المقدمــــة
الحمد لله الذي خلق الخلائق ليروا ويتنعموا بمنّه وإحسانه ولطفه ،ومنه تفضله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً بدين التوحيد ، ورحمة للناس جميعاً ، ووسيلة مباركة لمضاعفة المنّ والطول منه تعالى على الخلائق ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) نوع تحد بتوالي النعم ،ومنها نزول آيات القرآن والدلالات غير المتناهية لها والمعاني القدسية التي تترشح عنها في كل زمان وإلى يوم القيامة ، لنقف عند كل آية من آيات القرآن تلاوة وتفسيراً وتحقيقاً .
ومن إعجاز القرآن أنه في كل مرة نريد أن نرحل عن الآية إلى أختها تتجلى مسائل قدسية ذات بهجة من رسم ومعاني ذات الآية الكريمة ، وقبل أن نسيح في الرياض العلمية لصلتها مع آيات القرآن الأخرى ، هذه الكنوز الإحتياطية التي نعجز عن تقديرها كماً وكيفاً .
وتتفاخر الحكومات وتشرئب أعناق الشعوب إلى أرقام الإحتياطي من المعادن في باطن أراضيها ، ويجتهدون في حساب مدة الإنتفاع منه ، ويقدرون أجله وأوان نضوبه ، وفي آيات القرآن إحتياط علمي متصل لا ينفد مع كثرة النهل والإغتراف والإستنباط منه ، وإذ تحرص الأمم على الحفاظ على الإحتياطي الذي تملك ، وتقول بلزوم توفير شطر منه للأجيال اللاحقة ، فان القرآن يدعو الناس جميعاً للأخذ منه وإستخراج كنوزه وذخائره وهذه الدعوة نوع تحد وترغيب ومنّ من الله عز وجل فان قلت قد ذكرت الآية السابقة منّ الله على المؤمنين على نحو الخصوص بقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ…] ( ) والجواب من جهات :
الأولى : إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، فحينما ذكرت آية البحث من ّوفضل الله على المؤمنين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأنها لا تنفي منّ الله عز وجل على غيرهم من الناس بهذه البعثة ، وتقدير الآية : لقد منّ الله على الناس إذ بعث فيهم رسولاً ) .
الثانية : جاءت آيات القرآن بالإخبار عن منّ ولطف الله عز وجل بالناس جميعاً ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , منه ( عن جبير بن مطعم سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول : أنا محمد وأنا أحمد والحاشر ونبي التوبة ونبي الملحمة) ( ).
الثالثة : ترشح المنّ الذي يتفضل به الله عز وجل على المسلمين على غيرهم من الناس ، وهو من بركات الإيمان .
الرابعة : الأصل هو صيرورة الناس مؤمنين وتلقيهم الدعوة الرسالية بالقبول والتصديق والإمتثال .
الخامسة : في الآية ترغيب للناس بالإيمان ، وكأنها تقول لهم كونوا مؤمنين وفوزوا بالمنّ الذي يختص به المؤمنون والذي يفتح لكم بابا من أبواب الجنة .
ومن الإعجاز في الآية السابقة أنها لم تذكر أذى أو ضرر يصيب المسلمين بالتصديق برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنما تخبر عن قانون وهو أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خير محض , إذ تذكر الآية وظائف النبوة وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إبتداءّ من دعوة المسلمين وبلوغهم مرتبة الإيمان بفضل الله وبجهود وسعي من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيانه للمعجزات الباهرات ، فصحيح أن الآية السابقة إبتدأت بذكر تلاوة وتبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن على المسلمين ، ولكنها تدل على سبق التلاوة بنعم منها :
الأولى : تفضل الله عز وجل باختيار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للنبوة الخاتمة والرسالة الجامعة ، وبيان أحكام الشريعة الناسخة .
الثانية : نزول آيات القرآن على نحو التتابع والتوالي ، وظن الذين كفروا أن آيات القرآن ستقف عند أوان الهجرة أو بعد معركة بدر أو أحد ، ولكنها توالت حتى أوان مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، لذا أختلف في أي آية هي آخر آيات القرآن نزولاً .
وذكر أن آخر آيات القرآن نزولاً قوله تعالى [وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ] ( ) فأمر جبرئيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يضعها بين آيتي الربا والدَين .
الثالثة : إجهار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برسالته ، وتحدي الكافرين ورؤساء الضلالة ، ولم يختصر هذا الإجهار باعلان الرسالة ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقام صلاة الجماعة في البيت الحرام ومعه خديجة الكبرى والإمام علي عليه السلام على مرأى ومسمع من رؤساء الشرك ، وكان رجال قريش يجلسون في البيت الحرام وفي دار الندوة المطلة عليه والتي بناها نحو سنة 475 ميلادية قصي بن كلاب , وهو جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل كان المشركون يتركون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشأنه وإقامته الصلاة , الجواب لا ، إذ كانوا يؤذونه حتى وهو في الصلاة .
ومن الإعجاز في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العبادية تحديه للذين كفروا باقامته الصلاة في المسجد الحرام بمرأى ومسمع من الملأ من الكفار , و(عبد الله بن مسعود قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الحرام ورفقة من المشركين من قريش ونبي الله صلى الله عليه وسلم يصلى وقد نحر قبل ذلك جزور وقد بقى فرثه وقذره .
فقال أبو جهل ألا رجل يقوم إلى هذا القذر يلقيه على محمد ونبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ساجد إذ انبعث أشقاها فقام فألقاها عليه قال عبد الله فهبنا أن نلقيه عنه حتى جاءت فاطمة عليها السلام فألقته عنه فقام فسمعته يقول وهو قائم يصلي اللهم اشدد وطأتك على مضر سنين كسنى يوسف عليك بأبى الحكم بن هشام – وهو أبو جهل – وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد ابن عتبة وعقبة بن أبى معيط وأمية بن خلف ورجل آخر ثم قال: رأيتهم من العام المقبل صرعى بالطوى طوى بدر صرعى بالقليب) ( ) .
ويدل هذا الخبر على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقف بين يدي الله للصلاة ويقرأ القرآن في بدايات البعثة ، وأن تشريع الصلاة مصاحب للأيام الأولى للرسالة , مما أغاظ المشركين ، وفي التنزيل [وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ] ( ) ولم يقف الذين كفروا عند النفرة في القلوب بل قام بعضهم بايذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي لينتقم الله عز وجل منهم في أولى معارك الإسلام .
وهل هذا الإنتقام من مصاديق قوله تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى] ( ) الجواب نعم ، ليكون من معاني الآية أعلاه الإنذار والوعيد للذين كفروا .
لقد كان إيذاء الذين كفروا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الحرام مصيبة فدعى الله عز وجل فأهلك هؤلاء المشركين الذين آذوه ليكون من معاني آية البحث ذم وتوبيخ وإنذار طائفة من المشركين الذين زحفوا وجلبوا الجيوش لمحاربة النبي والمسلمين في معركة أحد ، ويدل عليه قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
ونزلت الآية أعلاه بخصوص معركة أحد ، فحالما حلت المصيبة بالمسلمين نزلت العقوبة والبطش من عند الله بالذين كفروا ، وفي التنزيل [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية القرآنية تعدد المعاني فيها من جهات :
الأولى : تعدد معاني اللفظ والكلمة القرآنية الواحدة .
الثانية : كثرة وجوه المراد من الكلمة القرآنية ، ومع هذا لا يصح إستبدالها بأي فرد من نظائرها وما يرادفها كما في التباين بين السنة والعام والحول والحجة ، وفي نوح ورد قوله تعالى [فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا] ( )، نعم تستحضر النظائر في علم التفسير والتأويل ، وهو من الإعجاز في قوله تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] ( ).
الثالثة : تجدد وتوالي منافع الآية القرآنية ، فلا يعلم أثر ونفع الآية القرآنية إلا الله عز وجل ، ومن الإعجاز أن المسلمين والناس ينهلون منها في كل زمان .
الرابعة : كثرة الغايات الحميدة من الآية القرآنية ، ولا تختص هذه الغايات بتمام الآية القرآنية بل كل كلمة وشطر من الآية القرآنية له مقاصد سامية ، مما يدل على أن الغايات السامية للآية القرآنية من اللامتناهي في موضوعها ودلالاتها , ومنه الآية التي إختص بتفسيرها هذا الجزء من هذا السِفر المبارك .
وسنبين شطراً من هذا العلم في باب من غايات الآية.
ومن الآيات أن الغايات الحميدة لخاتمة الآية [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] عامة وتشمل موضوع الآية وغيره ، ويدعو المسلمين إلى الإجتهاد في طاعة الله حتى عند نزول المصيبة ورجاء تداركها ومحو آثارها ، خاصة وأن نصرهم في معركة بدر سابق زماناً للمصيبة في معركة أحد ، مما يدل على أنه قريب منهم ، وقد أراهم الله شآبيب النصر في أول معركة أحد بآية ، قال تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] ( ).
لقد نزلت آية البحث ليدرك كل جيل من المسلمين عمق وأثر الخسارة في واقعة أحد وكأنها حاضرة في أيامهم وزمانهم ، وهل آثار جبل أحد وجبل الرماة مرآة حسية لمضامين آية البحث .
الجواب نعم ، فهو من وجوه تفسير وبيان آية البحث ، ومن الآيات أن الذي يأتي إلى الحج أو العمرة ويزور قبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على زيارة شهداء أحد والوقوف عند جبل الرماة ، فان قلت يبدو جبال الرماة في هذا الزمان أنه غير مرتفع .
والجواب قد تضاءل حجمه ونقص إرتفاعه بسبب الطمى التي تخلفها السيول والأغبرة والأتربة على مرّ مئات السنين على الأرض المجاورة له مما أدى إلى إرتفاعها ، وقد دفن عدد من الشهداء بقربه من جهة الشمال ، ولو أجريت حفريات لتبين إرتفاعه أيام معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة النبوية .
وتتصف آية البحث بورود مادة (أصاب) ثلاث مرات فيها وبكلمات مترادفة بقوله تعالى [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ] مع التباين في المعنى والدلالة ، فقد نزلت المصيبة بالمسلمين يوم أحد ، فذّكرهم الله عز وجل بما كسبوا ونالوا من معاني النصر العظيم يوم معركة بدر وعلى نحو مضاعف ومتعدد ، وفيه دعوة للمسلمين لإستحضار ضروب وأفراد الكسب وما نالوه يوم معركة بدر وكيف أنه أضعاف خسارتهم يوم أحد، وهل يختص هذا التذكير بطبقة الصحابة والذين حضروا منهم معركة بدر وأحد.
الجواب لا ، فهو متجدد ومستمر في كل زمان للإتعاظ وبيان المعجزات الحسية والعقلية التي لازمت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى في ميدان القتال ، والذي هو من أكثر الميادين حاجة للمعجزة بعد ظهور الفارق والتباين بين كثرة عدد وعدة ومهارة جيش المشركين ، وقلة عدد المسلمين وإفتقارهم للسلاح والرواحل والمؤون .
وكان سلاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء لتدارك هذا الفارق والتباين , ولتحقيق النصر والغلبة على الذين كفروا أي أن هذا التدارك وحده لا يكفي في جلب النصر ، فلابد من التوكل على الله عز وجل وسؤاله النصر ، وفي التنزيل [اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ] ( ) إذ أن نصر أحد طرفي القتال فرع ملك الله للسموات والأرض ومشيئته بعمارة الأرض بعبادته .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر ( يكثر الابتهال والتضرع والدعاء، ويقول فيما يدعو به: ” اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الارض ” وجعل يهتف بربه عز وجل ويقول: ” اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم نصرك “.
ويرفع يديه إلى السماء حتى سقط الرداء عن منكبيه) ( ).
ولقد إجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد بالدعاء أيضاً إلا أنه لم يقل (أن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها) لبيان موضوعية معركة بدر في ثبوت عبادة الله في الأرض إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق تسميتها بيوم الفرقان بقوله تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) لبيان قانون من جهات :
الأولى : بلوغ المسلمين بعد معركة بدر مرتبة الثبات ، وصفة الأمة التي تتولى تعاهد عبادة الله في الأرض .
الثانية : عدم إضرار الخسارة في معركة أحد بالمسلمين في دولتهم وشأنهم .
الثالثة : مجئ الخسارة يوم أحد من ذات فعل المسلمين .
الرابعة : عجز المشركين عن إلحاق الهزيمة بالمسلمين على أي حال ، فاذا كانت مصيبة وخسارة المسلمين يوم أحد ، لم تصل إلى مرتبة الهزيمة مع أنها بقصور منهم وترك الرماة مواضعهم على الجبل مع تأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بعدم تركها ، فمن باب الأولوية أنه لا تأتي للمسلمين هزيمة عند تداركهم وحرصهم على التقيد بطاعة الله وأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة ، لأن هذه الأوامر شعبة من الوحي ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
وهل في آية البحث تخويف للمسلمين ، الجواب إنما الآية تحذير وتنبيه ومواساة للمسلمين وتخفيف من وطأة المصيبة ، وبيان لإعجاز القرآن بالدعوة للتدبر في المصيبة وإتخذها موعظة وعبرة ، ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )إنتفاع المسلمين الإنتفاع الأمثل من آية البحث من جهات:
الأولى : إخبار آية البحث عن إصابة المسلمين بالخسارة ونزول المصيبة بهم يوم أحد .
الثانية : عدم بلوغ خسارة المسلمين يوم أحد مرتبة الهزيمة .
الثالثة : دعوة آية البحث المسلمين إلى هجران مخالفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومعصية أوامره .
الرابعة : بيان آية البحث للأضرار العامة والخاصة التي تترتب على معصية أوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ] ( ).
ونزلت الآية أعلاه بخصوص ذات معركة أحد التي هي موضوع آية البحث ، ولم يرد لفظ [عَصَيْتُمْ] في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان إتعاظ المسلمين عن وقائع معركة أحد ، وتسليمهم بلزوم طاعة أوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال .
(عَن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَلَى الرُّمَاةِ وَكَانُوا خَمْسِينَ رَجُلًا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ يَوْمَ أُحُدٍ , وَقَالَ : إِنْ رَأَيْتُمْ الْعَدُوَّ وَرَأَيْتُمْ الطَّيْرَ تَخْطَفُنَا فَلَا تَبْرَحُوا ’ فَلَمَّا رَأَوْا الْغَنَائِمَ قَالُوا عَلَيْكُمْ الْغَنَائِمَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لَا تَبْرَحُوا قَالَ غَيْرُهُ فَنَزَلَتْ{ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ } يَقُولُ عَصَيْتُمْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ الْغَنَائِمَ وَهَزِيمَةَ الْعَدُوِّ) ( ).
لقد جعل الله عز وجل معارك الإسلام الأولى مدرسة وعبرة لأجيال المسلمين من جهات :
الأولى : معركة بدر ونصر المسلمين فيها .
الثانية : معركة أحد وخسارة المسلمين فيها .
الثالثة : بيان آية البحث لعلة وأسباب خسارة المسلمين يوم أحد بينما ذكرت آية ببدر نصر المسلمين في معركة بدر على نحو الإطلاق لأنه هبة ومنّ من عند الله لتكون نسمات ريح بين يدي المصيبة التي حلت بهم يوم أحد ، ولبعث المسلمين على التسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل في حال النصر والخسارة ، قال تعالى[رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ]( ).
الرابعة : المقارنة بين معركة بدر وأحد في ذات تفاصيل كل منهما ، وفي النتائج والآثار لهما .
الحمد لله الذي جعل نصر المسلمين موعظة لهم ومناسبة لبعث السرور في نفوسهم ، وجعل خسارتهم موعظة ومناسبة لإقتباس الدروس منها ، إذ يدل قوله تعالى [قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ] على لزوم إمتناع المسلمين عن فعل وإتيان ذات الأسباب التي أدت إلى خسارتهم يوم أحد .
ومع ان مضمون آية البحث هو الخطاب للمسلمين ، والإخبار عن وقائع معركة أحد إلا أنها جاءت في وسطها بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ] ترى لماذا لم تقل الآية ( قلتم أن هذا هو من عند انفسكم) الجواب لإرادة تنزيه مقام النبوة عن إرتكاب خطأ في المعركة أو الإشتراك في تقصير أو تفريط ، فجاء الأمر من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ] لأخراجه عن دائرة اللوم وموضع التقصير .
وهل تدل الآية بهذا المعنى على عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال , الجواب نعم ، إذ يحتاج المؤمنون والمؤمنات هذه العصمة في أمور دينهم ودنياهم لمنع طرو الكدورة على نفوسهم ، قال تعالى [وَلاَ تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ] ( ) وتتقوم الحياة الدنيا بقضاء الله عز وجل للمؤمنين حاجاتهم .
ومن الإعجاز في آية البحث أن نسبة السبب في وقوع المصيبة إلى ذات المسلمين لا تحرمهم من الثواب العظيم على هذه المصيبة لأنها نزلت بهم وهم يجاهدون ويدافعون عن الإسلام والنبوة وبقصد القربة إلى الله عز وجل ، قال تعالى [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ] ( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الإمتحان والإختبار ونزول البلاء وتداهم فيها الإنسان المصيبة في بعض أيامه ، وليس من حصر لموضوعها وكيفيتها وأوانها لتكون دعوة للإنسان للإحتراز بالتقوى والرضا بحكم الله عز وجل .
وفي الثناء على الله ورد في التنزيل [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً] ( ) لبيان أن الموت أمر وجودي قريب من الناس وزائر قهري لا يعرف أي أحد متى يزوره ليفارق الدنيا إلى الأبد .
وقد إنتقل إلى جوار الله عز وجل سبعون من الصحابة في يوم معركة أحد فكانت مصيبة عظمى في تأريخ الإسلام ، وشهد لها القرآن بأنها مصيبة لبيان حال وكيفية تلقي المسلمين لها وهدايتهم إلى أحسن السبل في قبولها طاعة الله عز وجل ، إذ تكون حال الإنسان عند المصيبة على أقسام :
الأول : حال الجزع والهلع والسخط .
الثاني : إظهار الصبر طاعة لله ورجاء ثوابه .
الثالث : التحمل للمروءة والتماسك أمام الناس .
الرابع : حال الرضا وإدراك قانون وهو أن المصيبة لم تقع إلا بمشيئة من الله عز وجل .
الخامس : إتخاذ المصيبة مناسبة لشكر الله عز وجل على النعم ،وهو الذي تدعو إليه آية البحث بتذكيرها بنعمة نصر المسلمين في معركة بدر وكيف أنها كانت بآية ومدد من عند الله عز وجل.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : عجبت للمؤمن أن أعطي قال : الحمد لله فشكر ، وإن ابتلي قال : الحمد لله فصبر ، فالمؤمن يؤجر على كل حال ، حتى اللقمة يرفعها إلى فيه) ( ).
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يواظب على الحمد لله والثناء عليه سبحانه في حال الرخاء والشدة ، والسراء والضراء فلا يفارق الحمد حتى عند وقوع المصيبة لإرادة تنمية ملكة قول الحمد لله عند المسلمين و (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتاه الأمر يسره قال : الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وإذا أتاه الأمر يكرهه ، قال : الحمد لله على كل حال) ( ) .
وأعظم المصائب التي تصيب الفرد والجماعة هي التي تكون في الدين وحال الإفتتان بالدنيا وذات اتباع الهوى ،وجاءت آية البحث لتتضمن في دلالتها سلامة المسلمين في دينهم لأنهم تلقوا المصيبة في محاربة المشركين والدفاع عن الإسلام ، وعن (ابن عُمَرَ قَالَ قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ لأَصْحَابِهِ : اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِى دِينِنَا وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا ) ( ).
ويمكن تسمية آية البحث بآية المصيبة ، ترى هل أخبرت آيات القرآن المسلمين عن وقوع معركة أحد ولزوم إجتناب المصيبة ، الجواب نعم ، وقد أمر الله عز وجل المسلمين بأخذ الحائطة للدين ، والإستعداد للقاء العدو والتقيد بالأوامر والنواهي التي نزل بها القرآن والتي جرت على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] ( ) وثبات الرماة في مواضعهم من القوة التي تذكرها الآية أعلاه .
وأختتمت آية البحث بقانون من الإرادة التكوينية وهو [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] وفيه دعوة للمسلمين للصبر وحبس النفس عن الجزع والسخط ، والإمتناع عن التفريط والتبذير ولبيان قانون وهو أن نصر المسلمين في المعارك اللاحقة وسلامتهم من الخسائر فيها أمر بيد الله عز وجل ، وهو الذي يثبت المسلمين على خسارتهم ومصيبتهم بالأمن والسلامة لهم ولذراريهم تحت لواء الإسلام ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن العبد إذا سبقت له من الله عز وجل منزلة لم يبلغها بعمله ، ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده ، ثم صبره على ذلك حتى يبلغه منزلته التي سبقت له من الله عز وجل) ( ).
لقد كانت واقعة معركة أحد مدرسة الصبر في الإسلام ومناسبة لنجاتهم من مصاعب وويلات أخرى ومناسبة للثواب والأجر ، قال تعالى [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
وهذا الجزء هو الثاني والخمسون بعد المائة من (معالم الإيمان في تأريخ الإسلام ) وأشرق بعد رشحات وذخائر من علوم قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ) التي جاء الجزء السابق في تفسيرها وبيان شطر منها ، في هذا السفِر المبارك الذي يتضمن أبواباً من العلم تؤسس وتفتح آفاقها للمرة الأولى في تأريخ الإسلام ، وتتجلى فيها علوم مستحدثة تتعلق بمضامين الآيات محل البحث ، وتدعو العلماء والمسلمين للغوص في ذخائر آيات القرآن .
وصحيح أن هذا الجزء يتعلق بالمصيبة التي لحقت المسلمين يوم أحد لتكون مناسبة كريمة لإستنباط علوم وكنوز من ذات الآية , وتتجلى مصاديق من إعجازها إتصافها بخصائص منها :
الأولى : التوثيق السماوي لواقعة أحد .
الثانية : مع وقوع معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة النبوية فلا تزال أحداثها غضة حية في الوجود الذهني للمسلمين ، وحاضرة في منتدياتهم ، وتتلى في صلاتهم سواء صلاة الجماعة أو صلاة المنفرد .
الثالثة : توجه الخطاب في آية البحث في ظاهره إلى المسلمين أيام التنزيل والمراد المعنى الأعم بتوجهه إلى عموم أجيال المسلمين والمسلمات .
الرابعة : تفضل الله عز وجل عند الإخبار عن المصيبة التي حلت بالمسلمين بذكره لمنّه وطوله وإحسانه عليهم في ذات موضوع المصيبة لقوله تعالى [قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا] .
وهل تدل الآية في مفهومها على البشارة بأن المسلمين سينالون من المشركين ، الجواب نعم وهو الذي نبينه في ثنايا تفسير قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ].
الخامسة : بيان علة ما نزل بالمسلمين من الخسارة ، وهي علة ذاتية ليفيد الجمع بين نصر المسلمين في معركة بدر وخسارتهم في معركة أحد عجز الذين كفروا عن إصابة المسلمين بالمصيبة والضرر ، ليكون من باب الأولوية نجاة المسلمين من الهزيمة ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
وجاء القرآن بالجواب القدسي الكريم على أسئلة المسلمين وغيرهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الدين والدنيا ، إذ ورد لفظ [يَسْأَلُونَكَ] في القرآن خمس عشرة مرة ،وتقترن به الجواب من عند الله ، ولعل ما ورد من الأسئلة في القرآن بغير هذا اللفظ أكثر وأعم كما في قوله تعالى [أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا]( ).
الحمد لله المنّان الذي جعل كل آية مروج علم وكنوز تهذيب , ورياض ومعارف توليدية , وأخبر عن منّه على المسلمين والمسلمات بقوله [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ) وقد أختص الجزء الخمسون بعد المائة من تفسيرنا للقرآن ببيان شذرات من ذخائر الآية أعلاه، قال تعالى[وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ]( ).
حرر في 16/3/2017
قوله تعالى[أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]الآية 165
الإعراب واللغة
أو لما : الهمزة للإستفهام الإنكاري ، وهل تدل على أن الأمر المستفهم منه منكر ولا أصل له بحكم الشرع والعقل ، الجواب لا , وقد يأتي الإنكار للتوبيخ والتبكيت على فعل وقع في الماضي أو حال قائمة ومزاولة فعل مبغوض.
ويأتي الإنكار في لغة الإحتجاج من عند الله وعلى ألسنة الأنبياء بلحاظ أنه مدرسة وموعظة ، وفي موسى عليه السلام ورد في التنزيل [أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي] ( ), ويأتي لذم تكذيب الحقائق وقوانين الإرادة التكوينية ، ومعجزات النبوة .
الواو : للإستئناف والعطف .
لما : ظرف بمعنى حين ، وتتضمن معنى الشرط مبني في محل نصب متعلق بالجواب قلتم .
أصابت : فعل ماض مبني على الفتح ، والتاء تاء التأنيث الساكنة والضمير (كم) مفعول به .
مصيبة : فاعل مرفوع وعلامة رفعة الضمة الظاهرة على آخره .
قد أصبتم : قد حرف تحقيق .
أصبتم : فعل ماض وفاعله.
مثليها : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه مثنى ، والهاء ضمير مضاف إليه .
قلتم : فعل ماض وفاعله .
أنّى : اسم استفهام مبني في محل نصب على الظرفية المكانية متعلق بمحذوف خبر مقدم ، ويكون معناها على وجهين :
الأول : من أين هذا .
الثاني : كيف يكون هذا .
هذا : اسم إشارة مبني في محل رفع مبتدأ مؤخر .
قل : فعل أمر والفاعل ضمير مستتر تقديره أنت ، والمراد من الخطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والتقدير : قل يا محمد).
وهل يختص الأمر بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم يجوز تقديره ونسبته إلى غيره من المسلمين ، الجواب هو الثاني ، ويصح تقديره على وجهين :
الأول : قولوا هو من عند أنفسكم .
الثاني : قولوا هو من عند أنفسنا .
هو : ضمير منفصل مبني في محل رفع مبتدأ .
من عند : جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر المبتدأ .
أنفسكم : أنفس : مضاف إليه مجرور بالكسرة ، وهو مضاف والضمير (كم) مضاف إليه .
إن الله : إن: حرف مشبه بالفعل .
اسم الجلالة : اسم إن منصوب بالفتحة .
على كل : جار ومجرور متعلق بقدير .
شئ : مضاف إليه مجرور بالكسرة تحت آخره .
قدير : خبر (ان) مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره،
والمصيبة هي الرزية والفاجعة التي تطرأ عرضاً وبما لا يلائم الطبع والرغبة، ومنه قوله تعالى[إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ]( ).
وقال نصر بن سيار(كل شيء يبدو صغيراً ثم يكبر إلا المصيبة فإنها تبدو كبيرة ثم تصغر. وكل شيء يرخص إذا رخص ما خلا الأدب فإنه إذا كثر غلا)( ).
ولكن ليس من حصر في المقام فالإسلام بدأ بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأهل بيته ، قال تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( ), وبكنه كبر وإتسع ويتسع كل يوم .
وعن عفيف الكندي قال(كنت أمرءاً تاجراً فقدمت مكة أيام الحج فنزلت على العباس بن عبد المطلب وكان العباس لي صديقاً وكان يختلف إلى اليمن يشتري القطن فيبيعه أيام الموسم، فبينما أنا والعباس بمنى إذ جاء رجل شاب حين حلقت الشمس في السماء فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل الكعبة فلبث مستقبلها، حتى جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب وركع الغلام والمرأة فخرّ الشاب ساجداً فسجدا معه فرفع، فرفع الغلام والمرأة.
فقلت : يا عباس أمرٌ عظيم.
فقال : أمرٌ عظيم. فقلت : ويحك ما هذا؟
فقال : هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يزعم أن الله تعالى بعثه رسولا وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه،
وهذا الغلام ابن أخي علي بن أبي طالب، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد زوجة محمد قد تابعاه على دينه، ما على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء.
قال عبد الله الكندي بعدما رسخ الإسلام في قلبه : ليتني كنت رابعاً)( ).
والدعاء والزهد والصبر يعلو ويسمو , والمال المزكى ينمو كماً وقيمة وإن كثر , والمنّ من الله يسمو ويغلو غلاءً وإن كثر، ويتجلى بكثرة وشيوع مفاهيم الإيمان , وإرتقاء المسلمين في المنزلة والشأن، وهو من مصاديق قوله تعالى قبل آيتين [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ]( ).
وذكرت آية البحث المثلين ، وهو مثنى ( مثل )وهو الشبيه والمرادف ، ومن معاني المثلين أنهما لا يكونان فرداً واحداً لدلالة التثنية على التعدد من وجوه:
أولاً :تعيين أحد المثلين .
ثانياً : تعيين كلاً من المثلين .
ثالثاً : عدم تعيين أي فرد من المثلين .
رابعاً : تعدد موضوع الشبه سواء كان عقلياً يدرك بالعقل أو حسياً يدرك طرفاه بالحس، كما في إدراك التشابه في الألوان بحاسة البصر أو التلاوة والصوت بحاسة السمع، أو الطعم والرائحة بحاسة الذوق والشم ، وقد يكون المشبه من الأمور العقلية، ويكون المشبه به من المحسوس لتقريب المعنى كما في قوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ]( ) وقوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ]( ).
ويكون التشبيه من المجاز وعلوم البلاغة ، كما في تشبيه الخلق الكريم بالعطر أو السنن بالنجوم ، وقد يكون التشبيه على نحو جهتي مع التباين في جهات أخرى في ذات الموضوع ، كما في آية البحث إذ إختص التشبيه بين معركة بدر وأحد بالمصيبة مع التباين في جهة تلقي المصيبة ، ففي معركة بدر نزلت المصيبة بالذين كفروا من وجوه :
أولاً : كثرة قتلى المشركين يوم بدر ، إذ سقط منهم سبعون قتيلاً .
ثانياً : وقوع رواحل ومؤن المشركين غنائم بيد المسلمين , ومن يكون همّه الفرار يلجأ إلى تخفيف الحمل والثقل الذي معه ، فترك المشركون أزوادهم غنائم ومكاسب للمسلمين إلى جانب الخيل والإبل , ومنها إبل الذين قتلوا والذين أسروا من المشركين , وقد جاء المشركون بسبعين من الخيل .
ثالثاً : وقوع سبعين من المشركين أسرى بيد المسلمين يوم بدر ودخول هؤلاء الأسرى بحال ذل إلى المدينة ، ثم جرى فداؤهم بالمال أو تعليم الصبيان ، ومنهم من أطلقه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من دون فداء.
(عن جابر بن عامر قال أسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر سبعين اسيرا وكان يفادى بهم على قدر أموالهم وكان اهل مكة يكتبون واهل المدينة لا يكتبون فمن لم يكن عنده فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم فإذا حذقوا فهو فداؤه)( ).
وقيل أن عدد العشرة أعلاه لم يثبت , وكان الفداء متبايناً ويتراوح بين ألف وألفين وثلاثة آلاف وأربعة آلاف درهم .
وبلغت خسائر المشركين من القتلى في معركة بدر: سبعين رجلاً، وهم كما يلي :
أ- من بني عبد شمس بن عبد مناف أربعة عشر رجلاً، وهم:
1- عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، جرحه عبيدة بن الحارث، وذفف عليه الإمام علي بن أبي طالب.
2- شيبة بن ربيعة بن عبد شمس، قتله حمزة بن عبد المطلب.
3-الوليد بن عتبة، قتله الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
4- حنظلة بن أبي سفيان بن حرب، قتله زيد بن حارثة، مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
5- الحارث بن الحضرمي- حليف لبني عبد شمس- قتله النعمان بن عصر.
6- عامر الحضرمي- حليف لهم أيضاً- قتله عمار بن ياسر.
7- عمير بن أبي عمير، قتله سالم مولى أبي حذيفة.
8- وابن عمير هذا، والاثنان موليان لبني عبد شمس.
9- عبيدة بن سعيد بن العاص، قتله الزبير بن العوام.
10-العاص بن سعيد بن العاص، قتله الإمام علي بن أبي طالب.
11- عقبة بن أبي معيط، قتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، قتله صبراً في مكان يقال له عرق الظبية، وذلك أثناء عودة الجيش الإسلامي إلى المدينة.
12- عامر بن عبدالله النمري- حليف لهم- قتله الإمام علي بن أبي طالب.
13- وهب بن الحارث من بني أنمار بن بغيض، حليف لهم.
14- عامر بن زيد، حليف لهم من اليمن.
ب- ومن بني نوفل بن عبد مناف رجلان، وهما:
1- الحارث بن عامر بن نوفل، قتله خبيب بن إساف.
2- طعيمة بن عدي بن نوفل، قتله الإمام علي بن أبي طالب.
ج- ومن بني أسد بن عبدالعزى سبعة نفر:
1- زمعة بن الأسود بن المطلب، اشترك في قتله الإمام علي بن أبي طالب، وحمزة بن عبدالمطلب.
2- أبو البختري بن هشام – واسمه العاص بن هشام بن الحارث – قتله المجذر بن ذياد البلوي، وقال ابن هشام: أبو البختري العاص بن هاشم.
3- الحارث بن زمعة، قتله عمار بن ياسر.
4- نوفل بن خويلد بن أسد، وهو أخو أم المؤمنين خديجة -وكان من شياطين قريش- قتله الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
5- عقيل بن الأسود بن المطلب، قتله حمزة وعلي.
6- عتبة بن زيد – رجل من اليمن حليف لبني أسد.
7- مولى لهم اسمه عمير.
د- من بني عبد الدار بن قصي أربعة نفر:
1- النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة، أسر النضر في المعركة -وكان حامل لواء المشركين- وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتله صبراً، فقام بقتله الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في موضع يقال له (الأثيل ( بوادي الصفراء، وكان النضر هذا من شياطين قريش، وأكثرهم بطشاً ، ومن أشد الناس إيذاء للمسلمين.
2- زيد بن مليص، مولى عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، قتله بلال بن رباح، ويقال: قتله المقداد بن عمرو.
3-نبيه بن زيد بن مليص -حليف لهم- من بني مازن ثم من بني تميم.
4- عبيد بن سليط -حليف لهم- من قيس.
هـ- ومن بني تميم بن مرة، أربعة نفر:
1- مالك بن عبيدالله بن عثمان، وهو أخو طلحة بن عبيد الله، أسر فمات في الأسر، فعد في القتلى.
2- عمرو بن عبدالله بن جدعان.
3- عمير بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، قتله الإمام علي بن أبي طالب.
4- عثمان بن مالك بن عبيدالله، قتله صهيب بن سنان.
و- ومن بني مخزوم -قبيلة خالد بن الوليد- أربعة وعشرون رجلاً وهم:
1- أبو جهل بن هشام ، واسمه عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، أقعده بضربة بالسيف معاذ بن عمرو بن الجموح فقطع رجله، ثم ضربه معوذ بن عفراء حتى أثبته، ثم ذفف عليه عبد الله بن مسعود، حين احتز رأسه.
2- العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قتله عمر بن الخطاب -وهو خاله -.
3- يزيد بن عبد الله -حليف لهم- من بني تميم، قتله عمار بن ياسر.
4- أبو مسافع الأشعري -حليف لهم- قتله أبو دجانة الساعدي.
5- حرملة بن عمرو -حليف لهم- وهو من الأسد قتله خارجة بن زيد، ويقال الإمام علي بن أبي طالب.
6- مسعود بن أبي أمية بن المغيرة، قتله الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.
7- أبو قيس بن الوليد بن المغيرة -أخو خالد بن الوليد- قتله حمزة بن عبدالمطلب، ويقال الإمام علي بن أبي طالب.
8- أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، قتله علي بن أبي طالب، ويقال عمار بن ياسر.
9- رفاعة بن أبي رفاعة عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قتله سعد بن الربيع.
10- المنذر بن أبي رفاعة بن عائذ، قتله معن بن عدي بن الجد بن العجلان.
11- السائب بن أبي السائب بن عابد، قتله الزبير بن العوام، وفي رواية ابن هشام:أن السائب هذا أسلم وحسن إسلامه.
12- الأسود بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، قتله حمزة بن عبدالمطلب.
13- حاجب بن السائب بن عويمر بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، قتله الإمام علي بن أبي طالب.
14- عويمر بن السائب بن عويمر، قتله النعمان بن مالك القوقلي مبارزة.
15- عمرو بن سفيان – حليف لهم- من طي، قتله يزيد بن رقيش.
16- جابر بن سفيان – حليف لهم- وهو من طي أيضاً، قتله أبو بردة بن نيار.
17- عبدالله بن المنذر بن أبي رفاعة، قتله الإمام علي بن أبي طالب.
18- حذيفة بن أبي حذيفة بن المغيرة، قتله سعد بن أبي وقاص.
19- هشام بن أبي حذيفة بن المغيرة، قتله صهيب بن أبي سنان.
20- زهير بن أبي رفاعة، قتله أبو أسيد، مالك بن ربيعة.
21- السائب بن أبي رفاعة، قتله عبدالرحمن بن عوف.
23- عائذ بن السائب بن عويمر، جرحه في المعركة حمزة بن عبدالمطلب، ثم أسر فافتدى ثم مات متأثراً بجراحه.
24- رجل من طي، اسمه عمير -حليف لهم من طي .
25- رجل آخر أيضاً اسمه خيار – حليف لهم من القارة .
ز- ومن بني سهم بن عمرو – قبيلة عمرو بن العاص- سبعة نفر، وهم:
1- منبه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم، قتله أبواليسر أخو بني سلمة.
2- ابنه العاص بن منبه بن الحجاج، قتله علي بن أبي طالب.
3- أخوه نبيه بن الحجاج، قتله حمزة بن عبدالمطلب، وسعد بن أبي وقاص اشتركا في قتله.
4- أبو العاص بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم، قتله علي بن أبي طالب، ويقال النعمان بن مالك القوقلي .
5- عاصم بن أبي عوف ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم، قتله أبو اليسر، أخو بني سلمة..
6- الحارث بن منبه بن الحجاج، قتله صهيب بن سنان.
7- عامر بن عوف بن ضبيرة، أخو عاصم بن ضبيرة، قتله عبدالله ابن سلمة العجلاني، ويقال أبو دجانة.
ح- ومن بني عامر بن لؤي رجلان، وهما:
1- معاوية بن عامر- حليف لهم من بني عبدالقيس- قتله الإمام علي بن أبي طالب، ويقال عكاشة بن محصن على ما قاله ابن هشام.
2- معبد بن وهب – حليف لهم من بني كلب بن عوف- قتله خالد وإياس ابنا البكير، ويقال أبو دجانة على ما قاله ابن هشام.
ط- ومن بني جمح بن عمرو بن هصيص أربعة نفر، وهم:
1- أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح، قتله رجل من الأنصار من بني مازن، ويقال اشترك في قتله معاذ بن عفراء وخبيب بن إيساف وخارجة بن زيد.
2- ابنه علي بن أمية بن خلف، قتله عمار بن ياسر.
3- أوس بن معير بن لوذان بن سعد بن جمح، قتله علي بن أبي طالب عليه السلام، ويقال -قتله الحصين بن الحارث، وعثمان بن مظعون.
4- سبرة بن مالك – حليف لهم- لا يعرف قاتله.
رابعاً : مجئ آيات القرآن بذم وتوبيخ الذين كفروا ، وكل آية من القرآن في هذا الخصوص مصيبة أخرى للذين كفروا وتبكيت لهم .
خامساً : تغشي الذل للذين كفروا من كفار قريش , وعجزهم عن الرد أو منع أسباب الهزيمة مع كثرة عددهم ومؤنهم إذ كان عدد جيش المشركين أكثر من ثلاثة أضعاف عدد جيش المسلمين ، وهذا العجز برهان وحجة ودعوة للناس لدخول الإسلام .
سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة , وهي على شعبتين :
الشعبة الأولى : صلة هذه الآية بالآيات المجاورة السابقة , وهي على وجوه :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ..]( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : من إعجاز القرآن إتحاد موضوع الآيتين المتجاورتين مع مجيء إحداهما بلغة الضمير للغائب ، والثانية للأمة والطائفة المخاطبة فقد شهدت الآية السابقة للمسلمين والمسلمات بأنهم مؤمنون ثم خاطبتهم آية البحث ببيان علة وموضوع الخسارة في واقعة أحد.
لقد نزلت آية البحث قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة , وسمّت ما نزل بالمسلمين يوم معركة أحد بالمصيبة ، لتبقى تلك المصيبة حاضرة في الوجود الذهني عند المسلمين في أجيالهم المتعاقبة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ…]( ) من وجوه :
أولاً : شمول كل فرد وجيل من المسلمين بمصاديق المنّ والطول الذي تذكره الآية السابقة .
ثانياً : لقد أقدم مشركوا قريش على قتال النبي محمد وأصحابه يوم معركة أحد ثأراً لما لحقهم في معركة بدر وسعياً لمنع الناس من دخول الإسلام ، بعد أن نفذت أحكام وفرائض الإسلام إلى بيوتهم وصاروا يسمعون أبناءهم ذكوراً وأناثاً يقرأون القرآن في بيوت مكة الصغيرة والضيقة آنذاك , فمن يتلو الآية يسمعه جاره وجارته ، فيتدبروا بمضامينها القدسية طوعاً وقهراً .
لقد زحف كفار مكة بجيش عرمرم مقرون بالغيظ والحنق وحب البطش فسقط سبعون شهيداً من المسلمين ليكون وبالاً على الذين كفروا ، وسبباً للحزن والألم عند أجيال المسلمين في كل زمان ، بلحاظ تجدد ذكرى المصيبة لأنها في سبيل الله ، وجاءت دفاعاً عن النبوة والتنزيل والإسلام .
ثالثاً : إتعاظ اجيال المسلمين من أيام الدعوة الإسلامية الأولى ، وإتخاذ ما نزل بالمهاجرين والأنصار درساً في الصبر ، ليكون تقدير قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا..] ( ) أي اصبروا كما صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه .
رابعاً : لقد منّ الله على المؤمنين بالسلامة من آثار وأضرار المصيبة التي لحقت بهم يوم معركة أحد .
ويبين اختلاف لغة الخطاب مع إتحاد جهته قانوناً وهو بلوغ المسلمين مرتبة عالية من الفقاهة وفي صيغ السبر والتقسيم ، وتلقي التنزيل بالتدبر والإتعاظ ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )، ولما جاءت الآية قبل السابقة بقوله تعالى [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ] ( ) تضمنت هذه الآيات دلالة على أن كل درجات العلو والرفعة .
المسألة الثانية : من معاني تسمية الإنسان إتصافه بالأنس والألفة بين الناس ، ومنه مواساة بعضهم بعضاً عند المصيبة ، وحتى العدو تراه أحياناً يرأف ويعطف على عدوه عند نزول المصيبة والفاجعة به ، فجاء ذكر مصيبة المسلمين في آية البحث لإرادة الثواب العظيم للمسلمين.
وعن أبي الدرداء عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (ألا إن الزهادة في الدنيا ليس بتحريم الحلال ، ولا إضاعة المال ، ولكن الزهادة في الدنيا ألا تكون بما في يديك أوثق منك بما في يدي الله ، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك) ( ).
ومن معاني هذا الحديث دعوة المسلمين للتدبر في الثواب العظيم الذي فازوا به بسبب الخسارة والإنكسار يوم معركة أحد ، وهذا الثواب على أقسام :
الأول : فوز الشهداء بحياة الخلد عند الله من حين مغادرة الدنيا ، قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) .
(عن الإمام جعفر الصادق، عن آبائه عليهم السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ثلاثة يشفعون إلى الله يوم القيامة فيشفعهم: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء) ( ).
ليكون من منّ الله عز وجل في آية البحث دعوة المسلمين للتعاون والمناجاة بالصبر والتحمل والرضا بما قسم الله ، لبيان مائز بين المسلمين والذين كفروا ، فحينما نزلت المصيبة بالذين كفروا في معركة بدر أصابتهم الكآبة والحزن والحنق ، وحرّموا حتى البكاء على القتلى في مكة ، وسقطت هيبة قريش بين القبائل العربية ، لصيرورتهم على وجوه :
الأول : الأسير .
الثاني : المنهزم .
الثالث : القتيل .
الرابع : الخائب الذليل .
أما المصيبة التي حلّت بالمسلمين في معركة أحد ، فقد منّ الله عز وجل عليهم بالتوقي منها , ومن أثرها وضررها من جهات :
الأولى : نزول آية البحث والتي تتضمن التخفيف عن المسلمين من وطأة المصيبة .
الثانية : نزول كل آية من القرآن موعظة ومدرسة في الصبر والمصابرة وحين نزول قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) فان الله عز وجل أكرم المسلمين بأسباب غير متناهية للصبر والمدد للتحلي به ، ومنها تلاوة الآية القرآنية , فموضوعية الآية القرآنية في تحلي المسلمين بأخلاق الصبر لا يختص بنزولها وموضوعها , بل يتجدد في كل مرة، ويشمل وجوهاً:
أولاً : تلاوة المسلم للآية القرآنية .
ثانياً : تدبر المسلم بالآية القرآنية .
ثالثاً : المواساة بين المسلمين بالآية القرآنية لتكون هذه المواساة من مصاديق قوله تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ ]( ).
رابعاً : قراءة الآية القرآنية في الصلاة اليومية .
ليكون من الإعجاز في الشريعة الإسلامية المواساة اليومية للمسلمين فيما يصيبهم من الأذى والضرر والمصائب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
فان قلت لا تنزل مصيبة بالمسلمين في كل يوم ، وهذا صحيح وهو من مصاديق آية السياق [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ..] ( ) فتكون التلاوة مواساة لما جرى على المسلمين في الماضي ومنه واقعة أحد ، ولما قد يحلّ بهم من المصائب الشخصية أو العامة بالإضافة إلى أن منافع تلاوة الآية القرآنية أعم من أن تختص بمسألة المواساة .
الثالثة : بعث آيات القرآن المسلمين إلى العمل والكسب والتحصيل لتدارك المصائب والمنع من وقوعها .
الرابعة : دلالة آية السياق على قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ..]( ) على توالي المن والإحسان منّ الله عز وجل على المسلمين.
الخامسة : مجئ السنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية بما يخفف عن المسلمين المصيبة ، ويحول دون وقوعها .
الثاني : الزهد في الغنائم، وعدم الحزن عليها عند فواتها كما في معركة أحد، ليكون من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الثالث : بيان قانون وهو أن الزهد شعبة من الإيمان، والرضا بحكم الله وما قسم للعبد والطائفة والأمة، ومنه ما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يوم معركة أحد، ومن الإعجاز في المقام تقييد ما أصابهم بأنه بإذن الله عز وجل.
الرابع : تطلع ورجاء ودعاء المسلمين للنصر بفضل ولطف من عند لله، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث أعلاه : ولكن الزهادة في الدنيا ألا تكون بما في يديك أوثق منك بما في يدي الله) .
وفيه دعوة للمسلمين لسؤال النصر على الذين كفروا بعد النصر وكلما انتصر المسلمون توجهوا إلى الله بالدعاء والمسألة للفوز بنصر آخر لعدم وقوع النقص في خزائن رحمة الله، وقد ورد الدعاء بلفظ(يدي الله) وفي التنزيل[وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ).
المسألة الثالثة : من إعجاز نظم القرآن تقدم ذكر منّ الله على المسلمين على نزول المصيبة بهم، وفيه وجوه :
أولاً : إخبار المسلمين باحتمال نزول المصيبة والبلاء، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ..]( ).
ثانياً : الثناء على المسلمين بوصفهم بالمؤمنين .
ثالثاً : تهيئة أذهان المسلمين لنزول المصيبة والبلاء ، وفي التنزيل [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا]( ).
رابعاً : بعث المسلمين للتوكل على الله عز وجل , ورجاء فضله ومنّه ولطفه .
خامساً : تذكير المسلمين بقانون وهو أن الله يمنّ عليهم بالسراء والضراء, والشدة والرخاء .
ومن وجوه تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله ويمنّ على المسلمين ) وفيه بشارة للمسلمين والمسلمات ، ودعوة لهم للتدبر في مصاديق المنّ الإلهي عليهم وهو على أقسام :
الأول : أفراد المنّ الإلهي السابق .
الثاني : ما يتغشى المسلمين من مصاديق المنّ في الحال والزمن الحاضر.
الثالث : ما يأتي للمسلمين من المنّ والطول من عند الله في قادم الأيام .
وتحتمل هذه المصاديق من جهة الكم والكيف في المنّ , كثرة وقلة جهات :
الأولى : كل فرد من هذه المصاديق من اللامتناهي .
الثانية : مجموع الوجوه أعلاه من اللامتناهي .
الثالثة : التعيين والحصر في مصاديق هذا المنّ .
والصحيح هي الأولى أعلاه ، فتأتي المصيبة في ثنايا هذا المنّ، وتفنى فيه، لتكون جزءّ منه لذا يمكن تقدير آية البحث : أو لما أصابتكم مصيبة) على وجوه:
أولاً : أو لما أصابتكم مصيبة بعد توالي المنّ الإلهي عليكم .
ثانياً : أو لما أصابتكم مصيبة، والمنّ من الله يتغشاهم وينزل عليكم .
ثالثاً : أو لما أصابتكم مصيبة وستأتيكم مصاديق من المنّ .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين أولما أصابتكم مصيبة).
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالخلق والرزق الكريم ، وبيّن القرآن قانوناً من الإرادة التكوينية لا تدركه عقول البشر أبداً لولا إخبار الله عنه وهو خلافة الإنسان في الأرض وإبلاغ الله عز وجل الملائكة بهذه الخلافة ليكونوا شهوداً على إتصال وتوالي فضل الله على الناس ، إذ ورد في التنزيل [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
فيمّن الله عز وجل على المسلمين من جهات :
الأولى : المسلمون شطر من الناس ومن بني آدم وسكان الأرض ، فيأتي المنّ الإلهي لهم مثلما يأتي لغيرهم من الناس، وقد ورد بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ) فهل يصح أن يقول المؤمنون للناس (إنما نحن بشر مثلكم قد منّ الله علينا إذ بعث فينا رسولاً من أنفسنا ).
الجواب نعم ، لإرادة بيان فضل الله عز وجل على المسلمين وعلى أهل الأرض بالنبوة والتنزيل , وإن كان قياساً مع الفارق ، فليس من نبي بعد رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
أما بالنسبة للإيمان فإن الناس جميعاً مأمورون به، وليس بين الإنسان وبين الإلتحاق بالمؤمنين إلا النطق بالشهادتين وإتيان الواجبات العبادية.
الثانية : مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالشريعة المتكاملة الجامعة لأحكام الحلال والحرام ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ).
الثالثة : بلوغ المسلمين مرتبة وراثة الأنبياء في التقوى وأداء الفرائض والعبادات ، وحينما نزلت آيات الصيام إبتدأت بنداء الإيمان وأخبرت عن كون الصيام عبادة مفروضة على الأنبياء السابقين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ]( ).
ومن معاني الجمع بين الآيتين أن المصيبة والخسارة يوم أحد لا تضر المسلمين لأنها جاءتهم بعد أن منّ الله عليهم ، ومن خصائص المنّ الإلهي عدم الإرتفاع أو مغادرة الأرض ، ولا ينحصر المنّ الإلهي بموضوع مخصوص بل يتغشى حياة الناس عامة والمسلمين خاصة ، فهو واقية من ترتب الضرر على المصيبة , فمن القواعد في ماهية الإبتلاء والخسارة حصول الأذى والنقص الحسرة عند أهلها.
ويمتاز أهل الإيمان في كل زمان من حين هبوط آدم إلى الأرض بالتوقي من الفادح من آثار المصيبة ، وقد رزق الله آدم عليه السلام بعد هبوطه إلى الأرض بصيروته أباً وجداً وهي نعمة عظمى، ولكن أبتلى بقتل أحد ولديه وهو قابيل لأخيه هابيل ، قال تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ]( ).
وفي اسم هابيل (ثلاث لغات : هابيل وهابل وهابن. وفي اسم قابيل خمس لغات : قابيل وقابين وقابل وقبن وقابن)( ).
(قال ابن عباس : لم يمت آدم عليه السلام حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفاً. ورأى آدم (عليه السلام) فيهم الزنا وشرب الخمر والفساد)( ).
لقد أراد الله عز وجل برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إصلاح الناس، وهدايتهم إلى سواء السبيل، ونبذ العادات القبيحة، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن أبيه الإمام الباقر عليه السلام(أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: قسم الله الأرض نصفين فجعلني في خيرهما، ثم قسم النصف على ثلاثة فكنت في خير ثلث منها، ثم اختار العرب من الناس، ثم اختار قريشا من العرب، ثم اختار بني هاشم من قريش، ثم اختار بني عبد المطلب من بني هاشم، ثم اختارني من بني عبد المطلب)( ).
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها ).
لقد إبتدأت آية السياق بذكر منّ وطول ورحمة الله عز وجل على المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وجاءت معركة بدر واضطر المهاجرون والأنصار للقتال والدفاع ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ) وكان النصر حليفهم ، وسيق إلى المدينة المنورة الأسرى والغنائم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقبل دخوله إليها .
لقد هاجر إليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل معركة بدر بأقل من سنتين في خفية وحذر من كفار قريش الذين سعوا إلى قتله في فراشه ليلة الهجرة ، ثم جعلوا الجعل والجوائز لمن يأتي به أو يقتله في الطريق فانجاه الله عز وجل بآيات تتلقاها أجيال المسلمين بالقبول والتصديق والفخر والعز .
قال تعالى [فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا]( ) لقد نصر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة بجنود وآيات عند الله .
وفي قوله تعالى [بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا]قيل (فيه وجهان : أحدهما : بالملائكة .
والثاني : بالثقة بوعده واليقين بنصره) ( ).
والمختار هو إرادة الملائكة وآيات جلية ، فحينما دخلا (ضربت العنكبوت على بابه بعشاش بعضها على بعض ، وطلبته قريش أشد الطلب حتى انتهت إلى باب الغار ، فقال بعضهم : إن عليه لعنكبوتا قبل ميلاد محمد) ( ).
ويحمل الكلام العربي على ظاهره إلا مع القرينة على الخلاف ، ويفسر القرآن بعضه بعضاً ، وقد ورد لفظ الجنود في مواضع عديدة من القرآن تبين إرادة الجنود والأعوان والقتال ، والتسخير لها سواء كانت على نحو الصبغة العقلية أو الحسية ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا]( ).
وتدعو الآية أعلاه المسلمين إلى عدم الوقوف عند المصيبة للحزن والأسى ، وتبعث في نفوسهم الأمل بالغلبة والظفر ، وتجعلهم يوقنون بأن النصر حليفهم ، لذا فان المسلمين لم يخسروا معركة أحد ، ولم تكن نصراً للمشركين ، ويأتي شكر المسلمين لله عز وجل ليبعث السكينة في نفوسهم ، وهو شاهد على رضاهم على ما قدّر الله عز وجل لهم ، وفي التنزيل [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا] ( ).
ومن إعجاز القرآن أنه مع شدة وكبر خسارة المسلمين يوم أحد فان آية البحث حينما ذكرتها أعادت للأذهان النصر العظيم للمسلمين يوم بدر ، وهو من أعظم ضروب المواساة وباعث على التفكر في الأمر وإتخاذ الخسارة يوم أحد وسيلة وسبباً للنصر في معارك الإسلام القادمة.
وتبين الآية قانوناً وهو أن التذكير بالوقائع والتأريخ والتفاخر بالثبات على الإيمان نوع طريق لتحقيق الغايات , وسبيل لدفع أضرار المعصية والخسارة .
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً أولما أصابتكم مصيبة).
لقد تجلت البركات على أهل الأرض من حين ولادة النبي في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول في شعب بني هاشم في مكة عام الفيل ، وذكر أنه ولد في السابع عشر منه ،ويوافق شهر نيسان سنة 571 ميلادية ، وقيل كانت قابلته الشفاء بنت عمرو وهي أم عبد الرحمن بن عوف .
ولما ولد وأطلّ على الأرض أضاء نور ما بين المشرق والمغرب لتبدأ أيام الإيمان والتقوى .
(وأخرج ابو نعيم عن عبد الرحمن بن عوف عن امه الشفاء بنت عمرو بنت عوف قالت لما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقع على يدي فاستهل فسمعت قائلا يقول رحمك الله ورحمك ربك قالت الشفاء فاضاء لي ما بين المشرق والمغرب حتى نظرت الى بعض قصور الروم قالت ثم ألبسته وأضجعته فلم انشب ان غشيتني ظلمة ورعب وقشعريرة عن يميني فسمعت قائلا يقول أين ذهبت به قال الى المغرب واسفر ذلك عني ثم عاودني الرعب والظلمة والقشعريرة عن يساري فسمعت قائلا يقول أين ذهبت به قال الى المشرق قالت فلم يزل الحديث مني على بال حتى ابتعثه الله فكنت في أول الناس إسلاما) ( ).
وأرسلت أمة آمنة بنت وهب إلى جده عبد المطلب تبشره بولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبادر بحمله وإدخاله الكعبة ، وعقّ عنه وختنه في اليوم السابع ، وأولم الناس ، وكانت حاضنته أم أيمن بركة الحبشية وزوجّها من زيد من حارثة بعد أن أعتقها ، فولدت أسامة بن زيد .
وفي تاريخ وأوان موت عبد الله أبي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أقوال :
الأول : مات قبل ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : مات عبد الله، وعمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شهران.
الثالث : مات عبد الله أبو النبي، وعمره أربعة أشهر .
الرابع : مات عبد الله بن عبد المطلب وعمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنة ونصف .
الخامس : مات أبو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمره أكثر من سنتين .
والمشهور والمختار هو الأول .
وكان عمر عبد الله أبي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين مات خمساً وعشرين سنة ، وهو الذبيح إذ نذر عبد المطلب أن يذبحه .
أما أم النبي وهي آمنة بنت وهب فقد ماتت وعمره أربع سنوات ، وقيل ست سنوات ، وكانت قد أخذته معها إلى أخواله في المدينة وتسمى آنذاك يثرب ، وحينما عادت به إلى مكة ماتت بالأبواء ، وقبرها فيه إلى الآن، وتبعد الأبواء عن مكة 200 كم , وعن المدينة 250 كم , وتسمى إحدى غزوات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم غزوة الأبواء ، إذ خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة لغزو قريش وبني ضمرة وهي أولى غزواته ، والتقى مخشي بن عمرو الضمري رئيس بني ضمرة وتم الصلح بينهما ، ولم يقع قتال ، وحينما استرضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند بني سعد أرضعته حليمة بنت ذؤيب السعدية، وكان عمرها يومئذ ثلاثين سنة .
وفي حديث مرسل عن عمر بن السائب أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالساً يوماً فجاءه أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم جاءه أخوه من الرضاعة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسه بين يديه)( )، وبقي عندها خمس سنوات، وكانت ترى وزوجها البركات التي تصاحبه من حين دخولها وإياه المنزل.
ومات جد النبي عبد المطلب وعمره ثمان سنين ، وكان عمر عبد المطلب عند وفاته مائة وعشر سنين ، فكفله عمه أبو طالب .
وتفضل الله عز وجل وجعل إسرافيل مصاحباً له إلى أن صار عمره اثنتي عشرة سنة لبيان تغشي رحمة الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاحبة الملائكة حفظاً له، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ]( ).
ومن وجوه تخفيف مصيبة المسلمين في واقعة أحد ، وفقدهم سبعين شهيداً تسمية آية السياق النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالرسول ، فما دام بين ظهرانيهم وخرج إلى المعركة وعاد منها بصفة الرسالة فان المصائب تهون عليهم والشدائد تصرف بفضل الله عز وجل عنهم.
وقد أدرك تجلي هذا القانون المسلمون والمسلمات وفي أشد الأحوال مما يدل على أنهم على بصيرة من أمرهم ، إذ تختلط الأمور على الإنسان عند المصيبة وفي ساعة الشدة ، ولكن رشحات قوله تعالى [يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ) تخفف المصيبة، وتنمي ملكة الصبر والبصيرة عند المسلمين.
(عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ ، قَالَ مَرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِامرأة مِنْ بَنِي دِينَارٍ ، وَقَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا وَأَبُوهَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِأُحُدِ فَلَمّا نُعُوا لَهَا ، قَالَتْ فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ؟
قَالُوا : خَيْرًا يَا أُمّ فُلَانٍ هُوَ بِحَمْدِ اللّهِ كَمَا تُحِبّينَ قَالَتْ أَرُونِيهِ حَتّى أَنْظُرَ إلَيْهِ قَالَ فَأُشِيرَ لَهَا إلَيْهِ حَتّى إذَا رَأَتْهُ قَالَتْ كُلّ مُصِيبَةٍ بَعْدَك جَلَلٌ تُرِيدُ صَغِيرَةً قَالَ ابن هِشَامٍ : الْجَلَلُ يَكُونُ مِنْ الْقَلِيلِ وَمِنْ الْكَثِيرِ وَهُوَ هَاهُنَا مِنْ الْقَلِيلِ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي الْجَلَلِ الْقَلِيلِ
لَقَتْلُ بَنِي أَسَدٍ رَبّهُمْ … أَلَا كُلّ شَيْءٍ سِوَاهُ جَلَلْ) ( ).
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين اولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ) وفيه وجوه :
الأول : تضمنت آية السياق بيان النعم العظيمة التي تفضل الله عز وجل بها على المسلمين ببعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيتبادر إلى الذهن بداية عهد جديد على المسلمين خال من المصائب والمحن.
وجاءت معركة بدر مصداقاً لهذا التبادر وشاهداً عليه فكما صاحبت المعجزة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حين ولادته فانها تجلت في ميدان معركة بدر في السنة الثانية من الهجرة ، ونزل قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) لتأكيد هذه البركة وأنها تتغشى أفراد الزمان الطولية ، لذا فان المختار من الضمير [َكُمْ] الوارد في [نَصَرَكُمْ] يعود للمسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، إذ أن واقعة بدر ونتائجها نصر لهم في كل زمان.
وهل يمكن إحتساب نزول الملائكة يوم بدر أنه لأجيال المسلمين والمسلمات والوارد بقوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
وورد لفظ فأستجاب في القرآن ثلاث مرات إحداها الآية أعلاه ، كما ورد في نعت النبي يوسف عليه السلام[فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ) ، وورد بعموم أهل التوحيد وثوابهم يوم القيامة ، قال تعالى[فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ..]( ).
(عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : العار والتخزية يبلغ من ابن آدم يوم القيامة في المقام بين يدي الله ما يتمنى العبد أن يؤمر به إلى النار) ( ).
ثم جاءت معركة أحد لتبين وجهاً من وجوه الإبتلاء الذي أصاب المسلمين وهول الخسارة الكبيرة في معركة أحد فتساءل المسلمون عن السبب فجاءت آية البحث بالجواب بأنه من عند المسلمين أنفسهم لبيان قانون وهو أن الله عز وجل أكرم المؤمنين , وجعلهم في مأمن من نزول السخط والعقاب منه ، فقد أخبرت الآية قبل السابقة بما يدل عليه التباين والتضاد بينهم وبين الذين كفروا الذين يحل بساحتهم البلاء والعذاب من عند الله عز وجل .
الثاني : لما أخبرت الآية السابقة عن منّ الله عز وجل على المؤمنين جاءت هذه الآية بذكر مصيبة أصابتهم ، وخسارة حلت بساحتهم ، فهل يلحق بالمن الإلهي ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنه خارج المنّ الإلهي ، الجواب إنه في طول المن من عند الله من جهات :
الأولى : نزول الخسارة بالمسلمين كمؤمنين لقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ) وتقدير آية البحث : أولما أصابتكم أيها المؤمنون مصيبة ) . وفيه وجوه :
أولاً : حسن المواساة من عند الله .
ثانياً : دعوة المسلمين والمسلمات إلى الصبر ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) ليكون من معاني الجمع بين آية البحث وآية السياق تفسير الآية أعلاه والدعوة للإمتثال لمضامينها القدسية .
ثالثاً :حث المسلمين على إتخاذ المصيبة يوم أحد موعظة وعبرة .
رابعاً : تأكيد نزول المنّ الإلهي على المسلمين حتى في حال الخسارة وأوان المعركة ، ولابد من تأليف مجلد خاص موضوعه هو المن الإلهي على المسلمين يوم معركة أحد ، وتأتي مقدمة له في قانون (منّ الله في معركة أحد).
الثانية : في خسارة المسلمين موعظة لهم في ذات المعركة ، والمعارك اللاحقة ، وقد اقتبسوا الدروس والمواعظ من تلك المعركة فتحلوا بالصبر والمناجاة بالدفاع في معركة الخندق مع طول ليالي وأيام الحصار ، إذ كانت أكثر من عشرين ليلة لتحضر كدرس وموعظة في معركة حنين بحلة أكثر بهاء بعودتهم إلى ميدان المعركة حالما ناداهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) .
الثالثة : البشارة بالثواب العظيم للمسلمين على خسارتهم في معركة أحد لأنهم تلقوها كمؤمنين وبسبب بغض وعداوة الذين كفروا لهم ، وتقدير الآية : أو لما أصابتكم مصيبة كمؤمنين ).
الرابعة : دعوة المسلمين للدعاء والمسألة للسلامة من تكرار المصيبة العامة والخسارة في ميدان المعركة ، وهو من الإعجاز في ذكر آية البحث على المصيبة بصيغة المفرد .
المسألة الثامنة : تقدير الجمع بين الآيتين : يتلو عليهم آياته , ومنها أولما أصابتكم مصيبة ) وفيه وجوه :
الأول : لقد ذكرت آية السياق الآيات بصيغة جمع المؤنث السالم ، لإرادة آيات القرآن وعددها ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية ، لبيان قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم تلى كل آية من القرآن على جماعة وطائفة من المسلمين لورود الآية بصيغة الجمع في [عَلَيْهِمْ] .
وتدل صيغة المضارع في [يَتْلُوا]على إرادة تجدد تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن على المسلمين بتوالي نزول آياته كما يستفاد منه معاني إستدامة التلاوة في الزمن الماضي والحاضر والمستقبل فيكون فعلاً مستمراً بلحاظ أفراد الزمان.
ومن معاني الجمع بين الآيتين إتصال منّ الله عز وجل على المسلمين ، فلم يتركهم الله عز وجل وشأنهم بعد إيمانهم بل كان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ويأتي جبرئيل بآيات القرآن فيتلوها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين ، وهي تتضمن البشارة والإنذار ، قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
الثاني : منّ الله عز وجل على المسلمين بتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن عليهم عند المصيبة والشدة ، فبدل أن ينشغل المسلمون بالمصيبة تأتي تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتنقلهم إلى التدبر في ذخائر آيات القرآن وإقتباس المواعظ منها.
وهل يمكن القول أنه لا مصيبة مع نزول آيات القرآن ، أم أن آية البحث ذكرت المصيبة على نحو التعيين ، الجواب هو الثاني , ولكن ليس من أثر وضرر للمصيبة مع نزول آيات القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
ويكون تقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : لن يضروكم بالقتال والتعدي إلا أذى.
الثاني : لن يضروكم بعد نزول آيات القرآن إلا أذى.
الثالث : لن يضروكم بعد معركة أحد إلا أذىً.
الرابع : لقد منّ الله عليكم بأن بعث النبي محمداً رسولاً من أنفسكم فلن يضركم الذين كفروا إلا أذىً.
الخامس : إجتهدوا في طاعة الله فلن يضروكم إلا أذى.
الثالث : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عون للمسلمين على النوائب وضياء ينير لهم سبل الرشاد والفلاح ، ومن معاني الجمع بين الآيتين على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا اتلوا القرآن لصرف المصيبة .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا إذا أصابتكم مصيبة فاتلوا القرآن،(عن عمرو بن مرة عن سلمان ابن خالد – أراه من خزاعة – قال : صليت فاسترحت فكأنهم عابوا ذلك عليه , فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( يا بلال أقم الصلاة أرحنا)( ).
ولكن قوله هذا قياس مع الفارق إذ أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم طلب الراحة باقامة الصلاة وليس الإنتهاء منها والفراغ من أدائها .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا تعاونوا لدفع المصيبة وعند وقوعها .
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا اسألوا الله صرف المصيبة عنكم .
خامساً : يا أيها الذين آمنوا أثبتوا في منازل الإيمان عند المصيبة ، وهل هذا الثبات صارف للمصيبة ، الجواب نعم .
سادساً : يا أيها الذين آمنوا أذكروا الله عند المصيبة ذكراً كثيراً ، قال تعالى[ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ]( ).
وتبين الآية أعلاه معجزة بخصوص الذكر عند المصيبة إذ يفوز المسلمون بأمور عظيمة وهي:
أولاً : الصلاة من الله عز وجل عليهم وهي ثناء الله ورحمته ، وتحتمل هذه الصلاة بلحاظ أوانها جهات :
الأولى : إرادة أوان المصيبة .
الثانية : الصلاة عند الذكر والإسترجاع .
الثالثة : الصلاة على المؤمن , وهو في الحياة الدنيا.
الرابعة : إرادة الصلاة والثناء في الحياة الدنيا وعالم البرزخ .
الخامسة : المقصود الصلاة من الله في عالم الآخرة على الذين يذكرون الله ويسترجعون عند المصيبة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق الآية الكريمة بالإضافة إلى أصالة الإطلاق في فضل الله عز وجل ، وتدل عليه صيغة الجمع في الصلوات لبيان إتصالها وتجددها وإستدامة نفعها .
(جاء رجل إلى أبي أمامة فقال : إني رأيت في منامي أن الملائكة تصلي عليك كلما دخلت ، وكلما خرجت، وكلما قمت ، وكلما جلست ، قال : وأنتم لو شئتم صلت عليكم الملائكة، ثم قرأ {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً..})( ).
ثانياً : لقد جاء قبل آيتين قوله تعالى [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ] ( )وتفضل الله عز وجل بهداية المسلمين إلى مقامات العلو والرفعة بالعمل على طاعته والإنقياد لأوامره والتسليم بالإطلاق في قدرته ومشيئته ومنها تلقي المصيبة بالإسترجاع .
وهل يلزم مواظبة المسلم على الذكر كيلا ينسى الإسترجاع إذا داهمته المصيبة، الجواب لا، ويبادر المسلم إلى الإسترجاع من جهات :
الأولى : لقد جعل الله عز وجل بأداء الصلاة خمس مرات في اليوم كفاية من الذكر.
الثانية : حث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين على الذكر والإسترجاع عند المصيبة .
(عن علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلثمائة درجة، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء والأرض)( ).
ويدل الحديث أعلاه على أن الدرجات من اللامتناهي في عددها وكيفيتها وعلوها ، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بيان قانون وهو أن الحاجة إلى الإسترجاع وترشح الثواب العظيم عنه لا تنحصر بالإتيان به في ساعة المصيبة ، بل يستحب الإسترجاع عند ذكر المصيبة ليكون طريقاً لجني الحسنات , ووسيلة للثبات في مقامات الإيمان , وهو من مصاديق قوله تعالى[الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
و(عن الإمام الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما من مسلم يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها ، فيحدث لذلك استرجاعاً إلا حدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب)( ).
الثالثة : مناجاة المسلمين فيما بينهم بالإسترجاع والصبر عند وقوع المصيبة وذكرها، وجذب عامة المسلمين إلى منازل الصبر والتحلي به، وهذه المناجاة من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
ثالثاً : نزول رحمة خاصة على المؤمنين الذين يسترجعون ويذكرون الله عند المصيبة ، وهو من عمومات قوله تعالى[يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).
ولا ينحصر النفع من هذه الرحمة بالأحياء بل يشمل الأموات أيضاً كما في مصيبة موت الابن أو الأب أو الأم .
رابعاً : الإسترجاع شاهد على التوفيق وبلوغ مراتب الهداية والثبات في منازل التقوى والرشاد .
ومن الإعجاز في المقام تقدم البشارة للصابرين على الندب إلى الإسترجاع ووصف الذين يقولون عند المصيبة (إنا لله وأنا اليه راجعون) بأنهم صابرون على حكم الله راضون به ، معلنون أنهم عبيد لله، وملك له ولابد من الرجوع إلى الملك الجبار الباري , والوقوف بين يديه في عالم حساب ليس فيه عمل .
وتحتمل البشارة في الآية أعلاه من سورة البقرة وجوهاً :
الأول : إرادة أفراد النعمة الثلاثة التي ذكرتها الآية التالية لها , وهي السادسة والخمسون بعد المائة وهي :
الأولى : الصلوات المتعددة والمتجددة من عند الله عز وجل .
الثانية : مجئ الرحمة من عند الله ومن الناس ، وفيه بيان لقانون وهو التخفيف عن المؤمنين في حسن صلاتهم مع الناس ، وهو من عمومات قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا] ( ).
الثالثة : الشهادة للمسلمين بالهداية والإستعداد للحساب والجزاء في عالم الآخرة .
الثاني : تشمل البشارة المسلمين على صبرهم لفضل ومنّ من عند الله غير وجوه النعمة التي ذكرت أعلاه .
الثالث : إن وصف الصابرين في قوله تعالى [وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ] ( )نعمة أخرى على الذين يسترجعون ويذكرون الله عز وجل عند المصائب والشدائد .
الرابع : مجئ نعم أخرى للذين يلجأون إلى ذكر الله عز وجل عند المصيبة غير المذكورة في الآيتين .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق آية الإسترجاع، وقوله تعالى[وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ]( ) أعم من أن يختص بحال المصيبة فيشمل الصبر على طاعة الله والرضا بحال البأس والضراء والمرض، والقصور عن تحقيق الرغائب.
ولتكون النسبة من جهة الأجر بين الصابرين والذين يسترجعون بقوله تعالى[وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ]( ) هو العموم والخصوص المطلق ، فأجر الصابرين أكثر موضوعاً وحكماً فان قلت إن الذين بدل الصابرين , الجواب نعم ، إنما تحمل معنى الصفة .
وهو من أسرار الفصل بين الآيتين ، وتقدير الجمع بين الآيتين : وبشر الصابرين في البأساء والضراء والشدة والرخاء والسعة والضيق الذين إذا أصابتهم مصيبة في أي من هذه الأحوال قالوا أنا لله وإنا إليه راجعون) قال تعالى[إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
المسألة التاسعة : تقدير الجمع بين آية البحث والآية السابقة لها : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة اولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم).
من مصاديق تزكية وتطهير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين إمامته للمسلمين في القتال ، وحضوره في الميدان , حتى إذا ما وقعت المصيبة وألمت بهم الخسارة كانت الجراحات قد غطت وجهه الشريف ورجع من الميدان وعمه حمزة بن عبد المطلب ليس معه.
وتقدير آية البحث : أولما أصابتكم مصيبة والنبي بين ظهرانيكم وهو واقية لكم ودرع حصين ، ولكن المصيبة جاءت من عند أنفسكم بسبب ترككم للمواضع التي أقامكم فيها، قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
لقد كانت المصيبة التي نزلت بالمسلمين واقعة في يوم مخصوص هو النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة.
فتأتي النعم الإلهية عليها لتزيحها وضرها عن قلوب المسلمين من جهات:
الأولى : بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإمامته للمسلمين في معركة أحد، قال تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا]( ) لبيان أن المصيبة لم تفت من عضد المسلمين، ولم تحول دون بسالتهم في ميدان المعركة .
الثانية : لقد أخبرت آية البحث عن مسألة , وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذات جماعة المسلمين تربطه معهم أواصر القرابة والنسب والإيمان بقوله تعالى[رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ].
وتجلى هذا القانون بخروج النبي للقتال ، وكان يلبس لامة القتال ويقود الجيش ، وهو من أسرار إنتصار الإسلام وتثبيت أركانه إلى يوم القيامة لتبدأ بعد تلك السنين الصعاب الدعوة إلى الله بالحكمة وإقامة البرهان وفي أيام النبي محمد وقبل مغادرته الدنيا ، لذا توجه الخطاب والأمر من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ورائه أجيال المسلمين بقوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
الثالثة : ذكرت آية السياق تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات الله عز وجل على المسلمين، ولو دار الأمر بين تلاوته للآيات في ميدان معركة أحد وأثناء المصيبة وبين عدمها ، فالصحيح هو الأول من وجوه :
الأول : أصالة الإطلاق .
الثاني : لحاظ إتصال فضل الله عز وجل على المسلمين .
الثالث : مجئ الآية بصيغة الفعل المضارع الذي يفيد الإستدامة والتجدد.
الرابع : حاجة المسلمين لتلاوة النبي لآيات القرآن في ميدان المعركة فينعم الله عز وجل على المسلمين في قضاء هذه الحاجة .
وما دام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلو على المسلمين آيات القرآن فأنهم في مأمن من الهزيمة والإنكسار .
الرابعة : تزكية وتطهير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين والمسلمات، وفوزهم بدخول الإسلام وأداء الفرائض الذي هو باب للعفو وغفران الذنوب ، قال تعالى[فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ]( ).
الخامسة : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم المسلمين وإرشادهم إلى أحكام الحلال والحرام ، وإعانتهم للإمتثال لها والأخذ بأيديهم في سبل الصلاح ، ولمّا أتقن المسلمون أحكام دينهم تفضل الله عز وجل وأنزل سورة النصر[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ) فعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد قرب أجله وأنه قام بالتبليغ خير قيام ،ومنه آية البحث وما تحكيه من المصائب التي نزلت بالمسلمين في ميادين القتال لإصرار وعناد الذين كفروا وإقامتهم على عبادة الأوثان .
ومن معاني الجمع بين الآيتين أن تلاوة النبي الآيات على المسلمين وتزكيته لهم وتعليمه إياهم الكتاب والحكمة حرز من صيرورتهم سبباً في نزول الخسارة والمصيبة بهم ، لأن كلاً من هذه النعم التي جاءت مع النبوة الخاتمة واقية من إتباع الهوى ومن إرادة الحياة الدنيا والغنائم .
المسألة العاشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : أولما أصابتكم مصيبة وقد منّ الله عليكم) وفيه وجوه :
الأول : نزول رحمة الله عز وجل ساعة الشدة والمحنة ، إذ أن مجئ آية البحث بالبيان لوقائع معركة أحد نصر من الله للمسلمين، وضياء يهديهم إلى سبل الغلبة والعز والرفعة .
وهل بيان آية البحث من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، الجواب نعم، لما فيها من تعضيد المسلمين، وتنمية ملكة تحمل الأذى وتلقي المصائب بحسن التوكل على الله.
ومن خصائص الإنسان ومصاديق قوله تعالى[وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ) أنه يكون أشد ضعفاً عند المصيبة والبلاء الشديد ، فجاءت آية البحث لتدفع عن المسلمين الضعف وأسباب الجبن والخور ، قال تعالى [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ]( ).
ومن معاني قوله تعالى [َاللَّهُ مَعَكُمْ] نزول آية البحث التي تبين علة مصيبة عظمى حلت بالمسلمين، وتخبر المسلمين عن كون الله قادراً على نصرهم .
الثاني : دعوة المسلمين لإستحضار قدرة الله المطلقة في ساعة الشدة والخسارة ، وفيه بعث للسكينة في نفوسهم فلا شئ في المصيبة في سبيل الله إلا الأجر والثواب ، وتزول آثار المصيبة بعد مدة مديدة من وقوعها، أما الثواب فهو باق إلى يوم القيامة.
ومن خصائص هذا الثواب أنه ينمو ويزداد مع تقادم الأيام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]( ).
لقد جاءت خسارة المسلمين في معركة أحد بعد نصرهم العظيم في معركة بدر لينتبه المسلمون إلى قانون قدرة الله عز وجل على كل شئ وأنه سبحانه هو الذي ينصرهم في قادم الأيام كما نصرهم في معركة بدر .
ومن مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ) أن دفع المصيبة والبلاء عن الناس لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ، وهو الذي ينعم على المسلمين بهذا الدفع ، ومن مصاديقه نزول آية البحث وإخبارها عن قانون قدرة الله المطلقة .
الثالث : من معاني ودلالات الجمع بين الآيتين أن الله قادر على صرف ما أصاب المسلمين يوم معركة أحد من الخسائر والجراحات التي ألمت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ، وفيه مسائل :
الأولى : تنمية ملكة الدعاء عند المسلمين .
الثانية : أخذ المسلمين الحيطة والحذر المقرون بحسن التوكل على الله وتفويض الأمور إليه .
الثالثة : رجاء إبتلاء الذين كفروا بأنفسهم وجعلهم عاجزين عن الهجوم على المسلمين ، وهل يمكن القول بأن المراد من قوله تعالى [هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ] إرادة المعنى الأعم , الجواب نعم ، ليشمل أموراً :
أولاً: ترك الرماة مواضعهم يوم معركة أحد .
ثانياً : مقدمات معركة أحد .
ثالثاً : الرضا بقبول الفدية عن أسرى معركة بدر .
ولو إحتجزهم المسلمون ولم يتم تسليمهم إلى قريش فماذا تكون النتيجة ، هل يقاتل المشركون حتى أخذهم وفكهم من الأسر أم أنهم ينشغلون بالتفاوض وعرض الأموال والقبول بشروط المسلمين بالكف عن الهجوم على المدينة مقابل إعادتهم لقريش .
الظاهر أنه الأول، فقد كفار قريش ومن معهم في حال حنق وغيظ وهناك من المنافقين من يقوم بتحريضهم وإنشاد الشعر الذي يندبهم لأخذ الثأر، لتكون مسألة أسرى بدر معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : كثرة عدد الأسرى الذين وقعوا في أيدي المسلمين إذ بلغ عددهم سبعين أسيراً، ومن النادر أن يكون جيش يتألف من ثلاثمائة ونيف يأسر سبعين من جيش عدد أفراده ألف , ويحمل أسلحة أرقى وأشد فتكاً، ورواحل أكثر عدداً، ولكنها المعجزة والآية والبرهان من عند الله بصدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصرة الله وملائكته له وفي التنزيل[فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ]( ).
الثاني : سقوط وجوه من قريش في الأسر , لهم شأن في مكة وبين القبائل، وعندما قدم الأسرى وأدخلوا المدينة كانت سودة بن زمعة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند آل عَفراء تواسيهم على عوف ومعوذ إبني عفراء من قبل أن يضرب على أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجاب .
(تَقُولُ سَوْدَةُ وَاَللّهِ إنّي لَعِنْدَهُمْ إذْ أَتَيْنَا ، فَقِيلَ هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى ، قَدْ أُتِيَ بِهِمْ قَالَتْ فَرَجَعْت إلَى بَيْتِي ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهِ وَإِذَا أَبُو يَزِيدَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي نَاحِيَةِ الْحُجْرَةِ مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ بِحَبْلِ قَالَتْ فَلَا وَاَللّهِ مَا مَلَكَتْ نَفْسِي حِينَ رَأَيْت أَبَا يَزِيدَ كَذَلِكَ أَنْ قُلْت : أَيْ أَبَا يَزِيدَ أَعْطَيْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ إلّا مُتّمْ كِرَامًا ، فَوَاَللّهِ مَا أَنْبَهَنِي إلّا قَوْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْبَيْتِ يَا سَوْدَةُ أَعَلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ تُحَرّضِينَ ؟ قَالَتْ .
قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ مَا مَلَكْت نَفْسِي حِينَ رَأَيْت أَبَا يَزِيدَ مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ أَنْ قُلْت مَا قُلْت)( )، لقد وجه لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سؤالاً إنكارياً من غير ذم وتوبيخ مع أنه جاء من المعركة، وحال الحرب والقتال.
الثالث : تولي الذي يؤسر أسيراً شؤونه والعناية به.
الرابع : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين لأخذ فداء مناسب، وعدم التفريط في مقداره .
الخامس : إعطاء الفداء كله للذي يقوم بالأسر، فلا يأخذ منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً.
السادس : إجراء معاملة الفداء بين ذوي الأسير وصاحبه الذي أسّره.
السابع : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفك عدد من الأسرى من غير مقابل.
الثامن : يتولى الأسير الذي ليس عنده مال وهو يقرأ ويكتب تعليم عشرة من صبيان المدينة القراءة والكتابة في معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسعي لإرتقاء المسلمين في المعارف والعلوم، وأنه لا يخشى دراسة العلماء للقرآن للقطع بنزوله من عند الله عز وجل، وفي التنزيل[وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( ).
وهل يمكن القول بأن كثرة تحقيق العلماء في النصوص غير القرآن تخرج إختلافاً أكثر بينها ، الجواب نعم ، ليكون كل من الإختلاف والكثرة في الآية أعلاه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة في مراتب والزيادة والقوة والضعف ، وقيل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استرق بعض الأسرى ممن لم يصل سن البلوغ .
التاسع : إستمرار مسألة فكاك أسرى معركة بدر نحو سنة من تأريخ وقوع المعركة ، وقد وقعت معركة أحد بعد ثلاثة عشر شهراً من معركة بدر ، وكأنه ليس من مدة بين إنتهاء مسألة فكاك الأسرى وبين خروج جيش المشركين من مكة بلحاظ مدة قطعهم المسافة بين مكة والمدينة ، ليكون من الراجح إرادة المشركين إتمام فك الأسرى خشية الإجهاز عليهم أو إشتراط تبادل أسرى إذا وقع جماعة من المسلمين في أيدي المشركين في معركة أحد، فتفضل الله عز وجل وعصم المسلمين الأسر .
العاشر : دفع كفار قريش أموالاً طائلة عن فكاك الأسرى ، وكان مقدار الفدية متفاوتاً ، فمنهم من دفعوا عند أربعة آلاف درهم فضة مثل أبي عزيز , واسمه زرارة بن عمير ، وهو أخو مصعب بن عمير الشهيد في معركة أحد ، إذ قامت أمه بدفعها عنه , فهي صاحبة مال وفير ، ومثل أبي وداعة .
ومنهم من وقع مائة أوقية كالعباس بن عبد المطلب ومنهم من دفع ثمانين أوقية مثل عقيل بن أبي طالب , ودفعها عنه العباس , ومنهم من دفعوا عنه أربعين أوقية .
مما أدى إلى إنفاق قريشاً أموالاً طائلة ليصير هذا الإنفاق سبباً في تعطيل شطر من تجارة قريش , وبرزخاً دون تسخيرهم أموال أخرى لقتال المسلمين .
الحادي عشر : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفكاك عدد من الأسرى من غير فداء مثل :
1- المطلب بن حنطب من بني مخزوم أسره بعض بني الحارث ، فبقي عندهم مدة فخلوا سبيله .
2- صيفي بن أبي رفاعة من بني مخزوم , تركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيد الذين أسروه ، فأخذوا عليه عهداً أن يبعث إليهم بفدائه ، فخلوا سبيله ، ولم يف لهم , عن ابن اسحاق( ) .
3- أبو عزة الشاعر ، وهو عمرو بن عبد الله بن عثمان من بني جمح ، وكان فقيراً وذا بنات ، فكلّم رسول الله بأن يفكه من الأسر لأنه ذو حاجة ، وعنده عيال ، فأخذ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا يظاهر عليه أحداً أبداً وأطلقه من الأسر ، وقال أبو عزة يمدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
مَنْ مُبَلّغٌ عَنّي الرّسُولَ مُحَمّدًا … بِأَنّك حَقّ وَالْمَلِيكُ حَمِيدُ
وَأَنْتَ امْرُؤٌ تَدْعُو فِي الْحَقّ وَالْهُدَى … عَلَيْك مِنْ اللّهِ الْعَظِيمِ شَهِيدُ
وَأَنْتَ امْرُؤُ بُوّئْتَ فِينَا مَبَاءَةً … لَهَا دَرَجَاتٌ سَهْلَةٌ وَصُعُودُ
فَإِنّك مَنْ حَارَبْتَهُ لَمُحَارَبٌ … شَقِيّ وَمَنْ سَالَمَتْهُ لَسَعِيدُ
وَلَكِنْ إذَا ذُكّرْتُ بَدْرًا وَأَهْلَهُ … تَأَوّبَ مَا بِي : حَسْرَةٌ وَقُعُودُ) ( ).
الثاني عشر : من الأسرى من فكه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلا بدل ، مقابل إطلاق سراح أحد المسلمين والذي لم يؤسر في قتال إنما ذهب إلى مكة معتمراً ، إذ فك النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسر عمرو بن أبي سفيان بن حرب , فقد قيل لأبي سفيان : أفد عمراً ابنك .
فقال : أيجمع علي دمي ومالي ؟ قتلوا حنظلة وأفدي عمراً ، دعوه في أيديهم يمسكونه ما بدا لهم .
واتفق أن خرج سعد بن النعمان بن أكال من الأنصار معتمراً وكان شيخاً مسلماً له غنم له بالبقيع .
ولم يظن أنه يحبس في مكة لأنه جاء لأداء مناسك العمرة ، وكان عهد قريش لا يعرضون لأحد جاء حاجاً أو معتمراً إلا بخير .
ولكن أبا سفيان عدا عليه وحبسه بابنه عمرو , وأم عمرو أخت أبي معيط بن أبي عمرو . وقال أبو سفيان :
(أَرَهْطَ ابن أَكّالٍ أَجِيبُوا دُعَاءَهُ … تَعَاقَدْتُمْ لَا تُسْلِمُوا السّيّدَ الْكَهْلَا
فَإِنّ بَنِي عَمْرٍو لِئَامٌ أَذِلّةٌ … لَئِنْ لَمْ يَفُكّوا عَنْ أَسِيرِهِمْ الْكَبْلَا
فَأَجَابَهُ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فَقَالَ
لَوْ كَانَ سَعْدٌ يَوْمَ مَكّةَ مُطْلَقًا … لَأَكْثَرَ فِيكُمْ قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ الْقَتْلَا
بِعَضْبِ حُسَامٍ أَوْ بِصَفْرَاءَ نَبْعَةٍ … تَحِنّ إذَا مَا أُنْبِضَتْ تَحْفِزُ النّبْلَا) ( ).
ويرى في شعر أبي سفيان التحريف والتحريض والتعريض بغير حق ، ولم يخاطب في شعره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما خاطب قوم المحجوز عند قريش بالإضافة إلى أنه لم يصدق عليه أسير فلم يؤخذ في قتال أو حرب ، إنما جاء شوقاً للبيت الحرام في طاعة لله عز وجل ، لتكون هذه الحادثة من الأسباب في تنزيه البيت الحرام من الذين كفروا وبطشهم وسلطانهم .
وأجاب حسان بن ثابت أبا سفيان فقال :
لَوْ كَانَ سَعْدٌ يَوْمَ مَكّةَ مُطْلَقًا … لَأَكْثَرَ فِيكُمْ قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ الْقَتْلَا
بِعَضْبِ حُسَامٍ أَوْ بِصَفْرَاءَ نَبْعَةٍ … تَحِنّ إذَا مَا أُنْبِضَتْ تَحْفِزُ النّبْلَا) ( ).
ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبروه بحجز أبي سفيان لصاحبهم ، وسـألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان ليفكوه به ، فلم يقل لهم النبي إن هذا أسير , وصاحبكم معتمر لا يجوز أسره ، إنما أعطاهم عمرو فبعثوه إلى أبي سفيان ، فخلى سبيل سعد ، فان قلت لقد كان بدل فكاك الأسير يعطى إلى الذي أسره ، فكيف حال الذي أسر عمرو بن أبي سفيان ، وهل دفع له رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدلاً عنه .
الجواب إنما كان الذي أسّره هو الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .
(قال ابن هشام: وكان الذى أسره على بن أبى طالب) ( ).
الثالث عشر : كان في الأسر أبو العاص والذي أسره خراش بن الصمة أحد بني حرام ، عن ابن هشام , وقال ابن كثير الذي أسره أبو أيوب خالد بن زيد ، ويتصف أبو العاص بكثرة المال والأمانة والسعي في التجارة وأمه هالة بنت خويلد أخت خديجة بنت خويلد (وكانت خديجة هي التى سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يزوجه بابنتها زينب وكان لا يخالفها، وذلك قبل الوحى.
وكان عليه السلام قد زوج ابنته رقية، أو أم كلثوم، من عتبة بن أبى لهب، فلما جاء الوحى قال أبو لهب: اشغلوا محمدا بنفسه.
وأمر ابنه عتبة فطلق ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل الدخول) ( ) ثم مشوا إلى أبي العاص ، وقالوا له : فارق صاحبتك فأبى عليهم ، فقالوا له : فارقها ونحن نزوجك بأي امرأة من قريش شئت ، فلم يسمع كلامهم ، ولم يفارقها ، وكان فيه سبب فكه من الأسر إذ بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فداء أبي العاص بمال ، ومن ضمنه قلادة كانت خديجة أهدتها لها ليلة الدخول ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رقّ لها ، وقال إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا وأخذ عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عهداً أن يخلي سبيل زينب بأن تهاجر إلى المدينة ، وثم نزل بعدها تحريم المسلمات على المشركين في السنة السادسة للهجرة بعد صلح الحديبية ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا]( ).
رابعاً : إنخزال ثلث جيش المسلمين في الطريق إلى معركة أحد مع رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول .
وجاءت خاتمة آية البحث لبيان عظيم قدرة وسلطان الله عز وجل في دفع أضرار المصيبة عن المسلمين ، وفي نصرهم ولبيان أن الحرب سجال ، وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الثالث : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل بأن جاءت المصيبة للمسلمين بعد أن منّ الله عليهم من وجوه :
أولاً : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : الهداية إلى التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثالثاً : توالي نزول آيات القرآن .
رابعاً : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المسلمين.
خامساً : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن على المسلمين ، فقد ورد في الآية السابقة قوله تعالى [يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ] وفيه دعوة للمسلمين عامة للتفكر بما يترشح عن التلاوة من العلوم والمنافع الجليلة التي تتغشى المسلمين والمسلمات كافة .
سادساً : تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب وتأويل آيات القرآن للمسلمين ، وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)( ).
ليتعدد المنّ من عند الله عز وجل على المسلمين بنزول القرآن وأحكامه وسننه ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلاوته آيات القرآن وتأديبه المسلمين وتفقههم في الدين .
سابعاً : بيان حاجة أهل الأرض للوحي والتنزيل.
فمع نزول آيات القرآن وإتصافه بكون[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، فقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم المسلمين مفاتيح الحكمة ، وإشراقات العلوم لتكون واقية من المصيبة ، وسلاحاً للسلامة من أضرارها إذا أصابتهم .
ليكون من معاني الجمع بين الآيتين وجوه :
الأول : أولما أصابتكم مصيبة وقد منّ الله عليكم إذ بعث فيكم رسولاً من أنفسكم .
الثاني : أولما أصابتكم مصيبة بعد أن منّ الله عليكم .
الثالث : أولما أصابتكم مصيبة بعد أن تلى عليكم النبي آيات الله .
الرابع : أولما أصابتكم مصيبة والنبي يتلو عليكم آيات الله قبل وأثناء وبعد وقوع المصيبة .
الخامس : أولما أصابتكم مصيبة والرسول يعلمكم الكتاب .
السادس : أولما أصابتكم مصيبة والرسول يعلمكم الحكمة .
السابع : أولما أصابتكم مصيبة بعد أن هداكم الله للإيمان .
وهذه المعاني والوجوه تخفيف عن المسلمين , ومادة لتلقيهم المصيبة بالرضا والشكر لله عز وجل على كل حال ، ومن مصاديق الشكر في المقام أمور :
الأول : الخروج من معركة أحد بسلامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من القتل , وهذه السلامة هبة من الله , ومن مصاديق المنّ الذي تذكره الآية السابقة .
الثاني : ثبات المسلمين في مقامات الإيمان وعصمتهم من الشك حتى في حال المصيبة، وفي التنزيل[يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ]( ).
الثالث : نزول آية البحث التي تشهد للمسلمين بأنهم تلقوا المصيبة في سبيل الله وأنه سبحانه هو الذي يجازيهم على هذا الأذى في مرضاته .
ويحتمل الجزاء في المقام وجوهاً :
الأول : إرادة الجزاء في الحال ومنه نزول الملائكة لنصرة المسلمين .
الثاني : الجزاء في الدنيا من غير تعيين بوقت مخصوص .
الثالث : المراد الجزاء في الآخرة لأنها دار الثواب .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وهو من مصاديق ملك الله للسموات والأرض والدنيا والآخرة.
وفي التنزيل [وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
المسألة الحادية عشرة : لقد أخبرت آية البحث عن قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم المسلمين الكتاب والحكمة ، ويحتمل هذا التعليم من جهة المتلقي وجوهاً :
الأول : إرادة أهل البيت والصحابة .
الثاني : المقصود عموم المسلمين والمسلمات مدة أيام النبوة ووجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المسلمين .
الثالث : إرادة المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
والصحيح هو الأخير، وهو من أسرار تفضل الله عز وجل بحفظ وسلامة القرآن من النقص والزيادة والتبديل , لأن كل آية منه من مصاديق هذا التعليم وشاهد عليه، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
وقد جاءت السنة النبوية القولية والفعلية بوحي من عند الله عز وجل ليتعاهدها المسلمون ويتخذوها ضياءً ونبراساً ، وهل في حفظ الله عز وجل للقرآن الذي تذكره الآية أعلاه منافع للمسلمين بخصوص المواعظ والحكم المستقرأة من معركة أحد، الجواب نعم.
ويحتمل أوان نزول مصيبة الخسارة في معركة أحد وجوهاً :
الأول : قبل تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب والحكمة للمسلمين .
الثاني : بعد تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب للمسلمين وقبل تعليمه لهم الحكمة .
الثالث : بعد تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم شطراً من الكتاب وشطراً من الحكمة للمسلمين .
الرابع : بعد تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الكتاب والحكمة وأستيفاء مصاديق هذا التعليم .
والمختار هو الثالث أعلاه ، وان في هذا الشطر الكفاية والوقاية من وقوع المصيبة لولا أنها جاءت من جهة ذات المسلمين بترك الرماة مواضعهم فان قلت لماذا لم يمنع الله عز وجل الرماة من ترك مواضعهم .
وعن (شهر بن حَوشب عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: “يا مُقَلِّبَ القلوب ثَبِّتْ قلبي على دينك” ثم قرأ: { رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ }( ) رواه ابن مردويه من طريق محمد بن بَكَّار، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، وهي أسماء بنت يزيد بن السكن، سمعها تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه: “اللهم مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك” .
قالت: قلت: يا رسول الله، وإن القلب ليتقلب؟ قال: “نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه”.
فنسأل الله ربنا ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب)( ).
الجواب أن الآية التالية جاءت بالجواب بقوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
لبيان المواعظ والعبر من هذه المصيبة لتكون باباً للثواب للمسلمين وحرزاً في المعارك اللاحقة ، وهل يصح أن هذه المصيبة من مصاديق قوله تعالى[وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] الجواب نعم ، ويكون هذا التعليم على وجوه:
الأول : تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الكتاب، وتعليمه لهم الحكمة في ذات المصداق المتحد .
الثاني : تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الكتاب وتلاوة آيات القرآن .
الثالث : تفقه المسلمين في الدين .
الرابع : تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الحكمة ومنه أبواب الخير وسنن الصلاح ، وتهذيب اللسان ، وتأويل آيات القرآن والعمل بمضامينها .
ويفيد الجمع المركب بين الكتاب والحكمة في تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين على أنه لم يعلمهم إلا ما هو خير وما فيه الصلاح والفلاح وفيه دعوة للناس جميعاً لينهلوا من القرآن والسنة ، ومن الوجه الأول أعلاه وإجتماع تعليم الكتاب والحكمة آية البحث بلحاظ أنها آية من الكتاب ومدرسة في الصبر وتحمل الأذى في جنب الله .
وعن الأصبغ بن نباته (فقال سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن في الجنة شجرة يقال له شجرة البلوى يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة فلا يرفع لهم ديوان ولا ينصب لهم ميزان يصب عليهم الآجر صبا وقرأ { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب })( ) .
لبيان أن المصيبة التي نزلت بالمسلمين باب للأجر والثواب ، وسبيل لنزول رحمته ، ومنها السلامة العامة لهم يوم الخندق , وصيرورة قتل الإمام علي عليه السلام عمرو بن ود العامري يومئذ سبباً لإلقاء الرعب في قلوب المشركين .
لقد كان الذين كفروا يسعون بجد وحنكة ومكر فبعد معركة بدر درسوا الحال ورأوا أنهم زحفوا بنحو ألف رجل , وكانت النتيجة سبعين قتيلاً وسبعين من الأسرى بأيدي المسلمين ، مع لحوق الخزي والذل بالذين كفروا وأدركوا أنهم ساروا إلى معركة بدر بمناجاة الحمية العاجلة، فأستعدوا لمعركة أحد لأكثر من سنة , وجاءوا بثلاثة أضعاف جيشهم في معركة بدر، لبيان قوة شوكة العدو، وأن الإسلام إنتصر بمعجزة وآية من عند الله، وتفضل الله ورزق المسلمين الصبر والسلامة من الفتن
الوجه الثاني : صلة آية البحث بقوله تعالى [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إبتدأت آية البحث بصيغة الإستفهام الإنكاري [أَوَلَمَّا] ليكون كلاماً وسؤالاً من عند الله للمسلمين والمسلمات بلحاظ واقعة معركة أحد، وإبتدأت آية السياق بصيغة الجملة الخبرية [هُمْ دَرَجَاتٌ].
ليكون من معاني الدرجات بلحاظ أول آية البحث وجوه :
الأول : المسلمون درجات في المصيبة التي تنزل بهم من جهة كمها وكيفها وعددها ، فمنهم من تأتيه مصيبة واحدة في السنة ومنهم من لا تأتيه، ومنهم من تتكرر عليه وتكون ذات وطأة على النفس .
الثاني : المسلمون درجات في تلقي المصيبة إذ يلجأون إلى الصبر والإستجارة بالعبادة ، قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ).
الثالث : المسلمون درجات في الأجر والثواب عند المصيبة , وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الميزان بيد الرحمن يرفع أقوامًا ويضع آخرين)( ).
الرابع : يتناجى المسلمون بالصبر والتحمل وإظهار الرضا بأمر الله عز وجل عند المصيبة ، ليأتيهم الأجر من جهات :
الأولى : نزول المصيبة بلحاظ أنها تأتيهم في طاعتهم لله ورسوله ودفاعهم عن الإسلام ، لذا ذكرت الآية المسلمين بقوله تعالى [هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ] ( ) .
وقد تقدم في الآية السابقة قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ] ( ) لبيان أن المصيبة نزلت بالمسلمين بما هم مؤمنون ، وفيه واقية لهم من اللوم والتبكيت .
الثانية : ثبات المسلمين على الإيمان عند نزول المصيبة لبيان قانون وهو أن الإيمان عند المسلمين مستقر وليس متزلزلاً , وعن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك)( ).
الثالثة : إتخاذ المسلمين المصيبة موعظة وسبيلاً للإرتقاء في درجات الإيمان .
الرابعة : تعاهد المسلمين لأداء الفرائض والواجبات العبادية حتى مع حال المصيبة والضرر .
الخامسة : عصمة المسلمين من الفرقة والشقاق والإرتداد في حال المصيبة .
وهو من مصاديق قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ) وكأن الآية أعلاه تقول واعتصموا بحبل الله عند المصيبة ولا تفرقوا في حال وقوعها بلحاظ أن الإمتناع عن الفرقة والشقاق عند المصيبة وخسارة المعركة من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الإعجاز الغيري لآية البحث أنها برزخ دون تفرق المسلمين عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند المصيبة وفي حال الشدة ، وقد تقدم قبل خمس آيات قوله تعالى [وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ]( ).
ولم تذكر الآية أعلاه مسألة المصيبة أو المصائب التي تنزل بساحة المسلمين مما يدل بالدلالة الإلتزامية على عدم إنفضاض وتفرق المسلمين عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال وقوع المصيبة ، وهو من الشواهد على مجئ الآية بصيغة الخطاب للمسلمين عطفاً على صفة الإيمان في الآية السابقة .
المسألة الثانية : بعد أن أخبرت آية السياق عن سمو ورفعة مراتب المسلمين وأنهم في درجة عالية عند الله لإيمانهم وتصديقهم بالنبوة والكتاب وصبرهم في طاعة الله وإجتنابهم المعاصي الذي هو من أبهى معاني الصبر ، قال تعالى [وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى]( ) تفضل الله عز وجل وأخبر عن نزول مصيبة بالمسلمين وهذه المصيبة عامة لقوله تعالى [أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ] لبيان قانون وهو أن المصيبة التي تنزل بساحة المؤمنين تزيد في درجاتهم عند الله لأنهم يتلقونها بسبب إيمانهم وصبرهم وجهادهم .
ومن أسرار تقدم آية السياق , وما فيها من الإخبار عن درجات المؤمنين على آية البحث , وما تتضمنه من الإخبار عن وقوع المصيبة بالمسلمين وجوه:
الأول : نيل المسلمين الدرجات العالية عند الله قبل وقوع الخسارة في معركة أحد .
الثاني : بلوغ الشهداء الدرجات السامية قبل شهادتهم ، وعندما ضحوا بأنفسهم في سبيل الله أحرزوا أسمى الدرجات لأنهم دافعوا عن الإسلام ، وصدّوا كفار قريش عند إرادتهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنع توالي نزول آيات القرآن.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة ومن سأل الله القتل من عند نفسه صادقا ثم مات أو قتل فله أجر شهيد ومن جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجئ يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها كالزعفران وريحها كالمسك ومن جرح جرحا في سبيل الله فعليه طابع الشهداء)( ).
الثالث : ما يتلقاه المؤمنون من الخسارة والنكسة والإنكسار في سبيل الله رفعة ودرجة عند الله ، وهو طريق لدرجة أسمى من ذات السنخية وغيرها، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
الرابع : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا أنتم درجات سامية عند الله ، ولما أصابتكم مصيبة صارت درجاتكم أسمى وأرفع ، وهذا المعنى من إعجاز نظم القرآن ، ومجئ المواساة وشعاع الأمل مع الأذى والضرر .
الخامس : بيان قانون وهو عدم خسارة المسلمين حتى مع وقوع المصيبة والبلاء عندهم ، فاذا جاءهم خير ورحمة ونصر من الله زادت درجاتهم عدداً ورفعة ، وهل زيادة الدرجات مطلوبة بذاتها أم أنها بلغة لغيرها من الخير والفلاح .
الجواب لا تعارض بين الأمرين ، لذا فان قوله تعالى [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ..]( ) بشارة الرزق الكريم وحال السراء والظفر والنصر .
ومن أسرار لفظ الدرجات بصيغة الجمع بيان السعة والمندوحة في فضل الله على المسلمين ، وأن الله عز وجل حفظ لهم إيمانهم وعملهم الصالحات حتى إذا ما نزلت المصيبة بهم جاءت الدرجات واقية من أضرارها .
وهو من الإعجاز في قوله تعالى[هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ]( )، وكونه بشارة الفوز بالرزق الكريم ومحو الضرر في الحياة الدنيا، فمن معاني قوله تعالى أعلاه ترتب النفع العظيم العاجل والآجل على بلوغ مرتبة الدرجات العالية عند الله، ويكون تقدير الآية على هذا المبنى على وجوه:
الأول : هم درجات عند الله بفضل ومنّ منه تعالى.
الثاني : هم درجات عند الله بحسب الصلاح والنفوس.
الثالث : هم درجات عند الله، ليجتهد الناس في طاعة الله، وطلب مرضاته , وفي التنزيل[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الرابع : هم درجات عند الله فيرزقهم الله في الدنيا رزق حسناً.
الخامس : هم درجات عند الله فيمحو الله عنهم البلاء والآفات والشرور.
السادس : هم درجات عند الله في الدنيا.
السابع : هم درجات عند الله في عمل الصالحات.
الثامن : هم درجات عند الله في الصبر .
التاسع : هم درجات عند الله في التقوى.
وهل تدفع هذه الدرجات المصيبة ، الجواب نعم ، ليكون من معاني قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) فمن فضل الله عز وجل أن الدرجات التي إرتقى لها المؤمنون بايمانهم وصلاحهم حرز وواقية من الخسارة ، فصرف عن المسلمين وذويهم المصائب والخسارة والأدران ، حتى إذا ما حلت بهم مصيبة مثل الخسارة في معركة أحد ، وتساءلوا عن سببها جاء الجواب من عند الله عز وجل [قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ] ( ).
ومن الإعجاز أن الآية لم تخاطب المسلمين عن علة وسبب الخسارة إنما توجه فيها الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول للمسلمين [قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ] ( ) وهو من مصاديق المنّ الإلهي الذي تذكره الآية السابقة .
المسألة الثالثة : من معاني الجمع بين آية البحث وآية السياق دعوة المسلمين للتوجه بالشكر إلى الله عز وجل ، من وجوه منها :
الأول : الشكر لله عز وجل على نعمة فوزهم بالدرجات الرفيعة, وإرتقائم فيها، وتقدير آية السياق : يا أيها الذين آمنوا أنتم درجات عند الله فأشكروا له).
الثاني : مجئ المصيبة للمسلمين بعد بلوغهم الدرجات السامية ، وفي هذا الترتيب نوع تخفيف من وطأة المصيبة عن المسلمين مما يبعث الحسرة والأسى في قلوب الذين كفروا ، وهل هو من مصاديق اسم الإشارة للبعيد في قوله تعالى[لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ]( ).
الجواب نعم ، وبينما يلاقي ويعاني المسلمون من سقوط سبعين شهيداً يوم أحد، وإصابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجراحات عديدة وصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين وهو قاعد لشدة جراحاته وصلوا وراءه قعوداً .
(قَالَ ابن هِشَامٍ : وَذَكَرَ عُمَرُ مَوْلَى غُفْرَةَ : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَلّى الظّهْرَ يَوْمَ أُحُدٍ قَاعِدًا مِنْ الْجِرَاحِ الّتِي أَصَابَتْهُ وَصَلّى الْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُ قُعُودًا) ( ).
لذا قيل بجواز صلاة الإمام عن قعود عند الجراحة والضرورة إلا أنه هل يصلي خلفه المأمومون عن قعود ومحاكاة له أم أن الحال في معركة أحد كان خاصاً بإمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكثرة الجراحات بالصحابة يومئذ ، وتلقي أهل البيت والصحابة الجراحات .
وحتى الشهداء كانت جراحاتهم بليغة (عن أنس بن مالك قال: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة، فما عرفه إلا أخته، عرفته ببنانه.
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم، أن عبدالرحمن بن عوف أصيب فوه يومئذ فهتم، وجرح عشرين جراحة أو أكثر، أصابه بعضها في رجله فعرج.) ( ).
وأصيب سعد بن الربيع باثنتي عشرة جراحة وكلها تؤدي إلى الموت، وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد وهي ممن شهد بيعة العقبة ، فقد خرجت اول النهار ومعها سقاء فيه ماء لتلقف الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن أولادها وزوجها ،واستبشرت حينما رأت في أول المعركة أن النصر للمسلمين وأن الفتح يقترب منهم ، قال تعالى بخصوص واقعة أحد [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] ( ) وعندما رأت إنهزام أكثر الصحابة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم توجهت صوبه، وأخذت تدافع عنه بضروب :
أولاً : مباشرة أم عمارة القتال بنفسها .
ثانياً : الدفاع والذب عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف، فتلك الساعة لا يكفي الصراخ والعويل أو الذب بالعصا فلابد من السيف للدفاع ، قال تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ]( ).
ثالثاً : الرمي بالقوس ،إلى أن أصيبت بجراحات ظلت ظاهرة في بدنها.
وعن أم سعد بنت سعد بن الربيع قالت(فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور، فقلت لها: من أصابك بهذا ؟ قالت: ابن قمئة أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقبل يقول: دلوني على محمد لا نجوت إن نجا.
فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير، وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فضربني هذه الضربة، ولقد ضربته على ذلك ضربات، ولكن عدو الله كانت عليه درعان) ( ).
الثالث : شكر المسلمين لله عز وجل على الثواب العظيم الذي يترتب على أفعالهم بخصوص معركة أحد :
أولاً : إجتماع المسلمين ونفيرهم عند دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم وإحاطتهم علماً بقدوم جيش المشركين ,
ثانياً : تزاحم المؤمنين في بذل النفس , والمال في الدفاع عن النبوة والتنزيل .
ثالثاً : إستشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بخصوص صيغ وكيفية قتال العدو، وهل يبقون في المدينة حتى دخوله عليهم، أم يخرجون إلى لقائه.
رابعاً : تسليم المسلمين بأن القرار والأمر يرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما رزقه الله من الوحي، قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
خامساً : إنصات المسلمين لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الخروج إلى المعركة : قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
سادساً : صدور المسلمين عن أوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص كيفية وموضع ملاقاة العدو ، وهو لا يتعارض مع مشورتهم ، فقد عوّدهم النبي ونـمّى عندهم هذه المشورة في معركة بدر .
وظهر الإختلاف والتباين في الرأي بين الصحابة ، ولكنه من الإجماع المركب ، إذ كانوا في سنخية الرأي فريقين :
الأول : الذين يريدون إنتظار قدوم جيش المشركين إلى مشارف المدينة ، وقتالهم داخلها إذا إختاروا القتال .
الثاني : الذين إشتاقوا للخروج لقتال العدو وعدم الصبر والبقاء في المدينة ، إذ كانوا يلحون على النبي بالخروج طلباً للشهادة وعشقاً للقاء الله عز وجل ، قال تعالى[قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ]( ).
ولم يمهلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم طويلاً فيجب أن لا ينشغل القائد بكثرة الإستشارة ، فدخل بيته وخرج وقد لبس لأمة الحرب إيذاناً بالخروج إلى لقاء القوم .
وهل كان النبي يعلم بأن المصيبة ستنزل بالمسلمين في واقعة أحد، الجواب نعم، وقد تجلى بالرؤيا التي رآها وأخبر بها وبتأويلها أصحابه.
المسألة الرابعة : لقد أكرم الله عز وجل المسلمين بالإيمان والإقتداء بالأنبياء في مناهج الصلاح والهداية إلى المسارعة في فعل الخيرات ومنها الإستجابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في النفير للدفاع عن بيضة الإسلام ، نعم تخلف منهم جماعة في معركة بدر ليس عن نفاق ومكر وتكاسل في طلب العدو , إنما ظنوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خرجوا لقافلة أبي سفيان المحملة بالبضائع والقادمة من الشام عندما بلغهم نبأ مرورها في الطريق إلى مكة.
وعندما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المعركة إستقبلوه واعتذروا له .
أما في معركة أحد فقد تهيأ المسلمون جميعاً وخرجوا من غير أن تتخلف طائفة منهم ، وهو المستقرأ من قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) .
ولو دار الأمر بين إرادة عموم المؤمنين في الآية أعلاه وبين التقييد والحصر ببعضهم ، فالأصل هو الأول .
ولكن المنافقين إنخزلوا أي انقطعوا وسط الطريق إلى معركة أحد ، واعتذروا بأنه لا يقع قتال ، أي بنفس الأعتذار الذي تقدم به بعض الصحابة في التخلف عن معركة بدر مع الفارق أن هؤلاء الصحابة كانوا صادقين بينما أراد المنافقون التورية والكذب والتخلية بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين ، الذين كانوا يطلبونه , ويريدون قتله.
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين آية البحث وآية السياق : هم درجات عند المصيبة).
لقد جعل الله عز وجل الإنسان خليفة في الأرض إمتحاناً وإختباراً له في كيفية قضاء يومه وليلته ولم يتركه وحيداَ منفرداً في ملاقاة أسباب الإمتحان وضروب الإختبار بل تفضل وأمدّه بالعقل وكأنه نبوة مصاحبة له يدعوه إلى فعل الخير , ويحجبه عن إرتكاب السيئات وهو من معاني تسمية العقل لأنه يعقل صاحبه عن القبيح والمذموم.
ولم يرد لفظ (العقل) و(العقول) و(العقلاء) في القرآن، نعم ورد(تعقلون) في القرآن، أربعاً وعشرين مرة، و(يعقلون) إثنتين وعشرين مرة، وفي التنزيل[إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ]( ).
وتفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء، وأنزل الكتب السماوية لينجح الإنسان في إختبار الدنيا ، ويتجاوز قناطر الإبتلاء ، وهذا النجاح من معاني خلافته في الأرض ، إذ أنها تتضمن المدد والعون من عند الله للفرد والجماعة والأمة ، لذا فحين أصر كفار قريش على الهجوم والقتال يوم بدر أنزل الله الفاً من الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى[فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
ترى لماذا أنزل الله عز وجل هذا العدد الكثير من الملائكة مع أن نزول ملك واحد يكفي لهزيمة كفار قريش يومئذ.
والجواب من جهات :
الأولى : بيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وهذا النزول المبارك من مصاديق قوله تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا]( ).
الثانية : تجلي مصداق الإستجابة من الله عز وجل لدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمن الإعجاز في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدفاعية إنقطاعه إلى الدعاء ليلة ونهار معركة بدر (وجعل يهتف بربه عز وجل ويقول: “اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم نصرك”)( ).
(عن ابن مسعود قال ما سمعت مناشدا ينشد حقا له أشد من مناشدة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر وجعل يقول اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك اللهم ان تهلك هذه العصابة لا تعبد ثم التفت كأن شق وجهه القمر فقال كأنما أنظر إلى مصارع القوم عشية)( ).
الثالثة : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ولما قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( )فانه سبحانه تفضل ببعث المتعدد من الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : بيان كثرة عدد الملائكة وشوقهم لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الخامسة : يدل قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )على قانون وهو أن نصر الله للمسلمين يكون بأتم وأحسن كيفية .
السادسة : بعث السكينة في نفوس المسلمين بقرب المدد والعون لهم من السماء بآلاف من الملائكة .
السابعة : حث المسلمين والمسلمات على الإجتهاد بالدعاء رجاء العون والمدد منه سبحانه ، وهل يختص نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بميدان المعركة وحال القتال.
الجواب لا ، إنما هو أعم وأوسع لذا ذكرت الآية لفظ الإستجابة وبصفة الربوبية[فَاسْتَجَابَ لَكُمْ].
الثامنة : إذا أعطى الله فانه يعطي بالأوفى والأتم ، ومنه نزول الملائكة (عن ابن حزم، قال: صف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أصحابه قبل أن تنزل قريش، وطلعت قريشٌ ورسول الله يصفهم، وقد أترعوا حوضاً، يفرطون فيه من السحر، ويقذفون فيه الآنية. ودفع رايته إلى مصعب بن عمير، فتقدم بها إلى موضعها الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أن يضعها فيه.
ووقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينظر إلى الصفوف، فاستقبل المغرب، وجعل الشمس خلفه، وأقبل المشركون فاستقبلوا الشمس، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بالعدوة الشامية ونزلوا بالعدوة اليمانية عدوتا النهر والوادي جنبتاه فجاء رجلٌ من أصحابه فقال: يا رسول الله، إن كان هذا منك عن وحيٍ نزل إليك فامض له، وإلا أراها بعثت بنصرك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: قد صففت صفوفي ووضعت رايتي، فلا أغير ذلك! ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ربه تبارك وتعالى، فنزل عليه جبرئيل بهذه الآية: ” إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألفٍ من الملائكة مردفين ” ، بعضهم على إثر بعض) ( ).
التاسعة : بيان قوله تعالى [مُرْدِفِينَ] كيفية نزول الملائكة أي بعضهم على أثر بعض .
العاشرة : إخبار القرآن بأن نزول ألف من الملائكة إنما هو بشرى ومصداق بشارة من عند الله ، قال تعالى [وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى]( ) ولم يكن المدد من الملائكة وحدهم إذ أنزل الله عز وجل الماء من السماء لتلبيد الموضع لتثبت الأقدام وحوافر الخيل بعد أن كانت رمالاً وسبخات)( ) إذ نزل المسلمون يوم بدر كثيب أعفر، تسيخ فيه الأقدام وحوافر الدواب وقد سبقهم المشركون ، وأصبح بعض المسلمين محدثين أو على جنابة , إلى جانب العطش الذي ألم بهم ، فأنزل الله عز وجل المطر، ومن منافعه منع وسوسة الشيطان عنهم ، فلا يقال أين نصر الله وفيكم رسوله وتزعمون أنكم أولياؤه خاصة وأن بعض المسلمين أحدث وأصبح مجنباً، وأصاب عامتهم الظمأ، وهم يرون المشركين على الماء.
(أخرج البيهقي في الدلائل عن ابن شهاب وموسى بن عقبة قالا مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قتل ابن الحضرمي شهرين ، ثم أقبل أبو سفيان بن حرب في عير لقريش من الشام ومعها سبعون راكباً من بطون قريش كلها وفيهم مخرمة بن نوفل ، وعمرو بن العاص ، وكانوا تجاراً بالشام ومعهم خزائن أهل مكة ، ويقال : كانت عيرهم ألف بعير ولم يكن لأحد من قريش أوقية فما فوقها إلا بعث بها مع أبي سفيان إلا حويطب بن عبد العزى ، فلذلك كان تخلف عن بدر فلم يشهده ، فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقد كانت الحرب بينهم قبل ذاك ، وقتل ابن الحضرمي وأسر الرجلين عثمان والحكم.
فلما ذكر عير أبي سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عدي بن أبي الزغباء الأنصاري من بني غنم وأصله من جهينة وبسبس – يعني ابن عمرو – إلى العير عينا له ، فسارا حتى أتيا حياً من جهينة قريباً من ساحل البحر ، فسألوهم عن العير وعن تجار قريش ، فأخبروهما بخبر القوم ، فرجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه فاستنفر المسلمين للعير وذلك في رمضان .
وقدم أبو سفيان على الجهنيين وهو متخوّف من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقال : أحسوا من محمد فأخبروه خبر الراكبين عدي بن أبي الزغباء وبسبس، وأشاروا له إلى مناخهما.
فقال أبو سفيان : خذوا من بعر بعيرهما ففته فوجد فيه النوى ، فقال : هذه علائف أهل يثرب وهذه عيون محمد وأصحابه ، فساروا سراعاً خائفين للطلب.
وبعث أبو سفيان رجلاً من بني غفار يقال له ضمضم بن عمرو إلى قريش أن انفروا فاحموا عيركم من محمد وأصحابه فإنه قد استنفر أصحابه ليعرضوا لنا.
وكانت عاتكة بنت عبد المطلب ساكنة بمكة وهي عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت مع أخيها العباس بن عبد المطلب ، فرأت رؤيا قبل بدر وقبل قدوم ضمضم عليهم ففزعت منها ، فأرسلت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب من ليلتها،
فجاءها العباس فقالت : رأيت الليلة رؤيا قد أشفقت منها وخشيت على قومك منها الهلكة .
قال : وماذا رأيت؟ قالت : لن أحدثك حتى تعاهدني أنك لا تذكرها ، فإنهم إن سمعوها آذونا وأسمعونا ما لا نحب ، فلما عاهدها العباس
فقالت : رأيت راكباً أقبل من أعلى مكة على راحلته يصيح بأعلى صوته : يا آل غدر اخرجوا في ليلتين أو ثلاث ، فأقبل يصيح حتى دخل المسجد على راحلته ، فصاح ثلاث صيحات ومال عليه الرجال والنساء والصبيان ، وفزع له الناس أشد الفزع
قال : ثم أراه مثل على ظهر الكعبة على راحلته ، فصاح ثلاث صيحات
فقال : يا آل غدر ويا آل فجر اخرجوا في ليلتين أو ثلاث ، ثم أراه مثل على ظهر أبي قبيس كذلك يقول : يا آل غدر ويا آل فجر حتى أسمع من بين الأخشبين من أهل مكة،
ثم عمد إلى صخرة فنزعها من أصلها ، ثم أرسلها على أهل مكة فأقبلت الصخرة لها حس شديد حتى إذا كانت عند أصل الجبل ارفضت ، فلا أعلم بمكة داراً ولا بيتاً إلا وقد دخلتها فلقة من تلك الصخرة ، فقد خشيت على قومك .
ففزع العباس من رؤياها ، ثم خرج من عندها فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة من آخر تلك الليلة – وكان الوليد خليلاً للعباس – فقص عليه رؤيا عاتكة وأمره أن لا يذكرها لأحد ، فذكرها الوليد لأبيه عتبة ، وذكرها عتبة لأخيه شيبة ، فارتفع الحديث حتى بلغ أبا جهل بن هشام واستفاض في أهل مكة ، فلما أصبحوا غدا العباس يطوف بالبيت ، فوجد في المسجد أبا جهل، وعتبة ، وشيبة بن ربيعة ، وأمية ، وأبي ابني خلف ، وزمعة بن الأسود ، وأبا البختري ، في نفر من قريش يتحدثون.
فلما نظروا إلى العباس ناداه أبو جهل : يا أبا الفضل إذا قضيت طوافك فهلم إلينا ، فلما قضى طوافه جاء فجلس إليهم فقال له أبو جهل : ما رؤيا رأتها عاتكة؟! فقال : ما رأت من شيء.
فقال أبو جهل : أما رضيتم يا بني هاشم كذب الرجال حتى جئتمونا بكذب النساء ، انا وإياكم كفرسي رهان فاستبقنا المجد منذ حين.
فلما تحاكت الركب قلتم منا نبي فما بقي إلا أن تقولوا منا نبية ، فما أعلم في قريش أهل بيت أكذب امرأة ولا رجل منكم ، وأذاه أشد الأذى.
وقال أبو جهل : زعمت عاتكة أن الراكب قال : اخرجوا في ليلتين أو ثلاث، فلو قد مضت هذه الثلاث تبينت قريش كذبكم وكتبت سجلاً إنكم أكذب أهل بيت في العرب رجلاً وامرأة،
أما رضيتم يا بني قصي( ) إن ذهبتم بالحجابة والندوة والسقاية واللواء والوفادة حتى جئتمونا بنبي منكم؟ فقال العباس : هل أنت مُنْتَه ٍفإن الكذب منك ومن أهل بيتك؟ فقال من حضرهما : ما كنت يا أبا الفضل جهولاً خرقاً . ولقي العباس من عاتكة فيما أفشى عليها من رؤياها أذى شديداً .
لقد أنعم الله عز وجل على الناس مجتمعين ومتفرقين بالرؤيا، ومنها رؤيا البشارة والإنذار، وفيها منافع للناس عامة والمؤمنين خاصة، أما المنافع لعامة الناس فهي الموعظة والإعتبار، والإنزجار عن فعل القبيح وما تتضمن الرؤيا التحذير منه .
وأما الخاصة فتعلق بالمؤمنين بالإعتبار والإنزجار وبالدعاء ودفع الصدقة لصرف البلاء ومحو الضرر ويكون هذا الدعاء من مصاديق قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، وحينما جاء خبر قافلة أبي سفيان تناجى كفار قريش للخروج للقتال، ولم يستحضروا رؤيا عاتكة ولم يتعظوا منها، ولكنها بقيت شاهداً تأريخياً، ودليلاً على الرحمة ببعثة النبي محمد صلى الله صلى الله عليه وآله وسلم ورؤيا أهل البيت للإنذار , وكيف أنها من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
فلما كان مساء الليلة التي رأت عاتكة فيها الرؤيا ، جاءهم الراكب الذي بعث أبو سفيان ، وهو ضمضم بن عمرو الغفاري فصاح وقال : يا آل غالب بن فهر انفروا فقد خرج محمد وأهل يثرب يعترضون لأبي سفيان فاحرزوا عيركم ، ففزعت قريش أشد الفزع وأشفقوا من رؤيا عاتكة ، وقال العباس : هذا زعمتم كذا وكذب عاتكة , فنفروا على كل صعب وذلول .
وقال أبو جهل : أيظن محمد أن يصيب مثل ما أصاب بنخلة ، سيعلم أنمنع عيرنا أم لا . فخرجوا بخمسين وتسعمائة مقاتل ، وساقوا مائة فرس ، ولم يتركوا كارهاً للخروج يظنون أنه في قهر محمد وأصحابه ، ولا مسلماً يعلمون اسلامه ، ولا أحداً من بني هاشم إلا من لا يتهمون إلا أشخصوه معهم ، فكان ممن أشخصوا العباس بن عبد المطلب ، ونوفل بن الحارث ، وطالب بن أبي طالب ، وعقيل بن أبي طالب في آخرين ، فهنالك يقول طالب بن أبي طالب :
لَا هُمّ إمّا يَغْزُوَنّ طَالِبْ … فِي عُصْبَةٍ مُحَالِفٌ مُحَارِبْ
فِي مِقْنَبٍ مِنْ هَذِهِ الْمَقَانِبِ … فَلْيَكُنْ الْمَسْلُوبُ غَيْرَ السّالِبِ
وَلْيَكُنْ الْمَغْلُوبُ غَيْرَ الْغَالِبِ( )
فساروا حتى نزلوا الجحفة نزلوها عشاء يتزودون من الماء ومنهم رجل من بني عبد المطلب بن عبد مناف يقال له جهيم بن الصلت بن مخرمة فوضع جهيم رأسه فأغفى ثم فزع فقال لأصحابه : هل رأيتم الفارس الذي وقف علي آنفاً؟
فقالوا : لا، إنك مجنون .
فقال : قد وقف علي فارس آنفا ! فقال : قتل أبو جهل وعتبة وشيبة وزمعة وأبو البختري وأمية بن خلف فعد أشرافاً من كفار قريش
فقال له أصحابه : إنما لعب بك الشيطان ورفع حديث جهيم إلى أبي جهل فقال : قد جئتم بكذب بني المطلب مع كذب بني هاشم سيرون غدا من يقتل .
وقد ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم عير قريش جاءت من الشام وفيها أبو سفيان بن حرب ومخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاصي وجماعة من قريش فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلك حين خرج إلى بدر على نقب بني دينار ورجع حين رجع من ثنية الوداع، فنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نفر ومعه ثلثمائة وسبعة عشر رجلا وفي رواية ابن فليح : ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا وأبطأ عنه كثير من أصحابه وتربصوا وكانت أول وقعة أعز الله فيها الإسلام فخرج في رمضان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدمه المدينة ومعه المسلمون لا يريدون إلا العير فسلك على نقب بني دينار والمسلمون غير معدين من الظهر إنما خرجوا على النواضح يعتقب الرجل منهم على البعير الواحد وكان زميل رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام ومرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة فهم معه ليس معهم إلا بعير واحد فساروا حتى إذا كانوا بعرق الظبية لقيهم راكب من قبل تهامة – والمسلمون يسيرون – فوافقه نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن أبي سفيان ؟ فقال : لا علم لي به.
فلما يئسوا من خبره فقالوا له : سلّم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : وفيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : نعم
قال : أيكم هو ؟ فأشاروا إليه، فقال الأعرابي : أنت رسول الله كما تقول ؟ قال : نعم
قال : إن كنت رسول الله كما تزعم فحدثني بما في بطن ناقتي هذه ؟ فغضب رجل من الأنصار من بني عبد الأشهل يقال له سلمة بن سلامة بن وقش فقال للأعرابي: وقعت على ناقتك فحملت منك.
فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قال سلمة حين سمعه أفحش فأعرض عنه)( ).
(فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيروا فإن الله قد وعدكم إحدى الطائفتين أنها لكم فوقع في قلوب ناس كثير الخوف وكان فيهم من تخاذل من تخويف الشيطان فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون مسابقين إلى الماء وسار المشركون سراعا يريدون الماء فأنزل الله عليهم في تلك الليلة مطرا واحدا فكان على المشركين بلاء شديدا منعهم أن يسيروا وكان على المسلمين ديمة خفيفة لبد لهم المسير والمنزل وكانت بطحاء فسبق المسلمون إلى الماء فنزلوا عليه شطر الليل فاقتحم القوم في القليب فما حوها حتى كثر ماؤها وصنعوا حوضا عظيما ثم غوروا ما سواه من المياه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هذه مصارعهم إن شاء الله بالغداة)( ).
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : هم درجات قل ما أصابكم من عند أنفسكم) صحيح أن آية السياق جاءت بصيغة الغائب [هُمْ دَرَجَاتٌ] إلا أن المراد هم المؤمنون، ترى لماذا لم تقل الآية أنتم درجات ، الجواب المراد في الآية المعنى الأعم للمؤمنين والمؤمنات يوم القيامة منذ هبوط آدم إلى الأرض وإلى يوم القيامة ، لبيان عظيم فضل الله عز وجل على الناس وعلى المؤمنين خاصة.
ومن إعجاز القرآن تضمنه الإكرام للمؤمنين من الأمم السالفة، وحفظه لصبرهم وجهادهم في سبيل الله.
وليس من حصر للوجوه التي يكون فيها تقدير الضمير في [هُمْ دَرَجَاتٌ] على عدد أتباع الأنبياء والرسل قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها مثلاً :
الأول : أتباع إبراهيم عليه السلام درجات عند الله .
الثاني : أتباع موسى عليه السلام درجات عند الله .
الثالث: أتباع عيسى عليه السلام درجات عند الله .
الرابع : المسلمون درجات عند الله، قال تعالى[يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ]( ).
الخامس : البشارة للمؤمنين بأرفع الدرجات وأسمى المراتب يوم القيامة، قال تعالى[وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً]( ).
لقد نزلت المصيبة بالمسلمين يوم معركة أحد , وهي متعددة من جهات :
الأولى : إنخزال ثلث جيش المسلمين في الطريق إلى معركة أحد بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول .
الثانية : كثرة الشهداء إذ سقط سبعون شهيداً( ).
لقد كانت الدعوة الإسلامية في بداياتها والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون ليسوا من أهل يثرب الذين هم من قبيلتين ، وهما الأوس والخزرج، ويجمعهما أصل وجد واحد.
وهم من قبائل الأزد الكهلانية القحطانية ، هاجروا من اليمن أوان إنهيار سد مأرب فأقاموا في يثرب من الحجاز، وهي المدينة المنورة.
والأوس هم بنو الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو.
والخزرج هم بنو الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر ، وقال حسان بن ثابت الأنصاري
(إما سألت فإنا معشر نجب … الأسد نسبتنا والماء غسان) ( ).
والمراد من غسان إنما هو (ماء بسد مأرب كان يشرب منه ولد مازن بن الأسد بن الغوث فأخذوا اسمهم منه وعرف نسلهم بالغساسنة و(آل غسان)) .
الثالثة : إصرار كفار قريش ومن حالفهم وجاء معهم على القتال مع بلوغ آيات القرآن لهم ، فمن إعجاز القرآن الذي لم يستقرأ الشطر الأعظم منه، أمور :
الأول : بداية نزول القرآن في مكة .
الثاني : إتصاف السور المكية بالقصر ، وتضمنها التخويف والإنذار والوعيد وسوء عاقبة الذين كفروا مع قوة الألفاظ والبيان ذي صبغة الإختصار كما في قوله تعالى [الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ]( ).
والقارعة من أسماء يوم القيامة ، ومن الآيات أن أثر وموضوعية سماع سورة القارعة إستمر حتى بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة إذ ينصت لها المؤمنون بتدبر واتعاظ .
الثالث : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن .
الرابع : سرعة حفظ السور المكية ، وتلاوة أهل البيت والصحابة الأوائل لها .
(وأخرج أبو يعلى قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه فإن كان غائباً دعا له ، وإن كان شاهداً زاره ، وإن كان مريضاً عاده . ففقد رجلاً من الأنصار في اليوم الثالث فسأل عنه فقالوا : تركناه مثل الفرخ لا يدخل في رأسه شيء إلا خرج من دبره . قال : عودوا أخاكم.
فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعوده ، فلما دخلنا عليه قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كيف تجدك؟
قال : لا يدخل في رأسي شيء إلا خرج من دبري . قال : ومم ذاك؟ قال يا رسول الله : مررت بك وأنت تصلي المغرب فصليت معك ، وأنت تقرأ هذه السورة { القارعة ما القارعة } إلى آخرها { نار حامية }
فقلت : اللهم ما كان من ذنب أنت معذبي عليه في الآخرة فعجل لي عقوبته في الدنيا فنزل بي ما ترى.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بئس ما قلت ، ألا سألت الله أن يؤتيك في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ويقيك عذاب النار ، فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدعا بذلك ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام كأنما نشط من عقال) ( ).
الخامس : إنصات أهل مكة وأفراد القبائل الذين يأتون للحج والعمرة لآيات القرآن ونقل الركبان لها في الأمصار والقرى، وهو من مصاديق تسمية مكة بأم القرى ، ويكون تبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسالته إلى مكة وما حولها ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
ومن أسباب وعلل تسمية مكة أم القرى وجوه:
الأول : تفضل الله عز وجل بجعل البيت الحرام في مكة، قال تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ]( ).
الثاني : قدوم الناس إلى مكة لأداء مناسك الحج والعمرة من أيام أبينا آدم عليه وإلى يوم القيامة، ويدل قوله تعالى خطاباً إلى إبراهيم[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
الثالث : بيان قانون وهو ما من قرية في مشارق ومغارب الأرض إلا ويستقبل أهلها أو شطر منهم البيت الحرام ومكة خمس مرات في اليوم.
الرابع : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول جبرئيل عليه في مكة، فإن قلت قد نزل شطر من القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ويسمى المدني، وهذا الصحيح، إذ أن هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة من مصاديق كون مكة هي أم القرى.
الخامس : تسمية فتح مكة بالفتح المبين، قال تعالى[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
السادس : إنقطاع الهجرة بعد فتح مكة.
السابع : وفود المسلمين والمسلمات من كل قرية وبلد في كل عام إلى مكة للحج، وليس من بلدة نالت هذه المرتبة، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثامن : ترشح الإنذار من مكة على المدن والقبائل الأخرى بسبب حج وعمرة الناس للبيت الحرام , وتجارة قريش .
و(عن ابن عباس في قوله { ولتنذر أم القرى}( ) قال: مكة ومن حولها . قال: يعني ما حولها من القرى إلى المشرق والمغرب)( ) .
التاسع : دخول الناس في الإسلام بعد فتح مكة، فإن قلت قد وقعت بعد فتح مكة مباشرة واقعة حنين، والجواب نعم، هذا صحيح، ولكن المسلمين إنتصروا بها إنتصاراً مباركاً قطع دابر الشرك في الجزيرة إلى يوم القيامة.
العاشر : نشوء ونماء قرى ومدن كثيرة حول مكة وبسبب فتحها.
الحادي عشر : إتساع وإنتشار الإسلام بعد فتح مكة.
الثاني عشر : إمتناع الناس في الجملة عن قتال المسلمين بعد فتح مكة.
(سأل الشامي الإمام علي عليه السلام: لم سميت مكة ام القرى ؟ قال عليه السلام: لان الأرض دحيت من تحتها. وسأل عن أول بقعة بسطت من الارض أيام الطوفان، فقال له: موضع الكعبة، وكانت زبرجدة خضراء)( ).
ليكون من معاني تسمية مكة أم القرى بخصوص تلاوة القرآن أن أول نزوله في مكة ليشع ضياؤه إلى أرجاء الأرض ، و يدخل الناس في الإسلام وكانت هذه البداية سبباً لبيعة العقبة وهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، وخروج الأنصار معه لقتال ثلاثة آلاف من كفار قريش في معركة أحد .
الثالثة : إشتداد القتال بين المسلمين والذين كفروا يوم معركة أحد .
لقد جاء المشركون لغايات خبيثة يهيئون لها الأذهان ويسخرون لها الأموال لأكثر من سنة إبتداء من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة , حيث خسروا معركة بدر إلى شوال من العام الذي تلاه إذ وقعت معركة أحد .
المسألة الرابعة : كان إبتداء المعركة بنصر المسلمين رحمة وفضلاً من الله عز وجل ، وهو من مصاديق المنّ الذي ذكرته الآية السابقة [ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ..] ( ) فان قلت لم تذكر الآية السابقة نصر المسلمين في معركة بدر ، أو نصرهم في بداية معركة أحد ، إذ أنها ذكرت وجوهاً من منّ الله وهي :
الأول : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة ، وهي أكبر درجة من النبوة .
الثالث : إنتساب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين وهو منهم بالنسب والإيمان ووحدة الأمة في قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابع : الشهادة للمسلمين بأنهم مؤمنون لقوله تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ) ولم تقل الآية (لقد منّ الله على المسلمين)لبيان قانون وهو أن النعم تأتي للناس على وجوه :
الأول : النعم على البشر بصفة الإنسانية وأنهم ولد آدم , و( عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كلكم لآدم وآدم من تراب)( ).
الثاني : النعم على أتباع الأنبياء .
الثالث : النعم التي يتفضل بها الله عز وجل على المسلمين .
الرابع : النعم التي تأتي للمؤمنين ، وتكون هذه النعم على وجوه:
الأول : ما ينتفع منه عامة الناس ببركة المؤمنين.
الثاني : ما يختص به المؤمنون.
الثالث : ما تترشح منافعه على آباء المؤمنين.
الرابع : ما تأتي منافعه للجيران.
الخامس : النعم التي يتفضل بها الله على المؤمنين، فتنتفع منها ذراريهم، وفي قصة موسى والخضر ورد قوله تعالى[وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا]( ).
وبين كل وجه من الوجوه أعلاه والوجه أو الوجوه التي سبقته عموم وخصوص مطلق، وهناك نعم خصّ الله بها المؤمنين في الدنيا ، أما في الآخرة فان هذا القانون جلي وواضح وهل شواهد في الدنيا الجواب نعم، وفيه الآية السابقة وما تذكره من النعم التي تفضل بها الله عز وجل على المؤمنين ، ومنها دفع الضرر الفادح الذي يترتب على الخسارة في معركة أحد وإنسحاب ثلث الجيش وسط الطريق إلى المعركة لولا أن منّ الله عز وجل على المؤمنين.
وحضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معركة أحد من هذا المنّ , من وجوه :
الأول : مصاحبة الوحي والتنزيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من مصاديق الفرقان في قوله تعالى [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) بلحاظ إمتياز جيش المسلمين بآية عظمى وأنفرادهم بوجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم وتوالي الوحي عليه .
الثاني : تلقي المسلمين الوحي الذي يأتي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والتصديق .
الثالث : مصاحبة الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : إجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء ، ولا يخيب جيش يدعو له نبي رسول ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
الخامس : تلقي جيش المسلمين مجتمعين ومتفرقين الأوامر بالوحي والتنزيل .
السادس : عندما أشتد القتال ودارت الريح وأنكسر المسلمون ثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه ، فحال دون تحقيق كفار قريش أي نصر .
ترى ماذا لو لم يحضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم معركة بدر أو معركة أحد ، وهل يتحقق نصر للمسلمين ، وهل ينجون من الخسارة والهزيمة ، الجواب : لقد كان حضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل من معركة بدر وأحد حاجة للإسلام والمسلمين ، ولم يخرج إلا بالوحي والأمر من عند الله .
ومن الآيات التي نزلت في واقعة أحد الخطاب من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ]( )، لتتبين وجوه إعجازية في قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
وتكشف آيات القرآن حقيقة خالدة وهي أن نصر المسلمين في بداية معركة أحد وعد من الله عز وجل لقوله تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ…]( ).
ويحتمل هذا الوعد وجوهاً :
الأول : الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل معركة أحد .
الثاني : مجئ آيات من القرآن تدل على الوعد بالنصر .
ويحتمل هذا الوعد وجوهاً :
أولاً : الوعد بالنصر بخصوص معركة أحد .
ثانياً : الوعد بالنصر في أول معركة أحد لقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ…]( ).
ثالثاً : إرادة الوعد بالنصر في معارك الإسلام ونتائجها، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
رابعاً : إرادة النصر في معركة بدر بلحاظ ورود الآية بصيغة الماضي [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ].
خامساً : تقييد تنجز الوعد بصبر المسلمين لقوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ) (عن عروة قال : كان الله وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين وكان قد فعل ، فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم ، وتركت الرماة عهد الرسول إليهم أن لا يبرحوا منازلهم وأرادوا الدنيا ، رفع عنهم مدد الملائكة ، وأنزل الله { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه }( ) فصدق الله وعده وأراهم الفتح ، فلما عصوا أعقبهم البلاء) ( ).
سادساً : تعلق الوعد بأمر آخر غير النصر في المعركة .
سابعاً : لقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ) فكان النصر للمسلمين ولكن الرماة تركوا مواضعهم فجاءهم العدو من الخلف وتفرق أكثر المسلمين .
الثالث : مجئ آيات القرآن التي تتضمن الإخبار عن ظهور الإسلام ، وعز المؤمنين .
الرابع : إستقراء معنى الوعد من قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) وتقدير الآية : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة وسينصركم بأحد وأنتم أعزة).
وإذ أنعم الله عز وجل على المؤمنين فإنه سبحانه يمنع وصول ضدها لهم ويدل عليه مفهوم المخالفة لقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] ( ) فلقد إستقر الإيمان في قلوب المسلمين ، ولم يغيروا حالهم بل زادتهم عداوة الذين كفروا إيماناً وتقوى ، وفي التنزيل [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ) ليكون زحف الجيوش الكبيرة على المؤمنين وبلوغ نبأهم إليهم سبباً في أمور:
الأول : زيادة إيمان المسلمين ، قال تعالى[وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ]( ).
الثاني : تفويض المسلمين أمورهم إلى الله، وفي التنزيل[وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ]( ).
الثالث : لجوء المسلمين في ساعة الشدة والضيق إلى الله عز وجل ، وهو من مصاديق زيادة الإيمان الذي تذكره الآية أعلاه ليكون معنى حرف العطف في [وَقَالُوا حَسْبُنَا] على وجوه :
أولاً : المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه .
ثانياً : إرادة عطف المسُبب على السبب .
ثالثاً : عطف المبرز الخارجي على في قلوب المسلمين من الإيمان ، وفيه شاهد على تنزههم من النفاق ، وعلى خلو قلوبهم من الشك وسلامتهم من الوهن والضعف والخور .
رابعاً : عطف سبب تقوية المعطوف عليه .
الرابع : الرضا والثقة المطلقة بأن الله عز وجل هو نعم الوكيل وكفايته لهم في تفويض أمورهم إليه .
وذات الكلمة قالها إبراهيم عليه السلام فجاءه الفرج والأمن والسلامة، إذ أنه كان يدعو نمرود وقومه إلى عبادة الله فحبسوه في بيت وأخذوا يجمعون له الحطب لحرقه ، حتى أن المرأة منهم تمرض فتنذر إن شافاها الله لتقوم بجمع الحطب لإبراهيم.
وحينما قذفوه في النار رفع رأسه إلى السماء وقال (اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ، ليس أحد يعبدك غيري ، حسبي الله ونعم الوكيل. فقذفوه في النار ، فناداها فقال { يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم}( ).
وكان جبريل هو الذي ناداها . فقال ابن عباس : لو لم يتبع برداً سلاماً لمات إبراهيم من بردها ، ولم يبق يومئذ في الأرض نار إلا طفئت ظنت أنها هي تعنى ، فلما طفئت النار نظروا إلى إبراهيم ، فإذا هو ورجل آخر معه ورأس إبراهيم في حجره يمسح عن وجهه العرق ، وذكر أن ذلك الرجل ملك الظل) ( ) وقيل لم تحرق النار إلى وثاقه .
الوجه الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : مجئ كل من الآيتين بصيغة الخطاب مع إتحاد الجهة وإرادة المسلمين ، وظاهر كل من الآيتين أن المقصود وقائع القتال بين المسلمين والذين كفروا ، ولكن الآية أعم في موضوعها ودلالاتها ، والمختار إتصال وإستدامة مضامين كل من الآيتين لتتغشى المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، وهذا المعنى لا يتعارض مع كون معركة أحد هي موضوع نزول كل من آية البحث والسياق .
لقد خاض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون معارك الدفاع الأولى عن الإسلام ليتفقه المسلمون في شؤون القتال، ويعلموا أنهم يلاقون عدواً ظالماً يزحف عليهم بما هو أكثر منهم عدداً وعدة ، وفيه تنمية لملكة الصبر وحسن التوكل على الله عند المسلمين ، وفي التنزيل [قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا…] ( ).
ومن إعجاز نظم القرآن إمكان عطف آية البحث على آية السياق في الموضوع والدلالة ، ولما خاطب الله عز وجل المسلمين بأنهم الذين آمنوا بينت آية البحث ما لحقهم من الأذى والأضرار الجسيمة التي أصيبوا بها يوم أحد , ليكون نداء الإيمان الذي إبتدأت به آية السياق واقية من تلك الأضرار وآثارها .
المسألة الثانية : من معاني الجمع بين الآيتين أن المصيبة التي تلم بالمسلمين قد تصاحبها مصائب أخرى وهي على أقسام :
الأول : مقدمة المصيبة .
الثاني : ما يتفرع عن المصيبة من البلاء .
الثالث : مصيبة أخرى تأتي بالعرض وإن لم تكن هناك ملازمة أو صلة بين المصيبتين ، وجاءت آية البحث لتخبر عن مصيبة الخسارة في معركة أحد أما آية السياق فأنها تخبر عن إبتلاء وإفتتان المسلمين بمصيبة أخرى ، وهي تعريض وشماتة الذين كفروا بمن يقتل من المسلمين ، وتخويفهم الذين يخرجون للقتال أو التجارة والكسب منهم بالقتل ولو بقوا في المدينة لكانوا في سلام وأمن .
لتنهى آية السياق المسلمين عن محاكاة الذين كفروا في قولهم هذا لأن هذه المحاكاة من مصاديق الأقسام الثلاثة أعلاه ، إذ تكون مقدمة لمصيبة، وتتفرع عن مصيبة أحد وتأتي بمصيبة أخرى ، ليكون من معاني قوله تعالى[أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ]( ) ترجيح تعدد المصائب والويلات على المسلمين لولا فضل الله والمدد الذي تفضل به الله سبحانه ، ليكون من معاني نداء الإيمان في المقام البشارة من الله عز وجل بصرف المصائب المتفرعة عن الخسارة في معركة أحد .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين آية البحث وآية السياق : يا أيها الذين آمنوا أولما أصابتكم مصيبة ) .
من النعم التي خصّ الله عز وجل بها المؤمنين عند نزول المصيبة وجوه:
الأول : تقدم النعمة على المصيبة .
الثاني : التذكير بالنعمة عند حلول المصيبة .
الثالث : دعوة المسلمين إلى ذكر الله عز وجل عند المصيبة ، وفي التنزيل [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ).
الرابع : إعانة المسلم والمسلمة للتحلي بالصبر عند نزول المصيبة ، ووردت أحاديث عديدة تبين الأجر والثواب على تلقي وتحمل المصيبة , وعن أم سلمة قالت حدثنا أبو سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك احتسب مصيبتي فأجرني فيها وأبدلني بها خيرا منها)( ).
وتنقضي أيام المصيبة وتخف وطأتها على النفس ، ولكن الأجر والثواب على الصبر عليها متصل ، وفيه مضاعفة لفضل ورحمة من الله سواء ذات الثواب الذي يأتي في ساعة المصيبة والمترتب عنها أم مطلقاً.
وكلما استحضر المسلم ذات المصيبة وما لاقاه يأتيه الثواب (عن فاطمة بنت الحسين ، أنها سمعت أباها الحسين بن علي عليه السلام يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة ، فيذكرها وإن قدم على عهدها ، فيحدث لها استرجاعا إلا أحدث الله له عند ذلك وأعطاه الله ثوابه يوم أصيب بها)( ).
المسألة الرابعة : من إعجاز نداء الإيمان أنه مواساة على المصيبة التي تصيب المسلمين مجتمعين أو متفرقين من جهات :
الأولى : المواساة قبل المصيبة لأن نداء الإيمان سبب في الصبر .
الثانية : نداء الإيمان مواساة للمسلمين عند المصيبة، وتقديره على وجوه:
أولاً : يا أيها الذين آمنوا اصبروا .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا أبشروا بالأجر والثواب على الصبر .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله عند المصيبة .
الثالثة : نداء الإيمان مواساة للمسلمين بعد وقوع المصيبة , وليس من حصر لموضوعية وأثر كل جهة من هذه الجهات وتبقى الثالثة أعلاه متصلة ومتجددة إلى يوم القيامة في نفعها ، وهو لا يتعارض مع إقتباس أجيال المسلمين المواعظ من مواساة نداء الإيمان للمسلمين قبل وقوع المصيبة وبعدها ، وهذا المعنى من أسرار تقدم نداء الإيمان في النظم وفي آية السياق وقبل آية البحث التي تخبر عن إصابة المسلمين بالبلاء والخسارة لتهون الخسارة في الوجود الذهني والواقع اليومي للمسلمين، ويبعثهم نداء الإيمان على أمور :
الأول : الإجتهاد في طاعة الله ، لذا ورد قبل ثلاث آيات قوله تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ] ( ) ليكون من معانيه أن اتباع رضوان الله سبب لتجاوز أضرار وآثار المصيبة .
الثاني : بعث الثقة في نفوس المسلمين لما في نداء الإيمان من الشهادة لهم ببلوغ مراتب الهداية والفلاح .
الثالث : نداء الإيمان دعوة إلى المسلمين للتوكل على الله وسؤاله النصر والغلبة .
الرابع : هداية نداء الإيمان المسلمين إلى الصبر عند المصيبة , والصبر في طاعة الله .
الخامس : من معاني نداء الإيمان إنتفاء الجزع واليأس والقنوط عند المسلمين .
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين آية البحث والسياق ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا عند المصيبة ) .
ومن خصائص الحياة الدنيا نزول المصيبة بالإنسان منفرداً وبالجماعة والأمة ، وتأتي هذه المصيبة بآفة سماوية أو أرضية أو بفعل فاعل ، ولا يقع فرد منها إلا بمشيئة وإذن من عند الله عز وجل ليكون نداء الإيمان سبباً للثبات على الإيمان، وحرزاً من الشك والوهم عند المصيبة ، وواقية من الغرور والركون إلى الدعة ورغد العيش وظن إستدامته، وقال تعالى في الثناء على المؤمنين[وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ]( ) للتأكيد على خصال كريمة يتصف بها المؤمنون منها لزوم الوفاء بالعهد والإخلاص في طاعة الله وطاعة رسوله في البأساء والضراء والتحلي بالصبر عند الشدة والضيق وملاقاة العدو الكافر ، وهي خصال لا يقدر على حيازتها مجتمعة إلا المؤمنون وهو من أسرار تكرار خطاب الله عز وجل للمسلمين بنداء الإيمان , كأن يقول لهم , اصبروا على المصائب وتحملوا وطأتها وأشكروا الله عز وجل على أمور :
الأول : مجئ مصيبة المسلمين في معركة أحد بعد مرور أكثر من سنة على معركة بدر .
الثاني : حصول إنتصارات متعددة للمسلمين بعد معركة بدر ، وإن لم يحصل قتال وملاقاة للجيوش كما وصفه الله عز وجل بقوله [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) سواء بخصوص معركة بدر( ) أو معركة أحد( ) .
الثالث : نزول آية البحث وما فيها من الإخبار عن قانون وهو أن المسلمين في عين الله عز وجل ، وأنه سبحانه يبصر ما يقع لهم من المصائب، وما يلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأذى من قومه، وفيه ترغيب للمسلمين بالدفاع عن أنفسهم ، قال تعالى [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ]( ).
وكأن آية البحث تقول للمسلمين إستعدوا للنصر والغلبة وتدارك المصيبة وآثارها بدليل خاتمة آية البحث وبيانها لقانون وهو قدرة الله المطلقة ومنها قدرته سبحانه على نصرهم .
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا قد أصبتم مثليها).
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بنداء الإيمان وبالنصر في معركة بدر، حتى إذا نزلت المصيبة والخسارة الفادحة بهم في معركة أحد تأتيهم المواساة وأسباب بعث الهمة في نفوسهم من جهات:
الأولى : وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المسلمين .
الثانية : إمامة وقيادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجيش المسلمين ، ويعلم المسلمون أن حضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم المعركة وثباته في الميدان مع إنهزام أكثر أصحابه إنما هو بأمر من الله عز وجل , وفيه دعوة للناس للتسليم بصدق نبوته وحث لهم للإيمان ونبذ محاربته.
الثالثة : مصاحبة نداء الإيمان للمسلمين في الحضر والسفر ، وحال الحرب والسلم .
الرابعة : مجئ آية البحث بإخبارها عما أصاب المسلمين , وتضمنها الإخبار بأن الله عز وجل يعلم بما أصاب المسلمين مع بيان علة وسبب هذه المصيبة وهو قصور وتقصير المسلمين أنفسهم .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الظفر في ميادين القتال ، فاذا ما خسروا في معركة فانه سبحانه يؤدبهم على كيفية الإتعاظ من هذه الخسارة مثلما يدعوهم إلى الإنتفاع من نصرهم في معارك الإسلام الأولى.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية أنه لم يلق هزيمة في معركة من معارك الإسلام مع إتصافها في كل مرة بأمور:
الأول : قلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين , فمثلاً كان عدد المسلمين في معركة بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر , وكان عدد المهاجرين منهم والذين ضرب لهم بسهم ثلاثة وثمانون ، وكان عدد الخزرج من الأنصار مائة وسبعين.
أما جيش المشركين فكان عدده نحو ألف رجل .
الثاني : النقص في عدة ورواحل المسلمين في مقابل كثرتها ووفرتها عند جيش المشركين ، فمثلاً كان مع المسلمين في معركة بدر فرسان، وكان عند المشركين سبعون منها .
الثالث : إبتداء المشركين بالقتال في كل معركة ، إذ يخرج منهم جماعة أو أفراد يطلبون المبارزة بينما يبدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعظهم ونصحهم ودعوتهم إلى قول لا إله إلا الله ، لبيان الإعجاز في هذا القول من جهات:
الأولى : كلمة التوحيد برزخ دون القتال.
الثانية : قول لا إله إلا الله حقن للدماء.
الثالثة : الأمن من الذل والخزي الذي يلحق من يمتنع عن كلمة التوحيد.
الرابعة : نطق أي إنسان بكلمة التوحيد منعة الإسلام، وفرد من الأخوة الإيمانية.
وإخبارهم بأن هذا القول وحده برزخ دون القتال وسفك الدماء، وفيه حجة فلما إحتجت الملائكة على جعل الإنسان[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) مع أنه ينشر الفساد والدماء، كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ).
كان جواب الله عز وجل على سؤالهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) لتمر الأحقاب فينزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مع قلة عددهم ويسمعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدفع القتل وسفك الدماء بكلمة التوحيد والترغيب فيها ، وكيف أنه يدرء الموت حتى عن المفسدين بهدايتهم إلى كلمة التوحيد مع أن الملائكة نزلوا لنصرته والبطش بعدوه ، مما يدل على أنه لا يريد سفك الدماء .
ومن إعجاز القرآن أنه يذكر عند المصيبة النعم العظيمة التي تفضل الله عز وجل بها في ذات الموضوع الذي أصيب به المسلمون ، فحينما فقد المسلمون سبعين شهيداً يوم النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة، ذكرت آية البحث أن كسب ونصر المسلمين سابق لأوان المصيبة لتكون آية البحث دعوة سماوية لإستحضار المسلمين والمسلمات لوقائع معركة بدر والإنتصار فيها.
وتبين آية البحث أن واقعة بدر ونصر الله عز وجل فيها للمسلمين ذخيرة عند الشدائد ،ومن الإعجاز فيها أنها برزخ دون دبيب الخوف إلى نفوس المسلمين ، وهي مانع من ظهور اليأس والقنوط على ألسنة المسلمين أو مجتمعاتهم ، وقد إستمرت مسألة فداء أسرى بدر نحو سنة أي لم تنته إلا قبل أيام معدودة من واقعة أحد ، وفيه شاهد على قوة منعة المسلمين , وانعدام حال الذل التي كانوا عليها .
ويصح القول بأن الجمع بين الآيتين من معاني قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ) فحتى مع الخسارة يتفاخر المسلمون بنصر الله عز وجل السابق لها، وفيه بشارة بالنصر اللاحق.
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا أولما أصابتكم مصيبة قلتم أنى هذا) لقد أكرم الله عز وجل المسلمين من جهات:
الأولى : كون المسلمين من البشر، قال تعالى[وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ…]( ).
الثانية : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : هداية المسلمين للتصديق بنبوة محمد , وفي التنزيل[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ]( ).
الرابعة : جعل أول معارك المسلمين نصراً عظيماً للإسلام.
الخامسة : إخبار آية البحث عن نزول المصيبة بالمسلمين.
السادسة : ذات ذكر الله عز وجل للمصيبة التي ألمّت بالمسلمين إكرام وفضل منه تعالى، وهو من الشواهد على كونهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السابعة : تلاوة المسلمين لآية البحث كل يوم من أيام الحياة الدنيا.
الثامنة : تعاهد المسلمين لآية البحث رسماً وحروفاً وكلمات، وتلاوة وتفسيراً وتأويلاً، فمن البديهيات عند المسلمين أن قوله تعالى[أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ]( ) يتعلق بواقعة أحد.
التاسعة : إخبار آية البحث عما قاله المسلمون عند المصيبة كما ورد في التنزيل(قلتم آنى هذا) لبعث السكينة في نفوس المسلمين بأن الله عز وجل يسمع كلامهم ومناجاتهم فيما بينهم، ويجيب على هذه المناجاة فضلاً منه تعالى، وهذه الإجابة من مصاديق الآية السابقة[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ…]( ).
لقد ورد لفظ يسألونك خمس عشرة مرة في القرآن، ويتفضل الله عز وجل بالأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإجابة كما في قوله تعالى[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ…]( ).
أما آية البحث فأنها تتضمن الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يجيب المسلمين على مناجاتهم فيما بينهم ويخبرهم عن علة الخسارة يوم أحد، ومن مصاديق ثبات المسلمين في منازل الإيمان تلقيهم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بوجوه:
الأول : التصديق.
الثاني : التدبر والتفكر.
الثالث : التدارك، ومنع حدوث ذات أسباب المصيبة في معارك الإسلام اللاحقة.
الرابع : الشكر لله عز وجل على نعمة التنزيل , وبيان حال المسلمين فيه لتكون الزيادة في قوله تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]( )، في المقام على وجوه متعددة.
الخامس : تنمية ملكة الصبر في نفوس المسلمين , وحسن التوكل على الله عز وجل.
ومن معاني نداء الإيمان الذي إبتدأت به آية السياق بلحاظ آية البحث وجوه:
الأول : تفضل الله عز وجل بالخطاب للمسلمين.
الثاني : علم الله عز وجل بما أصاب المسلمين، لبيان أن المصيبة لم تقع إلا بإذن من الله عز وجل، وفي التنزيل[قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
الثالث : تقدير الجمع بين الآيتين: يا أيها المسلمون ارضوا بأمر الله عز وجل بالمصيبة واعلموا أنها لم تقع إلا بعد أن أنعم عليكم بالنصر والغلبة وقتل طائفة من الذين كفروا، وأسر طائفة أخرى منهم.
الرابع : بيان قانون وهو أن الإيمان سبب لتلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأمر من عند الله بإخبار المسلمين عن علة وأسباب ما أصابهم.
الخامس : الإيمان برزخ دون الخلاف والفتنة بين المسلمين بخصوص أسباب الخسارة في واقعة أحد.
السادس : بيان مصداق لقانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعاقب أصحابه على التقصير في القتال، والهزيمة من ميدان المعركة بل لم يرد أنه وبخهم ووجه لهم اللوم والتقريع على المنبر وأمام الناس، وهو من الإعجاز في سنّة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن عادة الملوك إلقاء اللوم على القواد عند التعرض للهزيمة، وقد يعاقبون بأشد ضروب العقوبة أو يرمون بعضهم بالخيانة، ولكن الله عز وجل تفضل على المسلمين وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهم بأن المصيبة من أنفسكم، ليدل قوله تعالى[قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ]( )، على رفق ورأفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين وهو من مصاديق ما تقدم قبل ست آيات[فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ]( )، من جهات:
الأولى : من مصاديق رحمة الله عز وجل في المقام أمره تعالى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قل).
الثانية : تجلي اللين والرفق من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين بقول هو من عند أنفسكم، والوقوف عند هذا القول.
الثالثة : من مصاديق لين ورأفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين نزول القول الذي يقوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين من عند الله عز وجل وعلى نحو الأمر الذي يفيد الوجوب والقطع، وفي التنزيل في وصف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
ومن إعجاز القرآن أن الوجوب فيه متجدد إلى يوم القيامة، فقد إنقضت أيام معركة أحد، وإنتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة، ولكن أمر الله عز وجل له[قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ] باق بين ظهراني المسلمين، يتلونه رجالاً ونساءً خمس مرات في اليوم في مشارق الأرض ومغاربها لبيان مصداق لقوله تعالى[هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ]( ) بلحاظ أن المهاجرين والأنصار يوم أحد كانوا على مراتب وطوائف :
الأولى : الذين ثبتوا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة سواء الذين أستشهدوا أو الذين تلقوا الجراحات ، قال تعالى [مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً]( )، ولو قتل أحد المسلمين يومئذ وهو مُدبر , ويريد الفرار فهل هو من الشهداء، الجواب نعم، ويصدق عليه أنه ثبت في موضعه وبذل دمه في سبيل الله، والملاك أنه قُتل في سبيل الله.
الثانية : عموم الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرجعوا من وسط الطريق مع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول، فذات الخروج من المدينة درجة ، وعدم الإنسياق وراء إغواء رأس النفاق درجة أخرى ، قال تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( ).
الثالثة : الرماة الذين تركوا مواضعهم مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شدّد عليهم بعدم تركها على كل حال.
و(عن البراء، قال: لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشا من الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير، وقال: لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا.
فلما لقينا هربوا، حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة.
فقال عبدالله: عهد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألا تبرحوا.
فأبوا، فلما أبوا صرفت وجوههم)( ).
الرابعة : الذين فروا من وسط الميدان عند إشتداد القتال ، ثم رجعوا وأحاطوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]( ).
لقد كان يوم معركة أحد يوم منّ من الله عز وجل على المسلمين من وجوه نعجز عن تفاصيلها، وبيان منافعها في ذات اليوم , وفي أيام الحياة الدنيا إلى يوم ينفخ في الصور ، وفي عالم الآخرة .
لتكون معاني ووجوه تقدير أول آية البحث من اللامتناهي في الموضوع وبيانه ووقائعه ومنافعه منها :
الأول : لقد منّ الله على المؤمنين بالإيمان بالله ، فقد شاعت قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عبادة الأوثان والتقرب إليها ، وإتخاذها وسيلة للتقرب إلى الله[أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى]( ).
و(عن ابن عباس قال : وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام، وقد نصبوا أصنامهم وعلَّقوا عليها بعض النعام وجعلوا في آذانها السيوف وهم يسجدون لها.
فقال : يا معشر قريش واللَّه لقد خالفتم ملَّة أبيكم إبراهيم وإسماعيل، ولقد كانا على الإسلام. فقالت له قريش : يا محمَّد إنَّا نعبدها حبَّاً لله، ليقرّبونا إلى الله زلفى، فقال الله تعالى : قل يا محمّد إنْ كنتم تحبّون الله وتعبدون الأصنام ليقرّبوكم إليه فاتبعوني يحببكم اللَّه، وأنا رسوله إليكم وحجتَّه عليكم وأنا أولى بالتعظيم من الأصنام ) ( ).
الثاني : لقد منّ الله على المؤمنين بحبهم له ، وحبهم لهم ، وهو من أعظم النعم في الدنيا ، ومن مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) لذا تفضل الله عز وجل وفرض على كل مسلم ومسلمة قراءة سورة الفاتحة ومنها الآية أعلاه عدة مرات في اليوم .
وعن أنس قال (أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ وَيْلَكَ وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ قَالَ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا شَيْئًا إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ قَالَ قَالَ أَصْحَابُهُ نَحْنُ كَذَلِكَ قَالَ نَعَمْ وَأَنْتُمْ كَذَلِكَ قَالَ فَفَرِحُوا يَوْمَئِذٍ فَرَحًا شَدِيدًا قَالَ فَمَرَّ غُلَامٌ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ أَنَسٌ وَكَانَ مِنْ أَقْرَانِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ يُؤَخَّرْ هَذَا فَلَنْ يُدْرِكَهُ الْهَرَمُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ وَقَالَ عَفَّانُ فَفَرِحْنَا بِهِ يَوْمَئِذٍ فَرَحًا شَدِيدًا)( ).
الثالث : لقد منّ الله على المؤمنين بتصديقهم بنبوة ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أن قوله تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ]( ) يتضمن قوانين متعددة منها :
أولاً : المنّ والطول من الله عز وجل على المسلمين .
ثانياً : الصلة التي بين الله عز وجل والمسلمين هي صلة المعبود بالعباد, وصلة الرب الواحد المنان بالذين يتلقون المنّ الذي لا غنى عنه .
ثالثاً : التسليم بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبي من الأنبياء إختاره الله عز وجل لنزول الوحي عليه من غير واسطة بشر .
رابعاً : التصديق بأن النبي محمداً نبي رسول من عند الله عز وجل إختصه الله عز وجل بالشريعة المتكاملة الناسخة لغيرها من الشرائع ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ) .
خامساً : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلسان المؤمنين من قومه وما فيه من التخفيف عنهم، وتجلى الإعجاز في لغة القرآن ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
الرابع : وصف المسلمين بأنهم مؤمنون كما في الآية السابقة نعمة عظمى وموعظة وحجة وهو من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
لقد تساءل المسلمون سؤالاً تقريرياً وإنكارياً بقوله تعالى [قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا]إذ سألوا عن سبب المصيبة والخسارة التي لحقتهم يوم معركة أحد .
وأخبرهم الله عز وجل بأنه يسمع تساؤلهم واستفسارهم ويتفضل بالإجابة عليه ليبقى هذا التساؤل والإجابة من عند الله عز وجل عليه وثيقة سماوية إلى يوم القيامة .
المسألة الثامنة : تقدير الجمع بين الآيتين : قل يا أيها الذين آمنوا) لقد خاطب الله المسلمين بنداء الإيمان تسعاً وثمانين مرة ،وهو من منّ وطول الله عز وجل عليهم وعلى الناس من جهات :
الأولى : تفضل الله عز وجل بنداء المسلمين بصفة الإيمان، وهل نداء الإيمان من مصاديق المنّ في قوله تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( )، الجواب نعم، لما فيه من التشريف والإكرام لهم، ومن الآيات ترشح المنافع العاجلة عن التشريف ومصاديق الرضا من عند الله عز وجل.
الثانية : تعدد وكثرة نداء الإيمان في القرآن .
الثالثة : إختصاص المسلمين بنداء الإيمان في القرآن , فلم يرد نداء الإيمان في القرآن ويقصد منه أمة أخرى غير المسلمين .
الرابعة : توجه نداء الإيمان في القرآن إلى المسلمين بأجيالهم المتتالية على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي، وورد ذات اللفظ[الذين آمنوا] في القرآن على وجوه :
الأول : إرادة خصوص المسلمين ، كما في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) وقوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]( ).
الثاني : إرادة خصوص المهاجرين والأنصار ، كما في قوله تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ] ( ).
الثالث: إرادة عموم المؤمنين من المسلمين وأتباع الأنبياء من الملل السماوية السابقة ، قال تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] ( ).
الرابع : إرادة خصوص المؤمنين من الملل السابقة ، ومنه قوله تعالى [وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ]( ).
لقد شهد الله عز وجل للمسلمين بالإيمان ، وهو دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يشهد لهم بالإيمان ، وتقدير الجمع بين الآيتين قل يا محمد للمسلمين والمسلمات يا أيها الذين آمنوا ) وهو من مصاديق ما تقدم من قوله تعالى [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ] ( ).
ومن رشحاته مسائل :
الأولى : تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إيمان المسلمين بالقبول والرضا ، فحالما ينطق الإنسان بالشهادتين فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقبل إسلامه ويلحقه بصفوف صلاة الجماعة ، ويأمر أحد الأصحاب بتعليمه أحكام الشريعة وآيات القرآن .
الثانية : نشر شآبيب الأخوة الإيمانية بين المسلمين .
الثالثة : الوثاقة بالمسلمين وعدم طرو الشك في أفعالهم ، وقد كانوا يحيطون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال الحضر والسفر ، وفي ميادين القتال ، ليس من برزخ أو حرس يفصل بينهم وبينه ، وليس من بواب على باب بيته الملاصق للمسجد النبوي .
ومن الآيات في هذا الزمان صيرورة قبره الذي هو غرفة عائشة جزءّ من المسجد النبوي لتتجلى معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الإغتيال مع كثرة الأعداء وسهولة وصولهم إليه في المجالس ، وقد تمكنوا من الوصول إليه في ميدان معركة أحد وأصابوه بالجراحات وظنوا أنهم قتلوه .
وعند الخروج إلى معركة أحد تدافع عدد ممن يبلغ عمره خمس عشرة سنة من المسلمين للخروج إليها , فردهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم أسامة بن زيد , وزيد بن ثابت , ورافع بن خديج , مما يدل على رفق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصبيان وعدم زج غير البالغ في المعركة مع الحاجة إلى الرجال يومئذ .
(قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَتَعَبّأَتْ قُرَيْشٌ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافِ رَجُلٍ وَمَعَهُمْ مِئَتَا فَرَسٍ قَدْ جَنَبُوهَا ، فَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهَا عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ) ( ).
الثانية : عصمة المسلمين من التجرأ والتعدي على مقام النبوة .
الثالثة : عدم إنقطاع تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين ، ليكون من معاني قوله تعالى في الآية السابقة [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قريب من المسلمين في كل ساعة من ساعات الليل والنهار ، يعلمهم ويهديهم إلى سبل الرشاد .
الرابعة : بيان رشحات من قوله تعالى [يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ) .
وهل يصح تقدير الآية : قولوا نحن الذين آمنوا) الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ] ( ) وفيه بعث للعز والفخر في نفوس المسلمين والمسلمات , ودعوة لهم لتعاهد الإيمان بالتقوى والصلاح ، وقد وردت الآيات التي تخبر عن بلوغ المسلمين حال الأمن من الخوف والفزع والحزن باقتران العمل الصالح بالإيمان ومصاديقه ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) ليكون من معاني آية البحث إعانة المسلمين على الصبر في تلقي المصيبة لأنه مصاحب للإيمان .
وتبين آية البحث أن المؤمنين غير معصومين من الخطأ وأسباب ترتب المصيبة ، ولكن الذي يمتازون به هو الأجر والثواب على المصيبة ، وهذا الأجر أكبر وأعظم من ذات المصيبة في زمانه ونفعه وحضوره ، فهو برزخ دون تكرار المصيبة ليس من جهة إتعاظ المسلمين وإقتباسهم الدروس من الأخطاء والمصائب فحسب ، فهذا أمر جلي وهو نعمة دائمة على المسلمين ، ولكن ذات الأجر يحضر في الوقائع والأحداث فيكون سبباً لصرف البلاء والمصيبة عن المسلمين ، ليكون من معاني وتقدير قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) أي يمحو الله ما يشاء من المصائب عن المسلمين بالأجر الذي نالوه بسبب إسترجاعم وذكرهم عند المصيبة ).
المسألة التاسعة : تقدير الجمع بين الآيتين : قل يا أيها الذين آمنوا هو من عند أنفسكم ) .
تبين آيات القرآن جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته القولية والفعلية ، وعدم إنحصار هذا الجهاد بملاقاة الذين كفروا ، بل يشمل تعليم المسلمين ، وهدايتهم إلى مقامات الصبر عند الشدائد فمع ما لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة أحد من جهة كثرة الجراحات وشدة الأذى الذي أصابه بفقد سبعين شهيداً من أصحابه ومنهم عمه حمزة إلا أنه يبذل وسعه في صلاح المسلمين وإرشادهم إلى التحلي بالصبر وإتخاذ المصيبة طريقاً لتحقيق النصر .
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على أداء الصلاة جماعة في صلاة المغرب والعشاء من ذات يوم معركة أحد ، وهل هذا الحرص من الوحي , الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ] ( ).
لتكون هذه الصلاة حرزاً وواقية من دبيب اليأس والقنوط إلى نفوس أصحابه والأجيال المتعاقبة من المسلمين بلحاظ أن السنة النبوية نبراس ومدرسة يقتبس منها المسلمون المواعظ ، ويلجأون إليها عند الإستدلال وإقامة البرهان وضروب الحاجة وعند رجاء الأجر والثواب ، فهذا القصد علة تامة لإستحضار السنة النبوية وصيرورتها باباً للثواب المتجدد .
فمن خصائص الحياة الدنيا أن الثواب يأتي باضعاف من سنخية العمل الصالح ، وأما السيئات فقد لا تجلب حتى مثلها ، إنما تداهمها أسباب التوبة واللوم الذاتي عند الإنسان ، وهذا اللوم حرز من التمادي في فعل السيئات، وتعجيل الإنتقام من عند الله .
ليكون من معاني قوله تعالى [وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ] ( ) أن النفس اللوامة واقية من حلول العقاب العاجل وسبب لإمهال الله عز وجل للعبد وإرتقاء لوم النفس إلى توبة وإنابة ، وهو من مصاديق رحمة الله عز وجل بالإنسان وجعله [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
وهل في آية البحث دفاع من الله عن نفسه لأن الخسارة بسبب المسلمين أنفسهم وترك الرماة مواضعهم , الجواب لا تصل النوبة إلى هذا المعنى والله عز وجل أعظم وأكرم من أن يدافع عن نفسه ، إنما هو يدافع عن المؤمنين ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] ( ) .
وآية البحث حجة لله عز وجل و وأنه سبحانه لم يأذن بنزول المصيبة بالمسلمين إلا بعد أن قصروا في المقدمات والأسباب .
المسألة العاشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : يا أيها الذين آمنوا إن الله على كل شئ قدير ) , وفيه بيان قانون من الإرادة التكوينية وهو أن الله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة ، وهو سبحانه يفعل ما فيه الخير والصلاح واستدامة سنن التقوى في الأرض ، وهو المستقرأ من قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) .
فمن قدرة الله عز وجل المطلقة تهيئة مقدمات ولوازم عبادة الناس له من جهات :
الأولى : الآيات الكونية الخارقة التي تصاحب الإنسان وتجذبه إلى الهدى والإيمان , قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ).
الثانية : صيرورة عبادة الله علة لخلق الإنسان وحاضرة معه من حين خلقه ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) النفخ من روح الله في آدم ، ودبيب الحياة فيه بقيد العبادة والتقوى .
ويدل عليه ما ورد من الأخبار والنصوص بخصوص عالم الذر ،وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له بأي شئ سبقت ولد آدم ؟ قال: إنني أول من أقر بربي، إن الله أخذ ميثاق النبيين ” وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا: بلى ” فكنت أول من أجاب) ( ).
وعن ابن عباس في قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا]( ).
قال: مسح ربُّك ظهر آدم، فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة بنَعْمَان ( ) هذا الذي وراء عَرَفة، وأخذ ميثاقهم(ألست بربكم قالوا بلى شهدنا)) ( ).
الثالثة : بعثة الأنبياء وتعاقبهم وتعدد الأماكن والأمصار التي بعثوا فيها، ومنهم من كان يتنقل ويسيح في الأرض مثل الرسول عيسى بن مريم ، ووردت تسميته بالمسيح في القرآن ، كما في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابن مَرْيَمَ] ( )وقوله تعالى [إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ] ( ) وفي تسميته المسيح وجوه :
الأول : كان عيسى عليه السلام كثير السياحة في الأرض ويتنقل بين القرى والأرياف .
الثاني : كان عيسى يسيح الأرض أي يقطعها في تنقله .
الثالث : كان عيسى عليه السلام مسيح القدمين أي مسطح القدمين .
الرابع : كان عيسى إذا مسح أحداً من ذوي الأمراض المزمنة والعاهات برء وتعافى باذن الله , وفي التنزيل حكاية عنه [وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
الخامس : أنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن ومعاني البركة ، وكان من عادات اليهود مسح المولود بمثل الدهن .
السادس : أن الله عز وجل مسحه أي سواه وخلقه خلقاً حسناً , ويقال وجه مسيح أي جميل وحسن .
السابع : إنه عليه السلام مسح عند ولادته بالبركة .
الرابعة : الآيات والبراهين التي يجعلها الله عز وجل في ذات الإنسان وشواهد حاجاته ورغائبه وأسباب تيسيرها أو الموانع التي تحول دونها ، وكل فرد منها يذكر الإنسان بوجوب اللجوء إلى الله عز وجل ،وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين إذ جعل كل واحد منهم ذكراً أو أنثى يتلو قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) والذي يدل على تسليم المسلمين والمسلمات وذراريهم بالربوبية المطلقة لله عز وجل والحاجة إلى رحمته في سبل الهداية والنجاة .
فان قلت كان المسلمون يتلون هذه الآية في الصلاة قبل واقعة أحد ، فلماذا نزلت بهم المصيبة يومئذ ، والجواب من جهات :
الأولى : تتضمن آية البحث الخطاب من الله سبحانه للمسلمين علة نحو العموم الإستغراقي , وبصفة الإيمان ، مما يدل على عدم مغادرتهم لمنازله قبل وأثناء وبعد المصيبة
وفيه شاهد على ولاية ونصرة الله عز وجل لهم في كل الأحوال ، ويدل عليه قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ).
الثانية : لم تنزل المصيبة بالمسلمين إلا بسبب إصرار الذين كفروا على محاربتهم لطاعتهم لله عز وجل ورسوله الكريم ، وتلقوها بالصبر وقصد القربة ورجاء الثواب ، فليس من خسارة عندهم .
وقد أكرم الله عز وجل المسلمين إذ واساهم وصبّرهم بقوله تعالى [إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ]( ).
الثالثة : آية البحث من آيات الهداية إلى الصراط المستقيم .
الرابعة : توفيق ورشاد المسلمين بتقيدهم بأحكام الصراط والهدى عند المصيبة وبعدها .
الخامس : ما صرفه الله عز وجل عن المسلمين من الضرر بسبب تقيدهم بالصراط وأحكامه أكثر مما لحق بهم .
ويحتمل موضوع ومناسبة الألم في الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : تألم المسلمين من الجراحات , وفقد الأحبة في معركة أحد ، وتألم الذين كفروا من خسارتهم وقتلاهم وذلهم في معركة بدر .
الثاني : إختصاص معركة أحد بمضامين الآية أعلاه ، والمراد هو ألم المسلمين من جراحاتهم في معركة أحد وألم المشركين من جراحاتهم وفقدهم طائفة منهم في معركة أحد ، وكان عدد قتلاهم يومئذ إثنين وعشرين , قاله ابن إسحاق( ).
وإن قلت قد سمّى الله عز وجل هذا العدد من المشركين بأنه طرف بقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
فهل يسمى الذين قتلوا من المسلمين يومئذ طرفاً أيضاً , وأن المسلمين فقدوا طرفاً , خاصة وأنهم أكثر من ثلاثة أضعاف عدد قتلى المشركين , الجواب جاء لفظ الطرف في الآية أعلاه بمعنى الطائفة والجانب، وفي التنزيل[وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ]( )، ولم يقطع الله عز وجل جانباً أو طائفة من المسلمين، فقد خسر المسلمون الشهداء ولكنهم لم يموتوا ولم ينقطعوا إذ صاروا أحياء في جنان الخلد عند الله عز وجل ولم ينقطع ذكرهم إلى يوم القيامة، كما أنعم الله عز وجل بأبناء وأخوة لهم يقومون مقامهم، قال تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
الثالث : إرادة ألم وحرقة المسلمين على الذين كفروا لصدهم عن سبيل الله , وإمتناعهم عن دخول الإسلام .
الرابع : ألم المسلمين من جراحات معركة أحد ،وألم المشركين من جراحات معركة بدر , ومعركة أحد .
وباستثناء الوجه الثاني أعلاه فان الوجوه الأخرى من مصاديق الألم الذي تذكره الأية أعلاه , لبيان المائز الذي يتصف به المسلمون في مقدار وكم الألم إلى جانب التباين والتضاد في الأسباب والغايات التي تتجلى في رجاء المسلمين النصر في الدنيا ، والثواب العظيم في الآخرة ، وفيه نكتة وهي أن المصيبة تبعث المسلمين على الصبر ، وتجعلهم في شوق إلى لقاء الله سبحانه لما نالوه من الثواب بنزولها بهم وهم يدافعون عن النبوة والتنزيل , وفي التنزيل[مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
المسألة الحادية عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم…) .
من الإعجاز في الآيات التي يتعلق موضوعها بمعركة أحد بيانها لقانون وهو شهادة الله عز وجل للمسلمين بالإيمان ، وتحملهم الأذى وتلقيهم الجراحات البليغة كمؤمنين , ومغادرة طائفة منهم الحياة الدنيا شهداء في سبيل الله .
وليس في هذه الآيات لفظ الخسارة إنما ذكرت المصيبة بلحاظ أن الأصل فيها عدم وجود خسارة حقيقة وصدقاً عند المسلمين إلا أن يكون أذى يتعقبه الأجر والثواب ، قال تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
و(عن سعيد بن المسيب قال : أقبل صهيب مهاجراً نحو النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فاتبعه نفر من قريش ، فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال : يا معشر قريش قد علمتم إني من أرماكم رجلاً ، وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي فيه شيء ، ثم افعلوا ما شئتم ، وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكة وخليتم سبيلي.
قالوا : نعم .
فلما قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ربح البيع ، ربح البيع . ونزلت {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}( )) ( ).
ومن معاني الجمع بين الآيتين تأكيد إقامة الحجة لله عز وجل على المسلمين والناس عامة.
فقد إبتلى الله عز وجل الذين كفروا بالخسارة الفادحة في أول معاركهم مع المسلمين ، ثم جاءت معركة أحد لتنزل المصيبة بالمسلمين ، فيكون من الحجة والبرهان في المقام أن معارك الإسلام لم تبدأ بخسارة المسلمين مع أنهم الأقل عدداً وعدة يومئذ .
لقد كان الإنتماء إلى الإسلام فيصلاً بين المؤمن وعادات وأقاويل الذين كفروا , فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم توالي آيات القرآن ونزولها تدريجياً وعلى مراحل زمانية ليصغي إليها المسلم ، ويقتبس منها المواعظ والعبر ، ويكون معها غنياً عن الحاجة إلى الذين كفروا وجاءت آية السياق لتخبر حن حقيقة وهي لزوم قيام المسلمين بالدفاع عن بيضة الإسلام ، وقيامهم بالضرب في الأرض للكسب ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ) .
فمع هذا الكره يأتي تحريض المنافقين على القعود , وسوء تأويلهم وإخبارهم للناس بأن المسلم الذي يبقى في المدينة يكون في مأمن من القتل أو الموت وآفات الطريق ووحشة الغربة .
لقد تضمنت آية السياق نهي المسلمين عن التشبه بالذين كفروا والمنافقين في دعوتهم المؤمنين إلى القعود عن الجهاد , وعن السعي في الأرض للتجارة والكسب , لبيان قانون وهو لزوم تعاهد المسلمين للتضاد بينهم وبين الذين كفروا في عالم القول والفعل من جهة دعوة المسلمين لتعظيم شعائر الله بالحجة والبرهان , وعدم الإصغاء لأقاويل الذين كفروا [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ).
المسألة الثانية عشرة : لقد وثقّت آية السياق قبح أقوال وسوء مقاصد الذين كفروا ، وكيف أنهم يحرضون عوائل المؤمنين على ترغيبهم بالقعود عن الجهاد وعن تلبيه نداءات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدفاع ، وأخبرت آية البحث عن وقوع الجراحات الشديدة بالمسلمين ، وهل هذه الجراحات مصداق لقول الذين كفروا هذا في صد المؤمنين عن الإنبعاث للتفير والمرابطة في الثغور، الجواب لا ، أنما هي رد عليهم لأنها في ماهيتها زجر ودفع للذين كفروا عن المدينة وأهلها .
لقد حفظت هذه الجراحات المال والأعراض والنفوس وصارت مقدمة ليعيش أهلها في عز وأمن وإلى يوم القيامة .
إن سقوط سبعين شهيداً من المسلمين في معركة أحد سبب لتجاهر الذين كفروا بأقوالهم وسماع الناس لها ، فتفضل الله عز وجل بآية السياق ليقطع الطريق عليهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) .
ليكون الجمع بين آية البحث وآية السياق معجزة من جهات :
الأولى : مضامين كل من الآيتين .
الثانية : إبتداء آية السياق بنداء الإيمان وعطف آية البحث عليها .
وفيه شاهد على وحدة الموضوع بينهما .
الثالثة : توجه الخطاب في كل من الآيتين إلى المسلمين وبصيغة الإيمان ، ليكون من معاني النداء[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] والذي إبتدأت به آية السياق دعوة المسلمين لبذل الوسع في سبيل الله حتى مع المصيبة ، ومع إنشغال المسلمين بالمصيبة وأسفهم على فوات النصر المبين في معركة أحد جاءت آية السياق لتدعوهم إلى التوقي والحيطة والحذر من كيد المنافقين , وكأن عدواً بين ظهرانيهم يترصدهم قبل وأثناء وبعد المعركة يبث السموم وينشر الإشاعات , لتكون آية السياق برهان الكشف , وميزان البيان عن خصال المنافقين ، ومن الإعجاز فيها أنها ذكرتهم بصفة الكفر بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا..]( ) لتكون صفة الكفر في المقام جامعة لكل من :
الأول : الذين كفروا وجحدوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل المدينة وما حولها ، فان قلت قد قيدت الآية الجهة التي يتوجه لها قول الذين كفروا بأنه إلى إخوانهم بقوله تعالى [وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ] وهل القدر المتيقن منه قول المنافقين للأنصار الذين يخرجون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجهاد .
الجواب المراد من الآية المعنى الأعم من جهات :
الأولى : جهة صدور القول بأن المؤمنين لو لم يخرجوا للقتال لما قتلوا .
الثانية : مضمون القول وشموله لأمور :
أولاً : الخروج للقتال .
ثانياً : الضرب في الأرض للتجارة والكسب .
ثالثاً : مرابطة المؤمنين خشية مداهمة العدو ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
رابعاً : هجرة المسلمين من مكة وما حولها إلى المدينة المنورة .
الثالثة : الغايات والمقاصد التي يطلبها المسلمون في سفرهم وخروجهم من المدينة ، فلقد أغاظ الذين كفروا ما أنفتح على المسلمين من أبواب الرحمة والرزق الكريم والشأن العريض وتنقلهم في البلاد بصبغة الإيمان من غير خوف من القوم الظالمين ، وصيرورة هذا التنقل مناسبة كريمة للدعوة إلى الله عز وجل ، فيكون قول الذين كفروا على وجوه :
أولاً : إذا سمع الذين كفروا بنية المؤمن الخروج من المدينة للتجارة والكسب تناجوا بينهم لو يبقى معنا يسلم من القتل ، وسعوا في الإيماء والإيحاء إلى عائلته وأهله بأن في خروجه القتل والموت.
ثانياً : إذا علم الذين كفروا بأن المؤمنين خرجوا للغزو والدفاع عن بيضة الإسلام ، قالوا انتظروا سيأتون بهم قتلى، ولو بقوا عندنا لما ماتوا وما قتلوا .
ثالثاً : إذا بلغ الذين كفروا خروج نفر من المؤمنين للرباط في الثغور أظهروا الخشية والشفقة عليهم , وقالوا لو بقوا عندنا لم يقتلوا أي ما لهم وللرباط .
فجاءت آية السياق لتحصين عوائل المسلمين وبيوتات المدينة من أضرار ما يبثه المنافقون ، قال تعالى[لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
الثاني : المنافقون الذين يخفون في قرارة نفوسهم الكفر والجحود بالنبوة والتنزيل , ولكنهم يظهرون الإسلام .
الثالث : كفار مكة الذين أصروا على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الرابع : أتباع وأنصار كفار قريش .
الخامس : الأعراب الذين لم يدخلوا الإسلام .
فجاءت آية السياق بذكرهم بلفظ الذين كفروا ليفيد العموم ومن منافعه في المقام أمور :
الأول : التخفيف عن المسلمين بذكر الذين كفروا بصيغة العموم المتحد.
الثاني : تقدم ذكر الذين آمنوا في آية السياق مع إكرامهم بنداء الإيمان بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا].
الثالث :بيان قانون وهو أن ملة الكفر واحدة .
الرابع : تنبيه وتحذير المسلمين من الذين كفروا وأقاويلهم وإشاعاتهم .
الخامس : تأكيد التباين بين المسلمين والذين كفروا حتى إذا ما نزلت المصيبة بالمسلمين فانهم لم ولن يستمعوا إلى أقاويل الذين كفروا إنما يلجأون إلى القرآن والسنة .
الشعبة الثانية : صلة هذه الآية بالآيات المجاورة التالية ، وفيها وجوه :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بالآية التالية ، وهو قوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) وفيها مسائل :
المسألة الأولى : صيغة الخطاب في الآيتين سور الموجبة الكلية ، إذ يتوجه الخطاب في كل منهما من عند الله عز وجل إلى المسلمين بأمور:
الأول : البيان والكشف والوضوح، وهو من مصاديق قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( ).
الثاني : التخفيف عن المسلمين من وقع المصيبة , وتفضل الله عز وجل بالتخفيف عنهم من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالث : إكرام المسلمين بحضور الخطاب الإلهي لهم ساعة المصيبة.
الرابع : منع الخلاف بين المسلمين أو الغيبة والإفتراء أثر المصيبة وقصور بعض المسلمين بترك مواضعهم.
الخامس : تفقه المسلمين في الدين.
السادس : إزدياد مهارة المسلمين في فنون القتال لتكون كل من معركة بدر ومعركة أحد من المصاديق الواقعية القهرية لقوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( ).
السابع : تشريف وإكرام المسلمين.
وهو من مصاديق المنّ الذي ذكرته الآية السابقة [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ …]( ) وكل آية من القرآن هي من مصاديق هذا المنّ من وجوه :
أولاً : نزول الآية القرآنية .
ثانياً : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآية القرآنية على المسلمين حين نزولها ، فليس ثمة فترة بين نزول الآية وتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها فحالما ينفصل الوحي عنه ويغادره الملك يقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة الآية أو الآيات التي نزلت ، ويدعو الكتّاب لكتابتها .
ثالثاً : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية في الصلاة وخارجها ، وليس من حصر لأوان ومناسبة تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية ، وأحياناً تكون تلاوته لها على المسلمين جواباً على سؤال أو بياناً لحكم ، وهذا التعدد من مصاديق قوله تعالى[يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ]( ) ودلالته على إتصال تتابع وتجدد تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن على المسلمين.
ومن الإعجاز في المقام ما تتضمنه آية البحث من الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ]ليكون القول فيها على وجوه :
الأول : قلنا .
الثاني : قلتم .
الثالث : قل .
الرابع : قولي.
الخامس : قلن.
رابعاً : تلاوة المسلمين للآية القرآنية .
خامساً : عمل المسلمين بمضامين الآية القرآنية .
ويتحد موضوع المصيبة لفظاً وموضوعاً إذ ذكرت مادة (أصاب) في آية البحث، ووردت في آية السياق مرة واحدة [أَصَابَكُمْ].
وهل يدل هذا التكرار على رجحان توالي المصائب على المسلمين ، الجواب إن قوله تعالى [قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ] برزخ دون هذا التكرار .
المسألة الثانية : لقد ذكرت آية البحث مصيبة نزلت بالمسلمين وحلت بساحتهم من غير تعيين لأوانها وان تجلى موضوعها ، وجاءت آية السياق لتبين أوانها وماهيتها لتمنع الخلاف بين المسلمين في المصيبة التي حلت بهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
فتبين ذات الآية القرآنية معاني الآية الأخرى ، ومن صيغ التخفيف عن المسلمين في المقام تعقب آية السياق البيانية لآية البحث ، وتقدير الجمع بينهما : أولما أصابتكم مصيبة يوم التقى الجمعان).
وجاءت الآية بصيغة الجمع [أَصَابَتْكُمْ ]لبيان أن فقد أي شهيد من المسلمين خسارة ومصيبة لهم جميعاً .
لقد دخلت المصيبة بيوت مكة يوم بدر وكانت بفقد أبنائهم وإخوانهم .
ولم يأت هذا الفقد مجرداً بل هو مقرون بالذل والعار للذين كفروا من جهات :
الأول : قتل المشركين وهم يحاربون النبوة والتنزيل .
الثاني : إشتراك الملائكة في قتل الذين كفروا , قال تعالى في خطاب وأمر للملائكة[فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( ).
الثالث : إقتران قتل طائفة من الذين كفروا بهزيمة الذين بقوا من جيش المشركين ليكونوا نذراً إلى قومهم ، وكل واحد منهم شاهد في نفسه وهزيمته على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : نزول القتل بالذين كفروا بعد خروجهم في قطع الرحم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين ومحاربتهم حسداً وعدواناً
ونزلت مصيبة واقعة أحد بالمسلمين ، ولكنها أدنى من أن تشف صدور الذين كفروا لأن جراحاتهم بليغة، وللرعب والفزع الذي ألقاه الله في قلوبهم وإستحوذ على جوانحهم وجوارحهم، قال تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( ).
لقد كان الملاك هو سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وبقاؤه حياً ومع هذا فانه صلى الله عليه وآله وسلم لم ينهزم ولم يتقهقر من ميدان المعركة .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين على وجهين :
الأول : أولما أصابتكم مصيبة يوم التقى الجمعان .
الثاني : أولما أصابتكم مصيبة يوم أحد بعد نصركم يوم بدر يوم التقى الجمعان .
لقد ورد لفظ [الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) ثلاث مرات في القرآن اثنتين بخصوص معركة أحد وتتعلق واحدة بمعركة بدر كما ورد لفظ [الْجَمْعَانِ] بخصوص موسى وأصحابه في ملاقاة آل فرعون .
(عن ابن عباس . أن الله أوحى إلى موسى : أن أسر بعبادي . وكان بنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون حلياً وثياباً . بإن لنا عيداً نخرج إليه فخرج بهم موسى ليلاً وهم ستمائة ألف وثلاثة آلاف ونيف . فذلك قول فرعون { إن هؤلاء لشرذمة قليلون}( ) وخرج فرعون ومقدمته خمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب ، فلما انتهى موسى إلى البحر أقبل يوشع بن نون على فرسه، فمشى على الماء ، واقتحم غيره بخيولهم فوثبوا في الماء ، وخرج فرعون في طلبهم حين أصبح وبعدما طلعت الشمس ، فذلك قوله { فأتبعوهم مشرقين.
فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون } فدعا موسى ربه فغشيتهم ضبابة حالت بينهم وبينه وقيل له : اضرب بعصاك البحر . ففعل {فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم}( ) يعني الجبل . فانفلق منه اثنا عشر طريقاً .
فقالوا : انا نخاف أن توحل فيه الخيل . فدعا موسى ربه فهبت عليهم الصبا فجف ، فقالوا : انا نخاف أن يغرق منا ولا نشعر ، فقال بعصاه فنقب الماء فجعل بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضاً ، ثم دخلوا حتى جاوزوا البحر .
وأقبل فرعون حتى انتهى إلى الموضع الذي عبر منه موسى وطرقه على حالها فقال له أدلاؤه : إن موسى قد سحر البحر حتى صار كما ترى ، وهو قوله {واترك البحر رهواً}( ) يعني كما هو . فخذ ههنا حتى نلحقهم وهو مسيرة ثلاثة أيام في البحر .
وكان فرعون يومئذ على حصان ، فأقبل جبريل على فرس أنثى في ثلاثة وثلاثين من الملائكة ، ففرقوا الناس وتقدم جبريل فسار بين يدي فرعون وتبعه فرعون ، وصاحت الملائكة في الناس : الحقوا الملك . حتى إذا دخل آخرهم ولم يخرج أولهم؛ التقى البحر عليهم فغرقوا.
فسمع بنو إسرائيل وجبة البحر حين التقى
فقالوا : ما هذا؟
قال موسى: غرق فرعون وأصحابه . فرجعوا ينظرون فألقاهم البحر على الساحل .) ( ).
لقد ذكرت آية ببدر نصر المسلمين ونزوله من عند الله ، ولم يتم إلا بمشيئته سبحانه ، الذي أثنى على نفسه في القرآن بنسبة هذا النصر له وحده بقوله [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) فلم يكن هذا النصر بجهود المسلمين وإن بذلوا الوسع في القتال , وأخلصوا في طاعة الله تعالى ، وتفانوا في الدفاع عن النبوة والتنزيل ساعة لمعان السيوف , نعم يمكن تقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : ولقد نصركم الله ببدر إستجابة لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : لقد نصركم الله ببدر بالمدد من الملائكة.
الثالث : لقد نصركم الله ببدر بسيف علي وسيوف الصحابة.
الرابع : لقد نصركم الله ببدر بإصابة الذين كفروا بالجبن والخور.
الخامس : لقد نصركم الله ببدر بقوله[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ).
أما خسارة المسلمين في معركة أحد فان الله عز وجل أخبر بأنها وقعت بإذنه لبيان عظيم الثواب الذي ينتظر المسلمين على هذه الخسارة.
أما الشهداء فقد انتقلوا إلى النعيم الأبدي , وحلوا ضيوفاً على الكريم الجبار الذي بيده خزائن السموات والأرض , ونالوا مرتبة الشفاعة وحازوا الفخر في الدنيا والآخرة .
وعن (طلحة بن عبيد الله خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما أشرفنا على حرة واقم تدلينا منها فإذا قبور بمحنية( ) فقلنا يا رسول الله هذه قبور اخواننا فقال هذه قبور اصحابنا ثم خرجنا فلما جئنا قبور الشهداء قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه قبور اخواننا) ( ).
وأما الذين إشتركوا في المعركة وصبروا في الميدان فقد شيدوا صرحاً من البناء الجهادي وألقوا الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا إلى يوم القيامة ونالوا درجة الشهداء وان ماتوا على فراش الموت و(عن معاذ بن جبل انه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقة فقد وجبت له الجنة،
ومن سأل الله القتل من عند نفسه صادقاً ثم مات أو قتل فله أجر شهيد.
ومن جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة فانها تجئ يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها كالزعفران وريحها كالمسك ، ومن خرج في سبيل الله فعليه طابع الشهداء)( ).
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : وما أصابكم يوم التقى الجمعان قد أصبتم مثليه ) .
لقد نصر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم بدر نصراً عظيماً ، ولم يعلم المسلمون أن الله عز وجل سيذكرهم بهذا النصر عند نزول الخسارة بهم يوم معركة أحد ، وهو من إعجاز القرآن فتأتي آية بالإخبار عن واقعة لتترشح البركة والفيض عنها[وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
وتتجلى الرحمة في آية البحث بجذبها المسلمين إلى مقامات الصبر والرضا بقضاء الله وإعلان الثبات في مقامات الهدى بتعاهد الفرائض والعبادات.
ومن معاني الجمع بين الآيتين طرد الحزن والكآبة عن المسلمين , ففي ساعة الشدة والمصيبة ينزل القرآن بتذكيرهم بالنصر العظيم في معركة بدر وبمضامين الآية القرآنية التي تضمنت الإخبار عن هذا النصر بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) ومن الإعجاز فيها أنها تضمنت الأمر والدعوة إلى أمرين :
الأول : تقوى الله .
الثاني : الشكر لله عز وجل على نعمة النصر .
فهل قصّر المسلمون في أحد هذين الأمرين ، وصار هذا التقصير سبباً في الخسارة يوم أحد .
الجواب من تقوى الله الذي أمرت به الآية وجوب طاعة أوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ) ليكون من معاني قوله تعالى [مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ]هو أن مخالفة الرماة لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقصير ، ليكون من معاني خاتمة الآية التالية وليعلم المؤمنين، أي الذين يتعظون مما أصابهم ويتقيدون بسنن التقوى.
وهل فيه تعريض بالرماة الذين تركوا مواضعهم , الجواب لا ، إذ أن الآية التي بعد التالية تذم المنافقين على نحو الخصوص بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا]( ).
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : أولما أصابتكم مصيبة فبإذن الله.
قيدت آية البحث نزول المصيبة بإذن الله , ويحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة وقائع معركة أحد .
الثاني : مجئ جيش المشركين من مكة للقتال .
الثالث : الجراحات التي أصابت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : إنتقال سبعين من الشهداء إلى الرفيق الأعلى يوم معركة أحد ، قال تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ] ( ).
الخامس : الجراحات التي ألمت بأهل البيت والصحابة .
السادس : حلول الأسى والحزن في بيوت المدينة المنورة .
ففي طريق العودة من أحد مرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بيوت بني عبد الأشهل فسمع نساءهم يبكين قتلاهم ، فجرت دموع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال (لكن حمزة لا بواكي له) ( ).
وهل ذرفت دموع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على خصوص فقد عمه حمزة أم على شهداء معركة أحد مطلقاً، الجواب هو الثاني.
السابع : حرمان المسلمين من الغنائم يوم أحد ، بعد أن صارت قاب قوسين أو أدنى لإنكسار وتراجع جيش المشركين في بداية المعركة , قال تعالى بخصوص أول ساعات معركة أحد[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]( ).
الثامن : إنهزام أكثر المسلمين من ميدان معركة أحد وهذا الإنهزام وحده مصيبة قائمة بذاتها .
وهل من المصيبة شعور المشركين بنشوة النصر يوم أحد , الجواب لا ، فلم يتم أو يتحقق لهم النصر يومئذ ودونه خرط القتاد، بدليل أنهم ندموا وسط الطريق إلى مكة وأرادوا الإغارة على المدينة من جديد فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلفهم فانهزموا .
وقد حرص عدد من الصحابة ليلة الرجوع من معركة أحد على المبيت عند باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع كثرة جراحاتهم خشية أن يكرّ المشركون على المدينة لإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لتتجلى أعلى مراتب الصبر والتقوى ، ويتبين للناس قانون إخلاص المسلمين وصدق إيمانهم وتفانيهم في رضوان الله وحرصهم على الذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإدراكهم لقانون وهو أن وجوده بين ظهرانيهم منّ ونعمة عظمة من جهات :
الأولى : إستدامة التنزيل ، فلا ينزل القرآن على غير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل ومن بعد ، وبمغادرته إلى الرفيق الأعلى إنقطع نزول آيات القرآن .
الثانية : تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الكتاب والحكمة على نحو يومي بصعوده المنبر في المسجد النبوي ، وهو من مصاديق الآية السابقة [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ).
الثالثة : إمامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين في الصلاة .
الرابعة : فوز سرايا المسلمين بقيادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم في ميادين القتال .
الخامسة : إضافة علوم مستفيضة من السنة النبوية القولية والفعلية تنتفع منها الأجيال المتعاقبة .
السادسة : نيل المسلمين العفو والمغفرة بوجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن عبادة بن الصامت قال : قال رجل : يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال : الصبر والسماحة .
قال : أريد أفضل من ذلك . قال : لا تتهم الله في شيء من قضائه .
وأخرج البيهقي عن الحسن قال : الإِيمان الصبر والسماحة الصبر عن محارم الله وأداء فرائض الله ) ( ).
الوجه الثاني : صلة آية البحث بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ] ( )وفيه مسائل :
المسألة الأولى : من الإعجاز في نظم آيات القرآن وإتصافه بتسيير تفقه المسلمين بمعاني الآيات وإعانتهم على التدبر في مضامينها القدسية إبتداء شطر من آيات القرآن بحرف العطف الواو , وعددها ( 2232 ) آية وهو عدد كبير وأغلبها حرف عطف ، وتأتي بعدها الآيات التي تبدأ بهمزة القطع وعددها 982 آية ، كما مبين في الجدول الاتي :
إحصاء الآيات بلحاظ الحرف الذي تبدأ به :
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الواو : 2232
عدد الآيات التي تبدأ بهمزة القطع : 982
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الفاء : 698
عدد الآيات التي تبدأ بحرف القاف : 538
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الياء : 343
عدد الآيات التي تبدأ بهمزة الوصل : 236
عدد الآيات التي تبدأ بحرف اللام : 266
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الميم : 155
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الكاف : 119
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الثاء : 109
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الهاء : 87
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الذال : 65
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الباء : 63
عدد الآيات التي تبدأ بحرف التاء : 63
عدد الآيات التي تبدأ بحرف السين : 55
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الراء : 47
عدد الآيات التي تبدأ بحرف العين : 44
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الحاء : 31
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الخاء : 31
عدد الآيات التي تبدأ بحرف النون : 26
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الجيم : 14
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الطاء : 7
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الصاد : 6
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الضاد : 6
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الشين : 4
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الدال : 3
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الزاي : 3
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الغين : 2
عدد الآيات التي تبدأ بحرف الظاء : 1
إحصاء الآيات حسب الحرف الذي تنتهي به:
عدد الآيات التي تنتهي بحرف النون : 3124
عدد الآيات التي تنتهي بالألف – لفظا- : 1189
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الميم : 665
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الراء : 451
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الدال : 198
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الباء : 162
عدد الآيات التي تنتهي بالتاء المربوطة – ة : 122
عدد الآيات التي تنتهي بحرف اللام : 67
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الهاء : 49
عدد الآيات التي تنتهي بحرف القاف : 41
عدد الآيات التي تنتهي بحرف التاء : 34
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الياء : 26
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الظاء : 13
عدد الآيات التي تنتهي بحرف العين : 13
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الطاء : 12
عدد الآيات التي تنتهي بحرف السين : 11
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الزاي : 10
عدد الآيات التي تنتهي بهمزة القطع : 10
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الصاد : 10
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الجيم : 9
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الكاف : 8
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الفاء : 3
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الثاء : 2
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الذال : 2
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الشين : 2
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الحاء : 1
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الضاد : 1
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الواو : 1
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الخاء : 0
عدد الآيات التي تنتهي بحرف الغين : 0
بينما يكون عدد الآيات التي تنتهي بحرف الواو هو آية واحدة أي أن حرف الواو يكون أكثر الحروف التي تبدأ بها الآيات وأقلها من جهة الإنتهاء به باستثناء الحرف الذي لم تختتم به آية من آيات القرآن مثل الخاء والغين ، وحتى إنتهاء الآية أعلاه من سورة النجم فأنما هو يأتي بالواو من جهة اللفظ والقراءة وليس الرسم [وَاعْبُدُوا] لأنه وفق الرسم يكون الألف هو الذي تختتم به الآية.
ومن الإعجاز أن هناك سوراً تبدأ بحرف الواو سواء لإرادة العطف أو القسم وهي :
الأولى : والصافات صفاً ( ).
الثانية : والذاريات ذروا ( ).
الثالثة : والطور ( ).
الرابعة : والنجم إذا هوى ( ).
الخامسة : والمرسلات عرفاً ( ).
السادسة : والنازعات غرقا ( ).
السابعة : والسماء ذات البروج ( ).
الثامنة : والسماء والطارق ( ).
التاسعة : والفجر ( ).
العاشرة : والشمس وضحاها ( ).
الحادي عشرة : والليل إذا يغشى ( ).
الثانية عشرة : والضحى ( ).
الثالثة عشرة :والتين والزيتون ( ).
الرابعة عشرة : والعاديات ضبحاً( ).
الخامسة عشرة : والعصر( ) .
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : أولما أصابتكم مصيبة ليعلم الله المؤمنين ) وفيه وجوه :
الأول : لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار إختبار وإمتحان ، ومن وجوه الإمتحان ما يتعرض له المسلمون عامة فيتجلى حال المخلصين منهم والذين إستقر الإيمان في قلوبهم، وينكشف المنافقون ، ويصيبهم الخزي في الدنيا والآخرة ، ولم يعلم أحد أن المصيبة تنزل بالمسلمين ليتبين لهم من هم المنافقون لولا آيات القرآن وبيانها لعلة إذن الله عز وجل بنزول المصيبة بالمسلمين .
لقد بدأ الإسلام غريباً في مكة ، ولم يكن فيها منافقون ، ولكن حينما ظهر الإسلام في المدينة بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونصر المسلمين في معركة بدر، وقويت شوكة المسلمين.
وصار المسلمون يتمنون لقاء العدو والدفاع عن بيضة الإسلام وبذل النفس والمال في سبيله كما يدل عليه قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ) ظهرت طائفة من المنافقين الذين يتظاهرون بالإيمان ويعلنون دخولهم الإسلام ، ويحضرون صلاة الجماعة خلف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنهم يخفون الكفر ويضمرون الشر للمسلمين ، ويتمنون أن تنزل بهم المصيبة فتفضل الله عز وجل بما لاقاه المسلمون من الخسارة يوم أحد , لتقوم الحجة على المنافقين لأنهم يظهرون بألسنتهم خلاف ما يخفون من الكفر ومفاهيم الضلالة .
الثاني : بيان قانون وهو عند الشدائد يكون التمييز والفصل بين المؤمن والمنافق ، وهل تقع المصيبة من أجل هذا التمييز , الجواب لا ، لأن الله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة ، وهو الذي يفضح المنافقين بسبب أو من غير سبب لذا قدمت آية السياق علة ما أصاب المسلمين بأنه بإذن الله .
وفي الجمع بين الآيتين دعوة للمسلمين للتحلي بالإيمان في كل الأحوال ، والتنزه عن الشك وأوهام الضلالة .
الثالث : من إعجاز نظم القرآن أن قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] ( ) ورد في الآية التالية ، ولم يرد في آية المصيبة , وفيه مسائل :
الأولى : قلة خطر وضعف شأن المنافقين .
الثانية : كشف المنافقين ليس علة تامة لحدوث المصيبة والخسارة للمسلمين .
الثالثة : بيان تعدد أسباب الإمتحان التي يتعرض لها المسلمون ويكشف بها المنافقون .
وفي قوله تعالى [وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ] ( ) ورد (عن زيد بن وهب في قوله { فقاتلوا أئمة الكفر } قال : كنا عند حذيفة فقال : ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة ولا من المنافقين إلا أربعة . فقال أعرابي : إنكم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم تخبروننا بأمور لا ندري ما هي ، فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا ويسرقون اعلافنا؟! قال : أولئك الفساق ، أجل لم يبق منهم إلا أربعة ، أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده) ( ).
الرابع : لما أخبرت الآية السابقة عن منّ الله عز وجل على المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أفاد الجمع بين آية البحث والسياق على لطف ومنّ الله على المسلمين حتى في حال المصيبة ، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
فليس من أمة يخبرها الله عز وجل بأن المصيبة التي أصابتها باذنه تعالى ، وبعد النصر المبين لها في معركة بدر ومصاحبة المنّ والفضل من الله عليهم لهذه المصيبة ، وتنقضي المصيبة في ساعتها ثم تأخذ وطأتها بالتضاؤل والإنحسار خاصة بعد الذكر والإسترجاع ، ولكن منّ الله المصاحب لتلك المصيبة يكون على وجوه :
الأول : البقاء والثبات .
الثاني : النماء والزيادة في الخير .
الثالث : الخلف والعوض بالأحسن من عند الله (عن أم سلمة انها قالت سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله عز وجل انا لله وانا إليه راجعون اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها الا أخلف الله عز وجل له خيرا منها قالت فلما مات أبو سلمة .
قلت : أي المسلين خير من ابي سلمة اول بيت هاجر الي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم اني قلتها فاخلف الله عز وجل لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قالت فارسل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاطب بن ابي بلتعة يخطبني له فقلت ان لي بنتا وانا غيور فقال اما ابنتها فندعو الله عز وجل ان يغنيها وادعو الله ان يذهب الغيرة) ( ).
(عن أبيه ، عن جده ، قال : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت التعزية ، سمعوا قائلا يقول : إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك ، ودركا من كل ما فات ، فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب) ( ).
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : أولما أصابتكم مصيبة يوم التقى الجمعان ) .
من خصائص القرآن الإحاطة بالوقائع والأحداث ولبيانه لتسلسلها الزماني، وفيه مسائل :
الأول : حاجة المسلمين لضبط تواريخ الوقائع في الجملة .
الثانية : لزوم إستحضار المسلمين للوقائع حسب ترتيبها الزماني لما فيه من الحجة وضروب البرهان .
الثالثة : تجلي مصاديق المنّ الإلهي على المسلمين بضبط تأريخ الوقائع.
لقد تضمنت آية البحث الإخبار عن سبق زمان معركة بدر على أوان معركة أحد، فهل هو من الإعجاز التأريخي للقرآن، أم أن القدر المتيقن من هذه السنخية من الإعجاز هو أخبار القرون الماضية والأمم السالفة.
الجواب هو الأول، وقد يحتاج المسلمون ضبط تواريخ وترتيب الوقائع في أيام النبوة الشريفة أكثر من حاجتهم لترتيب وقائع أمم بائدة، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
لقد سمّى القرآن معركة بدر باسمها وأنها نصر عظيم من عند الله , أما معركة أحد فلم تذكر باسمها في القرآن ولكن الله عز وجل سمّاها ( يوم إلتقى الجمعان ) ، وفي إشتراكها مع معركة بدر بذات الاسم نوع إعجاز ومواساة للمسلمين.
ومن الآيات في الأسماء في القرآن أنه لم يسم ملك مصر أيام يوسف عليه السلام بفرعون إذ لم يكن يطلق هذا الاسم على ملك مصر إلا بعد أيام يوسف بنحو مائتي سنة، لذا ورد إسمه في قصة موسى بأنه فرعون في آيات متعددة من القرآن، وفي التنزيل[وَقَالَ مُوسَى يَافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، وأصل هذا الاسم هو برعو، وقيل كان يعني القصر الملكي.
الرابعة : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على منّه وفضله بترتيب الوقائع التي حصلت للمسلمين ، فقد تقدم نصر المسلمين في معركة بدر على خسارتهم في معركة أحد بنحو ثلاثة عشر شهراً وفيه أمور :
الأول : المندوحة في الوقت لإصلاح المسلمين أنفسهم للقاء المعركة اللاحقة .
الثاني : دخول طوائف من الناس الإسلام بعد معركة بدر
الثالث : بلوغ المسلمين درجات رفيعة من العز .
الرابع : تبدد حماس قريش بالثأر لقتلاهم في معركة بدر .
الخامس : عناية المسلمين بزراعاتهم .
السادس : إنتقال المسلمين إلى حال من الغنى بعد الفقر والفاقة ، إذ دخلت إلى المدينة الأموال من وجوه :
أولاً : كثرة الغنائم يوم بدر .
ثانياً : أخذ المسلمين الفداء من أسرى المشركين ، فصارت قريش ترسل الوفود ومعهم الأموال بفكاك أسراهم حتى العباس عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفع فدية عن نفسه وعن ابن أخيه عقيل بن أبي طالب(عن ابن عباس، نزلت في العباس ففادي نفسه بالأربعين أوقية من ذهب)( ).
وكان فداء الأسرى متفاوتاً فمنهم من فدي بأربعين أوقية من الذهب ، ومنهم أقل (قال موسى بن عقبة: وأخذ من العباس مائة أوقية من ذهب.
ومنهم من استؤجر على عمل بمقدار فدائه)( ).
حتى الذي أنتفع من عمله وجهده من الأسرى ولم يؤخذ منه فداء فانه قام بتعليم صبيان المدينة القراءة والكتابة ، وكان كل أسير يعلم عشرة من الصبيان، وفيه شاهد على صدق نزول القرآن من عند الله ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو المسلمين والتابعين وأجيالهم اللاحقة إلى التعليم ويحثهم على الدراسة .
ثالثاً : إشتغال المسلمين في التجارة والضرب في الأرض ، للكسب وهو الذي أغاظ الكفار والمنافقين ، كما ورد قبل بضع آيات بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ] ( ).
وفي الآية أعلاه مسائل :
الأولى : دعوة المسلمين للتجارة والإنتفاع من الغنائم وفداء الأسرى للكسب والمضاربة ومعاملات البيع والشراء.
الثانية : كأن الآية تقول للمسلمين لا تنصتوا إلى أقوال الذين كفروا، ولا تسمعوا لهم ، وجاهدوا في سبيل الله وأضربوا في الأرض للتجارة.
وفي الآية إنذار لكفار قريش بأن رحلة الشتاء والصيف تُسلب منهم وأن المسلمين هم الذين يتولون التجارة .
الثالثة : دعوة الناس لإجراء المعاملات التجارية مع المسلمين حيث الصدق والنزاهة والإمتناع عن اليمين الكاذبة ، والزجر عن التوسل بالأصنام.
وقد سافر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع عمه أبي طالب إلى الشام سنة ثلاث عشرة من بعد واقعة الفيل، ونزلوا قريباً من صومعة بحيرا الراهب فنظر إلى غمامة تضلهم في الطريق حتى أضلت الشجرة التي نزل الركب في ظلها فنزل بحيرا (من صومعته وقد أمر بالطعام فصنع
ثم ارسل إليهم انى قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش وأحب ان تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وعبيدكم وحركم، فقال له رجل منهم والله يا بحيرا ان بك اليوم لشأنا ما كنت تصنع هذا بنا وقد كنا نمر بك كثيرا ما شأنك اليوم، قال له بحيرا صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت ان أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلوا منه كلكم فاجتمعوا إليه.
وتخلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم.
فلما نزل بحيرا في القوم لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده فقال يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي قالوا له يا بحيرا ما تخلف أحد ينبغي له ان يأتيك الا غلام وهو أحدث القوم سنا فتخلف في رحالهم قال لا تفعلوا أدعوه فليحضر هذا الطعام معكم.
فقال رجل من قريش واللات( ) والعزى( ) ان كان للؤما بنا ان يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن طعام من بيننا ثم قام إليه فاحتضنه واجلسه مع القوم.
فلما رآه بحيرا جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من صفته , حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا , قام إليه بحيرا فقال له : يا غلام أسألك بحق اللات والعزى الا ما أخبرتني عما أسألك عنه , وانما قال له بحيرا ذلك لانه سمع قومه يحلفون بهما , فزعموا ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تسألني باللات والعزى شيئا فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما فقال له بحيرا فبالله الا ما أخبرتني عما أسألك عنه.
فقال له سلني عما بدا لك فجعل يسأله عن اشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره ويخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده فلما فرغ اقبل على عمه ابى طالب فقال ما هذا الغلام منك قال ابني قال ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام ان يكون ابوه حيا قال فانه ابن اخي قال فما فعل ابوه قال مات وأمه حبلى به
قال صدقت فارجع بابن اخيك إلى بلده واحذر عليه يهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرا فانه كائن لابن اخيك هذا شأن عظيم فأسرع به إلى بلاده فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى اقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام فزعموا ان نفرا من اهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل ما رأى بحيرا في ذلك السفر الذى كان فيه مع عمه ابي طالب فأرادوه فردهم عنه بحيرا في ذلك وذكرهم الله تعالى وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفاته وأنهم ان أجمعوا لما ارادوا لم يخلصوا إليه حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال فتركوه وانصرفوا عنه)( ).
قال تعالى[وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
ولم يرد لفظ [تَجْعَلُوا اللَّهَ] ولفظ [عُرْضَةً] في القرآن إلا في الآية أعلاه ويحتمل المراد من الصلح المذكور في الآية أعلاه وجهين :
الأول : الصلح والوئام وترك الخصومة والقتال بين المسلمين الذي ورد في قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) ليكون من المطلق والمقيد، وتقييد الثاني للأول .
الثاني : إرادة الإطلاق ، وموضوع الآية أعلاه غير مقيد ، والمختار هو الثاني لذا تقدم عليه في الآية الأمر بالتقوى ليكون الصلح بما يرضي الله عز وجل ، وهو من مصاديق ما تقدم قبل ثلاث آيات [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ]( ).
وفيه مسائل :
الأولى : إنه مصداق لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
الثانية : يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا ويبقى المسلمون يتوارثون الإصلاح بين الناس .
الثالثة : تأديب الله عز وجل للمسلمين بأن القيام بالصلح بين الناس لا يؤدي إلى تأليبهم وتعاضدهم ضد الإسلام والمسلمين .
الرابعة : الآية مصداق لإحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) إذ يأمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالإصلاح بين الناس ، وحقن الدماء ومنع الإقتتال فيما بينهم.
ولما إحتجت الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض بقولهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ) أجابهم الله بالآية أعلاه التي تأمر المسلمين بالإصلاح بين الناس بلباس التقوى لوجوه:
الأول : منع الفتنة بين أهل الأرض.
الثاني : صيرورة هذا الصلح سبباً للتدبر في الخلق.
الثالث : دعوة الناس للهداية والصراط المستقيم، قال تعالى[وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
الرابع : التوقي من الفساد في الأرض الذي حذرت منه الملائكة ، وفي التنزيل [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ).
ومن معاني الجمع بين الآيتين في المسألة الثالثة هذه (أولما أصابتكم مصيبة يوم التقى الجمعان )أمور :
الأول : دعوة المسلمين لأخذ الحائطة والحذر في معارك الإسلام اللاحقة .
الثاني : إحتمال إصابة المسلمين بالمصيبة في معارك لاحقة , والحرب سجال .
الثالث : لزوم شكر المسلمين لله عز وجل لخروجهم من المعركة في سلامة من دينهم، وهل تدل آية البحث على هذه السلامة , الجواب نعم وهو الذي يتجلى بصيغة الخطاب في آية البحث، وعطف السياق على الآية على آية نداء الإيمان بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
فلم يقف المسلمون عند التنزه عن محاكاة الذين كفروا في تحريضهم على القعود، بل خرجوا إلى الدفاع بشوق، قال تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ).
الرابع : دعوة المسلمين لذكر وبيان المصائب التي حلّت بالذين كفروا من جهات :
الأولى : المصائب التي حلت بالذين كفروا في معركة بدر .
الثانية : دخول الحزن والأسى إلى كل بيوت مكة .
الثالثة : دخول طائفة جديدة من أهل مكة الإسلام ، وكان أكثرهم من فئة الشباب الذكور والأناث لبيان موضوعية وشأن المرأة في اللبنات الأولى للإسلام والذي تجلى بأبهى صورة بإيمان خديجة بنت خويلد زوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنفاقها أموالها كلها في سبيل الله .
الرابعة : تعطيل تجارة قريش إلى الشام واليمن , وإنشغال الرجال في التحشيد والتعبئة لمعركة أحد ، ولم تكن تلك المعركة مقصودة باسمها ولكنهم كانوا يسعون لمعركة ثأر ليستأصلوا فيها الإسلام ، فلم تنتهي المعركة إلا عن مصيبة بالمسلمين بما هم مؤمنون مع سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل أو الأسر.
وهل هذه السلامة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) الجواب نعم، فهي من فضل الله وأسباب حفظ وسلامة النبي حتى يتلقى كل آيات وسور القرآن ويقوم بتبليغها ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : أولما أصابتكم مصيبة فبإذن الله ) فيخاطب الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ويقول لهم : إن الخسارة التي تلقيتموها يوم أحد لم تقع إلا من عند أنفسكم وبإذن مني ، وهل يبلغ الشهداء هذا القول من عند الله أم أنه خاص بالأحياء من المسلمين.
الجواب هو الأول لأن الشهداء أحياء عند الله عز وجل.
وعلى المختار بأنهم يعلمون بنزول هذه الآية ومضامينها وإن استشهدوا قبله ، فيحتمل علم الشهداء بهذه الآية من جهة أوانه وجوهاً :
الأول : علم شهداء أحد بآية البحث ساعة استشهادهم ، وهو من إكرام الله عز وجل لهم كما يدخلون الجنة قبل الأنبياء عامة المؤمنين.
الثاني : علم الشهداء بآية البحث ومضامينها ساعة نزول جبرئيل بها .
الثالث : لما أخبر جبرئيل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بآية البحث علم الشهداء بها .
الرابع : لم يعلم الشهداء بآية البحث إلا بعد أن قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغها للمسلمين .
والمختار هو الأخير لأن الوحي بالقرآن من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن إعجاز القرآن الغيري جعل المسلمين يلجأون إليه ويصدرون عنه حتى في ساعة المصيبة ، فمن طبع الإنسان الإنقباض والجزع عند المصيبة والعزوف عن النصيحة والدعوة إلى تقبل المصيبة بالرضا ولكن القرآن قاهر للطبائع غير الصحيحة، وهذا القهر من مصاديق تلاوة المسلمين عدة مرات في اليوم وعلى نحو الوجوب العيني لقوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) فما دامت المصيبة بإذن الله فان المسلمين يتلقونها بالقبول والرضا .
وهل قوله تعالى [فَبِإِذْنِ اللَّهِ] شاهد على الأجر والثواب على المصيبة الجواب نعم .
قال تعالى [مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ]( ).
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : أصابتكم مصيبة في معركة أحد ليعلم الله المؤمنين ) .
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً وأنزل معه المعجزات الحسية التي كانت تترى على يديه من غير إنقطاع وهذه الكثرة في المعجزات وجلاؤها وظهورها وإتصافها بالتحدي وعجز الخلائق عن الإتيان بمثلها من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) فكل معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي رحمة بالناس عقلية كانت أو حسية والذي لا يتعظ من معجزة تأتيه الأخرى وتلح عليه ثالثة وتنفذ رابعة إلى شغاف قلبه .
ومن أسماء الله عز وجل العالم والعليم، وعلام الغيوب، وهو سبحانه يعلم ما كان وما يكون , ويثني الله عز وجل على نفسه في القرآن بقوله[يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى]( ) .
فجاءت الآية لبيان الإرادة تمييز الصادق في إيمانه عن الكاذب فيما يدعيه من الإيمان أي الثواب المؤمن، وكشف المنافق والكاذب ، وفيه دلالة على أن عدد المؤمنين في زيادة وانهم يستطيعون الذب عن النبوة والتنزيل ، وملاقاة الذين كفروا في ميدان القتال ، ومنتديات الإحتجاج لتتضمن المصيبة يوم أحد أموراً :
الأول : الشهادة للمسلمين ببلوغ مرتبة الإيمان .
الثاني : كشف المنافقين والذين يدّعون مرتبة الإيمان كذباً وزوراً .
الثالث : حث المسلمين على الإحتراز للمعارك اللاحقة .
وهل كان حضور للمنافقين في معركة الخندق التي وقعت بعد معركة أحد بنحو سنتين، الجواب نعم، قال تعالى[وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ]( ) أي تّمّرنوا واعتادوا عليه وصار سجية لهم .
(وفي المثل : تمرّد مارد وعزّ الإباق)( ).
(عن ابن جريج في قوله {مردوا على النفاق} قال : ماتوا عليه عبد الله بن أبي ، وأبو عامر الراهب ، والجد بن قيس)( ).
ولكن هذا القول من القياس مع الفارق بين الأفراد الثلاثة أعلاه ، فقد كان عبد الله بن أبي والجد بن قيس مع المسلمين ويحضرون صلاة الجماعة ، أما أبو عامر الراهب فأمره مختلف واسمه عبد عمرو بن صيفي وكان رأس في الجاهلية , ودخل دين النصارى وترهب، ودعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام فأبى عليه.
ولم يكتف أبو عامر بالإمتناع عن دخول الإسلام.
وأخذ يجاهر بعداوته لرسول الله ، فدعى عليه صلى الله عليه وآله وسلم ، لقد أغاضه الناس من حوله ودخولهم الإسلام وحضورهم الصلوات اليومية الخمسة ، ثم جاءت معركة بدر بنصر مبين للمسلمين وتغير وجه المدينة باشراقة الإيمان المقرون بالنصر والعز والتحدي وجذب الناس إلى الهدى .
فخرج من المدينة قاصداً مكة وأخذ يحرض كفار قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويذكّرهم بثارات بدر ويحثهم على قتال النبي والمسلمين ،ووعدهم أن قومه من الأوس سيميلون إليه في القتال لأنه سيدهم و(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تقولوا الراهب ولكن قولوا الفاسق)( ).
وكان من أوائل الذين برزوا بعد حامل لواء المشركين فحينما إقترب الفريقان بعضهم من بعض وصار رماة المسلمين يرشقون خيل المشركين بالنبل تولوا هاربين فبرز طلحة بن أبي طلحة صاحب لواء المشركين وقال : أنا قاصم من يبارزني .
ويبدو أنه من أعراف القتال آنذاك إذا برز أحدهم وطلب المبارزة لا يرمي في الغالب بالسهام والنبال إنما يتقدم له أحد الفرسان والشجعان من الطرف الآخر .
ولم يخرج إليه أحد من المسلمين ، وأخذ يكرر عبارته أنا قاصم ثم أضاف (يا اصحاب محمد زعمتم ان قتلاكم إلى الجنة وان قتلانا في النار كذبتم واللات لو تعلمون ذلك حقا لخرج إلي بعضكم فخرج إليه علي بن أبي طالب فاختلفا ضربتين فقتله علي عليه السلام)( ).
وبرز أبو عامر الراهب من صف المشركين وتعرف على قومه ، وعرفّهم نفسه ، ونادى بعضهم بأسمائهم ودعاهم إليه ( فقالوا له : لا أنعم الله لك عيناً يا فاسق ، فقال : لقد أصاب قومي بعدي شر.
ثم قاتل المسلمين قتالاً شديداً ولم يقاتل عبد الله بن أبي أو جد بن قيس المسلمين ، وإن وردت آيات عديدة في ذمهم كمنافقين ، وإنسحب عبد الله بن أبي من الشوط في سير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة أحد ، وجاءت آية بذم فعل جدّ بن قيس في معركة الخندق من غير ذكر اسمه في الآية أو تفسيرها من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ونزل في أبي عامر قوله تعالى[وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ]( ) إذ كان يكتب للمنافقين ويمنيهم فبنوا مسجداً ضراراًَ , وبنوه في الظاهرة في حي بني سليم، قريبا من مسجد قباء , والضرار إلى السعي في الإضرار، وسيأتي إن شاء الله بحث مستقل عن مسجد ضرار , الذي أراد المنافقون أن يكون محل إجتماعهم للتأليب على المسلمين.
إعجاز الآية الذاتي
لقد تكررت في آية البحث مادة (أصاب) ثلاث مرات وهي :
الأولى : أصابتكم .
الثانية : مصيبة .
الثالثة : أصبتم .
ويمكن أن تسمى آية البحث آية السلامة من المصيبة ، فان قلت لماذا لا تسمى آية المصيبة ، الجواب نزلت آية البحث لأمور :
الأول : تذكير المسلمين بمصيبة الذين كفروا يوم بدر .
الثاني : رفع ضرر مصيبة واقعة أحد عن المسلمين .
الثالث : تهيئة أذهان المسلمين لوقائع في قادم الأيام ، فقد كان المشركون يطلبون الثأر ، ويريدون الإنتقام والإجهاز على الإسلام .
ومن مفاهيم القتال دلالة النصر على القوة والتفوق على العدو ، ودلالة الخسارة على الضعف والقلة في العدد أو العدة أو هما معاً في ملاقاة العدو .
ولكن القرآن جاء بمفاهيم جديدة يتجلى فيها الإعجاز منها :
الأول : يأتي النصر بمعجزة وفضل من عند الله خلافاً للأسباب والحساب .
الثاني : موضوعية الدعاء في تحقيق النصر وقد إجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء في ليلة معركة بدر ويومها، وهل من موضوعية لدعاء النبي يومئذ في نزول قوله تعالى[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ) .
الجواب نعم، وأخرج ابن عساكر عن مكحول لما كان يوم بدر سمعنا صوتاً وقع من السماء إلى الأرض كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحصباء وقال : شاهت الوجوه . فانهزمنا ، فذلك قول الله تعالى {وما رميت إذ رميت})( ).
الثالث : صيرورة خسارة المسلمين في معركة أحد نصراً لهم ببركة آيات القرآن، وما فيها من البيان والمنّ من الله عز وجل.
من إعجاز الآية مجيؤها بصيغة الماضي فيما يخص المصيبة والبلاء لبيان إنقطاعها وإنتهاء موضوعها ، وإن كان أثر المصيبة أعم من وقعها ، ولم تقل الآية (إذا اصابتكم مصيبة)وما يدل عليه من إحتمال تجدد المصيبة.
ومن الإعجاز في التوافق والإنسجام بين التنزيل وبيان السنة النبوية له قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد (لن ينالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن)( ).
إذ ورد عن كعب بن مالك (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قد عطش يومئذٍ عطشاً شديداً، ذهب محمد إلى قناة وأخذ سقاءه حتى استقى من حسىٍ قناة عند قصور التيميين اليوم فأتي بماءٍ عذبٍ فشرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ودعا لمحمد بن مسلمة بخير. وجعل الدم لا ينقطع، وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يقول: لن ينالوا منا مثلها حتى تستلموا الركن .
فلما رأت فاطمة الدم لا يرقأ وهي تغسل الدم، وعلي عليه السلام يصب الماء عليها بالمجن أخذت قطعة حصيرٍ فأحرقته حتى صار رماداً، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم. ويقال إنها داوته بصوفةٍ محترقة. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بعد يداوي الجرح الذي في وجهه بعظمٍ بالٍ حتى يذهب أثره.
ولقد مكث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يجد وهن ضربة ابن قميئة على عاتقه شهراً أو أكثر من شهر، ويداوي الأثر الذي بوجهه بعظمٍ بالٍ)( ).
وظاهر الحديث أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان يكره القول بأن قريشاً لن يصيب من المسلمين مثل المصيبة التي حلت بهم يوم أحد ، وفيه مسائل :
الأولى : مواساة المسلمين .
الثانية : البشارة بالنصر .
الثالثة : طرد اليأس والقنوط عن نفوس المسلمين .
الرابعة : منع طرو الكآبة على مجتمعات المسلمين .
الخامسة : بعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا .
السادسة : دلالة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لن ينالوا منا مثلها) على تحسن أحوال المسلمين وكثرة عددهم وإزدياد عددهم وتنامي قوتهم قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
السابعة : منع ظهور الفتنة والشقاق واللوم والتوبيخ بين المسلمين .
الثامنة : قطع الطريق على المنافقين ، وزجرهم وجعلهم عاجزين عن الشماتة بالمسلمين .
ولقد تقدم قبل تسع آيات قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ] ( ) .
فجاء قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإعانة المسلمين ومنعهم من محاكاة الذين كفروا في قولهم وتحريضهم المسلمين لتكون بشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في الأمن والسلامة من تكرار مصيبتهم في معركة أحد تعضيداً وعوناً للمسلمين للإمتناع عن محاكاة الذين كفروا والمنافقين.
ليتجلى قانون وهو تعضيد السنة النبوية للآية القرآنية وإعانة المسلمين للعمل بمضامينها.
لقد وصفت الآية السابقة المسلمين بأنهم مؤمنون بقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ] ( ).
وأخبرت عن منّ الله عز وجل عليهم لتأتي بعدها آية تخبر عن نزول المصيبة بالذين منّ الله عليهم لبيان أن الدنيا تجمع المتناقض وتفرق المجتمع ، وتقرب البعيد ، وتبعد القريب ، وما يجهله الإنسان من البلاء أكثر مما يعلمه.
وهو من ضروب حاجته في الدنيا ولزوم لجوئه إلى الدعاء ، فلذا جاءت آيات القرآن بالإسترجاع عند المصيبة ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
ويمكن تسمية آية البحث آية(أولما أصابتكم) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية، وورد لفظ(أصابتكم) ثلاث مراتب في القرآن، كل واحدة منها خطاب للمسلمين( ).
إعجاز الآية الغيري
لقد إبتدأت آية البحث بالخطاب والإستفهام من المسلمين عما أصابهم يوم معركة أحد ، وهو من فضل الله عز وجل لإعانتهم على التدبر في حالهم ومعرفة أسباب الخسارة لتداركها ، وفيه شاهد بأن الله عز وجل لم يترك المسلمين منفردين يلاقون المصائب وحدهم : بل تفضل وشد عضدّهم بآية البحث التي حلت بساحتهم يوم أحد ، وتبين أسبابها الذاتية فلولا قصور من المدافعين أنفسهم لما وقعت هذه المصيبة ، إذ كانت بداية المعركة نصراً حاسماً للمسلمين لا يختلف عن بدايات معركة أحد ، ففي يوم معركة بدر كان النبي ينتظر ما يفعله المشركون.
ومن الآيات أن المسلمين منقادون لأوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يفعلون يومئذ إلا ما يأمرهم ، وهو من مصاديق الآية السابقة [رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ] ( ).
فخرج عتبة بن ربيعة وهو أبو هند زوجة أبي سفيان وأم معاوية ابن أبي سفيان ، ومع عتبة أخوة شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة وهم من وجوه قريش فتجاوزوا الصف وصاروا بين الفريقين ، ونادوا للمبارزة فكانت الشرارة الأولى للحرب ، وإيذاناً بأن المشركين لن يرضوا بالهدنة أو الصلح أو التسوية مع أن موضوع القتال معدوم إذ أرسل أبو سفيان لهم بأن قافلته صارت في أمان وأنه متوجه بها إلى مكة , وكانت ألفاً من العير المحملة بالبضائع ، فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعوتهم إلى المبارزة ، وبادر ثلاثة من شباب الأنصار إلى لقائهم وهم عوف ومعاذ إبنا الحارث وعبد الله بن رواحة .
فقالوا من أنتم ؟ انتظروا أن يعرفوا بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم، ولكنهم قالوا : نحن رهط من الأنصار , وفيه مسائل :
الأولى : موعظة لكفار قريش فاذا كان أهل المدينة ينصرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويفدونه بأرواحهم ، فمن باب الأولوية أن أبناء عمومته من قريش يذبون عنه أو لا أقل لا يقاتلونه .
الثانية : بيان حقيقة وهي رسوخ الإسلام ، وتنظيم مجتمعات المسلمين وفق التقسيم القرآني المبارك إلى مهاجرين وأنصار، قال تعالى[وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ]( ).
الثالثة : إرادة بيان قانون وهو أن الذين كفروا لا يستطيعون القضاء على الإسلام ، فقد إستقر في النفوس والمجتمعات .
الرابعة : إخبار قريش بأن الأنصار يقاتلونكم جميعاً ، وأن الأوس والخزرج يلبون نداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للجهاد ، وفيه إنذار لكفار قريش للتوقف عن القتال .
الخامسة : لتسمية الأنصار أسرار خاصة ، فهم عازمون على نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأي حال من الأحوال أما الذين كفروا فليس لهم من ناصر.
(وَالْأَنْصَارُ : جَمْعُ نَاصِرٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ فِي جَمْعِ فَاعِلٍ وَلَكِنْ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْأَلِفِ مِنْ نَاصِرٍ لِأَنّهَا زَائِدَةٌ فَالِاسم عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِهَا : ثُلَاثِيّ وَالثّلَاثِيّ يُجْمَعُ عَلَى أَفْعَالٍ وَقَدْ قَالُوا فِي نَحْوِهِ صَاحِبٌ وَأَصْحَابٌ وَشَاهِدٌ وَأَشْهَادٌ .
وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ – صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ – لِلنّفَرِ مِنْ الْأَنْصَارِ : أَمِنْ مَوَالِي يَهُودَ أَنْتُمْ ” ؟ أَيْ مِنْ حُلَفَائِهِمْ وَالْمَوْلَى يَجْمَعُ الْحَلِيفَ وَابن الْعَمّ وَالْمُعْتَقَ وَالْمُعْتِقَ لِأَنّهُ مَفْعَلٌ مِنْ الْوِلَايَةِ وَجَاءَ عَلَى وَزْنِ مَفْعَلٍ لِأَنّهُ مَفْزَعٌ وَمَلْجَأٌ لِوَلِيّهِ فَجَاءَ عَلَى وَزْنِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ.
وَذَكَرَ النّفَرَ الْقَادِمِينَ فِي الْعَامِ الثّانِي الّذِينَ بَايَعُوهُ بَيْعَةَ النّسَاءِ وَقَدْ ذَكَرَ اللّهُ تَعَالَى بَيْعَةَ النّسَاءِ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللّهِ شَيْئًا}( ) الْآيَةَ فَأَرَادَ بِبَيْعَةِ النّسَاءِ أَنّهُمْ لَمْ يُبَايِعُوهُ عَلَى الْقِتَالِ وَكَانَتْ مُبَايَعَتُهُ لِلنّسَاءِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِنّ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ فَإِذَا أَقْرَرْنَ بِأَلْسِنَتِهِنّ قَالَ قَدْ بَايَعْتُكُنّ وَمَا مَسّتْ يَدُهُ يَدَ امرأة فِي مُبَايَعَةٍ…)( ).
الآية سلاح
من خصائص الحياة الدنيا تعاقب أيامها، وكل يوم يأتي معه الفرح أو الحزن أو هما معاً , فقد يبدأ اليوم بالغبطة والسعادة وينتهي بالحزن أو بالعكس لذا دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين إلى التوقي من البلاء وأسباب الحزن .
ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم : باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطى الصدقة)( ).
ويأتي الفرح والحزن على نحو القضية الشخصية أو العامة التي تتغشى الجماعة والطائفة والأمة ، ووقائع الإسلام مما يتغشى الأمة بأجيالها المتعاقبة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) فما نزل بالمسلمين يوم معركة أحد أمر يحزن كل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة، وهو حال وشأن لم يقع لأمة من الأمم.
ومن إعجاز القرآن أن صارت معركة أحد أكثر معارك الإسلام التي ذكرت في القرآن ، فان قلت أن النصارى يذكرون مصيبة السيد المسيح ، الجواب نعم ، وقد ذكر القرآن ما لاقاه عيسى عليه السلام والأنبياء الآخرون من قومهم من الأذى , ولكن الآية القرآنية تجعل الواقعة حية طرية في كل زمان .
ومن خصائص الآية القرآنية أنها سلاح من جهات :
الأولى : الآية القرآنية سلاح شخصي فتحفظ حاملها وتاليها من الشرور.
الثانية : الآية القرآنية حرز للجماعة والطائفة والأمة ، وقد شرّع الله عز وجل صلاة الجماعة وكان رسوله الكريم هو الإمام في الفرائض اليومية الخمسة أيام حياته .
وقيل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سهى يوماً في صلاته كيلا يحرج إمام الجماعة إذا سهى في الصلاة ويمتنع عن الخروج إلى الشارع أو الحضور إلى المسجد ، ومما هو ثابت عند المسلمين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقوم بنفسه بامامة الصلوات اليومية الخمسة , وهو معصوم, بينما ليس من إمام جماعة إلا ويوكل غيره في كل بضعة أيام أو أيام معدودة ومن غير سفر أو غياب وأمر قهري، وقد قال تعالى[كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
الثالثة : الآية القرآنية حفظ لأحكام الشريعة وباعث للمسلمين للعمل بها.
الرابعة : الآية القرآنية آلة للتذكير، وسلاح ضد السهو والنسيان .
الخامس : من المعاني القدسية والغايات السامية للآية القرآنية أنها سلاح ضد الفرقة والإختلاف .
السادسة : الآية القرآنية سلاح لتهذيب اللسان وحجبه عن الغيبة والنميمة والكلام القبيح مطلقاً .
وتشمل هذه البركة والمعجزة الغيرية للقرآن أفراداً :
الأول : الذي يتلو الآية القرآنية .
الثاني : الذي يستمع للآية القرآنية عن قصد ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الثالث : الذي يسمع الآية القرآنية عرضاً من غير قصد الإستماع .
الرابع : الذي ينقل له خبر تلاوة الآية القرآنية .
الخامس : الذي يقرأ الآية القرآنية في المصحف أو في الكتب والصحف أو يقرأ تلاوة المسلم لها فيتعظ من قراءته.
وهل من قاعدة ثابتة في مراتب الإنتفاع من التلاوة بين الخمسة أعلاه ، والجواب لا ، وهو من إعجاز القرآن ومصاديق عموم الرحمة الإلهية ببعثة النهي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
مفهوم الآية
إبتدأت آية البحث بذكر مصيبة نزلت بالمسلمين ويدل ظاهر الآية على أن هذه المصيبة عامة عند المسلمين بخسارتهم في معركة أحد ليدل هذا التعيين على قانون وهو قلة المصائب التي نزلت بالمسلمين، والخسائر التي تعرضوا لها .
ومن كتاب للإمام علي عليه السلام (إلى عبد الله بن العباس: أما بعد فإنك لست بسابق أجلك ولا مرزوق ما ليس لك واعلم بأن الدهر يومان يوم لك ويوم عليك وأن الدنيا دار دول فما كان منها لك أتاك على ضعفك وما كان منها عليك لم تدفعه بقوتك) ( ).
لقد ذكرت الآية التالية أن المصيبة والخسارة الجسيمة وسقوط سبعين شهيداً من المسلمين في معركة أحد إنما هو[فَبِإِذْنِ اللَّهِ]( ) وفيه مسائل :
الأولى : سلامة المسلمين من الإفتتان بالمشركين وقوتهم .
الثانية : تحصين المسلمين وسلامتهم من الإرتداد .
الثالثة : تنمية ملكة الإحتجاج عند المسلمين .
الرابعة : زيادة إيمان المسلمين وتفويض أمورهم إلى الله .
الخامسة : الإكثار من الإسترجاع وذكر الله .
السادسة : الدعاء وسؤال النصر من الله، وسلامة المسلمين من تجدد وتكرار الخسارة .
السابعة : قطع حبل الشماتة عن المشركين لما أصاب المسلمين، إذ يرون المسلمين لم يهنوا ولم يضعفوا مع المصيبة، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ]( ).
الثامنة : تفقه المسلمين في المعارف الإلهية ، وإدراك قانون من الإرادة التكوينية وهو لا يقع أمر في الأرض إلا بإذن الله ، وأنه سبحانه قد يأذن بنزول المصيبة بالمسلمين لمصلحة ومنافع هو أعلم بها، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن منّ الله عز وجل على المسلمين أنه ذكر مع مصيبة المسلمين في معركة أحد نصرهم المبين في معركة بدر وأنهم كسبوا فيها ضعف ما خسروا يوم أحد، لتأتي الأيام بالفتح للمسلمين ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ) فتكون حال المسلمين على الترتيب الآتي :
الأول : نصر مبين يوم بدر .
الثاني : مصيبة المسلمين يوم أحد .
الثالث : سلامة المسلمين يوم الخندق .
الرابع : الفتح للمسلمين يوم صلح الحديبية ثم فتح مكة .
لتكون آية البحث مواساة للمسلمين ودعوة لهم للصبر ، وفي التنزيل [فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا] ( ).
لقد تساءل المسلمون فيما بينهم كيف وقعت المصيبة وخسرنا في معركة أحد ، والله عز وجل قد وعدنا النصر وبه بشرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتفضل الله عز وجل وأجاب المسلمين على تساؤلهم واستغرابهم ودهشتهم ، وهو من إكرام الله عز وجل لهم ومنّه عليهم.
ثم تفضل الله عز وجل وبيّن للمسلمين أسباب الخسارة يوم أحد ، وعائديتها لهم ، وأنهم السبب في نزولها بهم ، وهو غاية التأديب والإصلاح ليكون من مفاهيم آية البحث: قل هو من عند أنفسكم فلا تعودوا لمثله.
وهل يكون من وجوه الآية الكريمة دعوة المسلمين للمقارنة بين حالهم التي جلبت النصر يوم بدر وحالهم التي صارت سبباً للخسارة يوم أحد ، الجواب نعم , وفيه مناسبة للإرتقاء في الدراسات المقارنة .
وأختتمت آية البحث بقوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] لبيان قرب النصر من المسلمين لأن الله عز وجل قادر عليه وهو سبحانه يحب الرسول ويحب المؤمنين ، وفي فتح خيبر ورد عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار يفتح الله عليه جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره فبات الناس متشوقين فلما أصبح قال أين علي قالوا يا رسول الله ما يبصر قال ائتوني به فأتي به فقال له النبي ( صلى الله عليه و سلم ) ادن مني فدنا منه فتفل في عينيه ومسحهما بيده فقام علي من بين يديه كأنه لم يرمد قط)( ).
الآية لطف
إبتدأت آية البحث بالإستفهام الإنكاري في خطاب من عند الله عز وجل إلى المسلمين ، ويحتمل في موضوعه وجوهاً :
الأول : إرادة التوبيخ والتبكيت لما فيه من الإنكار .
الثاني : المقصود الإكرام .
الثالث : التأديب والإصلاح .
الرابع : بيان علة وسبب ما أصاب المسلمين .
والصحيح هو الثاني والثالث أعلاه , وهو من اللطف الإلهي بالمسلمين ، فليس من ملازمة بين الإستفهام الإنكاري وبين التوبيخ ونحوه ، إنما جاء هذا الإستفهام من الله عز وجل إلى المؤمنين بالتوحيد والنبوة والتنزيل وهم في حال مصيبة وأذى لحقهم بسبب إخلاصهم في طاعته , ودفاعهم عن شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام .
وفي حديث (عن أبي سعيد : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، وجبت له الجنة)( ).
وهل يشمل اللطف من الله عز وجل في بداية البحث غير المسلمين ، الجواب نعم ، لما فيه من الترغيب في الإسلام والزجر عن الجحود بالنبوة أو التعدي على حرمات المسلمين .
ويتجلى اللطف بتقدير الآية : أولما أصابتكم مصيبة في سبيلي وإتباع رضواني) ليكون هذا اللطف من مصاديق ما ورد قبل آيتين بقوله تعالى [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ]( ) وبيان أن تلقي المصيبة في مرضاة الله إنما هو درجة ورفعة.
ومن اللطف في آية البحث إقتران ذكر النصر في معركة بدر بالخسارة في معركة أحد أي أن المسلمين لم ينهزموا في معركة أحد ، ولم يخسروا تلك المعركة إنما نزلت بهم خسارة في الأرواح والإبدان وحرمان من النصر والغنائم الكثيرة فهو مصيبة وليس هزيمة .
وهو من اللطف الإلهي في آية البحث والإعجاز في كلمات الآية والتذكير بالنصر والنعمة العظيمة المستديمة عند المصيبة يخفف من وطأة المصيبة ، وتقدير آية البحث : أولما أصبتم أضعاف هذه الخسارة).
إن الله عز وجل يعلم ما سيلقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يوم معركة أحد , ومن قبل أن يخلق آدم ، ويعلم أن مصيبتهم في معركة أحد هي من لطفه تعالى بهم ، قال تعالى [أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ]( ).
فقرنت الآية أعلاه علم الله بأحوال باسم من أسمائه عز وجل وأنه هو اللطيف الخبير الذي يعلم الخير للمسلمين في كل من :
الأول : معركة بدر ونصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فيها ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الثاني : خسارة المسلمين في معركة بدر .
الثالث : الجمع بين نصر المسلمين في معركة بدر , وخسارتهم في معركة أحد .
ومن مصاديق لطف الله بالناس أنه يحسن إليهم ويدفع عنهم من حيث لا يعلمون ، ويأتيهم بالمنافع من حيث لا يحتسبون ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا]( ).
ومن الإعجاز أن مضامين الآيتين أعلاه تنطبق على معركة أحد , وتفيد الإخبار بأن العاقبة هي النصر للمسلمين , وتبشرهم بالمخرج والسبيل لتدارك الخسارة في معركة أحد , وصيرورتها سبباً للنصر في المعارك اللاحقة ، وفيه بعث للمسلمين للتوكل على الله سبحانه ، والتنزه من الشك وأسباب الريب ، فلا يظن بعضهم أن الله عز وجل ترك نصرهم ، ومن الإعجاز في إمامة القرآن للمسلمين نزول قوله تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى] ( ) وهو في مكة .
(عن ابن عباس قال : لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القرآن أبطأ عنه جبريل أياماً ، فعير بذلك ، فقال المشركون : ودعه ربه وقلاه، فأنزل الله {والضحى* والليل إذا سجى}( ) يعني أقبل { ما ودعك ربك وما قلى})( ).
لبيان قانون أن الله عز وجل لن يترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة ولن يترك الذي نصروه واتبعوه ، فجاءت آية البحث لتتضمن اللطف من عند الله من جهات :
الأولى : بيان أسباب خسارة المسلمين في معركة أحد .
الثانية : رضا الله عز وجل عن المسلمين وعدم ترتب خسارتهم يوم معركة أحد عن غضب أو سخط من عند الله ، وهو من الإعجاز في نظم آيات القرآن ، ومن تقدم قبل آيتين [كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
فخروج المسلمين لمعركة أحد من اتباع رضوان الله عز وجل , وقدوم المشركين للقتال سبب لسخط الله عليهم .
الثالثة : تجديد ذكرى النصر في معركة بدر ، ودعوة المسلمين لأمور :
الأول : المناجاة بالنصر في معركة بدر .
الثاني : ذكر وقائع معركة بدر .
الثالث : سلامة المسلمين في معركة بدر من مخالفة أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : سرعة النصر في معركة بدر .
الخامس : الغنائم العظيمة التي جلبها المسلمون للمدينة في معركة بدر.
ومن الإعجاز في السنة الدفاعية أن تلك الغنائم لم تنقطع عند دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بها إلى المدينة ، فقد كانت توليدية ،ومنها البدل والعوض الذي أخذه المسلمون من الذين كفروا عن الأسرى ، وكان بالدينار الذهبي والدرهم الفضي ، وبمقادير من الأوقيات ، وتساوي الأوقية الواحدة أيام النبوة أربعين درهماً .
وقد تعني الأوقية الأونصة , وهي جزء من اثني عشر جزء من الرطل .
الرابعة : دلالة آية البحث بأن الله عز وجل لم ولن يترك النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وأخبرت الآية التالية بأن ما لحق المسلمين من الخسارة يوم أحد هو [فَبِإِذْنِ اللَّهِ] لبيان قانون وهو عدم ترك الله عز وجل لهم.
ليكون من معاني الآية: وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وسينتقم لكم) كما سيأتي بيانه في الجزء التالي وهو الثالث والخمسون بعد المائة( ).
الخامسة : بيان علة الخسارة، وهي مخالفة الرماة لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وإنهزم أكثر المسلمين وفيه دعوة للمسلمين للتقيد بطاعة الرسول في ميدان المعركة ، وفي التنزيل [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ]( ).
إفاضات الآية
من فضل الله عز وجل على العبادة أنه لطيف بهم يقرب إليهم مصالحهم ويغفلون عن منافعهم فتأتيهم طوعاً وإنقياداً ويوصلهم إلى مآربهم وحاجاتهم بيسر ورفق يضئ لهم سبل الهداية في أمور الدين والدنيا ، ويفيض عليهم البركة ويتفضل بنشر المناقب وستر المثالب ، ويلطف بالمؤمنين فيجعل الإفاضات المتجددة تترشح عن الآية القرآنية ومنها آية البحث التي تتضمن الإخبار عن واقعة أحد وإصرار كفار قريش على القتال فيها ، وتكبد المسلمين الخسائر الفادحة من غير أن يخسروا المعركة أو ينهزموا فيها لبيان قانون وهو : أن الأنبياء وأصحابهم قد يلاقون الأذى والخسارة ويبتلون بالأضرار من العدو ولكنهم بعين الله .
لقد نزلت بالمسلمين يوم معركة أحد مصيبة عظيمة فجاءت آية البحث لتدعوهم إلى الشكوى إلى الله عز وجل ، وهذه الشكوى فرع الصبر ورشحة من رشحاته ، وقيل لبعضهم : كيف تشكو إلى الله ما ليس يخفى عليه؟
ولكن الله يحب الذين يشكون إليه ويفيض عليهم من فضله ، وقد جاء القرآن بشكوى الأنبياء إلى الله عز وجل ، كما في يعقوب عليه السلام إذ ورد حكاية عنه في التنزيل[قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ]( ) وقد دعا الله عز وجل المسلمين والمسلمات إلى الإقتداء بالأنبياء في مناهجهم وسننهم ، قال سبحانه[فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
وفي السنة النبوية آيات من الشكوى إلى الله سبحانه ، فبعد أن توفى عمه أبو طالب واشتداد أذى قريش له خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف ماشياً على قدميه فلم يجيبه أهل الطائف ، وأمروا صبيانهم برميه بالحجارة.
وورد عن عبد الله بن جعفر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى ظل شجرة فصلى ركعتين ثم قال : اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين
إلى من تكلني إلى عدو يتجهمني أم إلى قريب ملكته أمرى إن لم تكن ساخطًا علىَّ فلا أبالى غير أن عافيتك أوسع لي.
أعوذ بنور وجهك الكريم الذى أضاءت له السموات وأشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علىَّ غضبك أو ينزل بى سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك) ( ).
لقد أنزل الله عز وجل ملائكة من السماء مدداً ونصرة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة أحد ، وتفضل وأنزل آية البحث مدداً وعوناً بعد المعركة لبيان قانون وهو تعدد وإتصال مدد ونصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في كل أوان وواقعة[وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ]( ).
ومن فيوضات آية البحث إخبارها في أوان المصيبة بالنصر العظيم في معركة بدر، وتقدير الآية : أولما أصابتكم مصيبة بالنصر العظيم في معركة بدر.
وتقدير الآية : أولما أصابتكم مصيبة بعد أن أفاض الله عليكم في معركة بدر وما بعدها .
لقد دخل المسلمون معركة أحد بحضور الآيات التي نزلت بخصوص معركة بدر وإفاضات ذات المعركة وآياتها في الوجود الذهني والواقع الميداني، فخرجوا منها وتلك الآيات والإفاضات مصاحبة لهم مع إرتقاء في المعرفة الإلهية بالجمع بين النصر والخسارة ليكون كل واحد منها واقية من الهزيمة أو تجدد الخسارة ، وهو من اللطف الإلهي ببيان أن علة الخسارة يوم أحد من عند المسلمين أنفسهم .
وأختتمت آية البحث بقانون يفيض بالبركة في النشأتين ، وهو قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ].
ليتطلع المسلمون إلى فضل الله عز وجل بمحو أضرار معركة أحد عنهم، وهل هذا المحو من الإفاضات، الجواب نعم، بلحاظ أنه أمر وجودي، ولا يقدر على هذا المحو إلا الله عز وجل ، وفي التنزيل [وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ] ( ).
الآية بشارة
من إعجاز القرآن مجيء البشارة للمؤمنين في ثنايا الإخبار عما نزل بهم من المصائب ، والإنذار للذين كفروا مع ما يكسبون في الدنيا.
فقد خسر المسلمون في معركة أحد وكانت خسارتهم في النفوس وسقوط الشهداء وهزيمة كثير منهم من وسط ميدان المعركة ، ولكنهم لم يخسروا المعركة ولم يفروا منها ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقي وسط المعركة , واستمر لواؤه خفاقاً يدعو الناس إلى الإيمان والهدى ومن الآيات عدم إنقطاع هذه الدعوة إلى يوم القيامة.
وقد نزل خطاب إلى إبراهيم من عند الله عز وجل بقوله [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ) وقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ببقاء لوائه يوم معركة أحد يخفق فوق رأسه وسط الميدان مع صيرورة الجولة للذين كفروا .
ترى كيف يمكن تصور هجوم ثلاثة آلاف رجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس معه إلا عدد قليل من أهل بيته وأصحابه بنحو أحد عشر أو أقل وبقوا في مكانهم يقاتلون ويرمون بالسهام ويدفعون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتكون آية البحث بشارة بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه إلا من أستشهد بدليل لغة الخطاب فيها [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ] أي أن المسلمين يتلقون الخطاب القرآني بصيغة الإيمان .
وتجددت في آية البحث البشارة بالنصر في معركة بدر من جهات :
الأولى : التذكير بمعركة بدر ونصر المسلمين فيها , وبينما جاءت الآيات بنسبة النصر في معركة بدر إلى الله تعالى بقوله سبحانه [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) أخبرت آية البحث عن نسبة الإصابة والكسب في المعركة إلى المسلمين بقوله تعالى [قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا] ( ).
وليس من تعارض بين نسبة النصر في معركة بدر إلى الله ، وبين إصابة وكسب المسلمين فيها، ويكون تقدير آية البحث بحسب هذا اللحاظ على وجوه :
الأول : قد أصبتم مثليها يوم بدر .
الثاني : قد أصبتم مثليها بنصر الله لكم .
الثالث : قد أصبتم مثليها بفضل ومنّ من الله .
الرابع : قد أصبتم مثليها بالمدد الملائكي الذي أنزله الله عز وجل لكم يوم بدر ، قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
الخامس : قد أصبتم مثليها يوم بدر , لتكون بشارة ومؤنساً يوم أحد .
السادس : قد أصبتم مثليها لتكون بشارة للأجيال المتعاقبة من المسلمين إلى يوم القيامة .
وهل تختص هذه البشارة بذكرى واقعة بدر في السابع عشر من شهر رمضان، الجواب لا ، إنما هي بشارة من جهات :
الأولى : البشارة عند تلاوة أي آية من الآيات التي يتعلق موضوعها بواقعة بدر .
الثانية : البشارة عند إستحضار المسلمين واقعة بدر , قال تعالى[وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ]( ).
الثالثة : قيام المسلمين بالمقارنة بين وقائع معركة بدر ومعركة أحد ، ومعارك الإسلام الأخرى .
الرابعة : إستقراء الدروس والمواعظ من واقعة بدر , ونفعها العظيم في بناء صرح الإيمان .
الآية إنذار
من خصائص آية البحث تجلي البشارة والإنذار في منطوقها ومفهومها، أما بالنسبة للبشارة في منطوق الآية فمن جهات :
الأولى : بشارة سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل، وتلقي المسلمين الآيات والسور القرآنية التي نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد واقعة أحد.
الثانية : إخبار آية البحث عن النصر العظيم للمسلمين في معركة بدر، وأنه أضعاف خسارتهم يوم أحد.
الثالثة : إختتام آية البحث بالبشارة المفتوحة الخاصة والعامة والتي لا يقدر عليها إلا الله عز وجل لقوله تعالى في خاتمة آية البحث [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
وأما البشارة بالمفهوم فمن جهات:
الأولى : ذكر آية البحث للمصيبة التي ألمت بالمسلمين يوم معركة أحد للإتعاظ.
الثانية : إستحضار المسلمين للنصر في معركة بدر في ساعة الشدة والضيق يوم معركة أحد.
الثالثة : تلاوة آيات القرآن ذاتها بشارة.
الرابعة : لما أخبرت آية البحث بأن الذي أصاب المسلمين إنما هو من عند أنفسهم ففيه بشارة التدارك والإرتقاء والإحتراز من الأخطاء التي تجلب الضرر.
وتتضمن آية البحث الإنذار في منطوقها من جهات :
الأولى : ذكر آية البحث للمصيبة تحذير منها، ومن عواقبها وآثارها.
الثانية : الإنذار من تكرار ذات المصيبة التي جرت يوم أحد أو ما هو أشد أو أقل منها، وتقدير آية البحث: أولما أصابتكم مصيبة فاحذروا من تكرارها.
الثالثة : إنذار وتحذير المسلمين من القعود والتفريط والغفلة، وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين والمسلمات بأن يتلو كل واحد منهم سبع عشرة مرة في اليوم[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، على نحو الوجوب العيني.
الرابعة : الإنذار من الفتن وطغيان أهل الكفر، فربما أصابهم الغرور بعد معركة أحد، وإدعوا النصر فيها حتى جمعوا عشرة آلاف رجل لمعركة الخندق.
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ فَيَتَمَرَّغَ عَلَيْهِ وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِى كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلاَّ الْبَلاَءُ)( ).
أي أنه لا يرغب بالإنتقال إلى عالم الآخرة، ولا يريد مغادرة الدنيا إلا من البلاء الذي يلاقي، وليس المراد الناس كلهم، إنما المراد بيان شدة البلاء، وتوالي الفتن وشياع هذا القول عن عدد من الناس في زمانه.
الخامسة : الإنذار من الفرقة والشقاق وما يغري العدو بالمسلمين، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
الآية موعظة
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار لا ينجو ساكنها من البلاء، يأتيه عن سبق معرفة به أو على نحو طارئ ومفاجئ ، ويغزوه بصفته الشخصية أو صلته ومنزلته في الأسرة أو العمل أو المجتمع او الطائفة ، وينظر أحياناً لمن لم يبتلى بمثل الذي أصابه فيغبطه، ولم يعلم أن البلاء قريب منه أيضاً , قال تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( )، أو ينظر لمن أبتلي بالبلاء دونه فيحمد الله على سلامته منه وقد أكرم الله عز وجل المسلمين وجعل بلاءهم في طاعته وأذاهم ومصيبتهم في الصبر في سبيله واتباعهم رضوانه ، وهو الذي تجلى في آية البحث ليتضمن ما فيها من الإخبار عن إصابته المسلمين بالمصيبة في الجهاد في سبيله ورفع لواء التوحيد صفحة مشرقة في تأريخ الإسلام.
وهل يمكن القول أن الإسلام كان في بدايته والإيمان لم يترشح بعد في قلوب المسلمين فكانت معارك الإسلام الأولى دفاعية ، الجواب لا ، إنما هذا الدفاع نهج دائم مصاحب للإسلام والمسلمين .
وقد جاءت آيات القرآن بذم التعدي والظلم ، ومن الإعجاز في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها بذاتها دعوة للناس للإسلام وحجة وبرهان أمضى من السيف وقعقعة السلاح ، وهو الذي تجلى في مضامين الآية السابقة ، وقوله تعالى[إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ) من جهات :
الأولى : فضل ومنّ وطول الله على الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : بيان قانون من الإرادة والمشيئة الإلهية وهو كل نبوة ورسالة منّ من عند الله عز وجل.
الثالثة : إكرام الذين صدّقوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتسميتهم المؤمنين وخصهم بالمنّ من عند الله , وفيه ترغيب للناس في الإسلام ودخوله , وإتيان الفرائض والعبادات .
الرابعة : نسبة الرسول إلى المسلمين أنفسهم لإخبار الناس بقانون، وهو ما ان يدخل الإنسان الإسلام حتى يصبح من الذين بعث الرسول منهم ، لبيان قانون آخر وهو أن هناك جامعاً مشتركاً بين الرسول محمد وبين المسلمين وهو الإيمان .
وفي التنزيل[لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابن السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ]( ).
ترى لماذا لم تقل الآية : أولما أصابتكم مصيبة قلتم أنّى هذا) وإنما قيدت الآية ذكر مصيبة المسلمين بنعمة النصر في معركة بدر ، الجواب ليكون إستحضار النصر أوان المصيبة موعظة للمسلمين , ودعوة لهم للصبر والرضا بأمر الله عز وجل .
وهو من مصاديق ما ورد في الآية السابقة بقوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] وفيه دعوة للعلماء لإستقراء فضل الله عز وجل في ساعة الشدة لإقتباس المواعظ وإتخاذها وسيلة للتدارك والنجاة من أضرار المصيبة، فمن المواعظ والصبر في التذكير بالنصر في معركة بدر أمور :
الأول : يهب الله عز وجل النصر للمؤمنين .
الثاني : إذا أنعم الله عز وجل على المؤمنين بنعمة فأنه أكرم من أن يرفعها .
وقد تفضل الله عليهم بالنصر في معركة بدر فهو باق بين ظهرانيهم إلى يوم القيامة .
ومن الإعجاز في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم وقوع الهزيمة له في معارك الإسلام .
ويمكن تأسيس قانون وهو : أن الإعجاز في الشريعة الإسلامية على أقسام :
الأول : الإعجاز في القرآن .
الثاني : الإعجاز في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الإعجاز في السنة النبوية .
الرابع : الإعجاز في تلقي المسلمين للبعثة النبوية وآيات القرآن .
الخامس : الإعجاز في أداء المسلمين الفرائض، وتفانيهم في مرضاة الله.
ومن خصائص آية البحث بيانها لعلة وسبب خسارة المسلمين في معركة أحد بأنها من عند المسلمين أنفسهم ، وكأنهم حجبوا عن أنفسهم النصر، وتدل على هذا المعنى بداية المعركة، وصيرورة الريح فيها للمسلمين ، وقيام جيش المشركين بالإستعداد للهزيمة وهرولة النساء اللائي جئن معهم إلى الإبل للهروب خشية السبي وما يترشح عنه من الخزي والفضيحة .
ومن الآيات في معركة أحد حال بعض نسوة المشركين اللائي جئن معهم ، فقد قُتل أصحاب لواء المشركين وأحداً بعد آخر فحملته امرأة منهم، وهي عمرة بنت علقمة الحارثية من عبد مناة بن كنانة ، وقومها بنو الحارث حلفاء لقريش في الجاهلية ، وزوجها هو غراب بن سفيان بن عوف الحارثي ، فكانت سبباً في عودة المشركين إلى القتال .
وقال حسان بن ثابت في رفعها اللواء ذماً وتبكيتاً لكفار قريش:
إذَا عَضَلٌ سِيقَتْ إلَيْنَا كَأَنّهَا … جِدَايَةُ شِرْكٍ مُعْلِمَاتِ الْحَوَاجِبِ
أَقَمْنَا لَهُمْ طَعْنًا مُبِيرًا مُنَكّلًا … وَحُزْنَاهُمْ بِالضّرْبِ مِنْ كُلّ جَانِبِ
فَلَوْلَا لِوَاءُ الْحَارِثِيّةِ أَصْبَحُوا … يُبَاعُونَ فِي الْأَسْوَاقِ بَيْعَ الْجَلائِبِ)( ).
(عن محمد بن اسحاق عن بعض أهل العلم أن اللواء لم يزل صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فلاثوا به وكان اللواء مع صواب غلام لبني أبي طلحة حبشي وكان آخر من أخذه منهم فقاتل حتى قطعت يداه ثم برك عليه فأخذ اللواء بصدره وعنقه حتى قتل عليه وهو يقول اللهم هل أعذرت فقال حسان بن ثابت في قطع يد صواب حين تقاذفوا بالشعر:
فَخُرْتُمْ بِاللّوَاءِ وَشَرّ فَخْرٍ … لِوَاءٌ حِينَ رُدّ إلَى صُؤَابِ
جَعَلْتُمْ فَخْرَكُمْ فِيهِ بِعَبْدِ … وَأَلْأَمُ مَنْ يَطَأُ عَفَرَ التّرَابِ
ظَنَنْتُمْ وَالسّفِيهُ لَهُ ظُنُونٌ … وَمَا إنّ ذَاكَ مِنْ أَمْرِ الصّوَابِ
بِأَنّ جِلَادَنَا يَوْمَ الْتَقَيْنَا … بِمَكّةَ بَيْعُكُمْ حُمْرَ الْعِيَابِ
أَقَرّ الْعَيْنَ أَنْ عُصِبَتْ يَدَاهُ … وَمَا إنْ تُعْصَبَانِ عَلَى خِضَاب( )
وعن أبى رافع عن أبيه عن جده قال لما قتل علي بن أبى طالب أصحاب الالوية أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من مشركي قريش فقال لعلي احمل عليهم فحمل عليهم ففرق جمعهم وقتل عمرو بن عبد الله الجمحي.
قال ثم أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من مشركي قريش فقال لعلي : احمل عليهم فحمل عليهم ففرق جماعتهم وقتل شيبة بن مالك أحد بنى عامر بن لؤي .
فقال جبريل يا رسول الله إن هذه للمواساة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنه مني وأنا منه فقال جبريل وأنا منكما.
قال فسمعوا صوتا لا سيف إلا ذو الفقار * ولا فتى إلا علي .
(قال أبو جعفر : فلما أتى المسلمون من خلفهم انكشفوا وأصاب منهم المشركون وكان المسلمون لما أصابهم ما أصابهم من البلاء أثلاثا :
ثلث قتيل .
وثلث جريح .
وثلث منهزم , وقد جهدته الحرب حتى ما يدري ما يصنع وأصيبت رباعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السفلى وشقت شفته وكلم في وجنتيه وجبهته في أصول شعره , وعلاه ابن قميئة بالسيف على شقه الايمن وكان الذى أصابه عتبة ابن أبي وقاص)( ).
وما لبثت نسوة قريش أن استعدن للفرار وصرن يهرولن صوب الإبل لقطع مسافة قبل أن ينهزم الرجال ويدركهن المسلمون ترك الرماة مواضعهم في ذات الوقت لتجلي أمارات هزيمة قريش فكانت المصيبة ، وتفضل الله بمواساة المسلمين بآية البحث التي هي ذخيرة في الدنيا والآخرة.
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم- أَنَّهُ قَالَ عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ فَمَنْ رَضِىَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ)( ).
ثناء الله على نفسه في الآية
ليس من آية من آيات القرآن إلا وهي تتضمن ثناء من الله عز وجل على نفسه من جهات :
الأولى : منطوق الآية .
الثانية : مفهوم الآية المخالف للمنطوق .
الثالثة : دلالات الآية .
الرابعة : غايات الآية .
(عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين ) ( ).
لقد أخبرت آية البحث عن مصيبة ونكسة لحقت المسلمين في معركة أحد، وقد أثنى الله عز وجل على نفسه وذكّر المسلمين بأنهم قد أصابوا ضعفها في معركة بدر لتتضمن آية البحث في دلالتها التذكير بنصر الله عز وجل للمسلمين في معركة بدر , وتدعو إلى التفكر ترى كيف كان حال المسلمين يوم بدر لو لم ينصرهم الله عز وجل خاصة وأنهم كانوا أذلة ضعفاء مستضعفين.
ولا يختص ثناء الله عز وجل على نفسه في آية البحث بخصوص التذكير بمعركة بدر ونصر المسلمين فيها ، بل بذات معركة أحد لحصر الأذى الذي لحق المسلمين فيها بأنه مصيبة وليس هزيمة، وبين الهزيمة والمصيبة عموم وخصوص مطلق ، فكل هزيمة هي مصيبة وليس العكس .
فما صرفه الله عز وجل عن المسلمين يوم معركة أحد أعظم مما لحق بهم، وفيه دعوة لأجيال المسلمين للشكر لله عز وجل على هذه النعمة ، نعمة صرف الضرر الفادح عن المسلمين يوم معركة أحد.
وتقدير بداية آية البحث على وجوه :
الأول : أولما أصابتكم مصيبة قد محا الله عنكم أعظم منها .
الثاني : أولما أصابتكم مصيبة هي بإذن الله، بلحاظ التقييد الوارد في الآية التالية بقوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ] ( ).
الثالث : أولما أصابتكم مصيبة في سبيل الله .
الرابع : أولما أصابتكم مصيبة يرزقكم الله عليها الثواب العظيم ، وهذا الثواب من ثناء الله عز وجل على نفسه لأنه لا يقدر عليه إلا هو سبحانه.
ومن الآيات عدم إنحصار الثواب بالصحابة الذين نزلت بهم المصيبة في معركة أحد بل يشمل أجيال المسلمين والمسلمات ففي كل مرة يسترجع المسلم أو المسلمة ما لحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من الأذى يوم أحد ليأتيهما الثواب لقوله تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ]( ) وورد لفظ أصابتهم بصيغة الماضي , ويبقى باب الإسترجاع مفتوحاً إلى يوم القيامة .
إن الله عز وجل غني عن العالمين ، ولا يحتاج إلى مدحه ، ولكن هذا المدح رحمة بالعباد , وإصلاح وتأديب لهم ، وواقية لهم من الكبر والعناد والجحود .
(عن أبي ذر، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل، أنه قال: “يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئا.
يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل منكم، ما نقص ذلك في ملكي شيئا.
يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، إلا كما ينقُص المخْيَط إذا أدخل في البحر”. فسبحانه وتعالى الغني الحميد)( ).
وأختتمت آية البحث بثناء الله على نفسه بما يجعل الخلائق تنقاد له صاغرة طائعة لقوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ].
ومن معانيه دعوة المسلمين للتطلع إلى نصر الله عز وجل في قادم الأيام، وليكون تقدير الآية : قد اصبتم مثليها وسيصيبكم الله مثلها أو أكثر فهو على كل شئ قدير .
الآية رحمة
إبتدأت آية البحث بألف الإستفهام لبيان رأفة الله عز وجل بالمسلمين بأن يسألهم عن تساؤلهم عن الخسارة في ذات الوقت الذي يكونوا هم أنفسهم سبب الخسارة .
لتقول لهم الآية إن الله يتغشاهم برحمته ، قال سبحانه [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ) ومن رحمته تعالى إبتداء المعركة بنصر المسلمين وكثرة قتلى المشركين كما يبينه قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] ( ) كما أن إذن الله حاضر في نصر المسلمين في أول معركة أحد ، فان الخسارة والمصيبة لم تقع للمسلمين إلا بإذن من عند الله عز وجل لقوله تعالى في الآية التالية : [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ]( ) لبيان قانون وهو حتى وإن كان سبب الخسارة هم المسلمون أنفسهم، ومنه أمور :
الأول : إنخزال ثلث جيش المسلمين مع رأس النفاق عبد الله بن أبي وسط الطريق إلى معركة أحد .
الثاني : ترك الرماة مواضعهم على الجبل وحدوث ثغرة نفذ منها خيالة المشركين ، لقد كانت فرقتان خيالة المشركين ترقب سير القتال ويزحفون بالخيل بين الحين والآخر، ولكن الرماة يرشقونهم بوابل من السهام فيتراجعون، وفيه حجة على الرماة للزوم عدم ترك مواضعهم، وهي تعضيد لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بعدم ترك مواضعهم على أي حال، فإذا كانت خيل العدو تهم بالهجوم من الخلف كيف يترك الرماة مواضعهم لذا قام رئيسهم وهو عبد الله بن جبير بحثهم على الإقامة في مواضعهم , وذكّرهم بقول وأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم وثبت معه نحو ثمانية من أصل خمسين قتلوا معه عند صعود خيل المشركين لهم , قال تعالى [لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً]( ).
لقد قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم (احموا ظهورنا، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا.) ( ) .
وعندما رأى الرماة المسلمون هزيمة المشركين وقيام المسلمين بانتهاب معسكرهم وهروب النسوة اللائي جئن معهم .
اختلفوا وصاروا مع قلتهم إلى فريقين:
الأول : الذين ثبتوا في موضعهم ، وهم أميرهم ونحو ثمانية معه.
الثاني : الذين تركوا مواضعهم الذين قالوا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد هذه الحال من تحقق هزيمة المشركين ، وتوجهوا إلى معسكر المشركين للنهب وجلب الغنائم ، فجاءتهم خيل المشركين من خلفهم بأن تقدم خالد بن الوليد كاراً على الجبل بخيله وتبعه عِكرمة بن أبي جهل ، فقتلوا من بقي فيه ، ومثلوا بعبد الله بن جبير ، وجردوه من ثيابه بعد موته ، ونفذت الرماح في بطنه ، وخرقت ما بين سرته إلى خاصرته ، وخرجت أحشاؤه ، وهو من مصاديق المصيبة التي ذكرتها هذه الآية والآية التالية، وتتجلى معاني الرحمة بصبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ،ودعوتهم الناس للإسلام ببذل النفوس وطاعة الله .
ومن مصاديق الرحمة في آية البحث إختتامها بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] لبيان أن شآبيب الرحمة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم متصلة وتشمل المسلمين وغيرهم ، ومنها محو المصائب عن المسلمين وإلحاق الذل والهوان بالذين كفروا .
وتقدير خاتمة الآية :
الأول : إن الله على كل شيء قدير فيمنع عنكم تجدد المصيبة .
الثاني : إن الله عز وجل على كل شيء قدير فيصلحكم لعدم جلب المصائب على أنفسكم .
الثالث : قد أصبتم في معركة أحد بقدرة الله عز وجل وهو الذي يجعلكم تفوزون بما هو أكبر منها، فلم تمر الأيام حتى صارت معركة حنين وكانت الغنائم التي غنمها المسلمون تفوق حد التصور بلحاظ الحال وقصر المدة بين معركة أحد التي وقعت في السنة الثالثة من الهجرة ومعركة حنين التي وقعت في السنة الثامنة للهجرة .
ومن الإعجاز في المقام وقوع كل منهما في شهر شوال والأولى وقعت في النصف من شهر شوال، والثانية في العاشر من شهر شوال وبينهما خمس سنوات.
وكانت الغنائم التي استولى عليها المسلمون من جيش المشركين :
1- ستة آلاف من السبي بين امرأة وغلام وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بديل بن ورقاء الخزاعي.
2- أربعة وعشرون ألف من الإبل .
3- أكثر من أربعين آلف من الغنم .
4- أربعة آلاف أوقية فضة .
وصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الظهر في حنين شكراً لله عز وجل للنصر والظفر في ذات الموضع ولبيان قانون للمسلمين وهو لزوم تعاهد الصلاة في السراء والضراء وعند المصيبة .
ومن خصائص الصلاة أنها تجلب الظفر وتثبت معاني ومنافع النصر، وهل تكون الصلاة من الإسترجاع عند المصيبة ، الجواب نعم، وهو من عمومات قوله تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
بحث بلاغي
من وجوه البلاغة (الإلتفات) وهو التغير والتبدل في الجهة التي يتوجه إليها خطاب المتكلم ، كما لو كان يتكلم إلى المخاطَبين ثم ينتقل إلى الغيبة أو بالعكس .
ومن منافعه جذب الإنتباه والإحتراز من الملل ، وطرد الغفلة والضجر.
وإبتدأت الآية بصيغة السؤال الإنكاري، ومن خصائصه جعل السامع ينصت إليه، وإلى ما بعده خاصة إذا جاء بصيغة الخطاب كما في آية البحث وكأنه ليس في جهة المخاطبين والمستمعين إلا المسلمين، فمع نزول مصيبة واقعة أحد بالمسلمين لإيمانهم بالله ورسوله ودفاعهم عن شخص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل جاءت الآية بالإستفهام الإنكاري المتوجه[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، مما يدل بالدلالة الإلتزامية بأن هذا الإستفهام ليس للتوبيخ أو التقريع والتبكيت.
وتقدير الآية: أو لما أصابتكم مصيبة في سبيل الله، والله يثيبكم عليها.
لقد إبتدأ خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالبشارة باللطف والمن من عند الله وشهادته لهم بالإيمان، وإخباره بأنه يسمع أقوالهم ويعلم حالهم، وتعدي الذين كفروا عليهم بقوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( )، فمن منّ ولطف الله أنه لا تبدأ المعركة بالثناء من عند الله عز وجل ثم يأتي التوبيخ لهم منه تعالى.
فإن قلت قد إبتدأت المعركة بنصر ساحق للمسلمين وإنتهت بخسارتهم الجواب إنه قياس مع الفارق، وكل من النصر والخسارة من عند الله وحفظه لرسوله ودين الإسلام ونزول آيات القرآن وإثابة المؤمنين، وفضح المنافقين وذل وهوان الكافرين.
وبعد الخطاب للمسلمين إنتقلت الآية في لغة الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى (قل) فهل هو من الإلتفات، أم أنه من الإنتقال من العام إلى الخاص الجواب لا تعارض بينهما مع إرادة تنزيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخطأ والقصور في قوله تعالى[قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ] فلم تقل الآية (قل هو من عند أنفسنا).
ويشمل التنزيه الشهداء وأهل البيت والصحابة الذين قاتلوا دون النبي ولم يفروا ولم ينهزموا وكل على خير حتى أولئك الذين إنهزموا لقوله تعالى قبل آيات[وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ]( ).
الحاجة إلى آية البحث
الحمد لله الذي جعل الناس في حاجة متصلة إلى لطفه ومنّه ورحمته، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ]( ).
وجاءت صفة الفقر في الآية أعلاه على نحو الإطلاق من حيث الجهة والكم والكيف والزمان والمكان , وفيما يخص الفرد والجماعة والأمة وهو من الإعجاز في مجئ الآية أعلاه بالنداء العام الذي يفيد الإستغراق لجميع أهل الأرض.
ويصح تقدير الآية أعلاه على وجوه:
الأول : يا أيها الناس أنتم الفقراء الى رحمة الله.
الثاني : يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى منّ الله.
الثالث : يا أيها الناس أنتم الفقراء في كل لحظة وطرفة عين إلى الله.
الرابع : يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله مجتمعين ومتفرقين.
الخامس : يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله فبعث لكم الأنبياء والرسل، قال تعالى[وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
السادس : يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى رزق الله.
السابع : يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله في الدنيا والآخرة.
الثامن : يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى مغفرة الله.
التاسع : يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله فاسألوا الله من فضله.
العاشر : ورد في التنزيل[يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
ويحتمل تقدير الآية أعلاه بخصوص الآية من القرآن وجوهاً :
الأول : يا أيها الذين آمنوا أنتم الفقراء إلى الآية القرآنية، بلحاظ أن المسلمين هم الذين آمنوا بالقرآن، وإليهم تتوجه أكثر خطاباته .
الثاني : يا أهل الكتاب أنتم الفقراء الى الآية القرآنية .
الثالث : يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الآية القرآنية.
الرابع : الوقوف على نص الآية القرآنية , ومضمون الآية .
والصحيح هو الثالث أعلاه، ويكون الوجه الأول والثاني في طوله، إذ أن كل آية قرآنية كنز من بطنان العرش، وضياء ينير دروب الهداية للمسلمين.
ولما احتجت الملائكة على جعل آدم (في الأرض خليفة) أجابهم الله عز وجل بصيغة الإحتجاج المقرون بالبرهان [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ليكون من علم الله عز وجل حاجة الناس الى الآية القرآنية، وتفضله بإنزالها ليكون الناس فيها شرعاً سواء، ومنه آية البحث التي توثق توثيقاً سماوياً أموراً :
الأول : واقعة معركة أحد .
الثاني : تلقي المسلمين الخسارة في معركة أحد .
الثالث : دهشة المسلمين مما نزل بهم من المصيبة , وكثرة القتلى وهم يرجون النصر ويستصحبون آية الظفر في معركة بدر.
الرابع : تذكير آية البحث بأن الله عز وجل على كل شيء قدير.
وفيه دعوة للمسلمين للدعاء وسؤال النصر والظفر , ورجاء تدارك الخسارة ، وحث لهم على السعي الحثيث في مسالك الإيمان .
وجاءت الآية بصيغة الماضي(اصابتكم) لتكون حرزاً في القادم من الأيام والمعارك مع الذين كفروا , وفي التنزيل[قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ]( ).
ليكون من الإعجاز في باب الحاجة إلى الآية القرآنية أنها تبعث الطمأنينة في نفوس المسلمين وتكون مواساة لهم وفي ذات الوقت تملأ قلوب الذين كفروا بالخوف والفزع ، قال تعالى [وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا] ( ).
حاجة الناس إلى آية البحث
لقد جعل الله عز وجل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ليبارك في ذريته وتأتيه النبوة ويبعث الله الأنبياء من بعده، إلى أن ختم الله عز وجل النبوة والرسالة معاً ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون جامعة مانعة، جامعة لأمور :
الأول : سنن الشرائع الإسلامية .
الثاني : أحكام الحلال والحرام .
الثالث : الفرائض والعبادات .
الرابع : مضامين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الخامس : آيات القرآن التي جعلها الله [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
السادس : فضح الطواغيت من الأولين مثل فرعون ونمرود ، ومنع ظهور طاغوت آخر وإلى يوم القيامة .
فقد ورد عن فرعون أنه قال [وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ] ( ) .
وورد عن نمرود في القرآن قال [أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ] ( ) لينقطع دابر هذه الأقوال والدعوة الباطلة ، ومن الإعجاز في المقام حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أداء الصلاة اليومية جماعة في فرائضها الخمسة لبيان خضوعه وذله لله عز وجل .
وفي التنزيل[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( )، أما كون رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مانعة، فمن وجوه:
الأول : لقد منعت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم طغيان الكفر وأهله.
الثاني : منع رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شيوع مفاهيم الضلالة.
الثالث : منع تحقيق الذين كفروا النصر في ميدان المعركة.
الرابع : منع عبادة الأوثان، والتزلف إليها.
الخامس : المنع من غبطة وسعادة الذين كفروا حتى وإن أقبلت عليهم الدنيا بزخرفها و لأنه جاء بآيات الإنذار والوعيد لهم، قال تعالى[وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ]( ).
ويحتاج المسلمون آية البحث من جهات :
الأولى : التفقه في الدين، ومعرفة تعرضهم للخسارة، ونزول المصيبة بهم.
الثانية : بيان قانون وهو أن الإيمان لا ينجي الإنسان والجماعة من المصيبة ، نعم تأتيه لتثقل ميزانه بالصالحات ، قال تعالى[فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الثالثة : تحل المصيبة بالمؤمن والكافر , لكن مع التباين بينهما أما المؤمن فيأتيه الأجر والثواب على ما يصاب به ، وأما الكافر فيلحقه الإثم والخزي وسوء العاقبة .
ليكون من حاجة الناس لآية البحث تحلي المسلمين بالصبر والزهد والرضا بحكم الله ، وقطع الطريق على الذين كفروا في تعديهم ومنعهم من الشماتة بالمسلمين .
ومن مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) بلحاظ آية البحث أمور :
الأول : نزول المصيبة بالمسلمين لطاعتهم لله ورسوله وخروجهم للدفاع عن الإسلام تحت لواء النبوة .
الثاني : ذكر خسارة المسلمين في معركة أحد في القرآن , وتخصيص آيات لها , منها آية البحث والآية التالية .
الثالث : إخبار آية البحث بأن الله عز وجل نصر المسلمين في معركة بدر نصراً عظيماً ، ليكون من غاياته تهيئة أذهان المسلمين للصبر عند الخسارة في معركة أحد .
الرابع : إخبار المسلمين بأن خسارتهم يوم معركة أحد من عند أنفسهم وبسبب التقصير والقصور الذي ظهر منهم ، والذي لم يكن مثله في دفاعهم وقتالهم في معركة بدر .
الخامس : إختتام الآية بالبشارة للمسلمين، وبيان القدرة المطلقة لله عز وجل , ومنها تفضله بتدارك المسلمين المصيبة ، وتجدد نصرهم ووقايتهم من التقصير والزلل الذي يؤدي بهم إلى الخسارة .
(كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “اللهم انفعني بما علَّمتني، وعلّمني ما ينفعني، وزدني علمًا، والحمد لله على كل حال) ( ).
قال ابن تيمية (ت 728 هجرية) الصبر واجب باتفاق العلماء، وقال ابن القيم الجوزية (ت 751 هجرية) (قال الإمام أحمد : الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعا وهو واجب بإجماع الأمة وهو نصف الإيمان فإن الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر) ( ).
ولكن الصبر واجب بأمر الله عز وجل وأمر رسوله قبل أن تصل النوبة للإتفاق وإجماع الأمة ، وهذا الإجماع من رشحات الكتابة والسنة ، ولابد أنه ذكر في الكتاب أعلاه لتكون الجملتين أعلاه كما لو إقتطعت من بيان عام,
إذ جاءت آيات القرآن بمدرسة الصبر ، وورد الأمر المتعدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ] ( ).
وورد بصيغة الجمع [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
ولو جاء شخص غداً وقال لم يثبت إتفاق العلماء على أن الصبر واجب ، فهذا العالم الفلاني من المتقدمين لم يذكر في كتبه أن الصبر واجب، بينما هو لم يذكره للتسالم عليه ولتجلي وجوبه بالنص من القرآن والسنة، ولكن أهل الجدال والمنافقين والذين في قلوبهم مرض يسعون في المغالطة ، أو قد يأتي من يقول أنه عالم ويخبر بأن الصبر ليس بواجب ، وقد يستدل بتأويل ظاهر بعض النصوص ، أو لقواعد فقهية مثل قاعدة الميسور، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام وأحكام التقية ونحوها .
لذا يجب البيان والقطع بأن الصبر واجب في الكتاب والسنة ، حينئذ لا بأس من إتباعه بالقول وعليه إجماع علماء الإسلام والأمة لأنه من البديهيات .
وقد جاءت آيات القرآن بالبشارة العظمى للصابرين ، قال تعالى [وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ]( ).
وهل آية البحث من آيات الصبر ، الجواب نعم ، وكل كلمة فيها تدعو إلى الصبر والرضا بأمر الله والإستعانة به تعالى ، ويقرأ كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة في اليوم قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ).
فهل تكون الإستعانة بخصوص مضامين آية البحث، الجواب نعم ، وهو من أسرار وجوب التلاوة في الصلاة اليومية .
لقد جاء القرآن والسنة بتنمية ملكة الإسترجاع ساعة المصيبة عند المسلمين مجتمعين ومتفرقين ، ويستحب استحباباً مؤكداً الإجهار به، أي يقول صاحب المصيبة أو غيره[إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ) كما يستحب الحث على إستحضار الإسترجاع وتلاوة آيته من سورة البقرة والتطلع إلى العوض والبدل ثم الثواب من عند الله .
(عن أم سلمة قالت : أتاني أبو سلمة يوماً من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قولاً سررت به قال : لا يصيب أحداً من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ، ثم يقول : اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا فعل ذلك به . قالت أم سلمة : فحفظت ذلك منه ، فلما توفي أبو سلمة استرجعت.
فقلت : اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها ، ثم رجعت إلى نفسي وقلت من أين لي خير من أبي سلمة؟ فأبدلني الله بأبي سلمة خيراً منه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
أسباب النزول
لم يذكر علماء التفسير أسباباً لنزول آية البحث ، وهو لا يمنع من إستقراء الأسباب لنزولها بلحاظ الموضوع والحكم ، إذ تتعلق آية البحث بوقائع معركة أحد ، وما نزل بالمسلمين من الأذى والضرر.
لقد بينت آية البحث غلظة الذين كفروا وإصرارهم على الكفر وإرادتهم الموت دون عبادة الأصنام ، ليظلموا أنفسهم وغيرهم لأن الله عز وجل يقول[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) فلابد أن يذّكر ويندم الذين كفروا ، لذا فان آية البحث تذّكرهم في مفهومها بأنهم إلى زوال في أشخاصهم ومفاهيم الضلالة التي يقاتلون دونها، وذكرت آية البحث مصيبة المسلمين لإفادة الوعيد للذين كفروا بالعقوبة العاجلة من عند الله عز وجل ، فان قلت قد ذكرت آية البحث أن المصيبة نزلت بالمسلمين من عند أنفسهم وبسبب قصورهم وتقصيرهم .
والجواب هذا لا يتعارض مع كون سبب المصيبة بالأصل هو هجوم الذين كفروا وإصرارهم على القتال .
ليكون من أسباب نزول آية البحث أمور :
الأول : توثيق معركة أحد .
الثاني : بيان الخطأ والقصور , والتقصير الذي صار عليه المسلمون يومئذ .
الثالث : تنبيه المسلمين إلى قانون وهو وجوب عدم التراخي بعد النصر المبين الذي يأتي بمعجزة من عند الله عز وجل .
الرابع : تذكير آية البحث بفضل الله عز وجل على المسلمين بالنصر في معركة بدر بقوله تعالى [قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا] ( ) فان قلت هل هذا التذكير من أسباب نزول الآية ، الجواب نعم .
فمن أسماء القرآن (الذكر) وهو ذكرى بدليل قوله تعالى [كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ]( ) ليؤسس علم مستقل وهو صيرورة الذكرى الواردة في الآية القرآنية من أسباب النزول ، إذ يحتاج الإنسان الذكرى للإتعاظ وإقتباس الدروس ، وهي حرب على النسيان وطرد لآفته ليكون من خصائص [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) السلامة بذكرى القرآن من إستحواذ آفة النسيان عليهم , وعصمتهم من التفريط بالعبر والمواعظ المستقرأة من المصيبة والواقعة التي تمر عليهم .
ومن إعجاز آية البحث أنها نزلت بخصوص يوم المصيبة لتذكر بالنصر السابق له ، وتختتم بالوعد من عند الله عز وجل بالنصر والغلبة ، ومنع المسلمين من صيرورتهم سبباً للخسارة ونزول المصيبة بهم لقوله تعالى في خاتمتها[إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ].
وهل آية البحث من مصاديق هذا المنع، الجواب نعم ، ليكون من أسبابها إصلاح المسلمين للوقاية من التقصير الذي يؤدي إلى الضرر الفادح ، قال تعالى [وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ] ( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت آية البحث بأداة الإستفهام في سؤال وخطاب من عند الله عز وجل للمسلمين ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : لوم المسلمين .
الثاني : توبيخ المسلمين .
الثالث : إرادة تزكية رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم والوحي .
الرابع : تأديب المسلمين وبيان السبب الحاضر لخسارتهم يوم معركة أحد .
والصحيح هو الثالث والرابع أعلاه ، لقد خرج المسلمون إلى ميدان القتال طاعة لله ورسوله , فلم يأت توبيخ لهم من عند الله إنما يكون سخطه وغضبه على الذين كفروا من قريش وأعوانهم الذين زحفوا بجيش عرمرم لمحاربة النبوة والصد عن معالم الإيمان ، ليكون ألف الإستفهام في بداية آية البحث [أَوَلَمَّا] من مصاديق التزكية والتطهير بتعليم الكتاب , وتبيان تجليات الحكمة الواردة في الآية السابقة بقوله تعالى [وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ) .
ويتعلق الإستفهام بقول المسلمين (أنّى هذا) وتقدير الآية : أقلتم أنى هذا عندما أصابتكم مصيبة قد اصبتم مثليها) وفيه آية في إكرام الله للمسلمين بأنه سبحانه يسمع قولهم ويأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب عليه، وقد ورد في القرآن[قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ]( ).
والمرأة التي سمع الله قولها هي خولة بنت ثعلبة، وزجها آوس بن الصامت من الأنصار وهو أخو عبادة بن الصامت وقيل اسمها جميلة، بنت حكيم، والأول أصح، وقد ظاهر منها زوجها ، وقال أنت عليّ كظهر أمي وكان الظهار طلاقاً بائناً في الجاهلية .
ولكن المسلمين والمسلمات أدركوا أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة مهداة ، وأن الإسلام جاء بنقض أحكام وعادات الجاهلية المذمومة التي لا أصل لها .
وعندما دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت : أن زوجي تزوجني وأنا احب الناس إليه , ولما كبرت وتقدمت بي السن ظاهرني ، وليس لي أحد ألجأ إليه أو بيت أسكن فيه غير بيتنا .
(فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشني وإياه بها فحدثني بها ، قال : والله ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن ، ولكن ارجعي إلى بيتك فإن أومر بشيء لا أعميه عليك إن شاء الله ، فرجعت إلى بيتها فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في الكتاب رخصتها ورخصة زوجها)( ) فنزلت آية المجادلة أعلاه .
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بآية البحث لبيان أنه سمع كلامهم ونسائِهم، وهل جعل لهم في المقام رخصة , الجواب نعم ، وما هو أعم وأعظم من الرخصة، ففي آية البحث ومضامينها القدسية رأفة ورحمة وطَول من عند الله عز وجل .
لقد أخبرت الآية السابقة بأن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منّ وطول من عند الله عز وجل على المسلمين ، وما معركة أحد وما لاقاه المسلمون فيها إلا فرع رسالته فلابد أنها منّ وطول من عند الله عز وجل ، وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : لقد منّ الله على المؤمنين لما أصابتهم مصيبة .
الثاني : لقد منّ الله على المؤمنين بالنصر في معركة بدر .
الثالث : لقد منّ الله على المؤمنين إذ أصابوا وكسبوا في معركة بدر أضعاف ما خسروا في معركة أحد .
الرابع : لقد منّ الله على المؤمنين بأن تقدم نصرهم وجلبهم الغنائم إلى المدينة في معركة بدر على الخسارة في معركة أحد.
الخامس : لقد منّ الله على المؤمنين يوم معركة أحد بخروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معهم إلى ميدان المعركة , وورد بخصوص أحد في التنزيل[إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]( ).
السادس : لقد منّ الله على المؤمنين يوم معركة أحد برجوع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سالماً من ميدان المعركة .
السابع : لقد منّ الله على المؤمنين أن قالوا عند الخسارة يوم أحد أنى هذا .
وورد في الآية الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قل) ليكون هذا القول من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة[وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ].
لقد إبتدأت آية البحث بذكر الخسارة التي لحقت المسلمين في معركة أحد، وأخبرت بأنها من فعل المسلمين أنفسهم.
وأختتمت الآية بقوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] وهو سبحانه الذي أذن بالخسارة والمصيبة أن تحل في ساحة المسلمين، وهو الذي يتفضل بمحو أضرار هذه الخسارة، ويبدلها بالنصر في المعارك اللاحقة، ونزول ذات آية البحث نصر للمسلمين، وفي التنزيل[وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ]( ).
من غايات الآية
في الآية وجوه :
الأول : الغايات الحميدة من قوله تعالى [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ]وفيه مسائل :
الأولى : إكرام الله عز وجل للمسلمين بتوجيه الخطاب لهم في القرآن .
الثانية : توثيق القرآن لواقعة أحد، وما أصاب المسلمين فيها من الخسارة الفادحة .
الثالثة : البشارة للمسلمين بالأجر والثواب على الخسارة في معركة أحد، وتقدير آية البحث على وجوه :
أولاً : أولما أصابتكم مصيبة في سبيل الله .
ثانياً : أولما أصابتكم مصيبة بعد النصر في معركة بدر .
ثالثاً : إن الله عز وجل يعلم أنه أصابتكم مصيبة يوم أحد .
الرابعة : ليس للمسلمين إنكار الخسارة والفاجعة يوم أحد .
الخامسة : بيان قوة وعز الإسلام ، إذ أن المصيبة والخسارة يوم أحد لم تضعف المسلمين ولم تجعل بعضهم يرتد عن الإسلام ، قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
لتؤكد الآية أعلاه قانوناً وهو أن الخسارة والمصيبة لم تضر المسلمين في إيمانهم وصبرهم وعزمهم على مواجهة الذين كفروا .
السادسة : الوعد من عند الله عز وجل للمسلمين بإقالة العثرة ودفع أضرار وآثار مصيبتهم في واقعة أحد ، فان قلت قد وردت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية، الجواب نعم والإخبار من عند الله عز وجل بشارة نزول فضله ورحمته .
الثاني : الغايات الحميدة في قوله تعالى [قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا].
لما أخبرت الآية السابقة عن منّ الله عز وجل على المسلمين بقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ]( ) ذكرت آية البحث مصداقاً لهذا المنّ بأن من نصر المسلمين يوم بدر أنهم سبق حيازتهم من المغانم والمكاسب ضعفي خسارتهم يوم أحد .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها تذّكر المسلمين بيوم المصيبة بفضل الله عليهم من جهات :
الأولى : مجئ الفضل الإلهي على المسلمين في ذات موضوع المصيبة .
الثانية : إخبار الله عز وجل بأن فضله عليهم ضعف الخسارة التي لحقت بهم لبيان قانون وهو ثبوت النصر، وإمكان تدارك الخسارة وهو من مصاديق قوله تعالى في خاتمة آية البحث[عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ].
الثالثة : فوز المسلمين يوم بدر بالنصر في المعركة وما كسبوه من الغنائم يوم بدر، إنما هو فرع النصر ، بينما لم ينهزم المسلمون ولم ينتصر المشركون يوم أحد، فان قيل : قد ورد في أخبار معركة أحد أن (إنّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ حِينَ أَرَادَ الِانْصِرَافَ أَشْرَفَ عَلَى الْجَبَلِ ثُمّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ فَقَالَ أَنِعْمَتْ فَعَالِ وَإِنّ الْحَرْبَ سِجَالٌ يَوْمٌ بِيَوْمِ أَعْلِ هُبَلُ أَيْ اظْهَرْ دِينك) ( ).
والجواب لا عبرة بقول لكافر يتباهى به في ميدان القتال ، فهو كقول مادح لنفسه في المبالغة وصيغ التفخيم والكذب .
لقد فرّ المشركون يوم معركة بدر، وصار المسلمون يطاردونهم ويؤسرون بعضهم ويحوزون مؤونتهم ، بينما في معركة أحد بادر الذين كفروا للإنسحاب في ذات اليوم الذي إبتدأت به المعركة ثم أخذوا يتلاومون في الطريق على سرعة إنسحابهم ، ولم يعلموا أن الله عز وجل هو الذي خذلهم وبعث الخوف في نفوسهم ، وهل هذا الإنسحاب المفاجئ من مصاديق خاتمة آية البحث[إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]الجواب نعم ، إذ يصرف الله الذين كفروا عن الإضرار العام بالمسلمين ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
وهل يتضمن قوله تعالى[قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا] إستدامة النفع أم أن القدر المتيقن منه ذكر الماضي وإستحضار نعمة الله على المسلمين في معارك بدر ، الجواب هو الأول ، إذ تتضمن الآية البشارة بالمدد والنصر وتدارك المصيبة ، لذا ورد قوله تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
الثالث : الغايات الحميدة من قوله تعالى[قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ] ويتضمن هذا الشطر من الآية توجه الخطاب من عند الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبصيغة الأمر ، فلم تعد آية البحث بذات صيغة الجملة الخبرية وحدها .
الرابع : ليس من حصر للغايات السامية من إختتام آية البحث بتأكيد الإطلاق والعموم في قدرة الله عز وجل وشمولها للموجود والمعدوم، ولا تختص بالوقائع الخاصة بمعركة أحد.
التفسير
قوله تعالى [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ]
من إعجاز آية البحث أنها تحمل معاني البشارة للمسلمين من جهات :
الأولى : ذكر المصيبة بلغة المفرد ، فلم تقل الآية أولما أصابتكم مصائب).
وفيه شاهد على نصر المسلمين في أكثر المعارك والكتائب ، وتحتمل الكتيبة والسرية التي لا يقع فيها قتال وجوهاً :
الأول : إنها نصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الثاني : إنها مقدمة للنصر في معارك لاحقة .
الثالث : ليس في هذه الغزوات نصر للمسلمين لدلالة النصر على الغلبة في القتال .
والصحيح هو الأول .
الثانية : مجئ الآية بصيغة الفعل الماضي [أَصَابَتْكُمْ] وكأن الآية تقول للمسلمين أنه لن تصيبكم مصيبة أخرى ، وهو الذي يدل عليه تأريخ وقائع الإسلام.
(عن الواقدي عن شيوخه ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لن ينالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن)( ).
الثالثة : خطاب الآية للمسلمين بصيغة الجمع، وفيه دعوة لهم للتعاون والتكافل لصرف آثار وأضرار المصيبة .
الرابعة : حصر علة وسبب المصيبة بأنه من عند ذات المسلمين ، وفيه بشارة بعجز الذين كفروا عن إنزال الخسارة بالمسلمين، ومن مصاديق الآية أن الرماة تركوا مواضعهم على الجبل يوم معركة أحد، ولو صبروا وامتثلوا لما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما استطاعت خيل الذين كفروا أن تأتي إليهم من الخلف.
فقد كانت هذه الخيل وهي برئاسة خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جبل تهّم في كل مرة للزحف ولكن رماة المسلمين وعددهم خمسون يمطرونها وراكبيها بالنبال والسهام ، فتتقهقر إلا أن ترك أغلب الرماة مواضعهم مما أدى إلى تقدم خيل المشركين.
وهل بقاء وثبات الرماة المسلمين في مواضعهم من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ…]( ) .
الجواب نعم ومن معاني القوة في المقام تعيين الرماة وتحديد وظيفتهم بحماية ظهور المسلمين ، ومنها ثبات الرماة في مواضعهم وعدم تركها طلباً للغنائم خاصة وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدهم بأن نصيبهم من الغنائم محفوظ فتعجلوا النصيب فصارت المصيبة ، وكأنهما من الضدين .
قيل أن ألف الإستفهام في قوله تعالى [أَوَلَمَّا] للتقريع ، ولا تصل النوبة إليه لأن مضامين الآية كلها في مواساة المسلمين والتخفيف عنهم ولما في قوله تعالى [أَوَلَمَّا] بمعنى حين وتسمى لما الحينية .
ومن الإعجاز في نظم آيات القرآن مجئ الآية التالية معطوفة على آية البحث بقوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ] ليكون من عموم العطف بين الآيتين العطف على ذات أداة الإستفهام كما يأتي بيانه في الجزء التالي .
وتدخل همزة الإستفهام على الأسماء والأفعال ، وتكون على وجوه :
الأول : التقرير ، والذي لا يصح أن يكون بـ (هل) .
الثاني : التوبيخ والتقريع .
الثالث : الإنكار لما يقع بعدها كما في قوله تعالى [أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ولا تقع (هل) في المقام ، وهل منه [هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ] ( ) .
الجواب لا، إنما هو بمعنى (ما) أي ما جزاء الإيمان والعمل الصالح إلى الثواب بالجنة .
الرابع : للتصديق.
الخامس : التصور ، كما لو قلت : أتمام العدة هذا اليوم أم أنه من الشهر الجديد.
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : أولما أصابتكم مصيبة لن تصابوا بمثلها .
الثاني : أولما أصابتكم مصيبة كمؤمنين، ويدل عليه وصف الآية السابقة للمسلمين بقوله تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالث : أولما أصابتكم مصيبة فصبرتم فيها ، لتكون آية البحث من مصاديق شكر الله عز وجل للمسلمين .
وهل كانت خسارة المسلمين في واقعة أحد وعدم تحقق النصر والإستيلاء على الغنائم فيها يومئذ مصيبة لهم أم للناس جميعاً , الجواب هو الثاني، وهو من الإعجاز في سعة وتعدد معاني اللفظ القرآني، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : أولما أصابتكم مصيبة ألحقت الأذى بكم .
الثاني : أولما أصابتكم مصيبة وأصابت غيركم من الناس .
الثالث : أولما أصابتكم مصيبة تمادى معها الذين كفروا في غيهم إلى حين.
الرابع : لقد أذن الله عز وجل بعد نصركم في معركة بدر بنزول المصيبة بكم في معركة أحد، وهو الذي تدل عليه الآية التالية بقوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
الخامس : أولما أصابتكم مصيبة لكم فيها الأجر والثواب .
السادس : أصابتكم مصيبة تكون حجة على الذين كفروا , وسبباً لبطش الله عز وجل بهم .
السابع : أولما أصابتكم مصيبة وأنتم تتبعون رضوان الله، لتكون آية البحث من مصاديق قوله تعالى قبل ثلاث آيات [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
ولبيان قانون بأن التباين والتضاد بين المؤمنين والكافرين بلغ حد السيف والإقتتال ، ليتجلى صدق إيمان المسلمين .
علم المناسبة
قد تقدم في باب إعجاز الآية الذاتي ورود لفظ(أصابتكم) ثلاث مرات في القرآن، وكل واحدة منها موجهة في لغة الخطاب إلى المسلمين وتكرر معها في الآيات الثلاثة لفظ(مصيبة) وورد بخصوص الوصية في السفر قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى]( ) .
وبينهما في لحاظ الآيتين عموم وخصوص مطلق، إذ تذكر آية البحث المصيبة على نحو اسم الجنس من قتل الشهداء، وجراحات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين والحرمان من الغنائم وغيرها، أما الآية أعلاه من سورة المائدة فذكرت موت بعض المسلمين في السفر والضرب في الأرض للتجارة، والشهادة عليه , وقبول شهادة غير المسلم وكيفيتها.
وللآية أعلاه سبب للنزول يتعلق بسفر بديل بن أبي مريم وهو من المهاجرين، وسفره مع عدي بن زيد وتميم بن آوس وهما نصرانيان تجاراً إلى الشام، ومرض بديل ثم مات في الطريق.
والآية الثالثة التي ورد فيها لفظ أصابتكم مصيبة قوله تعالى[وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا]( )، لإرادة ذم المنافقين الذين يتخلفون عن الجهاد ويتثاقلون عن الجهاد والغزو وقيل أنها نزلت في عبد الله بن أبي رأس النفاق.
قوله تعالى [قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا]
هذه الآية خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والمهاجرين والأنصار إلا أن موضوعها أعم ، إذ تتوجه إلى المسلمين والمسلمات في كل زمان ، وتقديرها بلحاظ تقدم نداء الإيمان الذي ورد قبل تسع آيات[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] الذين تقرأون هذه الآية في زمانكم هذا: أولما أصابتكم مصيبة في واقعة أحد قد أصبتم مثليها في واقعة بدر ) .
وهو من إرادة معنى الإتحاد والتشابه الطولي بين أجيال المسلمين المستقرأ من قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
ومن إعجاز القرآن حضور الوقائع التي يذكرها في الوجود الذهني للمسلمين ، وكذا علوم الغيب التي كشفها الله عز وجل في القرآن ، قال تعالى [ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ] ( ) ومنه أهوال يوم القيامة وسبل الرحمة والرأفة للمؤمنين فيها بما يبعث الشوق في نفوسهم للقاء الله عز وجل ، وقد قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم أهل بيته وأصحابه أدعية ترغبهم بلقاء الله .
منها ما ورد (عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علمه دعاء ، وأمره أن يتعاهده ويتعاهد به أهله كل يوم ، قال : حين تصبح لبيك اللهم لبيك لبيك وسعديك والخير في يديك ومنك وبك وإليك ، اللهم ما قلت من قول أو حلفت من حلف أو نذرت من نذر فمشيئتك بين يدي ذلك ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن ، لا حول ولا قوة إلا بك إنك على كل شيء قدير .
اللهم ما صليت من صلاة فعلى من صليت ، وما لعنت من لعن فعلى من لعنت . أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين.
أسألك اللهم الرضا بعد القضاء ، وبرد العيش بعد الموت ، ولذة النظر إلى وجهك ، وشوقاً إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة.
أعوذ بك أن أظلم ، أو أظلم أو أعتدي أو يعتدى عليّ ، أو أكسب خطيئة أو ذنباً لا تغفره.
اللهم فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، ذا الجلال والإِكرام فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا ، وأشهدك ، وكفى بك شهيداً أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك لك الملك ، ولك الحمد ، وأنت على كل شيء قدير . وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك.
وأشهد أن وعدك حق ، ولقاءك حق ، والساعة آتية لا ريب فيها ، وأنت تبعث من في القبور.
وأشهد أنك أن تكلني إلى نفسي تكلني إلى وهن وعورة وذنب وخطيئة، وإني لا أثق إلا برحمتك فاغفر لي ذنبي كله ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم)( ).
وعن (عطاء بن السائب عن أبيه قال صلى بنا عمار بن ياسر صلاة فأوجز فيها، فقال له بعض القوم لقد خففت أو أوجزت الصلاة فقال أما على ذلك فقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما قام تبعه رجل من القوم هو أبي غير أنه كنى عن نفسه، فسأله عن الدعاء ثم جاء فأخبر به القوم اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي.
اللهم وأسألك خشيتك يعني في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحكم في الرضى والغضب
وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا يبيد وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرضى بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت
وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الايمان واجعلنا هداة مهتدين) ( ).
وسئل الإمام علي عليه السلام(بماذا أحببت لقاء الله ؟ قال: لما رأيته قد اختار لي دين ملائكته ورسله
وأنبيائه علمت أن الذي أكرمني بهذا ليس ينساني فأحببت لقاءه) ( ).
ولم تقل الآية قد أصبتم مثلها وبيان التشابه والمثلية ، وقد ورد ذات اللفظ في قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ] ( ) وأختلف في المثلين أعلاه على وجهين :
الأول : المثلية والتشابه .
الثاني : الضعف .
و(عن سعيد ابن أبي آوس في قوله : {يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ}( ) قال: كان المشركون يرون المسلمين مثليهم فلمَّا أسروهم سألهم المشركون كم كنتم؟
قالوا : ثلاثمائة وبضعة عشرة، قالوا : ما كنَّا نراكم إلاّ تضاعفون علينا،
قال : وذلك ممَّا نصر به المسلمون)( ).
ومن معاني آية البحث أمور :
الأول : قد أصبتم مثليها من جهة قتل سبعين من الذين كفروا يوم بدر.
الثاني : قد اصبتم مثليها فنزل القرآن بتوثيقه وذكره لبيان قانون في الحياة الدنيا وهو: ترشح السعادة والغبطة والمواساة عن ذكر النعمة في ساعة الشدة والسراء في حال الضراء .
الثالث : قد اصبتم مثليها في ذات معركة أحد بابتداء المعركة بنصر المسلمين ، وقتل حملة لواء المشركين بالتتابع ، فمن الإعجاز في السنة النبوية أنه كلما يحمل لواء المشركين واحد منهم يقتل حراً كان أو عبداً.
الرابع : تذكير المسلمين بفضل الله والنعم التي منّ بها عليهم ومنها مضامين الآية السابقة ، ولا يعلم النعم العظيمة التي تفضل بها الله عز وجل على المسلمين ليبلغوا مراتبة ملاقاة كفار قريش بقوله تعالى في الآية التالية[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] إلا الله عز وجل .
لقد كانت قريش أمة تتوارث القوة والتجارة والجاه وهي متجانسة وتدين لها قبائل عربية كثيرة وهم فرحون بما في أيديهم ، أما المسلمون فقد هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مع نفر من أهل بيته وأصحابه على خوف ووجل من قريش , لتأويهم وتنصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طائفة من الأوس والخزرج وكان عددهم في بيعة العقبة الثالثة خمسة وسبعين، منهم إمرأتان.
وعن كعب بن مالك قال: خرجنا مع (حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا فلما وجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة قال البراء لنا يا هؤلاء إنى قد رأيت رأيا والله
ما أدرى أتوافقوني عليه أم لا قال قلنا وما ذاك قال رأيت أن لا أدع هذه البنية منى بظهر يعنى الكعبة وأن أصلى إليها قال قلنا والله وما بلغنا أن نبينا يصلى إلا إلى الشام وما نريد أن نخالفه قال فقال إنى لمصل إليها قال قلنا له لكنا لا نفعل قال فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة حتى قدمنا مكة قال وقد كنا عبنا عليه ما صنع وأبى إلا الاقامة على ذلك قال فلما قدمنا مكة قال لى يا ابن أخى انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا فانه والله لقد وقع في نفسي منه شئ لما رأيت من خلافكم إياى فيه قال فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا لا نعرفه ولم نره قبل ذلك فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هل تعرفانه قلنا: لا قال: فهل تعرفان العباس بن عبدالمطلب عمه قلنا: نعم قال: وكنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجرا قال فإذا دخلتما المسجد هو الرجل الجالس مع العباس قال فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم معه فسلمنا ثم جلسنا إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل قال: نعم هذا البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب بن مالك قال فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاعر قال نعم قال فقال له البراء بن معرور يا نبى الله إنى خرجت في سفري هذا وقد هداني الله للإسلام فرأيت أن لا أجعل هذه البنية منى بظهر فصليت إليها وخالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شئ فماذا ترى يا رسول الله قال لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها.
فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصلى إلى الشام وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات وليس كما قالوا نحن أعلم به منهم ثم خرجنا إلى الحج
وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العقبة من واسط أيام التشريق فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التى واعدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لها ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر سيد من ساداتنا أخذناه وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا فكلمناه وقلنا له يا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا ثم دعوناه إلى الاسلام وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيانا العقبة قال فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبا فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلا ومعنا إمرأتان من نسائنا)( ).
وجاءت معركة بدر في السنة الثانية للهجرة وكان حساب قريش عن خبرة ودهاء ، إذ جهزوا جيشاً من ألف رجل وهم يعلمون أن عدد المسلمين أقل من نصف هذا العدد , أما العدة والخيل والرواحل فالجميع يعلم حال فقر المسلمين.
وكيف تبنى دولة مع حال الفقر والعوز لتواجه الأعداء ذوي الشأن والمال والجاه ، ولكن فضل الله عز وجل عظيم ليس له حد أو منتهى ، وهو الذي أنزل الملائكة لنصرتهم في معركة بدر ليتعظ الذين كفروا ويجتنبوا قتال المسلمين ، ويمنعوا حلول المصيبة بالمسلمين يوم أحد ، هذه المصيبة التي جلبت للمسلمين الأجر والثواب ، ولم ولن تجلب للذين كفروا إلا الخزي والذل والهلاك.
ففي ذات الوقت الذي تخاطب فيه آيات البحث المسلمين بنزول المصيبة بهم يوم أحد تضمنت آيات أخرى من القرآن الذم والتقريع والخزي للذين كفروا وبخصوص ذات يوم أحد ، قال تعالى لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ.
فمن إعجاز القرآن أن يوم أحد كان مصيبة وخزياً وخسارة للذين كفروا وأن أصيب به المسلمون بالخسارة .
ولما أخبرت الآية السابقة عن منّ الله على المسلمين تضمنت آية البحث قانوناً من مصاديق هذا المنّ من جهات :
الأولى :تقدم نصر المسلمين على الذين كفروا زماناً، إذ إنتصر المسلمون يوم بدر .
الثانية : تقدير آية البحث : قد أصبتم مثليها بنصر من الله ونزول الملائكة مدداً لكم .
فاذا كان نصر وغلبة المسلمين يوم بدر بنصر من الله فانه سبحانه لن يخل بينهم وبين الذين كفروا، ولكن خسارة جسيمة نزلت بالمسلمين في معركة أحد بسبب خطأ منهم ففقدوا سبعين شهيداً مع شدة الجراحات التي نزلت المسلمين ، وفاتتهم الغنائم الكثيرة التي صارت قريبة منهم, لاحت بشائر النصر مع أول ساعات المعركة وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله { إذ تحسُّونهم } قال : تقتلونهم قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ قال : نعم . أما سمعت قول الشاعر :
ومنا الذي لاقى بسيف محمد … فحس به الأعداء عرض العساكر
وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قول الله { إذ تحسونهم بإذنه } قال : تقتلونهم قال : وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم، أما سعمت قول عتبة الليثي :
نحسهم بالبيض حتى كأننا … نفلق منهم بالجماجم حنظلا)( ).
الثالثة : غلبة المثلين في النصر للمثل الواحد في الخسارة بدليل أن المشركين انهزموا يوم بدر وطاردهم المسلمون وأسروا سبعين وقتلوا سبعين منهم ، أما في معركة أحد فلم ينهزم جيش المسلمين ، وكان جيش المشركين هو الذي إنسحب أن ساحة المعركة أولاً .
وهل في الآية بشارة إصابة المسلمين من المشركين مثل ما جرى في معركة بدر، الجواب نعم.
لتكون دلالات ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة يوم أحد معجزة له في السنة الدفاعية ، تقتبس منها الدروس إلى يوم القيامة ، ولا يختص هذا الإقتباس بالمسلمين فيمكن أن تنتفع منه الجيوش ، ويأخذ منه الملوك المواعظ ويكون سبيل هداية للناس، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ولما جاء القرآن بحرمة الفرار من الزحف من غير علة ووجود راجح، قال تعالى[وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( )، فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام في الثبات في الميدان ، ليكون ثباته هذا من مصاديق قوله تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
شآبيب بين بدر وأحد
لقد نصر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر عظيماً , قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) وإذا أعطى الله عز وجل فانه يعطي بالأتم والأوفى ، ويحتمل نفع وأثر هذا النصر وجوهاً :
الأول : حصر النصر ومنافعه بمعركة بدر، لأن الآية ذكرت خصوص بدر بقوله تعالى [بِبَدْرٍ].
الثاني : النفع المتصل في أيام النبوة كلها ، إذ ينهل الصحابة من معركة بدر، ويقتبسون منها المواعظ ولزوم حسن التوكل على الله عز وجل .
الثالث : إنتفاع المسلمين الدائم وإلى يوم القيامة من معركة بدر ، وهذا الإنتفاع على جهات :
الأولى : خصوص ميادين القتال .
الثانية : مقدمات المعركة وزجر الكفار عن التعدي على المسلمين .
الثالثة : إرادة نفع المسلمين العام من معركة بدر ونتائجها .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق وفيوضات معركة بدر ، وقد يتبادر إلى الأذهان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبقى وأصحابه بعد معركة بدر مدة مديدة فرحين بهذا النصر ويتفاخرون به، ويقومون بإعادة ترتيب صفوفهم ومعالجة أمور الأسرى ومتابعة مسألة الغنائم.
ولكن تجلى الشكر لله عز وجل في المقام بعدم بقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة بعد عودته من معركة بدر إلا بضعة أيام.
(قال ابن اسحق فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يعني من بدر لم يقم الا سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بنى سليم)( ).
وتلك آية لا تتم لولا الوحي من عند الله عز وجل ، فقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد بني سليم واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وقيل ابن أم مكتوم فبلغ ماء من مياه بني سليم يقال له الكُدر بضم الكاف وسكون الدال وسمي الكُدر لوجود طيور بذات لون الكدورة لتلك الأرض الملساء، وتسمى هذه الكتيبة بأسماء :
أولاً : كتيبة الكدر .
ثانياً : كتيبة قرقرة الكدر .
ثالثاً : كتيبة قرقرة الكدرة .
الرابع : قرارة الكدر , عن ابن سعد( ).
وكان لواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الإمام علي عليه السلام، وعدد الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائتان وسبب الضرب أن جمعاً من بني سليم وغطفان يريدون الإغارة على المدينة.
فبادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الهجوم عليهم ، ولم يلق حرباً فأقام ثلاثة أيام ثم انصرف راجعاً إلى المدينة في رسالة لتخويف القبائل بأن لا يمدوا أو ينصروا قريشاً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة الثأر التي ينوون.
فقد آلى كبار كفار قريش بعد معركة بدر غزو المدينة , وجاء أبو سفيان بمائتي راكب إلى أطراف المدينة ووصلوا إلى مكان يسمى العريض( )، فحرقوا صغار نخل في الموضع ، وقتلوا رجلين أحدهما من الأنصار والآخر حليف له ، فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم فنفر المسلمين وخرج معهم بنفسه في طلب أبي سفيان وأصحابه الذين سارعوا في تلبية النداء .
وقد أصاب الخوف والفزع المشركين واستحضروا في الوجود الذهني واقعة بدر، وأدركوا بقياس الأولوية القطعية ما ينزل بهم من البلاء والمصيبة، فإذا كان المشركون في معركة بدر ألف رجل ، باسلحتهم ومؤونهم، وقاتلوا بعيداً عن المدينة وفي أول معارك الإسلام مع فقر وعوز المسلمين ونقص أسلحتهم فكيف وقد جاء أبو سفيان بمائتي رجل فقط ووصلوا أطراف المدينة , وبعد أن منح نصر الله المسلمين في معركة بدر المنعة والقوة وكثرة السلاح والغنائم وبعثهم على المبادرة إلى النفير وهو من مصاديق قوله تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
وقياس الأولوية أمر يلجأ إليه الناس بالفطرة وحكم العقل ، وامتلأت قلوب الكفار بالخوف والجزع فالقوا كثيراً من أزوادهم وأمتعتهم للهرب، فلما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون إلى موضعهم وجدوا الأمتعة وكثيراً من السويق ، فأخذها المسلمون وسميت غزوة السويق ، ولم يلحق بهم النبي بل عاد بأصحابه إلى المدينة في اليوم الثاني من ذي الحجة أي بعد معركة بدر بشهرين ونصف الشهر ، وكانت مدة غيابه عنها في هذه الضرب خمسة أيام.
وقال المسلمون الذين كانوا معه (يا رسول الله أتطمع ان تكون لنا غزوة، قال : نعم )( ).
لبيان ترتب الثواب العظيم على الفعل العبادي والصبر القليل في سبيل الله، ثم جاءت ضرب ذي أمر ، وتسمى أنمار وسبب هذه الضرب أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلاً يقال له دُعثور بضم الدال وأسكان العين ابن الحارث الغطفاني يجمع الناس من مغلبة ومحاربة بموضع يسمى ذي أمر نسبة إلى ماء في ذات المكان يريدون الإغارة على أطراف المدينة والإصابة منها.
فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باربعمائة وخمسين رجلاً لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول , وهذا العدد من الصحابة أكبر عدد من المسلمين يخرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبيل معركة أحد.
وفي الطريق أصاب المسلمون رجلاً منهم يسمى حبان بن ثعلبة فجاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقيل اسمه جبُار فسأله عن قومه فأخبره بالتفصيل، ومن غير تورية أو كذب أو مكر.
وقال له لن يلاقوك ، ولو سمعوا بقدومك إليهم لفروا إلى رؤوس الجبال ، ثم أبدى إستعداده لمصاحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنطق بالشهادتين واسلم وضمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بلال ليعلمه أحكام الإسلام ، وصار دليلاً لجيش المسلمين لتتجلى فيوضات النصر في معركة بدر على المسلمين ، ويملأ الفزع قلوب المشركين من مكة والقرى ما بينها وبين المدينة.
وتفاءل المسلمون خيراً ، وليس من جيش يطمئن لفرد من رجال العدو ويصبح لهم دليلاً في أول ساعة يلقونه من غير أن يخشوا كيده ومكره وأنه جاء عيناً عليهم أو أراد أن يندس بينهم ويوقع فيهم ويضلهم , وإن تعرض للقتل عند إكتشاف مكره وكيده , إلا أنه الإسلام الذي يغزو القلوب دفعة، قال تعالى [وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ) .
وحالما سمع الكفار بقدوم جيش المدينة فروا إلى رؤوس الجبال وتركوا مساكنهم ومواضعهم على ماء ذي أمر (عن جابر بن عبدالله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ” أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الانبياء قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وحلت لي الغنائم ، ولم تحل لاحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة “. ) ( ).
فأقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليالي عديدة في المكان لأمور:
الأول : حث المسلمين على الشكر لله عز وجل على نعمة هروب العدو.
الثاني : تجلي حقيقة مستحدثة ، وهي إجتناب الذين كفروا قتال المسلمين.
الثالث : جعل الأعراب يشعرون بالأسى ، ويتحملون المشاق ببقائهم على رؤوس الجبال أياماً وليالي .
الرابع : بعث رسالة إلى قريش وغيرهم بالتحدي الذي يبديه المسلمون.
الخامس : بيان قانون وهو إستجابة المسلمين لأوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبقاء في ذات الموضع من غير قتال ، ومن دون أن يظهروا شوقاً للعودة إلى أهليهم في المدينة إذ أنهم يعلمون بأن لهم في كل ساعة في المقام أجراً وثواباً عظيماً ، وهل هو من الصبر أم الجهاد في سبيل الله .
الجواب إنه منهما معاً من غير تعارض بينهما ، قال تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] ( ) .
السادس : بلوغ المسلمين مرتبة من العز بالأمن على المدينة وعدم الخشية من إغارة الذين كفروا عليها ، وهو من أسباب مبادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الهجوم على القوم الذين يبلغه سعيهم للإغارة عليها أو على أطرافها .
وهذه المرتبة من رشحات قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( )وما تدل عليه من إنتفاء الذل والخوف عند المسلمين .
السابع : تأكيد سلامة المسلمين من الوهن والضعف والجبن ، قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
الثامن : دعوة أهل الموضع رجالاً ونساءاً إلى الإسلام ، إذ أنهم يرون صلاة المسلمين والضبط والتنظيم عندهم ، وهي أمور لم تألفها الجزيرة ويسمعون تلاوتهم للقرآن وتسبيحهم وانصياعهم لأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغبطتهم وسعادتهم بوجوده بين ظهرانيهم ، قال تعالى [وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
ورجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يلق حرباً ، ولم يقاتل أحداً مما يدل على ان غزواته صلى الله عليه وآله وسلم كانت لزجر الذين كفروا عن التعدي على المدينة ومحاولة الإساءة للحرمات .
وتحتمل غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه في كنهها وجوهاً :
الأول : إنها بأمر من الله عز وجل في أوانها وتفاصيلها .
الثاني : جاءت هذه الغزوات باقتراح من الصحابة وإمضاء الوحي لها .
الثالث : تجلي الحكم الواقعي ، ولزوم تأديب وزجر الذين كفروا وبعث الخوف في قلوبهم .
الرابع : تأتي هذه الغزوات إبتداء من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : أصل الغزوات من الوحي أما التفاصيل ، وخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها فهو إجتهاد من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والصحيح هو الأول وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
وأصاب المسلمين مطر كثير بلت معه ثيابهم وأصاب ثوب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منه ، وانفرد عن أصحابه ونزع ثيابه واضطجع تحت الشجرة والأعراب ينظرون من على ذروة الجبل , فقالوا لشخص منهم اسمه دعثور بن الحرث وكان سيدهم وأشجعهم : قد أمكنك محمد ، وقد ظهر بمفرده ليس معه أحد من أصحابه ولا يستطيعون الوصول إليه ويغيثونه قبل أن تقتله ، فاختار وعثور سيفاً صارماً من سيوفهم ، وهبط من الجبل مسرعاً حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيفه مشهور (فقال: يا محمد من يمنعك منى اليوم ؟ قال: الله.
ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده.
فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من يمنعك مني ؟ قال: لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والله لا أكثر عليك جمعا أبدا.
فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه) ( ) وصار دعثور يدعو قومه إلى الإسلام ، ونزل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ).
وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وشاهد تأريخي بأنه في حفظ وأمن وسلامة من عند الله ، وفي التنزيل في خطاب من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ] ( ).
وفي رواية قال دعثور لا أكثر عليك جمعاً أبداً ثم أقبل بوجهه وقال : والله لأنت خير مني , فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنا أحق بذلك منك .
لقد همّ دعثور بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلبس بجريمة الشروع به ، ومع هذا لم ينتقم منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يوثقه ليأتي أصحابه ويؤخذ أسيراً ، ولم يطرده إنما أعاد له سيفه ، ولم يخش أن يجهز به عليه مرة أخرى ، ليتجلى نفع المعجزة في القريب والبعيد ، ولما رجع إلى قومه سألوه باستغراب وإنكار بعد أن رأوه شاهراً السيف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال لهم : قد كان والله ذلك أي أنه رفع سيفه ليقتل به النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
(ولكني نظرت إلى رجل أبيض طويل فدفع في صدري فوقعت لظهري وعرفت أنه ملك وشهدت أن محمدا رسول الله وجعل يدعو قومه إلى الاسلام) ( ).
وبعد غزوة ذي أمر بلغ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ان جمعاً كبيراً من بني سليم ينوون غزو أطراف المدينة فخرج في ثلاثمائة من أصحابه وعجّل في المسير حتى وصل إلى بحران بضم الباء وفتحها .
وأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة بعد قدومه من بحران أربعة أشهر وبعد شهر جمادي الآخرة ورجب وشعبان ورمضان من السنة الثالثة للهجرة حتى جاء كفار قريش غازين في شهر شوال ،وفي إقامة وبقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا في المدينة مسائل :
الأولى : الأمن والسلامة من تهديد القبائل القريبة من المدينة وتشتيت جماعتهم .
الثانية : إعطاء الصحابة مدة للإستراحة من الغزو والإبتعاد عن المدينة .
الثالثة : تثبيت أحكام الإسلام ومعالم الإيمان في قلوب المسلمين والمسلمات .
الرابعة : تأكيد أولوية أداء الفرائض والواجبات .
الخامسة : فضح المنافقين .
السادسة : إبطال أقوال الذين كفروا والمنافقين عند خروج المسلمين للغزو والكسب كما ورد في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا..] ( ).
السابعة : تهيئ المسلمين للقاء جيوش الذين كفروا .
الثامنة : التدريب والتأهيل لملاقاة الذين كفروا ، وهل هذا التدريب من معاني قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
الجواب نعم إذ تخبر الآية أعلاه عن إتصاف جيش المسلمين بأنه جمع كفئ لجمع العدو ، ومن مصاديق التأهيل والتمرين .
التاسعة : تنعم الصحابة مع عوائلهم ، وكأنه مقدمة لفقد سبعين شهيداً.
العاشرة : هذه الإقامة في المدينة لبضعة شهور مناسبة للإنجاب ، وترغيب بالزواج .
الحادية عشرة : منع النفرة في النفوس من كثرة الغزو ، ومفارقة الأحبة.
الثانية عشرة : تجلي قانون عند مجئ كفار قريش إلى معركة أحد بأن المسلمين لم يقاتلوا إلا دفاعاً .
الثالثة عشرة : رصد أخبار كفار قريش وتهيئهم للغزو والقتال .
الرابعة عشرة : تفقه المسلمين في الدين , وإستقبال الذين يدخلون الإسلام حديثاً .
الخامسة عشرة : لما قال الله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] ( ) قام النبي محمد بجعل المسلمين يستعدون للقاء العدو في معركة أحد .
مقارنة بين معركة بدر وأحد
وبين وقائع معركة بدر ومعركة أحد عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من وجوه :
الأول : كل من المعركتين بإمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المعركة إلا بالوحي والتنزيل .
الثالث : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الرابع : وقوع كل من المعركتين خارج المدينة ، بينما وقعت معركة الخندق حولها .
الخامس : حضور المهاجرين والأنصار في كل من المعركتين.
السادس : سبق رؤيا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل المعركة وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم (كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) ( ).
السابع : عدد جيش المشركين نحو ثلاثة أضعاف جيش المسلمين .
الثامن : حمل الإمام علي عليه السلام للواء .
التاسع : سقوط شهداء من المسلمين .
العاشر : كثرة القتلى في الذين كفروا .
الحادي عشر : لحوق الخزي بالذين كفروا .
الثاني عشر : عجز الذين كفروا عن تحقيق أي غاية أو غرض من أغراضهم الخبيثة .
الثالث عشر : نزول آيات متعددة من القرآن بخصوص كل من معركة بدر ومعركة أحد .
الرابع عشر : بقاء لواء رسول الله خفاقاً وعدم سقوطه في كلتا المعركتين .
الخامس عشر : عدم بدء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالقتال .
السادس عشر : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة الأعداء للنطق بكلمة التوحيد ، وحقن الدماء بقول لا إله إلا الله .
السابع عشر : إجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالدعاء في كل من المعركتين وسؤاله النصر من عند الله ، وفي التنزيل [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) وجاءت الآية أعلاه بخصوص معركة بدر، ولكن مضامينها عامة تشمل معارك الإسلام الأخرى .
الثامن عشر : تولي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه تنظيم جيش المسلمين ، وتعيين مواضعهم .
التاسع عشر : سلامة المسلمين من الخوف والحزن .
العشرون : شوق المسلمين للقاء الله وبشارات الأجر العظيم للشهيد .
الحادي والعشرون : إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب والخوف .
الثاني والعشرون : عدد الأنصار أكثر من عدد المهاجرين في كل من المعركتين ، وكذا بالنسبة لعدد الشهداء في كل منهما .
الثالث والعشرون : إصرار الذين كفروا على القتال وإبتداؤهم به .
الرابع والعشرون : إبتداء كل من المعركتين بكثرة القتل في الذين كفروا.
الخامس والعشرون : تحلي المسلمين بالصبر والرباط في المعركتين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
السادس والعشرون : خروج المسلمين من المعركتين بالعز والفلاح .
السابع والعشرون : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والإغتيال .
الثامن والعشرون : استشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه قبل كل من المعركتين .
ففي معركة أحد كرر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طلب المشورة من أصحابه من جهتين :
الأولى : استشارة المهاجرين والأنصار على نحو العموم المجموعي .
الثانية : إختصاص الأنصار بالمشورة لأنهم بايعوه في العقبة على أمور :
أولاً : أعلن الأنصار أنهم براء من ذمام رسول الله حتى يصل إلى مدينة يثرب ، فلو توجه إليهم وداهمه عدو في الطريق فلا شيء عليهم ليدل بالدلالة التضمنية على عدم قيام الأنصار بارسال وفد لأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة والذب عنه في الطريق ، ولو فعلوا لخرجت قريش في طلبه وطلبهم ، ولعجزوا عن الدفاع عنه ، ويظهر أن الأنصار يعلمون بما يترتب على أخذهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بين أهله في مكة مع حرب كبار قريش له وللتنزيل .
ثانياً : في حال وصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يثرب فان الأنصار من الأوس والخزرج يذبون عنه ويمنعونه .
ولم يشكُ لهم النبي الأخطار التي تداهمه في الطريق إلى مكة .
ترى لماذا رضي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما عرضه الأنصار ، الجواب لأنه متوكل على الله ويعلم أن الله عز وجل يحفظه ، وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) وقد كانت هجرته القصيرة إلى الطائف وما لاقاه فيها من الأذى حاضرة في ذهنه ، وفي الواقع ، إذ كان نفر من قريش عندهم حائط في الطائف لعتبة وشيبة ابني ربيعة ، ورأوا كيف أخذ الصبيان والعبيد في الطائف برمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحجارة , وشُج رأسه بتحريض من بعض رجالات الطائف , وجرت الدماء من قدميه ، وكان خروجه لها لليال بقين من شهر شوال سنة عشرة للبعثة النبوية ، ولم تمض بضع سنين حتى زحف ربيعة وشيبة في جيش عظيم لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكانت معركة بدر ، وصار ربيعة وشيبة أول من قتل من طرف الذين كفروا .
ثالثاً: بيان الأنصار لكيفية منعهم لرسول الله صلى اله عليه وآله وسلم بقولهم (فَإِذَا وَصَلْتَ إلَيْنَا ، فَأَنْتَ فِي ذِمّتِنَا نَمْنَعُك مِمّا نَمْنَعُ مِنْهُ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا) ( ) فلم يذكروا في بيعة العقبة أنهم يخرجون معه للقاء عدو أو لجلب بضائع قافلة من قوافل قريش إستيفاء لأموال المهاجرين من مكة ممن استولت قريش على أموالهم وبيوتهم .
(عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ قِيلَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا تَنْزِلُ مَنْزِلَك مِنْ الشّعْبِ ؟ قَالَ فَهَلْ تَرَكَ لَنَا عُقَيْلٌ مَنْزِلًا ؟ َكَانَ عُقَيْلٌ قَدْ بَاعَ مَنْزِلَ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْزِلَ إخْوَتِهِ مِنْ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ بِمَكّةَ.
فَقِيلَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْزِلْ فِي بَعْضِ بُيُوتِ مَكّةَ فِي غَيْرِ مَنَازِلِك فَأَبَى رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَا أَدْخُلُ الْبُيُوتَ. فَلَمْ يَزَلْ مُضْطَرِبًا بِالْحَجُونِ لَمْ يَدْخُلْ بَيْتًا، وَكَانَ يَأْتِي إلَى الْمَسْجِدِ مِنْ الْحَجُونِ)( ).
وتلك آية في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لم ينتزع ملكه الذي باعه عقيل تعدياً ولم يسكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم البيوت فيها لبيان أنه راحل عنها وراجع إلى المدينة .
التاسع والعشرون : إنقضاء كل من معركة بدر ومعركة أحد في يوم واحد.
الثلاثون : عودة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كل من المعركتين إلى المدينة .
الحادي والثلاثون : استبشار وغبطة أهل المدينة رجالاً ونساءً بعودة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإطلالته البهية على ربى ورباع المدينة يحيط به أهل بيته وأصحابه من المهاجرين والأنصار .
الثاني والثلاثون : بيان وتوثيق بعض الآيات لحوادث معركة بدر وأحد كما هو في آية البحث .
الثالث والثلاثون : أول قتيل في كل من المعركتين قتله الإمام علي عليه السلام .
أما مادة الإفتراق بين معركة بدر وأحد فمن وجوه :
الأول : تقدير معركة بدر زماناً على معركة أحد، إذ حدثت معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ووقعت معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
الثاني : لم يخرج المسلمون في معركة بدر للقتال ، أنما خرجوا لإعتراض قافلة أبي سفيان ، قال تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ] ( ) أما في معركة أحد فقد إستعد المسلمون للقتال وهم في المدينة ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
الثالث : التعدد في أول من برز في معركة بدر ، إذ برز للقتال عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد ، بينما أول برز في معركة أحد فرد واحد هو حامل اللواء طلحة بن عثمان أخو شيبة من بني عبد الدار، ويقال أنه أبو سعيد أبي طلحة( ).
وفيه شاهد على أن المشركين جاءوا إلى معركة أحد بحذر وخوف.
الرابع : لم ترجع طائفة من المسلمين في طريقهم إلى معركة بدر ، أما في معركة أحد فقد رجع نحو ثلث الجيش بغدر ومكر من رأس النفاق .
الخامس : كثرة أعداد الجيش في كل من الفريقين في معركة أحد بالقياس إلى معركة بدر .
السادس: سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الجراحات في معركة بدر وكثرتها في معركة أحد .
السابع : كثرة شهداء المسلمين في معركة أحد .
الثامن : مجيء المسلمين بسبعين أسيراً من المشركين في معركة بدر ، وتعذر أسر طائفة منهم في معركة أحد .
التاسع : كثرة غنائم المسلمين في معركة بدر بخلاف معركة أحد .
العاشر : ثبات المسلمين في معركة بدر ومطاردتهم للعدو بخلاف معركة أحد حيث إنهزم أكثرهم ، ولكن ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه جعلهم يعودون إليه إلا القليل النادر.
الحادي عشر : هطول المطر في ليلة معركة بدر ليرتوي المسلمون ويتطهروا ويغتسلوا من الجنابة ، وتتماسك الأرض .
الثاني عشر : ورود اسم معركة بدر في القرآن بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، ولم يرد اسم جبل أحد في القرآن، نعم ورد في السنة النبوية، و( عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أحد جبل يحبنا ونحبه ، فإذا جئتموه فكلوا من شجره ، ولو من عضاهه)( ), لذا تستحب زراعة النخيل والأشجار المثمرة حواليه , وتمكين زواره وقبور الشهداء منها بالبيع أو الهدية .
الثالث عشر : تدل الآية أعلاه على أن حال المسلمين أحسن من جهة العز والمنعة في معركة أحد عنها بخصوص معركة بدر .
الرابع عشر : عجز المشركين عن الوصول إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ، أما في معركة أحد فقد صاروا قريبين منه ، تصله حجارتهم ونبالهم .
الخامس عشر : تقيد المسلمين بأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ، أما في معركة أحد فقد ترك الرماة مواضعهم (عَنْ الزّبَيْرِ أَنّهُ قَالَ وَاَللّهِ لَقَدْ رَأَيْتنِي أَنْظُرُ إلَى خَدَمِ هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ وَصَوَاحِبِهَا مُشَمّرَاتٍ هَوَارِبَ مَا دُونَ أَخْذِهِنّ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ إذْ مَالَتْ الرّمَاةُ إلَى الْعَسْكَرِ حِينَ كَشَفْنَا الْقَوْمَ عَنْهُ وَخَلَوْا ظُهُورَنَا لِلْخَيْلِ فَأُتِينَا مِنْ خَلْفِنَا ، وَصَرَخَ صَارِخٌ أَلَا إنّ مُحَمّدًا قَدْ قُتِلَ . فَانْكَفَأْنَا وَانْكَفَأَ عَلَيْنَا الْقَوْمُ بَعْدَ أَنْ أَصَبْنَا أَصْحَابَ اللّوَاءِ حَتّى مَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ مِنْ الْقَوْمِ) ( )( ).
السادس عشر : تسابق الصبيان ومن بلغ أربع عشرة سنة وخمس عشرة سنة للخروج إلى القتال في معركة أحد ، ولم تكن هذه الآيات ظاهرة عند خروج النبي وأصحابه إلى معركة بدر .
السابع عشر : حضور النسوة مع كل من الطرفين في معركة أحد.
الثامن عشر : حضرت المؤمنات مع المسلمين لمداواة الجرحى بينما حضرت المشركات للضرب على الدفوف ونحوه .
التاسع عشر : إشتراك بعض النسوة في القتال في معركة أحد .
العشرون : بعد موضع معركة بدر عن المدينة ، إذ يبعد عنها نحو مائة وخمسين كيلو متراً , بينما لا يبعد موضع معركة أحد عن المسجد النبوي إلا خمس كيلو مترات.
قانون معرفة أوان نزول الآية القرآنية
لقد تفضل الله عز وجل على المسلمين بالخطاب منه تعالى وهو نعمة عظمى ثم جاء هذا الخطاب لتذكيرهم بنعمة عليهم بما ينفع بصرف أضرار مصيبتهم في واقعة أحد ، وفيه بيان لقانون وهو أن استحضار الوجوه المشرقة من الماضي عند البلاء حاجة ودرس وموعظة، ومن أسماء القرآن الموعظة، قال تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
ويمكن إنشاء قانون وهو معرفة أوان نزول الآية القرآنية من ذات مضامينها القدسية بما هو أعم من أسباب النزول إذ أن هذه الأسباب تخبر عن سبب النزول وقد تبين أوان نزولها.
أما هذا القانون فهو أعم، ويشمل التدبر في مضامينها ، وقد تبين الآية القرآنية الواحدة أموراً :
الأول : وقائع سابقة لنزول الآية تتحد أو تتباين مع موضوع نزول ذات الآية .
الثاني : أوان نزول الآية والوقائع والأحداث المصاحبة لها .
الثالث : أسباب نزول الآية القرآنية .
الرابع : موضوع الآية القرآنية .
الخامس : تفاصيل موضوع الآية القرآنية ، ودعوة المسلمين لتوثيقها .
السادس : بيان الآية لوقائع تقع بعد نزولها ليعرف أوان نزولها بلحاظ أنه سابق زماناً لهذه الوقائع، وفيه شاهد على أن الآية القرآنية إمام ومدرسة تنهل منها أجيال المسلمين ، ويقتبسون منها ما يزيدهم بصيرة وتدبراً في معجزات النبوة والتنزيل .
ومن أسماء القرآن (البصائر) في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال الله تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
ومن مصاديق هذا القانون آية البحث من وجوه :
الأول : الشهادة للمسلمين بالإيمان بلحاظ مجئ الآية في نظم الآيات السابقة ، وقد تقدم نداء الإيمان قبل تسع آيات بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا]( ).
لتكون الآية أعلاه نوع مواساة للمسلمين وشحذاً للهمم .
الثاني : توثيق آية البحث لواقعة أحد ، وما نزل بالمسلمين من الخسارة الفادحة .
الثالث : بعث المسلمين على معرفة الخسائر التي لحقتهم في معركة أحد، إذ ورد لفظ [مصيبة] في الآية القرآنية بصيغة التنكير وإرادة التعدد في أفرادها كما يأتي بيانه في باب التفسير ( ) نعم ورد تقييد ذات المصيبة في نفس آية البحث بقوله تعالى [قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا] للتذكير بواقعة بدر ونزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسله وسلم يومئذ .
الرابع : لما ذكرت الآية السابقة من ّ الله على المسلمين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان الله سبحانه يحب أن يبين مصاديق وأفراد منّه عليهم ، ومنه آية البحث التي تذكر نيل المسلمين من المشركين في معركة بدر إذ قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين .
ومن معاني معرفة أوان نزول الآية القرآنية إخبار آية البحث عن وقائع معركة أحد ، وتأكيدها لحقيقة تأريخية من جهات :
الأولى : وقوع معركة بدر قبل أوان معركة أحد .
الثانية : نصر المسلمين في معركة بدر، بينما عجز المشركون عن النصر والغلبة في معركة أحد .
الثالثة : التباين بين المغانم العظيمة التي كسبها المسلمون في معركة بدر، وحرمان الذين كفروا من المكاسب والمغانم في معركة أحد .
الرابعة : دعوة آية البحث المسلمين لتوثيق أسباب الخسارة في معركة أحد .
قوله تعالى [قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا]
لقد خرج المسلمون إلى معركة أحد ، وهم يرجون النصر والغلبة على الذين كفروا بالأولوية من جهات :
الأولى : نصر الله لنبيه الكريم والمسلمين في معركة بدر .
الثانية : مجئ البشارات في معركة أحد كتلك التي جاءت بخصوص معركة بدر ، ومنها قوله تعالى [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ]( ) وقال تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ]( ).
(عن ابن مسعود في قوله { قد كان لكم آيةٌ في فئتين}( ). قال : هذا يوم بدر فنظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً . وذلك قول الله { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم}( ))( ).
الثالثة : تجلي قانون في ميدان القتال، وهو التخفيف عن المؤمنين، وليس من حصر لضروب هذا التخفيف .
الرابعة : التباين في الحال في دخول المعركة إذ يدخل المسلمون المعركة بالعز والفخر والرضا وإرادة الأجر والثواب ، وفي التنزيل [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ]( ).
أما الذين كفروا فيدخلون بأسباب من الخذلان منها :
الأول : ما ألقاه الله عز وجل في قلوب الذين كفروا من الخوف والفزع.
الثاني : إستحضار المشركين لخسارتهم في معركة أحد .
الثالث : حال الندم على التخلف عن التصديق بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : الذل الذي يلحق كفار قريش في هجومهم لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينما يدافع عنه وينصره أهل يثرب من الأوس والخزرج.
ومن الآيات في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقف عند إنتهاء معركة بدر على قتلى المشركين وخاطبهم وكأنهم أحياء ، وقال (بِئْسَ عَشِيرَةُ النّبِيّ كُنْتُمْ لِنَبِيّكُمْ ، كَذّبْتُمُونِي ، وَصَدّقَنِي النّاسُ وَخَذَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النّاسُ وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النّاسُ ثُمّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا إلَى قَلِيبٍ مِنْ قُلُبِ بَدْرٍ ، فَطُرِحُوا فِيهِ ثُمّ وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَيَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَيَا فُلَانُ وَيَا فُلَانُ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبّكُمْ حَقّا ، فَإِنّي وَجَدْت مَا وَعَدَنِي رَبّي حَقّا) ( ).
وتبين خاتمة الحديث أعلاه أن نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمر حتمي ، وأن جراحاته وخسارة المسلمين يوم معركة أحد لم تغير من هذا القانون.
لقد تحمل الأنبياء الأذى من قومهم , وقذفوا شطراً منهم بالحجارة وقتلوا بعضهم.
وعقر قوم صالح الناقة التي هي آية من عند الله عز وجل وتفضل الله عز وجل إذ ورد حكاية عن صالح في التنزيل[وَيَاقَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ]( ) .
وتفضل الله عز وجل بجعل رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خالدة وباقية إلى يوم القيامة , وأنه سبحانه جعل معجزته عقلية لوجوه :
الأول : حضور معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل مكان وزمان، وهو من الإعجاز في وجوب قراءة القرآن في الصلوات اليومية بأن يقرأ كل مسلم ومسلمة سبع عشرة مرة بين كل قراءة وأخرى أفعال عبادية من الركوع والسجود والتسبيح ونحوه ، وكلها تؤكد الخشية والخوف من الله .
ومن معاني القراءة في الصلاة تجدد خضوع وخشوع جوارح المسلمين لله عز وجل , وعن الإمام علي عليه السلام أن رسول الله كان إذا ركع قال اللهم لك ركعت ولك أسلمت وبك آمنت خشع لك سمعي وبصري وعظامي ومخي وعصبي)( ).
الثاني : عجز المشركين عن الإجهاز على معجزة النبي محمد صلى الله عليه وآله أيام النزول وما بعدها ، ودخل المشركون معركة بدر ثم أحد ثم الخندق ، وقد نفذ القرآن إلى شغاف القلوب ، ودخل إلى الخدور، وصار حديث الركبان ليتدبر به الناس ، ويستحضر المسلمون الآيات في الوجود الذهني ، وتجري على ألسنتهم .
الثالث : ترغيب الناس في الإسلام ، وتعجيل دخولهم فيه.
الرابع : عدم حصر الإيمان برؤية المعجزة الحسية ، فكل آية من القرآن معجزة في تلاوتها وعند الإستماع لها ، قال [وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا] ( ).
وصحيح أن هذه الآية تدل على الستر والحفظ والوقاية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من القوم المشركين إلا أن موضوعها أعم .
قوله تعالى [قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ]
لقد نسبت آية البحث سبب وعلة المصيبة إلى المسلمين بقوله تعالى [قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ] وفي هذه النسبة وجوه :
الأول : إختيار المسلمين الفداء عن الأسرى السبعين في واقعة بدر .
الثاني : عندما بلغ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين مجيء جيش المشركين لمعركة أحد ووصولهم بالقرب من المدينة المنورة إستشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه فاختلفوا على قولين :
أولاً : البقاء في المدينة وقتال الذين أشركوا على أفواه الأزفة وقيام النسوة والصبيان برميهم بالحجارة.
ثانياً : الخروج لقتال الذين كفروا على مشارف المدينة .
(وقال موسى بن عقبة: ورجعت قريش( ) فاستجلبوا من أطاعهم من مشركي العرب،
وسار أبو سفيان بن حرب في جمع قريش، وذلك في شوال من السنة المقبلة من وقعة بدر، حتى نزلوا ببطن الوادي الذى قبلى أحد، وكان رجال من المسلمين لم يشهدوا بدرا قد ندموا على ما فاتهم من السابقة( )، وتمنوا لقاء العدو ليبلوا ما أبلى إخوانهم يوم بدر.
فلما نزل أبو سفيان والمشركون بأصل أحد فرح المسلمون الذين لم يشهدوا بدرا بقدوم العدو عليهم، وقالوا: قد ساق الله علينا أمنيتنا.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرى ليلة الجمعة رؤيا فأصبح، فجاءه نفر من أصحابه فقال لهم: ” رأيت البارحة في منامي بقرا تذبح، والله خير، ورأيت سيفى ذا الفقار انقصم من عند ضبته( )، أو قال: به فلول، فكرهته، وهما مصيبتان، ورأيت أني في درع حصينة وأني مردف كبشا “.
فلما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم برؤياه، قالوا: يا رسول الله، ماذا أولت رؤياك ؟ قال: ” أولت البقر الذى رأيت بقرا( ) فينا وفى القوم، وكرهت ما رأيت بسيفي “.
ويقول رجال: كان الذى رأى بسيفه: الذى أصاب وجهه، فإن العدو أصاب وجهه يومئذ، وقصموا رباعيته وخرقوا شفته، يزعمون أن الذى رماه عتبة بن أبى وقاص، وكان البقر من قتل من المسلمين يومئذ.
وقال: أولت الكبش أنه كبش كتيبة العدو يقتله الله، وأولت الدرع الحصينة المدينة، فامكثوا واجعلوا الذراري في الآطام، فإن دخل علينا القوم في الازقة قاتلناهم ورموا من فوق البيوت.
وكانوا قد سكوا أزقة المدينة بالبنيان حتى صارت كالحصن.
فقال الذين لم يشهدوا بدرا: كنا نتمنى هذا اليوم وندعو الله، فقد ساقه الله إلينا وقرب المسير.
وقال رجل من الانصار: متى نقاتلهم يا رسول الله إذا لم نقاتلهم عند شعبنا؟
وقال رجال: ماذا نمنع إذا لم نمنع الحرب بروع؟( ) وقال رجال قولا صدقوا به ومضوا عليه، منهم حمزة بن عبد المطلب، قال: والذى أنزل عليك الكتاب لنجالدهم.
وقال نعيم بن مالك بن ثعلبة، وهو أحد بني سالم: يا نبي الله لا تحرمنا الجنة، فوالذي نفسي بيده لادخلنها.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بم ؟ قال: بأني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدقت.
واستشهد يومئذ.
وأبى كثير من الناس إلا الخروج إلى العدو، ولم يتناهوا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيه، ولو رضوا بالذي أمرهم كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر)( ).
الثالث : مخالفة الرماة لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم البقاء في مواضعهم إذ تركها أغلبهم، عندما رأوا أمارات النصر وبشارات الفتح للمسلمين ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]( ).
الرابع : إرادة التعدد في السبب من الوجوه الثلاثة أعلاه وغيرها .
الخامس : رجوع ثلث جيش المسلمين مع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول من وسط الطريق إلى معركة أحد .
السادس : عدم إتخاذ المسلمين خطط إحترازية في حال التعرض لخسارة، وكيف يتحصن بعضهم ببعض ويدفعون العدو، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصلح الأمور بثباته في ميدان المعركة ودعوته الصحابة للرجوع إلى القتال، وهو أبهى وأعظم من الإحتراز، وفي التنزيل[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]( ).
السابع : فرار أكثر الصحابة يوم أحد .
الثامن : ترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع ثلة من أهل بيته وأصحابه وسط المعركة .
قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]
من خصائص ومصاديق الإيمان التسليم بأن الله عز وجل يتصف بالقدرة المطلقة وأنه سبحانه يفعل ما يشاء ، ولا يعجزه شئ ، والقدير فعيل من القدرة ومعناه الفاعل لما يريد ، وهو الحكيم ، ومن معاني الإيمان بأن الله عز وجل على كل شئ قدير أمور :
الأول : تنزه المؤمنين من الشرك ، ما ظهر منه وما خفي وقد ظلت بعض الأمم السالفة ، وعدد من الفلاسفة ، قالوا أن الخير من الله أما الشر فهو من آلهة دونه ، ومنهم من قال أن النور خالق الخير ، والظلمة خالقة الشر .
الثاني : كل مسلم ومسلمة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) في الصلاة اليومية تعاهداً للإيمان وواقية من الشرك ومفاهيم الضلالة .
الثالث : إمتلاء النفس بالرضا والسكينة على كل حال ، حتى في حال مداهمة المصيبة والبلاء ، وفي التنزيل [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا] ( ).
وقد تجلى الإيمان في واقعة أحد ، وهو الذي تبينه آية البحث بنزول المصيبة بالمسلمين وهم يسعون في رضوانه ويجاهدون في سبيله ، ويرفعون لواء التوحيد في تلك البقعة الصغيرة والأرض التي بقيت جرداء حتى يومنا هذا ولكنها توثق معجزة إتساع ضياء الإسلام ، لتدخل الشهادتان البيوت في مشارق الأرض ومغاربها , ويصدح الأذان في أرجاء الأرض خمس مرات ، وفيه إعلان يومي متجدد للإيمان والثبات عليه .
ليكون الأذان علة في إستدامة الحياة الدنيا , والشواهد الجلية على تحقق مصداق عبادة الله في الأرض ، بقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) بلحاظ أن الأذان عبادة ومقدمة للعبادة , ونسب إلى بعض المعتزلة في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]قولهم بأن الله قادر على كل ما هو مقدور له .
أما نفس أفعال العباد فلا يقدر عليها ، ثم اختلفوا هل يقدر على مثلها أم لا .
ولا أصل لهذا القول إنما أفعال العباد بيد الله ولا تجري إلا بمشيئة منه سبحانه بلحاظ أن هذه الأفعال من الممكن والله عز وجل قادر على كل ممكن ، وعلى جعل المستحيل ممكناً ، وبالعكس .
وعلى الجمع بين المتضادين ، وهو من مصاديق كمال القدرة التي لا يمكن سلبها عن الله عز وجل .
وأما ما كان مستحيلاً بذاته مثل كون الشئ موجوداً ومعدوماً في آن واحد ، فهو أمر لا وجود له ، ولا تصح تسميته بالشئ ، لذا فمن إعجاز آية البحث أنها قيدت القدرة بالشئ ، وهذا التقييد مطلق في ذاته وموضوعه ومكانه وزمانه وهو أوسع من أن يحيط به التصور الذهني ،وهو من مصاديق وأفراد الكلمات في قوله تعالى [وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ] ( ) .
ولا يصح التنافر والجدال في المعدوم ونسيان اللامتناهي من الموجود الشاهد على عظيم قدرة الله ، فهذا الجدال نوع من أنواع المغالطة العقائدية ، فيجب أن يسيح العباد في رياض الإيمان والتدبر في الآيات الكونية ، وبديع خلق الله ، وما ينتظر الناس من عالم الحساب والجزاء ، قال تعالى [إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ]( ) وفي التنزيل [وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )وينفرد الله عز وجل بهذه المرتبة في العلو والرفعة كما ينفرد بقدرته على كل شئ .
ومن معاني إختتام آية البحث ببيان عظيم قدرة الله أمور :
الأول : دعوة المسلمين للصبر.
الثانية : مواساة المسلمين.
الثالث : التخفيف عن المسلمين .
وفي التنزيل [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ) وأن وردت الآية في مسألة النكاح ولكن موضوعها أعم ، والمدار على عموم المعنى وليس سبب النزول .
الرابع : بعث السكينة في نفوس المسلمين بأن ما وقع لهم في معركة أحد إنما هو بمشيئة الله ومن عظيم قدرته ، فلا شئ خارج عن قدرته وسلطانه حتى المصيبة التي يصاب بها المسلمون .
الخامس : البشارة بالأجر والثواب للمسلمين , ولا يقدر على الثواب على المصيبة إلى الله عز وجل ، ومن خصائص هذا الثواب مسائل :
الأولى : حضور الثواب من عند الله .
الثانية : المضاعفة في سنخية وكم وكيف الثواب .
الثالثة : تجدد الثواب .
الرابعة : تغشي الثواب المسلمين في الدنيا والآخرة ، وكل عمل بني آدم ينقطع في الدنيا , وينحصر الثواب في الآخرة برحمة ومنّ الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى في خاتمة آية البحث [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]
السادس : الوعيد للذين كفروا وأصروا على قتال المسلمين فقد سقط سبعون شهيداً من المؤمنين في معركة أحد , ليعجل الله عز وجل بزوال جاه ودولة الذين كفروا في مكة وما حولها وإلى يوم القيامة .
السابع : دعوة المسلمين للدعاء وسؤال النصر ، فهو قريب منهم لأن الله عز وجل قادر عليه ولا يهبه إلا للأنبياء وأتباعهم .
وهل قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ] جزء من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين والذي أمره الله به(قل) أم أنه ليس منه، المختار هو الثاني، وكأن قول النبي جملة إعتراضية.
قانون مصاديق الإيمان
لقد ذكرت آية البحث المؤمنين بصبغة الدرجات والرفعة والعلو فيها، وقد نالوا هذه المراتب بالإيمان والتقوى والصلاح، وإبتدأت الآية السابقة بقوله تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ]( ) وصحيح أن الآية ذكرت خصوص المنّ على المؤمنين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنها تتضمن اللامتناهي من جهات:
الأولى : منّ وطول الله عز وجل .
الثانية : خصائص الإيمان وخصال المؤمنين.
الثالثة : منّ الله على المؤمنين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وكل فرد وجهة أعلاه تصلح لتأليف مجلدات خاصة بها، وموضوعيتها بنيل المسلمين الدرجات الرفيعة عند الله عز وجل وليس من حصر لمصاديق المنّ في المقام , ويمكن تقديره على وجوه :
الأول : لقد مَن الله عز وجل على المؤمنين بفضل ولطف منه تعالى، قال تعالى[يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ]( ).
الثاني : لقد منّ الله على المؤمنين من بين الناس.
الثالث : لقد منّ الله على المؤمنين بسبب إيمانهم بالله إلهاً واحداً لا شريك له.
الرابع : لقد منّ الله على المؤمنين من بين الناس.
الخامس : لقد منّ الله على المؤمنين[لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ] ( ).
السادس : لقد منّ الله على المؤمنين بالنصر.
السابع : لقد منّ الله على المؤمنين شكراً لهم على إيمانهم.
الثامن : لقد منّ الله على المؤمنين بدحر عدوهم، وهزيمة مشركي قريش.
التاسع : لقد منّ الله عز وجل على المؤمنين بنزول القرآن وآياته.
العاشر : لقد منّ الله على المؤمنين لتلاوتهم القرآن.
الحادي عشر : لقد منّ الله عز وجل على المؤمنين ليتفقهوا في الدين، قال تعالى[وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]( ).
الثاني عشر : لقد منّ الله على المؤمنين لتفقههم في الدين فإن قلت إنما بلغ المسلمون مراتب ودرجات الفقاهة بفضل ولطف من الله عز وجل.
والجواب هذا صحيح، ومن مصاديق منّ الله عز وجل أنه يعطي ويشكر على هذا الإعطاء وتلقي العبد له ورشحاته على لسانه وجوارحه، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، بتقريب أن الله عز وجل يمن على الناس بالنعم ثم يشكرهم على تلقي هذه النعم، وفي هذا الشكر إصلاح لهم، وفي التنزيل[وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا]( ).
الثالث عشر : لقد منّ الله على المؤمنين لصبرهم في مرضاة الله، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
الرابع عشر : لقد منّ الله عز وجل على المؤمنين لأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
الخامس عشر : لقد منّ الله عز وجل على المؤمنين ليزدادوا إيماناً.
السادس عشر : لقد منّ الله على المؤمنين رحمة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابع عشر : لقد منّ الله على المؤمنين لأنهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثامن عشر : لقد منّ الله على المؤمنين لأن أخوة الإيمان جامعة لهم ومانعة من الفرقة والخصومة، قال تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
التاسع عشر : لقد منّ الله على المؤمنين لأنهم يتعاهدون الصلاة ويأمرون أهلهم بها، قال تعالى[وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا]( ).
(عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول الله له : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟
فيقول : أي رب خير منزل
فيقول : سل وتمن فيقول : أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرات لما رأى من فضل الشهادة.
قال : ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول الله : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟
فيقول : أي رب شر منزل فيقول : فتفتدى منه بطلاع( ) الأرض ذهباً؟ فيقول : نعم . فيقول : كذبت قد سألتك دون ذلك فلم تفعل.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: عرض عليَّ أول ثلاثة يدخلون الجنة ، وأول ثلاثة يدخلون النار.
فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة فالشهيد ، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده ، وعفيف متعفف ذو عيال.
وأما أول ثلاثة يدخلون النار فأمير مسلط ، وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله في ماله ، وفقير فخور .
وأخرج الحاكم عن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أول ما يهراق من دم الشهيد يغفر له ذنوبه.
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صبر حتى يقتل أو يقتلهم لم يفتن في قبره( ).
وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد والبخاري عن أنس أن حارثة بن سراقة خرج نظاراً فأتاه سهم فقتله فقالت أمه : يا رسول الله قد عرفت موضع حارثة مني فإن كان في الجنة صبرت وإلا رأيت ما أصنع؟ قال : يا أم حارثة أنها ليست بجنة ولكنها جنان كثيرة ، وأن حارثة لفي أفضلها . أو قال: في أعلى الفردوس( ).
وأخرج أحمد والنسائي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما على الأرض من نفس تموت ولها عند الله خير تحب أن ترجع إليكم إلا القتيل في سبيل الله ، فإنه يحب أن يرجع فيقتل مرة أخرى .
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والبيهقي في الشعب عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما من أهل الجنة أحد يسره أن يرجع إلى الدنيا وله عشر أمثالها إلا الشهيد ، فإنه ود أنه لو رد إلى الدنيا عشر مرات فاستشهد لما يرى من فضل الشهادة( ).
وأخرج ابن سعد وأحمد والبيهقي عن قيس الجذامي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن للقتيل عند الله ست خصال : تغفر له خطيئته في أول دفعة من دمه ، ويجار من عذاب القبر ، ويحلى حلة الكرامة، ويرى مقعده من الجنة ، ويؤمن من الفزع الأكبر ، ويزوّج من الحور العين( ).
وأخرج الترمذي وصححه وابن ماجة والبيهقي عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن للشهيد عند الله خصالاً . يغفر له في أول دفعة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويحلى عليه حلة الإيمان ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن يوم الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه) ( ).
قانون الوقاية من الحسد
التعريف الشائع للحسد هو تمني زوال نعمة المحسود ، ويقال حسده يحسده حُسوداً , وتحاسد القوم وهم قوم حسده .
والمختار أن الحسد أعم ويشمل إستغراب وجود نعمة عند شخص أو جماعة وإكبارها عليه أو إستصغاره في نيلها وبلوغها .
ويقال (حَسَدَنِي اللهُ إن كنْتُ أحْسُدُكَ) ( ) أي جازاني وعاقبني الله عز وجل إن أنا حسدتك ، وكأنه من عمومات قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) ويقال (( تحاسدا ) حسد كل منهما الآخر) ( ).
(وذكره القاضي حسين أن نبياً من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام استكثر قومه ذات يوم فأمات الله تعالى منهم مائة ألف في ليلة واحدة، فلما أصبح شكا إلى الله من ذلك، فقال الله تعالى له: إنك لما استكثرتهم عنتهم فهلا حصنتهم فقال: يا رب فكيف أحصنهم. قال: تقول حصنتكم بالحي القيوم الذي لا يموت أبداً، ودفعت عنكم السوء بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولا دليل على هذا القول والأنبياء منزهون عما يترتب الأثر الفادح عليه بهلاك مائة ألف من قوم النبي والقاضي حسين بن حريث المروزي الشافعي ت244هـ.
قال القاضي: وهكذا السنة في الرجل إذا رأى نفسه سليمة وأحواله معتدلة، يقول في نفسه ذلك. وكان القاضي يحصن تلامذته بذلك إذا استكثرهم. وذكر الإمام فخر الدين الرازي في بعض كتبه أن العين لا تؤثر ممن له نفس شريفة لأنها استعظام للشيء وما ذكره القاضي حسين يرد ذلك.) ( ).
وباب الإستعاذة والدعاء مفتوح , ويتعدى في نفعه ساعته وموضوعه .
وقال الجرجاني : الحسد زوال نعمة المحسود إلى الحاسد (تمني زوال نعمة المحسود إلى الحاسد) ( ) والزوال هو الإرتفاع والإضمحلال والمحو والإبعاد والهلاك ، إلا أن يريد الجرجاني من الزوال أعلاه معنى التحول والإنتقال ، وهو صحيح لغة أيضاً .
أما العائن فهو الذي يصيب بعينه غيره ، قال الأزهري (يقال عان الرجل فلانا يعينه عَيْنا إذا ما أصابه بالعين، فهو عائن، والمصاب بالعين معين. ومن العرب من يقول: مَيْعون.
وأنشدني غير واحد:
قد كان قومك يحسبونك سيدا … وإخال أنك سيّد مَعْيون) ( ) .
والنسبة بين الحاسد والعائن هو العموم والخصوص المطلق ، فكل عائن هو حاسد وليس العكس ، وكذا فكل معيون هو محسود وليس العكس ، والأكثر الأغلب هو الحاسد أما العاين فهو فرد قليل يدفع شر الحسد والعين مجتمعين ومتفرقين بالذكر والدعاء والصدقة والإستعاذة وقراءة القرآن , ومنه قوله تعالى[وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ]( ).
ليكون من معاني الآية أعلاه تعليق ومحو ودفع شر الحاسد وفعل الحسد على وجوه :
أولاً : ومن شر حاسد إذا عان بعينه .
ثانياً : ومن شر حاسد إذا أصاب بعينه .
ثالثاً : ومن شر حاسد عائن .
لبيان قانون وهو أن تلاوة القرآن تدفع الحسد واثر العين قبل وقوعه ، وتمحو الضرر المترتب عليها حتى بعد الإصابة بها .
وتلاوة الآية أعلاه واقية من هذه الإصابة ، ولم تذكر الآية أعلاه العائن ، ولم يرد هذا اللفظ في القرآن ، إنما ذكرت المعنى الأعم بقوله تعالى[وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ]( ).
والحسد أعم وأوسع من العين، ويبرز بالجوارح والعين واللسان والتعريض والذم بغير حق والبحث عن العيوب والنقائص .
للتحذير من الحسد وما يسببه من الضغائن والعداوة وأسباب النفرة والكدورة ، وقد أراد الله عز وجل للناس تلقي أحكام الشريعة بالقبول وحسن الإستجابة .
ولا تختص العين والعائن بالكافر والفاسق فقد يكون المسلم حاسداً، لأن الحسد كيفية نفسانية وقد يضر المسلم غيره بالعين إن لم يبارك ويذكر الله ويصلي على محمد وآل محمد ويأتي هذا الضرر أحياناً على الولد والمال.
وقد ذكر الحسد في أربع آيات من القرآن تتضمن التحذير من الشح والحقد وغلبة النفس الغضبية عند الكفار , وتبين فوز المؤمنين بمنّ ونعم من الله عز وجل ، قال تعالى [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ…] ( ).
وفي الآية أعلاه وجوه :
الأول : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من لفظ الناس في الآية أعلاه .
الثاني :المقصود النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالث : إردة العرب لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث من بينهم .
الرابع : المسلمون والمسلمات .
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق الآية الكريمة .
ومن أسرار صيغة المضارع فيها تجدد مصاديقها في كل زمان وورد عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (ثلاثة لا يكلمهم الله: المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منه ، والمسبل إزاره ، والمنفق سلعته بالحلف الفاجرة)( ).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم (ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الشَّيْخُ الزَّانِى وَالْعَائِلُ الْمَزْهُوُّ وَالإِمَامُ الْكَذَّابُ) ( ).
(عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم : أشمط زان ، وعائل مستكبر ، ورجل جعل الله له بضاعة ، فلا يبيع إلا بيمينه ، ولا يشتري إلا بيمينه) ( ).
(عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك جبار، ومقل مختال) ( ).
(عن سهل بن معاذ ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من العباد عباد لا يكلمهم الله يوم القيامة ، ولا يزكيهم ، ولا يطهرهم ، ولا ينظر إليهم ، قالوا : من أولئك يا رسول الله ؟ قال : المتبرئ من والديه رغبة عنهما ، والمتبرئ من ولده ، ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم ، وتبرأ منهم) ( ) .
وكل آية في القرآن هي حرب على الحسد وهو من الإعجاز الغيري للقرآن، وفيه دعوة للتنزه عن الحسد وكذا فان الأخلاق الحميدة والخصال الكريمة مانع منه عند صاحبها ومتلقيها، كما في قوله تعالى[وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا] ( ) .
لينتشر ويشيع الكرم وإطعام الطعام بقصد القربة إلى الله ، وإرادة رضاه ، والفوز بالثواب منه تعالى , ونشر مفاهيم المودة والمرحمة وحسن العشرة بين الناس .
(عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الاسلام خير , قال : تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ) ( ).
لقد جاء الجزء السابق من هذا السفر في تفسير قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ).
لتكون الآية بياناً لنعم عظيمة من عند الله على المسلمين , وكيلا يضرهم حسد الناس فيها ومعها، من وجوه :
الأول : تفضل الله عز وجل بالمنّ والإحسان على المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إنتقال المسلمين إلى حال العز بعد الذل والهوان .
الثالث : التآخي والمودة بين المسلمين والمسلمات ، وعصمتهم من آثار الثأر والعصبية القبلية .
الرابع : مجئ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة الخاتمة، قال تعالى[مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
الخامسة : نزول آيات القرآن ويحسد الناس المسلمين على كل آية من القرآن ، ومن خصائص الآية القرآنية صرف الحسد عن المسلمين .
السادس : من معاني قوله تعالى [يُزَكِّيهِمْ] تطهير المسلمين من التحاسد فيما بينهم ، وقد ورد عن أنس بن مالك قال: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا ، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، والذي يبدأ بالسلام يسبق إلى الجنة : لم يقل أحد ممن روى هذا الحديث عن الزهري : والذي يبدأ بالسلام يسبق إلى الجنة)( ).
ويدعو هذا الحديث العلماء للتدبر في الصلة والملازمة بين التباغض وآفة الحسد وكذا التدابر والحسد ، وكل فرد منهما مقدمة للآخر من غير أن يلزم الدور بينهما.
السابع : تلاوة المسلمين لآيات القرآن تنزيه للمسلمين من الأخلاق المذمومة ومنها الحسد .
الثامن : من مصاديق قوله تعالى[وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] مجئ آيات القرآن ببيان قبح الحسد , ولزوم توقي المسلمين منه والحذر من أهله .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء ومنه مداهمة الحسد إلى النفس الإنسانية وغيظ بعضهم مما اكتسبه غيره من أقرانه أو أعدائه , ويتفضل الله فيقي المؤمنين ، ويصرف عنهم حسد وغيظ الذين كفروا ، قال تعالى [وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) ، ومنه نزول أثر الحاسد على الإنسان فالناس في المقام على أصناف :
أولاً : الذي يحسد غيره ولا يحسده أحد .
ثانياً : الذي يحسد غيره ويحسده غيره من الناس .
ثالثاً : الذي يحسده غيره وهو لا يحسد أحداً.
رابعاً : السالم من الحسد لغيره أو من غيره وأقلهم الحاسد وهل أكثر الناس الثالث أو الرابع المختار هو ثالثاً أعلاه.
وجاءت آيات القرآن ليكون المسلمون في سلامة ومأمن من الحسد ، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) وفي هذه السلامة والوقاية إغاظة للذين كفروا وقهر لهم وبعث لليأس في نفوسهم , ودعوة لهم ولغيرهم للإسلام .
التاسع : إتصاف المسلمين بالعفو عن الآخرين والإحسان إليهم ، قال تعالى [وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ) .
لقد كان المسلمون محتاجين إلى الوقاية من الحسد لما هم عليه من فيوضات الإيمان وتوالي نزول آيات القرآن ووجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينهم ومجيئه بالمعجزات المتعاقبة ، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
فجاء القرآن والسنة ببيان قبحه والإنذار منه والبشارة بأن الدعاء والصدقة والذكر تصرف الحسد , وتضمن القرآن التحذير من تمني ذات نعمة الغير لأن خزائن الله مفتوحة ، قال تعالى [وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ] ( ) .
مع التباين الموضوعي بين التمني والحسد ، فكل حسد هو تمني وليس العكس والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق في الجملة، وجاء النهي عن التمني المخصوص كيلا يتجرأ المسلم على القبيح المذموم, وهو الحسد وليتوجه المسلم إلى المسألة والدعاء والتضرع إلى الله ، وفي التنزيل[وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
وفي وصية للإمام علي للإمام الحسين عليهما السلام يوصيه بتقوى الله ويخبره فيها بأن ترك الحسد يورث المحبة من الناس لبيان قانون وهو أن ترك الحسد من مكارم الأخلاق ومن التأسي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعاني الرحمة للناس جميعاً في رسالته.
قال (يا بني أوصيك بتقوى الله عز وجلّ في الغيب والشهادة. وكلمة الحق في الرضى. والقصد في الغنى والفقر. والعدل في الصديق والعدو. والعمل في النشاط والكسل. والرضى عن الله تعالى في الشدة والرخاء. يا بني ما شر بعده الجنة بشر. ولا خير بعده النار بخير. وكل نعيم دون الجنة محقور.
وكل بلاء دون النار عافية. اعلم يا بني أن من أبصر عيب نفسه شغل عن غيره. ومن رضي بقسم الله تعالى لم يحزن على ما فاته. ومن سل سيف البغي قتل به.
ومن حفر بئراً لأخيه وقع فيها. ومن هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته. ومن نسي خطيته استعظم خطية غيره. ومن كابد الأمور عطب.
ومن اقتحم البحر غرق. ومن أعجب برأيه ضل. ومن استغنى بعقله زل. ومن تكبر على الناس ذل. ومن سفه عليهم شتم. ومن دخل مداخل السوء أتهم. ومن خالط الأنذال حقر.
ومن جالس العلماء وقر. ومن مزح استخف به. ومن اعتزل سلم. ومن ترك الشهوات كان حراً.
ومن ترك الحسد كان له المحبة من الناس. يا بني عز المؤمن غناه عن الناس. والقناعة مال لا ينفد.
ومن أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير. ومن علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما ينفعه. العجب ممن خاف العقاب فلم يكف. ورجا الثواب فلم يعمل.
الذكر نور. والغفلة ظلمة. والجهالة ضلالة. والسعيد من وعظ بغيره. والأدب خير ميراث وحسن الخلق خير قرين.
يا بني ليس مع قطيعة الرحم نماء. ولا مع الفجور غنى.
يا بني العافية عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت إلا بذكر الله تعالى وواحد في ترك مجالسة السفهاء. ومن تزين بمعاصي الله عز وجلّ في المجالس ورّثه ذلا. ومن طلب العلم علم. يا بني رأس العلم الرفق. وآفته الخرق.
ومن كنوز الإيمان الصبر على المصائب. والعفاف زينة الفقر. والشكر زينة الغنى. ومن أكثر من شيء عرف به.
ومن كثر خطأه قل حياؤه. ومن قل حياؤه قل ورعه ومن قل ورعه مات قلبه. ومن مات قلبه دخل النار.
يا بني لا تؤيسنَّ مذنباً فكم من عاكف على ذنبه ختم له بالخير. ومن مقبل على عمله مفسد له في آخر عمره صار إلى النار. من تحرى القصد خفت عليه الأمور يا بني كثرة الزيارة تورث الملالة. يا بني الطمأنينة قبل الخبرة ضد الحزم. إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله.
يا بني كم من نظرة جلبت حسرة , وكم من كلمة جلبت نعمة. لا شرف أعلى من الإسلام. ولا كرم أعلى من التقوى. ولا معقل أحرز من الورع. ولا شفيع أنجح من التوبة. ولا لباس أجمل من العافية. ولا مال أذهب للفاقة من الرضى بالقوت.
ومن اقتصر على بلغة الكفاف تعجل الراحة وتبوأ حفظ الدعة. الحرص مفتاح التعب. ومطية النصب. وداع إلى التقحم في الذنوب. والشر جامع لمساوئ العيوب. وكفى أدباً لنفسك ما كرهته من غيرك.
لأخيك عليك مثل الذي عليك لك. ومن تورط في الأمور من غير نظر في الصواب فقد تعرض لمفاجأة النوائب. التدبير قبل العمل يؤمنك الندم. من استقبل وجوه العمل والآراء عرف مواقع الخطا. الصبر جنة من الفاقة. في خلاف النفس رشدها. الساعات تنقص الأعمار. ربك للباغين من أحكم الحاكمين. وعالم بضمير المضمرين.
بئس الزاد للمعاد العدوان على العباد. في كل جرعة شرق , وفي كل أكلة غصص. لا تنال نعمة إلا بفراق أخرى. ما أقرب الراحة من التعب. والبؤس من النعيم. والموت من الحياة. فطوبى لمن أخلص لله تعالى علمه وعمله وحبه وبغضه وأخذه وتركه وكلامه وصمته. وبخ بخ لعالم علم فكف. وعمل فجد. وخاف الثبات. فأعد واستعد. إن سئل أفصح. وإن ترك سكت. كلامه صواب. وصمته من غير عي عن الجواب. والويل كل الويل لمن بلي بحرمان وخذلان وعصيان. واستحسن لنفسه ما يكرهه لغيره.
من لانت كلمته وجبت محبته. من لم يكن له حياء ولا سخاء فالموت أولى به من الحياة. لا تتم مروءة الرجل حتى لا يبالي أي ثوبيه لبس. ولا أي طعاميه أكل)( ).
وهل من الحكمة التي ذكرت في قوله تعالى[يُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ) ستر المحاسن ، الجواب نعم ، إلا أن يكون القصد تعظيم شعائر الله وإرادة قصد القربة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيكون حسن القصد واقية من الحسد .
وذكر العين والعائن ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال : ولو كان شيء سَابِقَ القدر لسبقته العين) ( ).
والعين هي إصابة الغير بضرر نتيجة العين والرؤية وآلة السمع وإن كان عن بعد وقيل كيف تؤثر العين عن بعد الجواب أنها الفكرة المشوبة بالحسد والمقرونة بخبث الطباع بما يؤدي إلى الضرر وتلاقي وتزاخم الأرواح، ولا يحدث أثر للعين إلا بمشيئة وإذن من الله ليبتلي الناس وليعلموا أن النعم تنفر ولا تستقر إلا بالشكر لله عز وجل والذكر الذي يصرف العين وأثرها ، والتقوى الصراط الذي يتوقى معه الإنسان من أن يكون عائناً ضاراً لغيره بعينه .
وهل المصيبة والخسارة التي لحقت بالمسلمين في معركة أحد من العين والعائن سواء على نحو السالبة الكلية أو الجزئية ، الجواب لا ، لأن ذات آية البحث تبين علة تلك المصيبة الخسارة بأنها من عند الله أنفسهم بترك الرماة مواضعهم ، ولبيان قانون وهو أن العمل العبادي وما فيه طاعة الله ورسوله في حرز ومأمن من العين والعائن ، قال تعالى [وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ]( ) .
وليس من حصر للآيات التي تقي من العين بلحاظ أن القرآن واقية وشفاء و(عن أبي سعيد قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة فأتينا على رجل لديغ( ) في جهينة فداووه فلم ينفعه شيء فقال بعضهم لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا بكم لعل أن يكون عندهم شيء ينفع فقالوا : أيها الرهط إن سيدنا لديغ فابتغينا له بكل شيء فلم ينفعه شيء فهل عندكم من شيء .
فقال بعضهم : نعم والله إني لأرقى والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا لا نرقى حتى تجعلوا لنا جعلا فصالحناهم على قطيع من الغنم فانطلق فجعل يتفل عليه و يقرأ الحمد لله رب العالمين يعني فاتحة الكتاب حتى برأ فكأنما نشط من عقال قال : فقام يمشي ما به بلية .
فأوفوهم جعلهم الذين قاطعوهم عليه , فقال بعضهم : اقتسموا .
فقال الذي رقا لا تفعلوا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنذكر الذي كان فننظر ما يأمرنا به فغدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكروا ذلك فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و قال : و ما يدريك أنها رقية , وقال : أصبتم أقسموا واضربوا لي معكم بسهم)( ).
وعن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره عين)( ).
(قال الأصمعي : رأيت رجلا عيونا سمع بقرة تحلب فأعجبه صوت شخبها فقال :
أيتهن هذه ؟
قالوا : الفلانية ـ لبقرة أخرى يورون عنها ـ
فهلكتا جميعا ـ الموري بها والمورى عنها .
والشخب : صوت الحليب وهو يخرج من ثديها
وقال أحدهم : إذا رأيت الشيء يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني، وقال أيضا :
وكان عندنا رجلان يعنان الناس ، فمر أحدهما بحوض من حجارة فقال : تالله ما رأيت كاليوم قط ، فتطاير الحوض فرقتين ، فأخذه أهله فضببوه
(عن هلال بن إساف وعن سحيم بن نوفل قالا: كنا جلوساً عند عبد اللّه بن مسعود ونحن نعرض المصاحف، فجاءت جارية إلى سيّدهم فقالت: ما يجلسك؟ قم فابتغ لنا راقياً فإن فلاناُ لقع مهرك بعينه فتركته يدور كأنه فلك. فقال عبد اللّه: لا تبتغ راقياً ولكن أذهب فأنفث في منخره الأيمن أربعاً وفي الأيسر ثلاثاً، ثم قل: بسم اللّه لا بأس لابأس أذهب الباس رب النّاس وأشف أنت الشافي لا يكشف الضراء إلا أنت. قال: فما قمنا حتى جاء الرجل فقال: قد فعلت الذي أمرتني به فبال المهر وراث وأكل)( ).
إنما ورد ذكر العين للفرد الغالب ، وقد يتضرر الإنسان من الحاسد حين سماعه أو معرفة ما عنده من نعمة .
قال تعالى[وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ] ( ).
(عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : العين تدخل الرجل القبر , والجمل القِدر) ( ).
ولا تختص العين بالبائس والمسكين فقد تأتي من ذي النعمة والجاه , وقد يحسد من هو أعلى شخصاً أدنى منه على خصلة يفتقر إليها أو يتعجب من تحلي صاحبها بها.
(دخل سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب على هشام بن عبد الملك في ثياب وعليه عمامة تخالفها، فقال له هشام: كأن العمامة ليست من الثياب! قال: إنها مستعارة، فقال له: كم سنك؟ قال: ستون سنة، قال: ما رأيت ابن ستين أبقى كدنة منك، ما طعامك؟ قال الخبز والزيت، قال: أما تأجمهما؟ قال: إذا أجمتهما تركتهما حتى أشتهيهما، ثم خرج من عنده وقد صدع، فقال: أترون الأحول لقعني بعينه، فمات من تلك العلة) ( )، وفي رواية الأصمعي (فما خرج هشام من المدينة حتى صلى عليه) , وأنه ابن سبعين .
وكأن أثر وضرر العين سهم يخرج من نفس وعين العاين ، ولما كان الحسد والحاسد أعم من العاين فان الإستعاذة من الحاسد تشمل العائن .
والخشية والحيطة من العين أمر مصاحب للإنسان ، وقد ورد في قصة يوسف عليه السلام وصية النبي يعقوب لأولاده [وَقَالَ يَابَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ] ( ) .
لقد كان لمصر أربعة أبواب فخاف يعقوب على أولاده لأنهم أحد عشر ولداً لرجل واحد ، وكانوا أهل طلعة بهية وحسن ، والناس في حال مجاعة وفقر تكون معه العين أظهر وأكثر ضررا بالذات والأثر .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعيذ الحسن والحسين :
أعيذكما بكلمات الله التامات من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة)( ).
وأعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ، وشر عباده ، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ).
ولا يجوز التعري أمام الغير ، كما يكره لبس الملابس الضيقة التي تظهر معالم البدن أما بالنسبة لما يتعلق بمفاتن جسم المرأة فهذا اللباس محرم ويصرف الحجاب والوقار العين لما فيه من تعظيم لشعائر الله ومعاني الستر .
وكان العرب يسورون النونة عند الصبي المليح أي النقرة التي في ذقنه لترد العين .
وكان الشاعر المقنع الكندي من أجمل الناس وجهاً ، وإذا أسفر عن وجهه لقع أي أصابته العين ، فيمرض فكان لا يخرج من بيته إلا مقنعاً .
واسمه محمد بن ظفر بن عمير ، وهو شاعر مقل في أيام الدولة الأموية، وكان سخياً لا يرد سائلاً ، فأنفق كل ما ورثه من أبيه وصار عليه دين كثير، وخطب إبنة عمه فردوه وعّيروه بفقره وكثرة دينه ، فقال قصيدته:
يعاتبني في الدين قومي وإنما … ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
ألم ير قومي كيف أوسر مرة … وأعسر حتى تبلغ العسرة الجهدا
فما زادني الإقتار منهم تقرباً … ولا زادني فضل الغنى منهم بعدا
أسد به ما قد أخلوا وضيعوا … ثغور حقوق ما أطاقوا لها سدا
وفي جفنةٍ ما يغلق الباب دونها … مكللةٍ لحماً مدفقة ثردا
وفي فرسٍ نهدٍ عتيقٍ جعلته … حجاباً لبيتي ثم أخدمته عبدا
وإن الذي بيني وبين بني أبي … وبين بني عمي لمختلفٌ جدا
أراهم إلى نصري بطاءً وإن هم … دعوني إلى نصر أتيتهم شدا
فإن يأكلوا لحمي وفرت لحومهم … وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم … وإن هم هووا غيي هويت لهم رشدا
وإن زجروا طيراً بنحسٍ تمر بي … زجرت لهم طيراً تمر بهم سعدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم … وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
لهم جلّ مالي إن تتابع لي غنىً … وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا
وإني لعبد الضيف ما دام نازلاً … وما شيمةٌ لي غيرها تشبه العبدا( )
وسأل عبد الملك بن مروان (وكان أول خليفة ظهر منه بخل – : أي الشعراء أفضل؟ فقال له: كثير بن هراسة، يعرض ببخل عبد الملك: أفضلهم المقنع الكندي حيث يقول:
إني أحرض أهل البخل كلهم … لو كان ينفع أهل البخل تحريضي
ما قل مالي إلا زادني كرماً … حتى يكون برزق الله تعويضي
والمال يرفع من لولا دراهمه … أمسى يقلب فينا طرف مخفوض
لن تخرج البيض عفواً من أكفهم … إلا على وجع منهم وتمريض
كأنها من جلود الباخلين بها … عند النوائب تحذى بالمقاريض
فقال عبد الملك – وعرف ما أراد – : الله أصدق من المقنع حيث يقول: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) .) ( ).
ولم يدفع سخاء وكرم المقنع عنه العين والحسد ، إنما يدفعه الذكر والتسبيح والدعاء والصدقة سواء كانت الواجبة أو المندوبة ، لذا يمكن القول أن آية الصدقات وهي [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ]( )واقية من العين وشر الحاسدين .
ومتى ما أخرج المسلم الحقوق الشرعية التي تتعلق بماله غبطه الآخرون، وأدركوا أنه سخي في مرضاة الله ، وقد تقدم قبل ثلاث آيات [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
نعم إذا جاء الأجل لم تنفع الرقية والحذر إنما يكون السلاح هو العمل الصالح ، ومنه المصيبة التي لحقت بالمسلمين يوم معركة أحد ، وهو موضوع هذا الجزء من التفسير ، وقال أبو ذؤيب :
(وإذا المِنيّةُ أَنشبَتْ أَظفارَهَا … أَلْفَيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنْفَعُ) ( ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم لأصحابه: إنه دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ : الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ ، هِيَ الْحَالِقَةُ ، لا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أَفَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثْبِتُ ذَاكُمْ لَكُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلام بَيْنَكُمْ)( ).
وقال الإمام الصادق عليه السلام: إن الحسد ليأكل الايمان كما تأكل النار الحطب)( ).
وفي قوله تعالى [وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ] ( ).
قال القرطبي أرادت قريش أن يصيبوه (بالعين فنظر إليه قوم من قريش وقالوا : ما رأينا مثله ولا مثل حججه لبيان وجه آخر من عداء ومحاربة قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإضافة إلى قوله تعالى[وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وقيل : كانت العين في بني أسد حتى إن البقرة السمينة أو الناقة السمينة تمر بأحدهم فيعاينها ثم يقول :
يا جارية خذي المكتل والدرهم فأتينا بلحم هذه الناقة فما تبرح حتى تقع للموت فتنحر .
وقال الكلبي : كان رجل من العرب يمكث لا يأكل شيئا يومين أو ثلاثة ثم يرفع جانب الخباء فتمر به الإبل أو الغنم فيقول : لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه ! فما تذهب إلا قليلا حتى تسقط منها طائفة هالكة فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب لهم النبي صلى الله عليه وآله و سلم بالعين فأجابهم فلما مرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنشد :
( قد كان قومك يحسبونك سيدا … وإخال أنك سيد معيون )
فعصم الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ونزلت : { وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك }( ) وذكر نحوه الماوردي وأن العرب كانت إذا أراد أحدهم أن يصيب أحدا – يعني في نفسه وماله – تجّوع ثلاثة أيام ثم يتعرض لنفسه وماله فيقول : تالله ما رأيت أقوى منه ولا أشجع ولا أكثر منه ولا أحسن فيصيبه بعينه فيهلك هو وماله فأنزل الله تعالى هذه الآية قال القشيري : وفي هذا نظر لأن الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان والإعجاب لا مع الكراهية والبغض ولهذا قال : { ويقولون إنه لمجنون}( ) أي ينسبونك إلى الجنون إذا رأوك تقرأ القرآن) ( ) ولكن الحاسد نظر بعين الإستحسان ، ويدل عليه بيت الشعر أعلاه في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتسليم بأنه سيد .
وقد تضر الإنسان عينه هو نفسه على النعمة التي هو فيها عند قصوره في الشكر لله عز وجل على النعمة ، وتفكره بكيفية صيرورتها عنده مع أن أسبابها الحسية والمادية لم تجتمع عنده وحين يقارن نفسه مع أقرانه وتخلفه عنهم في أسباب ومقدمات تلك النعمة .
(عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أنعم الله عليه نعمة فأراد بقاءها ، فليكثر من: لا حول ولا قوة إلا بالله)( ).
(وعن النبي صلى الله عليه واله من حلي في عينه شئ من الاهل والمال والولد، فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، منع، ألا ترى إلى قوله تعالى ” ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله( )) ( ).
ليعلم الإنسان أن الفتنة والبلاء قد يأتيه من نفسه ومن عينه إن لم يداويها بالذكر ، ويطفئ حرارتها بحسن التوكل على الله, والتسليم بمشيئته المطلقة .
وعن (أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، أن عامر بن ربيعة ، أخا بني عدي بن كعب رأى سهل بن حنيف وهو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخرار يغتسل ، فقال : والله ما رأيت كاليوم ، ولا جلد مخبأة قال : فلبط( ) سهل ، فأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقيل : يا رسول الله، هل لك في سهل بن حنيف ، لا يرفع رأسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هل تتهمون من أحد ؟
قالوا : نعم ، عامر بن ربيعة رآه يغتسل ، فقال : والله ما رأيت كاليوم ، ولا جلد مخبأة فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عامر بن ربيعة فتغيظ عليه .
وقال : علام يقتل أحدكم أخاه ؟ ألا تبرك ؟ اغتسل له فغسل له عامر، فراح سهل مع الركب ليس به بأس قال : والغسل أن يؤتى بالقدح، فيدخل الغاسل( ) كفيه جميعا فيه ، ثم يغسل وجهه في القدح ، ثم يدخل يده اليمنى ، فيغسل صدره في القدح ، ثم يدخل يده فيغسل ظهره ، ثم يأخذ بيده اليسرى يفعل مثل ذلك ، ثم يغسل ركبتيه ، وأطراف أصابعه من ظهر القدم ، ويفعل ذلك بالرجل اليسرى .
ثم يعطي ذلك الإناء قبل أن يضعه بالأرض الذي أصابه العين ، ثم يمج فيه ، ويتمضمض ويهريق على وجهه ، ويصب على رأسه ، ويكفيء القدح من وراء ظهره) ( ).
والذي يخشى أن تصيب عينه الغير عليه أن يتبرك ويقول: اللهم بارك عليه أو اللهم بارك له ، أو اللهم أجعل فيه البركة ونحوه من الأولوية وعن (أَبِي سَعِيدٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ كَانَ يَتَعَوّذُ مِنْ الْجَانّ وَمِنْ عَيْنِ الْإِنْسَانِ)( ).
والعائن على قسمين :
الأول : العائن عن إرادة وقصد .
الثاني : العائن بالطبع ورسوخ الحسد في نفسه.
وتسرع العين إلى الأطفال أكثر منه إلى الكبار وإلى المتعدد من الأبناء، والوقاية منها سهلة ووافية بالمواظبة على الذكر وقراءة المعوذتين والأدعية المأثورة .
(عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان ، فإن كل ذي نعمة محسود) ( ).
ومن التوقي من العين قراءة سورة الفاتحة وآية الكرسي والمعوذتين والصلاة على محمد وآله ، ومن الآيات في المقام وجوب قراءة كل مسلم ومسلمة سورة الفاتحة في الصلاة اليومية عدة مرات لتكون حرزاً وواقية من العين ما بين الصلاتين وهل تنحصر الوقاية في المقام بالبدن الجواب لا، فانها تشمل المال والولد ، لتكون هذه القراءة سبباً لإستدامة النعمة في قوله تعالى[الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( ).
مسألة/لا يقدح الحسد بعدالة المسلم إذا كان نوع كيفية نفسانية، وإن كانت تقهر بالذكر والصبر، ولا يجوز التظاهر بالحسد وهو من ذمائم الأخلاق , وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: ثلاثة لم ينج منها نبي فمن دونه: التفكر في الوسوسة في الخلق، والطيرة، والحسد، إلا أن المؤمن لا يستعمل حسده)( ).
ويرد موضوع الحسد والزجر عنه في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي باب الغيبة والمعاملات والمشورة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً]( )، ولا يجوز إظهار الحسد والبغض والعداوة للآخرين( ).
مسألة / تقبل شهادة الحاسد، لأنها نوع إخبار عن حال وواقع، وتصح إمامته لأن ذكر الله واقية من العين، نعم من يثبت أنه عائن وعينه تجلب الأذى والضرر فلا تصح إمامته إلا أن يتوب.
والإجماع على حرمة إظهار الحسد، ومنهم من عدّه من الكبائر , ولم يثبت.
وتدفع العين والنحوسة بالصدقة سواء الواجبة أي الزكاة أو المندوبة والتي لا تقيد بنصاب أو مقدار، وعن الإمام علي عليه السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن لكل يوم نحساً ، فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة ، ثم قال : اقرأوا مواضع الخلف ، فإني سمعت الله يقول { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه }( ) إذا لم تنفقوا كيف يخلف)( ).
بيت العنكبوت وصلته بآية البحث
(العَنْكَبوتُ بلغة أَهْل اليَمَن العَنْكَبوه والعَنْكباه) ( ).
والعنكبوت مؤنث وقد يذكر ، والذكر عنكب وهي عنكبة( ) .
وقال الشاعر في التذكير:
على هَطَّالِهِمْ مِنْهُمْ بُيوتٌ … كأَنَّ العَنْكَبُوتَ هُوَ ابْتَناها( )
وتسمى (أم قَشْعَم: العنكبوت) ( ).
(وقيل الخيط الخارج من فم العنكبوت الذي يقال له مخاط الشيطان) ( ).
والعنكبوت دبيبة تنسخ نسخاً رقيقاً بين طرفي ركن الجدار ، وعلى رأس البئر ونحوها (قال ذو الرّمة:
هي اصطَنَعْته نَحْوَها وتَعاوَنَتْ … عَلى نَسْجها بينَ المَثابِ عَناكبُه( )
ويسمى بيت العنكبوت المثاب ،(ويسمى عُكّاشة) ( ).
وتبدأ أنثى العنكبوت ببناء البيت لتجذب الذكر إليها وإذا تم التزاوج والتلقيح بينهما ، تعمد الأنثى إلى قتل الذكر وأكله فهي أكبر منه حجماً وأشد منه بأساً ، وقد تتركه الأنثى فلا تقتله حتى إذا خرج الأبناء من البيض وأشتد عودهم عمداً إلى أبيهم فقتلوه وتغذوا به إلا أن يهرب .
وقد تقوم الأنثى بقتل أولادها وأكلهم من دون شفقة ، وكذا فان الصغار حينما يولدون في مكان ضيق وكيس من حرير قد يتصارعون فيما بينهم على المكان أو من أجل الطعام فيأكل بعضهم بعضاً حتى تنسلخ من جلدها وتمزق جدار الكيس الحريري ، وهو من الأسرار في قلة عدد العناكب مع إنصراف الإنسان عنها في الغالب الأعم ، فترى في الموضع الواحد أفراداً قليلة منه ، ولا يزداد العدد خلال سنوات وإن تعاقبت أجيال العناكب.
وجاء لفظ [أَوْهَنَ] ( ) أفعل تفضيل لبيان أن بيت العنكبوت أضعف البيوت لقتل بعضها بعضاً ، وحتى خيوط العنكبوت التي هي ذات قوة لتحمل الضغط الشديد ، وقيل يطلق عليها الفولاذ البيولوجي فانها سرعان ما تتعثر ولا ينتفع منها ولا تحمي أهلها وساكنيها ، وجاء قوله تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] ( ) بصيغة المثل للتأكيد على ضعف ووهن دولة وجماعة الذين كفروا , وفيه ترغيب للمسلمين للصبر في ملاقاتهم وعدم الإفتتان بهم , وهو بشارة بقرب زوال سلطانهم وشأنهم .
ولم يرد لفظ [أَوْهَنَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه التي فيها لفظ [الْعَنكَبُوتِ] مرتين ولم يرد في آية أخرى من القرآن وتسمى السورة سورة العنكبوت لتكون هذه التسمية دعوة للمسلمين للتدبر في الذين كفروا في دولتهم وشأنهم وجماعتهم وحتى في نفوسهم إذ يملأهم الخوف والحزن لأنهم إختاروا الجحود ومعاداة الله ورسوله .
(عن ابن مسعود قال : سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي الذنب أكبر؟ قال أن تجعل لله نداً وهو خلقك.
قلت : ثم أي؟
قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك .
قلت : ثم أي؟
قال : أن تزاني حليلة جارك ، فأنزل الله تصديق ذلك { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون } .) ( ).
لقد خلق الله عز وجل السماوات والأرض لتكون ملكاً طلقاً له ، وجعل الإنسان (فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) ( ) ليعبده فيها ، أما أن يتخذ فريق من الناس أولياء يعبدونهم من دون الله فانه سبحانه لا يرضى بهذا التعدي فيجعل بيوتهم واهية ضعيفة .
و (عن أبي قتادة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل : إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق وتذر الخالق ، وينهاك أن تقتل ولدك وتغدو كلبك ، وينهاك أن تزني بحليلة جارك) ( ).
ليكون المثل في الآية القرآنية ومضمونها القدسي دعوة للمسلمين للثبات في منازل الإيمان ، وفيه بشارة حدوث الفتن بين المشركين .
وأخبرت الآية أعلاه من سورة العنكبوت أن أنثى العنكبوت هي التي تبني البيت لقوله تعالى [اتَّخَذَتْ بَيْتًا] فهي التي تقوم بفرز مادة الحرير وسبك الخيوط وغزو الشبكة ترغيب الذكر بالتلقيح ، وهذا الذي أثبته العلم الحديث ، ومن علامات الوهن في بيت العنكبوت أن القوامة فيه للأنثى فهي تبني البيت وتصلحه وتتزين للذكر حتى إذا ما لقّحها صار تحت رحمتها تلتهمه في أي ساعة .
ومن علامات وهن بيت العنكبوت ضعف خيوطه والمسافات التي تتخلل نسيجه ، وهي لا تقي من حر أو برد ، ولا تستر من حرارة الشمس، ولا تمنع من المطر مع دقة نسجها ، وقيل أن سمك خيط العنكبوت يكون جزء من أربعة آلاف جزء من سمك خصلة شعر الإنسان ، ومع هذا فهي أقوى مما مثلها من الفولاذ والحديد لذا سمي هذا الخيط الدقيق ب (الفولاذ البيولوجي) أو (الفولاذ الحيوي ) ولم تمنع هذه القوة والسبك في بيت العنكبوت من ضعفه ووهنه وعجزه عن حماية اهله وساكنيه ، وقتل بعضهم بعضاً ، وقيل لو فُتل حبل من خيوط العنكبوت بمقدار وحجم إصبع الإبهام لصار قادراً على حمل طائرة كبيرة .
وقد ذكر القرآن بيوت ومساكن الناس [وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا]( ) كما ذكر الله عز وجل أطلال بيوت المكذبين بالتوحيد والرسالة وبقاءها موعظة وعبرة ، قال تعالى [وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ] ( )، وجاء القرآن بذكر بيوت الحيوانات ، فذكر الله عز وجل النحل وكيف أنها تبني بيوتها بالشمع بهندسة إعجازية تتجلى فيها معاني الوحي بقوله تعالى [وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ]( ).
وذكر بيوت النمل والنظام الإجتماعي فيها ومعرفة كل فرد مسكنه ، وعدم الإختلاط والتعدي بينها ، قال تعالى [حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ] ( ) .
وتدل الآيتان أعلاه على وجود إعجاز علمي بخصوص بيوت النحل ومساكن النحل وحيوانات وطيور وحشرات أخرى لم يكتشف بعد مما يستلزم دراسات ورصد وأجهزة كشف لأماكنها وطبيعة حياتها اليومية .
ومن خصائص بيت العنكبوت أن فيه مادة لزجة لإصطياد بعض الحشرات ، وقد يفتتن بعض الناس والقبائل بالمشركين وينصرونهم في قتالهم ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أو أنهم ينتفعون منهم ومن أموالهم أو لهم حلف معهم، فلا يخيف هذا الأمر المسلمين لأن ذات بيت وكيان وهيكل جماعة المشركين واهن وضعيف .
وهل انتفع المسلمون من المثل في آية العنكبوت ، الجواب نعم، فلم تخيفهم الجيوش العظيمة التي زحف بها كفار قريش مع قلة عدد المسلمين، وفي التنزيل [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
وهل في آية العنكبوت دعوة للمسلمين لفتح مكة، الجواب نعم، وهو من الإعجاز في لغة المثل في القرآن وما فيها من الإشارات والعلامات التي تضئ للمسلمين سبل الرشاد ، فيكفي الفهم الظاهري للآية أعلاه وأن بيت العنكبوت لا يقي ساكنه من حر أو برد وأنه سريع الزوال والتلف كمشبه به ، وربطه بحال المشبه وهم المشركون.
ليكون من إعجاز الآية القرآنية أن فهم وتفسير الناس للآية القرآنية في أي زمان كاف للعمل بمضامينها ، والإنتفاع الأمثل منها ، لتكون آية العنكبوت وإخبارها عن ضعف ووهن بيته وصيروته شبهاً لدولة وجيش المشركين ومثلاً مصاحباً له مواساة كريمة من عند الله للمسلمين عند نزول المصيبة بهم يوم معركة أحد ، لذا نسبت آية البحث المصيبة وأسبابها إلى المسلمين أنفسهم بقوله تعالى[قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ] ( ).
لبيان قانون وهو أن الذين يكون بيتهم ودولتهم كبيت العنكبوت عاجزين عن إنزال المصيبة بالمسلمين ، وفيه دعوة للمسلمين للتدارك ، وإجتناب أسباب الخسارة في معارك الإسلام اللاحقة، وهو الذي يتجلى بالصبر وحسن المناجاة في معركة الخندق ، وبالإمتناع عن الفرار يوم معركة أحد.
(وأخرج الأزرقي عن جابر الجزري قال : جلس كعب الأحبار أو سلمان الفارسي بفناء البيت فقال : شكت الكعبة إلى ربها ما نصب حولها من الأصنام وما استقسم به من الأزلام ، فأوحى الله إليها : أني منزل نوراً، وخالق بشراً يحنون إليك حنين الحمام إلى بيضه، ويدفون إليك دفيف النسور . فقال له قائل : وهل لها لسان؟ قال: نعم، وأذنان وشفتان)( ).
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقاتل بنفسه في معارك الإسلام ضد الذين كفروا لبيان مصداق نبوي على وهن وضعف دولة الشرك والضلالة .
(عن قتادة ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزا تسع عشرة مرة، قاتل في ثمان: يوم بدر ، ويوم أحد ، ويوم الأحزاب ، ويوم قديد، ويوم خيبر ، ويوم فتح مكة ، ويوم ماء لبني المصطلق ، ويوم حنين)( ).
قانون فتح مكة حاجة
لم يهاجم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المشركين ولم ينتزع ويطهر البيت الحرام من أوثانهم إلا في حال اتصفت بأمور :
أولاً : تم فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة أي بعد معركة بدر بست سنوات .
ثانياً : لم يتم الفتح إلا بعد صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة ثم نقض الذين كفروا العهد الذي بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبينهم .
ثالثاً : دخول شطر من الناس في الإسلام، قال تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ) فان قلت أن سورة النصر نزلت بعد فتح مكة.
والجواب هذا صحيح إلا أن دخول الناس جماعات في الإسلام سبق الفتح ، وكان مقدمة له ، لذا فان عدد جيش المسلمين الذي دخل مكة فاتحاً هو عشرة آلاف رجل ، ولم يلقوا قتالاً إلا من قبل نفر من كفار قريش وقتل منهم إثنا عشر رجلاً، بينما لم يقتل من المسلمين إلا رجلان ، وهو معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية ، وهل هو من دعاء إبراهيم للنبي محمد ولمكة ذاتها ، كما في قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ]( ).
الجواب نعم ليكون فتح مكة من مصاديق سلامة ذرية ابراهيم من عبادة الأصنام وإلى يوم القيامة.
وعن عبد الله بن مسعود قال (دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم الفتح وحول البيت ستون وثلثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: “جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد”)( ).
(قال الكلبي: فجعل الصنم ينكب لوجهه إذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، وأهل مكة يقولون: ما رأينا رجلا أسحر من محمد) ( ).
ترى ماذا لو لم يتم فتح مكة عنوة : لقد توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الثامنة للهجرة إلى مكة لفتحها ، ولو لم يتم هذا الفتح وتأخر قليلاً فماذا يحدث ، الجواب هو أن المسلمين في مكة يثورون على المشركين , ويفتكون بهم , ويكسرون الأصنام , وقد تكون مذابح يقع فيها قتل من الطرفين ، ويستمر القتال أياماً وشهوراً بما يسمى بالحرب الأهلية ويُسحق رؤساء الكفر وتنكسر شوكتهم ولكن دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبق لهم بالهداية في أشد ساعات إيذائهم له وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
فحينما كسروا رباعيته وشج وجهه وسالت الدماء من جبهته يوم أحد ، شق على علماء المسلمين فقالوا له : وقالوا لو دعوت عليهم فقال اني لم أبعث لعانا ولكني بعثت داعيا ورحمة اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون.
(وكان صلى الله عليه وآله وسلم أعظم الناس عفوا لا ينتقم لنفسه)( ).
وفي اليوم الثاني الذي تلا فتح مكة قامت خزاعة بقتل رجل من هذيل وهو مشرك، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام(خطيبا فقال: يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والارض فهى حرام من حرام إلى يوم القيامة فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما ولا يعضد بها شجرا)( ).
وشاء الله عز وجل أن يكون الفتح سبيلاً لدخول كبار رجالات قريش الإسلام ، ولم يغادروا الدنيا على الكفر الذي تلاحق أهله اللعنة إلى يوم القيامة.
لقد أراد الله عز وجل السلامة لأهل مكة من إشاعة القتل وسفك الدماء في أزقتها وعلى أبواب البيوت فحفظها وحفظهم بالفتح العاجل فقد كان الإسلام يغزو القلوب ويدخل البيوت من غير إستئذان من أربابها فيدخل الرجل إلى بيته ويتفاجئ بدخول ابنته وابنه وزوجته الإسلام، وهم يتلون آيات القرآن وكان منها آيات القتال والإذن به إلى جانب انكشاف قبح نصب الأوثان في البيت الحرام ، فلا يطيق المسلمون من أهلها ومن القبائل الوافدين حال الضلالة والتقرب إلى الأصنام, وقد يتفشى القتل في أهل مكة فان الأمر لا يقف عندها بل تبرز ضغائن وعدوات جديدة تلقي بكدوراتها على مجتمع المسلمين .
فأراد الله عز وجل التخفيف عنهم بالفتح المبين، ليكون صرف هذه العداوات من مقدمات مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) وهو من إعجاز القرآن بأن يتفضل الله ويقيض أسباباً ومقدمات للواقع العملي لمضامين الآية القرآنية .
وبعد فتحه مكة خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مسلمي الفتح ألفا رجل ولو وقع قتال بين أهل مكة لما خرج هذا العدد لأن الحرب أولها نجوى وأوسطها شكوى وآخرها بلوى وقتل وجراحات , وشاء الله أن تقع معركة حنين وينتصر بها المسلمون نصراً عظيماً بفضل ولطف من عند الله عز وجل لقوله تعالى[وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( ).
لقد ذكرت الآية السابقة منّ الله عز وجل على المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( )، فهل كان فتح مكة من هذا المنّ، الجواب نعم ، ومن أبهى مصاديقه .
ويمكن إنشاء علم مستقل يتعلق بالآية السابقة بعرض كل واقعة في الإسلام وبيان مصاديق المنّ الإلهي فيها على المسلمين فتتجلى مضامين الآية القدسية بخصوص فتح مكة من جهات:
الأولى : تقدير آية البحث : لقد منّ الله على المؤمنين بفتح مكة بلحاظ أنه نعمة عظمى تتجدد فيوضاتها إلى يوم القيامة ولبيان قانون وهو أن فتح مكة تم بمنّ ومدد وعون من الله عز وجل ، ليكون من معاني ودلالات قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) الوعد بنصر الله المسلمين في المعارك التي تقع بينهم وبين الذين كفروا.
الثانية : من خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتح مكة، وإزاحة عبادة الأوثان فيها إلى يوم القيامة .
لقد بني البيت الحرام أيام آدم عليه السلام الذي جاءه من الهند حاجاً ، (قال ابن عبّاس : حجّ آدم أربعين حجّة من الهند إلى مكّة على رجليه فهذا بدء أمر الكعبة فكانت على ذلك إلى أيّام الطّوفان فرفعه الله إلى السّماء الرابعة فهو البيت المعمور يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ثمّ لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.
وبعث الله جبرائيل حتّى خبّأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة عن الغرق فكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم ثمّ إنّ الله تعالى أمر إبراهيم بعد ما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء بيت له يعبد ويذكر فيه.
فلم يدر إبراهيم أين خبّيء فسأل الله تعالى أن يبيّن له موضعه فبعث الله إليه السكينة ليدلّه على موضع البيت وهي ريح جموح لها رأسان شبه الحيّة فتبعها إبراهيم إلى أن أتيا مكّة فطوّق الله السكينة على موضع البيت كتطويق الحيّة الحجفة وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السّكينة فبناه) ( ).
وعن الإمام علي عليه السلام أن آدم عليه السلام حج(سبعين حجة ماشيا على قدميه وأول حجة حجها كان معه الصرد يدله على مواضع الماء)( ).
ثم قام إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ببناء قواعد البيت ودعوة الناس للحج ، قال تعالى في خطاب إلى إبراهيم[وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
ومن الآيات أن إسماعيل أقام عند البيت الحرام منذ صغره إذ جاء به وأمه هاجر إبراهيمُ عليه السلام لتتكاثر ذرية إبراهيم بجوار البيت الحرام ويكون هذا السكن مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل هو مقدمة لفتح مكة ، الجواب نعم ، ومن خصائص رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم نفرة قريش وأهل مكة من دخوله فاتحاً، هذا الفتح الذي يتصف بالإعجاز وهو عصمة لمكة من حينه وإلى يوم القيامة من عبادة الأوثان ودنس الشرك ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا]( ) وفيه شاهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء السابقين .
الثالثة : تقدير الآية : لقد منّ الله على المؤمنين بفتح مكة لإستدامة حج المسلمين البيت الحرام كل عام في أمن وسعة وسلامة من مفاهيم الشرك والضلالة .
الرابعة : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ليفتح مكة , ويؤدي المسلمون مناسك الحج كل سنة والعمرة كل يوم ، وهو الأمر الذي لا يتم إلا بفتح المسلمين لمكة مما يدل على أنها ضرورة وحاجة للمسلمين والناس جميعاً.
وإن قلت قد يأذن الذين كفروا للمسلمين بالحج من غير أن تصل النوبة إلى الفتح.
الجواب قد كان صلح الحديبية وعمرة القضاء حجة في المقام , وشاهداً على لزوم الفتح وأن الله عز وجل يخزي الذين كفروا فينقضوا ميثاق الحديبية بإعانتهم حلفائهم من بني بكر على خزاعة وهم حلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان)( ).
فقد طلب مشركوا قريش من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الرجوع وعدم دخول مكة للعمرة ، ورضوا بأن يكون دخولهم في العام القادم ، واشترطوا أموراً :
الأول : حصر إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار في مكة بثلاثة أيام فقط .
الثاني : ألا يكون مع كل مسلم إلا سلاح الراكب .
الثالث : أن تبقى السيوف في القرب .
الرابع : عدم دخول مكة بغير السيوف الخاصة .
ويستقرأ من هذه الشروط قسوة كفار مكة وصدهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين عن البيت الحرام بغير حق ، وهو أمر مخالف لأصل خلق الإنسان وبناء الأنبياء البيت ووجوب عمارته ، لذا جاء الإنذار بعذابهم بقوله تعالى[وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ]( ).
وتدل الآية أعلاه على بطلان شروط كفار قريش في صلح الحديبية لأنهم ليسوا أولياء البيت الحرام ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل بها حجة وتقية وصبراً وبإذن الله عز وجل , وهو سبحانه العالم بقيام كفار قريش بنقض العهد .
لقد كان فتح مكة حاجة للمسلمين والناس جميعاً ، قال تعالى [مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ]( ).
قانون دعوة الآية القرآنية لنبذ الفرقة والقتال
لقد أبى الله عز وجل إلا أن يجعل الناس على بصيرة من أمور دينهم ودنياهم ، وهو الذي يتجلى بقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) فقد أصلح الله عز وجل آدم لهذه الخلافة قبل أن يهبط إلى الأرض إذ علّمه[الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( ) وجعله يخالط الملائكة ويسمع منهم ويسمعون منه.
ثم تفضل الله عز وجل وأنزل الكتب السماوية على الأنبياء حتى ختمها بالقرآن وهو الكتاب الجامع للعلوم ومنها وجوب إمتناع المسلمين عن الإفتتان والإقتتال فيما بينهم بل أن القرآن نهاهم عن الإفتراق والتباعد بقوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ) لبيان تقوم الوحدة الإسلامية بالتقيد بأحكام الشريعة ووجود ضابطة كلية تمنع من الفرقة والتباغض في كل أمر من أمور الدين والدنيا .
ويدعو القرآن إلى نبذ العنف والإرهاب بحفه على إختيار الحكمة والبرهان والموعظة , قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
ليجتهد المسلمون في طاعة الله وتتوارث أجيالهم الأخوة الإيمانية بينهم، وتكون هذه الأخوة دعوة للناس لدخول الإسلام ، وزاجراً عن التعدي على المسلمين وثغورهم ، ليعم الأمن والسلام ربوع الأرض في الحياة الدنيا التي جعلها الله عز وجل داراً ومحلاً لرحمته .
لقد جاءت آيات القرآن والسنة النبوية ببيان حرمة دم المسلم , والتشديد على لزوم ترك القتل وسفك الدماء ، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا] ( ) لبيان أن الله عز وجل ينهى عن قتل المسلم والذين لهم عهد وميثاق وصلح مع المسلمين وفيه دلالة بأن الحياة جامعة للمسلمين وغيرهم ، وأن الله عز وجل يدعو المسلمين إلى العهد والميثاق مع غيرهم بما ينشر شآبيب الأمن في ربوع الأرض .
وعن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “من قتل مُعاهِدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما”)( ).
ومع نهي القرآن عن الفرقة بين المسلمين فانه جاء بالأمر بالصلح بين المتحاربين منهم.
وبين الفرقة والإقتتال عموم وخصوص مطلق فالفرقة أعم ، وتصدق على الإختلاف باللسان والتنافر والتباعد والتدابر والتحاسد والتنابز بالألقاب.
أما الإقتتال فهو إشهار السيوف وسعي كل طرف لقتل الآخر فقال تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا]( ).
وهل ينطبق اسم الطائفة على المنفرد من الناس , الجواب نعم ، للتحذير من الوسائل التي تقود إلى الفتنة.
وفي علم الفقه قاعدة وهي أن للوسائل أحكام المقاصد ، فالوسيلة نوع طريق وبلغة لتحقيق المقصود ، فاذا كان المقصد حسناً فان الوسيلة والطريقة التي يتوصل بها إليه لابد أن تكون حسنة ، أما إذا كان المقصد سيئاً فان الوسيلة إليه سيئة، فيترشح الحسن والسوء على الوسيلة من ذات الغاية والمقصد ، ومن مصاديقه قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ).
وتسمى هذه القاعدة في علم الأصول مقدمة الواجب وقد بينّاه مفصلاً في علم الأصول ( ).
وهذا المعنى غير القول بأن الغاية تبرر الوسيلة والذي معناه إذا كانت الغاية حسنة فيجوز الوصول إليها بوسيلة وطريقة محرمة ، فهذا الوسيلة محرمة مطلقاً وإن كانت بلغة لغاية صحيحة ، لذا تجلت موضوعية الصبر في الشريعة الإسلامية للحصانة من إتباع الوسائل المحرمة وللمنع من السعي إلى المقاصد السيئة .
لقد حذّر القرآن من الإحتقان والإقتتال الطائفي والصدام المجتمعي ودعا عموم المسلمين إلى التعاون لنبذه ومنعه والتدخل لوقفه في حال نشوبه.
ولم يكتف القرآن ببيان حرمة الإقتتال بين المسلمين بل ذكر حالة أخرى، وهي إن وقع القتال بين المسلمين فعلى الناس ألا ينفروا من الإسلام ومن مبادئه لأن هذا الإقتتال ليس منها ، إنما يعود إلى ذات الأشخاص الذين يتقاتلون وغلبت النفس الغضبية والشهوية بدليل أن الآية نسبت القتال إلى ذات القائل [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا]( ) أي بما هم طائفتان وأن الأصل هو وحدة المسلمين .
ومن إعجاز الآية القرآنية أنها تدعو المسلمين إلى ترك الخصومة والإقتتال إذ أنها سور جامع لمعاني المودة والرفق بين المسلمين ، وتدل بالدلالة التضمنية على جمعها لهم في أداء الواجبات العبادية والفرائض ليكون من الإعجاز في تشريع صلاة الجماعة عند المسلمين إتحادهم وإجتماعهم في موضع واحد وإشتراكهم في الفعل العبادي السلمي الذي يزيل الضغائن إذ أنهم يذكرون الله ويعلنون تسليمهم بالتوحيد , والتصديق بالنبوة والتنزيل، وقراءة آيات القرآن ويؤدون أفعالاً عبادية واحدة، قال تعالى[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]( ).
ولقد حذرت آيات القرآن من الشيطان وإثارته الفتنة بين المسلمين قال تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ]( ) والشيطان هنا اسم جنس ويشمل[شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا]( ).
نعم يجوز الدفاع عن النفس والمال والعرض ،وقد يجب , وفي كل آية من القرآن تجد مفهوماً ودلالة على لزوم والألفة والمودة بين المسلمين ، ويتجلى معها مصداق لقوله تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا] ( ) فمثلاً بخصوص الآية السابقة [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ…]( ) هناك وجوه :
الأول : تفضل الله عز وجل على المؤمنين بالمن والطول ليتلقوه على وجوه :
أولاً : العموم الإستغراقي الشامل للمسلمين بعرض واحد .
ثانياً : العموم المجموعي إذ يأتيهم المنّ كأمة واحدة ومجئ المنّ بهذه الكيفية من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ثالثاً : العموم الإفرادي بأن يأتي المنّ لكل مسلم ومسلمة على نحو القضية الشخصية .
والمن الإلهي سور الموجبة الكلية الواقي للمسلمين من الفرقة والإختلاف، ولولاه لما بقي المسلمون في الحال الكريمة التي هم عليها .
الثاني : نعت الآية السابقة المسلمين بالمؤمنين بقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] وفيه مسائل :
الأولى : الأصل في الإيمان الأخوة والألفة والمودة .
الثانية : دعوة المسلمين لحل أسباب النزاع بصيغ الإيمان .
الثالثة : نفرة المسلمين من الفرقة والخلاف بينهم .
الرابعة : تنمية ملكة الإيمان للإنقطاع في الحاجات إلى الله عز وجل والتنزه عن زينة الدنيا التي هي أصل الفتن بين الناس .
الخامسة : دعوة المسلمين لشكر الله عز وجل على نعمة الإيمان، بنبذ الخصومات بينهم .
السادسة : ترشح التقوى والخشية من الله عز وجل من الإيمان ودعوة المسلمين للتنافس في سبلها ،قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ).
السابعة : نعت المسلمين بصفة المؤمنين بشارة للجزاء الحسن والفوز بالجنة في الآخرة .
الثالث : الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإخبار الآية عن كون نبوته مناّ وطولاً من عند الله ، ولابد أن يتلقى المسلمون هذه النعمة بالشكر لله عز وجل ، ومن أبهى مصاديق الشكر في المقام تنزه المسلمين عن الفرقة والخصومة والنزاع فيما بينهم .
الرابع : لم تقل الآية بعث لهم إنما قالت بعث فيهم، وفيه ثناء على المسلمين بحضور النبوة بينهم وفيهم ، وهي واقية من الفرقة والشقاق لأنها فيصل وحكم .
لقد دعا الله عز وجل المسلمين إلى إجتناب الفرقة , ويتجلى مصداق هذا الإجتناب باللجوء إلى القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنته ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
والأمة التي يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاضراً بها بشخصه لا يقع فيها شقاق ، ولا تكون طوائف وأحزاباً ومذاهب ، والإجماع على أن المذاهب أمر حادث في الإسلام، ولم يكن في زمن الصحابة أو التابعين وعند التحقيق فيه يتجلى قانون من جهات :
الأولى : إنتفاء الأصل للمذاهب المتعددة في الإسلام سواء الفقهية أو الكلامية ، وقد إنشغل المسلمون في حقبة من الزمان أيام الخلافة العباسية بفتنة خلق القرآن ، وهو من مصاديق قولنا بانتفاء الأصل لها .
الثانية : عدم الحاجة إلى المذاهب في الإسلام وبامكان المسلمين الإستغناء عنها .
الثالثة : قد يكون الضرر الذي يأتي من المذاهب أحياناً أكثر من نفعها ولكن النفع هو الأعم لما فيها من بيان ووحدة الأحكام، خاصة وأنها لم تخرج عن الكتاب والسنة، ولا تعدو أن تكون رواية وإجتهاداً وضبطاً.
الرابعة : هناك من أصحاب المذاهب من يكون بين طبقته أو نحوها من هو بدرجته أو أفقه منه , ولم يطرأ على ذهنه أنه ينال معشار هذه المنزلة عند أجيال المسلمين.
الخامسة : في القرآن والسنة كفاية وغنى عن تعدد المذاهب .
ومع هذا فيجب ألا تكون المذاهب طريقاً للخلاف والشقاق ، ولا يصح تكفير المسلم الذي ينطق بالشهادتين ويستقبل القبلة في الصلاة اليومية ، أو رميه بكلمات وأوصاف قبيحة .
لقد أخبرت الآية السابقة عن منّ الله عز وجل على المسلمين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي هي جامعة مانعة ، جامعة للأحكام الشريعة ، وكافية في أمور العبادات والمعاملات والأحكام ، ومانعة من الفرقة والشقاق .
الخامس : بيان الآية السابقة لقانون وهو نسبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين أنفسهم لتأكيد إتحاد السنخية والتشابه في عالم الفعل وان المسلم كفؤ ونظير لأخيه المسلم فلا يدب الشقاق والبغضاء بينهم.
وهل في الآية دعوة للمسلمين للجوء إلى الكتاب والسنة عند الخلاف ، الجواب نعم ، قال تعالى[فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً]( ) .
السادس : لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بنعمة لم تنلها أمة أخرى , بأن يتلو عليهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن ، وهو من أسرار استبشار الملائكة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في حديث الإسراء ، وإنفراد المسلمين بهذه النعمة من جهات :
الأولى : نزول آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم تنزل من قبله على أحد من الأنبياء والرسل .
الثانية : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن .
الثالثة : تلقي المسلمين آيات القرآن من فيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : سلامة القرآن من التحريف والزيادة والنقص والتبديل وإلى يوم القيامة .
ويتلقى كل جيل من المسلمين آيات القرآن , وكأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتلوها عليهم ، وتقدير الآية بلغة الخطاب لكل جيل منهم لقد منّ الله عليكم أيها المؤمنون إذ بعث فيكم رسولاً من أنفسكم يتلو عليكم آياته ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة وإن كنتم من قبل لفي ضلال مبين .
الخامسة : لم تنزل وتقرأ مثل آيات القرآن على أمة مثل المسلمين .
السادسة : ليس من أصحاب نبي بهذه الكثرة التي كان عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد غادر الدنيا إلى الرفيق الأعلى وكان عدد الصحابة مائة وأربعة عشر ألفاً , رواه الخطيب البغدادي في الجامع.
وقطع السيوطي في كتاب الخصائص الكبرى بأن عددهم هو مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، ولم يقع إقتتال بين الصحابة مع كثرة عددهم وإجتماع أكثرهم في المدينة بأزقتها الضيقة .
إن قوله تعالى [رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ] ( ) حجة من عند الله لسلامة المسلمين من الشقاق والإقتتال ، فاذا ما إنصرف الإقتتال ومقدماته عنهم فانما هو بفضل الله عز وجل وإخباره بأنه بعث إليهم رسولاً من أنفسهم يعالج خلجات نفوسهم ويزجرهم عن التباغض والتحاسد والتنافر (عن أبي صالح الحنفي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله رحيم ولا يضع رحمته إلا على رحيم . قلنا : يا رسول الله كلنا نرحم أموالنا وأولادنا . قال : ليس بذلك ولكن كما قال الله { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم }( ))( ).
وما يتصف به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الرأفة من مصاديق قوله (أدبني ربي فأحسن تأديبي )( ).
وفيه دعوة للمسلمين للتحلي بالرأفة فيما بينهم وان يرفق بعضهم ببعض .
السابع : لقد وصفت آية البحث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأن يزكي المسلمين بقوله تعالى [يُزَكِّيهِمْ] ولا يقدر أحد على تزكية أمة في أقوالهم وأفعالهم وفي سرائر نفوسها إلى الله عز وجل .
مما يدل على أن هذه التزكية بمدد وعون من عند الله لذا ذكرت الآية أموراً :
الأول : بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة الخاتمة.
الثاني : نيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة الرسالة السامية، وبين النبي والرسول عموم وخصوص مطلق ، فكل رسول هو نبي وليس العكس .
الثالث : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن .
الرابع : تعيين المسلمين في تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو لم يقرأها لنفسه , إنما يتلوها عليهم ليعملوا بها ، ثم جاء قوله تعالى [يُزَكِّيهِمْ] لبيان أن التزكية بلحاظ القانون محل البحث وهو قانون دعوة الآية لنبذ الفرقة والقتال بين المسلمين على وجوه :
أولاً : تهذيب بواطن وقلوب المسلمين من الغش والأخلاق المذمومة كالحسد والحقد والكراهية .
ثانياً : تنزه المسلمين عن إتباع الهوى، وترفعهم بالكتاب والسنة عن فعل المعاصي وإرتكاب السيئات، قال تعالى[فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى]( ).
ثالثاً : بلوغ المسلمين مراتب السمو والشرف.
رابعاً : عصمة المسلمين والمسلمات من الفتن وشرور البغاة.
خامسا ً : إتخاذ المسلمين التعليم والتفقه منهاجاً وسيرة، وهو من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
سادساً : إرادة الثواب العظيم للمسلمين، قال تعالى[قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا]( ).
وفي الآية أعلاه دعوة للمسلمين للإقتباس من الكتاب والسنة والتقيد بأحكام الشريعة , وفيه واقية من المصيبة والضرر الخاص والعام.