الثالث : إنعدام الغالب للمسلمين في باب الجدال والحجة والإحتجاج .
الرابع : عجز الكفار عن بلوغ مرتبة الغالب والمنتصر في ميدان المعركة , وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ]( ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية السياق ومن خصائص هذا النفي الرفعة للمسلمين إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) بلحاظ الإطلاق في ذات العزة ومصاحبتها للمسلمين مجتمعين ومتفرقين في الحياة الدنيا .
وإبتدأت آية البحث بالنفي الإيجابي ، وهو سلامة الأنبياء من الغل والأخذ خلسة من الغنائم لبيان أن حياة الأنبياء تتصف بالأمانة والإخلاص وأن المسلمين يقتدون بهم في مسالك الهدى والفلاح ومنها قتال الكفار , وأخذ الغنائم بنصر من الله عز وجل ، وهل يصح القول : وما كان لمسلم أن يغل ).
الجواب نعم ، بلحاظ وراثة المسلمين لسنن الأنبياء ، وعدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي , ليس فيهم من غلّ ولو لمرة واحدة ، وفيه حث للمسلمين والمناجاة بينهم للسلامة والتوقي من الغل ، والإحتراز منه .
ليأتي الأنبياء جميعاً يوم الحشر والحساب وليس على أحد منهم حجة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] ( ).
المسألة الثالثة عشرة : النصر عنوان السلطان ومناسبة للحكم والتصرف ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )واتصاف المسلمين بخصوصية في الخلافة وهي وقوع الغنائم في أيديهم على نحو دفعي وتدريجي ، ليكون إمتناعهم عن الغلول من الشواهد والبراهين على إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
فقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالنصر لتكون كلمته هي العليا ، وليزاح الكفر ومفاهيم الضلالة عن دفة الحكم والريادة ، فتشرق على الأرض دولة ليس فيها غلول , وأمة تتنزه عن أكل المال العام ، قال تعالى [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ] ( ) .
فان قلت قد يكون هناك من يعتدي على المال العام وينهب منه خلسة , والجواب هذا صحيح لذا أختتمت الآية أعلاه بالإخبار عن أن عاقبة الأمور لله عز وجل , وآية البحث بالوعيد .
وتضمنت آية البحث بيان قانون وهو الذي يغل ويأخذ قطعة من الغنائم أو المال العام يحضره معه يوم القيامة ، ليكون المحشر مناسبة لإطلاع الناس على العملات المختلفة وعلى الصناعات اليدوية والقطع الذهبية والملابس لكل زمان ومصر من أمصار الأرض مع الفضيحة والخزي للذي أخذها وسرقها ، والعز والامن للذي تنزه عن أخذها طاعة لله عز وجل .
وهل يستبين يوم القيامة أمر إنفاقها وكيفية تلفها أو موت صاحبها عنها ومآّلها ، الجواب نعم , لتكون حسرة إضافية على الغالِ الذي أخذها ، وهو من عمومات قوله تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] ( ).
ومن معاني الجمع بين آية البحث والآية السابقة لها لزوم إنتفاع المسلمين من النصر لما فيه نجاتهم يوم القيامة بتعاهد سنن الإيمان من حين إنقضاء المعركة بالتوقي والإحتراز من العصبية والنعرة , مع نبذ الشهوات البدنية والملذات غير الشرعية ، وفي إمتناع المسلمين عن الغلول قطع للمنازعة والتحزب والإنقسام بينهم ، وتبين آية البحث أن النصر ليس نهاية ، إنما هو بداية لبناء الدولة والإنسان المسلم ، وهو وما بعده بلغة للبث الدائم في الجنة .
ويبعث قوله تعالى [َمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ] ( ) حب الله في نفوس المسلمين ، وسعيهم في طلب مرضاته ، ومغفرته ، لذا إبتدأت الآية التالية بقوله تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ] ( ) .
ومع ترك المسلم الغلول فهل يرزقه الله مثله أو أكثر منه ، الجواب نعم ، فما يترك العبد فعلاً ذا صبغة المعصية حتى يرزقه الله ما هو أكثر منه أو مثله من الحلال الطيب .
الوجه الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ …..]الآية( ).
المسألة الأولى : توجه الخطاب في آية السياق إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة الإكرام والتشريف ، بينما جاءت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية ، وبيان إتصاف كل نبي من الأنبياء بخصلة حميدة وهي التنزه عن أكل الغلول وعن السرقة من الغنائم ، ومن المال العام للمسلمين ، وقد إنتقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى وليس عنده من التركة مال معتد به .
عن عمرو بن الحارث قال (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا) ( ).
ومن الإعجاز في موضوع الخطاب الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آية السياق تعلقه بالصلة الكريمة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وحسن سمته وسيرته معهم ، قال تعالى [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ).
وتحتمل صلة الأنبياء مع المؤمنين من أممهم وجوهاً :
الأول : إتحاد سنخية النبوة وأن سيرة الأنبياء مع أممهم بذات النهج واللطف , الذي تجلى بسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : صلة الأنبياء بأممهم أقل مرتبة من صلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أمته من جهة الرفق والرحمة .
الثالث : التفصيل , فهناك من الأنبياء من كانت صلته مع أمته مثل صلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أمته ومنهم من هو أدنى منها .
والمختار هو الثالث ، وهو من مصاديق فوز المسلمين بمرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) فمن الأنبياء من لم تكن له أمة وأتباع كثيرون ، فقد يبعث النبي إلى قريته أو أسرته ، لذا يكون تقدير [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ] ( ) على وجوه :
أولاً : فبما رحمة من الله خاصة لك لنت لهم .
ثانياً : فبما رحمة من الله بالمسلمين على نحو الخصوص لنت لهم .
ثالثاً : فبما رحمة مدخرة من عند الله لأمتك لنت لهم .
رابعاً : فبما رحمة من الله تكون شاهداً على صدق نبوتك لنت لهم .
خامساً : لقد لنت يا محمد للمسلمين والمسلمات برحمة من الله سبحانه .
وإذ غادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى , ففي رحمة الله التي تذكرها آية السياق وجوه :
الأول : بقاء ذات رحمة الله بين الناس .
الثاني : إستدامة لين النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في كل جيل من أجيالهم .
الثالث : تجدد مصاديق الرحمة التي تذكرها آية السياق ، ولين ورفق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين ، ومن خصائص رحمة الله في المقام أمور :
الأول : بعث السكينة في قلوب المسلمين , قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثاني : نشر شآبيب المودة والرحمة بين المسلمين من جهات :
الأولى : الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : ترشح الرحمة والرأفة بين المسلمين من رحمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهم .
الثالثة : من خصائص رحمة الله أنها أعم في موضوعها ونفعها ودلالتها من ذات الموضوع التي وردت فيه .
الرابعة : بيان قانون وهو أن الرحمة على أقسام منها :
أولاً : الرحمة العامة .
ثانياً : الرحمة التي تتغشى أمة وطائفة .
ثالثاً : الرحمة الخاصة بفرد أو أفراد .
رابعاً : الرحمة بخصوص موضوع معين .
خامساً : الرحمة التوليدية التي تتفرع عنها ضروب ومصاديق من الرحمة، وإن كان الأصل أن كل فرد وقسم من أقسام الرحمة توليدي.
سادساً : الرحمة الخاصة بأهل موضع مخصوص من الأرض.
سابعاً : الرحمة التي تأتي لأهل زمان معين.
ثامناً : الرحمة التي تصاحب النبوة.
تاسعاً : الرحمة التي تلازم أي نبي على نحو مخصوص، وهو الذي يتجلى في قوله تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]( ).
عاشراً : الرحمة الواقعية من فعل قبيح ومذموم، ومنها ما ورد في آية البحث بقوله تعالى[وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ]( )، وتقدير آية البحث بلحاظ مناسبة الحكم وآية السياق (فبما رحمة من الله ما كان لنبي أن يغل).
الثالث : ترغيب الناس بالإسلام، إذ تميل النفوس للرحمة علة ومعلولاً، فيرى ويعلم الناس برحمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين، وأنها من عند الله عز وجل فيجدون أنفسهم تميل إلى الإسلام طوعاً وقهراً وإنطباقاً، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( ).
الرابع : منع الضرر الظاهر والخفي عن المسلمين , لترشح الرحمة بمصاديق من الصبر في سيرة وفعل المسلمين وغيرهم من الناس، وهو من مصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
ترى كيف يصرف الضرر بالرحمة , الجواب : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا (دار الرحمة) إذ تتغشى رحمة الله عز وجل الناس مجتمعين ومتفرقين، فليس من إنسان إلا ورحمة الله عز وجل عليه أكثر من أن تحصى من جهات:
الأولى : الرحمة على الإنسان في نفسه.
الثانية : الرحمة على الإنسان في بدنه.
الثالثة : الرحمة على الإنسان في عقيدته، وجذبه إلى منازل الإيمان , وبعثه على نبذ الكفر ومفاهيم الضلالة ، وهل يمكن القول أن الأنبياء ما كانوا يبلغوا رسالاتهم ويحققوا غاياتهم الحميدة من دون رحمة الله في نفوس وأفعال الناس .
الجواب نعم، وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( )، ومن الآيات في الأنفس في المقام وجوه:
الأول : الهداية إلى الإيمان.
الثاني : تصديق شطر من الناس بمعجزات الأنبياء.
الثالث : عشق طائفة من المؤمنين الشهادة في سبيل الله، وفي التنزيل بخصوص حال فريق من المسلمين , إمتلاء نفوسهم بالشوق للقاء العدو الكافر في معركة أحد لقوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ).
الرابع : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا , وهو من الآيات في الأنفس، على نحو جلي وواضح.
وهل هذا الفزع من الآيات في الآفاق مثلما هو في النفوس , الجواب نعم، ليكون حال الكافر الذي يخاف من المؤمنين آية في الآفاق للناس والخلائق كلها، قال تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( ).
المسألة الثانية : لقد أخبرت آية السياق عن قانون ثابت يتجلى في السنة النبوية وهو لين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين، ورفقه بهم، وحبه لهم , وبذله الوسع لتثبيت إيمانهم، وحسن أدائهم الفرائض والعبادات، فكان صلى الله عليه وآله وسلم لا يحل وقت صلاة إلا ويؤم المسلمين فيها , سواء في المسجد النبوي أو في مساجد المدينة الأخرى أو في حال السفر والخروج للغزو , وفيه مسائل :
الأولى : بيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في باب العبادات، وبذله الوسع في طاعة الله.
الثانية : تجلي قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في طاعة الله عز وجل .
الثالثة : تفقه المسلمين في الدين، وإتقانهم أداء الصلاة .
الرابعة : تعاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة اليومية جماعة مدرسة عقائدية وأخلاقية , وها دعوة للمسلمين للإقتداء به ومحاكاته في صلاته .
الخامسة : البيان العملي لموضوعية أداء الصلاة في الإسلام وحياة المسلمين، وعن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أي العمل أفضل قال: الصلاة على وقتها”. قلت: ثم أي، قال: بر الوالدين، قلت: ثم أيّ؟ قال: “الجهاد في سبيل الله( ).
السادسة : ترغيب المسلمين والمسلمات بأداء الصلاة .
السابعة : عناية المسلمين بأركان وواجبات ومستحبات الصلاة .
الثامنة : بعث المسلمين للسعي لإكتناز الحسنات بأداء الصلاة، وإتيانها جماعة .
التاسعة : تنمية ملكة الأخوة الإيمانية بين المسلمين .
العاشرة : إتخاذ المسلمين الصلاة وسيلة عبادية، وتوسلاً عملياً لمغفرة الذنوب، وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات .
وليتقن الصحابة الصلاة، ويحرصوا على أدائها في أوقاتها ويتقيدوا بالفرائض الأخرى، ولم يكتف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المقام بالسنة الفعلية بل عززها بالسنة القولية ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي) ( )، ومنها الأحاديث الشريفة التي تتعلق بصلاة الجماعة منها ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله قال : صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة( ).
والأحاديث التي تتضمن لزوم العناية بالصلاة وتوجيه الأفراد من أهل بيت النبوة , وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة لكيفية وتفاصيل الصلاة ومقدماتها وشرائطها .
وإبتدأت آية البحث بإكرام الأنبياء مطلقاً , وهو من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين إذ يأتي إكرامهم بين الأجيال من حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى يوم القيامة، وتتعدد وجوه إكرام القرآن للأنبياء السابقين , ويمكن تأليف مجلدات خاصة من وجوه:
الأول : إكرام القرآن للأنبياء السابقين .
الثاني : دلالة القرآن ونزوله على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين.
الثالث : قانون حفظ النبوة والوحي بالقرآن.
الرابع : قانون توثيق قصص الأنبياء إلى يوم القيامة بالقرآن، وهو من مصاديق قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
الخامس : قانون منافع سنن الأنبياء للمسلمين.
ترى ما هي منافع لين جانب النبي بخصوص آية البحث ، الجواب من وجوه :
أولاً : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآية البحث ، وبيانه لمعانيها القدسية بلطف .
ثانياً : عدم ظهور الغضب على ملامح ولسان وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا ما بلغه قيام أحد المسلمين بالغل والسرقة من الغنائم ، إنما يدعوه إلى التوبة والإنابة .
ثالثاً : إذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألان جانبه للمسلمين ، وحرص على إظهار الرأفة بهم ، فان كل آية من القرآن لطف من عند الله للمسلمين الأحياء والأموات وإلى يوم القيامة .
فتنزل الآية القرآنية , ويأتي نفعها للأحياء المعاصرين من أهل البيت والصحابة وينال منه الشهداء وللمسلمين الذين لم يولدوا بعد .
المسألة الثالثة : أخبرت آية السياق عن قانون ، وهو لو كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ] ( ) لتفرق المسلمون من حوله ، ولا يكثرون من سؤاله عن أمور دينهم ودنياهم ، بينما تحتاج الأجيال المتعاقبة هذا السؤال لذا ورد في القرآن لفظ [يَسْأَلُونَكَ] خمس عشرة مرة ، ويمكن تأليف مجلدات خاصة بعلم [يَسْأَلُونَكَ]من جهات :
الأولى : معاني ودلالات تكرار لفظ [يَسْأَلُونَكَ] .
الثانية : إختصاص لفظ [يَسْأَلُونَكَ] في القرآن بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : موضوع وحكم لفظ [يَسْأَلُونَكَ] في القرآن .
الرابعة : الغايات الحميدة من [يَسْأَلُونَكَ] .
الخامسة : إكرام المسلمين بذكر سؤالهم في القرآن , ودلالته على إرتقائهم في مراتب الفقه .
السادسة : ترغيب المسلمين بالسؤال عن أمور الدين والدنيا .
السابعة : بيان فضل الله عز وجل بتوليه الإجابة عن أسئلة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإبتدأت سورة الأنفال بقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
وجاءت خمسة من لفظ ( يسألونك )في ست آيات متتاليات من سورة البقرة آخرها قوله تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ] ( ) للدلالة على إستقرار حال المسلمين وإدراكهم وغيرهم ثبات بناء دولة الإسلام وصيرورتها دائمة ولا يخشى عليها الزوال ، ويدل بالدلالة التضمنية على تأكيد قانون وهو عجز الذين كفروا عن الإضرار بالمسلمين أو منعهم من إقامة الشعائر ، ويستقرأ هذا القانون بما في قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
و(عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن رباب قال : مرّ أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة { الم ذلك الكتاب }( ) فأتاه أخوه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال : تعلمون والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل عليه { الم ذلك الكتاب } فقالوا أنت سمعته؟ قال : نعم . فمشى حيي في أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقالوا : يا محمد ألم تذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك { الم ذلك الكتاب } ؟ قال : بلى .
قالوا : قد جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال : نعم . قالوا : لقد بعث الله قبلك أنبياء ، ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه ، وما أجل أمته غيرك .
فقال حيي بن أخطب : وأقبل على من كان معه : الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه احدى وسبعون سنة أفتدخلون في دين نبي ، إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة.
ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال : نعم . قال : ما ذاك ؟ قال { المص}( ) قال : هذه أثقل وأطول . الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه مائة واحدى وستون سنة .
هل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال : نعم . قال : ماذا؟ قال { الر }( ) قال : هذه أثقل وأطول . الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة .
فهل مع هذا غيره؟ قال : نعم . { المر } قال فهذه أثقل وأطول . الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان ثم.
قال : لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أقليلاً أُعطيت ، أم كثيراً! ثم قاموا فقال أبو ياسر لأخيه حيي ومن معه من الأحبار : ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله . إحدى وسبعون ، وإحدى وستون ، ومائة ، وإحدى وثلاثون ومائتان ، وإحدى وسبعون ومائتان ، فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون .
فقالوا : لقد تشابه علينا أمره . فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات }( ) .
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : إن اليهود كانوا يجدون محمداً وأمته ، إن محمداً مبعوث ، ولا يدرون ما مدة أمة محمد . فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل { الم }( ) قالوا : قد كنا نعلم أن هذه الأمة مبعوثة ، وكنا لا ندري كم مدتها ، فإن كان محمد صادقاً فهو نبي هذه الأمة قد بين لنا كم مدة محمد ، لأن { الم } في حساب جملنا إحدى وسبعون سنة ، فما نصنع بدين إنما هو واحدة وسبعون سنة؟
فلما نزلت { الر }( )، وكانت في حساب جملهم مائتي سنة وواحداً وثلاثين سنة قالوا : هذا الآن مائتان وواحد وثلاثون سنة وواحدة وسبعون . قيل ثم أنزل {المر}( )، فكان في حساب جملهم مائتي سنة وواحدة وسبعين سنة في نحو هذا من صدور السور فقالوا : قد التبس علينا أمره .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفاً ، دارت فيها الألسن كلها ، ليس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه ، وليس منها حرف إلا وهو من آية وثلاثة ، وليس منها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجالهم . فالألف مفتاح اسمه الله ، واللام مفتاح اسمه اللطيف ، والميم مفتاح اسمه مجيد . فالألف آلاء الله ، واللام لطف الله ، والميم مجد الله . فالألف سنة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون.
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ بن حبان في التفسير عن داود بن أبي هند قال : كنت أسأل الشعبي عن فواتح السور قال : يا داود إن لكل كتاب سراً ، وإن سر هذا القرآن فواتح السور ، فدعها وسَل عما بدا لك ) ( ).
ولا دليل على حصر سر القرآن بالحروف المقطعة التي وردت فيه ، فكل آية منه تتضمن أسراراً تتجلى شذرات من علومها في كل زمان.
وهل تبعث الحروف المقطعة على الإنزجار عن الغلول والسرقة من الغنائم والمال العام ، الجواب نعم ، لما فيها من ذخائر الأسرار والإشارة إلى علوم الغيب خصوصاً وأن آية البحث تتضمن الإخبار عن الوعيد والحساب يوم القيامة ، وحضور الأفعال مع أصحابها .
وإذ أخبرت آية البحث عن مجئ الذي غلّ من الغنائم بالقطعة التي أخفاها منها ، فهل تأتي العصمة من الغلول مع المجاهدين ، الجواب نعم ، وتكون عيناً ومادة حسية , ونوراً وضياءً ولباس تقوى وورع وسداد تغبطهم عليه الخلائق ، قال تعالى [لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
وهل من موضوعية للين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ مضامين آية البحث ، الجواب نعم ، من وجوه :
الأول : معرفة المسلمين عن قرب بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ولن يغل لإخبار آية البحث في مفهومها عن إحاطة المسلمين به وقربهم منه ، وبيان قانون وهو أن الله عز وجل أعان المسلمين وهيئ لهم أسباب القرب ودوام صلاتهم اليومية مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الثاني : عصمة المسلمين والمسلمات من الإنصات للمنافقين الذين يسعون في نشر الشك ومفاهيم الريب بين الناس ، ومنه دعوى حدوث الغل والأخذ من الغنائم خلسة .
الثالث : إستماع المسلمين لأحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقيدهم بالأوامر والنواهي التي تأتي من عند الله ، والتي ترد على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتي أمر الله عز وجل أجيال المسلمين بالعمل بها ، وعدم التفريط بمضامينها ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) .
الرابع : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمضامين آية البحث , والمسلمون يحيطون به وينقلون أقواله وأحاديثه إلى غيرهم سواء في ذات يوم الحديث أو فيما بعده ، إذ نقلت للتابعين وتنقل لأجيال المسلمين والناس إلى يوم القيامة .
الخامس : تضمنت آية السياق الإخبار عن لين جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين وذكرت آية البحث يوم القيامة وعالم الحساب ، ليفيد الجمع بين الآيتين أن رفق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين مناسبة للإستعداد ليوم القيامة بالعمل الصالح ، ومنه الإمتناع عن أخذ الغلول بلحاظ إتصاف هذا الإمتناع بأمور :
أولاً : إنه أمر وجودي يتضمن حبس النفس والجوارح عن التعدي على المال العام .
ثانياً : إرادة المسلمين قصد القربة باجتناب الغلول ، وفيه الأجر والثواب ، وهذا الإمتناع من مصاديق قوله تعالى [وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ).
ثالثاً : تنمية ملكة إستحضار المسلمين ليوم القيامة في كل عمل يقدمون عليه ، وهذا الإستحضار من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
رابعاً : إمتلاء نفوس المسلمين بالرضا عند إمتناعهم عن أكل الغلول , وهذا الرضا على أقسام :
الأول : رضا المسلمين عن كل فرد منهم لإمتناعه عن الغلول طاعة لله عز وجل .
الثاني : سعادة ورضا المسلم عن عمل المسلمين مجتمعين ومتفرقين وسلامتهم من أكل الغلول .
الثالث : غبطة ورضا المسلمين عن أنفسهم كأمة تتحصن من أكل الغلول والحرام مطلقاً .
ويكون هذا الرضا باعثاً للشوق في النفوس على الحصانة من الآثام ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] ( ) .
وتفضل الله عز وجل وأخبر عن بلوغ المسلمين مراتب العز بقوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) لتشمل مضامين الآية أعلاه أحوال المسلمين في الدنيا والآخرة ونحوه مما فيه شماتة الذين كفروا .
لتكون آية البحث من مصاديق العز والفخر للمسلمين في النشأتين ، وفي التنزيل [فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
ومن أسرار آية البحث أن الذي يجتنب أخذ الغلول طاعة لله عز وجل يمتنع عن السرقة مطلقاً .
لقد أشرقت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأرض لتكون إشراقتها على وجوه :
الأول : التعدد في مصاديق الهداية والنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : جاءت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتبقى في الأرض , وتستديم النعم على المسلمين .
الثالث : ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم طرد للظلم وحكم الطواغيت من الأرض ، وتلك معجزة حسية ظاهرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
فقد إمتنع أكثر الناس عن دخول الإسلام مع أنه جاء بقطع سلطان الطواغيت مثل نمرود وفرعون ، فان قلت إن حكم فرعون إنتهى وإنقطع برسالة موسى عليه السلام إذ هلك فرعون وجنوده في البحر الأحمر ، قال تعالى [فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ] ( ) .
والجواب هذا صحيح ، ولكن بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم منعت من تجدد توالي الطواغيت السلطان في الأرض إلى يوم القيامة ، أو قل منعت من صيرورة السلطان طاغوتاً كما تفضل الله عز وجل وورث أرض مصر والسودان لحكم الإسلام ، وصار أهلها مفخرة للإسلام , وهو من مصاديق [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) قال تعالى [وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا] ( ).
المسألة الرابعة : إبتدأت آية السياق بالإخبار عن رحمة خاصة من الله عز وجل يلين معها قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين وتتغشى الرأفة والرفق صلته معهم، وتحتمل الرحمة بلحاظ آية البحث وجوهاً :
أولاً : حضور ذات الرحمة المذكورة في آية البحث مع كل نبي لعصمته من أكل الغلول.
ثانياً : مجئ رحمة خاصة من عند الله للأنبياء تعمهم جميعاً للتوقي من أكل الغلول.
ثالثاً : إن الله عز وجل هو الواسع الكريم، وهو الذي ينزل رحمة خاصة لكل نبي تقيه من أكل الغلول، قال تعالى[وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ]( ).
رابعاً : نزول أفراد من الرحمة خاصة بالمسلمين تحول دون أكلهم الغلول .
والمختار نزول رحمة عامة وخاصة في آن واحد لعصمة الأنبياء من أكل الغلول، وكذا لسلامة وحصانة المسلمين منه، وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : فبما رحمة من الله ما كان لنبي أن يغل، إذ نزّه الله عز وجل الأنبياء من الغلول ليكونوا أسوة حسنة للمسلمين، وحجة على الناس ، قال تعالى [وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ] ( ) وآية البحث من مصاديق القصص وغاياتها في الآية أعلاه من جهات :
الأولى : إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحسن سمت الأنبياء السابقين .
الثانية : تزكية عمل الأنبياء السابقين لدلالة العلة الغائية من قصص الأنبياء ، وهي تقوية قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الصبر وإقامة حكم الحق والعدل ، ولم يعمر كثيراً ، فقد إنتقل إلى الرفيق الأعلى وعمره ثلاث وستون سنة لجهاده اليومي المتصل وكثرة الأذى الذي لاقاه في سبيل الله ، ووضع هذا الأذى على النبي أشد وأمرّ مما يقع على غيره لأنه يعلم بأنه رسول من عند الله ، وأن الذين يكذّبونه ذمتهم آية البحث بقوله تعالى [كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ) .
(قال الإمام علي عليه السلام : لقد كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم صبر في ذات الله وأعذر قومه إذ كذبوه وشرد وحصب بالحصى وعلاه أبو لهب بسلا شاة، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جابيل ملك الجبال: أن شق الجبال، وانته إلى أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فاتاه فقال له: إني قد امرت لك بالطاعة، فإن أمرت أن أطبق عليهم الجبال فأهلكتهم بها.
قال عليه الصلاة والسلام : إنما بعثت رحمة رب اهد امتي فإنهم لا يعلمون) ( ).
الثالثة : إرادة تفقه المسلمين في الدين ، وثبات أقدامهم في منازل الإيمان ، وتقدير الآية أعلاه من سورة هود : وكلاً نقص عليكم من أنباء الرسل ما نثبت به أفئدتكم ).
الثاني : فبما رحمة من الله إنتفع المسلمون من إمتناع الأنبياء عن أكل الغلول، وإقتدوا بهم في معارك الإسلام كلها.
الثالث : فبما رحمة من الله نزلت آية البحث ليتصف المسلمون بحسن السمت في الدنيا، والأخلاق الحميدة في حال الحرب والسلم، ويفوزوا بالثواب العظيم في الآخرة .
الرابع : فبما رحمة من الله على رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم هداكم الله للتنزه عن أكل الغلول.
الخامس : فبما رحمة من الله ينجو المسلمون يوم القيامة من حضور غلول معهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
السادس : فبما رحمة من الله يكون فعل المسلمين في ميادين القتال كالأنبياء ، وفيه آية بأن نعمة الأخلاق الحميدة التي يتصف بها الأنبياء لم تغادر الأرض ، إذ يهدي الله عز وجل المسلمين لها ، ومن أظهر سبل الهداية آية البحث .
وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل( ).
المسألة الخامسة : من معاني الجمع بين آية البحث وآية السياق تأكيد حاجة الناس إلى رحمة الله عز وجل في أمور الدين والدنيا ، ويمتاز المسلمون بخصال حميدة في المقام وهي :
الأولى : التسليم بالحاجة إلى رحمة الله ، وهل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من رحمة الله ، أم أن القدر المتيقن من الرحمة في المقام هو أن رسالته رحمة بقوله [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الجواب هو الأول ، فذات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة ، ورسالته رحمة أيضاً , وكان يقول : (يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة) ( ).
الثانية : تجلي معاني الأخوة الإيمانية بين المسلمين وإجتهادهم بالدعوة إلى التقيد بسنن الصلاح، قال تعالى في الثناء عليهم [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ]( ).
(وشتم رجل أبا ذر فقال له : أن بيني وبين الجنة عقبة أن جزتها فانا خير مما تقول وإن عرج بي دونها إلى النار فانا شر مما قلت ، فأنته أيها الرجل فانك تصير إلى من يعلم خائنة الأعين ، وما تخفي الصدور).
الثالثة : شكر المسلمين لله عز وجل على حاجتهم إلى رحمته ، وتفضله بتغشيهم بالرحمة ، وتحتمل الرحمة في المقام وجوهاً :
الأول : رحمة الله التي تأتي للمسلمين والناس متساوية لحاجتهم لها .
الثاني : حاجة الناس لرحمة الله أكثر من أفراد الرحمة التي تأتيهم .
الثالث : التفضيل والتباين بين كم وكيف رحمة الله التي تأتي للمسلمين والتي أتت وتأتي لغيرهم من أهل المذاهب والملل ، وتنزل رحمة الله عز وجل على المسلمين بما يساوي حاجتهم لها ، ، بينما ترد الرحمة لغيرهم ناقصة .
الرابع : رحمة الله لكل إنسان وجماعة وأمة أكثر مما يحتاجون.
والمختار هو الرابع أعلاه ، ومن خصائص الرحمة في المقام عدم وجود مانع لها ، قال تعالى [مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا] ( ) .
وذكرت الآية أعلاه الناس مجتمعين ومتفرقين ، ولم تختص بالمسلمين ، لينتفع الشخص الواحد من أفراد النعمة التي تتغشى الجماعة والطائفة وكذا العكس بأن تنتفع الجماعة والطائفة من الرحمة التي تأتي للفرد الواحد منهم ، ليكون الناس في رياض ناضرة من الرحمة ورشحاتها المتجددة كل ساعة ، وكل فرد منها يدعو الناس إلى الإيمان , ويزجرهم عن المعاصي والسيئات ، ويكون حجة لهم أو عليهم يوم القيامة .
ومن أسرار خلافة الإنسان في الأرض أمور :
الأول : مجئ رحمة الله عز وجل للناس على نحو الإبتداء .
الثاني : دوام وإتصال رحمة الله بالناس .
الثالث : مجئ أفراد ومصاديق مستحدثة من الرحمة لكل إنسان في كل ساعة من ساعات حياته .
الرابع : تقريب الناس إلى عبادة الله بتغشيهم برحمته .
الخامس : مجئ نافلة من رحمة الله للذين آمنوا بالله ورسوله على نحو الخصوص ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ] ( ) .
السادس : خلافة الإنسان في الأرض رحمة بالناس والخلائق ، وتحتمل الصلة بين الرحمة والخلافة وجوهاً :
الأول : رحمة الله للناس سابقة لهبوط آدم إلى الأرض .
الثاني : الملازمة بين رحمة الله بالناس وهبوط آدم عليه السلام وحواء إلى الأرض .
الثالث : تأخر زمان نزول رحمة الله عز وجل على هبوط آدم إلى الأرض .
والصحيح هو الأول أعلاه ، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قال : لما قضى اللّه الخلق كتب في كتاب وهو عنده فوق العرش :إن رحمتي سبقت غضبي) ( ).
الرابعة : تذكير المسلمين الناس برحمة الله عليهم ، ولزوم شكره تعالى على هذه النعمة الجلية ، والمتصلة وأفرادها المستحدثة كل ساعة من ساعات الدنيا ، وليكون المسلمون القدوة والأسوة والمعلم للناس في مقامات الشكر لله وكيفيته .
الخامسة : فوز المسلمين باستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم ومشاورته لهم ، وهو من أبهى معاني الرحمة ، إذ جاء هذا الإستغفار والمشاورة المباركة بأمر من عند الله عز وجل ، وفي التنزيل [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ]( ) .
وعن عوف بن مالك الاشجعي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على ميت فسمعت من دعائه وهو يقول اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الابيض من الدنس .
وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه وأدخله الجنة ونجه من النار أو قال أعذه من عذاب القبر( ).
المسألة السادسة : لقد أخبرت آية السياق عن رقة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورفقه بالمسلمين، ليتجلى هذا الرفق بلحاظ آية البحث من وجوه :
الأول : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لسيرة الأنبياء ، وذكر شواهد من قصصهم ، وجهادهم في سبيل الله ، وتنزههم عن الحرام , وما فيه من نقص وعيب.
وعن عبد الله بن مسعود قال (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَهُوَ يَحْكِي نَبِيًّا قَالَ كَانَ قَوْمُهُ يَضْرِبُونَهُ حَتَّى يُصْرَعَ قَالَ فَيَمْسَحُ جَبْهَتَهُ وَيَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي إِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) ( ).
الثاني : إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين عن عصمة الأنبياء وتنزههم عما فيه كدورة وأذى ، لتكون هذه الخصلة الحميدة نوع تأكيد للزوم التصديق بنبوة الأنبياء جميعاً ولم يكتف الأنبياء بالإمتناع عن أكل الغلول ، بل كانوا يتحملون الأذى من قومهم بصبر ودعاء لهدايتهم وصلاحهم .
ولم يرد في مصاديق هذا الأذى التعيير بأكل الغلول، مما يدل على أمور :
أولاً : سلامة الأنبياء عن أكل الغلول .
ثانياً : عجز أعداء الأنبياء عن التعيير بأكل الغلول .
ثالثاً : إنشغال الأنبياء بدفع أذى الذين كفروا والصبر عليه . مع الأنبياء ليس لهم من عمل إلا الدعوة إلى الله ، والإجتهاد في طاعته، وفي إبراهيم ورد قوله تعالى[فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ]( ).
الثالث : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآية البحث في الصلاة وخارجها ، وهل هذه التلاوة من البيان الوارد في قوله تعالى [ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ] ( ).
الجواب نعم بلحاظ أن السنة النبوية فرع الوحي ورشحة منه ، وتلك معجزة أخرى للقرآن بأن تنزل الآية القرآنية ثم يتوالى بيانها من جهات :
الأولى : الوحي على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : نزول آيات القرآن لبيان بعضها بعضاً .
الثالثة : شهادة الوقائع على صدق مضامين الآية القرآنية .
ويتوارث المسلمون ذات الآية وبيانها النبوي ، وقد صدر لنا قبل نحو ست وعشرين سنة جزءان من كتابنا الموسوم (تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن )وفيه ذكر لأحاديث نبوية تتعلق بتفسير آيات من القرآن , ليكون أساساً لعلم مستقل في التفسير، وفيه مسائل:
الأولى : دعوة العلماء للعناية بتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن .
الثانية : التفات المسلمين الى كنز من كنوز السنة النبوية قائم بذاته .
الثالثة : إستحضار المسلم عند تلاوته للقرآن تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآياته .
الرابعة : إتخاذ العلماء تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن منهاجاً وضياءً ، وهل هو من عمومات قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، الجواب نعم .
الخامسة : تفقه المسلمين في الدين ، وهل فيه واقية للمسلمين من أكل الغلول، الجواب نعم ، للتناسب الطردي بين عناية المسلم بعلوم القرآن والسنة وبين التقوى والتنزه عن الحرام , ومنه أخذ الغلول خلسة .
السادسة : تنمية ملكة الجدال والإحتجاج عند المسلمين , وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
الرابع : لقد تضمنت آية السياق الإخبار عن لين جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين ، ومقابلته الإساءة بالإحسان والرفق , وقد تقدم قبل آيتين قوله تعالى[فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ]( ).
ولقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يرأف بالذين كفروا من قومه , وبخصوص إنصراف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معركة أحد (قال ابن إسحاق : و لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة فقال : اغسلي عن هذا دمه يا بنية فو الله لقد صدقني اليوم و ناولها علي بن أبي طالب سيفه.
وقال : وهذا فاغسلي عنه دمه فو الله لقد صدقني اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لئن كنت صدقت القتال لقد صدق معك سهل بن حنيف و أبو دجانة).
وروينا عن ابن عقبة : و لما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيف علي مختضبا دما قال : إن تكن أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح و الحارث بن الصمة و سهل بن حنيف.
ثم قال : أخبروني عن الناس ما فعلوا وأين عامتهم ؟ ثم قال : إن المشركين لن يصيبوا منّا مثلها حتى نتيحهم , ومثّل المشركون يومئذ بقتلى المسلمين إلا ما كان من حنظلة ابن أبي عامر فإن أباه كان معهم، فلذلك لم يمثلوا به ذكره ابن عقبة , وقال : قال سهل بن سعد الساعدي : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ( ).
ليكون من باب الأولوية القطعية أن يرأف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين ، وتدل آية البحث على أن رأفته بهم برحمة وفضل من عند الله عز وجل ، وكذا لين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين من رحمة الله عز وجل ولطف منه تعالى بنداء الخصوص ، وباب فتحه للمسلمين دون غيرهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وهل إمتناع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن أخذ الغلول من مصاديق هذا اللين الذي تذكره آية السياق بتقريب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إمتنع عن أكل الغلول رفقاً بالمسلمين .
الجواب نعم ليكون أسوة حسنة لهم، كما أن هذا اللين من رشحات إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أكل الغلول، وبيانه لوجوب التعفف والصبر وإجتناب الغلول .
الخامس : بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأحوال الناس يوم القيامة ، ونزول الخزي والفضيحة يومئذ بمن يأخذ الغلول ويخفي قطعة من الغنائم .
السادس : لقد بينت آية السياق حقيقة وهي إلتفاف المسلمين حول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإصرارهم على عدم مفارقته ، وهو من المعجزات الحسية لنبوته لأن ملازمتهم له منبع للعلوم ، وكسب للمعارف الإلهية، وهو من عمومات قوله تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ) .
وأخبرت الآية عن عدم إنفضاض المسلمين عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ليكون عدم الإنفضاض هذا واقية من أخذ الغلول , وسرقة قطعة أو قطع من الغنائم من وجوه :
الأول : قرب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين زاجر لهم عن الحرام مطلقاً .
الثاني : إكتساب المسلمين المعارف والعلوم من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهل يختص القرب في المقام بأهل البيت والصحابة , الجواب لا، إنما يشمل التابعين وأجيال المسلمين إلى يوم القيامة إذ تدل السنة النبوية على رأفة ورفق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين والمسلمات.
الثالث : القرب من النبي باعث على الإنشغال بالعبادات، والإنصات إلى قراءة القرآن، والعمل بالأوامر الإلهية ، والحرص على إجتناب ما ينهى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الإعجاز في المقام أن الله عز وجل نهى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عن طرد فقراء المسلمين من حوله، وعن خباب قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي ، وعيينة بن حصن الفزاري ، فوجدا النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً مع بلال ، وصهيب ، وعمار ، وخباب ، في أناس ضعفاء من المؤمنين ، فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فخلوا به ، فقالوا : انا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلنا ، فإن وفود العرب ستأتيك فنستحي أن ترانا العرب قعوداً مع هؤلاء الأعبد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا ، فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت .
قال : نعم .
قالوا : فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً ، فدعا بالصحيفة ودعا علياً ليكتب ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبريل بهذه الآيةوَلاَ تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ( ).
الرابع : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأداء الصلاة اليومية جماعة حتى في حال إحتمال مداهمة المسلمين الخطر ، لذا شرّعت صلاة الخوف في الإسلام بأن يصلي الإمام بشطر من الجيش ليقوموا ويتركوا مواضعهم ويأتي الشطر الثاني من الجيش فيتمون الصلاة مع الإمام.
والخوف هو الفزع وإستحواذ الغم على النفس وإضطرابها لتوقع حدوث مكروه، أو فوات محبوب، وتتعدد أدلة صلاة الخوف وهي على أقسام:
الأول : ورود صلاة الخوف في القرآن ، وبما يعصم من اللبس والخلاف فيها، قال تعالى[وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
ومن أسرار الآية أعلاه منع أمور :
أولاً : التشديد على النفس بأداء الصلاة كاملة، وإنشغال جيش المسلمين بها مع وجود العدو، وإرادته المكر والغدر بالمسلمين.
ثانياً : الإجتهاد في مقابل النص.
ثالثاً : التهاون في أداء فريضة الصلاة.
الثاني : الآيات القرآنية التي تتضمن التيسير والتخفيف، ونفي الحرج عن المسلمين في العبادات والمعاملات منها قوله تعالى[مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ]( )، [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( )، [يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( )، [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: مما أعطى الله امتي وفضلهم به على سائر الامم أن أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلا نبي، وذلك أن الله تبارك وتعالى كان إذا بعث نبيا قال له اجتهد في دينك ولا حرج عليك، وإن الله تبارك وتعالى أعطى ذلك امتي حيث يقول[وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( )، يقول: من ضيق.
وكان إذا بعث نبيا قال له: إذا أحزنك أمر تكرهه فادعني أستجب لك، وإن الله أعطى امتي ذلك، حيث يقول: “ادعوني أستجب لكم”.
وكان إذا بعث نبيا جعله شهيدا على قومه، وإن الله تبارك وتعالى جعل امتي شهداء على الخلق حيث يقول: ” ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس)( ).
الثالث : السنة النبوية إذ وردت أحاديث عديدة في التخفيف عن المسلمين والمنع من التشديد على أنفسهم منها ما ورد عن أسامة بن شريك قال: شهدت الاعراب ينبئون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أشياء ليس بها بأس هل علينا حرج في كذا يا رسول الله هل علينا حرج في كذا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا عباد الله رفع الله الحرج إلا إمرأ اقترف رجلا مسلما فذلك حرج قالوا
أنتداوى يا رسول الله قال نعم فإن الله لم يضع على الارض داء إلا أنزل له شفاء غير داء واحد قالوا يا رسول الله ما هو قال الهرم)( ).
ومنها ما ورد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا) ( ).
تفيد الحكم بصلاة الخوف والتخفيف فيها، إذ ورد قوله تعالى[وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا]( ).
وقد ثبت أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم صلى بأصحابه صلاة الخوف في مواطن متعددة، على وجوه:
الأول : إنها حجة على الذين كفروا.
الثاني : فيها دعوة لهم للإسلام.
الثالث : تشريع وأداء صلاة الخوف إنذار للناس من التعدي على المسلمين.
الرابع : دفع مكر الذين كفروا، وجعلهم يرون آية حسية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتجلى فيها موضوعية علم الغيب وإخبار الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعزم الذين كفروا على مباغتة المسلمين , ودفع كيدهم بصلاة الخوف .
وعن جابر بن عبد الله قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه صلاة العصر، فصفهم صفين بين أيديهم رسول الله والعدو بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكبر وكبروا جميعا وركعوا جميعا، ثم سجد الذين يلونهم والآخرون قيام .
فلما رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون، ثم تقدم هؤلاء وتأخر هؤلاء، فكبروا جميعا وركعوا جميعا، ثم سجد الذين يلونه والآخرون قيام، فلما رفعوا رؤوسهم سجد الآخرون)( ).
فمن ضروب صلاة الخوف بأن صار المسلمون طائفتين، فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الركعة الأولى ومعه طائفة وتحرسهم الطائفة الأخرى، وما أن تتم هذه الركعة حتى تنصرف الطائف الأولى وبقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائماً في صلاته لتأتي الفرقة الأخرى فتقف خلفه، وتنتقل الأخرى إلى حمايتهم ومواجهة العدو.
فيركع ويسجد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سجدتين مع كل طائفة منهما، وتسلم الطائفة الثانية معه، ويكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد صلى صلاة الظهر أو العصر ركعتين صلاة الخوف، وصلى المسلمون الذين معه ركعة واحدة معه، وقيل تقضي كل طائفة ركعة واحدة أخرى.
ولا مانع من تعدد كيفية صلاة الخوف بحسب حال وشدة الخوف، والحيطة من العدو، وعن أبي بكرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بأصحابه صلاة الخوف ، فصلى ببعض أصحابه ركعتين ثم سلم فتأخروا ، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعتين ثم سلم ، فكان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربع ركعات ، وللمسلمين ركعتان ركعتان .
وأخرج الدارقطني والحاكم عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالقوم في الخوف صلاة المغرب ثلاث ركعات ، ثم انصرف وجاء الآخرون فصلى بهم ثلاثاً فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ست ركعات ، وللقوم ثلاث ثلاث .
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير والدارقطني عن ابن مسعود قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الخوف فقاموا صفين ، صف خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصف مستقبل العدو ، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعة ، وجاء الآخرون فقاموا مقامهم واستقبلوا هؤلاء العدو .
فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعة ثم سلم ، فقام هؤلاء إلى مقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا)( ).
المسألة السابعة : لقد ورد كل من لفظ [ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ ] [ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ] بصيغة النكرة وما يفيد العموم لبيان فضل الله عز وجل ولطفه بالمسلمين بتقريبهم إلى منازل الهداية بفيوضات رحمته ، وبيان السنة الشريفة للأنبياء التي ملاكها التقوى والخشية من الله عز وجل .
وفي آية السياق حجة على الذين كفروا إذ أن الإنتفاع الأمثل من رحمة الله التي ألان بها قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين واقية من دخول النار ، وتقدير الجمع بين أول آية السياق وخاتمة آية البحث ، فمن ينهل من رحمة الله لا يكون مأواه جهنم .
ومن خصائص رحمة الله في المقام أن كل قول وفعل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة للناس إلى طاعة الله ، وحث لهم على التقوى .
ومن إعجاز آية السياق إخبارهم عن برهان حسي وشاهد مدرك بالعيان ، وتتناقله الأخبار ، وهو أن أهل بيت النبوة وأصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يتفرقوا عنه .
وعدم التفرق هذا من أسباب نصر الإسلام ، وقهر الذين كفروا ، وعجزهم عن قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فان قلت قد تفرق وإنهزم من المعركة أكثر أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ، قال تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]( )، والجواب من جهات :
الأولى : تلك قضية عين في واقعة .
الثانية : لم ينهزم كل جيش المسلمين بل بقي الإمام علي عليه السلام ونفر من الصحابة يذبون ويقاتلون بين يدي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : لقد إستشهد سبعون من الصحابة يومئذ ، وفيه شاهد بأن المسلمين لم ينفضوا أو يتفرقوا عن النبي حتى فدوه بأنفسهم .
الرابعة : تدل آية السياق على عدم إختيار المسلمين التفرق عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد ورد في الثناء على المسلمين قوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ] ( ).
أما هزيمة طائفة منهم في القتال فهو أمر قهري ، ومن الشواهد على صرف مضامين آية السياق ، وشمولها حتى بحال الحرب أن تلك الهزيمة لم تتكرر في معارك الإسلام التالية ، مع أن الذين كفروا كانوا أشد فتكاً فيها كما في معركة حنين.
(قال ابن إسحق وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبدالرحمن بن جابر عن أبيه جابر بن عبد الله قال : لما استقبلنا وادى حنين انحدرنا في واد من أودية تهامة أجوف حطوط إنما ننحدر فيه انحدارا قال وفى عماية الصبح.
وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي فكمنوا لنا في شعابه وأجنابه ومضايقه وقد أجمعوا وتهيئوا وأعدوا فوالله ما راعنا ونحن منحطون إلا الكتائب قد شدوا علينا شدة رجل واحد والشمر الناس راجعين لا يلوى أحد على أحد وانحاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات اليمين ثم قال يا أيها الناس هم إلى أنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا محمد بن عبد الله قال فلا شئ حملت الابل بعضها على بعض فانطلق الناس إلا أنه قد بقى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفر من المهاجرين وأهل بيته)( ).
(عَنْ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، قَالَ إنّي لَمَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ آخُذُ بِحَكَمَةِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ قَدْ شَجَرْتهَا بِهَا ، قَالَ وَكُنْت امْرَأً جَسِيمًا شَدِيدَ الصّوْتِ قَالَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَقُولُ حِينَ رَأَى مَا رَأَى مِنْ النّاسِ ” أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ ” فَلَمْ أَرَ النّاسَ يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ.
فَقَالَ يَا عَبّاسُ اُصْرُخْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ : يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ السّمُرَةِ قَالَ فَأَجَابُوا : لَبّيْكَ لَبّيْكَ قَالَ فَيَذْهَبُ الرّجُلُ لِيُثْنِيَ بَعِيرَهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْخُذُ دُرْعَهُ فَيَقْذِفُهَا فِي عُنُقِهِ وَيَأْخُذُ سَيْفَهُ وَتُرْسَهُ وَيَقْتَحِمُ عَنْ بَعِيرِهِ وَيُخَلّي سَبِيلَهُ فَيَؤُمّ الصّوْتَ حَتّى يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ .
حَتّى إذَا اجْتَمَعَ إلَيْهِ مِنْهُمْ مِائَةٌ اسْتَقْبَلُوا النّاسَ فَاقْتَتَلُوا ، وَكَانَتْ الدّعْوَى أَوّلَ مَا كَانَتْ يَا لِلْأَنْصَارِ . ثُمّ خَلَصَتْ أَخِيرًا : يَا لِلْخَزْرَجِ . وَكَانُوا صَبْرًا عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَشْرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِي رَكَائِبِهِ . فَنَظَرَ إلَى مُجْتَلَدِ الْقَوْمِ وَهُمْ يَجْتَلِدُونَ فَقَالَ الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ .
قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْن جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ بَيْنَا ذَلِكَ الرّجُلُ مِنْ هَوَازِنَ صَاحِبُ الرّايَةِ عَلَى جَمَلِهِ يَصْنَعُ مَا يَصْنَعُ إذْ هَوَى لَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُرِيدَانِهِ
قَالَ فَيَأْتِيهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ خَلْفِهِ فَضَرَبَ عُرْقُوبَيْ الْجَمَلِ فَوَقَعَ عَلَى عَجُزِهِ وَوَثَبَ الْأَنْصَارِيّ عَلَى الرّجُلِ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً أَطَنّ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ فَانْجَعَفَ عَنْ رَحْلِهِ .
قَالَ وَالْتَفَتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ .
قَالَ وَاجْتَلَدَ النّاسُ فَوَاَللّهِ مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النّاسِ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ حَتّى وَجَدُوا الْأُسَارَى مُكَتّفِينَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ .
وَكَانَ مِمّنْ صَبَرَ يَوْمَئِذٍ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَكَانَ حَسَنَ الْإِسْلَامِ حِينَ أَسْلَمَ ، وَهُوَ آخِذٌ بِثَفَرِ بَغْلَتِهِ فَقَالَ ” مَنْ هَذَا ؟ ” قَالَ أَنَا ابن أُمّك يَا رَسُولَ اللّهِ ) ( ).
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : يا أيها الناس (إنما أنا رحمة مهداة) ( ) ومن معاني الرحمة إستدامة الحياة البشرية ، وعد تعرض الناس إلى الخسف والمسخ أو الهلاك بالغرق والطوفان ونحوه كما إبتليت الأمم السابقة ، فان قلت أن الأسلحة النووية والجرثومية تهدد العالم كله ، فهل يمكن أن نطمئن على عدم قيام الدول باستعمالها بدليل قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الجواب نعم ، إلا أن يشاء الله وليس من ملازمة بين إستعمال الأسلحة النووية وقيام الساعة والنفخ في الصور .
(وأخرج أحمد عن حذيفة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الساعة قال { علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو }( ) ولكن أخبركم بمشاريطها ، وما يكون بين يديها ، إن بين يديها فتنة وهرجا . قالوا : يا رسول الله الفتنة قد عرفناها الهرج ما هو؟ قال : بلسان الحبشة القتل .
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الساعة وأنا شاهد فقال لا يعلمها إلا الله ولا يجليها لوقتها إلا هو ، ولكن سأخبركم بمشاريطها ما بين يديها من الفتن والهرج .
فقال رجل : وما الهرج يا رسول الله؟ قال : بلسان الحبشة القتل ، وأن تجف قلوب الناس ، ويلقي بينهم التناكر ، فلا يكاد أحد يعرف أحداً ، ويرفع ذو الحجا ويبقى رجراجة من الناس ، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً) ( ).
ويمكن تأسيس قانون وهو : القرآن وسيلة سماوية لإستدامة الحياة الإنسانية بشواهد كثيرة من آياته .
وهل تدل آية السياق وآية البحث عليه ، الجواب نعم ، من جهتين :
الأولى : أما آية البحث فمن وجوه :
أولاً : بيان الآية لقانون ، وهو توالي وتعاقب بعثة الأنبياء وإذ تقدم أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة مهداة ففي موضوع باقي الأنبياء وجوه :
الأول : إختصاص الرسل بأنهم رحمة مهداة .
الثاني : كل نبي رحمة إلى قومه والذين يبعث إليهم .
الثالث : إختصاص الرحمة العامة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) ، أما الأنبياء الآخرون فهم رحمة إلى قومهم الذين يبعثون إليها .
الرابع : كل نبي رحمة للناس جميعاً .
والمختار هو الثاني والرابع أعلاه وأن كل نبي رحمة للناس جميعاً ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن بدليل آية البحث التي بينت للناس وإلى يوم القيامة عفة وطهارة كل نبي من الأنبياء بتنزههم عن أكل الغلول .
ثانياً : دعوة آية البحث للمسلمين للإقتداء بالأنبياء , وفيه قوة ومنعة للإسلام ، وبرزخ دون تجرأ الذين كفروا ، وقيامهم بالإعتداء على الثغور .
ليكون من معاني قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ) بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا , ومنعهم من محاربة الإسلام والمسلمين .
ثالثاً : تذكير آية البحث بيوم القيامة ، ودعوة الناس لإستحضاره ولزوم الإستعداد له ، وهو من مصاديق نبذ العنف والبطش والظلم بذكر الإنسان لعالم الحساب , وهذا الذكر برزخ دون فعل السيئات .
ومن الآيات في خلق الإنسان ، وموضوعية الشريعة في حياته مجئ حكم القصاص ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ) وفيه نجاة من القتل العمد ، ومن القود والقصاص لإدراك الإنسان لقانون وهو إذا قتل غيره فانه يُقتل قصاصاً ، فيجتنب القتل ، ويكظم غيظه ، أو لا أقل لم يترك العنان للغضب بالإستحواذ على جوارحه ، فاذا كان هذا حال حكم القصاص في الدنيا ، فان الإخبار عن الحساب والجزاء في الآخرة أشد وطأة من القصاص .
ففي الإقامة على الكفر وإرتكاب المعاصي الخلود في نار جهنم إلى يوم الدين ، قال تعالى [وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى] ( ) أي أشد تعذيباً وألماً من عذاب الدنيا وأطول في مدته .
وورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الملاعنة بين زوجين (يا هلال اتق الله فان عذاب الدنيا اهون من عذاب الآخرة) ( ).
رابعاً : ذكرت آية البحث الحساب يوم القيامة وعدم إستثناء شخص منه ، فكل إنسان يقف بين يدي الله عز وجل للحساب ، وفيه تنقيح لأعمال الناس ودعوة لهم للصلاح .
الثانية : أما آية السياق فمن وجوه :
أولاً : مجئ القرآن بقوانين كثيرة تدل على أن الحياة الدنيا (دار الرحمة ) وأن الله عز وجل لم يجعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) إلا ليرحمه ويجعل رحمته تتغشى الناس مجتمعين ومتفرقين ، وليس من ثانية أو دقيقة تمر على الإنسان إلا وهناك ضروب كثيرة من رحمة الله تأتي له ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
ليكون من معاني قوله تعالى في بداية آية السياق [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ]( )دعوة المسلمين للتدبر في رحمة الله بهم سواء بخصوص آيات القرآن أو سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو أمور الدين والدنيا ، فيكون تقدير أول آية السياق على وجوه غير متناهية , وتؤلف فيها مجلدات عديدة منها على سبيل المثال :
الأول : فبما رحمة من الله بعث الله سبحانه النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبياً رسولاً ، فان قلت لم يرد هذا الوصف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجمع بين صفة النبوة والرسالة في آية واحدة ، الجواب من جهات :
الأولى : إفادة الجمع بين الآيات هذا المعنى والدلالة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ] ( ) .
كما وصفه الله عز وجل بأنه رسول بقوله تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا] ( ).
الثانية : وراثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأنبياء والرسل السابقين وختم النبوة به، وفي موسى ورد في التنزيل خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا]( ).
الثالثة : مجئ البشارات من الأنبياء السابقين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : صبغة العموم والعالمية لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
الخامسة : أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجامعة لصفة النبوة والرسالة، ومنها ما ورد عن سعد بن أبي وقاص قال: خلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك فقال يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان فقال أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي( ).
السادسة : دلالة نزول القرآن الكتاب الجامع للأحكام على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أنه رسول من رب العالمين .
الثاني : فبما رحمة من الله سبحانه نزل القرآن ، إذ إنفرد القرآن بخصوصية وهي إضاءته للأرض والنفوس معاً ، وترشح منافع كل منهما على الأخر ، وهذه الرحمة توليدية ليس لأفرادها من حصر بلحاظ معاني الرحمة في كل آية من القرآن .
الثالث : فبما رحمة من الله سبحانه نصر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على الذين كفروا وتتجلى الرحمة في المقام من وجوه :
أولاً : نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتوالي المعجزات الحسية والعقلية على يديه .
ثانياً : نصر الله سبحانه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعجز الذين كفروا عن سجنه أو قتله مع عزمهم المتكرر على الإضرار والفتك به [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ] ( ).
ثالثاً : نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجعل طائفة من أهل البيت والصحابة الأوائل في مكة يصدّقون بنبوته ، وهل يمكن القول أنهم نواة الإسلام ، والبذرة المباركة التي تفرعت عنها أغصان الإيمان والولاء .
الجواب نعم ، ولكنه ليس بتام إذ دخل الأنصار الإسلام لجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده ، وبيانه لمعجزاته ، إذ كان يطوف على القبائل في موسم الحج يدعوهم إلى الله .
رابعاً : النصر من عند الله عز وجل بهجرة عدد من الصحابة إلى الحبشة ، وصحيح أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يهاجر معهم إلى الحبشة ، ولكنها كانت معجزة خاصة له وشاهداً على صدق نبوته ، إذ تفضل الله عز وجل وجعل جعفر الطيار والمهاجرين الآخرين يسمعون ويطيعون كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما أمرهم بالهجرة إلى الحبشة مع بعد الدار وآفات الطريق ، ومشاق الغربة ، وعدم وجود قريب أو عشيرة هناك يأوون إليها .
خامساً : نصر الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بسلامته من إرادة كفار قريش الإجهاز عليه وقتله ، فمن الآيات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن هجرة نفر من اصحابه إلى الحبشة صارت سبباً لتأليب كفار قريش ومناجاتهم بالباطل لإرادة قتله .
فقد أرسلت قريش وفداً منهم إلى النجاشي ملك الحبشة بطلب إعادة هؤلاء المهاجرين وبأنهم أبناءهم وقد صبوا وخرجوا عن عادات أهليهم وإتخذت قريش من دار الندوة مكاناً لخططهم ومكرهم وكيدهم ، مع أن هذه الدار هي دار قصي بن كلاب جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فصارت محل إجتماعاتهم لا يتخذون قراراً إلا فيها ، ولا يجتمع عند أوان إتخاذ القرار إلا الأكابر منهم .
وهناك مسألة لابد من الإلتفات إليها ودراستها في رسالة جامعية مستقلة وهي : لماذا كانت هجرة نفر من المسلمين إلى الحبشة سبباً لعزم كفار قريش على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن ابن عباس قال (لَمّا أَجْمَعُوا لِذَلِكَ وَاتّعَدُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِي دَارِ النّدْوَةِ لِيَتَشَاوَرُوا فِيهَا فِي أَمْرِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ غَدَوْا فِي الْيَوْمِ الّذِي اتّعَدُوا لَهُ وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ يُسَمّى يَوْمَ الرّحْمَةِ فَاعْتَرَضَهُمْ إبْلِيسُ فِي هَيْئَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ ، عَلَيْهِ بِتَلّةِ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الدّارِ فَلَمّا رَأَوْهُ وَاقِفًا عَلَى بَابِهَا ز
قَالُوا : مَنْ الشّيْخُ ؟ قَالَ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ سَمِعَ بِاَلّذِي اتّعَدْتُمْ لَهُ فَحَضَرَ مَعَكُمْ لِيَسْمَعَ مَا تَقُولُونَ وَعَسَى أَنْ لَا يَعْدَمَكُمْ مِنْهُ رَأْيًا وَنُصْحًا .
قَالُوا : أَجَلْ فَادْخُلْ فَدَخَلَ مَعَهُمْ وَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهَا أَشْرَافُ قُرَيْشٍ ، مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ : عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ .
وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَاف ٍ طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيّ ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَارِمِ بْنِ نَوْفَلٍ وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ : النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ . وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى : أَبُو الْبَخْتَرِيّ بْنُ هِشَامٍ وَزَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ . وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ : أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ . وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ : نَبِيهٌ وَمُنَبّهٌ ابْنَا الْحَجّاجِ ، وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ : أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ وَغَيْرُهُمْ مِمّنْ لَا يُعَدّ مِنْ قُرَيْشٍ .
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ إنّ هَذَا الرّجُلَ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ فَإِنّا وَاَللّهِ مَا نَأْمَنُهُ عَلَى الْوُثُوبِ عَلَيْنَا فِيمَنْ قَدْ اتّبَعَهُ مِنْ غَيْرِنَا ، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا .
قَالَ فَتَشَاوَرُوا ثُمّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ احْبِسُوهُ فِي الْحَدِيدِ وَأَغْلِقُوا عَلَيْهِ بَابًا ، ثُمّ تَرَبّصُوا بِهِ مَا أَصَابَ أَشْبَاهَهُ مِنْ الشّعَرَاءِ الّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ زُهَيْرًا وَالنّابِغَةَ وَمَنْ مَضَى مِنْهُمْ مِنْ هَذَا الْمَوْتِ حَتّى يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ .
فَقَالَ الشّيْخُ النّجْدِيّ : لَا وَاَللّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيِ . وَاَللّهِ لَئِنْ حَبَسْتُمُوهُ كَمَا تَقُولُونَ لَيَخْرُجَنّ أَمْرُهُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ الّذِي أَغْلَقْتُمْ دُونَهُ إلَى أَصْحَابِهِ فَلَأَوْشَكُوا أَنْ يَثِبُوا عَلَيْكُمْ فَيَنْزِعُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ ثُمّ يُكَاثِرُوكُمْ بِهِ حَتّى يَغْلِبُوكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيِ فَانْظُرُوا فِي غَيْرِهِ فَتَشَاوَرُوا .
ثُمّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ نُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا ، فَنَنْفِيهِ مِنْ بِلَادِنَا ، فَإِذَا أُخْرِجَ عَنّا فَوَاَللّهِ مَا نُبَالِي أَيْنَ ذَهَبَ وَلَا حَيْثُ وَقَعَ إذَا غَابَ عَنّا وَفَرَغْنَا مِنْهُ فَأَصْلَحْنَا أَمْرَنَا وَأُلْفَتَنَا كَمَا كَانَتْ . فَقَالَ الشّيْخُ النّجْدِيّ : لَا وَاَللّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيِ أَلَمْ تَرَوْا حُسْنَ حَدِيثِهِ وَحَلَاوَةَ مَنْطِقِهِ وَغَلَبَتَهُ عَلَى قُلُوبِ الرّجَالِ بِمَا يَأْتِي بِهِ وَاَللّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ مَا أَمِنْتُمْ أَنْ يَحِلّ عَلَى حَيّ مِنْ الْعَرَبِ ، فَيَغْلِبُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَحَدِيثِهِ حَتّى يُتَابِعُوهُ عَلَيْهِ ثُمّ يَسِيرُ بِهِمْ إلَيْكُمْ حَتّى يَطَأَكُمْ بِهِمْ فِي بِلَادِكُمْ فَيَأْخُذُ أَمْرَكُمْ مِنْ أَيْدِيكُمْ ثُمّ يَفْعَلُ بِكُمْ مَا أَرَادَ دَبّرُوا فِيهِ رَأْيًا غَيْرَ هَذَا .
قَالَ فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَاَللّهِ إنّ لِي فِيهِ لَرَأْيًا مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ قَالُوا : وَمَا هُوَ يَا أَبَا الْحَكَمِ ؟ قَالَ أَرَى أَنّ نَأْخُذَ مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ فَتًى شَابّا جَلِيدًا نَسِيبًا وَسِيطًا فَيْنًا ، ثُمّ نُعْطِي كُلّ فَتًى مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا ، ثُمّ يَعْمِدُوا إلَيْهِ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيَقْتُلُوهُ فَنَسْتَرِيحُ مِنْهُ .
فَإِنّهُمْ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ جَمِيعًا ، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى حَرْبِ قَوْمِهِمْ جَمِيعًا ، فَرَضُوا مِنّا بِالْعَقْلِ فَعَقَلْنَاهُ لَهُمْ . قَالَ فَقَالَ الشّيْخُ النّجْدِيّ : الْقَوْلُ مَا قَالَ الرّجُلُ هَذَا الرّأْيُ الّذِي لَا رَأْيَ غَيْرَهُ فَتَفَرّقَ الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُجْمِعُونَ لَهُ فِي أَمْرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ
وَإِنّمَا قَالَ لَهُمْ إنّي مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السّيرَةِ لِأَنّهُمْ قَالُوا : لَا يَدْخُلَنّ مَعَكُمْ فِي الْمُشَاوَرَةِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ لِأَنّ هَوَاهُمْ مَعَ مُحَمّدٍ فَلِذَلِكَ تَمَثّلَ لَهُمْ فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيّ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي خَبَرِ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ أَنّهُ تَمَثّلَ فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيّ أَيْضًا ، حِينَ حَكّمُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِي أَمْرِ الرّكْنِ مَنْ يَرْفَعُهُ ” .
فَصَاحَ الشّيْخُ النّجْدِيّ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ : أَقَدْ رَضِيتُمْ أَنْ يَلِيَهُ هَذَا الْغُلَامُ دُونَ أَشْرَافِكُمْ وَذَوِي أَسْنَانِكُمْ فَإِنْ صَحّ هَذَا الْخَبَرُ فَلِمَعْنًى آخَرَ تَمَثّلَ نَجْدِيّا ، وَذَلِكَ أَنّ نَجْدًا مِنْهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشّيْطَانِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ حِينَ قِيلَ لَهُ وَفِي نَجْدِنَا يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ .
قَالَ ” هُنَالِكَ الزّلَازِلُ وَالْفِتَنُ وَمِنْهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشّيْطَان ” ، فَلَمْ يُبَارِكْ عَلَيْهَا ، كَمَا بَارَكَ عَلَى الْيَمَنِ وَالشّامِ وَغَيْرِهَا ، وَحَدِيثُهُ الْآخَرُ أَنّهُ نَظَرَ إلَى الْمَشْرِقِ فَقَالَ إنّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشّيْطَانِ) ( ).
سادساًً : نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمغادرته مكة في ذات الليلة التي أرادوا قتله فيها ، وتتجلى في هذا النصر موضوعية الوحي وأمر جبرئيل له بالخروج من مكة مع بيان علة هذا الأمر العاجل الذي لا يتحمل الإرجاء ، فكثير من الناس يهمون بعمل مخصوص , ويرون منافعه كالدراسة والتجارة والسفر ولكنهم يرجئون القيام به يوماً بعد آخر إلى أن يفوت أوانه خصوصاً إذا لم يخل من الأخطار والمشاق وإحتمال الخسارة ، ومنه الهجرة وترك دار الصبا وجوار البيت الحرام .
ولم تكن الهجرة في تلك الأزمنة كما هي عليه الآن ، وإمكان الرجوع إلى ذات البلد الأصلي في ساعات في سفر في الجو بل كانت هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاقّة والرجوع متعذر مع وجود هؤلاء الأعداء .
وكان همّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو نشر كلمة التوحيد، وتبليغ الناس الرسالة فنصره الله عز وجل وامدّه بالملائكة ليخرجوا معه من مكة ويصحبوه في الطريق إلى المدينة.
ومن الإعجاز أن الله عز وجل سمّى خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة نصراً له بقوله تعالى[إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا]( ).
ولم يرد لفظ (الله معنا) إلا في الآية أعلاه لبيان موضوعية هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بناء دولة الإسلام وإستدامة العمل بشريعته إلى يوم القيامة .
وهل يمكن القول بأنه لو لم يهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة لما قامت دولة الإسلام , الجواب لا، لأن الله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة، وهو سبحانه الذي شاء وراثة المسلمين للأرض، وإقامتهم الصلاة والفرائض العبادية الأخرى فيها الى يوم القيامة، فان لم يكن طريق الهجرة الى المدينة لكانت هناك آلاف من الطرق والوسائل لإقامة دولة الإسلام، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
لذا هل من حصر وتعيين لكيفية وطريقة فناء العالم وأوان قيام القيامة الجواب لا، وإن كان الله يعلم بها , إنما يتعلق الأمر بصلاح الناس ودعائهم، وجاءت آية البحث لتنزيه المسلمين عن الغلول لأن هذا التنزه سبيل للنصر وإدامة الحياة ، وعمارة الأرض بسنن التقوى، وفي التنزيل[قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ]( ).
سابعاً : تفضل الله عز وجل بنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند دخوله المدينة مهاجراً، إذ دخلها نبياً رسولاً وعلى أمة من الأنصار ينتظرون هجرته إليهم ، لتكون نوع نسخ لهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للطائف وما لاقي فيها.
صلة خاتمة الآية السابقة بآية البحث
أختتمت الآية السابقة بقانون وتتغش الحياة الدنيا ومنهاج العمل الإيماني في الأرض منذ أيام أبينا آدم عليه السلام وإلى يوم القيامة وهو توكل المؤمنين على الله ، وتفويض أمورهم له سبحانه والذي يدل بالدلالة التضمنية على تسليمهم بأن مقاليد الأمور بيده سبحانه ، فان قلت جاءت الآية بصيغة المضارع ولغة الأمر [فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ) والقدر المتيقن منها هو : إرادة المسلمين إلى يوم القيامة ، وهل تشمل الآية المسلمات ، أم أن المراد خصوص الرجال المؤمنين من المسلمين لأن موضوع الآية هو النصر في ميدان القتال ، الجواب هو الأول ، وورد لفظ التذكير للغالب .
وتحتمل الصلة بين أول وآخر آية البحث وجوهاً :
الأول : نسبة العموم والخصوص المطلق وأن الذين يتوكلون على الله عز وجل أعم من الذين يخاطبهم الله في أول الآية وبعدهم بالنصر .
الثاني : إرادة نسبة التساوي بين المخاطبتين في أول الآية وبين الذين يشملهم القانون الوارد في خاتمة الآية السابقة .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
والمختار هو الثاني أعلاه ، وهو من إعجاز القرآن بأن تجتمع صيغة الخطاب والغائب في الآية الكريمة بارادة جهة واحدة وهم المسلمون والمسلمات وبما يفيد الثناء عليه وإكرامهم وهدايتهم إلى طرف الفوز والإرتقاء في سلم المعارف ، وليكون كل من نصر المسلمين في ميدان القتال وحسن توكلهم على الله عز وجل سبيل إلى جلب الغنائم ، والإحتراز من أخذ الغلول من الغنائم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا] ( ).
ومن الإعجاز في نظم الآيات إنحصار لغة الشرط في الآية السابقة [إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ] ( ) بين خاتمة الآية التي قبلها [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ] ( ) وبين قوله تعالى [وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ) ليكون من معانيه أن النصر حليف المسلمين لأن الله عز وجل يحبهم وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : ينصر الله الذين يتوكلون عليه .
الصغرى : المسلمون يتوكلون على الله .
النتيجة : ينصر الله المسلمون .
وفيه دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل على النعم وهي من جهات :
الأولى : ذكر الآية السابقة للنصر وأنه بيد الله عز وجل .
الثانية : عصمة المسلمين من الهزيمة والإنكسار ، وتقدير قوله تعالى [فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ] على وجوه :
الأول : فلا غالب لكم بما أنتم مسلمون .
الثاني : فلا غالب لكم لأنكم تتوكلون على الله .
الثالث : فلا غالب لكم إلى يوم القيامة .
الرابع : دعوة الآية السابقة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لسؤال الله عز وجل بعدم خذلان أمته وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
الخامس : حث المسلمين للإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء والمسألة رجاء للنصر من وجوه :
أولاً : تقريب النصر .
ثانياً : تحقيق النصر للمسلمين .
ثالثاً : تنجز النصر للمسلمين مع القلة والنقص بالعدة والسلاح ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) حث المسلمين على الدعاء وسؤال الله عز وجل النصر ومقدماته وتقريبه ، وتحققه بالقليل من العدد والعدة ، وقهر العدو الكافر وأن كان ذا كثرة في العدد ، وتأريخ في الأنتصارات ومعرفة بفنون القتال ، وودود فرسان وشجعان في صفوفه .
رابعاً : سؤال المسلمين الله عز وجل بالسلامة من خذلانه وتركه لهم ولنصرتهم ، فالله عز وجل هو اللطيف بالمؤمنين الذي يأبى حجب النصر عنهم .
الثالثة : بيان الآية السابقة لقانون وهو إنتفاء الناصر للمسلمين غير الله عز وجل ، وفيه آية بأن الذين كفروا و[شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ] ( ) يحاربون الإسلام ، فيحتاج المسلمون النصرة من عند الله عز وجل وهو القادر على قهرهم وأنزال الخزي والهزيمة بهم .
ليكون بيان هذا القانون مناسبة لشكر المسلمين لله عز وجل ومن أسرار القوانين في ميادين الشكر إستدامة توجه المسلمين بالشكر لله عز وجل على كل قانون ونعمة منها .
الرابعة : شكر المسلمين لله عز وجل على بلوغهم مرتبة الإيمان ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى في خاتمة الآية السابقة [وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ).
ليكون تقدير الآية أعلاه على وجوه :
أولاً : وعلى الله فتوكلوا أيها المسلمون .
ثانياً : يا ايها الذين آمنوا توكلوا على الله بلحاظ عطف هذه الآيات موضوعاً على آية نداء الإيمان التي تقدمت قبل خمس آيات بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا] ( ) ليكون من معاني الآية أعلاه سلامة المسلمين من الحسرة ومن درن القلوب.
ثالثاً : يا [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) توكلوا على الله ، صحيح أن نيل المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ] يتقوم بتوكلهم على الله عز وجل وبين دخول الإسلام ومرتبة الإيمان عموم وخصوص مطلق فالإيمان أخص ، وكل مؤمن هو مسلم وليس العكس ، ليكون من معاني خاتمة الآية السابقة مسائل :
الأولى : حث المسلمين لبلوغ درجات الإيمان .
الثانية : دعوة المسلمين للتعاون والتأزر للإرتقاء لنيل مرتبة الإيمان ، وعدم الوقوف عن النطق بالشهادتين وحده ، كع أنه مرتبة سامية وشريفة وهو من أسرار مؤاخاة النبي بين المهاجرين والأنصار ليتعاونوا على أمور :
الأول : تثبيت مبادئ الإسلام في نفوس المسلمين .
الثاني : شكر المسلمين مجتمعين ومتفرقين لله عز وجل على نعمة الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ).
الثالث : تعاون المسلمين للتفقه في الدين ليكون هذا التفقه على وجوه :
أولاً : إنه نوع طريق للإيمان .
ثانياً : التفقه شاهد على الإيمان .
ثالثاً : التفقه في الدين طريق إلى النصر وجلب المصلحة والنفع في النشأتين.
رابعاً : إنه واقية من أخذ الغلول وإخفاء قطعة من الغنائم قبل قسمتها على المجاهدين .
وفي الصلة بين خاتمة الآية السابقة بين بداية آية البحث مسائل :
الأولى : لما ندبت خاتمة آية البحث المسلمين إلى التوكل على الله وتفويض الأمور له سبحانه إبتدأت آية البحث بأن أخبرت عن قانون وهو تنزه الأنبياء عن أكل الغلول في الحرب والسلم ، ليكون من معاني الآية هو ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون بالأمانة والإمتناع عن أكل الغلول .
وهل هذا الإمتناع أمر وجودي أم عدمي ، الجواب هو الأول ، وهو من أسرار مجئ الأمر بلغة العموم والغائب .
الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : وعلى الله فليتوكل المؤمنون للإقتداء بالأنبياء .
الثاني : وعلى الله فليتوكل المؤمنون لإحياء سنن الأنبياء بامتناعهم عن أكل الغلول .
الثالث : ما كان لنبي أن يغل وعلى الله فليتوكل المؤمنون في التنزه عن أكل الغلول ، ليسأل المسلمون الله عز وجل العون والمدد للقيام بالأمر بالتنزه عن السرقة والغلول والنهي عن إخفاء قطعة من الغنائم أو أموال بيت المال .
لقد جعل الله عز وجل الإنسان مركباً من جسد وروح ورزقه العقل ، ليجذبه إلى الهداية والصلاح ويعقله ويزجره عن فعل السيئات وتصارعه النفس الشهوية والغضبية فتفضل الله عز وجل ببعثة الأنبياء ، وأنزال الكتب السماوية ليتقيد الناس بسنن التقوى وإختيار سبل النجاة والفوز ، قال تعالى [إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا] ( ).
ترى ما هي النسبة بين المؤمنين والأنبياء ، الجواب فيه وجوه :
الأول : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فخناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق وأن المؤمنين أعم وكل نبي هو مؤمن وليس العكس .
الثالث : إرادة الفارق الرتبي بين الأنبياء والمؤمنين وأن الأنبياء أسمى مرتبة في منازل اليقين .
والمختار هو الثاني والثالث أعلاه ، فالأنبياء هم مادة أهل الإيمان وأئمة المتقين .
وهل توكل الأنبياء على الله في الإمتناع عن أخذ الغلول ، ويكون تقدير الجمع بين خاتمة الآية السابقة وبداية آية البحث هو على وجوه :
الأول : وعلى الله توكل الأنبياء فلم يأخذوا الغلول ويأكلوا منها .
الثاني : وما كان لنبي أن يغل لأنه متوكل على الله .
الثالث : من يتوكل على الله لا يغل ولا يسرق من الغنائم .
لقد كتب الله عز وجل على المسلمين الدفاع عن بيضة الإسلام ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]( ) فتفضل الله عز وجل وأمرهم بالتوكل عليه ، مع بيان لزوم إجتناب الغلول ، ويجب ألا تكون الخشية من الإفتتان بالغلول علة تامة للإنتفاع عن الجهاد والدفاع عن الإسلام ، لذا فان قوله تعالى [وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ) أعم من أن يختص ميدان القتال ، لذا جاءت طاقة الآية نصر المسلمين في ميادين القتال ، ليكون دعوة للعمل بعد النصر بسلاح التوكل على الله وتفويض الأمور إليه ، ليكون من معاني الآية السابقة الإخبار ، بأنه يلزم المسلمون بعد النصر بناء صرح دولة الإسلام .
الوجه الثالث : صلة هذه الآية بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا..] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إبتدأت آية السياق بنداء الإيمان الذي يدل بالدلالة التضمنية على إكرام المسلمين وحثهم على تعاهد الإيمان وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا بالله أُءمنوا بالله )أي تعاهدوا الإيمان إذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار ، ويجب على كل مكلف ومكلفة البقاء على الإيمان وتجديده في كل ساعة من أيام حياتهما ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( ).
لتدل الآية أعلاه على أن البقاء على الإيمان بذاته جهاد ضد الذين كفروا ومفاهيم الكفر فيأتي الثواب للمسلمين من جهات كثيرة منها :
الأولى : إعتناق الإسلام ديناً وعقيدة .
الثانية : التصديق بنزول القرآن من عند الله .
الثالثة : إتيان الفرائض العبادية .
الرابعة : تلقي نداء الإيمان من عند الله ، فلا يعلم ما ينال المسلم والمسلمة اللذين يشملهما نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] من الثواب إلا الله عز وجل ، وعن أبي أمامة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم وذكر الجنة فقال : والذي نفسي بيده ليأخذن أحدكم اللقمة فيجعلها في فيه ، ثم يخطر على باله طعام آخر ، فيتحول الطعام الذي في فيه على الذي اشتهى ثم قرأ { وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون } ) ( ).
الخامسة : يأتي الثواب للمسلم على نداء الإيمان في كل دقيقة من ساعات ليله ونهاره ، وفي هذا الزمان تحتسب بعض المصارف والبنوك الأرباح على القروض بالدقائق والساعات , ومن بداية هبوط آدم إلى الأرض تعد وتحصي الملائكة الثواب والأجر على الإيمان في كل دقيقة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ] ( ).
السادسة : مناجاة المسلمين في الثبات على الإيمان وعدم التفريط بمصداق من مصاديقه ، وهل قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ] ( ) دعوة لتعاهد الصلاة أم أنها أعم ، فتشمل أداء الصلاة في أوقاتها وإتيان الفرائض والواجبات العبادية كالزكاة والصيام والحج والخمس.
الجواب هو الثاني ، فالأمر بأداء الصلاة بلحاظ أنها عمود الدين وواجب يتجدد خمس مرات في اليوم يدرك بعدها المسلم لزوم عدم ترك الفرائض الأخرى عندما يحين وقتها , كذا تذكر الواجبات العبادية الأخرى بالصلاة .
ثانياً : يا ايها الذين آمنوا لا تغادروا منازل الإيمان ، إذ أن التحلي بالإيمان واجب مستديم ويتصل ويبقى في كل آن من آنات وجود الإنسان في الدنيا ، ويتجدد ما دامت السموات والأرض ، ومن الإعجاز بنداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] البشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بوجود أمة منهم في كل زمان تتصف بالإيمان والتقوى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ] ( ) ليكون نداء الإيمان بذاته سكينة ، ويبعث السكينة في النفوس ، لتكون واقية من أكل الغلول من جهات :
الأولى : إطمئنان المسلم على مجئ رزق كريم له من عند الله عز وجل (عن عبد الله بن مسعود قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني لأنا الرزاق ذو القوة المتين) ( )، والمراد البيان والمعنى .
الثانية : السكينة وسيلة لمعرفة الحق من الباطل ، والحلال من الحرام ، فيجتنب المسلم الغلول لأنه فعل قبيح وحرام .
الثالثة : تجعل السكينة المسلم يتدبر بالآية القرآنية .
الرابعة : الخروج من المعركة بأمن وسلامة من أكل الغلول سكينة ، فقد نزلت آية البحث لتمتلأ نفوس المسلمين بالسكينة ، وهو من الإعجاز الغيري لآية البحث .
الخامسة : إمتناع المسلمين عن أكل الغلول سبب للألفة ومنع للفرقة والإختلاف بينهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ] ( ) والغنائم نعمة من عند الله فيجب ألا تكون سبباً للأختلاف والضغائن وسوء النعت واللصق بالغلول والأخذ منها خلسة ومن غير أذن .
السادسة : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نزول آية البحث وما فيها من النهي عن الغلول .
وكل فرد من أفراد الشكر لله عز وجل على وجوه :
الأول : الشكر لله عز وجل سكينة .
الثاني : فيه شاهد على السكينة والطمأنينة .
الثالث : إنه مقدمة للسكينة وإستقرارها في النفوس والمجمعات .
ليكون من إعجاز وجوب تلاوة كل مسلم سورة الفاتحة ، وقراءة [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) سبع عشرة مرة في اليوم مع تعيين موضع وأوان القراءة عند القيام والوقوف في كل ركعة من الصلاة من أسباب بعث السكينة في نفوس المسلمين على نحو متجدد خلال اليوم الواحد لذا فان الصلاة واجب مطلق ، ولا تترك بحال ، بل تؤدى عن قيام ومع عدم الإستطاعة فعن جلوس ثم عن إستلقاء .
الرابع : الشكر لله عز وجل على إجتناب أكل الغلول واقية متجددة ، وحرز للسلامة منه في قادم الأيام والوقائع ، فقد يجتنب المسلم الغلول في معركة ، ولكنه في معركة أخرى تراوده النفس الشهوية لأخذ الغلول خاصة مع الفرصة السانحة وإمكان الأخذ بخفية ، ومع وجود ما خفّ وزنه وغلى ثمنه في الغنائم ، فيأتي الشكر لله عز وجل واقية لدفع يد المسلم عن الإعتداء والتطاول إلى الغلول .
ليكون من معاني ورشحات قوله تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( )، صيرورة الشكر لله عز وجل حرزا وواقية من فعل المعصية وإرتكاب الذنب، ويكون تقدير الأية أعلاه على وجوه :
الأول : لئن شكرتموني لازيدنكم من ذات النعمة التي شكرتم عليها .
الثاني : لئن شكرتم لازيدنكم من مراتب الإيمان والتقوى .
الثالث : لئن شكرتم لأزيدنكم في الرزق .
الرابع : لئن شكرتم لازيدنكم في العافية في الأبدان وطول الأعمار .
الخامس : لئن شكرتم لأزيدنكم في الأمن والسلامة .
السادس : لئن شكرتم لأزيدنكم في سبل الهداية والرشاد، ليكون الشكر من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
السابع : لئن شكرتم لأزيدنكم في العصمة من الذنوب وأكل الغلول، وليصير المسلم في حال يدرك معها الغنى عن الغلول والتعفف عنها .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا أشكروا الله على نعمة الإيمان ) فلا يستطيع أحد بلوغ مرتبة الإيمان إلا بفضل ونعمة من عند الله عز وجل ، ليكون من معاني نداء الإيمان تذكير المسلمين بهداية وإعانة الله عز وجل لهم لبلوغ هذه المرتبة السامية بين الخلائق ، ولا يختص شكر المسلمين على نعمة الإيمان بذات النعمة بل يشمل وجوهاً أخرى :
الأول : الشكر لله على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( )، ومصاديق ومضامين هذا الشكر روضة ناضرة , لأن منافع وبركات هذه البعثة غير متناهية سواء على الفرد أو الطائفة أو المسلمين أو عموم أهل الأرض .
وتشمل منافع رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين حاربوه أيضاً , ولكنهم لا يشكرون الله عز وجل على هذه النعمة ، لذا أختتمت آية البحث بالإنذار بالوعد والوعيد وإجتماعهما في لفظ واحد بقوله تعالى [ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ]( ).
الثاني : الشكر لله عز وجل على جعل القرآن معجزة عقلية يصاحب إعجازها وتحديها الناس إلى يوم القيامة فلا يتغير رسمه ولا يمل الناس من سماع آياته ، ولا تنقطع علومه ولا تبلى مفاهيمه.
وقد تجلى مصداق لهذا القانون بهذا التفسير المبارك إذ أنه أساس لعلوم غير متناهية في التفسير والتأويل تشرق على الأرض بقراءة وتأويل مسائل :
الأولى : الجمع بين مضامين كل آية والآية المجاورة لها , وقد أنعم الله عز وجل علينا بصدور الجزء الخامس والعشرين بعد المائة( )، بمصداق في هذا الخصوص .
الثانية : الجمع بين كل آيتين من القرآن .
وبين المسألتين أعلاه عموم وخصوص مطلق ، فالمراد من الثانية هو الجمع بين أي آية من القرآن وآية من القرآن على نحو الإستقلال ، فمثلاً يجمع بين قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) الوارد في سورة فاتحة الكتاب ، وبين قوله تعالى [مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ] ( ) وهي آخر آية في القرآن .
مثلما يجمع بين [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) وبين كل آية من سورة الفاتحة وسورة البقرة وآل عمران وهكذا .
الثالثة : الجمع بين كل ثلاث آيات من القرآن، وإن تباين الموضوع فيها .
الرابعة : الجمع بين كل أربع آيات من القرآن ، بحيث تدخل الآية في جمع متعدد ومتكرر كل واحد منها يجمعها مع آية واحدة ، ومع اثنتين أو ثلاث آيات ، وهكذا .
الخامسة : الجمع بين آيتين يتحد الموضوع فيهما .
السادسة : الصلة بين شطر من آية وشطر من آية أخرى ، وقد أنعم الله عز وجل علينا بصدور الجزء السادس والعشرين والتاسع والعشرين بعد المائة بهذه المنهجية.
ليكون منهاجاً للعلماء والدراسات العلمية والجامعات في هذا الباب ، ودليل هداية ، وفيه إزاحة لحاجب التردد والوقوف عند حدود مخصوصة في التفسير .
فمثلاً يسمى تفسير الرازي ويتألف من (32) جزء بالتفسير الكبير ، وكأنهم يمنعون من الزيادة والعلو عليه ، وقد قال تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا] ( ).
الثالث : الشكر لله عز وجل على مضامين آية البحث ، وما فيها من الكشف عن قانون في حياة الأنبياء لا يعلمه الناس لولا نزول القرآن لبيان ان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله رحمة للأنبياء السابقين وأممهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) لذا إجتهد الأنبياء بالبشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوة الناس للتصديق بنبوته وإعانته ونصرته .
قال تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ] ( ).
(عن السدي في الآية قال : لم يبعث الله نبياً قط من لدن نوح إلا أخذ الله ميثاقه ؛ ليؤمنن بمحمد ، ولينصرنه إن خرج وهو حي ، وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به , وينصروه إن خرج وهم أحياء)( ).
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين أول آية البحث والسياق : يا أيها الذين آمنوا وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) وفيه وجوه :
الأول : بيان منزلة المسلمين عند الله بأن يخاطبهم بصفة الإيمان ويخبرهم عن أحوال الأنبياء السابقين لحملهم لواء الإيمان في الأرض ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] ( ) .
ومن وجوه الشهادة في الآية أعلاه شهادة المسلمين فيما بينهم بالسلامة من أكل الغلول والسرقة من المال العام .
لذا يمكن تقسيم الشهادة في الآية إلى قسمين :
أولاً : الشهادة الذاتية فيما بين المسلمين .
ثانياً : الشهادة الغيرية ، بشهادة المسلمين على غيرهم من أهل الملل والنحل .
لقد أراد الله عز وجل أن تكون آية البحث مادة وسبيلاً للثواب العام للمسلمين ، بتأديبهم وزجرهم عن نهب المال العام ، وعن أخذه خلسة وإخفائه .
ومن معاني الجمع بين الآيتين تفقه المسلمين في أحكام الدين ، ومعرفة سنن الأنبياء والقيام بالإحتجاج والذب عنهم ، ومنع الإفتراء عليهم ، وهذا الذب والمنع من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
إذ أصبح المسلمون على مرتبة من الفقاهة يمنعون بواسطتها بث أسباب الشك والريب في تأريخ النبوة ، وفيه رحمة بالجميع .
أما المسلم فيأتيه الثواب لقيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وأما الكافر فانه قد يكف عما فيه إثم , وليكون هذا الكف مقدمة للتدبر .
الثاني : لقد خاطبت آية السياق المسلمين بصيغة الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ومن مصاديق الإيمان التسليم بنبوة الأنبياء على نحو العموم الإسغراقي ، ومما يتصف به المسلمون الإقرار بنبوة كل نبي وعدم إنكار نبوة أي واحد منهم مع أنه لم يرد في القرآن إلا أسماء نيف وعشرين منهم .
وجاءت آية البحث لبيان كثرتهم مع إتصافهم بالإحتراز من أكل الغلول ، وتقدير آية السياق على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسله وأنبيائه ، وفي التنزيل [فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ] ( ).
ثانياً: يا أيها الذين آمنوا بأن الأنبياء لم يغلوا , ولم يأخذوا من الغنائم ما ليس لهم بحق .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا بوجوب عدم الغلول أو الأخذ من المال العام .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين بناء دولة الحق والعدل بأن يبدأ المسلم باصلاح نفسه والإمتناع عن الحرام حتى وإن كان خفياً ومستوراً إذ أن ألله عز وجل يعلمه .
الثالث : من خصائص القرآن أنه مدرسة النبوة , ففيه أبهى القصص التي تخبر عن سيرة الأنبياء ، ومن إكرام الله عز وجل لهم إصلاحه لهم للإتيان بأقوال وأفعال يذكرها الله لتصير على وجوه :
أولاً : صيرورة أفعال الأنبياء جزء من كلام الله عز وجل .
ثانياً : شكر الله عز وجل للأنبياء بذكر جهادهم وأفعالهم في القرآن .
ثالثاً : بقاء سنن الأنبياء تتلى إلى يوم القيامة .
رابعاً : حرص المسلمين على التأسي بالأنبياء والإقتداء بهم ، وهل فيه أجر وثواب للأنبياء , الجواب نعم ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) حينما أنكروا خلافة الإنسان في الأرض , ومن علم الله عز وجل أنه ينعم على الأنبياء بالوحي ، وما فيه حسن السمت والصلاح في القول والفعل ليقتدي بسيرتهم المسلمون .
الرابع : بيان قانون وهو خلافة المسلمين في الأرض ، فتفضل الله عز وجل وأخبرهم عن أحوال الأنبياء وقادة الأمم في سبل الهداية والرشاد .
ويفيد الجمع بين آية البحث والسياق تأديب المسلمين ، وقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي) ( ) ليدل في المقام على وجوه :
أولاً : ترشح التأديب على المسلمين ، وتقدير قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على جهات :
الأولى : أدبني ربي ليتأدب المسلمون .
الثانية : أدبني ربي فأدب المسلمين معي .
الثالثة : أدبني ربي ليقتبس المسلمون من آدابي .
الرابعة : أدبني ربي لما فيه نفع المسلمين في النشأتين .
الخامسة : أدبني ربي ليمتنع المسلمون عن أكل الغلول .
السادسة : أدبني ربي ليكون المسلمون [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
السابعة : أدبني ربي فخاطب المسلمين بنداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الثامنة : أدبني ربي وكذا أدبّ الأنبياء ، فلم يأكلوا من الغلول.
التاسعة : أدبني ربي فلا أغلّ من الغنائم .
العاشرة : أدبني ربي لأتلو عليهم آيات القرآن، ومنها آية البحث والسياق .
الحادية عشرة : أدبني ربي لأبلغ آيات القرآن إلى الناس ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ] ( ).
الثانية عشرة : أدبني ربي لبيان حاجة الناس للتأديب من باب الأولوية القطعية .
الثالثة عشرة : أدبني ربي لبيان وإستقراء السنة .
الرابعة عشرة : أدبني ربي لتكون سنتي حجة على الناس .
الخامسة عشرة : أدبني ربي لبيان الإعجاز في السنة النبوية .
السادسة عشرة : أدبني ربي لبيان الكمالات الإنسانية .
السابعة عشرة : أدبني ربي بالوحي , ولابد أن مصاديق تأديب الله للمسلمين موجودة في القرآن بلحاظ كبرى كلية وهي [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) والتأديب الإلهي شيء من الأشياء .
الثامنة عشرة : أدبني ربي لينهج الأئمة والخلفاء من بعدي من سيرتي .
التاسعة عشرة : أدبني ربي ليتجلى الحلم والرفق بين الناس .
العشرون : أدبني ربي لأشاور المسلمين فمع الوحي الذي عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فان الله عز وجل أمره بمشاورتهم ، قال تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] ( ).
الحادية والعشرون : أدبني ربي لأداء الصلاة في أوقاتها .
الثانية والعشرون : أدبني ربي للإمامة في صلاة الجماعة .
الثالثة والعشرون : أدبني ربي في تلاوة آيات القرآن كتنزيلها من غير زيادة أو نقص .
الرابعة والعشرون : أدبني ربي في الجهاد وقتال الذين كفروا في سبيل الله وطاعة الله ، قال تعالى [جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ) .
وقد تقدم البيان بأن جهاد الكفار غير جهاد المنافقين ، فالكفار يكون قتالهم أحياناً بالسيف دفاعاً عن الإسلام ، أما المنافقون فجهاد النبي لهم بالوعظ والإرشاد والتوبيخ ، لذا إمتنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل أي فرد من المنافقين.
وفي غزوة بني المصطلق وقعت مشادة بين أحد الأنصار .
(يقال له هشام بن صبابة أصابه رجل من الانصار من رهط عبادة بن الصامت وهو يرى أنه من العدو فقتله خطأ فبينما الناس على ذلك
الماء وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن مسعود يقود فرسه فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنى حليف بنى عوف ابن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهنى يا معشر الانصار .
وصرخ الجهجاه يا معشر المهاجرين .
فغضب عبد الله بن أبى بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حدث , فقال أي ابن سلول : أقد فعلوها أقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا والله ما أعدنا وجلابيب ( )قريش هذه إلا كما قال الاول ” سمن كلبك يأكلك ” .
أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتوهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم .
فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال مر به عباد بن بشر فليقتله .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فكيف يا عمر إذا تحدث الناس بأن محمدا يقتل أصحابه)( ).
الخامسة والعشرون : أدبني ربي لينزل الملائكة لنصرتنا في معارك الإسلام ، فمن خصائص نزول الملائكة بلوغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مراتب الكمال الإنساني والقدسية النبوية ،وبخصوص معركة أحد , قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
السادسة والعشرون : أدبني ربي للنصر في معركة بدر ، ويمكن تقدير آية بدر [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( ) بتأديب الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نصركم الله في معركة بدر .
السابعة والعشرون : أدبني ربي للإنقطاع إلى الدعاء والمسألة والعلم بقانون وهو أن لله المشيئة المطلقة ، وفي التنزيل [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
الثامنة والعشرون : أدبني ربي بألا أكون [فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ] ( ) لبيان أمور :
الأول : بلوغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة العصمة من الفضاضة وغلظة القلب معجزة حسية .
الثاني : يتضمن قوله تعالى أعلاه إجتماع أمرين :
أولاً : سلامة النبي من الغلظة والقسوة والفضاضة .
ثانياً : إتصاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذاته بالرقة واللين وحب الناس والعصمة من الحقد والحسد .
ومن معاني [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ] إطمئنان المسلمين والناس جميعاً للنبي محمد في فعله ورده عليهم ، وحكمه الذي يصدره لإنتفاء الغلظة من قلبه بمشيئة ولطف من الله .
الثالث : لقد شاء الله عز وجل أن ينتشر الإسلام بتأديبه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصيرورته لين الجانب وصادق القول ونقي القلب .
الرابع : حث المسلمين على الدعاء لأمور :
أولاً : الإنتفاع من لين جانب النبي وسعة صدره .
ثانياً : الإقتباس من سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الرفق والمودة ، وفي دعاء إبراهيم بخصوص ذريته عند البيت الحرام [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ] ( ).
وعن (سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إنّ أول من سعى بالصفا والمروة هاجر أُم إسماعيل،
وإنّ أول ما أحدثت جرّ الذيول لهي وذلك أنها لما فرت من سارة فأرخت من ذيلها ليعفى أثرها فجاء بها إبراهيم ومعها ابنها إسماعيل حتى انتهى بهما إلى موضع البيت فوضعهما ثم رجع فأثبتته فقالت : إلى من تكلنا،
فجعل لا يرد عليها شيئاً،
فقالت : الله أمرك بهذا؟
قال : نعم. قالت : إذاً لا يضيعنا،
فرجعت ومضى (إبراهيم) حتى إذا كان على ثنية كداء أقبل على الوادي. فقال[رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ]( )الآية.
قال : ومع الإنسانة شنّة فيها ماء فنفذ الماء فعطشت فانقطع لبنها فعطش الصبي،
فنظرت إلى الجبال أدنى من الأرض فصعدت الصفا فتسمّعت هل تسمع صوتاً أو ترى أنيساً فلم تسمع شيئاً فانحدرت فلما نزلت على الوادي سعت وما تريد السعي كالإنسان المجهود الذي يسعى وما يريد بذلك السعي،
فنظرت أيُّ الجبال أدنى من الأرض , فصعدت المروة فتسمّعت هل تسمع صوتاً أو ترى أنيساً،
فسمعت صوتاً،
فقالت : كالإنسان الذي يكذب سمعه : صه حتى استيقنت،
فقالت : قد أسمعتني صوتك فأغثني فقد هلكت وهلك من معي،
فإذا هو الملك فجاء بها حتى انتهى بها إلى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عيناً فعجلت الإنسانة فجعلت تفرغ في شنتها،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرحم الله أُم إسماعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عيناً معيناً .
وقال لها الملك : لا تخافي الضمأ على أهل هذا البلد فإنما هي عين لشرب ضيفان الله , وقال : إن أبا هذا الغلام سيجيء فيبنيان لله بيتاً هذا موضعه.
قال : ومرت رفقة من جرهم تريد الشام فرأوا الطير على الجبل وقال : إن هذا الطير لعائف على ماء فأشرفوا فاذا هم بالإنسانة فأتوا هاجر وقالوا إن شئت كنا معك وآنسناكِ والماء ماؤك فأذنت لهم فنزلوا معها وكانوا هناك حتى شبّ إسماعيل وماتت هاجر فتزوج إسماعيل امرأة من جرهم فاستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل،
وذكر الحديث في صفة مقام إبراهيم وقد مضت هذه القصة في سورة آل عمران.
[رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي]( )، تفزع وقيل تشتاق {إِلَيْهِمُ} وهذا دعاء منه (عليه السلام) لهم بأن يرزقهم حجّ بيته الحرام.) ( ).
(عن ابن عباس قال : إن إبراهيم عليه السلام قال { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم } لو قال : فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم ، لغلبتكم عليه الترك والروم .
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم } قال : لو قال أفئدة الناس تهوي إليهم ، لازدحمت عليه فارس والروم .) ( ).
ولم يرد لفظ (أَفْئِدَةً مِنْ) في القرآن إلا في هذه الآية ، والمختار أن التبعيض في الآية أعم في مضمونه ودلالته من الـتأويل بغلبة الترك والفرس , فلم تمر الأيام إلا وصار الترك والفرس مسلمين ويتلهفون إلى حج البيت الحرام ، ويقيم بعض منهم في جواره لا يقدر على فراقه ، إذ أن التبعيض والتقييد في سؤال إبراهيم عليه السلام لم يمنع من ميل أفئدة غير العرب للبيت .
ومن معاني التبعيض في الآية أعلاه وجوه :
الأول : علم الرسول إبراهيم عليه السلام بأن الدنيا دار إمتحان وإبتلاء .
ثانياً : بيان قانون وهو حاجة أهل الأرض لتأديب الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمقام الإمامة والرياسة العامة في أمور الدين والدنيا ، قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ] ( ).
ومن معاني ذكر ختم النبوة في المقام إخبار القرآن عن طهارة ونزاهة الأنبياء عن سرقة الغلول والمال العام .
ثالثاً : قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أدّبني ربّي) إقرار بالعبودية لله عز وجل ودعوة للمسلمين لإجتناب الغلو بشخصه الكريم .
فقد ضلتّ طوائف من الأمم السابقة بالغلو بالأنبياء وأخرى بأيذائهم وتشريدهم وقتلهم ، فتفضل الله عز وجل وجعل المسلمين منزهين عن الغلو بشخصه الكريم في ذات الوقت الذي يتسابقون في طاعته والذب عنه ، وهذا التسابق من مصاديق قوله تعالى [أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( ) ويحتمل في أفراده وجوهاً :
الأول : الصحابة وأهل البيت الذين يقاتلون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة .
الثاني : المهاجرون والأنصار الذين يتبعون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يأمر به وينهى عنه .
الثالث : إرادة عموم المسلمين والمسلمات .
والمختار هو الثالث أعلاه لأصالة الإطلاق .
رابعاً : بيان الإعجاز في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكبرى كلية وهي أن تأديب الله عز وجل جلي ويتصف بالإمتياز عن غيره بضروب من الإعجاز تظهر في قوله وفعله ومعاملته للناس .
المسألة الثالثة : من معاني الجمع بين الآيتين بعث المسلمين على الجهاد في سبيل الله ، مع العزم على العصمة من أكل الغلول أو السرقة من مال الغنائم .
وتقدير الجمع بينهما : يا أيها الذين آمنوا إقتدوا بالأنبياء فلا تأكلوا الغلول ) .
ومن إعجاز القرآن الغيري بعثه المسلمين على الإقتداء بالأنبياء وترغيبهم بالسنن النبوية وجعلها حاضرة عندهم في الوجود الذهني ، فما أن يحصل لهم إبتلاء وتتهيأ مناسبة لأخذ الغلول والمال العام خلسة ، حتى تتبادر إلى إذهانهم سيرة الأنبياء ومغادرتهم الدنيا بطهر وعدم التعدي على المال العام فيمتنعون عن أكله .
وتتجلى موضوعية الجمع بين الآيتين بلغة التعدد والجمع في توجه خطاب النبي للمسلمين بعدم الأكل من الغلول لحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه المسألة وبعثهم على التعاون والتآزر في إجتناب الغلول ومن هذا التآزر الإيثار وإشاعة القرض والإعانة بين المسلمين , ومنه قوله تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ] ( ).
ليكون هذا الإنفاق وتقيد المسلمين بدفع الزكاة وإخراج الحقوق الشرعية وسيلة للتعفف من الفقير والغني مجتمعين ومتفرقين لما فيه من التحلي بالزهد وعدم اللهث وراء الدنيا وزينتها .
المسألة الرابعة : لقد ابتدأت آية السياق بالثناء على المسلمين والشهادة من عند الله عز وجل لهم بالإيمان ، لتأتي آية البحث بامتحان وإختبار يدل على صدق الإيمان ، وهو مجئ الغنائم إلى المسلمين ، ولزوم تقيدهم بسنن القرآن والنبوة فيها ، أما سنن القرآن فدلالة آية البحث على وجوب الإمتناع عن الغلول ، وأما النبوة فان الأنبياء يتصفون بالأخلاق الحميدة ، والأسوة الكريمة لأتباعهم والمسلمين إلى يوم القيامة بالإمتناع عن أكل الغلول ، وهل يمكن قول أمور :
الأول : إمتنع الأنبياء عن أكل الغلول كي يمتنع عنه المسلمون .
الثاني : حجب الله الأنبياء عن أكل الغلول ليقتدي بهم المسلمون .
الثالث : جعل الله عز وجل الأنبياء أسوة للمسلمين في السلامة والعصمة من أكل الغلول أو الأخذ من المال العام .
الجواب نعم ، وهو من مصاديق [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ] ( ).
أما الأول أعلاه فهو صحيح ، ولكن إجتناب المسلمين أكل الغلول ليس علة تامة لإمتناع الأنبياء عنه ، ومن فضل الله عز وجل على المسلمين الوحي للأنبياء للصبر والتنزه عن الغلول ليكونوا أسوة لهم ، وللدلالة على قانون من الإرادة التكوينية من جهات :
الأولى : قدرة المؤمن على إجتناب الغلول .
الثانية : مصاحبة حرمة الغلول للإيمان الذي هو باق في الأرض إلى يوم القيامة .
الثالثة : من بشارات الأنبياء بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرمة أكل أمته الغلول .
وأما الثاني فهو صحيح ، وفيه مدد وعون للمسلمين ، وهل فيه تفضيل للمسلمين بلحاظ أن الأنبياء إجتنبوا أكل الغلول بعصمة من الله وأما المسلمون فقد إمتثلوا لمضامين آية البحث ، ونهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن أكل الغلول ، الجواب لا ، إذ تبقى رفعة منزلة الأنبياء ذاتها مع العصمة التي هي فضل من الله عز وجل .
ويتصف الأنبياء بتمام العقل ، وقوة البصيرة وإختيار الصواب وإتباع سبل الحكمة ومنه تنزههم بالوحي والعصمة والحكمة من أكل الغلول ، ولقد ورد قوله تعالى [وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ] ( ) وجاءت آية البحث بالإخبار عن إتصاف كل الأنبياء بالإمتناع والعصمة من أكل الغلول.
وأما الثالث فهو صحيح ، ومن الآيات تجلي مصاديق الأسوة الحسنة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تنزهه عن أكل الغلول ، ومن الفطرة ميل الإنسان للإقتداء بالأنبياء وإدراك قانون وهو أن التشبه بهم طريق الفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة ، وتقدير الجمع بين آية البحث والسياق على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا كونوا كالأنبياء في عدم الأكل من الغلول .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا بالله ونبوة الأنبياء إقتدوا بسيرتهم في ميادين القتال وخارجها .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا بأن الأنبياء لا يأكلون الغلول .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا بأن الله عز وجل نصر الأنبياء وجعلهم في حصانة وأمن من أكل الغلول .
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين آية السياق والبحث : يا ايها الذين آمنوا من يغلل يأت بما غل يوم القيامة ) .
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين فجعلهم ورثة الأنبياء ، وحفظة أحكام الشريعة ورواد سنن التوحيد ، ولم يرض الذين كفروا بهذه المقامات التي فاز بها المسلمون ، فجهزوا الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، فكانت معركة بدر ثم معركة أحد ثم الخندق وحنين .
وقد حاز المسلمون غنائم كثيرة منها في بدر وحنين ، ومنها في غزوات أخرى مثل معركة خيبر ومنها ما لم يقع فيها قتال ، ولكن المسلمين أخذوا الأموال وساقوا الأنعام والسبايا غنائم .
وغاية قتال المسلمين إعلاء كلمة التوحيد ورجاء الجزاء والثواب في الدنيا والآخرة ، فتفضل الله عز وجل وأخبر المسلمين في آية البحث بأن أكل الغلول برزخ دون الفوز بالثواب التام لأن الذي يسرق الغلول في معارك الإسلام يأتي به في الآخرة ، ويكون مصاحباً له في مواطن الحساب.
(عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يود اهل العافية يوم القيامة ان جلودهم قرضت بالمقاريض مما يرون من ثواب اهل البلاء ) ( ).
ومن خصائص نداء الإيمان في المقام تفقه المسلمين في أمور الدين وإستحضار مرتبة الإيمان التي خصهم الله عز وجل بها في المعركة وعند وقوع الغنائم بأيديهم بما يجعلهم يتعففون عن أخذ الغلول .
ومن وجوه تقدير الآية :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تغلوا ) للتباين والتنافي بين الإيمان والغلول.
الثاني : يا أيها الذي آمن لا تغل ) بلحاظ أن المؤمن وحده أمة .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا عظوا كل فرد منكم ليحترس من الغلول.
الرابع : يا أيها الذين آمنوا أمانة عندكم ميراث الأنبياء بالسلامة والتنزه عن الغلول .
الخامس : يا ايها الذي آمن كن كالأنبياء في إمتناعهم عن الغلول .
السادس : يا أيها الذين آمنوا أعلموا أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغل ) .
ومن خصائص قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]توجهه إلى أجيال المسلمين إلى يوم القيامة ، لتفيد الآية إقرارهم وتسليمهم بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم معصوم من أخذ الغلول ، لتغلق الآية باب الإفتراء والقدح في هذا الباب بوجه المنافقين وأهل الشك والريب إلى يوم القيامة ، فلا يستطيع أحد منهم إدّعاء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد غلّ ، أو أخذ من الأموال العامة ، وقد ثبته كام يوزع كل ما يأتيه ومن قبل أن يدخل بيته .
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا ثم توفى كل نفس ما كسبت ) .
من وجوه الإعجاز في الجمع بين آيات القرآن تعدد معاني نداء الإيمان بلحاظ جمعه مع آيات القرآن الأخرى سواء التي عطفت عليه أو تقدمت عليه أو غيرها ، لكبرى كلية وهي أن كل آية من القرآن خطاب للمسلمين في معناها ودلالتها .
فتخبر آية البحث المسلمين عن قانون وهو أن الله عز وجل جعل يوم القيامة مناسبة للحساب والجزاء والثواب على الإيمان وعمل الصالحات بالخلود في النعيم ، وعلى فعل السيئات وإرتكاب المعاصي بالإقامة الدائمة في الجحيم ، قال تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ] ( ) وإذا كان المؤمن لا يدخل النار بسبب الغلول ، وأخذه قطعة من الغنائم ، فهل يلحق به المنافق الذي كان يقاتل مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الجواب لا ، لأن حساب المنافق أمر مختلف ، فهو يدخل النار بنفاقه وإخفائه الكفر مع إظهاره وإدّعائه الإيمان .
ومن معاني نداء الإيمان في المقام وجوه :
الأول : بيان قانون مصاحب للحياة الدنيا وهو تسليم وإعتراف المسلمين باليوم الآخر .
الثاني : معرفة المسلمين بيوم القيامة وإقرارهم به فحينما تقول آية البحث [وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] لا يتساءل بعضهم ما المراد من يوم القيامة ، وما هو هذا اليوم ، وهل هو من أيام الدنيا أم الآخرة ، بل يقرون جميعاً بأن المراد عالم النشر والحساب حيث تقوم الأجساد من القبور وتبعث فيها الأرواح .
الثالث : إستعداد المسلمين ليوم القيامة بالجهاد في سبيل الله ، وعدم تدنيس صفحات هذا الجهاد بالسرقة من الغنائم .
الرابع : غبطة المسلمين يوم القيامة وإطمئنانهم إلى العدل الإلهي يومئذ ، ونشر شآبيب الرحمة لتنهل منها الخلائق كلها .
(عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : خلق الله يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة ، منها رحمة يتراحم بها الخلق وتسع وتسعون ليوم القيامة ، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة) ( ).
الخامس : بعث المسلمين للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب مضامين آية النداء أو الآيات المعطوفة عليها أو غيرها .
ويتعلق الأمر بآية البحث من جهات :
الأولى : دعوة المسلمين الناس للإيمان وتحبيبه إلى قلوبهم والإحتجاج بالبرهان لبيان الحاجة إليه .
الثانية : الأمر بلزوم إكرام الأنبياء، وتنزيههم عن الرذائل والفواحش .
الثالثة : النهي عن الظلم مطلقاً، بلحاظ أن الأخذ من الغنائم خلسة من الظلم والتعدي .
الرابعة : الثناء على المسلم الذي يتعفف عن أكل الغلول، فان قلت هذا الثناء ليس من الأمر أو النهي , والجواب هذا صحيح إلا أنه ترغيب ومقدمة لفعل المأمور به، وبعث للنفرة من الفعل المنهي عنه مثل أكل الغلول، وفي خطبة للإمام علي عليه السلام : الحمد لله الذي هدانا من الضلالة، وبصرنا من العمى، ومنّ علينا بالإسلام، وجعل فينا النبوة، وجعلنا النجباء، وجعل أفراطنا أفراط الأنبياء، وجعلنا (خير امة اخرجت للناس ) ( ).
نأمر بالمعروف، وننهي عن المنكر، ونعبد الله ولا نشرك به شيئا، ولا نتخذ من دونه وليا، فنحن شهداء الله، والرسول شهيد علينا، نشفع فنشفع فيمن شفعنا له، وندعو فيستجاب دعاؤنا، ويغفر لمن ندعو له ذنوبه، أخلصنا لله فلم ندع من دونه وليا.
أيها الناس تعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب( ).
الخامسة : أمر الذي يأخذ الغلول بالتوبة والإنابة، وإعادة ما أخذه إلى الغنائم وبيت المال.
السادسة : التذكير باليوم الآخر، ولزوم أخذ الزاد له، والتخذير من كون المتاع غلولاً فليس فيه إلا الحساب والعقاب، وقد ورد في وصف رسول الله والثناء عليه[النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ]( ) .
والغنائم من الطيبات التي خصّ الله عز وجل بها النبي محمداً والمسلمين وأما الغلول فانها من الخبائث.
السابعة : إتخاذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسيلة للذكر الحسن بين الناس، ليصير المؤمن أسوة حسنة للناس جميعاً.
الثامنة : إرادة المسلمين الأجر والثواب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فى إناء أخيك صَدَقَةٌ وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ , وتَبَسُّمُك فى وجه أخيك صَدَقَةٌ , وَإِمَاطَة الْحَجَر وَالشَّوْك وَالْعَظْم عن طريق الناس صَدَقَةٌ , وهدايتك الرجل فى أرض الضالة صدقة ( ).
ومن معاني التقدير المتقدم في أول المسألة السادسة هذه ورود (ثم) بعد نداء الإيمان[ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ]( )، البشارة للمسلمين بأنه بعد ايمانهم وصلاحهم يأتي الأجر والثواب المتحد والمتعدد للمسلم من جهات :
الأولى : ثواب المسلم عن إيمانه وفعله الصالحات .
الثانية : الأجر والثواب للمسلم بتنزهه عن أكل الغلول.
الثالثة : مجئ الثواب للمسلم من تنزه عموم المسلمين عن أكل الغلول، فيجتنب المجاهدون الأكل من الغلول ليأتي الثواب لهم ولأبنائهم وأزواجهم، وسائر المسلمين، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ويكون تقدير الجمع بين الآيتين أعلاه وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا ثم توفون ما كسبتم من بلوغ مراتب الإيمان.
الثاني : يا أيها الذين آمنوا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشراكم بما توفون من الأجر والثواب .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا ثم تؤتون أجوركم بالتنزه عن السرقة من الغنائم قبل أو بعد الغنائم .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا سوف يوفى الأنبياء أجورهم ائمة في الإمتناع عن أكل الغلول .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا أسألوا الله عز وجل أن يوفيكم ويرزقكم أجراً كأجر الأنبياء في زهدهم وتقواهم وعصمتهم من الغلول، ليكون من معاني آية البحث ترغيب وحث المسلمين على الدعاء لنيل ذات ثواب الأنبياء .
السادس : يا أيها الذين آمنوا في الحياة الدنيا ثم توفون أجوركم يوم القيامة .
السابع : يا أيها الذين آمنوا فوزوا بالأجر والثواب يوم الحساب .
الثامن : يا أيها الذين آمنوا الإيمان كسب، والصلاح كسب، وأداء الفرائض كسب، والإمتناع عن أخذ وأكل الغلول كسب يأتي يوم القيامة بحلة بهية
التاسع : يا أيها الذين آمنوا بحرمة الغلول ثم توفون أجر هذا الإيمان لأنه عزم وقصد وكسب بقصد القربة إلى الله سبحانه .
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا هم لا يظلمون)
الحمد لله الذي جعل القرآن سلاحاً بيد المسلمين في الدنيا والآخرة يأخذ بأيديهم إلى طرق الهداية والفلاح ، ويمنعهم من الوقوع في المعاصي والهلكات ، وتكون الآية القرآنية لهم برزخاً دون الخسارة سواء في المال أو البدن , أو الخسارة والهلاك في الآخرة ، قال تعالى[قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ]( ).
ومن مصاديق هذا السلاح نداء الإيمان من جهات :
الأولى : إفادة نداء الإيمان معنى الإكرام للمسلمين .
الثانية : مصاحبة نداء الإيمان لأجيال المسلمين إلى يوم القيامة .
الثالثة : إطلالة نداء الإيمان على ربوع الأرض كل صباح لأمور :
الأول : دعوة الناس إلى التوبة والإنابة .
الثاني : بيان المرتبة السامية للمؤمنين .
الثالث : نداء الإيمان مدد يومي متجدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد كان مدد الملائكة ينزل في ساحة المعركة كما ورد عن الأمام علي عليه السلام (قال لما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال ثم جئت مسرعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنظر ما فعل فإذا هو ساجد يقول يا حي يا قيوم يا حي يا قيوم لا يزيد عليها ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك ثم رجعت للقتال ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك ففتح الله عليه
وأخرج الواقدي وابن عساكر عن عبد الرحمن بن عوف قال رأيت يوم بدر رجلين عن يمين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحدهما وعن يساره أحدهما يقاتلان أشد القتال ثم ثلثهما ثالث من خلفه ثم ربعهما رابع أمامه
وأخرج ابن اسحاق وابن جرير والبيهقي وأبو نعيم عن ابن عباس عن رجل من بني غفار قال حضرت أنا وابن عم لي بدرا ونحن على شركنا فإنا لفي جبل ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة فننتهب فأقبلت سحابة فلما دنت من الجبل سمعنا فيها حمحمة الخيل وسمعنا فيها فارسا يقول اقدم حيزوم فأما صاحبي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه وأما أنا فكدت أهلك ثم انتعشت بعد ذلك) ( ).
وإذ يتوقف القتال مع الذين كفروا وتنقطع المعارك فان المدد من عند الله باق ومتجدد بآيات القرآن ومنها نداء الإيمان ، وعدد نداء الإيمان في القرآن تسعاً وثمانين نداء ، وكل فرد منها مدد وسلاح وعون للمسلمين .
لقد أبى الله عز وجل إلا أن يتصل مدده للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعموم المسلمين ، وأن يكون حاضراً في العبادات والمعاملات والأحكام .
الشعبة الثانية : صلة هذه الآية بالآيات المجاورة التالية ، وفيها وجوه :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بالآية التالية [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ …] ( )وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إبتدأت آية البحث بصيغة النفي الإيجابي أي الذي يدل على فعل حسن بترك أمر مذموم وهو الأخذ خلسة من الغنائم ، ترى لماذا لم تقل الآية ( وما كان للنبي أن يغل ) الجواب فيه وجوه :
أولاً : المعنى الأعم ، وبيان قانون من القوانين التي تتقوم بها النبوة .
ثانياً : بيان مصداق لقانون دفاع الله عز وجل عن الأنبياء ومجازاته لهم في الدنيا خيراً .
ثالثاً : لقد أراد الله عز وجل للمسلمين وراثة منهاج النبوة ،لتكون آية البحث مناراً ورشاداً وهداية .
رابعاً : بيان علم من علوم القرآن وهو لو دار الأمر بين ذكر المتعدد أو المتحد من ذات الموضوع ، يأتي إختيار المتعدد ليزداد المسلمون إيماناً ، ويتخذوا إخبار القرآن دستوراً وضياءً في الحياة الدنيا والآخرة .
خامساً : القطع والجزم بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يغل ولا يتصرف في الغنائم خلسة وخفية ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : كل نبي لا يغل .
الصغرى : محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي .
النتيجة : محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يغل .
سادساً : تأكيد قانون وهو أن كل نبي اتبع رضوان الله , وجاهد في سبيل الله ونال شرف الدنيا والآخرة ، وفيه جاءت آية البحث التي تشهد لكل نبي بالتنزه عن أخذ المال العام خلسة ، لتكون آية البحث من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ] ( ) .
وتبين آية البحث أن الأنبياء لا يسعون إلى جلب المنافع الخاصة لهم ، فليس لأبدانهم حظوظ في الدنيا وكان همهم وعملهم هو الدعوة إلى الله ، وحث الناس على عبادته ، ليكون إمتناعهم عن أكل الغلول من مصاديق هذه الدعوة ، وفيه منع للبرزخ الذي قد يكون سبباً لإثارة الذين كفروا الشكوك بالنبوة ، وفي التنزيل [وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ] ( ) .
فمع أن النبي هودا لم يصدر منه أي فعل مناف للمروة ، ولم يقدر على أخذ الغلول ، فقد نعته وجهاء قومه بأنه سفيه وأنه من الكذابين .
المسألة الثانية : الصلة بين موضوع آية البحث وأول الآية التالية هو العموم والخصوص المطلق ، إذ ذكرت آية البحث تنزه الأنبياء عن حيازة جزء من الغنائم ، وذكرت آية السياق المعنى الأعم لسبل الرشاد وهو أن الأنبياء اتبعوا رضوان الله عز وجل فأكرمهم بذكرهم ذكراً حسناً في القرآن لإرادة تأديب المسلمين وهدايتهم إلى سبل الصلاح ، وتأكيد قانون وهو أن المسألة الخاصة سواء كانت أمراً أو نهياً إخبارياً أو قصة إنما تأتي لتنمية ملكة التقوى عند المسلمين ، ومن معاني الجمع بين الآيتين وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذي يمتنع عن أكل الغلول يتبع رضوان الله .
الصغرى : المسلمون يمتنعون عن أكل الغلول .
النتيجة : المسلمون يتبعون رضوان الله .
ومن فضل الله عز وجل على المسلمين والناس أن كل آية من القرآن تدعو إلى أتباع رضوان الله وتندب الناس إليه .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الخير والسعادة في الدنيا والآخرة باجتناب ما حرّمه عليهم , ومنه أخذ الغلول وسرقة المال العام ، قال تعالى [وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ] ( ).
لقد بينت آية السياق رضوان الله غاية سامية يسعى إليها المسلمون ، ويعلمون بمضامينها ويتبعون ضياءها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) بلحاظ أن كلاً من رضوان الله واتباعه من مصاديق الصراط المستقيم .
وهل يكون رضوان الله وسيلة أيضاً , الجواب نعم ، لأنه باعث على العمل الصالح .
المسألة الثالثة : لقد تضمنت آية السياق الثناء على الذين يتبعون رضوان الله من غير تقييد بطائفة أو صفة مخصوصة في المذهب والإنتماء ، ولكنها تدل بالدلالة التضمنية على إرادة التقوى، وحسن السمت ، ومنه بلحاظ آية البحث أمور :
الأول : إقرار المسلمين بصدق كل آية من القرآن .
الثاني : إكرام المسلمين والمسلمات للأنبياء ، وآية البحث دعوة لتنزيه المسلمين على نحو العموم الإستغراقي من الفواحش لما قلّ أو كثر منها ، فهي من الدلائل القرآنية على كون المسلمين [ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بتقريب وهو أن خير أمة لا تختار إلا مرضاة الله عز وجل .
الثالث : من إتباع المسلمين لرضوان الله تسليمهم بأن الأنبياء لم يغلّوا ولم يأخذوا من الغنائم خلسة أو خفية قبل القسمة أو بعدها ، وقد يكون إمكان وقوع الغلول بعد قسمة الغنائم بين المجاهدين ، خاصة وأن مقدار منها قد يبقى تحت يد وتصرف نبي زمانه ، فجاءت آية البحث بالإطلاق في نفي الغلول عن الأنبياء ، حتى وإن كانت الغنائم مجتمعة وكثيرة .
الرابع : إعلان المسلمين كل يوم بأن النشور حق وأن الله عز وجل باعث أهل القبور ليقفوا بين يديه للحساب والجزاء ، إذ تذكر آية البحث يوم القيامة ، وأنه أوان حساب الناس على أعمالهم في الدنيا .
(عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس خصال : عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه) ( ).
الخامس : إن إقرار المسلمين بيوم القيامة تسليم بالحساب وشهادة وحجة على أنفسهم حاضرة بأن الله عز وجل يعلم ويحصى أعمالهم وأنها تحضر معهم ، لتكون هذه الحجة رحمة لهم وسبيل تخفيف في ساعة الحساب ، وهو البشارات في تلقيهم نداء [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الذي يتضمن في دلالته الوعد الكريم بالرأفة والرحمة يوم القيامة .
المسألة الرابعة : إبتدأت آية السياق بالإستفهام الذي يتضمن التضاد بين أمرين :
الأول : الثناء على الذين آمنوا وعملوا الصالحات , وذكرتهم الآية بصفة إتباع رضوان الله ، لبيان قانون وهو أن رضوان الله ملاك وعلم وغاية قائمة ونهج يجب إتباعه .
الثاني : الذم للذين كفروا وأصروا على الجحود وإختاروا نزول غضب الله عز وجل عليهم ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا] ( ).
ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] وجوه :
الأول : الأنبياء أئمة في إتباع رضوان الله .
الثاني : الإقتداء بالأنبياء من إتباع رضوان الله بلحاظ أمور :
أولاً : تفضل الله عز وجل بالأمر إلى المسلمين بالإقتداء بالأنبياء .
ثانياً : عدم غلّ الأنبياء من رشحات الوحي والتنزيل ، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : الأنبياء أخوات لصلات وأمهاتهم شتى ).
ثالثاً : الملازمة بين الإيمان والإقتداء بالأنبياء ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : المؤمنون يقتدون بالأنبياء .
الصغرى : المسلمون مؤمنون .
النتيجة : المسلمون يقتدون بالأنبياء .
وفي رسالة سليمان عليه السلام لقوم بلقيس قال [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ] ( ).
الثالث : تفضل الله عز وجل بجعل منهاج رضوانه جلياً واضحاً ، يقدر كل إنسان على اتباعه والعمل بسنته .
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بتلاوة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
ترى ما هي النسبة بين الصراط المستقيم ورضوان الله ، الجواب فيه وجوه :
أولاً : نسبة العموم والخصوص من وجه , وهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
ثانياً : نسبة التساوي وأن الصراط المستقيم هو رضوان الله .
ثالثاً : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين .
الأولى : الصراط المستقيم أعم من الصراط المستقيم .
الثانية : رضوان الله أعم من الصراط المستقيم .
رابعاً : الصراط طريق إلى رضوان الله وهو ظاهر من المعنى اللفظي لكل منهما ، وتقدير الجمع بينهما : اهدنا الصراط المستقيم الذي يهدي إلى رضوان الله .
وباستثناء الشعبة الأولى من الوجه ثالثاً أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق الفضل الإلهي وتعدد فيوضاته على المؤمنين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
الرابع : لما تفضل الله عز وجل وحث على إتباع منهاج الأنبياء ، ومنه قوله تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ).
تفضل وبيّن عصمة الأنبياء من أكل الغلول ، وهي نوع من إجتهادهم في إتباع رضوان الله .
المسألة الخامسة : من مصاديق الجمع بين آية البحث والآية التالية لها ترغيب المسلمين بنهج الأنبياء ، والعمل بسنن النبوة والفوز بمراتب الرفعة في النشأتين ، ويكون تقدير آية السياق على وجوه :
الأول : فمن اتبع رضوان الله بالإمتناع عن أكل الغلول كمن أكلها وأصر على إخفائها مع الإنذار بأشد العذاب لمن يصر على الباطل .
الثاني : أفمن أتبع رضوان أن الله بتلاوة وآية البحث وما فيها من مضامين النهي عن أخذ المال العام وإن كان قليلاً يسيراً كالذي يحارب الإسلام ، ويقاتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه دعوة للمسلمين للصبر وتحمل الأذى في جنب الله ، فلابد من نزول عذاب الله بالذين كفروا ، قال تعالى [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ).
الثالث : افمن اتبع رضوان الله بالتصديق بالنبوات والتنزيل كمن أصر على الجحود وإرتكاب المعاصي .
الرابع : أفمن اتبع رضوان الله باجتناب أخذ الغلول من الغنائم كالذي يمتنع عن أداء الفرائض والعبادات ؟
وهل يصح تقدير الجمع بين الآيتين : أفمن أتبع رضوان الله بالإمتناع عن أكل الغلول كمن باء بسخط من الله لأكله الغلول) .
الجواب لا ، لأن المؤمن الذي قد يجرأ ويأخذ من الغلول خلسة لا يسلب منه الإيمان ، ولا تصل عقوبته إلى ذات العقوبة التي تنزل بالذين كفروا ممن غضب الله عز وجل عليهم .
ومن الآيات في المقام أن كل مسلم ومسلمة يتلوان عدة مرات في اليوم وعلى نحو الوجوب العيني قوله تعالى [ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ] ( ).
الخامس : من اتبع ويتبع رضوان الله لا يأتي بما غلّ يوم القيامة ) وعدم الإتيان هذا يحتمل وجوهاً :
أولاً : الإمتناع عن أخذ جزء من الغنائم بغير حق .
ثانياً : أخذ غلول في المعركة ، ثم التدارك بالإستغفار والدعاء والصدقة .
ثالثاً : إخفاء غلول ثم رده ودسّه في الغنائم مرة أخرى .
رابعاً : إعادة الغلول إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
خامساً : إرادة فضل الله عز وجل وستره للمؤمن يوم القيامة ، وحتى لو جاء بما غلّ فالله عز وجل قادر أن يحجب هذا الغلول عن أهل المحشر كلهم ، ويكون أمراً خاصاً بينه وبين الله عز وجل ، ليكون من معاني الآية التالية [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ] ( ) بلحاظ مضامين آية البحث وجوه :
الأول : أفمن اتبع رضوان الله بالإمتناع عن أكل الغلول .
الثاني : أفمن اتبع رضوان الله فأمر المسلمين بالتنزه عن أخذ الغلول .
الثالث : أفمن اتبع رضوان الله بتعاهد الفرائض والعبادات .
الرابع : أفمن أتبع رضوان الله بتلاوة آية البحث ، وما فيها من الثناء على الذي يمتنع عن أخذ الغلول ، وذم الذي يسرق خلسة من الغنائم .
الخامس : من اتبع رضوان الله في مأمن من الإتيان بغلول يوم القيامة .
السادس : من لم يأخذ من الغلول خلسة يبوء بسخط من الله .
السابع : من إجتهد في طاعة الله عز وجل وصبر على أذى الذين كفروا ، وقد ورد في الثناء على المسلمين قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] ( ).
المسألة السادسة : من معاني الجمع بين آية البحث والآية التالية لها منع الجهالة والغرر عند المسلمين مجتمعين ومتفرقين ، فيتلو المسلم الآية القرآنية مثل آية البحث ويدرك ما تدل عليه من لزوم الإقتداء بالأنبياء وحسن سيرتهم وصبرهم والتحذير والتخويف من معصية الله عز وجل حتى مع الإيمان إذ أن أخذ الغلول سبب لحضوره يوم القيامة مع صاحبه ، وإن كان مؤمناً لما فيه من حق لله عز وجل ورسوله وأهل بيته والمؤمنين ، بلحاظ تعلق الحقوق بالغلول قبل إخراج الخمس من الغنائم .
وتأتي الآية التالية لتبين وجوب السعي لمرضاة الله عز وجل ، فيجتهد المسلم في طاعة الله ، ويكون إمتناعه عن أخذ الغلول فرداً من أفراد هذا الإجتهاد ، وفيه نكتة وهي أن أكثر المسلمين لا يبتلون بالغلول لعدم توالي القتال مع الذين كفروا ، بينما جاءت الآية القرآنية حكماً ثابتاً في الأرض إلى يوم القيامة ، فلا يقف المسلم عند الغلول وأكله إذ تنقله الآية التالية إلى وجوب إتباع مرضاة الله بالعمل الصالح والتنزه عن السرقة والغيبة والإفتراء ، إذ تذكر آية البحث بيوم القيامة وتجعله حاضراً في الوجود الذهني عند المسلم ، قال تعالى [إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا *وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( ).
ومن الإعجاز في الجمع بين الآيتين تذكير الآية التالية بيوم القيامة أيضاً وإذ ذكرته آية البحث بالاسم فان الآية التالية أخبرت عن حال الذين يعصون الله في الحياة الدنيا ، ويمتنعون عن إتباع مرضاة الله عز وجل وسوء عاقبتهم ، وخسارتهم في الآخرة .
المسألة السابعة : بعد أن ذكرت آية البحث الغلول أخبرت عن عالم الحساب ، وحضور كل إنسان ومعه جميع أعماله في الدنيا إلا ما شاء الله عز وجل محوها أو سترها وإخفائها .
ونفت نزول الآية الظلم على الناس يومئذ لأن الملك لله وحده ، وفي التنزيل [لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ] ( ) وتضمنت الآية التالية ذكر صنفين من الناس :
الأول : المؤمن الذي يأتي بالواجبات , ويجتنب ما حرّم الله عز وجل .
الثاني : الذي يفعل المعاصي وينزل عليه سخط من الله وتكون عاقبته النار ، قال تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
وتدل الآية أعلاه على أن الإيمان تعلم وعلم وثبات في منازل العلم ويستحق أهله المدح والثناء ، وأن الكفر جهالة وعناد وإصرار على الإمتناع عن تعلم الحق والأحكام الشرعية .
لبيان قانون وهو أن التفقه في الدين واقية من أكل الغلول ،وسبيل للنجاة يوم القيامة من أعباء الغلول وحضوره ووطأة ثقله, ومن الإعجاز في الصلة بين آيات القرآن لتكون واقية شخصية وعامة من الغلول أما الشخصية فانها تبعث المسلم على العصمة من الغلول وأمّا العامة فأنها تنشر التعاون بين المسلمين للإمتناع عن الغلول وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المقام .
قال تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] ( ) .
ومن الإنذار في المقام ما يتعلق بالغلول عند رجوع الغزاة بتذكيرهم بقبحه الذاتي وسوء عاقبته ولزوم إرجاع ما أخذ منه إلى مجمع الغنائم أو بيت المال ، والتحذير بخصوص الغزو السابق ينفع المسلمين في اللاحق منه ، وهو من أسرار الآية أعلاه , والجمع بينها وبين آية البحث .
المسألة الثامنة : بلحاظ الجمع بين آية البحث والسياق يمكن تأسيس قانون من شعبتين :
الأولى : إتباع نهج الأنبياء طريق الغبطة والسعادة والإجتماع في الآخرة مع الصدّيقين ، وهو من معاني البركة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بأن تحضر سنن الأنبياء في كل زمان بسيرة ومنهاج المسلمين .
(وعن وهب بن منبه قال : لما أتى جبريل عليه السلام يوسف عليه السلام بالبشرى وهو في السجن قال : هل تعرفني أيها الصديق؟ قال : أرى صورة طاهرة ، وريحاً طيبة لا تشبه أرواح الخاطئين .
قال : فإني رسول رب العالمين ، وأنا الروح الأمين . قال : فما الذي أدخلك إلى مدخل المذنبين ، وأنت أطيب الطيبين ، ورأس المقربين ، وأمين رب العالمين؟؟؟ . . .
قال : ألم تعلم يا يوسف ، أن الله يطهر البيوت بمطهر النبيين؟ وأن الأرض التي تدخلونها هي أطيب الأرضين؟ وأن الله قد طهر بك السجن وما حوله بأطهر الطاهرين وابن المطهرين؟ إنما يتطهر بفضل طهرك وطهر آبائك الصالحين المخلصين .
قال : كيف تسميني بأسماء الصديقين وتعدني من المخلصين ، وقد دخلت مدخل المذنبين ، وسميت بالضالين المفسدين؟ . . . قال : لم يفتن قلبك الحزن ، ولم يدنس حريتك الرق ، ولم تطع سيدتك في معصية ربك ، فلذلك سماك الله بأسماء الصديقين ، وعدّك مع المخلصين ، وألحقك بآبائك الصالحين .
قال : هل لك علم بيعقوب؟ قال : نعم ، وهب الله له الصبر الجميل ، وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم . قال : فما قدر حزنه؟ قال : سبعين ثكلى . قال : فماذا له من الأجر؟ قال : قدر مائة شهيد) ( ).
فان قلت ما هي المناسبة ، الجواب ورد ذكر تنزه الأنبياء عن أكل الغلول ولزوم محاكاة المؤمنين لهم والإقتداء بسنتهم من باب الموضوع المثال الذي يترتب عليه حكم عام ، فيمتنع المجاهدون في ساحة المعركة من أكل الغلول .
ويأتي الثواب لعموم المسلمين والمسلمات في كل زمان وإن لم يخوضوا معارك وقتال مع الذين كفروا , لعزم كل واحد من المسلمين على العمل بمضامين آية البحث ، والحرص على إجتناب المال العام .
وهل تلاوة المسلم لآية البحث نوع عهد بالإمتناع عن أكل الغلول ، الجواب نعم ، وهو من فضل الله وسعة رحمته ، وفيوضات وجوب تلاوة المسلمين للقرآن في الصلاة اليومية الواجبة ، ومن بركات وأسرار قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) .
فحينما يأتي يوم الحساب تكون من صحائف الأعمال صفحة خاصة بتنزه المسلم عن أكل الغلول سواء أبتلي بأمكان أخذ الغلول وتعفف عنه ، أو لم يخض معركة ويحصل على غنائم ، والملاك أن يديه لم تصلا إلى بيت المال , ولم يتعد عند الإئتمان على المال العام .
الثانية : تحقق الضلالة ووقوع الخسارة بمخالفة نهج الأنبياء ، وتلك آية في خلق الإنسان وعلة عمارته الأرض ، ولزوم إنزجاره عن فعل السيئات والفواحش .
وتبين آية البحث قانوناً من جهات :
الأولى : لزوم إقتران العمل الصالح بالإيمان .
الثانية : تجلي العمل الصالح بسيرة ونهج الأنبياء .
الثالثة : أخذ الغلول والتصرف بالمال العام من دون رخصة وإذن حرام وأمر منهي عنه كتاباً وسنةً وإجماعاً .
الرابعة : حضور الأفعال بصفة عروض مع أصحابها يوم القيامة .
الخامسة : حتمية اليوم الآخر ، وقيام الناس من قبورهم ليحضروا عالم الحساب والجزاء ، ومن حكمة الله وعظيم قدرته حضور الناس جميعاً في المحشر ومواطن يوم القيامة من آدم وحواء إلى آخر فرد من الناس عاش على الأرض أو ارتحل إلى الكواكب الأخرى .
ومع فرض صنع الإنسان الآلي وقيامه باعمال حربية هجومية ودفاعية .
السادسة : عدم خفاء أمر أو فعل عن الله عز وجل وهو سبحانه منزه عن النسيان وعن السهو ونحوه ، وفي التنزيل في ثناء الله الله عز وجل [لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] ( ).
السابعة : تنزه الله عز وجل عن الظلم في الدنيا والآخرة وإمتناع وجود الظلم يوم القيامة وفي عالم الحساب والجزاء .
الوجه الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ).
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين آية البحث والآية أعلاه : لقد منّ الله عز وجل على المؤمنين ما كان لنبي أن يغل ).
من خصائص الدنيا وحياة الناس فيها أنها (دار التخفيف) وليس من حصر لصيغ ووجوه التخفيف فيها من عند الله عز وجل، وقال سبحانه[يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
ومن وجوه التخفيف بعثة الأنبياء وقيامهم بالتبليغ والدعوة إلى الله عز وجل، وقد بذلوا مهجهم في سبيل الله، ليكون من وسائط التخفيف عن المسلمين وجود أسوة كرام في مناهج الهدى التي أمر الله عز وجل المسلمين بها ، وجاء الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسننها ، ومنها إمتناع الأنبياء عن الأخذ خلسة من الغلول ، وتحتمل أسباب وفرص أخذ الغلول وجوهاً:
الأول : نسبة التساوي بين الأنبياء والمسلمين في مقدار الغنائم وفرص الأخذ منها خفية.
الثاني : فرصة الأنبياء أكثر وأوسع من فرص المقاتلين وعامة المسلمين في الأخذ من الغلول.
الثالث : تهيأت للمسلمين فرص ومناسبات أكثر مما تتهيأ وأتيح للأنبياء.
والمختار هو الثاني، لجمع الأموال عند النبي وقيامه بالتوزيع والتصرف فيها، فكانت آية البحث حاجة للأنبياء والمسلمين والناس جميعاً، إذ تتضمن إكرام الأنبياء والشهادة لهم بالتقوى والصلاح، مع إنقضاء أيامهم، ولتبقى هذه الشهادة حجة نضرة في الأرض إلى يوم القيامة، وفي التنزيل[قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ]( ).
وفيها نعمة على المسلمين بتيسير طريق التنزه عن أكل الغلول، ولو أراد المسلم أن يأخذ من الغلول تحضر آية البحث وقوله تعالى[وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ]( )، فتنجذب نفسه الى منهاج الأنبياء، وتنفر نفسه مما امتنعوا عنه طاعةً لله عز وجل .
ومن معاني الجمع بين الآيتين دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة عصمة الأنبياء عن أكل الغلول وعن الأخذ خفية من الغنائم لوجوه :
الأول : إحاطة المسلمين علماً بأحوال وسيرة الأنبياء.
الثاني : بيان جهاد الأنبياء في سبيل الله، وإذا كان الأنبياء لا يأكلون من الغنائم خلسة فهل كان أصحابهم يأخذون خفية منها، الجواب لا، لإقتدائهم بالأنبياء، قال تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
وثناء الله على أصحاب الأنبياء ووصفهم بأنهم (ربيون) في الآية أعلاه شاهد على أنهم كانوا حريصين على العمل بطاعة الله ومنزهين عن أكل الغلول.
الثالث : توثيق القرآن لسنن الأنبياء، وفيه مصداق لقوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الرابع : من وجوه شكر المسلمين لله عز وجل في المقام وحدة الفعل الحسن الجامع بينهم وبين الأنبياء بالتنزه عن أكل الغلول، وهو من أبهى وأعذب وأحلى مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الخامس : إتخاذ المسلمين سنن الأنبياء مادة وموضوعاً ووسيلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليكون من معاني قوله تعالى[وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( )، ومن البر التنزه عن أكل الغلول، ومن التقوى ذكر الأنبياء وسيرتهم الحسنى البهية التي تبهج وتسر كل مسلم ومسلمة.
السادس : شكر الله عز وجل لتفضله وأمره للمسلمين بتعلم أخبار الأنبياء والإقتداء بسننهم وحسن سمتهم.
السابع : شكر المسلمين لله عز وجل على مضامين آية البحث وهذا الجزء من تفسيرنا للقرآن وهو السابع والأربعون بعد المائة من مصاديق هذا الشكر.
الثامن : شكر المسلمين لله عز وجل على التخفيف عنهم بذكر آية البحث لسيرة الأنبياء بالتنزه عن أكل الغلول خلسة وخفية.
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين آية البحث وآية السياق، لقد منّ الله على المؤمنين ومن يغلل يأتي بما غلّ يوم القيامة).
وفيه نعمة من عند الله عز وجل بأن يشكر المسلمون الله عز وجل على هدايتهم لمعالم الإيمان وإجتنابهم أكل الغلول لتفضل الله عز وجل عليهم بآية البحث، وبلوغها المسلمين والمسلمات جميعاً، وبلغة صريحة ونص خال من الترديد أو اللبس أو وجود تأويل محتمل آخر خلاف الظاهر، قال تعالى[وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا]( ).
وتبين الآية أن حقوق المجاهدين لن تضيع فإن حجبت عنهم في الدنيا بالغلول فأنها تأتيهم في الآخرة على وجوه:
الأول : حضور ذات الغلول والقطعة من الغنائم التي أخذت خلسة.
الثاني : إطلاع الذين لهم حصة بالغلول عليها.
الثالث : رؤية الذي أخذ الغلول كيف يبوء بنقلها حتى وإن كانت خفيفة في وزنها، كالدرهم والدينار.
الرابع : تحول سهام المسلمين في تلك الغلول إلى حسنات وأجر عظيم، ليملأ نفوسهم السرور والغبطة على هذه النعمة، ويكون من معاني آية البحث.
ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة لأمور:
الأول : كشف الحقائق للمسلمين.
الثاني : إطلاع المجاهدين على فعل الذي غلّ وأخذ من المال العام خفية وبغير حق، وفي التنزيل في وصف يوم القيامة[يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ]( ).
الثالث : فوز المجاهدين بثواب عظيم بدلاً عما فاتهم من الغنائم.
ويكون تقدير آية البحث بلحاظ آية السياق .
لقد منّ الله على المسلمين بالأمن من الحساب على الغلول يوم القيامة، ومن مصاديق المنّ والفضل في المقام آية البحث، وما فيها من الإنذار .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين آية البحث وآية السياق: وما كان لنبي أن يغل إذ بعث الله في المؤمنين رسولاً من أنفسهم.
لقد ذكرت آية البحث الأنبياء جميعاً بقوله تعالى[وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] ليدخل في الآية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، وتتجلى في سيرته سنن وآداب النبوة .
الثاني : تعلق أسباب النزول بسيرة وسنن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصيغ تنزيهه ودفاع الله عز وجل عنه، وفي التنزيل[إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] ( ).
الثالث : إتصاف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه رسول ومن الخمسة أولي العزم من الرسل، وبين النبي والرسول عموم وخصوص مطلق، فكل رسول هو نبي وليس العكس، فمنزلة الرسول اكبر درجة.
وهل يمكن القول أنه إذا كان أي نبي لا يغل فمن باب الأولوية أن الرسول لا يغل، الجواب لا تصل النوبة إلى هذا القياس وفحوى الخطاب ، فهناك ثوابت وسنن يلتقي فيها الأنبياء جميعاً من غير مائز أو فارق، منها الصبر والتعفف والإمتناع عن الأخذ خلسة وخفية من الغلول، أو الإستحواذ عليها، وهو من مصاديق ما ورد في التنزيل من بيان لإيمان المسلمين بقوله تعالى [وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
نعم من فضل الله عز وجل على المسلمين أن يكون إمامهم نبياً رسولاً يمتنع عن أكل الغلول , ويخبر عن الله عز وجل بقصص الأنبياء سواء تلك التي وردت في القرآن أو غيرها ، وفي قوله تعالى بخصوص موسى عليه السلام , قال [رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ]( )، ولم يسأل الا الطعام لشدة جوعه .
قال ابن عباس : لقد قال موسى : ولو شاء إنسان أن ينظر إلى خُضْرة أمعائه من شدة الجوع، وما يسأل الله إلا أكلة ( ).
ووردت أخبار وقصص عن الأنبياء السابقين على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها ما ورد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (رَأَيْتُ عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ وَأَمَّا مُوسَى فَإِنَّهُ جَسِيمٌ قَالُوا لَهُ فَإِبْرَاهِيمُ قَالَ انْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ يَعْنِي نَفْسَهُ) ( ).
وعن جابر بن عبد الله قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن إبراهيم حَرَّم بيت الله وأمَّنَه وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يُصَادُ صيدها ولا يقطع عضاهها( ))( ).
ومما ذكره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص قصص الأنبياء .
وأخرج الخطيب في كتاب النجوم بسند ضعفه عن عطاء قال : قيل لعلي بن أبي طالب : هل كان للنجوم أصل؟ قال : نعم ، كان نبي من الأنبياء يقال له يوشع بن نون . فقال له قومه : انا لا نؤمن بك حتى تعلمنا بدء الخلق وآجاله .
فأوحى الله تعالى إلى غمامة فأمطرتهم ، واستنقع على الجبل ماء صافياً ، ثم أوحى الله إلى الشمس والقمر والنجوم أن تجري في ذلك الماء .
ثم أوحى إلى يوشع بن نون أن يرتقي هو وقومه على الجبل ، فارتقوا الجبل فقاموا على الماء حتى عرفوا بدء الخلق وآجاله ، بمجاري الشمس والقمر والنجوم ، وساعات الليل والنهار .
فكان أحدهم يعلم متى يموت ، ومتى يمرض ، ومن ذا الذي يولد له ، ومن ذا الذي لا يولد له ( ).
وعن مجاهد قال : لما كبر اليسع قال : لو أني استخلفت رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتي ، حتى أنظر كيف يعمل فجمع الناس فقال : من يتكفل لي بثلاث : أستخلفه يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب .
فقام رجل تزدريه العين فقال : أنا فقال : أنت تصوم النهار وتقوم الليل ولا تغضب؟ قال : نعم . قال : فردّه من ذلك اليوم وقال مثلها في اليوم الآخر ، فسكت الناس وقام ذلك الرجل فقال : أنا . فاستخلفه . قال : فجعل إبليس يقول للشياطين : عليكم بفلان، فأعياهم ذلك .
فقال : دعوني وإياه . . . فأتاه في صورة شيخ كبير فقير فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة – وكان لا ينام من الليل والنهار إلا تلك النومة – فدق الباب فقال : من هذا؟ قال : شيخ كبير مظلوم . قال : فقام ففتح الباب ، فجعل يكثر عليه فقال : إن بيني وبين قومي خصومة وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا . . . وجعل يطول عليه حتى حضره وقت الرواح وذهبت القائلة ، وقال : إذا رحت فائتني آخذ لك بحقك .
فانطلق وراح وكان في مجلسه ، فجعل ينظر هل يرى الشيخ الكبير المظلوم ، فلم يره فقام يبغيه ، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس فينتظره فلا يراه ، فلما راح إلى بيته جاء فدق عليه الباب فقال : من هذا؟ قال : الشيخ الكبير المظلوم ، ففتح له فقال : ألم أقل لك إذا قعدت فائتني؟ قال : إنهم أخبث قوم . قال : إذا رحت فائتني ، ففاتته القائلة فراح فجعل ينظر ولا يراه ، وشق عليه النعاس فلما كان تلك الساعة جاء فقال له الرجل : ما وراءك؟ قال : إني قد أتيته أمس فذكرت له أمري . فقال : لا والله لقد أمرنا أن لا يدع أحداً يقربه .
فلما أعياه نظر فرأى كوّة في البيت فتسوّر منها فإذا هو في البيت ، فإذا هو يدق الباب من داخل فاستيقظ الرجل فقال : يا فلان ، ألم آمرك؟ قال : من قبلي والله لم تؤت ، فانظر من أين أتيت . فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه وإذا برجل معه في البيت فعرفه .
فقال له ذو الكفل : عدو الله؟! قال : نعم ، أعييتني في كل شيء ففعلت ما ترى لأغضبك . فسماه الله { ذا الكفل }( ) لأنه تكفل بأمر فوفى به( ).
إعجاز الآية الذاتي
تتضمن الآية الإخبار عن تحقق النصر للمسلمين وغلبتهم على الذين كفروا .
ومن خصائص رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها إبتدأت بالدعوة السرية إلى الله عز وجل ، وتحمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والذين آمنوا معه صنوف الأذى من كفار قريش ، ولاقى بعضهم الموت تحت وطأة التعذيب ، فنزل الأمر من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة من مكة بلد البيت الحرام الذي جعله الله عز وجل أمنا وكان [أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ] ( ) ومكة أرض آباء وأجداد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتوجه وأهل بيته وأصحابه إلى دار الغربة وما فيها من المجهول والأمور الطارئة وأسباب الشدة والحرج خاصة في بدايات الهجرة ، بل حتى بعد البداية ، فمع تجلي معجزات النبوة فان المنافقين كانوا يحثون على ترك نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتسمية الصحابة المهاجرين بالأذلاء لما هم عليه من صفة الغربة وغلبة حال الفقر.
ففي غزوة بني المصطلق التي وقعت في شهر شعبان من سنة ست للهجرة نزلت سورة المنافقين كلها ، وفيها قوله تعالى [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ]( ).
مع أن المسلمين انتصروا فيها وانهزم الذين كفروا إذ أصطف الجمعان للقتال ، وتراموا بالنبال ساعة ، ثم أمر النبي أصحابه بالهجوم حملة رجل واحد ، فانهزم المشركون ، وسبى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النساء والذراري والأموال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ) وتسمى هذه الواقعة غزوة المريسيع وهو موضع ماء من مياه بني المصطلق ، وكان سبب الغزوة أنه بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم يريدون غزو المدينة ، ويجمعون لحربه صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان قائد بني المصطلق آنذاك الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية وهي زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان الذي سباها يومئذ الإمام علي عليه السلام وأتى بها إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن قتل مالكاً وابنه (قالت جويرية بنت الحارث زوجة الرسول: أتانا رسول الله صلى الله عليه وآله ونحن على المريسيع، فاسمع أبي وهو يقول: أتانا ما لا قبل لنا به ، قالت وكنت أرى من الناس والخيل والسلاح ما لا أصف من الكثرة.
فلما أن أسلمت وتزوجني رسول الله صلى الله عليه وآله ورجعنا جعلت أنظر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى، فعرفت أنه رعب من الله عز وجل يلقيه في قلوب المشركين، قالت: ورأيت قبل قدوم النبي صلى الله عليه واله بثلاث ليال كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن اخبر بها أحدا من الناس فلما سبينا رجوت الرؤيا فأعتقني رسول الله صلى الله عليه وآله وتزوجني، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله أصحابه أن يحملوا عليهم حملة رجل واحد،
فما أفلت منهم إنسان، وقتل عشرة منهم وأسر سائرهم، وكان شعار المسلمين يومئذ: ” يا منصور أمت ” وسبى رسول الله صلى الله عليه وآله الرجال والنساء والذراري والنعم والشاء، فلما بلغ الناس أن رسول الله صلى الله عليه وآله تزوج جويرية بنت الحارث.
قالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وآله، فأرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق ، فما علم امرأة أعظم بركة على قومها منها) ( ).
وأصيب يومئذ جماعة من بني عبد المطلب ، ومن الإعجاز في السنة النبوية أن أباها جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسأله فداء ابنته ، مما يدل على أن العرب آنذاك يكرمون المرأة وأنهم ليسوا جميعاً يقومون بالوأد ، ودفن البنات في الصغر .
وقبل أن يجيبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص مسألته سأله عن جملين خبأهما في شعب معين ، وذكر له النبي صلى الله عليه وآله وسلم اسم الشعب لبيان ان لغة رد السؤال بسؤال موجودة في السنة مع مائز تتصف به ، وهو أن هذا السؤال شعبة من الوحي ، وفي هذا السؤال وجوه :
الأول : الدلالة على العناية الخاصة بصاحب السؤال .
الثاني : كان صاحب السؤال رئيس قومه بني المصطلق ، واسمه الحارث بن أبي ضرار .
الثالث : في السؤال حجة على قومه ، ودعوة لهم للإسلام ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه بعد النصر يأتي الإيمان من قبل المهزومين فيكون من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة [إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ] ( ) مسائل :
الأولى : بعد نصر المسلمين يدخل المهزوم الإسلام .
الثانية : إرادة النصر بالمعنى الأعم ليشمل النصر إصلاح القلوب وهداية النفوس إلى الإيمان .
(وروى عن أسماء بنت يزيد : أنَّ رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يُكثر في دعائه : اللهم (يا) مقلَّب القلوب ثبَّت قلبي على دينك.
قالت : فقلتُ : يا رسول اللّه وإنَّ القلوب لتقلب؟
قال : نعم ما خلق اللّه من بني آدمَّ من بشر إلاّ وقلبه بين اصبعين من أصابع الله عزّ وجلّ فإن شاء أزاغه،
وإن شاء أقامه على الحق،
فنسأل اللّه تعالى أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا،
ونسألهُ أن يهبْ لنا من لدنه رحمةً إنَّهُ هو الوهاب.
قالت : قلت : يا رسول اللّه ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟
قال : بلى قولي : اللهم ربَّ محمّد النبي،
اغفر لي ذنبي، واذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلاّت الفتن ما أحييتني) ( ).
الثالثة : دخول المنهزم أمام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الإسلام مصداق وجزء علة لإنعدام الغالب للمسلمين .
وتقدير الآية : إن ينصركم الله يدخل عدوكم الإسلام فلا يحاربكم ولا يكون غالباً لكم ).
وحينما سمع الحارث أبو جويرية سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإخباره عن مسألة غيبية لا يعلمها أحد بادر إلى القول (أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والله ما عرفها أحد سواك) .
وإذا أسلم رئيس القوم فان قومه أو أكثرهم يتبعونه في دخول الإسلام ثم قال : (أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله ، والله ما عرفهما أحد سواي، ثم قال: يا رسول الله إن ابنتي لا تسبى ، إنها امرأة كريمة) ( ).
لقد خاطب الحارث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعد إعلان إسلامه بالنبوة ، وهو من الإعجاز في السنة الدفاعية وعلوم الغيب التي يتفضل الله عز وجل بها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يخبره عن مغيبات ، فيقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بابلاغ الناس بها من غير تردد أو خشية من إحتمال أن يكون هذا البلاغ غير تام أو صحيح .
وعدم التردد هذا من الإعجاز بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبرهان يدعو الناس للتصديق بنبوته وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ] ( ) .
ولم يسأل الحارث إعادة إبنته وردها عليه لأنه دخل الإسلام وعالم بأن سبيها جاء قبل دخوله الإسلام , ولم يجعله شرطاً لإسلامه .
فلم يجادله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه قال له : أذهب فخيرها ) وفيه شاهد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يغل في الغنائم من باب الأولوية القطعية ، بدليل قيامه بتخييره السبي الذي يأتيه هل يريد البقاء عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في جويرية التي إصطفاها لنفسه .
والأصل أن المرأة إذا خيرت بين أبيها والإلتحاق بقومها وبين السبي الحادث تختار الأول ، ومع هذا لم يتردد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسؤال تخييرها ، فوجدها أبوها فرصة ملائمة لإسترداد إبنته وقال لها : يا بنية لا تفضحي قومك) .
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أرأيت إن خيرتها أليس قد أحسنت ) أي أني أحسن إليك ولها بالتخيير ، وهل ترضى به ، قال : بلى ، فلما أتاها أبوها وهو متيقن بأنها تختار العودة معه والرجوع إلى قومها ، وذكر ما دار بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت : أخترت الله ورسوله ).
وتلك آية ومعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاعتقها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمهرها .
وصارت واحدة من أمهات المسلمين ، قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] ( ) فقام المسلمون يومئذ بعتق السبايا التي عندهم ، وأعادوا الغنائم والأموال التي أخذوها لتكون آية بسلامة المسلمين من الغلول والسرقة من الغنائم ، ولتصبح آية البحث بياناً وتوثيقاً لحياة الأنبياء وعصمتهم ، وشاهداً على إقتداء المسلمين بهم , مع قيام المسلمين بالكرم والسخاء .
وهل إعادة المسلمين للسبايا والأموال لبني المصطلق من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ) الجواب نعم .
ولابد من إقتباس الدروس واستقراء المسائل وضروب الحكمة من جهات :
الأولى : قيام المسلمين بالتخلي عن غنائم بني المصطلق لأنهم صاروا أخوال المسلمين .
الثانية : بيان النعم العظيمة التي تأتي للفرد والجماعة والقبيلة بالإسلام ، وهل يندم معها بنو المصطلق على إرادتهم محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بأن يدخل الذي يحاربهم الإسلام ويندم على محاربته لهم ، ويشكر الذي ينوي محاربتهم الله عز وجل على عدم وقوع القتال مع المسلمين .
وهذا الندم والشكر من عمومات النصر في قوله تعالى في الآية السابقة [إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ] ( ) وليكون شاهداً بأن نصر الله عز وجل لا يختص بميدان القتال .
الثالثة : ترغيب القبائل بدخول الإسلام وبيان مصاديق عملية لقانون وهو أن الإسلام خير محض ، ونعمة عظمى على الفرد والجماعة والقبيلة والأمة .
لقد كانت القبائل تلوم بعض أبنائها الذين يدخلون الإسلام وينعتون بأنهم صبوا ، وتركوا دين آباؤهم ، ولم تمر الأيام والليالي لتدخل قبائلهم وآبائهم وأخوانهم وأبنائهم الإسلام ، وهل يصدق على هؤلاء الذين دخلوا الإسلام بأنهم سابقون لقومهم ، أم أن هذه خاصة بسابقي الأمم كسلمان المحمدي سابق بني فارس ، وصهيب الرومي ، وبلال الحبشي ، الجواب هو الأول ، وكان لهؤلاء المؤمنين الذين بادروا إلى دخول الإسلام السبق في قبائلهم وبين أهليهم ، ولا يختص هذا السبق بالشباب أو الشيوخ منهم ، بل كانوا متباينين في السن والمرتبة ، ومن القبائل من دخل الإسلام الآباء منها، ومنهم من دخل الإسلام الأبناء منها ، ومنها من دخل زعماؤها ورؤساؤها الإسلام أولاً فالتحق بهم قومهم ، كما في ثمامة رئيس بني حنيفة ، وقد تقدم ذكر قصته.
ويمكن تسمية آية البحث آية [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] ولم يرد هذا اللفظ وقصته إلا في آية البحث لتكون آية الغلول والنهي عنه .
ومع قلة كلمات الآية، فقد وردت فيها كلمات لم ترد في غيرها من آيات القرآن وهي :
الأولى : غلّ.
الثانية : يغّل.
الثالثة : يغلل .

اعجاز الآية الغيري
تجمع آية البحث بين تنزه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن أخذ الغلول وبين تحذير المسلمين من إخفائها والإستحواذ عليها خلسة ، لبيان وجوب إكرام المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والثقة به والظن بها خيراً دائماً ، ولا تنحصر هذه الثقة وحسن الظن بموضوع مخصوص ، بل هي متعددة من وجوه :
الأول : التصديق بما ينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القرآن .
الثاني : التسليم بأن آيات القرآن كلها من عند الله وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يضف أو يحذف حرفاً واحداً مما يوحى إليه من القرآن ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا] ( ) الجواب نعم .
الثالث : صدور قول النبي وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الوحي والإخبار الملكوتي .
الرابع : سلامة وإمتناع النبي صلى الله عليه وآله عن الغل والسرقة من الغنائم من الوحي ، فلا يمد يده على شيء ولا يقبضها إلا بالوحي .
وهل تدل الآية بالدلالة التضمنية على أن كل فعل لأي نبي إنما هو من الوحي من جهات:
الأول : الملازمة بين النبوة والوحي .
الثاني : إرادة عموم الأنبياء في قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وتقدير الآية أعلاه أو ما ينطق أي نبي عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).
الجواب ، لا دليل على إرادة لغة العموم في الآية أعلاه والقدر المتيقن هو خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن هذا الحصر بخصوص الآية أعلاه لا يمنع من حضور الوحي للأنبياء مما يجعلهم في واقية وأمن من سرقة الغلول ، ومن الأنبياء من كان ينبأ في منامه .
الثالثة : حاجة صفة النبوة وأهل الإيمان إلى سلامة الأنبياء من السرقة من الغنائم ، بلحاظ أن كل نبي هو أسوة للمؤمنين ، وقدوة لهم في فعل الخيرات وإجتناب السيئات .
الرابعة : لقد أصلح الله عز وجل الأنبياء لملكة التنزه عن أكل الغلول ليذكرهم الله عز وجل في آية البحث بصيغة الثناء وتكون محل فخر وعز لهم وللمسلمين جميعاً ، فان قلت على فرض قيام أحد المسلمين بأخذ الغلول من الغنائم فهل يفتخر بعصمة الأنبياء من الغلول ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) برضا المسلمين على نحو العموم الإستغراقي بفعل الأنبياء وحسن سمتهم .
(عن ابن زيد قال : كان رجل سرق درعاً من حديد أي ليس من الغنائم في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم طرحه على يهودي ، فقال اليهودي : والله ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طرحت عليّ . وكان الرجل الذي سرق له جيران يبرئونه ويطرحونه على اليهودي ، ويقولون : يا رسول الله إن هذا اليهودي خبيث يكفر بالله وبما جئت به ، حتى مال عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببعض القول ، فعاتبه الله في ذلك فقال { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً ، واستغفر الله } بما قلت لهذا اليهودي { إن الله كان غفوراً رحيماً } ثم أقبل على جيرانه فقال { ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم } إلى قوله { وكيلاً }( ) .
ثم عرض التوبة فقال { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ، ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه } فما أدخلكم أنتم أيها الناس على خطيئة هذا تكلمون دونه { ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً }( ) وإن كان مشركاً { فقد احتمل بهتاناً }( ) إلى قوله { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى }( ) قال : أبى أن يقبل التوبة التي عرض الله له وخرج إلى المشركين بمكة ، فنقب بيتاً يسرقه ، فهدمه الله عليه فقتله) ( ).
وتبعث آية البحث المسلم للإعتناء بأمور :
الأول : إدراك قانون حرمة الغلول على المسلم .
الثاني : الحرص على عدم أخذ الغلول .
الثالث : قد لا يكون الإيمان برزخاً من الحساب على الغلول لتعدد الحقوق فيه ،( عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “الظلم ثلاثة، فظلم لا يغفره الله، وظلم يغفره الله، وظلم لا يتركه الله: فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك، وقال { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }( ) وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضا، حتى يدين لبعضهم من بعض) ( ).
الرابع : مناجاة وتعاون المسلمين فيما بينهم للإمتناع عن أكل الغلول .
الخامس : تغشي الغبطة والسعادة للمسلم عند تلاوته آية البحث لعصمته من أكل الغلول .
السادس : صيرورة إمتناع المسلم عن أكل الغلول مقدمة ونوع طريق لملكة التقوى والعفاف عنده .
السابع : إجتناب المسلم أكل الحرام مطلقاً .
وهل يشمل الغلول السرقة من بيت مال المسلمين ، وأموال الدولة العامة ، والغش وأخذ المسؤول لحصة ونسبة من العقود ومبالغ المقاولات خلسة وتواطئً، وبما يجعل نسبة له غير أجرة وعطاء من الدولة .
الجواب نعم ، لتكون خصمآ له يوم القيامة ، ووبالاً عليه إذ تأتي معه ، وفيه إعجاز بأن علوم الآية القرآنية لا تختص بفرد موضوع خاص بل هي أعم في المعنى والدلالة بلحاظ وحدة الموضوع في تنقيح المناط ، وإرادة المعنى الأعم للغنائم ، وأنها تشمل واردات الدولة في كل زمان.
وهل يشمل الحكم الدولة غير الإسلامية إذ كان المسلم موظفاً مؤمناً فيها ، الجواب نعم ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا] ( ) ليكون المسلم في منهجه وسيرته مرآة لأحكام القرآن وداعياً إلى الله بصدق الأمانة وإخلاص العمل .
وما يغله الإنسان من الغنائم ، وما يسرقه من المال العام تكون خاتمته على وجوه :
الأول : إنفاق الغلول وصرفها في المؤونة .
الثاني : فقدان الغلول ، كنوع من الإبتلاء وأسباب الموعظة للذات والغير .
الثالث : إعادة الغلول إلى بيت المال .
الرابع : ترك الغلول إرثاً وتركة .
الخامس : ضياع الغلول عند موت صاحبه ، كما لو كان يخفيه في حرز لا يعلمه غيره خشية الفضيحة فيموت فجأة ويترك الغلول لا يعلم به إلى الله عز وجل الذي يحضره يوم القيامة وإن تعرض إلى التلف في الدنيا في أيام صاحبه فيحضر الغلول كهيئته يوم غلّ وأخذ خفية فان قلت إذا كان خفيف الوزن كالدينار الذهبي فهل يكون ثقيلاً في حمله يوم القيامة ، الجواب نعم ، بآية من عند الله تتعلق بنواميس وقوانين يوم الحساب ، إذ يكون الذنب والمعصية عرضاً وحملاً ، قال تعالى [وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ] ( ).
السادس : قيام الورثة باعادة الغلول إلى بيت المال أو التصدق به ، وهل يصح بناء مسجد بمال الغلول ، الجواب إذا لم يكن بالإمكان إعادة الغلول إلى بيت المال من غير ضرر معتد به ، فيجوز حينئذ .
ويكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : ما كان لنبي أو مؤمن أن يغل ) .
الثاني : ومن يغلل يأت بما غّل يوم القيامة .
وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : من يغلل بما غّل يوم القيامة .
الصغرى : المسلمون لم ولن يغلو .
النتيجة : لا يأتي المسلمون بغلول يوم القيامة .
فمن خصائص الإيمان الإمتناع عن الغلول من وجوه :
الأول :طاعة الله ورساله بخصوص النهي عن الأخذ خلسة من الغنائم وأموال الزكاة .
الثاني : الإقتداء بالأنبياء وتنزههم عن أكل الغلول .
الثالث : العمل بمضامين آية البحث .
الرابع : السعي الدؤوب وفعل الصالحات ، وأتخاذ الدنيا بلغة للأخرة وما فيها من الثواب العظيم .
ومن وجوه تقدير آية البحث :
الأول : وما كان لمحمد أن يغل ) أي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم معصوم من عند الله من آخذ الغلول ، واو أراد أن يأخذه لجعل الله عز وجل حجباً بينه وبين الغلول .
الثالث : وما كان لنبي أن يغل ) ليكون كل نبي أسوة حسنة لكم فلا تغلوا ) .
ليكون من إعجاز الآية الغيري سعي المسلمين للإجتماع مع الأنبياء في الجنان يوم القيامة بالصبر والدفاع عن الإسلام ، وعدم خلط العمل الصالح بآخر سيء ، وفي التنزيل [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا] ( ).

الآية سلاح
من إعجاز القرآن تنزيه للأنبياء ، وبين التنزيه والعصمة ، وخصوص مطلق ، فالعصمة أخص ، وهناك شواهد ومصاديق تجتمع فيها النزاهة والعصمة ، منها آية البحث إذ أنها تنفي عن الأنبياء الأخذ من الغنائم خفية وقبل التقسيم ، ليقتدي المسلمون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتنزهون عن أخذ الغلول، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
وهل يمكن القول أن الآية تدعو المسلمين للإقتداء بسنن الأنبياء على نحو العموم المجموعي والبدلي ، الجواب نعم ، فما دام كل نبي من الأنبياء لم يغل فيجب أن يقتدي المسلمون مجتمعين ومتفرقين بالأنبياء في عدم الغل .
وهل هذا المعنى من الغايات الحميدة للآية ونزولها ، الجواب نعم وسيأتي مزيد كلام في البحث الأخلاقي( ).
ومن معاني آية البحث تنمية ملكة التنزه عن الغل عند المسلمين، وهي حاجة لهم عند مقدمات القتال وأثناء القتال ، وبعد إنقضاء المعركة وجمع الغنائم .
وهل يختص موضوع الغل بما قبل قسمة الغنائم أم يشمل ما بعدها ، الجواب هو الثاني لتبقى آية البحث سلاحاً وواقية بيد المسلمين , وعوناً لكل واحد منهم تلح عليه بالتنزه عن الغل وعن السرقة من الغنائم وغيرها من باب الأولوية القطعية .
ومن الآيات في سنخية الإيمان تذوق حلاوة الإمتثال لأوامر الله ، ومحاكاة الأنبياء والتأسي بأخلاقهم وسننهم ، قال تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ) لإرادة الترغيب بالعمل بسنة الأنبياء ، ومنها التنزه عن الغلو .
ومن معاني السلاح في آية البحث التذكير بيوم القيامة وإستحضار المسلمين لقانون وهو مصاحبة العمل لصاحبه في الآخرة ، إذ جعلها الله عز وجل دار حساب بلا عمل.
ليحترز المسلم من الغلول لما فيه من الضرر الذي يلحقه في الآخرة بسببه ولتكون آية البحث دعوة متجددة في كل معركة للتذكير بيوم القيامة ، وجعل الحساب حاضراً في الوجود الذهني للمسلمين فيجتنب المسلم الغلة لما فيه من الخزي والحساب يوم القيامة ، قال تعالى [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ] ( ).
ومن خصائص المؤمنين إجتناب ما يكون شناراً يوم القيامة ، ولو غلّ المسلم ثم إجتهد بالإستغفار والدعاء رجاء ستر الله عز وجل له في الآخرة ، فهل يجزيه هذا الأمر ، ويكون سبباً في ستره في الآخرة أم أن آية البحث مطلقة أي يكون معنى الآية على أحد وجهين :
الأول : من يأخذ قطعة من الغنائم ثم يستغفر الله ويدعو الله عز وجل أن يستره يوم القيامة لينجو من الحساب بخصوص الغلول فان الله عز وجل يستجيب له .
الثاني : من يأخذ قطعة من الغنائم يأتي بما غل يوم القيامة ويحاسب عليه وإن استغفر الله وألح في الدعاء .
والمختار هو الأول أعلاه ، خاصة وأن آية البحث لم تؤكد الحساب والعقاب على الغلول، إنما أخبرت عن حضور الغل مع صاحبه ، والله عز وجل القادر على أن يستر العبد حتى مع إحضاره الغل معه .
وتقدير الآية : يأت بما غل يوم القيامة فيرحم الله المؤمن الذي إجتهد في الدعاء والإستغفار ، قال تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى] ( ) .
وتضمنت الآية العطف بـ (ثم) [ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ] لبيان التراخي في الجزاء وإرادة فضل الله وعفوه والشفاعة .
وجاءت خاتمة الآية سلاحاً بيد المسلمين لتأكيد العدل الإلهي وتنزه الله عز وجل عن الظلم في الحكم , ولبيان حقيقة وهي أن حضور الغل مع صاحبه برهان لإنتفاء الظلم ، وحرز من إنكار صاحبه.
لقد تفضل الله عز وجل ببعث الأنبياء[مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( )، وتتضمن آيات القرآن معاني أعم في موضوعها وأحكامها من البشارة والإنذار.
فهل المراد المعنى الإجمالي للبشارة والإنذار في رسالات الأنبياء ، وعدم لزوم وجود نص البشارة ونص الإنذار في كل آية من القرآن خصوصاً وأن الآية أعلاه تصف ذات الأنبياء ووظائفهم الرسالية بأنها بشارة وإنذار .
الجواب من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية أن كل آية قرآنية تتضمن أموراً:
الأول : موضوع ذات الآية , ومنه الأوامر والنواهي.
الثاني : البشارة في منطوق الآية، والإنذار في مفهومها .
الثالث : الإنذار في منطوق الآية، والبشارة في مفهومها .
ومن الأول في آية البحث الإخبار عن عصمة الأنبياء من أكل ما ورد النهي عنه.
ومن الثاني : البشارة للمسلمين بحضور عملهم الصالح معهم بقوله تعالى[ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ] وتتضمن ذات الآية الإنذار والوعيد .
ومنها إخبار خاتمة آية البحث عن الحكم بالعدل يوم القيامة لأن أعمال الناس كلها حاضرة معهم ، ويحكم الله عز وجل بالعدل المقترن بالرحمة والرأفة .
ومنها الإنذار بالمفهوم الذي تتضمنه الآية بتحذير كل مسلم من إنتهاج ما يخالف سنن الأنبياء، وما فيه معصية لقوله تعالى[فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
ومن الثالث الإنذار والوعيد لمن يأخذ من الغنائم قطعة أو أكثر خلسة قبل القسمة من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو أمراء السرايا، لقوله تعالى[وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ].
ومن معانيه البشارة لمن تنزه عن الغلول، ومن المسلمين من يتاح له أخذ قطعة من الغلول , ولكنه يمتنع عنه طاعة لله.
ويتخذ المسلمون آية البحث سلاحاً من جهات :
الأولى : التفقه في الدين ومعرفة سنن الأنبياء والأخلاق الحميدة التي يتصفون بها ، وهو من المعنى الأعم لقوله تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ).
الثانية : حرص المسلمين على الإمتناع عن أكل الغلول .
الثالثة : المناجاة بين المسلمين بلزوم إجتناب السرقة من الغنائم ، وفي التنزيل [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
الرابعة : إدراك قانون وهو لزوم تعاهد المال العام ، وحفظ المصالح التي تهم المسلمين ، وعدم الإستحواذ على ما هو ملك للجماعة والأمة .
الخامسة : إتخاذ المسلمين آية البحث مادة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا يختص هذا الأمر والنهي بذات مضامين الآية بل هو أعم موضوعاً وأعظم نفعاً .
(وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (الخلق عيال الله تعالى فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله) ( ).
مفهوم الآية
إبتدأت الآية بالنفي الذي يتضمن في دلالالته إكرام الأنبياء والشهادة لهم بالإمتناع عن الأخذ غيلة وخفية من الغلول لبيان أن الله عز وجل يحب للمسلمين تنزيه الأنبياء فهم الأسوة ومنهاجهم الضياء الذي يتبعون .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار ، قال تعالى [وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ] ( ) وتفضل الله عز وجل وجعل الإيمان وعمل الصالحات أقرب للعباد من الكفر والجحود وفعل السيئات ، فتفضل وبعث الأنبياء وحصنّهم وعصمهم من فعل السيئات والذنوب ما صغر منها وما كبر .
وذكر القرآن شواهد لها ، وجاءت آية البحث بقانون منها وهو أن الأنبياء لا يأكلون الغلول ، مما يدل بالأولوية القطعية أنهم لا يسرقون ولا يأكلون المال العام ، ولا يقربون الفواحش .
ثم أخبرت آية البحث بأن كل الذين غلوا أو يغلون يحضرون يوم القيامة ومعهم الذي غلوه ، وفيه تأكيد لنزاهة الأنبياء ، وتحذير وإنذار من الغلول ، قال تعالى[إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا] ( ).
ومن خصائص آية البحث التذكير بيوم القيامة بقوله تعالى[ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ]( ) وهو بشارة وإنذار ، بشارة للذين آمنوا وعملوا الصالحات وإنذار للذين كفروا .
ليكون من خصائص البشارة ترغيب المسلمين بالثبات في منازل الإيمان ، وزجر الذين كفروا وبعث الخوف في قلوبهم من البقاء في مقامات الكفر والجحود .
وفي الآية تأكيد لقانون وهو عدم وجود الناصر والمعين والمتطوع لحمل وزر وتبعات فعل غيره ، قال تعالى [وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا] ( ).
وقد يتعرض الناس للظلم فيما بينهم في الحياة الدنيا ، فجاءت آية البحث بالوعد للمؤمنين والذين ظُلموا والمعتدى عليهم وسلبت حقوقهم ، وبالوعيد للظالمين والمعتدين بالحساب يوم القيامة ، وبيان قانون وهو أن الجزاء يوم القيامة خال من الظلم والتعدي لأن [الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ] ( ) وليس من ظلم عنده سبحانه ، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الظلم ظلمات يوم القيامة) ( ).
الآية لطف
لقد جعل الله عز وجل القرآن نعمة ولطفاً منه سبحانه من جهات :
الأولى : ذات نزول القرآن لطف ورحمة .
الثانية : نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص والتعيين لطف من الله .
الثالثة : كل آية من القرآن لطف وبهجة للقلوب ، وإمام للجوارح والأركان .
الرابعة : الجمع بين كل آيتين من القرآن مناسبة لإستنباط المسائل , ووجوه اللطف والرحمة بالمسلمين .
الخامسة : كل شطر من آية من القرآن لطف من عند الله ، وهل هذا اللطف متحد أم متعدد .
الصحيح هو الثاني ، ويتجلى في مضامين كل آية من القرآن ، ومنها آية البحث إذ تبدأ الآية بذكر الأنبياء ، وشهادة الله عز وجل لهم بالإمتناع والتنزه عن أكل الغلول .
وفي التنزيل [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ] ( ) إذ يطّهرالله من المعصية والذنوب من يشاء من عباده ويشهد لهم بالصلاح ،وقد إجتمع الأمران للأنبياء في آية البحث ، وهو من فضل الله عليهم .
قال تعالى [وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ) .
ولا تختص تزكية الأنبياء في آية البحث بتنزههم عن أكل الغلول، بل تشمل أموراً :
الأول : ذكر الأنبياء بصفة النبوة ، وما تدل عليه من التزكية ، وإختيارهم من عند الله عز وجل لنزول الوحي والكتب السماوية .
الثاني : بيان آية البحث لقوانين ثابتة في حياة الناس ومنها ميل الناس للإقتداء بالإنبياء في سيرتهم في عمل الصالحات وإجتناب السيئات.
الثالث : لو أراد النبي أن يأكل من الغلول فربما لا يعلم به أحد من الناس لأن الغنائم والمال العام يكون بيده وتحت تصرفه، مما يحتمل بث الذين كفروا أسباب الريب والشك، فجاءت آية البحث لتغلق أفواههم، وتمنع من الإرتياب وتزيد المسلمين رضا وطمأنينة، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، بلحاظ أن تنزيه القرآن للأنبياء فخر وعز للمؤمنين بنبوة محمد من جهات :
الأولى : الأنبياء أئمة المسلمين , وسادة الأمم , لتبين آية البحث أن الأئمة على مرّ سني التأريخ المتعاقبة على نهج قويم.
الثانية : التخفيف عن المسلمين بخصوص عدم أكل الغلول بوجود قدوة كريمة لهم.
الثالثة : بيان قانون وهو أن التنزه عن أكل الغلول صراط مصاحب للنبوة والإيمان، وهو من الإعجاز في قراءة كل مسلم ومسلمة عدة مرات سورة الفاتحة، ومنها قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، وفيه بلحاظ موضوع آية البحث أمور :
الأول : الدفاع عن بيضة الإسلام من الصراط المستقيم.
الثاني : لجوء المسلمين للدعاء لإجتناب أكل الغلول ، فيأتي الدعاء عاماً ومطلقاً لتترشح منافعه على المسائل الخاصة.
الثالث : إتخاذ الدعاء وسيلة ومصداقاً لتفويض الأمور إلى الله عز وجل، وهو من مصاديق قوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( )، ومعنى اللطف في اللغة الرفق، واللين ، قال كعب بن زهير :
ما شَرُّها بَعْدَ ما ابْيَضَّتْ مسائِحُها
لا الوُدَّ أَعْرِفُه منها ولا اللَّطَفَا) ( ).
و(اللُطْفُ من الله تعالى: التوفيق والعصمة) ( ).
وقد أثنى الله عز وجل على نفسه وأخبر بأنه هو اللطيف ، وفي التنزيل [لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ] ( ).
وليس من حصر لمعاني ومصاديق اللطف من عند الله بعباده منها :
الأول : تقريب العباد إلى سبل الطاعة .
الثاني : دفع الناس برفق عن فعل الذنوب إلى فعل الطاعات .
الثالث : غياب المعصية ، فحتى لو أراد المكلف إرتكاب المعصية فان الله عز وجل يصرف موضوعها ومادتها ومقدماتها ، ومن العصمة إمتناع المعصية , وهذا الإمتناع بلطف وفضل من الله عز وجل .
الرابع : يجعل الله برزخاً دون فعل الذنوب ، وهو على وجوه :
الأول : البرزخ المصاحب للناس في كل زمان .
الثاني : البرزخ الخاص بملكف أو مكلفة [إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ) .
الثالث : البرزخ الطارئ الذي يأتي حاجزاً عن المعصية حتى عند إجتماع مقدماتها ، وهل منها قوله تعالى في يوسف عليه السلام [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ] ( ).
الجواب نعم ، لتكون قصص الأنبياء مناراً ونوع ضياء ينير دروب المسلمين ، وعن ابن عباس وغيره بخصوص الآية أعلاه أن يوسف (رأى خيال الملك، يعني: سيده، وكذا قال محمد بن إسحاق) ( ).
و(لما همت به وهم بها قالت: كما أنت قال: ولم ؟ قالت: حتى اغطي وجه الصنم لا يرانا، فذكر الله عند ذلك وقد علم أن الله يراه ففر منها) ( ).
وعن الإمام الرضا عليه السلام : (لقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها كما همت، لكنه كان معصوما) ( ).
وهل يرى المسلم الذي يهّم بالأخذ من الغلول آية وبرهاناً ليجتنب الأخذ ، الجواب نعم ، وهو من فضل الله عز وجل على المؤمنين ، وإن كان مثل هذا البرهان من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ويتلقاه الأعم الأغلب من المسلمين بالرضا والقبول .
وهل آية البحث من عمومات البرهان ، وقوله تعالى [لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ] ( ) ولو بخصوص مسألة الأكل من الغلول والمال العام ، الجواب نعم ، وفيه رحمة ونعمة على المسلمين لبيان قانون وهو تجلي آيات خاصة تتعلق بأكل الغلول وأضراره العاجلة في الدنيا ، مع براهين منافع الإمتناع عن التعدي على المال العام .
إفاضات الآية
لقد أراد الله عز وجل للحياة الدنيا أن تكون روضة ناضرة بالتحلي والتّزين بالإيمان الذي هو خير محض ونفع دائم في النشأتين ، وإذا كانت الغلول تحضر مع صاحبها الذي طالتها يده خلسة ، فان الإيمان يحضر مع المسلم كل يوم من أيام الدنيا ، ليكون واقية من البلاء والآفات ، ومن أكل الغلول ، فلا يعلم أحد منافع الإيمان إلا الله عز وجل ، لذا إبتدأت آية البحث بالإخبار عن سيرة الأنبياء وتنزههم عن إستحواذ النفس الشهوية ، أو غلبة الطمع والكسب للذات والعيال .
وإذا أعطى الله عز وجل فانه يعطي بالأوفى والأتم ، فتفضل ونزّه الأنبياء على نحو العموم الإستغراقي عن الغلول ، وبين أخذ وأكل الغلول عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء هو أن يقوم ذات الآخذ لقطعة من الغنائم خارج القسمة خلسة بتملكها والتصرف فيها ، وهو الغالب .
أمّا مادة الإفتراق فهي قد يأخذ الشخص الغلول ولكنه لا يأكله ولا ينتفع منه ، وقد لا يأخذه ولكنه يصل إليه فينتفع منه ، وهو على قسمين :
الأول : الذي يعلم أن الذي بين يديه غلول أخذ خلسة من الغنائم أو بيت المال .
الثاني : الذي يتصرف بالغلول وهو لا يعلم بأنه غلول .
ويحرم على الأول بخلاف الثاني الذي تشمله أصالة البراءة ، وهل يجب عليه التفحص والتأكد هل هو غلول أو لا ، الجواب لا يجب , لقاعدة نفي الحرج ، قال تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ]( ).
وهل تختص إفاضات الآية بموضوع الغل وإجتنابه , الجواب لا ، وهو من الإعجاز في الآية القرآنية بأن تنزل بموضوع مخصوص ولكن مضامينها ودلالتها أعم من أن تحيط بها الوقائع والأحداث ، فمثلاً ورد قوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ] ( ) لتكون أخلاق الحج ملكة حميدة عند المسلمين طيلة أيام السنة فيحفظ المسلم لسانه من الجدال والغيبة والكلام القبيح في أيام وموسم الحج فيدرك أموراً :
الأول : حلاوة حفظ اللسان وإجتناب الجدال والخصومة .
الثاني : إمكان تحقق الأخلاق الحميدة , والإبتعاد عن الضرر والإضرار بالنفس في النشأتين .
الثالث : جني الحسنات والثواب العظيم من الصبر وترك الجدال والمراء .
الرابع : التعاون بين المسلمين للإمتثال للآية أعلاه في موسم الحج وباقي أيام السنة .
وكذا بالنسبة لآية البحث فأنها تمنع من التعدي والظلم والسرقة مطلقاً ، فاذا كان الغلول الذي يأخذه المسلم أمراً مذموماً ، ويحاسب عليه صاحبه يوم القيامة فلابد أن السرقة أكثر إثماً ، ويحاسب صاحبها يوم القيامة .
ومن الآيات بيان القرآن للعقاب الدنيوي العاجل للسرقة ، قال تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاًمِنْ اللَّهِ] ( ).
ومن إفاضات آية البحث بعثها المسلمين مجتمعين ومتفرقين للسعي للدار الآخرة ، والإحتراز من أهوالها , ولا ينحصر هذا الإحتراز بالتقوى ، والتي يفوز أصحابها بأعظم الأجر والثواب .
ومن خصائص الإنسان حبه للعدل وحاجته له ، إذ أنه ممكن , والحاجة ملازمة لعالم الإمكان .
وأختتمت الآية بذكر قانون في الدار الآخرة وهو إنتفاء الظلم ، وحتى الذين يدخلون النار يقرون بالعدل الإلهي وأنهم نالوا جزاءهم بما كسبت أيديهم , ويدل توثيق القرآن لسؤالهم مالكاً خازن النار على الإعتراف بالذنوب وإستحقاق دخول النار عليها ، وورد عن الإمام علي عليه السلام أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ على المنبر ( ونادوا يا مالك ) ( ) .
(وأخرج الطبراني ، عن يعلى بن أمية قال : سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ على المنبر { ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك } .) ( ).
الآية بشارة
من خصائص الآية القرآنية أن ذات نزولها وحده بشارة ونعمة على أهل الأرض ، وتلاوتها بشارة بالفوز بثوابها .
ومن الفضل الإلهي في المقام أن كل حرف له ثواب خاص .
(عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :من قرأ حرفاً من القرآن كتب الله له به حسنة . لا أقول { بسم الله }( ) ولكن باء ، وسين ، وميم ، ولا أقول { الم }( ) ولكن الألف ، واللام ، والميم) ( ).
وإذا كان لكل حرف ثواب خاص به ففي الكلمة الواحدة من القرآن وجوه :
الأول : يترتب الثواب للكلمة القرآنية بلحاظ عدد حروفها ، فاذا كانت الكلمات من أربعة حروف تأتي للمسلم الذي يقرأها أربعون حسنة (قال ابن مسعود : تعلموا القرآن فإنه يكتب بكل حرف منه عشر حسنات ، ويكفر به عشر سيئات . أما إني لا أقول { الم } حرف ، ولكن أقول ألف عشر ، ولام عشر ، وميم عشر)( ) وفيه إخبار عن كون قراءة القرآن تكفيراً للذنوب .
وتتجلى هذه الحقيقة بأداء المسلم للصلاة التي هي كفارة ومغفرة للذنوب ، وفي التنزيل [وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ] ( ) .
وعن عدد من الصحابة (كان رجلان أخوان في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان أحدهما أفضل من الآخر ، فتوفي الذي هو أفضلهما ، ثم عمر الآخر بعده أربعين ليلة ، ثم توفي فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضيلة الأول.
فقال : ألم يكن الآخر يصلي؟ قالوا : بلى ، وكان لا بأس به . قال : فما يدريكم ما بلغت به صلاته؟ إنما مثل الصلاة كمثل نهر جار بباب رجل غمرٌ ، عذبٌ يقتحم فيه كل يوم خمس مرات ، فماذا ترون يبقى من درنه؟ لا تدرون ماذا بلغت به صلاته) ( ).
الثاني : هناك ثواب إضافي لكل كلمة من القرآن ، إلى جانب الثواب الذي يترتب على حروفها .
الثالث : مجئ الثواب على الكلمة لجزء وفرد من الآية القرآنية عند تلاوتها ، وهل يستحب تلاوة الآية القرآنية كاملة على فرض هذا الوجه من الثواب.
الجواب نعم يستحب ومن غير تقييد بثواب هذا المعنى خصوصاً مع عدم الوقف في الآية .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وتتضمن آية البحث البشارة من جهات :
الأولى : تنزه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن أخذ الغلول قبل وبعد نزول آية البحث ، وفيه فخر لكل مسلم ومسلمة وإلى يوم القيامة لشهادة الله عز وجل بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأخذ من الغلول شيئاً إلى أن غادر الدنيا ، وتدل عليه شواهد كثيرة بالذات والمفهوم والإستقراء ، ومنها أنه كان ينفق ما كان له خاصة من الأنفال والخمس ، وفي التنزيل [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ] ( ).
و(عن سعد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم بدر قتل أخي عمير ، وقتلت سعيد بن العاصي وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكتيعة ، فأتيت به النبي فقال اذهب فاطرحه في القبض . فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي ، فما جاوزت إلا يسيراً حتى نزلت سورة الأنفال . فقال لي رسول الله : اذهب فخذ سيفك.
وعنه قال : قلت : يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين فهل لي هذا السيف؟ قال : إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه . فوضعته ثم رجعت قلت : عسى يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلى بلائي ، إذا رجل يدعوني من ورائي قلت : قد أنزل الله في شيء؟ قال : كنت سألتني هذا السيف وليس هو لي وإني قد وهب لي فهو لك ، وأنزل الله هذه الآية { يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } ) ( ).
الثانية : دخول المسلمين معركة الدفاع وهم يعلمون بانتفاء قيام بعضهم بالغل والأخذ خلسة من الغنائم ، وهو بشارة لهم ، وبرزخ دون الخوف والخشية من الغل والنهب العلني ، وهو من فيوضات آية البحث , فاذا كان بعضهم يغل فقد يلجأ بعضهم الآخر إلى النهب والإستحواذ علانية على بعض قطع وأجزاء الغنيمة .
الثالثة : البشارة للمسلمين بالأمن يوم القيامة من ثقل وطأة الغلول ، لأن آية البحث واقية وطريق سلامة ، وسبيل نجاة من أكل الغلول .
ويقول العرب : فلان يحطب على ظهره , كناية عن إساءته ، وفي ذم أم جميل زوجة أبي لهب ورد قوله تعالى [وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ] ( ) .
الرابعة : بشارة آية البحث في مفهومها بأمور :
الأول : النصر والفتح للمسلمين والذي تترشح عنه الغنائم .
الثاني : كثرة الغنائم التي تأتي للمسلمين .
الثالث : تفضل الله عز وجل برزق المسلمين رزقاً كريماً وصيرورتهم في سعة ومندوحة في الجملة ، وفي غنى عن أكل الغلول .
الرابع : إنتفاء الظلم والجور في مواطن القيامة , وهل يعني الأمر سيادة العدل يومئذ ، الجواب نعم ، مع إقترانه بالرحمة والرأفة والمغفرة من عند الله عز وجل ، ومن أسمائه تعالى [الغفور] [الغفار]وفي الثناء على نفسه وترغيب الناس بالاستغفار والإنابة , قال تعالى [غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ] ( ).
الآية إنذار
آية البحث كنز من بطنان العرش ، نزلت لينجو المسلمون من البلاء في الدنيا والحساب الشديد ووطأة الأثقال في الآخرة ، وقال تعالى في ذم الذين كفروا [يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ] ( ) .
وأخبرت آية البحث عن حال الأنبياء يوم القيامة بأنهم يحضرون عرصات الحساب وليس على ظهورهم ثقل أو حمل ، أو في أيديهم غل يمسكون به ، فينظر الناس إلى أيديهم وهم يرفعونها بيضاء ، وفي موسى عليه السلام ورد قوله تعالى [وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ] ( ) ليسأل الأنبياء الله عز وجل المغفرة والعفو والرحمة فتغبطهم الخلائق , ويرجو الناس شفاعتهم ، فيتوجهون إليهم .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون ممّ ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، يُسْمعهم الداعي ويَنفذُهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون. فيقول بعض الناس لبعض: [ألا ترون إلى ما أنتم فيه؟ ألا ترون إلى ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم عز وجل؟ فيقول بعض الناس لبعض] : أبوكم آدم!.
فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك؛ فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي، نفسي، نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض( )، وسماك الله عبدًا شكورًا( )، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة على قومي، نفسي، نفسي، نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، [اشفع لنا إلى ربك] ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، فذكر كذباته( ) نفسي، نفسي، نفسي [اذهبوا إلى غيري] اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، اصطفاك الله برسالاته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسًا لم أومر بقتلها( )، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه -قال: هكذا هو -وكلمت الناس في المهد، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبا، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد.
فيأتوني فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ .
ألا ترى ما قد بلغنا؟ .
فأقوم فآتي تحت العرش، فأقع ساجدًا لربي، عز وجل، ثم يفتح الله عليّ، ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي.
فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأقول: يا رب، أمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، يا رب، أمتي أمتي! فيقال: يا محمد: أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب”.
ثم قال: “والذي نفس محمد بيده لما بين مِصْراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وَهَجَر، أو كما بين مكة وبُصْرَى) ( ).
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين التنزه عن السرقة والأخذ خلسة من المال العام ، ودعاهم إلى التفاني في طاعة الله ، ووعدهم النصر والغلبة على الذين كفروا ، ولم تمر الأيام والليالي حتى صارت الغنائم تترى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ، فلم يبق هناك أهل صفّة من فقراء المهاجرين ، وتزوجوا وأنجبوا الأولاد وخرجوا إلى الأمصار ، حيث الأنهار والأشجار والزراعات مثل الشام والعراق وبلاد فارس ، وأخذ الناس يتوافدون على الصحابة في تلك الأمصار ، وفي موسم الحج والعمرة في مكة والمدينة لسؤالهم عن أمور دينهم وعن سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته التي أبهرت العقول ، وجعلت الناس [يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا] ( ) في أيام حياته , وبعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى .
وتتضمن آية البحث الإنذار من أكل الغلول ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا ما كان لنبي أن يغل فإياكم والغلول.
الثاني : يا ايها الذين آمنوا إمتنعوا عما إمتنع عنه الأنبياء من أكل الغلول .
الثالث : يا ايها الذين آمنوا أعلموا أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغل .
الرابع : يا ايها الذين آمنوا لم يغل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأقتدوا به ولا تخالفوا سنته .
الخامس : تأكيد آية البحث لقانون وهو إجبار صاحب الغل باحضاره معه .
السادس : بيان سوء عاقبة الغلول وأضراره .
السابع : تحذير المسلمين من تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب أكل الغلول ولزوم إجتنابه .
الآية موعظة
إبتدأت الآية بالنفي الذي يفيد القطع والتحدي بأنه ليس من نبي أن يغل ويخفي غنيمة أو قطعة من الغنائم ، ومن الإعجاز دفاع آية البحث عن الأنبياء منذ أيام أبينا آدم عليه السلام لورود لفظ (نبي) بصيغة التنكير والتي تفيد العموم ، وفيه شاهد على دفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عن الأنبياء السابقين ، ويتجلى هذا الدفاع من جهات :
الأولى : شهادة المسلمين بتنزه الأنبياء عن الغل والسرقة والطمع بالغنائم .
الثانية : نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامه بتبليغ آية البحث مع التسليم بصحة نزولها وصدق مضامينها القدسية .
(عن أنس قال سمع عبد الله بن سلام بمقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في أرض يخترف ، فأتى صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي :
ما أول اشراط الساعة ، وما أول طعام أهل الجنة ، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال : أخبرني جبريل بهن آنفاً .
قال : جبريل؟ قال : نعم .
قال : ذاك عدو اليهود من الملائكة . فقرأ هذه الآية [مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ]( ) .
قال : أما أوّل أشراط الساعة فنار تخرج من المشرق , فتحشر الناس إلى المغرب ، وأما أول ما يأكل أهل الجنة فزيادة كبد حوت( ).
وأما ما ينزع الولد إلى أبيه وأمه فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع إليه الولد وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزع إليها . قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله) ( ).
الثالثة : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآية البحث في الصلاة وخارجها ، وقيامه بحث المسلمين والمسلمات على تلاوتها .
الرابعة : تجلي مصداق عدم غل الأنبياء بسنة وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : ما كان لنبي أن يغل .
الصغرى : محمد نبي الله .
النتيجة : ما كان لمحمد أن يغل .
الخامسة : تلاوة المسلمين لآية البحث بفخر وعز ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
السادسة : تسليم المسلمين بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يغل ، وفيه بعث للسكينة في نفوسهم ، عند التهئ للقتال ، وأثناء المعركة وبعد إنقضائها.
السابعة : بيان آية البحث لقانون وهو تعدد الأنبياء وإتصافهم بخصلة حميدة تكون كسور الموجبة الكلية وهو تنزههم عن الغل والسرقة من الغنيمة .
وإبتدأت آية البحث بنفي، وهذا النفي مبارك إذ أنه وثيقة سماوية تؤكد سلامة الأنبياء من الغل مع تعاقب بعثتهم، وتعدد الأمصار والقرى التي بعثوا فيها .
وتبين جامعاً مشتركاً بينهم وهو عصمتهم عن أكل الغلول، وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : ذكر عصمة الأنبياء عن أكل الغلول من باب المثال في تنزه الأنبياء عن فعل المكروه والمحرم .
الثاني : إرادة خصوص إمتناع الأنبياء عن الغلول حصراً، وهو القدر المتيقن من آية البحث .
الثالث : بيان قانون وهو تقيد الأنبياء بالأوامر والنواهي التي تنزل من عند الله، ولبيان أنهم أئمة الناس في أداء الواجبات وإجتناب السيئات والخبائث .
والصحيح هو الأول والثالث، لبيان قانون وهو أن أفعال وتروك الأنبياء موعظة للمسلمين، والناس جميعاً، بلحاظ أن التروك هي الأخرى من عالم الوجود ، وتتضمن العزم والإرادة .
ومن الآيات في المقام أن الأنبياء أكثر إبتلاء بالغلول، إذ تكون الغنائم في أيديهم، ويتولون قسمتها والتصرف فيها .
ليكون من معاني الآية مسائل :
الأولى : شمول الأنبياء بالأوامر والنواهي الإلهية .
الثانية : بيان قانون وهو وجوب تنزه الذي بيده بيت المال وشؤون الرئاسة والخزانة عن أكل الغلول والتصرف في الأموال خلسة في المنافع الخاصة وإدخارها بصيغ غير شرعية أو قانونية .
الثالثة : إتصاف نفوس الأنبياء بالكمالات الإنسانية وسلامتهم من أكل الغلول .
لقد أثنى الله عز وجل على العلماء بقوله تعالى[إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ]( )، والأنبياء سادة وقادة العلماء في الخشية من الله، ومن مصاديق خشيتهم هذه إبتعادهم عن أكل الغلول.
لقد أراد الله عز وجل للقرآن أن يكون موعظة وسبيل نصح ورشاد للناس جميعاً ولأن الله عز وجل يعطي بالأوفى والأكمل والأحسن والأكثر نفعاً ، فانه جعل كل آية قرآنية موعظة قائمة بذاتها وفيه تأكيد لعظيم قدرته سبحانه [إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، إذ يجعل ببضع كلمات تتألف منها الآية القرآنية موعظة لمليارات متعاقبة من الناس من غير أن تبلى هذه الكلمات بل تستقرأ منها في كل زمان معاني ومصاديق جديدة للموعظة , ومنها إفراد تفسيرنا هذا لباب خاص في تفسير كل آية من القرآن إسمه (الآية موعظة ).
ومن خصائص الموعظة القرآنية أنها باب للصلاح والتوبة ومغفرة الذنوب ، قال تعالى [فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى] ( )والموعظة منهاج الأنبياء ، وهي سيرة ثابتة مصاحبة لهم ، وفي موسى عليه السلام ورد قوله تعالى [وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ] ( ) .
(وأخرج أحمد عن بشير الدمشقي قال : مرّ عيسى عليه الصلاة والسلام بقوم فقال : اللهم اغفر لنا ثلاثاً فقالوا : يا روح الله انا نريد أن نسمع منك اليوم موعظة ، ونسمع منك شيئاً لم نسمعه فيما مضى.
فأوحى الله إلى عيسى أن قل لهم : إني من أغفر له مغفرة واحدة أصلح له بها دنياه وآخرته) ( ).
الآية رحمة
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا (دار الرحمة) وتعجز الخلائق عن إحصاء أفراد الرحمة على كل إنسان وتعيين جهاتها ومنها :
الأولى : الرحمة الخاصة بذات الإنسان إبتداء من نعمة خلقه، وحفظه في رحم أمه , وعند الشدة والعسر في ولادته.
الثانية : الرحمة في العناية بالإنسان في رضاعته وحضانته، وإنجذاب القلوب للعطف عليه.
الثالثة : تفضل الله بصرف الأذى والبلاء عن الإنسان.
الرابعة : أسباب الرزق الكريم للإنسان، ومن الإعجاز في المقام أن كل إنسان يدرك حقيقة وهي أنه أقل من أن تكون عنده تلك النعم والخير الذي يملكه ويتصرف فيه، ومسكنه وتنقله وموطنه ونحوه، وهو من مصاديق الرحمة العامة والخاصة في قوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
الخامسة : رحمة الله بالناس ببعثة الأنبياء، ومنه آية البحث وإقتباس المسلمين منها الدروس، ومنها قوله تعالى[فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ]( ).
السادسة : رحمة الله بالإنسان التي تأتي بالوسائط الكونية كالمطر، والأرضية كالزراعة والتجارة وإعانة الناس له في قضاء حاجاته، وهو أعم من أن يختص بقضاء الفرد الأعلى لحاجات الأدنى، فحتى الإنسان الذي هو في مرتبة أعلى يحتاج الأدنى ويعمل على تسخيره لنفسه وغاياته، ويجتهد في كسب وده، وإبتدأت آية البحث برحمة من عند الله للمسلمين بإخبارهم عن تنزه كل واحد من الأنبياء عن أكل الغلول وسرقة المال العام.
وهل هذا التنزه وراثة بين الأنبياء كما في قوله تعالى[وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ]( )، الجواب إنه أعم من الميراث، لأنه شعبة من الوحي، وخصلة كريمة مصاحبة للنبوة، فقد يبعث نبي وهو لم يلتقي مع نبي غيره , ولكنه بذاته وسنخية إيمانه ويقينه تنفر نفسه من الغلول، وتأتي وراثة الوحي ومنهاج النبوة للتعضيد والعفة المطلقة من الغلول.
ومن معاني ومنافع إخبار آية البحث عن عصمة الأنبياء من الغلول أمور:
الأول : الآية رحمة بالأنبياء من الأمم السابقة وتزكية وشهادة لهم من عند الله عز وجل.
الثاني : بعث المسلمين على الجهاد في سبيل الله , وعدم التكاسل والتقاعس عنه، فهو منهاج الأنبياء، قال تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
الثالث : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا، وهو رحمة بهم ودعوة لهم للتوبة والإنابة، فمن معاني آية البحث تخويفهم بأن أنفسهم وأموالهم عرضة للتلف والضياع، وأن الكفر يؤدي إلى سبي أبنائهم .
فإن قلت كان أهل الجزيرة معتادين على السبي ثم القيام بفكاك رقاب بعضهم، وهذا صحيح، ولكن السبي كان محدوداً ولأسباب الحمية والثأر، أما في الإسلام فقد صار الصراع بين الإيمان والكفر ، بين الحق والباطل، لذا ورد نعت معركة بدر بأنها فرقان، قال تعالى[وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
وتتضمن آية البحث سوء حال الذي يغل يوم القيامة لتكون تذكيراً به وبأهواله وأنه حق وصرف يجب الإيمان والإقرار به، فليس للإنسان أن ينكر يوم القيامة ومن مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، تسلم المسلمين والمسلمات على نحو العموم الإستغراقي وفي كل زمان ما دامت الحياة الدنيا إيمانهم باليوم الآخر وعالم الحساب، وما ينتظر الناس من الثواب والجزاء ومن رحمة الله عز وجل بالناس إختتام آية البحث بالإخبار عن إنتفاء الظلم يوم القيامة.
لقد جعل الله عز وجل الإسلام دين الرحمة والرأفة ، لأن الدنيا كلها وخلق الناس من رحمة الله , فلا يتفرع الضد عن الأصل ، ولابد أن يكون الفرع من ذات سنخية الأصل ، ولا يضر فيه وجود إبليس للفتنة والإغواء لأنه نوع إبتلاء تتجلى معه إشراقة الرحمة بين الناس في الدنيا .
ومن الآيات في خلق الإنسان عدم إنحصار الرحمة بأهل الإيمان ، فقد تكون الرحمة حاضرة في خيار الكافر وهو من أسباب إستدامة الدين ، وأداء المسلمين الواجبات العبادية من أيام أبينا آدم وإلى يوم القيامة ، وليس من حصر لمعاني الرحمة في الآية القرآنية من جهات :
الأولى : الرحمة الإلهية التي تأتي في الآية القرآنية لخصوص كل مسلم على نحو مستقل .
الثانية : الرحمة الإلهية في الآية القرآنية لكل إنسان براً أو فاجراً, ذكراً أو أنثى .
الثالثة : رحمة الله عز وجل بالمسلمين بمضامين كل آية من القرآن .
الرابعة : رحمة الله عز وجل بأهل الكتاب في لغة ودلالة الآية القرآنية .
الخامسة : رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً بمنطوق ومفهوم الآية القرآنية .
ومضامين ومنافع الناس من الآية القرآنية كثيرة ومتعددة منها :
الأول : نزول الآية القرآنية .
الثاني : بيان وثبوت قانون أن كل كلمة وحرف من القرآن هو كلام الله عز وجل ، قال تعالى [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] ( ).
الحاجة الى آية البحث
من إعجاز القرآن وتقسيمه إلى آيات بيان قانون يتجلى ويتجدد في كل زمان ، وهو حاجة الناس لكل آية من القرآن ، ولا يعلم مقدار هذه الحاجة إلى الله عز وجل ، ومنها آية البحث ، إذ تتبين فيها الحاجة من وجوه :
الأول : لزوم إكرام المسلمين والناس للأنبياء ، وتثبيت حضورهم في الوجود الذهني ، فمن فضل الله عز وجل أن الأنبياء وسيرتهم حاضرة عند المسلمين في منتدياتهم وأقوالهم ، وكل مسلم يحرص على التأسي بهم ومحاكاتهم ، ومنه السلامة من أكل الغلول ، قال تعالى [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابن السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ] ( ) لبيان أن الإمتناع عن أكل الغلول من الصبر وهم مصداق من مصاديق التقوى .
الثاني : إستحضار المسلمين لآية البحث في ميادين القتال ، وعند توزيع الغنائم بلحاظ أنها حرز وواقية من التعدي .
الثالث : تبعث الآية المسلمين على الإحتراز من التجرأ على المال العام باحتيال ومكر لدخول هذا الإحتيال في مصاديق الخلسة التي يتصف بها آخذ الغلول .
الرابع : يحتاج المسلمون آية البحث لإستدامة الآخوة الإيمانية بينهم ، لأن الغلول يبعث الحقد والكدورة بين المسلمين ، وليكون من أسرار مؤاخاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار الحرب على الغلول ، وعدم اللجوء إليه ، لأن الأخ يطلع على ما يفعل أخوه فيأمره بتعاهد الأمانة , وينهاه عن الغلول.
ومن الإعجاز الغيري للآية القرآنية إنتفاء الإتفاق على أكل الغلول لإدراك قبحه الذاتي ، وأثره وضرره في النشأتين ، فمن معاني الأخوة بين الصحابة النجاة من فعل السيئات وإرتكاب الحرام .
وهل يختص الأمر بالصحابة الذين آخى بينهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو خصوص زمان النبوة ، الجواب لا .
إذ أن منافع قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) مستمرة ومتجددة إلى يوم القيامة ، وجاءت المؤاخاة لتكون مرآة ومثالاً يقتدى من قبل المسلمين .
الخامس : مما يحتاجه كل إنسان تذكر الموت وإستحضار أهوال يوم القيامة في الجملة ، ففاز المسلمون بقانون وهو أن كل آية قرآنية تذكر به وتدعو للسعي إليه بالإستغفار والتوبة والعمل الصالح ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وجاءت آية البحث نصاً صريحاً بذكر يوم القيامة بالاسم مع بيان موضوع الحساب فيه .
قانون ثناء الله على نفسه في كل آية من القرآن
يتصف القرآن بخصوصية وهي أنه كلام الله عز وجل الذي أنزله على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليبقى الوثيقة السماوية ذات صبغة القدسية التي لا يرقى إليها شيء من الموجودات الأرضية ، فلا غرابة أن تسمى كل كلمات معدودات منه ، وعلى نحو الإستقلال آية ، ولها معانيها ودلالالتها الخاصة , كما في آية البحث وعدد كلماتها إحدى وعشرون كلمة .
ولو قلت أن كل كلمة من القرآن هي آية من عند الله فهل يكون هذا القول صحيحاً أم أنه يتعارض مع نعت تمام الآية القرآنية بأنها آية .
الجواب هو الأول لأن كل كلمة من القرآن تقتبس صفة الآية لكونها كلام الله وفي التنزيل [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ] ( ) .
ويمكن تأسيس باب من التفسير في كل آية يسمى (ثناء الله على نفسه في آية البحث) ( ) ليضاف إلى الأبواب الأخرى في منهجيتها في هذا السفر ومنها :
الأول : الإعراب واللغة : إذ نأتي بإعراب كلمات الآية القرآنية ، ومعاني بعض منها للبيان ، وما فيه السعة والمندوحة ، لتكون اللغة العربية حاضرة بذكر المعاني المتعددة للفظ القرآني المتحد ، ثم النظر بامكان إستقراء هذه المعاني من ذات اللفظ القرآني وتفرع البحث والتحقيق عنه وعن محله في الإعراب .
الثاني : علم في سياق الآيات : وهو علم شريف أشرق على الأرض بحلة بهية وجديدة في هذا السفِر المبارك ، لتصدر أجزاء خاصة به بفضل من الله عز وجل ، وهو وبحوث العلماء في المستقبل بخصوصه من مصاديق قوله تعالى بعد آيتين [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ) ففيه تعليم وإستقراء لذخائر من علوم الكتاب وحكمة وأسرار ملكوتية تتجلى بالجمع بين كل آيتين من القرآن ، وكل شطر من آية مع شطر من آية أخرى .
الثالث : إعجاز الآية الذاتي : وفيه قراءة في إعجاز ذات مضامين وكلمات الآية القرآنية ورسمها وبلاغتها وأسرارها ككائن سماوي يجري على ألسنة المسلمين ويسيحون في رياضه قبل ألف وأربعمائة سنة من صعود الإنسان إلى القمر.
ومن مسائل هذا الباب تعيين اسم لكل القرآنية ، لتكون تسمية بعضها من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثل آية الحمد وآية الكرسي ، نواة لهذا العلم ودعوة له .
(وعن عطيّة العوفي عن علي عليه السلام قال سمعت نبيّكم {صلى الله عليه وآله وسلم} على أعواد المنبر وهو يقول : مَنْ قرأ آية الكرسي في دبر كلّ صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنّة إلاّ الموت ولا يواظب عليها إلاّ صدّيق أو عابد،
ومَنْ قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله) ( ) .
وفي تسمية آية الدَين التي هي أطول آية في القرآن بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ..] ( ).
وورد عن ابن عباس أنه قال (لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إن أول من جحد آدم، عليه السلام، أن الله لما خلق آدم، مسح ظهره فأخرِج منه ما هو ذارئ إلى يوم القيامة، فجعل يعرض ذريته عليه، فرأى فيهم رجلا يَزْهر، فقال: أي رب، من هذا؟ .
قال: هو ابنك داود .
قال: أي رب، كم عمره؟ قال: ستون عامًا، قال: رب زد في عمره.
قال: لا إلا أن أزيده من عمرك. وكان عمر آدم ألف سنة، فزاده أربعين عامًا، فكتب عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة، فلما احتُضر آدم وأتته الملائكة قال: إنه قد بقي من عمري أربعون عامًا، فقيل له: إنك قد وهبتها لابنك داود.
قال: ما فعلت. فأبرز الله عليه الكتاب، وأشهد عليه الملائكة”.)( ).
وهناك تسميات لآيات أخرى من القرآن مثل آية الوضوء وآية المباهلة وهي [فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ] ( ) وآية الميراث وآية الربا وآية الحجاب وآية اللعان وآية السيف وآية المحاربة وهو قوله تعالى [إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ…] ( )وآية القصر , وورد ذكر بعض تلك الأسماء في بيان فضائل القرآن وآياته .
الرابع : الإعجاز الغيري للآية ، وهو باب واسع لا يصل فيه العلماء إلى حد أو منتهى ، إذ أن المصاديق الخارجية والغيرية للآية القرآنية من اللامتناهي ، ومن الأمور المتجددة في كل زمان ومكان ، وهل يكون هذا العلم مرآة للإعجاز الذاتي للآية القرآنية بحيث تستقرأ علوم مستحدثة منه بخصوص الإعجاز الذاتي ، الجواب نعم ، وهو من الكنوز المدخرة في الآية القرآنية بأن يقبل الإعجاز الذاتي للآية القرآنية السعة والزيادة كماً وكيفاً وموضوعاً وحكماً ، بالذات وبالترشح عن الوقائع والأحداث .
الخامس : الآية سلاح : وهو علم جديد أفردنا له باباً في تفسير كل آية من القرآن إبتداء من آية البسملة في سورة الفاتحة ، وأصل هذا العلم هو التبادر إذ يتبادر إلى ذهن الإنسان أن الآية القرآنية سلاح في أمور الدين والدنيا من جهات :
الأولى : البلاغة وإتقان لغة القرآن ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ) لبيان موضوعية اللغة العربية في التدبر في علوم وكنوز القرآن .
الثانية : الآية القرآنية مدرسة في الفقاهة ومعلم أحكام العبادات والفرائض ، ويدرك المسلم معها عدم الحاجة إلى غيرها في التأدب والتعلم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) .
الثالثة : الآية القرآنية حرز من الضلالة ، وواقية من الزلل والفجور الظاهر والخفي .
لقد خلق الله عز وجل الإنسان لعبادته ، وتفضل وحجب المغفرة والرضوان عن الذي يجحد بربوبيته ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ) وتفضل سبحانه وأنعم على الناس بنزول القرآن ، لتكون كل آية منه حرباً على الكفر ، وحرزاً من الضلالة وأسباب الشرك .
وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
السادس :علم مفهوم الآية : ويتعلق هذا الباب بالمعنى المستقرأ من مضامين الآية والحكم الذي لم يذكر في المنطوق ، وإرادة المفهوم الإلتزامي للمركبات دون المفردات والتي تلحق بالمنطوق ، والمفهوم للفظ أعم منه وكذا بالنسبة للآية القرآنية وللصلة بين كلمات وأجزاء الآية القرآنية ، والصلة بين الآية القرآنية وغيرها ، وذكر في علم الأصول عدم حجية المفهوم لأنه ليس من منطوق وألفاظ لآية وما فيها من الأوامر والنواهي ، ولكنها ليست قاعدة كلية شاملة، وتتجلى مفاهيم الآية القرآنية بلحاظ مضامينها وتفسير الآيات القرآنية لها .
السابع : الآية لطف : إذ أذكر في هذا التفسير وجهاً مشرقاً للآية القرآنية ، وكيف أنها لطف من عند الله بلحاظ موضوع ومضمون الآية القرآنية محل البحث من جهات :
الأولى : نزول الآية القرآنية لطف ورأفة بالمسلمين .
الثانية : اللطف الذي تتضمنه كل آية قرآنية بأهل الكتاب ، قال تعالى [يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ]( ).
الثالثة : ما في الآية القرآنية من اللطف بالناس جميعاً ، ومنهم الذين كفروا ليكون ما في الآية القرآنية من البشارة والإنذار زجراً للذين كفروا .
كما يمكن تقسيم اللطف في الآية القرآنية بلحاظ أمور :
الأول : رسم الآية القرآنية .
الثاني : لغة الآية القرآنية .
الثالث : تلاوة المسلمين للآية القرآنية .
الرابع : صيرورة قراءة الآية القرآنية جزءً واجباً من الصلاة .
الخامس : التدبر في الآية القرآنية .
السادس : إتخاذ المسلمين الآية القرآنية للإحتجاج والبرهان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ).
السابع : ورود القصص في القرآن لطف من عند الله .
الثامن : لغة الوعد والوعيد في القرآن رحمة ، وتحتمل آية البحث وجوهاً :
الأول : آية البحث مدد وبشارة .
الثاني : آية البحث وعيد وتخويف .
الثالث : إرادة العنوان الجامع للوعد والوعيد .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق آية البحث فمن مضامينها ما يكون وعداً ، ومنها ما يكون وعيداً ومنها ما يكون جامعاً لهما سواء في المنطوق أو المفهوم ، فأخبار آية البحث عن عدم أكل الأنبياء الغلول وعد للمسلمين بنيل ذات مراتبهم في الأجر والثواب بخصوص السلامة من أخذ الغلول ، والتذكير بيوم القيامة وحضور الغلول وصاحبه تخويف ووعيد .
الثامن : إفاضات الآية : وهو علم جديد ينفرد به هذا السِفر المبارك فتذكر فيوضات كل آية قرآنية ، وما يترشح عنها من أسباب الرشاد والنعم ، ومنها آية البحث لأنها تفيض على المسلمين بالنواهي عن فعل المعاصي .
التاسع : الآية بشارة ، وهذا الباب مستحدث وورد في الاجزاء القليلة السابقة ، لبيان قانون وهو أن كل آية قرآنية بشارة ، وهل يتحد موضوع البشارة في كل آيات القرآن .
الجواب لا ، بلحاظ كبرى كلية وهي أن بشارات القرآن أكثر من أن تحصى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
وجاء هذا الباب في تفسيرنا للقرآن لبيان شذرات من هذا العلم وليقوم العلماء في الأجيال اللاحقة بالتحقيق والتوسعة فيه ، ووضع ضوابط وقواعد له .
وكما جاء هذا التفسير بعلم سياق الآيات والصلة بينها ، فانه يمكن إستحداث علم جديد وهو (البشارة بالجمع بين كل آيتين من القرآن ) .
ثناء الله على نفسه في آية البحث
ومن ثناء الله عز وجل على نفسه في القرآن من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) إذ يبين القرآن صفات الله الحسنى وعظيم قدرته وملكه المطلق للسموات والأرض وما بينهما ، وأفضل الثناء هو ثناء الله عز وجل على نفسه ، وإبتدأ القرآن بمدح الله عز وجل لنفسه بسورة الفاتحة ، وتتجلى في كل آية منها عظمة قدرة الله وسعة سلطانه ،قال تعالى [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ*الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ).
وعن ابن عباس قال (أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاةِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ ، يَقُولُ : اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَمَنْ فِيهِنَّ ، أَنْتَ الْحَقُّ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ حَقٌّ ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ ، وَالنَّارُ حَقٌّ ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ أَنْتَ إِلَهِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ) ( ) .
وثناء الله عز وجل على نفسه تأديب وتعليم للمسلمين ودعوة لهم للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأداء الفرائض والعبادات بشوق وإقرار بأنها حق وواجب .
و(عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ” ليس أحد أحب إليه المدح من الله تعالى ، ومن أجل ذلك مدح نفسه ، وليس أحد أغير من الله ، ومن أجل ذلك حرم الفواحش) ( ).
لقد إبتدأت آية البحث بما يدل على ثناء الله عز وجل على نفسه من جهات :
الأولى : إختبار الله عز وجل لعدد من الناس وجعلهم أنبياء ورسلاً من عنده إلى الناس .
الثانية : إخبار آية البحث عن الأنبياء وصفاتهم الكريمة وأخلاقهم الحميدة .
الثالثة : إصطفاء الأنبياء للرسالة والتبليغ والدعوة إلى الله ، قال تعالى [وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنْ الأَخْيَارِ] ( ).
الرابعة : إخبار آية البحث عن تنزه الأنبياء عن أكل الغلول بفضل من الله عز وجل ، وبيانها لقانون وأنهم لم يصلوا إلى هذه المرتبة لولا اللطف من عند الله .
وهل يمكن تقدير آية البحث أنه : حتى لو أراد أحد الأنبياء أن يغل فانه لا يقدر على أكل الغلول )الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في لفظ [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ] وفيه شاهد على ثناء الله عز وجل على نفسه لأن كل نبي هو بعين الله وحفظه .
وفيه خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال الله تعالى [وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا]( ) وفي موسى ورد قوله تعالى [وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي] ( ) أي تكون حضانة وتغذية وتربية موسى بلطف وعناية من عند الله ، لبيان أن نجاته من صغره كانت بآية من عند الله ، وكما يحفظ الله الأنبياء في صغرهم فانه سبحانه .
النعم التي تذكرها آية البحث
من البديهيات أن الآية القرآنية نعمة قائمة بذاتها وعلى نحو الإستقلال , والإشتراك والصلة والتداخل مع غيرها من آيات القرآن .
وآية البحث نعمة عظمى على المسلمين في مضمونها ودلالتها ، وتنصف آية البحث بأنها تجمع الإخبار عن جهتين :
الأولى : أخبار الحياة الدنيا من وجوه :
الأول : تأريخ النبوة من أيام آدم عليه السلام .
الثاني : الخصال الحميدة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتنزهه عن أخذ الغلول ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
الثالث : حال المسلمين إلى يوم القيامة ولزوم إجتنابهم أخذ الغلول .
الرابع : حدوث القتال بين المسلمين والذين كفروا .
الخامس : وقوع الغنائم من الكفار بيد المسلمين .
الثانية : إخبار عالم الآخرة من وجوه :
الأول : دلالة آية البحث على بعث الناس من قبورهم من وجوه :
أولاً : حضور الغلول مع صاحبها .
ثانياً : أخذ كل إنسان نصيبه من الجزاء بقوله تعالى[ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ].
ثالثاً : إنتفاء الظلم يوم القيامة .
الثاني : إخبار آية البحث عن وقائع في يوم القيامة .
الثالث : حساب الناس على أعمالهم يوم القيامة، قال تعالى[وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ) .
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت آية البحث بحرف العطف الواو لبيان إتصال لغة الخطاب والموضوع فيها بالآية أو الآيات السابقة .
وتتجلى صلتها بالآية السابقة التي تتضمن الإخبار عن نصر الله عز وجل للمسلمين وإنعدام الغالب لهم ، ومع النصر تأتي الغنائم والمنافع فيجب أن يشكر المسلمون الله عز وجل على نعمة النصر هذه فلا يغلّوا ولا يسرقوا من الغنائم ز
وهل يكون إنتشار الغلول والسرقة من الغنائم سبباً لغلبة العدو الكافر على المسلمين ، الجواب لا ، لأن النصر يأتي من عند الله ، وهو الذي يجعل العدو الكافر عاجزاً عن الغلبة على المسلمين بفضل ولطف منه تعالى بهم ، بالإضافة إلى قانون وهو منع آية البحث من إنتشار الغلول بين المسلمين.
لقد أراد الله عز وجل لتوكل المسلمين عليه أن يكون وسيلة لبذل الوسع في الجهاد والصبر عند ملاقاة الذين كفروا ممن يأتي للإعتداء على الثغور .
ويكون التوكل على الله برزخاً دون التعدي على المال العام والسرقة من الغنائم وهل التوكل على الله طريق للإقتداء بالأنبياء الجواب : نعم .
وتقدير آية البحث وما كان لنبي أن يغل فتوكلوا على الله للإقتداء بهم والإمتناع عن الغلول، وهل يذكر الله عز وجل المسلمين بالتنزه عن أكل الغلول كما تفضل بذكر الأنبياء في آية البحث بفضله تعالى , الجواب نعم، من جهات :
الأولى : دلالة آية البحث في مفهومها، وبيان القرآن لكون المسلمون ورثة الأنبياء .
الثانية : مجئ آيات القرآن بالثناء على المسلمين، قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالثة : مجئ السنة النبوية ببيان سلامة المسلمين من الغلول، ولا عبرة بالقليل النادر.
الرابعة : البشارة للمسلمين بتجلي تنزههم عن أكل الغلول يوم القيامة لدلالة آية البحث في مفهومها بأن المسلم الذي لم يأكل من الغلول ينال الثواب العظيم لدلالة ذكر الآية لاحضار آكلي الغلول ما غلّوا من الأشياء معهم بالدلالة التضمنية على حضور المؤمنين والمؤمنات مواطن الحساب وليس معهم غلول .
وهل تكون تلك الغلول يومئذ أغلالاً أو كالأغلال الجواب لا دليل عليه، فالقدر المتيقن هو إحضارها يوم يقوم الحساب، ولم يرد ذكر الأغلال إلا في ذم الذين كفروا وسوء عاقبتهم قال تعالى[إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاً وَأَغْلاَلاً وَسَعِيرًا]( ).
وبعد حرف العطف الواو إبتدأت الآية بصيغة النفي ويمكن أن نطلق عليه (النفي التنزيهي العام) لأنه يتضمن تنزيه كل الأنبياء عن أكل الغلول , وفيه تأكيد لوجوب التصديق بهم على نحو العموم المجموعي , من ذكر إسمه في القرآن ومن لم يذكر إسمه منهم في القرآن وهم الأعم الأغلب.
وهل أكل الغلول من عمومات الإنقلاب في قوله تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( )، الجواب لا دليل عليه , وجاءت الآية أعلاه على نحو الإستفهام الباعث على العصمة من الإرتداد والإنقلاب .
ثم ورد حرف العطف (الواو) مرة أخرى في آية البحث لبيان لغة الشرط لبيان القبح الذاتي للسرقة من الغنائم وإن صدرت من مؤمن مجاهد، فلابد من التمييز بين الإيمان وحسن السمت وبذل الوسع في سبيل الله , وفعل خاص مذموم بعد إنقضاء المعركة يتصف بغلبة النفس الشهوية .
وجاءت آية البحث لأمور :
الأول : بيان سوء الأخذ غيلة من الغنائم .
الثاني : تحذير المسلمين من الغلول .
الثالث : إجتهاد المسلمين في السعي باتباع الأنبياء ، للفوز بالمقام الكريم مع الأنبياء.
الرابع : إدراك المسلم لحقيقة وهي في كل مرة يتنزه المسلم فيها عن أكل الغلول يأتيه البدل والعوض والثواب.
وتبين الآية حضور الفعل القبيح بأكل الغلول مع صاحبه يوم القيامة ليلحق الذين كانت أيديهم بيضاء يومئذ بثواب الأنبياء بالسلامة من الغلول بفضل الله، وتذّكر آية البحث بأهوال الحساب ووقوف الناس بين يدي الله ليجتهد المسلمون في طاعة الله في أداء الفرائض وإجتناب المعاصي.
وتبين الآية حقيقة وهي عدم إنقضاء الأمر بخصوص إحضار الغلول إنما يتم الحساب على الإفعال لقوله تعالى في آية البحث [ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ] لترغيب المسلمين بثواب إتيان العبادات والإمتناع عن أكل الغلول وغيره من السيئات .
لبيان قانون من إعجاز القرآن، وهو مجئ الآية القرآنية في موضوع متحد، ولكنها أعم في المتعدد من جهات :
الأولى : مضامين الآية القرآنية .
الثانية : أسرار البلاغة في الآية القرآنية .
الثالثة : معاني الآية القرآنية .
الرابعة : تعدد دلالات الآية القرآنية .
الخامسة : بعث الآية القرآنية المسلمين للعمل بالأحكام المستقرأة من الآية .

أسباب النزول
وفيه وجوه منها :
الأول : يتعلق موضوع الآية بمعركة أحد خاصة وأنها ضمن الآيات الخاصة بتلك المعركة التي وقعت في منتصف شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة .
لقد زحف المشركون يومئذ وعددهم ثلاثة آلاف رجل وهم يرومون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتل أو أسر أصحابه خصوصاً المهاجرين منهم ، وخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بألف من الرجال مع فارق ورجحان كبير لعدة وسلاح جيش المشركين ثم ما لبث رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول أن رجع بثلث جيش المسلمين من وسط الطريق إلى المعركة ، وتلك نكسة عظمى ، وسبب لبعث اليأس والقنوط في صفوف الباقين في الجيش ، ولكن نصر الله أعظم وأكبر ليكون من معاني قوله تعالى في الآية السابقة [إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ] ( ) وجوه :
أولاً : إن ينصركم الله مع قلة عددكم وكثرة عدوكم .
ثانياً : إن ينصركم الله بمعركة أحد فقد نصركم ببدر .
ثالثاً : إن ينصركم الله بوجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينكم فلا غالب لكم .
رابعاً : إن ينصركم الله يا محمد فلا غالب لكم بلحاظ مسائل :
الأولى : إرادة شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صيغة الجمع للإكرام ، وفي التنزيل [وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا] ( ).
الثانية : النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نصر للمسلمين والمسلمات جميعاً .
الثالثة : نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معجزة حسية ، وسبب لجذب الناس إلى دخول الإسلام وواقية من تعدي الذين ظلموا .
وإبتدأت معركة أحد بنصر سريع للمسلمين في آية إعجازية تتصف بالخلود مع قلة عدد المسلمين وإنخزال ثلثهم ومقابلة جيش عرمرم لهم مدججين بالسلاح ، قال تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ…] ( ).
الثاني : بيان قانون وهو عدالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في توزيع الغنائم، وعن ابن عباس قال : قوله: ( وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غلَّ يوم القيامة”، يقول: ما كان للنبي أن يقسم لطائفة من المسلمين ويترك طائفة ويجور في القَسْم، ولكن يقسم بالعدل، ويأخذ فيه بأمر الله، ويحكم فيه بما أنزل الله. يقول: ما كان الله ليجعل نبيًّا يغلُّ من أصحابه، فإذا فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم استنُّوا به( ).
الثالث : عن الضحاك : بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طلائع، فغنم النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقسم للطلائع، فأنزل الله عز وجل:”وما كان لنبيّ أن يغل( ).
والوجه الأخير لا أصل له والآية بخلافه , وعدم التوزيع أعم من الغلّ .
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : تنزيه القرآن للأنبياء جميعاً ، ودعوة الناس لإكرامهم وإجتناب الشك في نبوتهم وسلامة أفعالهم ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) أي وما ارسلناك يا محمد إلا كافة للناس لتنزيه الأنبياء , والإخبار عن طهارتهم وعصمتهم من أخذ الغلول .
الثانية : البشارة بتحقق النصر المسلمين إذ أخبرت عنه الآية السابقة بصيغة الشرط ، وجاءت هذه الآية لتأكيده ، لإخبارهم عن الغنائم ولزوم عدم الأخذ منها .
وتقدير الجمع بين الآيتين : سينصركم الله وتأتيكم الغنائم في تأخذوا منها خلسة وخفية .
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية قراءة كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم ، قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) ومن مصاديق الصراط تلقي نصر الله بالشكر له سبحانه , ومن وجوه الشكر الإمتناع عن أخذ الغلول ، وفي التنزيل [وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ..]( ).
ليكون من مصاديق الآية أعلاه في المقام مجئ الرزق الكريم في الدنيا لمن يمتنع عن الغلول ، أما في الآخرة فانه يفوز بالثواب العظيم.
الثالثة : دلالة آية البحث على حقيقة وفضل الله عز وجل وهو إقبال الغنائم على المسلمين , والتي هي من رشحات النصر المبين على الذين كفروا ، مع ضرب المسلمين في الأرض وجلب البضائع وإزدهار أسواقهم وحصول الأرباح عندهم ولزوم إجتناب السرقة والغش والتدليس في التجارة وإخفاء عيوب البضاعة ، ويدل عليه قوله تعالى [فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ]( ).
الرابعة : لما أختتمت الآية السابقة بقانون التوكل بقوله تعالى [وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ) جاءت هذه الآية لبيان مصداق من مصاديق التوكل على الله في الأمانة والرضا بما قسم الله من الرزق ، وما قسم رسوله من الغنائم .
وقد ذكرت آية البحث عالم الآخرة ليكون من معاني خاتمة الآية السابقة ، إتخاذ التوكل على الله وسيلة وسبباً للأجر والثواب في الآخرة ، وهل هو من الكسب ، الجواب نعم ، لأن التوكل على الله إرادة وعزم وحسن سمت .
الخامسة : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفة أحكام الحلال والحرام في ميدان القتال واوان المعركة وما بعدها .
السادسة : من خصائص تلاوة المسلمين لآية البحث تذكر عالم الآخرة ، وإستحضار الموت وما بعده من عالم الحساب والجزاء ، وعن (ابن عُمَرَ؛ أنَّهُ قَالَ : ” كُنْتُ جَالِساً مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم .
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ المُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ : أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً ، قَالَ : فَأَيُّ المُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ : أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْراً ، وَأَحْسَنُهُمْ لِمَا بَعْدَهُ استعدادا أُولَئِكَ الأَكْيَاسُ) ( ).
السابعة : دعوة المسلمين للإستغفار واللجوء إلى الله رجاء رحمته وعفوه والسلامة من التعدي وأخذ الغلول .
الثامنة : بعث السكينة في نفوس المسلمين بأن الذي يأخذ من المال العام يفتضح يوم القيامة ، فان قلت إنما يريد الله حفظ المال العام ، وإنتفاعهم منه في الحياة الدنيا ، والجواب هذا صحيح وهو الذي جاءت به آية البحث , وكذا السنة النبوية ، لأن الآية وما فيها من الوعيد زاجر عن الأخذ خلسة من المال العام ، ويأتي يوم القيامة لينال المسلمون ما فاتهم بسبب الغلول على نحو الحسنات والثواب العظيم ، ليدخل الفرح إلى قلوبهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ] ( ).
التاسعة : بعث المسلمين للإستعداد ليوم القيامة بالتنزه عن الأخذ من المال العام ، وعن السرقات ومواطن الشبهة .
العاشرة : إدراك المسلمين لقانون وهو علم الله عز وجل بكل ما يفعل الناس وإحصاء الأعمال عليهم ، وحضورهم معهم يوم القيامة ،فاذا كان الغلول يأتي مع صاحبه يومئذ فمن باب الأولوية حضور العين المسروقة مـع السارق والظلم مع صاحبه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )بلحاظ تسليم وإقرار المسلمين باليوم الآخر وعالم الحساب وإدخالهم الحسنات له.
الحادي عشرة : من معاني تلاوة المسلمين لآية البحث ثناؤهم على الأنبياء ، ومعرفة قانون وهو أن بلوغ مرتبة النبوة بفضل ولطف من عند الله عز وجل .
التفسير
قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ]
إبتدات آية البحث بنفي خصلة مذمومة عن الأنبياء وهي أكل الغلول ، لقد إنقضت أيام الأنبياء ، وكان بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآخر الأنبياء من قبله عيسى عليه السلام ، نحو ستمائة سنة ، ومع هذا جاء القرآن بتنزيه الأنبياء وبيان الأخلاق الحميدة التي يتصفون بها ، ومنها الأمانة وحسن الإمامة والعصمة من أخذ قطعة من الغنائم خلسة أو على نحو الخفاء ، إذ يكون بمقدور النبي أن يأخذ من الغنائم بما هو أقل مرتبة من الخلسة والسرقة ، إنما يأخذها خفية ويستحوذ عليها ، والغنائم كلها تحت يده ومع هذا أخبر الله عز وجل في آية البحث عن إمتناع أي نبي عن الأخذ من الغنائم بأي صيغة مما لا يكون مشروعاً وصحيحاً .
ويحتمل تنزه الأنبياء عن أكل الغلول وجوهاً :
الأول : إنه عن وحي خاص بمسألة أكل الغلول .
الثاني : إنه جزء من وحي عام بلزوم إمتناع الأنبياء عن أكل الحرام ، وإجتناب مواطن الشبهة وما يؤدي إلى سوء الظن .
الثالث : إمتناع الأنبياء عن أكل الغلول باجتهاد منهم وإدراك بأنه قبيح في ذاته .
الرابع : التفصيل ، فمن الأنبياء من يمتنع عن أكل الغلول بوحي خاص بالغلول ، كما في حال الرسل ، ومنهم من يمتنع عنه بوحي عام بوجوب الأمانة ومنهم من يتلقى حرمة الغلول بالرؤيا والمنام بلحاظ أن رؤيا الأنبياء وحي ، كما في قوله تعالى بخصوص إبراهيم [قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ]( ).
والمختار هو الوجه الأول ، وتكون الوجوه الأخرى في طوله فليس من تعارض بينها وبينه .
وهل كل نبي تأتيه الغنائم , الجواب من الأنبياء من لم يقاتل ولم تكن عنده غنائم إلا أن يراد من الغلول معنى أعم مما يؤخذ في ميدان القتال ، ليشمل الزكوات والمكاسب والتجارات والمعاملات، وإرادة سلامة النبوات من خلط الأمور الدنيوية بها بجهادهم وسعيهم في سبيل الله.
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي : بعثت إلى الأحمر والأسود ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلي ، ونصرت بالرعب فيرعب العدوّ وهو مني مسيرة شهر ، وقال لي : سل تعطه . فاختبأت دعوتي شفاعة لأمتي وهي نائلة منكم إن شاء الله من لقي الله لا يشرك به شيئاً ، وأحلت لأمتي الغنائم) ( ).
وكان بعض أصحاب الأنبياء أصحاب عمل وزراعة وكسب فلا يحتاجون إلى الغنائم ، وكان أكثر الأنبياء يبعثون في قومهم ، ولا تصل النوبة في جهادهم إلى القتال وأخذ الغنائم ، فيصدق عليهم أنهم لم يغلوا سواء كانت هناك غنائم أو لم تكن وجاءت الآية لبيان قانون وهو أن كل نبي يتنزه عن أكل الغلول .

بدأت الآية بالنفي العام الإستغراقي الشامل لكل الأنبياء منذ أيام أبينا آدم عليه السلام ، لبيان وكشف من جهات :
الأولى : عصمة الأنبياء من الغل .
الثانية : التضاد والتنافي بين النبوة وأكل الغلول ، فحتى لو لم يقاتل نبي من الأنبياء فانه منزه عن أكل الغلول .
لتدل الآية على قانون وهو مجئ الثواب لكل نبي على عدم أكله الغلول وإن لم يقاتل ولم تقع بيده غلول ، وفيه آية في فلسفة خلق الإنسان ومصاديق خلافته في الأرض فحينما إحتج الملائكة على جعل الله عز وجل الإنسان خليفة في الأرض أجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
ومن علمه تعالى مجئ الثواب لكل نبي على عدم أكله الغلول ، وإن لم يقاتل .
الثالثة : دفاع القرآن والمسلمين عن الأنبياء مجتمعين ومتفرقين ، ليكون من خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وختمها للنبوة الدفاع عن الأنبياء ، وحفظ حسن سمتهم .
(عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها وأجملها وترك فيها موضع هذه اللبنة لم يضعها ، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ، ويقولون : لو تم موضع هذه اللبنة ، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة ) ( ).
وفيه بيان لحاجة صرح النبوة لنزول آيات القرآن وتنزيه الأنبياء في أقوالهم وأفعالهم ، ولم تذكر آية البحث قيام الأنبياء بنهي أصحابهم عن الغلول وزجرهم عنه .
ولكنها تدل عليه بالمفهوم لما فيها من الموعظة والإنذار بعالم الحساب في الآخرة ، كما يدل عليه القرآن والسنة ، في بيان جهاد الأنبياء في طاعة الله , وقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمنع المسلمين من الغلول .
الرابعة : بيان فضل الله عز وجل على الأنبياء والمسلمين والناس بصيرورة الأنبياء في حال عصمة من الغلول .
الخامسة : قانون بذل كل نبي الوسع للحضور بين يدي الله إلى يوم القيامة من غير ذنب أو معصية ، وما إمتناعهم عن الغلول إلا مصداق منها .
السادسة : قانون ثناء القرآن على الأنبياء ، ففي كل موضع من القرآن يذكر فيه الأنبياء يتضمن مدحهم والثناء عليهم ، وجاءت السنة النبوية لبيان إخلاص الأنبياء في طاعة الله وقيامهم بالتبليغ ومحاربة الشرك .
وتذكر آية البحث الناس بيوم القيامة ، ومن الوقائع فيه الإحتجاج بين الأنبياء وأممهم وحضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته شهوداً على الناس .
وعن ابن عباس (رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله يدعو نوحاً وقومه يوم القيامة أول الناس، فيقول : ماذا أجبتم نوحاً فيقولون : ما دعانا وما بلغنا وما نصحنا ولا أمرنا ولا نهانا ، فيقول نوح : دعوتهم يا رب دعاء فاشياً في الأولين والآخرين ، أمة بعد أمة ، حتى انتهى إلى خاتم النبيين أحمد فانتسخه وقرأه وآمن به وصدقه ، فيقول للملائكة : ادعوا أحمد وأمته .
فيأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمته يسعى نورهم بين أيديهم ، فيقول نوح لمحمد وأمته : هل تعلمون أني بلغت قومي الرسالة ، واجتهدت لهم بالنصيحة ، وجهدت أن استنقذهم من النار سراً وجهراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمته : فإنا نشهد بما نشدتنا أنك في جميع ما قلت من الصادقين .
فيقول نوح : وأنى علمت هذا أنت وأمتك ونحن أول الأمم وأنتم آخر الأمم؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم { إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه }( ) حتى ختم السورة ، فإذا ختمها قالت أمته : نشهد أن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم ، فيقول الله عند ذلك : { وامتازوا اليوم أيها المجرمون }( ))( ).
ومن الإعجاز في آية البحث نسبة فعل الإمتناع عن أكل الغلول إلى ذات الأنبياء أنفسهم ، بقوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] ولم تقل الآية ( وجعلنا كل نبي لا يغل ) وإن كانت تتضمن ذات المعنى .
إنما تبين الآية خصلة الإختيار عند الأنبياء وإمتناعهم عن أكل الغلول , وتتضمن فضل الله باعانتهم وعصمتهم عن أكل الغلول فالذي يبلغ مرتبة النبوة يجعله الله في مرتبة سامية وسالماً من أكل الغلول أو الأخذ من بيت المال .
ومن الآيات أن من الأنبياء من يعمل بيده وكسبه فيكون في غنى عن الغنائم كلها مثل النبي داود عليه السلام ، وقد تقدم خبره، وكذا يجب أن يكون المسلمون ، وإن قلت قد يكون الأصل هو أن الله عز وجل هو يوجه فعل أي نبي ، وأنه سبحانه يمنعه من أكل الغلول ، وهذا صحيح ، ونسبت الآية العصمة من أكل الغلول إلى ذات الأنبياء لأمور :
الأول : بيان إكرام الله عز وجل للأنبياء وإصلاحهم لأمور الرياسة .
الثاني : جهاد الأنبياء في سبيل الله حتى ما بعد إنقضاء المعركة والقتال مع الكفار .
الثالث : بيان قانون وهو تنزه الأنبياء جميعاً عن أكل الغلول .
الرابع : دعوة المسلمين والناس إلى عدم ذكر الأنبياء بسوء ، او الإفتراء عليهم ، إذ يرد في آيات القرآن الثناء على الأنبياء من جهات :
الأولى : الثناء العام ، ومنه إختيارهم للنبوة والرسالة .
الثانية : جهاد الأنبياء في سبيل الله ودعوتهم الناس للإسلام .
الثالثة : ترك الأنبياء لسننهم ميراثاً ومناراً وضياءً ينير دروب السالكين .
الرابعة : قيام الأنبياء بالبشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : تنبيه وتذكير الأنبياء للناس بيوم القيامة ، وبيانهم لصفحات من أهواله ولزوم الإستعداد له .
السادسة : بذل كل نبي الوسع ليكون إماماً للناس في التقوى وإخلاص العبودية لله عز وجل .
السابعة : إختصاص الأنبياء بتلقي الوحي من عند الله عز وجل وإتخاذه منهاجاً وسبيل صلاح .
الثامنة : تحمل الأنبياء شتى ضروب الأذى من الذين كفروا ، ومن وجوه الإبتلاء في المقام أن الذين يؤذون الأنبياء هم الملأ والوجهاء من قومهم .
ومن الآيات في المقام أن صبر كل نبي مدرسة مستقلة تلهم المسلمين الثبات في منازل الإيمان وتدعوهم إلى إكتناز الحسنات بالصبر على الأذى في مرضاة الله .
وتشترك كل ملل الموحدين بالإحاطة الإجمالية بصبر نوح عليه السلام ، قال تعالى [وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ] ( ).
ومن خصائص الأنبياء إحرازهم الكمالات الإنسانية وأنهم أتم الناس عقلاً ، وأكثرهم حلماً وأصوبهم رأياً ، ووجود كل واحد منهم رحمة عظمى لقومه ، والأجيال التي تأتي بعدهم ، ومع هذا نجد الملأ منهم يرمون بعض أنبيائهم بالجنون أو السفاهة ، أم هما معاً ، وفي نوح ورد في التنزيل حكاية عن قومه [إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ] ( ).
ونعت هوداً قومه بالسفاهة وخفة العقل [إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ]( ).
وفي حين كان يدعوهم إلى التوحيد والإقرار بالعبودية لله عز وجل ، ونبذ الشريك ، أعلنوا إصرارهم على الضلالة ، وورد في التنزيل حكاية عنهم [إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ]( ) .
ولم ينحصر صبر الأنبياء بالأذى القولي الذي يوجه لهم ، بل إنقضوا على المعجزات التي جاء بها ، كما في عقر قوم صالح للناقة المعجزة التي خرجت لهم من صخرة من الجبل وبناء على سؤالهم وطلبهم تأكيد صدق نبوته وأجمعوا على قتله في الليل ، فأنجاه الله عز وجل [ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ]( ).
لبيان أن إرادة قريش قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه ليست أمراً حادثاً في تأريخ النبوة ، وكذا حفظ الله عز وجل له .
فكما حفظ الله الأنبياء هوداً وصالحاً وإبراهيم الذي ألقوه في النار لإرادة قتله حرقاً ، فكذا نجّى الله عز وجل يوسف من البئر الذي ألقاه فيه أخوته .
لقد أرادوا قتله لا لشيء إلا ليعتني بهم أبوهم يعقوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا ينشغل بما يخص فيه يوسف من الرعاية والعناية ، وفي التنزيل حكاية عن أخوته [اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ] ( ) وبقي يوسف في وحشة البئر يومين أوو ثلاثة صابراً محتسباً منقطعاً إلى الله ، وجاءت قافلة فنزلت بالقرب من البئر ، وجاء أحدهم يستسقي لهم فأدلى بدلوه في البئر وسمع يوسف عليه السلام حركة عند أعلى البئر ، ثم رأى دلواً مربوطاً بحبل يسرع نحوه وكأنه يدعوه للخروج .
وليس كل دعوة غير مقصودة يتم بلوغ الغاية معها ، لكنها المعجزة وفضل الله عز وجل على الناس بنجاة الأنبياء ، ولم يتكلم يوسف عليه السلام ، ولم يخبر صاحب الدلو بمكانه ، ولكنه تعلق بالحبل بشدة كالوثاق ، وكذا الذي يريد الخلاص عند طرو فرصة للنجاة .
أحس الساقي بثقل الدلو أكثر من المعتاد لأن كثافة جسم الإنسان أكثر من كثافة ماء الدلو الذي يكون عادة متوسط الحجم .
ومع تعلق مضامين آية البحث بسيرة الأنبياء على نحو العموم الإستغراقي وإنقضاء أيامهم أوان نزول القرآن باستثناء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم تقل آية البحث [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ]بصيغة الماضي ، وترد هذه الصيغة في القرآن ، كما في قصة إبراهيم عليه السلام مع ضيوفه من الملائكة [فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ] ( ) .
وفي صيغة المضارع في الآية وجوه :
الأول : إرادة حضور سنن الأنبياء في حياة المسلمين .
الثاني : بيان قانون أن كل نبي ممتنع لأن أكل الغلول بالقوة والفعل ، فحتى الذي لم يقاتل منهم فانه منزه عن أكل الغلول فيما إذا وصلت إلى يديه .
الثالث : تأكيد قانون وهو أن الأنبياء أئمة الهدى وقادة الأمم في الصلاح .
الرابع : بيان مسألة لو كان الأنبياء يقاتلون مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما أخذ واحد منهم من الغلول .
وفي حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (وأنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني ) ( ).
الخامس : دلالة آية البحث وصيغة الفعل المضارع فيها على نفي الغلول عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين مغادرة الحياة الدنيا .
ومن أسرار إمتناع الأنبياء عن الغل مع إمكان وقوع الأخذ من المال العام خفية إدراكهم بأن الله عز وجل يعلم ما يفعلون [يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ] ( )
ومن أسماء الله عز وجل [الْعَلِيمُ][العالم] وعلمه بالأشياء على حقيقتها وسابق لها ، ومحيط بها ، وليس مجرداً بل يترتب عليه الفعل والحساب والجزاء ، قال تعالى [وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ).
لقد ورث المسلمون عن الأنبياء الإدراك والعلم بأمور :
الأول : علم الله عز وجل بما يفعل المسلمون .
الثاني : مجئ النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من عند الله ، ولزوم الشكر له سبحانه على نعمة النصر .
الثالث : لزوم الورع والتعفف والإمتناع عن أخذ الغلول .
الرابع : البعث والنشور وحضور الأفعال مع الناس يوم القيامة.
وذكرت آية البحث مسألة وهي عدم إنحصار الحضور يومئذ بالناس وأفعالهم ، إنما تحضر الإجناس والعروض ومنها الغلول التي أخذها خفية بعضهم في ميدان المعركة أو خارجها .
لقد إبتدأت آية البحث بصيغة النفي، نفي الغلول والخيانة عن الأنبياء، ويحتمل وجوهاً:
الأول : عصمة الأنبياء الخاصة فيما يتعلق بالتنزه عن الغلول.
الثاني : تقوى كل نبي بإمتناعه عن أخذ الغلول، بلحاظ أن قوانين الإبتلاء في الحياة الدنيا عامة ومطلقة تشمل الناس جميعاً حتى الأنبياء.
الثالث : إرادة عصمة الأنبياء المطلقة عن الذنوب والفواحش، ومنها أكل الغلول.
والمختار هو الثالث، وهو الذي يدل عليه ظاهر آية البحث[وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] أي لا يستطيع النبي أن يغل لأنه معصوم من عند الله عز وجل .
وهذا مبحث جديد في العصمة بأن تستقرأ من آية البحث، وللعالم الذي يقول بالضد منه وأن الأنبياء غير معصومين عليه تتبع آيات القرآن، ليجمع العلماء بين الآيات فلابد أنها تفيد معنى واحداً، لإنتفاء التزاعم والتضاد بين مضامين وأحكام ودلالات آيات القرآن , ويحتمل أكل الغلول وجوهاً:
الأول : إنه معصية كبيرة والكبيرة هي كل ذنب ومعصية تؤدي بصاحبها إلى النار والعذاب أو اللعن .
الثاني : أكل الغلول من الذنوب الصغيرة التي تدرك بالإستغفار ، قال تعالى [إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ] ( ).
الثالث : أكل الغلول مرتبة برزخ بين الذنوب الكبيرة والصغيرة، والمختار أن الذنوب على مراتب تشكيلية في الشدة والضعف وأشدها وأمرها الجحود والكفر ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ) وأن أكل الغلول من الكبائر بدليل آية البحث وأخبارها عن حمل صاحبها لها يوم القيامة , والنهي والإنذار الوارد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصها .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)( ).
قوله تعالى [وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]
بعد إخبار آية البحث عن تنزه الأنبياء جميعاً من أكل الغلول جاءت بالوعيد والتخويف والوعيد للذي أخذ الغلول وأخفى قطعة من الغنائم عن المسلمين ، والتخويف لعامة المسلمين رجالاً ونساءً من الغلول بأنه يحضر مع صاحبه يوم الحساب ، وتكون وطأته شديدة عليه , وتدل صيغة المفرد في آية البحث ( ومن يغلل يأتي ) على قلة الذين غلوا أو يغلون من المسلمين من الأولين والآخرين .
فان قلت الغلول أمر خاص بالغنائم التي لا تأتي إلا في حال مخصوص من جهات :
الأولى : وقوع قتال بين المسلمين والذين كفروا , ولو وقع قتال بين طائفتين من المسلمين ، كما في قوله تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا] ( ) فهل يصح أخذ أموالهم غنائم أو سبي نسائهم .
الجواب لا ، ولا عبرة بنعت بعض الفرق والجماعات الطوائف من المسلمين بأنهم أهل بدع وكفار ونحوه فالمدار على النطق بالشهادتين ، فمن ينطق بهما مسلم ولا يجوز قتاله ،وإن وقع القتال لا يجوز الإستحواذ على ماله أو سبي نسائه ، فالنطق بالشهادتين عنوان الإسلام ، وهو زاجر عن القتال بين المسلمين وواقية من وقوع الغنائم والسبي وأسباب الغلول فيما بينهم ، قال تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ] ( ) .
ليكون من معاني نفي الحرج في الدين عن المسلمين الإمتناع عن قتال الذين ينطقون بالشهادتين وإن كانوا في حال إستضعاف وقلة في العدد ونقص في السلاح والمؤن .
الثانية : غزو المسلمين لمواضع الذين كفروا وإستيلاؤهم على أموالهم من غير قتال بسبب تهديد واستعداد الذين كفروا للهجوم على المسلمين .
الثالثة : النماء والزيادة في الأنفال والأموال والأنعام السائمة التي تعود لبيت المال مثل الإبل والبقر والغنم سواء كان نماء متصلاً أو منفصلاً ، ولقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعين بعض الصحابة عليها .
الرابعة : أموال الزكوات والخراج ، وما يجبى لبيت مال المسلمين , ويكون لقضاء حوائجهم ولنفقات البناء والدفاع .
الغل : الخيانة ، والغول الخيانة في الغيب والخفاء ومنه الغل وهو الحقد ، قال تعالى [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ] ( ) وجاءت آية البحث بالتخفيف والوعيد من السرقة من الغنائم والمال العام .
وجاءت السنة النبوية لبيان عموم أحكام آية البحث وأنها لا تختص بالغنائم في الحرب والقتال ، بل تشمل أمور الولاية وإدارة دفة وشؤون الجباية والإنفاق من بيت المال ، والصرف من خزينة الدولة ويدل عليه ما ورد (عن عدي بن عميرة الكندي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أيها الناس من عمل منكم لنا في عمل فكتمنا منه مخيطاً فما فوقه فهو غل وفي لفظ فإنه غلول يأتي به يوم القيامة) ( ).
وعدي بن عميرة الكندي له صحبة إذ وفد على رسول الله وروى عنه أخوه العرس بن عميرة ، وقيس بن أبي حازم ، نزل عدي الكوفة ، وتوفى نحو سنة ستين من الهجرة .
لقد جاءت آية البحث تخويفاً ووعيداً ، وهذا الوعيد حق وصدق ، فهي إخبار صادق لا يقبل اللبس أو الترديد ، فلابد من مجئ الغلول يحملها أصحابها سبباً للحزن يومئذ .
لذا فقد نزّه الله عز وجل المؤمنين من هذا الحزن بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) ومن فعل الصالحات الإمتناع عن أخذ وسرقة الغلول ، إذ تدل الآية أعلاه في مفهومها على أن الغلول برزخ يوم القيامة دون الأمن والغبطة والسعادة إذ يخاف صاحبها من ضررها في الحساب إلى جانب الخزي بسببها قبل الحساب .
وهل يمكن تقدير الآية : ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة فعلى الذي غّل الإجتهاد بالدعاء عسى الله عز وجل أن يرحمه ويستره يومئذ .
الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( ).
وقد لا يلتفت صاحب الغلول إلى الدعاء في المقام ، وقد لا تكون عنده فرصة للدعاء ، لذا فان الآية تتضمن الزجر بالأصل عن أكل الغلول ، وهي تحث المسلمين على إكتناز الصالحات وجني الحسنات بالعصمة من أخذ الغلول وسرقة المال العام .
وتبين آية البحث أموراً :
الأول : إنكشاف الأفعال يوم القيامة .
الثاني : مجئ الدليل والحجة على الإنسان في الآخرة، فما أخذه من الغلول يحضره معه وبنفسه، لا يستطيع إخفاءه أو تركه أو الهروب منه، مما يدل بالأولوية على إنكشاف الظلم والتعدي وعلى نحو التفصيل يوم القيامة، قال تعالى[وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا]( ).
الثالث : وقوف الناس للحساب وفوز المحسنين بالنعيم الدائم، وخسارة الذين كفروا .
ومن النعم التي تذكرها آية البحث لزوم التنزه عن أكل الغلول لأن في هذا التنزه الخير الكثير، فمن الإعجاز في آية البحث أنها تذكر نعمة وهي طهارة الأنبياء وعفتهم وإمتناعهم عن أكل الغلول، وهذا الذكر وحده نعمة عظمى تملي على المسلمين الإقتباس منها بالتقيد بآداب النبوة .
ويدرك المسلم حقيقة وهي أن كل فعل صالح منه يثاب عليه يوم القيامة، قال تعالى[وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ]( ).
و( قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيبًا فوعظ وذكَّر ثم قال: ألا عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاء، يقول: يا رسول الله، أغثني .
فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرسٌ لها حمحمة، يقول: يا رسول الله، أغثني! .
فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك( ).

بحث فقهي
قد ورد في القرآن حكم السرقة ، قال تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا] ( ) ، وفي السرقة حق الله وهو قطع اليد من الأصابع ، وحق الأدمي وهو أرجاع ماله له ، ولا قطع في سني المجاعة والفاقة والحاجة , أما الغلول فلم ترد فيه عقوبة دنيوية وظاهر آية البحث عدم تشريعها للمنع من غلبة النفس الغضبية على الآمر والملك وإجراء عقوبة القطع بالنسبة لمن يأخذ من الغلول أو يسرق منه لوجوه :
الأول : إكرام الله عز وجل للمجاهدين والذي يتنحل لإكرام كل واحد منهم وإن أخذ الغلول لأن هذا الأخذ لا يمحو عنه صفة الجهاد .
الثاني : حاجة الإسلام للمجاهدين ، ودعوة الذي يأخذ الغلول للتكفير عن ذنبه ببذل الوسع في الجهاد ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يكرم الذين قاتلوا في معركة بدر ، وفي قوله تعالى [إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحْ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] ( ).
ورد (عن مقاتل بن حيان قال : أنزلت هذه الآية يوم جمعة وجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ في الصفة ، وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس ، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم ، ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم ، فشق ذلك عليه فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : قم يا فلان ، وأنت يا فلان، فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام من أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه ، فنزلت هذه الآية) ( ).
الثالث : التباين الموضوعي بين السرقة وأخذ الغلول ، وليس في الغلول قطع من جهات :
الأولى : عدم صدق عنوان السرقة على الغلول .
الثانية : آخذ الغلول لم يسرق من مال خاص يعود لمالك معين.
الثالثة : لآخذ الغلول سهم وإن قلّ بالغلول وكأنه من الكلي في المعين .
الرابعة : من شرائط السرقة أنها تؤخذ من حرز , والغنائم ليست في حرز بالمعنى التام .
ولم تتضمن آية البحث حكماً جزائياً عاجلاً على آخذ الغلول إنما هي إرشاد ووعظ وإصلاح للمسلمين وبعث للنفرة في نفوسهم من الأخذ من بيت المال .
وهل يصح نعت الذي يأخذ الغلول من الغنائم كالقلادة والسوار بأنه سارق ، الجواب لا , لعدم صدق السرقة على فعله وإن كان قبيحاً .
ولكن لو نعته أحدهم بالسرقة وقال له يا سارق فهل يثبت عليه حد القذف , الجواب لا , لشبهة الغلول , ولكن هذا القول غير صحيح .
بحث أخلاقي
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار المعارف والعلوم ومن معاني تسمية الإنسان أنه يأنس بغيره ويقتبس منه ، فكانت الأخلاق من أهم أفراد عالم الإقتباس لأنه تتعلق بعالم الأقوال والأفعال والعقائد والصلات الإجتماعية وصلاح البيوت والعشرة الزوجية ، وهل البر بالوالدين من الأخلاق الحميدة , الجواب نعم ، وجاء القرآن بالتأكيد عليه ، قال تعالى [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا] ( ) .
ومن وظائف الأبوين نهي الولد عن الغلول وعن السرقة من المال العام ، ولو قام الابن بالأخذ من الغلول فهل يلحق الأبوين الأثم سواء كانا في الحياة أو من الأموات ، الجواب لا، لعمومات قوله تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] ( ) إلا أن يكون الوالدان على علم بالغلول ويستطيعان النهي والزجر عنه .
وتسعى الدول والمؤسسات إلى إصلاح النفوس ، ومنه إشاعة الأخلاق في الحروب ووضعت قواعد وقوانين عالية تتعلق بأخلاق القتال ولزوم عدم الإضرار بالمدنيين وحرمة بعض الأسلحة ، ولم تتقيد أطراف بها مع قرب زمانها .
وتنزل آية من القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتلقاها المسلمون بالإمتثال ، وتتوارثها الأجيال منهم بشوق ولهفة، لينفرد القرآن بخصوصية , وهي أنه مدرسة الأخلاق الحميدة الباقية إلى يوم القيامة .
وتحتمل آيات القرآن :
الأول : كل آية قرآنية مدرسة في الأخلاق في منطوقها .
الثاني : كل آية من القرآن مدرسة في الأخلاق في منطوقها أو مفهومها .
الثالث : تستقرأ معاني الأخلاق الحميدة من الجمع بين آيتين من القرآن أو أكثر .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، فذات ألفاظ وكلمات الآية القرآنية أخلاق حميدة.
وتبعث آية البحث النفرة في نفوس المسلمين من الغلول، وتنمي عندهم ملكة القناعة والزهد والرضا بالقليل، وعن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : « يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى، قلت : نعم يا رسول الله ، قال : « فترى قلة المال هو الفقر، قلت : نعم يا رسول الله .
قال : « إنما الغنى غنى القلب ، والفقر فقر القلب ثم سألني عن رجل من قريش ، فقال : « هل تعرف فلانا، قلت : نعم يا رسول الله ، قال : « فكيف تراه وتراه ، قلت : إذا سأل أعطي ، وإذا حضر أدخل .
ثم سألني عن رجل من أهل الصفة ، فقال : « هل تعرف فلانا، قلت : لا والله ما أعرفه يا رسول الله ، قال : « فما زال يحليه وينعته حتى عرفته ، فقلت : قد عرفته يا رسول الله ، قال : « فكيف تراه أو تراه ، قلت : رجل مسكين من أهل الصفة ، فقال: هو خير من طلاع الأرض من الآخر، قلت : يا رسول الله ، أفلا يعطى من بعض ما يعطى الآخر .
فقال : إذا أعطي خيرا فهو أهله ، وإن صرف عنه فقد أعطي حسنة( ).
ومن منافع القناعة زيادة الإيمان، وبعث الطمأنينة في النفس، وتحبب العالم الآخر للنفس وتأتي القناعة والإمتناع عن أكل الغلول بالسعة والغنى، وفي التنزيل في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى]( )،
وتنزه الآية المسلمين عن الحيلة والمكر السئ، والحرص والحماقة، والحسد والعيش أياماً بذل خوفاً من إنكشاف أمر الغلول ليكون هذا الخوف مرأة ليوم القيامة ودعوة عاجلة للإنزجار عن أكل الغلول.
ومن أخلاق الأنبياء إظهار الذل والتطامن والخضوع لله عز وجل , ومنها الإقرار للغير بما عنده من نعمة الله عز وجل، قال موسى[وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا]( ).
لأن هذا القول رجاء لتعضيد هارون له بما فيه تعظيم شعائر الله، وحينما نعت بنو إسرائيل موسى بالإستهزاء بهم عندما أمرهم بذبح بقرة أجابهم[أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ]( )، وحينما آذى هوداً قومه[ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ]( )، لم يجبهم بالمثل، ولم يرمهم بالسفاهة وما هو أشد قبحاً منها مع أنهم جاحدون للنبوة بل أجابهم بالأحسن ومعاني الحكمة[قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ]( ).
وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أكمل المؤمنين من سلم المسلمون من لسانه ويده) ( ).
ومن مصاديق هذه السلامة التنزه عن التعدي على المال العام في الغنائم.
قانون علة حرمة الغلول
لقد كان يوماً بهياً في السموات عندما أخبر الله عز وجل الخلائق بقوله [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فليس من كوكب أو فلك فيه خليفة لله عز وجل مثل الإنسان .
وتقصر الخلائق كلها عن إدعاء الخلافة في أي موضع من الأرض أو السماء ومختلف الأكوان ، وتفضل الله عز وجل بنعمة الخلافة على الإنسان لتكون حجة عليه ، ودعوة للخلائق لإكرامه وإعزازه .
ومن الآيات إنقضاء حياة الإنسان في الدنيا ومغادرته لها بالموت أو القتل ليكون وراءه عالم البرزخ وظلمة القبر ، ثم يأتي يوم القيامة للحساب والجزاء ، ولم تذكر آية البحث عالم القبر والبرزخ ، وهو من الإعجاز في ورود حرف العطف الذي يفيد التراخي [ثُمَّ تُوَفَّى] وكأنها تشير إلى الحساب الإبتدائي في عالم البرزخ وتحذر منه .
وتفضل الله عز وجل وأخبر عن سنن وأفراد الحساب منها حضور الغل والسرقة من الغنائم مع صاحبها الذي مدّ يده خلسة لأخذها مع ترغيب المسلمين بالثواب العظيم للذي يمتنع عن أكل الغل ، وفي التنزيل [وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ] ( ) .
ومن خصائص خلافة الإنسان في الأرض وجوب تقيده بأحكام الحلال والحرام ، وهي رشحات وفرع للإيمان الذي يجب على كل إنسان شكراً منه لله عز وجل على النعم التي أكرمه الله عز وجل بها ومنها :
الأولى : نعمة الخلق ، فليس من خالق إلا الله عز وجل ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ] ( ) .
وتدعو الآية الناس جميعاً للتوحيد وإجتناب الشرك وعبادة الأصنام وإتخاذ الأنداد ، ولو كان الناس كلهم مؤمنين شاكرين لله عز وجل على نعمه لما صار هناك موضوع وسبب للقتال ، ولم تقع غنائم أو تؤخذ الأموال من أهلها قهراً ، لأن هذا الأخذ فرع إصرار أهلها على الكفر ومحاربة الإسلام والنبوة .
الثانية : نفخ الله من روحه في آدم ، قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) وفيه رفعة وعلو مرتبة ، وصلة دائمة ومتجددة بين الإنسان وخالقه ، أراد الله عز وجل لها أن تتجلى بالدعاء وضروب العبادة .
الثالثة : نعمة عمارة الأرض وتزيينها بالزراعة والحرث والمعادن وإزدهار التجارات والمكاسب ، قال تعالى [فَلْيَنْظُرْ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا *وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ] ( ) .
وقال تعالى [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ]( ).
الرابعة : تفضل الله عز وجل ببعث الأنبياء وإنزال الكتب السماوية التي هي حجة على الناس ، وطريق لجذبهم إلى منازل الهدى والإيمان ، وفي نزولها شاهد على حاجة الناس للهداية ، واللطف الإلهي بنزول الآيات والبراهين التي صاحبت الأنبياء لتكون دعوة للناس للتقوى وهجران الأوثان .
وتفضل الله عز وجل وأنزل آيات القرآن وكل واحدة منها علم مستقل ومدرسة في الأخلاق ، ومنها آية البحث التي تتضمن نشر حرمة أكل المال الحرام من الغنائم والذي يتمثل بالأخذ خلسة منها ، وعلة هذا الحكم على وجوه :
الأول : إصلاح حال المسلمين في ميادين القتال .
الثاني : سلامة المسلمين من الفتنة والفرقة والشقاق ، وإجتناب الغلول من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] ( ) بتقريب وهو أن أخذ الغلول سبب للخلاف والخصومة والغيبة وربما سوء الظن والإفتراء .
الثالث : بعث المسلمين على التفاني في القتال ، وعدم الإنشغال بقسمة الغنائم ، ويدل على هذا التفاني قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ) .
إذ نزلت الآية أعلاه بخصوص معركة أحد وشوق طائفة من المسلمين الذين حرموا من المشاركة في معركة بدر للقاء الذين كفروا .
الرابع : بيان قانون وهو عدم جواز التصرف الشخصي بالمال العام ، لأنه نوع أمانة عهدية بالإضافة إلى الحاجة إلى تسخيره في الدفاع عن الإسلام ، ومن الآيات أن قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] ( ) لا يختص بالإنفاق العام على السلاح والمعدات القتالية بل يشمل الجهود الفردية ، وقيام المسلم بتجهيز نفسه وشراء فرس وسيف ونحوه له .
الخامس : بقاء خصال الأنبياء الحميدة في الأرض إلى يوم القيامة ، وهذا البقاء من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ جعل الله عز وجل أمته هي التي تتعاهد هذه الخصال بالعمل والتقيد بها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
السادس : لقد تفضل الله عز وجل على الملائكة والناس والخلق أجمعين بأن أخبر الملائكة بخلق آدم وجعله خليفة بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) لبيان أن إنتفاع الناس من الأرض وما فيها بمشيئة وإذن من الله عز وجل ، وفيه زجر للناس عن الغرور والعفو ، وهذا المعنى من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة حين أنكروا خلافة الإنسان للأرض وهو الذي [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) إذ أجابهم الله عز وجل بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
فمن علم الله عز وجل وجود أمة تحارب الذين كفروا وتتصف بأمور :
الأول : الإقرار بالتوحيد والنبوة وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن أبي موسى (قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله ؟ قال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) ( ).
الثاني : تلاوة آيات القرآن على نحو الوجوب والإستحباب كل يوم .
الثالث : إجتناب أكل الغلول والسرقة من المال العام ، وفيه مسائل :
الأولى : الدلالة على قانون وهو أن المسلمين لا يقاتلون من أجل المال وزينة الدنيا ، وعن ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ألا أخبركم بخير الناس منزلا قلنا بلى يا رسول الله ، قال : رجل أخذ برأس فرسه في سبيل الله حتى يموت أو يقتل وأخبركم بالذي يليه
قلنا : نعم يا رسول الله .
قال : رجل معتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعتزل شرور الناس وأخبركم بشر الناس قلنا نعم يا رسول الله قال الذي يسأل بالله ولا يعطي به ثواب من يعطي سرا) ( ).
الثانية : بيان مصداق لبلوغ المسلمين مرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )بخصال العفة والطهارة .
الثالثة : نزول الخوف والفزع بين صفوف الذين كفروا لعجزهم عن إستمالة طائفة من المسلمين بالمال والإغراء وجعلهم يمتنعون عن قتالهم ، ومن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من الإعجاز الغيري لآية البحث بأن تتضمن بيان القبح الذاتي لسرقة الغلول ، لتفيد آية البحث وإمتثال المسلمين لأحكامها وبالدلالة التضمنية على إصابة الذين كفروا باليأس من إرتداد بعض المسلمين أو إغوائهم ، ولتتضمن الثناء على المسلمين والذم والوعيد للذين كفروا ، قال تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا] ( ) .
وعن زيد بن خالد الجهني قال (مات رجل بخيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلوا على صاحبكم إنه غلّ في سبيل الله ففتشنا متاعه فوجدناه فيه خرزا من خرز يهود ما يساوي درهمين) ( ) .
وفيه دلالة بأن الذي يأخذ من الغلول لا يخرج عن ملة الإسلام ، ولا يترك من غير صلاة عليه من قبل المسلمين ، فأعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة عليه مع نيله مرتبة الشهادة ، ولكنه أمر المسلمين بأن يصلوا عليه ونعته بأنه صاحبهم ، ليفعل به مثل الذي مات من المسلمين وعليه دين للناس .
وفي الحديث بيان لمعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أخبر عن قيام هذا الشهيد بالغلول ، وهل فيه نكتة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم الذين يأخذون الغلول ، ولكن لا يفضح أمرهم فقط عند موت الذي يأخذه يمتنع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة عليه .
الجواب نعم ، يعلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالذي يأخذ الغلول عندما يوحي الله عز وجل إليه بالأمر , وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ).
ولو دار الأمر بوجود نفر من المسلمين قد غلّوا , ولم يفضحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم عدم وجودهم ، فالأصل هو الثاني لأصالة البراءة ، وموضوعية الإيمان في الزجر عن الغلول ، وهل من موضوعية للتنزه عن الغلول في الثبات في مقامات الإيمان وتوارثه وزيادته .
الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في الشريعة الإسلامية ، وكيف يأخذ الله عز وجل بأيدي المسلمين في مراتب التقوى واليقين .
وعن الإمام الرضا عليه السلام (الايمان فوق الاسلام بدرجة، والتقوى فوق الايمان بدرجة، واليقين فوق التقوى بدرجة، وما قسم في الناس شئ أقل من اليقين) ( ).
قوله تعالى [ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ]
وردت الآية بحرف العطف (ثم) لإفادة الترتيب بين السابق واللاحق لها ، لبيان تقدم أوان ومرتبة إحضار الذي يـأخذ خلسة من الغنائم معه ، فان قلت وإن كان ذا روح مثل الشاة والبقرة أم أن الحيوانات خارجة بالتخصيص لإنعدام تحقق الخلسة في أخذها وسرقتها ز
الجواب هو الأول ، فقد يكون الحيوان من الغلول وما يأخذ خلسة لأصالة العموم وتعدد صنوف الغنائم وإمكان الإخفاء لها وخلطها مع المال والملك الخاص ، ويتضمن الشطر أعلاه من آية البحث الوعد والوعيد , والبشارة والإنذار .
وهل يدخل صاحب الغل النار مع الذين كفروا ، الجواب لا , وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يلج النار رجلا بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم) ( ).
ومن إعجاز آية البحث صيغة الإطلاق في حضور الأفعال يوم القيامة ، ونسبتها إلى النفوس وإرادة الأشخاص لأن الناس يبعثون يوم القيامة بأبدانهم وأرواحهم .
وجاء ذكر النفوس لبيان ترتب الحساب على الإختيار في عالم الأفعال ولإقامة الحجة على الإنسان بأنه مدرك لما قام به من فعل في أوانه ، وتقدير الآية : ثم يوفى كل شخص ما كسب )
وقد يشمت الذين كفروا بالمؤمنين بالقول أن الذي يغل منكم يحاسب يوم القيامة ، فجاءت الآية بالإخبار بأن الحساب عام للناس جميعاً بما فعلوا وفيه بيان للناس بأن المؤمن المجاهد يقف للحساب على قطعة صغيرة أخذها من الغنائم مع أنه خرج إلى ميدان القتال وقد نذر نفسه ودمه في سبيل الله فكيف حال الذين كفروا ممن يحارب الإسلام ، ويقاتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
وفي الآية مواساة للمؤمن الذي يأخذ الغلول بأن الذي يحضر معه ليس الغلول وحده بل تأتي أعماله وأفعاله كلها ومنها أداؤه الصلاة والفرائض الأخرى ، والتي هي طريق مبارك ورجاء عملي للفوز بالعفو والمغفرة من عند الله .
(عن ابن مسعود قال : قال رجل : يا رسول الله إني لقيت امرأة في البستان فضممتها إلي وقبلتها وباشرتها وفعلت بها كل شيء إلا أني لم أجامعها؟ .
فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأنزل الله { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين }( ) فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرأها عليه ، فقال عمر : يا رسول الله أله خاصة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بل للناس كافة) ( ).
وقد جاء القرآن بالتذكير بالحساب على الأفعال في الدنيا وأن الناس لا يبخسون حقهم وثواب ما عملوا من الصالحات ، وكذا فان الذي كفر لا يأتيه من العقاب أكثر من يستحق .
(عن ابن عباس في قوله تعالى : {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}( ) قال : هذه آخر آية نزلت على رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} قال جبرائيل : ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة)( ).
بحث بلاغي
من أفراد وضروب علم البديع والإطناب عطف العام على الخاص , والأهم على المهم، والأوسع على الواسع، ومن عطف العام على الخاص قوله تعالى[رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ]( )، ومن مصاديق هذا الضرب من البديع آية البحث إذ ذكرت إحضار صاحب الغلول ما غله في الدنيا معه يوم القيامة ثم إنتقلت إلى المعنى الأعم وهو من جهات:
الأولى : حساب ذات الفرد الذي أحضر معه الغلول.
الثانية : حساب الناس جميعاً.
الثالثة : الحساب على الأعمال كلها، قال تعالى[هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( )، وتبين الآية إستنساخ أفعال العباد ويحتمل بخصوص حضور الغلول يوم القيامة وجوه:
الأول : حضور النسخة المستنسخة التي تذكرها الآية أعلاه.
الثاني : حضور أصل ومادة الغلول نفسها في الدنيا.
الثالث : حضور الغلول من جنس الأعمال والأفعال.
والصحيح هو الثاني أعلاه، وتلك آية في عظيم قدرة الله، وبيان بأن المراد من إخبار الآية هو حضور ذات أصل الغلول.
هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى الطائف
من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمور :
الأول : عدم إنقطاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الدعوة إلى الله .
الثاني : إجهار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنبوته وأنه رسول من عند الله، وإن كان هذا الإجهار من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
الثالث : خلو دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله والتصديق برسالته من الفترة والفتور، وهو من الشواهد على صدق نبوته وأنه لم يفوت ساعة من نهار في سبيل بناء صرح الإسلام.
الرابع : النسبة التصاعدية في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله، فمع إطلالة كل يوم تزداد دعوته إلى الله ومناداته بشعار لا إله إلا الله، ونفاذ آيات القرآن إلى المنتديات والبيوت.
الخامس : إزداد عدد المسلمين بتقادم الأيام مع أن الدعوة كانت في بدايتها شبه سرية.
وبعد وفاة أبي طالب وهجرة نفر من الصحابة إلى الحبشة إشتد أذى قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد أدركوا صيرورة سفراء للإسلام وأن دولة لأهل الكتاب إستقبلتهم بالرضا والترحيب وعدم النفرة منهم، ولو كان الذي استقبلهم غير النجاشي وبطارقته ربما اختلف الأمر وكان ضيق وغيظ قريش أقل وطأة لمعرفة قريش والقبائل العربية بأن أهل الكتاب يتبعون الأنبياء، وعندهم أخبار النبوة في الجملة، والبشارات بنبي آخر الزمان .
فخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف في السنة العاشرة لنبوته وقبل أن يهاجر إلى المدينة، وأقام في الطائف نحو عشرة أيام يدعو أشرافهم إلى كلمة لا إله إلا الله، وإلى الإسلام، وحاوره بعضهم , فأخذ يبين البراهين والحجج التي تدل على صدق نبوته وقد تقدم ذكره في الأجزاء السابقة ولكنهم قابلوه بجفاء من جهات :
الأولى : الصدود عن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : إظهار بعضهم الإستهزاء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : إغراء السفهاء والعبيد بايذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة : خشية أهل الطائف على أولادهم من جذب النبي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم في دعوته .
الخامسة : جلب عدد من صبيانهم وعبيدهم في الطريق صفين يرمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحجارة، وإدماء رجليه .
السادسة : دعوة أهل الطائف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج من الطائف وقالوا : اُخْرُجْ مِنْ بَلَدِنَا وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ فَوَقَفُوا لَهُ سِمَاطَيْنِ وَجَعَلُوا يَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتّى دَمِيَتْ قَدَمَاهُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَقِيهِ بِنَفْسِهِ حَتّى أَصَابَهُ شِجَاجٌ فِي رَأْسِهِ فَانْصَرَفَ رَاجِعًا مِنْ الطّائِفِ إلَى مَكّةَ مَحْزُونًا ( ).
وأيهما أشد على النبي أذى أهل الطائف أم رجوعه إلى مكة خصوصاً وأنها صارت خالية من عمه أبي طالب ومن خديجة اللذين كانا يذبان عنه، الجواب هو الأول ، ففي مكة البيت الحرام، وطائفة من المسلمين والأتباع وهو من مصاديق دعاء ابراهيم عليه السلام كما ورد في التنزيل[رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا]( ).
لذا فان إختيار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرجوع إلى مكة معجزة حسية له، وعمل بمضامين آيات القرآن، وسنن الأنبياء السابقين وتذكير بقوله تعالى في آية البحث [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] من جهات :
الأولى : وحدة سنخية عمل الأنبياء.
الثانية : إنتفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من دعاء الأنبياء السابقين .
الثالثة : بيان سر من أسرار النبوة بعمارة الأنبياء ومن آدم عليه السلام للبيت الحرام، وقيام إبراهيم وإسماعيل ببنائه ليكون واقية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ذات البنية، وفي أخلاق وعادات المجاورين له، وما تربطهم من صلات القربى .
الرابعة : موضوعية الأشهر الحرم وإمتناع العرب عن القتال فيما، وهو من بقايا الحنيفية الإبراهيمية، وهل للبيت الحرام وحجه وعمارته من موضوعية في تعاهد الأشهر الحرم والتقيد العام من العرب بآدابها .
الجواب نعم , ويمكن تأسيس قانون وهو الإعجاز في توالي النبوة وتوارث الأنبياء .
فقد يبادر كفار قريش إلى الإجهاز على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين رجوعه من الطائف، وعلم أهل مكة برفض أهلها له فكان دخوله مكة في الأشهر الحرم كما أنه إلتجأ إلى الدعاء ولاذ بالإستغاثة بالله عز وجل، وتوجه بدعائه الذي صار يسمى دعاء الطائف .
قال ابن اسحاق : فَلَمّا اطْمَأَنّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَالَ – فِيمَا ذُكِرَ لِي – : اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي ، وَقِلّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي ؟ .
إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي ، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك ، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك ( ).
ويكرر كتّاب السيرة القول (فلما اطمأن رسول الله صلى لله عليه وآله وسلم ) قبل ذكر هذا الدعاء، وترد عليه مسائل :
الأولى : كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أذى شديد عند التوجه إلى الطائف وحال الإقامة فيها وعند الرجوع إلى مكة.
الثانية : إنقطاع النبي صلى الله الله عليه وآله وسلم إلى الدعاء في كل حال من أحواله، وإن كانت بعض الأدعية خاصة بمناسبات معينة.
الثالثة : إتصاف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتوجه إلى الله عز وجل في حال السراء والضراء، والسعة والضيق .
قانون الآية القرآنية واقية وعلاج بالطاقة الإيجابية
لقد جعل الله عز وجل خلق الإنسان حجة على الناس جميعاً، إذ يتفكر الإنسان في ذاته وسنخيته وفعله ومدة عمره وصحته وسقمه ، ويتدبر في أحوال الناس وتبدلها مع تعاقب الجديدين الليل والنهار ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ] ( ) .
ومن العلوم في باب الطب في هذا الزمان العلاج بالطاقة الإيجابية لتحصين النفس من الأمراض ، ويمكن تقسيمها إلى قسمين :
الأول : الطاقة النفسية .
الثاني : الطاقة البدنية .
وقيل قد عرف الفراعنة والرومان العلاج بالطاقة ثم إعتمده الإلمان قبل نحو 250 سنة ويسمى أيضاً الريكي كطب بديل ، ومنه الريكي الياباني زاوله بوذي من اليابان في سنة 1922.
وليس من دليل ومصداق عملي على أن الريكي (reiki) هو علاج فعال ، خاصة وأن المرض العضوي خلل في البدن يحتاج إلى علاج يتفاعل داخل البدن ويحاصر المرض ليقضي عليه أو يكون العلاج بالمعجزة كما في الآية القرآنية .
وتتصف الآية القرآنية في المقام بأمور :
الأول : الآية القرآنية واقية من أمراض نفسية وحرز من الأدران التي تضر الإبدان ، ولو أجريت إحصائية ودراسة لمجموعتين إحداهما من المسلمين الذين يتعاهدون أداء الصلاة وتلاوة القرآن , وتضم الأخرى جماعة من غير المسلمين ومن لم ي بيؤمن بالتنزيل لتجلت حقيقة وهي أن نسبة الأمراض عند المجموعة الأولى أقل كماً وكيفاً وخطورة وأذى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
الثاني : تلاوة الآية القرآنية والعمل بمضامينها سبب لمحو عدد من الأمراض ودفع للآفات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ) فيصرف الله عز وجل الأمراض بقراءة القرآن ، ويمنع عن المسلمين مجتمعين ومتفرقين الأذى والضرر في الإبدان والنفوس بوقوفهم في صفوف في صلاة الجماعة.
الثالث : من خصائص الآية القرآنية أنها شفاء من الدرن ،وعون للإنسان في بدنه وصحته , قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا]( ) .
وجاءت الآية أعلاه بصيغة التبعيض من القرآن .
فهل تدل الآية على التفصيل وأن من آيات القرآن تنقسم إلى أقسام :
الأول : الآية التي تكون شفاء .
الثاني : الآية التي تكون رحمة .
الثالث : الآية القرآنية الجامعة للشفاء والرحمة .
الجواب لا دليل على هذا التفصيل ، والمراد من حرف الجر (من) في الآية إرادة الجنس والتوكيد إلى جانب التبعيض، أي أن كل الذي ينزل من عند الله من القرآن هو شفاء ورحمة للمؤمنين ، ويكون شديد الوطأة على الذين كفروا فيخسرون أموالهم وتصيبهم الحسرة والأسى ، قال تعالى [وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] ( ) لبيان أن القرآن واقية وعلاج للمسلمين ، وحرب على الكافرين ، يغزو قلوبهم فيجعلها تصاب بالإندهاش والرعب والخذلان .
وإذ يذكر المحققون زمان بدء بعض الأطباء بالعلاج الإيجابي ، لم يلتفتوا إلى أن القرآن جاء به قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة ، ليكون من معاني البيان في قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ). أمور :
الأول : صيرورة التبيان القرآني وسيلة لإرتقاء المسلمين في المعارف الإلهية .
الثاني : تبيان القرآن زيادة في البصيرة ، وسمو في مراتب العلم.
الثالث : حضور البيان القرآني في الأمور الإبتلائية الخاصة والعامة .
الرابع : من مصاديق التبيان في القرآن حث المسلمين والناس على إقتباس الدروس والمواعظ من القرآن , ومنع صيرورة المسلم في حيرة من أمره ، فقد تكون الحيرة مقدمة لأمراض ظاهرة أو خفية , جاء القرآن بالشفاء منها بالطاقة الإيجابية .
الخامس : دعوة المسلمين للإنتفاع الأمثل من القرآن .
السادس : حث المسلمين على الشكر لله عز وجل ، وهو بلحاظ الآية أعلاه على وجوه :
الأول : الشكر لله عز وجل على نعمة نزول القرآن , وهو كلام الله عز وجل .
الثاني : نسبة نزول القرآن إلى الله تعالى بأن يخبر سبحانه بأنه هو الذي أنزله بقوله تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ] ( ) لبيان قانون وهو أنه لا يستطيع سكان السموات أن ينزلوا آية واحدة من القرآن .
الثالث : شكر المسلمين لله عز وجل على إتصاف القرآن بأنه شفاء وعلاج للدرن ، وإذ تتعدد إختصاصات الأطباء في هذا الزمان وتتشعب صناعة الأدوية .
فان الآية القرآنية تتصف بكونها شفاء لكل الأمراض العضوية والنفسية والجامع بينها , وقد تترشح وتتولد عنها أنواع من المرض من غير القسمين أعلاه ، أو تتفرع عنهما فان آيات القرآن علاج متقدم زماناً لها ، وفيه دعوة للجوء إليه للشفاء منها مطلقاً .
الرابع : ليس من قطع بأن العلاج الطبي والأعشاب والطاقة الإيجابية تفيد الشفاء بينما يقطع القرآن بأنه شفاء .
الخامس : شكر المسلمين لله عز وجل على عدم ترتب ضرر عرضي على العلاج بالقرآن ، وإلى جانب قانون وهو مجئ الأجر والثواب على تلاوة القرآن ، وعلى التداوي به .
السادس : من مصاديق الشفاء في المقام السلامة من درن الجحود ، ومن الصدود عن الشكر لله الذي هو نعمة وخلق حميد ، وهل من مصاديق خطاب الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) هو كون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إماماً بالشكر لله عز وجل الجواب نعم .
ومن الآيات في المقام إقتداء المسلمين بالأنبياء في شكرهم لله عز وجل وعن سلمان المحمدي قال (كان نوح عليه السلام إذا لبس ثوباً أو طعم طعاماً قال : الحمد لله فسمي عبداً شكوراً ) ( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام (إن نوحا ” إنما سمي عبدا ” شكورا ” لإنه كان يقول إذا أصبح وأمسى: اللهم إني أشهد أنه ما أمسى وأصبح بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد والشكر بها علي حتى ترضى إلهنا ) ( ).
لقد أنعم الله عز وجل على أهل الأرض بأن جعل الآية القرآنية علاجاً وشفاء من غير عوض أو أعراض وأضرار جانبية ، إنما يكون الشفاء بالآية القرآنية طريقاً لتثبيت الإيمان ، وبرهاناً في علم العلاج بالطاقة الإيجابية ، ودعوة للعلماء لإستقراء المسائل والحكم من القرآن وآياته وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) .
إن تجلي العلوم المتعددة من آيات القرآن باعث على الصلاح والتقوى ومنها التوقي من الغلول ، وإجتناب السرقة والتعدي على أموال الغير من باب الأولوية القطعية ، فاذا كان المسلم يجتنب الأخذ خلسة وخفية من المال العام الذي له فيه سهم ببركة آية البحث وما تبعثه على لزوم الإقتداء بسنن الأنبياء فانه من باب الأولوية القطعية إمتناعه عن السرقة ، وقد ذكر الله عز وجل السارق وعقوبته بقوله تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاًمِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
ولم يذكر القرآن آخذ الغلول بعقوبة في الدنيا كقطع اليد أو أقل أو أكثر منها ، ولابد له من أسباب منها :
الأول : للذي يأخذ الغلول حصة وسهم فيها مما يدل على تعليق القطع ، إذ أن السرقة هي الأخذ خفية لمال الغير المدخر ، وليس من قطع في سنة المجاعة في سنة المأكول وغيره مع ضمان حق المالك ولا يقطع العبد الذي هو من بيت المال إذا سرق منه ، وعن الإمام علي عليه السلام قال (مال الله أكل بعضه بعضا) ( ).
الثاني : المراد من الآية هو المجاهد الذي يأخذ من الغنائم التي إشترك هو في جلبها وجمعها ، لذا تذكر آية السرقة المرأة التي تسرق مثلما تذكر الرجل السارق ، وهل يعني هذا خروج المرأة بالتخصص أو التخصيص من أحكام الآية وأنها لا تأخذ الغلول لسقوط الجهاد عنها .
الجواب لا ، فأخذ الغلول عام شامل للرجل والمرأة ، إذ قد يصل الغلول إلى المرأة سواء كانت زوجة لآخذه أو غيرها فتدخره وتحتفظ به وهي تعلم أنه غلول وتعاقب الأيدي لا يمنع من إتحاد وبقاء الحكم وفيه دعوة للناس للإمتناع عن الغلول ، وواقية من الأمراض التي تترشح عن إدخار الغلول والتستر عليه ، وإخفائه ليكون من إعجاز الآية القرآنية أنها واقية من الأمراض وأسبابها ومقدماتها .
الثالث : تأتي عقوبة السارق في الدنيا ، أما عقوبة الذي يغل ويأخذ قطعة من الغنائم خلسة فهي في الآخرة ، وأيهما أشد عقوبة الدنيا أم عقوبة الآخرة ، الجواب هو الثاني ، وهو ما لا يختلف فيه إثنان من المسلمين .
فان قلت إن عقوبة الذي يغل في الآخرة تتجلى بحضور الغلول معه ، وهذا الحضور أعم من العقوبة الجسدية في الآخرة.
والجواب هذا صحيح ، ولكن ذات الحضور خزي وفضح بين الخلائق ، وما كان يحذره من علم أفراد السرية أو الجيش من أخذه الغلول علمت به أجيال الناس من المتقدمين على زمانهم والمعاصرين والمتأخرين عنه , فيتنزه المسلم عن الغلول خشية الخزي وشدة الحساب في الآخرة لينفرد القرآن بضروب من الوقاية والعلاج لم ولن توجد في غيره .
وتبين الآية عالم الحساب والميزان يوم القيامة ، قال تعالى [فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ] ( ).
ومن خصائص يوم القيامة وما فيه من الأهوال إنقلاب الأعمال التي هي أعراض إلى أجسام لتوضع في الميزان ، فينقص الغل من عمل حامله، ولا يحمله إلا صاحبه , بينما يزيده الخروج إلى الجهاد طاعة لله ورسوله وأيهما أعظم .
الجواب هو الثاني أي الخروج كما ان الله عز وجل يضاعفه أضعافاً ، قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا] ( ) .
ومن مصاديق الطاقة السلبية في الإصطلاح الطبي رمي الله عز وجل الذين كفروا بالأوبئة والأمراض ليشغلهم بأنفسهم ، ويمنعهم من إشاعة الفساد في الأرض ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة حينما إستفهموا بصيغة الإنكار عن خلافة الإنسان في الأرض [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
وورد عن الإمام محمد الباقر عليه السلام (إن لله عقوبات في القلوب والابدان: ضنك في المعيشة ووهن في العبادة. وما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب) ( ).
ويمكن تأليف مجلدات من علوم القرآن خاصة بالوقاية والعلاج بالطاقة الإيجابية من جهات :
الأولى : ذكر الآيات القرآنية التي تتضمن في رشحاتها علم العلاج بالطاقة الإيجابية ، وكيف يكون أثرها ونفعها في هذا الباب ، فمن خصائص الآية القرآنية تعدد وجوه النفع وكثرة مصاديق الطاقة وليس من حصر لهذه الآيات ، منها قوله تعالى [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] وما فيها من أسباب السلامة في الدين والدنيا إبتداء من حين الحمل ، (عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدًا) ( ).
ومنها قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) التي يجب على كل مسلم ومسلمة قراءتها عدة مرات في الصلاة اليومية بهيئة الخشوع والخضوع والإنقطاع إلى الله التي يكون عليها المسلمون سواء في صلاة الجماعة أو الإنفراد .
ويكون تقدير الآية بلحاظ مناسبة الموضوع والحكم للطاقة الإيجابية وبخصوص الوقاية والعلاج على وجوه :
الأول : الحمد لله رب العالمين الذي تفضل وأحسن خلقي وهيئتي .
(عن أنس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا نظر وجهه في المرآة قال : الحمد لله الذي سوى خلقي فعدله ، وصور صورة وجهي فحسنها ، وجعلني من المسلمين) ( ).
الثاني : الحمد لله رب العالمين الذي جعلني أكل الطعام وأشرب والماء وأنام وأقعد ، وعن (عبد الله بن قيس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أكل فشبع ، وشرب فروي ، فقال : الحمد لله الذي أطعمني وأشبعني ، وسقاني وأرواني ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) ( ).
الثالث : الحمد لله الذي يشفيني إذا مرضت .
الرابع : الحمد لله رب العالمين الذي جعل الحمد لله واقية من الأمراض والأدران.
وورد في سورة الفاتحة قوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) في ثناء الله عز وجل على نفسه وبيان فضله لبيان فضل الله على المسلمين والناس جميعاً في السلامة من الأدران وتهيئة أسباب ومقدمات العلاج ، فالله عز وجل الذي يدفع الأمراض والهلكات ومقدماتها عن الناس جميعاً برحمته وفضله ، وهو سبحانه المعافي والذي فتح باب الدعاء للناس ليحترزوا به من الأدران وعن (عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِيهِ
يَا أَبَتِ إِنِّي أَسْمَعُكَ تَدْعُو كُلَّ غَدَاةٍ اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ تُعِيدُهَا ثَلَاثًا حِينَ تُصْبِحُ وَثَلَاثًا حِينَ تُمْسِي وَتَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ تُعِيدُهَا حِينَ تُصْبِحُ ثَلَاثًا وَثَلَاثًا حِينَ تُمْسِي قَالَ نَعَمْ يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَدْعُو بِهِنَّ فَأُحِبُّ أَنْ أَسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ) ( ) ، وهل تعدد طرق ووسائل الطاقة الإيجابية وأنها أكثر من أفراد الطاقة السلبية عن الناس من رحمة ومصاديق قوله تعالى [الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) .
الجواب نعم ، وفي هذه الآية دعوة للعلماء والناس جميعاً للنهل من رحمة الله بخصوص التوقي من الأمراض والسلامة من الأدران وتيسير علاجها .
الرابع : قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( ) ويكون من معانيه بلحاظ الوقاية من الأمراض وعلاجها أن عبادة الله عز وجل سبب لمحو الأمراض ، وحرز منها ليكون من أسرار قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) إستعانة المسلم بالله عز وجل كل يوم للوقاية من الأمراض ، وسؤاله الشفاء من الأدران سبع عشرة مرة في اليوم بقراءته لسورة الفاتحة .
ليكون من معاني الآية وجوه :
الأولى : إياك نعبد .
الثانية : إياك نعبد فشافنا من الأمراض .
الثالثة :إياك نعبد فاهدنا للسلامة من الأمراض .
الرابعة : إياك نعبد فتفضل علينا بالجزاء العاجل بالسلامة من المرض ومقدماته .
الخامسة : وإياك نستعين للوقاية من الأمراض .
السادسة : وإياك نستعين لدفع الأسقام التي تداهم الإبدان .
السابعة : وإياك نستعين للوقاية من الأمراض .
الثامنة : وإياك نستعين لطرد الأوجاع والآلام في البدن والنفس.
التاسعة : وإياك نستعين لإصلاحنا لأداء الفرائض من غير سقم أو داء .
العاشرة : فمن فضل الله عز وجل أداء المسلم الصلاة عن قيام ، وقيامه بصيام شهر رمضان ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
ومن الإعجاز الغيري للقرآن مجئ آية من بضع كلمات وهي [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) لتتضمن وجوب حج البيت الحرام على كل إنسان ليفوز به المسلمون مع تقييد هذا الوجوب بالإستطاعة ، ومنها الصحة والعافية وسلامة السرب والطريق والزاد والراحلة فيأتي قوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ) رجاء تحصيل كل فرد من أفراد الإستطاعة ، ولأداء الحج الواجب والمستحب .
الخامس : قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) وهذه الهداية من السلامة الفكرية والنفسية ، وهي أصل لعالم الأقوال والأفعال ، وسبيل للنجاة في النشأتين ، ومن الطاقة الإيجابية في هذه الآيات تسليم المسلم بأن الخير عند الله وان مقاليد الأمور كلها بيده سبحانه ، وليس من حصر للرجاء من فضله وإحسانه .
وقال الإمام علي عليه السلام : ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: قال الله عز وجل: قسمت الحمد بيني وبين عبدي: فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد: (بسم الله الرحمن الرحيم) قال الله عز وجل: بدأ عبدي باسمي حق علي أن اتمم له اموره، وابارك له في أحواله. فإذا قال: (الحمد لله رب العالمين) قال الله عز وجل: حمد لي عبدي، وعلم أن النعم التي له من عندي، والبلايا التي اندفعت عنه بتطولي، اشهدكم أني اضعف له نعم الدنيا إلى نعيم الاخرة، وأدفع عنه بلايا الاخرة، كما دفعت عنه بلايا الدنيا، فإذا قال: (الرحمن الرحيم) قال الله عز وجل: شهد لي بأني الرحمن الرحيم اشهدكم لاوفرن من رحمتي حظه، ولاجزلن من عطائي نصيبه، فإذا قال: (مالك يوم الدين)
قال الله عز وجل: اشهدكم كما اعترف بأني أنا المالك ليوم الدين، لاسهلن يوم الحساب
حسابه، ولا تقبلن حسناته، ولا تجاوزن عن سيئاته. فإذا قال العبد: (إياك نعبد) قال الله عزوجل: صدق عبدي إياي يعبد، لاثيبنه عن عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي، فإذا قال: (وإياك نستعين)( ) قال الله عز وجل بي استعان وإلى التجاء، اشهدكم لاعيننه على أمره ولاغيثنه في شدايده، ولاخذن بيده يوم القيامة عند نوائبه. وإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم)( ) إلى آخرها، قال الله عزوجل: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل، قد استجبت لعبدي، وأعطيته ما أمل، وآمنته)( ).
ومن مصاديق الطاقة الإيجابية القرآنية قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ) لتكون المسائل المستنبطة من الآية أكثر من أن تحصى منها :
الأول : لئن شكرتموني لأزيدنكم من النعم .
الثانية : لئن شكرتم على نعمة الرزق لأزيدنكم بذات موضوع الرزق .
الثالثة : لئن شكرتم على نعمة الرزق لأزيدنكم في طول العمر .
الرابعة : لئن شكرتموني على نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأزيدنكم في الرزق والولد .
الخامسة : لئن شكرتم على نعمة نزول القرآن لأزيدنكم إيماناً .
السادسة : لئن شكرتم على نعمة نزول القرآن لأزيد في عدد المسلمين .
السابعة : لئن شكرتم على نعمة الإسلام لأزيدنكم في الغنائم ) لبيان قانون وهو أن إمتناع المسلمين عن أكل الغلول طريق لمجئ ذات الرزق بالحلال .
الثامنة : لئن شكرتم لأزيدنكم بصيرة .
التاسعة : لئن شكرتم وقد [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) لأزيدنكم علواً ورفعه .
فان قلت هل في زيادة الرزق موضوعية في الطاقة الإيجابية والجواب نعم ، فهي واقية من المرض ووسيلة مباركة للشفاء ، وباعث للسكينة والأمل في النفس ، فمن فضل الله عز وجل بعث الآية القرآنية الطمأنينة في النفس وصرف الحزن والكدورة ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ] ( ).
العاشرة : لئن شكرتم لأزيدنكم في صحة الأبدان ، وفي طالوت ورد قوله تعالى [وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ] ( ).
الحادية عشرة : لئن شكرتم على السلامة من الأعراض لأزيدنكم بتجدد إستدامة السلامة .
الثانية عشرة : لئن شكرتم على نعمة الله الآية القرآنية ، وتحتمل وجوهاً :
الأول : شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة نزول آيات القرآن.
الثاني : شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة نزول كل آية من القرآن .
الثالث : شكر المسلمين لله عز وجل على النعم المتعددة في الآية القرآنية .
الرابع : الشكر لله عز وجل على النفع العام والخاص من الآية القرآنية .
الخامس : الشكر لله عز وجل لما في الآية القرآنية من الأحكام والسنن .
السادس : الشكر لله عز وجل على العلوم والمغيبات في الآية القرآنية .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية الشكر لله ورجاء زيادة النعم من عند الله عز وجل .
الثالثة عشرة : لئن شكرتم على الشفاء من الأمراض لأزيدنكم في العافية والسلامة من الأدران كيفية وزماناً .
الرابعة عشرة : لئن شكرتم الله على الهداية إلى سبل الوقاية والشفاء لأزيدنكم من فضلي .
الخامسة عشرة : لئن شكرتم رحمتي في سلامتكم لأزيدنكم في أسباب السلامة .
لقد أنعم الله عز وجل على الناس وجعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) وفيه كيفية التوقي من المرض والشفاء من الدرن ، وهل تلاوة القرآن ذاتها سلامة من الأمراض , الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ]( ) ليكون علم الوقاية والشفاء بالقرآن أوسع وأعم وأعظم من طب الطاقة الإيجابية .
ومن إعجاز القرآن أنه مدرسة الإنذار الأولى في تأريخ الإنسانية من حين هبوط آدم إلى الأرض وإلى يوم القيامة , ومنه آية البحث .
والإنذار لغة : الإبلاغ مع التخويف ، والإخبار مع التحذير والتنبيه ، وورد ذكر مادة الإنذار في نحو مائة وعشرين مرة في القرآن وجاء الإنذار في السور المكية لتحذير كفار قريش من الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن الأصرار على عبادة الأوثان , كما جاء في السور المدنية .
ومن المكية قوله تعالى (إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) ( ) ويحتمل الغلول الذي يسرق من الغنائم بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : الغلول ليس من الأثقال التي تخرجها الأرض ، وأن القدر المتيقن من الأثقال في الآية أعلاه هم الموتى ، وهو المروي عن ابن عباس ( ).
الثاني : التفصيل فمن الغلول ما تخرجه الأرض , ومنه ما يكون موجوداً خارجها ، أو أنه تلف ويحضره الله عز وجل يوم القيامة .
الثالث : الغلول مما تخرجه الأرض من الأثقال .
وتدل السنة النبوية على إرادة الوجه الثالث أعلاه وتدل عليه أصالة الإطلاق والظهور في معنى الأثقال ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت ، ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي ، ويجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي ، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً) ( ).
و(عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل ما عمل على ظهرها ، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : {إذا زلزلت الأرض زلزالها}( ) حتى بلغ {يومئذ تحدث أخبارها}( ) قال : أتدرون ما أخبارها جاءني جبريل قال : خبرها إذا كان يوم القيامة أخبرت بكل عمل عمل على ظهرها)( ).
قوله تعالى [وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]
جاءت خاتمة آية البحث بصيغة الجملة الأسمية ولغة الخبر التي تفيد القطع بصدقها وصحتها ، وورد الضمير (هم) بصيغة الجمع الغائب ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة الذين يأكلون الغلول ويحضرونه معهم يوم القيامة ، فلا يظلمون بهذا الإحضار وما يترتب عليه من الحساب ، وفيه رد لقول محتمل وشك خفي من المنافقين بأنه إذا كان مؤمناً مجاهداً لما أخذ من الغلول لماذا لا يستره الله فأخبرت آية البحث بأن هذا الإحضار حكم منزه عن الظلم ، ولا عبرة بقول أهل الريب والشك .
وفي التنزيل فرد نوح على الذين كفروا في إستهزائهم به لصناعته الفلك ، إستعداداً للطوفان [قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ] ( ) ويتقيد المسلمون بمضامين آية البحث ويجاهدون في سبيل الله ، ويتعففون عن أكل الغلول ، ولا يلتفتون لسخرية وأقاويل المنافقين والذين كفروا .
الثاني : المقصود الذين كفروا الذين يحاربون الإسلام , وما ينتظرهم من العذاب الاليم .
الثالث : إرادة الذين ظلموا في الحياة الدنيا ونهبوا وتعدوا حدود الله ، وإقترفوا السيئات ، قال تعالى [وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] ( ).
الرابع : المقصود الناس جميعاً ، وبيان قانون وهو خلو يوم القيامة من الظلم سواء في عالم الحساب أو الجزاء ، وحتى الذي يساق إلى النار يقر ويعترف يومئذ بأنه لم يظُلم إنما نال جزاءه وأن الله عز وجل عادل لذا وردت الآيات بالإخبار عن تضرع أهل النار رجاء التخفيف من عذابهم .
وعن أبي الدرداء قال (قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم : يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون بالطعام ، فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع ، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة ، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب ، فيستغيثون بالشراب فيرفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد ، فإذا ذنت من وجوههم شوت وجوههم ، وإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم .
فيقولون : ادعوا خزنة جهنم فيدعون خزنة جهنم إن { ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب }( ) فيقولون { أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال }( ) فيقولون ادعوا مالكاً فيقولون { يا مالك ليقض علينا ربك }( ) فيجيبهم { إنكم ماكثون } فيقولون ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم ، فيقولون { ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين ، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون }( ) فيجيبهم { اخسئوا فيها ولا تُكَلِّمون } .
فعند ذلك يئسوا من كل خير ، وعند ذلك أخذوا في الزفير والحسرة والويل) ( ).
الخامس : المراد الذين يغلون ويسرقون من الغنائم فيحاسبون يوم القيامة بأحضار حسناتهم وسيئاتهم ولحاظ الرجحان بينهما ، وفيه إنذار للمؤمنين بأن الغلول ينقص من الثواب ويفوت على صاحبه مضاعفة بعض الحسنات .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

                                                        العدد :   2730/16
                                                        التاريخ:  24/11/2016

م/القبح الذاتي لخبر وحسد
[وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ] ( )
أطلّت جريدة الشرق الأوسط في عددها الصادر يوم 20/11/2016 بافتراء على الأمة والمقدسات إذ إدّعت حصول أكثر من (169) حالة حمل غير شرعي في زيارة الأربعين للإمام الحسين عليه السلام ونسبته إلى مسؤول في منظمة الصحة العالمية التي سرعان ما بادرت إلى نفيه نفياً قاطعاً لأنه خبر مناف للواقع , وهو خلاف الأخلاق والقيم، ومهنية وآداب الصحافة , وفيه قذف , ونوع جرح لعامة المسلمين والمناسبات الدينية، وفي علم المنطق يحتمل الخبر التصديق والتكذيب .
ومن الأخبار التي تفيد القطع والصدق مضامين آيات القرآن , والسنة النبوية , ومن الأخبار التي يقطع بكذبها ما يناقض البديهية والأنظمة الكونية ، ومنها الجزء أكبر من الكل وخبر هذه الجريدة ، ولا يترشح عن زيارة الأربعين إلا الصلاح وتعظيم شعائر الله باقامة الصلاة في أوقاتها والإصغاء إلى الوعظ والإرشاد، والأمر بالمعروف والتحلي بأخلاق أهل البيت عليهم السلام والنهي عن المنكر والفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتجلت فيها وبصيغ زمن العولمة الجهود والتفاني للقوى الأمنية في مدينة النجف الأشرف وكربلاء لضبط الأمن بوسائل يدوية وحسية شبه بدائية, وهو أحسن تظاهرة دولية لتحدي الإرهاب.
بدليل أنه ذهب إلى أطراف محافظة بابل ليفتك هذا اليوم بنخبة من الشهداء من الزوار, وندعو المؤسسات الأمنية العالمية لإقتباس الدروس من الجهود المتنامية كل عام للمؤسسات الأمنية في العراق , ونرجو تزويدها بالخبرة والأجهزة التقنية الحديثة لأغراض كشف المتفجرات ومحاربة الإرهاب , لأنهم يذبون عن عامة أهل الأرض .
وبخصوص موسم الحج في مكة قال مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل ومجاهد وغيرهم بانه لا يجوز إجارة بيوت مكة، ونهي عن إتخاذ أبواب للدور فيها , ليختار الحاج النزول حيث شاء، ومن كان لداره باب منع من غلقه ، ولم يأت قدح أو قذف من يهودي أو نصراني أو مجوسي لأنه منسك عبادي ينقطع فيه المسلمون إلى طاعة الله , وكذا حال زوار الأربعينية , ولا عبرة بالقليل النادر .
وروي عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن الله حرّم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها).
ومن خصائص زيارة الأربعين وسير وإسراء وإستضافة الزوار الكرام من البصرة إلى كربلاء , وكذا من كركوك وديالى وبغداد إلى كربلاء انعدام تحقق مكان للخلوة بين الرجل والمرأة , ولا يثبت الزنا إلا بالإقرار أو اربعة شهود يرون الميل بالمكحلة، فهل من فيدوهات ووثائق وسجلات تثبت حالات منها , ولابد من الإحتراز في الفروج، قال تعالى[لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ]( ) ولو شهد الشهود الأربعة بانهم رأوه كما يكون حال الرجل على امرأته فلا يحد للزنا , وهل يحدون للقذف، الجواب لا، لأنهم لم يخبروا إلا بما رأوا، ولو كان الشاهد الرابع أعمى , وشهد على شهادة الثلاثة لأنهم عدول لا تقبل شهادته.
والزنا في علم الكلام إدخال فرج في فرج محبوب طبعاً محرم شرعاً .
وكان الأجدر بوزارة الخارجية العراقية تنظيم جولات للسفراء والدبلوماسيين المعتمدين في بغداد للإطلاع ومشاهدة التنظيم الشعبي البديع للزيارة وما ينفي الإفتراء , ويدعو للثناء على عشرين مليوناً يجتمعون في بضعة أيام لتحدي الإرهاب وإدانة ومحاكمة قمع وبطش بني أمية , وليس من أحد منهم ذكراً أو أنثى إلا وهو يعلم قبل وبعد خروجه من بيته قادماً للزيارة أنه يواجه ويتحدى الإرهاب ومستعد لتلقي أذاه تأسياً بالحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه، وهذا العزم والقصد بملاقاة الإرهاب وحده صفحة مشرقة لعموم المسلمين وهو من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا أيها الناس إنما أنا لكم رحمة مهداة).
ويصح أن يدخل ذات إعتقاد عشرين مليون زائر هذا في موسوعة غينتس , وقد وثّقته الملائكة والتأريخ .
ثم ما أكثر وكلاء وزارة الثقافة والمدراء العامين فيها من الشيعة فهل قاموا بتوجيه دعوة للمراسلين ووكلاء الفضائيات لجولات خاصة لتحري الحقائق خاصة بعد نشر هذه الجريدة خبرها الذي أتى على مراسلها ورئاسة تحريرها.
إن هذا الإفتراء لا أصل له وهو إساءة لمئات الملايين من المسلمين , لأن زيارة الأربعين من مصاديق قوله تعالى[قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى]( ) ولا يؤدي هذا الخبر وما فيه من الحسد إلى بث الفرقة والإساءة للصلات بين الشعب العراقي والدول العربية والإسلامية المجاورة في زمان يشوه فيه الإرهاب سمعة الإسلام , وينهش وأعوانه في البلاد واقتصاده وأرواح أهله , ومن ضحاياه ولدنا الشيخ علي الشيخ صالح الطائي ، وقد قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn