معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 151

المقدمــة
الحمد لله حمداً وافياً على سعة رحمته وقربها من العباد والخلائق مطلقاً ، الحمد لله الذي [أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا] ( ) وهو على علم بتدبير ومشيئة وتصرف تام غير منقوص، وبما فيه خير العباد والنفع العام للخلائق.
الحمد لله الذي خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه وجعله وزوجه يعيشان في الجنة ويختلطان بالملائكة ، ويقتبسان منهم قبل أن يهبطا إلى الأرض بزلة وإغواء من إبليس بالأكل من الشجرة التي نهاهما الله عنها ، قال تعالى [فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ]( ).
ولم يرد لفظ [فَأَزَلَّهُمَا] في القرآن إلا في الآية أعلاه وكأنه لا إزلال مباشر وقُبلا بعده ليبدأ الإبتلاء والإمتحان في الدنيا، وموضوع هذا الإمتحان هو وجوب عمارة الإنسان للأرض بالتقوى وسنن الإيمان.
وهل قوله تعالى[وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( )، والذي يتضمن هذا الجزء إشراقة من تأويله من وجوه الإبتلاء في الدنيا , الجواب نعم من جهات :
الأولى : وجود أمة مسلمة تدافع عن النبوة والتنزيل وتدعو إلى عبادة الله عز وجل ونبذ الشرك والأوثان، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثانية : إصرار طائفة من الناس على الكفر والجحود وحمل السلاح للقتال دونه , ومحاولة لإمتناعهم عن التكاليف العبادية التي هي خضوع وإستسلام لأوامر الله وحب له وشكر على نعمة النبوة والتنزيل .
الثالثة : البشارة بنصر المؤمنين ،ووقوع الغنائم في أيديهم .
الرابعة : لزوم تهذيب سيرة المسلمين بما يجعل أيديهم بيضاء, وظهورهم سالمة من الأوزار يوم القيامة .
الحمد لله الذي ملأ الأكوان بآياته , وجعل كل آية معجزة تدعو إلى عبادته ، وتكون عوناً للناس في سبل الهداية والصلاح ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ، الحمد لله الذي أمدّ الأنبياء والمؤمنين بالعون وأسباب النصر والغلبة لإزاحة مفاهيم الكفر من منازل السيادة والإستحواذ في الأرض ، ومن هذه الأسباب التنزه عن أكل الغلول والسرقة من الغنائم وبيت المال .
ولا يعلم أحد أن هذا التنزه طريق للنصر إلا بعد تحقق أفراد كثيرة من السرقة من الغنائم ، وأثر هذه السرقات على نفوس المجاهدين ، وصيروتها سبباً في إمتناع طائفة منهم عن المبادرة إلى الجهاد ، تلك المبادرة التي تجلت في معركة أحد بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) .
ولم يرد لفظ [غَدَوْتَ] و[تُبَوِّئُ] في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان موضوعية الدفاع في حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وأن الإسلام لم ينتشر بالسيف والهجوم ، وقد كانت معركة أحد دفاعية على نحو جلي لا يقبل الترديد ، فقد زحف نحو ثلاثة آلاف مقاتل من المشركين نحو خمسمائة كيلو متراً منهم الراكب على الناقة أو الفرس والماشي على رجليه ، وكانت معهم مائتا فرس لم يركبوها ، لتكون جاهزة للكر والفر في القتال ، وليس عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من السلاح والعدة معشار ما جاء به المشركون مع أن الأصل بالمدافع تسخير إمكانات كثيرة لأنه لا يتكلف النقل والتجهيز وعناء السفر الطويل .
ولم يخرج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمعركة إلا نحو ألف رجل ما لبث ثلثهم أن رجعوا من وسط الطريق من منطقة الشوط بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول مع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وعدهم قبل الخروج بالنصر إن تحلوا بخصال الصبر (وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إلى أُحد في ألف رجل، وقيل : تسعمائة وتسعين رجلا.
وقال الزجاج : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أُحد وقت القتال ثلاثة آلاف، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أُحد وقد وعد أصحابه الفتح إن صبروا، فلما بلغوا الشوط انخزل عبد الله بن أُبيّ الخزرجي بثلث الناس فرجع في ثلاثمائة، وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟
فتبعهم أبو جابر السلمي فقال : أُنشدكم الله في نبيكم وفي أنفسكم. فقال عبد الله بن أُبي : لو نعلم قتالا لاتّبعناكم. وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أُبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا، ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
وهل كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ساعة خروجه إلى معركة أحد ينوي عدم أخذ الغلول ، الجواب نعم ، لدلالة آية البحث على الإطلاق في تنزه الأنبياء عن أكل الغلول أو العزم عليه ، فان قلت قد ورد في يوسف قوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ] ( ) فقد همّ يوسف بالإقتراب من المرأة لولا أن أنعم الله عز وجل عليه بالعصمة .
والجواب لقد جاءت الآية أعلاه بالبيان والتفصيل وذكر الهّم على نحو التعيين ، مع إختلاف وجوه التفسير في هذا الهمّ ، و(عن ابن أبي مليكة ، قال: سألت ابن عباس ما بلغ من همّ يوسف؟ قال: استلقت على قفاها ، وقعد بين رجليها لينزعَ ثيابه) ( ).
وفي الكلام تقديم وتأخير ، وهمت به ولكنه رأى برهان ربه فلم يهم بها (وقيل : هم بها أي بضربها ودفعها عن نفسه والبرهان كفه عن الضرب إذ لو ضربها لأوهم أنه قصدها بالحرام فامتنعت فضربها) ( ).
أما بالنسبة لآية البحث فقد وردت مطلقة [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] ( ) ولو دار الأمر بين أن يهم النبي بالغلول ثم يعصمه الله فلا يغل أو يسرق من المال العام ، أو أن كل نبي منزه عن الهم بالغلول .
الجواب هو الثاني ليكون تقدير ومعنى الآية على وجوه :
الأول : ما كان لنبي أن يهم بالغلول ) فلا يطرأ الهّم بالغل والسرقة من بيت المال العام .
وتبعث آية البحث على الخلق الحميد ، وإجتناب الرذائل لدلالة صفة الخلسة في الأخذ من الغنائم على أنه أمر قبيح يكره صاحبه معرفة الناس لفعله ، فتفضل الله عز وجل وأخبر بأن الملائكة والخلائق يعلمون يوم القيامة بهذا الفعل المذموم والأخذ من المال العام .
الحمد لله الذي جعل الآخرة متصلة بالدنيا ليس من إنفصال بينهما مع تعدد الرابط المشترك بينهما ، منه حضور أعمال الناس الدنيوية في الآخرة وعالم الحساب والجزاء .
الحمد لله الذي جعل إمتناع المسلم عن الغلول يرتقي به إلى مرتبة التشبه بفعل الأنبياء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
(عن أنس بن مالك قال : دخل عليه قوم يعودونه في مرض له ، فقال : يا جارية هلمي لأصحابنا ولو بسرا ( ) ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : مكارم الأخلاق من أعمال الجنة) ( ).
وتتضمن آية البحث في مفهومها البشارة للمسلمين الذين يمتنعون عن أكل الغلول بالثواب العظيم ، وكذا كل إنذار ووعيد في القرآن فانه ثواب وبشارة دخول الجنة .
الثاني : ما كان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يغل في أي معركة من معارك الإسلام فيخرج الصحابة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ميدان المعركة وهم يعلمون أنه منزه عن الأخذ خلسة من المال العام .
الثالث : ما كان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يقسم الغنائم إلا بالحق والعدل ، وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين , وتأديب للأمراء , هذا المعنى من مصاديق آية البحث .
الحمد لله الذي جعل الآية القرآنية سلاحاً ودفاعاً ضد الهوى ، وبرزخاً دون إتباع الشهوات ، والميل إلى الدنيا والإطمئنان لها ، والسياحة في بهجتها وأنسها الذي ينسي الآخرة .
ومن إعجاز القرآن الغيري أن كل آية منه تجذب المسلم إلى سبل الصلاح وتطرد الغفلة عنه ، وكل من هذا الجذب والطرد متعدد ومتجدد بذات الآية الواحدة منه ، ليكون من اللامتناهي .
وبعد أن جاء الجزء السابع والأربعون بعد المائة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) في تفسير الآية الحادية والستين بعد المائة من سسورة آل عمران .
وجاء هذا الجزء في بيان صلة شطر منها بشطر من الآية الرابعة والستين بعد المائة من ذات السورة وهو قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ…] ( ) في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً ، إذ يتجلى علم بهيج مترامي الأطراف خاص بالصلة بين كل آيتين من القرآن ، وصلة شطر من آية بشطر من آية أخرى ، لتكون أجزاء تفسير القرآن من اللامتناهي إذا إنتهج العلماء في الأجيال القادمة أحد الوجوه التالية :
الأول : تتمة هذا السفِر المبارك .
الثاني : إتباع ذات المنهاج الذي تجلى في هذا التفسير .
الثالث : إيجاد العلماء مناهج وصيغ للتفسير أعم وأوسع وأكثر بياناً وهو من رشحات قوله تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا] ( ) .
وأيهما أكثر العلوم التي تستنبط من ذات الآية القرآنية أم العلوم التي تستقرأ من صلتها بآيات القرآن الأخرى ، الجواب هو الثاني .
وقد تكون هذه العلوم المستقرأة أكثر من الجامع المشترك لما في الآيتين معاً من الدرر ، وهو من إعجاز القرآن والشواهد على أن ذخائر العلوم التي فيه لم تنقطع ، وأن أقلام العلماء في بيانه لم ولن تجف إلى يوم القيامة ، ولتأكيد قانون وهو في كل زمان تطل علينا علوم قرآنية مستحدثة .
ومن فضل الله عز وجل علينا أن العلوم الواردة في هذا التفسير هي إستنباط من ذات آيات القرآن ولا موضوعية فيها لأمور دنيوية مستحدثة .
لقد جاءت آية البحث بقانون عام في حياة الأنبياء وبيان خصالهم الحميدة ، فمع أن عددهم يبلغ مائة وأربعة وعشرين ألف نبي فأنهم يجتمعون ويلتقون بصفة وهي النزاهة عن الأخذ خلسة من الغنائم ، والعصمة من أكل المال العام ، وهو نوع إيثار وتضحية وأسوة للأتباع والمسلمين ، وفيه إبطال للمقولة : ما من عام إلا وقد خص أو أستثنى منه .
فليس من إستثناء أو نقص في المقام ، فمع صفة النبوة تأتي الطهارة والأمانة وإخلاص الحديث والقدوة في الصالحات ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
ولم يبق أوان نزول آية البحث من الأنبياء إلا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وليس من نبي معه أو بعده، ويمكن تسمية آيات من القرآن ب ( آيات الثناء )، ومنها آية البحث والتي تتضمن الثناء من وجوه:
الأول : ثناء الله عز وجل على نفسه وذكره ليوم القيامة وحضور الأعمال مع أصحابها .
الثاني : الثناء على الأنبياء وبيان حسن سمتهم وعصمتهم من الغلول، ويختلف حال الأنبياء عن غيرهم بالنسبة للغنائم وإمكان الأخذ منها، إذ أنها تكون جملة بين أيديهم ويتولون توزيعها وإختيار الوقت والكيفية المناسبة للتوزيع.
لتكون فرص أخذهم منها أكثر من غيرهم من الأمراء وعامة المسلمين، ومع هذا يتحلى الأنبياء بالأمانة والنزاهة والعصمة من أكل المال العام خلسة لإنقطاعهم إلى الله , ولأن هذه النزاهة من أفراد الدعوة الصادقة إليه سبحانه.
الثالث : الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان الآية لسلامته عن أكل الغلول قبل وبعد نزول الآية، وهو الأمر الذي يختص به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأنبياء بإخبار الآية المتقدم عن تنزهه عن أكل الغلول في قادم الأيام، وهل هذا من الشواهد على عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن عصمته هذه من عند الله , الجواب نعم، وتقدير الآية بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه :
أولاً : لم يغل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثانياً : لن يغل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثالثاً : سوف لن يغل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
رابعاً : ستذكر الأجيال المتعاقبة قانوناً وهو سلامة ونزاهة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأخذ من المال العام خفية وتدل الوقائع على أنه بإمكانه التصرف المطلق بالغنائم لمقام النبوة، وليس من إحتجاج عليه من قبل أهل البيت والصحابة، ولكنه جدّد منهاج الأنبياء ليبقى خالداً في آية البحث التي هي وثيقة سماوية تشهد له وللأنبياء بالزهد، وستأتي أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة وهي أكثر الأمم، ويتقدمهم شفيعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد تنزه عن الغلول ووطأة ثقله .
(عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما أعطى الله تعالى موسى الألواح فنظر فيه قال : يا رب لقد أكرمتني بكرامة لم تكرمها أحداً قبلي قال : يا موسى إنّي اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين، بجد ومحافظة وموت على حب محمد صلى الله عليه وسلم.
قال موسى : يا رب ومن محمد؟ قال : أحمد النبي الذي أُثبت اسمه على عرشي من قبل أن أخلق السماوات بألفي عام، إنّه نبيي وصفيي وحبيبي وخيرتي من خلقي وهو أحب إلي من جميع خلقي وجميع ملائكتي.
قال موسى : يا رب إن كان محمد أحب إليك من جميع خلقك فهل خلقت أمته أكرم عليك من أمتي؟ قال : يا موسى إنّ فضل أُمة محمد على سائر الخلق كفضلي على جميع خلقي.
قال : يا رب ليتني رأيتهم، قال : يا موسى إنّك لن تراهم، لو أردت أن تسمع كلامهم أسمعتك، قال : يا رب فإني أُريد أن أسمع كلامهم .
قال الله تعالى : يا أُمة أحمد، فأجبنا كلنا من أصلاب آبائنا وأرحام أُمهاتنا لبيك اللهم لبيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك.
قال الله تعالى : يا أُمة أحمد إن رحمتي سبقت غضبي , وعفوي سبق حسابي قد أعطيتكم من قبل أن تسألوني وقد أجبتكم من قبل أن تدعوني وقد غفرت لكم قبل أن تعصوني , من جاءني يوم القيامة بشهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبدي ورسولي دخل الجنّة ولو كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر. وهذا قوله عزّ وجلّ وما كنت بجانب الطور إذ ناديناه وما كنت بجانب الغربي} إلى قوله {الشَّاهِدِينَ}( ))( ).
الرابع : تتضمن آية البحث في معانيها ودلالاتها الثناء على المسلمين الذين يتلونها صباحاً ومساءً ويعلمون أنها تحثهم على إجتناب الغلول، فلم يعزفوا عنها، ولم يتركوا تلاوتها، ولم يقوموا بتحريفها وتغيير حروفها أو تبديل معانيها، بل أنهم يحرصون مجتمعين ومتفرقين على تعاهد رسمها، وذات معناها، ويتخذونها إماماً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليكونوا يوم القيامة شهداء على الناس، لذا ذكرت آية البحث أخبار وعاقبة الغلول يومئذ.
وأخرج عن حبان بن أبي جبلة يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال إذا جمع الله عباده يوم القيامة كان أول من يدعى إسرافيل ، فيقول له ربه : ما فعلت في عهدي هل بلغت عهدي؟ فيقول : نعم ، رب قد بلغته جبريل . فيدعى جبريل فيقال: هل بلغك إسرافيل عهدي؟ فيقول : نعم . فيخلى عن إسرافيل ، ويقول لجبريل : هل بلغت عهدي؟ فيقول : نعم ، قد بلغت الرسل، فتدعى الرسل فيقال لهم : هل بلغكم جبريل عهدي؟ فيقولون : نعم . فيخلى جبريل.
ثم يقال للرسل : هل بلغتم عهدي؟ فيقولون : نعم ، بلغناه الأمم . فتدعى الأمم فيقال لهم : هل بلغتكم الرسل عهدي؟ فمنهم المكذب ومنهم المصدق . فتقول الرسل : إن لنا عليهم شهداء . فيقول : من؟ فيقولون : أمة محمد . فتدعى أمة محمد فيقال لهم : أتشهدون أن الرسل قد بلغت الأمم؟ فيقولون : نعم . فتقول الأمم : يا ربنا كيف يشهد علينا من لم يدركنا؟ فيقول الله : كيف تشهدون عليهم ولم تدركوهم.
فيقولون : يا ربنا أرسلت إلينا رسولاً ، وأنزلت علينا كتاباً ، وقصصت علينا فيه أن قد بلغوا ، فنشهد بما عهدت إلينا .
فيقول الرب : صدقوا ، فذلك قوله { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } ( ) والوسط العدل { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً})( ).
فمثلاً ورد قوله تعالى في إبراهيم [وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] ( )و[وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ]( ).
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام) ( ).
(عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوّذُ الحسن والحسين عليهما السلام : أعيذكما بكلمات الله التامة من شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة) ( ) .
وأثنى الله عز وجل على نوح في مواطن عديدة في القرآن ، وجاءت سورة من القرآن بأسمه ، وقال تعالى [ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا] ( ).
كما ورد القرآن بمدح الرسول موسى عليه السلام وذكر عظيم شأنه بين الأمم وفضله في دعوة بني إسرائيل إلى الإيمان والمعجزات المتعددة التي رزقه الله ، قال تعالى [وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا ] ( ) [قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ] ( ) .
(عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تخيروني من بين الأنبياء ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوِزيَ بصعقة الطور) ( ).
وكان من عظيم منزلة موسى عليه السلام عند الله أن سأل الله عز وجل أن يجعل معه أخاه هارون وزيراً ، فتفضل الله عز وجل وأعطاه أكبر وأعظم مما سأل ، إذ جعله نبياً قال تعالى [وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا] ( ) وفيه دعوة للمسلمين للدعاء والتطلع إلى الفوز بذات المسائل التي يسألون الله بها وأكثر منها ، مع إقتران الدعاء بالتنزه عن أكل الغلول والمال العام خلسة وخفية ، وكأن من معاني قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) أي أدعوني بأيد ونفوس لم تغل ولم تأخذ خلسة من المال العام ، وإن كان المختار أن الأمر بالدعاء في الآية أعلاه مطلق غير مقيد بشرط لذا ذكرنا التقدير على نحو التشبيه بـ (كأن) .
ومن الإعجاز في وحدة سنخية عمل الأنبياء فيما يخص آية البحث وقوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] ( ) ما ورد (عن ابن مسعود قال : قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسماً فقال رجل : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فاحمر وجهه ثم قال رحمة الله على موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) ( ) .
وفيه شاهد على قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) إذ أظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصبر وكظم غيظه مع لزوم إدراك كل مسلم قانون حكم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعدل وقسمته بالسوية , وتنزهه عن الظلم والجور .
وفي الحديث نكتة وهي : ترى ماذا لو استولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الغنائم ولم يقسمها بين المسلمين ، أو أخذ منها خلسة وخفية ، إذن لأفترى المنافقون ولبثّوا سمومهم ، قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً] ( ) إنما يحرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جعل الغنائم مكشوفة ظاهرة لجميع المسلمين ، ويوكل بعض الصحابة بجمعها والقيام عليها لحين التقسيم , وقد وثقت أخبار السنة النبوية هذا العمل الحكيم , كما سيأتي في هذا الجزء بقانون ( حاجة المسلمين إلى التنزه عن الغلول) ( ) .
لقد أرادت آية البحث بيان قانون خاص بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يغل أبداً ، ولا يأخذ من الغنائم خفية قبل أو بعد نزول هذه الآية , فيدخل المسلمون المعركة وهم موقنون بأنه لا يغل ولا يأخذ شيئاً من الغنائم خلسة ، وهو من الشواهد على صدق نبوته وأنه لم يطمع بالدنيا وزينتها ، إنما كان يرضى منها بالقليل ، وهو الإمام في الزهد وحياة الكفاف مع كثرة ما ينفقه في سبيل الله ويوزعه على المحتاجين في اليوم والليلة .
وكان يمر الشهر والشهران على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجه لا توقد في بيته نار ، ويكون قوتهم التمر والماء ، وكان يعصب على بطنه الحجر مع أن الله عز وجل أذن له بالخمس ( إنّهُ لَيَرْبِطُ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنْ الْجُوعِ وَيُرَى الْهِلَالُ وَالْهِلَالُ وَالْهِلَالُ وَلَا يُوقَدُ فِي بَيْتِهِ نَارٌ .
وَكَانَ مُعْظَمُ مَطْعَمِهِ يُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ فِي السّفْرَةِ وَهِيَ كَانَتْ مَائِدَتَهُ وَكَانَ يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثّلَاثِ وَيَلْعَقُهَا إذَا فَرَغَ وَهُوَ أَشْرَفُ مَا يَكُونُ مِنْ الْأَكْلَةِ فَإِنّ الْمُتَكَبّرَ يَأْكُلُ بِأُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ وَالْجَشِعَ الْحَرِيصَ يَأْكُلُ بِالْخَمْسِ وَيَدْفَعُ بِالرّاحَةِ) ( ).
الحمد لله الذي جعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) وتدل الآية أعلاه على إمكان إدراك الناس جميعاً للحقائق وإنتفاء الإختلاف بينهم في العبودية لله عز وجل ، وفي القواعد والسنن التي تحكم حياة الناس في الأرض بضابطة وهي حب الله والحمد له سبحانه والثناء عليه .
وهل قول الحمد لله من مصاديق حبل الله في قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( ) الجواب نعم ، إذ أن الحمد لله واجب وهو سبيل النجاة في النشأتين ، ونوع طريق للتفقه في الدين ومعرفة البيان القرآني من غير غشاوة أو شبهة ، وتعاهد قول الحمد لله شاهد على وحدة المسلمين بسنن التقوى ، لذا فمن الإعجاز في الشريعة الإسلامية تلاوة كل مسلم ومسلمة عدة مرات لقول [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) وعلى نحو الوجوب العيني .
وهل يدل قوله تعالى في أول آية البحث [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] ( ) على أن عدم الأخذ خلسة من الغنائم من حبل الله ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : دلالة آية البحث على النهي عنه ، وإجماع المسلمين على أن القرآن من أظهر معاني حبل الله .
(عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض) ( ).
الثانية : إتخاذ الأنبياء التنزه عن أكل الغلول سنة ثابتة وقد أمر الله عز وجل المسلمين باتباعها .
الثالثة : حرمة الأكل من المال العام ، والتعدي على حق الغير ، وفي السرقة من الغنائم حقان ، حق الله وحق المجاهدين إلا أنه ليس من قطع لليد فيه ، فهو يختلف عن السرقة ، وهذا الإختلاف من بديع شرائع الإسلام ، بلحاظ أمور :
الأول : الذي يأخذ من الغنائم خلسة له حصة وسهم وإن قل فيما أخذ .
الثاني : يأتي الغل غالباً في ساحات الجهاد والدفاع عن بيضة الإسلام .
الثالث : حاجة الإسلام إلى المجاهد الذي قد يمد يده إلى الغنائم.
الرابع : عدم إنشغال الأمير والإمام بما فيه أذى للمقاتلين ، وما يؤدي إلى شماتة الأعداء .
الخامسة : إجزاء آية البحث عن الحساب الإبتدائي في الدنيا ، وهي إنذار ووعيد أخروي لمن يأخذ الغلول .
ومن إعجاز آية البحث أنها ذكرت قانوناً يتعلق بمنهاج النبوة وسيرة الأنبياء على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والبدلي ، وفيه تنبيه وتحذير للصحابة والتابعين وأجيال المسلمين المتعاقبة من الغلول وبشارة لهم بالثواب على الإمتناع عنه ، قال تعالى [فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا] ( ) ثم جاء الوعيد في ذات آية البحث من جهات :
الأولى : إحضار الذي يغل ما يسرق من الغنائم يوم القيامة ، لبيان حقيقة وهي أن الذي يرى الذي يأخذ من الغلول قد لا يؤاخذ ويحاسب على هذه الرؤية والسكوت عنه ، وإن كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقطان عنه .
الثانية : تأكيد قيام السارق بأحضار ما سرق معه يوم القيامة من باب الأولوية القطعية وبعث الناس للحساب وحضور أعمالهم معهم .
الثالثة : البشارة للمؤمنين الذي لم يغلوا ولم يسرقوا من المال العام (عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بأربعمائة عام ، حتى يقول المؤمن الغني : يا ليتني كنت نحيلاً .
قيل : يا رسول الله صفهم لنا , قال : هم الذين إذا كان مكروه بعثوا له ، وإذا كان مغنم بعث إليه سواهم ، وهم الذين يحجبون عن الأبواب) ( ).
أي أن الفقراء من المؤمنين يبعثون إلى جهات وأمور ليس فيها غنائم ولا أموال وأرباح وتخرج أسماؤهم في النفير الذي فيه أذى وإحتمال الضرر، أما إذا كان هناك مكسب مالي ومغانم فان الذين يبعثون إليها غيرهم من أصحابهم ، ويترك الفقراء لا يرسل عليهم .
ومع جهادهم فاذا جاءوا إلى باب الأمير والحاكم والسلطان فان الحجّاب يمنعون دخولهم ، ويصدّونهم ، وهؤلاء الحجّاب لم يروا ميدان المعركة ولم يخرجوا عند النفير .
وليس لهؤلاء الفقراء طمع في مغنم ، ولا تصل إليه إيديهم لأنهم يرسلون إلى ما ليس فيه غنائم ومكاسب ومن العصمة إمتناع المعصية , فجاء الحديث النبوي أعلاه لبعث السكينة في نفوس المدافعين وأهل الثغور من الفقراء ومواساتهم ، وبعث النفرة في نفوس المسلمين من أكل الغلول وأنه حتى وأن أدى إلى الغنى فعاقبته الحساب الشديد .
وتبعث آية البحث المسلم للتعوذ من الغلول أو الموت وفي عنقه مال عام ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسالم يتعوذ بخصوص ساعة الموت ، والكيفية المكروهة له ، و(عَنْ أَبِى الْيَسَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ يَدْعُو : اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَدْمِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ التَّرَدِّى وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرَقِ وَالْهَرَمِ , وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِى الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ فِى سَبِيلِكَ مُدْبِرًا , وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا) ( ).
وإذا نفخ في الصور وبعث الناس من قبورهم جمعوا في أرض المحشر ، وقاموا فيها طويلاً فيشتد عطشهم وتمتلأ نفوسهم بالخوف والفزع إلا الذين آمنوا ثم يرفع الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته الحوض .
( عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني لكم فرط وإنكم واردون عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين قيل : وما الثقلان يا رسول الله؟
قال : الأكبر كتاب الله عز وجل . سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم ، فتمسكوا به لن تزالوا ولا تضلوا ، والأصغر عترتي وأنهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض ، وسألت لهما ذاك ربي فلا تقدموهما لتهلكوا ، ولا تعلموهما فإنهما أعلم منكم ) ( ) .
وهل ينتفع من حوض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن الشرب منه الذي يأخذ الغلول من المسلمين أم أنه يُرد ويُمنع منه لحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويشمله حديث الحجب عن الحوض .
و(عن أنس بن مالك قال بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما قلنا له ما أضحكك يا رسول الله.
قال نزلت علي آنفا سورة * (بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الابتر) ( ) * ثم قال هل تدرون ما الكوثر قلنا الله ورسوله أعلم قال فإنه نهر وعدنيه ربي في الجنة آنيته أكثر من عدد الكواكب ترده علي أمتي فيختلج العبد منهم فأقول رب إنه من أمتي فيقول إنك لا تدري ما أحدث بعدك) ( ) وفيه وجوه :
الأول : القدر المتيقن من قوله (إنك لا تدري ما أحدث بعدك) أسباب الغواية والتقصير المتعمد .
الثاني : شمول الذي يأكل الغلول بالمنع الوارد في الحديث أعلاه ، لأنه من الحدث في الدين وإتيان أمر منهي عنه كتاباً وسنة .
الثالث : التفصيل بحجب الذي يأتي بغلول فيه إضرار بالجماعة والأمة ، دون الذي يغل أمراً بسيطاً .
والمختار هو الثاني وفي ذكر حوض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة دعوة للمسلمين للفوز بالإغتراف منه لأنه نعمة عظمى في الآخرة ، خاصة وأن صاحب الغلول يحمله على ظهره يومئذ , أي يتبين أمره من غير سؤال .
وابتدأت آية السياق بقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ] وهل يختص المنّ والإحسان من الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤمنين .
الجواب لا ، إذ أن إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : لقد منّ الله على المؤمنين والمؤمنات .
الثاني : لقد منّ الله على المسلمين .
الثالث : لقد منّ الله على المسلمات .
الرابع : لقد منّ الله على أهل الكتاب .
الخامس : لقد منّ الله على الناس جميعاً .
ليكون في الآية حجة على الذين كفروا ، فمع أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم منّ وإحسان من الله فأنهم آذوه وأهل بيته وأصحابه أشد الأذى .
ومن الإعجاز في آية السياق أن كل آية من القرآن منّ متعدد من عند الله عز وجل على المؤمنين ، ومنها آية البحث .
لقد ذكرت آية السياق خزائن من منّ وإحسان الله عز وجل على المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : بلوغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة الرسالة.
الثالثة : إختتام النبوة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وسيأتي في بحوث هذا الجزء ذكر القول بجواز الخطأ على الأنبياء السابقين ، لأن هناك رسالة بعدهم ، وإمتناعه عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه ليس من شريعة ناسخة لشريعته ( )، ولا أصل عليه وأن أستدل عليه بقوله تعالى [وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا]( ). ( )
ومن خصائص منّ الله عز وجل أنه متصل وغير منقطع ، ولا ينحصر بجيل من المسلمين أو طبقة من الناس ، إنما هو عام ينهل منه الناس في كل زمان ومكان ، فكما أن نداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]متجدد ويتوجه لكل المسلمين والمسلمات في كل زمان ، فكذت نعم الله عز وجل , فما أن يولد المسلم حتى تأتيه النعم من عند الله , وهي على أقسام :
الأول : النعم التي تأتي للناس جميعاً وعن عبد الله بن عباس (في قوله { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً }( )قال : هم كفار أهل مكة ).
الثاني : ما يختص به المسلمون من الإحسان واللطف الإلهي كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ).
الثالث : الفضل الذي يأتي للإنسان بصفته الشخصية في خلقه ونشأته وحفظه في كل ساعة من ساعات حياته , وفي التنزيل [وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً] ( ).
الحمد لله الذي رفع العلم مراتب وشرّف أهله قال تعالى [يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ]( ).
وجعل القرآن سنام العلم ومصدره وبابه الذي يؤتي منه، ووضع من يقيم على الجهل، ويصر على الضلالة , وكل من هذا الرفع والوضع دعوة للناس للإرتقاء في سلم المعارف برداء الإيمان، والتنزه عن الجهل وما يترشح عنه .
ومن الإعجاز في خلق الله تعالى للإنسان والنفخ فيه من روحه أن الكسب والعلم لا يزيد الإنسان إلا علماً ورفعة وعزوفاً عن الفواحش والضغائن والحسد ، وجاءت آية البحث [مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ..]( )، وآية السياق[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ]( )، لبيان فضل الله في إصلاح نفوس المسلمين ونشر معاني الود والمحبة بين الناس.
والحمد لله الذي أنعم عليّ بتأليف ومراجعة وتصحيح أجزاء التفسير وكتبي الفقهية والأصولية والكلامية بمفردي ليس معي إلا فضله وإحسانه ولطفه سبحانه , وليكون ذخيرة ليوم الحساب لنا وللمؤمنين، ومن مصاديق ما ورد في آية البحث[ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ]( )، ولينعم الله عز وجل علينا بالنعم العظيمة المتصلة ويثبتنا عليها في الآخرة، ويمكن تسمية الحياة الدنيا (دار النعم)، قال تعالى[وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).

حرر في 24/12/2016
24 ربيع الأول 1438

الصلة بين الآية [ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] ( )والآية [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( )

الإعراب واللغة ( ) :
لقد منّ الله : اللام قيل هي لام قسم مقدر أو قل جواب لقسم محذوف ، وهو مشهور النحويين ، والمختار أنها لام الإبتداء ، فسياق الجملة هو الخبر والبيان من عند الله عز وجل لعباده وليس القسم .
قد : حرف تحقيق .
منّ : فعل ماض .
واسم الجلالة : فاعل مرفوع بالضمة .
على المؤمنين: على : حرف جر .
المؤمنين : اسم مجرور متعلق بـ(من) وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم .
إذ بعث فيهم .
إذ : ظرف للزمان الماضي مبني في محل نصب .
بعث : فعل ماض ، والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) .
فيهم : في : حرف جر ، والضمير (هم) في محل جر متعلق ب (بعث) .
رسولاً : مفعول به منصوب وعلامه نصبه الفتحة .
من أنفسهم : من : حرف جر ، أنفس : اسم مجرور بالكسرة متعلق بمحذوف نعت لـ (رسولاً ).
والضمير (هم) مضاف إليه .
يتلو عليهم : يتلو : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعة الضمة المقدرة على الواو ، والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) والمراد منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
آياته : آيات : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الكسرة تحت آخره ، وهو مضاف .
والضمير (الهاء ) مضاف إليه .
ويزكيهم : الواو : حرف عطف .
يزكي : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة على آخره ، والفاعل ضمير مستتر تقديره (هو) يعود إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والضمير (هم) في يزكيهم : مفعول به .
ويعلمهم : مثل إعراب يزكيهم أعلاه .
الكتاب : مفعول به منصوب بالفتحة الظاهرة على آخره .
والحكمة : الواو : حرف عطف ، الحكمة : اسم معطوف على الكتاب ، منصوب مثله .
وإن كانوا : الواو حالية , وهي تشير إلى حال الهيئة وظرف الزمان أو المكان ، كما في قوله تعالى[أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا]( )، وليكون من معاني الآية أعلاه إتخاذ الصبر وجاء للإمتناع عن الغلول .
وبين الواو الحالية وبين واو المعية عموم وخصوص من وجه ، فتقول مثلاً :أسريت والقمر ) وتكون الواو هنا للمعية , وكأن القمر يسير معه .
وتقول أسريت والقمر منير )، والواو هنا للحال ، لأن السير مقارن لحال إنارة القمر .
إن : مخففة من الثقيلة مهملة ، لأنها إذا خففت يهمل عملها .
كانوا : فعل ماض ناقص مبني على الضم .
الواو : اسم كان .
من قبله : من حرف جر ، قبل : اسم مبني على الضم في محل جر .
لفي ضلال : اللام هي الفارقة التي تفرق بين إن المخففة و(إن) النافية بمعنى (ما) .
ومن(إن) بمعنى (ما) قوله تعالى [قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَانِ وَلَدٌ] ( ).
في ضلال : جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر (كانوا) مبني صفة لضلال مجرور ومثله.
مبين : صفة لضلال مجرور مثله .

بحث نحوي
وتسمى الصفة ( النعت) وهي من التوابع واسم مشتق يبين صفة اسم قبله يسمى الموصوف أو المنعوت بما يفيد بيانه ومنع اللبس والترديد بين المصاديق .
وتطابق الصفة الموصوف في حالات :
الأولى :الإعراب ، من الرفع أو النصب أو الجر ، وجاءت في آية البحث من الجر , ومن الرفع للصفة لفظ [مُرْجَوْنَ] في قوله تعالى [وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ] ( ), إذ أنه مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم.
وجاء لفظ [مُبِينٌ] في القرآن بالرفع والنصب أيضاً ومن الرفع لفظ مبين في قوله تعالى [وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ] ( ) أما النصب ففي لفظ [مُبِينًا]كما في قوله تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا]( ).
الثانية : التعريف والتنكير ، وجاءت الصفة في آية البحث بالتنكير ، ومن التعريف قوله تعالى [فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ] ( ) وقد ورد لفظ [الْمُبِينُ] معرفاً في القرآن اثنتين وعشرين مرة .
الثالثة : العدد ، في الإفراد والتثنية والجمع ، فالمفرد مثل قوله تعالى [َلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً] ( ) والمثنى مثل قوله تعالى [ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امرأة نُوحٍ وَامرأة لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا] ( ) .
فلفظ [صَالِحَيْنِ] صفة ونعت لعبدين منصوب بالياء لأنه مثنى , والجمع مثل معدودات في قوله تعالى بخصوص الصيام [أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ] ( ).
الرابعة : التذكير والتأنيث ، ومن التأنيث في النعت لفظ بينات في قوله تعالى [وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ] ( ).
ليفيد الجمع بين الآية أعلاه وخاتمة آية السياق أن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جلية وبينة وكافية لقهر الذين كفروا ، وإزاحة الضلال المبين .
ومن الآيات البينات توثيق القرآن لسجية حميدة للأنبياء بتنزههم مجتمعين ومتفرقين عن الخيانة , والنهي عن الغلول وبيان أضراره في النشأتين , وكيف أنه يأتي يوم القيامة وكأنه سُلب ونهب في ساعته لعدم تبدل صفاته وهيئة صاحبه .

سياق الآيات
لقد شرعنا بهذا الباب لبيان صلة الآية القرآنية بعدد من الآيات المجاورة لها ، وفي الغالب يتعلق بثلاث آيات مجاورة لها من التي قبلها والتي بعدها.
ومن إعجاز القرآن نظم الآيات وتوالي الآيات في موضوعها وحكمها ودلالاتها .
لقد جعل الله عز وجل سياق آيات القرآن كنزاً وخزائن من العلم لا يستطيع الناس إستقراء ما فيها من العلوم والمضامين القدسية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ] ( ) .
فان قلت القدر المتيقن من الآية أعلاه هو ذات كلمات الله وليس الصلة بين الآيات ، والجواب المراد من الآية أنه لو كان ماء البحر مداداً وصبراً للأقلام التي تكتب بها كلمات الله على قرطاس لنفد وانقطع وفرغ وأنتهى ماء البحر ، وكلمات الله عز وجل لم تنته ، وحتى لو استعملت سبعة بحور أخرى لنفدت الأقلام وجفت تلك البحور .
وأطلقت الآية أعلاه لفظ الشجر ، فصحيح أنه جاء بصيغة المفرد [مِنْ شَجَرَةٍ]إلا أنه اسم جنس شامل لكل الشجر ، لبيان قانون وهو أن المراد من البحر الذي هو على مد البصر من البحار والمحيطات .
وهل في الآية أعلاه إخبار عن إتصال وتداخل بعض البحار والمحيطات ببعضها بواسطة فعل الإنسان لنفعه أو بواسطة أسباب كونية كالزلازل والفيضانات.
الجواب نعم ،ومنها فتح قنوات بين بعض البحار وبعضها ، وهو الأمر الذي تحقق على نحو الموجبة الجزئية في بعض المناطق من العالم مثل قناة بنما ، وقناة السويس ، ولا يعلم منافع هذا الإتصال وفتح القنوات وتداخل مياه البحار والأنهار إلا الله عز وجل .
ليكون من معاني الآية أمران :
الأول : بذل الوسع لإيجاد منافع عامة بالربط بين بعض البحار.
الثاني : التحذير والإنذار من إتصال بعض البحار ببعضها وما قد تسببه من غرق بعض المدن ، وهل منه ما يثار في هذه السنين من إحتمال ذوبان الجليد في القطب الجنوبي والشمالي وتغييره لخريطة العالم وتأثر المدن الساحلية المكتظة بالسكان على نحو الخصوص الجواب نعم ، إذ تتضاعف كميات المياه التي تصب في المحيطات بسبب إرتفاع انبعاثات الكاربون بما يؤدي إلى زيادة مستوى سطح البحر .
ولكن هذه النظرية والحساب على فرض تحققها فانها لا تقضي على الحياة البشرية في الأرض ، ولا حتى على المدن الساحلية لتغلب الناس عليها بمصاديق قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وقد تفتح آفاقاً جديدة من سبل العيش وأسباب الرزق بفضل ولطف من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ] ( ).
وفي قوله تعالى [وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ] ( ) ورد (عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوّذُ الحسن والحسين عليهما السلام : أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة ، ثم يقول : كان أبوكم إبراهيم يعوّذ بها إسمعيل وإسحق) ( ).
وعن (جابر بن عبد الله قال : دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسجد الحرام يوم فتح مكة ومعه مخصرة ولكل قوم صنم يعبدونه ، فجعل يأتيها صنماً صنماً ويطعن في صدر الصنم بعصا ثم يعقره ، كلما صرع صنماً أتبعه الناس ضرباً بالفؤوس حتى يكسرونه ويطرحونه خارجاً من المسجد ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول { وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم })( ).
مما يدل على أن الآية أعلاه أعم في موضوعها ودلالتها ، ومن معاني كلمات الله نظم وسياق آيات القرآن والعلوم المستنبطة منها ، وقد أنعم الله عز وجل علينا بصدور الجزء السادس والعشرين بعد المائة من هذا التفسير في الصلة بين شطر من الآية 153 بشطر من الآية 151 .
وصدور الجزء التاسع والعشرين بعد المائة في الصلة بين شطر من الآية 154 من سورة آل عمران بشطر من الآية 153 , وكله مباني وعلوم من ذات الآيتين .
وعن ابن عباس قال (اجتمعت اليهود في بيت فارسلوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ائتنا . فجاء فدخل عليهم فسألوه عن الرجم فقال : أخبروني بأعلمكم . فأشاروا إلى ابن صوريا الأعور .
قال : أنت أعلمهم قال : إنهم يزعمون ذاك .
قال : فنشدتك بالمواثيق التي أخذت عليكم ، وبالتوراة التي أنزلت على موسى . ما تجدون في التوراة ؟
قال : لولا أنك نشدتني بما نشدتني به ما أخبرتك ، أجد فيها الرجم.
قال : فقضى عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فقالوا : صدقت يا محمد عندنا التوراة فيها حكم الله ، فكانوا قبل ذلك لا يظفرون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشيء قال : فنزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً }( ).
فاجتمعوا في ذلك البيت فقال رئيسهم : يا معشر اليهود لقد ظفرتم بمحمد فأرسلوا إليه . فجاء فدخل عليهم فقالوا : يا محمد ألست أنت أخبرتنا أنه أنزل عليك { وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله }( ) ثم تخبرنا أنه أنزل عليك [وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً]( )، فهذا مختلف .
فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرد عليهم قليلاً ولا كثيراً قال : ونزل على النبي صلى الله عليه آله وسلم { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام }( ) وجميع خلق الله كتّاب ، وهذا البحر يمد فيه سبعة أبحر مثله ، فمات هؤلاء الكتّاب كلهم ، وكسرت هذه الأقلام كلها ، ويبست هذه البحور الثمانية ، وكلام الله كما هو لا ينقص ، ولكنكم أوتيتم التوراة فيها شيء من حكم الله ، وذلك في حكم الله قليل .
فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتوه فقرأ عليهم هذه الآية قال : فرجعوا مخصومين ) ( ).
المسألة الثانية : لقد ذكرت آية البحث الأنبياء بقوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ..] ( )، ومن إعجاز القرآن أنه لا يذكرهم إلا بما هو خير محض وبيان إخلاصهم في طاعة الله ، وتفانيهم في سبيله ، وفيه وجوه :
الأول : إكرام الأنبياء في القرآن , وهو الكتاب السماوي الباقي إلى يوم القيامة ، وهذا الإكرام والتوثيق من مصاديق الحسن في قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( ).
الثاني : شهادة القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأجيال المسلمين إلى يوم القيامة ببعثة ونبوة الأنبياء ، وجهادهم في الدعوة إلى الله .
فحينما يتلو أو يسمع المسلم قوله تعالى [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ) يسلم بالنبوات ويقر للأنبياء بعظيم المنزلة والمرتبة الرفيعة .
وهل ينتفع غير المسلم من الآية أعلاه وسماعها , الجواب نعم ، وهو من مصاديق بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها جاءت بصيغة نفي النفي ، والتي تفيد الإثبات والتأكيد ، ويكون من مفاهيم الآية : يا أيها الناس إن ارسلنا إليكم محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً فصدّقوا به وأتبعوه ، ومن مصاديق إتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدم الأخذ من الغنائم والمال العام خلسة .
ومنها لزوم إيمان الناس جميعاً ، ولو قلنا بصيرورة الناس جميعاً مؤمنين أو تم الصلح والمهادنة بين الناس وإنتفى القتال والحروب بينهم وهو أمر ممكن وليس بعيداً ، فهل ينقطع موضوع الآية ولا تبقى حاجة إليه لأن الغلول الذي تذكره فرع القتال بين المسلمين ضد الذين كفروا كما في معركة بدر وأحد والخندق وحنين .
الجواب لا ينقطع موضوع الآية لأنه أعم من أن يختص بمواطن القتال بل يشمل المال العام وحرمة الأخذ منه خلسة خاصة من قبل المؤتمن عليه متحداً كان أو متعدداً .
الثالث : فضل الله عز وجل على الأجيال المتعاقبة من الناس ببقاء سيرة الأنبياء بين ظهرانيهم ، ليقتبسوا منها المواعظ ويسيروا على نهجهم وهداهم .
وإذ يناجي المسلم الله عز وجل في الصلاة كل يوم بقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) فان الله تعالى جعل هذا الصراط المبارك قريباً من المسلم جلياً , وواضحاً بذكر مناهج الأنبياء وحسن سمتهم .
لقد ذكرت آية السياق قانوناً وهو أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منّة وإحسان من عند الله عز وجل على المؤمنين ، وتحتمل بعثة الأنبياء السابقين وجوهاً :
الأول : بعثة كل نبي منّة على قومه والذين يبعث إليهم .
الثاني : من الأنبياء من يكون المنّ من عند الله عز وجل ببعثته على الناس جميعاً ، ومنهم ما تختص المنّة ببعثته على قومه .
الثالث : القدر المتيقن أن نعمة بعثة أي نبي خاصة بمن تبلغهم دعوة وتبليغ ذات النبي .
الرابع : بعثة كل نبي منّة وإحسان ورحمة من عند الله بالناس جميعاً , ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : يبعث النبي على رسالة الرسول الذي سبقه زماناً, فتكون نبوته رحمة للذين بعث لهم ذلك الرسول .
السادس : إنفراد رسالة النبي محمد صلى اله عليه وآله وسلم بانها رحمة بالناس .
والمختار هو الرابع أعلاه ، وتجلي قانون بعثة كل نبي منّة ورحمة بالناس جميعاً بالقرآن ونزوله وإنتفاع المسلمين من أمور :
الأول : بيان القرآن لجهاد الأنبياء , مثل نوح وهود وصالح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام , ومع شدة عناء الأنبياء فانهم حرصوا على حج بيت الله إلا من انشغل بقومه ودعوتهم إلى الله مثل هود عليه السلام .
(عن ابن عباس قال : لما أهبط الله آدم إلى الأرض أهبطه إلى موضع البيت الحرام وهو مثل الفلك من رعدته ، ثم أنزل عليه الحجر الأسود وهو يتلألأ من شدة بياضه ، فأخذه آدم فضمه إليه آنساً به .
ثم نزل عليه القضاء فقيل له : تخط يا آدم ، فتخطى فإذا هو بأرض الهند أو السند فمكث بذلك ما شاء الله ، ثم استوحش إلى الركن فقيل له : احجج . فحج فلقيته الملائكة فقالوا : برّ حجك يا آدم ، ولقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام) ( ) .
الثاني : تأكيد القرآن لصبر الأنبياء وأصحابهم في مرضاة الله , وفي أمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال الله تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ] ( ).
الثالث : ملاقاة الأنبياء ومعهم أصحابهم للذين كفروا في ميادين القتال ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ).
الرابع : بيان القرآن لقصص الأنبياء وإحتجاجهم على الطواغيت والملأ من قومهم , وفي إحتجاج إبراهيم على نمرود ورد قوله تعالى[فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ] ( ).
ترى لماذا لم يلجأ نمرود إلى المغالطة ويقول له أسال ربك أن يأتي بالشمس من المغرب مرة واحدة , الجواب تتضمنه الآية أعلاه باصابة نمرود بالذهول والحيرة والإرتباك وعجزه عن الرد والجدال, ولبيان الآية أعلاه بأن إشراقة الشمس والإتيان بها من المشرق آية جلية.
وعن زيد بن أسلم (أول جبار كان في الأرض نمروذ ، فكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار، فإذا مر به ناس قال: من ربكم؟ .
قالوا: أنت حتى مرّ إبراهيم .
قال: من ربك؟ قال: الذي يحيي ويميت؟ قال: أنا أحيي وأميت.
قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب! فبهت الذي كفر. قال: فرده بغير طعام. قال: فرجع إبراهيم على أهله .
فمر على كثيب أعفر ،
فقال : ألا آخذ من هذا، فآتي به أهلي، فتطيب أنفسهم حين أدل عليهم! فأخذ منه فأتى أهله.
فوضع متاعه ثم نام، فقامت امرأته إلى متاعه، ففتحته، فإذا هي بأجود طعام رآه أحد ، فصنعت له منه، فقربته إليه، وكان عَهِد أهلَه ليس عندهم طعام .
فقال: من أين هذا؟ قالت: من الطعام الذي جئت به! فعلم أن الله رزقه، فحمد الله .
ثم بعث الله إلى الجبار ملكا أن آمن بي وأتركك على ملكك! قال: وهل رب غيري؟! فجاءه الثانية، فقال له ذلك، فأبى عليه. ثم أتاه الثالثة فأبى عليه .
فقال له الملك: اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام! فجمع الجبار جموعه، فأمر الله الملك، ففتح عليه بابا من البعوض، فطلعت الشمس، فلم يروها من كثرتها، فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم، وشربت دماءهم، فلم يبق إلا العظام ، والملك كما هو لم يصبه من ذلك شيء.
فبعث الله عليه بعوضة، فدخلت في منخره، فمكث أربعمئة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه وضرب بهما رأسه. وكان جبارا أربعمئة عام، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه، وأماته الله.
وهو الذي بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد، وهو الذي قال الله:( فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ ) ( )) ( ).
وإن قلت إن الله خصّ النبي محمداً بأن رسالته رحمة عامة ، بقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) والجواب هذا صحيح ، ولكن المورد لا يخصص فكل نبوة صارت رحمة للعالمين بنزول القرآن ، وبقاء تلك النبوات مدرسة وضياء ونور تقتبس منه الأمم المواعظ والصبر ، وإن لم يذكر اسم كل الأنبياء في القرآن ، ولكن آية البحث ذكرتهم على نحو العموم المجموعي بالتنزه عن أكل المال العام ، وعن الأخذ من الغنائم خلسة ليرث المسلمون سننهم .
المسألة الثالثة : إبتدأت آية البحث بصيغة نفي القبيح لإرادة المدح والثناء ، ليكون من إعجاز القرآن الثناء على الأنبياء سواء بصيغة الإيجاب وذكر صبرهم وتقواهم ومحاسنهم أو بصيغة النفي وتنزيههم عن المكروهات ، وما تنفر منه النفس الإنسانية .
وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (قرصت نملة نبياً من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت ، فأوحى الله إليه من أجل نملة واحدة أحرقت أمة من الأمم تسبح) ( ) .
أما بالنسبة للغلول فلم يمد نبي يده على الغنائم ويأخذ خلسة ثم يأتيه الوحي معاتباً ومؤدباً ، بل كان الأنبياء معصومين من هذا الأخذ لإقامة الحجة على الناس ، وتنزيه الأرض من الفساد ، قال تعالى [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ] ( ).
لقد جاءت آية السياق خطاباً للمسلمين ومن الإعجاز فيها أنها إبتدأت بلغة الخبر الذي لا يقبل إلا التصديق وهو نفي الغلول عن الأنبياء مجتمعين ومتفرقين ، وهل في هذا النفي فخر للمسلمين, الجواب نعم من جهات :
الأولى : الأنبياء سادة المسلمين وأئمة الهدى .
الثانية : إجتهاد المسلمين للعمل بسنن الأنبياء ،وفي التنزيل [وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ]( ).
الثالثة : إقتداء المسلمين بالأنبياء .
الرابعة : في الآية ثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه من الأنبياء وخاتمهم .
وإبتدأت آية البحث بما يفيد الثناء على الأنبياء والمؤمنين بلحاظ الجامع المشترك بينهم وهو التنزه عن الغلول وبينهم عموم وخصوص مطلق من جهات :
الأولى : الأنبياء قادة الذين آمنوا في العفة والطهارة ، وفي التنزيل [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ).
الثانية : المؤمنون أتباع الأنبياء ويقتدون بضياء أعمالهم .
الثالثة : المؤمنون أكثر من الأنبياء عدداً ، وهو من الشواهد على صدق المعجزات التي جاءوا بها من الله عز وجل وقيامهم بالتبليغ والدعوة إلى الله خير قيام .
وهل هو بجهود خالصة منهم أو بمدد وعون من الله عز وجل ، الجواب هو الثاني ، ويدل عليه معنى ومفهوم قوله تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( ) أي أن الله عز وجل هو الذي بعث وأرسل الأنبياء للناس والإنذار بأن أمدهم الله عز وجل بأسباب التمكين من تنجز بشارتهم وإنذارهم للناس ، ويصرف الموانع والحواجز التي تحول دون وصولهم للناس والقيام بوظائفهم النبوية .
ومن الإعجاز مجئ الآية أعلاه بصيغة الجمع ليفيد وجوهاً :
الأول : قيام كل نبي بالبشارة والوعد الكريم .
الثاني : تولي كل نبي مسؤولية الإنذار والتخويف ، وفي داود النبي ورد قوله تعالى [يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ] ( ).
الثالث : تعاون الأنبياء في البشارة والإنذار ، بأن يبشر السابق منهم باللاحق ، ويشهد اللاحق للسابق بالنبوة ، وقد يكون أكثر من نبي في زمان ومكان واحد , ليكون من وجوه تقدير الآية :
أولاً : وما نرسل المرسلين إلا مبشرين بعضهم ببعض .
ثانياً : وما نرسل المرسلين إلا منذرين لمن يجحد بنبوة بعضهم .
ثالثاً : وما نرسل المرسلين إلا مبشرين بدعوة ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاً : وما نرسل المرسلين إلا مبشرين بالثواب العظيم للذين آمنوا .
خامساً : وما نرسل الأنبياء إلا مبشرين للمسلمين الذين يمتنعون عن أكل الغلول .
سادساً : وما نرسل المرسلين إلا منذرين للذين يأكلون الغلول أو يهمّون بأكلها ، ليكون من الإعجاز في الإنذار القرآني إنتفاع عامة الناس منه ، فعندما يبلغ الإنذار القرآني الذي يهم بالسيئة ينزجر عنها ، أما الذي فعلها فان الإنذار القرآني باب للإستغفار والإنابة ، قال تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى] ( ).
الرابع : يمكن تقسيم البشارة التي يأتي بها الأنبياء إلى أقسام :
أولاً : البشارة الخاصة بذات نبوة المبشر كظهوره على القوم الكافرين ، قال تعالى [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ] ( ).
ثانياً : البشارة بالنبي والرسول اللاحق .
ثالثاً : البشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاً : البشارة بهلاك عدو المؤمنين .
خامساً : البشارة العامة التي يلتقي فيها كل الأنبياء ، كما في بشارتهم بالجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات وكذا بالنسبة لقيام الأنبياء بالتحذير من أمر مخصوص .
(عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني لخاتم ألف نبي أو أكثر ، وإنه ليس منهم نبي إلا وقد أنذر قومه الدجال ، وإنه قد تبين لي ما لم يتبين لأحد منهم ، وإنه أعور ، وإن ربكم ليس بأعور) ( ) .
وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم (وإنه قد تبين لي ما لم يتبين لأحد منهم) مسائل :
الأولى : بيان علو مرتبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الأنبياء .
الثانية : تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإخباره عن وجوه من الغيب لم يطلع عليها غيره من الأنبياء .
الثالثة : الدلالة على أن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم باقية إلى يوم القيامة .
الرابعة : تأكيد حاجة المسلمين لمعرفة أوصاف الدجال على نحو التفصيل لمنع الإفتتان به .
ويحتمل إمتناع الأنبياء عن أكل الغلول وجوهاً :
الأول : أنه من البشارة الخاصة والعامة .
الثاني : إنه إنذار وتحذير ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
الثالث : إرادة المعنى الأعم ، وهو أن إمتناع الأنبياء عن أكل الغلول بشارة وإنذار .
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق ودلالات إخبار الآية السابقة عن تنزه الأنبياء عن أكل الغلول .
ومن الإعجاز في مناهج النبوة أن سيرة كل نبي بشارة وإنذار ، وقد قيل ليوسف عليه السلام وهو في السجن [إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ) وكذا قيل له عندما تولى الوزارة وتوزيع الميرة والمؤن في زمن قحط وجفاف [إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ) لبيان إتحاد سنخية فعل النبي ، وإتصافها بالحسن الذاتي والأثر الطيب ، لذا أمر الله عز وجل المسلمين بتعاهد سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بمضامينها ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
ونزلت الآية أعلاه فضلاً من الله تعالى ليتبع المسلمون رضوان الله عز وجل , وجاءت آية البحث بصيغة الإستفهام لتكون شاهداً على أتباع المسلمين لرضوان الله ليكون تقدير الآية : لا يكون المسلمون كمن باءوا بسخط من الله .
المسألة الرابعة : لقد أنعم الله عز وجل على الأنبياء والمسلمين والناس جميعاً بتنزه الأنبياء عن أكل الغلول ، وفي الآية نكتة وهي أن الأنبياء إمتنعوا عن أكل الغلول بما هم أنبياء من جوه :
الأول : فوز المسلمين بالثواب العظيم بالإقتداء بالأنبياء في فعل الصالحات وإجتناب السيئات .
الثاني : لا يتحقق أكل الغلول أو الإمتناع إلا عند إجتماع أمور في الغالب , وهي :
أولاً : وقوع القتال بين المسلمين والذين كفروا ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً] ( ).
ثانياً : إنتصار المسلمين في المعركة .
ثالثاً : وقوع غنائم بيد المسلمين سواء كانت قليلة أو كثيرة .
الثالث : فضل الله عز وجل على الناس ببقاء وتجدد مصاديق سنة الأنبياء في الأرض ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الرابع : بيان قانون قرآني متجدد في كل زمان ، وهو أن المسلمين حفظة ميراث الأنبياء ، وأئمة الناس في سبل الهداية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الخامس : إلتقاء والأنبياء المسلمين في إتباعهم مرضاة الله عز وجل ، فصحيح أن الأنبياء أسمى مرتبة في الإسلام والإيمان وأنهم نالوا الشرف العظيم بالنبوة وبذلوا الوسع في الجهاد في سبيل الله إلا أنه يجمعهم مع المسلمين قوله تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ] ( ).
ومن مصاديق إتباع المسلمين للأنبياء التحلي بالصبر وأخلاق التقوى ، قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ).
المسألة الخامسة : تبين آية السياق قانوناً وهو عصمة الأنبياء من الأخذ خلسة من الغنائم وهذه العصمة بفضل ولطف من عند الله عز وجل عليهم وعلى أتباعهم والمسلمين إلى يوم القيامة وهو المستقرأ من قوله تعالى[مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ]( )، ليكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : ليس للنبي أن يغل .
الثاني : لا يقدر أي نبي على أن يغل ويأخذ من الغنائم .
الثالث : إرادة التضاد والتنافي بين النبوة وأكل الغلول، وقد ثبت في الفلسفة عدم إجتماع الضدين .
الرابع : لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الإقتداء بمن هو أسمى منهم مرتبة، وأعلى منهم شأناً، والذين يتلقون الوحي من عند الله عز وجل .
وهل يمكن القول أن الأنبياء يمتنعون عن أخذ الغلول بسلاح الوحي الذي رزقهم الله عز وجل ليقتدي بهم المسلمون.
الجواب نعم، ليكون من معاني قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، وجوه :
الأول : تأسيس الوحي لقوانين في العبادات والمعاملات .
الثاني : بيان الوحي لأحكام الحلال والحرام .
الثالث : تصديق المسلمين بالوحي، مع حرصهم على العمل بمضامينه ، ويكون تقدير الآية أعلاه :
الأول : إن هو إلا وحي يوحى فاتبعوه .
الثاني : إن هو إلا وحي يوحى فاشكروا الله على نعمة الوحي.
الثالث : إن هو إلا وحي يوحى لتثقوا بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يفعل إلا ما هو حق وصدق.
الرابع : إن هو إلا وحي يوحى لتستمعوا له.
لقد ورد في الإصغاء والتدبر في القرآن قوله تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، ويحث القرآن على الإستماع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدليل آية النطق بالوحي أعلاه، وليكون من معاني الرحمة في الآية أعلاه بلحاظ آية السياق والبحث أمور :
الأول : ثناء المسلمين على الأنبياء لصبرهم وجهادهم وعصمتهم من أكل الغلول .
الثاني : تلاوة المسلمين لكل من آية البحث والسياق في الصلاة وخارجها .
وهل هذه التلاوة من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، الجواب نعم، وفيه إعجاز بأن يتلو المسلم آية الصراط أعلاه كل يوم سبع عشرة مرة على نحو الوجوب العيني في الفرائض اليومية الخمسة , فتكون هذه التلاوة على وجوه :
الأول : تلاوة المسلم للقرآن في الصلاة من الرحمة التي تذكرها الآية أعلاه من سورة الأعراف .
الثاني : هذه التلاوة من مصاديق الصراط في قوله تعالى [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ] ( ) .
الثالث : إنها نوع دعاء قرآني يومي , ومن حال الخضوع والخشوع لله عز وجل رجاء إتباع الوحي والذي لا يقود إلا إلى السعادة والغبطة في الدنيا، والنعيم في الآخرة .
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين آية البحث والسياق ما كان لنبي أن يغل ليكون حجة على الذي باء بسخط من الله، وفيه شاهد على رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيانها منهج الأنبياء مع الترغيب فيه، والتحذير من مخالفته .
ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه رحمة من الله، ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وجوه :
الأول : كل آية من القرآن رحمة للعالمين .
الثاني : الجمع بين كل آيتين من القرآن رحمة للعالمين .
الثالث : إفادة الجمع بين آية البحث والسياق الرحمة بالمسلمين والناس جميعاً، فان قلت وهل تشمل الرحمة في آية السياق الذي يسرق من الغنائم .
الجواب نعم من جهات :
الأولى : معرفة قانون وهو تنزه الأنبياء عن أكل الغلول، وفيه دلالة على أن الأخذ خلسة من الغنائم والمال العام أمر قبيح ومكروه , يبعث الحسرة في النفس ، قال تعالى [وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ] ( )، ولو كان خيراً لما سبق أحد الأنبياء إلى فعله واتيانه لقانون إمامة الأنبياء للناس في فعل الخيرات .
الثانية : بعث الشوق في النفوس لمحاكاة الأنبياء فيما يفعلون وما يتركون.
الثالثة : جعل الذي يأخذ الغلول في حال حسرة وأسى لمخالفته سنن الأنبياء، وإدراكه بأن هذه السنن حق، وإن مخالفتها حرام، لقد أراد الله عز وجل للمسلمين إتباع الأنبياء لأن في هذا الإتباع الإحتراز والسلامة والنجاة.
وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث قال : إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن ليتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون فى النار حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر( ).
الرابعة : ذكر سنة الأنبياء الحميدة في إجتناب أكل الغلول دعوة للتوبة لكل من :
الأول : الذي اعتدى على الغنائم قبل القسمة والمال العام .
الثاني : الذي يأمر بالغلول ويحث عليه، لأنه من الأمر بالقبيح .
الثالث : الذي يرتكب السيئات والمعاصي ، ومن إعجاز القرآن مسألتان:
الأولى : يأتي الأمر من الله في فعل فيكون في مفهومه نهياً عن ضده، وسيأتي في هذا الجزء البحث الأصولي : هل الأمر بالأمر نهي عن ضده) .
الثانية : يأتي النهي في القرآن عن فعل , فيبعث المسلمين على إجتنابه وإجتناب ما هو من سنخيته ويشاركه في القبح والضرر، فمثلاً قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً]( )، فانه زاجر عن المعاملات الباطلة والغش في التجارة والبيع والشراء.
وهل تكون الآية أعلاه زاجراً عن أكل الغلول , الجواب نعم لوحدة الموضوع في تنقيح المناط بأخذ مال بغير حق ، وتفضل الله عز وجل بالبيان وذكر النواهي وما حرّمه ومنه أخذ قطعة من الغنائم خلسة، وتدل على لغة العموم في النواهي الشخصية الآية التالية بقوله تعالى[أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ] لإفادتها أمرين :
الأول : الترغيب بالأوامر.
الثاني : بعث المسلم على إجتناب ما نهى الله عنه إذ أن هذا الإجتناب من مصاديق إتباع مرضاة الله بلحاظ أنه أمر وجودي وليس عدمياً .
المسألة السابعة : من معاني وذخائر قوله تعالى[وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]، أمور :
الأول : إحضار الذي يأخذ من الغنائم والمال العام ما غلّه وأخذه معه، وفيه شاهد بأن الله عز وجل لا يغيب عن علمه شيء، وأن كل شيء من الموجود والمعدوم والسابق واللاحق حاضر عنده سبحانه.
وتفضل بآية البحث إنذاراً ووعيداً، وهي بشارة في مفهومها لدلالتها على حضور الأعمال الصالحة مع أهلها من المؤمنين.
وهل يحضر معهم عدم أخذهم من الغنائم والمال العام أم أن القدر المتيقن هو إحضار الأعيان وعالم الأفعال .
الجواب هو الأول، فيغبط المؤمنون أنفسهم على طهارة أيديهم وأفواههم وفروجهم من دنس الغلول، وسلامتهم من لوم أهليهم وذراريهم فلا يتوجه لهم أحد باللوم والحساب والشكوى بخصوص الإطعام من الغلول، لأنهم لم يأخذوا منه ، ولم يدخلوه إلى بيوتهم .
وهل تغبطهم الخلائق على هذا التوفيق وحسن الجزاء , الجواب نعم ، وعن رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم قال (إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء تغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله تعالى .
قيل : يا رسول الله خبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم قال : هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطون بها فوالله إن وجوههم لنور وإنهم على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس – ثم قرأ – { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ] ( ), وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: أولياء الله قوم صفر الوجوه من السهر عمش العيون من العبر خمص البطون من الجوع يبس الشفاه من الذوي وقيل : { لا خوف عليهم } في ذريتهم لأن الله يتولاهم { ولا هم يحزنون } على دنياهم لتعويض الله إياهم في أولادهم وأخراهم لأنه وليهم ومولاهم) ( ).
لذا يمكن تقسيم مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، إلى شعبتين:
الأولى : المصاديق الدنيوية وهي على أقسام:
الأول : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتصديق بها.
الثاني : الأحكام التكليفية التي يشترك بها المسلمون , مع المؤمنين من الأمم السابقة مثل الصلاة , وبخصوص عيسى عليه السلام وحكاية عنه , ورد في التنزيل [وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا] ( ) .
الثالث : حسن إمتثال المسلمين للأوامر الإلهية والتحلي بسنن التقوى ومبادرتهم للإستغفار , قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الرابع : تعاهد المسلمين للعمل بأحكام القرآن حتى بعد إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
الخامس : سعي المسلمين لبلوغ درجة مرضاة الله بالعمل بأحكام القرآن والسنة وهو الذي تدعو إليه آية البحث.
الثانية : المصاديق الأخروية ، وهي على وجوه:
الأول : سلامة المسلمين من الأذى عند الحساب الإبتدائي في القبر من قبل منكر ونكير ، وهما ملكان يحضران الميت عند إدخاله القبر وعليه النص وإجماع المسلمين .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : (إذا قبر أحدكم أو الإنسان ، أتاه ملكان أسودان أزرقان ، يقال لأحدهما : المنكر والآخر : النكير ، فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل محمد ؟ فهو قائل ما كان يقول ، فإن كان مؤمنا قال : هو عبد الله ورسوله ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، فيقولان له : إن كنا لنعلم إنك لتقول ذلك ، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ذراعا ، وينور له فيه ، فيقال له : نم فينام كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك .
وإن كان منافقا قال : لا أدري كنت أسمع الناس يقولون شيئا ، فكنت أقوله ، فيقولان له : إن كنا لنعلم أنك تقول ذلك ، ثم يقال للأرض : التئمي عليه ، فتلتئم عليه حتى تختلف فيها أضلاعه، فلا يزال معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك) ( ).
ولفظ منكر ونكير ثابت في السنة ، وإن رميت بعض الأحاديث بهذا الخصوص بالضعف ولا عبرة بإنكار ابن القيم الجوزي (691-751) هجرية للفظ منكر ونكير لإقراره بسؤال الملكين في القبر .
وأختلف في لفظ منكر على وجهين :
أولاً : منكر بصيغة اسم الفاعل لأنه ينكر أفعال العبد القبيحة.
ثانياً : منكَر بفتح الكاف بصيغة اسم المفعول لأن العبد ينكره وصاحبه فهو لم يرهما ، ولم يعرفهما .
ويحتمل سؤال منكر ونكير وجهين :
الأول : إرادة الناس جميعاً ، ومن كل جيل وطبقة للمسلمين وغيرهم .
الثاني : إختصاص المسلمين بسؤال منكر ونكير ، إذ كان العذاب ينزل على الذين كفروا وجحدوا بنبوة الأنبياء ، فيعذبون وينتقم الله منهم في الدنيا ، كما في قوم نوح وقوم صالح وقوم لوط وقوم هود وغيرهم ، قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ) .
وحينما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) فأنه سبحانه أمسك عنهم العذاب وأمهلهم إلى حين دخول الإسلام القبر فيفتتن بسؤال منكر ونكير لكشف المنافق ، قال تعالى [لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ] ( ).
الثاني : رجاء المسلم بأن يكون قبره روضة من رياض الجنة.
الثالث : بعث المسلمين من القبور وهم موقنون بالبعث.
الرابع : نيل المسلمين مرتبة إنتفاء الخوف والحزن عنهم يوم القيامة، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وأستدل عليه بما ورد من إختصاص الإبتلاء في القبر بأمة محمد إذ ورد عن أبي سعيد الخدري قال (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة فقال: يا أيها الناس ، إن هذه الأمة تبتلى في قُبورها ، فإذا الإنسان دُفِن وتفرَّق عنه أصحابه ، جاءه ملك بيده مِطْراقٌ فأقعده .
فقال: ما تقولُ في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنًا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدًا عبدُه ورسوله . فيقول له: صدقْتَ .
فيفتح له بابٌ إلى النار فيقال: هذا منزلك لو كفرتَ بربّك ، فأما إذْ آمنت به ، فإن الله أبدَلك به هذا. ثم يفتح له بابٌ إلى الجنة ، فيريد أن ينْهَضَ له ، فيقال له: اسكُنْ. ثم يُفْسَح له في قبره.
وأما الكافِر أو المنافق فيقال له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: ما أدري ! فيقال له: لا دَرَيْتَ ولا تَدَرّيتَ ولا اهتديتَ! ثم يفتح له بابٌ إلى الجنة فيقال له: هذا كان منزلك لو آمنت بربك ، فأما إذْ كفرت ، فإن الله أبدَلك هذا .
ثم يفتح له بابٌ إلى النار ، ثم يَقْمَعُه المَلَكُ بالمطراق قَمْعَةً يسمعه خَلْقُ الله كُلهم إلا الثقلين.
قال ، بعضُ أصحابه ، يا رسولَ الله ، ما مِنَّا أحدٌ يقوم على رأسه مَلَكٌ بيده مِطْراق إلا هِيلَ عند ذلك ! .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثَّابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويُضِلُّ الله الظالمين ويفعلُ الله ما يشاء )) ( ).
والمختار هو العموم وسؤال منكر ونكير لكل ميت يدخل القبر سؤالاً إبتدائياً ، ويدل عليه قوله تعالى [وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ] ( ) .والمراد من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إن هذه الأمة تبتلى في قُبورها) بيان قانون وهو عموم سؤال منكر ونكير وعدم إستثناء المسلمين منه ، وأن المنافق الذي لا يعرف الناس سره وإخفائه الكفر يفتتن حال دخول القبر .
و(عن أبي سعيد الخدري : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في هذه الآية [يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ]( )، قال: { في الآخرة } القبر ) ( ).
وسئل الإمام جعفر الصادق عن عذاب القبر فقال ( قال: إن أبا جعفر عليه السلام حدثنا أن رجلا أتى سلمان الفارسي فقال: حدثني، فسكت عنه، ثم عاد فسكت، فأدبر الرجل وهو يقول ويتلو هذه الآية[إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ]( ).
فقال له: أقبل إنا لو وجدنا أمينا لحدثناه، ولكن أعد لمنكر ونكير إذا أتياك في القبر فسألاك عن رسول الله صلى الله عليه واله، فإن شككت أو التويت ضرباك على رأسك بمطرقة معهما، تصير منه رمادا .
فقال الرجل : ثم مه ؟ .
قال : تعود ثم تعذب .
قال سلمان : وما منكر ونكير ؟ .
قال : هما قعيدا القبر .
قال : أملكان يعذبان الناس في قبورهم ؟ فقال: نعم. بيان: قال الجزري: القعيد: الذي يصاحبك في قعودك) ( ) .
إذ وردت تسميتها بالاسم وأنهما فقيدا القبر مطلقاً وليس بخصوص المسلمين .
والمختار أن فتنة القبر وسؤال منكر ونكير للناس جميعاً ، وفي أحاديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوة للمسلمين جميعاً للتهيئ لسؤالها إذ أن شريعته نسخت الشرائع السابقة ليتضمن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فبي تفتنون وعني تسألون) ( ) .
وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين وبيان أن كل إنسان يسأل في قبره عن التوحيد ، وتسأل كل أمة عن رسولها .
فنسأل الله عز وجل لنا ولكم النجاة من ضغطة وفتنة القبر وسؤال منكر ونكير ، ومن فضل الله عز وجل على الناس فتح باب الدعاء لهم في أمور الدنيا , والبرزخ , ويوم القيامة ما داموا أحياء في الدنيا ، وهو من مصاديق الإطلاق في قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
الخامس : الوقوف في مواطن الحساب كالأنبياء بأيادي بيضاء من الغل والغلول.
السادس : فوز المسلمين بالثواب العظيم على النجاة من الأخذ من الغنائم، وهو من الغايات الحميدة لآية البحث والسياق، إذ نزلت فضلا من عند الله لتأديب المسلمين وإصلاحهم بما فيه خير الدنيا والآخرة.
المسألة الثامنة : لقد قسمت الآية التالية الناس إلى قسمين بقوله تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ] ( ) وبين القسمين تضاد وتناف يوم القيامة ، وإن كانوا في الدنيا متجانسين أو متخالطين أو يجمع بينهما الرحم وصلة القربى أو الجوار أو الشركة والمضاربة أو إتحاد المهنة ومحل السكن .
وهذان القسمان هما :
الأول : المؤمنون الذين يعملون بما أمر الله عز وجل .
الثاني : الكفار الذين كثرت معاصيهم وسيئاتهم ، وتنتظرهم النار يوم القيامة ، قال تعالى[وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا]( ).
وعن أنس بن مالك : أن رجلا قال: يا رسول الله، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة، فقال: “إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يُمشِيَه على وجهه يوم القيامة( ).
فهل الذي يأخذ الغل من القسم الأول أعلاه أم من القسم الثاني .
والمختار أن أخذ المسلم الغلول لا يخرجه عن الإيمان، أو ينزع عنه صفته .
ويذكر بعض علماء التفسير بخصوص [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ] ما يدل على أن المراد منه هو البيان والتفصيل لخصوص آية البحث ، وأما الذي يفوز برضوان الله فهو الذي لا يغلل .
والذي يبوء بسخط من الله هو الذي يأخذ الغلول (وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله { أفمن اتبع رضوان الله } يعني رضا الله فلم يغلل في الغنيمة { كمن باء بسخط من الله } يعني كمن استوجب سخطاً من الله) ( ).
والمختار أن الآية أعم في موضوعها ودلالتها ، ومن الإعجاز أنها تبعث المسلمين على التنزه عن أكل الغلول ، وتدعو المسلمين إلى السعي إلى مرضاة الله عز وجل في العبادات والمعاملات ، وتزجرهم كل يوم عن أخذ الغلول والسرقة من المال العام ، ليكون من إعجاز القرآن أمور :
الأول : النهي عن الفعل القبيح المتحد تنمية لملكة إجتناب السيئات والفواحش عند المسلمين .
الثاني : بيان ترتب شدة العذاب على فعل السيئات .
الثالث : تفقه المسلمين في الدين ، وجعلهم يستحضرون الصيغة الشرعية للفعل، وإتصافه بأحد وجوه الأحكام التكليفية الخمسة قبل وأثناء الشروع فيه، فان قلت أما قبل الشروع فنعم , للتوقي من السيئات , وعدم إقتحام الشبهات ، فما فائدة هذا الإستحضار بعد الشروع والتلبس في الفعل الحرام.
والجواب إرادة أمور :
الأول : التدارك والتوقف عن الإستمرار في الفعل السيء.
الثاني : الإستغفار والانابة، وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب( ).
الثالث : الإحتراز في قادم الأيام .
الرابع : قيام المسلم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسعي لنجاة غيره مما وقع فيه، وهل يشمل هذا الأمر والنهي صدورهما من الابن لأبيه , مثلما هو العكس .
الجواب نعم، فليس من حواجز أو حدود في الأمر والنهي، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
وقد تقدم في الجزء السابق قانون ( الآية القرآنية واقية وعلاج بالطاقة الإيجابية ) ( ).
وهل تبعث الآية التالية [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ] ( ) النفرة في نفوس المسلمين من المجاهد الذي يسرق من الغنائم ، الجواب لا ، ولكن تأتي النفرة لخصوص فعل الغلول والأخذ خلسة من الغنائم , وليس لذات المجاهد ، وفي التنزيل[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية القرآنية أنها ترّغب بالأمر الوارد من عند الله ، وتبعث الكره والنفرة في النفوس من السيئات والمعاصي .
وهل الترغيب والنفرة أعلاه من مصاديق التبيان في قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) أم أن كلاً منهما كيفية نفسانية خاصة.
الجواب هو الأول ، لتأكيد قانون وهو أن القرآن كتاب سماوي جامع وكاشف للأحوال الظاهرة والخفية ، ويدل قوله تعالى [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ] ( ) على أن الله عز وجل يعلم حال التقوى وتقلبها وتبدلها .
ومن لطفه سبحانه أنه لا يجعل المؤمن ينفرد بنفسه أو العكس ، أي لا يجعل النفس تأمر صاحبها بما تشتهي ، قال تعالى [إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ] ( ).
ليفيد الجمع بين الآيتين أن الإيمان هو سبيل النجاة من إستحواذ النفس الشهوية والغضبية على الإنسان ، ومن بعثها صاحبها على أخذ الغلول والسرقة من المال العام خلسة .
وهل يمكن تأسيس قانون وهو : كل آية قرآنية تأمر المسلم بالأمانة وتنهاه عن الأخذ من الغنائم والمال العام خلسة ، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في الصلة بين آيات القرآن والحاجة إليها كعلم توليدي تتفرع عنه العلوم والدراسات ، وبلحاظ آية الغلول وجوه :
الأول : تنهي كل آية من القرآن في منطوقها عن الغل والسرقة من الغنائم .
الثاني : دلالة الآية القرآنية في مفهومها على لزوم الأمانة والتنزه عن أكل الغلول .
الثالث : تدل كل آية على لزوم الإبتعاد عن أكل الغلول سواء في المنطوق أو المفهوم.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من وجوه الإعجاز القرآني , وموضوعية كل آية من القرآن في البعث للعمل بمضامين آيات القرآن الأخرى، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( )، بلحاظ أن كل آية قرآنية تهدي إلى العمل بأحكام آيات القرآن الأخرى.
المسألة التاسعة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين ما كان لنبي أن يغل ) وفيه وجوه :
الأول : يمكن تأسيس قانون وهو أن الدنيا (دار المنّ) وكل نعمة فيها هي منّ من عند الله ومن أسمائه تعالى ( المنان ) .
(عن أبي الدرداء ، قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بنا العصر في يوم جمعة إذ مرّ بهم كليب فقطع عليهم الصلاة فدعا عليه رجل من القوم فما بلغت رجله حتى مات.
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال : من الداعي على هذا الكلب آنفا ؟ ، فقال رجل من القوم : أنا يا رسول الله ، قال : والذي بعثني بالحق لقد دعوت الله باسمه الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ، ولو دعوت بهذا الاسم لجميع أمة محمد أن يغفر لهم لغفر لهم .
قالوا : كيف دعوت.
قال : قلت : اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض ، ذا الجلال والإكرام ، اكفنا هذا الكلب بما شئت وكيف شئت . فما برح حتى مات) ( ).
أما اسم الحنّان فقد أختلف فيه ، فالذي قال بأن أسماء الله توقيفية والمدرك هو الكتاب والسنة ، فذهب إلى أن المنّان ليس من أسماء الله لأنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة ، أما الذي قال بالإسشتقاق وصيغ الصرف فذهب إلا أنه من أسماء الله ، وورد (يا حنّان يا منّان ) ولعله إشتقاق من قوله تعالى [وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا]( ).
والمختار هو أن الحّنان من أسماء الله عز وجل .
وما يطلق في الثناء والمدح لله تعالى على وجوه :
الأول : الاسم مثل : اسم الجلالة ومثل[وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ) [هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ]( ) وهم إسمان مشتقان من الرحمة والملك .
وقد يكون الاسم مطلقاً أو مقيداً ، وأسماء الله هي التي تدل على الذات الإلهية .
أما الصفات فأنها تدل على صفات الكمال للذات الإلهية ولا تدل على ذات الله عز وجل .
والصفات أعم وأوسع ، وكل اسم لله عز وجل يدل على صفة ، ولكن ليس كل صفة تدل على اسم .
وتقسم مباحث صفات الله إلى أقسام : منها إثبات الصفات والتي تسمى الصفات المثبتة مثل الحياة والمشيئة والعفو والرحمة ، قال تعالى [كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] ( ) .
والقدرة المطلقة ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) .
ومنها تنزيه الله عز وجل عن صفات النقص مثل الموت فالله عز وجل حي لا يموت ، وعالم لا يفوته شيء ، وفي التنزيل [وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا] ( ).
كما قسمت صفات الله إلى قسمين :
الأول : الصفات الذاتية التي تتعلق بذات الله عز وجل .
الثاني : الصفات الفعلية التي تخص مشيئة الله وقدرته ، وليس من حصر لها ، وهو سبحانه لا تستعصي عليه مسألة، وفي التنزيل [إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ]( ).
وتدل الآية أعلاه على أن أفعال الله عز وجل متصلة ومتجددة ليس لها حد أو منتهى .
المسألة العاشرة : تقدير الجمع بين الآيتين ( لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ما كان لنبي ان يغل) وكل آية من القرآن نعمة ومنّة من عند الله عز وجل على المسلمين وأهل الكتاب والناس جميعاً من جهات :
الأولى : الآية القرآنية كلام الله عز وجل .
الثانية : كل آية رحمة من الله تتغشى بركاتها الناس ، فلكل آية قرآنية وتكون بركات آية البحث على وجوه :
الأول : المضامين القدسية لآية البحث .
الثاني : تنمية حب الأنبياء في نفوس المسلمين ، وإكرامهم وإجلالهم والإعتراف بفضلهم .
الثالث : إتعاظ المسلمين من آية البحث، وإستحضارهم لها في حال الإبتلاء بمسألة تخص المال العام، أو مال الغير من باب الأولوية القطعية، فيدرك المسلم أن آية البحث تفيد النهي عن الأخذ من المال الذي له حصة فيه سواء تم إحصاؤه وتوثيقه أو لم يتم إحصاؤه بعد كما في الغنائم أثناء الإستيلاء عليها أو جمعها .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إقرار وتسليم كل مسلم ومسلمة بأن الله عز وجل أحصى الغنائم وغيرها، قال تعالى في الثناء على نفسه [وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا]( ).
الرابع : بعث آية البحث المسلمين على النقوى، والخشية من الله عز وجل في عالم الغيب .
الخامس : بيان آية البحث لعظيم صنع الله وقدرته المطلقة، فمع التباعد الزماني بين فعل الذي يغل ويوم القيامة والإختلاف النوعي بين الحياة الدنيا والآخرة فان الله عز وجل يحضر ذات الغل والعين المسروقة مع صاحبها، لا تفارقه وان أراد هو الإعراض عنها، أو تركها , وهناك مسألتان :
الأولى : إذا توجه المسلم الذي غلّ بالدعاء وهو في مواطن يوم القيامة بان يمحو الله عنه أمر الغل، أو يبعد عنه العين المغلولة كيلا يفتضح بين الخلائق فهل تستجاب دعوته .
الثانية : هل من شفاعة في مسألة أخذ الغلول وهل تشمل الشفاعة إزالتها ورفعها وثقلها عن صاحبها .
أما الأولى فان الآخرة دار حساب من غير عمل، ولكن دعاء المسلم في المقام ليس من الأمر المحظور لأنه إنشغل بالصلاة والدعاء في الدنيا فقد يأذن له الله عز وجل بالدعاء في الآخرة , وفي التنزيل[يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا]( ).
أما الإستجابة له فهو أمر من مشيئة الله عز وجل، وفي التنزيل[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( )، وحتى على فرض الإستجابة فانها لا تتعارض مع مضامين آية البحث فمن الإعجاز فيها أنها تخبر عن إحضار الذي غلّ وسرق من الغنائم بما أخذ منها يوم القيامة، ولم تذكر أموراً :
الأول : ما بعد إحضار الغل .
الثاني : الحساب على الغلول .
الثالث : الجزاء على أخذ الغلول .
الرابع : ضرر الغلول على صاحبه لبيان فضل الله عز وجل على المسلمين في الدنيا والآخرة وتأكيد مصداق من رحمة الله عز وجل يوم القيامة (وأخرج أحمد ومسلم عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن لله مائة رحمة ، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق ، وبها تعطف الوحوش على أولادها ، وأخر تسع وتسعون إلى يوم القيامة ( ).
فان قلت قد ورد في السنة النبوية ما يفيد شدة بؤس وحال الذي غلّ وعدم إنقطاع الأمر باحضاره الغلول، إذ ورد عن بريدة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنَّ الْحَجَرَ لَيُرْمَى بِهِ، جَهَنَّمَ فَيَهْوِي سَبْعِينَ خَرَيِفًا مَا يَبْلُغُ قَعْرَهَا، وَيُؤْتَى بِالْغُلُولِ فَيُقْذَفُ مَعَهُ”، ثم يُقَالُ لَمَنْ غَلَّ ائْتِ بِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ[ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( ).
والجواب هذا صحيح ولكن الله عز وجل يغفو ويستر , وفي التنزيل [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، لذا يمكن تقدير وتتمة الحديث : ثم يقال لمن غلّ أئت به إلا أن يمحوه الله.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا إسلال ولا غلول { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة}( ).
والمراد من الإسلال في الحديث أعلاه وجوه :
الأول : الخيانة ، قال الخليل بن أحمد : لا إسلال ولا إغلالَ ” أي: لا خيانة ولا سرقة ( ).
الثاني : السرف : ويقال : إنّ في بني فلان سِلّة، أي: سَرَف ( ).
الثالث : الأسَلال بالفتح السرقة كما في عهد الحديبية( ) .
إذ أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام أن يكتب شروط صلح الحديبية ، وعندما إحتج ممثل كفار قريش سهيل بن عمرو على لفظ : هذا ما عاهد رسول الله ، لم يقف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الأمر مع أنه رسول الله حقاً وصدقاً .
وقال : اكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض .
على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه، وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.
فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده.
وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم.
وإنك ترجع عامك هذا فلا تدخل علينا مكة، وإنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك فأقمت بها ثلاثا، معك سلاح الراكب: السيوف في القرب لا تدخلها بغيرها.) ( ).
ولم يحتج المسلمون على هذا الصلح الذي فيه تعطيل للغنائم من قريش ومن والهم لعشر سنوات مما يدل على أنهم لا يطمعون بها ، إنما يريدون نشر لواء التوحيد ، وتثبيت سنن الشريعة في الأرض .
وهل إنقطعت الغنائم بعد صلح الحديبية الجواب لا ، وهو من الإعجاز في تجدد وإتصال موضوع ومصداق آية البحث وحاجة المسلمين لها ، ولزوم إحترازهم من الغلول والتعدي على المال العام قبل قسمته .
وهل يمكن إحتساب صلح الحديبية من ثمرات إمتناع المسلمين عن الغلول ، الجواب نعم ، لما في هذا الإمتناع من أمور :
الأول : تعاهد المسلمين لمفاهيم الأخوة الإيمانية ليكون ميدان القتال من أبهى مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
الثاني : بعث روح التفاني والتضحية من قبل المسلمين في ميادين القتال .
الثالث : قذف الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا إذ يرون إتحاد وتآزر المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( ).
الرابع : بعث اليأس في نفوس المنافقين والفاسقين وجعلهم عاجزين عن محاولة إغواء الذين آمنوا , وبعثهم على الطمع في أمور الدنيا وزينتها ، لتكون هناك موضوعية لإمتناع المسلمين عن أكل الغلول في إجتناب التشبه بالكفار في تحريضهم على عدم الضرب في الأرض والدفاع عن الإسلام ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا] ( ).
الرابع : المراد من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا اسلال ولا غلول، قال بعض المحدثين: قوله : لا إغلال – أراد لُبس الدُّروع ولا إسلال – أراد سَلَّ السيوف، ولا أدري ما هو ولا أعرف له وجهاً ( ).
الثالثة : الآية القرآنية نهج قويم ، وهي من مصاديق الصراط في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
الرابعة : توجه الآية بالخطاب إلى أرباب العقول لذا تكرر في التنزيل الثناء عليهم ، قال تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( )فان قلت يأتي هذا الوصف خاصاً بالمسلمين والجواب هذا صحيح فتارة يأتي للمسلمين وتارة يكون نداء عاماً للناس لجذبهم إلى الإيمان , ولإقامة الحجة عليهم بأن منّ الله عليهم بالعقل ليكون سبيل هداية وتفكر وواقية من الكفر ومفاهيم الضلالة وعاقلاً وزاجراً للإنسان عن فعل السيئات .
وعن الإمام علي عليه السلام (إن أول خلق خلقه الله عزوجل العقل فقال له: أقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فأدبر، وقال وعزتي وجلالي ماخلقت خلقا هو أحب إلي منك، بك آخذ وبك
اعطي، وبك اثيب) ( ).
وهل يمكن تقسيم أولي الألباب إلى قسمين :
الأول : المؤمنون لهدايتهم ورشادهم .
الثاني : الكفار لأنهم أصحاب عقول بالخلقة .
الجواب لا ، إنما معنى أولي الألباب الذي سخّروا عقولهم في طاعة الله ، ويدل على التباين بينهم الآية التالية [ أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ ..] ( ) أي اتبع المؤمن رضوان الله بعقله ، والذي باء أي رجع بسخط وغضب من الله بأتباع الهوى وترك فعل الخيرات .
لذا فمن الإعجاز ذكر آية السياق بأن المنّ من عند الله على المؤمنين ، وهل يختّص المنّ والإحسان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤمنين.
الجواب لا ، لأن القرآن يفسر بعضه بعضاً ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ويفيد الجمع بين آية السياق والآية أعلاه أن المنّ من عند الله ببعثه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الناس جميعاً ، ، ولكن المؤمنين إنتفعوا منه الانتفاع الأمثل .
فيكون الجامع المشترك بين المسلمين وغيرهم الرحمة والمنّ ولكن المؤمنين أدركوا هذه النعمة وشكروا الله عليها بأتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأداء الفرائض والواجبات العبادية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ] ( ).
ويمكن أن يقال بين المنّ من عند الله على المسلمين والمنّ على الناس عموم وخصوص مطلق ، فالمن على المسلمين هو الأكثر والأعظم ، وهو شامل للحياة الدنيا والآخرة ، ومن وجوه المنّ بلحاظ آية البحث أمور :
الأول : ورود قصص الأنبياء في القرآن هدى للمسلمين والمسلمات .
الثاني : آية البحث منّ من عند الله على المسلمين من جهات :
الأولى : نزول آية البحث .
الثانية : لغة البيان في آية البحث .
الثالثة : إخبار آية البحث عن قانون قبح الغلول في الدنيا والآخرة .
وأيهما أشد قبحاً وضرراً ، الجواب إنه في الآخرة لذا جاء البيان في الآية بما يبعث النفرة من الغلول بقوله تعالى [وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( ).
ويحتمل الإتيان بالغلول بقوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]وجوهاً :
الأول : المراد الحقيقة وأن الذي يسرق من الغلول يأت به على نحو الحقيقة بحمله على ظهره ، متأذياً من ثقله يشعر بالإستحياء لظهور خيانته على رؤوس الأشهاد .
الثاني : إرادة إعجاز القرآن , وان المراد من الآية هو خشية وهمّ الذي غلّ يوم القيامة من الحساب بسببه .
الثالث : التفصيل ، فمنهم من يأت بالغل على نحو الحقيقة وإحضاره لذات الغلول الذي سرقه , ومنهم من يخفيه عنه الله عز وجل ويكون إحضاره للغلول بالهم به أو كتابته في صحيفة أعماله ، قال تعالى [اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا] ( ). والصحيح هو الأول أعلاه لوجوه :
الأول : أصالة الحقيقة .
الثاني : حمل الكلام على ظاهره إلا مع القرينة الصارفة وهي معدومة في المقام .
الثالث : عدم استعصاء مسألة على الله عز وجل .
الرابع : ورود الآيات والنصوص التي تدل على حضور الناس وعالم أفعالهم يوم القيامة .
الخامس : كشف حقائق يوم القيامة عن الغزو والدفاع , وأضرار الغلول على المسلمين ، وانتفاع أجيالهم من السلامة منه والتنزه عنه .
ويريد الله عز وجل في آية البحث بيان دليل في يوم القيامة على كون المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بتنزههم عن أكل الغلول ولا عبرة بالقليل النادر .
وآية البحث مقدمة لنصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] ( ) فتحمل آية البحث على إصلاح المسلمين في كل زمان لحضورهم يوم القيامة وليس على ظهورهم أثقال الغلول .
وأيهما أكثر ثقلاً ووطأة الغلول أم منع الزكاة ، الجواب هو الثاني لما فيه من المعصية وحجب حق الله وحق الناس ، وليس من جهاد وقتال في المكان كالذي يأخذ الغلول الذي هو عرض واقعة طارئة .
أما منع الزكاة فهو حال قد يتجدد كل سنة , وعقوبته شديدة وتنبسط على أفراد الزمان والعوالم الطولية المختلفة على أقسام :
الأول : البلاء في الدنيا للذين يمنعون الزكاة , ومنه حبس القطر عنهم ، وفيه نصوص عديدة ،(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :خمس لخمس قالوا : يا رسول الله وما خمس لخمس؟
قال : ما نقض قوم العهد إلاّ سلّط عليهم عدوّهم،
وما حكموا بغير ما أنزل الله إلاّ فشا فيهم الفقر،
وما ظهرت فيهم الفاحشة إلاّ فشا فيهم الموت،
ولا طفّفوا الكيل إلاّ منعوا النبات وأخذوا بالسنين،
ولا منعوا الزكاة إلاّ حبس عنهم القطر) ( ).
والسنين الجوع والفقر ، فان قلت إذا كان قوم وأهل قرية أو بلدية على قسمين ، فريق منهم يؤدون الزكاة ويتقيدون بشرائطها وإخراجها وإيصالها إلى مستحقيها ، وفريق يمتنع عن دفعها فهل يحبس عنهم القطر .
الجواب لا ، إنما ينتفع الجميع من بركة المؤمنين الذين يدفعون ما يعلم من الزكاة والخمس والحقوق الشرعية الأخرى ، ليكون من فضل الله عز وجل نجاة المسلمين من الشح والهلكة بالجوع والفقر وإن قصّر فريق منهم بواجب دفع الزكاة إذا كانت مفروضة عليه, ومتعلقة بماله .
و(عن أنس بن مالك أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر صلى سُبْحَة الضحى ثماني ركعات. فلما انصرف قال: إني صليت صلاة رغبة ورهبة، سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألته ألا يبتلي أمتي بالسنين، ففعل. وسألته ألا يظهر عليهم عدوهم، ففعل. وسألته ألا يَلْبِسَهُم شيعًا، فأبى عليّ)( ).
وفي آية البحث أمور :
الأول : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعمة بذاتها وبمناهج الرسالة الخاتمة والناسخة ، منها فتح باب الدفاع عن الإسلام ومجئ الغنائم ، (عن أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أعطيت ما لم يعط أحد من أنبياء الله : قلنا يا رسول الله ما هو، قال : نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل لي تراب الأرض طهوراً ، وجعلت أمتي خير الأمم) ( ).
الثاني : بيان الملازمة بين العمل في الدنيا والحساب في الآخرة على ذات العمل , قال تعالى [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا]) ( ).
الثالث : تنزه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الغلول: وتقدير الجمع بين آية البحث وآية السياق : لقد منّ الله عز وجل على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً ما كان له أن يغل ، لبيان قانون من جهات :
الأولى : يمنع الله المسلمين من فعل مخصوص، وقد جعل الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الأسوة في إحتسابه ، بدليل قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] ( ) .
الثانية : بيان صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الذين ظنوا أنه أخذ قطيفة حمراء فُقدت يوم معركة بدر ، مع أنهم انتصروا ببركة وجوده ونبوته ودعائه ونزول الملائكة لنصرته .
الثالثة : حث المسلمين على الشكر لله عز وجل لسلامة وتنزه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أخذ قطعة من الغنائم خفية .
الرابعة : وجوب تأسي وإقتداء أمراء السرايا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل يصح تقدير الآية أعلاه على وجوه :
أولاً : ليس للنبي أن يغل .
ثانياً : يحجب الله عز وجل النبي عن الغلول .
ثالثاً : يجعل الله عز وجل الغلول أمراً ممتنعاً على النبي .
الجواب نعم , ولو همّ النبي بالغلول يحول الله عز وجل دونه ودون هذا الهم ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ] ( ) بتقريب وهو أن الله عز وجل يرحم النبي والناس أي نبي من الأنبياء عن الهم بأخذ الغلول ، وهو من مصاديق الإصطفاء والإختيار ، قال تعالى [قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى أَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ] ( ).
المسألة الحادية عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين وما كان لنبي أن يغل إذ بعث الله في المؤمنين رسولاً من أنفسهم .
لقد إبتدأت الدعوة الإسلامية على نحو شبه سري ، وبالخفاء من الملأ من قريش الذين لا يريدون هدم الأصنام ونقص عبادة الأوثان ، ومع بداية البعثة النبوية فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم سالم ومنزه من الغل والسرقة من المال العام .
ومن الآيات في المقام أنه إشتغل في شبابه وقبل البعثة في التجارة ، وخرج إلى الشام في مال خديجة فأعجبتها أمانته وصدقه ، وتحدثت قريش عن هذه الأمانة وسمي (الصادق الأمين) لبيان مقدمة جلية لسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الغل في المال العام والخاص ، وتلك آية في أخلاق النبوة وسنخية الأنبياء.
وقد أثنى الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، وقد نال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه المرتبة من الأخلاق الحميدة بفضل ولطف من عند الله عز وجل، لذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: أدبني فأحسن تأديبي) ( )، فسبحان الله يصلح النبي لمرتبة الكمالات الإنسانية ثم يثني عليه لبلوغها، ولو دار الأمر في الآية أعلاه بين وجوه:
الأول : إقتران بلوغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة الخلق العظيم بالبعثة لعدم ثبوت الإستصحاب القهقري لما قبل النبوة.
الثاني : مصاحبة الخلق العظيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أيام حياته وقبل وبعد البعثة النبوية.
الثالث : التدرج والترتيب وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ذا أخلاق حسنة قبل النبوة ولكنه لم يبلغ مرتبة الخلق العظيم إلا بعد البعثة النبوية.
والمختار هو الثاني أعلاه لوجوه:
الأول : أصالة الإطلاق في فضل الله عز وجل، إذ أنه سبحانه يهب بالإثم والأكمل والأحسن، وفي خطاب إلى النبي محمد صلى عليه وآله وسلم قال الله تعالى[وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا]( ).
الثاني : وصف الكتب السابقة بأخلاقه الحميدة وإخبارها عن تسميته بالأمين الصادق وفي سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي: ثم رايت السماء مفتوحة و اذا فرس ابيض و الجالس عليه يدعى امينا و صادقا و بالعدل يحكم و يحارب وعيناه كلهيب نار و على راسه تيجان كثيرة و له اسم مكتوب ليس احد يعرفه الا هو وهو متسربل بثوب مغموس بدم و يدعى اسمه كلمة الله والاجناد الذين في السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض لابسين بزا ابيض و نقيا( ) ومن فمه يخرج سيف ماض لكي يضرب به الامم و هو سيرعاهم بعصا من حديد و هو يدوس معصرة خمر سخط و غضب الله القادر على كل شيء
وله على ثوبه و على فخذه اسم مكتوب ملك الملوك و رب الأرباب ورأيت ملاكا واحدا واقفا في الشمس فصرخ بصوت عظيم قائلا لجميع الطيور الطائرة في وسط السماء هلم اجتمعي الى عشاء الاله العظيم
لكي تأكلي لحوم ملوك و لحوم قواد و لحوم اقوياء و لحوم خيل و الجالسين عليها و لحوم الكل حرا و عبدا صغيرا و كبيرا ورأيت الوحش و ملوك الارض و اجنادهم مجتمعين ليصنعوا حربا مع الجالس على الفرس و مع جنده
فقبض على الوحش و النبي الكذاب معه الصانع قدامه الآيات التي بها اضل الذين قبلوا سمة الوحش و الذين سجدوا لصورته و طرح الاثنان حيين الى بحيرة النار المتقدة بالكبريت والباقون قتلوا بسيف الجالس على الفرس الخارج من فمه و جميع الطيور شبعت من لحومهم)( ).
وكأن البشارة تشير إلى أبي جهل والسبعين من كفار قريش الذين قتلوا في معركة بدر وإلى النبي الكذاب المذكور أعلاه هو مسيلمة الكذاب.
الثالث : دلالة الوقائع والأحداث على صدق وأمانة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد عجز أعداؤه عن نعته بالكذب أو الخيانة منذ صباه وكان زاهداً في الدنيا ويتحلى بالفضائل، وكانت هاتان الخصلتان سبباً لزواجه من خديجة الكبرى إذ كانت امرأة تعمل التجارة وكانت ذات شرف وعندها مال كثير ولا يعني هذا أنها تزاول البيع والشراء بنفسه، ولكنه تبعث المال مع تجار قريش، أو تستأجر الرجال، أو تدفع لهم من الأرباح على نحو المضاربة وكان كثير من بيوتات قريش على هذه الطريقة، فمثلاً لما جاء أبو سفيان بالقافلة من الشام في السنة الثانية للهجرة وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لإعتراضه كان مع أبي سفيان ألف من العير محملة بالبضائع، قال تعالى[وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ).
وعن ابن عباس في الآية أعلاه قال: أقبلت عير أهل مكة من الشام فبلغ أهل المدينة ذلك ، فخرجوا ومعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد العير .
فبلغ أهل مكة ذلك فخرجوا فأسرعوا السير إليها لكي لا يغلب عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان الله عز وجل وعدهم إحدى الطائفتين ، وكانوا أن يلقوا العير أحب إليهم وأيسر شوكة وأخصر نفراً .
فلما سبقت العير وفاتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين يريد القوم ، فكره القوم مسيرهم لشوكة القوم .
فنزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة ، فأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ فوسوس بينهم ، يوسوسهم تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون مجنبين ، وأمطر الله عليهم مطراً شديداً فشرب المسلمون وتطهروا ، فأذهب الله عنهم رجز الشيطان واشف الرمل من إصابة المطر ، ومشى الناس عليه والدواب فساروا إلى القوم ز
وأمد الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة عليهم السلام ، فكان جبريل عليه السلام في خمسمائة من الملائكة مجنبة ، وميكائيل في خمسمائة من الملائكة مجنبة ، وجاء إبليس في جند معه راية في صورة رجال من بني مدلج ، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم .
فقال الشيطان للمشركين { لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم }( ) فلما اصطف القوم قال أبو جهل : اللهم أولانا بالحق فانصره . ورفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه فقال : يا رب إن تهلك هذه العصابة في الأرض فلن تعبد في الأرض أبداً .
فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب فأرم به وجوههم ، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة فولوا مدبرين ، وأقبل جبريل عليه السلام فلما رآه إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين ، انتزع إبليس يده ثم ولى مدبراً وشيعته .
فقال الرجل : يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال : إني أرى ما لا ترون ، إني أخاف الله والله شديد العقاب ، فذلك حين رأى الملائكة )( ).
وكانت قريش تتصف بالعمل بالتجارة ، والذي لا يزاول التجارة منهم ليس له شأن ، كما تمارس بعض النساء التجارة بواسطة الزوج او الابن أو الأخ أو الغلمان ، ومنهن خديجة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يسمى في مكة إلا بالأمين لما تجلت عنده من خصال حميدة ، ومن صفات التجارة أنهم وفي كل زمان يتبادلون الحديث بخصوص العاملين معهم ، وكيفية تصرفهم وأحوالهم الخاصة ، ونسبهم ومدى الوثاقة بهم والإطمئنان لهم ومكة كلها تعمل بالتجارة ، فشاع بينهم أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أمين صادق .
وعن نفيسة( ) بنت منية أخت يعلى (قالت لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسا وعشرين سنة وليس له بمكة اسم إلا الامين لما تكاملت فيه من خصال الخير قال له أبو طالب يا ابن أخى أنا رجل لا مال لى وقد اشتد الزمان علينا وألحت علينا سنون منكرة وليس لنا مادة ولا تجارة وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام وخديجة بنت خويلد تبعث
رجالا من قومك في عيرانها فيتجرون لها في مالها ويصيبون منافع فلو جئتها فوضعت نفسك عليها لاسرعت اليك وفضلتك على غيرك لما يبلغها عنك من طهارتك وان كنت لاكره أن تأتى الشام وأخاف عليك) ( ).
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلعلها ترسل إلي وتطلب مني الخروج بتجارتها وهل هذا القول من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شعبة من الوحي الجواب لا دليل عليه ، إذ كان عمره خمساً وعشرين سنة ، ولم يبعث إلا في سنّ الأربعين ، ولكنه من مقدمات النبوة والشواهد على عموم الإلهام والعزة ، ثم ما دام الناس يسمونه بالصادق الأمين فأنها وغيرها يرغبون في عمله معهم ، وقيامه يأخذ بضاعتهم والى الشام ورد أبو طالب قائلاً (إنى أخاف أن تولى غيرك فتطلب أمرا مدبرا فافترقا( )) ( ).
أي ان الفرص تضيع بالإنتظار والرجاء والإحتمال ، فلابد من السعي إلى مواطن الرزق .
ولكن الله عز وجل غمر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بفضله وشاء أن يكون مال خديجة مادة لرفع قواعد في الإسلام إذ بلغ خديجة ما جرى من حوار بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعمه أبي طالب إلى جانب ما شاع بين الناس من أمانة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدق حديثه وحسن خلقه ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( )أي ان هذا الخلق يهيئ مقدمات البعثة وأسباب نشر الإسلام وما يلزمه من الأموال فسرت وإستبشرت خديجة (فقالت ما علمت أنه يريد هذا ثم أرسلت إليه فقالت إنه دعاني إلى البعثة اليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك وأنا أعطيك ضعف ما أعطى رجلا من قومك ففعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولقى أبا طالب فذكر له ذلك فقال ان هذا لرزق ساقه الله اليك) ( ).
وبعثت معه غلامها ميسرة ، وهل كان من وظائف ميسرة الرصد والرقابة على كيفية بيع وشراء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كأكثر التجار إذ يشددون في الحرص والمتابعة ويدب لهم الشرك أم أنها إطمئنت له لإطباق الناس على أمانته .
الجواب هو الثاني ، وهذا الغلام لإعانته وخدمته ، فحينما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخروج إلى الشام أخذ أعمامه يوصون به أهل العير .
ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن بشارات النبوة تسير معه ، ويدركها الناس ، فحينما قدم بصري ، وهي مدينة بالشام (من أعمال دمشق وهي قصبة كورة حَوران ومشهورة عند العرب قديماً وحديثاً ذكرها كثير في أشعارهم، قال أعرابي:
أيا رُفقةً من آل بُصرَى تحملوا … رسالتنا لقيتِ من رُفقة رشدَا
إذا ما وَصَلتم سالمين فبلغوا … تحية من قد ظن أن لا يرى نجدا
وقولا لهم ليسى الضلالُ أجازنا … ولكننا جُزنا لنلقاكُمُ عمدا
وإنا تركنا الحارثي مكبلا . بكبل الهوى من ذكركم مضمراً وجدا ( ) ولم يبق منها إلا الاطلال والآثار وتعاقبت عليها حضارات وتبعد عن مدينة دمشق (140) كم وعن مدينة درعا (40) كم وعمرّت حديثاً لإستقبال الزوار وبيع التحف والهدايا لهم .
ونزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ظل شجرة تقع بالقرب منها صومعة لراهب إسمه فسطورا ، فاطلع الراهب ورآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأل ميسرة وكان يعرفه يا ميسرة وكان يعرفه : يا ميسرة من هذا الذي نزل تحت الشجرة ، فقال ميسرة : إنه رجل من قريش من أهل الحرم ، فقال الراهب ، ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي أي أن الراهب رآي علامات تدل على النبوة ، ثم قال : في عينيه حمرة ، قال نعم .
قال الراهب : هو متأخر الأنبياء ، وبالبيت أني أدركه حين يؤمر بالخروج .
وسرعان ما باع النبي بضاعته وأشترى غيرها ، وصارت شواهد أخرى ، ولما رجعا إلى مكة ، كانت خديجة في علية لها ومعها نساء فيهن نفيسة بنت منية التي تروى الخبر فرأت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين دخل وهو راكب على بعيره وملكان يظلانه فأرتد نساءها فعجبن منه .
ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرها بالربح الوفير فسرت ، إذ انها ربحت ضعف ما كانت تربح ، فضاعفت له ، ثم ذكر لها ميسرة الوقائع وما شاهده من المعجزات والبينات فعرضت نفسها عليه ليتزوجها .
لقد كانت أمانة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شبابه شاهداً على قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] ( ) فاذا كان لم يسرق ولم يكذب ولم يخن ولم يغدر في شبابه وقبل بعثته فمن باب الأولوية القطعية أنه لا يغل أبداً بعد البعثة والرسالة .
وهل يحتمل تقدير الآية : ما كان لنبي أن يغل قبل النبوة أو بعدها ، أم أن القدر المتيقن هو سلامة النبي من الغل بعد النبوة ، خصوصاً وأنه ليس من غنائم تلاقي النبي قبل بعثته في الغالب .
المختار هو الأول ، وأن كل نبي منزه عن الغل قبل وبعد نبوته لوجوه :
الأول : أصالة الإطلاق في مضامين آية البحث ،وهل تنزه الأنبياء عن أكل الغل والأخذ خلسة من الغنائم من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ] ( ) .
الجواب نعم ، وهو من الآيات في إصلاح الأنبياء لمنزلة الإمامة والأسوة ، (عن أبي أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : خلق الله الخلق وقضى القضية ، وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء ، فأخذ أهل اليمين بيمينه وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى – وكلتا يدي الرحمن يمين – فقال : يا أصحاب اليمين . فاستجابوا له ، فقالوا : لبيك ربنا وسعديك . قال { ألست بربكم قالوا بلى } ( ) قال : يا أصحاب الشمال . فاستجابوا له ، فقالوا : لبيك ربنا وسعديك . قال { ألست بربكم قالوا بلى } فخلط بعضهم ببعض فقال قائل منهم : رب لم خلطت بيننا؟! قال { ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون } ( ). { أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين }( ) ثم ردهم في صلب آدم ، فأهل الجنة أهلها ، وأهل النار أهلها .
فقال قائل : يا رسول الله فما الأعمال؟ قال : يعمل كل قوم لمنازلهم) ( ).
الثاني : فضل الله في تنزه النبي عن الغل ، فلا يقال عندما يبعث أنه كان يغل أو يفعل القبائح .
الثالث : منّ ولطف الله بأصلاح النبي لوظائف النبوة منذ صغره ، ويكون صابراً مجاهداً قبل وبعد النبوة .
الرابع : صيرورة النبي أسوة في حسن خلقه وسمعته حتى قبل النبوة (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال الغلمان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب ، فقال يحيى : ما للعب خلقنا! اذهبوا نصلي . فهو قول الله : { وآتيناه الحكم صبياً }( ) .
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قرأ القرآن قبل أن يحتلم ، فقد أوتي الحكم صبياً) ( ).
وصحيح أن بعثة الأنبياء السابقين كانت قبل الإسلام وأن آخرهم هو عيسى عليه السلام وبينه وبين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من ستمائة إلا أن في بعثة كل نبي نفع عظيم وموعظة للمسلمين.
ومن الآيات أن النبوات لم تختتم إلا برسالة لرسول من الخمسة أولي العزم ، وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتبقى سنته ظاهرة جلية للمسلمين والناس جميعاً ، وهي مرآة النبوة ، وتكون سلامته من أكل الغلول وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : كل نبي لا يغل .
الصغرى : محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي .
النتيجة : محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يغل .
لقد كانت سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أكل الغلول هبة عظيمة من عند الله عز وجل للمسلمين وأهل الأرض ، وهي من التخفيف عن المسلمين لأنها من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ..]( ).
فمتى ما علم الذين كفروا أن المسلمين لا يأخذون من الغنائم خلسة فأنهم يدركون أموراً :
الأول : صدق وإخلاص المسلمين في الدفاع في ميدان المعركة وهل هذا الصدق من مصاديق قول تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
الثاني : إنتفاء سبب للفرقة والخلاف بين المسلمين ، قال تعالى [حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ) .
وفي الآية أعلاه نوع تحد لكل للدول والمؤسسات بأن ما تنفقون وتبذلون من الجهود من أجل الـتآخي بينكم بصفة الهوية والقومية والوطنية ونحوها فأنكم لن تبلغوا المراتب السامية لوحدة المسلمين لأنها باعجاز من عند الله ، وأسباب للهداية تنفذ إلى قلوبهم وتستقر في نفوسهم ، وهو من مصاديق جهر كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) وهناك مسألتان :
الأولى : هل من موضوعية للتآلف بين قلوب المسلمين في إمتناعهم عن أكل الغلول .
الثانية : هل من موضوعية لإمتناع المسلمين عن أكل الغلول في تحقيق التآلف بينهم .
وعلى الإجابة بالإيجاب على كل المسألتين وهو المختار فهل يلزم الدور بينهما ، الجواب لا ، وهو من إعجاز القرآن والتداخل بين أسباب الهداية فيه .
وقال الشاعر :
تأبى الرماحُ إِذا اجتمعْنَ تكسراً … وإِذا افترقْنَ تكسرتْ أفرادا( )
الثالث: التكافل العام بين المسلمين وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى هاهنا التقوى هاهنا ويشير إلى صدره التقوى هاهنا .
التقوى ها هنا بحسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم التجسس بالجيم التفتيش عن بواطن الأمور وأكثر ما يقال في الشر ومنه الجاسوس وبالحاء هو الاستماع إلى حديث الغير . وقيل : معناهما واحد وهو طلب الأخبار . وقوله : ولا تنافسوا أي لا ترغبوا فيما يرغب فيه الغير من أسباب الدنيا وحظوظها والحسد تمني زوال النعمة عن صاحبها . قوله : ولا تدابروا أي لا يعطي كل واحد منكم أخاه دبره وقفاه فيعرض عنه ويهجره .
عن ابن عمر قال : صعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عن عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله قال نافع : ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك . والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك أخرجه الترمذي . وقال : حديث حسن غريب عن زيد بن وهب .
قال : أتى ابن مسعود فقيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمراً . فقال عبد الله : إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر إلينا شيء نأخذ به أخرجه أبو داود وله عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة ) ( ).
الرابع : عذوبة الإسلام ونقاء مبادئه .
الخامس : بعث الرغبة في نفوس الذين يقاتلون الإسلام بدخوله والإنتماء إليه .
ولا تتعارض هذه الرغبة مع حال الخوف والرعب التي تصاحب الذين كفروا ويبعث التلاقح بينهما على العزوف عن قتال المسلمين ، وهو مقدمة للتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإصغاء لآيات القرآن . ودعوة للناس لتلقي السنة النبوية كشاهد ومرآة للنبوة .
و(عن جابر بن عبد الله قال : جاء بستاني يهودي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا محمد ، أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف عليه السلام ساجدة له ، ما أسماؤها؟ فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يجبه بشيء . فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بأسمائها .
فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى البستاني اليهودي فقال : هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها؟ قال نعم . قال : حرثان والطارق والذيال وذو الكفتان وقابس ودثان وهودان والفيلق والمصبح والضروح والفريخ والضياء والنور ، رآها في أفق السماء ساجدة له ، فلما قص يوسف على يعقوب قال : هذا أمر مشتت يجمعه الله من بعد ، فقال اليهودي : أي والله ، أنها لأسمائها) ( ).
وفيه إشارة إلى نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام الأولى ، وفي قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما رأى كثرة جيش المشركين وإصرارهم على القتال ، وكثرة خيلهم ورواحلهم وأسلحتهم ، وهو يعلم شدة بطش قريش ومعرفتها بأيام العرب ، وتفاصيل الوقائع وخبرتها في فنون القتال ، إنقطع إلى الدعاء وإجتهد في التضرع إلى الله (واستقبل القبلة وجعل يدعو ويقول : اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض،
فلم يزل كذلك حتّى سقط رداؤه وأخذ أبو بكر رداءه وألقاه على منكبيه ثمّ التزمه من ورائه , وقال : يا نبي الله كفا مناشدتك ربّك فإن الله سينجز لك ما وعدك {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي}( )، أي بأنّي. وقرأ عيسى : إنّي بكسر الألف وقال إنّي {مُمِدُّكُم} وزائدكم ومرسل إليكم مدداً {بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ}( ) قرأ أهل المدينة : مردفين بفتح الدال والباقون بكسره،)( ).
ولقد وردت أخبار متعددة تتضمن إقرار المشركين بأن الملائكة قاتلوهم يوم بدر ، وعن عكرمة مولى ابن عباس عن ابي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , قال كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب ، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت.
وكان أبو رافع يوم معركة بدر في مكة ويعمل الأقداح في حجرة زمزم ، والأقداح هي ألة الأزلام والإستخارة في الجاهلية ، قال تعالى [وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ] ( ) .
وقيل إخترعها عمرو بن عامر الخزاعي ، إذ جاء بصنم إسمه هبل ووضعه في الكعبة ، وجعل عنده عشرة أقداح وكتب فيها كالآتي :
الأول : أمرني ربي .
الثاني : نهاني ربي .
الثالث : متروك خال من الكتابة .
الرابع : أفعل .
الخامس : نعم .
السادس : لا .
السابع : منكم .
الثامن : من غيركم .
التاسع: ملحق .
العاشر : المياه .
فاذا أرادوا فعل شيء جاءوا إلى الأقداح وضربوا بها فاذا خرج لهم أمرني ربي عملوا به ، وإذا خرج نهاني ربي تركوا العمل به ، وإذا خرج الثالث أعيدت الإستخارة ، فجاء الإسلام وفضح وهدم هذه الأوهام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وتسمى الأزلام أيضاً الأيسار ، وكان صفوان بن أمية من رجالات قريش ممن يجريها على يديه عندما يكون عندهم أمر هام ، وقد أسلم يوم فتح مكة وهو من المؤلفة قلوبهم ، وهو من المطعمين (ومات صفوان بن أمية بمكة سنة اثنتين وأربعين) ( ).
وسميت الأزلام لأن الرجل منهم إذا هم بفعل يأتي لسادن البيت فيقول له : أخرج لي زلماً وكانت السهام مكتوب عليها أمر ونهي ، وأفعل ولا تفعل وكانت عنده الأزلام أي السهام .
ويلجأون إليها عند السفر والترويح ونحوه ويقصد أحدهم الصنم ويقول له أي الأمرين خير واحسن لي فاذن لي فيه ، وقد يدخل صاحب الحاجة يده في الوعاء ليخرج القدح الذي فيه إفعل أو لا تفعل .
والأزلام ( جمع زلم وهو القدح الذي لا ريش له ) ( ).
(وقال ابن عباس: وجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح حول البيت ثلاثمائة وستين صنماً، كانت لقبائل العرب يحجون إليها وينحرون لها .
فشكا البيت إلى الله تعالى، فقال: أي ربِّ، حتى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك؟! فأوحى الله إليه إني سأحدث لك نوبةً جديدةً يدفُّونَ إليك دفوف النسور ويحنون إليك حنين الطير إلى بيضها، لهم عجيج حولك بالتلبية .
قال: ولما نزلت الآية يوم الفتح، قال جبريل – عليه الصلاة والسلام – لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خذ مخصرتك ثم ألقها. فجعل يأتي الصنم، فيطعن في عينه أو بطنه بمخصرته، ويقول[جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ]( ).
فينكب الصنم لوجهه، حتى ألقاها جميعاً، وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة، وكان من قوارير صفر، فقال: يا علي، ارمِ به، فحمله علي حتى صعد ورمَى به وكسره، فجعل أهل مكة يتعجبون منه انتهى.
وعن ابن عباس قال: لما قدم صلى الله عليه وآله وسلم، أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة، فأمر بها فأخرجَتْ، فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل في أيديهما الأزلام – يعني: القداح التي كانوا يستقسمون بها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” قاتلهم الله، أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط ” . فدخل البيت وكبر في نواحيه ولم يصل، رواه الترمذي) ( ).
صلة [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] ( ) بـ[يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ]( ) يعود الضمير في [عَلَيْهِمْ] إلى المسلمين ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة الصحابة الذين يحضرون نزول الآية القرآنية ، وتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها حال نزولها .
الثاني: المقصود الصحابة الذين يحضرون صلاة الجماعة بامامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ يتلو النبي سور وآيات القران , ويحتمل وجهين :
أولاً : المراد أداء الصلاة الجهرية وهي صلاة الصبح والمغرب والعشاء .
ثانياً : المقصود الصلوات اليومية الخمسة .
الثالث : تلاوة النبي القرآن في الصلاة على المنبر ومطلقاً .
الرابع : إرادة أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
والمختار هو الأخير ، لأصالة الإطلاق مع مائز لأهل البيت والصحابة الذين استمعوا القرآن من فيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
و(لما أمر عثمان بالمصاحف -يعني بتحريقها-ساء ذلك عبد الله بن مسعود وقال: من استطاع منكم أن يغلَّ مصحفًا فليغلل، فإنه من غلَّ شيئًا جاء بما غل يوم القيامة.
ثم قال عبد الله: لقد قرأت القرآن من فِي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعين سورة وزيد صبي، أفأترك ما أخذت من فِي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( ) .
أي أنه ذكر آية البحث وجعل غلّ القرآن باباً للأجر والثواب وحرزاً وأمناً ، وليبين عبد الله بن مسعود مسألة وهي أن الغلول المحرم ما هو خاص بالسرقة من الغنائم والمال العام وكأنه أراد المعنى إعجازي للغلول وللتعريف والبيان .
وكان بعض الصحابة يفتخر بأنه سمع الآية القرآنية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وأخرج أبو الشيخ عن أبي أسامة ومحمد بن إبراهيم التميمي قالا : مر عمر بن الخطاب برجل وهو يقرأ { والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان }( ) فوقف عمر ، فلما انصرف الرجل قال : من أقرأك هذه؟ قال : أقرأنيها أبي بن كعب .
قال : فانطلق إليه فانطلقا إليه فقال : يا أبا المنذر أخبرني هذا أنك أقرأته هذه الآية . قال : صدق تلقيتها من في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . قال عمر : أنت تلقيتها من في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ .
قال : فقال في الثالثة وهو غضبان : نعم . والله لقد أنزلها الله على جبريل عليه السلام ، وأنزلها جبريل عليه السلام على قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يستأمر فيها الخطاب ولا ابنه . فخرج عمر رافعاً يديه وهو يقول : الله أكبر الله أكبر) ( ).
(عن حذيفة قال: أتي بعبد آتاه الله مالاً فقال له : ماذا عملت في الدنيا [وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا]( )، فقال : ما عملت من شيء يا رب إلا أنك آتيتني مالاً فكنت أبايع الناس ، وكان من خلقي أن أنظر المعسر .
قال الله : أنا أحق بذلك منك تجاوزوا عن عبدي . فقال أبو مسعود الأنصاري : هكذا سمعت من في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) ( ).
وهل يفيد الجمع بين الآيتين التحذير من غلّ وإخفاء الآيات لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتلو آيات الله عز وجل على المسلمين وأنهم يجب أن يعملوا بمضامينها وأن يتلوها في الصلاة وخارجها , الجواب نعم .
(قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَرِهَ لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَسْخَ الْمَصَاحِفِ ، وَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ، أُعْزَلُ عَنْ نَسْخِ كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ ، وَيَتَوَلَّاهَا رَجُلٌ ، وَاَللَّهِ لَقَدْ أَسْلَمْت وَإِنَّهُ لَفِي صُلْبِ رَجُلٍ كَافِرٍ يُرِيدُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ .
وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ ، اُكْتُمُوا الْمَصَاحِفَ الَّتِي عِنْدَكُمْ وَغُلُّوهَا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فَالْقُوا اللَّهَ بِالْمَصَاحِفِ) ( ).
ومن الإعجاز أن قراءة المسلمين لآيات القرآن برزخ دون إخفائها أو غلها ومانع من الغلّ والتعدي على الغنائم وأموال الناس كما جاءت فريضة الزكاة والصدقة المستحبة لتنزيه المسلمين عن الغلول ، فالذي يخرج الحق الشرعي من ماله طواعية يمتنع عن أخذ مال غيره من باب الأولوية ، وبينما جاءت نسبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسلمين في آية السياق بقوله تعالى [رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ] ( )لإرادة الإتحاد والتداخل والتشابه في الإيمان وإتيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمور :
الأول : إختيار الله عز وجل له بالبعثة النبوية .
الثاني : تولي الرسالة وأداء أمانة السماء ، قال تعالى [بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ] ( ).
الثالث : قيام النبي بتلاوة آيات القرآن على المسلمين ، ولو دار الأمر بين أمور :
الأول :كفاية تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن ، وعدم وجوب التكرار عليه .
الثاني : لابد من تفقه وفهم المسلمين والمسلمات لآيات القرآن .
الثالث : لزوم حفظ المسلمين لآيات القرآن .
والصحيح هو الثاني وإرادة التدبر في القرآن ، قال تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ) .
ويستحب استحباباً موكداً حفظ القرآن ويجب حفظ القرآن على نحو الكفاية ، وهل يسقط هذا الوجوب بانتشار ملايين النسخ من المصحف الشريف وتوثيقه بالحاسوب والمكتبات الوثائقية ونحوها ، الجواب لا ، وكان المسلمون يرسلون أولادهم إلى الكتّاب لتعلم القرآن والكتابة ثم حفظ القرآن .
وقال ابن عربي (وَمِنْهُمْ وَهُمْ الْأَكْثَرُ مَنْ يُؤَخِّرُ حِفْظَ الْقُرْآنِ ، وَيَتَعَلَّمُ الْفِقْهَ وَالْحَدِيثَ ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ فَرُبَّمَا كَانَ إمَامًا ، وَهُوَ لَا يَحْفَظُهُ ، وَمَا رَأَيْت بِعَيْنِي إمَامًا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ ، وَلَا رَأَيْت فَقِيهًا يَحْفَظُهُ إلَّا اثْنَيْنِ ، ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ الْمَقْصُودَ حُدُودُهُ لَا حُرُوفُهُ ؛ وَعُلِّقَتْ الْقُلُوبُ الْيَوْمَ بِالْحُرُوفِ ، وَضَيَّعُوا الْحُدُودَ ، خِلَافًا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ) ( ) .
ولكن لم تضيع الحدود بفضل من عند الله , وحفظ وتعاهد المسلمين لها من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) ، وفي حديث (أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِىُّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- يَقُولُ : اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِى يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ) ( ).
فهل يشفع القرآن لمن يأخذ الغل ، الجواب نعم إن شاء الله عز وجل ، لذا أخبرت الآية عن مجئ صاحب الغلول بما غّل كأنه يرجو شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن .
صلة [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]مع [ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ]
صحيح أن آية البحث متقدمة في نظم القرآن على آية السياق ، ولكن هذا لا يمنع من التقديم والتأخير بينها في الصلة وتقدير القراءة ليكون مدخلاً لعلم جديد ووسيلة لإستنباط مسائل مستحدثة في علم الـتأويل من جهات :
الأولى : آية البحث .
الثانية : آية السياق .
الثالثة : الجامع المشترك بين الآيتين .
ومن الإعجاز في علم المعاملات تعدد المعنى في الصلة بين الآيات ، فيكون معنى الجمع بين الآيتين متباين بلحاظ هل الآية آية بحث أم سياق فمثلاً الجمع بين قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) وقوله تعالى في آية البحث [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] ( ).
تقرأ الصلة مرة بأن الآية أعلاه من سورة الفاتحة هي آية البحث والأخرى هي آية السياق ، ثم تقرأ الآيتان مرة أخرى بالعكس لبيان أسرار وذخائر من القرآن ومفاهيم قدسية من مضامين آيات القرآن والجمع بينهما وإبتدأت آية السياق بالثناء على الله عز وجل وبيان فضله وإحسانه على المسلمين ، ومن الإعجاز بالآية التصريح بالثناء والمدح لله عز وجل إنه يمنّ ويتفضل على المؤمنين .
ومن مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ] ( ) فأخبرت آية البحث عن إختصاص المسلمين بالمنّ والإحسان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون هذا المنّ والإنتفاع الأمثل منه وسيلة للنجاة يوم القيامة لقوله تعالى [ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ]( ) ويحتمل المنّ في المقام وجوهاً :
الأول : الجزاء للمؤمنين على إيمانهم .
الثاني : الجزاء والثواب للمؤمنين على منّ الله عز وجل عليهم.
الثالث : الجزاء للمسلمين على شكرهم لله عز وجل على منّه وإحسانه .
الرابع : الثواب والجزاء على إنتفاع المسلمين من منّ الله عز وجل عليهم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، ومن الآيات في المقام أن منّ الله عز وجل متصل غير منقطع إذ يكون حاضراً مع المسلمين في عملهم وسيرتهم بلحاظ المضامين القدسية التي ذكرتها آية السياق لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخذه بأيدي المسلمين في سبل الهداية والصلاح ، وتقدير آية السياق على وجوه :
الأول : لقد منّ الله على المؤمنين بتلاوة النبي محمد لآيات الله عليهم ، فيمتنعون عن أخذ الغلول والتعدي على المال العام .
الثاني : لقد منّ الله على المؤمنين بتزكية النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أبهى مصاديق التزكية من أكل الغلول والسرقة خفية من الغنائم العامة ، إذ أن هذه السلامة حاجة لهم في الدنيا والآخرة ، وهي وسيلة لتعاهد الأخوة الإيمانية وبرزخ دون الغيبة .
ولا يعلم أحد من الناس أن آية البحث سلاح سماوي من الله على المسلمين للوقاية من المنافقين وظلمهم وتعديهم .
لقد تضمنت السنين الأولى لهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوجود طائفة من المنافقين الذين يخفون والجحود في ذات الوقت الذين يظهرون فيه الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فجاء النهي عن أكل الغلول حرزاً من الذين نافقوا ودعوة لهم للتوبة والإنابة ، فمن إعجاز آية البحث التعدد في لمنافع والأثر النافع في الموضوع المتباين من جهات :
الأولى : تنزيه المسلمين عن الغلول والسرقة والأخذ خلسة من المال العام .
الثانية : إصلاح المسلمين لإمامة الناس لسلاح العصمة من أكل الغلول ، فلو قام المتولي من المسلمين بنهب المال العام وأخذه خلسة وحيلة فان روح اليأس والقنوط تدمج بينهم ، فيكون موضوعاً لشكوك أقاويل المنافقين .
وقد منّ الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً بآية البحث أما المسلمون فيحرزون بها وبالعمل بمضامينه القدسية العز والفخر في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة لذا ذكرت آية البحث حساب الآخرة ولزوم إستعداد المسلمين له بالتنزه عن أكل الغلول فيه ، فيحضرون مواطن الحشر وليس على ظهورهم إثقال الغلول وأوزار حسابها ، ووطأ الخزي أمام الخلائق بسببها وليرى الكفار كيف أن أموالهم صارت غنائم بيد المسلمين وأنتفعوا منها الإنتفاع الأمثل والأحسن في النشأتين .
ولو أخذ المسلم من الغنائم خلسة فهل يشمت به الكفار ويوم القيامة لشدة حسابه الجواب لا ، إذ أن الكفار مشغولون بالعذاب الأليم النازل بهم ، ولأن وطأة وثقل الغلول تقترن بالإيمان والخروج إلى مواطن الجهاد وهو بذاته شفيع ووقاية بفضل من عند الله عز وجل .
وهل يمكن القول بدلالة آية البحث في مفهومها على نجاة المجاهد الذي يغل من العقاب على الغلول في الدنيا والآخرة ، الجواب لا من جهات :
الأولى : ذكر آية البحث للغلول بلغة صيغة الذم .
الثانية : الأخذ خلسة من الغنائم تعد على المال العام , وظلم للنفس ، والظلم قبيح بالذات والأثر .
(عن أبي الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : قال الله تعالى[ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ]( )، فأما الذين سبقوا ، فأولئك يدخلون الجنة بغير حساب، وأما الذين اقتصدوا ، فأولئك الذين يحاسبون حساباً يسيراً ، وأما الذين ظلموا أنفسهم ، فأولئك يحبسون في طول المحشر ، ثم هم الذين تلقاهم الله برحمة ، فهم الذين يقولون الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ( ).
(أن ابن عباس سأل كعباً عن قوله { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا . . . } . نجوا كلهم ، ثم قال : تحاكت مناكبهم ورب الكعبة ، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن الحنفية قال : أعطيت هذه الأمة ثلاثاً لم تعطها أمة كانت قبلها { منهم ظالم لنفسه } مغفور له { ومنهم مقتصد } في الجنان { ومنهم سابق } بالمكان الأعلى) ( ).
والنقاش في الكبرى هل الأخذ من الغنائم خلسة وبغير حق ظلم للنفس أم أنه ظلم للنفس والغير ، الجواب هو الثاني ولكن الآية أعلاه لم تحصر موضوع الظلم بالنفس إنما ذكرته من باب البيان وذكر الفرد الأهم ، ففي الغلول والأخذ خلسة من الغنائم ضروب من الظلم وهي :
الأول : مخالفة آية البحث ودلالتها على النهي عنه .
الثاني : العزوف عن نهج الأنبياء والذي هو فرع الوحي والذي يتجلى في آية البحث بأجتناب كل نبي الغلول .
الثالث : التعدي على المال العام وكأنه نوع خيانه .
الرابع : إصابة سهام المجاهدين بالنقص .
الخامس : دلالة الحساب على الغلول يوم القيامة على أنه ظلم (عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه قام خطيبًا فوعظ وذكَّر ثم قال: ألا عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاء، يقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك! ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرسٌ لها حمحمة، يقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك! ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامتٌ، يقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك! ألا هل عسى رجل منكم يجيء يوم القيامة على رقبته بقرة لها خوار ، يقول: يا رسول الله، أغثني! فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك) ( ).
التغاء : صوت الشاة والماعز ، والراغية الأبل .
الجحجحه : صوت الفرس وهو دون الصهيل ، كما لو كان يطلب العلف أو أنه رآى صاحبه ومال إليه .
الصامت : أي الذهب والفضة من المتقدمين أو الحلي .
الخوار : صوت البقرة والثور والعجل ، وقد ورد في القرآن قوله تعالى [وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ] ( ) فأخبر موسى عليه السلام بالموعدة وأنه ذاهب إلى الموعد المقدس ، وأخلف عليهم هارون أخاه لأنه صار بيناً ببركة دعاء موسى عليه السلام ، وكان هارون محبوباً عند بني اسرائيل لأنه ليس شديداً عليه ، وأفتتن بني اسرائيل بالعشر الأواخر من الليالي الأربعين ، إذ كان السامري أبصر جبرئيل ، فأخذ قبضة من أثر فرس جبرئيل ،ثم طلب من بني إسرائيل بعض الحلي التي استعادوها من بني إسرائيل وخروا بها معهم .
قال لهم السامري هي (وهو حرام عليكم فهاتوا ما عندكم فنحرقها) ( ) وكانت حرمتها جلية وواضحة عند بني اسرائيل ، وخاطبهم السامري بلغة الحرمة والحلية ، وتلقوه منه بالقبول والرضا وفيه مسائل :
الأولى : فيوضات نبوة موسى عليه السلام في بني إسرائيل .
الثانية : المعجزات المتعددة لموسى وهارون عليهما السلام .
الثالثة : نجاة بني إسرائيل من ظلم آل فرعون والذي لم يشهد له التأريخ مثيلاً بلحاظ صيغة العموم فيه ، فيشمل الرجال والنساء والأطفال ، إذ ورد حكاية عن فرعون في التنزيل [وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ] ( ) ولم يرد لفظ [سَنُقَتِّلُ]ولفظ[وَنَسْتَحْيِ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وكأنه فيه دلالة على أن العذاب الذي لاقاه بنو إسرائيل من فرعون وملئه لم يلقه غيرهم من مؤمني الأمم السابقة ، وفيه جواب لمن يتساءل لما أهلك الله فرعون وجنوده في البحر غرقاً.
وحينما سمع بنو إسرائيل قول السامري بإحضار الحلي ولم يكن موسى حاضراً كي يرجعوا إليه، إستجابوا لطلب السامري وأحضروا حليهم عنده، فأوقد ناراً والقى الحلي فيها حتى إذا ذابت هذه الحلي أخذ تلك القبضة من تراب جبرئيل فألقاها في النار فصارت بمشيئة الله عز وجل جسداً له خوار وصوت سُمع لمرة واحدة ولم يتكرر هذا الخوار.
فقال السامري لبني إسرائيل: إن موسى ذهب يطلب ربهم وهذا إله موسى، وهو قوله[هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ]( )، جحوداً من السامري وحسداً لموسى عليه السلام، وكأن يقول: إن موسى ذهب للقاء ربه، وربه موجود هنا، فأفتتن قوم موسى عليه السلام ورجع حزيناً غضبان.
ولقد أظهر المسلمون الإيمان بالله عز وجل والإقرار له بالوحدانية، وأعلنوا تصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يستطع شخص أو طائفة أن تفتتنهم بمثل ما فعل السامري، وهذه العصمة من الفتنة في المقام من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وأراد الله عز وجل أن يشكر للمسلمين حسن إيمانهم وجاء الشطر من آية البحث(ثم توفى..) بالإبتداء بحرف العطف(ثم) بما يفيد التراخي والتأخير ليأتي منّ الله عز وجل على المؤمنين فيأخذ بأيديهم إلى اللبث الدائم في النعيم الدائم.
ولقد منّ الله عز وجل على المسلمين بالغنائم وهي من رشحات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن فضل الله عز وجل أن منّه لا يأتي إلا متعدداً متصلاً واقياً ينتفع منه الموجود والمعدوم.
فما أن هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة حتى وقعت معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، ولا يظن أهل المدينة أن المسلمين سينتصرون في المعركة ويجلبون الغنائم معهم من جهات:
الأولى : كثرة عدد جيش المشركين، وقلة عدد المسلمين إذ كان عدد المشركين إذ كانت عدد المشركين نحو ألف مقاتل، أما عدد المسلمين فهو ثلاثمائة وثلاثة عشر.
الثانية : كثرة خيل ورواحل وأسلحة جيش المشركين، وإنكشاف المسلمين وظهور قلة أسلحتهم للعدو.
الثالثة : مهارة جيش المشركين وإتقانهم لفنون القتال وخبرتهم فيه، وكان في صفوفهم بعض الفرسان، وكان سلاح المسلمين هو الإيمان، وهو سبيل الثبات في الميدان.
الرابعة : إصرار الذين كفروا على القتال، ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يبدأ الأعداء بالقتال، وكان يعظهم ويدعوهم إلى الإسلام، وينهى عن القتال، ليكون نصر المسلمين في معركة بدر حجة على كفار قريش ومن خلقهم من الرجال والنساء.
وهل إمتناع المسلمين من أكل الغلول حجة على كفار قريش الجواب نعم، وهو حجة على الكفار جميعاً وإلى يوم القيامة، لذا تفضل الله عز وجل وأخبر في آية السياق بأن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منّ وإحسان على المسلمين، قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا *مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( )، وجاءت الآية أعلاه بصيغة المثل لبيان إبتداء دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام في حال إستضعاف وإيذاء من كفار قريش.
وكان الذين يدخلون الإسلام على نحو الفرادى واحداً تلو الآخر، ويفرحون إذا جاءهم أخ جديد، كالزرع الذي يظهر بعد البذر ضعيفاً ولكنه يقوى ويشتد يوماً بعد يوم وحالاً بعد حال حتى تمتد جذوره في الأرض ويشتد ساقه قوى الشطأ أي ما ينبت حوله، ويصد عنه الريح، ويمنع وصول الآفات إليه .
وذكرت الآية بعجب الزرع ليكون من باب الأولوية إعجاب الناس من غير الزراع به، وقد يكون المراد أهل الكتاب إذ يرون بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصداق البشارة التي جاء بها موسى وعيسى عليه السلام ولأن أهل الكتاب من اليهود والنصارى على علم بالنبوات ودلالاتها، وهم يتوارثون بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن خصائص المسلمين التي تعجب الزراع سلامتهم من أكل الغلول والسرقة في بيت مال المسلمين بغير حق.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله)( ).

