المقدمــــة
الحمد لله المنّان الذي جعل إستحضار العباد لمنّه تهذيباً لنفوسهم، وصلاحاً لألسنتهم , وباعثاً للمودة بين الناس، فيذكر المسلم منّ الله عليه فيرأف بغيره من الناس ويحسن إليهم.
الحمد لله الذي تعجز الخلائق عن إحصاء منّه في أي دقيقة من آنات الزمان وأفراده الطولية، ليكون من مصاديق وتقدير قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، هو عجزكم عن تعداد نعمة الله في دقيقة واحدة من أفراد زمان دار الدنيا أو عالم الآخرة , وتخلفكم عن إحصائها خاصة وأن نعم الله عز وجل الخفية على الناس والخلائق أكثر من الظاهرة منها، ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها وردت مرتين في القرآن( ).
وجاءت كل منهما في خطاب عام للناس جميعاً، وبيان فضل الله في الآيات الكونية والنعم الجلية، وتفضل الله بتسخير الليل والنهار والشمس والقمر، والنجوم والكواكب.
الحمد لله الذي أبى إلا أن يتغشى منّه وطوله الكائنات كلها، وأن يجعلها محتاجة لهذا المنّ، في حال وجودها وعدمها، ولا يقدر غيره على فرد من الأفراد غير المتناهية لهذا المنّ، وجاءت فيوضات منّه وطوله في الآية التي يتضمنها هذا الجزء من سِفرنا المبارك وهي[إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ]( )، ليكون بذل الوسع في تفسيرها والكشف عن شذرات من خزائنها من منّ الله عليكم وعلينا، ومدرسة من ذخائر القرآن تدعو إلى الإجتهاد في بيان إعجازه، والسياحة في رياض كنوز هذه الآية.
لقد تقدمت بضع آيات قبل آية البحث كل واحدة منها تتألف من بضع كلمات أو أنها أقل من كلمات آية البحث، وكذا بالنسبة للآيات التي جاءت بعدها، لتأتي آية البحث وتتعلق بمضامين هذه الآيات بلحاظ أن موضوعها يشمل أموراً:
الأول : منّ الله عز وجل على المسلمين.
الثاني : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : الشواهد من النعم والمنّ ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : إستدامة وتجدد النعم والمنّ الإلهي برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : عصمة المؤمنين من الضلالة ومفاهيم الكفر، لتكون هذه العصمة من الشواهد على إرتقاء المسلمين في منازل الرفعة والسمو التي ذكرتها الآية السابقة بقوله تعالى[هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ].
الحمد لله المنّان الذي تفضل علينا بهذا الجزء وهو الجزء الخمسون بعد المائة من(معالم الإيمان في تفسير القرآن) ويختص بتفسير الآية أعلاه من سورة آل عمران، ويصح القول إنما هو مقدمة لتفسير هذه الآية، ولا يتعارض هذا القول مع دأب العلماء على تفسيرها ببضعة سطور [وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
الحمد لله الذي أنزل آية البحث وهي تتضمن الإخبار عن منّ الله عز وجل على المسلمين بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , من خصائص رسالته تعليم المسلمين [الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( )، كما في آية البحث , وفيه دعوة للعلماء لإستقراء مصاديق الحكمة من القرآن والسنة النبوية في كل موضوع من مسائل الحياة الدنيا.
الحمد لله الذي جعل القرآن ربيع القلوب وجلاء البصر، وسمير المنتديات، والسبيل والواسطة في تنمية الأخوة بين المسلمين، وإصلاح ذات البين، وحسن السمت، والرحمة بالناس جميعاً، فحينما يقرأ المسلم قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، يدرك قانوناً وهو أن الإسلام ليس دين قتل وتعذيب على الهوية، والبطش بالغير إنما هو البيان والحجة والبرهان , ونشر ألوية السلام , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] ( ).
ومن الآيات تجلي معاني الرحمة في الدعوة إلى الله بقوله تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يأتي على الناس زمان يخلق القرآن في قلوبهم يتهافتون تهافتاً ، قيل يا رسول الله: وما تهافتهم؟ .
قال : يقرأ أحدهم فلا يجد حلاوة ولا لذة يبدأ أحدهم بالسورة وإنما معه آخرها فإن عملوا قالوا ربنا اغفر لنا ، وإن تركوا الفرائض قالوا : لا يعذبنا الله ونحن لا نشرك به شيئاً , أمرهم رجاء ولا خوف فيهم { أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها})( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال (إن الله يعطي الدنيا من يحب ويبغض , ولا يعطي دينه إلا من يحب ) ( ) لبيان قانون وهو أن النسبة بين الدين والدنيا هي العموم والخصوص المطلق ، فقد يحب العبد زينة الدنيا مع إيمانه ، فيفتح الله سبحانه له أبواب الرزق الكريم ، ويكون في مندوحة وعافية ، أما الذي يجحد بالربوبية والنبوة فقد يعطى الدنيا ولكنه يخسر الآخرة .
ليكون الحديث أعلاه من مصاديق قوله تعالى [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ] ( ) ولبيان موضوعية التقوى وسبل الهداية والرشاد .
ومن خصائص المؤمنين التسليم بأمور:
الأول : إن الله عز وجل هو المنّان.
الثاني : يمّن الله عز وجل على الناس إبتداء من فضله.
الثالث : ليس من حد أو رسم لمنّ الله عز وجل.
الرابع : توارث المسلمين الإجتهاد بالدعاء لسؤال الله من منّه وطوله، وهل منه تلاوة آية البحث، أم أنها جاءت بصيغة الجملة الخبرية، والدعاء إنشاء ومسألة .
الجواب هو الأول فذات تلاوة آية البحث إقرار بمّن ولطف الله عز وجل، ورجاء لإستدامته ومضاعفته، وإن قلت لا ترقى تلاوة آية البحث إلى معنى هذا الرجاء إلا بمّن، الجواب نعم، وهو من مصاديق الإطلاق وعدم الحصر في منّ وطول الله عز وجل، وشاهد على أن منّ الله أعظم من أن تحيط به أوهام البشر.
الخامس : موضوع وموضع وأوان المنّ أمور بمشيئة الله، وفي التنزيل[قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ]( ).
السادس : وجوب الشكر لله عز وجل على منّه وإحسانه.
السابع : المنّان اسم من أسماء الله عز وجل، ومنّه وذكر نعمه لطف بالناس ودعوة لهم للصلاح، وعمارة الأرض بالعبادة، وهو طريق لإقامتهم في النعيم، ليكون من يسلّم بأن الله هو المنّان داعية إلى الهدى .
ومن الآيات أن أسماء الله الحسنى وكونها تسعاً وتسعين اسماً، ولقد حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إحصائها كما ورد عنه أنه قال: إن لله تسعة وتسعين إسماً مائة غير واحد، من أحصاها دخل الجنة)( ).
ليكون من معاني الإحصاء عشق كل اسم منها والتدبر في معانيه وإستحضاره في السراء والضراء , وهو من مصاديق قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا]( ).
ومن الآيات في فلسفة أسماء الله عز وجل أن ذات اسم ( منّان ) قد يطلق على الإنسان ولكنه يكون ذماً وتوبيخاً له لأنه يذكر إحسانه على غيره بما يكدر صفو هذا الإحسان ويفسده , وفيه بيان لقانون وهو ما كان لإنسان أن يحسن لغيره لولا فضل الله , وكل ما عند الناس هو من منّ الله سبحانه.
وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ثلاثة لا يكلمهم الله: المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منه ، والمسبل( ) إزاره( )، والمنفق سلعته بالحلف الفاجرة)( ).
لقد ذكرت آية البحث منّ الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيدته بأنه على المؤمنين لبيان قانون وهو منّ الله على الناس جميعاً من وجوه منها :
الأول : الخلق والنشأة .
الثاني : إستدامة الحياة .
الثالث : الرزق الكريم للفرد والأسرة والطائفة والأمة.
الرابع : صرف البلاء والآفات الأرضية والسماوية عن الناس .
الخامس : تجلي وإطلالة الآيات الكونية على الناس كل يوم وليلة .
السادس : تنزيه الناس عن الإسراف في القتل ودوام الإقتتال بينهم، وهذا التنزيه من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، عندما إحتج الله عز وجل عز وجل على الملائكة الذين أنكروا خلافة الإنسان في الأرض لأنه[يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، لبيان قانون وهو أن هذا القتل محدود، إذ يمنع الله عز وجل من تفشيه، ودوامه لذا فحينما طغى المشركون ورفعوا لواء عبادة الأوثان، وما فيها من إنعدام الزاجر عن الفساد وسفك الدماء، تفضل الله عز وجل برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون الزاجر عنها، وتصبح السبيل إلى الهداية والصلاح، بالإضافة إلى تضمنها تشريع القصاص من غير مائز أو فارق بين الناس ، قال تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
الحمد لله الذي أكرم المسلمين والمسلمات في آية البحث من جهات:
الأولى : إخبار الآية بمنّ وإحسان وفضل الله عليهم .
الثانية : بيان قانون من الإرادة التكوينية وهو من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة عظمى.
الثالثة : لا يقدر على بعثة النبي إلا الله عز وجل ، فصحيح أن الوحي يتم بواسطة ملائكة السماء إلا أنهم وسائط مكرمة لا ينزلون إلا باذن الله، ولا ينقلون من التنزيل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا كلام الله عز وجل، وكان جبرئيل وهو من سادة الملائكة هو الذي يتولى النزول بآيات القرآن، وقد أثنى الله عليه في القرآن وفي أكثر من موضع منها قوله تعالى[نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ]( )، وقال تعالى[مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى]( ).
وقد نزل جبرئيل عليه السلام مع الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر , وأحد , وحنين، وفي المرسل: أن رسول الله قال يوم بدر : هذا جبريل آخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب ( ).
وعن عطية بن قيس قال : وقف جبريل عليه السلام على فرس أخضر أنثى قد علاه الغبار ، وبيد جبريل عليه السلام رمح وعليه درع فقال : يا محمد إن الله بعثني إليك فأمرني أن لا أفارقك حتى ترضى فهل رضيت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم( ).
الرابعة : وصف المسلمين بالمؤمنين، وفيه أمور :
الأول : بين المسلمين والمؤمنين عموم وخصوص مطلق، فكل مؤمن هو مسلم وليس العكس .
الثاني : المؤمن أسمى وأعلى مرتبة .
الثالث : لا ينال العبد بلوغ مرتبة الإيمان إلا بتوفيق ومنّ ورحمة من عند الله عز وجل، وتترشح عنها نعم عظيمة.
فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ( ).
وكأن أول آية البحث يبين بأن المسلمين كانوا مؤمنين فبعث الله عز وجل لهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً] ولكن الآية لها دلالات نبينها في باب التفسير( )، مع موضوعية خاتمة الآية[وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] في المقام .
لبيان حقيقة من جهات :
الأولى : حاجة المسلمين إلى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : بيان فضل الله عز وجل على الناس في منع إستدامة إقامتهم في مستنقع الضلالة .
الثالثة : دعوة الناس للإنتفاع الأمثل من منّ الله عليهم فاذا جاء الطول والإحسان من الله عز وجل فعلى الناس تلقيه بالقبول والشكر والنهل منه بمصاديق ما تقدم قبل آيتين [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ] ( ).
الرابعة : الإخبار عن المشاق التي لاقاها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوة قومه إلى الإسلام ، فلم يكونوا أهل كتاب يتوارثون البشارة برسالته ويتطلعون إليها .
الخامسة : توثيق خاتمة آية البحث لحال عرب الجزيرة وكيف أنهم كانوا يعبدون الأوثان ويئدون البنات ويتباهون بالغزو والنهب والقتل وسفك الدماء والسعي الحثيث للثأر والإنتقام .
وحينما إحتج الملائكة على جعل خليفة في الأرض إذ قالوا لله عز وجل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )أجابهم الله عز وجل بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علمه تعالى منّه على المسلمين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهدايتهم إلى الإيمان وبذل النفوس والأموال في الدفاع عنها ، ويحتمل هذا الدفاع وجوهاً :
الأول : إنه منّ مستقل تفضل الله عز وجل به على المسلمين .
الثاني : إنه من رشحات منّ الله برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي تذكره آية البحث.
الثالث : لما ذكرت آية البحث المسلمين بصفة المؤمنين فإن من خصال المؤمنين الدفاع عن بيضة الإسلام، وفي التنزيل[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
الرابع : لقد شهدت آية البحث للمسلمين بالإيمان , وتلازم المؤمنين ملكة الصبر في طاعة الله.
الخامس : الدفاع عن الإسلام أمر فطري , وهو من رشحات نفخ الله عز وجل في آدم، والإسلام دين الفطرة.
السادس : من منّ الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وعدهم بالنصر والغلبة على الذين كفروا، وهذا الوعد مقدمة ونوع طريق للدفاع عن الإسلام، وهو من العلة التامة للدفاع , لوجود المقتضى وفقد المانع، ومع قلة كلمات آية البحث فإن كل كلمة منها جامعة مانعة، جامعة للعلوم ورشحات المنّ الإلهي، ومانعة من الزيغ ودبيب مفاهيم الضلالة إلى مجتمعات المسلمين.
لقد أراد الله عز وجل بآية البحث بيان فضله في تثبيت قواعد الإسلام، وسنن الإيمان إلى يوم القيامة، وتتجلى النعم في آية البحث من وجوه:
الأول : إبتداء الآية بحرف التأكيد والقطع (لقد منّ) وفيه دعوة للناس للتسليم بما أنعم الله عز وجل به على المسلمين من النعم العظيمة.
الثاني : بيان قانون وهو أن المنّ من الله عز وجل لا يقدر على أي فرد منه إلا الله عز وجل، وفيه دعوة للمسلمين إلى العصمة من الرياء، والرياء ضد الإخلاص ومشتق من الرؤية , لما فيه من قصد إراءة أو سماع الناس عمله الصالح.
وكل كلمة من آية البحث واقية من الرياء , وفيها دعوة للمسلمين لصدق الطاعة بلحاظ كبرى كلية وهي أن آية البحث جعلتهم في غنى تام عن الرياء لأن منّ الله عز وجل على المسلمين كاف لهم في أمورهم وما يحتاجون إليه مع النافلة والزيادة على هذه الحاجة وهو الذي تدل عليه آية البحث .
فلم تقف الآية عند (ويعلمهم الكتاب) إنما قالت(ويعلمهم الكتاب والحكمة) مع تعدد واو العطف في الآية بين كلمة وأخرى أعلاه، إذ أن مجموع واوات العطف في آية البحث أربعة لإرادة عطف مصاديق غير متناهية من منّ وطول الله عز وجل لكل كلمة من آية البحث على مصاديق أخرى مثلها ليغمر فضل الله الناس ببركة الرسالة والتنزيل , قال تعالى [وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً]( ).
حرر في 24/2/2017
25 جمادى الأولى 1438
قوله تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]الآية 164
الإعراب واللغة
لقد : اللام لام الإبتداء والتأكيد ، والمشهور أنها لام قسم مقدر.
قد : حرف تحقيق لأنه جاء مع فعل ماض ، كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى] ( ) أما إذا جاء (قد) مع الفعل المضارع فانه يفيد أحد وجوه :
الأول : التكثير كما في قوله تعالى [قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ]( ).
الثاني : التقليل كما في قوله تعالى [قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا]( )، لبيان ثقل خطبة الجمعة على المنافقين فيلوذون ببعض الصحابة ليغادروا المسجد , كما أنهم يتركون مواضعهم في القتال , وفي التنزيل [وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا]( ).
وورد لفظ عورة مرتين في الآية أعلاه , ولم يرد في غيرها من آيات القرآن .
الثالث : التحقيق والقطع والتأكيد كما في قوله تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ] ( ) إذ يرد (قد) مع الفعل المضارع في القرآن بما يفيد العلم والقطع لأن الله عز وجل أحاط بكل شئ علماً، ولأن الفعل المضارع بمعنى الماضي المتصل وإستدامة الأمر في أفراد الزمان الطولية، ومنه [قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ) .
نعم في الآية أعلاه نكتة وهي بيان حلم الله عز وجل، وعفوه ورأفته بالمؤمنين، وأنه سبحانه [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ]( )، ومنه قوله تعالى[قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ]( ).
الرابع : توقع الحدوث، كما لو قلت : قد يهّل الهلال الليلة ويتعدد معنى اللفظ المتحد(قد) في القرآن بحسب المعنى والدلالة والقرآن، وسعة بحور التأويل فيجتمع التكثير مع التحقيق، والتقليل مع التحقيق.
وقد يأتي الفعل المضارع ولكنه يكون بمعنى الفعل الماضي المتصل بالحال والمستقبل ، فليس من فارق بين مجئ الفعل الماضي أو المضارع في دخول حرف التحقيق عليه لتحقيق القطع والعلم لكبرى كلية وهي أن الوقائع والأحداث عند الله عز وجل قبل حدوثها وبعده , وقد يأتي الفعل بصيغة الماضي لتقريب زمن الماضي من الحال وبيان تداخلهما في قول المؤذن (قد قامت الصلاة ) فلم تقم الصلاة في الزمن الماضي إنما جاء هذا القول للإعلان عن اقامتها في الحال وتستمر في الزمن المضارع فهي قائمة بعد الإعلان ، وكما في عقد النكاح وشرط صيغة الماضي فيه بقول المرأة (زوجتك نفسي )ومنهم من اشترط صيغة الماضي فيه لدلالتها على القطع والإمضاء والتحقق ، والمختار جواز صيغة المضارع إذا كان قصد الزواج ظاهراً فيه , وفي رسالتنا العملية الحجة( ).
(مسألة 114) يشترط في النكاح الصيغة من الايجاب والقبول اللفظيين، فلا يكفي التراضي الباطني، او الايجاب والقبول الفعليين، ولا تكفي الكتابة على الأقوى.
(مسألة 115) الاحوط ان يكون الايجاب بلفظ النكاح او التزويج فلا يكفي بلفظ المتعة لأنه دائم.
(مسألة 116) يشترط بالعقد العربية مع التمكن منها ولو بالتوكيل على الاحوط، ومع عدم التمكن منها يكفي في أية لغة بترجمة اللفظين والاحوط استحباباً صيغة الماضي، والاقوى كفاية المستقبل والجملة الخبرية كأن يقول: “أزوجك”، او “زوجتك نفسي” اذا كان قصد الزواج ظاهراً وعرفاً فيه.
(مسألة 117) الاحوط استحباباً ان يكون الايجاب من الزوجة ويكون مقدماً على القبول فتبدأ هــي وتقول: “زوجتك نفســي”، فيقول: “قبلت”، والاقوى صـحة العكس أي ان يكون الايجاب من الزوج فيقول: “تزوجتكِ بمهر كذا”، او “زوجيني نفسكِ”، فتقول: “قبلت” او “رضيت”.
(مسألة 118) لا يشترط في العقد ذكر المتعلقات فيجوز الاتفاق عليها قبل العقد وابتناؤه عليها.
(مسألة 119) الاخرس يكفيه الايجاب والقبول بالاشارة مع قصد الانشاء وان تمكن من التوكيل على الاقوى.
(مسألة 120) يشترط قصد الانشاء في العقد ولا يجب التطابق بين الايجاب والقبول في الفاظ المتعلقات ما دام الموضوع واحداً فلو قال: “انكحتك فلانة”، فقال: “قبلت التزويج” او بالعكس كفى، او قال: “على المهر المعلوم” فقال الآخر “قبلت” كفى.
(مسألة 121) لو تم التزويج بالمعاطاة والتراضي نسياناً وسهواً وغفلة عن شرط الصيغة او لحصوله في بلد او مجتمع ومحاكم لا تتقيد بشرط الصيغة ولم يلتفت الزوجان او احدهما للأمر ووجوب اشتراط الصيغة والقبول والإيجاب في عقد النكاح فالأقوى صحة هذا العقد والآثار المترتبة عليه ونسب الأولاد، ما دام امره شائعاً ومتسالم عليه عرفاً وفي الواقع اليومي والمعاشي والقانوني، والأحوط اجراء الصيغة من جديد حال العلم بوجوبها وشرطيتها( ).
الخامس : التشكيك : كما في قولك : حان موسم الحج وقد تكون عندي استطاعة .
السادس : التقريب : أي تقريب الأمر، وكأنه حال.
ومن أسماء الله عز وجل (العليم) و (العالم) و (علام الغيوب)، وهو الذي لا تخفى عليه خافية ، فهو سبحانه يعلم الموجود والمعدوم ويعلم دقائق الأشياء ، وفي التنزيل [قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً]( )، إذ تفيد قد في الآية أعلاه القطع واليقين ، ولكنها تتضمن معنى الإمهال والترغيب بالتوبة والإنابة .
منّ الله : منّ : فعل ماض مبني على الفتح .
ولفظ الجلالة فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
على المؤمنين : جار ومجرور متعلق بـ (منّ) .
إذ : ظرف للزمن الماضي مبني في محل نصب منّ .
بعث : فعل ماض مبني على الفتح والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) .
فيهم : في : حرف جر (هم) ضمير في محل جر متعلق بـ(بعث).
رسولاً : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره .
من أنفسهم : جار ومجرور متعلق بمحذوف نعت لـ (رسول ) .
وأنفس : مضاف و(هم) ضمير مضاف إليه .
يتلو : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعة الضمة المقدرة على الواو ، والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) يعود للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
عليهم : جار ومجرور متعلق بـ (يتلو).
آياته : آيات : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الكسرة وهو مضاف والضمير (الهاء) مضاف إليه .
ويزكيهم : الواو حرف عطف ، يزكي : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعة الضمة المقدرة على الياء .
والضمير (هم) مفعول به .
ويعلمهم الكتاب : الواو : حرف عطف .
يعلم : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعة الضمة الظاهرة على آخره والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) .
الكتاب : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره .
والحكمة : الواو : حرف عطف : الحكمة معطوف على الكتاب ، وهو منصوب لأن المعطوف على المنصوب يحمل ذات حركته .
وإن كانوا : الواو : حرف عطف , أن : مخففة عن الثقيلة ، وهي مهملة .
كانوا : كان فعل ماض ناقص مبني على الضم .
والواو : اسم كان .
من قبل : من : حرف جر .
قبل : اسم مبني على الضم في محل جر .
لفي ضلال: اللام هي الفارقة , وهي التي تقع بعد ان المخففة من الثقيلة ومنه قوله (وان كانت لكبيرة)، وسميت هذه اللام فارقة لأنها تفرق بين كل من :
الأولى : (إن) المخففة .
الثانية : (إن) الثقيلة .
الثالثة : (إن) النافية .
في : حرف جر .
ضلال : اسم مجرور متعلق بمحذوف خبر كانوا .
مبين : صفة لضلال مجرور مثله .
والضلال هو الغواية والشر وأسباب الهلكة والعدول والعروف عن جادة الرشاد وضده الهدى، وفي التنزيل حكاية عن ابليس[وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ]( )،
قال الراعي :
وما أَتَيْتُ نُجَيْدَةَ بنَ عُوَيْمِرٍ … أَبْغِي الهُدَى فيَزِيدُنِي تَضْلِيلاَ( ).
في سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة وهو على شعبتين :
الشعبة الأولى : صلة هذه الآية بالآيات السابقة لها ، وهي على وجوه :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بقوله تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ..] ( ) وفيه وجوه :
المسألة الأولى : لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالحياة الدنيا ، وتعجز الخلائق عن عدّ مصاديق وأفراد النعم فيها وهذه النعم وحدها من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
وجاءت الآية أعلاه بصيغة اسم الجنس لبيان التعدد والكثرة في النعم ، ويحتمل المراد من النعم التي يعجز الناس عن إحصائها وجوهاً :
الأول : مجموع النعم التي تفضل ويتفضل بها الله سبحانه.
الثاني : النعم الخاصة بأمر وموضوع معين ومحدد .
الثالث : النعم في الزمن الماضي .
الرابع : النعم التي ترد وتأتي للناس .
الخامس : النعم التي تأتي للفرد ، وتقدير الآية على شعبتين :
الأولى : وأن تعد نعمة الله عليك لا تحصيها .
الثانية : وإن تعدوا نعمة الله على أحدكم لا تحصوها .
السادس : النعم التي تأتي لكل طائفة وأمة وجماعة ، ومنها جهات :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا إن تعدوا نعمة الله عليكم لا تحصوها ، قال تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ] ( ) .
وهل يمكن القول , وان تعدوا النعمة الواحدة لا تحصوها، أم أن صيغة المفرد تدل على الإتحاد، الجواب هو الأول بلحاظ أن كل نعمة من الله توليدية تتفرع عنها نعم عديدة لبيان منافع نعمة الله وأثرها المبارك ورشحاتها المتجددة , وأن كل نعمة تتفرع عنها نعم كثيرة ، وهذه النعم المتفرعة أعم وأكثر من أن يحصيها الناس .
الثانية : يا أهل الكتاب إن تعدوا نعمة الله عليكم لا تحصوها .
الثالثة : يا بني إسرائيل إن تعدوا نعمة الله عليكم لا تحصوها ، وفي التنزيل [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ] ( ) .
وتتجلى في الآية أعلاه نعم عظيمة يعجز الناس عن إحصائها ، منها :
أولاً : نزول الآية القرآنية أعلاه .
ثانياً : نعمة الله على المسلمين بتوجه النداء في آية البحث لبني إسرائيل ، لقد كان العرب في زمان جاهلية ويتقربون بالأوثان إلى الله ، وينظرون إلى اليهود والنصارى على أنهم أهل كتاب وأتباع الأنبياء ، ويسألونهم عن أخبار النبوة .
فجاء القرآن ليجعل المسلمين أهل القرآن والذين يخاطبهم الله عز وجل بواسطة نبيهم وبواسطتهم أهل الكتاب ، ففي كل يوم وإلى يوم القيامة يتلو المسلمون قوله تعالى [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ].
ثالثاً : بقاء نداء [يَابَنِي إِسْرَائِيلَ] إلى يوم القيامة غضاً متجدداً لا تصل إليه يد التحريف ولا يعلوه غبار ، وهل فيه دعوة إلى بني إسرائيل لتعاهد أنسابهم ، الجواب نعم ، خاصة وأنه نسب فيه شرف عظيم لأنه يرجع إلى الأنبياء .
رابعاً : الأمر من الله عز وجل بذكر نعمته هو نعمة عظمى على بني إسرائيل والناس .
المسألة الثانية : لقد ذكرت آية السياق الذي يتبع رضوان الله ، ولم تذكر علة هذا الإتباع ونتائجه ومنافعه وفيه إعجاز يتجلى بتبادر الثناء إلى النفس على الذي يتبع رضوان الله ، والتسليم بالفوز بالثواب العظيم من عند الله عز وجل .
وهو من الإعجاز في مدرسة القرآن الجامعة ، وكيف أنها ترتقي بالمسلم إلى مراتب الإستقراء والإستنباط بما يبعث السكينة في نفسه، والغيظ والحسد في قلوب الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] ( ) .
فمن إعجاز آية السياق أنها جعلت المقارنة والتباين والتضاد بين الذي يتبع رضوان الله ، وبين رجوع الكافر بالخيبة والخسران وسوء العاقبة يوم القيامة، لبيان أن المسلمين والمسلمات يعلمون بأن الإيمان والعمل بأحكام الشريعة الإسلامية طريق قويم وسبيل سالكة لدخول الجنة ، قال تعالى [وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا] ( ) وتفضل الله عز وجل بتثبيت ملكة هذا العلم وحضوره عند المسلم كل يوم بتلاوته سبع عشرة مرة في اليوم وليلته [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
ويمكن إنشاء قوانين بلحاظ الجمع بين آية البحث والسياق منها :
الأول : رضوان الله منّ من عند الله ) إذ يتفضل الله عز وجل ويبين للناس رضوانه وسبل بلوغ مراتبه، والقرآن حاجة للناس ، وتتجلى هذه الحاجة بقوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثاني : في إتباع رسول الله رضوان الله ) وفيه حضور وجوب هذا الإتباع في التصور الذهني عند الإنسان ، وفي الوجود العام في المنتديات والصلات والمعاملات بين الناس ، قال تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ] ( ).
الثالث : قانون منّ الله عز وجل على الناس برضوانه والهداية إلى إتباعه ) .
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بالعقل ليميز بين الحق والباطل , والصدق والكذب , والنافع والضار ، والعمل في سبيل الله وإجتناب ضده العام والخاص , ومن منّ الله بيان ماهية رضوان الله وكيفية إتباعه .
وتفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لأجل إنتهاج الناس سبل النجاح والفلاح ، ليكون من معاني آية السياق وجوه :
أولاً : لقد منّ الله على الناس بالنبوة ، وأنزل الكتب السماوية ليتبعوا رضوانه .
ثانياً : بعثة كل نبي من الأنبياء منّ من عند الله .
ثالثاً : نزول كل كتاب من السماء منّ من الله .
رابعاً : حفظ القرآن لقصص الأنبياء منّ من الله عز وجل .
خامساً : آية البحث منهاج قويم لإتباع رضوانه .
المسألة الثالثة : من خصائص الأمر وطلب الفعل أنه قد يأتي بصيغة الفعل أو المصدر ، أو الجملة الخبرية التي يستقرأ منها الأمر ، ويحتمل قوله تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ] ( ) وجوهاً :
الأول : إرادة الأمر في آية السياق , وتقديرها : يجب اتباع أمر الله عز وجل .
الثاني : جاءت الآية للبيان والكشف والإخبار .
الثالث : تفيد الآية المقارنة بين حال الإيمان وضده .
الرابع : إفادة الثناء على المؤمنين وذم الذين كفروا .
الخامس : إرادة البشارة والإنذار ، البشارة للذين آمنوا بحسن الجزاء واللبث الدائم في الجنان ، والإنذار للذين كفروا وإقامتهم في نار جهنم ، قال تعالى [فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ] ( ) بلحاظ كبرى كلية وهي أن اتباع رضوان الله منّ وإحسان من الله عز وجل وهو واقية من النار .
ويمكن تسمية الحياة الدنيا بأنها دار (منّ الله) فكل ما فيها منّ ونعمة من عند الله عز وجل ورحمة للناس جميعاً والنسبة بين المنّ من الله ورضوانه على وجوه :
الأول : المنّ الإلهي طريق لتحقيق رضوانه سبحانه .
الثاني : يأتي المنّ الإلهي من جهات :
الأولى : إنه مقدمة لإحراز رضوان الله .
الثانية : يصاحب المنّ الإلهي رضوان الله .
الثالثة : يترشح المن الإلهي على العبد بعد إحرازه رضوان الله .
الثالث : رضوان الله سبب للفوز بالمنّ منه سبحانه ، وهل يلزم الدور إذا كان كل منهما سبباً وطريقاً للآخر ، الجواب لا ، للتباين في المصاديق طرداً وعكساً ، إذ أن كلاً من المنّ الإلهي ورضوان الله له أفراد ومصاديق لا متناهية بالإضافة إلى قوانين متعددة في المقام وهي :
الأول : إنتفاء الدور بين أفراد المن الإلهي .
الثاني : المنّ الإلهي توليدي ، كل فرد منه تتفرع عنه أفراد ومصاديق كثيرة .
الثالث : أفراد المن الإلهي خارقة للتصور الذهني ، إذ ان الدور والتسلسل من بنات أفكار الإنسان ذات الصيغة المحدودة والمقيدة في الواقع وحتى في عالم التصور .
الرابع : التفرع المتصل والمتجدد للمنّ الإلهي ، فكل فرد منه تتفرع منه فروع كثيرة مع بقائه على حاله كنعمة وفروعه تكون أصلاً لأغصان متجددة منه ليكون من معاني قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) .
وتتجدد تفرعات المنّ والنعمة الإلهية بما هو أسرع من الإحصاء ، وتلك آية من بديع صنع الله وتأكيد للتحدي في العجز عن الإحاطة بالمنّ الذي يتفضل به الله عز وجل .
الخامس : المن الإلهي على المسلمين والناس جميعاً في الدنيا طريق للمنّ في الآخرة .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين ليتبعوا والناس رضوان الله ) .
من الإعجاز في نظم هذه الآيات مجئ آية البحث بصيغة الجملة الخبرية وصيغة الفعل الماضي ونزول المنّ من عند الله وتغشيه للمؤمنين على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والأفرادي مع بيان موضوع هذا المنّ وهو بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن الآيات أن هذا الموضوع من اللامتناهي في ذاته ونفعه وأثره ، وهو بلحاظ آية السياق على وجوه :
الأول : إنه دليل لاتباع رضوان الله ، وفي الثناء على القرآن قال تعالى [يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
الثاني : ذات المنّ من الله رضوان لله عز وجل .
الثالث : ترشح رضوان الله عز وجل من المنّ ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكأن المؤمنين أمة متكاملة وجاءها المنّ من الله ، بينما الأصل هو أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي المنهاج والعلة لتأليف أمة الإيمان ، ولكن حتى على المعنى أعلاه وأن المؤمنين أمة وجاءهم المنّ ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه يشمل المؤمنين من الأمم السابقة الذي بقوا على منهاج الأنبياء السابقين وهم يتطلعون إلى بعثة النبي وبادروا للتصديق بها والدخول في الإسلام ، قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ).
وبينما أخبرت آية البحث عن وصف ثابت للمسلمين إذ شهدت لهم بالإيمان فان آية السياق وردت بصيغة الجملة الشرطية [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ] ( ) لبيان قانون وهو أن اتباع رضوان الله أمر متجدد كل ساعة من ساعات الحياة الدنيا حيث يداهم الإمتحان والإبتلاء الإنسان ليختار ما فيه رضوان الله .
ومن الإعجاز إنبساط أداء الصلاة اليومية على اليوم وليلته كواجب موسع فمثلاً لا يستغرق أداء صلاة الصبح إلا نحو أربع دقائق ، ومع هذا فان وقتها يمتد من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، قال تعالى [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( ).
وكذا بالنسبة لصلاة الظهر والعصر فان وقت أدائها يمتد إلى ما قبل أول صلاة المغرب مع الأفضلية والأولوية لأداء الصلاة في أول وقتها .
ليكون في هذه السعة في وقت الأداء أمور :
الأول : أنها حجة على الذين كفروا .
الثاني : فيه توبيخ وتبكيت للذين باءوا بسخط من الله .
الثالث : إنه من أسباب رجوع الذين كفروا بسخط وغضب من الله ، لتخلفهم عن أداء ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أن كل فرد من الأوامر والنواهي في بعثته هو منّ من الله عز وجل ، لذا يمكن تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : لقد منّ الله على المؤمنين إذ جاء النبي محمد بوجوب أداء الصلاة ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ).
الثاني : لقد منّ الله عز وجل على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يأمرهم بأداء الصلاة ، وينذر الناس من تركها .
وعن (جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ : بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاَةِ) ( ).
الثالث : لقد من الله على المؤمنين بوجوب أداء الصلاة وإتيانهم لها بقصد القربة إلى الله .
الرابع : لقد منّ الله على المؤمنين بتلاوة آيات القرآن في الصلاة.
الخامس : لقد منّ الله على الصحابة بامامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم في الصلاة .
السادس : صيرورة الصلاة وسيلة مباركة للتنزه عن فعل الفاحشة وإرتكاب الآثام ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ).
السابع : لقد منّ الله عز وجل على المسلمين بالصلاة لنشر شآبيب الأخوة الإيمانية والألفة والمودة بينهم .
فحينما قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) فانه سبحانه شرّع الأحكام وهيئ السبل المباركة وأفاض عليهم بما يجعلهم يتعاهدون سنن الأخوة إلى يوم القيامة ، وهل تنحصر هذه الأخوة بالإتحاد المكاني كالسكن في قرية واحدة أو الإجتماع في محل عمل مشترك ، الجواب لا ، إنما تكون الأخوة عامة لتشمل الموجود والمعدوم والذي في المشرق ومن في المغرب .
وجاء زمان العولمة ليوسع معاني هذه الأخوة ويكون إعجازاً لذات الآية القرآنية ومعانيها، وهكذا في كل زمان ، وطرو أحوال على الناس .
الثامن : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفتهم بأحكام الشريعة بواسطة الصلاة وأدائها ومعاني الأخوة الإيمانية فيها .
التاسع : تحقق الصلح بين المسلمين بالصلاة والإجتماع فيها والإتحاد والتشابه في كيفية أدائها ، ومن الإعجاز في نظم القرآن ، ورود لفظ [فَأَصْلِحُوا] ثلاث مرات في القرآن ، وكلها في موضوع متحد وفي آيتين متتاليتين بقوله تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) لتوخي الحكم التكليفي للمسلمين والمسلمات بوجوب الصلح بين الذين يتخاصمون ويقتتلون منهم .
لبيان وجوب التكليف لجميع المسلمين والمسلمات بالقيام بالصلح بين المسلمين بما هو أعم من الوجوب الكفائي .
وقد قسم الأصوليون الواجب إلى قسمين :
الأول : الواجب العيني الذي يجب على كل مكلف ومكلفة مثل الصلاة والصيام والحج ، فلا يسقط الواجب إلا بقيام المكلف بأدائه ، فلا يستطيع الملك مثلاً إنابة أحد أعوانه وجنوده لأداء فريضة الصيام عنه .
الثاني : الوجوب الكفائي وهو الذي يتوجه فيه الخطاب إلى المسلمين والمسلمات جميعاً ، ولكن إذا قام به أحدهم سقط عن الآخرين .
وقد أنشأنا قسيماً لهما يكون برزخاً بينهما ، ومن مصاديقه التعاون في الواجب الكفائي والتعضيد فيه ، وتوزيع الوظائف والمسؤوليات في أدائه وإنجاحه وتوالي الإتيان به ، فقد يلزم الصلح المذكور في الآية أعلاه بذل الأموال والصبر وتعدد الأفراد والجهات التي تقوم به وتوالي الحث على الصلح وتنجزه .
ومن الآيات أن أداء الصلاة وتعاهد إتحاد كيفيتها من وسائل وسبل الصلح بين المسلمين والشواهد عليه كثيرة ، فلا غرابة أن يكون قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) مادة ووسيلة مباركة لتعاهد الأخوة بينهم ، وعقد الصلح بين المتخاصمين منهم ، ولا يعلم ما يدفعه أداء المسلمين للصلاة من ضروب الخلاف والخصومة إلا الله عز وجل لتكون الصلاة وأداؤها على وجوه :
الأول : تثبيت الأخوة بين المسلمين والمسلمات .
الثاني : منع أسباب الخصومة والقتال بين المسلمين .
الثالث : الصلح بين المتحاربين والمتقاتلين من المسلمين .
فان قلت هل من تعارض بين الوجه الثاني والثالث أعلاه ، الجواب لا ، من جهات :
الأولى : توجهت آية [فَأَصْلِحُوا] بالخطاب إلى جميع المسلمين والمسلمات بلزوم القيام بالصلح .
الثانية : إخبار الآية عن حدوث الإقتتال بصيغة الجملة الشرطية [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] ( ).
الثالثة : حصر الآية لحدوث القتال بين طائفتين من عموم المسلمين .
الرابعة : قدرة عموم المسلمين على عقد الصلح بين المتخاصمين منهم .
الخامسة : إنقطاع البغي بين المتخاصمين بعد الصلح ، وذكر إحتمال البغي من إحدى الطائفتين وحينئذ تقاتل تلك الطائفة إستئصالاً للبغي , وفي قوله [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا] ( ) وهو من مصاديق آية البحث وقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ] ( )من جهات :
الأولى : بيان قانون وجوب الصلح بين المسلمين .
الثانية : الإخبار عن الأخوة والألفة بين المسلمين وعدم حدوث الإقتتال إلا على نحو الإحتمال والفرد القليل .
الثالثة : تقسيم الآية المسلمين إلى أقسام :
الأول : علماء وحكام وعموم المسلمين المأمورين بالإصلاح بين المسلمين .
الثاني والثالث : طائفتان قد تتقاتلان فيما بينهما .
ومن يقاتل أخاه من المسلمين مرة يكون مصلحاً مرة أخرى ببركة أداء الصلاة جماعة وفراداً .
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين لا كمن باء بسخط من الله ) وفيه وجوه :
الأول : لقد أخبرت آيات القرآن بأن الله عز وجل [غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ] ( ) وأنه سبحانه لم يخلق آدم ويتخذه خليفة وتنتشر ذريته في الأرض إلا لنفعهم وإقامتهم في النعيم الدائم الذي لا يأتي إلا باتباع رضوان الله وإجتناب سخطه وغضبه ، ولأن هذا الخلق وإستدامة الحياة نعمة ومنّ عظيم من عند الله عز وجل , وقيدت آية البحث المنّ والطول من الله سبحانه ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه للمؤمنين .
ويحتمل حال الذين باءوا بسخط من الله ممن تذكرهم آية السياق في المقام وجوهاً :
أولاً : عدم شمول الذين سخط الله عليهم بالمنّ من الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : شمول الذين سخط الله عليهم بالمنّ الإلهي في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن على نحو الموجبة الجزئية .
ثالثاً : شمول الذين سخط الله عليهم بالمنّ من الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعرض واحد مع المؤمنين .
رابعاً : التفصيل من جهة الإبتداء والإستدامة ، فقد منّ الله على المؤمنين والناس جميعاً ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إبتداء البعثة ثم يختص المؤمنون بالنعم المترشحة عن المنّ الإلهي من جهة أحكام الشريعة والإمتثال لها .
والمختار هو ثالثاً أعلاه ، ويدل عليه قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) فاذا أنعم الله عز وجل على الناس فان نعمته تتغشاهم جميعاً ولكن فريقاً من الناس يجحدون بالنعمة ويحجبون عن أنفسهم الإنتفاع الأمثل منها ، قال تعالى [أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ] ( ).
فان قلت يصح تقدير آية البحث : ولقد منّ الله على الناس إذ بعث فيهم رسولاً ، الجواب نعم وهو أمر جلي إذ أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً ، ومن الآيات صيرورة أفراد من الأمم المتعددة من أقرب الصحابة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منهم : سلمان الفارسي ، وبلال الحبشي ، وصهيب الرومي ، إلى جانب عدد من اليهود والنصارى الذين دخلوا الإسلام .
إذن ما هو المائز المستقرأ من الجمع بين الآيتين والذي يتجلى بالمفهوم بالتقدير الوارد في أول هذه المسألة وهي الخامسة ، الجواب من جهات تتبين في ذات آية البحث :
الأولى : نسبة الرسول إلى نفس المسلمين وإنتماؤه لهم ، فهو منهم ولهم .
الثانية : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن على المسلمين .
الثالثة : تطهير وتزكية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين بما جاء من الأحكام ليكون من معاني قوله تعالى[وَيُزَكِّيهِمْ]في آية البحث البشارة بقيام المسلمين بالتقيد بأحكام الشريعة الإسلامية ، وفي التنزيل[كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ] ( ).
(عن منصور بن صفية قال : مرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل وهو يقول : الحمد لله الذي هداني للإِسلام وجعلني من أمة محمد . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لقد شكرت عظيماً) ( ).
الرابعة : تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الكتاب وآيات القرآن ، وهل تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين التلاوة من الجهة الثانية أو الرابعة أعلاه ، المختار أنه منهما معاً خاصة وأن الآية في بيان منّ الله على المسلمين .
الخامسة : تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الحكمة وأحكام الحلال والحرام .
السادسة : نجاة المسلمين من الضلالة والغواية وآفة الجهالة ، وكل فرد من الوجوه التالية هو من اللامتناهي وهي :
الأول : منّ الله على المؤمنين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : منّ الله على الناس جميعاً ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : منّ الله على الذين كفروا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : منّ الله على الناس بواسطة منّه وطوله على المؤمنين المذكور في الوجه الأول أعلاه ، فمثلاً تلاوة المسلمين لآيات القرآن لطف من الله عليهم وعلى الناس جميعاً ، وهو من الإعجاز في وجوب قراءة القرآن في الصلاة اليومية والتي تتصف بأمور :
أولاً : إنها واجب مطلق لا تترك بحال بخلاف الصيام مثلاً الذي يستثنى منه المريض والمسافر ، قال تعالى [وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] ( ) .
ثانياً : وجوب الصلاة على كل مسلم ومسلمة وجوباً عينياً .
ثالثاً : إستحباب أداء الصلاة جماعة .
رابعاً : تلاوة القرآن في أكثر ركعات أفراد الصلاة اليومية على نحو جهري ، إذ يجهر المصلي في صلاة الصبح والمغرب والعشاء .
وحتى الصلاة التي يقرأ فيها بالإخفات وهي صلاة الظهر والعصر فان الناس يتدبرون في أسرار وقوف المسلمين بين يدي الله آناً ما بخضوع وخشوع ، وهل هذا الوقوف الذي هو دعوة يومية متجددة إلى الإيمان من مصاديق قوله تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] ( ) بلحاظ أنه من رشحات آيات وإعجاز القرآن الغيري وترجمة المسلمين الأحكام إلى أفعال .
أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو إدراك إعجاز القرآن ، وما فيه من المواعظ والحكم ، والتفكر في دلالاته وإحاطته باللامحدود من الوقائع والأحداث ، .
والمختار هو الثاني لمجئ آية أخرى بذات الألفاظ تبين الإعجاز الذاتي للقرآن ، قال تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا] ( ) .
ولا يتعارض هذا المعنى مع كون وقوف المسلمين بين يدي الله عز وجل في صفوف متراصة ، ومنهم من ذهب في تأويل الآية أعلاه إلى أن المراد تأكيد مصاديق الواقع لعلوم الغيب التي جاء بها القرآن.
قال الزجّاج ( إلى أن معنى الآية لوجدوا فيما نخبرك به مما يبيتون اختلافاً ، أي : فإذا تخبرهم به على حد ما يقع ، فذلك دليل أنه من عند الله غيب من الغيوب) ( ).
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين: لقد منّ الله على الذين باءوا بسخط من الله، وفيه وجوه:
الأول : تقسم آية السياق الناس إلى قسمين بينهما تنافر وتضاد، وتتضمن الإخبار عن عالم الغيب بإستمرار وإستدامة هذا التضاد في النشأة الأخرى ، قال تعالى[وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً]( ).
ويأتي التباين في آخر الآية أعلاه ليؤكد بأن التضاد بين الذين اتبعوا رضوان الله وبين الذين باءوا بسخط منه يزداد ويتسع في الآخرة، فإذا كان المؤمن والكافر يجتمعان في الدنيا في المسكن والجوار والعمل , ويلتقيان في الشراء والبيع وضروب التجارة والمعاملة , ففي الآخرة وعالم الجزاء يكون الفصل بينهما تاماً، قال تعالى في ذم الذين كفروا وبيان ندمهم يوم القيامة حيث لا ينفعهم هذا الندم[وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
ويحتمل قوله تعالى في الآية السابقة[كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ]( )، وجوهاً:
الأول : نزول البلاء والعقوبة العاجلة بالذين كفروا .
الثاني : إرادة التخويف والوعيد للذين كفروا لإقامة الحجة عليهم في الدنيا والآخرة.
الثالث : الإخبار عن سوء عاقبة الذين كفروا، وهو الذي تبينه خاتمة الآية السابقة.
الرابع : التفصيل، فمن الكفار من يحل البلاء بساحته في العاجل، ومنهم من يمهله الله إلى أجل آخر في الدنيا، حتى يتمادى في الكفر، أو يتوب , ومنهم من يرجئه الله إلى يوم القيامة.
وهو من مصاديق الآية , فإن قلت قد ورد لفظ(باء) مرتين في القرآن، وتتعلق الأخرى بالمسلم الذي يفر من الزحف بل تنزل به العقوبة العاجلة والآجلة قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ* وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( )، الجواب إنه قياس مع الفارق، لإبتداء الآية أعلاه بالخطاب للمسلمين بنداء الإيمان، وهو نوع إكرام لهم ، لذا ذهب مشهور المفسرين إلى القول بأنه وعيد خاص في واقعة بدر، قال الواحدي: وأكثر المفسرين على أنَّ هذا الوعيد ، إنَّما كان لمَنْ فرَّ يوم بدرٍ ، وكان هذا خاصَّاً للمنهزم يوم بدرٍ)( ).
وفي بيان حال أهل الجنة ورد قوله تعالى[فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ]( )، وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن فرات بن ثعلبة البهراني( ) في قوله(أني كان لي قرين) قال (ذكر لي أن رجلين كانا شريكين ، فاجتمع لهما ثمانية آلاف دينار ، فكان أحدهما ليس له حرفة ، والآخر له حرفة فقال : إنه ليس لك حرفة ، فما أراني إلا مفارقك ومقاسمك ، فقاسمه ثم فارقه . ثم إن أحد الرجلين اشترى داراً كانت لملك( ) بألف دينار ، فدعا صاحبه ثم قال : كيف ترى هذه الدار ابتعتها بألف دينار؟ فقال : ما أحسنها! فلما خرج قال : اللهم إن صاحبي قد ابتاع هذه الدار ، وإني أسألك داراً من الجنة . فتصدق بألف دينار .
ثم مكث ما شاء الله أن يمكث ، ثم تزوّج امرأة بألف دينار ، فدعاه وصنع له طعاماً ، فلما أتاه قال : إني تزوّجت هذه المرأة بألف دينار قال : ما أحسن هذا؟( ) فلما خرج قال : اللهم إن صاحبي تزوّج امرأة بألف دينار وإني أسألك امرأة من الحور العين .
فتصدق بألف دينار ، ثم أنه مكث ما شاء الله أن يمكث ، ثم اشترى بستانين بألفي دينار ، ثم دعاه فأراه وقال : إني قد ابتعت هذين البستانين بألفي دينار فقال : ما أحسن هذا( )؟ فلما خرج قال: يا رب إن صاحبي قد ابتاع بستانين بألفي دينار ، وإني أسألك بستانين في الجنة . فتصدق بألفي دينار .
ثم إن الملك أتاهما فتوفاهما ، فانطلق بهذا المتصدق ، فأدخله داراً تعجبه ، فإذا امرأة يضيء ما تحتها من حسنها ، ثم أدخله البستانين وشيئاً الله به عليم فقال عند ذلك : ما أشبه هذا برجل كان من أمره كذا . وكذا . . قال : فإنه ذلك ، ولك هذا المنزل ، والبستانان ، والمرأة فقال { إني كان لي قرين يقول أئنك لمن المصدقين}( ) قيل له : فإنه في الجحيم قال { فهل أنتم مطلعون ، فاطلع فرآه في سواء الجحيم}( ) فقال عند ذلك {تالله إن كدت لتردين}( ).
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال: كانا شريكين في بني إسرائيل . أحدهما مؤمن . والآخر كافر ، فافترقا على ستة آلاف دينار ، كل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار . ثم افترقا فمكثا ما شاء الله أن يمكثا ، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن ما صنعت في مالك، أضربت به شيئاً اتجرت به في شيء؟ قال له المؤمن : لا . فما صنعت أنت؟ قال : اشتريت به نخلاً ، وأرضاً ، وثماراً ، وأنهاراً ، بألف دينار فقال له المؤمن : أو فعلت؟ قال : نعم .
فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل ، فصلى ما شاء الله أن يصلي ، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ، ثم قال : اللهم إن فلاناً – يعني شريكه الكافر- اشترى أرضاً ، ونخلاً ، وثماراً ، وأنهاراً ، بألف دينار ، ثم يموت ويتركها غداً .
اللهم وإني اشتري منك بهذه الألف دينار أرضاً، ونخلاً، وثماراً ، وأنهاراً ، في الجنة . ثم أصبح فقسمها للمساكين.
ثم مكثا ما شاء الله أن يمكثا ، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت ، أضربت به في شيء ، اتجرت به؟ قال : لا . قال : فما صنعت أنت؟ قال : كانت ضيعتي قد اشتد على مؤنتها ، فاشتريت رقيقاً بألف دينار ، يقومون لي ، ويعملون لي فيها . فقال المؤمن : أو فعلت؟ قال: نعم .
فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل ، صلى ما شاء الله أن يصلي، فلما انصرف أخذ ألف دينار ، فوضعها بين يديه ثم قال : اللهم إن فلاناً اشترى رقيقاً من رقيق الدنيا بألف دينار ، يموت غداً فيتركهم ، أو يموتون فيتركونه ، اللهم وإني أشتري منك بهذه الألف دينار رقيقاً في الجنة . ثم أصبح فقسمها بين المساكين .
ثم مكثا ما شاء الله أن يمكثا ، ثم التقيا فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك ، أضربت به في شيء ، اتجرت به في شيء؟ قال : لا فما صنعت أنت؟
قال : كان أمري كله قد تم إلا شيئاً واحداً ، فلانة مات عنها زوجها فأصدقتها ألف دينار ، فجاءتني بها وبمثلها معها فقال له المؤمن : أو فعلت؟ قال له نعم .
فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله أن يصلي ، فلما انصرف أخذ الألف دينار الباقية ، فوضعها بين يديه .
وقال : اللهم إن فلاناً تزوّج زوجة من أزواج الدنيا بألف دينار ، ويموت عنها فيتركها أو تموت فتتركه ، اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف دينار حوراء ، يقال امرأة حوراء اي بيضاء حسنة ومنه الحور وهو جمع حوراء ، وعين حوراء مستديرة ، والحور : نقاء بياض العين وصفاء سوادها (ابن الأعرابي، الحَوَر شدَّة سوادِ المُقْلة في شِدّة بياضِها في شدّة بياضِ جلدِ الجَسَد ولا تكونُ الأدْماءُ حَوْراءَ ويقال للبيضاء حَوْرَاءُ لا يُقْصد بذلك حَوَرُ عينيها , ابن السكيت، إنما قال:
عَيْناءُ حَوْراءُ من العِينِ الحِير.
للإتباع كما قالوا إني لآتِيه بالغَدَايَا والعَشايَا، والغداة لا تُجْمع على غدايا ولكنه لِمَكان العَشايَا) ( ).
(وكان الأصمعي يقول: لا يكون في الناس حَوَر) ( ).
(قال قيس بن الخطيم يصف جارية:
حوراء جيداء يستضاء بها … كأنها خوط بانةٍ قصف) ( ).
عيناء : المرأة العيناء التي تتصف عيناها بالحسن والسعة ، ويقال للكلمة الحسناء عيناء ، قال الشاعر :
وعوراء جاءت من أخ فرددتها … بسالمة العينين طالبةٍ عذرا ( ).
أي جاءت منه كلمة عوراء كناية عن كونها قبيحة ولكنه رد بكلمة حسنة .
في الجنة، ثم أصبح فقسمها بين المساكين ، فبقي المؤمن ليس عنده شيء .
فلبس قميصاً من قطن ، وكساء من صوف ، ثم جعل يعمل ويحفر بقوته فقال رجل : يا عبد الله أتؤجر نفسك مشاهرة؛ شهراً بشهر ، تقوم على دواب لي؟ قال : نعم . فكان صاحب الدواب يغدو كل يوم ينظر إلى دوابه ، فإذا رأى منها دابة ضامرة أخذ برأسه فوجأ عنقه ، ثم يقول له : سرقت شعير هذه البارحة . فلما رأى المؤمن الشدة قال : لآتين شريكي الكافر ، فلأعملن في أرضه ، يطعمني هذه الكسرة يوماً بيوم ، ويكسيني هذين الثوبين إذا بليا .
فانطلق يريده ، فانتهى إلى بابه ، وهو مُمْسٍ ، فإذا قصر في السماء ، وإذا حوله البوابون فقال لهم : استأذنوا لي صاحب هذا القصر ، فإنكم إن فعلتم ذلك سره , فقالوا له : انطلق فإن كنت صادقاً فنم في ناحية فإذا أصبحت فتعرض له .
فانطلق المؤمن فألقى نصف كسائه تحته ونصفه فوقه ثم نام ، فلما أصبح أتى شريكه ، فتعرض له ، فخرج شريكه وهو راكب ، فلما رآه عرفه ، فوقف فسلم عليه وصافحه ، ثم قال له : ألم تأخذ من المال مثل ما أخذت فأين مالك؟
قال : لا تسألني عنه قال : فما جاء بك؟
قال : جئت أعمل في أرضك هذه ، تطعمني هذه الكسرة يوماً بيوم ، وتكسوني هذين الثوبين إذا بليا .
قال : لا ترى مني خيراً حتى تخبرني ما صنعت في مالك قال : أقرضته من الملأ الوفي قال : من؟
قال : الله ربي ، وهو مصافحه ، فانتزع يده ثم قال {أئنك لمن المصدقين ، أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمدينون}( ) وتركه ، فلما رآه المؤمن لا يلوي عليه رجع ، وتركه يعيش المؤمن في شدة من الزمان ، ويعيش الكافر في رخاء من الزمان .
فإذا كان يوم القيامة ، وأدخل الله المؤمن الجنة يمر فإذا هو بأرض ، ونخل ، وأنهار ، وثمار ، فيقول : لمن هذا؟ فيقال : هذا لك فيقول : أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟ ثم يمر فإذا هو برقيق لا يحصى عددهم فيقول : لمن هذا؟ فيقال : هؤلاء لك فيقول : أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟ ثم يمر فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة فيها حوراء عيناء فيقول : لمن هذه؟ فيقال : هذه لك فيقول : أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟ ثم يذكر شريكه الكافر , فيقول {إني كان لي قرين ، يقول أئنك لمن المصدقين}.
فالجنة عالية، والنار هاوية ، فيريه الله شريكه في وسط الجحيم، من بين أهل النار ، فإذا رآه عرفه المؤمن فيقول { تالله إن كدت لتردين ، ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين ، أفما نحن بميتين، إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين ، إن هذا لهو الفوز العظيم، لمثل هذا فليعمل العاملون}( ) بمثل ما قدمت عليه قال : فيتذكر المؤمن ما مرّ عليه في الدنيا من الشدة فلا يذكر أشد عليه من الموت)( ).
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على الذين مأواهم جهنم ) .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار المنّ والرحمة والرأفة ، إذ يمهل الله عز وجل الناس ويفسح لهم في الأجل مع إقترانه بالنعم المتصلة والمتجددة , وليس من إنسان إلا ويكون منّ وإحسان الله عز وجل عليه أكبر وأعظم من الذي يتصوره في الوجود الذهني، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
ومن إعجاز القرآن تذكير الناس بمنّ الله عز وجل عليهم ، ليكون هذا التذكير مناسبة للتوبة والإنابة، ووسيلة لنبذ الكفر ومفاهيم الضلالة .
لقد إمتاز الإنسان بالعقل إذ أكرمه الله عز وجل به ليكون بلغة الهداية وآلة التصديق بالأنبياء والتدبر بآيات المنّ التي أنعم الله عز وجل بها على الناس ، عن الإمام الباقر عليه السلام قال : لما خلق الله العقل قال له أدبر فأدبر، ثم قال له أقبل فأقبل، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أحسن منك ، إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أثيب )( ).
وكل آية في القرآن تخاطب العقول وتدعو الناس إلى الإيمان وتندبهم إلى الشكر لله على نعمه المتتالية ، ومنها نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي جاءت لإستدامة الحياة في الأرض وتنزيه الناس من الظلم، والجور والقتل بغير حق .
ولقد حارب كفار قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وسعوا في قتله ، وأصيب بجراحات عديدة في معركة أحد وسقط القتلى من الفريقين مع التباين في الذكر والشأن والعاقبة بينهم وتجلى هذا المعنى في الجدال والإحتجاج بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأبي سفيان في ميدان معركة أحد , وفي الساعة الأخيرة منها وعلى مرآى ومسمع من الفريقين .
إذ قال أبو سفيان وقيل هو رئيس المشركين يومئذ (لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قُولُوا: “اللهُ مَوْلانَا، وَالْكَافِرُونَ لا مَوْلَى لَهُم”.
ثم قال أبو سفيان: يومٌ بيوْم بَدْر، يومٌ علينا ويوم لنا ويوم نُسَاءُ ويوم نُسَر. حَنْظَلَةَ بِحَنْظَلَةَ، وفلان بفلان، وفلان بفلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا سَوَاء. أمَّا قَتْلانَا فَأْحَيْاءٌ يُرْزَقُونَ، وَقْتَلاكُمْ فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ”)( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار رحمته بالناس جميعاً ، وهو المستقرأ من قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) لبيان أنه سبحانه سيغدق أصناف وضروب الرحمة على الناس ذكوراً وأناثاً , شعوباً وقبائل.
ويتجلى بالثروات التي في باطن الأرض والأرزاق الكريمة التي تصل إلى الناس وحلاوة الحياة وعذوبة نظام الأسرة وتعاقب الليل والنهار ، ومغادرة فريق ممن نهلوا من نعيم الدنيا ، وأخذوا نصيبهم منها وأغلبهم بين منتظر أو متمنٍ للموت مع إطلالة ولادات جديدة، فبعد أن يرزق الإنسان أولاداً يفقد أباه وأمه في آيات تدعوه إلى عبادة الله وإدراك عظيم منّ الله عز وجل عليه.
ومن أسرار خلافة الإنسان في الأرض ورحمة الله بالناس أن الولادات أكثر من الوفيات في كل زمان.
وتقدير الجمع بين الآيتين الوارد في هذه المسألة وهي السابعة على وجوه :
الأول : لقد منّ الله على الذين مأواهم جهنم لنجاتهم منها .
الثاني : لقد منّ الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى على الذين مأواهم جهنم ولكنهم أصروا على الصدود عنها .
الثالث : لقد منّ الله على الناس إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ولكن الذين مأواهم جهنم إختاروا محاربته بالسيف والمال .
الرابع : لقد منّ الله على الذين كفروا بالنبوة والتنزيل، ولكنهم أبوا إلا إختيار الإقامة في جهنم .
الخامس : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ليكون حجة على الذين مأواهم جهنم ، ويحتمل المراد من قوله تعالى [كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ] ( ) وجوهاً :
الأول : كفار قريش الذين حاربوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إرادة الذين جحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : الذين أنكروا التوحيد ، وأمتنعوا عن عبادة الله والتصديق بالنبوة والتنزيل .
والمختار هو الأخير أعلاه إذ تبين آية السياق قانوناً عاماً، ووصفاً لحال الذين كفروا في الآخرة ، وسوء إقامتهم، وعلة هذه الإقامة ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ) وهل يشمل الحكم المعدوم الذي لم يولد ممن ينكر النبوة والتنزيل، الجواب نعم .
المسألة الثامنة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على الذين إتبعوا رضوان الله إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ) وفيه وجوه :
الأول : ذكرت آية البحث المؤمنين، وذكرت آية السياق الذين اتبعوا رضوان الله .
ثانياً : نسبة العموم والخصوص المطلق، ويحتمل شعبتين :
الأولى : المؤمنون أعم من الذين يتبعون رضوان الله .
الثانية : الذين يتبعون رضوان الله وينقادون لأوامره أعم من المؤمنين .
ثالثاً : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثاني أعلاه ، ليكون من أسرار ذكر آية البحث للمنّ الإلهي تفضل الله بالأخذ بأيدي المؤمنين للعمل بمرضاة الله والإرتقاء في درجاتها وإجتناب سخطه وغضبه ، ومن ضروب الإيمان جعل رضوان الله بلغة وغاية وسبيلاً للنجاة في النشأتين .
الثاني : لقد أخبر القرآن عن قانون وهو أن الدنيا والآخرة كلها ملك لله عز وجل ، قال سبحانه [فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى] ( ) وتفضل الله وذكر عقابه وعذابه لفرعون بقوله تعالى [فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى] ( ).
وعن (ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كلمتان قالهما فرعون { ما علمت لكم من إله غيري } وقوله {أنا ربكم الأعلى} قال : كان بينهما أربعون عاماً { فأخذه الله نكال الآخرة والأولى}( ))( ).
وكما يبتلي الله عز وجل المتجاهر بالكفر والعناد بالبلاء فان الله عز وجل يرحم المؤمنين في الدنيا باللطف والإحسان منه تعالى ، ومن خصائص المنّ الإلهي تعدده وتفرعه، وهو توليدي ومتجدد إلى يوم القيامة .
الثالث : من خصائص القرآن أن كل آية منه على وجوه :
أولاً : الآية من رضوان الله .
ثانياً : تهدي الآية القرآنية إلى رضوان الله .
ثالثاً : تمنع الآية القرآنية من الصدود عن رضوان الله .
رابعاً : في الآية القرآنية وتلاوتها ترغيب برضوان الله .
وهو من الإعجاز في وجوب تلاوة المسلم والمسلمة لآيات القرآن.
فمن خصائص الآية القرآنية أنها تبعث المسلم على إتباع رضوان الله عنه تلاوته لها أو إستماعه لها ولموضوعية ومنافع هذا الإستماع تولى إمام الجماعة قراءة القرآن في الصلاة .
ومن معاني الجمع بين الآيتين أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الإمام في إتباع رضوان الله , ويدعو الناس لإتباع رضوان الله، وهو الإمام للمؤمنين ، فاذا قال بعضهم كيف السبيل إلى اتباع رضوان الله، يأتيه الجواب من عند الله عز وجل [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
لقد بينت آيات القرآن سنن الأنبياء التي هي أبهى سبل اتباع رضوان الله ، لتكون حاضرة عند المسلمين في ليلهم ونهارهم بقراءتهم وإقتدائهم بسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنن الأنبياء ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
الوجه الثاني : صلة آية البحث بقوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله عز وجل على المؤمنين بما رحمة من الله ) وفيه وجوه :
الأول : من الإعجاز في التقاء المعنى في بدايتي آية البحث والسياق أن كلاً منهما فضل ونعمة من الله عز وجل إذ إبتدأت آية البحث بذكر منّ الله، وإبتدأت آية السياق بذكر رحمة الله ، وهما إذا إجتمعا افترقا وإذا افترقا إجتمعا .
ويمكن التقدير على وجهين :
أولاً : فبما منّ من الله لنت لهم .
ثانياً : فبما رحمة من الله على المؤمنين بعث فيهم رسولاً منهم .
ولكن هذا التقدير للبيان ، وهو متخلف مراتب ودرجات عن الأصل والنص الوارد في القرآن ، فلو نقلت كلمة في القرآن لتكون بدل أخرى لعجز المعنى عن إستيفاء الغايات والمقاصد السامية في ذات الآية القرآنية، ويصح التقدير أعلاه لبيان تعدد المفاهيم القدسية للآية القرآنية .
الثاني : من خصائص القرآن أنه رحمة ومنّ على الناس جميعاً والمسلمين خاصة ، وتنبسط هذه الرحمة والمنّ على كل آية من القرآن، وتتغشى كل مسلم ومسلمة .وينفرد الله عز وجل بالقدرة المطلقة [وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) والرحمة التي تأتي من عند الله عز وجل تمتاز بخصوصية وهي أن مصاديق كثيرة تتفرع عن الرحمة الإلهية.
وهل يختص هذا التفرع بالرحمة الأصلية أم يشمل ما يتفرع عنها، أي أن قوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ] ( ) يحتمل وجوهاً :
أولاً : إختصاص الرحمة بلين ولطف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع المسلمين .
ثانياً : تفرع الرحمة عن لين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين بأن إزدادوا إيماناً وأخلصوا العبادة إلى الله وصبروا في مرضاة الله[وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ]( ).
ثالثاً : تعدد الرحمة المتفرعة عن لين وعطف ورأفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين وكثرة الفروع والأغصان لكل واحدة من مصاديق هذه الفروع.
والصحيح هو الثالث أعلاه فقد نزل القرآن بالأصول من النعم التي تتولد ويتفرع عنها اللامتناهي من النعم ومصاديق الرحمة الإلهية .
الثالث : لقد ذكرت آية البحث المسلمين والمسلمات بصفة المؤمنين ، ليفيد الجمع بين الآيتين أن بلوغ المسلمين مراتب الإيمان بفضل وطول وإحسان من الله عز وجل .
وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : لقد منّ الله على المسلمين بأن صاروا مسلمين .
ثانياً : لقد منّ الله على المسلمات بأن صرن مسلمات .
ثالثاً : لقد منّ الله على المسلمين بأن بلغوا درجة الإيمان ، وهو من مصاديق الآية السابقة [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ] لتكون درجة ومرتبة المؤمنين أسمى المراتب .
رابعاً : لقد منّ الله على المسلمات أن بلغن درجة الإيمان ليكون تقدير الآية السابقة (هن درجات عند الله ).
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين ( لقد منّ الله على المؤمنين فلنت لهم ) .
لقد أراد الله عز وجل للدنيا أن تكون مزرعة لفعل الخيرات ، وأن يتنعم فيها المؤمنون ليدركوا والناس جميعاً أن هذه النعم على وجوه :
الأول : إنها مقدمة لنعم الآخرة .
الثاني : هي مرآة للنعم الإلهية على المؤمنين يوم القيامة ، وفي بيان نعم ومنّ الله عز وجل على أهل الجنة ورد في التنزيل [كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ] ( ) أي في الحياة الدنيا فتأتي الثمار والنعم في الآخرة للمؤمنين فيذكرون الله عز وجل على مجيئها لهم في الدنيا أيضاً ليكون قوله تعالى أعلاه إقراراً منهم بأن الذي كان يأتيهم في الدنيا من النعم إنما هو من فضل ومنّ الله وفيه نكتة وهي من فاته الشكر والإلتفات إلى كون الرزق القليل والكثير من عند الله , فان الله عز وجل يذّكره به ويأتيه بمثله كي يشكر الله عليه وهو من منّ الله في الدنيا والآخرة.
الثالث : الترغيب بالنعم التي أعدّها الله عز وجل للمؤمنين في الآخرة وعن (سليم بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الجنة مائة درجة : فأولها من فضة أرضها فضة ، ومساكنها فضة ، وآنيتها فضة ، وترابها مسك .
والثانية من ذهب أرضها ذهب ، ومساكنها ذهب ، وآنيتها ذهب ، وترابها مسك .
والثالثة لؤلؤ أرضها لؤلؤ ، وآنيتها لؤلؤ ، وترابها مسك . وسبع وتسعون بعد ذلك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) ( ).
وتحتمل درجات الجنة التي جاء بها الحديث أعلاه بلحاظ الدرجات التي تذكرها الآية السابقة وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي بين الدرجات التي تذكرها الآية السابقة بلحاظ التقدير والإضافة في الآية السابقة , وتقدير الجمع بينهما :
أولاً : هم مائة درجة .
ثانياً : لهم مائة درجة .
ثالثاً : المؤمنون في الجنة مائة درجة .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق وإرادة أن المؤمنين أكثر عدداً من الدرجات .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، وأن هناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
الرابع : نسبة التباين بين الأمرين .
والمختار هو الثاني أعلاه ، وأن المؤمنين أكثر وأعم وان درجاتهم أكثر من الدرجات المائة التي ورد ذكرها في الحديث أعلاه
الرابع : حث المسلمين والناس جميعاً على التقوى والصلاح وهو طريق السعي إلى الخلود والإقامة الدائمة في الجنة التي [عَرْضُهَا السَّمَوَ اتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وأخبرت آية السياق عن قانون وهو لين جانب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين وتأكيد أن هذا اللين من رحمة الله ، وفيه دعوة للعلماء المسلمين وغير المسلمين لبيان وجوه الإعجاز في هذا اللين وان الإنسان بقدراته البشرية لا يقدر على الإرتقاء إلى هذا المرتبة من اللين ، ويترشح هذا اللين عن الوحي بلحاظ قوله تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ) وجوهاً :
الأول : إنه إمتثال لأمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل).
الثاني : إنه من أفعال البشر وخصال القائد والإمام .
الثالث : إنه من رشحات الوحي .
الرابع : إنه فرد جامع بين الوجه الثاني والثالث أعلاه بلحاظ الآية أعلاه .
والمختار ان هذا اللين من الوجه الثالث أعلاه ليتجلى الإعجاز فيه، وهو بلغة لغايات حميدة منها :
الأولى : بيان مصداق يومي متجدد لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ حسن خلقه وسمته .
الثانية : ترغيب الناس بالإسلام بواسطة لين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : بيان قانون وهو أن الإسلام لم ينتشر بالسيف ، إنما إنتشر وساد باللين والود وحب الخير للناس , وإرادة فوز المسلمين بالنعيم الأخروي .
الرابعة : فضل الله على أهل البيت والصحابة أن يروا الوحي يتجلى بسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معهم في قوله وفعله وتقريره .
الخامسة : حاجة أهل الأرض لتجلي الوحي في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل يختص هذا التجلي بلين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب إنه أعم ، فمع أن اللين يظهر في كل فعل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان مصاديق الوحي تتجلى في البيان وفي الصبر ، وفي الإمامة وفي الكرم والإحسان وفي تفسيره القرآن ومواضيع ذات اللين وما يترشح عنه ، ويدل عليه قوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ] ( ).
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين إذ لنت لهم ليشكروا الله ) وفيه وجوه :
الأول : الشكر هو ثناء جميل على إحسان ، ومجازاة على فعل الخير ، وقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا (دار الشكر) وهو من أبهى ضروب العبادة ، ومصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
فان قلت هل هناك مغايرة بين الشكر والعبادة لقوله تعالى [وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ] ( ).
وورد عن معاذ بن جبل قال (اخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال إني لاحبك يا معاذ فقلت وأنا أحبك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا تدع أن تقول في كل صلاة رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)( ).
الجواب ليس من مغايرة بلحاظ أن الشكر متعدد الوجوه منها الشكر على العبادة ، وهذا الشكر عبادة أيضاً ، وكأن المعنى أعبدوا الله لعبادتكم له ، وكان الأنبياء أئمة الناس في الشكر لله عز وجل ، وهم الهداة إليه ، قال تعالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ) وفي إجتهاد الأنبياء بشكر الله عز وجل واقية من غلو المسلمين بهم .
ومن منّ الله على الناس أن الشكر في الدنيا لا يختص بقوس الصعود وتوجهه من العباد إلى الله عز وجل بل أن الله عز وجل هو الشاكر لهم ، وفي التنزيل [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ] ( ).
ويشكر المسلمون الله عز وجل بخصوص لين جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم , بلحاظ وجوه متصلة إلى يوم القيامة منها:
الأول : نزول آية السياق التي تتضمن الإخبار عن لين ورفق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين .
الثاني : الوعد الكريم الذي تتضمنه آية السياق وتقدير الآية : فبما رحمة من الله لنت لهم .
الثالث : لين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين صفحة مشرقة من الوحي ، وآية حسية ظاهرة ، وهل يصح عند تعداد معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية القول أن لين جانب النبي للمسلمين معجزة له ، الجواب نعم .
الرابع : عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الغلظة مع المؤمنين .
الخامس : تجلي بركات لين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صلات المسلمين فيما بينهم بدليل ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ]( ).
السادس : لم يأت لين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا عن رحمة وفضل من الله عز وجل مما يدل على أنه لين ورفق لم تشهد له الأرض مثيلاً من جهات :
الأولى : إقتران اللين بالحب والمودة .
الثانية : عموم لين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشموله للمسلمين جميعاً ، وهل يشمل المنافقين ، الجواب إن المنافقين أخرجوا أنفسهم منه باختيارهم إبطان الكفر ، فقال الله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( ).
ولم يختص الأمر على هذا الإبطان، إذ جاءت آيات قرآنية متعددة لبيان قبح فعل المنافقين وإرادتهم الحرب على الإسلام وصد المؤمنين عن الدفاع عن النبوة والتنزيل، وتأتي هذه الأفعال على نحو صدور الفعل من المتحد ومن المتعدد.
ومن الأخير إنسحاب ثلاثمائة منهم من وسط الطريق إلى معركة أحد، وقد ناشدهم بعض الأنصار بترك هذا الإنسحاب والعودة إلى الصف والذب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنهم أدّعوا بأنه لا يحدث قتال، ليجعلوا المؤمنين يفاجئون بالقتال، ويحصل إرتباك عندهم، ولكن الله عز وجل وقاهم الآثار المترتبة على هذا الإنسحاب وهو من مصاديق آية البحث وقوله تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] وحينما خرج المسلمون إلى معركة أحد وعدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر إن صبروا وفيه دعوة لهم لعدم الإنسحاب أو التخاذل، وقال تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
ولقد عصم الله عز وجل باقي الأنصار من الإنصات لقول رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول والرجوع معه، لينالوا بثباتهم شرف الدنيا والآخرة , فحينما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الشوط في طريقهم إلى أحد(انخزل عبد الله بن أُبيّ الخزرجي بثلث الناس فرجع في ثلاثمائة، وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ .
فتبعهم أبو جابر السلمي فقال : أُنشدكم الله في نبيكم وفي أنفسكم. فقال عبد الله بن أُبي : لو نعلم قتالا لاتّبعناكم. وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أُبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا،ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،فذكرهم الله عظيم نعمته بعصمته فقال : {إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} ناصرهما وحافظهما)( ).
الثالثة : توالي وإستدامة لين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع عموم المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، فان قلت تقصد تأسي المسلمين بأخلاق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنته الحميدة في البيت والسوق والعمل.
الجواب هذا من أفراد إستدامة لين النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ومنه إنتفاع أجيال المسلمين والمسلمات من هذا اللين المبارك بالذات وظهوره في أفعالهم ، ومنه محاكاة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في لينه وإقرارهم بنبوته بالتدبر في لينه .
وفي قوله تعالى [وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ]( ).
قال الثعلبي(ذكر المنافقين وقال : {وَمِنْهُمُ} يعني من المنافقين {الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} نزلت في حزام بن خالد،
والجلاس بن سويد،
وإياس بن قيس،
ومخشي بن خويلد،
وسمّاك بن يزيد،
وعبيد بن هلال ورفاعة بن المقداد،
وعبيدة بن مالك،
ورفاعة بن زيد،
كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون ما لا ينبغي،
فقال بعضهم : لا تفعلوا ما يقولون فيقع بنا،
فقال الجلاس : بل نقول ما شئنا،
ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول : فإنّما محمد أذن سامعة فأنزل الله هذه الآية .
وقال محمد بن إسحاق عن يسار وغيره نزلت في رجل من المنافقين يقال له : نهشل بن الحرث،
وكان حاسر الرأس أحمر العينين أسفح الخدين مشوّه الخلقة،
وهو الذي قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :من أراد أن ينظر الى الشيطان فلينظر إلى نهشل بن الحرث، وكان ينمّ حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين فقيل له : لا تفعل، فقال : إنما محمد أذن، من حدّثه شيئاً يقبل، نقول ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له ويصدقنا عليه، فأنزل : {الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ}) ( ).
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين ( لقد منّ الله على المؤمنين ولو كنت فظاً غليظ القلب لأنفضوا من حولك) .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين السياحة في عالم المنّ وآيات الرحمة التي تفضل بها عليهم ، فقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليمنّ الله على الناس بطول وإحسان لم يشهد له التأريخ مثيلاً فتوالت آيات الرحمة لوجوه :
الأول : من فضل الله عز وجل إقتران مصاديق مستحدثة من الرحمة الإلهية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم ير أهل الأرض مثلها.
الثاني : كل آية من القرآن منّ من عند الله عز وجل , وهل يمكن القول بنزول منّ إضافي مع الآية القرآنية هو غير المنّ بها ، الجواب نعم ، فيكون تقدير المعنى في المقام على وجوه :
أولاً : نزول الآية القرآنية منّ من الله عز وجل .
ثانياً : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية منّ وإحسان من الله عز وجل، ويحتمل جهات :
الأولى : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية حال نزولها منّ من الله .
الثانية : كل مرة يتلو فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات الآية القرآنية منّ وطول من الله عز وجل .
الثالثة : كل مرة يتلو فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو يفسر فيها الآية القرآنية منّ متعدد من عند الله .
ولا تعارض بين هذه الوجوه .
ثالثاً : إنصات المسلمين للآية القرآنية منّ من الله عز وجل ، ولا يختص المنّ في المقام بذات الذي ينصت لها بل يشمل غيره ممن يستمع له أو يتعلم منه أو يرثه من جهة النسب أو فعل الصالحات .
رابعاً : البركة المصاحبة للآية القرآنية طول وإحسان من عند الله ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ] ( ).
خامساً : فوز المسلمين والمسلمات بمراتب الإيمان العالية بنزول آيات القرآن وتعاهدهم لها.
سادساً : نزول المنّ الإلهي عقب الآية القرآنية بحفظ وتلاوة المسلمين لها، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
سابعاً : نزول المنّ بالمنّ ، أي أن ذات المنّ الإلهي توليدي يتفرع عنه المنّ من غير سبب أو موضوع .
ثامناً : ترتب الثواب على تلاوة المسلم للآية القرآنية ، وهل يختص الثواب بالتالي للآية القرآنية ، الجواب لا ، إنما يشمل جهات :
الأولى : الذي يستمع للتلاوة وهو من الإعجاز الغيري في قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الثانية : إرادة الثواب لآباء الذي يتلو الآية القرآنية .
الثالثة : الأجر والثواب للذي يكون سبباً لتلاوة المسلم للآية القرآنية والذي يساعده في التلاوة , ويدفع الموانع عنه وعنها .
الرابعة : الذي ينتفع من تلاوة المسلم للآية القرآنية .
وتتعدد مصاديق ووجوه هذا الإنتفاع ومنها :
أولاً : التدبر بمضامين الآية القرآنية .
ثانياً : إتخاذ الآية القرآنية مناسبة ومادة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثالثاً : الإنبعاث لفعل الصالحات التي تأمر بها الآية القرآنية ، وإجتناب السيئات والذنوب التي تنهى عنها الآية القرآنية .
الثالث : تفضل الله عز وجل بهداية أمة عظيمة للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم المسلمون، وفي إبراهيم ورد قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ) فمع أن أذان ابراهيم لا يسمع إلا عن بعد أمتار معدودات ، وحتى في حال دعوته إلى الحج عند تنقله بين الشام والبيت الحرام فان الناس تأتي من كل مكان ، نعم كان ينتقل بين الشام ومكة على البراق الذي تطوى له الأرض مما يدل على تعدد وسعة دعوته للحج وكثرة الناس الذين تصلهم هذه الدعوة، وإقترانها بمعجزة تنقله بالبراق إلى جانب سلامته من الحرق بالنار من قبل نمرود وملئه، وهذه السلامة آية عظمى، قال تعالى[قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( ) .
وهل من ملازمة بين نجاة إبراهيم من النار وبين دعوته الناس للحج وإستجابتهم لها، وكذا بينها وبين بشارته برسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحث الناس على التصديق بها، الجواب نعم.
(أخرج الواقدي وابن عساكر من طريق عامر بن سعد ، عن أبيه قال : كانت سارة عليها السلام تحت إبراهيم عليه السلام ، فمكثت معه دهراً لا ترزق منه ولداً ، فلما رأت ذلك وهبت له هاجر ، أمة لها قبطية . فولدت له إسماعيل عليه السلام ، فغارت من ذلك سارة فوجدت في نفسها وعتبت على هاجر ، فحلفت أن تقطع منها ثلاثة أشراف( )، فقال لها إبراهيم عليه السلام : هل لك أن تبري يمينك؟
فقالت : كيف أصنع؟ قال : اثقبي أذنيها واخفضيها ، والخفض هو الختان .
ففعلت ذلك بها ، فوضعت هاجر في أذنيها قرطين ، فازدادت بهما حسناً .
فقالت سارة: أراني إنما زدتها جمالاً، فلم تقاره على كونه معها وَوَجَدَ بها إبراهيم عليه السلام وجداً شديداً فنقلها إلى مكة ، فكان يزورها في كل يوم من الشام على البراق من شغفه بها وقلة صبره عنها) ( ).
والبراق هي الراحلة التي ركبها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة أسرى به من مكة بقوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] ( ).
الثالث : لما شاء الله عز وجل أن يخلق آدم وأن يجعله [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) تفضل وأخبر الملائكة ، فما كان منهم إلا أن بادروا بالإحتجاج والإستفهام عن صيرورة الإنسان سيداً في الأرض ، وقالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
فجاء الجواب من عند الله[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علم الله عز وجل في المقام أنه يمنّ على المسلمين والناس بآيات ومصاديق من الرحمة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا تقدر على الإحاطة بها الملائكة والخلائق كلها ، لذا ورد الفعل (منّ) ويتألف من حرفين ظاهرين ليتضمن اللامتناهي من مصاديق وأفراد النعيم الإلهي من جهات :
الأولى : ذات لفظ المنّ ومعناه اللغوي والإصطلاحي بلحاظ كبرى كلية وهي أن الفضل والمنّ من عند الله عز وجل متصل وغير منقطع , ويعجز الناس عن شكره لذا فان من وجوه الثناء على الله القول أنه المنان ، وهو الذي يمدح نفسه بآية البحث فيقول [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ) بينما يكون المنّ من الناس وذكرهم لفواضلهم أمراً مذموماً.
الثانية : بعث السكينة في نفوس المسلمين ، وبعثهم على الدعاء والمسألة رجاء المنّ من الله عز وجل عليهم وعلى الناس ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ) وقد يدعو الإنسان لنفسه في حاجة , وتأتي الإستجابة من الله في غيرها .
والله سبحانه هو أعلم بالمصلحة وما ينفع العباد , وأسباب دفع المفسدة، قال تعالى [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) , ومن مصاديق المنّ الإلهي في المقام وجوه :
أولاً : مجئ المنّ الإلهي في ذات موضوع الدعاء .
ثانياً : عدم رجوع الداعي صفر اليدين ، ولله عز وجل ملك السموات والأرض ، وهو أكرم من أن يرجع يد السائل خالية ، وهل يكشف للعبد يوم القيامة عن كل فرد من أدعيته وثوابه عليه وإستجابة الله عز وجل له بما يفوق تصور العبد , الجواب نعم ، وهو من عمومات قوله تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] ( ).
ثالثاً : تفضل الله سبحانه بقضاء ذات حاجة الإنسان التي سأل الله عز وجل عنها ولو بعد حين ، وقد يدعو العبد الله عز وجل بحاجة ثم ينسى هو تلك الحاجة وأنه دعا الله لتنجزها ، ولكن الله عز وجل لا ينسى دعاءه ورغبته فيها ، فيتفضل ويقضيها له ، وبما يخلو من أسباب الضرر أو التعارض مع الرغائب الأخرى والمستحدثة للعبد .
وهل يختص أمر قضاء الله الحاجات ومسائل الدعاء بالمؤمنين أم أنه عام وقد يشمل الذين كفروا ، والمختار أنه مطلق بالنسبة للمؤمنين في دعائهم في الصالحات ، ومقيد في غيرهم فيما فيه النفع الخاص والعام ودفع المفسدة كما لو إجتهد الكافر والمنافق لإرادة هدايته وإصلاح قلبه ، فان قلت قد ورد قوله تعالى [وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ] ( ) .
والجواب من جهات :
الأولى : وردت الآية أعلاه توبيخاً لأهل النار ، لذا ذكر بانه من كلام الله وقيل من كلام خزنة النار ، أي أن مضامين الآية أعلاه ليست في الحياة الدنيا إنما هي في الآخرة .
الثانية : ورد مضمون الآية أعلاه مرتين في القرآن ، إذ ورد بقوله تعالى [لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ] ( ) والمراد دعاء الذين كفروا للأصنام وما يعبدون من دون الله ، والقدر المتيقن من الآية أعلاه من سورة غافر إرادة الدار الآخرة بعد أن ثبت مغادرتهم الدنيا على الكفر والجحود , ولكنه لا يمنع من الإطلاق والإستصحاب القهقري ليشمل دعاء الكافرين بما هم كفار، وكأن الملائكة يقولون قل إدعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال سواء دعاءهم في الدنيا أو في الآخرة، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ]( ) وفيه إنذار من الكفر، وبيان لأضراره وحرمانه صاحبه من اللجوء إلى الدعاء، وإن لجأ إليه فهو لا ينتفع منه إلا بشرط التوبة فيكون حينئذ في ساعة الدعاء متوجهاً إلى الله وهو سبحانه لا يخيب رجاء من سأله .
رابعاً : فوز المؤمن الذي يدعو الله بحبه تعالى له ، وهو من مصاديق نيل الدرجات العالية الوارد في الآية السابقة بقوله تعالى [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ] ومن مصاديق الآية قبل السابقة [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ] ( ).
وبلحاظ الجمع بين الآيتين في أول المسألة الرابعة أعلاه يحتمل تقدير الآية : ولو كنت فظاً غليظ القلب لأنفضوا من حولك ) وجوهاً :
الأول : إرادة عموم المسلمين وأنهم ينفرون من الغلظة , ويتباعدون عن القسوة .
الثاني : إرادة طائفة من المؤمنين والمؤمنات .
الثالث : المراد عموم المؤمنين .
الرابع : تتعلق معاني الإنفضاض بالذين كفروا والمنافقين .
والمختار هو الثاني أعلاه ، وإن طائفة من المؤمنين تنفض من حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه لا يعني الإبتعاد والنفرة أو معصية الأوامر، إنما المراد الخشية من كثرة السؤال والدنو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أما الإستماع له والإنقياد لأوامر الله وما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجعل المسلمين يقيمون في منازل التقوى فهم متقدون به ، قال تعالى [وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ] ( ) .
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين (لقد منّ الله على المؤمنين فأعف عنهم ) لقد جاءت آيات القرآن بوجوب طاعة المسلمين والناس لله عز وجل ، وهذه الطاعة هي علة الخلق وسر عمارة الإنسان للأرض ، وديمومة الحياة فيها ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ] ( ).
ومع مجئ الآيات بالأوامر إلى المسلمين فانها تضمنت التخفيف عنهم والوعد الكريم والبشارة لهم ، ومن التخفيف أمر الله عز وجل لرسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعفو ويتجاوز عن قصورهم وتقصيرهم ، وهل يختص هذا العفو بالصحابة بلحاظ وقوع العفو مباشرة من النبي إلى أهل البيت والصحابة ، الجواب إنه أعم وهو متجدد إلى يوم القيامة ، والنسبة بين العفو والإستغفار كما في قوله تعالى [وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ]( ) هو العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء من وجوه:
أولاً : نزول الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعفو عن المسلمين والإستغفار لهم.
ثانياً : كل من قوله تعالى(فأعف عنهم) (وإستغفر لهم) آية قرآنية.
ثالثاً : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعفو عن المسلمين والإستغفار لهم.
رابعاً : تجلي البركات الخاصة والعامة من قوله تعالى[فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ].
خامساً : ورد كل من العفو والإستغفار في آية واحدة.
سادساً : تلاوة المسلمين كل يوم لكل من(فاعف عنهم) و(استغفر لهم).
سابعاً : يعفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المسلمين ويستغفر لهم فيعفو عنهم الله ويغفر لهم وهو من الأسرار الملكوتية في آية ، وكأن الآية تقول للنبي أعفوا عنهم كي يعفو الله عنهم وأستغفر لهم كي يغفر الله لهم ويزيد في حسناتهم.
وأما مادة الإفتراق فمن وجوه :
أولاً : العفو محو للسيئات والأذى الصادر نحو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أما الإستغفار فهو توسل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله عز وجل ليغفر للمسلمين.
ثانياً : العفو نوع مفاعلة، أما الإستغفار فهو توجه إلى الله بالدعاء.
ثالثاً : تعدد صيغ العفو القولية والفعلية، أما الإستغفار فهو سؤال ومسألة إلى الله عز وجل، وفي قوله تعالى[سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَاسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ]( )، شاهد على عدم إنتفاع المنافقين من هذا الإستغفار، وفيه بعث للنفرة من النفاق في النفوس.
ولكن كيف يكون عفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المسلمين بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى .
الجواب من جهات :
الأولى : تجلي مصاديق العفو بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمثل التي كان يعفو عنه في حياته .
الثانية : دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو عند ربه في [مَقْعَدِ صِدْقٍ] ( ).
الثالثة : بيان القرآن لقانون وأن الله عز وجل يعفو عنهم وأن رسوله يعفو عنهم أيضاً .
وفيه دعوة من الكتاب والسنة لأولي الأمر وحكام المسلمين للتحلي بالعفو تأسيساً وإقتداءً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ( ).
فيعفو الحكام والأمراء عن المؤمنين من جهات :
الأولى : لمقام الإيمان ليكون هذا العفو من الشكر للمسلمين على إيمانهم.
الثانية : لأن الله عز وجل منّ ويمنّ على المسلمين , فيكون من هذا المنّ والإحسان إرشاد وهداية الحكام والأمراء ،قال تعالى [فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى] ( ) وقال تعالى [وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ] ( ).
الثالثة : التأسي الإقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة : الحسن الذاتي للعفو , وموافقته لمناهج الإيمان .
الخامسة : العفو من الحكمة التي علمها رسول الله للمسلمين عامة والحكام خاصة .
ويكون من معاني الجمع بين الآيتين الوارد في أول هذه المسألة وجوه :
الأول : لقد منّ الله على المؤمنين بالعفو عنهم فاعف عنهم يا محمد ) بلحاظ أن فعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي والتنزيل ، وليس بعد عفو الله عز وجل إلا العفو والمغفرة ، ويتجلى في قوله تعالى [فَاعْفُ عَنْهُمْ] ( ) قانون وهو أن كل ما صدر عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من العفو فانه من الله عز وجل ، بأدلة منها آية السياق ، وقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الثاني : من شكر الله عز وجل للمؤمنين أن يعفو الرسول عنهم ) ويمكن إستقراء قانون من آيات القرآن وهو أن منّ الله عز وجل على المسلمين لا يعلمه إلا هو سبحانه ومنه أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعفو عن المسلمين .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لقد أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يعفو عنكم فافشوا العفو بينكم ، قال تعالى في الثناء على المؤمنين [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] ( ).
الرابع : ليس بعد المنّ من الله على المؤمنين إلا العفو ) فان قلت قد منّ الله عز وجل على الناس كلهم مجتمعين ، وهذا صحيح ، وهو سبحانه يمهل الناس ويرجئ حسابهم ، وهذا الإمهال نوع عفو ، ويقربهم إلى مقامات العفو ويرغبهّم فيه ، ومنه آيات القرآن فكل آية تدعو الناس إلى المبادرة إلى طلب عفو الله ، وهو من أفراد الخير قوله تعالى [وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( ) والخيرات جمع خيرة وهي الحسنة والفاضلة من كل شئ .
(فإنْ أردت معنى التفضيل قلت: فلانة خَيْرُ الناس ولم تقل خَيْرَةُ، وفلان خيرُ الناسِ ولم تَقُلْ أَخْيَرُ، لا يُثَنَّى ولا يُجْمَع، لأنَّه في معنى أَفْعَلَ. والخِيرُ بالكسر: الكَرَم. والخِيرَةُ الاسم من قولك: خار اللهُ لك في هذا الأمر. والخِيَرَةُ مثال العِنَبَةِ: الاسم من قولك اخْتارَهُ الله. يقال: محمدٌ خِيَرَةُ الله من خَلْقِهِ) ( ).
ولكن آية البحث قيدت المنّ بأنه خاص بالمؤمنين ، وكذا مضامين آية السياق فبعد ورود الأمر فيها إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعفو جاء الأمر بالإستغفار ، ثم الأمر بالمشاورة بقوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] ( ) مما يدل على إنصراف مضامين الآية إلى خصوص المؤمنين ، وأخذ الحيطة والحذر من المنافقين خاصة وان المشورة من مصاديق البطانة والوليجة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]( ) ( ).
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين فاستغفر لهم ) لقد أنعم الله عز وجل على المؤمنين من جهات :
الأولى : الهداية والرشاد .
الثانية : توالي النعم .
الثالثة : إنتفاع المسلمين الإنتفاع الأمثل من النعم .
الرابعة : بقاء أفراد ومصاديق المن الإلهي حاضرة عند المسلمين ، فكل فرد منها يأتي إلى الدنيا ولا يغادرها ، ليكون شاهداً على إكرام الله عز وجل للمسلمين .
ليكون من معاني قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ) دعوة للمسلمين والناس جميعاً للتدبر في منّن الله الحاضرة وكيف أن كل فرد منها لا يقدر عليه إلا الله عز وجل في موضوع وماهية ذات الشئ وإستدامته والنفع منه .
(عن عبد الله بن عباس أنه حدّث أنه ركب خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا غلام إني معلمك كلمات : احفظ الله يحفظك . احفظ الله تجده تجاهك . وإذا سألت فسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ، وأعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك . رفعت الأقلام وجفت الصحف) ( ).
وما دامت نعم ومنّن الله حاضرة عند المسلمين فانهم أهل أن يستغفر لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ليكون هذا الإستغفار بلحاظ المنّ الإلهي على وجوه :
الأول : ذات الأمر من الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإستغفار للمسلمين منّ ونعمة .
الثاني : إستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة عظمى إذ نالها المسلمون بأمر من الله عز وجل لرسوله ، وحينما أمر الله عز وجل رسوله بالإستغفار للمسلمين والمسلمات فلابد أنه سبحانه ضمن الإستجابة له .
ليكون من الإعجاز في المنّ الإلهي أنه توليدي وكل فرد منه تتفرع عنه مصاديق وأغصان عديدة من المنّ والفضل .
الثالث : تأديب المسلمين بتنمية ملكة إستغفار بعضهم لبعض ، (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ارحموا تُرحموا ، واغفروا يُغفر لكم . ويل لأقماع القول يعني الآذان ويل للمصِّرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) ( ) .
ومن دأب ومنهاج الأنبياء حث الناس على الإستغفار ، كما جاءت آيات قرآنية تحث على الإستغفار والمبادرة إليه على نحو الفور[وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
ولما هبط إبليس إلى الأرض لإغواء إبليس جعل الله عز وجل الإستغفار سلاحاً للوقاية منه ووسيلة لخزيه وذله ، وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( قال إبليس: يا ربّ ، وعزّتك وجَلالكَ لا أَزال أُغويهم مَا دامت أَرواحُهُم في أَجسادِهم!
فقال الله عز وجلّ: وعزّتي وجَلالي لا أزَال أغفِر لهم ما استغفروا لي”)( ).
الرابع : من منافع الاستغفار أنه يفتح أبواباً من المنّ الإلهي ويزيح الحجب عن أخرى مثلها ، وفيه دعوة للمسلمين لإستقبال القادم من الأيام بالعمل الصالح ، والعصمة من الذنوب والسيئات ، لذا وردت الآيات باقتران التوبة والإنابة بالاستغفار ، وفي التنزيل [وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ] ( ) .
وبلحاظ تقدير الجمع بين الآيتين ، يحتمل استغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوهاً :
الأول : إنه فرع المن من الله عز وجل .
الثاني : إنه من المنّ الذي تفضل به الله عز وجل على المسلمين .
الثالث : إنه نوع مقدمة وطريق للمنّ من عند الله .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من فضل الله عز وجل وسعة منّه وطوله على المسلمين .
وفي هذه الآيات شاهد على أن الذين منّ الله عز وجل عليه لأنه مؤمن يستحق من الناس الدعاء وسؤال المغفرة والرأفة به جزاء له على إيمانه ولترغيب الناس باتباع نهج الإيمان ، فمتى ما علم الناس أن المؤمن يأتيه منّ إضافي من عند الله ويستغفر له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويدعو له الناس فأنهم يرغبون بالإيمان ويدركون وجود المقتضي له وفقد المانع عنه قال تعالى [فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا]( ) .
ومن خصائص إستغفار الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين أنه نوع تدارك لما يفوتهم من الإستغفار، وهو من أعظم مصاديق المنّ ، ولا تعارض مع حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإستغفار ، وعدم الملل أو الضجر منه ، وعن (أنس قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله إني أذنبت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أذنبت فاستغفر ربك , قال : فإني استغفر ثم أعود فأذنب فقال : إذا أذنبت فاستغفر ربك ، ثم عاد فقال في الرابعة : استغفر ربك حتى يكون الشيطان هو المحسور) ( ).
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأمر المسلمين بالإستغفار ، ويحثهم عليه .
وقد سلّمنا أن هذا الأمر بأمر ووحي من عند الله ، ولكن هل من مصاديق المنّ الإلهي بقوله تعالى [وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ]الجواب لا ، فإن الأمر للمسلم بأن يستغفر الله غير إستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له ومن المنّ الإلهي في إستغفار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بعث الرأفة فيما بينهم ، وتجلي رقة القلوب في عالم الأفعال ليكون إستغفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة للآخاء والتآلف بينهم وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
المسألة السابعة : لقد منّ الله على المؤمنين وشاورهم يا محمد في الأمر )
لقد ذكر الله عز وجل نبيه الكريم باسمه ، وفيه شرف عظيم له وللسلمين، قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ] ( ) وهل يجوز نداء المسلمين للنبي باسمه الشريف من غير ذكر صفة النبوة والرسالة ، وما يدل على الإكرام الذي يميزه ويخصه من معالم النبوة , الجواب لا ، فلا يصح أن يقول المسلم لرسول الله : يا محمد.
(عن ابن عباس في قوله { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً }( ) يريد ولا تصيحوا به من بعيد : يا أبا القاسم . ولكن كما قال الله في الحجرات { إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله }( ) .
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : أمرهم الله أن يدعوه : يا رسول الله . في لين وتواضع ولا يقولوا : يا محمد . في تجهم) ( ).
المسألة الثامنة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين فشاورهم في الأمر) من الإعجاز في المنّ الإلهي إنطباعه وترشح أثره المبارك على الذين يمنّ الله عز وجل عليهم، ليكون من معاني قوله تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( )، البشارة بارتقاء المسلمين درجات في الفضل بين الناس، لبيان قانون بلحاظ نظم آية البحث والآية السابقة لها، بأن تأتي آية بقانون، ثم تأتي الآية التي بعدها بمصداق لهذا القانون من فضل الله عز وجل.
فلما أخبرت الآية السابقة على أن المسلمين درجات بقوله تعالى[هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ]( )، تفضل الله وأخبر في هذه الآية عن بلوغ المسلمين لهذه الدرجات بمنّ وإحسان من عند الله عز وجل، ومن منافع وآثار المنّ الإلهي على المسلمين صيرورتهم في حال تؤهلهم للمشورة وإبداء الرأي.
لقد منّ الله عز وجل على المسلمين بالحكمة، ومن أعظم النعم أن يكون الفرد أو الجماعة بطانة ووليجة وأهل مشورة للنبي الرسول وبأمر من عند الله عز وجل.
ولو كان إختيار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين للمشورة لكان من فضل الله عز وجل أيضاً لأن النبي لايقول كلاماً ولا يفعل شيئاً إلا بأمر من عند الله عز وجل، قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وجاء ذكر الآية القرآنية لمشورة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين ليدل على أن في هذه المشورة خير الدنيا والآخرة للمؤمنين، وفيه مسائل :
الأولى : الزجر عن توجيه اللوم أو العتاب للنبي لأنه استشار أهل بيته وأصجابه .
الثانية : ترغيب المسلمين بابداء المشورة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إبتداء او استجابة لسؤاله وطلبه المشورة، وتجلى هذا القانون بأبهى صيغه في معركة بدر ومعركة أحد.
الوجه الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا..] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إبتدأت آية السياق بنداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ويتضمن إكرام المسلمين وبيان عظيم منزلتهم بين الناس ، وجاءت بعدها آيات متعددة معطوفة عليها ، وقد ذكرت آية البحث المؤمنين بقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ…] ( ) وتحتمل النسبة بين الذين آمنوا وبين المؤمنين وجوهاً :
أولاً : نسبة التساوي وأن المؤمنين الذين تذكرهم آية البحث هم أنفسهم الذين تبدأ آية السياق بندائهم بلحاظ جهات :
الأولى : سنخية الإيمان الجامعة في كل من آية البحث والسياق .
الثانية : إرادة الإيمان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : إتحاد التكليف إذ يجب على المؤمنين إجتناب محاكاة الذين كفروا في بثهم السموم وقبيح القول بخصوص المسلمين الذين خرجوا للجهاد والمرابطة والضرب في الأرض الذي يكون على جهات :
الأولى : السفر في الأرض في سبيل الله .
الثانية : السفر والضرب في الأرض للتجارة والكسب .
الثالثة : الهجرة لسلامة الدين والإعراض عن الذين كفروا .
ثانياً : نسبة العموم والخصوص المطلق بأن يكون الذين آمنوا أعم وأكثر من المؤمنين .
ثالثاً : نسبة العموم والخصوص من وجه ، وأن هناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين الذين آمنوا والمؤمنين .
والمختار هو الثاني أعلاه إذ أن الذين آمنوا أعم , وكل مؤمن هو من الذين آمنوا وليس العكس، ليكون عدم تشبه المسلم بالذين كفروا في صدّهم عن ضرب المؤمنين في الأرض درجة في الإيمان مناسبة ووسيلة مباركة لنيل مرتبة المؤمن والفوز بالدرجات الرفيعة عند الله ، إذ تبين الآية السابقة [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ] قانوناً وهو أن المسلمين على مراتب متعددة في الإيمان والتقوى وأن الدنيا دار إمتحان لإرتقائهم في الصلاح والتقوى ، وليس بين العبد وبين العلو ونيل الدرجات العالية من برزخ ، وقد تفضل الله عز وجل وذكر في آية البحث منّه وإحسانه على المؤمنين ، وفي كل فرد من هذا المنّ والطول مناسبة للسمو والرفعة , مجتمعين ومتفرقين , لنيل أسمى مراتب العز والشأن عند الله والملائكة والناس ، وقد ورد ذم الذين كفروا بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] ( ).
ولا تختص آيات القرآن بالذم إنما تأتي بالمدح والثناء في سنخية الوجوه التي تضاد وتناقض موضوع الذم ، إذ يلعن الله عز وجل والملائكة والناس أجمعين الذين كفروا ، ويتفضل الله عز وجل ومن بعده الملائكة والناس أجمعين بالثناء على المؤمن .
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا لقد منّ الله على المؤمنين ) من فضل الله عز وجل على الناس إخباره عن منّه وإحسانه وطوله عليهم ، وهذا الإخبار منّ آخر ، وتقديره على وجوه :
أولاً : لقد منّ الله على المؤمنين إذ أخبرهم بمنّه عليهم .
ثانياً : لقد منّ الله على المؤمنين بآية البحث وهي تذكر منهّ وطوله عليهم ،وعلى الناس ويحتمل منّ الله عز وجل على الناس بلحاظ آية البحث وجوهاً :
الأول : بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم منّ من الله عز وجل على الناس مباشرة لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) والمنّ رحمة .
الثاني : المنّ على الناس بواسطة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنته وجهاده في سبيل الله .
الثالث : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منّ على الناس بواسطة المسلمين مجتمعين ومتفرقين .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق المنّ واللطف في آية البحث .
ثالثاً : لقد منّ الله على المؤمنين إذ أخبر في القرآن بأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منّ وإحسان منه سبحانه .
رابعاً : لقد منّ الله على المؤمنين ببلوغهم درجات الإيمان .
ومن رحمة الله بالناس في الدنيا أنه لم يتركهم من غير منّ وطول منه سبحانه ، ويتصف هذا المنّ بأنه متصل وغير محدود أو مشروط ليكون الذي ينتفع منه بالهداية والإيمان من الفائزين بالجنان والذي بشرّهم الله عز وجل بالسعادة والغبطة ، قال تعالى [وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ] ( ) أي غير مقطوع .
وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر ، عن وهب بن منبه عن الإمام محمد الباقر عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى ، لو يسير الراكب الجواد في ظلها ، لسار فيه مائة عام قبل أن يقطعه ، وورقها برود خضر ، وزهرها رياط صفر ، وأقتادها سندس واستبرق ، وثمرها حلل خضر ، وصمغها زنجبيل وعسل ، وبطحاؤها ياقوت أحمر وزمرد أخضر ، وترابها مسك وعنبر ، وكافور أصفر ، وحشيشها زعفران منبع( ) ، والأجوج( ) يتأجج في غير وقود ، ينفجر من أصلها . أنهارها السلسبيل والمعين في الرحيق ، وظلها مجلس من مجالس أهل الجنة يألفونه ، ومتحدث يجمعهم .
فبينما هم يوماً في ظلها يتحدثون ، إذ جاءتهم ملائكة يقودون نجباً جبلت من الياقوت ثم نفخ فيها الروح ، مزمومة بسلاسل من ذهب كأن وجوهها المصابيح نضارة ، وبرها خز أحمر ومرعز أحمر يخترطان . لم ينظر الناظرون إلى مثله حسناً وبهاء ، ولا من غير مهانة ، عليها رحال ألواحها من الدر والياقوت ، مفضضة باللؤلؤ والمرجان فأناخوا إليهم تلك النجائب .
ثم قالوا لهم : ربكم يقرئكم السلام ويستزيركم لتنظروا إليه وينظر إليكم ، وتحيونه ويحييكم ، وتكلمونه ويكلمكم ويزيدكم من فضله وسعته إنه ذو رحمة واسعة وفضل عظيم ، فتحوّل كل رجل منهم على راحلته حتى انطلقوا صفاً واحداً معتدلاً ، لا يفوت منه شيء ولا يفوت اذن ناقة إذن صاحبتها ، ولا بركة ناقة بركة صاحبها ، ولا يمرون بشجرة من أشجار الجنة إلا أتحفتهم بثمرها ورجلت لهم عن طريقها كراهية أن تثلم صفهم ، أو تفرق بين رجل ورفيقه ، فلما دفعوا إلى الجبار تعالى , تجلى لهم في عظمته العظيم يحييهم بالسلام . فقالوا : ربنا أنت السلام ، ومنك السلام ، لك حق الجلال والإِكرام .
قال لهم ربهم : أنا السلام ومني السلام ولي حق الجلال والاكرام ، فمرحباً بعبادي الذي حفظوا وصيتي ورعوا عهدي وخافوني بالغيب ، وكانوا مني على كل حال مشفقين .
قالوا : أما وعزتك وعظمتك وجلالك وعلو مكانك ، ما قدرناك حق قدرك ، ولا أدينا إليك كل حقك ، فأذن لها بالسجود لك .
قال لهم ربهم : إني قد وضعت عنكم مؤنة العبادة وأرحت لكم أبدانكم طالما نصبتم لي الأبدان وأعنتم لي الوجوه ، فالآن أفضتم إلى روحي ورحمتي وكرامتي وطولي وجلالي وعلو مكاني وعظمة شأني . فما يزالون في الأماني والعطايا والمواهب حتى أن المقصر منهم في أمنيته ليتمنى مثل جميع الدنيا منذ يوم خلقها الله تعالى إلى يوم يفنيها . قال لهم ربهم : لقد قصرتم في أمانيكم ورضيتم بدون ما يحق لكم ، فقد أوجبت لكم ما سألتم وتمنيتم ، وألحقت بكم وزدتكم ما قصرت عنه أمانيكم . . . فانظروا إلى مواهب ربكم التي وهبكم . . . . فإذا بقباب في الرفيق الأعلى ، وغرف مبنية من الدر والمرجان ، أبوابها من ذهب ، وسررها من ياقوت وفرشها من سندس واستبرق ، ومنابرها من نور يفور من أبوابها ، وأعراصها نور مثل شعاع الشمس عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضيء ، وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهر نورها . فلولا أنه مسخر إذن لالتمع الأبصار .
فما كان من تلك القصور من الياقوت الأبيض ، فهو مفروش بالحرير الأبيض .
وما كان منها من الياقوت الأحمر ، فهو مفروش بالعبقري .
وما كان منها من الياقوت الأخضر ، فهو مفروش بالسندس الأخضر . وما كان منها من الياقوت الأصفر ، فهو مفروش بالأرجوان الأصفر مبوبة بالزمرد الأخضر والذهب الأحمر والفضة البيضاء . قواعدها وأركانها من الجوهر ، وشرفها قباب من لؤلؤ ، وبروجها غرف من المرجان . فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم ، قربت لهم براذين من ياقوت أبيض منفوخ فيها الروح ، بجنبها الولدان المخلدون ، بيد كل وليد منهم حكمة برذون من تلك البراذين ، ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء منظومة بالدر والياقوت ، سروجها سرر موضونة مفروشة بالسندس والاستبرق ، فانطلقت بهم تلك البراذين تزف بهم وتطأ رياض الجنة ، فلما انتهوا إلى منازلهم وجدوا الملائكة قعوداً على منابر من نور ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم ويهنوهم كرامة ربهم .
فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تطاول به عليهم ربهم مما سألوا وتمنوا ، وإذا على باب كل قصر من تلك القصور أربعة جنان { جنتان }( ) { ذواتا أفنان } وجنتان { مدهامتان } ( )و { فيهما عينان نضاختان}( ).
وفيهما من كل فاكهة زوجان و { حور مقصورات في الخيام }( )فلما تبوأوا منازلهم واستقروا قرارهم .
قال لهم ربهم[فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا]( ).
قالوا : نعم وربنا . قال : هل رضيتم بثواب ربكم؟ قالوا : ربنا رضينا فارض عنا .
قال برضاي عنكم حللتم داري وصافحتم ملائكتي ، فهنيئاً لكم عطاء غير مجذوذ ليس فيه تنغيص ولا تصريد( ) ، فعند ذلك قالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وأحلنا دار المقامة من فضله ، لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب ، إن ربنا لغفور شكور ) ( ).
لقد جاءت آية السياق بنداء الإيمان ، وتضمنت آية البحث الإخبار عن منّ الله عز وجل على المؤمنين ، وهو من مصاديق الرفعة والعز التي تؤكدها الآية السابقة بقوله تعالى [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ] وفيه بعث للحسرة والأسى في نفوس الذين كفروا بأن يأتي النداء خاصاً للمسلمين والمسلمات، وتذكر آية البحث المنّ والطول من الله على المؤمنين .
ومن الإعجاز في هذه الحسرة أنها متزلزلة تدعو صاحبها إلى التوبة والإنابة ، وهو من مصاديق الرحمة في قوله تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) ليكون من إعجاز آية البحث الغيري أن ما يرد فيها من الثناء المتعدد للمؤمنين حث مبارك للذين كفروا لدخول الإسلام .
وهل يكون منه تلاوة المسلمين لقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) الواجب على كل مسلم ومسلمة قراءته كل ركعة من الصلاة اليومية لأنه جزء من سورة الفاتحة التي لا تخلو منها ركعات الصلاة ، بلحاظ أن المراد من ضمير المتكلم (نا) هو عموم الناس وأن المسلمين والمسلمات يدعون لكل إنسان بالهداية إلى النهج القويم ، الجواب نعم , خاصة وأن آيات سورة الفاتحة تبدأ بالبسملة والحمد لله بصفة الربوبية المطلقة للناس جميعاً ، وبأسمائه الحسنى الرحمن الرحيم ، فمن رحمة الله تعالى إرادة المعنى الأعم من ضمير المتكلم (نا) حتى وأن قصد المسلم خصوص المسلمين والحصر بالمسلمين والمسلمات .
فان قلت إن خاتمة الآية مانع من العموم في الدعاء في آية الصراط أعلاه لقوله تعالى [غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ] ( ) والجواب لا دليل على كون ذم الكفار والمشركين الذين سخط الله عليهم برزخاً وحاجزاً دون عموم الدعاء والسؤال في الآية أعلاه .
وعموم الدعاء في آية الفاتحة يتجلى بمنً الله على المسلمين , ويدل على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف ، وفيه أخبار للمسلمين والناس بأن الدعاء سلاح الأنبياء وهو وسيلة لهداية الناس وإلى يوم القيامة ، قال تعالى [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ] ( ).
المسألة الثالثة :تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا لقد منّ الله عليكم ).
من أسرار الجمع بين آية البحث وآية السياق وهي السادسة والخمسون بعد المائة من سورة آل عمران تعدد المنّ الإلهي من وجوه :
الأول : المنّ والطول الذي تتضمنه آية البحث .
الثاني : المنّ والإحسان الذي تفيده آية السياق .
الثالث : المنّ والإحسان المترشح عن الجمع بين الآيتين أعلاه .
وإبتدأت كل واحدة منهما بالمن والطول من عند الله عز وجل على المسلمين إذ أن نداء الإيمان ( يا أيها الذين آمنوا ) منّ من وجوه :
الأول : تفضل الله باعانة المسلمين لبلوغ مراتب الإيمان ، وقد جاءت آيات عديدة من القرآن تفيد نسبة الهداية إلى الله عز وجل بقوله تعالى [وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
وهل نداء الإيمان دعوة إلى دار السلام ، الجواب نعم ، ويمكن تأسيس قانون وهو كل آية من القرآن دعوة متعددة ومتجددة إلى دار السلام ، أما من جهة التعدد فلأن كل جملة وشطر من الآية القرآنية يتضمن معنى ودلالات قدسية تدعو إلى الغبطة والسعادة والفرح بفضل ومنّ الله ، وتبعث على العمل الصالح والسعي إلى الإقامة في النعيم الأخروي .
وأما بالنسبة لتجدد هذه الدعوة فيتجلى بوجوه منها تلاوة عموم المسلمين كل آيات القرآن كل يوم وعلى نحو الوجوب في الصلاة والمناجاة بين المسلمين للعمل بأحكام آيات القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] ( ).
(وروى جابر بن عبد الله قال : خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فقال رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا فقال له اسمع سمعت أذناك واعقل عقل قلبك إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله الملك والدار الإسلام والبيت والجنة وأنت يا محمد الرسول فمن أجابك دخل في الإسلام ومن دخل في الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل مما فيها ] ثم تلا يعني رسول الله صلى الله عليه و سلم { ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}( ) وتلا قتادة و مجاهد : { والله يدعو إلى دار السلام }( ), وهذه الآية بينة الحجة في الرد على القدرية لأنهم قالوا : هدى الله الخلق كلهم إلى صراط مستقيم والله قال : { ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم})( ).
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : استتبعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم فانطلقنا حتى أتينا موضعاً لا ندري ما هو؟ فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه في حجري ، ثم إن نفراً أتوا عليهم ثياب بيض طوال وقد أغفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال عبد الله: فارعبت منهم .
فقالوا : لقد أعطى هذا العبد خيراً إن عينه نائمة والقلب يقظان ، ثم قال بعضهم لبعض : اضربوا له ونَتَأوَّلَ نحن أو نضرب نحن وتَتَأَوَّلون أنتم .
فقال بعضهم : مثله كمثل سيد اتخذ مأدبة ، ثم ابتنى بيتاً حصيناً ، ثم أرسل إلى الناس فمن لم يأت طعامه عذبه عذاباً شديداً . قال الآخرون : أما السيد فهو رب العالمين ، وأما البنيان فهو الإِسلام ، والطعام الجنة ، وهذا الداعي فمن اتبعه كان في الجنة ومن لم يتبعه عذب عذاباً أليماً ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استيقظ فقال : ما رأيت يا ابن أم عبد؟
فقلت : رأيت كذا وكذا! فقال : أُخفِيَ علي مما قالوا شيء ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هم نفر من الملائكة ) ( ).
الثاني : من معاني نداء الإيمان الوعد من عند الله عز وجل بتثبيت المسلمين في مقامات الهدى والإيمان ، وتقديره : يا أيها الذين آمنوا ستبقون مؤمنين ) وهذا البقاء من منّ الله عز وجل على المسلمين، ومن أسبابه وسبله أداء المسلم الصلاة اليومية خمس مرات في اليوم .
الثالث : نداء الإيمان في القرآن شهادة من عند الله عز وجل للمسلمين بارتقائهم إلى منازل الهدى ، ومقامات الصلاح وهو من مصاديق قوله تعالى [أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ] ( ) ومن منّ الله عز وجل أن نداء الإيمان ورد في القرآن تسعاً وثمانين مرة ، بينما ورد النداء العام [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ] عشرين مرة ، ونداء يا بني آدم خمس مرات ، أربعة منها في سورة الأعراف وحدها منها قوله تعالى [يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ] ( ) .
لتكون كثرة نداء الإيمان بذاتها وبالمقارنة مع غيره من النداءات في القرآن برهاناً جلياً على إكرام الله عز وجل للمسلمين ومنّه عليهم ، وفيه دعوة لهم لتعاهد الإيمان .
المسألة الرابعة :يا أيها الذين آمنوا لقد بعث الله فيكم رسولاً من أنفسكم) ويمكن تسمية الحياة الدنيا (دار الإيمان) .
وهذا الاسم والمسمى ومصاديقه المتجددة نعمة عظمى من عند الله عز وجل تطل على أهل الأرض كل يوم ، وهي ذات صبغة مباركة من جهات:
الأولى : تغشي هذه النعمة لكل إنسان من أهل الأرض .
الثانية : تدعو نعمة دار الإيمان المسلمين للشكر لله عز وجل على منّه وإحسانه .
الثالثة : دعوة الناس للهداية والإيمان .
الرابعة : زجر الذين كفروا وحثهم على ترك أوهام الضلالة .
الخامسة : من المنّ وتوالي الثواب للمؤمن حتى بعد وفاته ، و( عن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ وعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ وْوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) ( ).
(عن فضالة بن عبيد الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله ، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ، يؤمن من فتاني القبر) ( ).
السادسة :إنتفاع الأموات من دار الإيمان بدعاء الصالحين لهم.
ومن خصائص دار الإيمان أمور :
الأول : سكن آدم وحواء في الجنة قبل هبوطهما إلى الأرض ، ليكون من منّ الله عز وجل على المسلمين والناس أجمعين أن أبويهم أقاما في الجنة آناً ما لتكون هذه الإقامة الموقتة مقدمة وبشارة السكن الدائم للمؤمنين في الجنان وعلى نحو الخلود وفي مأمن من وسوسة وإغواء إبليس .
الثاني : إبتداء عمارة الإنسان للأرض بالنبوة ، فآدم أول البشر يسكن في الأرض وهو أول نبي ، وهل هو أقل الأنبياء من جهة عدد الذين بعث لهم .
الجواب لا ، فقد كانت معه حواء كما أدرك أولاده وأحفاده وعمرّ آدم كثيراً ، (عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما أهبط الله آدم إلى الأرض مكث فيها ما شاء الله أن يمكث ، ثم قال له بنوه : يا أبانا تكلم . فقام خطيباً في أربعين ألفاً من ولده وولد ولده فقال : إن الله أمرني فقال : يا آدم أقلل كلامك ترجع إلى جواري) ( ).
ومن الأنبياء من بعث إلى قريته أو إلى أهل بيته .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (إن الله عز وجل عرض على آدم ذريته عرض العين في صور
الذر نبيا ” فنبيا ” وملكا ” فملكا ” ومؤمنا ” فمؤمنا ” وكافرا ” فكافرا “، فلما انتهى إلى داود عليه السلام قال: من هذا الذي نبأته وكرمته وقصرت عمره ؟ قال: فأوحى الله عز وجل إليه: هذا ابنك داود عمره أربعون سنة، وإني قد كتبت الآجال وقسمت الأرزاق وأنا أمحو ما أشاء واثبت وعندي ام الكتاب، فإن جعلت له شيئا من عمرك ألحقته له، قال: يا رب قد جعلت له من عمري ستين سنة تمام المائة، قال: فقال الله عز وجل لجبرئيل وميكائيل وملك الموت: اكتبوا عليه كتابا فإنه سينسى، قال: فكتبوا عليه كتابا وختموه بأجنحتهم من طينة عليين .
قال : فلما حضرت آدم عليه السلام الوفاة أتاه ملك الموت فقال آدم: يا ملك الموت ما جاء بك ؟ قال: جئت لأقبض روحك، قال: قد بقي من عمري ستون سنة فقال: إنك جعلتها لابنك داود، قال: ونزل عليه جبرئيل وأخرج له الكتاب، فقال أبو عبد الله عليه السلام: فمن أجل ذلك إذا اخرج الصك على المديون ذل المديون، فقبض روحه) ( ).
المسألة الخامسة : يا أيها الذين آمنوا لقد منّ الله عليكم بأن يتلو عليكم رسوله آياته ) .
تغبط الخلائق كلها الناس الذين منّ الله عز وجل عليهم ببعثة الأنبياء بالوحي والتنزيل لتكون البشارة والإنذار في قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( ) فرع الوحي ، وقد أفردنا في هذا السِفر في تفسير الآية القرآنية بابين :
الأول : الآية بشارة ( ).
الثاني : الآية إنذار( ) .
وليس من حصر للمنّ الإلهي في تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن ، وهو باب من الفضل مفتوح إلى يوم القيامة ، ومن خصائص الآية القرآنية أنها تتضمن تذكير المسلمين بمنّ الله عز وجل عليهم، وفيه دعوى لهم للثبات على الإيمان .
لقد كان الإمتحان بالبقاء على الإسلام شاقاً وأمراً عسيراً ، فقد جهّز مشركوا قريش الجيوش العظيمة للإجهاز على المسلمين وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقطع نزول آيات القرآن ، وأبى الله عز وجل إلا إستدامة هذه التلاوة بشكر المسلمين لله عز وجل على تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن , وتوالي هذه التلاوة من جهات :
الأولى : تعاقب آيات التنزيل .
الثانية : نزول آيات من القرآن بحسب الوقائع والأحداث .
الثالثة : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن كل يوم في الصلاة .
الرابعة : بيان تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن , سواء التفسير القولي أو الفعلي .
الخامسة : قراءة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات من القرآن في خطبه حسب المناسبة والموعظة (عن صفوان بن يعلى، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ على المنبر: { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ})( ).
(وعن عمرة بنت عبد الرحمن عن أخت لعمرة قالت : أخذت [ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ] ( ) من فيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة)( ).
المسألة السادسة : لقد منّ الله على المؤمنين بأن يتلو عليهم رسوله آية [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ] ( ) .
لقد إبتدأت آية البحث بالإخبار عن منّ الله على المؤمنين ، وفيه تحد لهم وللناس بعجزهم عن إحصاء منّه عليهم ، وذات العجز عن الإحصاء منّ آخر من الله , ومن أسرار المنّ الإلهي على المؤمنين أنه طريق البركة والفوز برضوان الله .
ومما يميز المنّ من الله عز وجل عن المنّ من الناس ، أن المنّ بين الناس محدود وقد يترتب عليه أثره عند صاحب المن ، أو لا يترتب عليه أثر عند الذي يأتيه المنّ أما بالنسبة للمنّ من الله عز وجل فهو مطلق ومتصل , والله عز وجل غني عنه ، وهو سبحانه صمد أحد منزه عن التغيير والأثر والتأثر ، أما منّه على المؤمنين فلابد له من منافع أكثر وأعظم من أن تحصى فلا يقف منّ الله عز وجل على المؤمنين بالتلاوة للعمل بأحكامها ، وهو من خصائص (مدرسة التلاوة ) إذ أن منافع تلاوة آيات القرآن تختلف عن تلاوة أي كتاب ، وهو من أسرار القرآن وإعجازه الذاتي والغيري ، ومن مصاديق منّ الله على المؤمنين الذي تذكره آية البحث ، لذا قدمت الآية التلاوة على التزكية وتعليم الكتاب وتعليم الحكمة.
الشعبة الثانية : صلة هذه الآية بالآيات المجاورة التالية، وفيها وجوه :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بالآية التالية [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا…]( )، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : جاءت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية التي تبين منهاج النبوة، وحاجة الناس إليها، وتفضل الله عز وجل بالبرهان المتعدد والحجة الدائمة غير المنقطعة، وبما يصلح الناس لأمور الدنيا والآخرة، لقد إبتدأت آية البحث بصيغة الفعل الماضي (لقد منّ الله) لبيان مصاحبة النعمة والفضل الإلهي للمسلمين .
فلما تفضل الله عز وجل وجعل الإنسان[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فانه سبحانه لم يتركه وشأنه، ولم يبقه في حال من الحيرة والإندهاش والإرباك فيما يفعل بل منّ وتفضل على الناس بالنبوة والهداية إلى الإيمان والإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل , قال تعالى[إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ]( ).
ووردت آية السياق بصيغة الخطاب الموجه إلى المسلمين وبلغة الماضي(او لما اصابتكم) وليس من حصر لمنافع هذه الصيغة على المسلمين إذ أن الماضي المؤلم باعث للمؤمنين على بذل الوسع للتدارك، وإجتناب مقدمات ذات المصيبة أو ما يشبهها.
لقد ذكرت آية البحث وجوهاً عظيمة من لطف وإحسان الله على المسلمين وهي:
الأول : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن.
الثالث : نسبة الآيات إلى الله عز وجل وأنها آياته سبحانه.
الرابع : تزكية وتطهير المسلمين بالرسالة والتنزيل والسنة وأداء الفرائض والعبادات.
ويكون هذا التطهير على وجوه:
أولاً : القضية الشخصية، وتطهير المسلم بإصلاحه وتهذيب قوله وفعله بالإيمان، وهو من الإعجاز في ذكر الآية للمسلمين بصفة المؤمنين.
ثانياً : القضية النوعية وإرادة تطهير الأسرة والطائفة والأمة.
ثالثاً : إرادة تزكية وتطهير عالم الأفعال، ونبذ الأخلاق والعادات المذمومة.
لقد جاء الإسلام بحرمة شرب الخمر، والربا والزنا وعقوق الوالدين والظلم وأكل المال بالباطل، قال تعالى[وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ]( ).
المسألة الثانية : لما ذكرت آية البحث منّ الله على المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع تعداد مصاديق الفضل والمنّ الإلهي وفيوضات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تتغشى المسلمين والمسلمات وإلى يوم القيامة لينهلوا والناس جميعاً منها، وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم.
الثاني : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً ليؤمن أهل الأرض ويصلحوا أنفسهم ليوم الجزاء .
الثالث : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ليمتنع الناس عن محاربتهم.
الرابع : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً للأمن والسلامة من المصيبة وتجددها.
الخامس : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً، وصاروا ينتصرون مع قلتهم وذلهم على الذين كفروا، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، ومن الإعجاز في آية السياق أنها لم تقل(ولقد هزمكم الذين كفروا في معركة أحد كما هزمتموهم في معركة بدر , أو لقد إنتصروا عليكم كما انتصرتم عليهم) لأن الكفار لم ينتصروا في معركة أحد، ولم ينهزم المسلمون في معركة أحد، إنما ذكرت الآية المصيبة لبيان آية السياق لأمور من مصاديق منّ الله الذي تذكره آية البحث وهي:
الأول : نصر الله للمسلمين يوم معركة بدر.
الثاني : نزول المصيبة بالمشركين يوم بدر.
الثالث : حلول الخسارة والمصيبة بالمشركين يوم معركة أحد من جهات:
الأولى : كثرة قتلى المشركين , ففي أول القتال قتل حملة لواء قريش واحداً بعد آخر، قال تعالى[كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ]( ).
الثانية : عجز الذين كفروا عن تحقيق أي من غاياتهم الخبيثة.
الثالثة : رجوع جيش المشركين خائبين إلى مكة، قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الرابعة : عدم هزيمة المسلمين في معركة أحد مصيبة عظمى عند المشركين وسبب لبعث الحزن في نفوسهم وهل هو من مصاديق قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( )، الجواب نعم ولبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية , فأكثر المعارك خسارة للمسلمين وهي معركة أحد سبب لبعث الخوف والفزع في قلوب المشركين، فكيف الحال بالنسبة للمعارك الأخرى.
الرابع : تعدد أفراد ومصاديق المصيبة التي لحقت بالمشركين يوم معركة بدر، إذ كانت على جهات متعددة منها:
الأولى : كثرة قتلى المشركين، إذ قتل يوم بدر سبعون منهم.
الثانية : وقوع سبعين من المشركين أسرى بأيدي المسلمين، وكما في حال القتل فان بعضاً من الأسرى كانوا من وجوه قريش.
وأول من قتل من المشركين : هو الاسود بن عبد الاسود المخزومى، وأول من فر وهو خالد بن الاعلم الخزاعى، أو العقيلى، حليف بنى مخزوم، وما أفاده ذلك، فإنه أسر، وهو القائل في شعره:
ولسنا على الاعقاب تدمى كلومنا
ولكن على أقدامنا يقطر الدم
فما صدق في ذلك.
وأول من أسروا عقبة بن أبى معيط والنضر بن الحارث، قتلا صبرا بين يدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأسارى، وقد اختلف في أيهما قتل أولا على قولين.
وأنه عليه السلام أطلق جماعة من الاسارى مجانا بلا فداء، منهم أبو العاص بن الربيع الأموى، والمطلب بن حنطب بن الحارث المخزومي، وصيفي بن أبي رفاعة، وأبو عزة الشاعر، ووهب بن عمير بن وهب الجمحي، وفادى بقيتهم حتى عمه العباس أخذ منه أكثر مما أخذ من سائر الأسرى، لئلا يحابيه لكونه عمه، مع أنه قد سأله الذين أسروه من الانصار أن يتركوا له فداءه فأبى عليهم ذلك، وقال: لا تتركوا منه درهما.
وقد كان فداؤهم متفاوتا، فأقل ما أخذ أربعمائة، ومنهم من أُخذ منه أربعون أوقية من ذهب.
قال موسى بن عقبة: ( وأخذ من العباس مائة أوقية من ذهب)( ).
وأسس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لسنة في الأسرى تتضمن الرفق والنفع العام، لبيان مصداق للنبوة، وإرادة تفقه أجيال المسلمين، وتلقيهم آيات القرآن بالتدبر وإتخاذ القراءة والكتابة نوع طريق لإستنباط العلوم من الآية القرآنية.
عن ابن عباس قال : كان ناس من الاسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الانصار الكتابة، قال: فجاء غلام يوما يبكي إلى أمه , فقالت: ما شأنك ؟ فقال: ضربني معلمي فقالت: الخببث يطلب بذحل بدر، والله لا تأتيه أبدا( ).
وقولها (لا تأتيه ابداً) من حال العز التي صارت عند المسلمين والمسلمات، وترشحت حتى على الصبيان بحيث يأبى أن يُضرب من المعلم الأسير، مع أن الضرب القليل وغير المبرح في التأديب جائز، أما في التعليم فلا يجوز إنما المراد بذل الوسع بالتعليم والنصح والبيان مع الطالب ليكتسب المعارف.
الثالثة : لحوق الخزي والذل للذين كفروا سواء في معركة بدر أو معركة أحد وهو من منّ الله عز وجل على المسلمين الذي تذكره آية البحث.
فان قلت قد علمنا بلحوق الذل بالذين كفروا في معركة بدر، فكيف يكون لحوقه بهم في معركة أحد , وقد صارت الريح والجولة لهم بدليل آية السياق وآيات أخرى منها قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، والجواب من جهات :
الأولى : عدم تحقيق المشركين أي هدف أو غاية من غاياتهم الخبيثة ومنها إرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : لقد استعد المشركون لمعركة أحد مدة سنة كاملة يجهزون الجيوش، وينفقون الأموال، ويتناجون بالباطل ويمنعون الذي يرثي قتيله في معركة بدر، كما قاموا بتعطيل التجارة بين مكة وبين الشام واليمن، وأخذوا يتبارون بالأشعار، يشحذون بها الهمم، وكانت أشعارهم تتضمن الرثاء لرجال منهم، والوعيد للأنصار منها قول ضرار بن الخطاب مرداس أخي بن مهتر، وقد أسلم بعدها،
عجبت لفخر الاوس والحين دائر
عليهم غدا والدهر فيه بصائر وفخر
بنى النجار إن كان معشر
أصيبوا ببدر كلهم ثم صائر
فإن تك قتلى غودرت من رجالنا
فإنا رجالا بعدهم سنغادر
وتردى بنا الجرد العناجيج وسطكم
بني الاوس حتى يشفى النفس ثائر
ووسط بني النجار سوف نكرها
لها بالقنا والدارعين زوافر
فنترك صرعى تعصب الطير حولهم
وليس لهم إلا الاماني ناصر
وتبكيهم من أرض يثرب نسوة
لهن بها ليل عن النوم ساهر
وذلك أنا لا تزال سيوفنا
بهن دم ممن يحاربن مائر
فإن تظفروا في يوم بدر فإنما
بأحمد أمسى جدكم وهو ظاهر
وبالنفر الاخيار هم أولياؤه
يحامون في اللاواء والموت حاضر
يعد أبو بكر وحمزة فيهم
ويدعى علي وسط من أنت ذاكر
أولئك لا من نتجت من ديارهم
بنو الاوس والنجار حين تفاخر
ولكن أبوهم من لؤى بن غالب
إذ عدت الانساب كعب وعامر
هم الطاعنون الخيل في كل معرك
غداة الهياج الاطيبون الاكابر) ( ).
قال ابن إسحاق: وقال أمية بن أبى الصلت يرثى من قتل من قريش يوم بدر:
ألا بكيت على الكرا * م بنى الكرام أولى الممادح
كبكا الحمام على فرو * ع الايك في الغصن الجوانح
يبكين حرى مستكي * نات يرحن مع الروائح
أمثالهن الباكيا * ت المعولات من النوائح
من يبكيهم يبكى على * حزن ويصدق كل مادح
ماذا ببدر فالعقن * قل من مرازبة جحاجح
فمدافع البرقين فالحنان من طرف الاواشح
شمط وشبان بها * ليل مغاوير وحاوح
ألا ترون لما أرى * ولقد أبان لكل لامح
أن قد تغير بطن مكة فهى موحشة الاباطح
من كل بطريق لبطريق نقى الود واضح
دعموص أبواب الملو * ك وجائب للخرق فاتح
ومن السراطمة الخلا * جمة الملاوثة المناجح
القائلين الفاعل * ين الآمرين بكل صالح
المطعمين الشحم فو * ق الخبز شحما كالانافح
نقل الجفان مع الجفا * ن إلى جفان كالمناضح
ليست بأصفار لمن * يعفو ولا رح رحارح
للضيف ثم الضيف بعد الضيف والبسط السلاطح
وهب المئين من المئي * ن إلى المئين من اللواقح
سوق المؤبل للمؤبل صادرات عن بلادح
لكرامهم فوق الكرا * م مزية وزن الرواجح
كمثاقل الارطال بال * قسطاس بالايدي الموائح
خذلتهم فئة وهم * يحمون عورات الفضائح
الضاربين التقدمي * ة بالمهندة الصفائح
ولقد عناني صوتهم * من بين مستسق وصائح
لله در بنى على أيم منهم وناكح
إن لم يغيروا غارة * شعواء تحجر كل نابح
بالمقربات المبعدا * ت الطامحات مع الطوامح
مردا على جرد إلى * أسد مكالبة كوالح
ويلاق قرن قرنه * مشى المصافح للمصافح
بزهاء ألف ثم أل * ف بين ذى بدن ورامح
قال ابن هشام: تركنا منها بيتين نال فيهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)( )،
لقد بكى أولئك اللئام كأبي جهل وعتبة بن ربيعة وأمثالهما الذين سعوا إلى منع نفاذ ضياء الحق إلى قلوب الناس، وصلاح المجتمعات ببركة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون الشعر للتحريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ولم يعلموا أن الملائكة الذين نزلوا في معركة بدر لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مستعدون للنزول في معركة أحد ومعهم (مثليهم) وهذا اللفظ ذكر في الآية التالية، ليكون التشابه بين عدد الملائكة ومصيبة المسلمين مواساة لهم , فان نزل ألف ملك انصرته وأصحابه يوم بدر فقد نزل ثلاثة آلاف يوم أحد , قال تعالى[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ) ومن الإعجاز في المقام أن الألف ملك نزلوا في معركة بدر باجتهاد النبي محمد والمسلمين بالدعاء , لقوله تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، أما بخصوص معركة أحد فقد ورد قوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ) أي أنهم نزلوا إبتداء من فضل الله , فيأمر الله عز وجل رسوله الكريم أن يخبر المؤمنين بنزولهم .
لقد طاف رؤساء الكفر من قريش على القبائل يحرضونهم على النبوة والتنزيل, ثم زحفوا بالأحباش والقبائل المتحالفة معهم ومن أغروهم ومنّوهم والعبيد , فخرج لملاقاتهم المسلمون بنحو ربعهم من جهة العدد، ولكن كان معهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي جعل كفة المسلمين في العدد والعدة هو الأرجح والأكثر وينزل المدد من عند الله عز وجل , ومنه نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وهو من مصاديق المنّ الذي تذكره آية البحث، قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
الثالثة : إبتداء المعركة بنصر عظيم للمسلمين، وهذا النصر من رحمة ومنّ الله عز وجل على المسلمين لقوله تعالى بخصوص معركة أحد [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ…]( )، لبيان قانون وهو أن منّ الله عز وجل على المسلمين أعم وأكثر مما تذكره آية البحث، فالنصر في بداية معركة أحد من رشحات آية البحث كما أنه منّ مستقل قائم بذاته تفضل الله عز وجل به على المؤمنين .
ومن أهم أفراد الجيش حامل اللواء إذ أن سقوطه إنكسار وقد يكون سبباً لهزيمة الجيش وقد تجرأ الذين كفروا وبلحاظ المكر والتحريض طيلة مدة الإستعداد لمعركة أحد بأن تقدم حامل لوائهم وهو ابن أبي طلحة وطلب البراز بصيغة التحدي .
قال ابن هشام : وَحَدّثَنِي مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ الْمَازِنِيّ ، قَالَ لَمّا اشْتَدّ الْقِتَالُ يَوْمَ أُحُدٍ ، جَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَحْتَ رَايَةِ الْأَنْصَارِ ، وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ أَنْ قَدّمَ الرّايَة.
فَتَقَدّمَ عَلِيّ ، فَقَالَ أَنَا أَبُو الْفُصَمِ وَيُقَالُ أَبُو الْقُصَمِ فِيمَا قَالَ ابن هِشَامٍ.
فَنَادَاهُ أَبُو سَعْدِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، وَهُوَ صَاحِبُ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ هَلْ لَك يَا أَبَا الْقُصَمِ فِي الْبِرَازِ مِنْ حَاجَةٍ ؟
قَالَ: نَعَمْ .
فَبَرَزَا بَيْن الصّفّيْنِ فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَهُ عَلِيّ فَصَرَعَهُ ثُمّ انْصَرَفَ عَنْهُ وَلَمْ يُجْهَزْ عَلَيْهِ.
فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ أَفَلَا أُجْهِزْت عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ إنّهُ اسْتَقْبَلَنِي بِعَوْرَتِهِ ، فَعَطَفَتْنِي عَنْهُ الرّحِمُ وَعَرَفْتُ أَنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ قَتَلَهُ .
وَيُقَالُ إنّ أَبَا سَعْدِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ خَرَجَ بَيْنَ الصّفّيْنِ فَنَادَى ( أَنَا قَاصِمٌ) مَنْ يُبَارِزُ بِرَازًا ، فَلَمْ يَخْرَجْ إلَيْهِ أَحَدٌ . فَقَالَ يَا أَصْحَابَ مُحَمّدٍ زَعَمْتُمْ أَنّ قَتْلَاكُمْ فِي الْجَنّةِ وَأَنّ قَتْلَانَا فِي النّارِ كَذَبْتُمْ وَاَللّاتِي لَوْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ حَقّا لَخَرَجَ إلَيّ بَعْضُكُمْ فَخَرَجَ إلَيْهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَهُ عَلِيّ فَقَتَلَهُ( ).
الرابعة : همّ جيش الذين أشركوا بالفرار لولا ترك رماة المسلمين الذين على الجبل موضعهم.
الخامسة : إنسحاب المشركين من معركة أحد بذات اليوم الذي إبتدأت به مع كثرة جيوشهم، حتى أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم صلى المغرب في المدينة جماعة مع كثرة ما ألم به من الجراح.
السادسة : تعاقب الذين كفروا على حمل اللواء ، فكلما يرفعه أحدهم يقتله الإمام علي عليه السلام وشاركه بقتل بعضهم عدد من المسلمين ، حتى أخذه عبد بني أبي طلحة واسمه صوأب ، فقطعت يده اليمنى فاخذه بيده اليسرى فقطعت ولم يتعظ فبرك على اللواء فأخذه بصدره وعنقه إصراراً على الكفر والضلالة وهو يقول : اللهم هل أعززت أي أعذرت ، فقال المشركون : نعم فقتله المسلمون ).
(فَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ
فَخُرْتُمْ بِاللّوَاءِ وَشَرّ فَخْرٍ … لِوَاءٌ حِينَ رُدّ إلَى صُؤَابِ
جَعَلْتُمْ فَخْرَكُمْ فِيهِ بِعَبْدِ … وَأَلْأَمُ مَنْ يَطَأُ عَفَرَ التّرَابِ
ظَنَنْتُمْ وَالسّفِيهُ لَهُ ظُنُونٌ … وَمَا إنّ ذَاكَ مِنْ أَمْرِ الصّوَابِ
بِأَنّ جِلَادَنَا يَوْمَ الْتَقَيْنَا … بِمَكّةَ بَيْعُكُمْ حُمْرَ الْعِيَابِ
أَقَرّ الْعَيْنَ أَنْ عُصِبَتْ يَدَاهُ … وَمَا إنْ تُعْصَبَانِ عَلَى خِضَاب
قَالَ ابن هِشَامٍ : آخِرُهَا بَيْتًا يُرْوَى لِأَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيّ وَأَنْشَدَ فِيهِ خَلَفٌ الْأَحْمَرُ
أَقَرّ الْعَيْنَ أَنْ عُصِبَتْ يَدَاهَا … وَمَا إنْ تُعْصَبَانِ عَلَى خِضَابِ) ( ).
السابعة : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر بتتبع المشركين والتأكد من أن وجهتهم هي مكة والرجوع إليها، وليس الهجوم على المدينة.
الثامنة : مع أن عدد المشركين نحو ثلاثة آلاف رجل ، فقد تفرقوا بعد مقتل آخر حملة لوائهم صوأب وظهر الخوف والفزع بين صفوفهم وفي أفعالهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( ) وصارت نساء المشركين يولولن ويتسابقن إلى الإبل لركوبها لإرادة الفرار .
فقامت امرأة وهي عمرة بنت علقمة الحارثية برفع لواء المشركين فاجتمعوا إليه.
(قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَأْنِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَلْقَمَةَ الْحَارِثِيّةِ وَرَفْعِهَا اللّوَاءَ
إذَا عَضَلٌ سِيقَتْ إلَيْنَا كَأَنّهَا … جَدَايَةُ شُرْكٍ مُعْلَمَاتِ الْحَوَاجِبِ
أَقَمْنَا لَهُمْ طَعْنًا مُبِيرًا مُنَكّلًا … وَحُزْنَاهُمْ بِالضّرْبِ مِنْ كُلّ جَانِبِ
فَلَوْلَا لِوَاءُ الْحَارِثِيّةِ أَصْبَحُوا … يُبَاعُونَ فِي الْأَسْوَاقِ بَيْعَ الْجَلَائِبِ
قَالَ ابن هِشَامٍ : وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ)( ).
التاسعة : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل خلافاً لوعود أطلقها الكفار لأهليهم في مكة ولأصحابهم .
العاشرة : إنكشاف كذب وزيف إشاعة الذين كفروا بأنهم قتلوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة أحد ، بعد أن تفشت في الفريقين ووصلت إلى المدينة المنورة , وتحتمل هذه الإشاعة وجوهاً :
أولاً : قتل ابن قمئة لمصعب بن عمير وظنه أنه قتل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
(وقد قاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى قتل وكان الذى قتله ابن قمئة الليثى وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرجع إلى قريش فقال قتلت محمدا) ( ).
ثانياً : قيام ابن قمئة برمي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسهام والحجارة وأصابته في وجنتيه مع جراحات أخرى أصيب بها إذ كسر رباعيته عتبة بن أبي وقاص.
(ولما نال عبد الله بن قمئة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما نال، رجع وهو يقول: قتلت محمدا) ( ).
أي أن ابن قمئة لم يشتبه عليه بقتل مصعب إنما رمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مسافة قريبة ورآى الدماء تسيل على وجهه وظن أنه قتله .
ثالثاً : إرادة ابن قمئة وأمثاله إنهاء القتال , وإقناع جيش المشركين بمغادرة أرض المعركة والإنسحاب إلى مكة .
وتبين هذه الإشاعة شدة الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصبره وجهاده في مرضاة الله وفيه شاهد على العناء والأذى الذي لحق أهل البيت والصحابة ، وقد أخزى الله الذين كفروا إذ لم يغادروا ميدان معركة أحد إلا بعد أن بلغهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حي وفي المعركة يحيط به أهل بيته وأصحابه ، وهو من أسباب جزعهم وتعجيلهم الإنصراف إلى مكة ثم ندمهم في طريق على هذا الإنصراف من غير تحقيق غاية من غايات المكر والخبث التي جاءوا من أجلها .
رابعاً : إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من رشحات ومصاديق الإرباك والرعب الذي ملأ قلوب المشركين .
خامساً : كثرة الكفار الذين كانوا يتوعدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقتل ، والذين كانوا يتمنون قتله ، وعلمهم بتفرق المسلمين إذا ما قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، (قال ابن إسحاق: وكان أبى بن خلف، كما حدثنى صالح بن إبراهيم بن عبدالرحمن ابن عوف يلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة فيقول: يا محمد إن عندي العوذ، فرسا، أعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه.
فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بل أنا أقتلك إن شاء الله.
فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشا غير كبير فاحتقن الدم، فقال: قتلني والله محمد.
فقالوا له: ذهب والله فؤادك ! والله إن بك بأس.
قال: إنه قد كان قال لى بمكة: أنا أقتلك.
فوالله لو بصق على لقتلني ! فمات عدو الله بسرف، وهم قافلون به إلى مكة.) ( ).
سادساً : رؤية المشركين لفرار أكثر أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وسط الميدان ، فأولوه بأنه شاهد ودليل على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
سابعاً : قيام الشيطان بالصراخ بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وصرخ الشيطان أزب العقبة يومئذ بأبعد صوت: ألا إن محمدا قد قتل.
فحصل بهتة عظيمة في المسلمين، واعتقد كثير من الناس ذلك) ( ).
(قَالَ ابن إسْحَاقَ : فَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي ذَلِكَ
لَقَدْ وَرِثَ الضّلَالَةَ عَنْ أَبِيهِ … أُبَيّ يَوْمَ بَارَزَهُ الرّسُولُ
أَتَيْتَ إلَيْهِ تَحْمِلُ رِمّ عَظْمٍ … وَتُوعِدُهُ وَأَنْتَ بِهِ جَهُولُ
وَقَدْ قَتَلَتْ بَنُو النّجّارِ مِنْكُمْ … أُمَيّةَ إذْ يُغَوّثُ يَا عَقِيلُ
وَتَبّ ابْنَا رَبِيعَةَ إذْ أَطَاعَا … أَبَا جَهْلٍ لِأُمّهِمَا الْهَبُول
وَأَفْلَتْ حَارِثٌ لَمّا شَغَلْنَا … بِأَسْرِ الْقَوْمِ أُسْرَتُهُ فَلَيْلُ
قَالَ ابن هِشَامٍ : أُسْرَتُهُ قَبِيلَتُهُ . وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا فِي ذَلِكَ
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنّي أُبَيّا … لَقَدْ أُلْقِيَتْ فِي سُحْقِ السّعِيرِ
تَمَنّى بِالضّلَالَةِ مِنْ بَعِيدٍ … وَتُقْسِمُ أَنْ قَدَرْت مَعَ النّذُورِ
تَمَنّيك الْأَمَانِيّ مِنْ بَعِيدٍ … وَقَوْلُ الْكُفْرِ يَرْجِعُ فِي غُرُورِ
فَقَدْ لَاقَتْك طَعْنَةُ ذِي حِفَاظٍ … كَرِيمِ الْبَيْتِ لَيْسَ بِذِي فُجُورِ
لَهُ فَضْلٌ عَلَى الْأَحْيَاءِ طُرّا … إذَا نَابَتْ مُلِمّاتُ الْأُمُورِ) ( ).
ثامناً : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة وعدم معرفة أكثر المسلمين بموضعه .
تاسعاً : لبس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للامة الحرب والمغفر والبيضة ، قال ابن إسحاق (فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به، ونهض معهم نحو الشعب) ( ).
عاشراً : كثرة الشهداء من أهل البيت والصحابة ، فقد خرّ شهيداً حمزة عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الحادي عشر : إستحواذ جيش المشركين على الميدان ودفع المسلمين عن مواضعهم ، وبما أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليس مع الذين فروا وتركوا مواضعهم ، فقد ظن بعضهم أنه قُتل .
الثاني عشر : إرادة الذي كفروا تثبيط عزائم المسلمين والإجهاز عليهم.
الحادية عشرة : من وجوه لحوق الذل بالذين كفروا يوم أحد كثرة الشهداء من المسلمين والتي هي شاهد على قتالهم وملاقاتهم العدو ، وعدم فرارهم وتوليهم أمامه ، وفي كثرة قتلى المسلمين يوم أحد وجوه :
الأول : إنها فخر للإسلام .
الثاني : بيان إخلاص وتفاني أهل البيت والصحابة في طاعة الله ورسوله .
الثالث : التصديق بالجزاء العاجل لمن يقتل دفاعاً عن الإسلام والنبوة .
الرابع : تأكيد حقيقة وهي حسن دفاع المسلمين عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
الخامس : تثبيت أحكام الشريعة باقلام من الدم الزكي ناطقة بالحق إلى يوم القيامة .
السادس : إنه من أسباب بعث الفزع في قلوب الذين كفروا من أهل مكة والقبائل التي حولها ليكون من معاني ومفاهيم قوله تعالى[وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( )، فيأتي الإنذار بآيات القرآن والسنة النبوية، والنصر الذي يمن به على المسلمين وثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال في أشد الأحوال، فيدب الخوف والفزع المقرون باليأس إلى قلوب الذين كفروا من أهل مكة والقرى والقبائل التي حولها.
ومن مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( ).
السابع : إنذار الذين كفروا بأنهم إذا عادوا إلى القتال فان المسلمين يلاقونهم ببسالة، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثانية عشرة : تجلي أبهى معاني الصبر عند عوائل الشهداء وعموم الصحابة على الخسارة في الأرواح بين المسلمين .
الثالثة عشرة : من مصاديق الذل الذي لحق بالمشركين يوم أحد عدم وقوع أفراد من المسلمين أسرى بأيديهم .
لقد خرج المسلمون إلى معركة بدر وعددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر فعادوا بسبعين من أسرى المشركين ، وزحف المشركون يوم أحد بجيش عرمرم قوامه ثلاثة آلاف ، ولم يرجعوا بأسرى مع أن علة خروجهم هو الثأر والإنتقام لما لحقهم من الذل والخزي يوم بدر ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
المسألة الثالثة : لقد ذكرت آية البحث المسلمين بصيغة الإيمان ، وتوجهت الآية التالية بالخطاب لهم ومواساتهم لبيان قانون وهو أن من جزاء الله عز وجل للمؤمنين على حسن سمتهم وصلاحهم الإخبار عن علمه تعالى بما أصابهم من الخسارة يوم معركة أحد .
أما قوله تعالى [قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا] ( ) فالمراد أصبتم في معركة بدر , ونصر الله عز وجل المسلمين فيها وقتلهم لسبعين من المشركين وأسر سبعين آخرين منهم فان قلت أن القتل بذاته قبيح.
والجواب هذا صحيح ، لذا حذّرت الملائكة منه ، كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) وإن كان المقصود من كلام الملائكة إرادة الذين يَقتلون عن عمد وبغير حق .
وقد ورد قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ) فجاء قتال المسلمين لوجوه:
الأول : الدفاع عن بيضة الإسلام.
الثاني : الذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : صرف المانع عن نزول آيات القرآن.
الرابع : دفاع المسلمين عن أنفسهم.
الخامس : درء السبي عن نساء وذراري المسلمين.
السادس : الحيلولة دون إستباحة المدينة، وكان فيها كل من:
أولاً : المؤمنون من المهاجرين والأنصار.
ثانياً : المنافقون والمنافقات.
ثالثاً : اليهود.
رابعاً : الذين لا زالوا مقيمين على الكفر .
ولو دخل المشركون المدينة فأنهم لا يفرقون بين أهلها في القتل والسبي ونهب الأموال والأعيان، وفساد الزراعات، قال تعالى[إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً]( ).
السابع : مع أن قتل المسلمين للمشركين للدفاع فأن قتل طائفة منهم دعوة للباقين لدخول الإسلام، وهو زاجر عن الإصرار على الكفر والجحود، وهو المستقرأ من قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا….]( ).
المسألة الرابعة : لما إبتدأت آية البحث بذكر منّ الله عز وجل على المسلمين بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامه بتلاوة آيات القرآن، ووقعت معركة بدر , وأخبر الله عز وجل بأن نصر المسلمين فيها من عند الله عز وجل وبمنّه والمددّ الملكوتي الذي أنزله لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( )، وقعت بعدها بأحد عشر شهراً معركة أحد فأخبرت آية البحث بأن الذي أصاب المسلمين فيها مصيبة وأنها من عند المسلمين أنفسهم لبيان أن منّ الله عز وجل على المسلمين في ذات معركة أحد عظيم .
وتقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً يتلو عليهم آياته ولما أصابتكم مصيبة ).
وهل يصح القول : لقد منّ الله على المؤمنين أو لما أصابتهم مصيبة) الجواب نعم، للمواعظ ومفاتيح الحكمة التي إقتبسوها من واقعة أحد، ومنها وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أوامره ونواهيه، وبيان أن الوحي لا ينحصر بأحكام الحلال والحرام، قال تعالى[مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ]( ).
لقد نزلت نكسة بالمسلمين يوم معركة أحد لم يتعرضوا لمثلها من قبل خاصة وأنهم إنتصروا في معركة بدر التي جرت قبلها بثلاثة عشر شهراً مع قلة عددهم وعدتهم وتوالت بعدها إلى المدينة الأخبار بأن المشركين يعدون العدة للهجوم عليها فتوثب الصحابة للخروج للقتال خاصة أولئك الذين تخلفوا عن معركة بدر ظناً منهم بعدم وقوع معركة حينئذ لأن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كان لطلب قافلة أبي سفيان ولكن الملأ من قريش حينما بلغتهم إستغاثة أبي سفيان هبّوا لنجدته والبضائع التي كانت معه إذ كانت قافلته تتألف من ألف بعير محملة بالبضائع قادمة من الشام ،ولأكثر أهل مكة أموال وأسهم فيها .
لقد كان خروج رجال قريش عن مكر ودهاء ، ولكن [يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ]( ) ومن كانت عنده فطنة أو قوة ورجال فيجب ألا يسخّرها في معاداة الإسلام ومحاربة النبوة .
لقد وقعت معركة أحد وما أصاب المسلمين يومئذ من الخسائر في السنة الثالثة للهجرة النبوية أي بعد مضي أكثر من نصف سور القرآن إذ بدأ نزوله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة وهو في سن الأربعين وأستمر ينزل عليه في مكة مدة ثلاث عشرة سنة ، ومكث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة بعد الهجرة عشر سنوات ينزل عليه القرآن، وتتصف السور المكية بالقصر، وقلة كلمات الآية منها.
وكل آية من القرآن رحمة من عند الله عز وجل على المسلمين ، وواقية من المصيبة ، وحرز من الخسارة والإنكسار، قال تعالى[وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ]( ).
ليكون أوان وقوع معركة أحد بعد ست عشرة سنة من بدئ نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلاوته آيات الله عز وجل على المسلمين , وفيه وجوه :
الأول : بلوغ المسلمين مراتب عالية في الإيمان، ومناهج التقوى ، لذا ذكرت الآية السابقة بأن [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ] ( ) لبيان أن المصيبة تنزل عليهم إلا وقد بلغوا مراتب سامية في الإيمان تؤهلهم لتلقي المصيبة بالصبر والرضا بقدر ومشيئة الله عز وجل ، قال سبحانه [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ).
المسألة الخامسة : موضوع الآية التالية في نظم القرآن( ) واقعة أحد مع التذكير بمعركة بدر ، وهو من الإحتجاج الذي يصلح حال المسلمين في ميادين القتال ويفقههم في أمور الدين والدنيا، ويمنع الفتنة بينهم والإفتتان بفعل الذين كفروا أو قول المنافقين وهذا المنع من مصاديق الغلظة في قوله تعالى[جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( )، لبيان أن معركة أحد ليست هي النهاية في لقاء الذين كفروا ، ولا تصلح أن تكون سبباً لبث القنوط في نفوس المسلمين ، إنما ورد التذكير بمعركة بدر والنصر الذي ناله المسلمون فيها، لمنع الفرقة والشقاق بين المسلمين وطرد اليأس عن نفوسهم ، قال تعالى [وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ] ( ) لقد تقدم نصر المسلمين في معركة بدر على خسارتهم في معركة أحد .
ترى ماذا لو تقدمت الخسارة على النصر زماناً وحدوثاً.
الجواب لقد أبى الله عز وجل إلا أن ينصر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويعز المؤمنين ، وأن تعلو راية الإسلام وترسخ أحكام الشريعة في الأرض ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] ( ).
فلا يقول بعض المشركين والمنافقين لو انهزم المسلمون في معركة بدر ، ثم لا يكون الجدال في الأمر المخالف للواقع الثابت إلا نوع مغالطة فقد إختار الله عز وجل للمسلمين النصر في معركة بدر ، وهو سبحانه لا تعصى عليه مسألة ، إنما أراد منع هزيمة المسلمين فيها ، كما أنهم لم ينهزموا في معركة أحد ، فالحرب سجال .
المسألة السادسة : أخبرت آية البحث بأن الله عز وجل منّ على المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه دليل بأن الإيمان والتصديق بنبوته لا يجلب إلا الخير والرفعة والعز في الدنيا والآخرة ، فكل ما في هذه النبوة خير محض، ونفع متجدد يتغشى ذات المؤمن وذريته .
لقد أصاب وكسب المسلمون في معركة بدر، وجلبوا معهم الغنائم وأقتسموها في الطريق إلى المدينة ، ثم أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة بالتقدم ودخول المدينة قبله ببشارة المسلمين وأهل المدينة جميعاً بالنصر والغلبة ثم دخل بعدهما الأسرى ، والظاهر أن الأسرى غير مقيدين ، فلا سبيل للفرار ، ولا رجاء لهم إلا رأفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والظاهر وجود قواعد في القتال قبل وبعد المعركة يتقيد بها الناس ، كما يتقيدون بالإمتناع عن القتال في الأشهر الحرم ، وهي رجب شهر واحد فرد مستقل ، ثم شهر ذي القعدة وذي الحجة ومحرم ، وهي ثلاثة شهور متتالية ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ] ( ).
ومن هذه القواعد تسليم الأسير بالأمر وإمتناعه عن الغدر وحتى إذا نوى الفرار فانه في الغالب يعجز عن الهروب ويفقد الأمن والسلامة عندما يهيم في البراري ، كما تخرج خلفه سريعة تطلبه وتقتفي أثره ، ويكون مصيره القتل عند القبض عليه ، بالإضافة إلى قانون وهو إحسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والمسلمين للأسرى ، وكان الأسرى يرون النظام العبادي وأداء الفرائض وكيف أنه سور الموجبة الكلية الذي يتغشى المسلمين على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي ، فتنجذب نفوسهم إليه .
المسألة السابعة : قد ذكرت كل من آية البحث والسياق النفوس بتعدد الصيغة مع إتحاد الموضوع إذ ورد في آية البحث [رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ]وفي آية السياق [قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ] ( )لحاظ الخسارة التي أصابت المسلمين في معركة أحد لبيان عدم التعارض بين منّ ولطف الله عز وجل برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين تلقي الذين آمنوا برسالته الخسارة في معركة أحد.
ومن معاني الجمع بين الآيتين ثبات المسلمين في منازل الهدى والإيمان حتى مع الخسارة ، فلم تمر ثلاث سنين على هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة حتى وقعت معركة أحد وسقط سبعون شهيداً من المسلمين مع مجئ رسائل من الذين كفروا بمعاودة الكرة والهجوم من جديد إلى جانب ما يبثه المنافقون من أراجيف في المدينة منها ما تقدم الإخبار عنه قبل بضع آيات بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا]( ) ليكون هذا الثبات شاهداً على إستدامة أحكام الشريعة الإسلامية ، وحفظ آيات القرآن في الأرض وتوارث أجيال المسلمين الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وتقدير آية السياق ( هو من عند أنفسكم كمؤمنين ) .
لقد أظهر المهاجرون والأنصار وعوائلهم أبهى سنن التقوى بتلقي الخسارة في معركة أحد بالقبول والرضا والإحتساب عند الله .
المسألة الثامنة : لما أخبرت آية البحث عن تفضيل الله عز وجل المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأنها منّ ولطف جاءت آية السياق لتبين أن طريق الإيمان مسلك للجهاد وفيه عناء وأذى ، ولكن هذا الأذى لا يبلغ الضرر الشديد ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
لبيان أن النسبة بين الأذى والضرر هي العموم والخصوص والأقل والأكثر ، وأن الضرر الكثير مدفوع عن المسلمين ، ومع شدة عداوة الذين كفروا وكثرة جيوشهم فان آية السياق نسبت الخسارة والمصيبة التي أصابت المسلمين إلى أنفسهم وهو من إحسان ومنّ الله عليهم ، وحسن تأديبهم ودعوة لهم للتدارك .
وإذ إجتمع منّ الله على المؤمنين مع الأذى الذي يأتي من أنفسهم فان المنّ واللطف هو الباقي والثابت والدائم في النشأتين ، ليكون من معاني آية البحث مواساة المسلمين على ما أصابهم وما يلحق بهم من الأذى إذ أن الإخبار عن مصيبة واقعة أحد دعوة للمسلمين للصبر عند نزول مصيبة بهم وإستحضار منّ الله عز وجل عليهم ، لتهون تلك المصيبة وتخف آثارها ، وتتضاءل أضرارها ، ليكون تقدير آية البحث على وجوه منها :
الأول : لقد منّ الله على المؤمنين بتعاهد الإيمان حتى في حال الشدة والبلاء ، قال تعالى في الثناء على المسلمين [وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ] ( ).
الثاني : لقد منّ الله على المؤمنين بصرف ودفع الخسارة عن المسلمين في أولى معارك الإسلام ، وهي معركة بدر وهناك فرق كبير بين وقوع الخسارة في المعركة الأولى أو تحقق النصر فيها , ووقوع المصيبة والخسارة في المعركة الثانية .
الثالث : لقد منّ الله على المؤمنين فلم تصبهم خسارة كبيرة بعد معركة أحد .
ومن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم توالي البراهين وأسباب البهجة على المسلمين عند حلول النصر ، وكذا توالي صيغ المواساة بالتنزيل والسنة عند نزول المصيبة ، فقد نزلت آيات مخصوصة في كل معركة من معارك الإسلام ، وإختصت معركة أحد بأنها أكثرها ذكراً في آيات التنزيل ، ولابد من إحصاء عدد الآيات التي تتعلق بموضوعها ، ومنها مواساة المسلمين في الخسارة التي أصابتهم ، كما جاءت السنة النبوية بصيغ المواساة القولية والفعلية للمسلمين .
(وأخرج ابن سعد عن الواقدي عن شيوخه ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لن ينالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن)( ).
كما ورد هذا الحديث من طرق أخرى ، وألفاظ متقاربة، وفيه وجوه:
الأول : أنه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد من علوم الغيب .
الثاني : الوعد بالنصر للمسلمين .
الثالث : تحدي الذين كفروا ، وبعث الفزع والخوف في قلوبهم .
الرابع : زجر الناس والدول والأمارات آنذاك عن إعانة كفار قريش في حربهم ضد الإسلام .
الخامس : البشارة بفتح مكة ، وتنزيه البيت الحرام من الأوثان .
السادس : تبكيت المنافقين والمنافقات ، وجعلهم ينشغلون بأنفسهم بدل بث أسباب الوهن والضعف بين المسلمين والشماتة بهم لما لحقهم في معركة أحد أو تخويفهم من قادم الأيام والمعارك التي ستقع فيها .
ولما تقدم قبل ثمان آيات نهي المسلمين عن محاكاة الذين كفروا والمنافقين في سعيهم لإثارة الذعر بين عوائل المسلمين ، وحثهم على القعود إذ قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ] ( ) لبيان أن قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه (لن ينالوا منا مثل هذا اليوم) إعانة للمسلمين لسلامتهم من التشبه بالكفار ، فحينما نهاهم الله عز وجل عن هذا التشبه فانه تفضل بآيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تحول دون هذا التشبه .
ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نطق بهذه البشارة وهو وأصحابه في أشد الأحوال .
وعن كعب بن مالك في حديث أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلّم قد عطش يومئذٍ عطشاً شديداً، ذهب محمد بن مسلمة إلى قناة وأخذ سقاءه حتى استقى من حسىٍ قناة عند قصور التيميين اليوم فأتي بماءٍ عذبٍ فشرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ودعا لمحمد بن مسلمة بخير. وجعل الدم لا ينقطع، وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يقول: لن ينالوا منا مثلها حتى تستلموا الركن .
فلما رأت فاطمة الدم لا يرقأ وهي تغسل الدم، وعلي عليه السلام يصب الماء عليها بالمجن أخذت قطعة حصيرٍ فأحرقته حتى صار رماداً، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم. ويقال إنها داوته بصوفةٍ محترقة. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بعد يداوي الجرح الذي في وجهه بعظمٍ بالٍ حتى يذهب أثره .
ولقد مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يجد وهن ضربة ابن قميئة على عاتقه شهراً أو أكثر من شهر، ويداوي الأثر الذي بوجهه بعظمٍ بالٍ ) ( ).
المسألة التاسعة : أختتمت آية السياق بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) وينبسط هذا الإطلاق في أمور وحياة الخلائق كلها ، ولا تختص قدرته تعالى بالموجود بل تشمل المعدوم الذي أراد الله عز وجل أن يكون معدوماً والوجود أشرف من العدم ، ليكون من معاني الآية أعلاه بلحاظ آية البحث وجوه :
الأول : إن الله عز وجل هو القادر على الإعطاء والمنع ، وعلى الإحسان والمنّ والحجب ، فتفضل وأنعم على المؤمنين والناس برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون هذه النعمة رحمة يومية متجددة ، وتقدير آية البحث : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم لتتوالى عليهم النعم ).
ولكن الذين كفروا استكبروا عن عبادة الله وإختاروا الإقامة على المعاصي وأصروا على إتباع الشهوات ثم بدا لهم قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لأنهم يذم آلهتهم ويسفه أحلامهم ، فجهزوا الجيوش في معركة بدر ، فأقام الله عز وجل عليهم الحجة بنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآية حسية جلية ونزول الملائكة لنصرته وأهل بيته وأصحابه ، ومن منّ ولطف الله إخبار الآيات بمجئ النصر والمدد للمسلمين كما في قوله تعالى بخصوص معركة بدر [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
ونزل الملائكة (في صورة الرجال عليهم ثياب بيض،
وعمائم بيض أرخوا ما بين أكتافهم) ( ).
(وقال ابن عباس : بينما رجل من المسلمين يشتدّ في أثر رجل من المشركين إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت لفارس يقول قدم حيزوم ونظر إلى المشرك أمامه خرّ مسلتقياً ، فنظر إليه فإذا هو قد حُطم وشُق وجهه كضربة السوط فجاء الرجل فحدّث بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : صدقت ذلك من مدد السماء فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين.) ( ).
الثاني : من أسماء الله (المنان) وتعجز الخلائق عن إحصاء كل من :
أولا ً : ما منّ الله به على الخلائق في السابق .
ثانياً : ما يمنّ الله به على الخلائق في ذات أوان الإحصاء .
ثالثاً : ما يمنّ به الله عز وجل على الخلائق في قادم الساعات والأيام ، فيكون تقدير آية البحث بلحاظ عظيم قدرة الله على جهات :
الأولى : لقد منّ الله على المؤمنين كما منّ على غيرهم من الناس .
الثانية : لقد منّ على المؤمنين لأنه هو المنان .
الثالثة : لقد منّ الله على المؤمنين فهم الذين يعمرون الأرض بطاعته .
الرابعة : لقد منّ الله على المؤمنين من خزائنه التي لا تنفد .
الخامسة : لقد منّ الله على المؤمنين ليطمع الناس في منّه ، ويرجوا نواله وإحسانه .
السادسة : لقد منّ الله على المؤمنين ليحضر معهم هذا المن في الآخرة بهيئة عمل صالح ، فمن خصائص المؤمنين أن منّ الله عليهم .
الثالث : من الإطلاق والسعة في قدرة الله عز وجل عدم مغادرة منّه الأرض ، فهو متجدد من جهات :
الأولى : بقاء ذات المنّ من الله في الأرض .
الثانية : نزول مصاديق كثيرة من المنّ في كل طرفة عين .
الثالثة : تفضل الله عز وجل بمفاتيح لمنّ مستحدث .
الرابعة : توارث المسلمين الإنتفاع من المنّ الإلهي ، وهو من منّ الله بأن يهدي المسلمين لهذا التوارث .
الخامسة : من خصائص المؤمنين الدعاء ، وهو من أسرار مجئ آية البحث بلفظ المؤمنين ، وعدم تسمية المسلمين إلا بالمؤمنين , بلحاظ قانون وهو ملازمة الدعاء للإيمان ليتوجه المسلمون بالدعاء إلى الله وسؤاله المنّ والطول في كل أمر من أمورهم ، ليكون دعاء المسلمين بلحاظ خاتمة آية السياق ، وقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) على وجوه :
أولاً : تفضل الله عز وجل بالمنّ والطول على المسلمين والمسلمات .
ثانياً : سؤال الرزق الوافر الكريم .
ثالثاً : الثناء والشكر لله عز وجل على نعمة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاً : سؤال التدبر في آيات القرآن ، والتفقه في مضامينها .
خامساً : رجاء العون والمدد من عند الله للعمل بما في آيات القرآن من الأحكام ، ومن إعجاز القرآن أن كل آية من آياته فيها حكم أو تأكيد لحكم سواء في منطوقها أو مفهومها .
سادساً : الدعاء لهداية الناس إلى الإيمان .
سابعاً : سؤال المسلمين لله عز وجل لإرتقائهم في درجات الرفعة والعلو عند سبحانه .
ثامناً : سؤال إكتساب العلوم والمعارف وإتخاذ القرآن والسنة إماماً وضياء في تحصيل المكاسب .
الوجه الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] ( ) وفيها مسائل :
المسألة الأولى : ذكرت آية البحث المؤمنين بصيغة الثناء وبيان النعم من الله عليهم ببركة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، أما آية السياق فذكرت حال المنافقين الذين أظهروا التصديق بنبوته مع إصرارهم على إخفاء الكفر بها وإنكارها في قراءة أنفسهم .
لقد ترشح الإيمان ببذل النفس والمال في الدفاع عن الإسلام بينما نظر المنافقون التكاسل ، والإمتناع عن نصرة الإسلام بحجج واهية بقصد بث روح القعود بين المؤمنين، فتفضل الله عز وجل بفضحهم في آية السياق ليكون هذا الفضح بلحاظ آية السياق على وجوه :
الأول : إنه من منّ الله على المؤمنين .
الثاني : تفريط المنافقين بنعمة الرسالة ومحاربتهم لها بالخفاء ، ليكون من إعجاز آية السياق ذمهم بقوله تعالى [هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ]( ).
الثالث : فضح آية السياق للمنافقين من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رسول من عند الله بلحاظ كشفها لما في قلوبهم من الإستكبار والكفر .
الرابع : وصف حال المنافقين ، وإمتناعهم عن القتال وإبطانهم الكفر من مصاديق قوله تعالى [يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ] ( ).
الخامس : بين الذين يقعدون عن القتال وبين المنافقين عموم وخصوص مطلق ، فالقاعدون أعم وأختص الذم بالمنافقين منهم ، فمن القاعدين من كان مؤمناً ولكنهم من أولي الضرر والفاقة أو العاهة ، ومنهم من تكون عنده أسباب وحجة للقعود , ومنهم الذي يتفقه في الدين ويبين أحكام الشريعة ، قال تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] ( ) ولم يرد كل من لفظ لينفروا ، ليتفقهوا ، لينذِروا بكسر الذال إلا في آية البحث .
وتبين آية السياق حقيقة وهي قبح إعتذار المنافقين ورد عذرهم .
المسألة الثانية : تتصف بداية البحث بأمور :
الأول : القطع والتحقيق الذي يدل عليه الحرف (قد) .
الثاني : صيغة الفعل الماضي (منّ).
الثالث : بيان اللامتناهي من فضل الله عز وجل .
الرابع : إختصاص النعمة والطول من الله بالمؤمنين ، مع ترشح المنّ على الناس جميعاً ، ويستقرأ هذا الترشح من معاني المنّ الإلهي ، وقوانين السعة والإطلاق في النعمة التي تأتي من عند الله ، ولبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) لبيان مسألة إعجازية في القرآن وهي ورود صفة الرسول للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما يكون الأمر والبيان والنفع للناس جميعاً .
أما آية السياق فتتصف بدايتها بأمور :
الأول : العطف بحرف العطف الواو على ما بعدها ، مما يدل على عطفها على الآية التي قبلها والتي تخاطب المسلمين وتبين علة ما أصابهم يوم معركة أحد ، بأذن الله ، وفيه إمتحان وتمحيص للمؤمنين ، قال تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] ( ).
الثاني : مجئ لام التعليل في بداية آية السياق ، وتقدير العطف بين آية السياق والآية التي قبلها : وليعلم الله المؤمنين وليعلم الذين نافقوا ).
الثالث : ذكر المنافقين وبصيغة الذم والتقبيح .
الرابع : بيان قانون وهو أن المصيبة التي لحقت المسلمين في معركة أحد كشف وفضح للمنافقين ، بينما جاءت آية البحث ببيان النعم النازلة على المؤمنين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما صاحبها وما ترشح عنها .
المسألة الثالثة : من معاني الجمع بين الآيتين حرمان المنافقين أنفسهم من المنّ الإلهي في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تبين آية البحث آيات باهرات وبينات ودلالات تهدي الذي آمنوا إلى سبل الرشاد وطريق الإقامة في النعيم ، قال تعالى [وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا] ( ).
ومن إعجاز القرآن إنتقاله من ذكر المنّ والثناء للمؤمنين إلى الفضح واللوم للمنافقين والكافرين مع بيان علة وموضوع هذا اللوم ، أما ما يتعلق بآية السياق تزجر عن التلبس بالنفاق , وتدعو إلى الإمتناع عن الدفاع والإعتذار الواهي للمنافقين , وتفضح التباين والتضاد بين ما يعلنون وما يخفون , ويأتي بيانه في تفسير آية السياق .
وأما ما يتعلق بآية البحث ففيه وجوه :
الأول : الوعيد للمنافقين ببيان قانون وهو يأتي الإبتلاء العام للمسلمين فيفتضح المنافقون .
الثاني : إقامة الحجة على الذين نافقوا .
الثالث : ترغيب المنافقين بنبذ النفاق والتوبة منه , مع دعوتهم للنفير والدفاع عن أنفسهم وأعراضهم وأنسابهم وأموالهم وذراريهم ، لذا قال تعالى [أَوْ ادْفَعُوا] وتحتمل النسبة بين القتال والدفاع بقوله تعالى [تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا] ( ) وجوهاً :
أولاً : نسبة التساوي وذات القتال المأمور به هو للدفاع .
ثانياً : نسبة العموم والخصوص المطلق وهو على شعبتين :
الأولى : القتال أعم من الدفاع .
الثانية : الدفاع أعم لأنه لا ينحصر بالسيف وميدان المعركة.
ثالثاً : نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين القتال والدفاع .
والمختار هو الثالث أعلاه، فمن مصاديق القتال أنه دفاع، كما ان الدفاع يشمل الدعاء والإعانة والبذل والإنفاق والمرابطة , فمن إعجاز القرآن مجئ النداء بالمرابطة بنداء الإيمان بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
وجاءت آية البحث ببيان منّ الله عز وجل على المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن وجوه هذا المنّ النصر العظيم الذي نزل عليهم من عند الله في معركة بدر، فاستنشاط المشركون غيظاً وغضباً، وأخذوا يجمعون الجيوش، ويبذلون الأموال، وهو يتناجون بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله والإجهاز على أصحابه، حتى خرجوا من مكة بثلاثة آلاف رجل في الثالثة للهجرة .
وكانت أخبارهم ترد إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل وبعد مسيرهم حتى أصبحوا قربين من المدينة فاستشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في الخروج لقتالهم أو البقاء في المدينة، ومن الآيات في المقام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستشرهم قبل وصول المشركين كيلا تحدث خصومة وخلاف بين المسلمين، ولمنع دبيب الخوف أو الوهن بين صفوفهم , ولعلمه بأن الله سبحانه معه , فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشجع الناس , وفي التنزيل[ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى]( ).
وعندما وصل جيش المشركين إلى مشارف المدينة استشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه لأحد خيارين :
الأول : الخروج لقتال المشركين خارج المدينة .
الثاني : البقاء في المدينة وقتالهم فيها .
لتكون المقارنة بين إستشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في معركة بدر وإستشارته لهم في معركة أحد نسبة العموم والخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء الإستشارة مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
ومن مادة الإفتراق أن استشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في معركة بدر هي بين أمرين :
الأول : القتال .
الثاني : عدم القتال .
ولم يذكرالأمر الثاني أعلاه في مقدمات معركة أحد , وقد أكد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المشورة قبل معركة بدر على خصوص الأنصار لأن بيعتهم له في العقبة إقتصرت على الذب عنه .
وفي حديث لجابر بن عبد الله الأنصاري (يَا رَسُولَ اللّهِ عَلَامَ نُبَايِعُكَ ؟ قَالَ ” تُبَايِعُونِي عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ فِي النّشَاطِ وَالْكَسَلِ وَعَلَى النّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللّهِ لَا تَأْخُذْكُمْ لَوْمَةُ لَائِمٍ , وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ وَتَمْنَعُونِي مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمْ الْجَنّةُ فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ) ( ).
وفي يوم جمعة من أيام الليالي البيض من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه وقص عليهم رؤياه ،
بعد أقبل الذين كفروا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة.
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون قال لهم: ” قد رأيت والله خيرا، رأيت بقرا تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلما، ورأيت أنى أدخلت يدي في درع حصينة.
فأولتها المدينة “.
وعن أبى موسى الاشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب.
ورأيت في رؤياي هذه أنى هززت سيفا فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها أيضا بقرا، والله خير، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذى أتانا بعد يوم بدر)( ).
وخطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه فحمد الله وأثنى عليه ، وذكر ما رأى من رؤيا ثم (قال أن رأيتم أن تقيموا بالمدينة ، ونجعل النساء والذرية في الآطام أي في موضع عال بعيد عن موضع القتال ، وبينّ لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم منافع الإقامة في المدينة بقصد الدفاع عن مداخلها وأزقتها للمائز الذي يمتاز به المسلمون وأنهم يعلمون بأزقتها وبيوتها ومواضع الإنسحاب والهجوم , ويساعدهم فيها الصبيان والشيوخ والعجائز وهو الذي يسمى في هذا الزمان قتال الشوارع ، وما له من الخصائص في مصلحة المؤمنين .
( وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن دخل علينا العدو قاتلناهم في الأزقة)( ).
لبيان أن هذا الرأي قد لا يكون معه قتال ، لصيغة الشرط أعلاه , وبايا وقائع معركة الخندق بعدها , ويبين هذا الخبر أن المشركين يعجزون عن حصار المدينة إنما يقيمون في أطرافها ، وكان أكثر كبار المهاجرين والأنصار مع هذا الرأي ، وهو رأي عبد الله بن أبي بن أبي سلول ، ولكن نفراً من الشباب ممن فاتهم حضور معركة بدر ، ولم يشتركوا في جلب النصر وجمع الغنائم والقبض على الأسرى يومئذ ، فأختاروا انتظار العدو لحين قدومه إلى المدينة.
لقد أرادوا اللحوق بالشهداء الذين سقطوا في معركة بدر وكان عددهم أربعة عشر شهيداً .
وعن كعب بن عجرة قال : بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالروحاء إذ هبط عليه أعرابي من سرب( ) (فقال من القوم وأين تريدون قالوا نريد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما لي أراكم بذة هيئتكم قليلاً سلاحكم قالوا ننتظر إحدى الحسنيين إما الظفر والجنة وإما أن نغلب فيجمعهما الله لنا الظفر والجنة قال: أين نبيكم قالوا هاهو ذا فجاءه فقال أي نبي الله إني لست معي مصلحة آخذ مصلحتي ثم ألحق بك قال اذهب إلى أهلك وخذ مصلحتك ثم لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر فدخل في الصف فكان ممن إستشهده)( ).
المسألة الثالثة : من إعجاز نظم آيات القرآن ذكر آية البحث للمؤمنين في منّه وطوله برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته ودلالات نبوته الخالدة ، لتأتي آية السياق لتبين كيف أن المنافقين حرموا أنفسهم من نعمة الإنتفاع من المنّ الإلهي بالبعثة النبوية ، ولتبين وجوهاً وخصالاً قبيحة يتصف بها المنافقون ولتكون مصداقاً لما جاء في الآية قبل السابقة [كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ) وأن المنافقين من الذين سخط وغضب الله عز وجل عليهم ، وفيه دعوة للناس للتدبر في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واللجوء إلى التوبة والإنابة ،
ومن الإعجاز في المقام ذكر الوظائف الجهادية العامة للنبوة بما يجعل الناس يلتفتون إلى وجوب الإيمان ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا] ( ).
وبعد بيان آية البحث للمنّ من الله ، وتأكيدها على تجليه في صلاح المسلمين وهدايتهم إلى سبل الهدى والإستقامة جاءت آية السياق بأمرين :
الأول : منطوق الآية، وفيه مسائل :
الأولى : ذم الذين نافقوا وأخفوا الكفر مع إدّعائهم الإيمان .
الثانية : بيان خصال قبيحة للمنافقين .
الثالثة : إمتحان عموم الذين نطقوا بالشهادتين بمعركة أحد وما حلّ بالمسلمين فيها من الخسارة ، قال تعالى [أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ] ( ).
الثاني : مفهوم الآية ، وفيه وجوه :
أولاً : ما يخص المؤمنين , وفيه مسائل :
الأولى : الثناء من الله على المؤمنين بتنزيههم من النفاق .
الثانية : بيان فضل ومنّ الله عز وجل على المؤمنين بكشف المنافقين وبيان خصالهم وصفاتهم وهو من عمومات قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] ( ).
وهل من مصاديق البشرى في الآية أعلاه إخبار آية السياق عن عدم ترتب الضرر العام على نكوص المنافقين ، الجواب نعم .
الثالثة :دعوة المسلمين للتوقي والحذر من المنافقين والعصمة من الإنصات إلى أقوالهم وكذب إشاعاتهم ، وإصرارهم على الصدود عن التنزيل ، قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا]( ).
الرابعة : توجه المسلمين بالشكر لله عز وجل من المنّ والإحسان الذي تفضل به سبحانه .
الخامسة : دعوة المسلمين للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهل منه توبيخ المنافقين ، الجواب نعم ، لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ).
ثانياً : ما يخص المنافقين أنفسهم من جهات :
الأولى : جعل المنافقين يدركون قبح النفاق .
الثانية : إشعار المنافقين بقانون وهو معرفة المسلمين بهم أشخاصاً وخصالاً بنزول آيات القرآن التي تذمهم .
الثالثة : منع المنافقين من إظهار صفات النفاق وجريان الكفر على ألسنتهم ، قال تعالى [وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ]( ).
الرابعة : دعوة المنافقين للتوبة والإنابة .
الخامسة : تنبيه وتحذير عوائل المنافقين من إتباع نهجهم ، وهل هو من صراع الأجيال الإيجابي بحلول الصلاح والتقوى في الذرية والجيل اللاحق ، الجواب هو من مصاديق آية البحث بلحاظ أن المنّ من عند الله على المسلمين متصل من جهات :
الأولى : صلاح حال المسلمين .
الثانية : إنعدام الإرتداد عند المسلمين .
الثالثة : دخول الناس أفواجاً في الإسلام .
الرابعة : إنتماء أبناء الكفار الى الإسلام.
وقد تجلى هذا القانون من الأيام الأولى للبعثة النبوية في مكة، فيدخل بعض رؤساء الكفر الى بيته فيفاجئ بدخول ابنه أو ابنته الإسلام .
ومن المنّ الإلهي ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنعدام صراع الأجيال بظهور العناد والمعاصي والعقوق في الجيل اللاحق ، ووجود نوع برزخ دون حدوث هذا الصراع إلى يوم القيامة فان قلت وإن أجتهد في طلبه أعداء الإسلام , الجواب إلا أن أحكام التقية في المقام ونبذ العنف والإرهاب أمر لازم في المقام , قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
إن إمتناع ذرية المنافق عن إتباع نهجه ليس من صراع الإجيال إنما هو رفض لسلوك مذموم لا يمثل جيلاً ولا أمة ، ومن فضل الله عز وجل على الناس مجئ الآيات التي تذم المنافقين وتبين سوء إختيارهم .
وفي معركة بني المصطلق وبعد أن نصر الله النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وهزم المشركين ، حدثت خصومة بين رجل من المهاجرين من بني غفار لعمر بن الخطاب وأسمه جهجاه بن مسعود مع آخر من الأنصار أسمه (وَذَكَرَ سِنَانَ بْنَ وَبْرَةَ وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ سِنَانُ بْنُ تَمِيمٍ مِنْ جُهَيْنَةَ بْنِ سَوْدِ بْنِ أَسْلَمَ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ .فِتْنَةٌ
فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ وَرَدَتْ وَارِدَةُ النّاسِ وَمَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ أَجِيرٌ لَهُ مِنْ بَنِي غِفَارٍ ، يُقَالُ لَهُ جَهْجَاهُ بْنُ مَسْعُودٍ يَقُودُ فَرَسَهُ فَازْدَحَمَ جَهْجَاهٌ وَسِنَانُ بْنُ وَبَرٍ الْجُهَنِيّ حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ عَلَى الْمَاءِ فَاقْتَتَلَا ، فَصَرَخَ الْجُهَنِيّ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ.
وَصَرَخَ جَهْجَاهٌ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ فَغَضِبَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابن سَلُولَ وَعِنْدَهُ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِهِ فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ غُلَامٌ حَدَثٌ فَقَالَ أَوَقَدْ فَعَلُوهَا ، قَدْ نَافَرُونَا وَكَاثَرُونَا فِي بِلَادِنَا ، وَاَللّهِ مَا أَعُدّنَا وَجَلَابِيبَ قُرَيْشٍ إلّا كَمَا قَالَ الْأَوّلُ سَمّنْ كَلْبَك يَأْكُلْك ، أَمَا وَاَللّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ .
ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ وَقَاسَمْتُمُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ أَمَا وَاَللّهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ عَنْهُمْ مَا بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوّلُوا إلَى غَيْرِ دَارِكُمْ . فَسَمِعَ ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَمَشَى بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَذَلِكَ عِنْدَ فَرَاغِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مِنْ عَدُوّهِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ ، وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، فَقَالَ مُرْ بِهِ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ فَلْيَقْتُلْهُ.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إذَا تَحَدّثَ النّاسُ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ لَا وَلَكِنْ أَذّنْ بِالرّحِيلِ وَذَلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَرْتَحِلُ فِيهَا ، فَارْتَحَلَ النّاسُ حَوْلَ فِتْنَةِ ابن أُبَيّ وَنِفَاقِهِ
وَقَدْ مَشَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابن سَلُولَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ حِينَ بَلَغَهُ أَنّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَدْ بَلَغَهُ مَا سَمِعَ مِنْهُ فَحَلَفَ بِاَللّهِ مَا قُلْت مَا قَالَ وَلَا تَكَلّمْت بِهِ – وَكَانَ فِي قَوْمِهِ شَرِيفًا عَظِيمًا – فَقَالَ مَنْ حَضَرَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَا رَسُولَ اللّهِ عَسَى أَنْ يَكُونَ الْغُلَامُ قَدْ أَوْهَمَ فِي حَدِيثِهِ وَلَمْ يَحْفَظْ مَا قَالَ الرّجُلُ حَدَبًا عَلَى ابن أُبَيّ ابن سَلُولَ وَدَفْعًا عَنْهُ . قَالَ ابن إسْحَاقَ : فَلَمّا اسْتَقَلّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَسَارَ لَقِيَهُ أُسَيْدَ بْنُ حُضَيْرٍ فَحَيّاهُ بِتَحِيّةِ النّبُوّةِ وَسَلّمَ عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ وَاَللّهِ لَقَدْ رُحْت فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ مَا كُنْت تَرُوحُ فِي مِثْلِهَا.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَوَمَا بَلَغَك مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ ؟ قَالَ وَأَيّ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ . قَالَ وَمَا قَالَ ؟ قَالَ زَعَمَ أَنّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ [لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ]( )، قَالَ فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَللّهِ تُخْرِجُهُ مِنْهَا إنْ شِئْت ، هُوَ وَاَللّهِ الذّلِيلُ وَأَنْت الْعَزِيزُ ثُمّ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ اُرْفُقْ بِهِ فَوَاَللّهِ لَقَدْ جَاءَنَا اللّهُ بِك ، وَإِنّ قَوْمَهُ لَيَنْظِمُونَ لَهُ الْحَرَزَ لِيُتَوّجُوهُ فَإِنّهُ لَيَرَى أَنّك قَدْ اسْتَلَبْته مُلْكًا .
ثُمّ مَشَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِالنّاسِ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ حَتّى أَمْسَى ، وَلَيْلَتَهُمْ حَتّى أَصْبَحَ وَصَدْرَ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ حَتّى آذَتْهُمْ الشّمْسُ ثُمّ نَزَلَ بِالنّاسِ فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ وَجَدُوا مَسّ الْأَرْضِ فَوَقَعُوا نِيَامًا ، وَإِنّمَا فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِيَشْغَلَ النّاسَ عَنْ الْحَدِيثِ الّذِي كَانَ بِالْأَمْسِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ .
ثُمّ رَاحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِالنّاسِ وَسَلَكَ الْحِجَازَ حَتّى نَزَلَ عَلَى مَاءٍ بِالْحِجَازِ فُوَيْقَ النّقِيعِ ؛ يُقَالُ لَهُ بَقْعَاءُ . فَلَمّا رَاحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ هَبّتْ عَلَى النّاسِ رِيحٌ شَدِيدَةٌ آذَتْهُمْ وَتَخَوّفُوهَا ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لَا تَخَافُوهَا ، فَإِنّمَا هَبّتْ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ الْكُفّارِ .
فَلَمّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ وَجَدُوا رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ التّابُوتِ أَحَدَ بَنِي قَيْنُقَاعِ وَكَانَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءِ يَهُودَ وَكَهْفًا لِلْمُنَافِقِينَ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ) ( ).
ثالثاً : ما يخص الذين كفروا إذ تتضمن آية البحث بيان معجزات متعددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتغشي المسلمين بآيات من فضل الله لتتحدى الذين كفروا وتدعوهم إلى الإسلام، ومن وجوه التحدي في المقام مسائل :
الأولى : تجلي مصاديق الإعجاز في التنزيل .
الثانية : تلقي المسلمين آيات القرآن التي يتلوها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق والقبول والعمل.
الثالثة : تفقه المسلمين وإرتقاؤهم في المعارف الإلهية .
الرابعة : دلالة خاتمة آية البحث [وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( )، سلامة المسلمين وذراريهم من الإرتداد .
الصلة بين آية البحث وخاتمة آية السياق
أختتمت الآية التالية بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ويحتمل متعلق موضوعها وجوهاً :
الأول : مضامين آية السياق خاصة .
الثاني : إرادة ما ورد في آية البحث ، وأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من صلاح أمة عظيمة لا يقدر عليه إلا الله عز وجل .
الثالث : المراد الآيات السابقة فمثلاً ورد قبل ثمان آيات قوله تعالى [وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ] ( ) ويفيد الجمع بينه وبين خاتمة آية السياق أنه لا يقدر على الإحياء والإماتة إلا الله عز وجل ، وقد أدّعى بعض الطواغيت الربوبية فأخزاهم الله وهم في ملكهم وسلطانهم ، ومنهم نمرود الذي بعث الله له إبراهيم لإقامة الحجة عليه وعلى الناس .
(عن زيد بن أسلم ، أن أول جبار كان في الأرض نمرود ، وكان الناس يخرجون يمتارون من عنده الطعام ، فخرج إبراهيم عليه السلام يمتار مع من يمتار .
فإذا مر بنمرود ناس قال : من ربكم؟.
قالوا له : أنت . حتى مرّ به إبراهيم فقال : من ربك : قال : الذي يحيي ويميت . قال : أنا أحيي وأميت .
قال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب . فبهت الذي كفر؟.
فرده بغير طعام ، فرجع إبراهيم إلى أهله فمر على كثيب من رمل أعفر فقال : ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم؟ فأخذ منه فأتى أهله ، فوضع متاعه ثم نام.
فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هو بأجود طعام رآه أحد ، فصنعت له منه فقربته إليه ، و كان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام.
فقال : من أين هذا؟! قالت من الطعام الذي جئت به . فعرف أن الله رزقه فحمد الله .
ثم بعث الله إلى الجبار ملكاً أن آمن بي وأنا أتركك على ملكك ، فهل ربّ غيري؟ فأبى .
فجاءه الثانية فقال له ذلك فأبى عليه ، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه.
فقال له الملك : فاجمع جموعك إلى ثلاثة أيام ، فجمع الجبار جموعه ، فأمر الله الملك ففتح عليه باباً من البعوض ، فطلعت الشمس فلم يروها من كثرتها ، فبعثها الله عليهم فأكلت شحومهم وشربت دماءهم ، فلم يبق إلا العظام .
والملك أي نمرود كما هو لم يصبه من ذلك شيء ، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه ثم ضرب بهما رأسه ، وكان جباراً أربعمائة سنة فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته الله وهو الذي كان بنى صرحاً إلى السماء ، فأتى الله بنيانه من القواعد) ( ).
الرابع : بيان قانون من الإرادة التكوينية , وأن الله قادر على محو المصيبة عن المسلمين .
الخامس : إرادة ثناء الله على نفسه ، وتفقه المسلمين في الدين .
السادس : دعوة المسلمين للدعاء وسؤال الحاجات والرغائب من عند الله عز وجل.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة ، لقد إبتدأت آية البحث بمنّ الله عز وجل ، ولا يقدر على المنّ على الخلائق والناس مجتمعين ومتفرقين إلا الله عز وجل ، نعم قد يحدث المنّ بين الناس ، ولكنه أمر محدود ولا يتم إلا بفضل ومنّ وفيض وإذن من عند الله ، بينما ذكر الله عز وجل منّه في آية البحث لتجلي مصاديق غير متناهية منه في كل يوم من أيام الدنيا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى يوم القيامة .
ويشمل هذا المنّ البشارات والمقدمات التي جاء بها الأنبياء لتهيئة الأذهان والنفوس والجوارح لتلقي رسالته بالقبول والرضا .
وكانت البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ميراث الأنبياء وزهرة الدنيا .
وعن (العرباض بن سارية السلمي قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني عند الله في أم الكتاب، خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته. وسوف أنبئكم بتأويل ذلك: أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي) ( ).
والعرباض من أهل الصفّة، ثم سكن حمص ومات فيها ، وهو أحد الذين نزل فيهم قوله تعالى [وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ] ( ).
وروى (عن موسى بن سعيد، عن عرباض بن سارية قال: كنت ألزم باب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر، فرأيتنا ليلة ونحن بتبوك وذهبنا لحاجةٍ، فرجعنا إلى منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تعشى ومن عنده من أضيافه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يدخل في قبته ومعه زوجته أم سلمة بنت أبي أمية، فلما طلعت عليه قال: أين كنت منذ الليلة؟ فأخبرته .
فطلع جعال بن سراقة، وعبد الله بن مغفل المزني – فكنا ثلاثة، كنا جائع، إنما نعيش بباب النبي صلى الله عليه وسلم – فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البيت فطلب شيئاً نأكله فلم يجده، فخرج إلينا فنادى بلالاً: يا بلال، هل من عشاء لهؤلاء النفر؟ قال: لا , والذي بعثك بالحق، لقد نفضنا جربنا وحمتنا.
قال : انظر، عسى أن تجد شيئاً فأخذ الجرب ينفضها جراباً جراباً، فتقع التمرة والتمرتان، حتى رأيت بين يديه سبع تمرات، ثم دعا بصحفةٍ فوضع فيها التمر، ثم وضع يده على التمرات وسمى الله .
وقال: كلوا بسم الله! فأكلنا فأحصيت أربعة وخمسين تمرة أكلتها، أعدها ونواها في يدي الأخرى، وصاحباي يصنعان ما أصنع، وشبعنا وأكل كل واحدٍ منا خمسين تمرة، ورفعنا أيدينا فإذا التمرات السبع كما هي.
فقال: يا بلال، ارفعها في جرابك، فإنه لا يأكل منها أحد إلا نهل شبعاً.
قال: فبينا نحن حول قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يتهجد من الليل، فقام تلك الليلة يصلي، فلما طلع الفجر ركع ركعتي الفجر، وأذّن بلال وأقام فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، ثم انصرف إلى فناء قبته، فجلس وجلسنا حوله فقرأ من ” المؤمنين”( )، عشراً.
فقال: هل لكم في الغداء؟ قال عرباض: فجعلت أقول في نفسي: أي غداء؟ فدعا بلال بالتمر، فوضع يده عليه في الصفحة ثم قال: كلوا بسم الله! فأكلنا – والذي بعثه بالحق – حتى شبعنا وإنا لعشرة، ثم رفعوا أيديهم منها شبعاً وإذا التمرات كما هي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا أني أستحيي من ربي لأكلنا من هذا التمر حتى نرد المدينة عن آخرنا. وطلع غليم من أهل البلد، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم التمرات بيده فدفعها إليه؛ فولى الغلام يلوكهن.
فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسير من تبوك أرمل( ) الناس إرمالاً شديداً، فشخص على ذلك الحال حتى جاء الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنونه أن ينحروا ركابهم فيأكلوها.
ولما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً حتى إذا كان بين تبوك وواد يقال له وادي الناقة ، كان فيه وشل( ) يخرج منه في أسفله قدر ما يروى الراكبين أو الثلاثة , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سبقنا الى ذلك الوشل فلا يستقين منه شيئاً حتى نأتي! فسبق إليه أربعة من المنافقين: معتب بن قشير، والحارث بن يزيد الطائي، حليف في بني عمرو بن عوف، ووديعة بن ثابت، وزيد بن اللصيت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أنهكم؟ ولعنهم ودعا عليهم، ثم نزل فوضع يده في الوشل، ثم مسحه بإصبعه حتى اجتمع في كفه منه ماء قليل، ثم نضحه، ثم مسحه بيده، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، فانخرق الماء.
قال معاذ بن جبل: والذي نفسي بيده، لقد سمعت له شدةً في انحرافه مثل الصواعق، فشرب الناس ما شاءوا، وسقوا ما شاءوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن بقيتم أو بقي منكم لتسمعن بهذا الوادي وهو أخصب مما بين يديه ومما خلفه! قال: واستقى الناس وشربوا. قال سلمة بن سلامة ابن وقش: قلت لوديعة بن ثابت: ويلك، أبعد ما ترى شئ؟ أما تعتبر؟ قال: قد كان يفعل مثل هذا قبل هذا! ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم) ( ).أي أراد معاذ زجر وديعة عن النفاق وإبطان الكفر .
ترى أين تقع آية البركة التي تجري على يد رسول الله في الطعام والشرب من المصاديق المنّ الإلهي في آية البحث والتي وردت في الحديث أعلاه ، وهل هي من تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات الله أم قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ] أم تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الكتاب والحكمة .
الجواب إنه من المنّ والطول في قوله تعالى الوارد في آية البحث فانه أعم من مضامين الآية بلحاظ أن اللطف والإحسان والمن من الله عز وجل برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعم من أن تختص به آية واحدة خاصة وأن كل آية من القرآن هي من هذا المنّ إذ يدل إخبار آية البحث عن بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم على جريان المعجزات على يديه.
ويمكن تقدير أول آية البحث على وجوه :
الأول : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ليدفع الله عنهم الفقر والفاقة .
الثاني : لقد منّ الله على المؤمنين إذ يشاهدون الآيات وبراهين النبوة تجري على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السفر والحضر ، ومن دلائل المعجزة النبوية في القتال وعند مقدماته بعث المسلمين على الجهاد وندبهم إلى التضحية والبذل والفداء في الدفاع عن الإسلام، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله.
الثالث : مجئ المعجزة عند الحاجة إليها ، فمع الجوع والعطش لا يستطيع الجنود القتال إنما تزحف الجيوش على بطونها أي مع الشبع وتوفير الأكل والشرب ، وكانت معركة تبوك لمواجهة الروم , وهم أهل ثراء ونعمة ظاهرة ولماّ ظهر الجوع على الصحابة في أرض الغربة تجلت المعجزة ، وهل يمكن القول بقانون وهو حصر حضور المعجزة عند الحاجة ، الجواب لا ، إذ أن المعجزة نعمة ومنّ من عند الله عز وجل ، فتأتي حيث يشاء الله عز وجل ، ليكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : لقد منّ الله على المؤمنين بمجئ الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزة .
الثاني : لقد منّ الله على المؤمنين بالملازمة بين الرسالة والمعجزة فان قلت لماذا لم تقل هنا بالملازمة بين النبوة والمعجزة ، الجواب يصح هذا القول أيضاً إلا أن آية البحث ذكرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة لبيان قانون وهو أن معجزات الرسول أكثر وأكبر من معجزات النبي، ومن معجزاته مجيؤه بشريعة وأحكام خاصة برسالته، وبالناسخ والمنسوخ بخصوص الشريعة السابقة ، ولبيان أن مصاديق آية البحث من خصائص الرسول ، فمن معاني قوله تعالى [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ] أي يتلوها إبتداء، فلم تنزل على نبي قبله .
الثالث : لقد منّ الله على المؤمنين لأنه [عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]إذ أن موضوع هذا الفصل هو صلة آية البحث بخاتمة آية السياق التي تتفاخر حروفها بقانون وهو قدرة الله عز وجل على كل شئ، وعدم إستعصاء مسألة عليه.
الرابع : لقد منّ الله على المؤمنين بافاضة الطعام من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : لقد منّ الله على المؤمنين بدفع اليأس والقنوط عنهم ، قال تعالى [وَلاَ تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ] ( ).
السادس : إن الله عز وجل على كل شئ قدير ، فلم يبطش بالناس على عبادتهم للأوثان وعزوفهم عن طاعته فمنّ عليهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعه من المعجزات العقلية والحسية ما لم تكن مع أحد يتلو من الأنبياء سواء من جهة الكم أوالكيف أو الأثر ، وهو من الشواهد على عموم رسالته وأنها جاءت إلى الناس جميعاً تحبب لهم الإيمان وتبعث النفرة في نفوسهم من عبادة الأوثان ومن الذين يقيمون على عبادتها ، قال تعالى [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ] ( ).
وقد تقدم في الجزء السابق أن كلاً من لفظ [حَبَّبَ] و[كَرَّهَ] ولفظ [الرَّاشِدُونَ] لم يرد في القرآن إلا في الآية أعلاه ( ) لبيان قانون وهو الملازمة بين الإيمان والرشد والفلاح، وتأكيد منّ الله عز وجل على المسلمين في تلقي منّه ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والتصديق .
فمن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) تجلي منّ الله على المسلمين بالهداية لمنّه ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتقدير آية البحث : لقد منّ الله على الذين بلغوا مرتبة الإيمان بمنّ الله إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، فمن مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]أمور :
الأول : نزول المنّ من الله على الناس .
الثاني : توالي وتعاقب المنّ من الله على الناس .
الثالث : منّ الله بانتفاع شطر من الناس من منّه وطوله وإحسانه ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : بقاء من ّ الله في الأرض وعدم مغادرته لها .
الخامس : تجلي مصاديق منّ الله للناس وسطوع ضيائه .
ومن الآيات في المنّ الإلهي تفضل الله عز وجل على المسلمين بنزول قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) وتلاوة كل مسلم ومسلمة له عدة مرات في اليوم بصيغة الوجوب العيني , وفيه مسائل :
الأولى : المنّ من الله صراط مستقيم .
الثانية : المنّ من الله طريق إلى الصراط المستقيم .
الثالثة : المنّ من الله رشحة وفيض في سبل الهداية والرشاد.
الوجه الثاني : صلة هذه بقوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : نزلت كل من آية البحث والسياق بخصوص معركة أحد ، وهو من فيوضات القرآن بأن يصاب المسلمون بخسارة فادحة في معركة ، فتتوالى آيات القرآن التي تبين أسباب هذه الخسارة وكيفية الإنتفاع الأمثل منها ودفع الأضرار التي قد تترشح عنها ، وهو من منّ الله الذي تذكره آية البحث.
لقد كان أثر ونفع هذه الآيات على المسلمين عظيماً ’ وتجلى بتحليهم بالصبر والرضا بما قدّر الله عز وجل .
ولا يعلم أحد غير الله ما أصاب الكافرين من الضرر الفادح بنزول هذه الآيات التي تبدد وتمحو أي نصر أو مكسب لهم في المعركة , قال تعالى[كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * فَأَذَاقَهُمْ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ]( ).
لقد أنزل الله عز وجل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم أحد , قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ) ولم ينقطع المدد من الله ، إذ كانت كل آية قرآنية نزلت قبل أو أثناء معركة أحد مدداً للمسلمين ، وكذا كل آية نزلت بعدها فانها مدد للمسلمين لقادم الأيام ، وفيها خزي وذل وهوان للذين كفروا .
لقد جعلت هذه الآيات الذين كفروا في حال يأس مقرون بالفزع والخوف من المسلمين , وفي قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( )، ورد عن السدي قال : لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة ، انطلق أبو سفيان حتى بلغ بعض الطريق . ثم إنهم ندموا فقالوا : بئسما صنعتم إنكم قتلتموهم حتى لم يبق إلا الشريد ، تركتموهم . . . ؟ إرجعوا فاستأصلوا . فقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا فلقوا أعرابياً فجعلوا له جعلاً فقالوا له : إن لقيت محمداً فأخبرهم بما قد جمعنا لهم .
فأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد . فأنزل الله في ذلك ، فذكر أبا سفيان حين أراد أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وما قذف في قلبه من الرعب فقال {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب}( ).
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية قال: قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب فرجع إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفاً ، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب( ).
ومن آيات القرآن هذه آية البحث التي تخبر عن منّ وإحسان خاص بالمسلمين ، مما يجعل الحسد يدب إلى قلوب الذين كفروا ويظهر جلياً في منتدياتهم والمناجاة فيما بينهم .
ووصفت الآية المسلمين بصفة الإيمان ، وهو دعوة لهم لإجتناب الفرقة والقتال فيما بينهم ، إذ أن الإيمان سور الموجبة الكلية الجامع بينهم والذي لم ينالوه إلا بمنّ وفضل من الله عز وجل ، فأراد الله عز وجل أن يثبت أقدامهم في منازل الإيمان فتفضل وسمّاهم المؤمنين ، ويكون تقدير أول الآية على وجوه منها :
الأول : لقد منّ الله على المؤمنين إذ جعلهم مؤمنين , وحدثت خصومة بين الأوس والخزرج بتحريض من رجل شديد الضغن على المسليمن وذكّرهم بالعداوة التي كانت بينهم أيام الجاهلية فغضب الفريقان وحملوا السلاح : فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم .
فقال : يا معشر المسلمين الله الله . . . أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً؟! فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان ، وكيد من عدوّهم لهم . فألقوا السلاح ، وبكوا وعانق الرجال بعضهم بعضاً ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس ، وأنزل الله في شأن شاس بن قيس وما صنع {قل يا أهل الكتاب لمَ تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون}( ) إلى قوله {وما الله بغافل عما تعملون}( ) وأنزل في أوس بن قيظي ، وجبار بن صخر ، ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } إلى قوله {أولئك لهم عذاب عظيم}( ).
الثاني : لقد منّ الله على المؤمنين إذ حال بينهم وبين مفاهيم الكفر , وهو من مصاديق قوله تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
الثالث : لقد منّ الله على المؤمنين إذ عصمهم من الإرتداد .
الرابع : لقد منّ الله على المؤمنين إذ رزقهم درجة الإيمان من بين الناس.
الخامس : لقد منّ الله على المسلمين إذ ذكرهم في آية البحث بصفة المؤمنين ، وفيه بشارة الأجر والثواب العظيم في الآخرة .
السادس : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ليمّن عليهم بالرزق الكريم والخير الوفير .
السابع : من معاني تفضل الله عز وجل بجعل [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) توالي المنّ الإلهي على الناس وإختصاص المؤمنين بشطر منه ، وهو الذي تبينه كل من آية البحث السياق ، إذ يصاب الإنسان بالحسرة ويدّب اليأس إلى نفسه عند الخسارة والهزيمة فتفضل الله عز وجل ووقى المسلمين الهزيمة في معركة أحد وجعلهم يتلقون الخسارة بالصبر وتعاهد الفرائض ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ..] ( ).
المسألة الثانية : جاءت آية السياق بصيغة الخطاب [وَمَا أَصَابَكُمْ] أي يا أيها المؤمنون ما أصابكم )
ووردت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] لتكون هذه الآيات مدرسة الإيمان في حال الخسارة في ميدان المعركة، وليس من أمة مثل المسلمين يتفضل الله عز وجل عليهم بالمواساة والبيان الدائم عند الخسارة في أحدى معاركهم مع الذين كفروا.
وأخبرت آية البحث عن منّ الله عز وجل على المؤمنين لبيان قانون وهو أن الخسارة التي يصابون بها بعين الله وهو سبحانه يعلم بها قبل وقوعها ، وتنزل بساحتهم ليثيبهم الله عليها , قال تعالى[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]( )، مما يدل على عدم تعارضها مع إتصال المنّ من الله على المؤمنين والمؤمنات ، وفي حين ذكرت آية البحث المنّ من الله على المسلمين ذكرت الآيتان التي بعدها مسألة المصيبة التي حلّت بالمسلمين يوم معركة أحد في قوله تعالى[أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
والمراد من الجمعين هم جيش المسلمين وجيش المشركين إذ التقوا في الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية في محيط جبل أحد ، وكان تلك الواقعة التي خلّدها القرآن بتفاصيل وبيان لتكون موعظة وعبرة للمسلمين ووسيلة ليتحلوا بالصبر في معارك الإسلام القادمة فكانت الآيات القرآنية الخاصة بمعركة أحد مادة وسبباً للصبر في معركة الخندق ومن وسائل النصر في معركة حنين ، فقد انهزم كثير من الصحابة في معركة أحد ثم أخذوا بالرجوع إلى ميدان المعركة تباعاً ، ولكن في معركة حنين وعندما تعرض المسلمون لهجوم مباغت وشديد من هوازن وثقيف إنهزمت الطلائع الأولى من جيش المسلمين ولكن سرعان ما عادوا إلى ميدان المعركة فأحاط بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منهم ساعتئذ نحو ثلاثمائة ، وكانت مقدمة النصر المبين بينما لم يثبت بين النبي يوم أحد إلا بنحو عدد أصابع اليدين .
و(عن المقداد، قال: لما تصاففنا للقتال جلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم تحت راية مصعب بن عمير، فلما قتل أصحاب اللواء وهزم المشركون الهزيمة الأولى، وأغار المسلمون على معسكرهم فانتهبوا حدثت ثغرة عند المسلمين بسبب ترك الرماة لمواضعهم على جبل الرماة فزحفت خيل المشركين التي كانت تراقب خلفهم لتقتل من بقي من الرماة وعددهم تسعة من أصل خمسين أي أن واحداً واربعين منهم نزلوا إلى ساحة المعركة للأخذ من الغنائم وخشية أن تفوتهم , مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لهم : إن سهامهم محفوظة لترغيبهم بالبقاء على الجبل .
ثم كروا على المسلمين فأتوا من خلفهم فتفرق الناس، ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أصحاب الألوية، فأخذ اللواء مصعب بن عمير ثم قتل. وأخذ راية الخزرج سعد بن عبادة، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم قائمٌ تحتها، وأصحابه محدقون به، ونظرت إلى لواء الأوس مع أسيد بن حضير، فناوشوهم ساعةً واقتتلوا على الاختلاط من الصفوف
. ونادى المشركون بشعارهم: يا للعزى، يا آل هبل! فأوجعوا والله فينا قتلاً ذريعاً، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما نالوا. لا والذي بعثه بالحق، إن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم زال شبراً واحداً، إنه لفي وجه العدو، وتثوب إليه طائفةٌ من أصحابه مرة وتتفرق عنه مرة، فربما رأيته قائماً يرمي عن قوسه أو يرمي بالحجر حتى تحاجزوا.
وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلّم كما هو في عصابةٍ صبروا معه، أربعة عشر رجلاً، سبعةٌ من المهاجرين وسبعةٌ من الأنصار: أبو بكر، وعبد الرحمن بن عوف، وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة بن الجراح، والزبير بن العوام، ومن الأنصار: الحباب بن المنذر، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ. ويقال ثبت سعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة، فيجعلونهما مكان أسيد بن حضير وسعد بن معاذ. وبايعه يومئذٍ ثمانيةٌ على الموت ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار: علي، والزبير، وطلحة ، وأبو دجانة، والحارث بن الصمة، وحباب بن المنذر، وعاصم بن ثابت، وسهل بن حنيف، فلم يقتل منهم أحدٌ. ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يدعوهم في أخراهم، حتى انتهى من انتهى منهم إلى قريب من المهراس ) ( ).
المسألة الثالثة : بينما جاءت آية البحث بالمنّ والطول وذكر النعم التي تفضل الله عز وجل بها ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جاءت آية السياق بذكر المصيبة والخسارة والتذكير بمعركة أحد وسفك الدماء.
فهل من تباين موضوعي بين مضامين الآيتين ، الجواب لا ، إذ يتجلى الفضل من الله عز وجل فيها من وجوه :
الأول : تقييد ما أصاب المسلمين بأنه بأذن الله وهو سبحانه الذي يمنّ على المسلمين بنزول القرآن .
الثاني : دفع الشك ومنع دبيب الوهن عن المسلمين ، لذا لم يقل أحد منهم لماذا خسرنا في معركة أحد مع أن الأرض والسماء ملك لله عز وجل وأن الملائكة الذين نصروا المسلمين في معركة بدر موجودون.
لقد كانت مصيبة المسلمين يوم أحد امتحاناً لهم لذا أختتمت آية السياق بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ولا يختص هذا العلم بذات المعركة بل يشمل الوقائع اللاحقة لها ، ومنها معركة الخندق ، إذ كان المسلمون يحتاجون يومئذ الصبر والمرابطة ، وعدم الإصغاء للمنافقين.
الثالث : لما أخبرت آية البحث عن كون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعلّم المسلمين الحكمة جاءت الخسارة يوم أحد لتقتبس منها أجيال المسلمين المواعظ والعبر ، وهذا الإقتباس من الحكمة لذا لم يوجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اللوم يومئذ للرماة الذين تركوا مواضعهم وكانوا سبب الخسارة ، ولم يعاقب رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول الذي إنخرم بنحو ثلث الجيش في الطريق إلى معركة أحد .
وعدم ذم أو توبيخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرماة من مصاديق قول الله عز وجل [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( )، وليكون إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن اللوم والعقوبة لهؤلاء من معجزاته الحسية وحسن توكله على الله عز وجل، ورجاء رفده وفضله ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
المسألة الرابعة : لقد أخبرت آية السياق بأن الخسارة التي لحقت المسلمين والمصيبة التي نزلت بهم يوم معركة أحد كانت بأذن الله عز وجل ، لبيان قانون وهو حفظ الله عز وجل للمؤمنين ، ومن مصاديق حفظ الله للمسلمين والمسلمات تفضله بآية البحث ، لأن كل فرد من مصاديق المن الذي تذكره يخفف عن المسلمين وطأة المصيبة ، ويجعلهم يتلقونها بالشكر والثناء على الله عز وجل ، ليكون من معاني آية البحث وجوه :
الأول : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليه آياته بالصبر والمناجاة به عند نزول الخسارة والمصيبة بهم .
الثاني : يتلو عليهم آياته باللجوء إلى ذكر الله عند المصيبة وفقد الأحبة ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ] ( ) .
ومن معاني الآية أعلاه بيان قانون وهو حاجة المسلمين والناس إلى آيات القرآن لما فيها من بعث السكينة في النفوس والرضا بأمر الله عند نزول المصيبة .
الثالث : لقد منّ الله على المؤمنين فلا تنزل بهم مصيبة إلا باذن الله، ليكون من الإعجاز لوصف آية البحث للمسلمين بالمؤمنين تأكيد الأجر والثواب العظيم للمسلمين على البلاء والخسارة لأنهم خرجوا إلى معركة أحد طاعة لله ورسوله ودفاعاً عن بيضة الإسلام ، قال تعالى بخصوص خروجهم إليها [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
المسألة الخامسة : لقد ذكرت آية البحث المؤمنين على نحو الخصوص في مسألة منّ الله عز وجل عليهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم ذكرت آية السياق نزول المصيبة به في معركة أحد إذ فقدوا سبعين شهيداً وفاتتهم الغنائم والأسرى ، ولم يقع في أيديهم إلا أسير واحد.
وقيدت آية البحث خسارة المسلمين في معركة أحد بأنها باذن الله ، بينما جاءت آيات القرآن بذم المنافقين ونسبة مصيبتهم إلى أنفسهم بقوله تعالى [فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ] ( ) لبيان المائز بين المؤمنين وغيرهم ، وأن الذي يتلقى تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن بالصدود والجحود وإبطان الكفر وإنكار التنزيل تنزل به المصائب عقوبة ومن غير أن يثاب عليها .
ومن الإعجاز في ذكر آية البحث لمنّ الله على المسلمين أنها واقية من اليأس والقنوط عند وقوع الخسارة وبرزخ دون الإنصات للمنافقين في شماتتهم وسعيهم لقعود المؤمنين عن الجهاد.
ومن معاني الجمع بين الآيتين أن ما يلقى المسلمون من المصائب والخسارة يأتي بصيغة الآية القرآنية لتكون مناسبة لتزكيتهم وتطهيرهم ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) تعاهد المسلمين للفرائض وأدائها حتى في أشد الأحوال وإظهارهم التعاون فيما بينهم لدفع المصيبة ، وهو الذي تجلى بعد معركة أحد فقد زحف في معركة أحد ثلاثة آلاف من قريش والأحباش .
وأصيب المسلمون بخسارة كبيرة وذكرتها آية السياق بصفة المصيبة بينما زحف جيش المشركين في معركة الخندق بعشرة آلاف رجل ، وبلحاظ قاعدة الأولوية يتوقع أن تكون خسارة المسلمين يومئذ أكبر وأشد ، ولكن الله عز وجل نجّاهم من الخسارة ، ورزقهم الصبر ، وهذا الصبر من المنّ المترشح عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, قال تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
وفي الآية أعلاه ورد عن عبد الله بن مسعود (أنه كان يقرأ هذا الحرف { وكفى الله المؤمنين القتال } بعلي بن أبي طالب) ( ).
وعن سعيد بن المسيب (قال : لما كان يوم الأحزاب حصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضع عشرة ليلة حتى خلص إلى كل امرىء منهم الكرب ، وحتى قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم أنك إن تشأ لا تعبد : فبينما هم على ذلك إذ جاءهم نعيم بن مسعود الأشجعي ، وكان يأمنه الفريقان جميعاً ، فخذل بين الناس ، فانطلق الأحزاب منهزمين من غير قتال . فذلك قوله { وكفى الله المؤمنين القتال } .
وأخرج ابن مردويه عن جابر قال : لما كان يوم الأحزاب ردهم الله { بغيظهم لم ينالوا خيراً } فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من يحمي أعراض المسلمين؟ قال كعب : أنا يا رسول الله . قال عبد الله بن رواحة: أنا يا رسول الله .
فقال : إنك تحسن الشعر . فقال حسان : أنا يا رسول الله , فقال : نعم . اهجهم أنت ، فإنه سيعينك عليهم روح القدس( ).
وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَعْرَى السّهْمِيّ فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ :
حَيّ الدّيَارِ مَحَا مَعَارِفَ رَسْمِهَا … طُولُ الْبِلَى وَتَرَاوُحُ الْأَحْقَابِ
فَكَأَنّمَا كَتَبَ الْيَهُودُ رُسُومَهَا … إلّا الْكَنِيفَ وَمَعْقِدَ الْأَطْنَابِ
قَفْرًا كَأَنّك لَمْ تَكُنْ تَلْهُو بِهَا … فِي نِعْمَةٍ بِأَوَانِسٍ أَتْرَابِ
فَاتْرُكْ تَذَكّرَ مَا مَضَى مِنْ عِيشَةٍ … وَمَحِلّةٍ خَلْقِ الْمَقَامِ يَبَابِ
وَاذْكُرْ بَلَاءَ مَعَاشِرَ وَاشْكُرْهُمْ … سَارُوا بِأَجْمَعِهِمْ مِنْ الْأَنْصَابِ
أَنْصَابِ مَكّةَ عَامِدِينَ لِيَثْرِبِ … فِي ذِي غَيَاطِلَ جَحْفَلٍ جَبْجَابِ
يَدَعُ الْخُزُونَ مَنَاهِجًا مَعْلُومَةً … فِي كُلّ نَشْرٍ ظَاهِرٍ وَشِعَابِ
فِيهَا الْجِيَادُ شَوَازِبٌ مَجْنُوبَةٌ … قُبّ الْبُطُونِ لَوَاحِقُ الْأَقْرَابِ
مِنْ كُلّ سَلْهَبَةٍ وَأَجْرَدَ سَلْهَبٍ … كَالسّيّدِ بَادَرَ غَفْلَةَ الرّقّابِ
جَيْشٌ عُيَيْنَةُ قَاصِدٌ بِلِوَائِهِ … فِيهِ وَصَخْرٌ قَائِدُ الْأَحْزَابِ
قَرْمَانُ كَالْبَدْرَيْنِ أَصْبَحَ فِيهِمَا … غَيْثَ الْفَقِيرِ وَمَعْقِلَ الْهُرّابِ
حَتّى إذَا وَرَدُوا الْمَدِينَةَ وَارْتَدَوْا … لِلْمَوْتِ كُلّ مُجَرّبٍ قَضّابِ
شَهْرًا وَعَشْرًا قَاهِرِينَ مُحَمّدًا … وَصِحَابُهُ فِي الْحَرْبِ خَيْرُ صِحَابِ
نَادَوْا بِرِحْلَتِهِمْ صَبِيحَةَ قُلْتُمْ … كِدْنَا نَكُونُ بِهَا مَعَ الْخُيّابِ
لَوْلَا الْخَنَادِقُ غَادَرُوا مِنْ جَمْعِهِمْ … قَتْلَى لِطَيْرِ سُغّبٍ وَذِئَابِ
ورد حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ عَلَى ابن الزّبَعْرَى فَقَالَ :
هَلْ رَسْمُ دَارِسَةِ الْمَقَامِ يَبَابِ … مُتَكَلّمٍ لِمُحَاوِرِ بِجَوَابِ
قَفْرٌ عَفَا رِهَمُ السّحَابِ رُسُومَهُ … وَهُبُوبُ كُلّ مُطِلّةٍ مِرْبَابِ
وَلَقَدْ رَأَيْت بِهَا الْحُلُولَ يَزِينُهُمْ … بِيضُ الْوُجُوهِ ثَوَاقِبُ الْأَحْسَابِ
فَدَعْ الدّيَارَ وَذِكْرَ كُلّ خَرِيدَةٍ … بَيْضَاءَ آنِسَةِ الْحَدِيثِ كَعَابِ
وَاشْكُ الْهُمُومَ إلَى الْإِلَهِ وَمَا تَرَى … مِنْ مَعْشَرٍ ظَلَمُوا الرّسُولَ غِضَابِ
سَارُوا بِأَجْمَعِهِمْ إلَيْهِ وَأَلّبُوا … أَهْلَ الْقُرَى وَبَوَادِيَ الْأَعْرَابِ
جَيْشٌ عُيَيْنَةُ وَابن حَرْبٍ فِيهِمْ … مُتَخَمّطُونَ بِحَلْبَةِ الْأَحْزَابِ
حَتّى إذَا وَرَدُوا الْمَدِينَةَ وَارْتَجَوْا … قَتْلَى الرّسُولِ وَمَغْنَمَ الْأَسْلَابِ
وَغَدَوْا عَلَيْنَا قَادِرِينَ بِأَيْدِهِمْ … رُدّوا بِغَيْظِهِمْ عَلَى الْأَعْقَابِ
بِهُبُوبِ مُعْصِفَةٍ تُفَرّقُ جَمْعَهُمْ … وَجُنُودِ رَبّك سَيّدِ الْأَرْبَابِ
فَكَفَى الْإِلَهُ الْمُؤْمِنِينَ قِتَالَهُمْ … وَأَثَابَهُمْ فِي الْأَجْرِ خَيْرَ ثَوَابِ
مِنْ بَعْدِ مَا قَنِطُوا فَفَرّقَ جَمْعَهُمْ … تَنْزِيلُ نَصْرِ مَلِيكِنَا الْوَهّابِ
وَأَقَرّ عَيْنَ مُحَمّدٍ وَصِحَابِهِ … وَأَذَلّ كُلّ مُكَذّبٍ مُرْتَابِ
عَاتِي الْفُؤَادِ مُوَقّعٍ ذِي رِيبَةٍ … فِي الْكُفْرِ لَيْسَ بِطَاهِرِ الْأَثْوَابِ
عَلِقَ الشّقَاءُ بِقَلْبِهِ فَفُؤَادُهُ … فِي الْكُفْرِ آخِرُ هَذِهِ الْأَحْقَابِ ( ).
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين أو لما أصابتكم مصيبة قد أصابتكم مثليها ) .
وقد يتبادر إلى الذهن بأن ليس بعد المنّ من عند الله إلا الأمن والسلامة والنصر ، وهو الحق والصدق إلا أن الله عز وجل يبتلي المسلمين بالذين كفروا ، يعتدون عليهم ويجهزون الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة قتله والمؤمنين فلا يكون لهم خيار إلا الدفاع عن :
الأول : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد ورد (عن سعيد بن زيد ان النبي صلى الله عليه وسلم قال من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون اهله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد)( ).
فمن باب الأولوية دفاع المسلمين عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو ياتيهم بالوحي ويبين لهم الأحكام.
الثاني : ملة التوحيد .
الثالث : الدفاع عن النفس لأن المشركين كانوا يريدون قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسر أو قتل أصحابه .
الرابع : الذب عن الأعراض والحيلولة بالبذل والشهادة في سبيل الله دون سبي النساء المؤمنات .
الخامس : حفظ الأموال والزراعات والأنعام التي تعود للمسلمين ولأهل المدينة مطلقاً ، فان قلت قد يكون اليهود في المدينة قد تواطئوا( ) مع كفار قريش عند هجومهم في معركة أحد ، فلا يتعرضون لأموالهم ولا ينهبون منها شيئاً .
وأن المشركين على فرض إقتحامهم المدينة فأنهم لا يقدرون إلا على المسلمين او صيرورتهم سبباً لزجر الذين كفروا من التعدي على اليهود في المدينة .
الجواب لا دليل عليه , فالمشرك الغازي لا يتورع عن شئ لذا قال تعالى [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ]( ).
إعجاز الآية الذاتي
إبتدأت آية البحث بحرف اللام , وحرف التحقيق (قد) لبيان تأكيد مضامين آية البحث من جهات :
الأولى : رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منّ وطول من عند الله سبحانه .
الثانية : نزول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكلام الله عز وجل وتقدير آية البحث ، إن منّي عليكم برسالة النبي محمد عظيم ، ليقول الله عز وجل للمسلمين ، أني أنا الذي بعثت لكم محمداً رسولاً صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا] ( ).
الثالثة : رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خير محض ، ومنّ وطول من الله عز وجل .
الرابعة : وجوب شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
ومن الإعجاز الذاتي لآية البحث أن موضوعها لا يختص بذات الرسالة النبوية بل يشمل تجليات الرسالة ، والخصائص التي تتصف بها وذكرها على نحو التعدد من منّ الله عز وجل .
وكل فرد منها نعمة ومنّ وطول من الله سواء بذكرها في آية البحث أو غيرها , لتذكر آية البحث المنّ من جهات :
الأولى : ذات الآية كلام الله .
الثانية : تفضل الله باختيار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً.
الثالثة : هداية المسلمين إلى مرتبة الإيمان .
الرابعة : نزول آيات الله وكلامه على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي يدل عليه بالدلالة التضمنية قوله تعالى [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ] ( ).
الخامسة : تزكية وتطهير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بتلاوته آيات القرآن وبالسنة القولية والفعلية .
السادسة : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم المسلمين آيات التنزيل وتفسيرها وتأويلها .
السابعة : إمامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في سبل الهداية والرشاد .
الثامنة : تنزه المسلمين عن الضلالة , ومفاهيم الكفر والإرتداد .
ويمكن تسمية آية البحث آية (لقد منّ الله ) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في آية البحث وورد لفظ (منّ الله) ست مرات في القرآن .
إعجاز الآية الغيري
لقد إبتدأت آية البحث بذكر منّ الله عز وجل , وليس من مخلوق إلا ولله عز وجل عليه منّ عظيم ، وذكرت الآية خصوص المؤمنين لبيان أمور :
الأول : منزلة المؤمنين عند الله وإكرامه تعالى لهم ، فعندما أخبرت الآية السابقة عن تقسيم الناس إلى درجات عند الله تفضل الله عز وجل وبينّ منّه على المؤمنين لبيان النعم التي يتساوون فيها وأن كونهم درجات لا يتعارض مع مجئ منّ ونعم عظيمة لهم بعرض واحد ، منها بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون التقسيم ومسألة الدرجات في كيفية الأخذ والتعلم والإقتباس والإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثاني : بيان موضوع المنّ الذي تذكره هذه الآية ، ويختص ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويتضمن المضامين القدسية والعلوم والأحكام التي جاء بها من عند الله والتي تأخذ بأيدي المسلمين في سبل الإرتقاء ، قال تعالى [وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا] ( ).
الثالث : مجئ الآية بصيغة المفرد بخصوص المنّ وبصيغة الجمع في المؤمنين ، لبيان أنه ليس من مؤمن إلا وينتفع النفع العظيم من رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
لبيان أن الفرد الواحد من المنّ والطول من عند الله تنتفع منه الأمم إلى يوم القيامة .
الرابع : تجلي شكر الله عز وجل للمؤمنين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء المؤمنين من الأمم والملل السابقة أو الذين دخلوا الإسلام إذ أن الله عز وجل يعلم بأنهم سيدخلون الإسلام ومنهم من يولد على الإسلام وهم أجيال المسلمين المتعاقبة إلى يوم القيامة إذ لا شريعة أخرى بعد شريعته صلى الله عليه وآله وسلم .
ليكون من معاني وصبغة الإيمان التي تذكرها آية البحث التسليم بأن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتمة للنبوات ، ويكون تقدير الآية (لقد منّ الله على المؤمنين بأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين ) قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ] ( ).
الخامس : ترغيب الناس بالإسلام والإجتهاد في طاعة الله ورسوله ليتفضل الله عز وجل عليهم بالمنّ والفضل، وهل هذا المنّ أعم من الرحمة التي وردت بقوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الجواب لا ، إنما الرحمة هي الأعم مع عدم سلب صبغة العموم عن المنّ الذي تذكره آية البحث حتى مع مقارنته برحمة الله في الآية أعلاه أو غيرها .
وظاهر آية البحث أن المنّ والطول من عند الله على المسلمين خاصة, ولكن مضمون الآية أعم سواء في ذات المنّ والإحسان أو في غيره من العفو والمغفرة للمسلمين ، وترغيب الناس بدخول الإسلام وإنذارهم من تضييع نعمة المنّ الإلهي الذي يتجلى ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
ويصح تقدير آية البحث بلحاظ صيغ النداء الواردة في القرآن على وجوه :
أولاً : يا أيها الناس لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم .
ثانياً : يا بني آدم لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم .
رابعاً : يا أيها المؤمنون لقد منّ الله عليكم إذ بعث فيكم رسولاً من أنفسكم .
خامساً : يا أهل الكتاب لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم.
سادساً : يا أيها الذين كفروا لقد منّ الله على المؤمنين وعليكم , إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، وفيه دعوة للناس للتفكر والتدبر في معجزات النبوة .
ومن الإعجاز في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن بركاتها ومنافعها لا تنحصر بالحياة الدنيا، إنما تشمل الآخرة وقد أنعم الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشفاعة العظمى يوم القيامة, وعن أبي سعيد الخدري في قوله({عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} قال : يخرج الله قوماً من النار من أهل الإيمان والقبلة بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، فذلك المقام المحمود)( ).
الآية سلاح
من خصائص الإنسان أنه ضعيف محتاج يفتقر إلى العون ، أما في تصوره فانه يشعر بالفاقة إلى أكثر مما يحتاج أضعافاً مضاعفة ، وهو من أسباب الإفتتان في الدنيا ، وميل الإنسان للحيلة والمكر وبذل الجهد الإضافي طلباً للدنيا وزينتها .
وقد جاء الإسلام ببيان صفة الفقير والمسكين وكيف أنهما يستحق معها العبد الصدقة ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ…] ( ) والفقير في الإصطلاح هو الذي لا يملك قوت سنته بالفعل أو القوة ، وقيل لا يملك قوت يومه.
وقد كان في حياة الأنبياء أسوة حسنة للمسلمين عامة والفقراء منهم خاصة ، ترى لماذا كان أغلب الأنبياء فقراء ، الجواب من جهات :
الأولى : بيان الحسن الذاتي للزهد في الدنيا.
الثانية : إنقطاع الأنبياء لطاعة الله وإجتهادهم في الجهاد في سبيله ، وعن وهب قال (إن الله بعث صالحاً إلى قومه حين راهق الحلم ، وكان رجلا أحمر إلى البياض سبط الشعر ، وكان يمشي حافيا كما كان عيسى ابن مريم عليهما السلام لا يتخذ حذاء ، ولا يدهن ولا يتخذ بيتا ولا مسكنا ولا يزال مع ناقة ربه حيثما توجهت توجه معها وحيثما نزلت نزل معها ، وكان قد صام أربعين يوما قبل أن تعقر الناقة ، وكانت على يده اليمنى شامة علامة ، فلبث فيهم أربعين عاما يدعوهم إلى الله من لدن كان غلاما إلى أن شمط وهم لا يزدادون إلا طغيانا) ( ).
الثالثة : بعث النفرة في نفوس الناس من الإنقطاع إلى الدنيا .
الرابعة : تأكيد مصداق عملي , وهو إمكان قهر النفس الشهوية والسبعية.
الخامسة : منع الناس من الإفتراء على النبي أو حسده أو مؤاخذته أو التعدي عليه بسبب أمواله وخزائنه ، لو كانت موجودة، لذا وردت الآيات في ذم الذين كفروا ممن إعتدى على الأنبياء بأنه بغير حق ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] ( ).
السادسة : لم يكن الأنبياء قليلوا المال ، ولكنهم كانوا يكثرون من الإنفاق في سبيل الله ، لبيان أن فقرهم أمر عرضي ومختار .
السابع : إرادة المسارعة إلى الجنة ، وبيان قانون وهو أن فقراء المؤمنين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم ، وكان معاذ بن جبل والياً على الشام وكان يعطي الناس , و(في آخر النهار ، جاء رجل من أهل الرستاق ، من مكان كذا وكذا ، فقال له : يا معاذ ، من لي بعطائي ؟ فإني رجل من أهل الرستاق ، من مكان كذا وكذا فلعلي آوي إلى أهلي قبل الليل ؟ .
فقال : والله لا أعطيك حتى هؤلاء ، يعني : أهل المدينة ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : الأنبياء كلهم يدخلون الجنة قبل داود ، وسليمان بألفي عام ، وإن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين عاما ، وإن صالح العبيد يدخلون الجنة قبل الأحرار بأربعين عاما ، وإن أهل المدائن يدخلون الجنة قبل أهل الرساتيق بأربعين عاما ، تفضل المدائن بالجمعة والجماعات وحلق الذكر ، وإذا كان بلاء خصوا به دونهم) ( ).
مفهوم الآية
إبتدأت الآية بالإخبار عن منّ الله على المؤمنين مجتمعين ومتفرقين, ويكون من معاني وتقدير الآية وجوه :
الأول : لقد منّ الله على المهاجرين .
الثاني : لقد منّ الله على الأنصار .
الثالث : لقد منّ الله على التابعين .
الرابع : لقد منّ الله على كل مؤمن .
الخامس : لقد منّ الله على كل مؤمنة .
السادس : لقد منّ الله عليك أيها المؤمن إذ بعث فيكم رسولاً من أنفسكم .
السابع : لقد منّ الله عليكِ أيتها المؤمنة .
لقد أشرقت على الأرض آيات من المنّ الإلهي ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي تتوالي على الناس كل يوم وإلى يوم القيامة ، وهو من معاني مجئ آية البحث بصيغة الفعل الماضي [لَقَدْ مَنَّ].
لقد إمتحن الله عز وجل الناس في عالم الذر , وفاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأسمى درجات الإيمان ليكون من معاني قوله تعالى [مِنْ أَنْفُسِهِمْ] فهو إمام المؤمنين وأكثرهم تقوى ويقيناً وطاعة لله عز وجل.
وفي قوله تعالى [هَذَا نَذِيرٌ مِنْ النُّذُرِ الْأُولَى]( ) ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال (إن الله تبارك وتعالى ما ذرأ الخلق في الذر الاول فأقامهم صفوفا قدامه بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله فآمن به قوم، وأنكره قوم، فقال الله: ” هذا نذير من النذر الاولى”( ) يعني به محمداً صلى الله عليه وآله حيث دعاهم إلى الله عز وجل في الذر الأول)( ).
لذا يمكن القول بشمول لفظ [الْمُؤْمِنِينَ] في الآية لمؤمني الأمم السابقة على الإسلام ، ولكن التقييد والحصر يأتي بصيغة المضارع بقوله تعالى [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ..].
ومن مفاهيم آية البحث بيان رأفة ولطف الله عز وجل بالناس وأنه يأبى إلا أن يغدق عليهم بالمنّ والطول ، ترى ماذا لو لم يمنّ الله عز وجل على الناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا يعلم الأضرار التي تلحق بالأرض وأهلها لولا بعثته إلا الله عز وجل .
ولما بلغ شطر من الناس مرتبة [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) وفي بعثته سر إستدامة الحياة الدنيا وكانت رحمة حتى لأولئك الذين حاربوه وشهروا السيوف في قتاله من كفار قريش ونحوهم , فلم تمر الأيام إلا ودخلوا في الإسلام، وأصلح الله ذراريهم، وخرجوا إلى الأمصار قادة وأمراء، وتوالت النعم على المدينة ومكة.
ومن معاني آية البحث إستدامة المنّ والطول من الله عز وجل على المسلمين وإذا أنعم الله بنعمة على أهل الأرض فانه أكرم من أن يرفعها ، لذا قال تعالى [وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] ( ) لإرادة إستدامة النعمة من الله على المسلمين.
وتفضل الله عز وجل بأمة تتعاهد الإيمان، ولا تغادر مقامات الخضوع والعبودية لله عز وجل، والتقيد بأحكام الشريعة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
لقد نسبت آية البحث الآيات التي يتلوها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين إلى الله عز وجل بقوله تعالى [يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ]( ) وليس من آيات إلا من عند الله، وليكون من مفاهيم آية البحث الإنذار والوعيد للذين كفروا بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى[وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ]( ).
وهل يفيد قوله تعالى [يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ]( ) الحصر بالمسلمين , أم يصح القول : يتلو عليهم وعلى غيرهم آيات الله، الجواب هو الثاني ، وقد إتصفت السور المكية بالقصر ولغة الإنذار والوعيد والتذكير بيوم القيامة وشدة عذاب الذين كفروا يومئذ ، قال تعالى [الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ]( ).
لقد كانت تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن على المسلمين طريق هداية لهم , وسبيلاً للثبات في منازل الإيمان ، وكانت تلاوته على الذين كفروا حجة عليهم ، ومن أسرار قوله تعالى[يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ]( ) أن الذين كفروا تأتيهم هذه التلاوة من جهات :
الأولى : السماع من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير واسطة ، وهو جهاد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتضمن التحدي وبيان قانون وهو عدم خشيته من إجهاز الذين كفروا عليه ، وهو من مصاديق وعمومات قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ] ( ).
الثانية : تلاوة المسلمين القرآن للإحتجاج على الذين كفروا ودعوتهم للتدبر في مضامينه القدسية .
الثالثة : أداء المسلمين للصلاة اليومية وسماع الناس لهم ، وهل يمكن القول بجواز ترجمة القرآن في الصلاة ليسمع الناس من الأمم الأخرى كلاً بحسب لسانه معاني آيات القرآن وتكون الترجمة حينئذ من فروع قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ]( ) .
الجواب لا ، وإجماع علماء الإسلام على عدم جواز قراءة القرآن في الصلاة إلا بالعربية وهي اللغة التي أنزل بها ، قال تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ) وقال تعالى [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ]( ) ولا يتحقق مصداق القراءة بالترجمة لأنها تفيد المعنى دون اللفظ ، والمدار على اللفظ القرآني ، ونظم آيات القرآن وليس المعنى والمراد من النظم هو حروف وكلمات القرآن وتركيبها ، أما المعنى فهو مدلول الآيات ، فلا تصدق قراءة القرآن وفق الآية أعلاه إلا باللفظ ونسب إلى أبي حنيفة جواز القراءة بالترجمة في الصلاة وكفاية المعنى في القراءة وان النظم ركن زائد .
وقيل لم يثبت هذا القول عن أبي حنيفة ، وإحتج له بعض من قلده بالقول بالجواز بقوله تعالى [وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ]( ) ولكن هذه الآية لا تتعارض مع عربية القرآن.
ولا تجزئ القراءة في الصلاة بغير العربية , وبه قال جميع علماء المسلمين حتى الحنفية ولا يعلم منافع حصر القراءة بالعربية وما يدرأ بها من الفتن وأسباب الشقاق بين المسلمين وصيغ تحريف المعنى والتأويل إلا الله عز وجل .
وهل يصح تقدير آية البحث : (يتلو عليهم آياته) ليقرأوها في الصلاة ، الجواب نعم ، فلابد من غايات حميدة ومقاصد سامية لكل آية في القرآن ، ولكل شطر وجملة منه ، لذا لا يمكن إستبدال كلمة من القرآن بأخرى غيرها , حتى لو كانت مرادفة لها في المعنى والدلالة .
وورد في آية البحث قوله تعالى [وَيُزَكِّيهِمْ] لبيان أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خير محض ، وذات منافع عظيمة لمن يؤمن بها مع خسارة الذي يعرض عنها لأنه يحرم نفسه من التزكية والتطهير الذي يأتي من عند الله .
لتتضمن الآية في مفهومها الذم والتبكيت للذين كفروا والذين يصرون على النفاق بابطان الكفر مع إظهار الإسلام لأن هذا الإبطان شاهد على عدم التزكية مع النطق بالشهادتين ، وهو من الإعجاز في آية البحث بذكرها للمسلمين والمسلمات بصفة الإيمان بقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( )الذين أخلصوا في إيمانهم فجاءتهم آيات القرآن لتطهيرهم وتنقيهم من النفاق والرياء وسوء الظن والشك ، قال تعالى [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] ( ).
ثم جاء قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ليكون من معاني آية البحث أن المسلمين علماء بفضل آيات القرآن وتلاوتها عليهم من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الآية لطف
إبتدأت الآية بذكر المنّ من عند الله عز وجل على المؤمنين وتحتمل النسبة بين المنّ واللطف وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي وأن المنّ هو ذاته اللطف.
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق، وفيه شعبتان :
الأولى : المنّ أعم من اللطف .
الثانية : اللطف أعم من المنّ.
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه، وأن هناك مادة للإلتقاء، وأخرى للإفتراق بين المنّ واللطف.
الرابع : إرادة نسبة معينة بين المنّ في آية البحث واللطف الإلهي، بلحظ أن منّ الله عز وجل عام ومطلق، وأن آية البحث تذكر منه فرداً مخصوصاً .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه، نعم بلحاظ المنّ في آية البحث فانه أخص منه، ويكون الأعم اللطف كما في الشعبة الثانية من الوجه الثاني أعلاه , والله واسع كريم .
والمن الوارد في آية البحث من مصاديق قوله تعالى[اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ]( )، وهل يصح بأن منّ الله عز وجل على المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الرزق الذي تذكره الآية أعلاه أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو الرزق في المعيشة وعلى نحو القضية الشخصية .
الجواب هو الأول ، وهذا المنّ من أبهى معاني الرزق وذكرت الآية أعلاه بأن الله عز وجل هو القوي العزيز الذي لا يمتنع عنه أمر , ومنها سبل المنّ على المؤمنين .
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون بركاتها متصلة غير منقطعة، وأن يقطف الناس ثمارها وينهلوا من خزائنها كل يوم من أيام الدنيا بالهداية والإرتقاء في سلّم المعارف الإلهية .
إفاضات الآية
يمكن تسمية آيات من القرآن (آيات المنّ) وإن كانت كل آية من القرآن منّ ورحمة من عند الله .
ومن آيات المنّ آية البحث , خاصة وأنها ذكرت منّ الله من جهات:
الأولى : منّ الله على عموم المسلمين.
الثانية : من الله برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكرت الآية خصوص المؤمنين بقوله تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] وإثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره، وجاءت آيات قرآنية كثيرة تبين أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس جميعاً ومن طول ومنّ الله عز وجل عليهم.
الثالثة : تعيين الآية لشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فصحيح أنها لم تذكره بالاسم , ولكنها ذكرته بالصفات المتعددة التي يختص بها، لتكون آية البحث من مختصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي متعددة منها:
الأولى : نزول آيات القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده من بين الناس.
الثانية : زيادة عدد زوجات النبي على الأربع.
الثالثة : تحريم نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بعده، قال تعالى[وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ).
وأخرج ابن سعد وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عائشة أن امرأة قالت لها : يا أمي فقالت : أنا أم رجالكم ولست أم نسائكم.
وأخرج ابن سعد عن أم سلمة قالت : أنا أم الرجال منكم والنساء)( ).
والمختار هو الثاني أي أن الأمومة في المقام للرجال والنساء، إذ ورد ذكر المؤمنين بصيغة المذكر للغالب.
الرابعة : قيام الليل , قال تعالى[قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً]( ).
الخامسة : السواك.
السادسة : الأضحية في يوم العيد الأكبر.
السابعة : تحريم خائنة الأعين والغمز بالعين.
الثامنة : تحريم الصدقة عليه وعلى ذريته.
التاسعة : صوم الوصال بأن يصوم يومين والليلة التي بينهما، أو يصوم ثلاثة أيام والليلتين اللتين بينها.
العاشرة : بقاء قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقظاً وإن نامت عينه.
الحادية عشرة : يبصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ورائه كما يبصر من أمامه.
الثانية عشرة : النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مأمن من الحر والبرد.
الثالثة عشرة : بقاء عطر وطيب رائحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة عشرة : يضيء في الظلمة لمن يمشي معه.
الخامسة عشرة : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان , حتى وإن فرّ أكثر أصحابه , وصار وجهاً لوجه مع العدو , وهل هذه المواجهة من مصاديق قوله تعالى[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، وتكراره ثلاث مرات في القرآن , الجواب نعم , فرسول الله بشخصه الكريم جمع وأمة , وقد ورد نعت إبراهيم عليه السلام في القرآن بأنه أمة , قال تعالى[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا]( )، ومن باب الأولوية أن النبي محمداَ صلى الله عليه وآله وسلم كان أمة , وهو أمة قانتاً لله حنيفا ومجاهدا بنفسه وأهل بيته وأصحابه وأمته .
السادسة عشرة : مجىء مصداق رؤيا النبي كفلق الصبح .
السابعة عشرة : منّ الله برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المؤمنين كما تدل عليه آية البحث
الثامنة عشرة : سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بيان ومرآة للقرآن .
التاسعة عشرة : بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين ظهراني المؤمنين، فلم يأتهم من بني إسرائيل ولا من بلاد الروم، وهل تدل آية البحث على روابط وصلات وإتحاد في النسب ونحوه بين العرب والفرس والترك من المسلمين ، الجواب نعم، وإن كان هذا القول خلاف ما يذهب إليه علماء الأنساب فمثلاً قالوا أن الفرس سلالة عرقية تعود في أصولها إلى المجموعة الأريانية .
وقيل أن الأتراك يرجعون إلى يافث وهو أحد أولاد النبي نوح الثلاثة وهم يافث وسام وحام والرابع هو كنعان الذي ورد ذكره في القرآن بأنه غرق في الطوفان , وفي التنزيل[وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ]( ).
وقيل أن الأتراك الأصليين وهم الأوليغور(كوك ترك) يعيشون في أرض تركمانستان من بلاد الصين الآن , وهم أحد فروع ثلاثة للأتراك.
ولكن تلك الشعوب والأمم متكونة من أصول وأعراق متعددة ومنهم العرب والفرس اليونانيون والترك , وغيرهم , واختلطت فيما بينها وغلب عليها صنف منها.
فقد حكمت في بلاد فارس الدولة الميدية , ثم الدولة الأخمينية التي قامت بفتوحات كثيرة في بلاد الغرب بقيادة كوروش، واستولت على مدينة بابل التي ورد ذكرها في القرآن بقوله تعالى[وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ]( ).
وليس من دليل على هذه الأقوال، وغيرها في المقام وفي المدة بين آدم ونوح، ورد عن أبي(أمامة الباهلي أن رجلا قال: يا رسول الله ، أنبيا كان آدم ؟ قال : نعم . قال : كم بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون. قال : كم بين نوح وإبراهيم؟ قال: عشرة قرون)( )، وكان كل جيل يعمرون طويلاً.
وعن أبي المطهر قال: ذكروا عند أبي جعفر هو الباقر وهو قائم يصلي بزيد بن المهلب قال فلما انفتل من صلاته قال ذكرتم يزيد بن المهلب أما إنه قتل في أول أرض عبد فيها غير الله قال ذكر ودا رجلا صالحا وكان مجبا في قومه فلما مات عكفوا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان ثم قال إني أرى جزعكم على هذا الرجل فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه قالوا نعم فصور لهم مثله قال ووضعوه في ناديهم وجعلو يذكرونه فلما رأى ما بهم من ذكره قال هل لكم أن اجعل في منزل كل واحد منكم تمثالا مثله ليكون له في بيته فتذكرونه قالوا نعم قال فمثل لكل أهل بيت تمثالا مثله فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به قال وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به قال وتناسلوا ودرس أثر ذكرهم اياه حتى اتخذوه الها يعبدونه من دون الله اولاد أولادهم فكان أول ما عبد غير الله ودا الصنم الذي سموه ودا)( ).
الآية بشارة
تتضمن آية البحث البشارات بتزكية وتطهير أجيال المسلمين، وكأن آيات القرآن غيث ينزل من السماء فيجلي القلوب ويطهر الأبدان، وينزه المجتمعات، وفي الآية إخبار عن ذخائر وكنوز علمية في القرآن، والسنة النبوية لقوله تعالى[وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ]( )، وهذه الذخائر على وجوه :
الأول : مضامين الآية القرآنية.
الثاني : تفسير وتأويل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية.
الثالث : العلوم المستقرأة من الآية القرآنية .
الرابع : المسائل والقوانين المستنبطة من الآية القرآنية .
الخامس : الذخائر العلمية الكامنة في الصلة بين كل آيتين من القرآن، وهو علم لم تستخرج علومه ودرره بعد، ويدعو العلماء للعناية به، وقد جاءت أجزاء من هذا السفر خاصة به.
وفي خاتمة الآية [وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( )، بشارة عظيمة للمسلمين لما تدل عليه من سلامة المسلمين والمسلمات من الإرتداد، وفيه تبكيت للذين كفروا , وبعث للفزع واليأس في نفوسهم، قال تعالى في ذم كفار قريش والتحذير من عداوتهم وقسوة قلوبهم وشدة مكرهم [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا]( ).
لقد إبتدأت آية البحث بذكر منّ الله عز وجل على المسلمين وبصيغة الفعل الماضي(لقد منّ) فهل فيه بشارة أم أنها تخبر عن أمر قد إنقضى.
الجواب هو الأول إذ تتضمن الآية معنى البشارة المتصلة والمتجددة.
ليكون من خصائص رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم دوام البشارة برسالته إلى يوم القيامة، ولا تختص البشارة بها بالأجيال اللاحقة لأوان البشارة، بل تشمل الذين تقدموا من المسلمين ومنها مثلاً:
الأول :البشارة بمغفرة الذنوب للمؤمنين.
الثاني : إنتفاع الآباء من المسلمين بعمل أبنائهم الصالحات.
الثالث : إنتفاع الأبناء من عمل الآباء الذين جاهدوا في معركة بدر وأحد وأيام الإسلام الأولى.
كما ورد في قوله تعالى[وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ]( ).
فحفظ الله عز وجل الغلامين وكنزهما إكراماً لأبيهما المؤمن مع أنه كان بينه وبينهما بطون متعددة.
الرابع : شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في الآخرة.
وكما تأتي البشارة للمسلمين من ذات صيغة الماضي(منّ الله) فأنها تأتي أيضاً من معاني المضارع في الآية من جهات:
الأولى : تقدير الآية: لقد منّ ويمنّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، لبيان أن الإيمان شجرة دائمة الثمر[تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ]( ).
الثانية : صيغة المضارع في الآية بخصوص منافع وبركات رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما يترشح عنها من تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن.
الثالثة : تجدد مصاديق وتطهير أجيال المسلمين بالإيمان، وتلاوة آيات القرآن وأداء القرآن وأداء الصلاة وإتيان الفرائض العبادية الأخرى، وعن عدد من الصحابة قالوا: كان رجلان أخوان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أحدهما أفضل من الآخر ، فتوفي الذي هو أفضلهما ، ثم عمر الآخر بعده أربعين ليلة ، ثم توفي فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فضيلة الأول ، فقال : ألم يكن الآخر يصلي؟ قالوا : بلى ، وكان لا بأس به.
قال : فما يدريكم ما بلغت به صلاته؟ إنما مثل الصلاة كمثل نهر جار بباب رجل غمرٌ ، عذبٌ يقتحم فيه كل يوم خمس مرات ، فماذا ترون يبقى من دونه؟ لا تدرون ماذا بلغت به صلاته)( ).
الرابعة : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم أهل البيت والصحابة الكتاب والحكمة، ويتجلى المن الإلهي بصيغة المضارع في ذات آية البحث، وتقديرها على وجوه:
الأول : ويعلمهم الكتاب قبل نزول آية البحث.
الثاني : ويعلمهم الكتاب بعد نزول آية البحث.
الثالث : ويعلمهم الحكمة قبل نزول آية البحث.
الرابع : ويعلمهم الحكمة بعد نزول آية البحث وهو من مصاديق المنّ اللاحق.
الخامس : ويعلمهم الكتاب والحكمة فيعلمون التابعين.
السادس: إغتراف التابعين من فيوضات رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابع : ويعلم الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل جيل من أجيال المسلمين إلى يوم القيامة الكتاب والحكمة، وهو من منّ وطول وفضل الله عز وجل المتجدد على المسلمين وذراريهم.
ويمكن بيان قانون من الإرادة التكوينية وهو أن منّ الله على السابق من المسلمين هو منّ على اللاحق منهم، والمن الذي يأتي على اللاحق منهم ينتفع منه السابق وإن غادر الدنيا، وهو من أسرار الصلة والملازمة بين عالم الفعل في الدنيا، وعالم الجزاء في الآخرة، قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ]( ).
الآية إنذار
الإنذار هو الإبلاغ المقرون بالتحذير ، وفي التنزيل [أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ] ( ) وقال النابغة :
من مُبْلِغ عَمْرَو بنَ هندٍ آيةً … ومن النَّصيحة كثرةُ الإنذارِ) ( ).
وردت مادة (نذر) في القرآن نحو مائة وإحدى وثلاثين مرة ، وجاءت بصيغة الفعل وبصيغة الاسم ، كما في قوله تعالى [نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ] ( ).
وجاء الإنذار في القرآن بصيغة تحذير وتنبيه للناس ، ولما كانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عامة وشاملة للناس جميعاً ، فقد تضمنت آيات القرآن تحذير الناس وتخويفهم من سخط الله عز وجل الذي تدل عليه الآية السابقة بقوله تعالى [كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ] ( ) ويأتي بمعنى الخبر المتضمن التخويف .
ويأتي لفظ النذير والنذر بخصوص الأنبياء ، وما جاءوا به من عند الله من الوعيد والتخويف والآيات الكونية المخيفة التي تطل على الناس ، وتكون مقدمة لنزول البلاء والهلاك , ويصرف ضررها بالدعاء والصلاح، قال تعالى [وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ]( ) وتأتي النذر جمع نذر وهو العهد , وما يلزم به الإنسان نفسه رجاء وبلغة لقضاء الحوائج وتحقيق الرغائب ، ومنه قوله تعالى [يُوفُونَ بِالنَّذْرِ] ( ).
وكل نبي أو رسول هو نذير، وجاء بالنذر بالوحي والتنزيل ، ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام وجوه :
الأول :كل آية قرآنية إنذار سواء في منطوقها أو مفهومها .
الثاني : وضوح وتجلي الإنذار في الآية القرآنية ، من غير واسطة التفسير والتأويل من قبل العلماء .
الثالث : تلاوة كل مسلم ومسلمة آيات القرآن في الصلاة اليومية لتكون هذه التلاوة إنذاراً للقارئ والسامع .
الرابع : مجئ آيات القرآن بالدعاء للإنذار من تضييع الفرصة بالدعاء والسؤال في الحياة الدنيا ، فمثلاً قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
يتضمن الإنذار من جهات :
الأولى : لزوم عدم التخلف عن الدعاء والمسألة .
الثانية : التحذير من طرق الضلالة والغواية، قال تعالى[وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ]( ).
الثالثة : حاجة الإنسان للنهج القويم والإنذار من العمى والإعراض عن النصح، قال تعالى[فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذكرى]( ).
الرابعة : دعوة الناس للتفقه في الدين ، ومعرفة مصاديق الصراط المستقيم .
الخامسة : الإنذار من ترك الصلاة والواجبات العبادية ، إذ أن آية الصراط هذه من آيات سورة الفاتحة التي يقرأها كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم .
وهل تدخل تلاوة المسلم لقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الجواب نعم ، لما فيها من الندب إلى الصلاح والإنذار من الفسوق والمعاصي، وفي التنزيل[وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ]( ).
(عن ابن مسعود قال : خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطاً بيده ، ثم قال : هذا سبيل الله مستقيماً ، ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ، ثم قال : وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}) ( ).
الآية موعظة
من معاني ودلالات الآية القرآنية التذكير بالخير والندب إليه بصيغ الرقة والرفق ، يقال (وَعَظْتُ الرّجلَ أَعِظُهُ عِظَةً وموعظة. واتَّعَظَ: تقبّل العِظَةَ)( ).
ومن خصائص الآية القرآنية أنها سبيل هداية للناس عامة والمسلمين خاصة وهي مدرسة في الوعظ والإرشاد تنفذ معانيها إلى شغاف القلوب ، ويستقر رسمها وألفاظها في الوجود الذهني ، ولا ينفك عنه إلى حين مغادرة الإنسان الدنيا .
لقد تفضل الله عز وجل بالقرآن رحمة بالناس جميعاً ، ومن مصاديق الرحمة أن كل آية منه موعظة ودعوة إلى الصلاح والرشاد .
ومن الإعجاز في المقام تفضل الله بالأمر بتلاوة كل مسلم ومسلمة آيات القرآن على نحو الوجوب العيني عدة مرات كل يوم في الصلوات الخمسة ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ) وتكون الآية القرآنية موعظة من جهات :
الأولى : نزول الآية القرآنية من عند الله سبحانه.
الثانية : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية .
الثالثة : حفظ المسلمين للآية القرآنية عن ظهر قلب , وهي تتضمن القوانين في الأحكام والأخلاق .
الرابعة : مضامين كل آية قرآنية كنز سماوي يشع بضيائه في الأرض يدعو الناس للنهل والإتعاظ منه .
الخامسة : مجئ القرآن بقصص الأنبياء والأمم السالفة لتكون دروساً وموعظة للمسلمين ، ومن خصائص العاقل الإتعاظ من الغير ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ) .
السادسة : تقيد المسلمين بمناهج ومواعظ ونصائح القرآن، وما فيه من الترغيب في عمل الصالحات والزجر عن فعل السيئات حث لأجيالهم المتعاقبة لإقتباس حسن السيرة منهم ، ليكون من إعجاز القرآن إتعاظ المسلمين بعضهم ببعض ، وإنتفاع وإتعاظ الناس من سيرة المسلمين .
لقد خصصت في هذا السِفر باباً اسمه (الآية موعظة) ليختص بالتحقيق والتأويل في الآية القرآنية في المقام بخصوص الموعظة ، والإلتفات الخاص والعام إلى صفحة مشرقة من إعجاز الآية القرآنية وهي أنها دعوة إلى الخير تتصف بالرفق واللطف والمنّ .
لذا إبتدأت آية البحث برياض من الفيض بقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] وهناك علم في مباحث العلوم الحياتية اسمه المنهج التجريبي (EMDIRICAL FESEARCH) ويتضمن إكتساب الخبرة عن طريق الشواهد وإستقراء الوقائع بما يؤدي إلى نشوء قاعدة ، أو إيجاد برهان .
وتتقوم بأمور ترتيبية وهي :
الأول : الرصد وجمع الحقائق من الواقع .
الثاني : إستقراء الوجوه والفرضيات المحتملة .
الثالث : استنتاج المسائل الكلية من الوقائع، ومنه التفسير الموضوعي للقرآن بلحاظ الحوادث، والخبرة المعرفية ليجد مصاديق لقوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الرابع : التقييم وتحصيل القاعدة والبرهان .
وقد جاء القرآن بالتجربة والحجة والبرهان المستقرأ منها , ومن قوانين الإرادة التكوينية والأحكام الشرعية .
فمن خصائص القرآن مجيؤه بالأوامر والنواهي ، وإقترانها بالتجربة والحجة وبيان السبل التي تهدي إلى الفلاح وذكره للقصص التي يستقرأ منها الناس على إختلاف مشاربهم والتباين في مداركهم بلحاظ الكم والكيف في تلقي الآية القرآنية المواعظ والعبر والقواعد بما يضبط السلوك ويوجهه نحو عمل الصالحات وإكتناز الحسنات ، وفي التنزيل [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي] ( ).
ومن خصائص باب (الآية موعظة) بيان وقع ورشحات الآية على المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً وكيف يتم الإقتباس منها والإستزادة من المعارف الإلهية بتلاوة الآية القرآنية والتدبر في مضامينها القدسية ، وما تبعث إليه من العمل إذ تمنع الآية القرآنية من الكسل ومن التفريط ، قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
لبيان قانون وهو أن ما في الآية القرآنية من الموعظة برزخ دون الضعف ودبيب الحزن إلى النفس عند ملاقاة البلوى والإبتلاء ، وتبين الآية القرآنية صيغ الحل وكيفية النجاة، وتهدي إلى الحكمة في تصريف الأمور .
وقد تضمنت آية البحث الإخبار عن صفة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ).
إخبار آية البحث عن منّ الله عز وجل موعظة للمسلمين والناس جميعاً، ودعوة لهم لإستقراء مصاديق المنّ برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن خصائص صيغة الفعل الماضي في آية البحث (لقد منّ) إرادة القطع والجزم بتحقق المن الإلهي على المسلمين، وفيه نوع تحد ودعوة للناس لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين في أمور الدين والدنيا.
لقد ذكرت آية البحث تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن لتترشح عنها مسائل غير متناهية تتعلق بالنعم التي تترشح عن هذه التلاوة فتتغشى المسلمين وغيرهم وكذا بالنسبة للمنافع العظيمة المترشحة عن تزكية النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين وتعليمهم الكتاب والحكمة وفي كل فرد منها موعظة لهم وللناس جميعاً لتتجلى هذه الموعظة بزيادة إيمان المسلمين، وبدعوة الناس للإٍسلام .
الآية رحمة
لقد إبتدأت آيات القرآن من جهة النظم بالبسملة في سورة الفاتحة وهي [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ) فمع ذكر اسم الجلالة ورد الاسمان الكريمان الرحمن والرحيم ، لبيان قانون وهي تغشي رحمة الله لمن يتلو القرآن، وتتضمن كل آية قرآنية رحمة من عند الله عز وجل.
وقد ورد قوله تعالى[إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ) فهل أداء المسلم الصلاة من الإحسان أم لابد من تحقق نوع مفاعلة في الإحسان بأن يشمل أطرافاً:
الأول : الذي يقوم بالإحسان .
الثاني : صيغة الإحسان .
الثالث : موضوع ومادة الإحسان .
الرابع : المحسن إليه .
الجواب لا تعارض بين الأمرين ،إذ أن أداء الصلاة إحسان للذات والغير ، كما أن المعصية والإمتناع عن أداء الصلاة ظلم للنفس ، وقد يكون ظلماً للغير أيضاً ، ومن مصاديق قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( )عجز الخلائق عن إحصاء أمور :
الأول : رحمة الله بالإنسان في أي لحظة من أيام الأولى , أو عالم الآخرة , وهو من الشواهد على خلافته في الأرض.
الثاني : الوسائط التي تأتي برحمة الله .
الثالث : أفراد رحمة الله التي تأتي مباشرة من عند الله للعبد ، وليس من ملك أو نبي أو إمام يكون واسطة ونوع طريق فيها ، قال تعالى [وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ] ( ) .
الرابع : رحمة الله التي تأتي في التنزيل ومعه .
وصحيح أن كل أمر من الأمور الثلاثة أعلاه من اللامتناهي، وأيهما أكثر الأمر الثاني أو الثالث أعلاه .
الجواب هو الأخير ، ومن رشحات نفخ الله من روحه في آدم ، وإتخاذه خليفة في الأرض ، مجئ مصاديق كثيرة كل ساعة للإنسان من عند الله لروح وبدن ورزق العبد ، وفي التنزيل [رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا] ( ).
ويمكن تقسيم هذا الباب وفي تفسير كل آية إلى أقسام :
الأول : الآية رحمة بالمسلمين.
الثاني : الآية رحمة بأهل الكتاب.
الثالث : الآية رحمة بالناس جميعاً .
لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ليكون مرآة لرحمة الله التي تتجلى في آيات القرآن، ففي كل أمر ونهي في القرآن رحمة خاصة عامة، وكذا في الخبر والقصة القرآنية، وفي علوم الغيب التي تفضل الله عز وجل وذكر مفاتيحها في القرآن لتهدي الناس إلى سبل رحمته والإنتفاع الأمثل منها، قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار رحمته، وهل يمكن تقدير آية الخلافة: إذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الأرض خليفة لأرحمه) الجواب نعم، ليكون هذا المعنى من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، عندما إحتجت الملائكة على خلافة الإنسان في الأرض وهو يفسد فيها ، ولم يكتف بارتكاب المعاصي بل يقدم على القتل وسفك الدماء.
ومن رحمة الله عز وجل بعثة الأنبياء، ولما أراد الله عز وجل ختم النبوة برسالة سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم تفضل وأخبر بأن رسالته نعمة عظمى، ومنّ متصل ودائم من غير إنقطاع.
فلا غرابة أن يخرج أهل المدينة المنورة وهم يستقبلون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالشعر الجماعي العام الخالد:
طلع البدر علينا * من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا * ما دعا لله داع( ).
وتبدأ آية البحث بالمنّ من الله عز وجل، وتحتمل النسبة بين الرحمة والمن وجوهاَ :
الأول : نسبة التساوي، وهو أن الرحمة هي ذاتها المن.
الثاني : نسبة الإفتراق عند الإجتماع، والإجتماع عند الإفتراق بين المن والرحمة.
الثالث : نسبة العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين :
الأولى : الرحمة أعم من المنّ.
الثانية : المنّ أعم من الرحمة .
الرابع : نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء، وأخرى للإفتراق بين الرحمة والمنّ.
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثالث أعلاه، لبيان قانون وهو أن مضامين آية البحث رحمة من عند الله، وهل هذه الرحمة خاصة بالمؤمنين وهو ظاهر الآية [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الجواب إن الرحمة الإلهية في آية البحث عامة تشمل الناس جميعاً .
وتقدير آية البحث : لقد منّ الله على المؤمنين وعلى الناس إذ بعث فيهم والناس جميعاً رسولاً من ذات المسلمين .
الحاجة إلى آية البحث
لقد كان الناس في أيام البعثة الإسلامية على أقسام :
الأول : الذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : الذين بقوا مترددين.
الثالث : الكفار الذين أصروا على الجحود، ومنهم رؤساء في قومهم ، مما يزيد من الأضرار التي تأتي للمسلمين خاصة وأن أكثرهم مستضعفون، لولا فضل الله عز وجل ومنّه عليهم، ومنه الوعد الإلهي في قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
الرابع : الذين لم تبلغهم دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن الآيات أن المسلمين كانوا ولا زالوا في إزدياد، وكل يوم تدخل جماعة أو طائفة في الإسلام لينقص عدد الكفار وتضعف همتهم، ويدب الحزن واليأس والكبت في نفوسهم.
فجاءت آية البحث رحمة بالناس جميعاً , وعوناً لهم في الحياة الدنيا، ودعوة سماوية تدعوهم إلى فعل الخير، وتزجرهم عن إرتكاب السيئات، واختصت الآية بذكر المؤمنين في المنّ الإلهي بالرسالة النبوية.
ثناء الله على نفسه في آية البحث
كل آية من القرآن نعمة من عند الله أراد فيها معرفة الناس لعظيم قدرته وسعة سلطانه ، وتبين مضامين آيات القرآن بدائع الخلق وعالم التكوين وأسرار بعثة الأنبياء ، وفضل الله في إستدامة نزول آيات القرآن ، وحفظ كلامه وبقائه في الأرض من غير زيادة أو تحريف أو تبديل أو نقصان ، ولتكون الغايات الحميدة من قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) أكثر من أن تحصى ، منها ثناء الله عز وجل على نفسه .
وقيل في الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (كُنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُعْرَفَ فخلقتُ الخلقَ لأُعرف) ( ).
ولا أصل لهذا الحديث لفظاً ودلالة , ولم يرد بسند معتبر ، حتى على فرض إرادة التشبيه والبيان .
لقد إبتدأت آية البحث بالإخبار عن أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل وهو المنّ على المسلمين والمسلمات مجتمعين ومتفرقين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من المنافع الدنيوية والأخروية ، ولا تستطيع الخلائق وإن اجتمعت أن تنزل آية واحدة على النبي محمد صلى اله عليه وآله وسلم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا] ( ).
فان قلت قد كان جبرئيل ينزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن ، فهل يستطيع أن يأتي بآية من عنده , أو يبدل كلمة من آية الجواب لا ، إنما كان ينزل رسولاً أميناً مبلغاً ، قال تعالى في الثناء على القرآن وأنه كلام الله [وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ] ( ) وقد كان جبرئيل يزور الأنبياء السابقين متى ما أذن الله عز وجل له ، لتكون هذه الزيارة بشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (وقال وهب بن منبه والسدّي وغيرهما : أتى جبرئيل يوسف وهو في السجن،
فقال : هل تعرفني أيّها الصدّيق؟
قال : أرى صورة طاهرة وريحاً طيّبة،
قال : فإنّي رسول ربّ العالمين،
وأنا الروح الأمين،
قال : فما الذي أدخلك حبس المذنبين وأنت أطيب الطيّبين،
ورأس المقرّبين،
وأمين ربّ العالمين؟
قال : ألم تعلم يا يوسف أنّ الله يُطهّر البيوت لهؤلاء الطيّبين،
وأنّ الأرض التي تدخلونها هي أطهر الأرضين،
وأنّ الله قد طهّر بك السجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن الصالحين؟
قال : كيف لي بابن الصدّيقين وتعدّني من المخلصين،
وقد أدخلت مدخل المُذنبين،
وسمّيت باسم المفسدين؟
قال : لأنّه لم يفتتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربّك فلذك سمّاك الله في الصدّيقين،
وعدّك مع المخلصين وألحقك بآبائك الصالحين،
قال : هل لك علم بيعقوب أيّها الروح الأمين؟
قال : نعم وهب الله له البلاء الجميل وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم،
قال : فما قدر حزنه؟
قال : حزن سبعين ثكلى،
قال : فماذا له من الأجر يا جبرئيل؟
قال : أجر مائة شهيد،
قال : أفتراني لاقيه؟
قال : نعم،
فطابت نفس يوسف،
قال : ما أُبالي ما ألفيته أن رأيته.) ( ).
وتقدير أول آية البحث على وجوه :
الأول : لقد منّ الله على المؤمنين بما لم يمّن به على غيرهم من الأمم .
الثاني : لقد منّ الله على المؤمنين لحبه لهم وحبهم له .
الثالث : لقد منّ الله على المؤمنين لبيان عظيم قدرته وسلطانه وأن الخلائق مستجيبة له بلحاظ فتح خزائن السموات والأرض ببركة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع: لقد منّ الله على المؤمنين جزاءً وشكراً لهم على إيمانهم ، فان قلت إنما صاروا مؤمنين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي هي موضوع المنّ في آية البحث ، والجواب من المنّ الإلهي ما يأتي للعبد جزاء على العمل الصالح قبل أن يقوم به لعلم الله عز وجل بانه سيقوم به ، وهو من معاني آية البحث .
وتسمية المسلمين بالمؤمنين ، وكأنهم كانوا في مقامات الإيمان فأرسل لهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، ولبيان قانون من المنّ الإلهي على المسلمين بأن يتلقى المسلمون آيات القرآن بصفة الإيمان ، ومن الإعجاز في آية البحث أنه مع إيمان المسلمين تأتي تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن عليهم ، وتزكيته لهم ، وتقدير منّ الله في المقام على وجوه :
الأول : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المؤمنين .
الثاني : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن على المؤمنين .
الثالث : تزكية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين مع تلاوته آيات القرآن عليهم ، وهذه المعية من أسرار العطف في الآية بين التلاوة والتزكية ، ومجئ كل منهما بصيغة الفعل المضارع .
الرابع : تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الكتاب بعد تلاوته آيات القرآن عليهم وتزكيتهم ، ليتلقوا التعليم بالقبول والعمل ، وليكونوا علماء ، وفي التنزيل [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ]( ).
الخامس : تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحكمة بتلاوته آيات القرآن وبتزكيتهم وتعليمهم الكتاب ، وبالسنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية .
وأختتمت آية البحث بذكر حال المسلمين قبل رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم [وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] لبيان قانون وهو لا يقدر أحد على نقل أمة من الضلالة والشرك إلى الإيمان والهدى إلا الله عز وجل .
لتكون خاتمة آية البحث مناسبة كريمة ليشكر المسلمون الله عز وجل على كل نعمة وردت في آية البحث تدل على منّ الله عليهم ، وليحترزوا من مفاهيم الضلالة .
النعم التي تذكرها الآية القرآنية
من الإعجاز في الآية القرآنية أنها نعمة بذاتها ، ومن خصائص النعمة الإلهية تفرع وتشعب النعم عنها ، والآية القرآنية نعمة تطل على القلوب المنكسرة فتبعث فيها الهمّة والعزم على العبادة، وتزجرها عن فعل السيئات.
لقد أراد الله عز وجل للأرض أن تخرج بركاتها للناس ، فتفضل الله بارسال الأنبياء مبشرين بهذا البركات ومنذرين من تسخيرها بالباطل والحرام ، وأنزل آيات القرآن لتكون نعمة مصاحبة للناس ، وطاردة للوحشة في الدنيا والآخرة ، فهي التي تنير القلب بالهدى، وتضئ القبر وتطرد وحشته.
ومضامين كل آية قرآنية نعمة بذاتها ودلالاتها وسلاح بيد المسلم وبرزخ دون العناد والإستكبار ، وقد خصصتُ باباً في تفسير كل آية من الآيات التي جاءت الأجزاء الصادرة الأخيرة بتفسيرها وسميته ( الآية نعمة ) بلحاظ أن مصاديق النعمة في كل آية قرآنية متشعبة ، كما تتجلى النعم الإلهية بالجمع بين كل آيتين من آيات القرآن ، وهو الذي يختص به باب ( في سياق الآيات) إلا أنه لا يمنع من البحث المستقل وإفراد باب خاص لهذا العلم .
فنزول القرآن نعمة كما يصح القول بأن نزول الآية القرآنية نعمة ، وكذا نزول الشطر من الآية القرآنية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
وهناك أبواب أخرى ثابتة في هذا التفسير منها علم المناسبة ، أي مناسبة اللفظ القرآني الوارد في الآية محل البحث، وصلته بذات اللفظ من الآيات الأخرى لتتجلى في هذا العلم آيات وبراهين تستقرأ منها المسائل المتعددة .
ومنها البحث البلاغي وعلوم البلاغة التي تتضمنها الآية القرآنية محل البحث وأسرار اللغة والسبك ، وتعدد المعاني للفظ القرآني المتحد ، وأسرار تجدد دلالاته إلى يوم القيامة.
وهل يحتمل تأسيس أبواب جديدة وإنشاء فصول أخرى مستقلة في تفسير كل آية قرآنية، ومع تعدد أبواب وعلوم كل آية قرآنية فان ما نورده فيها شذرات قليلة من الذخائر العلمية في كل آية قرآنية ، و لكن هذا التأسيس بداية ودعوة للعلماء في الأجيال القادمة بالتوسعة والإستقصاء والإستنباط في ذات الأبواب ، وحث لهم لتأسيس أبواب أخرى في تفسير كل آية من القرآن ، وفي التنزيل[الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ]( ).
ومن خصائص الآية القرآنية أن أولها نعمة , وأوسطها نعمة , وآخرها نعمة، وهذه النعمة في الرسم واللفظ والموضوع والدلالة.
لقد إبتدأت آية البحث بذكر منّ الله عز وجل على المسلمين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه شاهد على تعدد النعم العظيمة التي تفضل الله عز وجل بها، ومن خصائص ذكر القرآن للنعم العظيمة التي تفضل الله عز وجل بها على المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها زاجر عن الغلو بالنبي محمد والأولياء، وفي التنزيل[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
ويمكن تسمية آية البحث (آية النّعم) لأن كل كلمة منها تتضمن نعمة عظيمة تبقى مع أجيال المسلمين إلى يوم القيامة، وجاء هذا الجزء لبيان شذرات من هذه النعم .
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت الآية باللام والحرف قد (لقد) لبيان تحقق الفضل من عند الله إذ أخبرت بأن الله منّ ويمنّ على المؤمنين وأن منّه وإحسانه مصاحب لهم في كل زمان.
ليدرك كل إنسان هذه النعمة، فيشكر المؤمن الله عز وجل على منّه، وترّغب غير المؤمن نفسه بأن يلتحق بالركب المقدس، ويتبع ضياء التنزيل، ويمتنع عن الإصرار على الكفر والجحود، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ]( ).
لقد إبتدأت الآية بثناء الله عز وجل على نفسه وبيان قانون من الإرادة التكوينية من وجوه :
الأول : إن الله عز وجل هو المنّان.
الثاني : حاجة الناس لمنّ وطول الله عز وجل , وبين إنتفاع المسلمين والناس من منّ الله عموم وخصوص مطلق .لذا أكرمت الآية المسلمين بنعت المؤمنين .
الثالث : لا يقدر على المن والطول على المؤمنين على نحو العموم المجموعي والإستغراقي إلا الله عز وجل، فان قلت حتى في الأمر اليسير الجواب نعم، إذ أن الناس والسلاطين وجندهم يعجزون الفضل إلا بمنّ الله, وعن عدّ ومعرفة أعداد المؤمنين في الأجيال المتعاقبة، كما أن الإيمان ضياء ينبعث من الفؤاد لا يعلمه ويعلم قدره وصدقه إلا الله عز وجل.
ومن الإعجاز في المقام أن لفظ(المؤمنين) في الآية حرب على النفاق، ودعوة للناس لنبذ المنافق ، وترك أسباب الخبث والمكر المتفرع عنه ، أو المتولد عنها.
ثم أخبرت الآية عن إشراقة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأرض بقوله تعالى[وَابْعَثْ فِيهِمْ]( )، لبيان أن الناس قبل بعثته كالموتى لإقامتهم على عبادة الأوثان لا يدركون ما يجب عليهم من ضروب العبادة، فتكون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حياة وإيقاظاً لهم، قال تعالى[أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ]( )، وقد يقال أن البعثة تتعلق بذات الرسول مما يدل على إفادة الرسالة والتبليغ، وليس إحياء الناس ودفعهم عن منازل الكفر.
والجواب الأصل إرادة الناس بالبعثة من جهات :
الأولى : إرادة المن والطول على المؤمنين ببعثة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : مجئ الآيات القرآنية بأن النبي محمداً رسول إلى الناس جميعاً عربيهم وأعجميهم الذكر والأنثى الموجود منهم والذي لم يولد بعد، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
الثالثة : ذكر آية البحث بأن الله عز وجل بعث النبي محمداً في المؤمنين ولم تقل الآية (بعث لهم) لبيان أن تجلي الظرفية في (فيهم) أعم من لهم، فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسول في المؤمنين ولكنه رسول الى الناس جميعاً .
ومن وجوه تقدير الآية : بعث فيهم رسولاً من أنفسهم الى الناس جميعاً) ليكون من معاني الآية ندب المسلمين للنهوض مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحت لوائه لدعوة الناس للإسلام بتلاوته آيات القرآن عليهم، وتعليمهم الكتاب والحكمة , وهذا المعنى لا يتزاحم أو يتعارض مع إرادة المعنى الذي نذهب إليه من بعثة الناس من رقادهم لرسالته , بعد فترة من الرسل إذ كانت المدة بين بعثة عيسى عليه السلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نحو ستمائة سنة .
ثم وصفت الآية النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأنه رسول ليكون من معانيه:
الأول : إنه رسول من الله.
الثاني : إنه نبي رسول .
الثالث : إنه رسول للناس جميعاً .
الرابع : إنه رسول مبشر ونذير، بلحاظ أن كلاً من صفة البشارة والإنذار، مصاحبة للأنبياء، وقد فضّل الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء في المقام بنزول القرآن، قال تعالى[فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا]( ).
الخامس : تقدير آية البحث : إذ بعث فيهم رسولاً هو خاتم النبيين وسيد المرسلين، لتترشح هذه الكرامة والإكرام على المسلمين بلحاظ نسبته في الآية إلى المسلمين بقوله تعالى[رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ]( )، وتملي هذه النسبة على المسلمين وجوب تعاهد مضامين رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وحفظ آيات القرآن التي نزلت عليه , والتي قام بتبليغهم بها خير قيام، وهذا الحفظ من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
وليس من حصر لمنافع بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ذات المؤمنين، ومنها أنه أعلم بشؤونهم وأحوالهم، وأرفق بهم ويبذل الوسع في الصبر عليهم، والدعاء لهم.
وعن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي آية أنزلت من السماء أشد عليك، فقال : كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركوا العرب وافناء الناس في الموسم ، فنزل عليّ جبريل فقال[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( )، قال : فقمت عند العقبة ، فناديت : يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي ولكم الجنة ، أيها الناس قولوا لا إله إلا الله ، وأنا رسول الله إليكم ، وتنجحوا ولكم الجنة . قال : فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون عليّ بالتراب والحجارة ، ويبصقون في وجهي ويقولون : كذّاب صابئ .
فعرض عليّ عارض فقال : يا محمد ، إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك( ).
ثم ذكرت الآية بعد البعثة التلاوة وقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة آيات القرآن على المسلمين لبيان أن هذه التلاوة على وجوه:
الأول : التلاوة علم قائم بذاته.
الثاني : تلاوة آيات القرآن أصل لعلوم متعددة، ويتفرع عنها اللامتناهي من البرهان والإحتجاج والدلالة.
الثالث : بيان ملازمة التلاوة للإيمان ، فكل مؤمن يجب أن يتلو القرآن وينصت له، لذا تفضل الله عز وجل بفرض تلاوة القرآن على كل مسلم ومسلمة في الصلاة اليومية ، قال تعالى[فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ]( )، ليكون هذا الأمر إنحلالياً لكل مسلم ومسلمة , وتقديره بصيغة المفرد على وجهين :
الأول : واقرأ ما تيسر من القرآن.
الثاني : وأقرأي ما تيسر من القرآن.
الرابع : ذكرت الآية الضمير (هم) في قوله تعالى[يَتْلُو عَلَيْهِمْ] ولو دار الأمر فيه بين الكثير والقليل من المسلمين، والعموم والخصوص، فالصحيح هو الأول .
وبعد ذكر آية البحث لتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات الله عز وجل على المسلمين أخبرت بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يزكي المسلمين ويطهرهم من الذنوب ويحول بينهم وبين المعاصي .
وعن ابن عباس قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية {يحول بين المرء وقلبه}( ) قال :يحول بين المؤمن والكفر ، ويحول بين الكافر وبين الهدى.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} قال : يحول بين الكافر وبين أن يعي باباً من الخير أو يعمله أو يهتدي له( ).
وسئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن (قول الله تبارك وتعالى: ” واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ” فقال: يحول بينه وبين أن يعلم أن الباطل حق( )، وقد نجّاهم من عبادة الأوثان ، وهذه النجاة أعظم تزكية في حياة الإنسانية ، وأخذ بأيديهم في رياض الإيمان ، وهو من الشواهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين ، قال تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا] ( ) .
ويكون تقدير آية البحث ( لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يزكيهم ).
ولكن جاء العطف في الآية بين التلاوة والتزكية لبيان ضرب من إعجاز القرآن من جهات :
الأولى : ذات تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن تزكية للمؤمنين .
الثانية : تلاوة المسلمين للقرآن تزكية وتطهير لهم .
الثالثة : التلاوة طريق للتزكية والصلاح .
الرابعة : إجتماع التلاوة والتزكية في إيجاد [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الخامسة : من وجوه تقدير الآية : يزكيهم بتلاوته لآيات الله .
إن حصر تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآيات الله شاهد بأن رسالته سماوية، وأنها خالية من الهزل أو الهزء أو التفريط ، وهذا الخلو مصاحب للنبوات، وفي موسى عليه السلام وقصته مع بني إسرائيل وطلبه منهم ذبح بقرة لإكتشاف القاتل حين ذكروا له وقوع جريمة قتل ، وسألوه معرفة القاتل ورد حكاية عنه في التنزيل[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ] ( ) .
السادسة : بيان قانون وهو ليس بعد تلاوة آيات القرآن إلا التزكية والتطهير والنقاء وصفاء المودة بين المسلمين .
لتكون تلاوة النبي لآيات القرآن ، وتزكيته للمسلمين من مصاديق النعمة في قوله تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا]( ).
السابعة : يصح تقدير الآية على وجوه :
الأول : يتلو عليهم آياته ويزكيهم بآياته .
الثاني : يتلو عليهم آياته ليزكيهم لتكون التلاوة علة للتزكية .
الثالث : يتلو عليهم آياته تزكية لهم .
الرابع : آيات الله تزكية لهم ) أي ذات نزول آيات القرآن ذاته تطهير ورزق كريم للمسلمين .
وتكشف آية البحث قانوناً وهو أن منّ الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين متعدد وتترشح عنه نعم كثيرة ، تتجدد إلى يوم القيامة ، وفيها شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى أنه [َمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) بلحاظ أن هذه الوظائف العظيمة التي تذكرها آية البحث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يستطيع أن يقوم بها بمفرده لولا المدد والعون من عند الله عز وجل، لذا إبتدأت الآية بذكر منّ الله.
وبعد إخبار الآية عن تزكية وتطهير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين أخبرت عن قيامه بتعليمهم الكتاب ، وأختلف في الكتاب وإن كان مضمون الآية لا يأذن بالتوسع في مثل هذا الخلاف والظاهر والمشهور أنه القرآن إلا أنه لا يمنع من المعنى الأعم ، وقد ورد لفظ الكتاب في القرآن بارادة القرآن ، كما في قوله تعالى [الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( )، وقال تعالى[تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ]( ).
كما جاء لفظ الكتاب بالمعنى الأعم بقوله تعالى [وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ).
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً معلماً للأجيال وليس من معلم مثله على وجه الأرض ، إذ تتعاقب أجيال المتعلمين والمعلم من أنفسهم واحد هو الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفضل ومنّ من الله عز وجل، وهو من الذخائر العلمية الحاضرة في كل زمان , والمترشحة من قوله تعالى[إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ].
ويسمى ارسطو (384-322 ق.م ويسمى ارسطوطاليس، ورسطاطاليس) المعلم الأول وهو تلميذ إفلاطون، وقيل هو معلم الأسكندر الأكبر، وله كتب ومقالات في علوم متعددة، وجمع له مؤلف في المنطق تحت اسم (الأورجانون) ومعناه الأداة، وله مقالات في الأخلاق والسياسة وقد أضيفت كلما ومؤلفات نسبت إليه للرواج والشهرة .
ومنها أقوال: الفقر والد الثورة والجريمة، (السعادة مرهونة بنا نحن) (الأفعال الفاضلة تسر من يحب الفضيلة).
ولكن الحق أن الأفعال الفاضلة تسر الناس جميعاً , وتبعث السكينة في نفوسهم، وإليه دعا القرآن .
ومنها (صديق الكل ليس صديقاً لأحد).
ولا دليل على هذا المعنى إنما هو خلق كريم، وقد جاء القرآن بما هو أخص وأوثق من الصداقة، فقال سبحانه [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
وكل الأفعال الانسانية تنبع من واحدة أو أكثر من هذه المسببات، المصادفة , الطبيعة، الإكراه، العادة، المنطق، العاطفة، الرغبة، وقد كثر في الأسباب ولم يذكر التباين في الأثر ، وسبيل الهداية والرشاد وموضوعية المشيئة الإلهية في أفعال العباد وكيف أنه سبحانه يقرب الناس إلى فعل الطاعات، ويدفعهم أو يصرفهم عن إرتكاب السيئات، ومنه آية البحث التي تبين منّ ورحمة الله في إصلاح أفعال العباد .
وسمي ابو نصر الفارابي المعلم الثاني، وقد ولد في مدينة فاراب في تركستان سنة 874 ميلادية، وهاجر الى العراق لطلب العلم فدرس العربية والفلسفة والمنطق والطب، والموسيقى , وتسميته بالمعلم الثاني بسبب عنايته الكبيرة بمؤلفات ارسطو وبيانها وتفسيرها، وتوفى في دمشق سنة 950 وهو أعزب، ولا أصل لتسمية ارسطو بالمعلم الأول، ولا تسمية الفارابي بالمعلم الثاني ، وقد اعتنى أساطين العلماء بعلوم القرآن والسنة.
وتدل آيات القرآن والواقع والوجدان على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو المعلم الأول من جهات :
الأولى : تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بعلوم وكنوز من بطنان العرش .
الثانية : المعلم الأول هو سيد المرسلين وخاتم النبيين ، قال تعالى [مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ] ( ).
الثالثة : كثرة مضامين ومادة التعليم .
الرابعة : صيرورة الكتاب والسنة وسيلة مباركة للتعليم باتخاذهما آلة للدفاع ضد الذين أبوا التعليم الرسالي الكريم , وأصروا على صدّ الناس بالسيف عن هذا التعلم ، فصار الدفاع حاجة وكيفية للتعلم ، وليس من حصر لصيغ التعليم من السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه وجوه :
الأول : تجلت آيات من الصبر والتحمل في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة ، إذ لاقى الني صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه أشد الأذى من كفار قريش ، ويحتمل هذا الصبر بلحاظ آية البحث وجوهاً :
الأولى : أنه من منّ الله عز وجل .
الثاني : أنه من الشواهد على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحمله الأذى في جنب الله، قال تعالى مخاطباً نبيه محمداً[وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ]( ) .
الثالث : صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق قوله تعالى [يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ] لبيان قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لاقى الأذى، وتحمل المشاق في تلاوته للقرآن .
وعن أنس قال : لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت علي ثالثة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما يواري ابط بلال( ).
الرابع : إنه من الشواهد العملية وتفسير السنة النبوية لتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى أعلاه .
الخامس : إنه من أفراد ومصاديق الكتاب في قوله تعالى في آية البحث [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ].
السادس : إنه من الحكمة في قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ].
ولا تعارض بين هذه الوجوه سواء بلحاظ تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن وما تندب إليه من الصبر، أو بذات صبر وتحمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأذى، أو بتأديب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في ميدان الصبر ، وما ورد عنه في السنة القولية .
ومن وجوه الصبر الثبات على الإيمان مع إحتمال التعرض للأذى فحينما راودت قريش أبا طالب لحمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ترك الدعوة إلى الله ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الامر حتى يظهره الله وأهلك فيه ما تركته ( ).
ويكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول :ويعلمهم الكتاب .
الثاني : ويعلمهم الحكمة .
الثالث : ويعلمهم الكتاب والحكمة مجتمعين .
الرابع : ويعلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين المصداق المتحد الذي يكون من الكتاب ، ويكون من الحكمة .
وقد جمع واو العطف بين الكتاب والحكمة في القرآن عشر مرات منها قوله تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ] ( ) [فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ) .
ومنها من غير تعريف بالألف واللام كما في قوله تعالى [لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ] ( ) وكلها يتقدم فيها الكتاب على الحكمة ، وليس في القرآن (يعلمهم الحكمة والكتاب ) .
وهو من إعجاز القرآن لبيان قانون وهو ترشح الحكمة عن الكتاب ويضاف إليها الحكمة التي تأتي بالسنة النبوية وتترشح عن السنة الفعلية والتدوينية والتقريرية ، وليكون العطف بين الكتاب والحكمة على وجوه :
الأول : المغايرة وأن الحكمة غير الكتاب كما في قوله تعالى [وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ) .
الثاني : إنه من عطف الفرع على الأصل لأن القرآن هو الأصل .
الثالث : إنه من عطف مصاديق الوحي ، وفي التنزيل [ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ] ( ).
الرابع : إنه من عطف البيان على المبيَن ، والمبين على المجمل ، والمقيد على المطلق ، بلحاظ أن الحكمة بيان لذات آيات القرآن ، وفيها تبيان للمجمل ،وتقييد للإطلاق الوارد في الكتاب ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
الخامس : إنه من عطف الخاص على العام.
وأختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ) لبيان حاجة الناس إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولتأكيد قانون وهو متى ما إحتاج الناس إلى المنّ من الله عز وجل فانه سبحانه يتفضل به وعلى أحسن وجه وأتم صيغة وأكمل كيفية للنفع العام والخاص ، لذا جاء التكامل في الشريعة الإسلامية ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( )، كما يأتي المنّ من الله عز وجل على وجوه:
الأول : إبتداء من عند الله عز وجل.
الثاني : يأتي المنّ من الله عند سؤال العباد مجتمعين ومتفرقين , وهو من مصاديق قوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الثالث : يأتي المنّ الإلهي لقضاء حاجات العباد مما يعلمون بها أو لا يعلمون.
الرابع : تفضل الله عز وجل بالمنّ نافلة منه، وزيادة في الرزق والخير.
ويكون تقدير الصلة بين مضامين آية البحث على وجوه منها :
الأول : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يزكيهم) وفيه دلالة على حاجة المسلمين والناس إلى التزكية والتطهير من دنس عبادة الأوثان ، ومن الذنوب والمعاصي.
ومن الإعجاز في خلق الإنسان أنه لا يصلحه وينقح عمله إلا أحكام الشريعة السماوية ، فهي الوحيدة التي تبقى مصاحبة له، وتستولي على جوارحه وتقوده نحو فعل الصالحات وتزجره عن عمل السيئات.
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يصعد المنبر فيعظ الناس ويأتونه ليسألوه فيجيبهم بما يبعث الخشية في نفوسهم من الله عز وجل ، ويجعلهم يطلبون رضاه ، لذا جاءت الآية السابقة باعثاً على السعي في الخيرات والإحتراز من مفاهيم الضلالة والكفر ، إذ قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ] ( ) .
الثاني : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً يعلمهم الكتاب).
لقد إبتدأ خلق الإنسان بالتعليم بقوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) وقام الله عز وجل بنفسه بتعليم آدم ، لتبقى هذه نعمة التعلم والتعليم مصاحبة لذريته إلى يوم القيامة ، وقد أمر الله عز وجل آدم أن يعلم الملائكة الأسماء في آية تبين إرتقاء الإنسان بالعلم والكسب والتحصيل.
وهل قيام الإنسان بصناعة وتلقين وتعليم الأجهزة التقنية الحديثة ، وما يسمى الإنسان الآلي من هذا العلم.
الجواب نعم ، إلا أنه لا يرقى إلى مرتبة تعليم آدم الملائكة الأسماء ، ولكنه من رشحاته بلحاظ أنه منّ ولطف من الله عز وجل على الناس ، وفي التنزيل [وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ] ( ) .
ومن الإعجاز مجئ آية البحث بصيغة الفعل المضارع [يَعْمَلُونَ] لبيان قانون وهو إستمرار وتعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأجيال المسلمين حتى بعد مغادرته إلى الرفيق الأعلى ، وفيه بشارة من عند الله بحفظ السنة النبوية بين ظهرانيهم، وبعث الشوق في نفوسهم لتعلمها، والصدور عن القرآن وعنها، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الثالث : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً يعلمهم الحكمة) لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار (المنّ) وهو سبحانه يعطي بالأتم والأكمل من جهات :
الأولى : ذات المنّ والطول الذي يأتي من عند الله.
الثانية : إستدامة وفيوضات المنّ .
الثالثة : كثرة أفراد ومصاديق المنّ .
الرابعة : إنتفاع الناس من المنّ .
الخامسة : بقاء كل فرد من المنّ الإلهي في الأرض ، وعدم مغادرته لها.
السادسة : تجلي مصاديق المنّ الإلهي للناس جميعاً ، ليكون حجة في جذب الناس لسبل الهداية والإيمان .
السابعة : من فضل الله على الناس أنه في كل يوم من أيام الحياة الدنيا تتبين لهم مصاديق من كل من قانون :
الأول : المنّ الإلهي طريق إلى الجنة.
الثاني : المن الإلهي واقية من النار.
وهو من الإعجاز في آية البحث بذكرها للمؤمنين من غير تقييد بعمل الصالحات فلم تقل الآية : لقد منّ الله على المؤمنين الذين يعملون الصالحات) لصيرورة المنّ الإلهي على وجوه :
الأول : إنه مقدمة للعمل الصالح .
الثاني : المنّ الإلهي ضياء ينير دروب ومسالك الأعمال التي تجلب الحسنات .
الثالث : المن الإلهي برزخ دون إرتكاب المعاصي ، وهل منه البرهان في قوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ] ( ) الجواب نعم ، والمختار أن كل عبد يرى أو يسمع أو يتدبر في البرهان الذي يجذبه إلى فعل الخير ويزجره عن إرتكاب الذنب ، ولكن هذا البرهان من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متعددة من جهات :
الأولى : وضوح البرهان .
الثانية : الإلتفات إلى البرهان .
الثالثة : الإنتفاع من البرهان من وجوه :
أولاً : عند الإفتتان والإبتلاء .
ثانياً : عند إطلالة البرهان .
ثالثاً : ما بعد رؤية البرهان .
الرابعة : تجدد البرهان أو إحتجابه .
ومراتب البرهان هذه من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ] ( ) ولقد كان يوسف عليه السلام نبياً أخلص الطاعة لله عز وجل ، فتجلى له البرهان وإتعظ منه، وتسلح بالتقوى للعصمة من مراودة امرأة العزيز له .
لقد إبتدأت الآية بذكر المنّ من الله لتأديب المسلمين والناس جميعاً بأن الله هو المنّان، ودعوتهم لرجاء منّه وطوله وإحسانه، ولبيان عظيم إحسان ولطف ورأفة الله بالناس جميعاً، وتقدير الآية : لقد منّ الله على الناس إذ بعث فيهم رسولاً من أنفس المؤمنين .
إن ذكر المؤمنين في آية البحث دعوة لهم لتعاهد الإيمان، وترغيب للناس جميعاً بالإيمان ودعوة المؤمنين للفخر ببلوغ مرتبة الإيمان، وتلقي المنّ من الله بالرسالة الخاتمة وأحكامها , لقد تلقي الذين كفروا النبوات بالجحود، واستقبلوا الأنبياء بالصدود وإنكار المعجزات [قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ]( )، ولكن المؤمنين تلقوا المعجزات بالتصديق ، وإمتثلوا لما يصاحبها من الأوامر والنواهي، فيكون من معاني المنّ والطول في آية البحث دعوة المسلمين الى العمل بالأحكام الشرعية، لذا يقترن عمل الصالحات بالإيمان في عدة آيات من القرآن، وهذا الإقتران طريق الخلود في النعيم ، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً]( )، وبعد إخبار آية البحث عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة والشريعة المستحدثة أخبرت بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقوم بتلاوة آيات الله عز وجل .
وبعد ذكر آية البحث لتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن على المسلمين ، أخبرت عن وظيفة عظيمة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض، وحاجة الناس جميعاً لما فيها من التزكية والتطهير ليجتهد المؤمنون في سبل الصلاح والرشاد، ويرتقوا في الدرجات العالية التي أخبرت عنها الآية السابقة بقوله تعالى[هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ].
وإبتدأت آية البحث بلغة التأكيد والتحقيق بقوله تعالى [وَلَقَدْ] ومن خصائص القرآن أن يأتي فيه حرف , ليكون مدرسة في الفقاهة على وجوه :
الأول : إنه مدرسة في الفقاهة .
الثاني : إنه منبر في علوم التأريخ .
الثالث : الشهادة على الناس ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] ( ).
الرابع : بيان فضل الله .
ومن الإعجاز أن كلمة [مَنَّ]تتألف في رسمها من حرفين ، ولكن الخلائق تعجز عن عدّ وإحصاء مصاديقها في ساعة واحدة من يوم من أيام الحياة الدنيا أو الآخرة .
ولم يرد لفظ [لَقَدْ مَنَّ] في القرآن إلا في آية البحث لبيان فضل الله عز وجل وأن ذخائر الحرف أو الحرفين في القرآن تتجلى في كل زمان من غير إنقطاع .
الخامس : بيان قانون وهو أن قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]الذي نزل خاتمة للآية التالية لا يختص بالخلق والإيجاد وإدامة الكائنات بل يشمل الإعجاز في كلام الله عز وجل وكثرة المعاني للحرف والكلمة المتحدة .
ولم تعطف آية البحث بحرف عطف على الآية السابقة ، فلم تقل الآية (ولقد منّ)وهو لا يمنع من العطف في المعنى والدلالة ، إلا أن عدم وجود أداة وحرف عطف دليل على أن مضامين آية البحث قوانين مستقلة وأنظمة بهية يلزم المسلمين والناس جميعاً التدبر فيها .
وبعد حرف التحقيق ذكرت الآية المنّ والإحسان من عند الله بقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ]لبيان قانون وهو أن الإحسان واللطف ينزل من عند الله على المسلمين مجتمعين ومتفرقين.
ولم تقل الآية (لقد منّ ربكم عليكم) بل ذكرت اسم الجلالة لإرادة قانون وهو إنتفاع الناس جميعاً من المنّ الذي ينزل من عند الله, ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : لقد منّ الله على المؤمنين رحمة منه بهم .
الثاني : لقد منّ الله على الناس إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم .
الثالث : لقد منّ الله على المؤمنين ليقتدي بهم الناس .
الرابع : لقد منّ الله على المؤمنين وعلى أهل الكتاب .
الخامس : لقد منّ الله على المؤمنين بما بشّر به الأنبياء السابقون ، وفي عيسى ورد في التنزيل [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( ).
السادس : لقد منّ الله على المؤمنين ليتوب المنافقون ويلتحقوا بركب الهدى.
السابع : لقد منّ الله على المؤمنين بخير الدنيا والآخرة الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وهو من مصاديق قوله تعالى [مِنْ أَنْفُسِهِمْ] في آية البحث .
الثامن : لقد منّ الله على المؤمنين أنه أهل للمنّ .
التاسع : لقد منّ الله على المؤمنين في أجيالهم المتعاقبة وعلى السابق واللاحق منهم .
العاشر : لقد منّ الله على المؤمنين والمؤمنات .
الحادي عشر : لقد منّ الله على المؤمنين ليكون هذا المنّ ضياءً ينير مسالك الرشاد ، ويأخذ بأيديهم إلى سبل النجاة في النشأتين ، قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ] ( ).
ومع تعدد معاني ودلالات لفظ [طُوبَى] فانه لم يرد في القرآن إلا في الآية أعلاه , ويأتي مصدراً مشتقاً من الطبب (وتقول: طوبى لك، وطوباك بالإضافة) ( ).
(وروى داود بن عبد الجبار عن جابر عن أبي جعفر قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله طوبى لهم وحسن مآب.
فقال : شجرة أصلها في داري وفرعها في الجنة. ثم سُئل عنها مرة أُخرى. فقال : شجرة في الجنة أصلها في دار علي وفرعها على أهل الجنة.
فقيل له : يا رسول الله نسألك عنها مرة فقلت : شجرة في الجنة أصلها في دار علي وفرعها على أهل الجنة فقال : ذلك في داري ودار علي أيضاً واحدة في مكان واحد) ( ).
وقد ورد لفظ طوبى على ألسنة الأنبياء السابقين (وعن أم الدرداء قالت : قال موسى بن عمران عليه السلام : يا رب من يسكن غداً في حظيرة القدس ويستظل بظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك؟
قال : يا موسى أولئك الذين لا تنظر أعينهم في الزنا ، ولا يبتغون في أموالهم الربا ، ولا يأخذون على أحكامهم الرشا ، طوبى لهم وحسن مآب) ( ) .
(عن خيثمة قال : قال عيسى ابن مريم عليه السلام : طوبى لذرية مؤمن ، ثم طوبى لهم كيف يحفظون من بعده. وتلا خيثمة {وكان أبوهما صالحاً})( ).
الثاني عشر : لقد منّ الله على المؤمنين بأن جعلهم من أهل زمان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث عشر : لقد منّ الله على المؤمنين بالإسلام للفوز بالسلامة والأمن يوم القيامة، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الرابع عشر : لقد منّ الله على المؤمنين ليمن بعضهم على بعض.
الخامس عشر : لقد منّ الله على المؤمنين لأنه جعل الحياة الدنيا دار المنّ.
السادس عشر : لقد منّ الله على المؤمنين بحبه لهم وحبهم له.
لقد ذكرت آية البحث المؤمنين على نحو الخصوص والتعيين أي الذين آمنوا وصدقوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت آيات أخرى تبين المنّ العام ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الناس جميعاً، وأخبرت بمجيئه بالبشارة والإنذار للناس جميعاً، قال سبحانه [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( )، فان قلت قد يراد التقييد في الآية أعلاه والمقصود أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بشير ونذير للمسلمين على نحو الخصوص .
والجواب تبين آيات القرآن عموم رسالته ليكون تقدير الجمع بين قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( )، والآية أعلاه [وما أرسلناك الا مبشراً ونذيرا للناس كافة].
ويكون معنى ذكر المؤمنين على نحو التعيين في المنّ الإلهي في آية البحث إرادة إنتفاع المسلمين من البشارات والإنذارات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : التسليم بأن البشارات والإنذارات الواردة في القرآن إنما هي تنزيل من عند الله .
الثانية : العمل بمضامين البشارة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وإجتناب ما ورد النهي عنه .
الثالثة : إتخاذ المسلمين البشارات والإنذارات القرآنية موضوعاً ومادة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابعة : عناية وعمل المسلمين بالسنة النبوية التي تكون في المقام على وجوه :
الأول : تفسير وبيان السنة النبوية للبشارات والإنذارات الواردة في القرآن .
الثاني : مجئ البشارة في السنة النبوية سواء باللفظ والمعنى والدلالة أو بلفظ آخر غير البشارة ، وقد ورد عن جابر بن عبد الله قال: لقيني النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لي : يا جابر ، ما لي أراك منكسرا؟ فقلت : يا رسول الله ، استشهد أبي ، وترك عيالا ودينا، فقال: ألا أبشرك بما لقي الله به أباك ؟ قلت: بلى ، يا رسول الله ، قال: ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب ، وإن الله أحيا أباك فكلمه كفاحا، فقال : يا عبدي ، تمن أعطك ، قال : تحييني فأقتل قتلة ثانية ، قال الله : إني قضيت أنهم لا يرجعون)( ).
الثالث : قيام النبي بالإنذار والتحذير سواء فيما يخص أمور الدنيا أو أهوال الآخرة .
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : إبتدأت الآية بصيغة القطع والإخبار الجازم بأن الله عز وجل منّ على المؤمنين ولا يستطيع أي من الخلائق أن يمنّ على المؤمنين على نحو العموم الإستغراقي أو المجموعي ولو بأمر يسير ، وهو من الإعجاز في إنحصار ملك السماوات والأرض بيد الله تعالى .
وهو من مصاديق خاتمة الآية التالية [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
الثانية : بيان الآية لقانون من الإرادة التكوينية وهو أن الله عز وجل هو المنّان ، ولما كان المؤمنون [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) فقد أنعم الله عز وجل عليهم بمنّه ، ليكون من غاياته ترغيب الناس بالإسلام والفوز بتلقي المنّ من الله عز وجل .
الثالثة : من الإعجاز في نظم هذه الآيات مجئ آية المنّ الإلهي على المسلمين وبصيغة العموم بنعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما تترشح عنها من الفيوضات والبركة المتجددة إلى يوم القيامة كما في قوله تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ] ( ) لتتعقب بعد آية البحث آية المصيبة والخسارة يوم معركة أحد بقوله تعالى [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا] ( ) ليكون من إعجاز القرآن المواساة للمسلمين على المصيبة قبل وقوعها ، وليس من أمة تأتيها المواساة من الله عز وجل قبل وقوع المصيبة مثل المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
وتقدمت آية المن على آية المصيبة لإقتباس المواعظ من معاني المنّ في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإخبار عن عدم وقوع خسارة في الحقيقة للمسلمين لأن الأجر والثواب الذي فازوا به بخصوص معركة أحد أعظم وهو باق , وفي نماء إلى يوم القيامة ، ويأتي مزيد كلام في الجزء الثاني والخمسون بعد المائة( ).
الرابعة : من غايات الآية تزكية المسلمين من عند الله بالشهادة لهم بالإيمان، وبيان إنتقال الناس إلى حال الهداية والرشاد، ومن خصائص الإيمان أنه شجرة مضيئة تنير مسالك الأفهام للناس، ليكون من معاني وتقدير آية البحث وجوه:
الأول : لقد منّ الله على المؤمنين لهداية أهل الأرض.
الثاني : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً منهم لإزاحة الكفر ومفاهيم الضلالة من الأرض.
الثالث : لقد منّ الله على المؤمنين , وهو أهل المنّ عليهم وعلى الناس جميعاً.
الرابع : لقد منّ الله على المؤمنين أن هداهم للإيمان.
الخامسة : بيان قانون وهو أن ما يتلوه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من آيات القرآن هو كلام الله.
وسيأتي في الجزء الخامس والثلاثين بعد المائتين( ) من هذا السِفر قانون الإستجارة المستقرأ من قوله تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
السادسة : بيان قانون وهو تجدد فضل الله على المسلمين في الأجيال المتعاقبة من الناس بتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن، ومن غايات الآية حث المسلمين للإقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تلاوة آيات القرآن، والعناية برسمها وضبط كلماتها وحركاتها.
ولقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: صلوا كما رأيتموني أصلي) ( )، فهل يمكن تقدير آية البحث: يا أيها الذين آمنوا أتلوا آيات القرآن كما تلاها رسول الله .
الجواب نعم، وهو من أسرار وجوب قراءة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلاة على نحو فرض العين.
السابعة : تأكيد منّ الله عز وجل على المسلمين بنزول آياته وكلامه على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلاوته لها على المسلمين، وتدوينها وتوثيقها بين الدفتين والى يوم القيامة.
الثامنة : بيان قانون وهو أن المسلمين أمة مطهّرة , قد زكّاها الله عز وجل برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن التزكية والتطهير يصاحبان المسلمين الى يوم القيامة.
التاسعة : تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين القرآن، وعلوم الكتاب، وتأويل الآيات، وصحيح أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يفسر القرآن كله للمسلمين، ولكنه أسس هذا العلم ورغّب المسلمين به.
العاشرة : جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تعليم المسلمين أصول الحكمة وقيامه بتهذيب الأخلاق للتنزه عن العادات المذمومة، وهو من الإعجاز في إختتام آية البحث بقوله تعالى[وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ].
الحادية عشرة : من غايات آية البحث بيان التكامل في الشريعة الإسلامية، وهذا التكامل بمنّ وطول من عند الله عز وجل.
الثانية عشرة : بيان حاجة المسلمين وأهل الأرض لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ودعوة المسلمين لطاعة الله ورسوله، وهذه الطاعة من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، الذي يتلوه كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني في الصلاة .
التفسير
قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ]
كل رحمة من الله هي منّ وطول منه سبحانه ، ومن عظيم صنع الله عز وجل ، بلحاظ الخصوص والعموم في المنّ الإلهي وجوه :
أولاً : يأتي المن والإحسان من الله عز وجل لفرد فتنتفع منه ومن رشحاته الجماعة .
ثانياً : يأتي المنّ والطول من الله عز وجل للجماعة فتنتفع الطائفة والفرقة والأمة .
ثالثاً : ينزل المنّ من الله عز وجل على الأمة فيغترف وينهل منه الناس جميعاً ، ومنه مضامين آية البحث ، فذكرت الآية المسلمين بأن منّ الله عليهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أنفسهم لينتفع الناس جميعاً من بعثته من ذات المسلمين .
فان قلت قد ورد أن الله عز وجل أرسل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً بقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( ) والجواب هذا صحيح ولكن آية البحث قيدت المنّ في هذه الآية بأن بعثة النبي من المسلمين ذاتهم ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : قد منّ الله على المسلمين إذ بعث فيه رسولاً من أنفسهم .
الثاني : قد منّ الله على المسلمين والمسلمات إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ، وهل يصح تقدير الآية : قد منّ الله على المسلمات إذ بعث فيهن رسولاً من أنفسهم).
أم أن النوبة لا تصل إليه بلحاظ صيغة الذكورة في آية البحث أو أنه يتعارض مع قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ] ( ).
الجواب هو الأول ، وفيه آية في إكرام المسلمات وأن الله عز وجل لم يبعث لهن رسولاً إلا من بين المسلمين والمسلمات ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ] ( ).
الثالث : لقد منّ الله على النبي محمد إذ بعثه من بين ظهراني المسلمين) بلحاظ النعم العظيمة وأسباب النصر في هذه النسبة وموضوعية الإنتماء للإسلام.
وعن الإمام علي عليه السلام عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا) ( ).
وهل يصح تقدير هذا القول : إتخذني مسلماً قبل أن يتخذني نبياً ) الجواب نعم لبيان شرف مرتبة الإسلام وكيف أن النبوة مرتبة عظيمة خصّ الله عز وجل بها أشرف العبادة ومراتب العبودية والإسلام ، والنبوة من أسمى مصاديق الآية السابقة [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ]( ).
الرابع : لقد منّ الله على الناس إذ بعث فيهم رسولاً من مجتمع وسنخية المسلمين.
ومن معاني هذا البيان التأكيد بأن قيام المسلمين بطاعة الله وإتيان الفرائض والمناسك رحمة من الله ، ومنّ منه سبحانه على الناس جميعاً ، وتتجلى بصبر المسلمين في مراتب الإيمان، وجهادهم في سبيل الله وتصديهم للذين كفروا في ميادين القتال ، وتوسلهم إلى الله ودعائهم النصر ، وتفضل الله بالإستجابة لهم ، وبخصوص معركة بدر ورد قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) ليكون من تقوى الله ومن شكره تعالى دعوة الناس جميعاً للإيمان .
لقد كان العرب قبل الإسلام في جاهلية عمياء وكذا أكثر الأمم التي دخلت الإسلام، وهو الذي تدل عليه خاتمة آية البحث بقوله تعالى[وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] وتدل هذه الخاتمة على أن المسلمين لم يرتقوا الى درجات الإيمان إلا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وتقدير آية البحث : لقد منّ الله على الذين صاروا مؤمنين لما بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، ولما ذكرت آية البحث منّ الله فانها إبتدأت بتسمية المسلمين بالمؤمنين فضلاً منه تعالى.
ويمكن أيضاً نسبة حال الإيمان إلى عالم الذر، وأن المسلمين عرضت عليهم نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم في عالم الذر فآمنوا به وصدّقوا برسالته فصاحبتهم هذه الصفة في الدنيا.
ويمكن تأسيس قوانين من وجوه :
الأول : كل منّ من الله رحمة بالمسلمين والناس.
الثاني : كل منّ من الله هدى للناس، وهو من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
الثالث : يمنّ الله على الناس كي يشكروه، فينزل عليهم منّ ورحمة وفضل منه تعالى.
ومن أسماء الله المنّان , وهو من أسماء المبالغة مثل الوهّاب ، الجبّار ، ومنّان على وزن فعّال , ومننت على فلان أي إصطنعت عنده , كما يكون مشتقاً من المنّة , وهي التفاخر بالعطية على المعطى .
والمنّ : العطاء دون طلب عوض ، وفي التنزيل [هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ) كما يكون مشتقاً من المنّة وهي التفاخر بالعطية على المعطى .
وقال تعالى [لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى] ( ) لبيان أن ذكر منّ الله أمر محمود أما ذكر الإنسان منّه على غيره فهو أمر مذموم وقبيح .
(عن أنس بن مالك قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالساً في الحلقة ورجل قائم يصلي فلما ركع وسجد تشهد ودعا ، فقال في دعائه : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك ، لا شريك لك ، المنان ، بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإِكرام يا حيّ يا قيوم إني أسألك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب) ( ).
علم المناسبة
لقد جعل الله الحياة الدنيا دار منّه وطوله وإحسانه , وكل آية فيها منّ ونعمة من عند الله، وورد ذكر المنّ في القرآن بذات اللفظ، كما ورد بألفاظ ومعاني كثيرة منها معاني الرحمة والرزق والعفو والأمن وصرف البلاء، وهذا الصرف من مصاديق المحو في قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
وقد وردت مادة المنّ في آيات كثيرة، منها ست مرات بلفظ (منّ) إحداها آية البحث، ومنها قوله تعالى[فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا]( )، ويتوجه الخطاب في الآية أعلاه إلى المسلمين، لبيان أن الله عز وجل يفتح للمسلمين خزائن من كنوز الأرض والسماء، ليصبر المسلمون ويتطلعون إلى وعد الله عز وجل.
وهل قوله تعالى[كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ] في الآية أعلاه بذات المعنى في قوله تعالى في آية البحث[وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] الجواب لا، لأن المراد في الآية أعلاه من سورة النساء هو حال المسلمين وهم مستضعفون يخفون إسلامهم في بدايات الدعوة الإسلامية خوفاً من الملأ من كفار قريش , وورد في قصة يوسف عليه السلام[قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
قوله تعالى[عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ]
وتحتمل الألف واللام في المؤمنين وجوهاً:
الأول : إرادة الجنس والإستغراق.
الثاني : إفادة العهد والحصر.
الثالث : إرادة المعنى الأعم للجنس الإستغراقي والعهد.
والمختار هو الثالث لبيان أن المسلمين نالوا مرتبة المؤمنين بفوزهم بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي نعت المسلمين بالمؤمنين بشارة تلقيهم الآيات بالتصديق وبشارة النصر على الذين كفروا في معارك الإسلام، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا]( ).
وتشمل الآية المؤمنات، وتقدير آية البحث لقد منّ الله على المؤمنين والمؤمنات: إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، قال تعالى[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]( )، ومن الآيات أن أول من صدق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زوجه خديجة بنت خويلد، وأوّل شهيدة في الإسلام امرأة هي سمية أم عمار بن ياسر .
وفي الآية دعوة من جهات:
الأولى : وجوب تعاهد المسلمين الإيمان.
الثانية : ندب المسلمين عامة للتنزه عن النفاق والرياء .
ويدل لفظ المؤمنين في الآية على خروج المنافقين من نعمة الذكر في الآية والإنتفاع الأمثل من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاءت آية البحث لحث المنافقين على التوبة والإنابة.
الثالثة : حث الناس على دخول الإسلام والفوز بلقب وصفة الإيمان التي تذكرها آية البحث.
ومن خصائص لفظ المؤمنين الوارد في آية البحث أنه شهادة للمسلمين، وأمن من الخوف والفزع يوم القيامة، ليكون منّ الله عز وجل على المسلمين في الدنيا نوع طريق للمن عليهم في الآخرة , لأنهم صدّقوا بالبعثة النبوية وعملوا بسنن الإيمان.
قانون مصاديق المنّ
وتقدير الجمع بين آية البحث والآية التالية لقد منّ الله على المؤمنين بأنهم درجات عنده ) ليكون التقدير من اللامتناهي في أمرين:
الأول : قوله تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ] ومن وجوه تقديره :
أولاً : لقد منّ الله على المؤمنين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي تذكره آية السياق.
ثانياً : لقد منّ الله على المؤمنين بالهداية، قال تعالى[بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ]( ).
ثالثاً : لقد منّ الله على المؤمنين بالصلاح .
رابعاً : لقد منّ الله على المؤمنين بالتقوى.
خامساً : لقد منّ الله على المؤمنين بنزول القرآن.
سادساً : لقد منّ الله عز وجل على المؤمنين بنزول جبرئيل بالوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
سابعاً : لقد منّ الله عز وجل على المؤمنين بنزول كل آية قرآنية، وعدد آيات القرآن هو ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، وكل آية منّ ونعمة مستقلة من عند الله عز وجل على المؤمنين والناس جميعاً.
ثامناً : لقد منّ الله على المؤمنين بالمنّ والطول .
تاسعاً : لقد منّ الله على المؤمنين بالشهادتين .
عاشراً : لقد منّ الله على المؤمنين بالتصديق بنزول القرآن .
الحادي عشر : لقد منّ الله على المؤمنين بسلامة القرآن من التحريف، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثاني عشر : لقد منّ الله على المؤمنين بكل شطر من كل آية من آيات القرآن.
الثالث عشر : لقد منّ الله على المؤمنين بالبسملة .
الرابع عشر : لقد منّ الله على المؤمنين بكل حرف , وكل كلمة من القرآن .
الخامس عشر : لقد منّ الله على المؤمنين بأنه هداهم إلى الشكر له والإقامة على الثناء عليه .
السادس عشر : لقد منّ الله على المؤمنين بقول[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
السابع عشر : لقد منّ الله على المؤمنين بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن عشر : لقد منّ الله على المؤمنين إذ إدخر لهم صفة المؤمنين الذين يمنّ عليهم.
التاسع عشر : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بيّن لهم الفرائض .
العشرون : لقد منّ الله على المؤمنين إذ هداهم لأداء الفرائض، قال تعالى[وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الحادي والعشرون : لقد منّ الله على المؤمنين باستعانتهم ولجوئهم إليه سبحانه في قضاء الحوائج، وفي التنزيل[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( )، ويمكن تقدير الآية أعلاه على جهتين :
الأولى : إياك نعبد بمنّك علينا .
الثانية : إياك نستعين بمنّك علينا.
الثاني والعشرون : لقد منّ الله على المؤمنين أن جعلهم درجات .
الثالث والعشرون : لقد منّ الله على المؤمنين أن جعل الإيمان يصاحبهم في درجاتهم، وتكون له موضوعية في الشأن الذي يفوزون به، وتقدير الآية على جهات :
الأولى : هم درجات بايمانهم.
الثانية : بالإيمان صاروا درجات .
الثالثة : هم درجات فيحتاجون الإيمان .
الرابعة : هم درجات من جهة إيمانهم وتقواهم .
الخامسة : هم درجات لأنهم مؤمنون .
السادسة : لولا منّ الله عليهم لما صاروا مؤمنين .
الرابع والعشرون : لقد منّ الله على المؤمنين بتلاوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آيات الله عليهم، وذات نسبة الآيات إلى الله بقوله تعالى[يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ]( )، منّ وطول من الله عز وجل على المسلمين، إذ يقرأ أحدهم الآية القرآنية وهو يدرك أنه كلام الله، وتصيبه مصيبة فيتلوا القرآن فتدخل السكينة إلى قلبه قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
الخامس والعشرون : لقد منّ الله على المؤمنين بتعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم الكتاب، وأحكام الحلال والحرام، وليس من حصر لمصاديق هذا المن إذ يتخذ المسلمون والمسلمات السنة النبوية منهاجاً وإماماً في العبادات والمعاملات، وحجة ودليلاً .
السادس والعشرون : لقد منّ الله على المؤمنين بأن جعل الحياة الدنيا دار المنّ، ولا يختص المنّ فيها على المسلمين بل يكون منّ الله فيها على الناس جميعاً.
ومن الإعجاز في نظم الآيات أنها تذكر نعم الله وكيفية الفوز بها والمنافع العظيمة منها.
السابع والعشرون : لقد منّ الله على المؤمنين لأنه أهل أن يمنّ ويحسن ويتلطف، لذا فمن أسماء الله (المنان) ولما سأل رجل الإمام علي عليه السلام(أن يصف الله حتى كأنه يراه عيانا فغضب عليه السلام لذلك وقال: الحمد لله الذي لا يضره المنع والجود ولا يكديه الاعطاء والجود . إذ كل معط منتقص سواه . وكل مانع مذموم ما خلاه.
وهو المنان بفوائد النعم . وعوائد المزيد والقسم . عياله الخلق ضمن أرزاقهم وقدر أقواتهم . ونهج سبيل الراغبين إليه . والطالبين ما لديه . وليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل.
الأول الذي لم يكن له قبل فيكون شئ قبله. والآخر الذي ليس له بعد فيكون شئ بعده . والرادع أناسي الابصار عن أن تناله أو تدركه….) الى آخر الخطبة ( ).
الثامن والعشرون : لقد منّ الله على المؤمنين يجعل يومهم خيراً من أمسهم، وغدهم خيراً من يومهم وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
و(المّنان) اسم مبالغة على وزن فعّال، كما في غفّار , قهّار .
التاسع والعشرون : لقد منّ الله على المؤمنين لأنه لطيف بالعباد، وفي التنزيل[إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ]( ).
الثلاثون : لقد منّ الله على المؤمنين بالأمن والغبطة في عالم البرزخ ، (عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة رجل من الأنصار ، فانتهينا إلى القبر)، ولما يلحد ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله – وكأن على رؤوسنا الطير – وفي يده عود ينكت به في الأرض.
فرفع رأسه فقال : استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً.
ثم قال : إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه ، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة ، حتى يجلسوا منه مدّ البصر . ثم يجيء ملك الموت ، ثم يجلس عند رأسه فيقول[يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ]( )، أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان . قال : فتخرج . . . تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء ، وإن كنتم ترون غير ذلك( ) ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين ، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الطيب؟ . . .
فيقولون : فلان ابن فلان ، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا ، فيستفتحون له فيفتح لهم ، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها ، حتى تنتهي به إلى السماء السابعة،
فيقول الله : اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض ، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى . فتعاد روحه في جسده،
فيأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان له : من ربك؟
فيقول : ربي الله .
فيقولان له : ما دينك؟
فيقول : ديني الإِسلام.
فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟
فيقول : هو رسول الله.
فيقولان له : وما علمك؟
فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدّقت.
فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي ، فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره،
ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسرك… هذا يومك الذي كنت توعد.
فيقول له : من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير.
فيقول له : أنا عملك الصالح.
فيقول : رب أقم الساعة . . . رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي .
قال : وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه ، معهم المسوح . فيجلسون منه مد البصر.
ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب . فتفرق في جسده ، فينتزعها كما ينتزع السفود( ) من الصوف المبلول ، فيأخذها . فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح . ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض . فيصعدون بها…
فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة . إلا قالوا : ما هذا الروح الخبيث؟!…
فيقولون : فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا . حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا ، فيستفتح فلا يفتح له .
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { لا تفتح لهم أبواب السماء} فيقول الله عز وجل اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى . فتطرح روحه طرحاً .
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق} فتعاد روحه في جسده
ويأتيه ملكان ، فيجلسانه فيقولان له : من ربك؟
فيقول : هاه . . . هاه؟! . . . لا أدري.
فيقولان له : ما دينك؟
فيقول : هاه . . . هاه؟! . . . لا أدري،
فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول : هاه . . . هاه . . . لا أدري.
فينادي مناد من السماء ، أن كذب عبدي ، فافرشوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار . فيأتيه من حرها وسمومها ، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه،
ويأتيه رجل قبيح الوجه ، قبيح الثياب ، منتن الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسوءك . . . هذا يومك الذي كنت توعد . فيقول : من أنت؟! . . . فوجهك الوجه يجيء بالشر.
فيقول : أنا عملك الخبيث . فيقول : رب لا تقم الساعة)( ).
الحادي والثلاثون : لقد منّ الله على المؤمنين ببعثهم على الشكر له وزيادة فضله وإحسانه عليهم بهذا الشكر ، فان قلت قد ذكر قوله تعالى الشكر على نحو المسألة والجملة الشرطية [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
والجواب من لطف الله عز وجل على المؤمنين تقريبهم إلى منازل الشكر والثناء عليه تعالى ويهديهم إلى سبله بالنعم والإمتحان والبلاء وبما يلائم حال العبد ، وتقدير الآية أعلاه: لئن شكرتم بمنّي ولطفي لأزيدنكم بلحاظ كبرى وهي أن شكر المسلمين لله عز وجل بنعمة ومنّ منه سبحانه.
الثاني والثلاثون : لقد منّ الله على المؤمنين بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم وعن جابر (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلا قول الله { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}( ) فقال : إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ( ).
الثالث والثلاثون :لقد منّ الله على المؤمنين بشفاعة القرآن والبيت الحرام، ومواضع العبادة لهم في عالم البرزخ ويوم القيامة وقال (وهب بن منبه: مكتوب في التوراة : إن الله يبعث يوم القيامة سبعمائة ألف ملك من الملائكة المقربين بيد كل واحد منهم سلسلة من ذهب إلى البيت الحرام فيقول لهم : إذهبوا إلى البيت الحرام فزموه بهذه السلاسل ثم قودوه إلى المحشر)( ).
قوله تعالى[رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ]
من إعجاز آية البحث أنها لم تذكر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالاسم إنما ذكرته بالصفة وجاء لفظ(رسول) من غير تعريف بألف ولام، ولكن التعريف والتعيين يستقرأ من جهات:
الأولى : نسبة الرسول إلى ذات المؤمنين وأنفسهم، وعن عائشة في هذه الآية { لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم}( ) قالت : هذه للعرب خاصة)( ) .
والمختار إرادة المؤمنين من كل الأمم والشعوب ، إذ جاءت الآية بصبغة ورابطة ووشائج وأخوة الإيمان , وقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أشد الأذى من مشركي العرب، فقد أضطر للخروج من مكة والهجرة إلى الطائف قبل أن يجد الأنصار ويبايعوه، وعن محمد بن كعب القرظي قال : لمّا انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحده إلى الطائف، عمد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم اخوة ثلاثة : عبد ياليل، ومسعود، وحبيب، بنو عمر بن عمير، عندهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم، فدعاهم إلى الله تعالى وكلّمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه)( ).
الثانية : تلاوة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن التي لم تنزل من قبل على رسول قبله , ومجيء آيات بذات المعنى منها قوله تعالى في خطاب للمسلمين[لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
الثالثة : مجيء مضامين آية البحث بصيغة الفعل المضارع(يتلو عليهم آياته).
الرابعة : مجيء مضامين الآية من حيث فعل النبي محمد بصيغة الفعل المضارع(يزكيهم) (يعلمهم الكتاب والحكمة).
الخامسة : ضلالة قريش وأهل مكة وما حولها قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة : مجيء دعاء إبراهيم في القرآن وسؤاله لأهل مكة ببعثة النبي وبقوله تعالى[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
وعن أبي مريم الغساني قال: أن أعرابياً قال : يا رسول الله ما أول نبوّتك؟ قال : أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم ، ثم تلا {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً}( ) ودعوة أبي إبراهيم قال {وابعث فيهم رسولاً منهم}( ) وبشارة المسيح ابن مريم ، ورأت أم رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامها : أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام)( ).
إحصاء الكلمة المفردة في القرآن
من معاني قوله تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ) في خطاب لكل مسلم ومسلمة للإقتداء بالأنبياء ليكون من الذين هم في أسمى المراتب عند الله عز وجل .
ولم يرد لفظ [فَبِهُدَاهُمْ] ولفظ [اقْتَدِهِ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
ومع أن عدد كلمات القرآن هو ( 77493 ) فان هناك كلمات كثيرة لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة ، وأقوم بذكر عدد منها عند تسمية الآية القرآنية محل التفسير وفي آخر باب إعجاز الآية الذاتي ، وهو من إعجاز القرآن لذا لابد من تأليف مجلدات خاصة بذكر الكلمات التي وردت مرة واحدة في القرآن مع بيان موضوعية ودلالة إنفرادها ولحاظ موضوعها وموضعها من الآية القرآنية والسورة ، ولا بأس أن تختص رسائل جامعية بهذا المبحث الشريف ، ويتألف من وجوه :
الأول : الإحصاء اللفظي للكلمات التي وردت في القرآن مرة واحدة .
الثاني : تعيين سنخية هذه الكلمات ، فلا يشترط فيها الحصر بالاسم والفعل والحرف ، بل تشمل كل كلمة تجتمع حروفها برسم واحد وإن كانت مؤلفة من فعل وفاعل ومفعول به كما في قوله تعالى [تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا] ( ) فكل من [تَجْعَلُونَهُ]و[تُبْدُونَهَا]تتألف من فعل وفاعل ومفعول به، ولم يردا في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وكذا كلمة [قَرَاطِيسَ]( )، ليكون من إعجاز القرآن مجيء ثلاث كلمات متتالية لم ترد كل منها في آية أخرى.
الثالث : تقسيم وتصنيف الكلمات التي وردت مرة واحدة في القرآن بحسب رسمها وهيئتها وإعرابها وصرفها ، ومعناها لغة واصطلاحاً .
الرابع : تنظيم جدول يتضمن عدد الكلمات التي وردت مرة واحدة في القرآن، وفي كل سورة من القرآن على نحو مستقل .
الخامس : ذكر الكلمات التي وردت في القرآن مرتين وإيجاد الملازمة والصلة بينها وبلحاظ الموضوع والدلالة ونظم الآيات .
وهكذا بالنسبة للكلمات التي وردت ثلاث مرات في القرآن .
وعلم الإحصاء فرع علم الرياضيات ،ويشمل جمع البيانات والطرق والمناهج والاستقراء والاستنباط وحقائق الظواهر والوسائل ، وهو علم قديم مصاحب للإنسان في وجوده في الأرض , وفيه جلب للمصالح ودفع للمفاسد ، ومنع من الإرباك والخطأ والزلل .
ولا يختص علم الإحصاء بميدان دون آخر ، فيشمل الإجتماع والإقتصاد والتجارة والعلوم المختلفة , ربما ظهرت كلمة الأحصاء في الغرب سنة 1749.
بلحاظ نسبتها إلى الدولة بينما جاء القرآن قبل أكثر من الف وأربعمائة سنة بعلم الإحصاء وأخبر عن إطلاق موضوعه وفي أحد عشر موضعاً في عشر آيات منه .
ويمكن إنشاء علم جديد ودراسات خاصة في علم الإحصاء في القرآن بلحاظ آياته سواء التي ذكرت الإحصاء بالاسم أو بالمعنى والدلالة ، قال تعالى [وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا] ( ) ودراسات في العلوم التي تتفرع عن المسلم الأحصاء القرآني منها على أفراد الزمان الطولية وحساب الأشهر والأيام والعناية بالأهلة ، قال تعالى [فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ] ( ).
وتتجلى مناسبة في علم الحاسوب والتقنية الحديثة لإستظهار علوم مستحدثة وتفاصيل حسابية من القرآن، تكون لها دلالات عقائدية وفيه توظيف للعلم في علوم القرآن وحياة المسلمين وبما يزيدهم إيماناً، ويؤكد معجزة القرآن.
وقد يرد الأحصاء بالتكاليف العبادية منها الزكاة وبلوغ الأعيان الزكوية النصاب وهي في الأنعام .
نصاب الإبل ومقدار الزكاة فيها
عدد الإبل
من – الى القدر الواجب فيه
1 – 4 ليس فيها زكاة
5 – 9 شاة واحدة (انثى من الغنم لا يقل عمرها عن سنة أو نحوها )
10 – 14 شاتان
15 – 19 ثلاث شياه
20 – 24 اربع شياه
25 – 34 بنت مخاض (هى أنثى الإبل التى أتمت سنة وقد دخلت فى الثانية، سميت بذلك لأن أمها لحقت بالمخاض وهى الحوامل)
35 – 44 بنت لبون أو هى أنثى الابل التى أتمت سنتين ودخلت فى الثالثة . سميت بذلك لأن أمها تكون قد وضعت غيرها فى الغالب وصارت ذات لبن.
45- 59 حقة (وهي أنثى الابل التى أتمت ثلاث سنين ودخلت الرابعة،سميت حقة لأنها استحقت أن يطرقها الفحل
60-74 جذعة
(هى انثى الابل التى أتمت اربع سنين ودخلت الخامسة
75-89 بنتا لبون
90- 120 حقتان
فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث بنات لبون ثم فى كل خمسين حقة وفى كل أربعين بنت لبون ،إلى مائتين فيجتمع فيها الفرضان: فإن شاء أخرج أربع حقاق وإن شاء خمس بنات لبون، وعن الإمام الباقر عليه السلام: (وليس على النيف شيء، ولا على الكسور شيء)
نصاب زكاة البقر ومقدار الزكاة فيها
1 : 29 لا شيء فيه
30 : 39 تبيع (التبيع ما أتم من البقر سنة ودخل الثانية ذكرا كان أو أنثى )
40 : 59 مسنة (انثى من البقر أتمت سنتين ودخلت فى الثالثة)
60: 69 تبيعان أو تبيعتان
وهكذا ما زاد عن ذلك فى كل ثلاثين تبيع أو تبيعة . وفى كل أربعين مسنة.
نصاب زكاة الغنم ومقدار الزكاة فيها
1 : 39 لا شئ فيه
40 : 120 شاة واحدة (انثى من الغنم لا تقل عن سنة)
121 : 200 شاتان
201 : 300 ثلاث شياه
400 أربع شياه ثم على كل مائة شاة
ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) إجماع طوائف المسلمين على تعيين الأعيان الزكوية والنصب فيها , قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الصلاة (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) و(خذوا عنى مناسككم) ( ).
ومنها أداء فريضة الصيام بقوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ] ( ).
ولمعرفة هلال شهر رمضان يلزم المسلمين ضبط تتابع الأهلة لأشهر السنة كلها ، كما يحتاج عامة المسلمين معرفة أوان هلال شهر شوال بلحاظ الآية أعلاه والخروج من شهر الصيام ويحتاجون أوان هلال شهر شوال وذي القعدة وذي الحجة لمعرفة أوان فريضة الحج ويحتاجون معرفة شهر محرم ، ورجب لأنهما من الأشهر الحرم التي لا يصح القتال فيها وكذا مع شهري ذي القعدة وذي الحجة .
ومن الإعجاز في آية البحث [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ] ( ) بلحاظ علم الإحصاء أمور :
الأول : إرادة التعيين الإجمالي للأفراد والطوائف والأمم التي يشملها لفظ (هم) وسواء كانت المقصود الأنبياء أم المعنى الأعم ، فلا يعلم عددهم إلا الله عز وجل .
الثاني : علم الله بالتباين بين الناس في العمل .
الثالث : ذكرت آية البحث الدرجات بصيغة الجمع والتنكير ، وهو من النكرة في سياق الإثبات والإمتنان الذي يفيد الإطلاق .
ومن علم الإحصاء ذات الدرجات التي تذكرها آية البحث عدداً وماهية، والذين ينالون تلك الدرجات بقوله تعالى [هُمْ دَرَجَاتٌ] فلا يعلم عدد المقصودين بلفظ [هُمْ] إلا الله عز وجل ولا يعلم المراتب والدرجات إلا هو سبحانه.
فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : المرء يريد الطواف بالبيت أقبل يخوض الرحمة فإذا دخله غمرته ، ثم لا يرفع قدماً ولا يضع قدماً إلا كتب الله له بكل قدم خمسمائة حسنة ، وحط عنه خمسمائة سيئة ، ورفعت له خمسمائة درجة.
فإذا فرغ من طوافه فأتى مقام إبراهيم ، فصلى ركعتين ، دبر المقام خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وكتب له أجر عتق عشر رقاب من ولد إسماعيل ، واستقبله ملك على الركن فقال له : استأنف العمل فيما بقي فقد كفيت ما مضى وشفع في سبعين من أهل بيته ) ( ).
ليكون علم الإحصاء الذي يختص بهم الله عز وجل في الحديث أعلاه على وجوه :
أولاً : الذين يريدون الطواف بالبيت الحرام .
ثانياً : الذين يطوفون بالبيت الحرام .
ثالثاً : عدد مرات الطواف فقد يطوف المسلم عدة مرات في ذات اليوم أو الشهر أو السنة وخلال السنوات المتعددة في الحج الواجب والمندوب والعمرة وهو من مصاديق فضل الله عز وجل .
رابعاً : عدد الأشواط التي طافها كل مسلم .
ولا يعلم ما طافه مجموع المسلمين من يوم بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى يومنا هذا إلا الله عز وجل .
وقد أحصى الله عز وجل عدد الطائفين ومرات الطواف من الآن وإلى يوم القيامة ، وهل تعلم الملائكة هذا الإحصاء ، الجواب لا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) لبيان قانون وهو أن أكثر أفراد علم الإحصاء خاصة بالله عز وجل ، وهو من أسرار ملكيته للسموات والأرض، ولا يعلم أفراد ومصاديق ملك الله إلا هو سبحانه ، قال تعالى [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
خامساً : إحصاء الرحمة التي تأتي قبل وعند وبعد الطواف ، ولا يعلم مقدارها كماً وكيفاً إلا الله عز وجل ، وهل هي ثابتة أو متغيرة الجواب هو الثاني فهي في زيادة ومضاعفة ونماء .
سادساً : لا يعلم ولا يحصي عدو الركعات التي صلاها الأنبياء والمؤمنون عند المقام إلا الله عز وجل ، قال تعالى [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى] ( ).
سابعاً : عدد ركعات صلاة الفريضة التي أداها المسلمون في المسجد الحرام ، وهذا الإحصاء على أقسام بلحاظ جهات :
الأولى : عدد مرات صلاة الصبح التي صليت في البيت وعدد ركعاتها.
الثانية : عدد الذين صلوا الصبح في البيت أداء .
الثالثة : عدد الذين صلوا صلاة الصبح جماعة , وأوان الصلاة بلحاظ وقت الفضيلة .
الرابعة : عدد الذين صلوا الصبح فراداً.
لتكون الأعداد من أرقام لا يقدر على ضبطها وقراءتها وعدّها إلا الله سبحانه .
وهل تشمل هذه الأعداد الذي يلتحقون بالجماعة من الشوارع والمحال المحيطة بالبيت الحرام ، الجواب نعم، ما دامت متصلة بالجماعة.
ومن الإعجاز في المقام إمكان توجه أفراد هذه الجماعة إلى القبلة من الجهات الأربعة التي حول البيت ، وهي آية لا تتحقق إلا في تلك البقعة الطاهرة ، وتتجلى مصاديق المنّ الإلهي لفظ عموم الناس ولفظ البركة والهدى في قوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ).
الخامسة : عدد ركعات نافلة الصبح في البيت الحرام وهكذا بالنسبة للفرائض والنوافل الاخرى .
ومثل هذا الإحصاء يكون في المسجد النبوي وفي أي مسجد من مساجد الأرض .
ثامناً : إحصاء أفراد وكم ومقدار ومنافع الرحمة التي تصاحب الحاج بعد أدائهم مناسك الحج .
تاسعاً : عدد خطوات الطريق لكل من قصد البيت الحرام للحج والعمرة ، وهو آية مبهرة في عالم الإحصاء لا يدركها الناس حتى في التصور الذهني ، وآلات الحساب والبرمجة الحديثة , وإذا جاء جماعة بالسيارة أو الطائرة إلى البيت الحرام , ففيه وجوه محتملة :
الأول : إحتساب الجهد والوقت الذي يقطعه الإنسان في سفره بالسيارة أو الطائرة ، لعدم تحقق مصداق الخطوات ولقوله تعالى [أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى]( ).
الثاني : حصر الثواب بالخطوات الفعلية قبل الركوب في السيارة أو الطائرة وبعد النزول منها.
الثالث : إحتساب المسافة التي تقطعها السيارة أو الطائرة التي يتخذها الحاج آلة وراحلة بعدد الخطوات الواقعية ، أي كأن الحاج يمشي على رجليه من بلده إلى البيت الحرام .
والمختار هو الثالث لتكون النعم المستحدثة بوسائط النقل من فضل الله بذاتها وأسبابها وما يترشح عنها من النعم ، وفيه دعوة للإنتفاع الأمثل من العلوم والصناعات في تعظيم شعائر الله وأداء العبادات ، وعدم الإنقطاع إلى الدنيا وزينتها ، قال تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
وعن الإمام علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن لله عز وجل تسعة وتسعين اسماً ، من دعا الله بها استجاب له، ومن أحصاها دخل الجنة)( ) .
وعن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لله تسعة وتسعون اسماً ، من أحصاها دخل الجنة وهي في القرآن)( ).
ويحتمل الإحصاء في المقام وجوهاً:
الأول : عدّ أسماء الله.
الثاني : الوقوف عند معاني أسماء الله الحسنى , وذهب إلى هذا المعنى بعض العلماء.
الثالث : حفظ أسماء الله .
الرابع : التدبر والتفكر عند كل اسم من أسماء الله.
الخامس : إرادة الجمع بين حفظ الأسماء الحسنى , والتدبر في معانيها ودلالة كل واحد منها , ولو على نحو الإجمال .
السادس : العمل بالمضامين القدسية التي تترشح عن أسماء الله، والتي لا تشبه أسماء المخلوقين حتى وإن إلتقت معها باللفظ , والمختار هو الأول، لوجوه :
الأول : أصالة الظاهر.
الثاني : المتبادر من معنى الإحصاء، وقد ثبت في علم الأصول أن التبادر من علامات الحقيقة.
الثالث : عظيم رحمة الله، وفضله بالتخفيف عن الناس.
الرابع : مجيء آية البحث بذكر منّ وإحسان الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ).
الخامس : من أسرار إحصاء المسلم لأسماء الله ترتب التفكر والتدبر بها، ومن فيوضاتها ظهور نفعها على عمل ذات المسلم، وهي موضوع للتذكير بالله عز وجل، ووسيلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومادة للتفقه في الدين.
ومن الإعجاز في المقام أن الذين يحفظون أسماء الله عن ظهر قلب في كل زمن هم عدد قليل من المسلمين، وإذا قلت هناك إختلاف في عدد قليل من أسماء الله في النصوص والروايات الواردة بخصوص أسماء الله عند عموم المسلمين , فالجواب إن الله عز وجل هو الواسع الكريم , الذي يقبل من المؤمنين الصيغ والطرق التي بلغتهم .
وأخرج أبو نعيم عن محمد بن جعفر قال: سألت أبي جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن الأسماء التسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة؟ فقال : هي في القرآن ، ففي الفاتحة خمسة أسماء . يا الله ، يا رب ، يا رحمن ، يا رحيم ، يا مالك .
وفي البقرة ثلاثة وثلاثون اسماً : يا محيط ، يا قدير ، يا عليم ، يا حكيم ، يا علي ، يا عظيم ، يا تواب ، يا بصير ، يا ولي ، يا واسع ، يا كافي ، يا رؤوف ، يا بديع ، يا شاكر ، يا واحد ، يا سميع ، يا قابض ، يا باسط ، يا حي ، يا قيوم ، يا غني ، يا حميد ، يا غفور ، يا حليم ، يا إله ، يا قريب ، يا مجيب ، يا عزيز ، يا نصير ، يا قوي ، يا شديد ، يا سريع ، يا خبير .
وفي آل عمران : يا وهَّاب ، يا قائم ، يا صادق ، يا باعث ، يا منعم ، يا متفضل .
وفي النساء : يا رقيب ، يا حسيب ، يا شهيد ، يا مقيت ، يا وكيل ، يا علي ، يا كبير .
وفي الأنعام : يا فاطر ، يا قاهر ، يا لطيف ، يا برهان . وفي الأعراف : يا محيي ، يا مميت . وفي الأنفال : يا نعم المولى ، يا نعم النصير . وفي هود : يا حفيظ ، يا مجيد ، يا ودود ، يا فعال لما يريد . وفي الرعد : يا كبير ، يا متعال .
وفي إبراهيم : يا منَّان ، يا وارث . وفي الحجر : يا خلاق . وفي مريم : يا فرد . وفي طه : يا غفّار . وفي قد أفلح : يا كريم . وفي النور : يا حق ، يا مبين .
وفي الفرقان : يا هادي . وفي سبأ : يا فتَّاح . وفي الزمر : يا عالم . وفي غافر : يا غافر ، يا قابل التوبة ، يا ذا الطول ، يا رفيع . وفي الذاريات : يا رزاق ، يا ذا القوة ، يا متين . وفي الطور : يا بر . وفي اقتربت : يا مليك ، يا مقتدر .
وفي الرحمن : يا ذا الجلال والإِكرام ، يا رب المشرقين ، يا رب المغربين، يا باقي ، يا مهيمن . وفي الحديد : يا أول ، يا آخر ، يا ظاهر ، يا باطن . وفي الحشر : يا ملك ، يا قدوس ، يا سلام ، يا مؤمن ، يا مهيمن، يا عزيز ، يا جبار ، يا متكبر ، يا خالق ، يا بارىء ، يا مصوّر)( ).
وورد في خبر أبي هريرة ذكر الأسماء الحسنى من غير ياء النداء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (“إن لله تعالى تسعة وتسعين اسمًا، مائة إلا واحدًا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر”. وتقدم سياق الترمذي وابن ماجة له، عن أبي هريرة أيضا، وزاد بعد قوله: “وهو وتر يحب الوتر” -واللفظ للترمذي-: “هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الولي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور” .
وسياق ابن ماجة بزيادة ونقصان، وتقديم وتأخير)( ).
ولو كان المسلم يحصي أسماء الله بقراءتها في كتاب فهل هو من الإحصاء أم لابد من الحفظ عن ظهر قلب بحيث أنه يستحضرها في أي وقت من غير الرجوع إلى كتاب وآلة وواسطة .
فعل القول الأول : كل مسلم ومسلمة يستطيعان قراءة وكتابة أسماء الله , وحتى الذي لا يقرأ ولا يكتب يستطيع ترديدها ممن يلقنه سواء كان شخصاً آخر أو آلة حاكية في الليل أو النهار.
وقد يقال إن معنى الإحصاء هو ذات المعنى المنسوب لله عز وجل عن كتابة كما في قوله تعالى[وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا]( )، والجواب إن الأشياء والأعمال كلها حاضرة عند الله، والمراد من الكتاب الحجة والبرهان والتوثيق، والله سبحانه لا يقاس ولا يشبه بخلقه .
وفي التنزيل في ثناء الله على نفسه [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ]( ) ولم يرد لفظ ( كمثله ) في القرآن إلا في الآية أعلاه .
ولو اجتهد المسلم بالدعاء بأن يحتسب الله عز وجل له قراءته أسماء الله عز وجل في كتاب وصحيفة , وسأل الله عز وجل أن يجعله عنده إحصاءً عن ظهر قلب , فهل يستجيب له الله عز وجل , الجواب نعم إن شاء , والله عز وجل ذو الفضل العظيم .
ومن أسمائه تعالى المجيب والمحصي، قال تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
ولو لجأ إلى الدعاء المسلم الذي يستمع إلى من يحصي أسماء الله فسأل الله عز وجل أنه يجعله عنده ممن قد أحصى أسماء الله بسماعها , فهل يصح هذا السؤال ورجاء الإستجابة فيه، الجواب نعم، وهو من رشحات قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا] ( ).
وفيه دعوة لجعل إحصاء أسماء الله في المناهج الدراسية والحوزات العلمية فتجد عدداً من العلماء يؤلفون مجلدات في علم الرجال وفي أشخاص رجال السند هذا يمدح أحدهم ويسرد وجوه وحجج المدح وآخر يذم ذات الشخص ويذكر علة الذم ، وكلاهما من طائفة واحدة , ومنهج متحد .
ولم يلتفتوا إلى علم ومدرسة إحصاء أسماء الله , والتي تنير السبل وتحيي القلوب .
ومن الإعجاز في قوله تعالى [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ..] ( ) أنه حرب على الغلول ، إذ يبعث العصمة عنه في نفس المسلم بلحاظ أن إخبار آية البحث عن كون المؤمنين درجات عند الله يجعل المسلم يتفقه في الدين ويرتقي في المعارف الإلهية ويختار العمل الذي يرفع درجته ويقربه عند الله ، قال تعالى [يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ …]( ).
ويدرك المسلم تقّوم الدرجات والمراتب فيها بالعمل الصالح ، لذا يحرص على إجتناب الغلول والأخذ خلسة من المال العام ، لأن هذا الأخذ برزخ دون نيل الدرجات الرفيعة ، فلما أخبرت الآية قبل السابقة عن قبح السرقة من الغنائم قبل القسمة جاءت هذه الآية لتبين أضرار هذا الفعل على صاحبه وأنه ينقص من درجته أو يمنع من بلوغه مرتبة سامية في رضوان الله.
لقد أخبرت آية السياق عن إحضار الذي يسرق من الغنائم معه ما سرق إلى يوم القيامة ، وقالت الآية [يَأْتِ بِمَا غَلَّ] ( ) وكأن هذا الإتيان أمر إختياري وأنه يأتي به طواعية ، ولكنه من بيان آيات القرآن لسنن يوم القيامة وعجز الناس فيه عن الفعل إلا باذن الله ، ولأن ذات الغلول ظلم وتعد فان صاحبه يجبر على حمل ما غلّ يوم القيامة , وليس له الإمتناع عنه وإن كان فيه الخزي والذل .
ويمكن إنشاء باب مستقل هو الإحصاء في كل آية قرآنية، فمثلاً بالنسبة للآية السابقة وقوله تعالى[هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ]( )، يكون الإحصاء على وجوه :
الأول : ذات المسلمين، وفيه وجوه:
أولاً : درجات المسلمين.
ثانياً : الدرجات والمراتب بين المؤمنين والمسلمين، وفي التنزيل[قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ]( ).
ثالثاً : درجات الشهداء.
رابعاً : درجات الأولياء.
خامساً : درجات المسلمين في مصاديق الإيمان مثل:
الأولى : درجات المؤمنين في التقوى.
الثانية : درجات المسلمين في الصبر.
الثالثة : درجات المسلمين في أداء الفرائض والعبادات.
الرابعة : مراتب ودرجات المسلمين في عمل الصالحات.
الثاني : ذات الدرجات والمراتب وعددها.
الثالث : الدرجات والمراتب التي تأتي من فضل الله .
قوله تعالى [يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ]
لقد أراد الله عز وجل إخبار الناس وإلى يوم القيامة بأن الذي يتلوه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو كلام الله ، وهو الذي بين الدفتين، ليكون تقدير قوله تعالى ( يتلو عليه آياته ) على وجوه :
الأول : يتلو الرسول محمد آيات الله على المسلمين والمسلمات .
الثاني : يتلو الرسول أحكام الحلال والحرام على المسلمين .
الثالث : يتلو الرسول آيات الله على المسلمين فيتلقونها بالتصديق والقبول .
الرابع : يتلو على الناس آيات الله فيؤمن بها المسلمون ) لتخبر آية البحث عن إستحقاقهم لنيل مرتبة المؤمنين .
الخامس : يتلو النبي محمد ص على المسلمين آيات الله لحاجتهم والناس جميعاً لهذه التلاوة .
السادس : يتلو عليهم آياته فيجب عليهم حفظها وتعاهدها والعمل بمضامينها، وهذا الوجوب من خصائص تسميتهم بالمؤمنين .
السابع : يتلو عليهم ليزكيهم ) فصحيح أن قوله تعالى (َيُزَكِّيهِمْ) ورد معطوفاً على التلاوة مما يفيد التعدد والمغايرة بينهما .
وتقدير الآية إذ بعث فيهم رسولاً يزكيهم ) إلا أنه لا يتعارض مع تقديرها ترشح التزكية والتطهير من التلاوة ، ليكون من عطف المسبَب ، وهل يصح القول أنه من عطف السبب على المسبَب , الجواب نعم ، ويكون تقدير الآية ، إذ بعث فيهم رسولاً يزكيهم ليتلو عليهم آياته ، ليتلقى المسلمون كلام الله عز وجل , وهم في حال طهر وتزكية وخلو من الذنوب والخطايا .
الثامن : يتلو عليهم آياته كما جاء بها جبرئيل من غير زيادة أو نقصان وهو من مصاديق قوله تعالى [بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ] ( ) أي بلغة للمسلمين والناس كتنزيله .
التاسع : يتلو عليهم آياته ، ومنها آية البحث وهي الرابعة والستون بعد المائة من سورة آل عمران .
العاشر : يتلو عليهم آياته لتكتب لهم الحسنات ، وإذا كان الثواب يأتي للمسلمين بتلاوتهم كل حرف من حروف القرآن ، فهل يأتيهم باستماعهم لتلاوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ) لبيان مجئ الثواب من جهات :
الأولى : صيرورة المسلم في رحاب القرآن .
الثانية : إستماع المسلم لتلاوة القرآن وإلقاء السمع للتلاوة لتكون حاسة السمع هي الفاعلة حينئذ ، وهو من أسرار تقديم السمع على البصر في آيات متعددة من القرآن ولأن هذه التلاوة بذاتها منّ ورحمة من الله ، قال تعالى [فَبَشِّرْ عِبَادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ).
الثالثة : إنصات وتدبر المسلم لآيات القرآن .
الرابعة : الإنصات الجماعي لآيات القرآن ففيه فضل إضافي على الإنصات الفردي ، وهو من الإعجاز في تشريع صلاة الجماعة ، وقراءة الإمام لسورة الفاتحة وسورة أخرى أو آيات من القرآن وإنصات الجماعة له، ليكون هذا الإنصات مدرسة للتأديب والإرشاد في كيفية الإستماع للقرآن بخشوع مع التدبر في معانيه ، وترك التحدث والإشتغال عنه .
(عن ابن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اقرأ عليَّ قلت : يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال : نعم . إني أحب أن أسمعه من غيري . فقرأت سورة النساء حتى أتيت على هذه الآية{فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً}( ) فقال : حسبك الآن.. فإذا عيناه تذرفان)( ).
الخامسة : نزول الرحمة من عند الله وتغشيها للمسلمين مجتمعين ومتفرقين، ويحتمل تقدير خاتمة الآية أعلاه وجوهاً :
أولاً : إختصاص الرحمة بالذين يستمعون تلاوة القرآن .
ثانياً : شمول الرحمة للذي يتلو الآية القرآنية والذين يستمعون إليها .
ثالثاً : مجئ الرحمة لآباء الذي يتلو أو يستمع للقرآن .
رابعاً : إنتفاع الذراري من الإنصات للتلاوة .
خامساً : ترشح النفع على المسلمين جميعاً بتلاوة بعضهم لآيات القرآن.
أي أن الخطاب في قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) أعم من أن يختص بالذين يستمعون للقرآن.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية أعلاه ، وفي الآية نكتة عقائدية إذ يدل مجيء الفعل قرئ بصيغة نائب الفاعل في قوله [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ]( ) على إرادة قراءة الآلة الحاكية في هذا الزمان وما يتفرع عنها في زمان العولمة والثورة التقنية المتنامية والمتجددة من مناسبة للثواب.
وعدم حصر القراءة بالمسلم أو الإنسان مطلقاً ، أما الإستماع والإنصات فهو توظيف للحواس ، فتوجه التكليف به.
ويحتمل المراد من الآيات في قوله تعالى[يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ]( ) وجوهاً :
الأول : آيات القرآن، وعددها(6236) آية .
الثاني : كل كلمة من آيات القرآن .
الثالث : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآيات الكونية وكشفه لعلوم الغيب , ويتقيد هذا الكشف بأمرين :
أولاً : تفّضل الله عز وجل باطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على علوم من الغيب، قال تعالى[عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا]( ).
ثانياً : الإذن من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكشف ما علّمه الله من علوم الغيب .
وهل يحتمل أن الله عز وجل أطلع النبي محمداً على علوم من الغيب لم يخبر بها المسلمين، الجواب نعم، وهو من عظيم شأن ومنزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الله عز وجل .
الرابع : السنة النبوية بلحاظ أنها فرع الوحي، لقوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الخامس : الآيات والبينات في الناس أنفسهم , وتعاقب أجيالهم، والموعظة من أطلال وخرائب الذين كفروا، قال تعالى[أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى]( ).
والمختار هو الأول والثاني أعلاه، وأن المراد بالآية تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن، نعم جاءت آيات قرآنية أخرى تتضمن الإخبار عن آيات الله بالمعنى الأعم، وذكرت آية البحث تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الكتاب والحكمة .
وهل يدل العطف في قوله تعالى[وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا]( )، على المغايرة والتعدد.
الجواب إنه من عطف الخاص على العام، فالرسل والأنبياء من آيات الله ، ومن الشواهد على كون الأنبياء ومعجزاتهم من آيات الله، قوله تعالى لموسى بن عمران عليه السلام [وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى]( ) .
وذكرت آية البحث تزكية وتطهير النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين من دنس الشرك، ورجس الضلالة.
ومن الإعجاز في آية البحث تقديم تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن، وفيه تأكيد على أولوية آيات القرآن، ودعوة المسلمين لتعاهدها وحفظها، وإجتناب تضييع كلمة منها.
لقد إبتدأت آية البحث بالإخبار عن منّ وطول وإحسان الله عز وجل على المسلمين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبرت عن بعثته بالنبوة بين ظهرانيهم ، لتبقى معالم النبوة حاضرة عند المسلمين في كل زمان ومكان، وليس من حاجب أو برزخ بينها وبينهم.
وتبين آية البحث صفحة مشرقة للنبوة وهي تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن على المسلمين، وهذه التلاوة جهاد وتستلزم الصبر لما فيها من الحرب على الكفر والنفاق وعبادة الأصنام والعادات المذمومة التي كان عليها الذين كفروا ، ومن وجوه تقدير آية البحث :
الأول : يتلو النبي آيات القرآن على المسلمين .
الثاني : يتلو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلام الله الذي نزل به جبرئيل .
الثالث : يتلو عليهم آياته، وليس من أحد غيره يتلوها عليهم قبله.
الرابع : يتلو عليهم آياته ليتلوها ويتدبروا في معانيها.
الخامس : يتلو عليهم آياته لتبقى دستور الحياة.
السادس : يتلو عليهم آياته ليطهرهم ويزكيهم.
السابع : يتلو عليهم آياته لتكون ملاك الأخوة الإيمانية بينهم.
الثامن : يتلو عليهم آياته لمنع الفرقة والخلاف بينهم، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ).
التاسع : يتلو عليهم آيات الله لحاجتهم والناس لها..
العاشر : يتلو على المسلمين آياته رحمة من عند الله، رحمة لهم وللناس، قال تعالى[هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ]( ).
الحادي عشر : يتلو عليهم آياته لتبقى في الأرض إلى يوم القيامة.
الثاني عشر : يتلو عليهم آياته لتكون حجة ودليلاً على وجوب عبادة الله عز وجل.
الثالث عشر : يتلو عليهم آياته ليرتقوا في منازل الرفعة.
الرابع عشر : بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للناس ليتلو عليهم آياته.
الخامس عشر : يتلو عليهم آياته فيزدادون إيماناً.
السادس عشر : يتلو عليهم آياته بمن ولطف من عند الله عز وجل .
وسئل الإمام الباقر عليه السلام: إن الناس يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يكتب ولا يقرأ فقال: كذبوا لعنهم الله، أنى يكون ذلك؟ وقد قال الله عز وجل: “هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين” فيكون يعلمهم الكتاب والحكمة، وليس يحسن أن يقرأ أو يكتب ؟ قيل فلم سمي النبي الامي ؟ قال: نسب إلى مكة وذلك قول الله عز وجل: ” لتنذر ام القرى ومن حولها”( ) فام القرى مكة، فقيل: امي لذلك)( ).
قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]
ورد عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيها الناس إنه ليس من شيء يقربكم من الجنة ويبعدكم من النار إلا قد أمرتكم به، وإنه ليس شيء يقربكم من النار ويبعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه، وأن الروح الأمين نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله واجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعاصي الله ، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بطاعته) ( ).
وتقدير الآية : ويعلم رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين والمسلمات الكتاب) وفيه إعجاز ببيان وظائف النبوة وأنها لا تقف عند تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن على المسلمين، إنما يقوم بتعليمهم السنن وأحكام الشريعة التي وردت في القرآن، وفيه شاهد على أن الإسلام دين التنزيل وتلاوته والعمل بمضامينه.
وهل يختص تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب بأهل بيته وأصحابه، الجواب لا، فإن التعليم الوارد في آية البحث متصل ومتجدد إلى يوم القيامة بالسنة النبوية، وما يتوارثه المسلمون مما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما نهى عنه، وقد وردت نصوص عديدة يحث فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين على تعلم الكتاب , والعمل بمضامينه .
و(عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله عز وجل، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عِصْمَة لمن تمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، لا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يَخْلَق عن كثرة الرد، فاتلوه، فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول لكم الم حرف، ولكن ألف عشر، ولام عشر، وميم عشر”)( ).
وعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله يقول : يا أيها الناس إني قد تركت فيكم خليفتين إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي، أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله جل جلاله من السماء وعترتي أهل بيتي، ألا وإنّهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض)( ).
وجاءت أحاديث في الحث على تعاهد قراءة القرآن في المصحف وعدم الإكتفاء بالتلاوة عن ظهر قلب، وجهراً.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن تعلّم القرآن وعلّمه وعلّق مصحفاً لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلّقاً به يقول : يا ربّ العالمين عبدك هذا اتخذني مهجوراً اقض بيني وبينه)( ).
وتقدير آية البحث على وجوه:
الأول : ويعلمهم تلاوة الكتاب.
الثاني : ويعلمهم تدوين آيات الله.
الثالث : ويعلمهم حفظ آيات القرآن.
الرابع : ويعلمهم العمل بالكتاب وسنته.
الخامس : ويعلمهم الكتاب الذي جاء به موسى وعيسى والأنبياء السابقون، وفي خطاب إلى المسلمين قال تعالى[شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ]( ).
السادس : ويعلمهم الكتاب الذي جاء به الأنبياء السابقون والذي سعى من قبل بعض الناس في تحريفه، قال تعالى [يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ]( ).
السابع : يعلمهم الكتاب كيلا ينسوه أو يهجروه.
الثامن : يعلمهم الكتاب ليرتقوا في سلم المعارف الإلهية.
التاسع : يعلمهم الكتاب لينالوا الأجر والثواب.
العاشر : يعلمهم الكتاب الذي[لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الحادي عشر : يعلمهم الكتاب للإحتراز من تحريف القرآن، قال تعالى[وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ]( ).
الثاني عشر : يعلمهم الكتاب والفرقان الذي جاء به موسى بلحاظ أن القرآن كتاب جامع للأحكام.
الثالث عشر : يعلمهم الكتاب لفضح الذين يكتبون الكتاب بأيديهم لتكون تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن على المسلمين من مصاديق الويل الوارد في قوله تعالى[فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ]( ).
فان قلت قد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ويل وادٍ في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره)( ).
والجواب نعم هذا صحيح ، وهو لا يمنع من المعنى اللغوي للويل الذي يلحق الذين يحرفون التنزيل ، وهو من أسرار ذكر لفظ الويل في الآية أعلاه مرتين .
الرابع عشر : لقد اختلف شطر من أهل الملل السماوية السابقة في الكتاب كما في قوله تعالى [وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ..] ( ) فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعلم المسلمين الكتاب ليرتقوا في المعارف الإلهية ، ويحترزوا من الإختلاف ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
الخامس عشر : لقد بعث الله عز وجل الأنبياء قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل معهم الكتاب كما في قوله تعالى [فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ]( ) ثم تفضل وأرسل النبي محمداً للمسلمين ليعلمهم الكتاب والحكمة، ويحكم هو والكتاب بين الناس ، وهو من وجوه تفضيله صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين، وتفضيل المسلمين فليس من أمة يجتمع في تعليمها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن.
السادس عشر : يعلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين القرآن الذي أنزله الله عز وجل عليه ، وفيه تصديق للكتب السماوية السابقة ، قال تعالى [نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ]( ).
السابع عشر : يعلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الكتاب الذي منه آيات محكمات وأخر متشابهات يرد علمها إلى الآيات المحكمات وتبينها السنة النبوية ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ]( ).
الثامن عشر : كما يقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم المسلمين الكتاب والحكمة فانه يحتج بالكتاب والحكمة على الناس في دعوتهم إلى الله .
التاسع عشر : يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الكتاب ليحكم بينهم ويتعلموا كيفية الحكم في أجيالهم اللاحقة ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ]( ).
لقد وردت آيات قرآنية تتضمن أداء الفرائض العبادية وأحكامها وقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأدائها بحضرة المسلمين، وجاءت أحاديث نبوية عديدة ببيان وجوبها وتعاهدها , وكيفيتها .
قوله تعالى [وَيُزَكِّيهِمْ]
تتضمن هذه الكلمات أربع كلمات من جهة الإعراب وهي :
الأولى : حرف العطف الواو للدلالة على عطف الكلمة والموضوع على ما قبله .
الثانية : الفعل المضارع يزكي لإفادة إستدامة التزكية للمؤمنين بالقرآن والسنة .
الثالثة : الفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان أنه الإمام ذو الرتبة الرفيعة , وفيه دعوة للصحابة وعامة المسلمين لأتباعه , وإخبار بأن في هذه النتيجة والإنقياد خير الدنيا والآخرة.
وقد ورد في القرآن خطاب من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ] ( ).
الرابعة : الضمير (هم) وهو مفعول به، والتزكية التطهير والصلاح والتهذيب والترفع والإبتعاد عن السيئات والآثام .
ونسبت آية البحث تزكية المؤمنين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفته رسولاً من عند الله ، وتقدير الآية إذ بعث فيهم رسولاً يزكيهم، ويدل على هذه النسبة قوله تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ]( ).
وورد (عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى عليه وآله وسلم : مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير ، أصاب أرضاً فكانت منها بقية قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ) ( ).
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ويزكيهم بأمر الله .
الثاني : ويزكيهم باذن الله .
الثالث : ويزكيهم بتلاوة آيات القرآن عليهم ، وتقدير الآية : يتلو عليهم آياته فيزكيهم .
الرابع : صيرورة التزكية علة للتلاوة ، وتقدير الآية : يتلو عليهم آياته بسبب تزكيته لهم .
الخامس : يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم الله , قال تعالى[وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ]( ).
السادس : يتلو عليهم آياته من أجل أن يزكيهم .
وهناك مسائل :
الأولى : كيف يزكي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين .
الثانية : ماهي النسبة بين تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآيات وتزكيته للمسلمين.
الثالثة : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات الله تزكية للمسلمين.
أما المسألة الأولى فتأتي التزكية من وجوه كثيرة منها :
الأول : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن .
الثاني : جريان المعجزات الحسية على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : تجدد الشواهد والمصاديق التي تدل على صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل.
الرابع : أداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة اليومية، وإمامته للمسلمين فيها , وقد ورد لفظ أقم الصلاة أربع مرات في القرآن خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, قال تعالى[وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ]( ).
الخامس : إجابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أسئلة المسلمين وغيرهم ، قال تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا] ( ).
لبيان إعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أن من وجوه تطهير وتزكية المسلمين تفقههم في الدين ، واطلاعهم على أحوال الأمم الأخرى ، وتتبعهم لقصص الأولين من الأنبياء والصالحين ، وأخذ العبرة والموعظة منها ، وتقدير لفظ [يسألونك] بلحاظ آية البحث على جهات منها :
الأولى : يسألونك عن منّ الله على المؤمنين .
الثانية : يسألونك مِن منّ الله .
الثالثة : يسألونك أن تتلو عليهم آيات الله .
الرابعة : يسألونك فأجبهم بتلاوة آيات القرآن ، فمن خصائص الآية القرآنية أنها حجة .
الخامسة : يسألونك لأن الله أرسلك إليهم .
وأما المسألة الثانية فإن النسبة بين التلاوة والتزكية هي العموم والخصوص المطلق، من وجوه:
الأول : ذات تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآيات القرآنية تزكية ونقاء للمسلمين.
الثاني : تلاوة المسلمين أنفسهم للقرآن تزكية وتطهير لهم، وفي التنزيل[وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا] ( ).
فنسبت الآية أعلاه فعل التزكية إلى العبد نفسه ليكون من مصاديق التزكية بالتلاوة من جهات:
الأولى : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن على المسلمين والمسلمات.
الثانية : تلاوة المسلم آيات القرآن.
الثالثة : إستماع المسلم لآيات القرآن.
الرابعة : عمل المسلم بمضامين التنزيل، وما جاءت به آيات القرآن من أحكام الحلال والحرام، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
وعن عمران بن الحصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي : كم تعبد اليوم إلها ؟ قال : سبعة ، ست في الأرض ، وواحد في السماء قال : فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك ؟ قال : الذي في السماء ، فقال : يا حصين ، أما إنك إن أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك. قال: فلما أسلم حصين ، أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : يا رسول الله ، علمني الكلمتين اللتين وعدتني.
قال : فقال : اللهم ألهمني رشدي ، وأعذني من شر نفسي)( ).
الثالث : تزكية المسلمين نوع طريق لتلاوتهم آيات القرآن، من غير أن يلزم الدور بينهما.
وأما المسألة الثالثة فالجواب نعم، ليكون من معاني العطف في قوله تعالى[يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ] أنه من عطف المُسَبب على السبب، والمعلول على العلة.
قوله تعالى [وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]
تبين الآية حال المسلمين قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الضلالة والغواية , وفيه إشارة إلى الفترة بين الرسول عيسى عليه السلام والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي نحو ستمائة سنة ولبيان قانون وهو لا يمنّ أحد من المسلمين ويقول أني كنت مؤمناً قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما كانت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً وفيضاً على الناس جميعاً.
ويحتمل المراد من الواو في(وإن كانوا) وجوهاً:
الأول : إرادة المؤمنين الذين تذكرهم آية البحث.
الثاني : المقصود عموم المسلمين والمسلمات.
الثالث : المقصود الناس جميعاً.
والمختار هو الثاني، لعبادتهم الأصنام قبل البعثة النبوية.
وقيدت آية البحث الضلال بأنه(مبين) ليخرج أهل الكتاب منه لأنهم أتباع الأنبياء السابقين.
ومن معاني الجمع بين مضامين آية البحث تجلي الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومصاديق المنّ الإلهي بأن ينقل الناس من الضلال المبين الى حال الإرتقاء العلمي والصلاح والرشاد، وهو أمر لا يقدر عليه إلا لله عز وجل، ومن مصاديق ولايته، وفي التنزيل[إِنَّ وَلِيِّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ] ( ) .
بحث بلاغي
من ضروب علم البيان وهو ختم الكلام الشعري بنكتة يتم المعنى بدونها للتأكيد والمبالغة , ويأتي الإيغال في الشعر بأن تتضمنه القافية، لجذب القافية الأسماع، وهناك فرق بين الإيغال، وفضول الكلام الذي ليس فيه كثير فائدة، وقال مسلم بن الوليد من الطويل:
إِذَا ما علت مِنَّا ذؤابةَ شاربٍ … تَمشَّتْ بهِ مشي المُقيَّدِ في الوحلِ( ).
وكان هارون الرشيد يقول: قاتله الله أما كفاه أن يجعله مقيداً حتى جعله في وحل.
وجاءت خاتمة آية البحث بقانون تقف عنده الأبصار مدهوشة والأسماع مبهورة , وهو كيف أن حال المسلمين إنتقلت ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الضد من الضلال، لتصير في رياض الهدى والرشاد .
ومن معاني خاتمة آية البحث طوي صفحة الضلالة إلى الأبد، وهو من الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدلالة على ختمها للبنوات، وعدم حاجة الناس إلى رسالة أخرى .
ثناء الله على نفسه لتفضله بالمنّ
[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ] ( ) .
معنى المنّ الطول والإحسان ، وقد نهى الله عز وجل عن منّ الناس فيما بينهم ، قال تعالى [لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى] ( ) من هنا يقال : المنّ أخو المنّ أي أن المنّ بتعداد فضلك على عمل غيرك , وتعديد الصنائع أخو القطع والإبطال والحرمان من الثواب.
والزكاة التطهر ، والنظافة والنماء والزيادة، وفي المعنى الإصطلاحي إخراج جزء من المال للفقراء وعامة المستحقين، وبه يزكي العبد ماله ونفسه بدفع حصة مقدرة من المال فرضها الله للمستحقين، ومقدار مخصوص في مال مخصوص لطائفة مخصوصة ويأتي ذكر الزكاة في القرآن متصلاً بإقامة الصلاة , وإختباراً لقوة إيمان العبد ، ويصير سبباً وموضوعاً للتكافل الإجتماعي , وإصلاحاً للأخلاق , قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إنما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق)( ).
ويتعلق النفع والصلاح والتهذيب في الأخلاق بدفع الزكاة من وجوه :
الأول : دافع الزكاة .
الثاني : الذي يقوم بتلاوة آيات الزكاة , ويتولى التبليغ بدفع الزكاة .
الثالث : الآمر بالزكاة والذي يحث عليها .
الرابع : الناهي عن حبس الزكاة .
الخامس : الواسطة الذي يقوم بنقل وايصال دفع الزكاة .
السادس : المستحق للزكاة ، والقابض لها وهم الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى[إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( )، فهم:
أولاً : الفقير الذي لا يملك قوت سنته.
ثانياً : المسكين الذي أقعدته الفاقة، وطرأت عليه الحاجة، قال تعالى[تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا]( ).
ثالثاً : الجباة والمصدقون الذين يجمعون الزكاة.
رابعا : المؤلفة قلوبهم من الرؤساء والملأحديثي العهد بدخول الإسلام الذين يخشى جانبهم فيستمالون بنصيب وجزء من الزكاة.
خامساً : عتق العبيد، وفكاك الرقاب.
سادساً : الغارمون الذين ركبتهم الديون في فعل الخير .
سابعاً : في سبيل الله، وهذا الباب واسع بما فيه تعظيم شعائر الله.
ثامناً : ابن السبيل وهو المسافر الذي إنقطعت به السبل، وإن كان غنياً في بلدته .
وإن كان الذي يقوم بتوزيع وتفريق الزكاة إلى المستحقين مالك المال الزكوي فهل يأخذ من سهم العاملين عليها ، الجواب لا ، إنما تصرف للأصناف السبعة الباقية ، وكذا لو قام بالأمر وكيله الثقة فيعطيه من ماله ، ويدل ظاهر آية الصدقات على أن العاملين عليها هم غير دافعي الزكاة ، وهو من الإعجاز في مجئ الآية بصيغة الجمع في الآية ، ومن معاني الإستعلاء المستقرأ من حرف الجر (على) في قوله تعالى [وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا] والذي يفيد نوع قيمومة وولاية على جمع الزكاة ، والوكيل للمالك وكيل خاص .
وتقدير لفظ ( والعاملين عليها )على وجوه :
الأول : والعاملين من قبل ولي الأمر والحاكم .
الثاني : بيان الشأنية للمصدق والعامل على الزكاة .
الثالث : إختصاص المصدًقين بالعمل بجمع الزكاة والتفقه في أحكامها .
نعم لو كان الوكيل الخاص محتاجاً ، وينطبق عليه أحد عناوين المستحقين للزكاة جاز له أن يأخذ منها .
وتدل لغة الجمع في الآية [وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا]وترتيب العاملين بعد الفقراء المساكين على فضل الله عز وجل في السعة والسراء للمسلمين وتحقق نصاب الزكاة في أموالهم واليوم تفرغت طائفة من المسلمين لجمع الصدقات، وتدل تسميتهم بالعاملين على إختيارهم من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والحكام، وليس لأحد أن ينصب نفسه جامعاً للزكاة لأن الآية نعتته بالعامل وكأنه أجير.
قانون التبيان الذاتي للقرآن
لقد منّ الله على الذين اتبعوا رضوان الله إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يزكيهم به) ، ومن أسماء الله عز وجل [الشَّاكِرِ]و[الشَّكُورُ]وينزل الشكر من عند الله من وجوه :
الأول : في الحياة الدنيا .
الثاني : في الآخرة .
الثالث : في الدنيا والآخرة .
ومن مصاديق [لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ) عدم إنقطاع شكر الله عز وجل لعباده في ملكه ، وكل آية من القرآن هي من شكر الله عز وجل للمؤمنين الذين اتبعوا رضوانه ليتجلى قانون تولد وتفرع النعم على شكر الله للمسلمين ، وحالما أخبرت الآية السابقة عن وجود مائز وتباين بين المؤمنين والذين كفروا جاءت آية البحث متعقبة لها لبيان قانون وهو تعدد المنّ والنعم الإلهية على الذين آمنوا وتأكيد قانون وهو أن مصاديق شكر الله وجزائه للمسلمين ليس لها حصر، وفيه ترغيب بالإيمان ، ودعوة للناس لنبذ الكفر والجحود الذي لا يأتي إلا بالبلاء والضرر الفادح في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ] ( ) وإخبارهم بالملازمة بين إتباع رضوان الله وبين المنّ الإلهي ، ومن الإعجاز تقييد الآية السابقة باتباع رضوان الله ، أي لابد مع الإيمان من إتيان الصالحات ، وإجتناب المعاصي والسيئات ، وحالما يؤمن الإنسان يأتيه المنّ الإلهي ، وهل يختص بمضامين آية البحث ، الجواب لا ، إنما هو مصداق جلي من منّ ونعم الله ، قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
وفي إخبار آية البحث بأن الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم من نفس المؤمنين , وبعثه الله من بين ظهرانيهم نقض وإبطال لأثر قول المشركين بأن يكون نبي آخر الزمان غير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في التنزيل [وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ]( ) وفيه دلالة على كثيراً من إحتجاج القرآن الذاتي لم يستقرأ بعد .
لقد إتصف القرآن ببيان أقوال وجدال المشركين، ولابد أن القرآن جاء بالرد عليهم سواء في ذات الآية التي تذكر قولهم أم في آية أخرى من ذات السورة أو في سورة أخرى, ومن الإعجاز في إحتجاج القرآن ، صيغة التعدد في المعنى وصبغة البرهان مع إتحاد الكلمة والآية.
لقد تضمن هذا السِفر أبواباً من العلم خاصة بكل آية وهي :
الأول : الإعراب واللغة : لبيان الذخائر في علم النحو في الآية القرآنية .
الثاني : في سياق الآيات : وهو بحر من العلوم ليس له حدّ أو منتهى ، وقد صدرت أجزاء من هذا التفسير بالصلة بين شطر من آية مع شطر من آية مجاورة لها( ) .
الثالث : إعجاز الآية الذاتي : لقد صدرت عدة كتب في تأريخ الإسلام تتعلق باعجاز القرآن ، وفي هذا السِفر باب في تفسير كل آية إسمه إعجاز الآية الذاتي لبيان المضامين القدسية لآيات القرآن والإعجاز في رسمها وكلماتها ومعانيها الخاصة بها .
وأختتم ها الباب بذكر اسم خاص للآية القرآنية ، وهو إقتراح منا ولا يعني الثبوت والقطع بهذا الاسم ، إنما هو نوع بيان ، ودلالة على إمكان تخصيص اسم لكل آية قرآنية ، وأنها تقبل هذا المشروع الذي يؤكد إستقلالها بالذات من غير أن يتعارض هذا الإستقلال مع صلتها وتداخلها بآيات القرآن الأخرى .
الرابع : باب إعجاز الآية الغيري : لقد كانت الأجزاء الأولى تتضمن أعجاز الآية من غير فصل بين الذاتي والغيري الذي جاء في الأجزاء الأخيرة للبيان , وتجليات الإعجاز على نحو التفصيل , وللتأسيس للعلماء في المستقبل .
ويتصف هذا الزمان بتفرع العلوم وإختصاص نفر من العلماء بكل فرع منها ، لتحاكي علوم التفسير سنخية هذا الزمان وتتجلى ذخائر من القرآن ينتفع منها في كل فروع العلم المستحدثة ، وهو من معاني المنّ الذي تذكره آية البحث بلحاظ أن الفصل النافع للناس من تفرع العلوم هو منّ وهداية من الله ، ولتكون شذرات منه من الحكم التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله المسلمين من عند الله .
الخامس : الآية سلاح : يتصف الإنسان بالضعف والفاقة والقصور عن الغايات والأماني القريبة والبعيدة ، وهو من عالم الممكن ، ويكون وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : كل ممكن محتاج .
الصغرى : الإنسان ممكن .
النتيجة : الإنسان محتاج .
وتأتي الآية القرآنية لسد حاجة الإنسان في أمور الدين والدنيا وتلك نعمة عظمى ، فلذا تضمنت آية البحث ذكر منّ الله وما تفضل به من الإحسان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً من بين المؤمنين ومن الآيات أن نسبته للمؤمنين لا تختص بأمور التبليغ بل تشمل الأعمال العبادية والمعاملات ، إذ يقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين يدي الله عز وجل خمس مرات في الصلاة هو والمؤمنون يكبر ويكبرون ويركع ويركعون ويسجد ويسجدون ، ويمتاز عليهم بالتلاوة في الصلاة وهم يسمعون ، لتكون القراءة في الصلاة من مصاديق قوله تعالى [يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ].
السادس : مفهوم الآية لبيان دلالة المعنى غير الظاهر في المنطوق ، ومن إعجاز القرآن أن معنى كل من المنطوق والمفهوم متعدد تعجز عقول الرجال عن إدراك كنهه ، لذا ففي كل زمان تستنبط مسائل وذخائر جديدة من كنوز القرآن .
وبامكان العلوم إستقراء علوم كثيرة من مفاهيم الآيات القرآنية سواء من مفهوم كل آية على نحو مستقل أو المفهوم المقتبس والمستقرأ من الجمع بين آيتين أو أكثر .
السابع : الآية لطف : من خصائص القرآن أن كل آية فيه لطف متعدد من جهات :
الأولى : نزول الآية القرآنية .
الثانية : كيفية نزول الآية .
الثالثة : قيام سيد من سادات الملائكة وهو جبرئيل بتنزيل الآية .
الرابعة : إتصاف جبرئيل بالأمانة في كيفية نقل وإيصال الآية القرآنية مما يدل على موضوعية كل حرف منها ، قال تعالى [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ] ( ) .
الخامسة : كيفية تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزول الآية القرآنية والإعجاز الحسي الذي يتجلى بحال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند نزول الآية .
السادسة : حفظ النبي على ما ينزل به جبرئيل من الآيات ، وقد تنزل دفعة واحدة سورة كاملة ، وحالما يغادر الملك يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حفظها ووعاها وعلم معناها الإجمالي .
الحرث بن هشام (سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّ عليّ فينفصم عني وقد وعيت ما قال،
وأحياناً يتمثل الملك رجلا فأعرف ما يقول ) ( ) والصلصة صوت الحديد إذا حرك .
السابعة : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ أهل البيت والصحابة آيات القرآن كما أنزلت من غير زيادة أو نقصان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
الثامنة : تيسير حفظ المسلمين لآيات القرآن عن ظهر قلب ، وتلاوتهم لها وصيرورتها مادة وموضوع المناجاة بينهم .
التاسعة : إتخاذ المسلمين الآية القرآنية حجة ودليلاً وشاهداً على صدق نزول القرآن من عند الله .
العاشرة : دخول أكثر الناس في الإسلام بسبب آيات القرآن وما فيها من الإعجاز ، فلم ينتشر الإسلام بالسيف إنما إنتشر بالمضامين القدسية للقرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
وكل آية تدعو الناس لدخول الإسلام ، ومنه آية البحث لما فيها من الترغيب بالمنّ الإلهي ، وبيان الآية لحضوره ، وتفضل الله بجعل منّه يتغشى كل إنسان لعدم وجود الحواجز بين الناس وبين دخول الإسلام والإتصاف بصيغة الإيمان التي قيدت آية البحث المنّ الإلهي بها بقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثامن : إفاضات الآية :الفيض الشئ الكثير ، وقد ورد في القرآن [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ] ( ) أي رجعتم على نحو دفعات ، وكل دفعة هي إقامته ، والفيض من معاني ورشحات الوحي ، وذكر الجرجاني نوعين من الفيض هما :
الأول : الفيض الأقدس : وهو التجلي الحسي الذاتي الموجب لوجود الأشياء وأستعداداتها في العترة العلمية .
الثاني : الفيض المقدس :(عن التجليات الأسمائية الموجبة لظهور ما يقتضيه استعدادات الأعيان في الخارج، فالفيض المقدس، مترتب على الفيض الأقدس، فبالأول تحصل الأعيان الثابتة واستعداداتها الأصلية في العلم، وبالثاني تحصل تلك الأعيان في الخارج مع لوازمها وتوابعها) ( ).
وما نذكره من الفيض أمر جلي وهو إشراقات الآية القرآنية وما تتولد وتتفرع عنها من العلوم والدرر على القلوب المنكسرة وعلى الجوارح والمجتمعات ، وفي كل آية قرآنية إفاضات يستقرأ وينهل منها العالم وغير العالم .
وقيل أن كلمة الفيض لاتينية ومعناها الصدور وهو إصطلاح فلسفي يتعلق بالصلة بين العالم الحسي والعالم المفارق .
وأن الموجودات فاضت من الأول هو الله عز وجل كما يفيض الضياء من الشمس ، وجاءت إفاضة هذه الأشياء على نحو التعدد والترتيب والدرجات لأن الواحد لا يصدر منه إلا واحد ثم يصدر عن هذا الواحد واحد آخر ، وهكذا , ويكون الصدور من الأكمل إلى الأنقص ليبقى المبدأ الأكمل على سرمديته وتمامه وكماله ، وقد يسمى الأقدم .
وقال الشاعر :
عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل إلى ذاك الجمال يشير .
وذكر أن أفلوطين (PLOTINUS) ولد في مدينة أسيوط في مصر سنة 205 وتوفى في إيطاليا سنة 270 م (205-270 م) ويسمى في الكتب العربية بـالشيخ اليوناني ، والمذهب في كتابه التاسوعات توثيق الحوارات , وشرح فلسفة إفلاطون , سمي الكتاب به لأن كل مجموعة مؤلفة من تسعة أقسام .
وسافر إلى فارس مع حملة غورديان الثالث، لكن الحملة باءت بالفشل، وصار أفلوطين وحيداً ونجى بمشقة حتى وصل إلى انطاكيه واطلع أفلوطين على الفلسفة الرواقية، والهندية وانتقل إلى روما سنة 244 في أيام حكم الإمبراطور العربي فيليب ويسمى فيليبوس وأسس مدرسة افلاطونية.
وتفضل الله عز وجل برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس، ومن أجل هدايتهم إلى سبل الإيمان .
ثم جاء هيراقليس ليقول ( كل الأشياء تفيض) وقيل نظرية الفيض قريبة من القول بوحدة الوجود ) إذ تتداخل فيها الأشياء ، ولكنها أعم .
فمع الإقرار بالخصوصية فانه يتضمن كل شئ لأن الأصغر موجود في الأكبر ، وقد قال بعض الفلاسفة العرب بما هو قريب من هذه النظرية مثل الفارابي وابن سينا في كتاب (الشفاء والنجاة والإشارات والتنبيهات ) ، ولا تخلو بعض هذه النظريات من الضلالة والغواية ، وأن كانت أسماء أصحابها نالت شهرة واسعة ، وتبين في الجملة حاجة الناس وإلى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى القرآن , والصدور عنه .
لقد جاءت آية البحث رداً على هذه النظريات ، وفيها إخبار عن عظيم قدرة الله عز وجل ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) ليكون منه صدور المليارات المتكثرة من الأوامر من الله عز وجل في طرفة عين ، وليس من حصر للجهات التي تبلغها هذه الأوامر في نفس اللحظة ، وتدل عليه آية البحث إذ تأتي في ذات الوقت أمور :
الأول : المنّ والطول من الله .
الثاني : تعدد ضروب ووجوه المنّ الإلهي على كل إنسان بحسبه ودعائه ومنزلته ، وهو من مصاديق الآية السابقة [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ].
الثالث : الفيض المتصل والدائم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً , ومن الآيات عدم إنحصار صدور الفيض برسالة النبي بما يترشح عنها ، بل يأتي الفيض من عند الله مصاحباً لهذه الرسالة وللمؤمنين في حياتهم اليومية وأمورهم العبادية ، وهو من مصاديق [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] فالواحد سبحانه تصدر عنه النعم اللامتناهية دفعة ، ترى ما هي النسبة بين المنّ والفيض من الله.
الثامن : الآية بشارة : لقد ذكر الله عز وجل الأنبياء في القرآن بصبغة الإكرام والثناء عليهم ، وهذا الثناء من الشواهد على قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) .
ويحتمل نيل الأنبياء صفة المبشرين جهات :
الأولى : صفة النبوة ، وملازمة البشارة لها .
الثانية : كل آية حسية يأتي بها النبي هي بشارة من عند الله .
الثالثة : دعوة النبي إلى الله بشارة ومودة وأمل .
الرابعة : قيام الأنبياء بالبشارة بالجنة واللبث الدائم في النعيم للمؤمنين الذين يعملون الصالحات .
إن بشارة الأنبياء من المنّ الذي تذكره آية البحث فان قلت أختتمت مضامين آية البحث ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب هذا صحيح ، وقد جاءت آيات القرآن ببشارات الأنبياء ، وهو من الإعجاز العقلي والحسي لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ليكون من وجوه تقدير آية البحث :
لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً ببشارات الأنبياء .
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين كثرة البشارات التي جاء بها ، إذ أنها من اللامتناهي ، فكل آية من القرآن بشارة متعددة ومتجددة إلى يوم القيامة ، وهل تلاوة المسلم للآية القرآنية بشارة , الجواب نعم لأنها إنذار له ولغيره ممن يسمعها ، وقد ينتفع من هذه التلاوة من لم يسمعها ، وهو من الآيات في تشريع الإخفات في قراءة الآيات في شطر من الصلوات اليومية الواجبة .
لقد خصصتُ باباً في تفسير كل آية من القرآن اسمه (الآية بشارة) للسياحة في رياض الغبطة والسعادة المستقرأة من ذات الآية القرآنية ، فمثلاً إبتدأت آية البحث بقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] لتكون البشارة متعددة من جهة المنّ والطول من الله عز وجل ونزوله من الله عز وجل ، وهو أعظم المنّ وشهادة آية البحث للمسلمين بأنهم مؤمنون ، ليكون من مصاديق الإيمان إقرارهم بأن كل آية من القرآن منّ وبشارة من الله عز وجل ، وفيه دعوة للمسلمين لتحري وجود البشارة في منطوق ومفهوم كل آية من القرآن .
قانون الحفظ
تدل آية البحث على حفظ الله للمؤمنين وبسلامة في دينهم , ويحتمل هذا الحفظ بلحاظ قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) وجوهاً :
الأول : حفظ المؤمنين من مصاديق الحفظ الذي تذكره الآية أعلاه .
الثاني : يحفظ الله المؤمنين ليحفظوا الذكر ويقرأوا آيات القرآن في الصلاة وخارجها ويعلموا بأحكامه وسننه .
الثالث : حفظ المؤمنين نعمة من عند الله غير نعمة حفظ الذكر .
الرابع : يحفظ الله عز وجل الذكر وآيات القرآن لتكون وسيلة ومقدمة لحفظ المؤمنين .
وباستثناء الوجه الأول أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق الحفظ والمنّ من الله عز وجل .
وهل يصح تقدير آية البحث : ولقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً ليحفظهم ، الجواب نعم إذ شاء الله عز وجل أن تكون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس بنشأة أمة تؤمن بالله إلهاً واحداً , ويؤدي أفرادها مجتمعين ومتفرقين الفرائض العبادية بالكيفية والوقت الذي أمر به الله عز وجل .
ومن الآيات في المقام أن أداء المسلمين للصلاة متعلق بالآيات الكونية اليومية , قال تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( ) كما في صلاة الفجر عند بزوغ خيوطه الأولى، وصلاة الظهر عند بدأ زوال الشمس عن وسط وكبد السماء ، وصلاة المغرب عند سقوط القرص ، لبيان قانون وهو لا تمر ساعة على أهل الأرض إلا وهناك طائفة من المسلمين يقيمون صلاة الجماعة والمفرد في بقعة من بقاع الأرض ، لتكون علة لإستدامة الحياة والخلق .
ومن إعجاز نظم القرآن في باب الحفظ وتعاهد العبادات ورود قوله تعالى [هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ] ( ) ثلاث مرات في القرآن( ).
وهل من دور بين قولنا حفظ الله المسلمين ليحفظوا الصلاة , وحفظوا الصلاة فحفظهم الله ، الجواب لا ، إذ تتقوم الحياة الدنيا بقانون الحفظ الذي لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ، فهو الذي ينعم على المسلمين بحفظهم ، وهدايتهم لحفظ الصلاة وسائر الفرائض ، وحتى الأذى الذي يأتي للمسلمين فانه بأذن الله ولا يكون إلا وسيلة لحفظهم العبادات ، وفي معركة أحد ورد في الآية بعد التالية [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) لتكون خاتمة الآية أعلاه تأكيداً على أداء الفرائض ، وبيان قانون وهو أن إصابة المسلمين بالبلاء ونزول المصيبة بهم يجب ألا يكون برزخاً دون حفظهم وضبطهم للفرائض وحرصهم على أدائها في أوقاتها .
ويقال : ضبطه ضبطاً وضباطة أي حفظه بالحَزم وفي المثل (أضْبَطُ من عائشةَ بنِ عُتْمٍ ” وذلك أنه سَقَى إبِلَه يوماً، وقد أنزلَ أخاهُ في الرَّكِيَّةِ للمَيْحِ، فازْدَحَمَتِ الإِبِلُ، فَهَوَتْ بَكْرَةٌ منها في البِئْرِ، فأخَذَ بذَنَبِها. وصاحَ به أخُوهُ يا أخي المَوتَ .
قال ذلك إلى ذَنَبِ البَكْرَةِ، يُرِيدُ أنه إن انْقَطَعَ ذَنَبُها وقَعَتْ، ثم اجْتَذَبَها، فأخرجَها. وضُبِطَتِ الأرض، بالضم مُطِرَتْ. والأضْبَطُ الأسَدُ، كالضابِطِ)( ).
لقد جعل الله عز وجل على الناس ملائكة حفظه , وهذا الحفظ عام وخاص ، ومن الثاني قوله تعالى [إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ]( ).
وزاد الله على المؤمنين بحفظهم برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول آيات القرآن التي تصاحبهم وتدفع عنهم الضرر في الدنيا والآخرة ومنها ما تصاحب المسلم في قبره .
(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن رجلاً ممن كان قبلكم مات , وليس معه شيء من كتاب الله إلا تبارك الذي بيده الملك ، فلما وضع في حفرته أتاه الملك فثارت السورة في وجهه فقال لها : إنك من كتاب الله ، وأنا أكره شقاقك ، وإني لا أملك لك ولا له ولا لنفسي ضراً ولا نفعاً ، فإن أردت هذا به فانطلقي إلى الربّ فاشفعي له ، فانطلقت إلى الرب ، فتقول : يا رب إن فلاناً عمد إليّ من بين كتابك فتعلمني وتلاني ، أفمحرقه أنت بالنار ومعذبه وأنا في جوفه؟ فإن كنت فاعلاً به فامحني من كتابك فيقول : ألا أراك غضبت فتقول : وحق لي أن أغضب ، فيقول : اذهبي فقد وهبته لك ، وشفعتك فيه .
فتجيء سورة الملك فيخرج كاسف البال لم يحل منه شيء فتجيء فتضع فاها على فيه ، فتقول : مرحبا بهذا الفم فربما تلاني ، وتقول : مرحباً بهذا الصدر فربما وعاني ، ومرحباً بهاتين القدمين فربما قامتا بي ، وتؤنسه في قبره مخافة الوحشة عليه .
فلما حدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحديث لم يبق صغير ولا كبير ولا حر ولا عبد إلا تعلمها ، وسماها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنجية .) ( ).
ومن الإعجاز في آية البحث أن كل فرد من مضامينها علة مباركة لحفظ المسلمين مجتمعين ومتفرقين من جهات :
الأولى : إبتداء الآية بمنّ الله عز وجل على المسلمين ، وهذا المنّ أبهى وأعظم مصاديق الحفظ .
الثانية : حفظ المؤمنين بتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات الله عليهم ، لأنها واقية من الهلكات , وحرز من الآفات , ووسيلة مباركة لجلب الرزق ونزول البركة , ويشمل حفظ المؤمنين في تلاوة آيات القرآن الأبدان والأرزاق، وهو مناسبة كريمة للإنجاب وتوارث الإيمان والزهد والتقوى ، وهو من مصاديق البركة في قوله تعالى[وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا]( ).
الثالثة : بتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن حفظ للآيات ومضامينها القدسية لينهل منها الناس إلى يوم القيامة ، فان قلت من الناس من يحارب القرآن أو يعرض عنه ، ويتجلى الجواب بمجئ آية البحث بذكر المنّ بالرسالة على خصوص المؤمنين ، ولبيان أنهم أمة تتلقى نزول وتلاوة القرآن في كل زمان بالتلاوة والعمل ، ليكون من مصاديق آية البحث وجوه :
الأول : يتلو عليهم آياته ليتلوها .
الثاني : يتلو عليهم آياته ليتدبروا فيها ، و(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ
وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ) ( ).
الثالث : يتلو عليه آياته ليعملوا بأحكامها .
الرابع : يتلو عليه آياته ليحفظوها عن ظهر قلب ، ويمنعوا يد التحريف من الوصول إليها .
الخامس : يتلو عليه آياته ليحفظهم بها , ويكون من معاني ووجوه الرحمة في قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ) حفظ المسلمين والمسلمات في أنفسهم وأخوتهم وصيغة الود فيما بينهم.
هل يدل الأمر بالشئ على النهي عن غيره
تستحضر مسائل علم الأصول في المطالب التي قد يتوقف عليها مثل ثبوت الحقيقة الشرعية أو نفيها ، وكون الأمر للوجوب أو المعنى العام الشامل له ، وللإستحباب ، وهل خبر الواحد حجة أو لا ، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين ، والعام والخاص والقياس ، ومنه هل الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، ولا يراد من مسألة الأمر بالشئ نهي عن ضده بصيغة للنهي ، إنما ذات الأمر بالشئ نفسه يفيد المنع عن نقيضه على نحو الإلتزام .
وذكر بأن القول بأن الأمر بالشئ نهي عن ضده يمنع من المنهي عنه وإتخاذ ما يوجب التكرار في المأمور به ولكن قد يكون هذا النهي متفرع عن ذات الأمر، كما في الأمر بالحركة فانه يلزم المنع من السكون .
وفي هذه المسألة وجوه ثلاثة :
الوجه الأول : الأمر بالشئ يفيد بذاته النهي عن ضده , وبه قال المتكلمون ، فقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( ) يدل على أمور :
الأول : النهي عن الأكل والشرب والجماع ساعات الصيام.
الثاني : تلقي المؤمنين من الأمم السابقة ذات النهي بعين الأمر بالإمساك .
الثالث : أداء المسلمين والمسلمات الصيام بقصد القربة إلى الله , ونبذ الرياء .
قال تعالى[لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ]( ) أي يجرون ، ويدل على إنعدام السكون مع الحركة ، والسكون عين ترك الحركة ، فاذا أمر الأب ابنه بالسكون فانه يدل على منعه من الحركة.
وأشترط فيه تعيين المأمور به وتضييق وقته ، وليس الأمر التخييري، ومتعلق الأمر طلب أمر وجودي ، أما مقتضى النهي فهو استدعاء ترك .
وذكر أن القول بأن الأمر بالشئ نهي عن ضده إنما هو متفرع عن مسألة الأمر النفسي ، وهو القائم بالذات الخالي من الصيغة ، ومعرفة ما يدور في نفس الإنسان , وهو أمر مختص بالله عز وجل وورد حكاية عن عيسى عليه السلام في التنزيل[تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ]( )، ولا يعلم الناس بما في نفس أحدهم إلا إذا نطق بكلمات، وقال الشاعر :
أن الكلام لفي الفؤاد وأنما
جعل اللسان على الفؤاد دليلاً( ).
والكلام النفسي هو القائم بالنفس ، الذي يأتي الكلام اللفظي للتعبير عنه .
وقال الأشاعرة بالكلام النفسي , وأن الكلام صفة أزلية لله قائمة بذاته المقدسة ، ليست هي صوت أو حرف ، ومنزهة عن الإعراب والبناء والسكون، ومعنى أزلية أي ليس لها بداية أو نهاية.
وقال الحنابلة بما قال به الأشاعرة مع التشديد أو الزيادة، فقالوا بأن كلام الله حرف وصوت يتقوم بذاته، وأنه قديم، حتى قال بعضهم: ان الجلد والغلاف للقرآن قديمان، وهذا القول فرد نادر ولا يمثل رأي الحنابلة .
وقال ابو الفتح تاج الدين عبد الكريم بن أبي بكر أحمد المشهور بالشهرستاني نسبة الى شهرستان بلدة في خراسان توفى سنة 548 هجرية : قالوا : وأجمعت السلف على أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال هو مخلوق فهو كافر بالله ولا نعرف من القرآن إلا ما هو بين أظهرنا فنبصره ونسمعه ونقرؤه ونكتبه والمخالفون في ذلك : أما المعتزلة فوافقونا على أن هذا الذي في أيدينا كلام الله وخالفونا في القدم وهم محجوجون بإجماع الأمة.
وأما الأشعرية فوافقونا على أن القرآن قديم وخالفونا في أن الذي في أيدينا كلام الله وهم محجوجون أيضاً بإجماع الأمة : أن المشار عليه هو كلام الله( ).
ومما أبتليت به [خَيْرَ أُمَّةٍ]( )، نعت بعضهم غيره بالكفر لأنه لا يوافقه في مسألة كلامية فرعية لم يرد فيها قرآن أو سنة على نحو النص , وهو يتفق معه بأن القرآن كلام الله، ويقف بين يدي الله معه خمس مرات في اليوم، ولكن لأنه يقول بأن كلام الله مخلوق فينعت بالكفر، أو بالعكس يقول بانه غير مخلوق فيرميه الآخر بالكفر، وإن إكتفى بالقول بانه كلام الله كما وصفه الله ورسوله نعتوه بالكفر أيضاً، قال تعالى[وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ]( ).
واستدلوا على قدم القرآن بقوله تعالى [وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ] ( ).
وقال المعتزلة بأن الله عز وجل يخلق الكلام في غيره ، والله عز وجل متكلم ولكن ليس بصوت ولا حرف لأن الله عز وجل منزه عن الكلام بمثل ما يتكلم به البشر .
إنما يبعث الله الرسول بلسان قومه ، كما في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ] ( ).
وأستدل على الكلام النفسي بآيات قرآنية أكثرها لا تتعلق بالموضوع منها قوله تعالى [قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ]( ) والذي في الصدور هو الكلام النفسي ، وهو حديث داخلي سواء كان خيراً أو شراً .
ولكن المتبادر من لفظ الكلام أنه نطق وصوت يصدر من اللسان ، وما في النفس لا يصل إلى مرتبة الكلام لذا فان الآية أعلاه تبين عظيم قدرة الله وسلطانه ، وأنه يطلع على النفوس ويعلم خلجاتها .
وقال تعالى [قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ] ( ) ولكن الآية قد تدل على خلاف الكلام النفسي، وليس إتيانه ويكون تقدير الآية هو أن تبدوا ما في صدوركم بالكلام والنطق أو تخفوه في صدوركم فلا يكون كلاماً فان الله عز وجل يعلمه بكل الأحوال ، فاذا كان الناس يتفاهمون فيما بينهم بالنطق والكلام فان الله عز وجل يعلم نواياهم حتى وإن لم يتكلموا .
وأستدل بقوله تعالى [وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ] ( ) ولكن المراد هو الذات المقدسة أو التحذير من عقوبة الله وبطشه وعذابه ، والنفس والذات مترادفان وكذا عين الشئ، ولا ينحصر الأمر في الآية أعلاه بأن النفس مفعول به .
(عن أُبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يعرفني الله نفسه يوم القيامة فأسجد سجدة يرضى بها عني، ثم أمدحه مدحة يرضى بها عني.
ثم يؤذن لي في الكلام ثم تمر أمتي على الصراط مضروب بين ظهراني جهنم ، فيمرون أسرع من الطرف والسهم ، وأسرع من أجود الخيل ، حتى يخرج الرجل منها يحبو وهي الأعمال ، وجهنم تسأل المزيد…الحديث) ( ).
فالتعريف بالنفس غير النفس ، وقد يكون التعريف من جنس الكلام (وقال الأعشى :
يوماً بأجود نائلاً منه إذا نفس البخيل تجهمت سؤالها
أراد إذا البخيل تجهم سؤاله) ( ).
وأستدل على الكلام النفسي أيضاً بما ورد حكاية عن عيسى عليه السلام , في التنزيل[تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ]( )، ولا يعني هذا وجود ملازمة بين النفس والكلام وان كل ما في النفس هو كلام .
وأستدل بقوله تعالى [وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ] ( ) وقيل أن ما في النفس هو الكلام النفسي والحديث الداخلي .
وبقوله تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ]( ) وأن عقد الإيمان هذه عقد القلب والنية بالذات، وكذا المعنى هو التمييز بين كلامين أحدهما لغو والآخر عن عزم وقصد ، فخفّف الله عن المسلمين ولم يؤاخذهم إلا باليمين الذين إقترن بالقصد والنية .
وتبين الآية أعلاه أقسام الكلام ، وكيف أن الله عز وجل لا يؤاخذ المسلم باللغو في الإيمان مما يدل بالأولوية القطعية أنه لا يؤاخذه على النية.
و(عن ابن عباس قال : إن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم عثمان بن مظعون حرموا اللحم والنساء على أنفسهم ، وأخذوا الشفار ليقطعوا مذاكيرهم لكي تنقطع الشهوة عنهم ويتفرغوا لعبادة ربهم ، فأُخبر بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقال : ما أردتم؟ قالوا : أَردنا أن نقطع الشهوة عنا ، ونتفرغ لعبادة ربنا ، ونلهو عن الناس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم أؤمر بذلك ، ولكني أُمِرْتُ في ديني أن أتزوج النساء ، فقالوا : نطيع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأنزل الله[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ]( )، إلى قوله[وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ] ( ).
فقالوا : يا رسول الله ، فكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان}( )( ).
ولما نعتت آية البحث المسلمين بالمؤمنين , فبينت الآية أمرين:
الأول : خصلة من خصال الإيمان وهو التقيد باليمين وعدم نكثه.
الثاني : عفو وعدم مؤاخذة الله على اللغو في اليمين، والذي ليس له راجح شرعي أو عقلي، وهذا البيان من مصاديق تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب على المسلمين، وحاجتهم لهذه التلاوة .
والتباين بين اليمين ذات القصد والتعيين وبين اللغو فيها من معاني الحكمة والشواهد عليها، فمن إعجاز القرآن أن يأتي الأمر أو الحكم أو النهي المتحد ليكون من التزكية ومن الكتاب والحكمة، خاتمة الآية , فلم يكن العرب يعتنون باليمين، فجاءت آية البحث لتنجيهم من هذا الضلال، وتكون اليمين الشرعية بالله عز وجل نوع عهد ووعد وأمن.
وقال تعالى [وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ] ( ) والوحي هنا نوع إلهام من غير حرف أو صوت ، ولكنه ملحق بالكلام أو لا أقل أنه ليس من الكلام النفسي ، ولا تستطيع الخلائق معرفة كنه المشيئة الإلهية ، كما ورد عن عيسى عليه السلام [تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ] ( ).
وأستدل بما ورد بخصوص زكريا في التنزيل [قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا] ( ) أي أشار إليهم من غير صوت أو حرف، وحرّك شفتيه من غير نطق أو كلام، وقيل الرمز : الإيماء بالشفتين، ولكنه مظهر خارجي للقصد والنية وعدم بقائها في النفس.
ولكن الإشارة غير الكلام النفسي ، وهل يمكن جعل الإشارة ووحي زكريا لقومه برزخاً بين الكلام والنية في النفس ، الجواب لا، أنما تلحق هذه الإشارة بالكلام لأنها مبرز خارجي .
وأستدل بخصوص قصة مريم وولادة عيسى عليه السلام بمعجزة من عند الله ، قال تعالى [فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا] ( ) .
ولكن الآية صريحة بامتناع مريم عن الكلام وإختيارها الفعل والعمل الذي يبرز المعجزة بأن يقوم عيسى بنفسه بالكلام والذب عن أمه ونفسه من حين ولادته.
وأستدل على الكلام النفسي بأحاديث متعددة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها حديث أبي هريرة يرفعه (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله عز وجل تجاوز لأمتي ما وسوست به وحدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به)( ).
وصحيح أن الحديث يتضمن حديث النفس ، ولكنه لا يدل على الكلام لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الحديث (ما لم تعمل أو تتكلم به) كما أنه وارد بخصوص الناس وأحوالهم.
وربما يدل هذا الحديث على نفي الكلام النفسي لأنه ينفي عن حديث النفس صفة الكلام .
وأحتج بقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (إنما الأعمال بالنيات) ( ).
وأستدل بإشارة الأخرس في العقود ، ولكنها غير الكلام النفسي وذكر أن البخاري أورد أحاديث كثيرة تدل على جعل الإشارة كالنطق ، وفي باب الإشارة في الطلاق وغيره، وذكر أربعة عشر حديثاً، للدلالة على عدم إعتبار الكلام النفسي ، وأن الإشارة تكفي عند الحاجة لها والعجز عن النطق .
وذكر أن القول بالأمر بالشئ نهي عن ضده قائم على قول المتكلمين باثبات الكلام النفسي .
الوجه الثاني : قال المعتزلة الأمر بالشئ ليس هو النهي عن ضده ولا يتضمنه ولا يستلزمه، وبه قال الأنباري من المالكية وإمام الحرمين والغزالي من الشافعية , وإستدلوا بأنه يجوز أن يكون الأمر في وقت الآمر غافلاً وذاهلاً عن ضده مما يدل على عدم النهي عنه .
الوجه الثالث : وهو الأرجح : أن الأمر بالشئ ليس هو النهي عن ضده لكنه يستلزمه لإستحالة الجمع بين الضدين فالأمر بالصيام ليس هو عين الإمساك ولكن يستلزمه، والقائل بأن الأمر نهي عن ضده اشترط التعيين في النهي وليس التخيير ، فلا يكون نهياً عن الأكل والشرب مع إمكان العتق أو الصدقة في كفارة اليمين .
قال تعالى [لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ]( ).
ومن المسائل التي تبنى على هذا الأمر قول الرجل لامرأته: إن خالفت أمره فانت طالق ، فاذا قال لها قومي، فقعدت تكون طالقاً، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وهو ليس بصحيح لأن النهي عن العقود ورد بذات صيغة الأمر والإيقاع البين الذي يدل على الطلاق .
وعلى القول بأن الأمر لا يستلزم النهي عن ضده فلا يكون قعودها سبباً ومادة لطلاقها .
ولكن لابد من الإحتراز بالطلاق وأنه يجري بصيغة مخصوصة .
ومن التخفيف عن المسلمين في المقام وجود المحاكم الوضعية والقضاء الحكوميين لتثبيت الطلاق .
والأمر : هو طلب الفعل وإتيانه .
النهي : وهو طلب ترك الفعل .
وكل من الأمر والنهي أعم من أن يختص بالقول .
وأختلف في الأمر وهل يدل على النهي عن ضده أو لا يدل على هذا النهي , والإختلاف منحصر بالمعنى المترشح عن اللفظ وليس ذات اللفظ ، فاذا قال ، : أقعد فانه غير قوله لا تقم أو لا تمش للإختلاف والتباين في الهيئة والصورة ، وكما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا] ( ) فالأمر بالثبات يدل على النهي عن الفرار , ولكن هذا النهي يستفاد من دليل آخر ، إذ ورد بذات صيغة نداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ]( ) .
وأختلف فيه على أقوال :
الأول : يدل الأمر بالشئ على النهي عن غيره.
الثاني : يدل الأمر بالشئ على النهي عن غيره عن طريق الوضع.
الثالث : يدل الأمر بالشئ على النهي عن غيره عن طريق العقل.
الرابع : لا يدل الأمر بالشئ على النهي عن غيره لا عن طريق الوضع ولا العقل ، لأن المأمور قد يكون غافلاً عن الضد ولزوم تركه أثناء الأمر بالشئ .
وفروع هذه القاعدة كثيرة منها :
وجوب الزواج لمن لا تنصرف شهوته إلا بالنكاح والعفة ، لأن النهي عن الشئ أمر بوجوب ضده فلما نهى الله عز وجل عن الزنا فانه يجب الزواج ، ولكن أحكام الزواج أمر مستقل والأصل فيه أنه مستحب مؤكد وقد يأتيه أحد الأحكام التكليفية الأربعة الأخرى بالعرض والعنوان الثانوي .
ونتيجة المسألة هي النهي عن الضد بناء على الإقتضاء بضميمة أي أن النهي في العبادات يقتضي الفساد , ومنهم من أنكر الثمرة في هذا المبحث ، بدعوى أنه لا يحتاج في إستنتاج الفساد إلى النهي عن الضد ، بل يكفي عدم الأمر به لاحتياج العبادة إلى الأمر .
ولكن يرد عليه بأن ثمرة هذا البحث أعم من أن تختص بالعبادات .
ومن جهة دلالة الأمر على الحكم التكليفي من جهتين :
الأولى : المادة : وهي لفظ (الأمر) ومشتقاته .
الثانية : الصيغة مثل (افعل) وقد تأتي بصيغة المصدر النائب عن الفعل .
ولام الأمر مع الفعل المضارع كما في قوله تعالى [لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ] ( )وإعرابه :
اللام : لام الأمر .
ينفق : فعل مضارع مجزوم بلام الأمر , وعلامة جزمه السكون . ذو : فاعل مرفوع وعلامة رفعه الواو لأنه من الأسماء الخمسة .
والجملة الخبرية بمعنى الطلب كما في قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ).
وتسمى هذه القاعدة : قاعدة إقتضاء الأمر بالشئ النهي عن ضده .
وهناك قاعدة إقتضاء وجوب الشئ لحرمه ضده .
قاعدة الضد .
قاعدة الأمر بالشئ لا يقتضي النهي عن ضده .
والضد عند الأصوليين يشمل التحقيق في المنطق والفلسفة .
والضد على قسمين :
الأول : الضد العام : وهو الذي يكون التقابل بينه وبين الأمر تقابل الإيجاب والسلب .كما لو قال الأب لابنه صلِ ، ولكنه ترك الإمتثال ولم يصل .
الثاني : الضد الخاص : وهو الأمر الوجودي الذي لا يجتمع مع الأمر بالشئ ، ويكون التقابل بينهما تقابل التضاد ، كما لو قال له أبوه صلِ ، ولكنه كان يأكل ويلعب ، فالأكل واللعب ضد خاص للأمر بالصلاة .
وقد يتجلى معنى الضدين في مصداق واحد ، كما في الأمر بالصيام في قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) فان ترك الصيام أمر وجودي سواء بالأكل والشرب أو بعدم النية ، ويسمى في علم الأصول : الضدان اللذان لا ثالث لهما مثل الحركة والسكون ، بخلاف القيام والقعود, والمشي والهرولة , وبخلاف الألوان مثلاً , فالتضاد بين الأبيض والأسود هناك ضد ثالث لهما مثل الأسود والأخضر والأزرق .
واختلف الأصوليون بأن الأمر بالشئ هل يقتضي النهي عن ضده، وحرمة هذا الضد أم لا على أقوال :
الأول : الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، وقال به جمع من الفقهاء فافتوا بحرمة أشياء لأنها ضد للأمر والشئ المأمور به .
الثاني : لا يقتضي الأمر بالشيء النهي عن ضده، سواء الضد العام أو الخاص .
الثالث : التفصيل بين الضد العام والضد الخاص ، لأن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضد العام , مثل ترك الإمتثال لأمر أداء الصلاة بدون أي فعل خارجي وشاغل .
أما الضد الخاص، فغير منهي عنه، فالأمر بالصلاة لا يقتضي النهي عن القراءة والكتابة مثلاً وقتها .
الرابع : تضاد الأمر بالشيء بخصوص الضد العام والضدين الخاصين الذين لا ثالث لهما.
وأطلق عليه في المقام إصطلاح الضد المتحد في مقابل المتعدد من الضد.
ولكن الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن الضد الخاص المتعدد، وقال بعضهم أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضد العام في مرحلة الثبوت والواقع , وليس مرحلة الإثبات والدلالة .
ومعنى الأمر : هو الطلب ويجمع على أوامر , والشئ ويجمع على أمور , قال تعالى [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ] ( )
النهي : طلب ترك الفعل , نعم قد يفيد ذات الأمر النهي , ولكن ليس قانوناً كلياً .
والإختلاف منحصر بالمعنى مثل (قم) أي لا تقعد ، وإلا فان قم هو غير لا تقعد لفظاً , وفي قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا] ( ) الأمر بالثبات ويدل في مفهومه على النهي عن الفرار , وهو يستقرأ من آية أخرى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ]( ) . وأختلف في إستقراء النهي من الأمر ودلالته عليه من جهات :
الأول :دلالة الأمر بالشئ النهي عن ضده من طريق الوضع .
الثاني : دلالة الأمر بالشئ على النهي عن ضده , من طريق العقل .
الثالث : لا يدل الأمر بالشئ على النهي عن ضده لا من جهة الوضع ولا العقل ، لأن المأمور قد يكون غافلاً عن الضد ولزوم تركه أثناء الأمر بالشئ .
قال الإمام علي عليه السلام (المرء مخبوء تحت لسانه) ( )، لأن اللسان وسيلة الكشف على هذه الحسنات ومبرز خارجي .
وجاء الأمر والنهي متقدمين على الصلاة بقوله تعالى [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ] ( ).
ولا يعني تقدمهما , ولكنه نوع طريق للصلاة والزكاة .
قانون المنّ الإلهي
من مصاديق قوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ..] ( ) قانون المنّ الإلهي المتصل والمتجدد ولو أرادت الخلائق إحصاء المن الذي تفضل به الله لعجزت عنه حتى لو إجتمعت وإختارت التقسيم للإعانة على الإحصاء بلحاظ أمور :
الأول : منّ الله عز وجل على أهل السماء ، قال تعالى [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ] ( ) .
الثاني : منّ الله على أهل الأرض .
الثالث : منّ الله في البحار ومياهها وأسرارها وأعمارها .
الرابع : منّ الله في تجلي خزائن الأرض ، وهل يدل قول يوسف عليه السلام لملك مصر [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ..] ( ) على علمه بذخائر وكنوز أرض مصر ، بلحاظ أنه نبي من عند الله وأن هذه الخزائن من علوم الغيب وقد يطلع الله عز وجل نبيه عليها ، إنما أراد يوسف التولية وخزن الطعام وتنظيم كيفية بيعه وتوزيعه .
وتتضمن الآية أعلاه البشارة للمسلمين بهذه الذخائر , وهو من منّ الله الذي تذكره آية البحث.
(عن خيثمة قال : قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إن شئت أعطيناك مفاتح الأرض وخزائنها لا ينقصك ذلك عندنا شيئا في الآخرة وإن شئت جمعتها لك في الآخرة قال لا بل اجمعها لي في الآخرة فنزلت تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا ) ( ).
(عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر، فقال إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها) ( ).
ومن مصاديق قانون منّ وإحسان الله أن هذه الخزائن في إزدياد مطرد وهو الذي يتجلى في عجز الحكومات والشركات عن إحصاء المعادن والمواد الأولية التي في الأرض من الذهب والنفط والغاز والمعادن الأخرى ، فبين سنة وأخرى تبدل أرقام الأحصاء نحو الكثرة والزيادة أو المضاعفة فيها .
الخامس : منّ الله عز وجل على الملائكة ، وهل تفضل الله عز وجل باخبار الملائكة عن جعل آدم خليفة في الأرض كما ورد في التنزيل [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) من المنّ والإحسان عليهم .
الجواب نعم من جهات :
الأولى : ذات الإخبار إكرام من الله للملائكة، وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال : لما خلق الله الملائكة قال { إني خالق بشراً من طين }( )، فإذا أنا خلقته فاسجدوا له فقالوا : لا نفعل . فارسل عليهم ناراً فأحرقتهم . وخلق ملائكة أخرى فقال { إني خالق بشراً من طين}( ) فإذا أنا خلقته فاسجدوا له .
فأبوا فأرسل عليهم ناراً فأحرقتهم ، ثم خلق ملائكة أخرى فقال { إني خالق بشراً من طين }( ) فإذا أنا خلقته فاسجدوا له . فقالوا : سمعنا وأطعنا إلا إبليس كان من الكافرين الأولين .
وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عامر المكي قال : خلق الله الملائكة من نور ، وخلق الجان من نار ، وخلق البهائم من ماء ، وخلق آدم من طين، فجعل الطاعة في الملائكة ، وجعل المعصية في الجن والإِنس ( ).
الثانية : تأكيد قانون وهو أن خلق الملائكة قبل خلق الناس، وهو ليس برزخاً دون خلق غيرهم في أي زمان، وهو من مصاديق قوله تعالى بعد آيتين[إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
الثالثة : سكن الملائكة في السماء، وهو لا يتعارض مع نزولهم حيث يشاء الله عز وجل، كما في نزولهم لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معارك الإسلام الأولى، ونزولهم على الأنبياء للوحي والنصرة والمدد، وقد ينزلون في القضايا الشخصية لهم باذن الله، وقال وهب: خرج موسى عليه السلام لبعض حاجته فمرّ برهط من الملائكة يحفرون قبراً فعرفهم فأقبل إليهم حتى وقف عليهم فإذا هم يحفرون قبراً لم ير شبيهاً قط أحسن منه ولم ير مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة،
فقال لهم : يا ملائكة اللّه لمن تحفرون هذا القبر ؟
قالوا : نحفره واللّه لعبد كريم على ربّه،
قال : إنّ لهذا العبد من اللّه لمنزلة فإني ما رأيت كاليوم مضجعاً،
فقالت الملائكة : يا صفي اللّه أتحب أن يكون لك؟
قال : وددت،
قالوا : فانزل فاضطجع فيه وتوجّه إلى ربك ثم تنفس أسهل تنفس تنفّسته قط،
فنزل فاضطجع فيه وتوجّه إلى ربه ثم تنفس فقبض اللّه روحه ثم سوّت عليه الملائكة.
وقيل : إن ملك الموت أتاه فقال له : يا موسى أشربت الخمر؟
قال : لا، فاستكرهه فقبض روحه. وقيل : بل أتاه بتفاحة من الجنّة فشمها فقبض روحه ( ).
الرابعة : يتضمن إخبار الله للملائكة عن خلق آدم إحاطة الملائكة علماً بهذا الخلق .
الخامسة : إذعان وخضوع وخشوع الملائكة لله عز وجل، لأن خلق آدم آية عظمى لا يقدر عليها وعلى إستدامة حياة الناس إلا الله عز وجل .
السادسة : تهيئة الملائكة لإعانة الإنسان في عبادته لله وكل من هذه التهيئة والإعانة من مصاديق علم الله في قوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) وهل كان الملائكة يعلمون يوم خلق الله آدم أنهم سينزلون لنصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بقوله تعالى [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) الأقرب لا ، فقد احتجوا على خلق آدم ولم يعلموا الأسماء إلى أن أطلعهم آدم عليها ، وهل معركة بدر من هذه الأسماء التي علّمها آدم للملائكة .
الجواب نعم ، فمن معاني ودلالات تعليم الأسماء إقامة الحجة على الملائكة بأهلية آدم والصالحين من ذريته للخلافة في الأرض .
السادس : منّ الله عز وجل على الناس في يوم واحد من أيام الدنيا من جهة الخلق والرزق وإستدامة الحياة والأمن والصلات والتقريب إلى عبادة الله والتوارث والتعاون والرحمة بين الناس وصرف الأدران ودفع البلاء .
(عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قال : لن تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على ما تحابوا عليه قالوا : بلى يا رسول الله قال : أفشوا السلام بينكم تحابوا والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تراحموا .
قالوا : يا رسول الله كلنا رحيم قال : إنه ليس برحمة أحدكم و لكن رحمة العامة رحمة العامة) ( ) .
أي نشر شآبيب الرحمة والعفو والسماحة في المعاملات مطلقاً مع الناس كافة ، لتكون سيرة المسلمين وحسن سمتهم واخلاقهم من مصاديق ورشحات [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وهل الشهيق والزفير من نعم ومنّ الله عز وجل على الإنسان ، الجواب نعم ، وإذا كانت الخلائق تعجز عن إحصاء نعم الله على الناس في الساعة واليوم الواحد فانها تعجز عن إحصاء نعم الله عز وجل على الناس في الحياة الدنيا .
السابع : منّ ورحمة الله عز وجل بالناس في الآخرة .
ومن المن الإلهي في آية البحث أمور :
الأول : نزول آية البحث نعمة ورحمة من السماء .
الثاني : بيان الآية لقانون تقسيم الناس إلى درجات وتصنيفهم وفق القول والعمل .
الثالث : بديع صنع الله في جعل ذات الناس بشأن يختلف فيه بعضهم عن بعض .
الرابع : منافع آية البحث في صيغ التوبة والإنابة .
الخامس : فيوضات تلاوة المسلمين لآية البحث في المبادرة إلى فعل الخير وإذا كانت هذه الفيوضات من منّ الله على المسلمين ، فهل فيها منّ من الله عز وجل على الناس .
الجواب نعم ، ومن أسماء الله [المنان] وهو كثير المن والإحسان على عباده بتوالي النعم .
وذات الحياة الدنيا من لطف ورفق الله بالناس والخلائق , وذكر المسلم لله عز وجل منّ ونعمة أخرى ، وتفكر ومناجاة الناس بمنّ الله نعمة عظيمة عليهم .
والمن من الإنسان مذموم حتى مع الفضل والجود .
وفي حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم (آفة الحديث الكذب، وآفة العلم النسيان، وآفة الحلم السفه، وآفة العبادة الفترة، وآفة الشجاعة البغي، وآفة السماحة المن، وآفة الجمال الخيلاء، وآفة الحسب الفخر، وآفة الظرف الصلف، وآفة الجود السرف، وآفة الدين الهوى ) ( ).
ومن خصائص الآية القرآنية أنها تذكر المسلمين والناس بمنّ الله عز وجل عليهم ، بينما جاءت آيات القرآن بنهي المسلمين عن المنّ بقوله تعالى [لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى] ( ) لذا قيل الْمَنِّ أخو المن أي أن بيان فضلك وذكرك لإحسانه على غيرك وتعداد إعانتك له أخو القطع والإبطال , ويقال : مننت بالشئ منّاَ : إذا قطعته فهو ممنون .
قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ] ( ) أي غير منقطع وورد لفظ [غَيْرُ مَمْنُونٍ] في القرآن أربع مرات ، ويمكن الإستدلال به على أمور :
الأول : إستمرار وتوالي إرتقاء المؤمن في الدرجات الرفيعة .
الثاني : السمو والرفعة والزيادة الذاتية في الدرجات .
الثالث : تفضل الله عز وجل بابداع وإيجاد درجات جديدة من الرفعة وغلق أبواب من البلاء والشدة والأذى .
ويمكن تسمية الحياة الدنيا ( دار المن) فكل ما فيها هو منّ وإحسان من الله ، ومن المنّ الإلهي محو ومنع الضرر وموارد البلاء وأسباب الفناء ، قال تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ] ( ) ليكون كل من المحو والإثبات منّ من الله عز وجل , وشاهد على الوحدانية .
وذات الآية أعلاه وما فيها من الكشف وعلوم الغيب التي أطلع الله عز وجل عليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إجمالاً من المنّ والطول .
ومن منّ الله عز وجل أنه جعل منّه في إزدياد متصل بفضل منه تعالى ، وعند شكر العبد له ، فكلما شكر الإنسان الله عز وجل على منّه سبحانه إزداد المنّ ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
لتكون الزيادة في المقام من جهات :
الأولى : الزيادة في المنّ من طرف الحكم .
الثانية : الزيادة في المنّ من جهة الكيف .
الثالثة : مضاعفة ذات المنّ .
الرابعة : السرعة في مجئ المنّ ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ) ويدل قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ]( )على أنه سبحانه أراد المنّ على المسلمين وهو من معاني حب الله عز وجل لهم .
وليكونوا على درجات رفيعة، ويسألوا الله عز وجل من منّه وطوله الذي ليس له حد ولا رسم.
بحث أخلاقي
لقد جعل الله عز وجل السموات والأرض ملكاً له سبحانه، لا يشركه أحد في هذا الملك، فلا يشارك المملوك المالك في الدنيا أو في الآخرة، وزاد من عظيم سلطانه وقدرته بأن جعل كل الخلائق محتاجة إلى ملك الله لهم مجتمعين ومتفرقين، ومن منّه وطوله تعالى أنه أعطاهم أكثر من حاجتهم ليّمن عليهم، ويزجر الناس عن منّ بعضهم على بعض، إنما يمّن الغني ذو الغنى المطلق على الفقير، وقاضي الحاجات على المحتاجين، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
وعن أبي أمامة قال: ثلاثة لا يقبل منهم يوم القيامة صرف ولا عدل عاق ومنان ومكذب بقدر( ).
وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا يكلمهم الله ، ولا ينظر إليهم يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم : المسبل إزاره ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب( ).
وهل يرقى المنّ بين الناس إلى الظلم، الجواب إنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب المتفاوتة، فقد يصل إلى مراتب الأذى والظلم، فيكون برزخاً دون الثواب.
لقد ذكر الله عز وجل في آية البحث منّه وطوله على المسلمين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه دعوة للمسلمين والناس جميعاً للتدبر في منّ وإحسان الله عز وجل عليهم في ذات بعثة النبي محمد صلى الله عز وجل وما يترشح عنها من المصاديق اللامتناهية من المنّ والطول والإحسان، وفيه تأديب للمسلمين بالإقرار بأن ما عندهم من النعم هو من عند الله .
والآية برزخ دون الغلو بالأنبياء والأئمة، وإصلاح للمسلمين بالتنزه عن المنّ فيما بينهم، ودعوة لهم للتطلع إلى تلقي المنّ الإلهي بالشكر، قال تعالى[وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ]( ).