صلة [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] ( ) مع [وَيُزَكِّيهِمْ] ( )
يدل الجمع بين الآيتين على جهاد الأنبياء عامة في إصلاح الأمم بالدعوة إلى الله ،والإنقطاع إلى الدعاء والتسليم باليوم الأخر ، وهذا التسليم برزخ دون الغرور والظلم والطغيان ، لإقرار المسلمين في كل الأمم على أن اليوم الآخر هو يوم حساب وجزاء ، فحينما يعزم المسلم على فعل يستحضر إنكشافه وذات الفعل أمام الخلائق ، فان كان فعلاً حسناً قام به بسعادة وبهجة ورجاء الثواب ، قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ) ومن وجوه تزكية وتطهير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين تنزهه عن الغل والأخذ من الغنائم خلسة .
وتقدير الجمع بين الآيتين : ما كان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يغل لتزكية المسلمين ، وهذه التزكية على وجوه :
الأول : إقرار المسلمين بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله , ومعصوم من الدنس .
الثاني : بيان إتحاد سنخية عمل الأنبياء وتتقوم هذه السنخية بمناهج الصلاح والعفة .
الثالث : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أي مسلم أو مسلمة لآية البحث تزكية لهم .
الرابع : كل آية قرآنية تزكية للمسلمين .
الخامس : حث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للعمل بمضامين آيات القرآن ، وهذا الحث تزكية ، وكذا العمل بمضامين الآية القرآنية ، وفي التنزيل [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا] ( ) والتزكية لغة النماء .
لقد ورد في سورة البقرة تقديم لفظ (يعلمهم الكتاب والحكمة) على لفظ (يزكيهم) إذ ورد حكاية عن دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
وعن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يَرَيْن)( ).
ويبين الحديث أعلاه سور الموجبة الكلية الجامع للأنبياء حتى حال ولادتهم ، وقد وردت آية البحث بتنزههم عن أكل الغلول والأخذ من المال العام خلسة ، وأخبر الحديث أعلاه على أن للأنبياء أمهات , وكل واحدة منهن ترى أن الذي في بطنها نبي وذو شأن عظيم .
وعن بريدة وابن عباس قالا: رأت آمنة في منامها فقيل لها انك قد حملت بخير البرية وسيد العالمين فإذا ولدتيه فسميه أحمدا ومحمدا وعلقي عليه هذه فانتبهت وعند رأسها صحيفة من ذهب مكتوب عليها أعيذه بالواحد من شر كل حاسد وكل خلق رائد من قائم وقاعد عن السبيل عائد على الفساد جاهد من نافث او عاقد وكل خلق مارد يأخذ بالمراصد في طرق الموارد أنهاهم عنه بالله الأعلى واحوطه منهم باليد العليا والكف الذي لا يرى يد الله فوق أيديهم وحجاب الله دون عاديهم لا يطردوه ولا يضروه في مقعد ولا منام ولا مسير ولا مقام أول الليالي وآخر الأيام)( ).
وقدمت آية البحث تزكية المسلمين على تعليمهم الكتاب والحكمة، وكذا في سورة الجمعة بقوله تعالى[هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
فلماذا هذا الإختلاف في التقديم والتأخير بين (يزكيهم) وبين(يعلمهم الكتاب والحكمة).
فهل من فارق ومائز من جهة موضوع الآية من جهات:
الأولى : ورد في سورة البقرة ودعاء إبراهيم على إرادة ذرية إبراهيم وإسماعيل، إذ سألا الله عز وجل أمة مسلمة من ذريتهما، وأن يبعث الله فيهم رسولاً من ذات الذرية، لقد جاء إبراهيم بإبنه إسماعيل وأمه هاجر إلى مكة المكرمة وأسكنهما عند البيت الحرام، كما ورد في قوله تعالى[رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ]( )، أي أن جوار البيت الحرام خير وأفضل، وزاد مبارك، وهو من المصاديق الدنيوية لقوله تعالى[فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى]( )، وفيه بشارة الرزق الكريم لمجاوري البيت الحرام في كل زمان، ودعوة لهم للصبر على الفقر والعوز وإظهار التقوى وتعظيم شعائر الله.
الثانية : ذكرت آية السياق المؤمنين على نحو الخصوص، وبينهم وبين ذرية إبراهيم وإسماعيل عموم وخصوص من وجه، فمادة الإلتقاء الإيمان، ومادة الإفتراق الظالم من ذرية إبراهيم ومن غيرها، وفي التنزيل[وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]( ).
ومن الإعجاز في آية السياق إخبارها عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنها منّ وإحسان على المؤمنين، وفيه ترغيب للناس بدخول الإسلام، والإنتفاع الأمثل من بركات هذه البعثة.
الثالثة : وردت الآية في سورة الجمعة بذكر الأميين وقيل المراد منه العرب وأستدل عليه بقوله تعالى[وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ]( )، أي أنهم قالوا: ليس علينا فيما وصلنا من أموال العرب حرج، وأن الله قد أحلها لنا.
وعن محمد بن كعب القرظي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دحية الكلبي إلى قيصر وكتب إليه معه ، فلقيه بحمص ودعا الترجمان ، فإذا في الكتاب من محمد رسول الله ، إلى قيصر صاحب الروم .
فغضب أخ له وقال : تنظر في كتاب رجل بدأ بنفسه قبلك ، وسماك قيصر صاحب الروم ولم يذكر أنك ملك؟! قال له قيصر : إنك والله ما علمت أحمق صغيراً ، مجنوناً كبيراً : تريد أن تحرق كتاب رجل قبل أن أنظر فيه؟ فلعمري لئن كان رسول الله كما يقول : فنفسه أحق أن يبدأ بها مني ، وإن كان سماني صاحب الروم ، فلقد صدق ، ما أنا إلا صاحبهم وما أملكهم ، ولكن الله سخرهم لي ولو شاء لسلطهم علي ، ثم قرأ قيصر الكتاب ، فقال : يا معشر الروم ، إني لأظن هذا الذي بشر به عيسى ابن مريم ، ولو أعلم أنه هو مشيت إليه حتى أخدمه بنفسي ، لا يسقط وضوءه إلا على يدي .
قالوا : ما كان الله ليجعل ذلك في الأعراب الأميين ويدعنا ، ونحن أهل الكتاب قال : فأصل الهدى بيني وبينكم الإِنجيل ، ندعو به فنفتحه ، فإن كان هو إياه اتبعناه ، وإلا أعدنا عليه خواتمه كما كانت إنما هي خواتيم مكان خواتم .
قال : وعلى الإِنجيل يومئذ اثنا عشر خاتماً من ذهب ختم عليه هرقل ، فكان كل ملك يليه بعده ظاهر عليه بخاتم آخر ، حتى ألقى ملك قيصر وعليه إثنا عشر خاتماً ، يخبر أوّلهم لآخرهم أنه لا يحل لهم أن يفتحوا الإنجيل في دينهم ، وإنهم يوم يفتحونه يغير دينهم ويهلك ملكهم ، فدعا بالإنجيل ففض عنه أحد عشر خاتماً حتى بقي عليه خاتم واحد ، فقامت الشمامسة والأساقفة والبطارقة ، فشقوا ثيابهم وصكوا وجوههم ونتفوا رؤوسهم.
قال : ما لكم؟ قالوا : اليوم يهلك ملك بيتك ، وتغير دين قومك قال : فأصل الهدى عندي . قالوا : لا تعجل حتى نسأل عن هذا ونكاتبه وننظر في أمره، قال : فمن نسأل عنه؟ قالوا : قوماً كثيراً بالشام)( ).
فأرسلوا على أبي سفيان وبعض أصحابه وكانوا على الكفر والجحود في أيام صلح الحديبية.
وأرادوا المكر بالخبث بالجواب ولم يفلحوا ، قال تعالى[يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( )، وعجزوا عن صرف هرقل عن مبتغاه والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في النجاشي في الحبشة، أم أنه تم إتفاقاً من غير قصد سوء منهم، الأقرب هو الثاني.
ويبين التقديم والتأخير بين التزكية والتعليم أموراً:
الأول : السعة في فضل الله عز وجل وإنتفاع المسلمين من كل نعمة في سبل ومضامين النعم الأخرى.
الثاني : مجيء التزكية بذاتها لما فيها من التطهير والإنابة والصلاح، أما التعليم فهو متعدد إذ يشمل تعليم الكتاب والحكمة مجتمعين ومتفرقين، قال تعالى[يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا]( ).
الثالث : التزكية طريق للعلم والمعرفة لما فيها من تنقية للقلب، وصفاء للنفس.
الرابع : تعليم الكتاب والحكمة تطهير وزيادة في التزكية وتقود الفقاهة إلى التقوى والإرتقاء في مراتب الإيمان.
ومن الإعجاز أن كلاً من التزكية والتعليم نوع طريق للسلامة من الغلول، وواقية من السرقة وأكل المال الحرام، والتنزه عن أخذ الدينار ، والدرهم من الغنائم بغير حق، ودعوة لهم للكسب الحلال .
وعن محمد بن النضر قال: قال آدم : يا رب شغلتني بكسب يدي فعلمني شيئاً فيه مجامع الحمد والتسبيح . فأوحى الله إليه : يا آدم إذا أصبحت فقل ثلاثاً ، وإذا أمسيت فقل ثلاثاً . الحمد لله رب العالمين ، حمداً يوافي نعمه ، ويكافئ مزيده فذلك مجامع الحمد والتسبيح)( ).
وعن مالك بن دينار قال : “إِنَّمَا سُمِّيَ الدِّينَارُ لأَنَّهُ دينٌ وَنَارٌ قَالَ: مَعْنَاهُ: إِنَّ مَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ فَهُوَ دَينُهُ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ فَلَهُ النَّارُ”)( ) .
لقد ذكرت آية البحث تزكية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين، وتحتمل وجوهاً:
الأول : إرادة تزكية وتطهير الله عز وجل للمسلمين.
الثاني : المراد صدور التزكية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحمل الكلام على ظاهره، ولكن هذه التزكية متممة لتزكية الله عز وجل.
الثالث : المقصود تزكية القرآن وآياته للقرآن.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، لذا فمن التزكية إصلاح المسلمين للإمتناع عن أكل الغلول، وكذا فإن إمتناع المسلمين عن أكل الغلول تزكية لهم في ذات موضوع الغنائم وفي غيره، لذا قدمت آية السياق تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن لبيان أن ذات التلاوة تزكية.
فإن قلت قد وردت الآية بصيغة العطف (ويزكيهم) والجواب لا يتعارض العطف مع التداخل وترشح المعطوف عليه على المعطوف، وكأنه من عطف المُسبَب على السبب، وتقدير الجمع بين آية البحث والسياق يتلو عليهم آية تنزه الأنبياء عن الغلول فتكون هذه التلاوة سبباً لعصمة المسلمين من الغلول والأكل من الغنائم بغير حق ولا إذن خاص أو عام.
وأخبرت آية السياق عن تزكية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين لتدل بالدلالة التضمنية على بلوغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة التزكية بفضل من عند الله , ولبيان المرتبة الرفيعة والكمالات التي رزقه الله من بين الناس .
ومن الآيات في صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الله عز وجل زكاه في نفسه وعقله وقوله وفعله، فقد قال الله تعالى[مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى]( )، فلا ينطق إلا بالوحي والتنزيل إن حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عقله وتفكيره مقدمة لتلقي آيات القرآن وإدراك أنها وحي من عند الله وهذا الحفظ مقدمة لقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم المسلمين الكتاب والحكمة، وتلقيهم لهما بالقبول والرضا والعمل، ومنه النهي عن أكل الغلول، هذا النهي المصاحب للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة وفيه دعوة لهم لذكر الله وليكون إنذاراً للذين كفروا قال تعالى[فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ]( ).
لقد جعل الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين ومن خصائص النبي أنه سيد العقلاء، ويفيد قوله تعالى[مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى]( )، أصالة الإطلاق من جهة الموضوع والحكم ويتغشى أفراد الزمان الطولية في حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل النبوة وبعدها .
وهل يشمل الأحقاب بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب نعم، ففي كل زمان يجب أن يتلقى المسلمون القرآن على أنه تنزيل من عند الله وفهم السنة النبوية على أنها حكمة وعلم فيه خير الدنيا والآخرة .
وقدحفظ الله سبحانه النبي محمداً في بصره , قال تعالى [مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى]( )، وعن ( ابن عباس في قوله { ما زاغ البصر } قال : ما ذهب يميناً ولا شمالاً { وما طغى } قال : ما جاوز ما أمر به) ( ).
وملأ الله قلبه علماً وحلماً، فأصلحه لتزكية المسلمين، وفي قوله تعالى[أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ]( )، ورد عن قتادة عن أنس قال: شق بطنه من عند صدره إلى أسفل بطنه فاستخرج من قلبه ، فغسل في طست من ذهب ، ثم ملىء إيماناً وحكمة ، ثم أعيد مكانه)( ).
ومن مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( ) تفضل الله بجعل الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم محبوباً عند الناس عامة والمسلمين خاصة ، وهو من أسباب تثبيت الإيمان في النفوس ، وإصلاح الجوارح للعمل بمضامين أحكام الشريعة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو من مصاديق قوله تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ]( ).
لقد اختار الله عز وجل الأنبياء من بين الناس وجعلهم بأسمى مرتبة من مراتب الكمالات الإنسانية فصاروا أسوة للمؤمنين من أتباعهم وأنصارهم , وبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليصبحوا أسوة للمسلمين والمسلمات في كل زمان ، وليس من أمة وأتباع بعدد المسلمين ، والنبي الذي إنعدم له الناصر والتابع واساه الله عز وجل بأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من مصاديق تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين ، ومن أسرار بشارة الأنبياء السابقين بنبوته ومنه ما ورد حكاية عن عيسى بن مريم في القرآن [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ] ( ).
وكأن الأنبياء السابقين يقولون لأتباعهم أصبروا فان الله عز وجل سيظهر الحق ويثبت للأجيال صدقنا على يد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وينصره نصراً مبيناً كما قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( )
ويقولون لأعدائهم سوف يبعث الله عز وجل محمداً خاتم النبيين فيخزيكم ويقهركم .
لقد اختار الله عز وجل من بين الأنبياء ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً ذوي شرائع ، ثم تفضل وخصّ خمسة منهم بالعزم وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصطفى الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة الخالدة ونزول القرآن الجامع للأحكام الشرعية ، والمعصوم من التحريف والتبديل والتغيير في رسمه وكلماته وتلاوته ومعانيه ودلالاته ، وهذا العموم من مصاديق تسميته بالذكر ، بقوله تعالى [ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً] ( ) .
وتتضمن الآية أعلاه الوعد من عند الله عز وجل للمسلمين والتحدي اليومي المتجدد للذين كفروا بأن الله عز وجل نفسه هو الذي يحفظ القرآن ومضامينه القدسية .
وتبين آيات القرآن تفضل الله عز وجل بحفظ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في شخصه وذكره الحسن بين الناس ، وهو من الإعجاز في مجئ الآية أعلاه بلفظ الذِكر .
وقد ورد ذات لفظ الحفظ من سورة يوسف بقول أخوته لأبيهم يعقوب النبي [أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] ( ) ولكنهم لم يحفظوا بل كادوا له وسعوا في قتله بالواسطة .
لبيان قانون وهو أن الحفظ من عند الله عز وجل وهو وحده القادر على حفظ الإسلام والنبوة والتنزيل إلى يوم القيامة ، وقيل يتعلق الحفظ في قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (وقيل بأن الهاء في قوله له راجعة إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعني وإنا لمحمد لحافظون ممن أراده بسوء نظيره {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}( ) .) ( ).
ولقد حفظ الله عز وجل النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في بصره ،
وجاءت آية البحث بحفظ وعصمة الله سبحانه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الغلول والأخذ من الغنائم خفية كما حفظه من مكر المنافقين ، وما يسعون فيه من إثارة أسباب الريب والشك .
وقد جاءت سورة كاملة في القرآن في ذم المنافقين والتحذير من صفات النفاق وسميت السورة بسورة المنافقين ، وإبتدأت بقوله تعالى [إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ] ( ) .
ومن معاني الآية أعلاه أنهم يظهرون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تسليمهم بأنه لا يغل ويقرون بأن العصمة من الغلول من خصال النبوة ، ولكنهم يكذبون في إقرارهم برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أن إمتناعه عن الغلول شاهد يومي متجدد على صدق نبوته .
صلة [وَيُزَكِّيهِمْ] مع [ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ]
من فضل الله عز وجل أنه يزكي ويطهر الأنفس ويصلح المجتمعات ، ويأتي صلاحها بواسطة تهذيب النفوس وبالمباشرة أيضاً لتكون أيضاً هذه المباشرة وسيلة ونوع طريق لصلاح النفوس وليس من تعارض بين الأمرين ولا يلزم الدور بينهما ، لقانون وهو كل نعمة من عند الله توليدية ومتعددة ، وتتفرع عنها نعم كثيرة ، قال تعالى [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً] ( ) .
وفي الآية أعلاه كشف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص أهل الملل الذين يظنون أنهم مبرئون من الذنوب ، وكذا تشمل الآية الذين يعلنون أنهم مطهرون وأن النار لن تمسهم ، كما ورد في التنزيل [نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ] ( ) أو يقولون نذنب بالنهار ، فيأتي الليل ويمحو ذنوبنا ، أو أنهم يقدمون أولادهم يؤمونهم بالصلاة لأنهم لا ذنوب لهم ، فتكون إمامة الصغير تزكية للكبير أو يتطلعون إلى شفاعة الأبناء الذين ماتوا ، لأنهم يشفعون لآبائهم , أو يرجون شفاعة الأنبياء والصالحين من آبائهم.
ويتخذون هذه الأماني إعتذاراً من قبول دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام ، وفي التنزيل [تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا برْهَانَكُمْ] ( ).
فأخبرت الآية أعلاه من سورة النساء بأن الله عز وجل هو الذي يزكي الأنفس ، وأختلف في الفتيل على وجوه :
الأول : الفتيل الذي في بطن النواة (والفَتِيْلُ: سِحَاءَة في مَشَقِّ النَوَاةِ) ( ).
الثاني : ما يفتله الإنسان بين أصابعه من الخيط .
الثالث : ما يفتله أحدهم بين أصابعه من الوسخ . (عن ابن عباس أنه قال: الفتيل ما يخرج من بين الإصبعين إذا فتلهما) ( ). والصحيح هو الأول ، وإن كان المشهور هو الثالث أعلاه إذ أن موضوع الآية يدل على الأول ولأنه حاضر في كل زمان وكل مجتمع فليس في هذه الأزمنة من وسخ بين الأصابع في الغالب , يفتل كالحبل كما أن المسلمين في كل زمان يغسلون أيديهم خمس مرات في اليوم ويحرصون على التخليل بين أصابعهما العشرة , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ] ( ) .
والملاك هو انتفاء الظلم من عند الله وتنزهه سبحانه عن أدنى الظلم وأقله خطراً ، ولا يأتي يوم ويستحضر الإنسان أمراً في حياته إلا وقد رحمه الله عز وجل فيه ، ومن رحمته أنه هو الذي يزكي ويطهر النفوس ويشهد لها بالصلاح والتقوى ، قال تعالى [بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً]( ).
لقد نسبت الآية أعلاه من سورة النساء التزكية إلى مشيئة الله لتفيد آية السياق بأن تزكية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للنفوس إنما هي بمشيئة وأمر من عند الله عز وجل .
وهل يمكن القول بأن المراد من الآية أعلاه تزكية الأشخاص وأهل الملل ، أما آية السياق فتخص المسلمين وأن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، الجواب نعم إذا كان المراد أفراد الزمان الطولية من أيام أبينا آدم عليه السلام ، لبيان الإعجاز ولغة الشمول في كلمات القرآن .
وهل يصح القول بأن التزكية تأتي للمسلمين من عند الله عز وجل ومن عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
لقد أمر الله عز وجل المسلمين بطاعته وطاعة رسوله ، وقال سبحانه [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) .
ليكون من مصاديق الرحمة في الآية أعلاه تزكية الله وتزكية رسوله .
والصلة بين موضوع الآيتين هو العموم والخصوص المطلق ،إذ تختص التزكية بالمسلمين ، أما تمام الحساب فهو عام يشمل الناس جميعاً ، لبيان المائز بين المسلمين وغيرهم إذ تحضر معهم يوم القيامة .
وجاء قوله تعالى [ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ] في آية البحث بعد التحذير والتخويف والإنذار من أكل الغلول ثم جاء بعدها قوله تعالى [وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]لبيان أن العقاب الذي ينزل بالظالمين حكم عادل ، بينما جاء قوله تعالى [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
ويفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث الترغيب بالإمتناع عن الغلول لأن هذا الإمتناع من أبهى مصاديق الصبر الجامع ، إذ يتعلق بالخروج إلى سوح الدفاع واللبث في الثغور من غير تعد على الغنائم والمال العام ، ولو كانت هناك آلات ومؤن وميرة تتعلق بالدفاع فهل الأخذ منها خلسة من الغلول .
الجواب إنه أشد من الغلول وهو من التعدي على المال العام وفيه إضرار ، لذا تكون آية البحث زاجراً عنه من باب الأولوية القطعية ، فالذي يخشى الله عز وجل ويمسك يده عن الغنائم قبل القسمة يخاف الله عز وجل فلا يجرأ ويتعدى عليها ، وهو كالغلول ليس فيه قطع لأن فيه شبهة ملك ، وقد تكون فيه عقوبة دنيوية كالتعزير .
وقد ورد في الحديث بالنهي عن أكل المال بغير حق سواء مال الأفراد أو من بيت المال .
وعن أبي سعيد قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ان أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا وزينتها فقال له رجل : يا رسول الله ، أو يأتي الخير بالشر؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فرأينا أنه ينزل عليه ، فقيل له : ما شأنك تكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يكلمك؟ .
فسري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فجعل يمسح عنه الرحضاء ، فقال : أين السائل فرأينا أنه حمده فقال : إن الخير لا يأتي بالشر ، وإن مما ينبت الربيع يقتل حبطاً ، أو يلم الا آكلة الخضر ، فإنها أكلت حتى امتلأت خاصرتاها ، فاستقبلت عين الشمس ، فثلطت وبالت ، ثم رتعت وان المال حلوة خضرة ونعم صاحبها المسلم هو ، ان وصل الرحم وأنفق في سبيل الله ، ومثل الذي يأخذه بغير حقه ، كمثل الذي يأكل ولا يشبع ، ويكون عليه شهيداً يوم القيامة) ( ).
قانون تعدد وجوه الحكمة في الآية القرآنية
لا تقف وظائف النبوة عند الأمر والنهي والإمتناع عن فعل مخصوص ، بل تجتمع هذه الأمور مع قيام النبي بأداء الواجبات خير قيام ، ويقتدي به أصحابه والمسلمون ويكون حسن نهجه أمارة صدق نبوته ، ووسيلة لدفع ضرر الذين كفروا عن المسلمين لذا ورد قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
وتدل آية السياق بالدلالة التضمنية على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعلم الكتاب ويفقه الحكمة بدلالة تعليمه المسلمين إياهما، وهو من الشواهد على بلوغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة الكمالات الإنسانية وأن الكتاب والحكمة صارا حاضرين في حياة الناس بعد نبوته .
وقد جاء هذا التعليم مع تحلي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باللأمانة وفي خطاب موجه إليه قال الله تعالى[وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ]( ).
وفي النسبة بين الكتاب والحكمة، قال بعضهم : الآية ها هنا الكتاب فنسّق عليه خلاف اللفظين كقول الحطيئة :
ألا حبّذا هند وأرض بها هند .وهند أتى من دونها النّأي والبعد( ).
فنسق الشاعر النأي على البعد مع أن معناهما واحد, ولكن لا يصح الحصر بهذا المعنى , إذ أن التعدد والتغاير في لغة ومترادفات القرآن لا تنخزل بقول بيت شعر .
وبين الكتاب والحكمة عموم وخصوص من وجه، ومن الحكمة بيان القرآن وفقه مسائله والتدبر في آياته، وفي ذات الآية القرآنية حكمة متعددة .
ومن الحكمة الموعظة والتقييد بالأوامر والنواهي الإلهية ، ومن وجوه تقدير قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( )، ويعلمهم القرآن ويعلمهم العمل بمضامينه وسننه، ولا يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا حتى يكون المسلمون قد عملوا بأحكام القرآن، ويتجلى بالسنة النبوية القولية والفعلية .
وعن زر بن حبيش قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنّ الله أوحى إليّ يا أخ المرسلين يا أخا المنذرين إنذر قومك ألاّ يدخلوا بيتاً من بيوتي إلاّ بقلوب سليمة وألسن صادقة وأيد نقيّة وفروج طاهرة ولا يدخلوا بيتاً من بيوتي ولأحد عندهم مظلمة فإنّي ألعنه ما دام قائماً بين يديّ يصلّي حتّى يردّ تلك الظلامة إلى أهلها فأكون سمعه الّذي يسمع به وأكون بصره الّذي يبصر به ويكون من أوليائي وأصفيائي ويكون جاري مع النبيّين والصدّيقين و الشّهداء والصالحين( ).
وورد في عيسى عليه السلام [وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ]( )، فبينت الآية أن الكتاب غير التوراة والإنجيل، بينما جاء في تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعليم الكتاب لبيان أن القرآن جامع لأحكام التنزيل , قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، وهل النهي عن الغلول من الكتاب أم من الحكمة أم من عموم فضل الله بالنبوة والوحي بقوله تعالى[وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا]( ).
الجواب إنه منها مجتمعة ومتفرقة إذ جاء القرآن بالنهي عن الغلول ، وكذا السنة، ويبعث إرتقاء المسلمين الى مراتب الحكمة التعاون والتعاضد بينهم لإجتناب الغلول، والنفرة في نفوسهم منها.
ومن أسرار حال القتال تبدل طباع المقاتلين وتغير أخلاقهم، وميلهم إلى الإستحواذ على الأشياء، وإمتناعهم عن التقيد بالأوامر لأنهم يظنون أنهم يتولون الدفاع والقتال بدمائهم دون غيرهم الذين خلفهم من ذوي الشأن والرغد , وأنهم يرون في الميدان مالا يراه غيرهم، وليس من قانون وتشريع وضعي يضبط سلوكهم في كل زمان، ولكن جاء شطر من آية البحث ليتقيد المسلمون في كل زمان بآداب العفة والطهارة والتحلي بالإيثار في ميدان المعركة.
وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( )وتقديره في المقام على وجوه :
أولاً :أهدنا الصراط المستقيم بالصبر في ميدان المعركة والمرابطة في الثغور ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) .
ثانياً : اهدنا المستقيم بطاعة الله ورسوله في الميدان .
ثالثاً : اهدنا الصراط المستقيم بالتوجه إلى الدعاء والمسألة من الله عز وجل .
رابعاً : ساعة لقاء الذين كفروا من أشد الساعات حرجاً وخطورة على المسلمين فاهدنا الصراط المستقيم بالثبات والتنزه عن أسباب الغضاضة والكدورة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ]( ) .
و(عن أبي اليسر : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو بهؤلاء الكلمات السبع يقول : اللهم إني أعوذ بك من الهرم ، وأعوذ بك من الغم والغرق والحرق ، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت ، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبراً ، وأعوذ بك أن أموت لديغاً .
وأخرج ابن سعد وأبو داود والترمذي والبيهقي في الأسماء والصفات عن بلال بن يسار عن زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه عن جده : أنه سمع رسول الله يقول : من قال : أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له وإن كان فرّ من الزحف ) ( ).
خامساً : اهدنا الصراط المستقيم بالإمتناع عن أكل الغلول. سادساً : اهدنا الصراط المستقيم بالإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ليكون من معاني الحكمة في المقام إرادة قصد القربة، إذ أن بعض معانيها يطرأ حسب الحال والمقام وتأتي الحكمة لتثبيت آيات القرآن في الأذهان والمجتمعات، وتترشح الحكمة في الآية القرآنية من وجوه :
الأول : ذات مضامين الآية القرآنية حكمة .
الثاني : بيان الآية القرآنية حكمة.
الثالث : ترشح الحكمة عن الآية القرآنية ودلالاتها .
الرابع : إدراك وجوب العمل بأحكام الآية القرآنية حكمة .
الخامس : الدعوة إلى العمل بمضامين الآية القرآنية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الحكمة، قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
السادس : الإمتثال للأوامر والنواهي في القرآن حكمة إذ يقود إلى النجاة في النشأتين .
ويمكن القول أن في كل آية قرآنية مصاديق متعددة من الحكمة ومنها في آية البحث وجوه كثيرة تتجلى في المنطوق والمفهوم منها :
الأول : إقتران الحكمة بالنبوة ، فمن أساه الله النبوة فان الحكمة تكون مصاحبة لها ولا نتخلف عنها .
فلا يأمر أي نبي بسنن إلا أتى به ، وحرص على تعاهده ، وما نهى عن شيء إلا إجنبه في السر والعلانية ، وجاءت آية البحث لتخبر عن سر كان متجدداً في الأيام مع تعدد الأنبياء ولا يعلم بأفراده إلا الله عز وجل وهو أن الأنبياء لم يغلوا في السر أو العلانية ، لتكون آية البحث تزكية من الله للأنبياء وشهادة لهم بالحكمة وليقتبس المسلمون من هذه التزكية والشهادة الإلهية في القرآن ، وليشهد الله يوم القيامة للمسلمين بعدم الغلول كما شهد للأنبياء من القرآن بهذه الخصلة الكريمة .
وعن أبي موسى قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا ، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ، ولا تنبت كلأ . فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به ، فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به وبهذا الإسناد عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : إن مثلي ومثل ما بعثني الله تعالى به كمثل رجل أتى قوما ، فقال : يا قوم ، إني رأيت الجيش بعيني ، وأنا النذير العريان ، فالنجاء فأطاعه طائفة من قومه ، فأدلجوا ، فانطلقوا على مهلهم ، فنجوا ، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش ، فأهلكهم واجتاحهم ، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به من الحق ، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق) ( ).
الثاني : من الحكمة تلاوة المسلمين لآية البحث وهل يشترط في تحقق صدق الحكمة بالتدبر في الآية ، الجواب لا ، فتكفي ذات الأمر ليكون التدبر فيها مصداق آخر للحكمة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
طراوة آية البحث حتى مع عدم وجود قتال وغنائم
تمر على المسلمين عقود وأحقاب ليس فيها جهاد أو قتال مع غيرهم ، فيكون موضوع الغلول سالبة بانتفاء الموضوع ، ولكن آية البحث لا يعطل حكمها من جهات :
الأولى : تعدد مضامين آية البحث وعدم إختصاصها بالغل والسرقة من الغنائم مع جواز تسميتها آية الغلول .
الثانية : بيان آية البحث لقانون يتعلق بأحوال الأنبياء وخلقهم الحميد ، ومراتب العفة والطهارة التي يتصفون بها ، ولما أخبرت آية السياق بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يزكي ويطهر المسلمين بقوله تعالى [وَيُزَكِّيهِمْ] فان الله عز وجل هو الذي زكىّ الأنبياء وأصلحهم للإمامة في الأرض .
وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (أدبنى ربى فأحسن تأديبى) ( ) ، وجاء الحديث عن الإمام علي عليه السلام وابن مسعود ( ).
ولكن جاء التنزيل والثناء من عند الله في القرآن بقوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) لإجتماع محاسن الأخلاق الحميدة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم انه قال (بُعثت لأتُمّم مكارم الأخلاق) ( ).
ومن مكارم الأخلاق التي يتصف بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوه :
أولاً : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآية البحث .
ثانياً : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمضامين آية البحث .
ثالثاً : ثناء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين .
رابعاً : محاكاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأنبياء في تنزههم عن الغلول ، وهو من أسرار حفظ المسلمين لسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوارثها وتدارسها لتبقى الآية القرآنية غضة طرية من وجوه :
أولاً : ذات الآية القرآنية ورسمها وكلماتها .
ثانياً : وجود الآية القرآنية بين الدفتين إلى يوم القيامة .
ثالثاً : تلاوة المسلمين للآية القرآنية على نحو يومي متصل ، فلا يمر يوم على المسلمين إلا وجماعة منهم قد قرأوا آية البحث وآخرون تدبروا في مضامينها القدسية .
رابعاً : تدارس المسلمين لآية البحث وإستقراء الدروس والمواعظ منها .
خامساً : إستحضار المسلمين لأسباب نزول آية البحث ، وما تدل عليه من سلامة سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال الحرب والسلم .
الثالثة : جمع الآية بين سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة الأنبياء السابقين وإظهار وجوه الشبه التام بينهما في الجهاد وعمل الصالحات ، وتقدير آية البحث على وجوه منها :
أولاً : ما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يغل ، فقد أرسله الله عز وجل رحمة عامة بقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) ومن معاني الرحمة عدم صدور فعل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسبب الأذى لعدد من المؤمنين بلحاظ أن الغلول فيه أذى لعامة المسلمين .
ثانياً : ما كان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يغل وليس من نبي قبله قد غلّ ، لتكون الحياة الدنيا دار تنزه الأنبياء عن الغلول ، وإنقطعت أيام النبوة بانتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، ولكن سنن الأنبياء باقية في الأرض من وجوه :
الأول : آية البحث وما فيها من الثناء على الأنبياء .
الثاني : مجئ الثواب للأنبياء بتلاوة المسلمين لآية البحث لأنها نوع طريق لتأديب المسلمين ، ويتلو كل مسلم ومسلمة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) سبع عشرة مرة في اليوم على نحو الوجوب العيني ، وتفضل الله عز وجل وجعل آية البحث من الصراط المستقيم .
ويحتمل قوله تعالى [ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ]وجوهاً :
الأول : إرادة التخويف للذين يغلون ويأخذون من الغنائم .
الثاني : المقصود الوعيد للمنافقين والذين في قلوبهم مرض ممن ينسبون الغل إلى الأنبياء .
وهل الإفتراء على الأنبياء من الكسب الذي تذكره الآية أعلاه ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ] ( ) .
الثالث : المراد الوعد الكريم للمسلمين الذين يمتنعون عن الغل والأخذ من المال العام والغنائم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية ، وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : ثم يوفى كل نبي بما كسب من طاعة الله باجتناب الغلول .
الثاني : ثم يوفى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما كسب بعصمته من الغلول .
الثالث : ثم يوفى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسلامة أمته من الغلول .
الرابع : ثم يوفى كل مسلم بما كسب بتنزهه عن الغلول.
الخامس : ثم يوفى الذي امتنع عن الغلول بما كسب من الصالحات لا ينقص منها شئ بسبب الغلول .
السادس : ثم يوفى الذي يأخذ الغلول بما كسب إلا أن يشاء الله .
السابع : ثم يوفى الذي يعين ويؤازر الذي يأخذ الغلول بما كسب، وفي ثناء الله عز وجل على نفسه وإنفراده بالعلم المطلق بما ظهر وما خفي قال تعالى[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( )، وجاء لفظ (توفى) بصيغة المبني للمجهول .
ولا يقدر على إيفاء وإستيفاء الحقوق يوم القيامة إلا الله عز وجل، ولا يعلمها ولا يستحضرها يومئذ إلا هو سبحانه ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وفي التنزيل[وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ]( )، ترى لماذا جاءت الآية بصيغة التنكير (توفى) الجواب من جهات :
الأولى : دعوة المسلمين للتهيئ لعالم الحساب.
الثانية : تأكيد قانون وهو أن كل إنسان تهمه نفسه يوم القيامة، ولا يشتغل إلا بعمله، لذا جاءت آية البحث لتحث المسلمين على إجتناب الغلول ، قال تعالى[فَإِذَا جَاءَتْ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ]( ).
والصاخة الصيحة التي من شدتها وقوتها تصم الأذان، وتجعل أهل المحشر مشدوهين مشدودين إليها , في حال فزع وخوف إلا من يشاء الله , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ]( ).

بحث أصولي
هل يصح تأسيس قانون هو : إمتناع المسلمين عن أكل الغلول دعوة إلى الله.
الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
وصحيح أن الآية أعلاه وردت بصيغة العطف بين الحكمة والموعظة والتي تفيد المغايرة والتعدد فيما بينهما إلا أنه لا يمنع من كون المصداق الخارجي جامعاً لهما ، فاجتناب أكل المسلمين الغلول حكمة وفقاهة وعلم وخلق حميد ، وهو موعظة، ونصح ورشد وبناء لبنة في صرح الإسلام وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( )، فبعد إيذاء كفار قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة الأوائل في مكة والحاقهم أشد الضرر بهم، وقتل عدد منهم تحت التعذيب الجسدي الوحشي , جاءت الفتوحات والغنائم ليشكر المسلمون الله عز وجل بالامتناع عن الغش للجماعة وعن أكل الغلول .
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بأن نهاهم عن أخذ الغلول الذي يدل بالدلالة التضمنية على تحقيقهم النصر تلو النصر، والغلبة على المشركين .
لقد وصف الله عز وجل نفسه بأنه حكيم ، قال سبحانه [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ) وتحتمل حكمة الله بلحاظ المتعلق وجوهاً :
الأول : في كل شيء لله حكمة .
الثاني : حكمة الله خاصة بالخلق والإنشاء .
الثالث : الحكمة المتعددة من عند الله في الشيء المتحد والمتعدد ، والصحيح هو الأخير ، وهو آية من عند الله وبيان متجدد لقوله تعالى [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
ومن حكمته تعالى خلق الإنسان والنفخ فيه من روحه ، وصيرورته خليفة في الأرض ، وبسط الرزق له ، وإنزال الكتب السماوية وإمتناع الأنبياء عن أكل الغلول بالعصمة ليقتدي بهم المسلمون بالتعلم والإقتباس وإتخاذ طاعة الله عز وجل ورسوله منهاج عملي يومي ،وهو من الإعجاز في أداء كل مسلم ومسلمة الصلاة خمس مرات في اليوم لما فيها من تنمية لملكة الطاعة لله في نفوس المسلمين ورياضة النفس على الخضوع والخشوع لله عز وجل لذا قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ) بلحاظ أنها واقية من أكل الغلول ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )من جهات :
الأولى : تفقه المسلمين في الدين ومعرفة أصوله وأركانه .
الثانية : شهادة المسلمين للأنبياء بأنهم لم يغلوا ولم يأخذوا خلسة من الغنائم والمال العام وتلك منزلة عظيمة للمسلمين أن يشهدوا للأنبياء بتقواهم وإخلاصهم وتفانيهم في طاعة الله .
وقد ورد قوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] ( ) وصحيح أن الأنبياء من الناس ولكن المراد في الآية أعلاه إقامة الحجة على الناس بشهادة المسلمين بالحق عليهم نعم يشهد المسلمون للأنبياء وليس عليهم .
الثاني : إخبار آية البحث عن قانون سلامة كل نبي من الغل والسرقة والغش .
الثالث : تلاوة المسلمين لآية البحث كل يوم لتكون هذه التلاوة شهادة للأنبياء بعصمتهم من أكل الغلول .
وليس من طائفة أو أمة يشهد لها كل يوم بالتقوى والعفة مثل شهادة المسلمين للأنبياء وهو من مصاديق قوله تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ]( )، من جهات :
الأولى : الشهادة العامة للمسلمين فلا يتخلف شطر أو طائفة منهم عن هذه الشهادة وهو من مصاديق وحدة المسلمين وإمتناعهم عن الفرقة والإختلاف .
الثانية : يمكن تسمية شهادة المسلمين للأنبياء بالشهادة القرآنية ، وتتصف هذه الشهادة بأنها صدق وحق ولا تقبل الخطأ أو الشك أو الوهم .
الثالثة : تنقطع الشهادات في الدنيا ، ولكن شهادة المسلمين للأنبياء تتوالى وتتجدد في الدنيا والآخرة ، فمع الإختلاف بينهما فان شهادة المسلمين متصلة ومتجددة .
الرابعة : من خصائص الشهادة أنها تنفع في فك الخصومة ، وإنتزاع الحق والحيلولة دون الظلم ، ولكن شهادة المسلمين للأنبياء بالسلامة من الغل جامعة للمحاسن أعلاه ، كما أنها تنفعهم إذ تبعث في نفوسهم النفرة من أكل الغلول ، وتدعوهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذا الباب وغيره .
وحينما إحتج الملائكة على جعل آدم خليفة في الأرض أجابهم الله عز وجل بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علمه تعالى طهارة الأرض بتنزه الأنبياء والمسلمين عن أكل الغلول وفيه محاربة للفساد ، ومنع من تجدد سفك الدماء ، فتحصل معركة بين المؤمنين والذين كفروا يتعقبها النصر والفرج ، وإنكسار الذين كفروا وهزيمة مفاهيم الضلالة .
لذا سمّى الله معركة بدر بأنها يوم الفرقان بقوله تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
إذ أخزى الله المشركين وأذل المنافقين ، وفضح الفاسقين يومئذ ، ومن نصرة الله عز وجل للنبي وتمامها أنه لم يؤخر الفرقان إلى معارك لاحقة لمعركة بدر بين المؤمنين والكفار ، ولم يمتحن المسلمين بكثرة القتلى من المهاجرين والأنصار في أولى المعارك خاصة مع رجحان كفة الذين كفروا بالعدد والعدة والسلاح ولكن الله عز وجل هو الذي يعطي بالأوفى والأتم , ومنه نصره للنبي والمسلمين بأن إتصف النصر يوم بدر بأمور :
الأول : سرعة نصر المسلمين ، فلم تستمر المعركة أياماً ولم تدم إلا شطراً من نهار اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة .
الثاني : كثرة قتل وأسرى المشركين ، إذ سقط منهم سبعون قتيلاً وأُسر سبعون ، ومن خصائص العرب أنهم يولون عناية بالرقم سبعة وأضعافه ، ليكون رقم سبعون قتيلاً وسبعون أسيراً باعثاً للخوف في قلوب الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ] ( ) .
الثالث : كثرة الغنائم التي استولى عليها المسلمون وقيام النبي بتوزيعها سهاماً عليهم .
ومن الإعجاز أنه قام بتوزيعها قبل دخولهم المدينة لمنع الإختلاف والفتنة وطلب غير البدريين حصة منها ، إذ إحتمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم معه الغنائم في طريق العودة إلى المدينة وجعل عليها عبد الله بن كعب من بني مازن بن النجار حتى إذا خرج من مضيق الصفراء قسمّها بينهم بالسوية , ويبعد هذا المضيق عن المدينة المنورة نحو تسعين كيلو متراً .
وعن أبي أمامة الباهلى (قال: سألت عبادة بن الصامت، عن الانفال , فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقسمه بين المسلمين عن بواء. يقول: عن سواء) ( ) .
وكان لغنائم بدر عند المسلمين شأن خاص لما فيها من الحلاوة والعذوبة لأنها شاهد على النصر وحجة يدخلون بها المدينة ليرى أهلها معالم النصر ،وهو من مصاديق قوله تعالى [فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
و (عن عبادة بن الصامت، قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرا، فالتقى الناس فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون
ويقتلون، وأكبت طائفة على المغنم يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وليس لاحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق به منا، نحن نفينا منها العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به.
فأنزل الله: ” يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين “.
فقسمها رسول الله بين المسلمين: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أغار في أرض العدو نفل الربع، فإذا أقبل راجعا نفل الثلث، وكان يكره الانفال) ( ).
(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر : من فعل كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا
قال : فتقدم الفتيان ولزم المشيخة الرايات . فلما فتح الله عليهم قالت المشيخة : كنا ردءا لكم لو انهزمتم فئتم إلينا فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى . فأبى الفتيان وقالوا : جعله رسول الله صلى الله عليه و سلم لنا فأنزل الله تعالى ” يسئلونك عن الأنفال ” إلى قوله : ” وإن فريقا من المؤمنين لكارهون( ).
يقول : فكان ذلك خيرا لهم . فكذلك أيضا أطيعوني فإني أعلم بعاقبة هذا منكم . أخرجه أبو داود
ثم ساقه من وجه آخر عن داود بإسناده . وقال : فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسواء) ( ).
ومن الإعجاز أن هذه الشهادة في الدنيا وفي الآخرة وتتجدد هذه الشهادة خمس مرات في اليوم بأن يشهد المسلمون في الصلاة للأنبياء بالتنزه عن أكل الغلول ليأتي الثواب للأنبياء كل يوم وإن غادروا الدنيا من جهات :
الأولى : ذكر الأنبياء وعفتهم وطهارتهم في القرآن
الثانية : قانون الأنبياء أسوة للناس في الصلاح , ونبذ الفساد , ولما إحتج الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ) لم يترك الله إحتجاجهم ، ولم يوبخهم أو يحاسبهم عليه ، فهم [عِبَادٌ مُكْرَمُونَ] ( ) لذا أجابهم بالبرهان بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علمه تعالى بعث الأنبياء وصيرورتهم قدوة حسنة للناس في الدعوة إلى الله وفعل الخيرات ومحاربة الفساد وإزهاق الأرواح بغير حق ، لذا يأتيهم الثواب كل يوم بدعاء الملائكة وإقتداء المسلمين بهم .
الثالثة : إمتناع المسلمين عن الغلول حكمة ومصلحة لهم وللعباد .
الرابعة : تنزه المسلمين عن أكل الغلول حياة لهم وجزء علة لتوارث الأمن والأمان في مجتمعاتهم وعون لهم على أداء العبادات ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ] ( ) .
(قال لقمان عليه السلام لابنه : يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك ، فإن الله ليحيي القلوب الميتة بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء) ( ).
(عن عبد الله بن دينار: إن لقمان قدم من سفر فلقيه غلام في الطريق فقال : ما فعل أبي؟ قال : مات .
قال : الحمد لله ملكت أمري قال : ما فعلت أمي؟ قال : ماتت . قال : ذهب همي .
قال : ما فعلت امرأتي؟ قال : ماتت .
قال : جدد فراشي .
قال : ما فعلت أختي؟ قال : ماتت .
قال : سترت عورتي .
قال : ما فعل أخي؟ قال : مات قال : انقطع ظهري ) ( )
ومضمون هذا الخبر أمر بعيد ومناف لما عليه لقمان من الخلق الحميد ومنه صلة الرحم ، وحسن المواساة انما ينقل بعضهم هذا الخبر عن إعرابي , وفيه دلالة على ضعفه .
وإجتناب السرقة من الغنائم والمال العام حكمة وفقاهة ، لأنه يمنع من الفرقة والخلاف بين المسلمين ، قال تعالى [وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الحكمة جلية في كل أمر ونهي منه سبحانه ومن رسوله الكريم ، بلحاظ أن أوامر ونواهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من رشحات الوحي ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) أي ما ينطق ولا يفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالحكمة والبينة بايحاء من الله عز وجل.
ويكون قوله وفعله حجة وبرهاناً للملازمة بين الحكمة من عند الله عز وجل وبين الحجة ، وهو من مصاديق المبالغة وصيغ التمام في الحكمة بقوله تعالى [حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ] ( ).
وعن السدي أن قوله تعالى[وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ]( )، نسخت الآية أعلاه( )، وليس من نسخ بين الآيتين لفظاً ودلالة.
وتفيد الآية أعلاه من سورة يونس أن توالي الآيات وتوجيه النذر المتعددة الى الذين لا يؤمنون ليس بنافع مع هؤلاء ويفيد الجمع بين الآيتين أن الله عز وجل تفضل على الناس بالحكمة البالغة وهو القرآن والتنزيل إلى جانب الآيات والبراهين الكونية والإنذارات وأسباب التخويف في الدنيا والآخرة، فمن لم تنفع معه الحجج الكونية والآيات في النفوس ومما حوله، تأتيه حجج الرسل فه مبشرون ومنذرون .
وتتلى عليه آيات القرآن، لذا ورد عن السدي نفسه قال: حكمة بالغة : هي الرسالة والكتاب ( ).
المسألة الثانية عشرة : لقد تضمنت آية السياق قانوناً وهو قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن ، ومن الإعجاز في الآية أنها لم تقل (يتلو عليهم آيات القرآن) إنما قالت [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ] ( )وعودة الضمير الهاء لله عز وجل ، وتحتمل الآيات المقصودة في المقام وجوهاً :
الأول : إرادة آيات القرآن ويبلغ عددها ستة آلاف ومائتين وستاً وثلاثين آية ، لبيان أن النسبة بين لفظ آياته في آية السياق وآيات القرآن هي التساوي، وقد تكون النسبة هي العموم والخصوص من وجه، كما في النسبة بين الآية القرآنية [ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوْا الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ]( )، وكذا في قوله تعالى[وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا]( ).
فلم تقل الآية أعلاه تنزل بل ذكرتها بصيغة الإرسال وكما في قوله تعالى[وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا]( )، فمادة الإلتقاء الآيات من عند الله، ومادة الإفتراق الإختلاف في جنس الآيات، بين الآيات الحسية الظاهرة، وآيات القرآن العقلية والتي تتلى تلاوة ويعمل بمضامينها وفيها الأجر والثواب وقد تكون النسبة بين لفظ الآيات وآيات القرآن هي العموم والخصوص المطلق، وفي ذم الكفار من أهل مكة قال تعالى[وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا]( ).
فاذا جاءهم الخصب وكثرت أموالهم وتحسنت سبل تجارتهم، ورزقهم الله العافية والصحة بعد القحط والمرض، وأنعم عليهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد طول الغفلة وإستحواذ مفاهيم الشرك عليهم ، إذا هم طعنوا في آيات القرآن وصاروا يكيدون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : كل كلمة من القرآن هي آية من عند الله لبيان حقيقة وهي أن النسبة بين آيات القرآن وبين لفظ آياته في آية السياق هو العموم والخصوص المطلق .
الثالث : إرادة المعنى الأعم للآيات والمراد تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآيات القرآن وبيانه للآيات الكونية وعلوم الغيب وأهوال القبر وعالم الآخرة والقدر المتيقن هو الأول والثاني أعلاه .
(ويقال تلا الكتاب : قرأه بصوت مرتفع ).
وقال تعالى [أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ] ( ).
ومن الإعجاز في آية السياق ورودها بصيغة العموم في الآيات ، فلم تقل الآية (يتلو عليهم من آياته ) لبيان أن آيات التنزيل كلها في القرآن.
وهل تدل الآية على النسخ في التنزيل وأن آيات القرآن نسخت ما قبلها.
الجواب تفيد الآية قانوناً وهو أن مسائل وآيات التنزيل في الكتب السماوية السابقة جاءت في القرآن ، وهو أعم من النسخ وموضوعه، ومن مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )، لتأكيد قانون وهو التعدد في المنّ الإلهي في كل فرد من أفراد آية السياق فصحيح أن قوله تعالى [إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ]نعمة عظمى ، ومنّة من الله عز وجل إلا أنه تتفرع وتتولد عنها مننّ ونعم غير متناهية ، وكذا بالنسبة لمضامين وأفراد النعم في آية السياق مثل قوله تعالى [وَيُزَكِّيهِمْ] .
ويكون إستقراء وإستنباط هذه المنن على جهات :
الأولى : ذات آية السياق .
الثانية : المننّ المستقرأة من الصلة بين آية السياق وكل آية من القرآن ، وتحتمل وجوهاً :
أولاً : تتضمن الصلة بين آية السياق وكل آية من القرآن إستنباط أو تأكيد علوم وأحكام .
ثانياً : الصلة بين آية السياق وبين كل شطر وجزء من أي آية من القرآن .
ثالثاً : الصلة بين كل شطر من آية السياق وأي شطر من كل آية من القرآن.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية السياق فان قلت من آيات القرآن ما تكون كلمة واحدة مثل [وَالضُّحى] ( ) [وَالْفَجْرِ ] ( ) فكيف يكون تعدد الأجزاء فيها , وهل يكتفى بخصوصها بصلة كل شطر من آية السياق بأي من الآيتين أعلاه.
الجواب يجوز مثل هذا الإكتفاء ، وهذه الآيات قليلة مع إمكان التعدد حتى مع إتحاد كلمة الآية القرآنية بلحاظ أمور منها:
الأول : دلالة حرف الجر والقسم الواو الذي في قوله تعالى [وَالضُّحى]و[وَالْفَجْرِ ].
الثاني : قانون القسم في القرآن، وتعدد وجوهه وموضوعه.
الثالث : صلة القسم في آية (والضحى) و(الفجر) بكل آية من القرآن، وكل شطر منها.
الرابع : دلالة كل من الآيتين أعلاه بلحاظ كل آية من القرآن,
الخامس : أسرار ومعاني الجمع بين الآية القرآنية القصيرة والآية الطويلة .
السادس : منافع كل آية من القرآن في بيان مصاديق الآيتين أعلاه .
السابع : المنافع الأخروية من الجمع بين كل منهما وبين كل آية من القرآن .
الثامن : دلالات الجمع بين كل آيتين تتصفان بالقصر وقلة الكلمات .
التاسع : موضوعية القسم في كل من الآيتين وصلته بآية السياق.
العاشر : موضوع كل من الآيتين ، ومسألة وشأن الزمان في القسم من عند الله عز وجل .
المسألة الثالثة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين ( لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة ) تتضمن آية السياق الثناء من عند الله من وجوه :
الأول : ثناء الله عز وجل على نفسه ، وهذا الثناء متعدد ومتجدد من وجوه كثيرة منها جلي ومنها خفي ، ومنها ما ظهر للناس يتجلى في الأحقاب اللاحقة ، وهذا التجلي على وجوه :
أولاً : مصاديق ثناء الله عز وجل على نفسه قبل نزول آيات القرآن .
ثانياً : مصاديق الثناء بعد نزول القرآن.
ثالثاً : ثناء الله عز وجل المستديم والدائم، وليس لها حدّ من طرف الكثرة .
رابعاً : المصاديق المستحدثة لثناء الله عز وجل على نفسه في كل ساعة من ساعات الدنيا، وفي التنزيل [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ]( ).
خامساً : تجلي مصاديق ثناء الله على نفسه في الآخرة للخلائق، وفي التنزيل[لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( )، ، وهو من أسرار نضارة آيات القرآن ، وبقائها حية طرية.
سادساً : المصاديق الخارجية لآية السياق ، وتجلي المننّ التي تذكرها الآية.
سابعاً : المنن التي تترشح عن آية السياق مما يتفرع عن مضامينها أو عن تلاوة المسلمين لها ، أو عملهم بأحكامها وسننها .
ثامناً : بعث الله عز وجل المسلمين على التدبر بمضامين آيات القرآن، وترغيبهم بالإمتثال للأوامر , وإجتنابهم للنواهي التي فيها.
تاسعاً : ثناء الله عز وجل على نفسه في إحصاء أعمال العباد والوعد الكريم بالثواب العظيم على فعل الصالحات، قال تعالى[وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ]( ).
ومن مننّ الله عز وجل على المسلمين ما يتعلق بآية البحث ، ويمكن تأسيس باب جديد في هذا السفر وهو (آية البحث منّ من عند الله) ومن منّ وإحسان الله عز وجل في المقام وجوه :
أولاً : القرآن كلام الله ، وهو معجزة عظمى بين الخلائق ، وقد انبهرت الجن عندما سمعوا القرآن ، قال تعالى [قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا] ( ).
وهل أدهش القرآن ونزوله الملائكة عندما سمعوا آياته الجواب نعم، وفيه جهات :
الأولى :تسمع الملائكة كلام الله في كثير من الأحيان فهم سكنة السموات ومجاورون لعرش الله عز وجل .
الثانية : لم تطلع الملائكة على آيات القرآن إلا بالقدر الذي يخصها ويتعلق بعملها .
الثالثة : لقد أدهشت بعض آيات القرآن الملائكة دون بعضها الآخر .
الرابعة : انبهار وإقرار الملائكة باعجاز آيات القرآن .
والصحيح هي الرابعة أعلاه ، لقد أخبر الله عز وجل الملائكة عن خلقه للإنسان بقوله تعالى[وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، مما يدل على عظيم منزلة كل من الملائكة والناس في عالم التكوين وبين الخلائق ، وأيهما أكثر إكراماً بهذا الإخبار فيه وجوه :
الأول : الملائكة لأن الله أطلعهم على خلق الإنسان، وهم سكنة السماء، وخلافة الإنسان في الأرض، وشرف السكن في السماء أعظم.
الثاني : الإنسان لأنه نال مرتبة الخلائف من بين الخلائق، ولم تصلها الملائكة لذا كان إحتجاجهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ).
الثالث : التساوي في عظيم المنزلة بين الملائكة والناس.
الرابع . التفصيل في مراتب الناس وأن الأنبياء وصالح المؤمنين هم الذين يقارن في التفضيل بينهم وبين الملائكة وسيأتي بيانه تفصيلاً، ومشهور المسلمين أن صالحي البشر أفضل من الملائكة، وان كان أصل خلق الملائكة من نور وأكثر عبادة لله ، وأصل خلق البشر من التراب،، وقيل هذه المسألة من فضول العلم.
لقد أراد الله عز وجل للقرآن أن يكون المعجزة الخالدة التي تصاحب الحياة الدنيا ، لقد سجد الملائكة لآدم بأمر من عند الله (عن ابن عباس قال: كان إبليس من حَيّ من أحياء الملائكة يقال لهم: الجِنّ، خلقوا من نار السموم، من بين الملائكة، وكان اسمه الحارث، وكان خازنا من خزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي.
قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، (وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت قال: وخلق الإنسان من طين).
فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضا. قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة -وهم هذا الحي الذي يقال لهم: الجنّ -فقتلهم إبليس ومن معه، حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلما فعل إبليس ذلك اغتَرّ في نفسه، فقال: قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد.
قال: فاطلع الله على ذلك من قلبه، ولم يطلع عليه الملائكة الذين كانوا معه، فقال الله تعالى للملائكة الذين معه [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً] ( ) .
فقالت الملائكة مجيبين له [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )، كما أفسدت الجن وسفكت الدماء، وإنما بعثتنا عليهم لذلك، فقال [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ] ( ).
يقول: إني قد اطلعت من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من كبره واغتراره.
قال: ثم أمر بتربة آدم فرفعت، فخلق الله آدم من طين لازب -واللازب: اللزج الصلب من حمإ مسنون منتن، وإنما كان حَمَأ مسنونا بعد التراب. فخلق منه آدم بيده.
قال: فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى. فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله، فيصلصل، أي فيصوت. قال: فهو قول الله تعالى [مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ]( )، يقول: كالشيء المنفرج الذي ليس بمُصْمَت.
قال: ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره، ويدخل من دبره، ويخرج من فيه. ثم يقول: لست شيئا -للصلصلة-ولشيء ما خلقت، ولئن سُلِّطْتُ عليك لأهلكنك، ولئن سُلِّطْتُ علي لأعْصيَنَّك. قال:
فلما نفخ الله فيه من روحه، أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صار لحمًا ودمًا، فلما انتهت النفخة إلى سُرَّته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى من جسده، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله تعالى[بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً]( ) .
قال: ضجر لا صبر له على سراء ولا ضراء. قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس، فقال: “الحمد لله رب العالمين” بإلهام الله. فقال [الله] له: “يرحمك الله يا آدم “. قال ثم قال [الله] تعالى للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السماوات: اسجدوا لآدم. فسجدوا [كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ]( )، لما كان حدث نفسه من الكبر والاغترار. فقال: لا أسجد له، وأنا خير منه وأكبر سنا وأقوى خلقا، خلقتني من نار وخلقته من طين.
يقول: إن النار أقوى من الطين. قال: فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله، أي: آيسه من الخير كله، وجعله شيطانا رجيما عُقُوبة لمعصيته، ثم [علم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.

ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة، يعني: الملائكة الذين كانوا مع إبليس، الذين خلقوا من نار السموم، وقال لهم[أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ] .
يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }( ) إن كنتم تعلمون لِمَ أجعل في الأرض خليفة.
قال: فلما علمت الملائكة موجدة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب، الذي لا يعلمه غيره، الذي ليس لهم به علم قالوا: سبحانك، تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره، وتبنا إليك { لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا }( ) .
تبريا منهم من علم الغيب، إلا ما علمتنا كما علمت آدم، فقال [يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ]( )، يقول: أخبرهم بأسمائهم { فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ } [يقول: أخبرهم] { بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ } أيها الملائكة خاصة [إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، ولا يعلم غيري [وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ] ( )، يقول : ما تظهرون [وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( )، يقول: أعلم السر كما أعلم العلانية، يعني: ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار .
هذا سياق غريب، وفيه أشياء فيها نظر، يطول مناقشتها، وهذا الإسناد إلى ابن عباس يروى به تفسير مشهور( ).
وقال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس -وعن مُرّة، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش، فجعل إبليس على مُلْك السماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع مُلْكه خازنا، فوقع في صدره كبر وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على الملائكة.
فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك منه. فقال الله للملائكة: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً}( )، قالوا : ربنا، وما يكون ذلك الخليفة.
قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا.
قالوا: ربنا، { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}( )، يعني: من شأن إبليس.
فبعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تَقْبض مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ، وقال: رب مني عاذت بك فأعذتُها.
فبعث ميكائيل، فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل.
فبعث مَلَك الموت فعاذت منه. فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض، وخَلَطَ ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين.
فَصعِد به فَبَلَّ التراب حتى عاد طينا لازبا -واللازب: هو الذي يلتزق بعضه ببعض -ثم قال الله للملائكة { إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ }( ) فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه، ليقول له: تتكبر عما عملت بيدي، ولم أتكبر أنا عنه. فخلقه بشرا، فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، وكان أشدهم فزعا منه إبليس، فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار وتكون له صلصلة. فذلك حين يقول: { مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ }( ) ويقول: لأمر ما خُلقت. ودخل من فيه فخرج من دبره.
وقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإن ربكم صَمَدٌ وهذا أجوف. لئن سلطت عليه لأهلكنه.
فلما بلغ الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح، قال للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه، عَطِسَ، فقالت الملائكة: قل: الحمد لله. فقال: الحمد لله.
فقال له الله: رحمك ربك، فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة. فلما دخل الروح في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول تعالى {خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ }( ) { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}( ) أبى واستكبر وكان من الكافرين.
قال الله له [مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ]( )، قال: أنا خير منه، لم أكن لأسجد لمن خلقته من طين.
قال الله له: اخرج منها فما يكون لك، يعني: ما ينبغي لك { أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ }( )، والصغار: هو الذل. قال: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا}( )، ثم عرض الخلق على الملائكة { فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}( )، أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فقالوا { سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }( ) قال الله[يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( )، قال: قولهم: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } فهذا الذي أبدوا “وأعلم ما تكتمون” يعني: ما أسر إبليس في نفسه من الكبر.
فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السُّدِّي، ويقع فيه إسرائيليات كثيرة ، فلعل بعضها مُدْرَج، ليس من كلام الصحابة ، أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة، والله أعلم)( ).
ثانياً : تفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبياً رسولاً من عنده تعالى .
لقد كان أهل السموات وورثة الأنبياء من أهل الكتاب يتطلعون إلى بعثته ويرصدون علامتها ، ويتوارثون ذكر صفاته الكريمة ، وحتى إبليس كان يراقب ويخشى أوان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وذكر (ان ابليس لعنه الله رنّ اربع رنات رنة حين لعن ورنة حين اهبط ورنة حين ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورنة حين نزلت فاتحة الكتاب) ( ).
وهل وصلت أخبار نبوته، وقرب أوان بعثته إلى المشركين والملأ من قريش، الجواب نعم من جهات :
الأولى : شيوع صفات خاتم الأنبياء خاصة عند قرب أيامه .
الثانية : تحديد بعض علماء أهل الكتاب محل مولد وبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنها في مكة ، وهناك شواهد خبرية كثيرة ، و(عن مقاتل بن حيان قال: أوحى الله عز وجل إلى عيسى بن مريم: جد في أمرى واسمع وأطع يا ابن الطاهرة البكر البتول، أنا خلقتك من غير فحل فجعلتك آية للعالمين، فإياى فاعبد.
فبين لاهل سوران بالسريانية، بلغ من بين يديك أنى أنا الحق القائم الذى لا أزول، صدقوا بالنبي الامي العربي صاحب الجمل والمدرعة والعمامة، وهى التاج، والنعلين، والهراوة، وهى القضيب، الجعد الرأس، الصلت الجبين، المقرون الحاجبين، الانجل العينين، الاهدب الاشفار، الادعج العينين، الاقنى الانف، الواضح الخدين، الكث اللحية، عرقه في وجهه كاللؤلؤ، ريح المسك ينضح منه، كأن عنقه إبريق فضة، وكأن الذهب يجرى في تراقيه، له شعرات من لبته إلى سرته تجرى كالقضيب، ليس في بطنه شعر غيره، شثن الكف والقدم .
إذا جاء مع الناس غمرهم، وإذا مشى كأنما يتقلع من الصخر ويتحدر من صبب، ذو النسل القليل ) ( ).
وعن كعب قال (انى اجد في التوراة عبدى أحمد المختار مولده بمكة) ( ).
الثالثة : إرادة بعض الفاسقين التحريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حين ولادته .
الرابعة : خشية قريش على ملكها وشأنها وكانوا يجتمعون في دار الندوة التي تطل على البيت الحرام ، ويومئذ لا تفصلها عن الكعبة إلا أمتار معدودات وكان لها باب قريب من الكعبة ، وقد عفي أثر دار الندوة في الأزمنة الأخيرة.
الخامسة : توارث قريش وأهل مكة وما حولها لبشارات إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوتهما للتصديق به .
السادسة : تعاهد العرب لحج بين الله الحرام نوع طريق للتطلع لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من الإعجاز في بناء البيت الحرام ، وتعاهد الأنبياء والمؤمنين وغيرهم له , قال تعالى[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا]( ).
ثالثاً : صيرورة أحد سادات الملائكة وهو جبرئيل الملك الذي ينزل بالوحي من عند الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد أكرم الله جبرئيل بأن أنذر الذين يعادونه ، وجعل معاداتهم له معاداة لله عز وجل ، قال سبحانه [قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ] ( ).
رابعاً : تفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً من عنده للمسلمين والمسلمات والناس جميعاً ، ولم يبعث لهم رسولاً من الملائكة أو من الجن ، ليكون من مصاديق خلافة الإنسان في الأرض أن الرسل الذين يأتون لهم من عند الله مبشرين ومنذرين هو من ذات سنخية البشر، ويمتازون عليهم بالنبوة والرسالة .
وقال الله تعالى مخاطباً النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ).
وهل تدل آية البحث على إمتياز واخنصاص الأنبياء بالإمتناع عن أكل الغلول , الجواب لا، لمشاركة المسلمين لهم بهذه الخصلة الكريمة، نعم الأنبياء أئمة المسلمين في التنزه عن الأخذ خلسة من الغنائم وبين المال.
خامساً : بيان قانون وهو إتحاد سنخية الإيمان بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لقوله تعالى [مِنْ أَنْفُسِهِمْ]( )، وقد ميّزت آية السياق النبي محمداً بأنه رسول الله ، ولتكون النسبة بين مضامين آية السياق وقوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ) هي العموم والخصوص المطلق ، إذ تأمر الآية أعلاه النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يخاطب الناس جميعاً بأنه بشر مثلهم , وفيه دعوة له لإكرامهم , وهو من الخلق العظيم الذي يتصف به.
(قال ابن عباس : نزلت في جندب بن زهير العامري،
وذلك أنه قال للنبّي صلى الله عليه وآله وسلم إنّي أعمل لله،
فإذا اطّلع عليه سرنّي. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله تعالى طيّب لا يقبل إلاّ الطيب ولا يقبل ما شورك فيه،
فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال أنس : قال رجل : يا نبي الله،
إنّي أُحب الجهاد في سبيل الله،
وأُحب أن يُرى مكاني،
فأنزل الله : {قُلِ} يا محمد : {إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ}( ) : خلق آدمي مثلكم. قال ابن عباس : علّم الله رسوله التواضع لئلا يزهو على خلقه) ( ).
ومن إعجاز القرآن أن خطاب إتحاد سنخية البشرية جار على لسان الأنبياء والرسل ، وفي التنزيل [قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ] ( ).
ولقد ذكرت الآية أعلاه المنّ من عند الله على الأنبياء بالنبوة ، وعلى اتباعهم بالهداية إلى الإيمان، وتفضل الله عز وجل وذكر منّه تعالى على المؤمنين على نحو الخصوص في آية السياق بلحاظ أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة ونعمة عظمى عليهم ، وعلى الناس ، ولكن غير المسلمين يخرجون بالتخصيص من مسألة الإنتساب في النفوس .
فلم تقل الآية ( إذ بعث في الناس من أنفسهم ) لبيان موضوعية الإيمان في سنخية النفوس وتآلفها ليكون الإيمان ولوازمه ورشحاته واقية للمسلمين من أكل الغلول فيتآلف ويتوافق المسلمون على ضابطة كلية وهي التنزه عن أكل الغلول وعن سرقة المال العام، وهذا التآلف وما يترشح عنه من السجايا الحميدة من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
سادساً : من وجوه ثناء الله عز وجل على نفسه تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن على المسلمين ، وفي التلاوة أطراف :
الأول : الآيات القرآنية النازلة من عند الله .
الثاني : تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن.
الثالث : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن حال نزولها.
الرابع : سلامة آيات القرآن من الزيادة أو النقصان حتى وصولها إلى المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) الذي يدل على تفضل الله بحفظه للقرآن وآياته إلى يوم القيامة .
وهل من حصر لأسباب وطرق وكيفية حفظ القرآن , الجواب لا، والله هو الواسع الكريم، وليكون من معاني وتقدير قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، أي : ولا يعلم جنود ربك في حفظ القرآن إلا هو .
وهل يشمل حفظ القرآن المذكور في الآية أعلاه من سورة الحج زمان ما قبل نزول القرآن وأوان هبوط جبرئيل , الجواب نعم، ولا يدل هذا على أن القرآن مخلوق أو غير مخلوق، ليكون من معاني الآية أن الله حفظ القرآن إلى زمان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزوله عليه.
الخامس : إنصات وإصغاء المسلمين لتلاوة آيات القرآن ، إذ تدل الآية بالدلالة التضمنية على تلقي المسلمين آيات القرآن بالقبول والتصديق , وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : آمن المسلمون بالله ورسوله ليتلو عليهم آياته .
ثانياً : يتلو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات الله على المسلمين فيصغون لها وهذا الإصغاء مناسبة لحفظها ومقدمة للعمل بمضامينها.
ثالثاً : يتلو عليهم آياته فيتلونها مجتمعين ومتفرقين .
رابعاً : يتلو عليهم آياته فيتلونها في الصلاة وخارجها
خامساً : يتلو عليهم آياته فيعملون بمضامينها .
فيتلو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية البحث على المسلمين ، وفيها مسائل :
الأولى : تنزه الأنبياء عن الغل والأخذ خلسة من المال العام .
الثانية : إكرام الله عز وجل للأنبياء بالثناء عليهم في القرآن، ومنه آية البحث التي تضمنت المدح والشكر من الله للأنبياء لأنهم خرجوا من الدنيا ولم يأخذوا خلسة من الغنائم، ولم يخفوا المال العام , وفيه بيان لقانون عام وهو حاجة الناس لرؤية القائد والإمام متنزهاً عن الأخذ من بيت المال الذي يقع في يده والذي يستطيع الوصول إليه ولو بصيغة وضعية .
وهل آية البحث من أفراد الوقاية والشفاء بالطاقة الإيجابية ومصاديق قوله تعالى[وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا]( ).
الجواب نعم، إذ تمتلأ نفوس المسلمين بالعز والفخر لتنزه الأنبياء عن أكل الغلول، وإخبار الآية على نحو القطع واليقين بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأخذ خلسة من الغنائم ولم يتصرف بها على نحو الإنفراد والملك المطلق، إذ جعل الله عز وجل له الإنفال , وهي لغة جمع نفل وهو الزيادة، لذا سميت صلاة التطوع نافلة , وقال تعالى[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ]( ).
الثالثة : بيان قانون وهو ثناء الله عز وجل على شخص أو جماعة أو أمة في القرآن مقدمة ومرآة لحسن ثوابهم في الآخرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) بتقريب أن بيان صفة أهل الجنان من مصاديق هذا البيان ، لذا ذكر لفظ أصحاب الجنة ، قال تعالى [أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً]( ).
وهل يمكن القول لولا نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما علم المسلمون والناس أن الأنبياء لم يغلوا ، الجواب ، إنما يقال : لولا فضل الله بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلم الناس أن الأنبياء لم يغلوا .
الرابعة : تلاوة المسلمين لآية البحث في الصباح والمساء على نحو الوجوب العيني في الصلاة اليومية , وتقدير الآية : يا ايها الذين آمنوا ما كان لنبي أن يغل ) وفيه وجوه :
أولاً : تفقه المسلمين في الدين .
ثانياً : حضور قصص الأنبياء عند المسلمين .
ثالثاً : ترغيب المسلمين بفعل مكارم الأخلاق .
رابعاً : إقامة الحجة على المسلمين والناس بأن الأنبياء لم يسرقوا ولم يأخذوا من أموال الغنائم والمال العام غيلة وخلسة .
ومن خصائص آية البحث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلوها على المسلمين ليمتنعوا عن السرقة وأخذ الغلول .
ومن منافع تلاوة آية البحث وتقيد وتدبر المسلمين بمضامينها القدسية معرفتهم لقوانين متعددة تدل عليها هذه الآية , منها :
أولاً : تعدد أنبياء الله .
ثانياً : إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذات نهج الأنبياء الذين سبقوه , قال تعالى[وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ]( ).
ثالثاً : وجوب تصديق المسلمين ببعثة الأنبياء ، وفي التنزيل [قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ…] ( ).
رابعاً : تلقي المسلمين لمضامين آية البحث بالقبول والإمتثال .
خامساً : بيان حال الناس يوم القيامة ، فان قلت إنما ذكرت آية البحث الذي يغل ويسرق من الغنائم على نحو التعيين فلم تذكر الآية أموراً :
الأول : عاقبة الذي يأخذ الغلول على نحو الدقة .
الثاني: حكم الذي يخفي الغلول .
الثالث : ما هو جزاء الذي يشتري الغلول .
الرابع : حكم الذي يحرض على الغلول ، وهو على أقسام :
أولاً : المنافق .
ثانياً : المنافقة .
ثالثاً : ضعيف الإيمان .
رابعاً : غير المسلم .
الخامس : الذي يتبع صاحب الغلول طمعاً بما في يده من الغلول .
أما الأول فان عاقبة الذي يغل إلى نقص في الحسنات وخسران في ثواب الصالحات عن ثوبان (رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه أخرجه الطبرانى) ( ).
وورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (قال رسول الله صلى الله عليه واله: رفع عن امتي تسعة: الخطاء، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يطيقون، وما لا يعلمون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة)( ).
وتطرد آية البحث الغفلة عن المسلمين بخصوص الغلول والأخذ خلسة من الغنائم ، وتبين قانوناً وأن أكل الغلول ثقل وحمل ووزر على صاحبه ، وهو سبب للمسائلة يوم القيامة، قال تعالى[وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ]( ) .
وفي المرسل عن عكرمة: مرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأبي مسعود الأنصاري وهو يضرب خادمه فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : والله لله أقدر عليك منك على هذا .
قال : ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يمثل الرجل بعبده فيعور ، أو يجدع . قال : أشبعوهم ولا تجيعوهم ، واكسوهم ولا تعروهم . ولا تكثروا ضربهم فإنكم مسؤولون عنهم ، ولا تعذبوهم بالعمل ، فمن كره عبده فليبعه ولا يجعل رزق الله عليه عناء ( ).
وهل أكل الغلول من مصاديق فرار الأقربين عن الإنسان بقوله تعالى [يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ] ( )، الجواب نعم، لأنه ذنب ومعصية، وصحيح أن الآية مطلقة إذ يفر ذوو القربى لفرط الدهشة والفزع واستحواذ الحيرة على كل إنسان لأهوال الآخرة.
ولكن مسألة الغل سبب للفرار من صاحبه، بالإضافة إلى الخشية من إيجاد سبب للدعوى بأن ذوو القربى شاركوه في الغلول.
وأما الثاني وهو حكم الذي يأخذ الغلول فان الذي يخفي الغلول ظالم لنفسه ولأخوانه المؤمنين لأنه حجب عنهم حقهم ، وستر ما كتبه الله لهم من رزق .
وهل في الغل نوع عداوة لكل مسلم الموجود والمعدوم الذي لم يولد بعد ، فيكون من معاني قوله تعالى [يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] مطالبة المسلمين بحقوقهم مما غل .
الجواب لا دليل على هذا المعنى وخصوص أو عموم العداوة لأن أخذ الغلول لا يخرج المسلم عن إيمانه .
وأما الذي يشتري الغلول فان كان يعلم بسنخيتها وأنها غلول وغصب فلا يحق له شراؤها من السارق ويؤثم , وإن اشتراها ولم يعلم أنها غلول فلا إثم عليه .
وهل يجب عليه التفحص والسؤال المتكرر والملح : هل هذه العين من الغلول أو مسروقة ، الجواب لا ، لقاعدة اليد وأصالة عدم السرقة ، وقد تفضل الله عز وجل بآية البحث ليجعل الغلول فرداً نادراً في تأريخ الإسلام.
وهذه الندرة من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإنها شاهد على تقوى المسلمين وحسن الألفة والتعاون والإيثار بينهم، حتى في سوح المعارك وتنزه كل واحد منهم من الغلول حتى وإن كان البرزخ بينه وبين الأخذ خلسة من المال العام معدوماً.
وأما في الآخرة فإن المسلمين يحضرون بإيمانهم وحلله البهية مع سلامتهم من الأعباء والأثقال التي تثقل كاهل الظهر.
وعن الربيع بن أنس في قوله[لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً]( )، قال: قال النبي: أيما داعٍ دعا إلى ضلالة فاتبع، كان عليه مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء. وأيما داع إلى هدى فاتبع، فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء)( ).
وأما الرابع أعلاه فان الذي يحرض على الغلول يوثم بقدر تحريضه وقصده وبثه لأسباب الفرقة والمعصية بين المسلمين ، وعن (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ : إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امرأة يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) ( ).
وأما الخامسة أعلاه فان الذي يتبع صاحب الغلول طمعاً بالغلول يؤثم وقد قال تعالى [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ] ( ).
سادساً : النبي هو الذي يوحي له الله سبحانه إليه، ويؤمر بالتبليغ , والدعوة إلى الله , ويحذر من اليوم الآخر , وعن ابن مسعود قال : تحدثنا ذات ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أكثرنا الحديث ، فلما أصبحنا غدونا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال : عرضت علي الأنبياء باتباعها من أممها فإذا النبي معه الثلة من أمته ، وإذا النبي ليس معه أحد ، وقد أنبأكم الله عن قوم لوط ، فقال : أليس منكم رشيد ، حتى مر موسى عليه السلام ومن معه من بني إسرائيل ، قلت : يا رب . فأين أمتي؟ .
قال : انظر عن يمينك ، فإذا الظراب ظراب مكة قد سد من وجوه الرجال ، قال : أرضيت يا محمد؟ قلت : رضيت يا رب ، قال : أنظر عن يسارك , فإذا الأفق قد سد من وجوه الرجال .
قال : أرضيت يا محمد؟ قلت : رضيت يا رب ، قال : فإن مع هؤلاء سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ، فأتى عكاشة بن محصن الأسدي فقال يا رسول الله : ادع الله أن يجعلني منهم ، قال : اللهم اجعله منهم ، ثم قام رجل آخر فقال يا رسول الله : ادع الله أن يجعلني منهم فقال : سبقك بها عكاشة ، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن استطعتم بأبي أنتم وأمي أن تكونوا من السبعين فكونوا ، فإن عجزتم وقصرتم فكونوا من أصحاب الظراب ، فإن عجزتم وقصرتم فكونوا من أصحاب الأفق ، فإني قد رأيت أناساً يتهارشون كثيراً .
ثم قال : إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ، فكبر القوم ثم تلا هذه الآية { ثلة من الأولين وثلة من الآخرين }( ) فتذاكروا من هؤلاء السبعون ألفاً , فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هم الذين لا يسترقون , ولا يتطيرون , وعلى ربهم يتوكلون( ).
وهذا الحديث معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمع عظيم منزلة الأنبياء ، فان منهم من لم يتبعه إلا رجلان أو الرهط و(الرَّهْطُ: عددٌ يُجْمَع من ثلاثةٍ إلى عَشَرةٍ، ويُقال: من سَبْعة إلى عَشَرة، وما دون السَّبْعةِ إلى الثّلاثة نَفَر. وتخفيفُ الرَّهْطِ أحسنُ من تثقيله) ( ).
وهل لفظ النبي من النبوة (ويقال: نبا فلان عن فلان نَبْوَةً، إذا فارقه.) ( ) بلحاظ أن النبي يفارق ما عليه قومه من الشرك وعبادة الأوثان.
الجواب لا دليل على هذا المعنى من جهة اللغة ، وإن كانت مفارقة النبي لمفاهيم الكفر والضلالة وذم أهلها حق وصدق .
سابعاً : إرادة خروج النبي على الناس بالمعجزة والرسالة والدعوة إلى التوحيد وطاعة الله (وتقول: نَبَأتُ على القوم أنبَأ نَبْأً ونُبوءاً، إذا طلعت عليهم. ونبأتُ من أرض إلى أُخرى فأنا أنبَأ نَبْأً ونُبوءاً، إذا خرجت منها إلى غيرها، وبه سُمّي الرجل نابئاً) ( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه نُبأ وخرج من أرض إلى أرض إذ هاجر من مكة إلى المدينة المنورة ، وفيه مسائل:
المسألة الأولى : لم يهاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد أن أمر جماعة من أهل بيته وأصحابه بالهجرة إلى أرض الحبشة, وكان في الحبشة ملك على دين النصرانية , إشتهر بالعدل والإمتناع عن الظلم وهو النجاشي وإسمه أصحمة بن أبجر ) ( ).
والنجاشي اسم لكل ملك يحكم الحبشة مثل فرعون لمصر, وكسرى لفارس , وهرقل لبلاد الروم القديمة ، ومن الآيات أن الصحابة المهاجرين إلى الحبشة لم يخرجوا إلا بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد أن إشتد عليه الأذى ولم تكن ضرورة لبقائهم في مكة ، ولبيان حقيقة وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم ينو القتال وهو في مكة ، وقال لهم لو خرجتم إلى أرض الحبشة (قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهى أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه) ( ).
وخرج الصحابة وكان عددهم في الهجرة الأولى اثني عشر رجلاً وأربع نسوة ومنهم الراكب والماشي إلى أن وصلوا إلى الشعيبة وهي مرفأ مكة في الجاهلية وصدر الإسلام وقبل أن يحوّل الميناء إلى جدة في شهر رجب في سنة ست وعشرين للهجرة الموافق لسنة (646) م لأن جدة أقرب منها إلى مكة .
فوجدوا في الشعيبة سفينتين للتجار يريدون أن يرحلوا إلى الحبشة ، وحينما علم الملأ من قريش بنبأ مغادرتهم مكة ، وهم يقصدون الحبشة إعتراهم الغضب والفزع والغضب من جهات :
الأولى : ظن كبار رجالات قريش سيادتهم المطلقة في مكة .
الثانية : مغادرة نفر من شباب مكة مهاجرين نوع تحد لرؤساء قريش .
الثالثة : دلالة الهجرة على ثبات المسلمين على الإيمان وإستعدادهم لتحمل الأهوال والأخطار في سبيل الله .
الرابعة : المهاجرون رسل الإسلام , ودعاة إلى نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : يتلو المهاجرون آيات القرآن , فتنتشر في الآفاق , وهذا الإنتشار من الإعجاز الغيري للقرآن .
السادسة : تتصف الآيات المكية بالإنذار والوعيد للذين كفروا ثم جاءت هجرة نفر من الصحابة إنذاراً عملياً ، ومصداقاً لإنذارات القرآن .
إذ تتصف السور المكية بالقصر وقوة العبادة وأثرها المباشر على النفوس ، وتتضمن بعث النفرة من تكذيب الذين كفروا لأنبياء زمانهم ، والوعيد والتخويف للذين كفروا .
وجاءت الآيات والسور المكية بالقسم المحسوس والمعقول وجمعها قوله تعالى [فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ] ( ).
ويتضمن قوله تعالى [وَ الضُّحى* وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى * ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى* وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى* وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى]( )وجوهاً :
الأول : القسم بالمحسوس من أفراد الزمان الطولية ، الضحى ، الليل ، ومن الآيات أن الله عز وجل ذكر أفراد الزمان التي تأتي في اليوم والليلة ليستحضر الناس الإعجاز في الخلق كل يوم ، كما أقسم سبحانه بالثمار بقوله تعالى [وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ]( ).
الثاني : القسم بالمدخول وهو الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكر الآية لعالم الآخرة وأنها أفضل وأحسن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في الحياة الدنيا .
الثالث : الفرد الجامع للذخائر الحسية والفعلية بقوله تعالى [وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى] ( ) بلحاظ وإرادة المعنى الأعم الشامل للحياة الدنيا والآخرة .
السابعة : وجود صلة كتابية بين المهاجرين وأهل البلد الذي يهاجرون إليه ، إذ ورد الثناء القرآن على الكتب السماوية السابقة كما في قوله تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ] ( ) ومن أظهرها التوراة والإنجيل ، ليكون هذا التصديق شهادة دائمة, وحرزاً للمهاجرين , وواقية للمسلمين، خاصة وأن طائفة أخرى هاجرت عقبهم يتقدمهم جعفر الطيار ومعه زوجته أسماء بنت عميس ، وكان عددهم ثلاثة وثمانين رجلاً وتسع عشرة امرأة .
وبعثت قريش وفداً إلى النجاشي لإرجاع المسلمين إليهم دون فائدة ، فقد كان حضور هذا الوفد مناسبة كريمة ليستمع النجاشي لقول الطرفين حول عيسى بن مريم ، وذكر أن قريشاً بعثت إلى النجاشي وفدين الأول بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة ،ويتألف الوفد من عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد ، والثانية بعد هجرة الطائفة الثانية التي يتقدمهم جعفر الطيار .
ويتألف وفد قريش فيها من عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة المخزومي .
وظاهر بعض الأخبار أن قريشاً أرسلت الوفد لمرة واحدة ، (عن عبدالله بن مسعود قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى النجاشي ثمانين رجلا منهم عبد الله بن مسعود وجعفر وعبدالله بن عرفطة وعثمان بن مظعون .
وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية فقدما على النجاشي فدخلا عليه وسجدا له وابتدراه , فقعد واحد عن يمينه والآخر عن شماله فقالا إن نفرا من بنى عمنا نزلوا أرضك فرغبوا عنا وعن ملتنا .
قال وأين هم قالوا بأرضك فأرسل في طلبهم فقال جعفر أنا خطيبكم اليوم فاتبعوه .
فدخل فسلم فقال ما لك لا تسجد للملك قال إنا لا نسجد إلا لله عز وجل .
قالوا ولم ذاك قال إن الله تعالى أرسل فينا رسولا وأمرنا ان لا نسجد إلا لله عز وجل وأمرنا بالصلاة والزكاة .
قال عمرو بن العاص فانهم يخالفونك في ابن مريم وأمه قال فما تقولون في ابن مريم وأمه قال كما قال الله عز وجل روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول التي لم يمسها بشر ولم يفرضِها ولد( ).
قال فرفع النجاشي عودا من الأرض فقال : يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان ما تزيدون على ما يقولون اشهد أنه رسول الله وانه الذى بشر به عيسى في الانجيل والله لولا ما انا فيه من الملك لاتيته فأكون أنا الذى أحمل نعليه وأوضئه .
وقال انزلوا حيث شئتم وأمر بهدية الآخرين فردت عليهما قال وتعجل عبدالله بن مسعود فشهد بدرا وقال انه لما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موته استغفر له) ( ) .
وهل كانت هجرة نفر من الصحابة من أهل مكة إلى الحبشة مقدمة لهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة .
الجواب نعم ، وتلك آية في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومدرسة في الهجرة للأمن والنجاة من القوم الظالمين ، وفي هجرة لوط ورد قوله تعالى [فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مهاجر إِلَى رَبِّي] ( ) .
أي آمن لوط عليه السلام لإبراهيم في نبوته ، فرزقه الله النبوة وبعثه إلى شدُوم وأعمالها ، والتي تقع في منطقة البحر الميت وغور الأردن فكذّبوه في نبوته ،وأعرضوا عن دعوته إلى الله وتمادوا في غيهم وأشاعوا السّدومية أي اللواط بينهم , ولم يصغوا إلى إنذارته ، حتى أهلكهم الله عز وجل بعذاب شديد ، قال تعالى [وَإِنَّ لُوطًا لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ* ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] ( ).
ويحتمل المرور اليومي المتكرر في الآية أعلاه وجوهاً :
الأول :المرور على قرية قوم لوط المدمرة .
الثاني : إرادة المرور على الأطلال وآثار القوم الذين كذّبوا بآيات النبوة ، قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ).
الثالث : المرور على القوم الفاسقين الذين يصرون على الكفر والجحود .
والصحيح هو الأول ، إذ يمر على الأرض قوم لوط والحجارة التي أهلكهم الله بها القادمون من الشام إلى المدينة المنورة وغيرهم ، وصارت فيها بحيرة منتنة في منظرها وطعمها وريحها ، وبعد عقود من التنقيب والحفريات اكتشف علماء الآثار قبل سنة وفي أواخر سنة 2015 ميلادية مدينة شرق نهر الأردن يعود تأريخها إلى ما بين (3500- 5400) سنة قبل الميلاد ، وأن آثارها توافق ما ذكر في القرآن والكتب السماوية السابقة بخصوص كيفية هلاك قوم لوط , وأن مظاهر الحياة توقفت فجأة في المدينة كما أخبر الله عز وجل , وقالوا أنها سدوم وعمورة .
لقد أكرم الله عز وجل مكة المكرمة بالبيت الحرام وبعثة إبراهيم عليه السلام لتأتي بعثة النبي محمد على بقايا لحنيفية إبراهيم فتكون هناك أمة تؤمن برسالته حين بعثته ، إلى جانب الآيات والمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليهاجر نفر منهم إلى الحبشة ويكونوا دعاة إلى الله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في البلاد البعيدة وعند الذين لاقوهم في طريق الهجرة أو حلوا عندهم .
المسألة الثانية : تلقي النبي وأهل بيته وأصحابه الأذى الشديد من كفار قريش ، وإشتداد هذا الأذى كل يوم ، وهو من الإعجاز في نصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن الشواهد على قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) وفيه بيان لقانون وهو أن الذين كفروا إذا مكروا وبيتوا فعل السوء أو إرتكبوا الظلم فان مكر الله عز وجل يكون صارفاً للضرر المترشح عن سوء فعلهم ، وفاتحاً لأبواب من فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
وهل يمكن القول أنه لو سكت كفار قريش عن إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكان أحسن لهم في دنياهم وآخرتهم أو أنه سبب لعدم شدة العذاب عليهم ، الجواب نعم ، وهل يكون هذا السكوت نوع برزخ دون الهجرة وإنتشار الإسلام الجواب لا , لقوله تعالى [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
المسألة الثالثة : إزدياد عدد المسلمين في مكة بحيث تبقى الدعوة إلى الإسلام مستمرة فيها حتى مع مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها .
وهل تختص هذه الدعوة ببيوتات مكة أم تشمل حجاج بيت الله والمعتمرين والتجار الذين يفدون إلى مكة .
الجواب هو الثاني , لتجلى البراهين الساطعة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجذبها العقول وبعثها الرضا في النفوس لملائمتها للفطرة الإنسانية .
ولتعدد أعمار ومهن الذين أسلموا ووجودهم في كل مكان من مكة .
وأوان الهجرة معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تحتاج التحقيق والدراسة ، ولم يقف عليها الباحثون والعلماء بما يستوفي المواعظ المستنبطة منها ، لبيان أنها معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : التوقيت الدقيق الملائم لهجرة النبي محمد صلى الله عليه إلى المدينة .
الثانية : بيان برهان وهو أن توقيت الهجرة وليلتها لم يتم إلا بعلم وأمر من عند الله ، وعن (ابن عباس في قوله: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ }( ) قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق -يريدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه على ذلك، فبات علي عليه السلام على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى لحق بالغار .
وبات المشركون يحرسون عليًّا يحسبونه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليًّا رَدَّ الله تعالى مكرهم .
فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري. فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمرّوا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال) ( ).
الثالثة : تجلي مصاديق من علوم الغيب في هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، ويمكن تأليف مجلدات خاصة عن علوم الغيب في هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة من جهات :
الأولى : مقدمات الهجرة .
الثانية : عجز قريش عن العلم بعزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الهجرة .
الثالثة : بيان قانون وهو أن الهجرة معجزة ووحي من عند الله عز وجل.
الرابعة : عدم إفشاء الصحابة وعوائلهم خبر هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن أهل مكة آنذاك متداخلون في القربى والصلات اليومية ، وأنهم يجتمعون في البيت الحرام .
الخامسة : معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في غار ثور , وسلامته وصاحبه من الطلب ، قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا] ( ) ويقع الغار في قمة جبل ثور وهناك غاران :
الأول : غار حراء وهو الذي نزل فيه الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأول مرة، ويقع في أعلى جبل حراء ويسمى جبل النور وجبل الإسلام، ويبعد نحو أربع كيلو مترات عن البيت الحرام ، وقد تقدم الكلام عنه( ).
الثاني : غار ثور ويقع في جبل ثور جنوب مكة، وإقترن إسمه بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ويمتاز عن غار حراء أن غار ثور ذكر في القرآن بقوله تعالى[إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا]( ).
ولا تزال معالم هذا الغار إلى الآن تبعث الخوف والفزع لخطورتها، لتكون شاهداً على الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في طريق الهجرة إلى المدينة، ويقع الغار على قمة الجبل الذي يرتفع عن سطح البحر 748كم ويبعد عن البيت الحرام ـلابعة كيلو مترات , وللغار فتحتان .

السادسة : إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين الأوائل بدار الهجرة , مع وصف إجمالي لها ، لتهيئة أذهانهم للهجرة ، وحملهم على الإستعداد لها , والبشارة بأنها نوع أمان وطريق للنجاة من القوم الظالمين .
وقال النبي (فَقَالَ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ بِسَبْخَةٍ ذَاتِ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ) ( ).
السابعة : نزول القرآن بتلقين الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء الذي يتضمن النجاة من الذين كفروا والظفر بهم ، ومنه قوله تعالى [وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا] ( ).
الثامنة : ترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لطائفة من المؤمنين في مكة ليكونوا دعاة إلى الإسلام بجوار البيت الحرام في كل يوم ، وهو شاهد على إزاحة الكفر عن كرسي الرياسة فيها .
التاسعة : تعاون المسلمين والمسلمات في مكة ومناجاتهم في طاعة الله وقراءة القرآن ، وهو من الإعجاز في مجئ قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) بصيغة الجملة الإسمية ولغة الحصر لبيان أن هذه الأخوة قانون دائم وسابق لنزول الآية هذه ومتأخر عنها وباق إلى يوم القيامة .
العاشرة : إعانة المؤمنين الذين يرغبون بالهجرة من مكة والذين يضطرون إليها ، وبعد أن أدّى الإمام علي عليه السلام الودائع التي كانت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم للناس هاجر إلى المدينة ومعه الفواطم وأم أيمن وولدها أيمن وعدد من ضعفاء المؤمنين وكانوا يسيرون في الليل ويكمنون في النهار ، والفواطم في المقام هن :
الأولى : فاطمة الزهراء بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : فاطمة بنت أسد أم الإمام علي .
الثالثة : فاطمة بنت الزبير ، وقال تعالى [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ] ( ).
الحادية عشرة : إعانة عوائل المهاجرين وتيسير أمر مغادرتهم خلف آبائهم ، وحث الذين يبقون منهم في مكة على الصبر المقرون بالثبات على الإيمان إذ أن هذا الثبات مدرسة عقائدية تبعث اليأس والفزع في قلوب الذين كفروا ، لبيان أن الإيمان ليس قضية شخصية تتعلق بالآباء وفرد من الأسرة ، إنما هو مبدأ ومنهج .
الثابية عشرة : صيرورة ثلاث حاضرات للإسلام :
الأولى : مكة المكرمة حيث بداية البعثة النبوية وأول الوحي والتنزيل وإقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة ودخول عدد من الصحابة الإسلام .
وعن عفيف الكندي (كان العباس بن عبد المطلب لي صديقاً، وكان يختلف إلى اليمن، يشترى العطر فيبيعه أيام الموسم؛ فبينا أنا عند العباس بن عبد المطلب بمنى، فأتاه رجل مجتمع، فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم قام يصلي، فخرجت امرأة فتوضأت وقامت تصلي ثم خرج غلام قد راهق، فتوضأ، ثم قام إلى جنبه يصلي.
فقلت: ويحك يا عباس ! ما هذا ؟ قال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، يزعم أن الله بعثه رسولا، وهذا ابن أخي علي بن أبي طالب قد تابعه على دينه، وهذه امرأته خديجة ابنة خويلد، قد تابعته على دينه .
قال عفيف بعد ما أسلم ورسخ الإسلام في قلبه : يا ليتني كنت رابعاً !) ( ) .
وأن قلت قد هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة , مما يضعف الدعوة فيها , والجواب من الإعجاز في نبوة محمد تنجز الهجرة ، مع بقاء الإسلام والدعوة إليه في مكة بقي فيها من جهات :
الأولى : البيت الحرام وقدسيته وحج الناس وعمارتهم له .
الثانية : دعوة نبي الله إبراهيم لأهل الحرم , وفي التنزيل[رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
الثالثة : الإعجاز الغيري للقرآن , وكل آية منه تدعو أهل مكة للإسلام .
الرابع : بقاء مسلمين مستضعفين , ومنهم أبناء بعض كبار مشركي قريش ، فمثلاً عندما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يكتب كتاب الصلح مع سهيل بن عمرو في صلح الحديبية جاء جندل بن سهيل بن عمرو نفسه ، وهو يرسف في الحديد الذي قيده به أبوه كي لا يهاجر إلى المدينة بعد أن علم باسلامه .
لقد استبشر أبو جندل إذ وصل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمتلأ قلبه بالغبطة لرؤيته , ونحو ألف وأربعمائة من أصحابه يحيطون به ، بينما كان قد خرج من مكة في ليلة ظلماء فاراً بنبوته ودينه ومعه أبو بكر .
لقد اطمئن أبو جندل إلى أن قيده سيكسر , وأنه سينتظم إلى جماعة الصحابة الذين تلقوه بالترحاب وإظهار المودة والحزن على ما هو عليه ، وكانوا قد آلمهم موضوع الصلح والعودة من غير زيارة البيت الحرام ، وقد أخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن رؤيا رآها فظنوا أنه سيكون دخول مكة والفتح بخروجهم هذا , ولم يظنوا أنه يقع صلح , ويرجعون إلى المدينة [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
فلما رأى سهيل بن عمرو ابنه أبا جندل ترك الكتابة , وقام إليه وضرب وجهه وأخذ بتلبيبه ثم قال : يا محمد قد لحت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : صدقت .
فجعل سهيل يجر ابنه ليرده إلى مكة تحت نير الذين كفروا فأخذ أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أرد إلى المشركين يفتنوني في ديني ) ، كأنه يشكو لهم ويحرضهم لأخذه معهم ، فحزنوا وتألموا عليه وأخذوا يتطلعون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعدم خلو الأمر من حرج ، ولعلمهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
فقال النبي محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا.
إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم) ( ).
وتبين هذه الحادثة أن في مكة مسلمين صابرين يذكرون ويتذاكرون السور المكية التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان في مكة قبل الهجرة مثل سورة الفاتحة ، القارعة ، الضحى ، الفيل ، وفي إعادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإبي جندل إلى مكة مسائل :
الأولى : حفظ النبي للعهود والعقود , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ]( ).
الثانية : المدينة حيث يقيم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه المهاجرون والأنصار .
لقد أراد الله عز وجل للمدينة المنورة أن تكون المصر الذي تنطلق منه الدعوة إلى الله ، وصارت عاصمة العالم الإسلامي ، وكانت تعرف قبل الهجرة النبوية باسم يثرب ،وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تسميتها بهذا الاسم ، قال تعالى[مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ]( ).
وعن البراء مرفوعاً قال : من قال المدينة يثرب فليستغفر الله فَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هِيَ طَابَةُ هِيَ طَابَةُ)( ).
ولا يتعارض الحديث أعلاه مع ورود ذات الاسم في القرآن مرة واحدة بذات الاسم ، قال تعالى [وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا] ( ) .
وفيه نكتة وهي أن اسم يثرب جرى على ألسنة المنافقين في واقعة الخندق ، لبيان إصرارهم على عدم الإصغاء لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقيامه بتبديل الأسماء ، ولا يختص هذا التبديل بأسماء المدن بل شمل أسماء بعض الأشخاص من الرجال والنساء لغايات حميدة .
فقد غيّر وبدل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أسماء بعض الأشخاص :
حصرم إلى زرعة.
عبد الكعبة إلى عبد الله .
أسود إلى فيض .
برة إلى جويرية ، وهي (جويرية أم المؤمنين. كان اسمها أولاً برة فغيره النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما تزوجها جاء ذلك عن بن عباس وقتادة) ( ).
بحير إلى بشير .
زحمة إلى بشير .
حرام إلى حلال .
ظالم إلى رشد .
برة إلى ميمونة و (كان اسم ميمونة برة فسمّاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ميمونة) ( ).
برّة إلى زينب ، وكان اسم زينب بنت جحش برة ، ولما طلّقها زيد (تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سنة خمس من الهجرة، هذا قول قتادة وقال أبو عبيدة: إنه تزوجها في سنة ثلاث من التاريخ ولا خلاف أنها كانت قبله تحت زيد بن حارثة وأنها التي ذكر الله تعالى قصتها في القرآن بقوله عز وجل: ” فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها “( ) .
فلما طلقها زيد وانقضت عدتها تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأطعم عليها خبزاً ولحماً ولما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لها: ” ما اسمك ” . قالت: برة، فسمّاها زينب.
ولما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكلم في ذلك المنافقون , وقالوا: حرّم محمد نساء الولد، وقد تزوج امرأة ابنه فأنزل الله عز وجل: ” ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ” ( ).إلى آخر الآية وقال الله تعالى: ” ادعوهم لآبائهم “( ) . الآية فدعي من يومئذ زيد بن حارثة وكان يدعى زيد بن محمد. ) ( ).
حزن إلى سهل .
حارثة إلى عبد الرحمن .
حمير إلى عبد الرحمن .
عازب إلى عفيف .
حبّاب إلى عبد الله .
جعيل إلى عمرو .
ضرار إلى مسلم .
مقسم إلى مسلم .
غراب إلى مسلم .
شهاب إلى هشام .
بغيض إلى هشام .
العاصي إلى مطيع .
جهدمة إلى ليلى .
غافل إلى عافل .
نكرة إلى معروف .
المضطجع إلى المنبعث .
السائب إلى عبد الله .
حرب إلى سلام .
ذؤيب إلى عبد الله .
الحكم إلى عبد الله .
الحصين إلى عبد الله .
ومن هذه الأسماء ما كانت كالحسنة ، ولكن النبي غيرّها نحو الأحسن ، وقد قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتغيير بعض الأماكن .
الثالثة : لقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدداً من أصحابه بالهجرة إلى الحبشة لتكون مركزاً ومحلاً للدعوة الإسلامية، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالذهاب إلى الطائف حيث ثقيف ، وبساتين وكروم لقريش ، ولا إلى بني حنيفة شرق الجزيرة , ولا إلى عبس وذبيان , وآجا وسلمى جبلي طي ، ومنهم الذين يكرمونهم لأنهم من قريش ومجاوري البيت الحرام .
ولكن تلك القبائل كانت على الشرك ، ولو جاءهم رجال قريش يطلبون الصحابة وتسليمهم لهم لأنهم خرجوا عن دين آبائهم , هذا إذا لم يقم بعض فتية هذه القبائل بالإجهاز على الصحابة ، كما قام أهل الطائف بتحريض الصبيان والعبيد على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند هجرته الأولى لها , فأخذوا يرمونه بالحجارة وأدموا قدميه .

صلة[وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] بقوله تعالى[إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ]
لقد ذكرت آية البحث أموراً:
الأول : لفظ النبي، والمراد الذي بعثه الله عز وجل إلى الناس يدعوهم إلى التوحيد والإيمان , ويحتمل أصل اللفظ وجوهاً:
أولاً : من النبئ وهو المكان المرتفع لإرادة رفعة منزلة النبي وعلو شأنه بين الناس و(تركت العرب الهمز في أربعة أشياء لكثرة الاستعمال: في الخابية؛ وهي من خبأت، والبريّة، وهي من برأ اللّه الخلق، والنبيّ وهو من النبأ، الذُّرِّية؛ هي من ذرأ اللّه الخلق.
وفي الصِّحاح: تركوا الهمز في هذه الأحرف الأربعة؛ إلاّ أهل مكة فإنهم يهمزونها ولا يهمزون غيرها ويخالفون العرب في ذلك.
وقال ابن السكيت في الإصلاح: قال يونس: أهل مكة يخالفون غيرهم من العرب فيهمزون النبي والبرية والذرية والخابية)( ).
ثانياً : النبي بعنوان الطريق الواضح لهداية كل نبي قومه إلى سبل الهداية والإستقامة، وعن أبي جحيفة قال: قالوا يارسول الله نراك قد شبت ! قال : شيبتني هود وأخواتها)( ).
وأبو جحيفة وهب بن عبد الله من آخر من بقي من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقيل(آخر من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة سهل بن سَعْد الساعدي، وآخر من بقي بالبصرة أنس بن مالك، وآخر من بقي بالكوفة أبو جُحيفة وهبُ بن عبد الله السوائي، من بني سواءة بن عامر، وآخر من بقي بالشام عبد الله بن بُسر المازني، من بني مازن بن منصور، وآخر من بقي بمصر عبد الله بن الحارث بن جزء، وآخر من مات بمكة ممن رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي، ويقال: الحماني.
وكان أبو الطفيل يقول: ما بقي على وجه الأرض أحد يقدر يقول إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غيري)( ).
وقال أبو جحيفة: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان الحسين يشبهه)( ).
لقد قيدت آية السياق نسبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه من أنفس المؤمنين ، ويكون هناك جامع مشترك بينه وبينهم هو الإيمان بالله والقيام بين يديه خمس مرات في الصلاة ، وصيام شهر رمضان وحج بيت الله الحرام ونحوه من العبادات .
ومن الإعجاز في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرصه اليومي المتجدد على قيامه بأداء الفرائض وعشقه لها ، وحثه المسلمين على الإقتداء به ، وعن أنس قال (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم : حُبِّبَ إِلَىَّ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ) ( ).
ومن مصاديق نسبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين وإمامته لهم قوله في الحديث أعلاه(وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ).
وفي قوله تعالى[وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعًا]( ).
فإنها نزلت في عبد الله بن أبي امية أخ ام سلمة رحمة الله عليها، وذلك أنه قال هذا لرسول الله صلى الله عليه وآله بمكة قبل الهجرة .
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله إلى فتح مكة استقبل عبد الله بن أبي امية فسلم على رسول الله صلى الله عليه وآله، فلم يرد عليه السلام فأعرض عنه ولم يجبه بشئ، وكانت اخته ام سلمة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فدخل إليها فقال: يا اختي إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قبل إسلام الناس كلهم ورد إسلامي، فليس يقبلني كما قبل غيري، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله على ام سلمة .
قالت: بأبي أنت وامي يا رسول الله ! سعد بك جميع الناس إلا أخي من بين قريش والعرب رددت إسلامه , وقبلت إسلام الناس كلهم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ” يا ام سلمة إن أخاك كذبني تكذيبا لم يكذبني أحد من الناس ، هو الذي قال لي: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا ” إلى قوله : ” كتابا نقرؤه “( ).
قالت ام سلمة: بأبي أنت وامي يا رسول الله ألم تقل: إن الاسلام يجب ما كان قبله ؟ قال: نعم، فقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إسلامه) ( ).
أي ان الإسلام يمحو ويقطع ما كان قبله من الكفر ، ولا يؤاخذ المسلم على المعاصي التي إرتكبها قبل الإسلام ، ليبدأ حياته من غير غلّ ولا سرقة من بيت المال .
وهل يجب عليه قضاء ما فاته من الصلاة ، وما وجب عليه من الزكاة والصوم بلحاظ أنها عبادات واجبة على كل مكلف ومكلفة يتصفان بالعقل والبلوغ .
الجواب لا ، فاذا أسلم وعمره مثلا ثلاثون سنة فلا يجب عليه قضاء صلاة خمس عشر سنة من حين البلوغ إلى أوان نعمة دخوله الإسلام , لحديث الجب ولمحو الإسلام ما فات وكذا بالنسبة للزكاة والصيام .
لتكون الصلاة وأداء المسلمين لها جماعة مع المسلمين تزكية وتكون من مصاديق التزكية بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : قصّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأخبار الأنبياء السابقين والوقائع التي صاحبت أيامهم .
الثاني : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآية البحث في الصلاة وعلى المنبر ، وفي الحضر والسفر .
الثالث : تذكير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بالآخرة ويوم القيامة ، فمن الإعجاز في القرآن أن ذكر يوم القيامة وعد ووعيد بخصوص الغل من الفتنة ، وعد للمؤمن الذي يمتنع عن الغل بالثواب العظيم يومئذ , ووعيد للذي يأخذ ويسرق من الغنائم ، بقوله تعالى [ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ] ( ) إذ أن الآية أعلاه عامة في الجزاء بالأجر الجزيل وبالعقاب .
وتمنع آية البحث من الجدال عن أكل الغلول يوم القيامة ، فان قلت قد ورد الإطلاق في الجدال بقوله تعالى [يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] ( ) والجواب نعم ، قد يقع الجدال في غير الغلول ، وفي رجاء إحتساب الجهاد والدفاع عن الإسلام واقية من الحساب والعقاب على الغلول .
قانون المنّ
المنّان صيغة مبالغة لبيان كثرة المن وزيادة النعم والفضل والذي يغمر بالعطاء .
ويأتي المنّان اسم على وجوه :
الأول : إنه اسم من أسماء الله عز وجل .
الثاني : كثير المنّ والإحسان .
الثالث : الذي يفخر ويتباهى بالشئ إذا أعطاه .
ليكون ذكر المن ّ من الله عز وجل لطفاً ومنّاً إضافياً , أما إذا كان من الإنسان فهو مذموم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى] ( ).
ومن مفاهيم منّ الإنسان أنه يكدر إحسانه ، وتكون وطأته ثقيلة على المحسن إليه ، لذا جاءت النصوص باستحباب صدقة السر (عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : صدقة السر تطفىء غضب الرب ، وصلة الرحم تزيد في العمر ، وفعل المعروف يقي مصارع السوء) ( ).
والمنّ :الإحسان ، والمنّ قطع الخبر ، قال تعالى [لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ]( ) أي غير مقطوع ، ولا منقوص وأنه لم يأت موضوعاً وأجراً من طرف الناس ، بل هو من عند الله عز وجل إبتداء وإستدامة .
(وأخرج الطستي في مسائله عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله : {لهم أجر غير ممنون}( ) قال : غير منقوص . وهل تعرف العرب ذلك؟ .
قال : نعم , أما سمعت قول زهير :
فضل الجواد على الخيل البطاء فلا …يعطي بذلك ممنوناً ولا ترفا ( )
ومن معاني زيادة و مضاعفة الآجر في الآية وجوه :
الأول : مضاعفة الأجر والثواب على فعل الصالحات ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ).
الثاني : مضاعفة الأجر والثواب على فعل الصالحات ومصاحبته لفاعله إلى يوم القيامة ، فكما تدل آية البحث على حضور الغلول مع صاحبها فأنها تفيد في مفهومها حضور الصالحات بلون بهي وضياء مبارك وليس فيها ثقل عليه , إنما هي واقية له .
الثالث : كتابة الملائكة حسنات إضافية مستحدثة للمؤمن بعد مؤته مثل التي كانت تكتبها له في حياته (وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ” إنَّ المُؤْمِنُ إذَا مَاتَ ، صَعِدَ مَلَكَاهُ إلى السَّمَاءِ ، فَيَقُولاَنِ : إنَّ عَبْدَكَ فُلاَناً قَدْ مَاتَ ، فَأْذَنْ لَنَا حَتَّى نَعْبُدَكَ عَلَى السَّمَاءِ ، فَيَقُولُ الله تَعَالَى : إِنَّ سَمَاوَاتِي مَمْلُوْءةٌ بِمَلاَئِكَتِي ، وَلَكِنْ اذْهَبَا إلَى قَبْرِهِ ، فَاكْتُبَا لَهُ حَسَنَاتِهِ إلَى يَوْمِ القِيَامَة) ( ).
الرابع : المقصود المرضى والهرمى من المؤمنين يعجزون عن أداء الفعل العبادي كالصيام فيكتب الله لهم أجره كما كانوا يؤدونه وهم أصحاء , قال تعالى [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ] ( ) .
كأن الآية أعلاه تخبر بأن الفدية أمارة وعلامة على كتابة ذات أجر الصيام .
الخامس : إرادة اللبث الدائم في الجنة لأنه نعيم دائم غير منقطع .
والمنون : الموت .
(ورُوي عن علي بن أبي طالب عليه السلام انه قال على مِنبْر الكوفة: اللهم إني قد مَلٍلْتهم ومَلُّوني، وسَئمتهم وسئموني، فسلط عليهم فتى ثقيف الذَّيال المَنان، يلبس فَرْوتها ويأكل خضرتها.
قلت: أراد عليٌّ أن فتى ثقيف إذا ولى العراق تَوسع في فئ المسلمين واستأثر به، ولم يَقتصر على حِصَّته.
وفتى ثقيف، هو الحجاج بن يوسف.) ( ).
وهل هذا التوسع والإستئثار من مصاديق الغل بقوله تعالى [وَمَنْ يَغْلُلْ] ( ) الجواب نعم ، خاصة وأن الإمام علي عليه السلام ذكره على نحو الذم له ، وليكون من معاني وصفه هذا التحذير من الحجاج والوعيد له .
ويمكن تسمية الحياة الدنيا (دار المنّ)وجاء القرآن بذكر المنّ على نحو القضية الشخصية كما في حال الأنبياء ، قال تعالى [وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ] ( ) كما جاء القرآن بالمنّ من عند الله عز وجل بما يتغشى الناس جميعاً .
ولم يختص بصيغ الفعل الماضي ، بل جاء القرآن بما يخبر عن المنّ في الماضي ومستقبل الأيام وبعد نزوله بقوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
فصحيح أن الآية أعلاه وردت بخصوص بني إسرائيل ونجاتهم من فرعون وملئه إلا أنها عامة وتتضمن البشارة وبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من منّ الله عز وجل على الناس .
ترى ما هي النسبة بين قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وبين المنّ من الله عز وجل في المقام , الجواب هو العموم والخصوص المطلق , والرحمة هنا هي الأعم والأوسع ، ويأتي المنّ في المقام لبيان أن الله عز وجل غير محتاج للناس ولكن تفضل ومنّ عليهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون رحمة .
وقد يقال أن النسبة بينهما هو التساوي وكل رحمة من الله عز وجل منّ من الله وكذا العكس وتكون الرحمة من رشحات المنّ من عند الله وكذا العكس .
وجاء قوله تعالى [بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ] ( ) شاهداً على تجدد المنّ من عند الله على المسلمين إلى يوم القيامة ومثلما تهدي آية البحث المسلمين إلى العفة والنزاهة ، وتزجرهم عن أخذ الغلول فان الآية أعلاه تدعو المسلمين في كل زمان ومكان ومن كل بلد ومصر إلى عدم المنّ على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بأنهم إختاروا الإسلام , فلابد أن تكون المنّة لله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً ، إنما ذكر الله عز وجل المنّ بينه وبين المسلمين مجتمعين ومتفرقين ، فقد منّ على كل واحد منهم أن هداه للإسلام وجعله من الذين يتوجه لهم الخطاب [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] تسعاً وثمانين مرة في القرآن ، وفي كل واحدة منها مسائل :
الأولى : نداء الإيمان عز وفخر للمسلمين ، وهو من وجوه قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ) وإذا كان من مصاديق عزة المسلمين في الدنيا والآخرة إيمانهم بالله وتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهل إيمانهم عز للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه , الجواب نعم ، وهو من فضل الله عز وجل ليكون من معاني [آيَاتِهِ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ] في آية السياق أن هذه التلاوة مصداق للعز وسبب له .
الثانية : دعوة المسلمين للتوجه بالشكر لله عز وجل على نعمة الإيمان .
الثالثة : تلقي خطابات الأحكام , وما فيها من الأوامر والنواهي نوع طريق إلى الثواب العظيم في الآخرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) .
وهل نداء الإيمان ذاته مدد وعون للمسلمين في أمور الدين والدنيا , الجواب نعم ، ومنه توقيهم وإحترازهم من أكل الغلول وسرقة المال العام.
وهل يصح تقدير آية السياق :
لقد منّ الله على الذين آمنوا إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ، الجواب نعم ، ولكن النسبة بين الذين آمنوا وبين المؤمنين هي العموم والخصوص المطلق ، لذا حينما تعلق الأمر بالنفوس ذكر الله المؤمنين لإنذار المنافقين والتحذير من الغلول وبيان قانون وهو أن الإيمان عصمة من الغلول ، لذا تفضل الله عز وجل وأنزل نداء الإيمان تسعاً وثمانين مرة في القرآن , للتنزه عن النفاق , وعن الغلول , والأخلاق المذمومة .

صلة [َقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] بقوله تعالى[وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]
ظاهر آية السياق أنها قيدت موضوع المن من عند الله عز وجل بأنه بخصوص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعند التدبر فيها تتجلى حقائق بأن المنّ من الله في ذات موضوع نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمر عظيم وواسع متصل، إذ ذكرت الآية خصال الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما ينفع الناس جميعاً.
ومن إعجاز الآية أنها وصفت المسلمين بالمؤمنين في ذات الإخبار عن رسالة النبي محمد صلى الله وآله وسلم وكأنهم كانوا مؤمنين قبل رسالته صلى الله عليه وآله وسلم , ولكن نظم وخاتمة الآية يدلان على أن الإيمان مستحدث عندهم وجاء ببركة رسالته وتلاوته آيات القرآن إذ أختتمت الآية بقوله تعالى[وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
فمن الإعجاز في الآية إختتامها بحال المسلمين قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم تكتف بالقول بأنهم في ضلال إنما وصفته بانه مبين وواضح وجلي , وهو ظاهر للناس والتأريخ بعبادتهم الأصنام، ووأدهم البنات، ومزاولتهم الفواحش، وأكلهم الربا .
وورد القرآن في توثيق استعمالهم الربا، ودفاعهم عن معاملته ومساواتها عندهم مع البيع والشراء [قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
ترى لماذا ذكرت الآية المسلمين بخصوص بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم مؤمنون , الجواب لبيان قانون من جهات :
الأولى : بلوغ المسلمين مرتبة الإيمان ، وهي من أسمى مرتبة يبلغها الإنسان في الحياة الدنيا ، والمنجية من الخوف والفزع يوم القيامة ، فان قلت قد قيدت آيات القرآن النجاة في الآخرة بالإيمان والعمل الصالح مجتمعين كما في قوله تعالى [فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
والجواب هذه صحيح ولكن الإيمان هدىّ وطريق لأداء الواجبات والمسارعة في الخيرات ، وفيه إتباع للهدى وتصديق بمعجزات النبوة ، قال تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) ولا يبلغ الإنسان مرتبة الإيمان إلا بعد الإسلام والإقرار بالعبودية لله عز وجل والرسالة لمحمد والأنبياء , ومن الإيمان التسليم بأن الأنبياء لم يغلوا ولم يأكلوا من الغنائم .
وترك الغلول نوع طريق إلى الجنة , قال تعالى[ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثانية : لا يرقى العبد إلى درجة الإيمان إلا بفضل ولطف من عند الله، لذا إبتدأت آية السياق بذكر المنّ منه سبحانه .
ولقد ورد ذكر الغنائم في آية البحث، وذكر المنّ في آية السياق، على المؤمنين، وجمع الثلاثة أي الغنائم والمن وإيمان المسلمين قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( ).
ومن إعجاز نظم القرآن ورود لفظ [فَتَبَيَّنُوا] مرتين في الآية أعلاه من مجموع الثلاث مرات التي ورد فيها في القرآن، وجاء الثالث خطاباً للمسلمين للمسلمين أيضاً وبصيغة الإكرام ونداء الإيمان بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًابِجَهَالَةٍ]( ).
ولم يرد لفظ (تبينوا) من غير الفاء في القرآن لبيان قانون وهو بعث المسلمين على العمل الفوري والمسابقة في الخيرات، وعدم إرجاء التدبر والعمل الصالح , قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ) .
وفي أسباب نزول الآية أعلاه من سورة النساء التي جمعت بين الإيمان من الغنائم والمنّ من عند الله عز وجل , ذكر أنها نزلت (في شأن مِرْداسِ بنِ نهيكٍ من أهل فدَكٍ وكان قد أسلم ولم يُسلمْ من قومه غيرُه فغزتْهم سريةٌ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم غالبُ بنُ فَضالةَ الليثي فهربوا وبقيَ مرداسٌ لثقته بإسلامه فلما رأى الخيلَ ألجأ غنمَه إلى عاقول من الجبل وصعِد .
فلما تلاحقوا وكبّروا كبّر وقال : لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله السلامُ عليكم فقتله أسامةُ بنُ زيدٍ واستاق غنمَه فأخبروا رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجَد وجْداً شديداً .
وقال : ” قتلتموه إرادةَ ما معه ” .
فقال أسامةُ : إنه قال بلسانه دون قلبِه وفي رواية إنما قالها خوفاً من السلاح .
فقال عليه الصلاة والسلام : ” هلا شقَقْتَ عن قلبه ” وفي رواية ” أفلا شقَقْتَ عن قلبه ” ثم قرأ الآيةَ على أسامةَ فقال : يا رسولَ الله استغفِرْ لي .
فقال : ” كيف بلا إله إلا الله ” قال أسامة : فما زال عليه الصلاة والسلام يعيدُها حتى ودِدتُ أن لم أكن أسلمتُ إلا يومئذ ، ثم استغفرَ لي وقال : ” أعتِقْ رقبة ” .
وقيل : نزلت في رجل قال : يا رسول الله كنا نطلُب القومَ وقد هزمهم الله تعالى فقصَدْتُ رجلاً فلما أحسَّ بالسيف قال : إني مسلمٌ فقتلتُه .
فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم : أقتلتَ مسلماً؟ قال : إنه كان متعوّذاً ، فقال عليه الصلاة والسلام : أفلا شقَقْتَ عن قلبه)( ).
وعن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أضم ، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم الحرث بن ربعي أبو قتادة ، ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي ، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن أضم ، مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له ، معه متيع له وقطب من لبن ، فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام ، فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينه وبينه ، فقتله وأخذ بعيره ومتاعه ، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبرناه الخبر ، نزل فينا القرآن { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} الآية( ).
ولا تعارض بين الخبرين، إلا أن الأول هو الأرجح خاصة وأن خبره وقصة أسامة هذه ذكرت بعد نزول الآية في أيام حياته ثم أن الآية لم تذكر فيها الذم لقوم مخصوصين أو شخص قتل شخصاً للدنيا والطمع فيها كما في ذم الوليد ونعته بأنه فاسق .
الثالثة : من مصاديق الإيمان أداء الصلاة وإتيان الزكاة والمسارعة في فعل الخيرات ، لتكون آية البحث شاهداً على إجتهاد المسلمين في طاعة الله لذا فمن منّ الله عز وجل على المسلمين مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأحكام الحلال والحرام , وبما تبينه ذات آية السياق من أمور وهي :
أولاً : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن على المسلمين ، ولا تختص هذه التلاوة بالذين يسمعون تلاوة النبي بل تشمل أجيال المسلمين والمسلمات في كل زمان وإلى يوم القيامة.
ثانياً : تزكية وتطهير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بالأخذ بأيديهم في مراتب الإيمان وتعاهد الفرائض العبادية وصيغ الترغيب بالثواب العظيم والزجر عن السيئات بالتخويف بالعذاب الأليم مع حثه المسلمين على فعل الصالحات .
(عن ابي سعيد الخدري وابي هريرة انهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه الا كفّر الله به من سيئاته) ( ).
ولابد من تقدير في قوله تعالى [وَيُزَكِّيهِمْ] من جهات :
الأولى : يزكيهم بالقرآن وتعلمه .
الثانية : يزكيهم بأداء الفرائض .
الثالثة : يزكيهم بالدفاع عن بيضة الإسلام .
الرابعة : يزكيهم بصيروتهم في حال حرص على الزكاة .
الخامسة : يزكيهم بسنن التقوى .
السادسة : يزكيهم بالمسارعة في سبل العفو والمغفرة ، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
وسيأتي مزيد كلام في الجزء الخاص بتفسير آية السياق وهي الآية (164) من سورة آل عمران .
ثالثاً : تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الكتاب ومنه آيات القرآن وتأويلها وقصص الأمم الماضية وأخبار الأنبياء وجهادهم في سبيل الله، وإخلاصهم الطاعة له، وكان إمتناعهم عن أكل الغلول من مصاديق الجهاد والإخلاص ومما علّمه الله ورسوله المسلمين، لذا ورد قوله تعالى[وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ]( ).
رابعاً : تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الحكمة، والحكمة على شعب منها :
الأولى : سلامة الإقتباس والتعلم ، فلا يأخذ الإنسان إلا ما فيه موعظة ونصح ونفع وخير محض، وفي النبي يحيى ورد قوله تعالى[وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا]( ) .
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن عيسى ابن مريم قام في بني إسرائيل فقال: يا معشر الحواريين لا تُحَدِّثوا بالحكمة غير أهلها فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتطلموهم ، والأمور ثلاثة : أمر تبين رشده فاتبعوه ، وأمر تبين لكم غِيَّهُ فاجتنبوه ، وأمر اخْتُلِفَ عليكم فيه فَرُدُّوا علمه إلى الله تعالى( ).
الثانية : بلوغ مرتبة اليقين والسكينة في النفس .
الثالثة : إتخاذ الحكمة صبغة للقول والفعل ، وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الحكمة تزيد الشريف شرفا , وترفع العبد المملوك حتى تجلسه مجالس الملوك( ).
إعجاز الآية الغيري
تبعث كل من آية البحث والسياق المسلم وغير المسلم إلى التدبر في درجته وشأنه ومنزلته أين هو من جهة الإيمان والأمانة والتفكر في إعجاز النبوة ، وتبعث كل منها على طاعة الله ورسوله ، وهذا البعث من مصاديق الرحمة في قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( )من جهات :
الأولى : جعل الإنسان يتفكر في نفسه وعمله وكسبه .
الثانية : غبطة وسعادة ورضا المسلم عن نفسه خاصة عند أدائه الوظائف العبادية والإمتثال للأوامر والنواهي في القرآن ، قال تعالى [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ) (عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار , وأن يحب الرجل لا يحبه إلا لله عز وجل ) ( ).
الثالثة : بعث القرآن الإنسان على طاعة الله عز وجل ورسوله.
الرابعة : تقريب الآية القرآنية الإنسان من فعل الصالحات ، قال تعالى [وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) والتوبة هنا أعم من الإقلاع عن المعاصي لورود الخطاب بصيغة الإيمان ،وفق معاني توبة المؤمن الإجتهاد في طاعة الله والتحلي بالصبر والتقيد بسنن التقوى ، وجعل نفسه تنفر من إرتكاب السيئات ، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن .
الخامسة : ترتب الثواب على ذات إستماع الآية القرآنية ، وهو من مصاديق الرحمة في الآية أعلاه .
السادسة : بيان المنافع العظيمة في قراءة القرآن في الصلاة ، وإستماع المأمومين للإمام في صلاة الجماعة .
السابعة : ترغيب المسلمين بالسكوت عند سماع القرآن إذ أن الإنصات باللسان .
ولا تتعارض هذه الجهات مع أسباب نزول الآية ، و(عن ابن مسعود قال : كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة ، فجاء القرآن { وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا }( ))( ).
ولا تختص الرحمة التي تذكرها الآية أعلاه بالحياة الدنيا بل تشمل عالم الآخرة ، ويكون تقدير الآية على وجوه :
أولاً : لعلكم ترحمون في الدنيا .
ثانياً : لعلكم ترحمون في الدنيا فتثابون في الآخرة .
ثالثاً : لعلكم ترحمون في الآخرة بفضل من عند الله .
رابعاً : لعلكم ترحمون بصرف أذى وضرر الكفار عنكم ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) .
خامساً : لعلكم ترحمون بالنصر على الأعداء ، وكان من تعاهد المسلمين للصلاة تقريب النصر وتحققه بأبهى حلة ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
سادساً : لعلكم ترحمون بالإحتراز من أكل الغلول ، وهذا الإحتراز بذاته رحمة ، وهو سبب ومقدمة لمصاديق متعددة من الرحمة .
سابعاً : لعلكم ترحمون بمضاعفة الرزق ، وما يطلبه المسلم بالغل تأتيه أضعافه بالحلال .
ثامناً : لعلكم ترحمون بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودفع كيد الذين كفروا عنه .
تاسعاً : لعلكم ترحمون بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان) ( ).
ويحتمل الحديث أعلاه بلحاظ تلاوة آية البحث وجوهاً:
الأول : تلاوة آية البحث من الأمر بالمعروف .
الثاني : تلاوة آية البحث من النهي عن المنكر .
الثالث : تلاوة آية البحث ليست من الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر .
الرابع : تبعث آية البحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وباستثناء الوجه الثالث أعلاه فان الوجوه الأخرى من مفاهيم ومصاديق آية البحث ، وهو من الغايات الحميدة للآية القرآنية بأن يتلو المسلم الآية القرآنية فيتعظ منها ويهتدي بها ويتخذها سلاحاً وواقية من حر النار الحامية .
و (عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ قَالُوا لَهُ أَلَا تَدْخُلُ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ فَتُكَلِّمُهُ قَالَ فَقَالَ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي لَا أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ وَاللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُهُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ مَا دُونَ أَنْ أَفْتَحَ أَمْرًا لَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَنَا أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ وَلَا أَقُولُ لِرَجُلٍ أَنْ يَكُونَ عَلَيَّ أَمِيرًا إِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ فَيَدُورُ بِهَا فِي النَّارِ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِالرَّحَا قَالَ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ إِلَيْهِ فَيَقُولُونَ يَا فُلَانُ أَمَا كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ فَيَقُولُ بَلَى قَدْ كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ) ( ) .
ولم يرد الحديث أعلاه بخصوص المسلمين بل هو عام وشامل للناس منذ أيام أبينا آدم ، وفيه دعوة لدخول الإسلام ، وقد أثنى الله عز وجل على المسلمين ، بتلاوة [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) والتسليم به , وقد أكرمهم الله عز وجل ، وليس من مسلم إلا ويفوز بالنعم التالية :
الأولى : الإستماع لآيات القرآن .
الثانية : تلاوة آيات القرآن .
الثالثة : السكوت عند تلاوة آيات القرآن
الرابعة : التدبر في آيات القرآن .
ومن إعجاز القرآن الغيري أن كل نعمة أعلاه تتضمن التفكر في آيات القرآن وإقتباس الدروس والمواعظ منها ، ومن هذه المواعظ الحصانة والعصمة من سرقة المال العام والأكل من الغنائم خلسة وبغير حق .
وتشمل الوجوه أعلاه آية السياق في الإستماع والإصغاء لها والتدبر في معانيها بلحاظ تعلق موضوع الآية أعلاه بكل آيات القرآن وأجزائها وكلماتها ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : وإذا قرئت الآية القرآنية فاستمعوا لها وأنصتوا لعلكم ترحمون .
الثاني : وإذا قرئ شطر من الآية القرآنية فاستمعوا له وأنصتوا .
الثالث : وإذا قرئت جملة من الآية القرآنية فاستمعوا لها وأنصتوا .
الرابع : وإذا قرأت آيتان من القرآن فاستمعوا لهما وأنصتوا .
الخامس : واذا قرئت سورة من القرآن فاستمعوا لها وأنصتوا .
السادس : وإذا قرئت ثلاث آيات أو أكثر من القرآن فاستمعوا لها .
السابع : وإذا قرئ القرآن في الصلاة فاستمعوا له .
الثامن :وإذا قرئ القرآن للحجة والبرهان فاستمعوا له .
التاسع : وإذا قرئ القرآن على نحو الوجوب العيني أو الإستحباب فاستمعوا له.
العاشر : وإذا قرئ القرآن خشية من الله وقربة إليه فاستمعوا له.
ويلاحظ تعدد الضمير في الوجوه أعلاه فجاء للمفرد المذكر ، والمفردة المؤنثة ، والمثنى والجمع بقسميه ، وهو من وجوه سعة رحمة الله عز وجل في قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
ويمكن تأسيس علم في هذا التفسير إسمه (الآية رحمة) وهناك مسألتان :
الأولى : هل يجب الإنصات للجهاز الحاكي كالراديو والتلفاز عند بثه لقراءة القرآن .
الثانية : لزوم إسكات الراديو والتلفاز عند صلاة الجماعة .
أما المسألة الأولى فلا يجب لأن القدر المتيقن من الآية صلاة الجماعة والقراءة الحاضرة من شخص تسمعه , ولقاعدة نفي الحرج في الدين.
وأما المسألة الثانية , فالجواب نعم , يلزم مع الإمكان وعدم ترتب الضرر لأنه آلة بيد الإنسان وتبث أصواتاً وقد أراد الله عز وجل للصلاة أن تكون مناسبة للتدبر والتفقه .
ولا ينحصر موضوع التدبر في الصلاة بذات القراءة بل يشمل أداء الصلاة والتقيد بأحكامها وشرائطها وهذا التدبر من رشحات قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صلّوا كما رأيتموني أصلّي)( ) من جهات :
الأولى : محاكاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أداء الصلاة شاهد على إتباع المسلمين له .
الثانية : أداء الصلاة والقراءة فيها كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ وسيلة مباركة للنجاة يوم القيامة .
وعن عمرو بن شعيب( ) عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يمثل القرآن يوم القيامة رجلاً فيؤتى الرجل قد حمله فخالف أمره ، فيقف له خصماً فيقول : يا رب حملته إياي فبئس حاملي تعدى حدودي ، وضيع فرائضي ، وركب معصيتي ، وترك طاعتي .
فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال : فشأنك ، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار ، ويؤتى بالرجل الصالح قد كان حمله وحفظ أمره ، فيتمثل له خصماً دونه فيقول : يا رب حملته إياي فحفظ حدودي ، وعمل بفرائضي ، واجتنب معصيتي ، واتبع طاعتي ، فما يزال يقذف له بالحجج حتى يقال له : شأنك به ، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يلبسه حلة الاستبرق ، ويعقد عليه تاج الملك ، ويسقيه كأس الخمر) ( ).
ومن الآيات تعدد أفراد الصلاة في اليوم الواحد , وموضوعية مواضع القراءة فيها، فاذا تعذر على المسلمين إسكات أصوات خارجة عن الصلاة عند أدائها فتأتي أوقات أخرى يتكرر فيها أداء الصلاة ، ولكن تلك الأصوات لن تكون موجودة ، وهو من الأسرار في عدم نزول آية [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا]( ) مع بداية البعثة النبوية وعدم ملازمة السكوت والإنصات مع بدايات تشريع الصلاة لبيان السعة والمندوحة في الدين ، وكيفية التدرج في تثبيت معالم الإيمان في الواقع اليومي للمسلمين .
وهل يرقى الإنصات للآية القرآنية إلى مرتبة الإستغفار ، ويكون الذي يستمع للآية القرآنية كأنه يستغفر الله ، وقد ورد في قصة النبي صالح عليه السلام وقومه في التنزيل [قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) .
الجواب لا ، إلا أن يشاء الله , ومن فضل الله عز وجل تعدد صيغ الثواب والأجر وسبل الإستغفار.
لقد تفضل الله عز وجل وبيّن للمسلمين والناس أن كلامه يختلف عن غيره من كلام الناس والخلائق ، وأن الناس محتاجون للإستماع له ، فلذا أمرهم بالإستماع والتدبر فيه .
وظاهر آية الإنصات إلى القرآن أنها لم توجه لخصوص المسلمين ، فلم تقل (يا أيها الذين آمنوا إذا قرىء القرآن …)وعطفت الآية على آية إحتجاج على الذين كفروا لقوله تعالى [وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ( ) .
لبيان أن الأمر بقراءة القرآن والإستماع له وحي وتنزيل وواقية وحرز من أهل الجدال والخصومة وليكون هذا الإستماع من مصاديق آية البحث لأنه إتباع لرضوان الله وجهاد للنفس ومنع لغلبة الشهوة وحب اللذات عليها .
وتدل مضامين آيات القرآن على قانون : وهو أن مصاديق إتباع مرضاة الله أكثر من أن تحصى ، وكل آية خزينة وكنز لجني الصالحات وإكتناز الحسنة.
آية البحث منّ من الله
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بآية البحث ، وهي منّ وإحسان ولطف من عنده تعالى من جهات :
الأول : آية البحث كلام لله عز وجل ، ومن كرمه ولطفه تعالى أن أنزل كلامه إلى الأرض .
ومن الآيات أن آيات القرآن لم تنزل إلا وفق قواعد منها : كل فرد منها منّة ونعمة من عند الله وهي :
الأولى : نزول كلام الله بواسطة ملك من سادات وكبراء الملائكة ، وقد نزل به جبرئيل عليه السلام ،قال تعالى [قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ] ( ) ولم ينحصر نزول جبرئيل بآيات القرآن بل ينزل لبيانها ولتعضيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته .
(عن سليم قال: سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام وسأله
رجل عن الايمان فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن الايمان، لا أسأل عنه أحدا بعدك،
قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فسأله عن مثل ما سألتني عنه، فقال له
مثل مقالتك فأخذ يحدثه ثم قال له: افهل آمنت، ثم أقبل علي عليه السلام على الرجل , فقال: أما علمت أن جبرئيل أتى رسول الله صلى الله عليه وآله في صورة آدمي
فقال له: ما الاسلام ؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وحج البيت، وصيام شهر رمضان والغسل من الجنابة، قال: فما
الايمان ؟ .
قال: نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالحياة بعد الموت، وبالقدر كله
خيره وشره وحلوه ومره، فلما قام الرجل قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هذا جبرئيل جاءكم يعلمكم دينكم، فكان رسول الله كلما قال له شيئا قال: له: صدقت،
قال: فمتى الساعة ؟ قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: صدقت، ثم قال علي عليه السلام: بعد ما فرغ من قول جبرئيل ” صدقت ” ألا إن الايمان بني على أربع دعائم: على
اليقين، و الصبر، والعدل، والجهاد) ( ).
(وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن عمر بن الخطاب قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حين غير حينه الذي كان يأتيه فيه .
فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا جبريل ما لي أراك متغير اللون؟!
فقال : ما جئتك حتى أمر الله بمفاتيح النار . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا جبريل صف لي النار وانعت لي جهنم .
فقال جبريل : إن الله تبارك وتعالى أمر بجهنم فأوقد عليها ألف عام حتى ابيضت ، ثم أمر فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت ، ثم أمر فأوقد عليها ألف عام حتى اسودت ، فهي سوداء مظلمة لا يضيء شررها ولا يطفأ لهبها ، والذي بعثك بالحق لو أن ثقب ابرة فتح من جهنم لمات من في الأرض كلهم جميعاً من حره .
والذي بعثك بالحق لو أن ثوباً من ثياب الكفار علق بين السماء والأرض لمات من في الأرض جميعاً من حره .
والذي بعثك بالحق لو أن خازناً من خزنة جهنم برز إلى أهل الدنيا فنظروا إليه لمات من في الأرض كلهم من قبح وجهه ومن نتن ريحه .
والذي بعثك بالحق لو أن حلقة من حلق سلسلة أهل النار التي نعت الله في كتابه وضعت على جبال الدنيا لارفضت وما تقارت حتى تنتهي إلى الأرض السفلى .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حسبي يا جبريل .
فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبريل وهو يبكي فال : تبكي يا جبريل وأنت من الله بالمكان الذي أنت به؟ فقال : وما لي لا أبكي أنا أحق بالبكاء ، لعلي أكون في علم الله على غير الحال التي أنا عليها ، وما أدري لعلي ابتلى بما ابتلى به إبليس فقد كان من الملائكة ، وما أدري لعلي ابتلي بما ابتلي به هاروت وماروت .
فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبكى جبريل ، فما زالا يبكيان حتى نوديا : أن يا جبريل ويا محمد ان الله قد أمنكما أن تعصياه ) ( ).

الثانية : بلوغ ذات كلام الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير زيادة أو نقصان ، وفي الثناء على جبرئيل ورد قوله (روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لجبريل (عليه السلام) : إن الله تبارك وتعالى سمّاك بأسماء ففسّرها لي،
قال الله في وصفك {ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين}( ) فأخبرْني عن قوّتك،
قال : يا محمد رفعت قرى قوم لوط من تخوم الأرض على جناحي في الهواء حتى سمعت ملائكة سماء الدنيا أصواتهم وأصوات الديكة ثم قلبتها ظهراً لبطن،
قال : فأخبرني عن قوله {مُّطَاعٍ} قال : إن رضوان خازن الجنان،
ومالكاً خازن النيران متى كلفتهما فتح أبواب الجنة والنار فتحاهما لي،
قال : فأخبرْني عن قوله {أَمِينٌ} قال : إن الله عزّ وجلّ أنزل من السماء مائة وأربعة كتب على أنبيائه لم يأتمن عليها غيري) ( ).
الثالثة : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلقي نزول الآية القرآنية بهيئة يتجلى فيها الإعجاز الحسي ، لما يعتريه من وطأة ثقل الآية ، قال تعالى [إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً] ( ).
وإذا نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو على ناقته يسري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : مبادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتبليغ الوحي للمسلمين فليس ثمة فترة بين نزول الآية القرآنية وبين تبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها ، وتلاوته لها .
الثاني : فضل الله في حفظ آية البحث لحين تلاوتنا لها وبقائها إرثاً وتركة كريمة من عندنا فكل جيل من المسلمين يتلقى الآية القرآنية إرثاً ويحفظها ويتعاهدها من غير زيادة أو نقصان ثم يتركها إرثاً للجيل الذي بعده ، وليس من فصل بين الأجيال ولكنها متداخلة ، وهذا التوارث من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
ومما ينفرد به القرآن في المقام أنه ليس من إرث يبقى بذاته من غير زيادة أو نقصان مثل القرآن مع طول مدة التوارث وإتصاله وإستمراره إلى يوم القيامة ، وهذا التوارث من مصاديق الصراط في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) بلحاظ أنه أمانة عقائدية وعهدية عند المسلمين .
وإذ يتوارث الناس المال والأراضي والسمعة بالنسب كالبنوة والأخوة وبالسبب كالزوجية فان ميراث آيات وعلوم القرآن عام لا ينحصر بالأرحام .
فكل عالم وكل مسلم يخّلف من بعده آيات القرآن وأداء الواجبات العبادية تركه للأجيال اللاحقة ، ليكون هذا التوارث من وفي حديث مالك بن الحويرث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [صلوا كما رأيتموني اصلى فإذا حضرت الصلوة فليؤذن لكم احدكم وليؤمكم اكبركم] ( ) .
ومن معاني الحديث خذوا الصلاة أرثاً ممن هو صلاها قبلكم مثل صلاتي وأجعلها تركة إيمانية للذين من خلفكم أبناء وعشيرة وأخوة في الإيمان ، وهذا التوارث العبادي السليم من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
الثالث : بعث المسلمين للدعاء للإقتداء بالأنبياء في صبرهم وتقواهم وجهادهم للنفس والإمتناع عن أخذ الغلول .
الرابع : من منّ الله عز وجل على المسلمين ترغيبهم باتباع سنن الأنبياء ، ومنه آية البحث التي إبتدأت بذكر سيرة الأنبياء بخصوص الطهارة عن الغلول من أجل محاكاة المسلمين لهم ، وكأن الآية تقول للمسلمين : أن إجتناب أكل الغلول خير محض ، وقد سبقكم في إنتهاجه الأنبياء فنالوا المراتب السامية .
ومنها بلحاظ آية البحث العصمة من التعدي على المال العام والخاص ، لتبين الآية أعلاه أن الأنبياء ذوو قلوب كبيرة ويتحلون بالصبر ويخرجون الناس بانتهاجهم سبل التقوى ، قال تعالى [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
الخامس : تأديب المسلمين وإصلاحهم للتقوى بأن يروا كيف أن الله عز وجل أثنى على الأنبياء ، وأخبر عن سلامتهم من أكل الغلول ، وهذا الإخبار شاهد على حسن مثواهم وإقامتهم في الآخرة ، ويكون من معاني آية البحث تلاوة المسلمين لها ليفوزوا باللبث الدائم في الجنة بلحاظ أن هذه التلاوة مقدمة ونوع طريق لأمور :
أولاً : التنزه عن أكل الغلول , وهذا التنزه عمل صالح وأمارة على الهداية والتقوى ، قال تعالى [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ).
ثانياً : التأسي بالأنبياء منهاج التقوى والفلاح .
ثالثاً : بعث الرغبة في نفوس المسلمين للإحاطة علماً بفعل وسيرة الأنبياء ، لذا ورد قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ) ويمكن تأليف مجلد خاص بالآيات القرآنية الخاصة بالأنبياء وبيان وتفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها وذكره لقصصهم .
السادس : تحذير وإنذار المسلمين من أهوال يوم القيامة ، وإخبارهم عن قانون ثابت في الإرادة التكوينية وهو [وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ] ( ) فلا سبيل إلى ستره وإخفائه وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاتَّقُوا يَوْمًا لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ] ( ) فلا يظن المسلم الذي يأخذ الغلول أن خروجه للجهاد برزخ دون إحضاره للغل يوم القيامة بدليل قوله تعالى في الآية أعلاه [وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ] لا أقل في خصوص الإحضار نفسه ، نعم قد تكون شفاعة في الغلول أو نقصان من الحسنات بسببه ، ولكن الإحضار هو أمر ثابت بدليل آية البحث إلا أن يشاء الله ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] ( ).
ومن إعجاز آية البحث الذاتي أن كل كلمة منها منّة ونعمة من عند الله ومع قلة كلمات آية البحث تتعدد القوانين فيها ، ومنها إستيفاء الحق والإستحقاق لكل إنسان في عالم الحساب يوم القيامة وفيه وجوه :
الأول : قانون بعث الأنبياء بمنّة وفضل من الله ، وهو سبحانه الغني عن العالمين ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] ( ) .
وقد تفضل الله سبحانه وأعان الناس وأمدّهم بالرزق الكريم ويسر لهم قضاء حاجاتهم .
ومن إعجاز الآية أعلاه بأن فقر الناس مطلق , ويتجلى بحاجتهم إلى الله في كل آن، وليس مطلقاً ، فقد يكون الإنسان كثير المال والولد ، وذا جاه وعز ، ولكنه يبقى فقيراً إلى الله في ديمومة حياته ، وفي إستدامة رزقه .
الثاني : قانون تنزه كل نبي عن أكل الغلول والسرقة من المال العام ، لبيان نعمة عظمى على أهل الأرض عامة والمسلمين خاصة في أمور :
أولاً : بعثة الأنبياء والرسل .
ثانياً : الملازمة بين هبوط آدم إلى الأرض وبين النبوة ، إذ كان أول نبي من الأنبياء ، وهو من كرم الله عز وجل وفضله على الناس ، فلم تُرجئ النبوة على هبوط الإنسان إلى الأرض .
ثالثاً : نزول الكتب السماوية من عند الله عز وجل .
رابعاً : مجئ الأنبياء والكتب السماوية بالبشارة والإنذار .
خامساً : إتصاف الأنبياء بمكارم الأخلاق , وحسن القول والفعل والكمالات الإنسانية (عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله بعثني بتمام مكارم الأخلاق ، وكمال محاسن الأفعال) ( ) .
والجامع بين الأنبياء بتمام حسن الخلق لا يتعارض مع قوله تعالى [وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ] ( ) لبيان القرآن لماهية التفضيل بالمعجزة ومراتب الرسالة ، كما في قوله تعالى [تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ]( )إذ نفخ الله في روحه من آدم ، وإتخذ إبراهيم خليلاً .
وتفضل الله سبحانه وكلّم موسى عليه السلام ، وفي التنزيل [وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا] ( ) وأتى الله عز وجل سليمان ملكاً عظيماً وجعل عيسى روحه وكلمته ، وجعل محمداً صلى الله عليه وآله وسلم سيد ولد آدم وآتاه القرآن وجعل أمته خير الأمم ونهاهم بصيغة الخبر عن الأخذ خلسة من الغنائم .
ومن مصاديق اسم التفضيل (خير) في الآية أعلاه أن المسلمين هم الأمة الباقية إلى يوم القيامة ، وتقّوم هذا البقاء بأدائهم الواجبات العبادية كما كان يؤديها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعاهد آيات القرآن رسماً وتلاوة وحفظاً لما بين الدفتين من غير زيادة ولا نقيصة .
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لا تفضلوا بين الأنبياء) ( ).
ولم يقف أي نبي عند التنزه عن أكل الغلول بل كان الأنبياء يقومون بإنذار أتباعهم وأنصارهم من أخذ الغلول والسرقة من بيت المال ، مع توليهم الوعد والبشارة بالثواب العظيم والسلامة يوم القيامة للذين يمتنعون عن أكل المال العام ، والسرقة من الغنائم التي جعلها الله عز وجل ملكاً مشاعاً بين المؤمنين لحين توزيعها بين أهلها ، وهذه السلامة من مصاديق قوله تعالى [فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) بلحاظ أن آية البحث هدى وموعظة ودعوة للمسلمين لإجتناب أكل الغلول وإنذار لهم بصيغة الجملة الخبرية من التعدي على المال العام الذي يكون لكل مسلم ومسلمة سهم فيه ، ولا يختص الحق فيه بالموجود من المسلمين بل يشمل المعدوم والذي لم يولد بعد .
قانون تنزه الأنبياء عن السرقة من المال العام
من علامات الحقيقة التبادر بأن تسبق إلى الذهن الحقيقة دون المجاز، وما يخالطه الشك والوهم .
ومن أسرار نفخ الله عز وجل من روحه في آدم أن جعل ذهن الإنسان يستحضر فضل الله عليه وعلى الناس، وليس من نعمة من عند الله إلا وتتصف بالحسن والكمال والتمام، ومنها بعثة الأنبياء من وجوه كثيرة منها:
الأول : تفضل الله عز وجل ببعث الأنبياء والرسل إلى الناس ، ولا تختص البعثة بالإرسال إنما تشمل الإرسال بالنبوة وبيان الأحكام الشرعية ، والذب عن الأنبياء وحفظهم ، وهل آية البحث من هذا الذب , الجواب نعم ، إذ تزجر الآية الذين كفروا وتمنعهم من الإفتراء على الأنبياء وإيذائهم وإدعاء أنهم يأكلون من المال العام ، أو أنهم تولوا الرياسة والإمامة الروحية للناس لكي يجلبوا الخيرات لأنفسهم ، إنما كانوا يتصفون بالزهد والتقوى ليكون من معاني قوله تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا] ( )على وجوه :
الأولى : ننصرهم بالبشارة والإنذار .
الثانية : ننصرهم حتى يوصلوا البشارة والإنذار .
الثالثة : ننصرهم بأن ينصت لهم الناس .
الرابعة : ننصرهم بأن تقوم طائفة من الناس بنقل ذات البشارات والإنذارات .
الخامسة : قانون عدم مغادرة النبي الدنيا حتى يرى من يعمل بما جاء به من عند الله .
الثاني : إبتداء هبوط الإنسان إلى الأرض، وانتشار الناس فيها والإقرار بأن آدم أبا البشر نبي رسول، وهو الأمر الثابت عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند كل المسلمين .
وعن أبي ذر قال : يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟ قال : آدم قلت : يا رسول الله ونبي كان؟ قال : نعم . نبي مكلم . قلت : كم كان المرسلون يا رسول الله؟ قال : ثلثمائة وخمسة عشر . جماً عفيراً .
وأخرج عبد بن حميد والآجري في الأربعين عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله من كان أولهم؟ يعني الرسل قال : آدم قلت : يا رسول الله أنبي مرسل؟ قال : نعم . خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وسوّاه قبلاً( ).
فلم يتردد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن ذكر خصال لآدم ينفرد بها من بين الأنبياء والناس جميعاً، مما يدل على سلامة نهجه وصدقه، وطهارة قلبه وإكرامه للأنبياء من قبله ، وهو مرآة لإكرام آية البحث لهم ، ودعوة للمسلمين لتنزيه الأنبياء ، فيسلم المسلمون بأن أعمال الأنبياء صحيحة وخالية من القبح الذاتي أو الضرر العرضي ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ] ( ) .
ولقد جاء القرآن بخصوص الأنبياء بأمرين :
الأول : النعمة العامة على الأنبياء ، ومنها الوحي .
الثاني : بيان النعمة الخاصة على الأنبياء وقوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] ( ) ومن النعم العامة على الأنبياء مجتمعين ومتفرقين ، وهل يوصي الأنبياء بعضهم بعضاً بعدم الأخذ من الغلول ، أو الإختلاس من المال العام ، الجواب نعم ، وقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بنزول كلامه في لزوم التنزه عن الغلول .
ولا يختص الأمر بالوصية بين الأنبياء ، إنما ورد في وصية يعقوب قوله تعالى [أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ) ليكون من معاني الإسلام في الآية أعلاه تعاهد ذراري الأنبياء التنزه عن أكل الغلول ، وقد تجلى في أمانة يوسف وهو أن يعقوب النبي ، إذ تولى يوسف الوزارة في مصر ، وإدارة الأموال العامة وخزائن مصر ليدفع الله عن الناس بالنبوة وطهارتها من أكل الغلول الجوع والإقتتال والحروب بسبب الفاقة والجوع , فلو جفت أنهار بلدة مع كثرة أهلها يظهر السلب ويزداد النهب والخطف ، ولكنهم يدركون بركة الإسلام بالإمتناع عن الإغارة بعضهم على بعض وعن الوأد وقتل البنات لسد الحاجة إلى الطعام وخشية الإنفاق لبيان قانون وهو في إمتثال كل نبي عن أكل الغلول نفع خاص وعام ، وفوائد تترشح على أهل زمانه وعلى المسلمين في كل زمان .
وهل تشمل فوائد ومنافع هذا القانون غير المسلمين ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) وهذه المنافع من جهات :
الأولى : إشاعة روح الأمانة بين حكام أهل الأرض .
الثانية : بعث السكينة في نفوس رعايا دولة الإسلام من المسلمين وأهل الكتاب وازدهار التجارة والمكاسب بينهم .
الثالثة : بيان قانون وهو الحسن الذاتي لنزاهة الحاكم والأمير .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه بلوغ الناس لمرتبة زمان العولمة وتقارب البلدان وتداخل الحضارات وإطلاع الناس على الأمور العامة والخاصة .
فاذا كان هناك حاكم عادل يتصف بالنزاهة فان المجتمعات كافة ووسائل الأعلام تثني عليه وعلى حسن خلقه ، وإن تباينت الملة والدين بينه وبين أكثر أهل الأرض ، لذا فان آية البحث تستصرخ المسلمين حكاماً وغيرهم بأن يكونوا دعاة إلى طاعة الله ، وإلى بعث سنن التقوى في الأرض بزهدهم وامانتهم وتنزههم عن أكل المال العام والأخذ خلسة منه .
الرابعة : تذكير آية البحث بيوم القيامة وأن الذي يأكل المال العام ويفلت من العقاب في الدنيا يكون الأذى الأليم والحساب الشديد في إنتظاره في مواطن الآ خرة .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها ذكرت إحضار الغلول ، وهو مرتبة متقدمة زماناً على الحساب ، وهل يبعث هذا الغلول مع صاحبه حين ينشر من قبره أم يلحق به في مواطن الآخرة ، المختار هو الثاني ، وقد قال الله تعالى [وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ] ( ) .
وتدل الآية أعلاه على أن الإنسان حال البعث يعلم بأنه غلّ وأخذ من الغنائم حال نشوره ليأتيه ما غلّه فيكون عبأ ثقيلاً ووزراً يحمله على ظهره أو يشد إلى عنقه بين الخلائق .
وسميت الغلول لأن الأيدي مغلولة وممنوعة عنها فيجب ألا تمتد إليها لأنها مال عام (وقال أبو عبيد : الغلول من المغنم خاصة ولا نراه من الخيانة ولا من الحقد وما يبين ذلك أنه يقال من الخيانة : أغل يغل , ومن الحقد : غل يغل بالكسر , ومن الغلول : غل يغل بالضم وغل البعير أيضا يغل غلة إذا لم يقض ريه وأغل الرجل خان قال النمر :
(جزى الله عنا حمزة ابنة نوفل…جزاء مغل بالأمانة كاذب)( ).
وفي الحديث : (لا إغلال ولا إسلال) أي لا خيانة ولا سرقة ويقال : لا رشوة وقال شريح : ليس على المستعير غير المغل ضمان) ( ).
ويتصف هذا الجزء وهو الواحد والخمسون بعد المائة من تفسيري للقرآن باختصاصه بالصلة بين شطر من الآية 161 والآية 164 من سورة آل عمران ، وقد جعلت الأولوية للشطر من الآية الأولى أعلاه، وهو قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] ( ) وهو مصداق لقوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
فاراد الله عز وجل للأنبياء الأمانة والإخلاص في التصرف في الملك والغنائم ومن قدرته تعالى التي تذكرها الآية أعلاه حجب الأنبياء عن الغلول والهمّ به وأخذه ، ليدرك المسلمون معجزة متجددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميادين القتال وغيرها وهي أنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يأخذ من الغنائم خلسة أو خفية ، ولا يطمع لدنيا , فلا يبغي إلا الدعوة إلى الله وتعظيم شعائر الله , ويكون تقدير قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( )أي أنه لم يغل كما أن الرسل من قبله لم يغلوا .
فان مات أو قتل فلا تغلوا ، ولا تأخذوا من الغنائم خلسة وإبتدأت الآية الرابعة والستين بعد المائة من التفسير بالإخبار عن منّ وإحسان الله عز وجل على المسلمين بأن بعث نبي الرحمة محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إليهم بقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ] ليكون من منّ الله في المقام وجوه :
الأول : عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الغلول .
الثاني : نزول آية البحث على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : من المنّ في المقام سلامة آية البحث من التحريف والزيادة والنقصان ، فلو أراد الأمير أو القائد الأخذ من الغلول خلسة لا يقدر على تغيير أو تبديل آية البحث ، ولا يستطيع العمل على سوء التأويل أو تحريف المعنى والدلالة ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) أن من البيان عصمته من تحريف المعنى والدلالة ، ويتبادر إلى الذهن المقصود الأعم من الآية ، وتقديرها : وما كان لنبي أن يغل فلا تغلوا )ويتجلى هذا النهي من جهات :
الأولى : الجمع بين آية البحث وآيات قرآنية أخرى منها قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
الثانية : بيان آيات القرآن لحرمة التعدي على المال العام ، وأن هذا التعدي ظلم للنفس والغير .
(عن أبي ذر : [ عن النبي صلى الله عليه و سلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال : يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم .
يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم .
يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني .
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا .
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر .
يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم , ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله , ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ] ( ).
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ .
وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ ، ثُمَّ إِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى أَلا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ ، أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ ( ).
لقد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خبري أبي ذر أعلاه خصائص لآدم في نبوته وهي :
الأول : آدم عليه السلام أول الأنبياء، مما يدل على قانون وهو الملازمة بين بداية وجود الإنسان في الأرض وبين النبوة .
الثاني : تكليم الله عز وجل لآدم بصفته نبياً من الأنبياء وهل كان وجوب التنزه عن الغلول من مصاديق هذا التكليم , الجواب نعم، وهو من الأسماء في قوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( ).
الثالث : بلوغ آدم عليه السلام مرتبة الرسول مع نيله درجة النبوة، ليتصف بخصال :
الأولى : آدم عليه السلام نبي.
الثانية : آدم عليه السلام رسول.
الثالثة : آدم أول الأنبياء الذين يبلغ عددهم مائة واربعة وعشرين ألفاً.
الرابعة : آدم عليه السلام أول الرسل والذين يبلغ عددهم ثلاثمائة وخمسة عشر , وعن أبي أمامة قال: قلت : يا نبي الله كم الأنبياء؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً)( ).
الرابع : جمع آدم عليه السلام بين النبوة والرسالة وقد جمعتا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : حمل آدم عليه السلام البشارة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامه بجعله إرثاً مباركاً للنبي من بعده وهو إبنه شيث أي هبة الله , وعن كعب الأحبار قال: إن الله أنزل على آدم عليه السلام عصياً بعدد الأنبياء المرسلين ، ثم أقبل على ابنه شيث .
فقال : أي بني أنت خليفتي من بعدي ، فخذها بعمارة التقوى والعروة الوثقى ، وكلما ذكرت اسم الله تعالى فاذكر إلى جنبه اسم محمد ، فإني رأيت اسمه مكتوباً على ساق العرش وأنا بين الروح والطين .
ثم إني طفت السموات فلم أرَ في السموات موضعاً إلا رأيت اسم محمد مكتوباً عليه ، وإن ربي أسكنني الجنة فلم أرَ في الجنة قصراً ولا غرفة إلا رأيت اسم محمد مكتوباً عليه ، ولقد رأيت اسم محمد مكتوباً على نحور الحور العين ، وعلى ورق قصب آجام الجنة ، وعلى ورق شجرة طوبى ، وعلى ورق سدرة المنتهى ، وعلى أطراف الحجب ، وبين أعين الملائكة ، فأكثر ذكره فإن الملائكة تذكره في كل ساعاتها)( ).
الخامس : إنفراد آدم عليه السلام بخصوصية وكرامة وتشريف وهو خلق الله عز وجل له بيده .
فلم ينشأ في رحم، وليس من تلقيح طبيعي أو صناعي لعدم وجود إنسان قبله ، سواء كان ذكراً أو أنثى.
وعن عبد الله بن مسعود (وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش، فجعل إبليس على مُلْك السماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم: الجن، وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع مُلْكه خازنا، فوقع في صدره كبر وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على الملائكة .
فلما وقع ذلك الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك منه. فقال الله للملائكة{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً}( ) قالوا: ربنا، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا.
قالوا: ربنا، { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ }( ) يعني: من شأن إبليس.
فبعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها، فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تَقْبض مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ، وقال: رب مني عاذت بك فأعذتُها.
فبعث ميكائيل، فعاذت منه فأعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل، فبعث مَلَك الموت فعاذت منه.
فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض، وخَلَطَ ولم يأخذ من مكان واحد، وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين، فَصعِد به فَبَلَّ التراب حتى عاد طينا لازبا -واللازب: هو الذي يلتزق بعضه ببعض -ثم قال للملائكة: { إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ }( ).
فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه، ليقول له: تتكبر عما عملت بيدي، ولم أتكبر أنا عنه. فخلقه بشرا، فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة، فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه، وكان أشدهم فزعا منه إبليس، فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار وتكون له صلصلة. فذلك حين يقول: { مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ } ( )ويقول: لأمر ما خُلقت. ودخل من فيه فخرج من دبره.
وقال للملائكة: لا ترهبوا من هذا، فإن ربكم صَمَدٌ وهذا أجوف. لئن سلّطت عليه لأهلكنه.
فلما بلغ الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح، قال الله للملائكة: إذا نفخت فيه من روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه، عَطِسَ، فقالت الملائكة.
قل: الحمد لله. فقال: الحمد لله، فقال له الله: رحمك ربك، فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة. فلما دخل الروح في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فذلك حين يقول تعالى: { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ }( ) { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ }( ) أبى واستكبر وكان من الكافرين. قال الله له: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي؟ قال: أنا خير منه، لم أكن لأسجد لمن خلقته من طين . قال الله له : اخرج منها فما يكون لك، يعني: ما ينبغي لك { أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ }( )
والصغار: هو الذل. قال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا}( ) ثم عرض الخلق على الملائكة { فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}( ) أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء، فقالوا { سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } قال الله: { يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}( ).
قال: قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } فهذا الذي أبدوا “وأعلم ما تكتمون” يعني: ما أسر إبليس في نفسه من الكبر.
فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السُّدِّي , ويقع فيه إسرائيليات كثيرة ، فلعل بعضها مُدْرَج ليس من كلام الصحابة, أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة , والله أعلم)( ).
السادس : تفضل الله عز وجل بالنفخ من روحه في آدم ، ومن بديع قدرة الله عز وجل أنه يخلق الخلق بالكاف والنون ، قال تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ) ويقدر سبحانه أن يخلق آدم به ولكنه تفضل وأكرمه وذريته بأن نفخ فيه من روحه ، وهل يكون العقل عند الإنسان من رشحات هذا النفخ الأقرب نعم ، ومنها خلافة الإنسان في الأرض وتصرفه فيها وإنتفاعه منها .
وهل من مصاديق الخلافة تعاهد الإنسان للحياة على الأرض ودفع الأضرار الفادحة للإحتباس الحراري ، الجواب نعم وهو الظاهر بلحاظ الأعم الأغلب من الناس .
السابع : تفضل الله بتسوية خلق آدم بهيئة متجانسة يستطيع معها قضاء حوائجه ، وتوارث ذريته ذات الهيئة ، قال تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( ) .
ليكون من مصاديق شكر الناس لله عز وجل على نعمة الخلق والتسوية هذه وجوه :
الأول : الإيمان بالله عز وجل .
الثاني : التصديق بالأنبياء .
الثالث : العمل بطاعة الله ورسوله .
الرابع : الإحتراز من مفاهيم الكفر والضلالة والتنزه من الرذائل والخبائث .
الخامس : تنزه المسلمين عن الغلول .
وفي صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والثناء عليه وبيان فضل الله عز وجل عليه وعلى الناس ببعثته ، قال تعالى [الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
السادس : إتباع نهج الأنبياء الذي جعله الله عز وجل مرآة للسلوك القويم ، وطريقاً للبث الدائم في النعيم , وبرزخاً دون الغفلة والجهالة .
السابع : إتخاذ الإنسان حسن قوامه لأداء الصلاة والصبر عن الطعام والشراب والجماع في حال الصيام ، وتسخير عقله وجوارحه لأداء الزكاة والخمس وسائر الحقوق الشرعية والوصية بالثلث في مرضاة الله عز وجل .
و(عن سعد بن أبي وقاص : أنه مرض مرضاً أشفي منه فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوده فقال : يا رسول الله إن لي مالاً كثيراً وليس يرثني إلا ابنة أفأتصدق بالثلثين؟ .
قال : لا .
قال : فالشطر . . . ؟ قال : لا .
قال : فالثلث . . . ؟ قال : الثلث والثلث كثير ، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) ( ).
ولعل في الحديث إنذار من قيام عمر بن سعد بقيادة الجيش لقتل الحسين عليه السلام لأن ابن زياد وعده بملك الري فاذا كان في غنى لا يلتفت إلى إغواء المال في المقام .
ومن بديع صنع الله أن فضله على الإنسان لا ينحصر ولا يتوقف عند حسن خلقته ، بل أن نعمه تترى عليه ، قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، ومنها :
الأولى : آية البحث .
الثانية : آية السياق .
الثالثة : الصلة والجمع بين آية البحث وآية السياق
لذا تفضل الله عز وجل وذكر سيرة الأنبياء في آية البحث ، وتفضل وأخبر عن منّه وإحسانه على المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الإعجاز أن الآية لم تقل : لقد منّ الله على أهل مكة ، أو المدينة، أو على قريش أو على العرب ، بل ذكرت الآية المؤمنين وفيه بشارة : إنتشار وبقاء الإسلام ، ودعوة المسلمين جميعاً للشكر لله عز وجل على نعمة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن هذا الشكر إجتناب كل مسلم ومسلمة الأكل من الغلول والمال العام ، ومنها سلامتهم من أكل الغلول ، ويكون وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : كل خلق حميد من الأنبياء زينة للأرض .
الصغرى : عصمة الأنبياء من أكل الغلول خلق حميد للأنبياء .
النتيجة : عصمة الأنبياء من أكل الغلول زينة للأرض .
وكما أنعم الله عز وجل على المؤمنين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد أنعم عليهم بتنزه الأنبياء عن أكل الغلول والمال العام ، وهو موضوع هذا القانون ، وهذه النعمة من جهات :
الأولى : تزيين الأرض ببعثة الأنبياء وبالإخلاق الحميدة لهم ،وقد ورد قوله تعالى [فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ] ( ) .
وجاءت الآية أعلاه بصيغة العطف بين الذِكر والشكر والذي يفيد المغايرة بينهما ، وهو لا يتعارض مع مجئ المصداق المتحد لهما معاً ، ومنه إمتناع المسلمين عن أكل الغلول ، فهو ذكر لله عز وجل وإستحضار لسيرة الأنبياء وآية البحث ، وهو شكر لله عز وجل على نعمة الظفر بالذين كفروا ومجئ الغنائم للمسلمين وصيرورتهم بحال سعة ومندوحة وفرصة للإنفاق ، قال تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ] ( ) .
وتدعو الآية أعلاه في مفهومها المسلمين إلى التنزه عن أكل الغلول ليأتي الإنفاق من الكسب الحلال ، وهو من مصاديق بعث الآية القرآنية المسلمين للعمل بمضامين الآية القرآنية الأخرى .
الثانية : فضل الله عز وجل على الأنبياء وتهذيب سيرتهم إذ يتضمن قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ]إصلاح نفوس الأنبياء وإمتلاءها بالتقوى والزهد والرضا بما قسم الله عز وجل .
ومن خصائص كل نبي أنه لا يطمع بالدنيا وزينتها ، وهل الغلول منها ، الجواب نعم ، فان قلت قد يكون أخذ الغلول حاجة واضطراراً ، قال تعالى [إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ] ( ).
الجواب جاءت أحكام الضرورة بالمحرمات أعلاه وتقدر الضرورة بقدرها ، وما كان يؤكل عن حاجة من الغنائم فهو ليس من الغلول إنما يفيد الغل معنى الأخذ خلسة ، والحفظ والإدخار .
الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين فما كان لنبي أن يغل ) لبيان أن نعم الله عز وجل على المسلمين سابقة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتبدأ هذا النعم من حين هبوط آدم إلى الأرض .
ليكون من وجوه تقدير قوله تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى] ( ) هو هبوط آدم عليه السلام وحواء إلى الأرض مع العزم على عدم الغلول والسرقة من الغل ، فان قلت ممن يكون الغلول ومع من ؟
والجواب من وجوه :
الأول :لقد هبط آدم وحواء ومعهم إبليس وهو عدو لهما .
الثاني : إرادة تكاثر ذرية آدم وحواء ، ومن ضروب الإبتلاء لهما ، قيام أحد ولديهم وهو قابيل بقتل هابيل ، قال تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ] ( ).
الثالث : بيان قانون وهو إجتناب الأنبياء أخذ الغلول والسرقة من الغنائم ملكة راسخة عندهم .
الرابعة : إرادة المعنى العام للغلول ، وهو الأخذ من بيت المال والمال العام .
الخامسة : إرادة قانون وهو عصمة الأنبياء بالقوة عن أكل الغلول ، أي إذا كانت هناك غنائم في أيام آدم فانه منزه عن الأخذ خلسة منها لفضل الله بالملازمة بين النبوة والإمتناع عن أكل الغلول.
السادسة : لقد كثر أولاد وأحفاد آدم إذ عمّر كثيراً وكان عمره ألف سنة( ) (عن ابن عباس قال : لما نزلت آية الدين( ) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أوّل من جحد آدم أن الله لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذار إلى يوم القيامة فجعل يعرض ذريته عليه .
فرأى فيهم رجلاً يزهر قال : أي رب من هذا؟ قال : هذا ابنك داود . قال : أي رب كم عمره؟ قال : ستون عاماً قال : رب زد في عمره . فقال : لا إلا أن أزيده من عمرك . وكان عمر آدم ألف سنة ، فزاده أربعين عاماً ، فكتب عليه بذلك كتاباً وأشهد عليه الملائكة ، فلما احتضر آدم وأتته الملائكة لتقبضه قال : إنه قد بقي من عمري أربعون عاماً .
فقيل له : إنك قد وهبتها لابنك داود . قال : ما فعلت . فأبرز الله عليه الكتاب وأشهد عليه الملائكة ، فكمل الله لآدم ألف سنة ، وأكمل لداود مائة عام) ( ).
السابعة : حصول قتال بين أولاد واحفاد آدم في حياته ، (وقال علماء السير : نبأ الله تعالى إدريس في حياة آدم، وقد مضى من عمر آدم ستمائة واثنتان وعشرون سنة، وأنزل عليه ثلاثون صحيفة فدعا قومه ووعظهم وأمرهم بطاعة الله ومخالفة الشيطان، وأن لا يلامسوا أولاد قابيل، فخالفوا، فجاهدهم وسبى منهم واسترق) ( )
والقول بأن نبوة إدريس في أيام آدم عليه السلام يحتاج إلى دليل.
ويمكن القول من نعم ومنن الله عز وجل على المسلمين أمور:
الأول : إبتداء النبوة من آدم عليه السلام ، وهو من اللطف وإقامة الحجة على الناس ، وفي التنزيل [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الثاني : كثرة عدد الأنبياء ، فينظر المسلم إلى عددهم ويقول أن كان مائة وأربعة وعشرون ألف نبي لم يأكلوا من الغلول ، فلابد أن أتبعهم في نهجهم ، وأن هذا النهج أمر ليس شاقاً أو مانعاً من مجئ الرزق ، فقد امتنع الأنبياء عن أكل الغلول ، وفاز كل واحد منهم بخير الدنيا والآخرة .
وتدل آية البحث على إكرام الله عز وجل لهم لعفتهم وتقواهم ، وإمتناعهم عن أكل الغلول ، وقد خصهم الله بالوحي ، وأطلعهم على علوم من الغيب ، وفي المرسل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إنا معشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا) ( ) .
(عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ وَضَعَ رَجُلٌ يَدَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا أُطِيقُ أَنْ أَضَعَ يَدِي عَلَيْكَ مِنْ شِدَّةِ حُمَّاكَ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ يُضَاعَفُ لَنَا الْبَلَاءُ كَمَا يُضَاعَفُ لَنَا الْأَجْرُ إِنْ كَانَ النَّبِيُّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يُبْتَلَى بِالْقُمَّلِ حَتَّى يَقْتُلَهُ , وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى يَأْخُذَ الْعَبَاءَةَ فَيَجُوبَهَا( ), وَإِنْ كَانُوا لَيَفْرَحُونَ بِالْبَلَاءِ كَمَا تَفْرَحُونَ بِالرَّخَاءِ) ( ).
إذ يبتلى الله عز وجل الأنبياء في أبدانهم لإنقطاعهم لهم إلى الله ، وعدم الإنشغال بالدنيا وبهجتها .
الثالث : من خصائص آيات القرآن صحبة وملازمة منهاج الأنبياء للمسلم في يومه وليلته ، إذ تحضر سننهم وحسن سمتهم ، وهو من الإعجاز في تلاوة آيات القرآن في الصلاة اليومية وفيوضات هذه التلاوة على المسلم وإصلاحه وتهذيب إخلاقه ، فان قلت آيات القرآن كثيرة وهي ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية ويبلغ عدد كلماته سبعاً وسبعين ألفاً وأربعمائة وتسعاً وعشرين كلمة , وقيل وسبعاً وثلاثين , ونحوه .
والجواب من جهات :
الأولى : إتصاف الآية القرآنية بسرعة الحضور في الذهن عند الوقائع والأحداث الموافقة لها أو مطلقاً ، فحتى حينما يخلو المسلم بنفسه تحل الآية القرآنية ضيفاً كريماً على قلبه ، وهو من إعجاز القرآن الغيري , ومن رشحات نفخ الله سبحانه من روحه في آدم عليه السلام ، لتكون أي آية من القرآن واقية من أكل الغلول ،وجاءت آية البحث لبيان حرمة الأخذ خلسة من الغنائم .
وهو من الدلائل على الإعجاز الغيري للقرآن ، ولقد إبتلى الله عز وجل الذين كفروا بالرعب يملأ قلوبهم بقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( ) ومن هذا الرعب أمور :
أولاً : حفظ المسلمين لآيات القرآن .
ثانياً : وقوف المسلمين بين يدي الله خمس مرات في اليوم وإنقطاعهم عن الدنيا أثناء الصلاة ، وسأل عمر (أبا مالك عن صفة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة وكان من علماء اليهود،
فقال : صفته في كتاب بني هرون الذي لم يغير ولم يبدّل أحد من ولد إسماعيل بن إبراهيم ومن آخر الأنبياء وهو النبي العربي الذي يأتي بدين إبراهيم الحنيف، يأتزر على وسطه ويغسل أطرافه في (عينيه) حمرة وبين كتفية خاتم النبوّة مثل زر الحجلة، ليس بالقصير ولا بالطويل، يلبس الشملة ويجرى بالبلغة ويركب الحمار ويمشي في الأسواق، معه حرب وقتل وسبي سيفه على عاتقه لا يبالي مَن لقي مِن الناس، معه صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان ولو كانت في عاد ما أهلكوا بالريح ولو كانت في ثمود ما أهلكوا بالصيحة.
مولده بمكّة ومنشأه بها وبدء نبوّته بها ودار هجرته يثرب بين جرّة ونخل (وسبخة) وهو أُمّي لا يكتب بيده، هو بجهاد، يحمد الله على كل شدة ورخاء، سلطانه الشام، صاحبه من الملائكة جبرئيل يلقى من قومه أذىً شديداً. ويحبّونه حبّاً شديداً ثمّ يدال على قومه يحصرهم حصر (الجرين)، يكون له وقعات في يثرب، منها له ومنها عليه، ثمّ يكون له العاقبة يعدّ معه أقوام هم إلى الموت أسرع من الماء من رأس الجبل إلى أسفله، صدورهم أناجيلهم قربانهم دماؤهم ليوث النهار ورهبان بالليل يرعب منه عدوه بمسيرة شهر،
يباشر القتال بنفسه حتّى يخرج ويكلم لا شرطة معه ولا حرس يحرسه) ( ).
ثالثاً : تلاوة المسلمين آيات القرآن في الصلاة ، ومن الإعجاز في المقام توجه الخطاب التكليفي بالقراءة في كل صلاة لكل مسلم ومسلمة وهو من أسباب بعث الرعب في قلوب الذين كفروا .
رابعاً : طرو الآية القرآنية على ذهن الكافر ليجتمع مع الرعب والفزع في قلبه التدبر في مضامين الآية القرآنية ، والتفكر في دلالاتها والنظر في العزم على دخول الإسلام .
خامساً : رعب وفزع الذين كفروا من حضور آيات القرآن في أذهان المسلمين لأنها تقودهم إلى الهداية والتضحية والفداء في سبيل الله .
سادساً : جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة القرآن في الصلاة وخارجها وتثبيت دعائم الدين ببعث المسلمين على العمل بأحكام آيات القرآن .
(عن عبد الله بن سلام قال : صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً }( ) وحرزاً للأميين ، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة مثلها ولكن يعفو ويصفح ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا : لا إله إلا الله . ويفتح به أعينا عمياً ، وآذاناً صماً ، وقلوباً غلفا .
وأخرج الدارمي عن كعب قال : في السطر الأول : محمد رسول الله عبدي المختار ، لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ، مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام .
وفي السطر الثاني : محمد رسوله الله أمته الحمادون ، يحمدون الله في السراء والضراء ، يحمدون الله في كل منزلة ويكبرونه على كل شرف ، رعاة الشمس يصلون الصلاة إذا جاء وقتها ولو كانوا على رأس كناسة ، ويأتزرون على أوساطهم ، ويوضئون أطرافهم ، وأصواتهم بالليل في جوّ السماء كأصوات النحل .) ( ).
ويعلم الناس جميعاً أن الله عز وجل أمر المسلمين بوجوب الإستماع إلى القرآن وحذّرهم من الإعراض عن آياته ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا] ( ).
لقد أدرك الكفار ما يلحق بهم الضرر وأسباب الهزيمة والشنار فسعوا في محاربة ذات القرآن وعلموا أن القرآن يصلح المسلمين للدفاع ويثبت أقدامهم في منازل التقوى ، وفي التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ] ( ).

بحث أصولي المصوبة والمخطئة
قد يكون هناك خلاف بين الأصوليين ، ويتشعب ويتفرع في المسألة الواحدة ، وتكتب فيه ، وفي أدلة كل طرف ونقضه لأدلة الطرف الآخر مجلدات عديدة ، ويقتطع من أوقات العلماء الوقت الكثير ، وكأنه جهة أخرى تريد إشغالهم بهذه الخلافات ، وليس من جهة في الغالب ، إنما هو الولاء والتعصب لمذهب مخصوص ، ومع هذا لابد من إستقراء الدروس وإستنباط المسائل من هذا الخلاف والخروج بقواعد كلية تخفف عن الباحثين في قابل الأيام عناء الغوص في ضروب هذه الخلافات في زمان تلح حاجات كثيرة على الفرد والجماعة والأمة ، وغالباً ما نجد بين المدارس الفقهية والأصولية خلافاً صغروياً أو أنه لا يتعدى الاسم وصرف الطبيعة كثيراً ، وقد يختلف قول الناس في الأمر الواحد بلحاظ الجهة والمذهب في الثناء القرآني وبيان خلوه من التفاوت والتضاد ، قال تعالى [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا] ( ) ومما يتصف به القرآن إنتفاء التزاحم والتعارض بين بعضه بعضاً .
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية أن القرآن دستور الأمة ،وهل يشمل قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ) الفقهاء والأصوليين في المباني التي يعتمدونها ، الجواب نعم ، لأصالة الإطلاق ، ولأن الإختلاف وما يترشح عنه أمر مذموم ولإنتفاء الحاجة إليه مع بيان القرآن لكل شئ وسلامته من التعارض ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) والسبيل إلى المنع من تجذر هذه الخلافات , لذا تجد المسلم بفطرته يكره صيرورة الخلافات الفقهية أو الأصولية أو الكلامية هي الملاك والأهم في حياتهم العبادية .
إن الله عز وجل يدعو المسلمين والناس جميعاً إلى الإنتفاع الأمثل من أيامهم ، المحدودة في الحياة الدنيا في طاعته تعالى.
وقد تجلت في القرآن الأحكام التكليفية الخمسة وهي :
الأول : الواجب وهو أسماها وأسناها وهو الذي أمر الله عز وجل على نحو الإلزام ، مثل الصلاة اليومية الخمسة والتي لا تترك بحال ، ومثل الزكاة مع النصاب وشرائطها من البلوغ والعقل ، والملك للمال الذي تجب فيه الزكاة وإمكان التصرف فيه .
والصيام والحج مع الإستطاعة قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) ومن الآيات ورود وجوب الصلاة بصيغة الأمر وعلى نحو متكرر وبصيغة الجملة الخبرية أيضاً ، وكما ورد خطاباً بلغة جمع المذكر [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ) والذي يكون شاملاً للرجال والنساء ، إنما جاءت لغة التذكير لتغليب المذكر .
وورد وجوب الصلاة والزكاة بصيغة التأنيث بقوله تعالى [وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ] ( ) وصحيح أن موضوع الآية أعلاه خصوص أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنها للنساء عامة بلحاظ عموم التكليف بالصلاة والزكاة وفي أدائها طهارة ودفع للخبائث والبلاء .
ويسمى الواجب أيضاً فرضاً وفريضة ولزاماً ، ومن يؤديه يأتيه الأجر والثواب أما الذي يتركه فيستحق العقوبة ومن تركه جهراً أو سهواً أو نسياناً لا يبطل عمله ، كما لو نسي القراءة في الركعة الثانية مع تحقق القيام منه فان صلاته صحيحة ويأتي بسجدتي السهو ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ( ).
(عن الإمام الصادق عليه السلام قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله : رفع عن أمتي تسعة : الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وما لايطيقون ، ومالايعلمون
، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكر في الوسوسة في الخلق ، ما لم ينطق بشفة) ( ).
ويلحق بالواجب القرآني ما يأتي في السنة النبوية من الواجب الثابت مثل الختان للرجال , والسنة لغة الطريق والهدي وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (فمن رغب عن سنتي فليس مني) ( ) .
ويأتي لفظ السنة في الإصطلاح بمعنى المستحب مثل الرواتب اليومية لذا يمكن تقسيم السنة النبوية إلى قسمين :
أولا : السنة الواجبة وهي التي يجب إتيانها , ويعاقب على تركها .
ثانيا : السنة المستحبة : وهي التي يستحب إتيانها ، ولا يعاقب على تركها .
الثاني : وهو المندوب ويسمى المستحب والسنة والنفل والمسنون مما أمر الله عز وجل ورسوله به ولكن لا على وجه الإلزام والحتم وصلاة النافلة اليومية وصلاة الليل وهي :
1- ركعتان قبل صلاة الفجر .
2- ثمان ركعات نافلة الظهر قبل الفريضة .
3- ثمان ركعات نافلة العصر قبل الفريضة .
4- أربع ركعات نافلة المغرب تؤدى بعد فريضة المغرب .
5- ركعتان من جلوس تعدان بركعة واحدة للعشاء بعد أداء فريضة العشاء .
6- نافلة الليل ثمان ركعات .
7- صلاة الشفع ركعتين ، وصلاة الوتر ركعة واحدة .
وتسمى صلاة وقيام الليل ، وصلاة القيام ومن أهل العلم من ام يحصرها بعدد مخصوص وجعل الأفضلية في إحدى عشرة ركعة وإجماع علماء الإسلام على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يسلم بين كل ركعتين أي يصلي صلاة الليل مثنى مثنى ويختم صلاته بوتر أي بركعة واحدة والله عز وجل وتر يحب الوتر , وفي التنزيل[وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ]( ).
وذكر أن النوافل التابعة للفرائض وهي الرواتب وتسمى سنن الفرائض على قسمين :
أولاً : المؤكدة وهي اثنتا عشرة ركعة : أربع قبل الظهر وركعتان بعد المغرب ، وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل الفجر .
ثانياً : غير المؤكدة ، وهي أربع قبل العصر وركعتان قبل المغرب، وركعتان قبل العشاء .
ويكون مجموع النوافل عشرين ركعة .
أما النوافل غير الرواتب فهي كثيرة ومتعددة وتسمى سنناً غير مؤكدة إذ أن الصلاة خير محض .
ولا يختص المندوب بالصلاة فيشمل كل عبادة وفعل للخير ومنه صوم النافلة والحج المستحب والصدقات المستحبة مما هو غير الزكاة الواجبة والخمس وغيره ، قال تعالى في الثناء على المؤمنين [أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ] ( ).
ومع أن قوله تعالى [وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ] ( ) ورد في الذين ينقصون الميزان ويتركون المكافأة ، وما يرجح بيضة القبان فقد ورد عن سلمان المحمدي قوله : إنما الصلاة مكيال فمن أوفى أوفي له ، ومن طفف فقد سمعتم ما قال الله في المطففين) ( ).
الثالث : وهو الحلال والجائز ، ولا يتعلق أمر أو نهي به لذاته ، كأكل الطعام وشرب الماء والمشي والتنزه ، والمباح نقيض المحظور ، مأخوذ من منباحة وسعة الدار , قال الجرجاني (المباح ما استوى طرفاه) ( ).
وقلما تجد أمراً مباحاً لا يخلو من ثواب ، وهذا الثواب لم يأت إلا بفضل من عند الله عز وجل ،وإرادة إصلاح المؤمنين لما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة، ولو شرب المسلم الماء أو أكل طعاماً فقال الحمد لله يأتيه الثواب هل يحتمل في متعلقه خصوص كلمة (الحمد لله ) أو أنه يشمل ذات الأكل والشرب ، الجواب يأتي الثواب على الحمد ، ويلحق به الأكل والشرب لأنه من الإنتفاع بفضل الله والإقرار به .
وبين المباح والحلال عموم وخصوص مطلق ، فالمباح أعم ، وخلاف المباح هو المحظور أو الممنوع ، أما خلاف الحلال فهو الحرام .
والحلال هو المباح من جهة الجواز والأذن الشرعي ، أن المباح كالمشي إلى السوق ، أما المشي إلى المسجد فهو مستحب ، وليس في مباشرته قدح أو ذم , ولا ضرر في فعله أو تركه .
وقيل (في ما أنزل على موسى عليه السلام: لا تتمن مال جارك ولا امرأة جارك ) ( ).
وجاءت الآيات بما هو أعم في الموضوع أو الدلالة والأثر بقوله تعالى [وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ] ( ) لتكون الحرب على هذا التمني والقبح الذاتي للحسد من جهات :
الأولى : حجب روح الحسد , وظهوره على اللسان وفي الجوارح.
الثانية : طرد الغفلة عن فضل الله عز وجل , وهو القادر على أن يهب للذي يتمنى أكثر مما يتمناه وما عند غيره من الذين يغبطهم أو يحسدهم , وفي ثناء الله على القرآن وبيان فضل الله في تنزيله قال تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
الثالثة : بث روح اليأس والقنوط في النفس ، ومن الإعجاز في الآية أعلاه نسبة من عند الناس من الخير إلى فضل الله عز وجل ليرتقي المسلمون إلى الدعاء وسؤال الله عز وجل من فضله ، قال تعالى [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ] ( ) وفيه بعث للمسلم والمسلمة ليسألا لأمور دنياهما وآخرتهما , وحاجتهما لفضل الله في الآخرة هو الأكثر والأعم .
وفي السنة أحتج المصوبة بالخبر الوارد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصحابي كالنجوم بأيهم أقتديتم أهتديتم ) أي مع إختلافهم في الحكم ، فان كل واحد منهم يصيب ، ولكن الحديث ضعيف السند ، ولا يدل في مفهومه على الإستدلال في هذه المسألة ، ويمكن حمله على الإقتداء بالصحابة في الرواية وحكاية فعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وليس في الإجتهاد فمثلاً قوله صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) .
ينقل الصحابي صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم [خذوا عني مناسككم] ( ).
وأستدل بالإجماع بالتواتر أن الصحابة إجتهدوا واختلفوا ولم يذم بعضهم بعضاً بسبب الإختلاف في الإجتهاد ، ولكن ورد عن الصحابة إنكار قول أو فعل الذي يخالف النص .
كما أستدل بالعقل وأن كل مجتهد يلزمه أتباع ما غلب عليه ظنه مما يدل على أنه على صواب ، ولو كان الحق والحكم منحصراً بجهة واحدة لما وجب على المجتهدين إتباع الظن ، ولكان المجتهد عند خطئه آثماً .
وأشكل على المصوبة بأن قولهم يترتب عليه أن حكم الله تابع لظن المجتهد ، وقد يجتهد فقيهان في مسألة ، ويقع الإختلاف والتضاد بينهما ، فاحدهما يفتي بالوجوب مثلاً , والآخر بالإباحة أو الكراهة فيلزم إجتماع الضدين وهو غير صحيح وخلاف حكم الله سبحانه.
وقول ودليل المخطئة :وهو أن المصيب في المسألة الإجتهادية واحد ، وأما الذي يخالفه في الإجتهاد فهو مخطئ لأن لله عز وجل حكماً واقعياً في كل مسألة ، ولا يتعدد الحق ومن أصابه في إجتهاده فهو مصيب ، وله أجران .
أما المخطئ فله أجر واحد بلحاظ أن المجتهد عليه بذل الوسع وليس عليه الوصول إلى الدليل إذا كان خافياً أو غامضاً ، فهو معذور بخطئه ، ويكون مأجوراً عند الله عز وجل لإجتهاده وبذله الوسع .
ومع هذا فالمجتهد مأمور بالعمل بإجتهاده وكذا مقلدوه ، وإن كان حكمه خلاف الحكم الواقعي ، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة في قول ،وقال أحمد ، أن الحق واحد عند الله ، فليس كل مجتهد مصيباً ، ولكن المصيب له أجران ، والمخطئ له أجر واحد ، لبذله الوسع في تحري الصواب والحق ويتعلق الأمر بالمسائل الظنية .
وقد يختلف أو يتحير المكلف في مسألة فقهية كالذي لم يعلم جهة القبلة فأجتهد وصلى إلى ما غلب عليه الظن ، أنها جهة القبلة ، ثم تبين له أنه على خطأ ، فهل عليه القضاء لأن الذي قصد لم يقع والذي وقع لم يقصد ، والخطأ يمنع من الإثم ، ولا ينفي القضاء ، كما في باب الغرامات لا ينفي التضمين وهو موافق لقول المخطئة .
وعند المصوبة من الحنفية لا يلزمه القضاء لتصويبه أثناء الأداء ، وأن تبين أنه خطأ في جهة القبلة .
وفي باب تحري القبلة ذكرتُ في رسالتي العملية مسائل( ) ::
(مسـألة1) عند عدم امكان تحصيل العلم بالقبلة، يجب الإجتهاد في تحصيل العلم وان تعذر يتحرى الظن والأمارات، ولا يجوز الإكتفاء بالظن غير المعتبر او الأدنى مع امكان الأقوى، والمدار على الظن الأقوى وليس على سببه، فلو اخبر عدل ولم يحصل الظن بقوله كما لو كان من غير اهل البلد، واخبر فاسق او كافر مع حصول الظن بقوله كما لو كان من اهل الخبرة، يعمل بقول الأخير.
(مسـألة2) لا فرق في التحري واستقصاء جهة القبلة بين الأعمى والبصير، ولكن الأعمى يرجع الى غيره في تحصيل القبلة واماراتها ، ويمكن في هذا الزمان صناعة جهاز وآلة تعين الأعمى باللمس على تعيين جهة القبلة وعلى نحو الدقة .
(مسـألة3) إخبار صاحب المنزل أمارة ولكن لا موضوعية له اذا لم يفد الظن المعتبر.
(مسـألة4) اذا حصر القبلة في جهتين بان علم انها لا تخرج عن احداهما، يجتهد في التحري حتى تترجح احداهما فيصلي اليها قال تعالى [فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ] ( ) وفي سبب نزول الآية أعلاه ورد عن عامر بن ربيعة قال (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلاً ، فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجداً فيصلي فيه ، فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة ، فقلنا : يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة ، فأنزل الله { ولله المشرق والمغرب . . . } الآية . فقال مضت صلاتكم) ( ) ويجوز ان يصلي الى الجهتين.
(مسـألة5) اذا تحرى واجتهد لصلاة وحصل له الظن، لا يجب تجديد الإجتهاد لصلاة اخرى ما دام الظن باقياً.
(مسـألة6) اذا ظن بعد التحري والإجتهاد ان القبلة في جهة فصلى الظهر مثلاً اليها ثم تبدل ظنه الى جهة اخرى، وجب عليه اتيان العصر الى الجهة الثانية، وهل يجب اعادة صلاة الظهر او لا، الأقوى الإعادة في الوقت دون ما خارج الوقت اذا كان مقتضى الظن الثاني وقوع الصلاة الأولى الى جهة اليمين او الى جهة اليسار اما اذا كان مقتضاه وقوعها ما بين اليمين واليسار فلا تجب الإعادة.
(مسـألة7) اذا انقلب ظنه في اثناء الصلاة الى جهة اخرى توجه حسب ظنه الأقوى والأرجح، الا اذا كان الأول الى الإستدبار او اليمين واليسار بمقتضى ظنه الثاني فيعيد ، وعن جابر بن عبد الله قال ( بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية كنت فيها ، فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة ، فقالت طائفة منا : القبلة ههنا قبل الشمال ، فصلوا وخطوا خطاً . وقال بعضنا : القبلة ههنا قبل الجنوب ، فصلوا وخطوا خطاً . فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة ، فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فسكت ، فأنزل الله { ولله المشرق والمغرب . . . } الآية ) ( ) .
(مسـألة8) المتحير الفاقد حتى للظن في تحديد جهة القبلة قيل يصلي الى اربع جهات ، والأقوى انه يصلي حيث يشاء ولقاعدة نفي الحرج في الدين وحديث الرفع فيما لا يعلمه المسلم ، وعن الإمام الصادق عليه السلام: “يجزي المتحير ابداً اين ما توجه اذا لم يعلم اين وجه القبلة” .
(مسـألة9) اذا صلى الى جهة من دون الفحص عن القبلة غفلة او مسامحة يجب اعادتها، الا اذا تبين كونها الى القبلة مع حصول قصد القربة منه.) ( ) .
واستدل المخطئة بذات الآية التي استدل بها المصوبة ،وهو قوله تعالى [وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ] ( ) .
قال الماوردي (وَقَدْ نَسَبَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ دَاوُدَ إِلَى الْخَطَأِ وَسُلَيْمَانَ إِلَى الْإِصَابَةِ) ( ).
ولا دليل على هذا المعنى ، وليس من خطأ عند داود.
وفي قوله تعالى [عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ] ( )قال الآمدي (عاتبه على ذلك ونسبه إلى الخطإ) ( ) وليس من نسبة إلى الخطأ في المقام ولكن لبيان الحجة .
واستدل المخطئة بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) ( ) وفيه شاهد على أن الإجتهاد أما أن يكون صواباً أو خطأ.
ولا يدل الحديث على محل النزاع، والقدر المتيقن منه أن الحاكم إذا إجتهد في حلّ خصومة ونزاع فلم يصب الحكم الواقعي ، وقيل المراد إذا إجتهد المجتهد في مسألة منصوص عليها ، أو مجمع عليها فأصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر .
وتتعلق مسألة المصوبة والمخطئة بالمسائل الفقهية الفرعية الظنية وليس بالعبادات والبديهيات وما فيه نص من الكتاب أو السنة ، إذ لا إجتهاد في مقابل النص .
وهذه المسألة أقرب إلى النظرية ، وقد لا يترتب عليها حكم شرعي ، ومعنى المصوبة أن كل مجتهد مصيب وأن حكم الله في الظنيات مما يمكن الإجتهاد فيه هو ما وصل إليه المجتهد ، فكل مجتهد مصيب ويتعلق الأمر بما ليس لله تعالى فيه نص ، وحكم معين من الجواز أو الحرمة أو الحلال أو الحرام ، فيعود الأمر لظن المجتهد ، فكل مجتهد نصيب بما يغني به وأقوال المجتهدين وإن تباينت فهي حق ، وبه قال الأشاعرة والمعتزلة ، والقاضي الباقلاني من المالكية ، وصاحبي أبي حنيفة أبو يوسف القاضي ومحمد بن الحسن والقاضي سريح بن الشافعية .
ثم اختلفت الأشاعرة والمعتزلة ، فقال الأشاعرة إذا كانت الواقعة ليس فيها نص ولا إجماع فليس لها حكم معين ، إنما يكون الحكم حينئذ بالظن كيلا يبقى المكلف متحيراً ، ويكون فيها حكم الله ما غلب على ظن المجتهد ، ويتفرع عن القول : المندوحة مصداق الحكم وأن الحق يتعدد ، وكل مجتهد مصيب .
أما المعتزلة فقالوا أن الواقعة التي لا نص فيها لها حكم معين عند الله ، ويلزم المجتهد بذل الوسع في طلبه ، ولكن لا يجب عليه تحصيله على نحو التعيين ويكون المجتهد بهذا مصيباً وأن أخطأ الحكم المعين .
ما دام بذل وسعه في طلب ، مما يعني أن المعتزلة يقولون بأن الحق لا يتعدد ، ولكن لتعذر إمكان إدراك المجتهد له على نحو اليقين فان كل مجتهد مصيب .
واستدل المصوبة بأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل أما من الكتاب فقوله تعالى في قصة داود وسليمان وأختلافهما في الحكم [وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا] ( ) للدلالة على صواب قول كل مجتهد منهما .
وكان حكمهما عليهما السلام في الحرث أي الزرع , والحرث والحرث الكسب وجمع المال .
وفي الحديث حرث لدنياك كأنك تعيش أبداً ، وأبو الحارث : كنية الأسد( ) وحرث القرآن دراسته والتدبر في معانيه .
ومن أمثال العرب : فلان يحفظ الفرث ويفسد الحرث ) لمن يتعاهد الحقير ويضيع المهم الجليل .
والنفش لا يكون إلا في الليل .
(عن الزهري، عن حَرام بن مُحَيْصة ؛ أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطًا، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها) ( ).
ولا يخلو الإستدلال بالآية أعلاه من الأشكال لوجوه :
الأول : كل من داود وسلمان نبي يوحى إليه .
الثاني : إرادة إقامة الحجة على الناس في نبوة سليمان عليه السلام في أيام داود توطئة لتسليم بني إسرائيل بنبوته والإنقياد له .
الثالث : إخبار الآية أعلاه عن تفضل الله عز وجل بافهام سليمان الحكم الشرعي في المسألة .
الرابع : بيان الآيتين أعلاه من سورة الأنبياء لأمور :
أولاً : إخبار القرآن عن حكم مستقل لكل من داود وسليمان .
ثانياً : تعلق الحكم بالحرث مع أنه أعم موضوعاً وأثراً .
ثالثاً : شهادة الله عز وجل للحاكم ومجئ الإخبار عن الحكمة بصيغة الجمع ،لبيان عدم إنحصار شهادة وعلم الله عز وجل بخصوص حكم داود وسليمان في مسألة الحرث .
رابعاً : الإخبار عن تفضل الله باتيان كل من داود وسليمان الحكم والعلم ، ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها قدمت الحكم على العلم وبينهما عموم وخصوص مطلق ، فالعلم أعم وهو آلة الرياسة والحكم ودوام الشأن .
(وقال الجمهور : إن حكمهما كان باجتهاد وهي :
واختلف العلماء في جواز الاجتهاد على الأنبياء فمنعه قوم وجوزه المحققون لأنه ليس فيه استحالة عقلية لأنه دليل شرعي فلا إحالة أن يستدل به الأنبياء كما لو قال له الله سبحانه وتعالى : إذا غلب على ظنك كذا فاقطع بأن ما غلب على ظنك هو حكمي فبلغه الأمة فهذا غير مستحيل في العقل .
فإن قيل : إنما يكون دليلا إذا عدم النص وهم لا يعدمونه قلنا : إذا لم ينزل الملك فقد عدم النص عندهم وصاروا في البحث كغيرهم من المجتهدين عن معاني النصوص التي عندهم والفرق بينهم وبين غيرهم من المجتهدين أنهم معصومون عن الخطأ وعن الغلط وعن التقصير في اجتهادهم وغيرهم ليس كذلك كما ذهب الجمهور في أن جميع الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون عن الخطأ والغلط في اجتهادهم وذهب أبو علي ابن أبي هريرة من أصحاب الشافعي إلى أن نبينا صلى الله عليه و سلم مخصوص منهم في جواز الخطأ عليهم وفرق بينه وبين غيره من الأنبياء أنه لم يكن بعده من يستدرك غلطه ولذلك عصمه الله تعالى منه وقد بعث بعد غيره من الأنبياء من يستدرك غلطه) ( ).
والمختار أن كلاً من حكم داود وسليمان هو من الوحي , وذكر أنه جاء رجلان في دعوى فأشتكى أحدهما قال :إن غنم هذا دخلت في زرعي ليلاً فأفسدته، فحكم داود بأن الغنم تكون لصاحب الحرث ، فخرجا من داود ومرّا على سليمان فأخبراه بالمسألة والحكم فقال : غير هذا الرفق أي أنه لم يبين حكماً آخر ، ولكنه قال : هناك حكم أرفق بالطرفين ، وهو لا يعني نفي الصواب وصبغة العدل عن حكم داود.
فسمع داود عليه السلام ما قال سليمان (فدعاه ، فقال له : بحق النبوةِ والأبوة إلا أخبرتَني بالذي أرفقُ بالفريقين ، فقال : أرى أن تُدفع الغنَمُ إلى صاحب الأرض لينتفعَ بدرها ونسلِها وصوفِها ، والحرثَ إلى أرباب الغنم ليقوموا عليه حتى يعودَ إلى ما كان ثم يترادّا .
فقال : القضاءُ ما قضيتَ وأمضى الحُكْمَ بذلك ، والذي عندي أن حكْمَهما عليهما السلام كان بالاجتهاد فإن قولَ سليمان عليه الصلاة والسلام : غيرُ هذا أرفقُ بالفريقين ، ثم قولُه : أرى أن تُدفع الخ ، صريحٌ في أنه ليس بطريق الوحي وإلا لبتّ القولَ بذلك ولما ناشده داودُ عليهما السلام لإظهار ما عنده بل وجب عليه أن يُظهِره بدْأً وحرُم عليه كتمُه ، ومن ضرورته أن يكون القضاءُ السابقُ أيضاً كذلك ضرورةَ استحالة نقضِ حكم النصِ بالاجتهاد) ( ).
ولكن لو دار الأمر بين الوحي والإجتهاد في حكم النبي فالصحيح هو الأول ، وقوله أرى لا يعني الدقة في النقل وعلى فرض دقته لمقام نبوة وأبوة داود عليه السلام وأمّا مناشدة داود فليعلم أن إبنه بلغ مرتبة النبوة وليُشهد بني إسرائيل عليه ، ولعلم كل منهما أن هذا الحكم سيظهر ويعلن ، فذات المناشدة من الوحي وهي نوع طريق لإظهار الحكم .
ولابد من التمييز بين حكم النبي وحكم المجتهد فليس من تساو في المقام لمنزلة الوحي والنبوة .
واستشهدوا بأخبار منها أن عمر بن الخطاب قال (لا تزيدوا في مهور النساء وإن كانت بنت ذي الغُصّة -يعني يزيد ابن الحصين الحارثي -فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال .
فقالت امرأة-من صُفَّة النساء طويلة، في أنفها فَطَس -: ما ذاك لك. قال: ولم؟ .
قالت: لأن الله تعالى قال: { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا } الآية. فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ) ( ).
وقال ابن عباس في إنكار العول في الفرائض : (من شاء بأهلته، أن الذي أحصى رمل عدداً لم يجعل في مال واحد نصفاً ونصفاً وثلثاً ، هذان نصفان ذهبا بالمال ، فاين موضوع الثلث .
والمباهلة : الملاعنة . وفي التنزيل[فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ]( ) ولم يرد لفظ نبتهل إلا في الآية أعلاه .
واستدل بالإجماع وأن الصحابة إجتهدوا إلى قضايا وأطلقوا لفظ الخطأ في الإجتهاد ، وأن من أصاب الحق فهو مصيب ، ومن أخطأه فهو مخطأ , ويقول المخطئة أن كل ما يتعلق به ظن المجتهد هو حكم الله الظاهري في حقه وحق مقلديه ، وقد يوافق هذا الحكم حكم الله الواقعي أو لا يوافقه .
فهل قول المخطئة : تنحصر الأحكام بالأحكام الواقعية الأولية من غير أن تصل النوبة إلى الظن والشك أو قيام الإمارة ، وقيل بناء على أصول المخطئة أن الحكم الظاهري هو عبارة عن الحكم الواقعي المحرز بالطرق والأصول ، ولا دليل على هذا القول .
وأختلف في الموضوع على وجوه :
الأول : الحكم الشرعي الواقعي .
الثاني : الحكم الشرعي .
الثالث : رفع الخطاب التكليفي ، فلا يتوجه لهم .
الرابع : عدم ترتب العقاب وإستحقاق المؤاخذة .
الخامس : إرادة رفع الأثر الوضعي للحكم .
وقال بعض علماء العامة والسنة بأنه ليس هناك حكم واقعي وان حكم الله تابع لرأي المجتهد ويسمى التصويب ، قال بعضهم لله حكم واقعي ولكنه يتبدل بحسب رأي المجتهد ، وكل منها باطل ، والحق أن لله عز وجل أحكام واقعية ثابتة لا تتبدل ، وإذا عجز المجتهد أو المكلف مطلقاً عن الوصول إلى الحكم الواقعي فانه لا يسقط ولا يتبدل ، ولكنه ليس شرطاً لأصل الحكم الذي هو سابق عليه ، فبالنسبة إلى المضطر والمكره يكون المرفوع الحكم الواقعي الإختياري ، ويكون له حكم آخر .
مثلاً أكل الميتة حرام للمختار ، ولكن إذا اضطر إليها المكلف ترتفع الحرمة وتكون حلالاً بمقدار الضرورة ، وهذا المعنى جلي وواضح في القرآن ، فلا تصل النوبة لمسألة المصوبة والمخطئة , قال تعالى [إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).

قانون الزهد واقية
الزهد لغة هو القليل , والزهادة في الأشياء ضد الرغبة والطمع فيها ، والزهد ضد الرغبة والحرص في الدنيا ، إذا كان الإنسان يزهد في الصالحات هذا الزهد مذموم لأنه ترك للواجب والمستحب.
وهناك مسألتان :
الأولى : ما هي النسبة بين الزهد والقناعة ، المختار أن النسبة هي العموم والخصوص المطلق فالزهد أعم إذ يقنع المسلم بالقليل ، وحتى هذا القليل إن غاب عنه فهو فيه زاهد .
ولم ترد مادة (زهد) في القرآن إلا بقوله تعالى بخصوص قصة يوسف [وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ * وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ] ( ) أي أن مادة الزهد لم تذكر في القرآن بمعناها الإصطلاحي الذي هو فرع التقوى بل ذكرت بالضد من الزهد والإستغناء عن الدنيا ، وفي المراد من لفظ الزاهدين أعلاه قولان :
الأول : المراد أخوة يوسف .
الثاني : المراد السيارة الذين أشتروه .
(عن السدي قال : كان يعقوب عليه السلام نازلاً بالشام ، وكان ليس له هم إلا يوسف وأخوه بنيامين ، فحسده إخوته مما رأوا من حب أبيه له . ورأى يوسف عليه السلام في النوم رؤيا إن أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ساجدين له ، فحدث أباه بها فقال له يعقوب عليه السلام : { يا بني ، لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً}( ).
فبلغ إخوة يوسف الرؤيا فحسدوه ، فقالوا {ليوسف وأخوه } بنيامين {أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة}( ) – كانوا عشرة – { إن أبانا لفي ضلال مبين } قالوا : في ضلال من أمرنا . { اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين}( ) يقول : تتوبون مما صنعتم به . { قال قائل منهم . . . } وهو يهوذا {لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين}( ).
فلما أجمعوا أمرهم على ذلك أتوا أباهم فقالوا له { يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف}( ) قال : لن أرسله معكم إني { أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنَّا إذاً لخاسرون } فأرسله معهم فأخرجوه وبه عليه كرامة . فلما برزوا إلى البرية أظهروا له العداوة فجعل يضربه أحدهم فيستغيث بالآخر فيضربه ، فجعل لا يرى منهم رحيماً ، فضربوه حتى كادوا يقتلونه .
فجعل يصيح ويقول : يا أبتاه ، يا يعقوب ، لو تعلم ما صنع بابنك بنو الإماء . فلما كادوا يقتلونه قال يهوذا : أليس قد أعطيتموني موثقاً أن لا تقتلوه؟ . . .
فانطلقوا به إلى الجب ليطرحوه فيه ، فجعلوا يدلونه في البئر ، فيتعلق بشفير البئر ، فربطوا يديه ونزعوا قميصه ، فقال : يا إخوتاه ، ردوا عليّ قميصي أتوارى به في الجب . فقالوا له : ادع الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر يؤنسوك .
قال : فإني لم أر شيئاً . فدلوه في البئر حتى إذا بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت ، فكان في البئر ماء ، فسقط فيه فلم يضره ، ثم أوى إلى صخرة في البئر فقام عليها ، فجعل يبكي فناداه إخوته ، فظن إنها رقة أدركتهم فأجابهم ، فأرادوا أن يرضخوه بصخرة ، فقام يهوذا فمنعهم وقال : قد أعطيتموني موثقاً أن لا تقتلوه ، فكان يهوذا يأتيه بالطعام ، ثم إنهم رجعوا إلى أبيهم فأخذوا جدياً من الغنم فذبحوه ونضحوا دمه على القميص ، ثم أقبلوا إلى أبيهم عشاء يبكون ، فلما سمع أصواتهم فزع .
وقال : يا بني ، ما لكم ؟ هل أصابكم في غنمكم شيء؟! . . . قالوا لا . قال : فما فعل يوسف : { قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا}( ) يعني بمصدق لنا { ولو كنا صادقين } .
فبكى الشيخ وصاح بأعلى صوته ثم قال : أين القميص؟ ثم جاؤوا بقميصه وعليه دم كذب ، فأخذ القميص وطرحه على وجهه ، ثم بكى حتى خضب وجهه من دم القميص ، ثم قال : إن هذا الذئب يا بني لرحيم ، فكيف أكل لحمه ولم يخرق قميصه؟! .
. . وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه فتعلق يوسف عليه السلام بالحبل ، فخرج ، فلما رآه صاحب الدلو ، دعا رجلاً من أصحابه يقال له بشراي فقال : يا بشراي ، هذا غلام . فسمع به إخوة يوسف عليه السلام فجاؤوا فقالوا : هذا عبد لنا آبق ، ورطنوا ليوسف بلسانهم , فقالوا : لئن أنكرت إنك عبد لنا لنقتلنك ، أترانا نرجع بك إلى يعقوب عليه السلام ، وقد أخبرناه إن الذئب قد أكلك؟ . . .
قال : يا إخوتاه ، ارجعوا بي إلى أبي يعقوب . فأنا أضمن لكم رضاه ولا أذكر لكم هذا أبداً . فأبوا ، فقال الغلام : أنا عبد لهم . فلما اشتراه الرجلان فرقا من الرفقة أن يقولا اشتريناه ، فيسألونهما الشركة فيه .
فقالا : نقول إن سألونا ما هذا؟ نقول هذه بضاعة استبضعناها على البئر . فذلك قوله {وأسروه بضاعة} {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة}( ) -وكانت عشرين درهماً- وكانوا في يوسف من الزاهدين ، فانطلقوا به إلى مصر فاشتراه العزيز – ملك مصر – فانطلق به إلى بيته فقال لامرأته { أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً }( ).
فأحبته امرأته فقالت له : يا يوسف ، ما أحسن شعرك؟ . . قال : هو أوّل ما يتناثر من جسدي . قالت : يا يوسف ، ما أحسن عينيك؟ .
قال : هما أوَّل ما يسيلان إلى الأرض من جسدي . قالت : يا يوسف ، ما أحسن وجهك؟ قال : هو للتراب يأكله {قالت هيت لك}( ) قال هلم لك؟ – وهي بالقبطية – قال معاذ الله) ( ).
والمختار هو المعنى الأعم الشامل لأخوته والسيارة وغيرهم ، فلم يلتفتوا إلى عظيم شأنه عند الله ومرتبة النبوة التي تنتظره ، وتفضل الله عز وجل باللطف به وإصلاحه لهذه المرتبة من قبل أن يولد وكذا كل نبي .
وهل من الأمور التي زهدوا في يوسف بخصوصها إمتناعه عن الغلول ، الجواب نعم ، وهذا المعنى معجزة قرآنية خاصة بآية البحث ، فقد تولى يوسف أعظم أمانة غذائية في تأريخ الإنسانية ، وكانت بيده مخازن الطعام مما لم يوجد عند غيره ، وكان الناس في مصر والشام وفلسطين والحجاز وغيرها محتاجين إليه ، وإلى الأخذ من تلك المخازن التي يدل على كثرتها وموضوعيتها ، ما ورد في التنزيل قال [قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ]( ) فليس من بلد في الأرض يدخر ما يزرع لمدة سبع سنين على التوالي ، ولم يكن ملك مصر على ما هو الآن, بل كان أكبر وأوسع , وكانت عاصمة مصر آنذاك ممفيس وتشمل وادي النيل وجنوبه وشرقه وغربه .
وقد ورد على لسان فرعون في التنزيل [قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي]( ).
وموضوع القناعة هو رضا العبد بما يأتيه من الرزق وإن كان قليلاً ، أما الزهد فهو سابق للقناعة والقليل الذي يأتي .
والزهد محبوب بذاته ويملي الزاهد على غيره إكرامه لأنه خفيف المؤونة ، واستطاع قهر نفسه الشهوية وأمتنع عن اللهو وإتباع الهوى وأستغنى عن الدنيا وزينتها وعن (عمرو بن عوف وكان شهد بدرا أن رسول الله بعث أبا عبيدة بن الجراح الى البحرين يأتى بجزيتها وكان رسول الله صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي , فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين .
فسمعت الانصار بقدوم أبى عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله فلما صلى رسول الله انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله حين رآهم ثم قال أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشئ من البحرين .
فقالوا : أجل يا رسول الله .
قال : أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكنى أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوا فيها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ) ( ) .
لقد جعل الله عز وجل الناس خلفاء في الأرض وخزائنها ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتًا] ( ) وتفضل الله عز وجل بسلاح النبوة والتنزيل حرزاً للعقول , وزاجراً للنفوس من إتباع الشهوات .
وآية البحث من الكتاب العزيز وأخبرت بأن الأنبياء جميعاً يدعون المسلم إلى إجتناب الغل والسرقة من المال العام ، وترّغب آية البحث باتباع نهجهم بالزهد بالدنيا ، وعدم اللهث وراء زينتها ، ليكون الزهد نوع طريق لقهر الذين كفروا ويتحقق الفتح ، وهو من مصاديق الصراط في قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) من جهات :
الأولى : معرفة غوائل الدنيا والتجافي عن مباهجها , وعن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : اتركوا الدنيا لأهلها فإنه من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حَتْفِه وهو لا يشعر)( ), والحتف الهلاك , أي يقرب أجله.
الثانية : في الزهد راحة للقلب وغبطة للنفس وزيادة في البصيرة ليكون الزهد نوراً يضئ دروب السالكين ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن، والرغبة في الدنيا تكثر الهم والحزن، والبطالة تقسي القلب)( ).
الثالثة : زهد المسلم بالدنيا عون له على أداء الفرائض والعبادات .
الرابعة : اتصاف المسلمين بالزهد وسيلة مباركة لدوام الأخوة الإيمانية بينهم ، وهو من مقدمات ومصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ] ( ).
ومن خصائص ومضامين آية البحث بلحاظ قانون الزهد أو العكس بالقول من خصائص الزهد بلحاظ آية البحث وجوه :
الأول : قانون الأنبياء أئمة الناس عامة والمؤمنين خاصة في الزهد .
الثاني : قانون ترشح الزهد عن التقوى واليقين فيثق المسلم بما عند الله فيمتنع عن أكل الغلول .
الثالث : قانون إقرار المسلم بقانون من الإرادة التكوينية وهو علم الله بكل شيء يجعله يتعفف ويهرب من الغلول وإن صار قريباً منه ، ومن أسماء الله عز وجل العالم والعليم ،وفي التنزيل [وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
وعن عبد الله بن مسعود قال (إن أعدل آية في القرآن آخرها اسم من أسماء الله تعالى) ( ).
وقد خص الله عز وجل الظالمين بالإنذار بأنه سبحانه عليم بقوله تعالى [وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ] ( ).
ويحتمل الذي يسرق من الغلول بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
أولاً : الذي يسرق الغلول من الغنائم ظالم .
ثانياً : ذات فعل الغل والأخذ من الغنائم ظلم .
ثالثاً : الأخذ من الغلول أدنى مرتبة من الظلم وأن كان معصية.
والمختار هو الثاني ، فذات الفعل ظلم للنفس والغير ، ولكنه يصدر من مجاهد في ميدان المعركة ، وقد يقال بأنه ظالم .
ولا يعني هذا تساوي مع الكافر الذي يقاتله بلحاظ أن الظلم من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة , قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ]( ).
إنما وردت آية البحث لزجر المؤمنين عن موارد الظلم ، وقد إبتدأت هذه الآيات بنداء الإيمان والتحذير من التشبه بالذين كفروا، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا]( ).
الرابع : إتصاف المسلم بالزهد واقية ومقدمة للنجاة من أكل الغلول .
الخامس : إجتناب المسلم للغلول والسرقة من الغنائم زهد ممدوح .
ولقد تقدم في الجزء السابق قانون : الآية القرآنية واقية وشفاء .
قانون الطاقة الإيجابية
ليكون الزهد واقية من الطاقة الإيجابية لإجتناب الغلول وهو ذاته شفاء وأمن من التعدي على المال العام ، لقد أراد الله عز وجل بآية البحث خروج حب المال الحرام من نفس السلم ومنعه من الرغبة فيه .
(وكان يحيى بن معاذ الرازي يقول لعلماء وقته يا معشر العلماء دياركم هامانية ومراكبكم قارونية وأطعمتكم فرعونية وولائمكم جالوتية ومواسمكم جاهلية وقد صيرتم مذاهبكم شيطانية فأين الملة المحمدية) ( ).
ولا يخلو هذا الكلام من القسوة وأسباب الحسد ، قال تعالى [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ] ( )ومثله قوله (عمل كالسراب، وقلب من التقوى خراب، وذنوب بعدد الرمل والتراب، ثم تطمع في الكواعب الأتراب، هيهات! أنت سكران بغير شراب ما أكملك لو بادرت أملك، ما أجلك لو بادرت أجلك، ما أقواك لو خالفت هواك) ( ).
ويحيى هذا من الزهاد ومن أعلام التصوف له موعظة مشهورة سافر إلى بلخ وأقام فيها ، ثم رجع إلى نيسابور ومات فيها يوم 16 جمادي الأولى سنة 258 هجرية .
وعنه (ثلاثُ خصالٍ من صفَةِ الأولياء: الثِّقَةُ باللهِ في كلِّ شىءِ، والغِنَى به عن كل شىءٍ، والرجوعُ إليه في كلِّ شىءٍ) ( ).
وتدل آية البحث على وجوب الثقة بالله عز وجل في الرزق والقسم من الغنيمة ، وما يتمناه المسلم منها قد يكون سهمه وحصته منها بالحلال ،وليصبح باباً للأجر والثواب ، وفي التوكل على الله غنى عن الغلول وإن غلى ثمنه وخف وزنه .
وفي الرجوع إلى الله وإتباع مضامين آية البحث وما يأمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلامة من الغلول إلى إستحضار ذكر الله عند رؤية الغنائم أو الهم بالأخذ منها واقية من المعصية والتجرأ على الحق العام ، وذكر آية البحث أو الإستماع إليها نوع عزوف عن الغلول ، وكما أن الزهد واقية من أكل الغلول ، فكذا فان الإمتناع عن أخذ الغلول تنمية لملكة الزهد عند المسلم وتأديب للذات والغير ، وإصلاح للذرية لموضوعية أسوة الأبوة .
حاجة المسلمين إلى التنزه عن الغل
لقد بدأت مسألة الغلول ولزوم إجتناب الأخذ خلسة من الغنائم من أولى معارك الإسلام وهي معركة بدر، وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية لتهذيب عمل المسلمين في ميدان القتال، ولمنع الإختلاف والفرقة بينهم، إلى جانب منع المنافقين ونحوهم من بث الأقاويل التي لا أصل لها والمراد منها محاربة الإسلام .
فمع ظهور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر ووصول البشارة بالنصر فقد أشاع المنافقون الأباطيل وشككوا بالنصر في معركة بدر , وأن المسلمين إنهزموا وتفرقوا، مع أن البشير بالنصر دخل المدينة وعلى نحو متعدد، فلم تكن يومئذ وسائل اتصال وأجهزة إعلام ولكن الخبر غير ممتنع الوصول، ويجرى التبليغ في الأمور ذات الأهمية بطرق مختلفة وحتى الذي يأتي بتجارة كان يأمر بالطبول تقرع أمام بضاعته ليخرج الناس للتبضع، وبه نزل قوله تعالى[وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ]( ).
وعن جابر بن عبد الله قال: أقبلت عيرٌ ونحن نصلّي مع النبّي (عليه السلام) الجمعة فانفضّ الناس إليها فما بقي غير إثني عشر رجلا أنا فيهم فنزلت {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا})( ).
وفي الآية أعلاه شاهد بأن الله عز وجل يرزق المسلمين من غير الغلول، وما يريد أحدهم نهبه وأخذه من الغنائم خفية يأتيه مثله وأكثر منه بالحلال.
وهل المنع من الغلول في آية البحث من مصاديق قوله تعالى أعلاه[وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ]( ).
الجواب نعم، فلما تفضل الله عز وجل وأكرمهم بالوصف[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، فأنه سبحانه نهاهم عن الخبيث من أسباب الكسب، وعن إخفاء قطعة من المال العام الذي يخص المجاهدين في ميدان القتال، ليكون الإمتناع عن هذا الكسب من مظاهر التقوى والخشية من الله، وفي التنزيل[َمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا*وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
لقد ترشحت عن هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة أحوال مباينة لما كانت عليه المدينة قبل الهجرة، إذ ظهرت دعوة الإسلام جلية، وأخذ الناس من الأوس والخزرج يدخلون الإسلام ، وكانوا يدعون رؤساءهم للإيمان ويبينون وجوب الإسلام .
وجاء المهاجرون من مكة والقبائل فضاقت بهم أزقة المدينة وندرت فرص العمل على أهلها، فأظهر المنافقون وأهل الجحود سخطهم وأخذوا يعلنون إستياءهم ويقابلهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحكمة والصبر والدعوة إلى الله، لذا كان إرساله البشرى إلى أهل المدينة بالنصر في معركة بدر حرباً على النفاق ومحاولة لإستئصاله .
إذ أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة بالتقدم قبله ليدخلا المدينة يوم الأحد قبل يوم من وصوله إليها، وهما يزفان البشرى إلى أهلها بالنصر، وعندما وصلا إلى مشارف المدينة المنورة تفرقا ليقوم كل واحد منهما بإخبار شطر من أهلها بالنصر والظفر على المشركين ومع أنهما كانا يبلغان الناس بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قادم في اليوم التالي ومعه سبعون أسيراً من المشركين إلا أن المنافقين أظهروا التكذيب، وقالوا (ما جاء زيد إلا فلا حتى غاظ ذلك المسلمين وخافوا).
أي أنه جاء فاراً مرعوباً فزعاً، وأنه إنهزم بناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن أسباب هزائم وخذلان الأمم المنتصرة الإختلاف بعد النصر، وموضوعية الطمع الخاص في المال العام، وكل طائفة أو شخص يريد أخذ ما يظن أنه حق له أو يأخذ منه خلسة وخفية، فتفضل الله عز وجل وغلق هذا الباب عن المسلمين ومنعهم من الفرقة والإختلاف بسبب الغلول، ومن مصاديق حاجة المسلمين للتنزه عن الغلول ظهور الإختلاف بينهم بخصوص غنائم معركة بدر.
لقد أصر المشركون يوم بدر على القتال وتقدم عتبة بن ربيعة وإبنه الوليد وأخوه شيبة بن ربيعة من رؤساء جيش المشركين وهم من بني أمية، وعتبة هو أبو هند أم معاوية بن أبي سفيان وإنفصل الثلاثة من الصف وسألوا المبارزة فخرج لهم ثلاث فتية من الأنصار وهم :
الأول : عوف بن الحارث.
الثاني : معاذ بن الحارث.
الثالث : عبد الله بن رواحة.
وفيه مسائل:
الأولى : إنها آية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يبادر ثلاثة من الصحابة لقتال الذي برزوا من المشركين من غير أن يأمرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج.
الثانية : لم يحدث تراخ وصدود بين المسلمين في الخروج، ولم يتطلع بعضهم إلى الآخر رجاء الخروج للقاء الثلاثة.
الثالثة : لم يخف الصحابة من شهرة رؤساء المشركين وصيتهم في القتال وغيره.
الرابعة : الأصل أن يستأذن الصحابة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج , ولكنهم خشوا أن لا يأذن لهم ، وهل فيه شاهد بأنه ليس كل المسلمين كانوا يريدون أخذ قافلة أبي سفيان وإجتناب القتال ، قال تعالى[وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ]( )، الجواب لا يدل هذا الخروج للقتال على التخصيص. فسألهم عتبة بن ربيعة: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار، ولم ينتسبوا للأوس والخزرج، مما يدل على إنتهاء العصبية بينهم وأنهم صاروا في حال غبطة وسعادة بالإنتساب للإسلام، والإستعداد للتفاني والقتال من أجل إعلاء كلمة التوحيد.
وعن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب، عن الإمام علي عليه السلام قال : لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها فاجتويناها وأصابنا بها وعك، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتحيز عن بدر، فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وبدر بئر .
فسبقنا المشركين إليها، فوجدنا فيها رجلين: رجلا من قريش ومولى لعقبة بن أبي معيط، فأما القرشي فانفلت، وأما المولى فوجدناه، فجعلنا نقول له: كم القوم ؟ فيقول: هم والله كثير عددهم شديد بأسهم.
فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه.
حتى انتهوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: كم القوم ؟ قال: هم والله كثير عددهم , شديد بأسهم.
فجهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبره كم هم فأبى.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: كم ينحرون من الجزر ؟ فقال: عشرا كل يوم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ” القوم ألف، كل جزور لمائة وتبعها “.
ثم إنه أصابنا من الليل طش من مطر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه ويقول ” اللهم إنك إن تهلك هذه الفئة لا تعبد “فلما طلع الفجر نادى: الصلاة عباد الله.
فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحرض على القتال ثم قال: ” إن جمع قريش تحت هذه الضلع الحمراء من الجبل “.
فلما دنا القوم منا وصاففناهم إذا رجل منهم على جمل له أحمر يسير في القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” يا علي ناد حمزة “، وكان أقربهم من المشركين، من صاحب الجمل الاحمر ؟ فجاء حمزة فقال: هو عتبة بن ربيعة.
وهو ينهى عن القتال ويقول لهم: يا قوم اعصبوها برأسي وقولوا: جبن عتبة بن ربيعة.
وقد علمتم أنى لست بأجبنكم.
فسمع بذلك أبو جهل فقال: أنت تقول ذلك، والله لو غيرك يقوله لاعضضته، قد ملات رئتك جوفك رعبا.
فقال: إياى تعير يا مصفر استه ؟ ستعلم اليوم أينا الجبان.
فبرز عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد حمية فقالوا: من يبارز ؟ فخرج فتية من الانصار مشببة، فقال عتبة: لا نريد هؤلاء، ولكن نبارز من بني عمنا من بنى عبد المطلب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” قم يا حمزة، وقم يا على، وقم يا عبيدة بن الحارث بن المطلب “.
فقتل الله عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة، وجرح عبيدة فقتلنا منهم سبعين، وأسرنا سبعين)( ).
ولم ينسب الإمام علي القتل إلى نفسه وإلى حمزة بل نسبه إلى الله إقراراً بالمعجزة، وهل هو فرع قوله تعالى[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( )، أم أنه أمر منفصل عنه وأن الآية أعلاه خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر ، الجواب هو الأول، (والعرب تقول في الدعاء : رمى الله لك ، أي أعانك وصنع لك)( ).
فأشتد القتال وإنهزم المشركون وصار المسلمون على طوائف :
الأولى : مطاردة طائفة من المسلمين الذين أشتركوا في هروبهم وهزيمتهم ، فيقتلون ويأسرون بعضاً منهم .
الثانية : قيام جماعة من المسلمين بجمع الغنائم التي خلّفها الذين كفروا خلفهم ، فقد جاءوا بالمؤون الكثيرة وهم يأملون النزهة بالإقامة لأيام يسمعون الغناء .
الثالثة : الذين أحاطوا برسول الله وحرصوا على سلامته ، ومنع وصول العدو إليه مباغتة أو على حين غفلة .
وجرى الجدال بينهم وسببه أن الطائفة الثانية أعلاه أعلنت الإستيلاء على الغنائم ، وقالوا : (نحن حويناها، فليس لأحد فيها نصيب) ( ).
إذ بادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالغنائم أن ترد في المقسم ، فلم يبق بيد أحد من المسلمين شئ إلا رده ووضعه في المحل الذي جمعت فيه الغنائم لتنقطع أسباب للفتنة فيما يخص الغنائم .
وهل إستحواذ الذين جمعوا الغنائم عليها في بداية الأمر من الغلول الذي تزجر عنه آية البحث في مفهومها ، الجواب لا ، لأنعدام الخلسة في الأخذ ، ولأنهم كانوا يرون أحقيتهم في الغنائم ، وحينما ردت الغنائم إلى المقسم ظن الفرسان وأهل الشجاعة أنها تكون لهم خاصة ، أو سينالون النصيب الأوفر منها .
ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن توزع الغنائم بين أهل بدر بالسوية ، وكانت :
1- نحو مائة وخمسين من الأبل ، ومنها جمل أبي لهب ، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغزو عليه ويضرب في ابله إلى أن ساقه في هدي الحديبية .
2- عشرة أفراس .
3- متاع وأنطاع وثياب جاء بها المشركون للتجارة .
4- سيوف ودروع وسلاح كثير .
5- سبعون أسيراً من المشركين .
وعن عكرمة قال (اختلف الناس في الغنائم يوم بدر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بالغنائم أن ترد في المقسم، فلم يبق منها شيء إلا رد. فظن أهل الشجاعة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يخصهم بها دون غيرهم من أهل الضعف. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أن تقسم بينهم على سواءٍ، فقال سعد( ) : يا رسول الله، أيعطى فارس القوم الذي يحميهم مثل ما يعطى الضعيف؟ .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: ثكلتك أمك، وهل تنصرون إلا بضعفائكم؟ وعن موسى بن سعد بن زيد بن ثابت: كيف فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يوم بدر في الأسرى، والأسلاب، والأنفال؟ فقال: نادى مناديه يومئذٍ: من قتل قتيلاً فله سلبه، ومن أسر أسيراً فهو له! فكان يعطي من قتل قتيلاً سلبه. وأمر بما وجد في العسكر وما أخذوا بغير قتل، فقسمه بينهم عن فواق. وأختلف في سلب أبي جهل؟ فقال قائل: أخذه معاذ بن عمرو بن الجموح، وقال قائل: أعطاه ابن مسعود .
قالوا: وقد أخذ علي عليه السلام درع الوليد بن عتبة ومغفره وبيضته، وأخذ حمزة سلاح عتبة، وأخذ عبيدة بن الحارث درع شيبة بن ربيعة حتى وقعت إلى ورثته) ( ).
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين وقطع دابر الفتنة والإختلاف بينهم ، ومنع الغل والأخذ خلسة من الغنائم بجمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغنائم في موضع واحد ، وتولي بعض الصحابة تعاهدها وحفظها ، ففي معركة بدر استعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن كعب (قيل إن النبي صلى الله عليه وسلّم استعمل عليها خباب بن الأرت) ( ) .
وفي معركة حنين التي انتصر فيها المسلمون نصراً مبيناً أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالغنائم من الإبل والغنم والرقيق أن تجمع , وأمر أن تساق إلى الجعارنة فتحبس هناك (وجعل عليها سعود بن عمرو الغفاري ) ( ).
ثم نزلت آية الأنفال فكانت حاجة وضياء ينير مسالك المجاهدين ويمنع من الفرقة والإختلاف بينهم (عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قتل قتيلاً فله كذا ، ومن جاء بأسير فله كذا .
فجاء أبو اليسر بن عمرو الأنصاري بأسيرين ، فقال : يا رسول الله إنك قد وعدتنا . فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله إنك إن أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء ، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو ، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك أن يأتوك من ورائك ، فتشاجروا فنزل القرآن[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ]( )، وكان أصحاب عبد الله يقرأونها { يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فيما تشاجرتم به } فسلموا الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ونزل القرآن { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه }( ) إلى آخر الآية .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية ، فمكث ضعفاء الناس في العسكر ، فأصاب أهل السرية غنائم ، فقسمها رسول الله بينهم كلهم ، فقال أهل السرية : يقاسمنا هؤلاء الضعفاء وكانوا في العسكر لم يشخصوا معنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهل تنصرون إلا بضعفائكم؟ فأنزل الله { يسئلونك عن الأنفال }) ( ).
وكأن آية الأنفال وهو قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) ناسخة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( من قتل قتيلاً أو أسر أسيراً فله كذا وله كذا ) ( ).
وحكي عن الشعبي أنه قال ({ الأنفال } الأسارى) ( ) ولا دليل على هذا الحصر والآية أعم حتى من ذات الأنفال والغنائم إذ أنها تأمر المسلمين بتقوى الله عز وجل والألفة والتآخي بينهم بنهج الإيمان .
فمن الإعجاز فيها تقديم الأمر بتوقي الله والخشية منه سبحانه على إصلاح ذات البين لإرادة وجوب تقوم هذا الإصلاح بالإيمان وبالخشية من الله عز وجل ، وأن يكون من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخالية مما هو خلاف الحكم الشرعي .
وإبتدأت الآية أعلاه بذكر الأنفال وأنها خاصة لله ولرسوله لتكون الأوامر الأخرى في الآية حاضرة في حياة المسلمين كل يوم وهي :
الأول : تقوى الله .
الثاني : إصلاح المسلمين لذات بينهم .
الثالث : طاعة المسلمين لله عز وجل .
الرابع : طاعة المسلمين للرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل (مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ) ( ).
ومع كثرة مفردات الطاعة في القرآن ، فلم يرد لفظ [أَطَاعَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
ترى ما هي النسبة بين الأمر من الله بالتقوى في الآية أعلاه وبين الأمر بالتقوى في آية (ببدر) لقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) وهل هي التساوي ام التعدد بلحاظ الموضوع .
المختار أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه فهناك مادة عامة للإلتقاء بين الأمرين وأخرى للإفتراق بحسب الموضوع والدلالة ، لبيان قانون في القرآن ، وهو تعدد المعنى وإن إتحد كل من :
الأول : اللفظ .
الثاني : الرسم القرآني .
الثالث : الأمر من عند الله ، كما في قوله تعالى [اتَّقُوا اللَّهَ] ( ) , وقوله تعالى[جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( ).
الرابع : النهي الوارد من عند الله كما في قوله تعالى [وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] ( )وقوله تعالى [فَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا] ( ).
فتكرر ذات اللفظ [َلاَ تُطِعْ] في الآيتين وذكرت الآية الأولى المنافقين مع الكافرين ، وتضمنت الأمر من عند الله لرسوله الكريم بالصبر بترك أذى الكافرين والمنافقين مجتمعين ومتفرقين مع الثقة بفضل الله ونزول رحمته , أما الآية الثانية أعلاه فقد وردت في جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للكافرين .
ويعود الضمير في [وَجَاهِدْهُمْ بِهِ] إلى القرآن وهو مشهور علماء الإسلام خاصة وأن الآيات السابقة للآية أعلاه من سورة الفرقان تشير إليه ، وفيه نكتة وهي تقدم الجهاد بالقرآن رتبة ودوامه وإتصافه وحضوره في حال الحرب والسلم .
وأن القرآن أمضى سلاح في الجهاد وأكثر نفعاً من السيف الذي يكون فيه قاتل ومقتول وخسارة في الأموال وضياع للوقت وفرص العمل والبناء .
وفيه شاهد بأن الله عز وجل لم يأمر بنشر الإسلام بالسيف والقتل العشوائي وإثارة الحروب والفتن وترويع الأمنين في ديارهم ، إنما أمر بتثبيت شرائعه ونشر مبادئه بالقرآن كمعجزة عقلية وحسية , وبسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة المسلمين ، ومنها عفتهم وإمتناعهم عن الغلول والأخذ من المال العام ، ففي هذا الإمتناع بناء لصرح دولة الحق والعدل والإنصاف، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] ( ).
ومن الإعجاز أن مسألة الغلول وعدمه تنطبق على الأوامر والنواهي الواردة في الآية أعلاه ، من جهات :
الأولى : تنزه الأنبياء عن الغلول من أمر الله عز وجل فهو سبحانه الذي أوحى إليهم إجتناب الغل والخيانة .
الثانية : أمر الله عز وجل للمسلمين بالإمتناع عن الغلول ، وتخويفهم بحضوره يوم القيامة من العدد والأمر به .
الثالثة : إجتناب أخذ الغلول خلسة إحسان للنفس والغير , وفوز بالثواب يوم القيامة .
الرابعة : الإمتناع عن الغلول صلة وود مع المؤمنين وتنزه عن إطعام العيال والأهل ما هو حرام .
الخامسة : ينهى الله عز وجل عن أكل الغلول لأنه من مصاديق الفاحشة .
السادسة : أخذ الغلول وإخفاء قطع من الغنائم منكر وفعل قبيح ينهى الله عز وجل عنه .
السابعة : في أكل الغلول بغي وتعد على مال المسلمين .
الثامنة : آية البحث موعظة وتخويف ودعوة لإستحضار أحكام الحلال والحرام عند الكسب .
التاسعة : النهي عن الغلول ذكرى ودعوة للمسلمين لتذكر قانون من الإرادة التكوينية ، وهو أن الموت حق , والنشور حق وأن الواجب يملي على المسلم وكل إنسان الإستعداد للحساب .
وعن مالك بن دينار كان عيسى عليه السلام يقول : إن هذا الليل والنهار خزانتان ، فانظروا ما تضعون فيهما ، وكان يقول : اعملوا لليل لما خلق له ، واعملوا للنهار لما خلق له)( ).
لقد جاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قبح الغلول ، وأظهر حكم الله بالتنزه عن الأخذ من الغنائم بغير حق ليشمل ذات الحكم أهل البيت والصحابة وعموم المسلمين والمسلمات .
وفي قوله تعالى [وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ] ( ).
ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات والارض التفت فرأى رجلا يزني فدعا عليه فمات، ثم رأى آخر فدعا عليه فمات، حتى رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا، فأوحى الله عز وجل إليه: يا إبراهيم دعوتك مجابة فلا تدعو على عبادي فإني لو شئت لم أخلقهم، اني خلقت خلقي على ثلاثة أصناف: عبدا يعبدني لا يشرك بي شيئا فاثيبه، وعبدا يعبد غيري فلن يفوتني، وعبدا يعبد غيري فاخرج من صلبه من يعبدني، ثم التفت فرأى جيفة على ساحل البحر بعضها في الماء وبعضها في البر تجئ سباع البحر فتأكل ما في الماء ثم ترجع، فيشتمل بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضا،
وتجئ سباع البر فتأكل منها فيشتمل بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضا، فعند ذلك تعجب إبراهيم عليه السلام مما رآى، وقال: [رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى]( )؟ هذه امم يأكل بعضها بعضا، [قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي]( ).
يعني حتى أرى هذا كما رأيت الاشياء كلها – قال: خذ أربعة من الطير فقطعهن وأخلطهن كما اختلطت هذه الجيفة في هذه السباع التي أكل بعضها بعضا فخلط , ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن
يأتينك سعيا، فلما دعاهن أجبنه وكانت الجبال عشرة، قال: وكانت الطيور: الديك والحمامة والطاووس و الغراب. “) ( ).
وورد ذات المعنى (عن عطاء قال : لما رفع إبراهيم إلى ملكوت السموات أشرف على عبد يزني فدعا عليه فأهلك ، ثم رفع أيضاً فأشرف على عبد يزني فدعا عليه فأهلك ، ثم رفع أيضاً فأشرف على عبد يزني ، فأراد أن يدعو عليه فقال له ربه : على رسلك يا إبراهيم ، فإنك عبد مستجاب لك ، وإني من عبدي على إحدى ثلاث خلال : إما أن يتوب إلي فأتوب عليه ، وإما أن أخرج منه ذرية طيبة ، وإما أن يتمادى فيما هو فيه فأنا من ورائه) ( ).
ليكون القرآن صلاحاً للذرية , وزاجراً عن المعصية , وباعثاً على التوبة .
وهل المحتمل أن المراد من الغل في قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] ( ) أي أن كل نبي منزه عن الحقد والشحناء وحمل الضغائن على الناس ، الجواب صحيح أن قلوب الأنبياء نقية طاهرة فلا يحقدون ولا يحملون الضغائن , إلا أن الآية خاصة بالغلول في الغنائم .
وورد لفظ الغل في حديث (عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ( ) قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِى فَبَلَّغَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ . زَادَ فِيهِ عَلِىُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَلاَثٌ لاَ يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِخْلاَصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَالنُّصْحُ لأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ) ( ) يحتمل لفظ (يُغِلُّ) في الحديث أعلاه وجهين :
الأول : فتح الياء (يَغل)وضم الغين (يغُل) ويراد منه الخيانة ، وبينها وبين الغلول من الغنائم عموم وخصوص مطلق ، فالخيانة أعم .
الثاني : ضم الياء وكسر الغين , والمراد الحقد والشحناء ، ويأتي بمعنى الخيانة أيضاً .
وعن (أُمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ الْعِرْبَاضِ عَنْ أَبِيهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ الْوَبَرَةَ مِنْ قُصَّةٍ مِنْ فَيْءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُ مَا لِي مِنْ هَذَا إِلَّا مِثْلَ مَا لِأَحَدِكُمْ إِلَّا الْخُمُسَ وَهُوَ مَرْدُودٌ فِيكُمْ فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ فَمَا فَوْقَهُمَا وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُولَ فَإِنَّهُ عَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)( ).
وإبتدأ جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وزجره عن الغلول بلزوم إجتنابه من معركة بدر وهي أول معارك المسلمين إلى آخر المعارك الأخيرة التي قادها الى جانب الموعظة لأمراء السرايا وإجابته عن أسئلة المسلمين بخصوص الأخذ في الغنائم خلسة أو من غير إذن .
وعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قفل من غزوة حنين رهقه الناس يسألونه فحاصت به الناقة فخطفت رداءه شجرة فقال ردوا علي ردائي أتخشون علي البخل والله لو أفاء الله عليكم نعما مثل سمر تهامة لقسمتها بينكم ثم لا تجدونني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا ثم أخذ وبرة من وبر سنام البعير فرفعها وقال مالي مما افاء الله عليكم ولا مثل هذه الا الخمس, والخمس مردود عليكم , فلما كان عند قسم الخمس أتاه رجل يستحله خياطا أو مخيطا , فقال ردوا الخياط والمخيط فان الغلول عار ونار وشنار( )، يوم القيامة( ).
وعنه قال : إِذَا أَصَابَ غَنِيمَةً أَمَرَ بِلاَلاً فَنَادَى فِى النَّاسِ فَيَجِيئُونَ بِغَنَائِمِهِمْ فَيُخَمِّسُهُ وَيُقَسِّمُهُ فَجَاءَ رَجُلٌ بَعْدَ ذَلِكَ بِزِمَامٍ مِنْ شَعَرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فِيمَا كُنَّا أَصَبْنَاهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ. فَقَالَ : أَسَمِعْتَ بِلاَلاً يُنَادِى، ثَلاَثًا.
قَالَ نَعَمْ.
قَالَ : فَمَا مَنَعَكَ أَنْ تَجِىءَ بِهِ، فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ : كُنْ أَنْتَ تَجِىءُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَنْ أَقْبَلَهُ عَنْكَ( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد آخى بين عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد الله بن عبد مناف وبين بلال، وآخى بين المهاجرين والأنصار , وبينه وبين الإمام عليه بن أبي طالب عليه السلام، ( وقال بن عباس: فآخى بينهم على الحق والمواساة ويتوارثون بعد الممات دون ذوي الأرحام).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn