المقدمــــة
الحمد لله الذي جعل الحمد لله حاجة للناس مجتمعين ومتفرقين والذي يشكر من حمده قبل الحمد وبعده , وذات الحمد من شكر ومنّ الله على العبد ، وفي التنزيل[وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ]( ).
الحمد لله عن وبصيرة وتدبر فمن فضل الله أنه جعل الحمد له شاهداً على المعرفة والإرتقاء في سلم التقوى والخشية منه تعالى , وليس بعد مدرسة الحمد مدرسة .
الحمد لله عن سمعي وبصري وعقلي ودمي وجوارحي ، وكل عضو من أعضاء بدني ، وليس من حصر لنعم الله عز وجل في البدن والعافية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) .
والحمد لله الذي جعل وجوه تقدير الآية أعلاه أكثر من أن يحصيها العبد ومنها :
الأول : وإن تعدوا نعمة الله في الحمد له سبحانه .
الثاني : وإن تعدوا نعمة الله على أي فرد منكم لا تحصوها .
الثالث : وإن تعدوا نعمة الله بالإسلام لا تحصوها .
الرابع : وإن تعدوا نعمة الله في نداءات القرآن لا تحصوها .
وتتفرع عن هذا الوجه وجوه متعددة منها :
الأول : وإن تعدوا نعمة الله بنداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]لا تحصوها، وفيه مسائل :
الأولى : وإن تعدوا نعمة الله بتكرار نداء الإيمان تسعاً وثمانين مرة في القرآن لا تحصوها .
الثانية : وإن تعدوا نعمة الله بما يصاحب نداء الإيمان من الأوامر لا تحصوها ، كما في قوله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ]( ).
الثالثة : وإن تعدوا نعمة الله في النواهي التي تصاحب نداء الإيمان لا تحصوها ، سواء النهي المتحد أو المتعدد في ذات آية نداء الإيمان ، ومن الثاني قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
الرابعة : وإن تعدوا نعمة الله في هدايتكم إلى العمل بمضامين آية النداء لا تحصوها , وتتجلى هذه الهداية بتلاوة كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) على نحو الوجوب العيني .
الخامسة : وإن تعدوا نعمة الله في معاني ودلالات عطف الآيات على آية نداء الإيمان لا تحصوها .
السادسة : وإن تعدوا نعمة الله في تلاوة آية نداء الإيمان وما فيها من تعظيم لشعائر الله لا تحصوها .
السابعة : وأن تعدوا نعمة الله بجذب الناس للإسلام بنداء الإيمان لا تحصوها.
الثامنة : وأن تعدوا نعمة الله ببيان الأحكام في آيات نداء الإيمان لا تحصوها.
التاسعة : وأن تعدوا نعمة الله في الثواب العظيم بتلاوة المسلمين لنداء الإيمان لا تحصوها.
العاشرة : وأن تعدوا نعمة الله في تآخي المسلمين بنداء الإيمان لا تحصوها.
الحادية عشرة : وأن تعدوا نعمة الله في إصلاح نفوس المسلمين لتلقي نداء الإيمان لا تحصوها.
الحمد لله الذي جعل الناس يعجزون عن عدّ نعمه في نداء الإيمان.
الثاني : وإن تعدوا نعمة الله في النداء العام في القرآن لا تحصوها ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : وإن تعدوا نعمة الله في الخطاب والأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنداء إلى الناس جميعاً ودعوتهم إلى التوحيد لا تحصوها, منها قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
الثانية : وإن تعدوا نعمة الله على الناس مجتمعين ومتفرقين بالنبوة والتنزيل لا تحصوها .
الثالثة : وإن تعدوا مصاديق رحمة الله بالناس في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا تحصوها .
الرابعة : وإن تعدوا أيها الناس نعمة الله عليكم لا حصوها .
لبيان قانون وهو أن عجز الناس عن تعداد نعم الله عليهم دعوة لهم للإيمان والإنزجار عن أسباب جلب سخط الله ، وقد تقدم قبل أربع آيات بيان التباين والتضاد بين أهل الإيمان والذين كفروا بقوله تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
الثالث : وإن تعدوا نعمة الله في النداء الشخصي من الله عز وجل إلى الإنسان كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ]( )، لبيان الجد والقطع بسير الإنسان نحو الآخرة وعالم الحساب ، وكل ساعة تمر عليه في الدنيا هي من هذا الكدح الذي يعني في اللغة السعي بدأب ومشقة .
اللهم لك الحمد حمداً كثيراً طيباً عدد خلقك ومنّك ونعمك عليهم مجتمعين ومتفرقين ، وفي التنزيل [إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ] ( ).
اللهم لك الحمد بعدد كلماتك التي لا تنفد وبعدد قطرات مياه البحار وزخات المطر .
اللهم لك الحمد بعدد ما انعمت على الناس ، وبعد وما أصابهم من البلاء الذي يكون موعظة ونوع طريق إلى الهداية .
اللهم لك الحمد بعدد حروف وكلمات أجزاء هذا السِفر المبارك الذي أنعمت به علينا , وبعدد ما يقرأ منها في كل زمان , وورد عن رسول الله”إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: من علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده”)( ).
وهذا هو الجزء الثالث والخمسون بعد المائة من معالم الإيمان في تفسير القرآن ، ويختص بتفسير آية واحدة من سورة آل عمران وهو قوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
ويضمن كالأجزاء السابقة التأويل واستنباط المسائل وإنشاء القوانين من ذات الآية محل البحث مع خلوها من الإطناب الممل .
ليكون تاسيساً لمنهاج مستحدث في إستقراء علوم القرآن ، وتثوير خزائنه والغوص في بحار كنوزه واستخراج الدرر البهية منه ، ومن غير أن تنقص هذه الكنوز والخزائن شيئاً ، إذ يدعو القرآن العلماء في كل زمان للنهل من رياض ذخائره ، ولا يعني هذا إستحداث علوم في تفسير القرآن بلحاظ أفراد الزمان الطولية الجديدة وإن كان هذا من أبواب علوم القرآن وإعجاز القرآن ، إنما ذات جمل وآيات القرآن تتضمن لآلئ علمية بمعزل عن الزمان والمكان .
(عن جابر قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا أيها الناس إن لله سرايا من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر ، فارتعوا في رياض الجنة . قالوا : وأين رياض الجنة؟ قال : مجالس الذكر ، فاغدوا وروحوا في ذكر الله وذكروه أنفسكم ، من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده ، فإن الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه) ( ).
ومن فضل الله عز وجل أن يختص جزء كامل من هذا السفر بتفسير آية واحدة من القرآن تتألف من بضع كلمات ، وتتعلق بموضوع مخصوص ، وهو معركة أحد ، والمصيبة والخسارة التي نزلت بالمسلمين ، وأنها نوع أذى ومشقة وألم ليتضح من هو المؤمن الذي أخلص في طاعة الله ، ومن هو المنافق الذي يبطن الكفر في ذات الوقت الذي يظهر فيه الإيمان ، وتسمى معركة أحد وكل معركة اشترك بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالغزوة ، فيقال غزوة بدر ،غزوة أحد ،غزوة الخندق ، والمختار أنها معركة دفاعية ليست غزوة ، فلم يخرج فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للهجوم والغزو والإغارة , وهذا البيان حاجة في زمان العولمة , ومنع تشويه الإسلام , وفيه دفع وهم وتحريف بأن الإسلام إنتشر بالسيف , إلا أن يراد : أنه إنتشر مع محاربة سيوف الكفر وأهل الضلالة له .
منهم من فرق بين كلمة غزوة ومعركة ، وقال بأنه يراد من الغزوة هي التي خرج بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائداً وأماماً للجيش واما المعركة فهي التي تكون بأمره أحد الصحابة ، ولكن بأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن هذا المعنى يصدق على السرية ، إذ أن لفظ المعركة عام يشمل كل واقعة حديث فيها القتال ، لذا ورد لفظ [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) ثلاث مرات في القرآن ولكن المعارك التي خرج بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دفاعية ولا تسمى غزوة إلا على نحو المجاز.
ويتعلق موضوع آية البحث بمعركة أحد التي جرت في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، ولم يقم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغزو قبيلة أو بلدة أو قرية ، إنما جاء مشركوا مكة بجيش عرمرم لإقتحام المدينة وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسر أصحابه خاصة المهاجرين منهم [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
ولم يتعظ مشركوا مكة من وقائع معركة بدر وخسارتهم فيها بالنفوس والأموال مع مصاحبة الذل لهم وفقدانهم شطراً من الجاه ، إذ أنه يترشح عليهم من جوار وسدانة البيت الحرام ، فلم يشكروا الله عز وجل بحسن العبادة ، ولم يمتنعوا عن إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكتفوا بالتجارة بين مكة والشام في الصيف لأن الشام ذات مناخ بارد ، وبينها وبين مكة في الشتاء لحال الدفئ هناك ، وهو مصداق قوله تعالى (لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) ( ).
وقد تجلت عبادة الله في الآية أعلاه بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإخلاصه في تقوى الله ، فهو الإمام في الزهد وصدق العبادة , حديث (عن الحسن قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم تأخذه العبادة حتى يخرج على الناس كالشن البالي فقيل له : يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال : أفلا أكون عبداً شكوراً؟)( ).
وقد إزداد عدد المسلمين والمسلمات في مكة ومع هذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم طائفة من أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مع النأي وبعد المسافة ومخاطر الطريق ، ووحشة الغربة ووجود ملك وأهل بلدة على ملة دين سماوي آخر , إذ كان النجاشي وأهل الحبشة من النصارى ، فلم يخش النبي صلى الله عليه وآله وسلم إرتداد أصحابه هناك مع حداثة عهدهم بالإسلام .
وتدل هجرتهم بالدلالة التضمنية على قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينو ملاقاة قريش ومحاربتهم ليس فقط في ذات المدة والزمان بل لما بعده من الأيام خاصة وأن عددهم ليس بالقليل إذ يبلغ إثنين وثمانين ، وفيه شاهد على أن السيف لم يكن مقوماً لنشر الإسلام ، وهل أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة باختيار منه أم أنه بوحي من عند الله .
الجواب هو الثاني ، ومن الآيات إن قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) آية من سورة النجم , وهي آية مكية لبيان قانون وهو أن قول وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة كله من الوحي والتنزيل .
ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ الآية أعلاه على المنبر في المدينة للإستدلال بها وجعلها حجة وبرهاناً على صحة فعله والزجر عن توجيه اللوم أو العتاب إليه ،(عن أبي الحمراء وحبة العرني قالا : أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تسد الأبواب التي في المسجد ، فشق عليهم ، قال حبة : إني لأنظر إلى حمزة بن عبد المطلب وهو تحت قطيفة حمراء وعيناه تذرفان ، وهو يقول : أخرجت عمك وأبا بكر وعمر والعباس ، وأسكنت ابن عمك ؟ .
فقال رجل يومئذ : ما يألوا يرفع ابن عمه ، قالا : فعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد شق عليهم ، فدعا الصلاة جامعة ، فلما اجتمعوا صعد المنبر فلم يسمع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبة قط كان أبلغ منها تمجيداً وتوحيداً ، فلما فرغ قال : يا أيها الناس ما أنا سددتها ولا أنا فتحتها ولا أنا أخرجتكم وأسكنته ، ثم قرأ { والنجم إذا هوى ما ضلّ صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى }( ) .) ( ).
ولم يحمل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلاحاً في مكة للدفاع عن نفسه ، في ذات الوقت الذي يجهر بالدعوة إلى كلمة التوحيد وإخبار الناس بأنه رسول الله ولزوم طاعتهم لله ، ومن بقايا الحنيفية في مكة وجود أشهر الحج وهي شهر شوال وذو القعدة وذو الحجة ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ]( ).
ومنها شهران وهما شهر ذي القعدة وذي الحجة من الأشهر الحرم الأربعة ، توضع فيها السيوف في القرب ، وحتى لو وجد الشخص قاتل أبيه فانه لا يثأر ولا ينتقم منه ، فتفد القبائل إلى مكة ليطوف عليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم إلى الإسلام ونبذ عبادة الأوثان .
ليكون البيت الحرام الذي جاءوا لحجه والطواف به مدداً وعوناً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته .
وهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف طلباً للسلامة ولدعوة أهلها للإسلام فلاقى منهم أشد الأذى وضربوه بالحجارة وسالت الدماء من وجهه الشريف ومن قدميه ، ولم يعد إلى مكة إلا بأمان وذمام ، وكانت طائفة من أهل يثرب والتي صار اسمها المدينة المنورة فيما بعد ، إذ بايعه اثنان وسبعون منها بينهم امرأتان , وكانت البيعة مقيدة بأمرين :
الأول : الذب والدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند وصوله إلى بلدته المدينة أي أنهم غير مسؤولين عنه , وهو في مكة أو في طريقه إلى يثرب المدينة .
الثاني : الدفاع عنه كما يدافعون عن أبنائهم ونسائهم أي أنهم لا يخرجون لقتال غيرهم دفاعاً عن النبي أو للدعوة إلى الإسلام .
ولم يعين النبي صلى الله عليه وآله وسلم موعداً للهجرة ، ولكن الأحداث صارت تملي عليه التعجيل بالهجرة .
وعزم رؤساء قريش على قتله في فراشه ، فكانت تلك الليلة أوان هجرته على نحو قهري لتقع آيات له في الطريق , ويكتب الله له السلامة ، منها حديث خيوط العنكبوت على باب الغار حتى قال الذين تعقبوه من قريش بأن نسج العنكبوت هذا قبل أن يولد محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان القطع بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدخل في الغار ، وهو غير موجود فيه ، ونزل قوله تعالى [إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ]( ).
وعن أبي مصعب المكي قال (أدركت أنس بن مالك ، وزيد بن أرقم ، والمغيرة بن شعبة ، فسمعتهم يتحدثون أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الغار أمر الله عز وجل بشجرة فنبتت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فسترته ، وأمر الله العنكبوت فنسجت في وجه النبي صلى الله عليه وسلم فسترته ، وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار ، وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجل ، بعصيهم وهراويهم وسيوفهم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقدر أربعين ذراعا ، فجعل رجل منهم لينظر في الغار فرأى حمامتين بفم الغار ، فرجع إلى أصحابه .
فقالوا له ما لك لم تنظر في الغار ؟ .
فقال : رأيت حمامتين بفم الغار ، فعلمت أنه ليس فيه أحد ، فسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قال ، فعرف أن الله عز وجل قد درأ عنه بهما ، فدعاهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمت عليهن وفرض جزاءهن ، وانحدرن في الحرم)( ).
ولو حمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم السلاح في الطريق فقد لا ينفعه لكثرة الكفار الذين خرجوا خلفه يطلبونه .
لقد أراد الله عز وجل حفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وظهور الإسلام سواء أشهر المسلمون السيوف أم لم يشهروها ، وتدل الوقائع التأريخية على أنهم لم يحملوا السيوف إلا للدفاع وصرف كيد ومكر الذين كفروا ، فان قيل سلمنا أن معركة بدر واحد والخندق وحنين دفاعية فما بال المعارك والغزوات الأخرى.
وأكثر غزوات النبي الأخرى ليس فيها قتال يخرج من المدينة ويعود إليها من غير قتال, وعن زيد بن أرقم قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة كنت معه في سبع عشرة.
وعن محمد بن إسحاق فقال: كانت غزواته التي خرج فيها بنفسه سبعاً وعشرين، وكانت بعوثه وسراياه ثمانياً و ثلاثين)( ).
والمعارك الثمانية التي قاتل فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي:
1- معركة بدر، وتسمى أحياناً بدر القتال.
2- معركة أحد .
3- معركة الخندق وهو يوم الأحزاب.
4- معركة المريسيع.
5- معركة قريظة .
6- معركة خيبر.
7- فتح مكة.
8- معركة حنين، قال تعالى[وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ]( ) .
وأما المعارك التي يقاتل فيها فهي الأكثر ومنها:
الأولى : غزوة الأبواء: في شهر صفر قبل معركة بدر، وكان يريد قريشا وبني ضمرة حتى بلغ ودان، وعن إبن إسحاق أن بني ضمرة وادعوه، فرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يلق كيداً، وتسمى هذه الغزوة أيضاً غزوة ودان لأنه الموضع الذي وصل إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : غزوة الكُدر لما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن بني سليم يريدون الهجوم والإغارة على المدينة .
ووقعت في بداية شهر شوال من السنة الثانية للهجرة ولم يلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتالاً، وعاد إلى المدينة في العاشر من شوال ومعه النعم والرعاء.
الثالثة : غزوة غطفان بناحية نجد , وتسمى غزوة ذي أمر بناحية النخيل ووقعت في شهر ربيع الأول بعد معركة بدر .
لما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن طائفة من بني ثعلبة ومحارب قد تجمعوا بذي أمر ويريدون الإغارة على أطراف المدينة ومراعيها ، خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم باربعمائة وخمسين من أصحابه ، وحينما علم الأعراب بقدومه فروا إلى رؤوس الجبال ، وكانوا يرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهم يرونهم ولم يلحقوا بهم ويصعدوا الجبال في طلبهم .
الرابعة : غزوة حمراء الأسد ، وهذه الغزوة معجزة في السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاءت متعقبة لمعركة أحد ، والقصد فيها مطاردة جيش المشركين وبعث الخوف في نفوسهم بعد أن بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم ندموا وهم في طريق العودة إلى مكة واشتد التلاوم بينهم بأنهم لم يحرزوا نصراً في معركة أحد ، ولم يقتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يأسروا أصحابه .
لقد أدرك أبو سفيان وأصحابه من رؤساء قريش في معركة أحد أنه ليس لديهم عذر أمام أهل مكة عند الرجوع إليها وأنهم لم يحققوا أي وعد وعدوهم به .
مما سيؤدي طوعاً وإنطباقاً إلى أمور :
الأول : دخول فوج من الناس في الإسلام ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ) الجواب نعم .
الثاني : إجهار مسلمي مكة بإسلامهم .
الثالث : هجرة طائفة من مسلمين مكة إلى المدينة ، وكانت تجري مكاتبان بين المهاجرين واخوانهم واصحابهم في مكة يدعونهم للهجرة .
الرابع : إنصات أفراد القبائل لآيات القرآن وإمتناعهم عن الإنقياد لكفار قريش وقلة مهابة قريش عندهم .
الخامس : لقد كانت تجارة وقوافل قريش تجوب الصحراء ذهاباً وإياباً إلى مكة ، وبعد معركة بدر وأحد قلت ونقصت هذه التجارة ، وصارت قوافل قريش في خطر خشية مداهمة أفراد القبائل لها .
وهل كان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإعتراض قافلة أبي سفيان قبل معركة بدر إغراء للقبائل بالتجرأ على قوافل قريش وإرادة منعهم من تسخير أموالهم لمحاربة الإسلام ، الجواب لا دليل عليه ، وإن كان قد يستقرأ من الحال , وقانون تعدد إبتلاء الذين كفروا , وهو من مصاديق قوله تعالى[لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ]( ).
السادس :إختلاط أفراد القبائل بالمسلمين الذين بقوا في مكة أو من الذين كانوا خارجها ، فليس من حرج أو خشية من هذا الإتصال .
إن توالي نزول آيات القرآن وتجلي معجزات النبوة وتعاقب الأيام مع تلك الحال المباركة أسباب تجذب الناس للإسلام وتبعث الشوق في النفوس للإطلاع على ذخائره وعلومه وأسرار هذه الدعوة ، وورد عن أم سلمة قالت : كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك قال : ما من آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن ، إذا شاء أزاغه( ) ، وإذا شاء هداه) ( ).
وتتصف غزوة حمراء الأسد أنها لم تكن لجهة أو قبيلة أو موضع مقصود بعينه إنما كانت نوع مطاردة لجيش المشركين بعد إنسحابهم من معركة أحد ولسلب معاني النصر أو الظفر التي إدعوها في المعركة .
ومن الآيات في المقام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لا يخرج معنا إلا من شهد القتال أي القتال في معركة أحد ، فجاء رأس النفاق عبد الله بن أبي والذي إنخزل بنحو ثلاثمائة من جيش المسلمين في الطريق إلى معركة أحد ، فقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (أَرْكَبُ مَعَك ؟) ( ).
فلم يوبخه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يذكّره بغدره وخبثه إنما اكتفى بالقول : لا .
ولكن جاء جابر بن عبد الله الأنصاري استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج معه ، وكان أبوه قد خلّفه على بناته ، وقتل أبوه فيها والأصل أن يبقى في المدينة لأنه صاحب مصيبة ، وذات العذر والبقاء في المدينة للعناية باخواته لا زال قائماً وصار أكثر إلحاحاً لفقد أبيهن ، جاء راجياً النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخروج معه لملاحقة ومطاردة كفار قريش ، فاذن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج معه .
ولم يلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتالاً في خروجه هذا ، ولكن منافعه أكثر من أن تحصى .
الخامسة : غزوة دومة الجندل ودومة بضم الدال وقعت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول من السنة الخامسة للهجرة الموافق لشهر آب سنة 626 ميلادية ، وتبعد دومة الجندل ستمائة كيلو متراً عن المدينة المنورة ، وعلى مسيرة خمس عشرة ليلة من المدينة وسميت به لحصن بناه دوماء بن إسماعيل .
والجندل الحجارة ، ومفرده جندلة , ليكون معناه حصن الحجارة الذي بناه دوماء ، وكان يتصف بالتحصين والشدة ، وتسمى المدينة في هذه الأيام (الجوف) وسبب الغزوة وصلت الأنباء بقيام بعض قبائل المشركين في منطقة دومة الجندل بالتعرض للقوافل التي تمر عليهم ويقومون بالنهب والظلم والإيذاء وأنهم ينوون الهجوم لاحقاً على المدينة ، وفي بلوغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسالة إلى تخوم بلاد قيصر بيان لقوة ومنعة الإسلام ، وإن الغاية من خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الإصلاح ومحاربة الظلم والقضاء على قطاع الطرق ، وفيه شاهد بأن النبي لا يرضى بالفساد ويحاربه , هو من مصاديق قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] ( ).
فقد كانت قوافل قريش تسير بين الشام ومكة من دون أن يعترضها اللصوص أو ينهبوا قوافلها ، ولكن بعد تعديهم على الإسلام وإنشغالهم بالحروب الظالمة تجرأ الناس عليهم ، وهكذا فانه مع شيوع الظلم وعدم الإستقرار تطغى النفس الشهوية والغضبية .
فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ألف من أصحابه واستخلف على المدينة سِباع بن عُرفطة الغِفاري ، وكان يسير في الليل ويكمن في النهار ، ومعه دليل من بني عذرة اسمه مذكور ، وسار في غير الطريق العام الذي يتخذه أهل دومة الجندل وفاجأهم المسلمون فهجموا على مواشيهم وأصابوها وتفرق أهل دومة الجندل ، ونزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ساحتهم فلم يجد أحداً وبث السرايا فعادوا بالإبل وجاء محمد بن مسلمة برجل منهم ، فسأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أصحابه , فقال : هربوا أمس حيث سمعوا بأنك قد أخذت نعمهم. فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم الإسلام أياماً فأسلم، فرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينة) ( ).
لقد كانت غزوة دومة الجندل فاتحة سير المسلمين إلى البلدان البعيدة وإخباراً بأن الإسلام أعم من أن ينحصر بالمدينة ومكة ، وأنه لابد من تأمين طرق تجارة المسلمين ، ومحاربة الفساد وقطاع الطرق ، وعدم تركهم يجتمعون ويزداد عددهم , لأن هذه الزيادة تهديد للسلم المجتمعي ، وتدفعهم لغزو المدن والعبث فيها ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ] ( ) المختار إن شرهم أحياناً أشد من الأذى الذي يأتي من إحتلال الملوك وجيوشهم ومع بعد المسافة والمشقة التي لاقاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه وطول مدة الغزوة لأنهم يسيرون في الليل ويكمنون في النهار .
ولم يقع قتال في هذه الغزوة ولم يلاحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل البلدة عند فرارهم ليؤاخذهم على قطعهم الطريق ونحوه إنما تركهم وعاد إلى المدينة .
السادسة : غزوة الحديبية : من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج وأصحابه في مسير إلى مكة نتيجة رؤيا رآها فيغير هذا المسير تأريخ الإنسانية والعقائد على وجه الأرض ، ويبقى أثر وموضوع هذا التغيير إلى يوم القيامة .
فبعد معركة الخندق والتي تسمى أيضاً يوم الأحزاب ، ومجئ عشرة آلاف رجل من قريش وحلفائهم لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد معركة أحد بنحو سنة وبعد غزوة بني المصطلق أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة شهر رمضان وشوال ورآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام أنه يدخل البيت الحرام هو وأصحابه محلقين رؤوسهم ومقصرين من غير خوف من أحد فأمر أصحابه أن يتجهزوا للخروج إلى البيت الحرام معتمرين أي من غير نية وعزم على قتال وحمل أسلحة إلا سلاح المسافر وهي السيوف في أغمادها ، وكان الشهر ذا القعدة وهو من الأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال عند العرب ، وهو من بقايا الحنيفية الإبراهيمية والمستقرأ من قوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ) .
ولقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يستشير أصحابه خاصة في مسألة الخروج من المدينة للقتال ويبدون آرائهم ، ولكن في هذه المرة لم يحتجوا على الخروج ولم يظهروا خشية وخوفاً من كفار قريش أو غيرهم ، ولم يقل بعضهم : كيف يكون هذا الفعل العام والهام نتيجة رؤيا منام ، مما يدل على علمهم بأن رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي واستنفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم العرب من أهل البوادي معه ، وأبطأ عنه أكثر الأعراب ، وخرج مع أصحابه ومن لحق به من العرب وأختلف في عدد الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه :
الأول : سبعمائة رجل وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساق سبعين بدنة كل واحدة لعشرة منهم .
الثاني : كان عددهم ألفاً وأربعمائة عن البراء .
الثالث : كان عدد الذين مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألف وخمسمائة عن جابر الأنصاري( ).
الرابع : كان عددهم ألفاً وستمائة .
الخامس : كان عددهم ألفاً وثمانمائة .
السادس : كان عدد الصحابة مع النبي في الطريق إلى عمرة الحديبية ألفاً وخمسمائة وخمسة وعشرين رجلاً ( ).
السابع : كان عددهم ألفاً وثلاثمائة برواية ابن سعد عن الصحابي عبد الله بن أبي أوفى .
وسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة السادسة يريد زيارة البيت الحرام وساق معه سبعين بدنة وهو لا يريد قتالاً .
السابعة : غزوة تبوك فان النبي لم يلق حرباً ولم يفتح بلداً مع أنها وقعت في السنة التاسعة للهجرة بعد فتح مكة ز
وإبتدأت آية البحث بحرف العطف الواو لبيان إتحاد موضوعها مع الآية السابقة ، ومن أسرار إتصاف علوم القرآن باللامتناهي لغة العطف بين آياته والتي تندب العلماء إلى إستقراء المسائل والأحكام من علم خاص نؤسسه واسمه علم العطف في القرآن ، ويكون على أقسام :
الأول : العطف بين آيات القرآن .
الثاني : أدوات العطف في القرآن ، مثل الواو ، ثم ، والمختار أن إتحاد لغة الخطاب والسياق من العطف في القرآن .
الثالث : العطف بين كلمات وجمل الآية الواحدة .
الرابع : العطف على النداء كما في مجئ آية قرآنية بنداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ثم عطف مضامين الآية التالية عليها واو بذات لغة الخطاب والنداء .
الخامس : إستقراء العطف بين آيتين من القرآن بلحاظ السياق والنظم .
ومن الإعجاز في تعدد وجوه عطف الآية على البحث على الآية السابقة لها من جهات، كما سيأتي في باب سياق الآيات .
ومن الإعجاز في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن قوامها هو الصبر وتحمل الأذى , ووردت مادة الصبر في القرآن نحو ثمان وتسعين مرة ، لتكون مدرسة خاصة في تنمية ملكة الصبر عند المسلمين ، ومصاحبتها لهم إلى يوم القيامة ، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) ( ).
وهل يختص الأذى الذي ورد في الحديث أعلاه بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنه يشمل الأذى الذي لاقاه أهل بيته وأصحابه، الجواب هو الثاني .
ليكون هذا الأذى على وجوه :
الأول : الأذى الخاص بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الأذى الذي لاقاه أهل البيت .
الثالث : حصار قريش لأهل البيت في شعب أبي طالب .
الرابع : ما لاقاه أهل البيت على نحو القضية الشخصية .
الخامس : الأذى الذي لاقاه أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة .
السادس : التعذيب الوحشي الذي لاقاه الصحابة مثل عمار بن ياسر وبلال الحبشي .
السابع : استشهاد بعض الصحابة والصحابيات تحت التعذيب كما في إستشهاد سمية أم عمار بن ياسر وهي أول شهيد في الإسلام ، ومن الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يمر على أصحابه وهم يعذبون ويحثهم على التحلي بالصبر .
(صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ مَوْعِدُكُمْ الْجَنّة) ( ).
وكانت قريش تلبس جماعة من المسلمين دروع الحديد ويجلسونهم إذا حميت الظهيرة حتى يبلغ الجهد منهم ، ويغشى على بعضهم .
وعن محمد بن كعب القرظي قال : أخبرني من رأى عمار بن ياسر فيما بعد الهجرة متجرداً من سراويله ونظرت على ظهره فاذا فيه حبط .
فقت ما هذا ؟
قال : هذا ما كانت قريش تعذبني في رمضاء مكة ) .
والمراد من رمضاء مكة أي الرمل الحار من شدة حرارة الشمس واسم شهر رمضان ليس من شدة حرارة الأرض إنما من شدة حرارة الصيام والمشقة في العطش والجوع .
(والرمض : شدة الحر) ( ).
وارتفاع درجة الحرارة يقال : رمض الإنسان يرمض رمضاً إذ مشى على الرمضاء , وتأذت قدماه من شدة الحر ويقال أيضاً : رمض يومنا بالكسر أي اشتد حره ، وأرمض الناس الحر أي اشتد عليهم ، ورمض الفصال : أي تشتد حرارة الرمضاء وهو الرمل فتبرك الفصال جمع فصيل وهو ولد الناقة , وتبرك من شدة حرها واحراقها .
سمي شهر رمضان لأن وجوب صومه صادف شدة الحر حكاه الأصمعي ، وقيل لما نقلوا أسماء الشهور من اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي هي فيها كما في شهر ربيع الأول والثاني ولموافقة شهر رمضان أيام رمض الحر وشدة وطأته سمي به ، وهناك وجوه متعددة لمعنى شهر رمضان واشتقاقه قد بيناه في الجزء الحادي والثلاثين من هذا السفر( ) .
وورد عن أم هاني أن الذين يعذبون من هذه الأسرة خاصة هم :
الأول : ياسر بن عامر بن مالك .
الثاني : عمار بن ياسر .
الثالث : عبد الله بن ياسر وهو أخو عمار .
الرابع : سمية بنت خياط أم عمار مولاة لبني مخزوم .
وعذب عمار بن ياسر وأهل بيته من قبل بني مخزوم لأنهم حلفائهم وليس لهم عشيرة في مكة تحميهم وتدفع عنهم ، أما سمية فكانت أمة لهم ومن شدة التعذيب مع إيمانهم بالله والنبوة وآيات القرآن أغلظت لأبي جهل، وأسمعته كلاماً يؤذيه ويدل على ثباتها على الإيمان ، فغضب عليها ، وطعنها في قلبها .
لتمر الأيام سريعاً ويكون أبو جهل من أول قتلى المشركين في معركة بدر، ويلقى على مرآى ومسمع من عمار بن ياسر في قليب( ) بدر ، ويكون التباين بينهما في الذكرى في الدنيا والعاقبة في الآخرة ، ليكون إكرام كل جيل من أجيال المسلمين رجالاً ونساءً لسمية أم عمار , وحنقهم وإحتقارهم لأبي جهل نوع مرآة للنعيم الذي تعيش فيه سمية ، وعذاب القبر الذي يكون فيه أبو جهل وما ينتظره من عذاب النار إلى جانب خزيه في عرصات يوم القيامة أمام الناس جميعاً ، فليس من مسلم أو مسلمة وفي كل زمان ومكان لا يعرف جحود أبي جهل وشدة عداوته للإسلام ، وأصراره على الحرب والقتال يوم بدر ، بينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتطلع إلى معسكر المشركين لعلهم يكفون ويعزفون عن القتال .
وقد رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عتبة بن ربيعة في جيش المشركين على جمل أحمر ، وهو يطوف بقومه ويحدثهم ، ولكن لا يسمع المسلمون كلامه ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن يك في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الاحمر ان يطيعوه يرشدوا) ( ).
وقد كان عتبة بن ربيعة معروفاً بالسعي في إصلاح ذات البين وينفق من ماله في درء الفتن بين القبائل ، وكان من سادة قريش فجاءه قبل بدء المعركة حكيم بن حزام وأثنى عليه وذكر محاسنه وقال له إنها مناسبة كريمة أن تفوز بالثناء من الناس إلى آخر الدهر .
فتساءل عتبة عن سر وموضوع هذا الفوز وكيفية بلوغ هذا المجد فقال له الحكيم بن حزام ، ترجع بالناس ، فلا يقع قتال بينكم وبين محمد ومن معه من الأنصار والمهاجرين ، وإذا كان لكم دم فهو لحليفك عمرو بن الحضرمي تحمل ديته فقال عتبة قد حملت , عليّ عقله ، وكل ما ضاع من ماله مما استولى عليه المسلمون ، ولكن اذهب إلى أبن الحنظلية ويريد أبا جهل بن هشام .
ثم قام عتبة وأنذر قومه ووعظهم ودعاهم لكلف عن النبي وصرف النظر عن قتاله .
والغزوة مأخوذة من أصل الكلمة (غزو) أي السير لقتال العدو بجيش وخيل وعتاد كما يستعمل إصطلاح الغزوة لكل ما خرج فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للقاء عدو أو مدافعته سواء وقع قتال أو لم يقع ، وقيل عدد غزوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمان وعشرون غزوة .
والمختار هو لزوم الفصل والتمييز , ليكون خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أقسام :
الأول : ما خرج فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع مثل معركة بدر وأحد .
الثاني : ما تفاجئ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمباغتة العدو كما في معركة حنين .
الثالث : الغزوات التي خرج فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقتال على نحو الدفاع المحض , والهجوم في بعضها حاجة ومقدمة للدفاع .
الرابع : الخروج لنقض الذين كفروا العهد والميثاق كما في فتح مكة ، ومن الآيات في المقام أنه لم يحدث قتال يذكر في فتح مكة ، وقد أختلف فيه على وجوه :
الأول : فتح مكة عنوة , وبه قال الأوزاعي وأستدل بعضهم بقوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
الثاني : دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة صلحاً لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من القى سلاحه فهو أمن ومن دخل داره فهو أمن .
الثالث : ويمكن إضافة وجوه أخرى:
أولاً : كان فتح مكة عنوة ثم تحول إلى صلح.
ثانياً : فتح مكة برزخ بين العنوة والصلح.
ثالثاً : فتح مكة أمر خاص ليس عنوة ولا صلحا.
وحالما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى ذي الحليفة أحرم وأصحابه للعمرة لإخبار الناس أنه لا يريد قتالاً أو حرباً , ويبعد ذو الحليفة عن المسجد النبوي نحو أربعة عشر كيلو متراً ، ثم سلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم طريقاً كثيرة الحجارة ، وفيها وعورة ، وتمر بين الشعاب إجتناباً لمواجهة قريش ، وليصل إلى أقرب موضع من من مكة إلى أن وصل إلى موضع يسمى (الحديبية ) فبركت ناقته ، فنزل حينئذ وأمر أصحابه بالنزول، وفي الحديبية بئر ، وقيل تبعد عن مكة نحو عشرين كيلو متراً ، وكان الهدي الذي ساقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمامه بمسافة ليست قليلة لبيان أنه لم ينو حرباً وقتالاً إنما جاء معتمراً لبيان تعظيم البيت الحرام والإخبار عن قانون وهو أن الحج والعمرة أمران فوق الخلاف والخصومات والنزاع والإقتتال .
ويجب ألا يمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون من أداء المناسك في الشهر الحرام .
لقد كانت كيفية قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة للعمرة معجزة له ، وفيها تليين لقلوب المشركين ، وبعث للخلاف بينهم ، وإعلان لتضائل إحتمال الإقتتال وتجدده بين المسلمين والذين كفروا ، وإذا منعت قريش النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عن العمرة فان العرب قاطبة يستهجنون هذا الفعل من قريش فليس لهم الحق في مثل هذا المنع ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ).
ولكن قريشاً أخذتهم الحمية واستنفروا ولبسوا الدروع وقالوا لا يدخل علينا محمد وأصحابه مكة .
وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن حال قريش فعادوا وأخبره أن قريشاً علموا بقدومه وعزموا على منعه وأصحابه من دخول مكة , وأرسلوا فرسانهم إلى ذي طوى .
وجاء العين الذي بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره أن قريشاً جمعوا له الجموع ، واستنفروا الأحابيش ، وهم مقاتلون وعازمون على صدك عن البيت الحرام .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه : أشيروا أيها الناس علي، أترون أن أميل إلى عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت ، فإن يأتونا كان الله قد قطع عينا من المشركين وإلا تركناهم محروبين) ( ).
أي أن النبي استشارهم بالإغارة على مواضع الذين إجتمعوا لنصرة قريش فيسبي نساءهم وذراريهم ، فينسحبون ويأتون للإنشغال بهم لقبح فعلهم بمؤازرة كفار قريش على منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من العمرة ، والذين أشاروا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم جاءوا معتمرين .
وفي الحديبية جاءت خيل المشركين بقيادة خالد بن الوليد وأحاطت بهم، وتجلت معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن مصاديق قوله تعالى[وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ) توالي معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومجيؤها في حال السراء والضراء وبما يزيد إيمان المسلمين وينزه جماعة المسلمين من درن النفاق بذات المعجزة الحاضرة أو بتوالي المعجزات وتراكم منافعها .
ففي الحديبية جاءت مائتان من خيل المشركين ، وليس مع المسلمين من سهام أو نبال أو رماح ، قد يخاف بعضهم ويخشى مكر كفار قريش واتفق أن عطش المسلمون يوم الحديبية وهو بلاء آخر ، ولكن الله عز وجل يخفف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليتوضأ ، وبين يديه ركوة أي نوع إناء من الجلد ، وحينما رأى المسلمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتوضأ إندفعوا نحوه.
فقال : ما لكم لما رآى من إسراعهم في القدوم عليه بما يشبه التدافع .
قالوا : ليس عندنا ماء نتوضأ أو نشرب إلا الذي نراه بين يديك .
(عن سالم بن أبى الجعد عن جابر بن عبد الله قال : عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين يديه ركوة يتوضأ منها فأقبل الناس نحوه فقال مالكم مالكم قالوا يا رسول الله ليس عندنا ماء نشرب ولا نتوضأ منه إلا ما في ركوتك فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده في الركوة) ( ).
وفي رواية لو كنا مائة ألف لكفانا .
وحدثت مثل تلك المعجزة في المدينة في موضع يسمى الزوراء ، وهو عند السوق وقريب من المسجد النبوي ، وكان مع النبي زهاء ثلاثمائة من أصحابه ، فدعا بقدح فيه ماء فأدخل يده فيه ، وإذا بالماء يفور وينبع من بين أصابعه ، فتوضأوا جميعاً ، ولكن المعجزة في الحديبية أكبر لأن المسلمين كانوا في حال سفر وعطش ، وخيل العدو تطل عليهم .
و(عن ابن مسعود قال : كنا نأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فنسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل ) ( ).
وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عثمان بن عفان إلى مكة ليتباحث مع الرؤساء فيها ، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم البيعة من أصحابه في الحديبية وسميت بيعة الرضوان .
وأخذت قريش ترسل الوفود , وهذه الوفود من جهات :
الأولى : قامت قريش بارسال بُديل بن ورقاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من وجهاء خزاعة وكان معه رجال من خزاعة لعلم قريش بقرب خزاعة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحلفهم مع جده ، وهم عيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسلمهم ومشركهم ، فلما وصلوا إلى النبي كيف أن المهاجرين والأنصار يحيطون به .
ويضئ الموضع بنور وجهه , وبذكر المسلمين وتلاوتهم القرآن ، وتظهر على وجوههم علامات العشق للبيت الحرام .
فسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن سبب مجيئه .
فأخبرهم بأنه لم يأت لحرب أو يطلب قتالاً وحال أصحابه يدل على الأمر ، ولكنه جاء زائراً للبيت الحرام ومؤدين لحقه ووجوب إكرامه وتقديسه وأنه وأصحابه هم أحق بالبيت ومع هذا لم يأتوا إلا للزيارة والعمرة .
وصار بُديل يحث قريشاً على عدم الحيلولة بينه وبين البيت وأن منعه ليس لهم ، ولكن قريشاً اتهموا وفد خزاعة وكأنهم مالوا إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم قالوا عندما رجعوا إلى مكة :
(يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد إن محمدا لم يأت لقتال إنما جاء زائرا لهذا البيت فاتهموهم وجبهوهم وقالوا إن كان جاء ولا يريد قتالا فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ولا تحدث بذلك عنا العرب) ( ).
لقد صارت قريش تشك وتسئ الظن حتى بالرسول الذي تبعثه ، فهل هو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) الذي نزل في معركة أحد، وبعد رجوعهم منها .
الجواب نعم ، فهذا الشك من الخيبة، خاصة وأنهم علموا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ليس معهم سلاح عدا سلاح المسافر أي الشخصي .
الثانية : قيام قريش ببعث مكرز بن حفص بن الأخيف أخي بني عامر ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرفه ، وقال هذا رجل غادر، ليكون المسلمون منه في حيطة وحذر .
ولم يوبخه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينذره ويحذره من الغدر إنما أخبره بما أخبر به بُديل وأصحابه فقد يهديه الله عز وجل ، وقال له إنما جئت زائراً للبيت معظماً لحرمته وهذا شهر حرام .
فرجع إلى قريش وأخبرهم بما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر لهم حال أصحابه ولم يظهر عليهم بأنهم يريدون قتالاً .
إذ كانت قريش تخشى من أمر , وهو قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عند دخولهم مكة بالإستيلاء عليها في الليل مثلاً ، وقتل رؤساء الكفر , وليس مع قريش حينئذ حلفاء وأحابيش وأعوان .
كما يتحرك الشباب المسلم الذين في مكة سواء ممن يخفي إسلامه أو يعلنه، وهل كان عدد المسلمين , وهو نحو ألف وخمسمائة يكفي للقيام بهذا العمل ، الجواب نعم ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يغدر ، ولا يريد هذا الفعل والكيفية حتى وإن لم يكن غدراً ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه جاءوا في عمرة القضاء بعد صلح الحديبية بعام .
وبقوا ثلاثة ليال في مكة ثم غادروا .
الثالثة : أرسلت قريش الحليس بن علقمة بن زبان وهو سيد الأحابيش وهو من عبد مناة من كنانة وحين رآه النبي صلى الله عليه وآله وسلم استبشر , وقال : هذا من قوم يتألهون ، فابعثوا الهدي في وجهه كي يطمئن ليرى حقيقة ما يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من زيارة البيت ولما رآى علامات وقلائد الهدى .
وكانت قريش تحتاج الأحابيش ورئيسهم وقد ساروا مع قريش في معركة أحد، وكان الحليس بن زبان هذا يوم معركة أحد (قَدْ مَرّ بِأَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ يَضْرِبُ فِي شِدْقِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بِزُجّ الرّمْحِ وَيَقُولُ ذُقْ عُقَقُ . فَقَالَ الْحُلَيْسُ يَا بَنِي كِنَانَةَ هَذَا سَيّدُ قُرَيْشٍ يَصْنَعُ بِابْنِ عَمّهِ مَا تَرَوْنَ لَحْمًا ؟ فَقَالَ وَيْحَك اُكْتُمْهَا عَنّي ، فَإِنّهَا كَانَتْ زَلّةً) ( ).
ويوم الحديبية إمتنع الحليس عن الوصول إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورجع إلى قريش وأخبرهم بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يأتوا إلا لزيارة البيت الحرام , وان الهدي أمارة على سبب مجيئهم ، فقال رجال قريش :
(إجلس فانما أنت أعرابي لا علم لك)( ).
فغضب الحليس خاصة وانه كبير قومه ، وقد عضّد كفار قريش وخرج معهم في معركة أحد والخندق هو وقومه من الأحابيش .
فقال : يا معشر قريش ما على هذا حالفناكم ؟
إنما حالفناكم على ألا تصدوا من يأتي للبيت معظماً .
وقال (وَاَلّذِي نَفْسُ الْحُلَيْسِ بِيَدِهِ لَتُخَلّنّ بَيْنَ مُحَمّدٍ وَبَيْنَ مَا جَاءَ لَهُ أَوْ لَأَنْفِرَن بِالْأَحَابِيشِ نَفْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ . قَالَ فَقَالُوا لَهُ مَهْ كُفّ عَنّا يَا حُلَيْسُ حَتّى نَأْخُذَ لِأَنْفُسِنَا مَا نَرْضَى بِهِ)( ).
أي أنهم إمتثلوا لقوله ووعيده ، وقالوا له نريد أن نأخذ بعض الشروط .
الرابعة : وجاء عُروة بن مسعود الثقفي إلى قريش وأمه سبيعة بنت عبد شمس وقال (وَقَدْ سَمِعْت بِاَلّذِي نَابَكُمْ فَجَمَعْتُ مَنْ أَطَاعَنِي مِنْ قَوْمِي ، ثُمّ جِئْتُكُمْ حَتّى آسَيْتُكُمْ بِنَفْسِي ,
قَالُوا : صَدَقْت ، مَا أَنْتَ عِنْدَنَا بِمُتّهَمٍ .
فَخَرَجَ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمّ قَالَ يَا مُحَمّدُ أَجَمَعْتَ أَوْشَابَ النّاسِ ثُمّ جِئْتَ بِهِمْ إلَى بَيْضَتِك لِتَفُضّهَا بِهِمْ إنّهَا قُرَيْشٌ قَدْ خَرَجَتْ مَعَهَا الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ . قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النّمُورِ يُعَاهِدُونَ اللّهَ لَا تَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً أَبَدًا . وَاَيْمُ اللّهِ لِكَأَنّي بِهَؤُلَاءِ قَدْ انْكَشَفُوا عَنْك غَدًا)( ).
وفي قوله تعالى[وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ]( ) والمراد من القريتين مكة والطائف , وأختلف في المراد من الرجلين.
وورد عن قتادة أنهما الوليد بن المغيرة المخزومي وعروة بن مسعود الثقفي( ).
وجاء عروة يتوعد وينذر ويحذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تخلي أصحابه ، وهو وقريش يعلمون أنهم لم يتخلوا عنه في معركة بدر وأحد والخندق ، فرد عليه الصحابة بغلظة وشدة .
وأخذ عروة يمد يده إلى لحية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يكلمه وكان المغيرة بن شعبة واقفاً على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل يضرب يد عروة بوسط بين الرفق والشدة ولكن مع خفضها ودفعها عن لحية ووجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان عروة لابساً الحديد ولم يكشف عن وجهه ، فقال له عروة : ما أفظك وأغلظك) وكأنه يقول أني لم أقصد الإساءة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال عروة : من هذا يا محمد ؟ الذي يقرع يدي ؟
فقال : هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة .
فقال عروة : أي غَُُدَرُ ، وهل غسلت سوأتك إلا الأمس .
وكان عروة قبل إسلامه قد قتل عشرة رجال من بني مالك من ثقيف، واشتعلت الفتنة بين الطائفتين وكلاهما من ثقيف :
الأول : بنو مالك وهم الذين قتل منهم المغيرة .
الثاني : الأحلاف , وهم رهط المغيرة .
إلى أن جاء سهيل بن عمرو , وجرى الصلح مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معجزة له في السنة الدفاعية ومن أهم بنوده توقف الحرب والقتال بين المسلمين وكفار قريش ، وتضع الحرب أوزارها لمدة عشر سنوات .
لقد جاء صلح الحديبية بعد هجوم جيوش المشركين على المدينة ، وعلى نحو متكرر منه :
الأول : معركة بدر .
الثاني : لقد رجعت فلول المشركين إلى مكة بعد خسارتهم في معركة بدر ، وكان أبو سفيان قد سبقهم بدخوله وقافلته إليها ، فلم يشهد معركة بدر , وكأنه صار سبباً لهذه الخسارة الفادحة والهزيمة التي ألمت بمشركي قريش .
فنذر ألا يمس رأسه ماء حتى يغزو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج في مائتي راكب حتى بلغوا أطراف المدينة ، وبات أبو سفيان ليلته عند سلام بن مشكم ، فسقاه الخمر ، وأخبره بحال الناس ، وكيف أن الأوس والخزرج دخلوا الإسلام ،ويفدون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأنفس والأموال .
ويوم فتح مكة قاتل خالد بن الوليد ولكنه قال أن القوم قاتلوه وأدعوا هم خلافه وأنه هو الذي قاتلهم والمختار أن فتح مكة أمر خاص وهو برزخ بين العنوة والصلح وبدأ بقصد العنوة , ولكنه تم بما هو أفضل وأحسن من الصلح .
وهو من الإعجاز في قوله تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ) فلم تقل الآية (والصلح أخير) بصيغة اسم التفضيل ، وحينما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة وطاف بالبيت قال لوجوه قريش الذين كانوا يرقبون ما يفعل بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوقف (عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ أَلَا كُلّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدَعّى فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ إلّا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجّ أَلَا وَقَتِيلَ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسّوْطِ وَالْعَصَا ، فَفِيهِ الدّيَةُ مُغَلّظَةً مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا . يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّ اللّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيّةِ وَتَعَظّمَهَا بِالْآبَاءِ النّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ .
ثُمّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ { يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ }( ). الْآيَةَ كُلّهَا . ثُمّ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تَرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ قَالَ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ) ( ).
الحمد لله الذي أنعم علينا بصدور هذا الجزء من التفسير ليكون فريدة في هذا السِفر المبارك، ونوع وسيلة لإلتماس رحمة ومغفرة وعفو الله عز وجل، قال تعالى[الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ]( ).
حرر في 30/3/2017
الأول من رجب 1438
قوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]الآية 166
الإعراب واللغة
وما أصابكم : الواو حرف عطف واستئناف .
ما : إسم موصول مبني في محل رفع مبتدأ .
أصابكم : فعل ماض مبني على الفتح ، والضمير (كم) مفعول به .
ويحتمل المراد منهم بلحاظ جهة الخطاب وجوهاً :
الأول : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ووردت صيغة الجمع للإكرام والمواساة وسيأتي في باب التفسير بيان هذا الوجه .
الثاني : المقصود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته وبالإلحاق أهل البيت والصحابة الذين حضروا معركة أحد .
الثالث : المراد المهاجرون والأنصار الذين حضروا معركة أحد .
الرابع : المقصود الصحابة عموماً أيام التنزيل الذين حضروا المعركة والذين لم يحضروا المعركة .
الخامس : إرادة المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، ووردت صيغة التذكير للغالب .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق صيغة الخطاب القرآني, ولأصالة العموم التي هي في المقام من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) والفاعل في قوله تعالى[أَصَابَكُمْ] ضمير مستتر تقديره هو , ويحتمل المراد منه وجوهاً :
الأول : الإتحاد , وإرادة فرد واحد وتقديره المصاب .
الثاني : التعدد في أفراد المصيبة في ميدان معركة أحد .
الثالث : لغة الشمول والإطلاق فيما نزل بالمسلمين من المصائب يوم أحد، وهي :
الأول : سقوط سبعين شهيداً .
الثاني : كثرة جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رأسه ووجهه وجسده .
الثالث : الأذى الذي لحق عوائل المسلمين .
الرابع : الجراحات التي لحقت أهل البيت والصحابة .
الخامس : شدة وطـأة لمعان السيوف عند هجوم الذين كفروا .
السادس : فرار أكثر الصحابة من ميدان المعركة ، قال تعالى[إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]( ).
السابع : إنخزال ثلث جيش المسلمين وسط الطريق إلى معركة أحد، وتلقي عوائل المسلمين أنباء قتلاهم بالحزن والأسى .
الثامن : إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتي وصلت إلى المدينة , فخيم الحزن على أهلها حتى انكشف زيف هذه الإشاعة كما يأتي بيانه في فصل إشاعة قتل النبي ، الأسباب ، الغايات، النتائج، المعجزة( ) .
يوم التقى : يوم ظرف زمان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره .
التقى : فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف .
الجمعان : فاعل مرفوع وعلامة رفعه الألف لأنه مثنى .
فباذن الله : الفاء رابطة لجواب الشرط لأن (ما) الموصولة التي في أول الآية تتضمن معنى الشرط في مفهومها ، وقيل أنها زائدة في الخبر شبه المبتدأ بالشرط .
باذن: جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر للمبتدأ ، وتقدير الآية: وما أصابكم حصل بإذن الله .
الله : لفظ الجلالة مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة تحت آخره.
وليعلم : الواو حرف عطف ، اللام : لام التعليل .
يعلم : مضارع منصوب بـ(أن) مضمرة بعد اللام.
وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره ، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو ، وهو عائد إلى الله عز وجل .
المؤمنين : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الياء لأنه جمع مذكر سالم .
وجملة [أَصَابَكُمْ] لا محل لها صلة الموصول (ما) .
وقيل أن جملة (هو) باذن الله في محل رفع خبر مبتدأ (ما)( ).
وجملة [الْتَقَى الْجَمْعَانِ] في محل جر مضاف إليه .
والجمعان: الفريقان المتقابلان ، وفي بني إسرائيل وفرعون ورد قوله تعالى [فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ]( ) أي تقاربا وصار كل واحد منهما يرى الآخر، وأصبح آل فرعون في تمكن من اللحوق ببني إسرائيل خاصة وأن فرعون وجنوده يركبون الجياد ، وقد خرجوا خلفهم بساعات عديدة، ومع هذا صاروا منهم على مرآى البصر.
وقوله تعالى [الْتَقَى الْجَمْعَانِ] أي تحاذيا وتقابلا ، كما يقال التقى الجيشان والتقى الرجلان ، وقال تعالى [مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ]( ).
(ويقال التقى الشيء لقيه)( ).
ويأتي اللقاء بمعنى الإجتماع ، يقال التقى الرجلان أي اجتمعا وتحاذيا، ولا ينصرف إلى الحرب والقتال إلا مع القرينة ، كما في آية البحث , وفي التنزيل [مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ] ( ) وقد ورد في قوم موسى عليه السلام وفرعون وجنوده [فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ]( ) أي صار كل فريق يرى الفريق الآخر .
(وقال الراغب في قوله تعالى فلما ترآى الجمعان أي تقاربا بحيث صار كل واحد بحيث يتمكن برؤية الاخر ويتمكن الاخر من رؤيته) ( ) والتقارب نوع مفاعلة بين الطرفين كل واحد منها يقترب من الآخر .
ولكن الآية أعلاه تبين أن الإقتراب كان من طرف واحد لأن أصحاب موسى خافوا واشتكوا وقالوا أوشك عدونا أن يلحق بنا لكثرة خيله وسرعته ، وأن البحر أمامهم ، نعم الرؤية كانت من الطرفين كل طرف يرى الطرف الآخر ، وهو من إعجاز الآية القرآنية في الفصل والتمييز بين سعي آل فرعون للحوق بموسى وأصحابه لبيان إستحقاق آل فرعون للعقوبة من عند الله عز وجل لأنهم أصروا على محاربة ومطاردة النبي موسى وقومه المسلمين ، وفيه إنذار لقريش بان يكفوا ويمتنعوا عن اللحوق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة وعند إقامته في المدينة المنورة ، وقد تجلت المعجزات في طريق المعجزة وعندما جاءت قريش بالجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصيبوا بالخسارة والخيبة والحسرة ، وصاروا في ست سنوات من تأريخ معركة بدر عاجزين عن الدفاع عن مكة ، ودخلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون قتال يذكر .
(والعِصَابة من النَّاس، والطَّير، والخيل. قال النَّابغة:
إذا ما التقى الجمعانِ حَلَّقَ فوقَهم … عصائبُ طيرٍ تهتدي بعصائبِ) ( ).
وقال الخليل : العصبة من الرجال عشرة ، ولا يقال لما دونها عصبة لأن معنى العصبة أي ربط بعضها ببعض .
ولكن هذا الربط ليس علة تامة لتقييد حدها الأدنى بعشرة .
وقد تقدم الكلام عن لام التعليل في الجزء الواحد والتسعون في إعراب قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) إذ يختص هذا الجزء بتفسيرها في (411 ) صفحة وكله علوم مستنبطة من ذات الآية .
في سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة وهو على شعبتين :
الشعبة الأولى : صلة هذه الآية بالآيات السابقة لها ، وهي على وجوه :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لقد إبتدأت آية البحث بحرف العطف الواو ، لبيان أنها في موضوعها ودلالاتها معطوفة على آية السياق بينما إبتدأت آية السياق بهمزة الإستفهام والبيان والتذكير ، وفي التنزيل [وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
وهل يشمل العطف في آية البحث الإستفهام في الآية وتقديره : أولما أصابتكم مصيبة ) الجواب نعم ، لإتحاد الموضوع وعموم العطف إلا ما خرج بالدليل .
ويكون تقدير واو العطف في آية البحث على وجوه :
الأول : أولما أصابتكم مصيبة بما أصابكم يوم التقى الجمعان.
الثاني : أصابتكم مصيبة وما أصابكم يوم التقى الجمعان .
فان قلت تدل واو العطف على المغايرة في التقدير أعلاه بينما المراد من الآيتين موضوع متحد , وهو ما لاقاه المسلمون من الخسارة يوم أحد.
الجواب المختار تقدير العطف في آية البحث أنه من عطف العام على الخاص ، وقد يقال بالعكس ، وأن العطف بين الآيتين من عطف الخاص على العام ، لأن آية البحث تقيد المصيبة بزمان مخصوص وهو يوم التقى الجمعان بينما تذكر آية البحث المصيبة على نحو العموم من غير حصر بيوم مخصوص ، ولكن ذكر آية البحث لأوان المصيبة بيان وتفسير وتقييد زماني ، وإلا فان التقييد الموضوعي في آية السياق أظهر بقوله تعالى [قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا]( ).
لقد جاء حرف العطف في أول آية البحث ليؤكد على الإستفهام الوارد في أول آية السياق ويؤكد قانوناً وهو أن هذا الإستفهام ليس لتقريع وتوبيخ المسلمين كما ذهب إليه جمع من المفسرين .
ليكون من معاني التفسير الذاتي للقرآن تجلي إكرام المسلمين في آيات القرآن ، ودعوة العلماء إلى الرجوع إلى آيات القرآن ذات الموضوع المتحد لإستقراء معنى الإستفهام ونحوه مما يرد فيها .
المسألة الثانية: يتجلى إتحاد الموضوع بين آية البحث وآية السياق من جهات :
الأولى : وحدة الموضوع وهو مصيبة مخصوصة نزلت بالمسلمين ويدل هذا التخصيص على القلة والندرة فيما يتعرض له المسلمون من المصائب لذا قيدته الآية بأنه في يوم التقى الجمعان.
الثانية : إرادة واقعة معركة أحد في الآيتين ، وهي التي حدثت في السنة الثالثة من الهجرة , وما أصاب المسلمين فيها من الخسارة الجسيمة .
الثالثة : إتحاد صيغة الخطاب في الآيتين ، فكل واحدة منهما تخاطب المسلمين ، إذ إبتدأت آية البحث بقوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ] بينما إبتدأت آية السياق بقوله تعالى[ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ].
ويحتمل الخطاب في الآيتين من جهة الإتحاد والتباين وجوهاً :
الأول : الإتحاد في جهة الخطاب وأن كل من الآيتين يراد منها عموم المسلمين والمسلمات .
الثاني : إحدى الآيتين يراد منها خصوص المهاجرين والأنصار الذين قاتلوا في معركة أحد، والثانية عموم المسلمين .
الثالث : كل من الآيتين يراد منها خصوص أهل البيت والصحابة الذين حضروا معركة أحد.
والمختار هو الأول أعلاه ، فصحيح أن الذين حضروا معركة أحد مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نحو سبعمائة من الصحابة ، وغادر منهم سبعون شهيداً إلى الرفيق الأعلى وأصابت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت وأكثر الصحابة الجراحات البليغة إلا أن هذا لا يمنع من عمومات الخطاب القرآني من وجوه :
الأول : بيان قانون وهو أن الذي ينزل بطائفة من المسلمين من الأذى يعم الجميع , وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال(المؤمن للمؤمن بمنزلة البنيان يشد بعضه بعضا)( )( ).
الثاني : تجدد الأحزان عند المسلمين في كل زمان على ما أصاب النبي محمداً وأهل بيته وأصحابه يوم معركة أحد.
وتتخذ الأمم والدول أياماً مخصوصة تجعلها أعياداً وذكرى لوقائع خاصة، وإحياء لمناسبات معينة ، ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) أن كل واقعة حدثت للمسلمين تتجدد ذكراها كل يوم بتلاوتهم للآية أو الآيات التي تخصها مع إمكان أن يكون هناك يوم معين لتلك الوقائع .
الثالث : بقاء الآية القرآنية غضة طرية في رسمها وتلاوتها وموضوعها إلى يوم القيامة .
الرابع : تجدد ذات الأحداث والوقائع ، فقد إنهزم أكثر المسلمين في معركة أحد بسبب ترك الرماة مواضعهم لينتفع المسلمون من هذه المصيبة، فيثبتوا ويرابطوا في معركة الخندق، ولـمّا وقعت معركة حنين في السنة الثامنة للهجرة ، وبعد فتح مكة تفاجئ المسلمون بخيالة وسهام هوازن ففر أكثرهم، ولكنهم سرعان ما عادوا وأحاطوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم يغادر موضعه من المعركة.
وكان ينادي (أَنَا النّبِيّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِب) ( ) .
لقد كانت معركة أحد مدرسة إقتبس منها المسلمون المواعظ من جهات :
الأولى : العلم بقانون وهو قد يخسر المؤمنون في معركة .
الثانية : لا تقع مصيبة للمسلمين إلا بإذن الله وكفى به فخراً، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، وأسرار الجمع بين عزة الله وما يفيض من فضله من العزة على رسوله والمؤمنين.
الثالثة : لزوم إتخاذ المسلمين الحائطة للقاء المشركين في ميادين القتال ، وهو من أسرار تكرار لفظ [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ثلاث مرات في القرآن ، وكأن هذا التكرار يقول للمسلمين إحذروا فان اللقاء بينكم وبين المشركين أمر حتم، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها خاطبت المسلمين جميعاً باتخاذ الحيطة وعدم الإكتفاء بالحذر المقرون بالقعود فلابد من الخروج لجهاد وقتال الذين كفروا وللمرابطة، خشية مباغتة العدو.
ويحتمل نداء الإيمان أعلاه في جهة الخطاب وجوهاً :
الأول : المسلمون .
الثاني : المؤمنون .
الثالث: المسلمات .
الرابع : المؤمنات .
والمختار هو شمول جميع الوجوه أعلاه بمضامين نداء الإيمان، فان قلت ليس على النساء قتال ونفير، والجواب من إعجاز الآية وجوه :
الأول : مجئ الآية بالمعنى الأعم وإرادة الحذر والنفير .
الثاني : يجب على النساء المسلمات الحيطة والحذر .
الثالث : قيام المسلمات بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ).
الرابع : حث المسلمات أزواجهن وإخوانهن وأبنائهن على النفير.
الخامس : عدم إصغاء المسلمات إلى أراجيف المنافقين ، ومنه ما ورد قبل عشر آيات بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ]( ).
فمن مصاديق الحسرة التي تحل بساحة الكافرين والمنافقين ما يرونه من إجتهاد المسلمات في تعضيد المؤمنين وتيسير نفيرهم وخروجهم لملاقاة الذين كفروا ، وليفزن بمرتبة المؤمنات بالله ورسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تذكرها آية السياق.
ومن الإعجاز في القرآن أنه ذكر لفظ المؤمنات ثمان عشرة مرة بينما ورد ذكر المسلمات مرة واحدة وجاء مقترناً بلفظ المؤمنات وصفات كريمة أخرى للمسلمات، قال تعالى[إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( ).
الرابعة : تلقي مصيبة فقد الشهداء بالقبول والرضا والتسليم بأنهم أحياء عند الله عز وجل .
(عن ابن أبي عميرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ما في الناس من نفس مسلمة يقبضها ربها تحب أن ترجع إليكم وأن لها الدنيا وما فيها غير الشهيد) ( ).
الخامسة : دعوة المسلمين للإستجارة بالله عند المصيبة واللجوء إلى القرآن لإستنباط مسائل وسبل النجاة .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : أولما أصابتكم مصيبة يوم التقى الجمعان)، وتتضمن كل من آية البحث والسياق توثيق واقعة مخصوصة وهي واقعة أحد ، وفيه غاية الإكرام للمسلمين بأن تنزل بهم مصيبة ، فتأتي الآية القرآنية تلو الآية القرآنية بخصوص هذه الواقعة ، وكل واحدة منهما تسميها مصيبة ، لبيان أن الله عز وجل يعلم ما نزل بالمسلمين من الأذى والخسارة العظيمة التي لم تكن تطرأ على أذهانهم .
نعم كان أكثرهم يتوقع الخسارة الفادحة في معركة بدر للتباين بين قلتهم واسلحتهم وبين كثرة جيش المشركين ورواحلهم وأسلحتهم ومؤنهم، أما وقد نزل النصر المبين للمسلمين في معركة بدر كما ورد في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) فان المسلمين تطلعوا إلى النصر في معركة أحد من باب الأولوية القطعية من جهات :
الأولى : المدد والعون من عند الله عز وجل للمسلمين , وتقدير آية (المنّ) قبل السابقة : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً تنزل الملائكة لنصرته في ميدان المعركة .
الثانية : إنتفاء الذلة التي كان عليها المسلمون يوم معركة بدر .
الثالثة : كثرة عدد المسلمين في معركة أحد بالقياس مع قلتهم في معركة بدر ، وكثرة الرواحل التي خرجوا عليها لمعركة أحد .
فلم يكن معهم في معركة بدر إلا فرسان :
الأول : ويسمى السيل وهو فرس مرثد بن أبي مرثد الغنوي.
الثاني : ويسمى سبحة وهو فرس المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة، ويعرف بالمقداد بن الأسود لتبنيه، وتزوج من ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب وهي ابنة عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فولدت له عبد الله وكريمة)( ) وقتل عبد الله مع طلحة والزبير في واقعة الجمل.
وكان مع المسلمين من الإبل يوم بدر سبعون بعيراً .
وفي معركة أحد لم يكن مع المسلمين (من الخيل إلا فرس رسول الله صلى الله عليه وآله وسام وفرس أبي بردة)( ).
ومن كتاب للإمام علي عليه السلام إلى عبد الله بن العباس: أما بعد فإنك لست بسابق أجلك ولا مرزوق ما ليس لك واعلم بأن الدهر يومان يوم لك ويوم عليك وأن الدنيا دار دول فما كان منها لك أتاك على ضعفك وما كان منها عليك لم تدفعه بقوتك) ( ).
وقد ألّف الشعراء أبياتاً بمعنى القول الدهر يومان ومن شعر أبي المكارم مسلم بن قريش العقيلي :
الدهر يومان ذا أمن وذا خطر . والماء صنفان ذا صاف وذا كدر)( ).
وقال بعضهم
يقولون إن الدهر يومان كله … فيوم مسرات ويوم مكاره
وما صدقوا والدهر يوم مسرة ….وأيام مكروه كثير البدائة ( ).
كما ورد في قصة الأوس بن حارثة جد قبيلة الأوس من الأنصار و(جابر بن جدان بن جميع بن عثمان بن سماك بن الحصين بن السموأل بن عاديا قال : لما حضرت الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر الوفاة اجتمع إليه قومه من غسان فقالوا : إنه قد حضرك من أمر الله ما ترى و كنا نأمرك بالتزويج في شبابك فتأبى وهذا أخوك الخزرج له خمسة بنين وليس لك ولد غير مالك.
فقال : لن يهلك هالك ترك مثل مالك إن الذي يخرج النار من الوثيمة( ) قادر أن يجعل لمالك نسلا ورجالا بسلا وكل إلى الموت .
ثم أقبل على مالك وقال : أي بني : المنية ولا الدنية , العقاب ولا العتاب , التجلد ولا التلدد , القبر خير من الفقر إنه من قل ذل ومن كر فر , من كرم الكريم الدفع عن الحريم .
والدهر يومان : فيوم لك ويوم عليك فإذا كان لك فلا تبطر وإذا كان عليك فاصطبر وكلاهما سينحسر ليس يثبت منهما الملك المتوج و لا اللئيم المعلهج سلم ليومك حياك ربك ثم أنشأ يقول :
شهدت السبايا يوم آل محرق … و أدرك عمري صيحة الله في الحجر
فلم أر ذا ملك من الناس واحدا … و لا سوقة إلا إلى الموت و القبر
فعل الذي أردى ثمودا وجرهما … سيعقب لي نسلا على آخر الدهر
تقر بهم من آل عمرو بن عامر … عيون إلى الداعي إلى طلب الوتر
فإن لم تك الأيام أبلين جدتي … و شيبن رأسي و المشيب مع العمر
فإن لنا ربا علا فوق عرشه … عليما بما يأتي من الخير و الشر
ألم يأت قومي أن لله دعوة … يفوز بها أهل السعادة و البر
إذا بعث المبعوث من آل غالب … بمكة فيما بين مكة و الحجر
هنالك فابغوا نصره ببلادكم … بني عامر إن السعادة في النصر
قال : ثم قضى من ساعته ) ( ).
وهل يمكن القول أن يوم بدر كان للمسلمين ويوم أحد كان عليهم ، الجواب لا ، إنما كان كل من يوم بدر واحد للمسلمين مع التباين الرتبي ، لقد أشرقت الدنيا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصاحب المؤمنين معها العز والغلبة والنصر والرزق الكريم , وتجلى المخرج للمسلمين من مصيبة واقعة أحد ، وهو من مصاديق آية البحث لما فيها من الإخبار عن كون هذه الواقعة مناسبة لمعرفة المؤمنين وثباتهم في منازل الهداية والرشاد ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا] ( ) .
لقد جاءت آية البحث لتؤكد قانوناً من الإرادة التكوينية وهو أن كل يوم من أيام الدنيا هو منّ من الله ونعمة على المسلمين والناس فان قلت قد ذكرت آية السياق نزول مصيبة بالمسلمين وأكدت آية البحث ما أصابهم يوم أحد وأنه يمكن القول بأن منافع المصيبة على المسلمين عظيمة ، ولا سبيل لنفيها .
الجواب هذا صحيح ، ولكن ليس من ملازمة بين وقوع المصيبة وبين كون اليوم على المسلمين ، خاصة وأن بداية المعركة كانت نصراً للمسلمين ، وكذا آخرها كان إنسحاباً لجيش المشركين إقترن بالخيبة والذل لقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
ليكون من معاني تقدير الجمع بين الآيتين الوارد في المسألة الثالثة أعلاه: أولما أصابتكم مصيبة يوم التقى الجمعان فهي لكم وليس عليكم .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها يوم التقى الجمعان .
لقد ورد لفظ يوم التقى الجمعان ثلاث مرات في القرآن، إحداها في آية البحث والمراد منها واقعة أحد ، وواحدة في قوله تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) والمراد منه يوم معركة بدر ومن تجليات التباين ذكر الآية أعلاه أموراً :
الأول : نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم معركة بدر .
الثاني : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : بيان أحكام الغنائم التي حازها المسلمون يوم بدر .
الرابع : تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في يوم معركة بدر بأنه عبد الله للدلالة على أنه لم يطمع بملك ، ولا يريد سلطاناً ، إنما يقاتل دفاعاً ولإقامة الصلاة والفرائض العبادية .
ومن إعجاز الآية أعلاه من سورة الأنفال شهادة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه عبد الله وأن الله عز وجل ينعم عليه بالتنزيل من بين أفراد الجمعين .
الخامس : بيان آية يوم الفرقان لوجوب الخمس وذكر وجوه صرفه .
الخامس : تسمية يوم معركة بدر يوم الفرقان .
وهل عدم وصف يوم أحد بهذه التسمية شاهد على التباين بينه وبين يوم معركة بدر .
الجواب لا ، فكما يسمى كل يوم منهما يوم التقى الجمعان ، فيمكن تسمية يوم معركة أحد يوم الفرقان من جهات :
الأولى : يوم أحد مائز بين الإيمان والكفر ، وبين الهدى والضلال .
الثانية : دفاع المسلمين بالسيف عن النبوة والتنزيل ، وإصرار الذين كفروا على الكفر والجحود ، وبذلهم المال والأنفس من أجل عبادة الأصنام, والصنم ما يصنع من الخشب أو ينحت من الصخر أو يصاغ من الذهب والفضة وجمع الصنم أصنام ، وفي النسبة بين الصنم والوثن وجوه:
الأول : الصنم له جسم أو صورة ، أما إذا لم يكن له جسم أو صورة فهو وثن .
الثاني : الصنم صورة بلا جثة ، أما الوثن فله جثة منحوتة من جواهر الأرض أو الخشب أو الحجارة .
الثالث : الصنم الذي ينحت من الخشب أو يصاغ من الذهب أو الفضة.
الرابع : نسبة التساوي بين الصنم والوثن وكأنهما مما إذا اجتمعا افترقا واذا افترقا اجتمعا .
لقد كانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للعرب والناس جميعاً وجاء بقوانين سماوية لتحكم المعاملات بينهم إلى يوم القيامة وفيه سلامة ونجاة من العادات المذمومة والسنن القبيحة ومن الذل والضعف والهوان , قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
وعن ابن دريم باسناده عن عبادة بن حصين الهداني قال : كانت قبيلة مراد تعبد نسراً طائراً وتدين له ، يأتيها كل عام ، فيضربون له خِباء ويقرعون بين فتياتهم ، فايهن أصابتها القرعة صارت من نصيب النسر ، فيدخلونها الخباء معه و فيمزقها ويأكلها ويأتون له بخمر فيشربه .
قال : ثم يخبرهم بما يصنعون في عامهم ويطير ، وهكذا كل عام يأتيهم مرة واحدة ، وجاء في قابل وأقرعوا بين فتياتهم فأصابت القرعة إحدى بناتهم ، ولكنهم سعوا في إبدالها بفتاة يتيمة تتصف بالجمال مات أبوها ، وأمها ليست مرادية إنما هي من همدان .
وعلمت الفتاة اليتيمة بالمكر والخبث ووافق قدوم خالها عمرو بن خالد بن الحصين إلى أخته فرأى إنكسار ابنتها ، فسأل أخته عن أمرها فكتمته ولم تخبره خشية عليه ، ولكن الفتاة أنشدت أبياتاً من الشعر لتسمع خالها :
(أتثني مراد عامها عن فتاتها … وتُهْدي إلى نَسْرٍ كريمة حَاشِد
تُزَفُّ إليه كالعَرُوس وخالها … فتى حيّ همدان عمير بن خالد
فإن تنم الخَوْدُ التي فُدِيت بنا … فما ليلُ مَنْ تُهْدَى لَنسْر بَرَاقِد
مع أني قد أرجو من اللّه قَتْله … بكفِّ فَتًى حامِي الحقيقة حارد) ( ).
ففطن خالها وألح على اخته في المسألة فكشفت له الأمر وعند المساء أصلح قوسه وأخذ السهام معه ودخل الخباء الذي أعدوه للنسر وكمن في ناحية منه ، وقال لأخته إذا أصابوك فادفعي لهم ابنتك ، ولا تجادليهم بأن القرعة أصابت فلانة ، ولا تخبريهم عن أمري شيئاً.
فجاءوا وأخذوا الفتاة وأدخلوها في الخباء ثم غادروا فدنا منها النسر وهو يحجل ، فرماه خالها بسهم أصاب قلبه , وسقط النسر قتيلاً فأخذ ابنة أخته وأمها، وارتحل مسرعاً من ساعته , وسرى ليله كله حتى قطع ديار مراد ودخل على أرض همدان ، وجاءت مراد إلى الخباء فوجدوا النسر قتيلاً فسعوا في اللحاق بالهمداني وعجزوا عن ادراكه :
(فكان هذا أولَ ما هاج الحرب بين همدان ومُراد، حتى حَجر الإسلامُ بينهم؛ فقال الهمداني:
وما كان من نَسْرٍ هِجَفّ قتلته … بوادي حُراض ما تغذ مراد
أرَحْتُهم منه وأطفأت سُنَّة … فإنْ باعَدُونا فالقلوب بعاد
له كلّ عام من نِساء مخاير … فتاة أناس كالبنية زادُ
تُزَفّ إليه كالعروس ومالَهُ … إليها سوى أكل الفتاة معاد
فلما شكته حُرَّة حاشِديَّة … أبوها أبي والأم بَعْدَ سُهاد
سددت له قَوْسِي وفي الكفّ أسهم … مَرَاعِيس حرّات النِّصال حِداد
فأرميه متن تحت الدُّجَى فاختللته … ودوني عن وَجْه الصَّباح سَوَاد
وأنشأت الفتاة تقول:
جزء اللّه خالي خير الجزا … بمتركه النَّسر زهفاً صَرِيعا
زُفِفْتُ إليه زفاف العروس … وكان بمثلي قديماً بلوعا
فيرميه خالي عن رقبة … بسهم فأنفذ منه الدَّسِيعا
وأضْحت مراد لها مأتم … على النَّسْرِ تَذْرى عليه الدُّمُوعا) ( ).
وصحيح أن العرب كانوا قبل الإسلام في جاهلية ووثنية إلا أن مسألة النسر وإخباره لهم عما يصنعون في عامهم خلاف العقل والتصور ، ترى كيف يخبرهم وبأي لغة .
وليس للنسر هذا الشأن إلا إن يكون مخلوقاً آخر يتلبس بهيئة النسر كالجن مثلاً وهو بعيد والعلم عند الله ، ويدل الخبر على أن العرب ليسوا جميعاً يأدون البنات أو أنهم لا يكرمون المرأة .
نعم يبقى القانون الجلي وهو ان الإسلام قضى على الخصومات بين القبائل ، ومنع الفتنة بينها وأزاح عنهم [حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ]( ).
الثالثة : نزول القرآن في كل من يوم بدر ويوم أحد ، ومن أسماء القرآن الفرقان ، والفرقان مصدر مـأخوذ من (فَرق) وفي معناه وجوه:
الأول : الفرقان من أسماء القرآن ، قال تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا] ( ).
الثاني : التوراة التي أنزلها الله عز وجل على موسى عليه السلام فرقان، قال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ]( ).
الثالث : يمكن إستقراء مسألة من الآيتين أعلاه وهي أن كل كتاب سماوي فرقان .
الرابع : كل شريعة سماوية فرقان .
الخامس : هل يمكن القول أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فرقان ، أم أن رسالة النبي محمد فرقان .
الجواب لا تعارض بين الأمرين وكلاهما صحيح , وليس من تباين بينهما وبين تسمية القرآن بالفرقان , وقد فرّق الله عز وجل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المؤمن والكافر ، لذا تقدم قبل آيتين قوله تعالى[إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ]( ).
السادس : من معاني الفرقان الصبح لأن به يفرق بين الليل والنهار .
السابع : تسمى سورة من سور القرآن الفرقان والتي تبدأ بقوله تعالى[تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا] ( ) وعدد آياتها هو سبع وسبعون آية .
الثامن : لقد آتى الله عز وجل موسى الفرقان إلى جانب التوراة ، قال تعالى [وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ] ( ).
التاسع :يأتي الفرقان بمعنى النصر والظفر .
لقد كانت أيام النبوة أيام القرآن وأيام الفرقان ، لقد نصر الله عز وجل المسلمين يوم التقى الجمعان في معركة بدر , ونالوا من الغنائم والمكاسب الكثير ، وإذ قتُل من المسلمين سبعون شهيداً ، فقد تقدمت معركة بدر زماناً وسقط فيها سبعون قتيلاً من المشركين ، وتم أسر سبعين منهم ، ومع أن جيش المشركين يومئذ ثلاثة أضعاف جيش المسلمين ، فلم يستطيعوا الإنسحاب بانتظام بل فروا فراراً وطاردهم المسلمون ز
وهل هذه المطاردة من مصاديق النصر ورفع الذل عن المسلمين بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) الجواب نعم .
ومن معاني الجمع بين الآيتين بلحاظ المسألة الرابعة أعلاه وجوه:
الأول : يا أيها الذين آمنوا بنصر الله لكم يوم معركة بدر .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا عند ذكر وقائع معركة أحد , وما أصابكم فيها من الأذى وكثرة الشهداء اذكروا وقائع معركة بدر ونصركم فيها .
وهل هو من مصاديق [إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ] ( ) الجواب لا ، فان خوض المسلمين غمار الحرب والقتال سواء في يوم بدر أو يوم معركة أحد حسنة متجددة في ثوابها .
الثالث : أولما أصابتكم مصيبة في طاعة الله يوم التقى الجمعان فابشروا بالأجر والثواب .
(عن فاطمة بنت الإمام الحسين ، عن أبيها عليه السلام ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من أصابته مصيبة ، فقال إذا ذكرها : إنا لله وإنا إليه راجعون ، جدد الله له من أجرها مثل ما كان يوم أصابته) ( ).
وبلحاظ مصاديق آية البحث يكون الحديث أعلاه على وجوه محتملة :
الأول : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والصحابة الذين حضروا معركة أحد.
الثاني : المقصود عوائل وذوو الشهداء الذين خروا قتلى في معركة أحد.
الثالث : إرادة الذين جرحوا في معركة أحد .
الرابع : المقصود عموم الصحابة في أيام التنزيل .
الخامس : إرادة المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه , فقد نزلت المصيبة يوم أحد بكل المسلمين الموجود والمعدوم الذي لم يولد بعد ، ومن معاني هذا العموم الإستغراقي وجوه :
الأول : إنه من مصاديق التآخي بين المسلمين ، ومن مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) أن أخوتهم عامة تشمل أفراد الأجيال المتباينة في زمانها ، فالأول أخو الآخر , وهل يدرك الطرفان حقيقة هذا القانون فيعلم الصحابي والتابعي أن المؤمن الذي يأتي في آخر الزمان يكون على ذات النهج الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن، ويعلم المؤمن الذي يأتي في آخر الزمان بتقيد المسلمين الأوائل بأحكام الشريعة ، ويحرص هو على تعاهدها والعمل بمضامينها ، الجواب نعم , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) ، ومن معاني قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم (خذوا عني مناسككم) ( )بلحاظ أن أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم متجددة تتوجه لكل جيل من المكلفين .
(عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : متى ألقى إخواني ؟ قالوا : يا رسول الله ، ألسنا إخوانك ؟ قال : أنتم أصحابي ، وإخواني الذين آمنوا بي ، ولم يروني) ( ).
الثاني : دلالة العموم في خطابات القرآن ، وبقاؤها حية طرية في مختلف الأزمنة .
الثالث : بعث الفزع والخوف في قلوب المشركين بادراكهم لقانون ، وهو أن نزول مصيبة بطبقة وطائفة منهم مصيبة للمسلمين جميعاً ، و(عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : مثل المؤمنين في توادهم وتحاببهم مثل الجسد إذا اشتكى شيء منه تداعى سائره بالسهر والحمى ، وفي الجسد مضغة إذا صلحت وسلمت سلم سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، القلب)( ).
الرابع : مما لا يختلف فيه اثنان ما لاقاه النبي محمد يوم أحد من الأذى والجراحات الكثيرة وفيه أذى وألم لكل مسلم ومسلمة ، ليكون من معاني الحب والود بينه وبين أمته حزن أفراد الأمة في كل زمان على كسر أسنانه وشج رأسه وجريان الدم من وجنته وشفته يوم أحد , وسقوطه في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر الراهب .
(عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من أحيا سنتي فقد أحبني ، ومن أحبني كان معي في الجنة ) ( ).
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين (يا أيها الذين آمنوا أولما أصابتكم مصيبة فبإذن الله).
من الإعجاز في نظم هذه الآيات توجه الخطاب فيها للمسلمين والمسلمات وفي موضوع مخصوص وهو واقعة أحد ومصيبة المسلمين وما لحقهم من الأذى الذي لم يخطر على أذهانهم يومئذ فقد استصحبوا النصر يوم بدر ، والإستصحاب أمر عقلائي قبل أن يكون من أبواب علم الأصول .
ويتجلى في الجمع بين الآيتين قانون من منافع الإسترجاع عند المصيبة الذي أمر الله عز وجل به بأن لجوء المسلم إلى الإسترجاع يكشف له حقيقة وهي أن الذي أصابه ، والأذى الذي نزل به إنما هو باذن الله عندئذ تخف وطأة المصيبة ، ويلتفت المسلم إلى لزوم شكر الله عز وجل على ما عنده من النعم ، وفيه باب للدعاء بأن يأذن الله عز وجل من وجوه :
الأول : سؤال المسلم لله عز وجل محو آثار المصيبة، وليكون من معاني ومصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) بالدعاء والمسألة .
الثاني : الدعاء بالخلف والعوض من عند الله .
الثالث : سؤال المسلم من الله عز وجل سلامة المسلمين مما نزل بهم من المصيبة .
(عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما من مؤمن دعا للمؤمنين إلا ورد الله عليه مثل الذي دعا لهم به من كل مؤمن ومؤمنة مضى من أول الدهر أو هو آت إلى يوم القيامة.
وإن العبد ليؤمر به إلى النار يوم القيامة، فيقول المؤمنون والمؤمنات: يا رب هذا الذي كان يدعو لنا فيشفعهم الله عز وجل فيه فينجو) ( ).
الرابع : دعاء المسلم لعدم عودة وتكرار ذات المصيبة أو مصيبة غيرها .
ليكون من معاني كل من آية البحث وآية السياق والجمع بينهما حث المسلمين على الدعاء للأمن من تكرار المصيبة التي وقعت لهم في معركة أحد .
وهل يختص الأمر بالصحابة أم هو أعم ، الجواب هو الثاني ، ليدعو المسلمون لأنفسهم وللأجيال اللاحقة من بعدهم ، ولا يعلم أي جيل من المسلمين كم محى وصرف الله عز وجل عنهم من المصائب بدعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ودعاء أسلافه وآبائهم خاصة وأن هناك من المصائب ما هي توليدية ، وتستمر أضرارها لسنوات أو لأجيال ، ومن إعجاز آية البحث حصر مصيبة المسلمين بـ [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] وعدم تعدي أضرارها إلى الأيام والسنوات اللاحقة .
لقد ورد قوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ] ( ) وجاءت آية البحث على نحو التعيين في المصيبة , وفيه دعوة للمسلمين للتوقي من المصائب بالتقيد بسنن التقوى .
ومن معاني الجمع بين الآيتين دعوة المسلمين للتطلع إلى فضل الله وإلى إذنه بمجئ الخيرات لهم ، وهدايتهم إلى الصالحات ، وليس من حصر لمصاديق إذن الله إذ تستجيب الخلائق كلها , وتنقاد لإذن الله ، فمتى ما أذن الله للفيض والفضل أن يقع ويأتي [فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ] ( ).
لقد جاء قبل آيتين في الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ) .
وجاءت آيات الكتاب بالإخبار عن قانون وهو أن النصر بيد الله الذي قال [وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ] ( ) لتصير خسارة المسلمين في معركة أحد فاجعة لهم ، خاصة وأنهم إنتصروا في معركة بدر ، فتفضل الله عز وجل بآية السياق بالإخبار عن علم الله عز وجل بأن خسارة المسلمين في معركة أحد مصيبة .
وقد تقدم التقييد في هذه الآية بصيغة الإيمان وأن المصيبة نزلت بالمسلمين كمؤمنين مما يدل على أن صفة الإيمان لم تغادرهم بسبب المصيبة، ليدل بالدلالة التضمنية على الثناء على المسلمين ، وبيان شاهد على صدق إيمانهم , وكأن الآية تخبر الناس عن ثبات أقدام المسلمين في منازل التقوى ، وهو من أسرار بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ، ومصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( ).
ومن خصائص المصيبة أنها تصيب الإنسان بالفزع والجزع والحسرة والألم ، فجاء قوله تعالى [فَبِإِذْنِ اللَّهِ] للتخفيف عن المسلمين ، وبعث السكينة في نفوسهم ، ومنع الجزع والحسرة من الوصول إليهم أفراداً ومجتمعات ، فما دام نزول المصيبة باذن من الله فلابد أن فيها منافع عظيمة لأهل الإيمان في النشأتين .
وليس من تقييد لأوان ومكان المنافع المترشحة عن المصيبة للمؤمنين لذا فان آية البحث تدعو المسلمين للدعاء والمسألة لمضاعفة هذه المنافع كماً كيفاً وزماناً ومكاناً .
المسألة السادسة : أولما أصابتكم مصيبة ليعلم الله المؤمنين ) .
لقد خلق الله عز وجل آدم ونفخ فيه من روحه وتفضل وعلّمه الأسماء كلها .
ومن وجوه إكرامه وذريته في المقام عدم وجود فترة ومدة بين نفخ الروح في آدم وبين تعليمه الأسماء بقوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) والظاهر أن الإحتجاج على الملائكة لم يكن حال تعليم آدم الأسماء بل كانت هناك فترة بدليل ورود (ثم) بين تعليم آدم الأسماء وبين عرض الأشياء على الملائكة .
وهل من هذه الأسماء واقعة أحد ومصيبة المسلمين فيها أم وردت الأسماء على نحو الإجمال.
المختار هو الثاني أي تسمى الحادثة المؤلمة التي يترشح عنها الحزن بالمصيبة ، وقد تقع المصيبة للفرد والجماعة والأمة ، وقد تقع للفريقين المتضادين بذات السبب والموضوع كما في المعارك والقتال ، فتلحق المصيبة والخسارة كل طرف من المتحاربين إلا أن الفرق بينهما قد يكون نسبياً وقد يكون كبيراً وعظيماً ، فمثلاً تقع عند كل الفريقين مصيبة القتل وسقوط بعض الأفراد من كل من الفريقين ، ولكن قد يكون النصر حليفاً لأحدهما، فتخف وطأة المصيبة بالنصر والغلبة ، وهل يدل وصف حال المسلمين في يوم معركة أحد بأنهم في مصيبة على عدم تحقق النصر فيها ، بلحاظ أن معركة بدر لم تسم بالمصيبة مع سقوط أربعة عشر شهيداً .
الجواب لا ، ليكون من وجوه تقدير آية البحث (أولما أصابكم يوم التقى الجمعان مع نصركم فباذن الله).
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : وما أصابكم يوم التقى الجمعان قد أصبتم مثليها ) .
الأول : ومن المن واللطف الإلهي بالمسلمين إكرامهم حتى في ساعة الشدة والمحنة بلغة الخطاب في الآيتين ، وما تتضمنه من المواساة .
ومن الآيات في المقام مجئ كل من الآيتين في موضوع متحد وهو واقعة أحد لبيان قانون وهو قلة الوقائع والمصائب التي حدثت للمسلمين .
ومن الأسرار في قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] الإستقراء بالدلالة الإلتزامية على وقوع القتلى والجرحى من الفريقين مع تباين في العدد أما النصر فهو أمر آخر ،وقد أخبر القرآن عن واقعة بدر بأمور :
الأول : يوم الفرقان ، والتمييز بين الحق والباطل .
الثاني : وصف معركة بدر بأنه يوم التقى الجمعان كما في قوله تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) .
الثالث : النصر للمسلمين في معركة بدر ، كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) وتفضل وأخبر عن معركة أحد بأمور:
الأول : إلتقاء وقتال المسلمين وجيش الذين كفروا لقوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] .
الثاني : بداية المعركة بنصر للمسلمين وشيوع القتل بالذين كفروا ومجموع من قتل منهم يومئذ اثنان وعشرون رجلاً ، وبه قال ابن إسحاق( ) .
الثالث : إنقضاء المعركة بمصيبة حلت بالمسلمين دون خسارة المعركة ، وتحتمل كيفية إنتهاء المعركة وجوهاً :
الأول : نصر المسلمين .
الثاني : نصر الذين كفروا .
الثالث : عدم نصر أحد الفريقين .
الرابع : نصر كل من الفريقين .
والمختار هو الأول من جهات :
الأولى : فشل وعجز جيش الذين كفروا عن تحقيق أي غاية من غاياتهم الخبيثة .
الثانية : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل .
الثالثة : إستمرار نزول آيات القرآن .
الرابعة : كثرة قتلى المشركين ، وجاء قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) لبيان قتل رؤوس الذين كفروا ومنهم حملة لوائهم وحسرتهم ، ورجوعهم بالخيبة والأسى والخزي من معركة أحد .
ومن مصاديق خاتمة الآية أعلاه وجوه :
الأول : فينقلبوا خائبين لما أصابهم يوم معركة بدر أي تجددت مصائب الذين كفروا يوم أحد , واستحضروا وقائع معركة بدر وخسارتهم فيها .
فمن خصائص الإنسان إستحضار الوقائع السابقة المتحدة في الموضوع مع ما يقع له سواء على نحو القضية الشخصية أو النوعية ، فيتذكر الذين كفروا في يوم أحد والأيام التي بعدها وقائع معركة بدر ، وتتجدد وتتضاعف أحزانهم التي لحقتهم من هزيمتهم وذلهم يوم بدر .
ليكون من وجوه تقدير قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) فصار الذين كفروا هم الأذلة ) .
مع التباين في مصاديق الذلة بين الفريقين الذلة التي زالت عن المسلمين عنهم هو الضعف وقلة العدد والمؤونة ، أما ذلة الذين كفروا في واقعة بدر , فمن جهات :
الأولى : كون الذل والهوان بالذين كفروا .
الثانية : أصاب الذل جميع كفار مكة فيما بينهم وعند القبائل .
الثالثة : نزل الذل بساحة الذين كفروا من قريش بفقدهم منازل الإكرام عند القبائل .
الرابعة : صيرورة كفار قريش في حال عوز وفاقة ، فما بين معركة بدر واحد , ولمدة ثلاث عشر شهراً هم يستعدون لمعركة أحد.
وحتى البضائع التي جلبها أبو سفيان أوان معركة بدر بقيت لم توزع على أصحابها ، وسخّرت مؤونة لمعركة أحد ، ومن خصائص التجارة حاجة التاجر إلى بيع بضاعته ليكون ثمنها رأس مال ومادة لشراء بضائع أخرى سواء كان شراؤه بالنقد أو الآجل أو هو نوع مضاربة .
الخامسة : ذل الذين كفروا أمام عوائلهم وفي بيوتهم ومنتدياتهم ، وعند عدوهم ، قبل وبعد المعركة ، فما اكثر ضجيج ووعيد كفار قريش بعد معركة بدر ورسائل التهديد التي كانوا يبعثون بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وأنهم عند خروجهم لمعركة أحد سيأتون بالمهاجرين أسرى لبعث الخوف والفزع في قلوب المسلمين من أهل مكة ، والفتيان منهم خاصة وهل أفزعهم هذا الوعيد والتهديد .
الجواب لا ، ومن منّ الله عز وجل على المسلمين أنه سرعان ما تبين زيف قولهم ، وعادوا خائبين .
السادسة : إصابة الذين كفروا بالذل والهوان بدخول الناس في الإسلام وعجزهم عن صدهم أو منعهم ، وهذا العجز من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
السابعة : خيبة وذل الذين كفروا في طريق عودتهم إلى مكة بهيئة الفرار والإنهزام ، وتركهم مؤنهم ورواحلهم خلفهم .
الثامنة : دخول الذين كفروا مكة من غير طائفة من فرسانهم الذين وقعوا ورجالهم بين قتيل وأسير .
التاسعة : سعي قريش لجمع الأموال لفكاك أسراهم الذين في المدينة .
العاشرة : دخول عدد من الأسرى الإسلام .
الثاني : فينقلبوا خائبين لقانون وهو كل من يحارب الإسلام يرتد على عقبيه خاسراً خائباً .
لقد جعل الله عز وجل الأرض والسموات ملكاً خالصاً له ولا تستقيم أمور الخلائق إلا بهذه الملكية المطلقة ، وهو من حكمة الله عز وجل وسعة سلطانه لذا أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
الثالث: لقد أراد الله عز وجل نصر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا] ( ) .
ومن وجوه إظهار دين الإسلام رمي أعدائه بالخيبة والذل والهوان ، لتكون عودة المشركين إلى مكة منهزمين فارين من معركة بدر مقدمة لظهور دين الإسلام ودعوة للناس للكف عن إيذاء المسلمين .
فان قلت لا يدل ما حدث بعد واقعة بدر على هذا المعنى فبعد أن حضروا إلى معركة بدر للقتال نحو ألف من المشركين ، زحفوا بجيش قوامه ثلاثة آلاف رجل في معركة أحد .
والجواب إنه قياس مع الفارق ، فلم يكن كفار قريش مستعدين وجاهزين للخروج لمعركة بدر فقد فوجئوا بضمضم بن عمرو الغفاري يحمل رسالة من أبي سفيان صاحب قافلتهم القادمة من الشام وهو يخبرهم (أن محمدا قد عرض لها في اصحابه) ( ) .
ترى كيف علم أبو سفيان باستنفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه ، الجواب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ندب أصحابه بالخروج إلى عير قريش وعلى نحو علني فبلغ أبا سفيان الخبر بواسطة بعض الركبان، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوري في جهته ، فيخرج لقافلة أبي سفيان أنه لا يريد التصدي لها وإحتجاز الأموال إذ جعل متسعاً لهم لتغيير مسار القافلة والتعجيل بالسير .
وذكر أن هذه القافلة تضم خمسين ألف دينار ، وعدد العير ألف بعير ، ففيها لآل سعيد بن العاص أربعة آلاف مثقال ذهب (ويقال كان لبني مخزوم فيها مائتا بعير، وخمسة أو أربعة آلاف مثقال ذهب، وكان يقال للحارث بن عامر بن نوفل فيها ألف مثقال، وكان لأمية بن خلف ألفا مثقال.
(كان لبني عبد مناف فيها عشرة آلاف مثقال، وكان متجرهم إلى غزة من أرض الشام ، وكانت عيرات بطون قريش فيها يعني العير.) ( ).
وقبل معركة بدر أغار كرز بن جابر الفهري على مشارف المدينة ، وحيث ترى مواشيهم ، فاقتاد عدداً من مواشيهم .
وكان كرز من رؤساء المشركين ، ولكنه أسلم فيما بعد وقبل الفتح ، ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسله على رأس سرية من عشرين صحابياً في طلب ثمانية من عرينة ، جاءوا إلى المدينة واسلموا فأستوبئوا المدينة ، ولم يطيقوا الطقس فيها ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأرسلهم إلى لقاحه وكانت ترعى بذي الجدر ناحية قباء, قريباً من جبل عير ، على مسافة ستة أميال من المدينة .
فأدركهم يسار مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويسمى يسار الراعي ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعتقه لما رآه يحسن الصلاة ، وكان معه نفر قليل فقاتلهم فقطعوا يده ورجله وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات , وحمل ميتاً إلى قباء حيث دفن .
وساقوا الإبل فعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه المصيبة والمثلة الشنيعة من أناس أكرمهم فغدروا .
فبعث كرز بن جابر في سرية من عشرين فارساً وخرجوا لا يدرون أي طريق يسلكون ، وكيف يتبعون القوم وليس من أثر فاذا هم بامرأة تحمل كتف بعير ، فأخذوها وسألوها : ما هذا معك ؟ إنه يدل على وجود ذبح لبعير في الموضع وقد قال تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) فأجابتهم قائلة : مررت بقوم نحروا بعيراً فاعطوني .
فصارت عندهم أمارة بأنهم القوم الذين يطلبون لأن المسافرين لا يذبحون البعير لحاجتهم إليه في النقل والركوب وحمل الأثقال .
قالوا : أين هم ؟
قالت : هم بتلك القفار من الحرة ، إذا وافيتهم عليها رأيتم دخانهم) فكانت علامة ودلالة أخرى ، وإخباراً بـانشغالهم باعداد الطعام وطهيه.
فجاءوا إليهم وإذا هم على وشك الفراغ من طعامهم وأكل بعير الزكاة بغير حق ، فأحاطوا بهم وسألوهم أن يأسروهم ، ولم يكن خيار آخر لهم إذ باغتوهم وأسلحتهم بعيدة عنهم ، وعدد السرية كان عشرين فارساً وعدد العرنيين ثمانية فقط ، ومن الآيات أن الله عز وجل ألقى الرعب في نفوسهم ، إذ أحاط بهم المسلمون وأسروهم وربطوهم وأردفوهم على الخيل حتى قدموا بهم إلى المدينة (فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالغابة، فخرجوا نحوه.
وعن أنس بن مالك قال: فخرجت أسعى في آثارهم مع الغلمان حتى لقيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالزغابة بمجمع السيول، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسملت أعينهم وصلبوا هناك. قال أنس: إني لواقفٌ أنظر إليهم.
قال الواقدي: فحدثني إسحاق، عن صالح مولى التومه، عن أبي هريرة، قال: لما قطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيدي أصحاب اللقاح وأرجلهم وسمل أعينهم وفيهم نزلت هذه الآية: ” إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ… ” الآية. قال: فلم تسمل بعد ذلك عين ( ).
قال الواقدي : فحدثني أبو جعفر، عن أبيه، عن جده، قال: ما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك بعثاً إلا نهاهم عن المثلة.
وعن ابن بلال، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، قال: لم يقطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لساناً قط، ولم يسمل عيناً، ولم يزد على قطع اليد والرجل)( ).
ويدل الحديث أعلاه على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسمل عيون هؤلاء ، وإن كان سملها من باب القصاص بالمثل لما فعلوا بيسار الراعي , فلم يسمل عيناً أبداً .
الرابع : مع أن قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) ورد بخصوص معركة أحد ، فان خاتمة الآية جاءت بصيغة المضارع من جهتين :
الأولى : الفعل المضارع [فَيَنْقَلِبُوا] .
الثانية : حال الخيبة وإستدامتها بلحاظ الفعل المضارع ، فلو قالت الآية (فانقلبوا خائبين )لاحتمل الأمر إنقضاء حال الخيبة وزوالها عن المشركين ، فجاءت الآية بصيغة المضارع لبيان إستدامة حال الخيبة عند الذين كفروا ، ويحتمل خيبة المشركين وجوهاً :
الأول : إستدامة حال الخيبة عند الذين كفروا في طريقهم إلى مكة .
الثاني : بقاء حال الخيبة عند المشركين حتى وهم في مكة .
الثالث : مصاحبة الخيبة للذين كفروا في أيام حياتهم .
الرابع : توارث الذين كفروا الخيبة والحسرة بسبب خسارتهم في معركة أحد .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية وأسرار مجئ خاتمتها بصيغة الفعل المضارع ( ).
كانت غزوة العشيرة إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شهر جمادى الأولى من السنة الثانية يريد قريشاً ، ونزل العشيرة من بطن ينبع فأقام بها ما بقي من ليالي جمادي الأولى وليالي من جمادي الآخرة .
(ووادع فيها بنى مدلج وحلفاءهم من بنى ضمرة) ( ) لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية وهي تقدم الموادعة مع قوم قبل قتال المشركين ، ليأمن من جانبهم .
وفي هذه الغزوة قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي عليه السلام وعمار بن ياسر (قال ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين قلنا بلى يا رسول الله قال أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذه – ووضع يده على قرنه حتى يبل منها هذه، وأخذ بلحيته .
واستعمل النبي على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد فيما ذكر ابن هشام.
وذكر ابن سعد أنها كانت في جمادى الآخرة على رأس ستة عشر شهرا وحمل لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها حمزة بن عبدالمطلب وكان اللواء أبيض) ( ).
الخامس : هل يمكن حصر إنقلاب المشركين بالخيبة بحال الكبت الذي تذكره الآية أعلاه , ويكون تقدير الآية : فينقلبوا خائبين لأن الله كبتهم ) .
الجواب هذا المعنى صحيح ، ولكن مضامين الآية أعم من أن تنحصر به، ليكون من وجوه تقدير الآية :
الأول : يكبت الله الذين كفروا لينقلبوا خائبين .
الثاني : ترشح إنقلاب الذين كفروا خائبين عن الكبت والخزي وإمتلاء نفوسهم بالحسرة ..
الثالث : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا فينقلبوا خائبين ) فذات قطع الطرف وهلاك طائفة من الذين كفروا ومنهم عدد من فرسانهم وشجعانهم هو خيبة .
الرابع : ينقلب الذين كفروا خائبين سواء قتلت طائفة من رجالهم أو كبتوا .
وكما نزلت آية البحث بخصوص واقعة أحد فكذا الآية أعلاه فأنها نزلت في موضوعها وأوانها بواقعة أحد وإن كان المدار على عموم المعنى وليس سبب وموضوع النزول .
وهل تتضمن الآية أعلاه البشارة بخصوص قادم الأيام بعد معركة أحد ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : التباطئ والتراخي بين معركة أحد ومعركة الخندق التي جرت بعدها ، فبينما لم يكن بين معركة بدر وأحد سوى ثلاثة عشر شهراً مع أن المشركين كانوا يطلبون الثأر ، كانت المدة بين معركة أحد والخندق نحو سنتين , وقيل أن معركة الخندق في السنة الرابعة .
الثانية : كان الذين كفروا يستعدون لمعركة الخندق مع تغشي الخيبة والحسرة لهم لما لحقهم في معركة بدر وأحد .
الثالثة : يبين قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) حال الضعف والإنكسار والنقص في الفرسان الذي صار عليه جيش الذين كفروا .
لقد كانت قريش أهل تجارة وحياة مدنية مترفة يغادرون في الصيف إلى الشام لحلو النسيم وعذوبة الماء وكثرة الثمار ويجلبون معهم البضائع والتجارات ، ثم يرحلون إلى اليمن في الشتاء للدفئ والتسوق ، وهو الذي وثّقه القرآن بقوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) مع هذه الحال قد لا توجد كثرة من الفرسان الشجعان ، إنما كانوا قلة ، وقد أسلم بعضهم مثل حمزة عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما رزق الله عز وجل الإمام علي القوة والغلبة على فرسان قريش , ونزل قوله تعالى في معركة الخندق [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) ، وما كفى الله عز وجل به النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين هزيمة قريش يوم معركة بدر والخسارة والخيبة التي لحقت بهم يوم معركة أحد .
لتكون آية البحث خير مواساة للمسلمين لما فيها من التذكير بما نزل بالذين كفروا من الخسارة .
المسألة الثامنة : تقدير الجمع بين الآيتين قد أصبتم مثليها يوم التقى الجمعان ).
من إعجاز القرآن مجئ الوصف بالتقاء الجمعين لكل من معركة بدر وأحد , وفيه وجوه :
الأول : بيان قانون وهو وجود وجوه للشبه بين المعركتين .
الثاني : إرادة إستصحاب النصر في معركة بدر .
الثالث : تأكيد فضل الله على المسلمين في كل من معركة بدر وأحد .
وقد ذكرت آية البحث قانوناً من الإرادة التكوينية وهو أن ما أصاب المسلمين يوم أحد باذن الله ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل كان لقاء جيش المسلمين مع جيش المشركين في معركة بدر وأحد باذن الله .
الثانية : هل يمكن قراءة آية البحث (يوم التقى الجمعان فبإذن الله).
أما بالنسبة للمسألة الأولى فالجواب نعم ، ولا يقع أو يصرف قتال إلا باذن الله ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) عندما قالوا بأن الإنسان يفسد في الأرض ويسفك الدماء .
ومن مصاديق خاتمة الآية السابقة [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) في المقام أمور :
الأول : محو الله عز وجل لوقائع وأفراد كثيرة للقتال .
الثاني : يظن طرفا القتال أو أحدهما وجود المقتضي للقتال ، وفقد المانع منه ، فيتفضل الله عز وجل ويحول دون إستدامة هذا الظن والعمل به .
الثالث : قد تجتمع مقدمات القتال ويسمع صوت وقعقعة السلاح ، وتعاهد الرواحل وآلات الحرب وتهيئ المؤن وتدق طبول الحرب ، وتصدح الأهازيج ، وتلقى القصائد الشعرية [كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] ( ) .
ولكن الله عز وجل يحول دون الناس والقتال ويصرفهم عنه ، وهل يصح القول ويصرف الله القتال عن الناس ، الجواب نعم ، فذات القتال ومقدماته أمور مستجيبة لله عز وجل .
ولو كانت هذه المقدمات بخصوص قتال بين المسلمين والذين كفروا ويعلم الله عز وجل أن النصر فيه يكون للمسلمين على نحو القطع .
فهل يحتمل محو الله عز وجل لهذا القتال , أم لابد من وقوعه وبذات الكيفية .
الجواب هو الأول ، وهو من فضل الله عز وجل على المسلمين والناس، ومن مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) وهل في محو مثل هذا القتال غياب مناسبة لنصر المسلمين والمنافع المترشحة عنه .
الجواب لا ، فحينما يصرف الله عز وجل القتال فانه سبحانه ينجّز في الواقع المنافع المترشحة عنه , مع مضاعفة هذه المنافع كماً وكيفاً مع عدم وقوع القتال ، وصرف القتال في المقام من الإعجاز في مجئ قوله تعالى [فَبِإِذْنِ اللَّهِ]في آية البحث لبيان مسائل :
الأولى : حجب ومنع مقدمات القتال .
الثانية : إزاحة معاني الغضب والإستحواذ وحب قهر الغير عن النفوس، وفي قوله تعالى[وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ]( ) دعوة للمسلمين للصبر وحسن الخلق حتى في ساعة الشدة والضيق.
الثالثة : منع وقوع القتال حتى لو تقارب الصفان .
الرابعة : تنمية ملكة بغض القتال عند الناس ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
وهل كره القتال في الآية أعلاه خاص بالمسلمين أم أنه عام عند الناس جميعاً.
المختار هو الثاني، ولا عبرة بالشاذ النادر ، نعم كُره المسلمين للقتال عن قصد وإختيار وأصل إيماني .
ويحضر الإذن الإلهي في كل دقيقة وواقعة يدنو معها القتال بين فريقين ، فمتى ما حجب الله إذنه لا تحدث تلك الوقائع .
وأما المسألة الثانية , فالجواب نعم ، يمكن تقدير الآية : يوم التقى الجمعان فبإذن الله) لبيان قانون وهو حضور وموضوعية فبإذن من الله عز وجل في مقدمات معركة أحد وبدايتها وخاتمتها ، ولو شاء الله عز وجل ما حضرت قريش إلى المعركة ولو شاء الله لبقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، وإليه كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في البداية بعد تأويله لرؤيا رآها وقال به بعض الصحابة من الأنصار، وعبد الله بن أبي بن أبي سلول وكان رئيس الخزرج .
لقد طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تُجعل النساء والذراري الصغار في الأطام ، والأماكن المرتفعة في المدينة، ويقاتل المؤمنون في أزقة المدينة لدفع المعتدين، وترميهم النساء من فوق البيوت , ويقومون بغلق الأزقة بالسكة والحجارة فصارت المدينة كالحصن، ولقد ألحت طائفة من شباب المسلمين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج لقتال الذين كفروا تعجيلاً بالنصر كما حصل في معركة بدر ، وشوقاً إلى الشهادة عندئذ دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيته فلبس لأمة القتال وخرج عليهم غير خائف ولا وجل من الحرب فندموا على إلحاحهم ، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا يا رسول الله : إن شئت فاقعد ، ونحن نصبر ونقاتل المشركين إذا دخلوا المدينة فأعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قانوناً من منهاج النبوة بقوله: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل) ( ).
لذا يمكن جعل عدم خلع لأمة القتال حتى يقاتل من مختصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فان قلت هناك كثير من الملوك والأمراء يلبسون بزة القتال ويحملون السلاح ويأبون خلعها حتى يقاتلوا.
والجواب هذا صحيح ولكن ليس على نحو الشرط والصفة الملازمة، ولبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمة الحرب فرع ومصداق لقوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) مما يدل على أن خروج المسلمين إلى أحد كان بمشيئة وإذن من الله عز وجل لبيان قانون وهو سلامة المسلمين من الأسر والحسرة على خروجهم أو وقوع الشهداء من بينهم.
لقد كانت وقائع معركة بدر ونتائجها ونصر المسلمين المبين فيها حاضرة قبل وأثناء وبعد معركة أحد ، وهو من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) إذ يصاحبها النصر في حال الخسارة .
ومن الإعجاز في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوه :
الأول : كان المسلمون في معركة بدر أقل رجالاً ومؤونة عنه في معركة أحد .
الثاني : كان سلاح المسلمين في بدر سيوفاً ضعيفة في الغالب وعصياً، وحينما دخلت الغنائم إلى المدينة وقبض الصحابة فداء الأسرى أشتروا أسلحة جديدة ودروعاً، وعدة للقتال مثل البيضة وهي الخوذة من حديد التي توضع على الرأس ورواحل وصاروا يتمرنون على السلاح ، ويتسابقون في الجري، وصار النصر سبباً لإستعارة المسلمين السلاح وعدة القتال، وإقتراض المال لأغراض الدفاع.
الثالث : جاء نصر المسلمين في معركة بدر بمعجزة ، وكما أن إذن الله عز وجل حاضر كسبب لحدوث المعركة ، فان المسلمين خرجوا إلى معركة بدر بهيئة الرجال المنتصرين ، وتقدير آية ببدر على وجوه:
الأول : لقد نصركم الله ببدر بمعجزة .
الثاني : لقد نصركم الله ببدر نصراً باقياً إلى يوم القيامة .
الثالث : لقد نصركم الله ببدر فازاح عنكم لباس الذل والضعف.
الرابع : لقد نصركم الله ببدر كيلا تنهزموا في معركة أحد .
الخامس : لقد نصركم الله ببدر لتصبروا في معركة أحد ، قال تعالى[وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ]( ).
السادس : لقد أخرج الله رسوله وإياكم لينصركم .
السابع : لقد نصركم الله ببدر على الذين كفروا .
الثامن : لقد نصركم الله ببدر مع قلتكم وكثرة جيش الذين كفروا .
التاسع : لقد نصركم الله ببدر لتنزل آية [بِبَدْرٍ] في القرآن وتبقى واقعة بدر خالدة إلى يوم القيامة ، وليس من موضع من جميع أنحاء الأرض معروف عند الأجيال , تتعلق به معركة من معارك التأريخ مثل (بدر) وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن موضع إقامته وسفره وقتاله مصاحبة لأجيال الناس إلى يوم القيامة ، ويترشح هذا الخلود من جهات :
الأولى : نزول قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الثانية : السنة النبوية .
الثالثة : أخبار أهل البيت والصحابة .
الرابعة :تلاوة المسلمين لآية ببدر والآيات الأخرى التي تتعلق بواقعة بدر .
وهل في تلاوة آية البحث والسياق إستحضار لواقعة بدر أم لا، بلحاظ أن موضوعهما هو واقعة أحد.
الجواب هو الثاني من جهات:
الأولى : ذكر آية البحث والسياق لقتال المسلمين , وكيف أنهم يحاربون الذين كفروا بالنبوة والتنزيل وشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويدل عليه ما ورد في الآية التالية[وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ]( ).
الثانية : وحدة الموضوع في تنقيح المناط .
الثالثة : تذكير آية السياق بمعركة بدر، ونصر المسلمين فيها بقوله تعالى[قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا]( ).
الرابعة : مجيء الفاظ تجمع بين آية البحث والآيات الخاصة بمعركة بدر كما في قوله تعالى[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ].
المسألة التاسعة : تقدير الجمع بين الآيتين : قل هو من عند أنفسكم بإذن الله).
لقد جاءت كل من آية البحث والسياق في بيان وقائع معركة أحد وما أصاب المسلمين فيها من الخسارة المتعددة ومنها فقد سبعين شهيداً فتساءل المسلمون كيف نخسر في المعركة والله عز وجل معنا وناصرنا، والرسول الكريم في الميدان إماماً وقائداً ونحن على الحق والهدى والرشاد .
فجاءت آية البحث بالجواب على تساؤل المسلمين وأن ما وقع لهم من الخسائر إنما سببه فعلهم وعملهم , ويحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة القصور والتقصير في ساحة المعركة .
الثاني : إرتكاب المسلمين الآثام وتراكم الذنوب .
الثالث : عدم طاعة الرسول .
الرابع : وجود فعل مخصوص هو علة ظاهرة للخسارة .
والصحيح هو الأخير .
إذ ترك الرماة مواضعهم فان قلت كيف يكون نفي الوجوه الثلاثة الأخرى أعلاه ، الجواب من جهات :
الأولى : الثناء من الله على المسلمين من هذه الآيات بمخاطبتهم ونعتهم بصفات الإيمان .
الثانية : تقدم نصر الله للمسلمين في معركة بدر على الخسارة في معركة أحد ، مع بيان فضل الله بمجئ النصر للمسلمين بآية ومنّ وطول من الله عز وجل.
ومن الإعجاز في نظم هذه الآيات تذكير الآية السابقة بمعركة بدر ونصر المسلمين فيها بقوله تعالى[قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا]( ).
الثالثة : حضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان مع المسلمين ، إذ يأتي مدد ملكوتي خاص لحفظه وتعضيده ، ودفع الأعداء عنه ، ومن معاني تقدير وموضوعية الإذن الإلهي في المقام أمور :
الأول : عدم وقوع الخطأ من الرماة بترك مواضعهم إلا باذن الله، ولو شاء سبحانه ألا يتركوها لما غادروها ، ولو أراد ألا يهجم الذين كفروا من خلف جبل الرماة لما هجموا , خاصة وأن الرعب يملأ قلوبهم حتى في حال هجومهم لعمومات قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( ).
ولو دار الأمر في الآية أعلاه ونزول الرعب في قلوب الذين كفروا قبل هجوم الخيالة على جبل الرماة أم بعده.
فالأصل هو الأول ، ولا يتعارض مع دلالة السين الواردة في قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا…]( ) إنما يراد الإستقبال القريب بالإضافة إلى قانون [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ) ولأن حلول الرعب في قلوب الذين كفروا من نصر الله عز وجل للمسلمين فان الله عز وجل يعجل به ويجعله يستولي عليهم وعلى جوارحهم .
ومن الإعجاز نسبة نصر المسلمين في معركة بدر إلى الله عز وجل، فلم تقل الآية : ولقد انتصرتم ببدر باذن الله ، لدلالة هذا التقدير على نسبة النصر في المعركة للمسلمين وان الله عز وجل أذن به.
إنما وردت آية ببدر لبيان قانون وهو أن النصر في معركة بدر كله من عند الله وبفضله ومدده وعونه.
أما خسارة المسلمين في معركة أحد فلم تقع إلا بعد أن إذن الله عز وجل ولا يعني هذا أن الإذن الإلهي أقل مرتبة من النصر والمشيئة ، فقد يأتي النصر باذن الله كما في نصر طالوت وجنوده من مؤمني بني إسرائيل، ومعهم داود عليه السلام على جالوت وقومه من الجبارة لقوله تعالى [وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ]( ).
ليفيد الجمع بين الآية أعلاه وبين آية ببدر علو مرتبة المسلمين درجة , لقد كان نصر بني إسرائيل بالتابوت ، وهو من أسرار خلافة الإنسان في الأرض ، إذ أن الله تعالى أنزل تابوتاً على آدم ، وفي هذا التابوت صور الأنبياء من ذرية آدم ، وفيه بيوت بعدد الأنبياء، وآخر هذه البيوت هو بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتتصف صورته بأنها من ياقوتة حمراء، وهو قائم يصلي.
وتتجلى ببهاء للناظرين من بين صور جميع الأنبياء(ومن بين يديه علي بن أبي طالب شاهر سيفه على عاتقه مكتوب على جبينه : هذا أخوه وابن عمّه المؤيد بالنصر من عند الله، وحوله عمومته والخلفاء والنقباء والكوكبة الخضراء، وهم أنصار الله وأنصار رسوله، نور حوافر دوابّهم يوم القيامة مثل نور الشمس في دار الدنيا.
وكان التابوت نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين وكان من عود الشمشار الذي يتّخذ منه الأمشاط ممّوه بالذهب، وكان عند آدم إلى أن مات ثم عند شيث ثم توارثها أولاد آدم إلى أن بلغ إبراهيم) ( ).
وعندما انتقل إبراهيم إلى الرفيق الأعلى أعطاه إلى إسماعيل لأنه أكبر ولده .
ولما مات إسماعيل صار عند ابنه قيذار( )، ولكن ولد إسحاق الذي هو أخو إسماعيل نازعوهم وقالوا : أن النبوة صرفت عنكم ، ولابد أن يكون التابوت عندنا، وقد كان يعقوب نبياً وهو ابن إسحاق ، ويوسف عليه السلام نبياً وهو ابن يعقوب .
و(عن ابن مسعود قال : سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أكرم الناس؟ قال يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله) ( ).
وكان قيذار يمتنع عنهم ويقول إنه وصية أبي فلا أعطيه أحداً من العالمين ، وأراد ذات يوم يفتح التابوت ويطلع على ما في داخله فأمتنع التابوت عليه وعجز عن فتحه (فناداه مناد من السماء : مهلا يا قيذار فليس لك إلى فتح هذا التابوت سبيل، لأنّه وصية نبي فلا يفتحه إلاّ نبي فادفعه إلى ابن عمك يعقوب إسرائيل الله. فحمل قيذار التابوت على عنقه وخرج يريد أرض كنعان، وكان بها يعقوب)( ).
فان قلت إذا كان قيذار ليس بنبي كيف يناديه مناد من السماء ، واذا كان يتلقى النداء فلماذا لا يؤذن له بفتح التابوت ،والجواب قد يأتي النداء من السماء للأولياء وأولاد الأنبياء والصالحين، ولبيان قوانين من الإرادة التكوينية ، وقد جاء النداء من السماء والوحي لغير الأنبياء ، كما في مريم عليها السلام[وَإِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ]( ) .
فجاء النداء من السماء إلى قيذار رحمة ولتثبيت معالم النبوة في الأرض.
وعندما إقترب التابوت وشم رائحة النبي يعقوب صّر صّرة سمعها يعقوب ، فقال لبنيه : أقسم بالله لقد جاءكم قيذار بالتابوت فقاموا نحوه ، فخرج يعقوب وأولاده جميعاً لإستقبال التابوت ، ولم يشك أحد منهم بصدق قول يعقوب ، وقد أنكروا فيما بعد ذات الأمر عندما شم رائحة يوسف عليه السلام لمّا أرسل قميصه من مصر كما في قوله تعالى[اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ]( ).
ولكن أولاد يعقوب كذبوه في هذه المرة[قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ] ( ).
ولما أخبرهم يعقوب بقدوم قيذار بالتابوت خرجوا جميعاً ومشوا مسافة لإستقبال التابوت .
فأطل عليهم ومعه التابوت ، وعندما التقوا نظر يعقوب إلى قيذار، فبكى على حاله وقال :
يا قيذار ما لي أرى لونك متغيراً وقوتك ضعيفة ، أجهدك عدو أم فعلت معصية تورقك أضرت بك.
فقال قيذار، لم يرهقني عدو ولم أئت فاحشة أو معصية ، ولكن وطئت زوجتي، فنُقل من ظهري نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم فترى الذي أصابني بعده ، قال يعقوب : أفمن بنات إسحاق؟
أي أراد أن تكون الزوجة ابنة عم إسماعيل وتكرم وأهلها ببذرة النبوة الخاتمة، فان قلت إن يعقوب هو ابن إسحاق، ولو كان إسماعيل تزوج واحدة من بنات إسحاق لعلم به يعقوب، والجواب قد يكون النكاح من بنات إسحاق أو من حفيداته سواء من طرف الأبناء أو البنات الصلبيين.
والظاهر أنه كان عند قيذار أكثر من زوجة وان إحداهن من بنات عمه لإرادة التواصل بين ذراري النبي إبراهيم عليه السلام ، فقال قيذار : لا في العربية الجرهمية ، وهي الغاضرة (قال يعقوب : بخ بخ بشّرها بمحمد، لم يكن الله عزّ وجلّ ليخزنه إلاّ في العربيات الطاهرات، يا قيذار وأنا مبشّرك ببشارة قال : وما هي؟
قال : اعلم أنّ الغاضرة قد ولدت لك البارحة غلاماً)( ).
فأمتلأ قيذار غبطة وسروراً وبادر إلى السؤال : وما علمك يا اين عمي وأنت بأرض الشام وزوجتي في الحجاز في أرض الجرهم ، قال يعقوب علمت ذلك لأني رأيت أبواب السماء قد فتحت ورأيت نوراً كالقمر الممدود من السماء والأرض , ورأيت الملائكة ينزلون من السماء بالبركات والرحمة فعلمت أن ذلك من أجل محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكأن هذه البشارة من بركة التابوت وإعادته إلى يعقوب النبي وليعلم قيذار وأبناؤه أن يعقوب نبي وانه أحق بالتابوت وفيه تأديب لأبناء وأولاد قيذار بأن لا يلوموه على حمله التابوت وتسليمه إلى يعقوب النبي ، ولا يسعوا في طلبه وأخذه منهم .
ولقد كان هذا التابوت أمانة عظيمة ، وقد ورد ذكره في القرآن بقوله تعالى [وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ] ( ).
لقد غاب التابوت عن ذرية إبراهيم ولكن نور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينهم يتنقل في أصلاب الرجال وأرحام النساء بطهر وتزكية.
وبعد أن سلّم قيذار التابوت إلى يعقوب النبي وهو نفسه إسرائيل رجع إلى أهله في مكة فوجد زوجته قد ولدت غلاماً.
وعندما سأل عن أوان الولادة أخبروه , فكان موافقاً لذات اليوم الذي أخبره فيه يعقوب عليه السلام ، مما يجعله يقطع بصدق الإخبار عن قرب بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً، وسمّى ولده (حمد) للتفاؤل ورجاء ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتوارث بنو إسرائيل التابوت إلى أن وصل إلى الرسول موسى عليه السلام ، وكان يضع فيه التوراة وبعض متاعه ولم يجرأ أحد على أخذه من موسى إلى أن مات , وكان يتداول بين أنبياء بني إسرائيل .
ومما تركه موسى في التابوت كما في قوله تعالى بخصوص ما في التابوت [وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ..] ( ) أمور:
الأول : عصا موسى، تلك الآية الحسية العظمى التي جعلها الله سبباً لنجاة أمة عظيمة من المؤمنين والظاهر أن أثر وبركات عصا موسى أكثر معجزات الأنبياء ذكراً في القرآن ، وفي مواطن الإنتفاع منها للنبي موسى وهارون ولبني إسرائيل في ذاتهم وذراريهم ، وفي التنزيل قال [قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى] ( ).
الثاني : قطع ورضاض من الألواح التي كانت عند موسى كما في قوله تعالى [وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ]( ).
(عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر ، أخبره ربه تبارك وتعالى أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح ، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح فتكسر ما تكسر) ( ).
الثالث : لوحان من التوراة التي أنزلت على موسى .
الرابع : قفيز من المنّ الذي كان ينزل على بني إسرائيل ، قال تعالى [وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى] ( )، له معنيان:
الأول : ما كان في الأطوال ويبلغ نحو 136 متراً، والأساس في الأطوال هو الذراع الشرعي.
الثاني : القفير في المكيال والوزن ويساوي 12 صاعاً والصاع نحو ثلاثة كيلو، ويكون بمقدار 33 لتراً .
والمقصود في المقام هو الثاني أعلاه .
الرابع : نعلا موسى عليه السلام ، ومن الإعجاز ورود ذكرهما في القرآن كشاهد على خروج موسى عليه السلام للميقات الذي واعده الله عز وجل .
الخامس : عمامة هارون .
السادس : عصا هارون .
لقد كان الأنبياء السابقون يبشرون ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وجاءت آية التابوت لتخبر عن قانون وهو أن ذات معجزات الأنبياء تبشر برسالته .
الثاني : ومن مصاديق المنّ الإلهي يوم معركة أحد ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند هجوم الذين كفروا على جيش المسلمين ، ليكون من معجزاته الحسية بقاؤه في موضعه مع فرار أكثر أصحابه ، مما يدل على إنكشافه للعدو .
ومن الآيات في المقام كثرة الجراحات التي أصابته يومئذ ، ولو لم تكن تلك الجراحات لقال المنافقون والذين كفروا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن وسط الميدان ساعة هجوم الذين كفروا خاصة وأن آية البحث والآية التالية ذكرت المنافقين بما يفيد قانوناً وهو أن وقائع معركة أحد وسيلة لكشف قبح نواياهم وفضحهم بما يقولون وما يفعلون .
الثالث : إرادة تخفيف وقع المصيبة على المسلمين يوم أحد باخبارهم بأن الذي نزل بهم من الأذى والخسارة إنما كان بإذن الله، وهم على صبغة وصفة الإيمان ، وتقدير آية البحث : وما أصابكم أيها المؤمنون يوم التقى الجمعان .
لقد جعل الله عز وجل قلوب العباد مستجيبة لأمره وكذا حال المجتمعات والمنتديات ، حينما تأتي المواساة من عند الله عز وجل للمسلمين فان أي ضرر ينصرف عنهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) فسقوط سبعين شهيداً من المسلمين يوم معركة أحد ضرر كبير ، ومصيبة فادحة ، ولكن الله عز وجل يمنّ على المسلمين ويواسيهم فيخفف عنهم المصيبة ، ليكون تقدير الآية أعلاه على وجوه منها
الأول : لن يضروكم إلا أذى لأن ما يصيبكم باذن الله .
الثاني : لن يضروكم الله إلا أذى لأن كل آية قرآنية مواساة لكم.
الثالث : لن يضروكم إلا أذى لنصر الله لكم .
الرابع : لن يضروكم إلا أذى لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيكم.
الخامس : يمنّ الله عليكم فلن يضروكم إلا أذى .
السادس : لبلوغكم مراتب الإيمان لن يضروكم إلا اذى .
السابع : وما أصابكم يوم التقى الجمعان لن يضروكم به إلا أذى.
الثامن : لقد منّ الله عليكم برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلن يضروكم إلا أذى .
التاسع : يتلو عليكم الرسول آيات الله فلن يضروكم إلا أذى.
العاشر : يزكيكم الرسول فلن يضروكم إلا أذى.
المسألة العاشرة : يمكن تسمية هذه الآية والآية السابقة آيتي المصيبة ، أو آيتي مصيبة أحد ، فقد ذكرت الآية السابقة مادة أصاب ثلاث مرات ، وذكرتها آية البحث مرة واحدة ، وتتعلق جميعها بمعركة أحد والخسارة التي لحقت المسلمين فيها باستثناء واحدة جاءت بخصوص معركة بدر ، وهل قوله تعالى [قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا] لبيان أن هذه المرة الواحدة ترجح في أثرها ومنافعها على الأذى الذي ترشح عن المصيبة يوم معركة أحد ، الجواب نعم, وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) وتتعلق الآيات العشرة التالية بواقعة أحد .
والمصيبة هي الرزية والرزئة و(في جمع مصيبة: مصائب إنما هو غلط، وإنما الجمع مصاوب، لأن مصيبة مُفْعِلة، فعلى هذا يجري وما أشبهه) ( ) وليس من غلط في هذا الجمع .
لتبين منافع متعددة لهذه المعركة إلى جانب الخسارة التي نزلت بالمسلمين ، ليكون وفق قانون التعادل والتراجيح ، مع قلة كلمات آية البحث فقد إبتدأت الآية التالية بالعطف البياني على مضامين آية البحث بأن أخبر الله عز وجل عن صيرورة واقعة أحد سبباً في كشف المنافقين مع بيان حالهم قبل وأثناء وبعد المعركة، ثم بينت الآيات التالية المنزلة الرفيعة التي فاز بها الشهداء , وبينما اختصت آيتان في المقام بمصيبة المسلمين في معركة أحد وهما آية البحث والآية السابقة جاءت ثلاث آيات متتالية في الثناء على الشهداء وما فازوا به من الثواب العظيم( )، ثم اشتركوا مع المؤمنين الآخرين في بيان صدق إستجابتهم لله ورسوله في النفر للدفاع عن بيضة الإسلام بقوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
الوجه الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : بين آية البحث والآية أعلاه آية واحدة لا تبدأ بحرف عطف وهو قوله تعالى [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ …] ( ) فهل من عطف بين آية البحث وآية السياق أم أن الآية أعلاه برزخ بينهما ، الجواب هو الأول .
فان قلت ليس من إتحاد بلغة الخطاب بين الآيتين ، وقد جاءت آية السياق بصيغة الغائب بينما وردت آية البحث بلغة الخطاب للمسلمين [وَمَا أَصَابَكُمْ].
والجواب هذا صحيح إلا أنه لا يمنع من العطف بالمعنى الأعم بين الآيتين إذ جاءت آية السياق لإرادة المسلمين ، وتقدير الجمع بينهما بلحاظ معاني العطف على وجهين :
الأول : لقد منّ الله على المؤمنين وما أصابهم يوم التقى الجمعان بإذنه تعالى .
الثاني : لقد منّ الله عليكم أيها المؤمنون وما أصابكم يوم التقى الجمعان) ليكون من معاني العطف بين الآيتين أنه بعد المنّ قد يأتي الإبتلاء والشدة ، ولكن الفارق بينهما عظيم برجحان كفة المنّ الإلهي , وهو من الإعجاز من جهات :
الأولى : تقدم آية المنّ من الله على آية المصيبة والخسارة يوم معركة أحد( )، وهذا التقدم من لطف ومنّ الله على المسلمين.
الثانية : تقدم زمان منّ الله عز وجل ليكون واقية من شرور الذين كفروا وجيوشهم .
الثالثة : إرادة البشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالنصر والغلبة عند اللقاء , وفي التنزيل[وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا]( ).
الرابعة : تنمية ملكة قصد القربة عند المسلمين في أداء العبادات .
الخامسة : بيان قانون من الإرادة التكوينية ، وهو سبق المنّ من الله للمؤمنين قبل أن ينزل بهم بلاء أو خسارة .
السادسة : تأكيد قانون وهو أن الخسارة التي تأتي للمؤمنين لا تضرهم مع عظيم المنّ الذي يتفضل به الله عز وجل عليهم .
السابعة : كل شطر وموضوع من آية السياق حرز وواقية للمسلمين من آثار الخسارة، من وجوه :
الأول : إبتداء آية السياق بالمنّ والطول من عند الله ومن خصائص المنّ الإلهي السعة وإنتفاء الحد له وإن كان موضوعه تعينياً.
الثاني : وصف آية السياق للمسلمين بكونهم (مؤمنين) ووردت الآية بصيغة الألف والأم (المؤمنين)لإفادة الألف والام الجنس والعهد مجتمعين بمعنى حصر الإيمان بهم.
ومن خصائص هذا الوصف الأمن والوقاية من عند الله ، وفي التنزيل[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ]( ) فكأن الآية تقول ما دمتم فزتم بدرجة الإيمان فان الله حاميكم وحافظكم .
الثالث : تفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً للمؤمنين ، وفيه شاهد بتصديقهم بكل ما يأتي به من عند الله عز وجل.
وتقدير الآية بلحاظ آية البحث على شعب :
الأولى : رسولاً من أنفسكم معكم وإمامكم يوم إلتقى الجمعان .
الثانية : رسولاً من أنفسكم أصابه ما أصابكم يوم إلتقى الجمعان.
الثالثة : رسولاً من أنفسكم يتلو عليكم آيات الله يوم التقى الجمعان .
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين بما أصابهم يوم التقى الجمعان).
لقد نزلت بالمسلمين يوم أحد مصيبة وحلت بهم خسارة جسيمة، ويحتمل وجوهاً :
الأول : ما جرى للمسلمين يوم أحد من عمومات منّ الله عليهم.
الثاني : إنه مصيبة وخسارة .
الثالث : إنه ليس مناً ولا خسارة .
الرابع : إنه فرد جامع من المنّ والخسارة .
والمختار أنه منّ من الله عز وجل، وتكون الخسارة يوم أحد في طول نعمة رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما فيها من المواعظ والثواب والأجر ، كما يكون المنّ في المقام من وجوه :
الأول : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل أو الأسر خاصة وأن العدو صار قريباً إذ أن سلامة النبي يومئذ معجزة وفق أي تصور وحساب عسكري فلم يبق مع النبي في ميدان المعركة إلا عدد قليل من أهل بيته وأصحابه وأكثر الروايات أنه بقي معه أحد عشر.
وكان جيش المشركين ثلاثة آلاف من قريش والأحابيش من بني المصطلق وبني بن خزيمة .
(وخرج معهم أبو عامر الراهب في خمسين رجلاً من قومه)( ) وهو من الأوس بينما كان ابنه حنظلة مع جيش المسلمين وأستشهد يومئذ وجاء الأذى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من جهات:
الأولى : قلة الصحابة الذين ثبتوا معه .
الثانية : وصول حجارة الذين كفروا لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي رواية أنهم هشموا البيضة( ) التي على رأسه.
الثالثة : كثرة جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : إستمرار نزف الدم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة.
الخامسة : وقوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر الراهب ليكيد بها المسلمين
السادسة : تعدد وكثرة المشركين الذين يطلبون شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويريدون قتله ، وصيرورتهم قريبين منه .
السابعة : فقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمه حمزة بن عبد المطلب .
الثامنة : كثرة القتلى من المسلمين ، لذا حينما مرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بيوت الأنصار , وسمع النساء يبكين قتلاهن جرت دموعه على وجنتيه ، بينما كان الذين كفروا من قريش يمنعون أهل مكة من البكاء على قتلاهم .
الثاني : إبتداء المعركة بنصر سريع وساحق للمسلمين ، قال تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] ( ).
الثالث : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه في ميدان المعركة مع نفر من أهل بيته وأصحابه ، مما يدل على قانون يومئذ وهو أن المسلمين لم يفروا ولم ينهزموا أي أن فرار أكثر المسلمين لم يغير حقيقة ثبات جيش المسلمين في ميدان المعركة لأن الرسول لم يغادره .
الرابع : سقوط لواء المشركين إلى الأرض بعد قتل حملته المتعاقبين حتى حملته إمرأة منهم ، والظاهر أن المسلمين أعرضوا وعزفوا عن قتلها ترفعاً وتعففاً .
الخامس : سقوط عدد من المشركين قتلى .
السادس : سلامة المسلمين من الأسر يوم معركة أحد .
السابع : إنتهاء المعركة في يوم واحد خاصة , وأن إنسحاب جيش من ثلاثة آلاف رجل مع أسلحتهم ورواحلهم ومؤونهم أمر ليس بالهين ، ولكنه الفزع الذي تغشى الذين كفروا، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( ).
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين بيوم التقى الجمعان ) .
لقد ذكرت آية البحث والآية السابقة واقعة أحد على أنها مصيبة نزلت بالمسلمين ، ومن الآيات أنه حتى المصيبة التي تنزل بالمؤمنين هي رحمة بهم، في النشأتين ، بينما تكون المصيبة التي تلحق بالذين كفروا نقمة عليهم في الدنيا والآخرة ، وهو من مصاديق عمومات قوله تعالى [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ] ( ).
ولما قال الله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) فان الوقائع التي جرت أيام النبوة رحمة بالذات والعرض فان قلت قد نعتت الآية وقائع معركة أحد بأنها مصيبة .
والجواب هذا صحيح، وليس من تعارض بين الرحمة والمصيبة التي تأتي بإذن الله وفي طول رحمة الله تعالى ، وهل يصح تقدير آية البحث : وما أصابكم يوم إلتقى الجمعان رحمة للعالمين).
الجواب نعم، وهو من إعجاز القرآن والصلة بين آياته ونظمها .
لتكون وقائع معركة أحد من رحمة الله من جهات :
الأولى : وقائع معركة أحد رحمة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته ودعوته الناس للإسلام .
الثانية : معركة أحد رحمة بأهل البيت والصحابة الذين حضروا معركة أحد وغادروا ساحة المعركة سالمين .
الثالثة : معركة أحد رحمة بالشهداء لحياتهم عند الله عز وجل من حين مغادرة ساحة المعركة .
الرابعة : لقد أراد الله عز وجل من معركة أحد موعظة للمسلمين جميعاً، وهي مناسبة لإقتباس المواعظ والدروس منها ، ومن مصاديق قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( ).
الخامسة : معركة أحد رحمة بأهل المدينة من المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات وأهل الكتاب من يهود المدينة رجالاً ونساءً .
فلابد أن الخوف دبّ إلى نفوسهم عند مجئ جيوش الذين كفروا ووصولها إلى مشارف المدينة ولكن ما أن عادوا إلى مكة وانتهت المعركة وعاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سالماً غانماً حتى تغشت أهل المدينة الطمأنينة وهو من مصاديق مصاحبة السكينة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ومن مصاديق قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا]( ).
وقد تقدم تقدير الجمع بين آية البحث وآية المنّ بأن الله عز وجل منّ على المسلمين بيوم التقى الجمعان، فهناك مسألتان :
الأولى : القتال مبغوض ذاتاً لقوله تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
الثانية : كان يوم معركة أحد يوم مصيبة على المسلمين.
والجواب على المسألة الأولى أن معركة أحد فرضت على المسلمين ، ولم يطلبوها ، ولم يندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين للخروج إلا بعد أن بلغته الأخبار بأن جيش المشركين صار قريباً من المدينة المنورة .
مع أن الأخبار والوعيد والإنذارات كانت تصل من كفار قريش من حين إنتهاء معركة بدر بالخزي لهم، فمن الآيات في المقام أن مكة بلدة يفد إليها الناس من الآفاق والقرى للحج والعمرة والتجارة ، ويختلطون بأهلها ويجتمعون معهم في البيت الحرام ، وفي المشاعر ويتعذر إخفاء ما يجري فيها بالإضافة إلى وجود بقية من المسلمين في مكة لم يهاجروا بعد ودخول جماعات وأفواج في المسلمين خاصة بعد معركة بدر .
ويقال أن العيون نقلوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبار استعداد قريش لمعركة أحد ، والمختار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجعل عيوناً عليهم يومئذ فقد كانت تصل الأخبار تباعاً بالإضافة إلى الوحي والتنزيل ، إذ يبلغ جبرئيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحال قريش ومستقبل الأيام والوقائع .
أما الجواب على المسألة الثانية فيوم أحد أعم من المصيبة , وبين حوادث يوم أحد وبين المصيبة التي تذكرها الآية السابقة عموم وخصوص مطلق .
وتدل عليه آية البحث , إذ كانت الحوادث يومئذ أعم وفيها النصر والمغنم، والغبطة والحزن والأذى ، وفيها نزول آيات قرآنية خاصة بمعركة أحد صارت ضياء ينير للمسلمين سبل الفلاح في الحرب والسلم .
لقد انقضت وقائع معركة أحد في ذات اليوم الذي بدأت فيه , أما مصاديق المنّ والرحمة فهي باقية إلى يوم القيامة، ويمكن تأسيس قانون في المقام :
الأول : ترشح المنّ من الله على المسلمين في كل واقعة جرت لهم .
الثاني : كل واقعة مدرسة مستقلة في منّ الله على المسلمين .
الثالث : ليس من حصر لمصاديق المنّ الإلهي على المسلمين في كل واقعة جرت لهم .
الرابع : ينهل المسلمون والناس من وقائع الإسلام الأولى طوعاً وقهراً ، قال تعالى [فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ] ( ) .
الخامس : خلود وقائع معركة أحد عند أجيال المسلمين.
السادس : شعور كل مسلم ومسلمة بالحزن والأسى عند ذكر معركة أحد، ومن الإعجاز أن الآيات التي نزلت فيها أعظم مواساة للمسلمين، ومن الشواهد على تجدد مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) كل يوم من أيام الحياة الدنيا .
السابع : يوم التقى الجمعان منّ من الله على المسلمين ، ولمّا تفضل الله عز وجل وأنزل قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) وأمر كل مسلم ومسلمة بتلاوة هذه الآية عدة مرات كل يوم على نحو الوجوب العيني الذي لا تغني فيه تلاوة بعضهم عن بعض فان يوم التقى الجمعان ودلالته من السبل التي تهدي المسلمين إلى الصراط المستقيم ، وإلى طرق الهداية والرشاد.
ويمكن تأسيس قانون بلحاظ المسألة الثالثة هذه من وجوه :
الأول : لقد منّ الله على كل جيل من المسلمين بسلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم التقى الجمعان .
الثاني : لقد منّ الله على أجيال المسلمين بيوم التقى الجمعان في معركة أحد .
الثالث : لقد منّ الله على المسلمين ببقاء حوادث يوم التقى الجمعان حاضرة في وجدانهم ومنتدياتهم.
وهل هذا الحضور فرع حضورها في مساجدهم وقيامهم بتلاوة آيات معركة أحد في الصلاة اليومية ، الجواب نعم ، وهو من أسرار وجوب قراءة القرآن في الصلاة لكي تبقى وقائع الإسلام حاضرة في الوجود الذهني ، وتجري على الألسن وينتفع منها المسلمون في أقوالهم وأفعالهم ، وبواسطة إنزجار الناس عن إيذائهم والإضرار بهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ]( ).
المسألة الرابعة : لقد منّ الله على المؤمنين يوم التقى الجمعان بإذن الله).
إن الله عز وجل هو المنّان الذي يستوعب منّه آنات الزمان ويسبقها ويتأخر عليها ، وفيه جهات :
الأولى : في كل دقيقة من ساعات الحياة الدنيا هناك منّ عظيم لله عز وجل على الفرد والجماعة والأمة .
الثانية : هناك منّ لذات الساعة تقدم عليها .
الثالثة : تفضل الله عز وجل بمنّ آخر لتلك الدقيقة بالخصوص تأخر عنها .
فان قلت قد علمنا المنّ الذي يأتي قبل الأوان مقدمة له والمنّ الذي يحضر في ذات وقت القول أو الفعل ، فكيف يأتي المنّ المتأخر، الجواب من جهات :
الأولى : إرادة التدارك في القول والفعل .
الثانية : المنّ من عند الله بالنصرة زجر للذين كفروا عن التعدي، ومنّ من الله لجذب الناس للإيمان.
الثالثة : محو آثار الفعل التي فيها ضرر , فيفعل العبد فعلاً وتترتب عليه طوعاً وقهراً أضرار ، ولكن الله عز وجل يتفضل بمحوها وإزاحتها .
الرابعة : تثبيت المنافع التي تترتب على القول أو الفعل الذي يقوم به العبد.
الخامسة : مجئ الثواب العاجل من عند الله عز وجل للمسلم .
مجئ الثواب العاجل من عند الله عز وجل للمسلم .
السادسة : صلاح الذرية بقيام المسلم بالعمل الصالح وصبره في ذات الله ، وفي قوله تعالى [وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا] ( ) .
وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام(أنه كان بينهما وبين ذلك الاب الصالح سبعة آباء وقال: إن الله ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده وولد ولده وأهل دويرته ودويرات حوله، فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله)( ).
وهذه المعاني من مصاديق ما تقدم قبل أربع آيات بقوله تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ]( ) فمن معانيه ترشح الفضل وتوالي المنّ من عند الله على المسلمين لما يصيبهم من الأذى والضرر ، ويكون من وجوه تقدير الجمع بين الآيتين : لما أصابهم يوم التقى الجمعان ، بأذن الله).
مما يدل على أن منافع عظيمة وقعت للمسلمين ومصائب عديدة إنصرفت عنهم يوم معركة أحد , وتتجلى هذه الحقيقة مع أدنى تدبر في أحداث معركة أحد .
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين، لقد منّ الله على المؤمنين ليعلم المؤمنين ) وفيه وجوه :
الأول : لقد تكرر لفظ المؤمنين في آية البحث والسياق ، وليس بينهما إلا آية واحدة لبيان حب الله لهم ، ونزول رحمة خاصة منه تعالى لهم، وقد ذكرت آية البحث المؤمنين بصيغة المفعول به ونزول منّ الله عليهم، وتلقيهم له بصفة الإيمان مما يدل على إنتفاعهم منه أحسن إنتفاع .
ثم أخبرت آية البحث عن إرادة الله عز وجل العلم بالمؤمنين وإتضاح صدق إيمانهم وصبرهم، وهو سبحانه أعلم بهم ، ولكن لتتجلى مصاديق عالم الأفعال التي تدل على إيمانهم، وصلاحهم، وتقواهم .
وتحتمل النسبة بين لفظي المؤمنين في قوله تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ) وقوله تعالى [َلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( )وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي بلحاظ إتحاد اللفظ .
الثاني : نسبة العموم والخصوص من وجه ، وأن هناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
الثالث : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : لفظ المؤمنين في آية السياق أعم وأوسع.
الثانية : لفظ المؤمنين في آية البحث هو الأعم .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثالث أعلاه إذ يأتي المنّ على أدنى تلبس بالإيمان ، وإذا أعطى الله فانه يعطي بالأكثر وللأكثر الأعم، وهذه السعة من مصاديق المنّ الإلهي ، وقد كانت آيات القرآن ومعجزات النبوة تصل للناس جميعاً ليتدبروا فيها، وفي التنزيل[بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ]( ).
الثاني : من أسماء الله المنّان ) وهو من أبنية المبالغة كالوّهاب والجبار وفيه نوع تحد للناس بالعجز عن إحصاء منّ الله عليهم أو الإحاطة به وبمصاديقه وأفراده , وهو من تجليات البيان في قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) .
لقد خلق الله عز وجل الخلائق بمنّه ، ونفخ من روحه في آدم وجعله خليفة في الأرض بمنّه وطوله ، ومن الإعجاز في منّ الله إتصاله وتجدده , ومنه بقاء الخلافة في ذرية آدم عليه السلام .
لقد أخبرت آية البحث عن منّ الله على المؤمنين لبيان قانون وهو متى ما أبتلى المسلمون وامتحنوا يكون منّ الله عليهم سبباً في ثباتهم في مقامات الإيمان والهدى ، وبرزخاً دون إصابتهم بالوهن والضعف أو دبيب الشك إلى نفوسهم.
ومن معاني منّ الله في المقام هو أن النعمة السابقة مناسبة ووسيلة لبعث المسلمين على الصبر عند الإبتلاء في ذات الموضوع والمسألة ، وهو من مصاديق تفضيل المسلمين بقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
بأن تحيط بهم النعم عند الإبتلاء، وهل قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] من المنّ المصاحب للمصيبة ، الجواب نعم .
الثالث : لقد وقعت معركة أحد بين المسلمين والذين كفروا، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] وهل يمكن القول بأنه لولا بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما وقعت معركة أحد .
الجواب نعم ، وما كانت الهجرة وخروج المهاجرين والأنصار من الأوس والخزرج إلى المعركة ، ولكان المهاجرون تحت نير الملأ من كفار مكة ، وكان الأوس والخزرج مشغولين بالخلاف والخصومات فيما بينهم، ومع يهود المدينة الذين كانوا على ثلاثة قبائل وهم:
الأولى: بنو قينقاع .
الثانية : بنو النضير .
الثالثة : بنو قريظة .
وقد أخبرت آية السياق عن منّ الله عز وجل على المؤمنين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكرت آية البحث نزول مصيبة الخسارة بالمسلمين في معركة أحد ليعلم الله المؤمنين، ولولا بعثته صلى الله عليه وآله وسلم لبقى الناس في حال جهالة وغزو وإقتتال فيما بينهم ووأد للبنات وشيوع لمفاهيم الكفر والمنكرات، وجحود برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي رفعت لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلى يوم القيامة، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ]( ) .
فقد لا يكون هناك فصل تام بين المؤمنين والمنافقين عند النصر في معركة بدر ، قال تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ] ( ).
لقد تغيرت الأرض وما عليها نحو الأحسن والأفضل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذا في كل موطن وموضع يضئ بالإيمان , فتكون السعة والمندوحة والأمن والبصيرة ، فان قلت كانت هناك معارك لولا البعثة والهجرة لم تقع كما في معركة بدر وأحد التي جاءت آية البحث خاصة بها .
والجواب هذا صحيح ، ولكن تلك المعارك كانت رحمة للناس في أجيالهم المتعاقبة ، وفي التنزيل [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ]( ).
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين آية السياق والبحث : يتلو عليهم آياته يوم التقى الجمعان ).
ويحتمل المعنى على هذا المبنى والتقدير وجوهاً :
الأول : يتلو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن على المسلمين يوم معركة أحد يوم التقى الجمعان .
الثاني : يتلو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين آيات القرآن التي تتعلق بواقعة أحد .
الثالث : يتلو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية البحث التي تخبر عن نزول المصيبة بالمسلمين .
الرابع : يتلو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين آيات القرآن لبعث السكينة في نفوسهم ، وبعثهم على إستحضار ذكر الله عز وجل , وفي خطاب إلى المسلمين والمسلمات قال تعالى[وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ]( ).
ومن معاني الوجه الأول أعلاه مسائل :
الأولى : بيان حاجة المسلمين في ميدان المعركة لتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن .
الثانية : مصاحبة آيات القرآن للمسلمين حتى في ميدان المعركة .
الثالثة : منّ الله عز وجل على المسلمين بتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن في ميدان المعركة ، ولو دار الأمر بين أمور :
الأول : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن على المسلمين قبل معركة أحد .
الثاني : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن على المسلمين أثناء معركة أحد .
الثالث : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة آيات القرآن على المسلمين بعد معركة أحد .
والصحيح هو الجمع بين هذه الأمور وكلها صحيحة ، وهو من مصاديق آية السياق وقوله تعالى [يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ] ( ) فان قلت قد لا تكون هناك روايات تدل على تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض هذه المواقف .
والجواب تدل عليه آية السياق وإرادة العموم منها ، وهل قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن في الصلاة من مصاديق التلاوة، الجواب نعم، لذا أمر الله بصلاة الخوف في ميدان المعركة، ويحتاج المسلمون التلاوة في ميدان القتال أكثر وأشد مما في حال السلم والأمن .
وأما بالنسبة للوجه الثاني أعلاه فمن إعجاز القرآن أن آيات معركة أحد سبقتها وتأخرت عليها ، ومن الأولى قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
ومن الآيات ما تعلقت ببداية معركة أحد كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ…]( ) لموضوعية بداية معركة أحد في تأريخ المسلمين والمسلمات وإلى يوم القيامة ولبيان قانون من جهات :
الجهة الأولى : تفضل الله عز وجل بالوعد الكريم للمسلمين ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ ….]( )الجواب نعم .
لتحمل آيات القرآن في ثناياها البشارة التي تتجلى في الشطر أعلاه من الآية الثانية والخمسين بعد المائة( ) من جهات :
الأولى : وعد الله عز وجل للمسلمين بخصوص المعركة وقتالهم ضد الذين أشركوا ، فليس من أمة وعدها الله عز وجل في ميدان المعركة مثل المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
الثانية : مصاحبة وعد الله عز وجل للمسلمين في الطريق إلى المعركة وعند بدء القتال .
الثالثة : تجلي مصداق وعد الله عز وجل للمسلمين في الساعات الأولى من معركة أحد ، وتوالي سقوط من يحمل اللواء من المشركين صرعى.
الرابعة : تحقق نصر المسلمين في بداية المعركة مع إنخزال وإنسحاب ثلث جيش المسلمين في الطريق ، مما يدل على أن هذا الإنخزال وقبح فعل المنافقين لم يضر المسلمين في صبرهم وجهادهم في سبيل الله .
الخامسة : تحقق غلبة المسلمين في بداية معركة أحد بأذن الله عز وجل ، ومن معاني الآية وجوه :
أولاً : لقد نزل الملائكة مدداً لكم بإذن الله .
ثانياً : لقد قتلتم المشركين في بداية المعركة باذن الله ).
وحينما قتل الإمام علي عليه السلام أباً سعد بن أبي طلحة صاحب لواء المشركين انصرف عنه , ولم يجهز عليه فقال للإمام علي عليه السلام (بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه ؟ فقال: إنه استقبلني بعورته فعطفتني عليه الرحم وعرفت أن الله قد قتله)( ).
ثالثاً :حضور إذن الله من بداية المعركة وتجلي مصاديقه بغلبة المسلمين وتوالي سقوط القتلى من المشركين ، وإبتداء القتل بحملة لوائهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]( ).
فحينما يسقط صاحب اللواء ثم يحمله غيره ويخر صريعاً وهكذا الثالث والرابع والخامس في ساعة من نهار فان الفزع والهلع ينفذ إلى قلوب المشركين فلا غرابة أن تسارع نساؤهم إلى الإبل لإمتطائها، والهرب المبكر من ميدان المعركة، ليقطعن مسافة قبل مطاردة المسلمين لهن ووقوعهن سبايا.
وهل يختص الخوف والفزع بالمشركين الذين حضروا معركة أحد عند تتابع قتل حملة لوائهم، الجواب لا، فقد كانت رسالة إلى أصحابهم الذين من خلفهم وإلى المنافقين، وزاجراً عن محاربة الإسلام.
رابعاً : دعوة المسلمين لشكر الله عز وجل على إذنه بغلبتهم للمشركين في أول معركة أحد ، وبيان قانون وهو أن إذن الله نعمة على المسلمين ، وليس فيه إلا الخير والفلاح لهم في الدنيا والآخرة ، فقد كان نصر المسلمين في بداية المعركة باذن الله لقوله [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] ولحوق الخسارة بالمسلمين يوم معركة أحد باذن الله ، مما يدل على كبرى كلية , وهي من جهات :
الأولى : ما يقع للمسلمين من النفع أو الأذى بإذن الله .
الثانية : زيادة إيمان المسلمين بعلمهم بأن وقائع المعركة لا تجري إلا بإذن الله .
الثالثة : دعوة المسلمين للدعاء والمسألة والرجاء لينزل إذن الله بنصرهم وهزيمة الذين كفروا في أول ووسط وآخر المعركة، وفي التنزيل[وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ]( ).
الرابعة : إرادة بيان موضوعية دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانقطاعه للمسألة والدعاء في معركة بدر وأحد .
وهذا الإنقطاع سلاح الأنبياء ، وقد ورد قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] في الآية الثانية والخمسين بعد المائة من سورة آل عمران والتي تتعلق بمعركة أحد إبتداء وانتهاء , وإختصاص الإذن بأوان أول معركة ، ولم يأت في نظم هذه الآيات إلا في آية البحث وهي الآية السادسة والستون بعد المائة وبقوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
وكل من فردي الإذن بخصوص واقعة أحد ، ويخص الاذن الوارد في آية البحث ما أصاب المسلمين من النكسة وخسارة جولة من المعركة مع الذين كفروا ، وفقدان سبعين شهيداً في أرض المعركة.
الجهة الثانية : لقد ورد قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ..]ولم تبين الآية كيفية الوعد، ويحتمل وجوهاً :
الأول : مجئ الوعد في آية قرآنية .
الثاني : تجلي الوعد من الله بالوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما لو كان من الحديث القدسي .
الثالث : إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن وعد الله عز وجل في السنة النبوية ، لعمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) .
الرابع : رؤيا نبوية صادقة يراها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي تجلى في رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الخروج إلى معركة أحد.
ومن مختصات معركة أحد ذكر رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصها وجعل موضوعية لها في شوق المسلمين للقاء العدو وفيه نزل قوله تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ).
ولما أقبلت جيوش الذين كفروا من قريش وحلفائهم وصاروا قريبين من المدينة رآى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا .
وعن ابن إسحاق (فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة.
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون قال لهم: “قد رأيت والله خيرا، رأيت بقرا تذبح، ورأيت في ذباب سيفي ثلما، ورأيت أنى أدخلت يدى في درع حصينة، فأولتها المدينة”)( ).
و(عن أبى بردة، عن أبى موسى الاشعري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” رأيت في المنام أنى أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب.
ورأيت في رؤياي هذه أنى هززت سيفا فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين.
ورأيت فيها أيضا بقراً، والله خير ، فإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذى أتانا بعد يوم بدر”)( ).
والمراد من ذهب وهلي أي أول ظني ، مما يدل على قانون وهو أن الوحي في المنام قد يأتي مجملاً ثم يكون في المصداق مبيناً جلياً، ولا ينحصر هذا البيان بأوان الفعل , ويكون قول وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم موافقاً لمضمون الوحي ، فقد تبادر إلى ذهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن المراد هجرته إلى اليمامة أو إلى هجر واسمها الإحساء في هذا الزمان مما يدل على أنها بلدة عريقة عامرة ذات تأريخ ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرجو إيمان أهلها وفي قوله (ورأيت في رؤياي هذه) تعيين وتخصيص فالظاهر أن الحديث يشمل أكثر من رؤيا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد ورد حديث الرؤيا في معركة أحد على نحو مستقل وبأكثر من طريق، ورؤياه حق وصدق، ولكن هذا الخبر يبين حقيقة وهي أن رؤيا النبي ضياء وإشراقة لقادم الأيام ، ونوع هداية للرشاد وسبيل للعمل النافع وجلب المصلحة ودفع المفسدة .
الجهة الثالثة : قانون منّ الله على المسلمين في كل معركة من معارك الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ …] ( ) ففي معركة من معارك الإسلام هناك منّ وطول وإحسان من الله عز وجل على المسلمين يتجلى بفضل من الله ونصر ومغانم للمسلمين مع عدم توفر الأسباب والعلة له إلا منّ الله سبحانه.
لقد وفى الله عز وجل بوعده إلى المسلمين في بدايات معركة أحد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
وهل يختص هذا الوعد بهذه المعركة، الجواب لا، إنما هذه المعركة بشارة ومفتاح لمعارك أخرى مشابهة لبيان أن وعد الله عز وجل متحد في سنخيته , ولكنه متعدد ومتجدد في مصداقه .
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين آية السياق والبحث : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته باذن الله ).
من أسماء الله عز وجل (المنّان) وهو الذي يمنّ على الخلائق كلها ، ومنهم الناس مجتمعين ومتفرقين ، ويكون المصداق المتحد من المنّ الإلهي على وجوه :
الأول : ما يتغشى الناس والخلائق .
الثاني : ما يعمّ الناس جميعاً .
الثالث : المنّ الذي يأتي للمسلمين .
الرابع : المنّ الذي يختص به المؤمنون .
الخامس : المنّ والطول من عند الله الذي يأتي للقبيلة والأسرة .
السادس : المنّ والإحسان الذي يتلقاه الفرد الواحد من الناس .
وليس من حد أو منتهى أو انقطاع في الكم أو الكيف لكل واحد من الوجوه أعلاه ، وتقدير آية السياق على وجوه :
الأول : لقد منّ الله على المؤمنين بالإيمان ، وفي التنزيل [قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ] ( ).
الثاني : لقد منّ الله على المؤمنين إلى يوم القيامة ، إذ أن منافع وتجليات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم متصلة [مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ]( ).
الثالث : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ليمن عليهم يوم القيامة بالثواب العظيم على الإيمان .
الرابع : لقد منّ الله على المؤمنين بمشيئته واذنه، وفيه شاهد على أن الله عز وجل لم يترك الناس وشأنهم ، إنما أكرمهم بالمنّ المتصل الذي يجعل الدنيا روضة ناضرة.
ومن الآيات أن جعل الله الإنسان محتاجاً إلى الأكل والشرب على نحو يومي متصل مثلما هو محتاج إلى عبادة الله في كل يوم ، وكأن هناك نوع ملازمة وصلة بين فردي الحاجة أعلاه ، لبيان قانون من جهات :
الأولى : يأتي الرزق الكريم بالعبادة .
الثانية : عبادة الله كل يوم واقية من البلاء .
الثالثة : محو المصائب على الناس بالعبادة، ومن مصاديقه قوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الرابعة : دوام الحياة الدنيا بالعبادة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
ليكون من معاني آية السياق أن الله عز وجل أراد للناس دوام الحياة والتنعم بالدنيا وذخائر الأرض وكنوز السماء ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ففيها تعاهد لعبادة الأرض، وتطل في كل يوم على الناس آيات القرآن التي تأمر بالصلاة والزكاة ، والتي تتضمن الحث على الصيام والتي جاءت بوجوب حج بيت الله الحرام , والتي تندب الناس إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهل في قوله تعالى [رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ] ( ) حث للمسلمين للدعوة إلى الله , وجذب الناس إلى منازل الإيمان.
الجواب نعم ، فمن معاني التبعيض في قوله تعالى [مِنْ أَنْفُسِهِمْ]أن المؤمنين صاروا حملة للواء الرسالة ، وتجلى هذا المعنى بدفاعهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل في معارك الإسلام ، ومنها معركة أحد التي جاءت آية البحث بخصوصها ، ليكون ما أصاب المسلمين يومئذ جهاداً من جهات :
الأولى : إعلان كلمة التوحيد ، ومحاربة عبادة الأوثان .
الثانية : نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذب عنه ، وصرف سيوف وسهام ونبال وحجارة الذين كفروا عنه .
الثالثة : دفاع المسلمين عن أنفسهم، ودفع القتل عنهم .
الرابعة : ملاقاة العدو الكافر في ميدان القتال لمنعه من إكراههم على ترك سنن الإيمان ، قال تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا]( ).
الخامسة : يدل سقوط القتال عن النساء بالدلالة التضمنية على قانون وهو دفاع المؤمنين عنهن.
وهل كان دفاعهم في معركة بدر وأحد والخندق عن المؤمنات خاصة , الجواب لا ، إنما كان دفاعاً عنهن وعن جميع نساء المدينة ، ومنهم عوائل يهود المدينة من بني قينقاع والنضير وقريظة وغيرهم ، وعن الذراري في أنفسهم وأسباب هدايتهم.
(ولما سار ثعلبة بن عمرو بن عامر فيمن معه اجتازوا بالمدينة، وكانت تسمى يثرب، فتخلف بها الأوس والخزرج ابنا حارثة فيمن معهما، وكان فيها قرىً وأسواق وبها قبائل من اليهود من بني إسرائيل وغيرهم، منهم قريظة والنضير وبنو قينقاع وبنو ماسلة وزعورا وغيرهم، وقد بنوا لهم حصوناً يجتمعون بها إذا خافوا. فنزل عليهم الأوس والخزرج فابتنوا المساكن والحصون، إلا أن الغلبة والحكم لليهود إلى أن كان من الفطيون ومالك ابن العجلان، فعادت الغلبة للأوس والخزرج، ولم يزالوا على حال اتفاق واجتماع إلى أن حدث بينهم حرب سمير)( ).
وتتضمن هذه المسألة وهي السابعة في الصلة بين آية البحث والسياق قانوناً وهو أن النبي محمداً لا يتلو آيات القرآن على المسلمين إلا بإذن الله عز وجل ، وذات مضمون التلاوة وحي.
ترى ما هي النسبة بين إذن الله والوحي ، الجواب فيه وجوه :
الأول : نسبة التساوي، وأن الإذن من الله هو ذاته الوحي .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق وأن الإذن من الله أعم من الوحي .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، وأن هناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين الإذن الإلهي والوحي .
والمختار هو الثاني أعلاه وأن الإذن من الله عز وجل أعم من الوحي لذا ذكرت آية البحث الإذن بخصوص مالحق المسلمين من الخسارة يوم أحد، ويدل عليه قوله تعالى [فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ]( ).
وينزل الله عز وجل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين باذنه ، وتضمن قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) الإخبار عن قانون وهو نصر الله عز وجل للمسلمين في معركة بدر.
وهل يصح تقدير الآية أعلاه : ولقد نصركم ببدر بإذن الله وأنتم أذلة) الجواب نعم يصح ، ولكن لا تصل النوبة إليه ، فقد أخبرت الآية بأن الله عز وجل هو الذي نصر المسلمين في معركة بدر، وهي مرتبة أسمى من التقدير أعلاه ، لبيان إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر على نحو الخصوص والتعيين ، وفيه دعوة للعلماء لإستنباط وجوه الحكمة وبديع الصنع في معركة بدر وحاجة الناس لنصر المسلمين فيها ، إذ جرت في بضع ساعات من نهار اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة والموافق سنة (623) ميلادية ، لتتغير معها الدنيا وتعود روضة ناضرة تتزين بعطر الإيمان .
ولقد إحتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، وهل هذا الإحتجاج بإذن الله ، الجواب نعم ، إذ أنهم لا يتكلمون ولا يفعلون شيئاً إلا بإذن الله عز وجل ، ليأتي الجواب والبرهان منه تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
فيكون هذا الجواب حجة على الناس ودعوة لهم للإيمان ، وحثاً لهم للتوقي من الفساد والإفساد في الأرض وجاء نصر المؤمنين في معركة بدر وخسارتهم في معركة أحد لتثبيت معالم الإيمان في الأرض .
وتحتمل مضامين آية البحث [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ..]( ) بلحاظ الآية أعلاه من سورة البقرة وجوهاً :
الأول : إنه من مصاديق الخلافة في الأرض ، إذ أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً للناس من أبهى مصاديق خلافة الإنسان في الأرض .
الثاني : لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس جميعاً لتثبيت سنن الخلافة في الأرض إلى يوم القيامة .
الثالث : من خصائص خلافة الأنبياء في الأرض قتال الذين كفروا ، وجذب الناس إلى منازل الإيمان، نعم ليس كل الأنبياء قاتلوا الذين كفروا، قال تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
الرابع : نصر الله عز وجل للخليفة في الأرض على الذين يمتنعون عن إقامة الشعائر العبادية في الأرض ، وفي التنزيل [فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ولما ذكرت الملائكة علة إحتجاجها على جعل الإنسان خليفة في الأرض لأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، قال تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
ومن علم الله عز وجل وقوع معركة بدر وأحد والتقاء الجمعين، ليخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سالماً من كل من المعركتين، ومن خصائص معارك الإسلام الأولى أن المشركين كانوا يسعون إلى قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ليكون من معاني قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] علم الله عز وجل بتثبيت سنن النبوة والتنزيل في الأرض بالدفاع والجهاد في سبيل الله ، وأن الفساد في الأرض يحاربه المؤمنون ويدفعونه عن أنفسهم وعن الناس.
المسألة الثامنة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ليعلم المؤمنين ).
من الإعجاز في نظم هذه الآيات ورود كلمة المؤمنين في آية السياق وآية البحث .
وتحتمل النسبة بينهما وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي وأن المؤمنين الذين بعث الله عز وجل الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لهم هم ذاتهم الذين ذكرتهم آية البحث .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق، وفيه شعبتان :
الأولى : الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعم وأكثر من الذين أراد الله العلم بهم كما في آية البحث .
الثانية : المؤمنون الذين ذكرتهم آية السياق أقل من الذين ذكرتهم آية البحث .
الثالث : النسبة بين المؤمنين في الآيتين هي العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
والمختار هو الوجه الأول أعلاه ، وأن النسبة بين مصداق المؤمنين في الآيتين هو التساوي ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة المؤمنين الذين خرجوا لمعركة أحد ودخلوا المعركة تحت لواء النبوة .
الثاني : المقصود المؤمنون أيام الرسالة والتنزيل .
الثالث : المراد المؤمنون إلى يوم القيامة .
الرابع : إرادة المؤمنين من أيام أبينا آدم وإلى يوم القيامة .
والمختار هو الثالث أعلاه ، وهو من أسرار توثيق وقائع معركة أحد في القرآن، وسلامته من التحريف والتبديل إلى يوم القيامة ، فيتلوا المسلمون والمسلمات في كل زمان ومكان آية السياق ، ويدركون قانوناً وهو أن الله عز وجل بعث رسوله الكريم من بين ظهرانيهم ومن أجل سلامتهم ونجاتهم في النشأتين، ويتلون آية البحث فيحسون بألم المصيبة ، ويحزنون للخسارة التي أصابت المسلمين ، وللجراحات البليغة التي نزلت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ، وكأن واقعة معركة أحد وقعت هذا اليوم .
ومن خصائص المؤمنين في المقام تلقي أخبار واقعة أحد بالتصديق والقبول ، مع إقتباس وجوه الإعجاز منها ، وتدعو كل من آية البحث والسياق إلى التدبر في مصاديق نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، ويمكن إنشاء قوانين وأبواب في تفسير كل آية من القرآن من وجوه :
القانون الأول : دلالة الآية على نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
القانون الثاني : بيان الآية لنصر الله للمؤمنين .
القانون الثالث : خذلان آية البحث للذين كفروا.
إن فتح هذه الأبواب في تفسير كل آية ، وجعل كل واحد منها مستقلاً في البحث والتحقيق ليكون مدخلاً لإستنباط المسائل ومناسبة لإستقراء العلماء الأعم من الدلالات التي تدل عليها كل آية قرآنية من جهات :
الأولى : الذخائر الكامنة في كل آية قرآنية .
الثانية : الخزائن العلمية والعقائدية في كل آية قرآنية، وتتصف هذه الخزائن بوجوه :
أولاً : إستدامة الفيض من الآية القرآنية وهو على شعبتين :
الأولى : الفيض من ذات العلوم التي تم إستقراؤها من ذات الآية القرآنية .
الثانية : تجدد وجوه وكنوز مستحدثة من المضامين القدسية للآية القرآنية.
ثانياً : معاني ودلالات الآية القرآنية من اللامتناهي .
ثالثاً : دعوة علوم الآية القرآنية العلماء عامة المسلمين لإستنباط المسائل منها .
رابعاً : عدم وجود برزخ بين المسلمين وخزائن الآية القرآنية، وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة آيات من القرآن خمس مرات في اليوم في الصلاة الواجبة ، وتتصف هذه التلاوة بأمور :
الأول : تلاوة المسلمين والمسلمات آيات وسور القرآن كما نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : ألفاظ الكلمات وضبط أواخرها .
الثانية : ترتيب الكلمات والجمل ضمن الآية الواحدة بداية ووسطاً وخاتمة .
الثالثة : عربية التلاوة وإجماع علماء الإسلام بوجوب تلاوة المسلمين القرآن في الصلاة بالعربية إلا النادر ، إذ نسب إلى أبي حنيفة القول بجوازها بغير العربية .
ومن وجوه الإستدلال على لزوم القرآن بالعربية قوله تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ) وآيات أخرى ويمكن الإستدلال بقوله تعالى [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] ( ) والمراد من قرآن الفجر صلاة الصبح وتلاوة المسلمين فيها لتشهد ملائكة الليل والنهار صلاة الصبح ،(عن أبي الدرداء قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : { إن قرآن الفجر كان مشهوداً} قال : يشهده الله وملائكة الليل وملائكة النهار)( ).
ومن الأدلة من السنة النبوية قوله صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي) ( ) وصلاة الصحابة غير العرب بالعربية على نحو الوجوب مثل سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال وغيرهم ممن دخل الإسلام .
الثاني : حصر وتعيين تلاوة القرآن في الصلاة باللغة العربية مع إمكان معرفة ترجمة كلمات القرآن .
الثالث : وجوب القراءة على كل مسلم ومسلمة على نحو فرض العين ، إذ ينقسم الواجب بلحاظ إتيانه من قبل الفرد أو الجماعة إلى أقسام :
أولاً : الواجب العيني وهو الذي يجب على كل مكلف ومكلفة، ولا يجوز البدلية الشخصية فيه ، فمثلاً يجب على المسلم صيام شهر رمضان ولا يحق له إنابة غيره لصيامه ، وإن أناب لا تبرأ الذمة للخطاب التكليفي العيني ولقاعدة الاشتغال ، ثم أن المسلم الآخر مأمور بالصيام عن نفسه وليس بدلاً عن غيره ، ولا يصح الصيام من غير المسلم لإشتراط قصد القربة ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
ثانياً : الوجوب الكفائي، وهو الذي إن أداه فرد من الجماعة تبرء ذمة الجميع ، وإن إمتنعوا جميعاً عن أدائه أثموا مثل رد السلام الذي هو واجب يجزي فيه الرد المتحد.
ثالثاً : قد أسسنا قسيماً ثالثاً للوجوب العيني والكفائي , ويكون برزخاً بينهما كما في بعض مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
رابعاً : الوجوب العيني التفرع عن وجوب مثله، مثل تلاوة القرآن في الصلاة.
خامساً : الوجوب الكفائي المتفرع عن الوجوب العيني، كما في قراءة الإمام القرآن وفيه إجزاء عن المأمومين، ويمكن تقسيم هذا القسم إلى الوجوب التعييني الراتب والوجوب غير الراتب.
سادساً : الوجوب الفردي المتفرع عن الوجوب الكفائي كما في بعض الحالات التي تستلزم الإنفاق من الميسور في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودفع الفتن.
الرابع : تفضل الله عز وجل على المسلمين والمسلمات بجعل قراءتهم للقرآن أمراً ميسوراً وممكناً من غير مانع أو عائق ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) الجواب نعم .
لقد إجتمع أمران عام وخاص لتجلي صدق الإيمان ، أما العام فهو بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأما الخاص فهو الخسارة في معركة أحد، وقد جاء النصر في معركة بدر ولم تخبر آية ببدر عن كونها نوع طريق للعلم بالمؤمنين ، إنما تضمنت الآية الأمر للمسلمين بتقوى الله عز وجل والخشية منه ، والحث على شكرهم له عز وجل .
ومن مصاديق التقوى في الآية أعلاه بلحاظ آية البحث أمور :
الأول : الخروج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لملاقاة الذين كفروا في معركة أحد .
الثاني : عدم الإنسحاب في الطريق إلى المعركة .
الثالث : طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص تعيين مواضع المسلمين في المعركة .
الرابع : إظهار حسن التوكل على الله في القتال، وفي التنزيل[فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).
الخامس : الإجتهاد بالدعاء لطلب النصر .
السادس : عدم مغادرة الموضع في المعركة .
السابع : التفاني في مرضاة الله .
الثامن : بذل الوسع في القتال ، وعدم الفرار من الزحف ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ]( ).
ويمكن تقدير الجمع بين الآيتين بلحاظ المسألة الثامنة هذه على وجوه:
الأول : لقد منّ الله على المؤمنين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : لقد منّ الله على المؤمنين بنزول آيات القرآن .
الثالث : لقد منّ الله على المؤمنين بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة .
الرابع : لقد منّ الله على المؤمنين بالذين آمنوا قبل الهجرة منهم.
الخامس : لقد منّ الله على المؤمنين ببيعة الأنصار من الأوس والخزرج للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بيعة العقبة الأولى، وبيعة العقبة الثانية .
السادس : لقد منّ الله على المؤمنين بهجرة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وسلامته من مخاطر الطريق ، وهذه السلامة معجزة له، ويمكن أن تؤلف مجلدات خاصة بهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة بفصول وأبواب متعددة منها :
الأولى : مصاديق ضرورة الهجرة إلى المدينة .
الثانية : عزم قريش على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه، وحتى لو نجا ليلة الفراش فأنهم لا يمتنعون عن قتله غيلة أو علانية في الليل والنهار، وفي التنزيل[وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الثالثة : تضحية الإمام علي عليه السلام في مبيته في فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتتبعهم لأثره وصاحبه للبطش بهما.
الرابعة : إختفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غار ثور ونزول قوله تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
الخامسة : جعل قريش جعلاً وجائزة لمن يأتي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يدل على أنهم كانوا يدركون ما تجلبه هجرته من خير للمسلمين ، وصيروتها مناسبة لإستضاءة الناس جميعاً من أنوار الرسالة الخاتمة التي تنفذ إلى شغاف القلوب .
السادسة : قيام بعض الكفار بمحاولة اللحاق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم للحصول على الجعل والجائزة التي جعلتها قريش لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتجلي الآيات التي تبين حفظ الله عز وجل له في الطريق.
السابعة : الوقائع التي جرت للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق المعجزة .
الثامنة : معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة .
التاسعة : صيرورة رحلة الهجرة بين مكة والمدينة سبيلاً ونوع طريق لدخول الناس في الإسلام .
العاشرة : الذخائر العلمية في الآيات القرآنية التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة .
السابع : حفظ الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أيامه الأولى في المدينة.
الثامن : وقاية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإغتيال، وهذه الوقاية متعددة بلحاظ الحال والأفراد والمناسبة.
التاسع : عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من معارك الإسلام سالماً بشخصه الكريم.
العاشر : توالي نزول آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحضر والسفر والليل والنهار.
حرب سمير
وهي حرب جرت بين قبائل الأوس والخزرج، فبعد أن كانوا على حال إجتماع ووفاق وتآخي والتسالم بأنهم أبناء أب واحد , وسببها أن رجلاً من ثعلبة بن سعد يسمى كعب بن عجلان نزل على مالك بن العجلان السالمي فحالفه وجاوره، وظلّ وفياً له في المجالس العامة والخاصة.
ورأى يوماً رجلاً من غطفان ينادي في سوق بني قينقاع: ليأخذ هذا الفرس أعز أهل يثرب، فأختلف الناس كثيراً هذا يقول أحيحة بن الجلاح الأوسي، وهذا يقول فلان بن فلان يقصد رجلاً من يهود المدينة، وذكرت أسماء أخرى، فقام الرجل بدفع الفرس إلى مالك بن العجلان، عندها قال حليفه : ألم أقل لكم أن مالكاً أفضلكم؟ فغضب رجل من الأوس من بني عمرو بن عوف أسمه(سمير) وشتمه وإفترقا.
ثم رآه سمير في سوق في محلة (قبا) فلازمه حتى خلا السوق فقتله، وعلم مالك بن العجلان بمقتل حليفه، فأرسل إلى بني عمرو بن عوف يطلب تسليم قاتله ليرى فيه أمره .
فقالوا: لا نعلم من الذي قتله، فأرسل لهم يطلب سميراً على نحو التعيين، ومن مصاديق قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، إكرام الله عز وجل للإنسان بذات أمر الخلافة.
وجاء إحتجاج الملائكة[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، ليكون من معاني قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، فضل الله في كشف وفضح القاتل .
ثم تفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمنع إستمرار القتل والحروب بين القبائل، فمن معاني الجاهلية التي كان عليها العرب الغدر والخيانة والقتل بسبب كلمة يقولها شخص، كما في قول كعب بن العجلان أن مالكاً أفضلكم، ثم وقوع القتال والمعارك بين قبيلتين من أب واحد كانوا معروفين بالتآخي والإجتماع، إذ أن مالكاً رضي بالدية، ولكن واختلفوا في مقدارها .
فقالوا : نعطيك دية الحليف، وهي نصف الدية، فأبى مالك إلا الدية كاملة ، فوقعت الحرب بينهم، واقتتلوا قتالاً شديداً ودخلت بطون الأنصار في القتال، وتجدد القتال بينهم، وفصل بينهم ظلام الليل .
وكان الرجحان لكفة الأوس أصحاب سمير فبعثوا رسولاً إلى مالك يدعونه إلى أن يحكم بينهم المنذر بن حرام الخزرجي جد حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرضي مالك، وذهبوا إلى المنذر.
وقال دعبل المبرد: أعرق الناس كانوا في الشعر أل حسان بن ثابت إذ تعاهدوا الشعر كابراً عن كابر وورثه الابن عن الأب عن الجد وهم : سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام .
ومن شعر المنذر بن حرام :
ورَثنا من البُهلول عَمرو بن عامر … وحَارثةَ الغِطريف مجداً مؤثَّلا
مآثَر من نَبْت بن نَبْتِ بن مالك … ونَبْتِ بن إسماعيل ما إن تَحولا)( )،
وأستدل على أن العرب وقحطان من ولد إسماعيل بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقوم من أسلم والأنصار(كانوا يتناضلون بالسيوف فقال: “ارموا بنى إسماعيل وأنا مع بنى فلان ” لاحد الفريقين، فأمسكوا بأيديهم، فقال: مالكم؟ قالوا: وكيف نرمى وأنت مع بنى فلان، فقال: ارموا وأنا معكم كلكم)( )، وأستدل أيضاً بالشعر المنذر أعلاه.
وعبد الرحمن بن حسان بن ثابت أمه سيرين القبطية أخت مارية القبطية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ وهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيرين لحسان بن ثابت، فولدت له عبد الرحمن فهو وإبراهيم ابن رسول الله ابنا خالة.
وبخصوص دية القتل اجتمع الطرفان عند المنذر بن الحرام وبيّن كل طرف منهما دعواه وما يطلبه ويريده، فحَكم بينهم بأن تدفع دية النسب الصريح أي دية كاملة، ثم يعودون إلى عادتهم في دفع نصف الدية عن الحليف.
الوجه الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى[أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ) وفيه مسائل :
المسـألة الأولى : لقد ذكرت آية البحث المسلمين والذين كفروا على نحو الضدين في الدنيا والآخرة ، أما آية البحث فقد ذكرتهم بأمرين :
الأول : اللقاء للقتال .
الثاني : المؤمنون جمع متهيء للدفاع والذين كفروا جمع جاء للعدوان.
مما يدل على أن التضاد بين الفريقين يؤدي إلى القتال ، فأخبر الله عز وجل عن هذا القانون بقوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
إبتدأت آية السياق بذكر المسلمين بصيغة المدح والثناء وكيف أنهم يتبعون رضوان الله عز وجل ، ويتجلى هذا الإتباع من وجوه :
الأول : الإقرار بالعبودية لله عز وجل .
الثاني : التسليم بالوحدانية .
الثالث : التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتتجلى الوجوه الثلاثة أعلاه مجتمعة ومتفرقة في قول وفعل كل مسلم ومسلمة خمس مرات في اليوم بتلاوة آيات القرآن على نحو الوجوب العيني، في الأصل والفرع.
اما الأصل فهو وجوب الصلاة ، وأما الفرع فهو وجوب تلاوة آيات القرآن فيها ، إذ تبدأ هذه التلاوة في كل ركعة من الركعات السبع عشرة اليومية بسورة الفاتحة التي تبدأ بعد البسملة بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) وفيه مصداق لكل من الوجوه أعلاه، ليكون من إعجاز الآية التعدد من جهات :
الأولى : مصاديق الآية القرآنية .
الثانية : معاني الآية القرآنية .
الثالثة : تجدد تلاوة الآية القرآنية .
الرابعة : دلالات الآية القرآنية .
ومن الإعجاز في بيان السنة النبوية للقرآن ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قال الله جل وعلا : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ، ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
اقرءوا يقول العبد (الحمد لله رب العالمين)( )، يقول الله : حمدني عبدي .
يقول العبد(الرحمن الرحيم)( ).
يقول الله : أثنى علي عبدي.
يقول العبد(مالك يوم الدين)( ).
يقول الله : مجدني عبدي.
وهذه الآية بيني وبين عبدي، يقول العبد : (إياك نعبد وإياك نستعين)( )، فهذه الآية بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل.
يقول العبد : (اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين)( )، فهؤلاء لعبدي ، ولعبدي ما سأل)( ).
الرابع: من وجوه إتباع المسلمين رضوان الله أداؤهم العبادات، وتقيدهم بالتكاليف، وإجتنابهم ما نهى الله عز وجل عنه كالزنا والربا وشرب الخمر والظلم والقتل بغير حق ، ولما إحتجت الملائكة على جعل الإنسان[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) لأنه يرتكب المعاصي ويتعدى الحدود، ويهتك الحرمات، تفضل الله عز وجل واحتج عليهم بقوله[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
لقد أراد الملائكة أن يعمر الناس الأرض بسنن التقوى وبذات الكيفية التي يعمر بها الملائكة السماء ، فأخبرهم الله عز وجل بوجود أمة تتصف بالصلاح في كل زمان ، ومن الآيات في المقام أن اسم المسلمين لم يختص بالذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى اله عليه وآله وسلم بعد بعثته إنما هو مصاحب لوجود الإنسان في الأرض ، فأول من هبط عليها آدم وحواء ، وكانا مسلمين لله ، إذ كان آدم عليه السلام نبياً ، وحواء مؤمنة عاشت في الجنة ، ورأت الآيات والملائكة فيها قبل أن تهبط إلى الأرض ، وتوارث أولاد وأحفاد وذرية آدم النبوة والإيمان، وفي التنزيل [فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ]( ) أي لوط وأهل بيته إلا امرأته ، وقيل المراد (لوط وابنتيه)( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال (إن لوطا لبث في قومه ثلاثين سنة يدعوهم إلى الله عز وجل ويحذرهم عذابه، وكانوا قوما لا يتنظفون من الغائط، ولا يتطهرون من الجنابة، وكان لوط ابن خالة إبراهيم، وكانت امرأة إبراهيم سارة أخت لوط، وكان لوط وإبراهيم نبيين مرسلين منذرين، وكان لوط رجلا سخيا كريما يقري الضيف إذا نزل به، ويحذره قومه.
قال: فلما رأى قوم لوط ذلك منه قالوا له: إنا ننهاك عن العالمين، لا تقر ضيفا ينزل بك إن فعلت فضحنا ضيفك الذي ينزل بك وأخزيناك، فكان لوط إذا نزل به الضيف كتم أمره مخافة أن يفضحه قومه، وذلك أنه لم يكن للوط عشيرة.
قال: ولم يزل لوط وإبراهيم يتوقعان نزول العذاب على قومه، فكانت لإبراهيم وللوط منزلة من الله عز وجل شريفة، وإن الله عز وجل كان إذا أراد عذاب قوم لوط أدركته مودة إبراهيم وخلته ومحبة لوط فيراقبهم فيؤخر عذابهم.
قال أبو جعفر عليه السلام: فلما اشتد أسف الله على قوم لوط وقدر عذابهم وقضى أن يعوض إبراهيم من عذاب قوم لوط بغلام عليم فيسلي به مصابه بهلاك قوم لوط فبعث الله رسلا إلى إبراهيم يبشرونه بإسماعيل، فدخلوا عليه ليلا ففزع منهم وخاف أن يكونوا سراقا، فلما رأته الرسل فزعا مذعورا.
[فَقَالُوا سَلاَمًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ]( )، قال : والغلام العليم هو إسماعيل من هاجر) ( ).
والبشارة بالغلام العليم بأنه إسماعيل ، لا يتعارض معه ما نذهب إليه بأن المراد بالبشارة هو يوسف عليه السلام لما ورد في التنزيل حكاية عنه وهو يخاطب ملك مصر [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] ( ).
بمعنى أن بشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرسول تتكرر في مصداقها ، وورد في القرآن خطاب من الله إلى المسلمين [مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ] ( ).
الخامس : قيام المسلمين بالخروج للجهاد والدفاع عن بيضة الإسلام تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما في معركة بدر ومعركة أحد التي جاءت آية البحث بخصوصها .
السادس : تلقي المسلمين الخسارة في سبيل الله بالصبر والتقوى من أبهى مصاديق اتباعهم لرضوان الله .
ليكون من معاني ودلالات آية البحث أمور :
أولاً : إتباع المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق قوله تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ] ( ).
ثانياً : خروج المسلمين للجهاد في سوح المعارك اتباع لرضوان الله.
ثالثاً : الذب والدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إتباع لرضوان الله سبحانه.
رابعاً : خطاب الله عز وجل للمسلمين في آية البحث من الشواهد على اتباعهم لرضوان الله .
خامساً : مجيء النصر للذين يتبعون رضوان الله .
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين آية البحث والسياق : افمن اتبع رضوان الله يوم التقى الجمعان .
لقد أبتلي الأنبياء وأنصارهم وأتباعهم بالقتال دفاعاً عن التوحيد وعبادة الله في الأرض ، ولم تكن معركة بدر أو معركة أحد التي نزلت آية البحث بخصوصها إلا معركة يدافع فيها المسلمون عن كل من :
أولاً : ديانة التوحيد .
ثانياً : نبوة محمد .
ثالثاً : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان الكفار يسعون لقتله .
رابعاً : القرآن وما يدعو إليه من الإيمان وعمل الصالحات ، قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا]( ).
خامساً : إقامة الصلاة وإتيان الزكاة وصيام شهر رمضان وحج بيت الله الحرام وأداء الخمس ، ومن الآيات في المقام أن هذه الفرائض نزلت قبل معركة أحد التي جرت في السنة الثالثة للهجرة.
ولم يكن قتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أجل نفسه أو لأهل بيته وأصحابه إنما كان لجميع الناس ، وأجيال الناس المتعاقبة إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بلحاظ أن هذه الرحمة عامة شاملة للناس من أهل البيت والصحابة والأجيال السابقة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأجيال اللاحقة لها .
لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ليكون من معاني الجمع بين الآيتين الثناء والذم ، أما الثناء فمن وجوه :
الأول : الثناء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه خرج بأصحابه لقتال الذين كفروا .
الثاني : الثناء على المؤمنين الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقتال والدفاع عن بيضة الإسلام .
الثالث : الثناء والمدح للمسلمين والمسلمات من أهل المدينة الذي حثوا الصحابة على الخروج للدفاع ، ولم يسعوا في قعودهم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ] ( ).
الرابع : الثناء على الأنبياء السابقين وأصحابهم الذي خرجوا معهم للدفاع عن النبوة والوحي وسنن التوحيد .
الخامس : الثناء على المؤمنين الذين يتلون آية البحث والسياق .
أما الذم فمن وجوه :
الأول : ذم الذين كفروا من قريش، وتقبيح فعلهم وخروجهم للقتال .
الثاني : ذم الذين نصروا كفار قريش، وزحفوا معهم على المدينة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , وهل حال الدفاع من مصاديق قوله تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( )، الجواب نعم بل هو المصداق الأظهر والأعم فمن سنن الأنبياء الدفاع وليس الهجوم إلا أن يكون هذا الهجوم بقصد الدفاع والإحتراز والوقاية.
الثالث : ذم المنافقين الذين إنسحبوا من وسط الطريق إلى معركة أحد ، ترى بماذا يوصف هذا الإنسحاب ، فيه وجوه :
الأول : إنه نوع غدر وخيانة .
الثاني : إنه مظهر للنفاق .
الثالث : إنه من الصدود عن الرسالة والتنزيل ، قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا]( ).
ومن إعجاز القرآن أنه ذكر الذين كفروا بذات القول والدعوة ولكن جوابهم مختلف على نحو السالبة الجزئية كما في قوله تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ]( ) [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ]( ) [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا]( ) .
بينما كان المنافقون يحضرون صلاة الجماعة ولا يجهرون بالكفر ، نعم يبطنون الكفر والشقاق .
الرابع : رجوع المنافقين من وسط الطريق ، ومن موضع يسمى الشوط كاشف للنفاق , والشوط نوع ساحة يعدوها الفرس كالميدان .
الخامس : إرادة المنافقين تمكين الذين كفروا من المؤمنين والنيل منهم .
السادس : التواطئ مع الذين كفروا , والتخلية بينهم وبين المسلمين.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من معاني ودلالات إنسحاب وتخاذل المنافقين ، وحاجتهم والمسلمين والناس جميعاً للآيات التي تذم النفاق ، وتبين قبحه الذاتي وضرره الحال واللاحق على النفس والغير .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : أفمن اتبع رضوان الله فبإذن الله).
لقد خلق الله عز وجل آدم عليه السلام ليعمر وذريته الأرض بالعبادة والصلاح والتقوى ، ولا يرتقون إلى منازل التقوى واليقين إلا بفضل ومنّ ولطف من عند الله ، ليكون من معاني آية السياق هو : أفمن اتبع رضوان الله بلطف وفضل من الله عز وجل ، لبيان قانون وهو أن مضامين آية سياق عامة وتشمل أفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل ، لتتعلق مضامين آية السياق بأيام آدم عليه السلام وإلى يوم القيامة.
وهو من مصاديق الإطلاق والشمول في مسألة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن تأتي آيات القرآن بأحكام تشمل الناس جميعاً كما في آية السياق وأحكام خاصة بواقعة كما في آية البحث التي تتضمن ما أصاب المسلمين في واقعة مخصوصة وهي معركة أحد التي جرت بين المسلمين والذين كفروا في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، فلقد دخل المسلمون المعركة بإمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن يكون خاتم النبيين معهم في المعركة لا يخشون الإنكسار والخيبة والهزيمة وفي التنزيل[وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ]( ).
وجاءت آية البحث لتؤكد قانوناً وهو مع وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة قد يصاب المسلمون بالخسارة ، ولكن هذه الخسارة رحمة لهم من جهات :
الأولى : دلالة آية السياق على التمايز والتضاد بين المؤمنين الذين خرجوا إلى المعركة طلباً لرضوان الله وبين جيش الذين كفروا وضلوا عن السبيل .
الثانية : جاءت خسارة المسلمين في معركة أحد في طول صبرهم وقتالهم، فهي جزء من جهاد المسلمين ، وفي التنزيل[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ]( ).
الثالثة : خسارة المسلمين في معركة أحد زاجر للذين كفروا عن الإستمرار في التعدي على حرمات المسلمين، من وجوه:
الأول : الدلالة على تضحية المسلمين في سبيل الله.
الثاني : لم ترق خسارة المسلمين إلى درجة الهزيمة.
الثالث : غبطة المسلمين بالثواب العظيم المترشح عن الأذى الذي لحقهم في معركة أحد.
الرابع : نزول آيات القرآن التي تتضمن الثناء على المسلمين، وذم الظالمين الذين إعتدوا عليهم، قال تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ]( ).
الرابعة : لقد كان قصد الذين كفروا , ومن قبل أن يخرجوا من مكة هو قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فعادوا من معركة أحد ولم يصلوا إليه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) والآية أعلاه خاصة بعودتهم من معركة أحد ، نعم المدار على عموم المعنى وليس سبب أو موضوع النزول ، ومن وجوه تقديرها :
الأول : فينقلبوا من معركة أحد خائبين .
الثاني : فينقلبوا إلى مكة خائبين .
الثالث : فينقلبوا خائبين لعدم قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المعركة .
الرابع : فينقلبوا خائبين لأن الملائكة نزلوا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الخامس : فينقلبوا خائبين بإذن الله .
السادس : فينقلوا خائبين لدفاع أهل البيت والصحابة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
السابع : فينقلبوا خائبين لعدم تحقق هزيمة المسلمين .
الثامن : فينقلبوا خائبين لعجزهم عن أسر عدد من المسلمين ، لقد أسّر المسلمون سبعين من المشركين يوم معركة بدر ، ولاقت قريش الأذى والعناء وبذلت الأموال الطائلة في فكاكهم من الأسر ، فزحفت في ثلاثة آلاف رجل في معركة أحد .
وتعرض المسلمون للخسارة وانهزم أكثرهم، ومع هذا لم يرجع المشركون بأسرى من المسلمين ، وهو معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية ، فان قلت قد سقط سبعون شهيداً من المؤمنين وفقدان الشهيد أعظم خسارة من الأسير ، فقد يعود الأسير ، والجواب من جهات :
الأولى : علو مرتبة الشهداء عند الله الذين قتلوا في الدفاع عن النبوة والتنزيل ، قال تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
الثانية : تبعث كثرة الشهداء المسلمين الفزع في قلوب الذين كفروا .
الثالثة : من وجوه خيبة الذين كفروا أنهم لم يدخلوا معهم اسرى إلى مكة ، بينما فقدوا في معركة بدر سبعين قتيلاً ، وغاب عنهم سبعون أسيراً دفعة واحدة .
التاسع : فينقلبوا خائبين لما أصابهم من الخزي أمام أهل مكة والقبائل .
العاشر : فينقلبوا خائبين لفوز المسلمين بآية البحث التي يخفف الله عز وجل بها عنهم وقع شدة المصيبة , أما الذين كفروا فليس هناك من يخفف عنهم وطأة الخسارة والخيبة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ] ( ).
ولم يبلغ المسلمون مراتب اتباع رضوان الله إلا بلطف ومنّ وإذن من عند الله عز وجل ، ليكون من مصاديق الجمع بين الآيتين بلحاظ واقعة أحد وجوه :
الأول : أفمن اتبع رضوان الله بالتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : تقدير الجمع بين الآيتين : أفمن اتبع رضوان الله فبإذن الله).
لقد خلق الله عز وجل آدم عليه السلام ليعمر وذريته الأرض بالعبادة والصلاح والتقوى ، ولا يرتقون إلى منازل التقوى واليقين إلا بفضل ومنّ ولطف من عند الله ، ليكون من معاني آية السياق هو : أفمن اتبع رضوان الله بلطف وفضل من الله عز وجل.
لبيان قانون وهو أن مضامين آية سياق عامة وتشمل أفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمستقبل، وتتعلق مضامين آية السياق بأيام آدم عليه السلام وإلى يوم القيامة، وهو من مصاديق الإطلاق والشمول في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن تأتي آيات القرآن بأحكام تشمل الناس جميعاً كما في آية السياق وأحكام خاصة بواقعة كما في آية البحث التي تتضمن ما أصاب المسلمين في واقعة مخصوصة وهي معركة أحد التي جرت بين المسلمين والذين كفروا في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، فلقد دخل المسلمون المعركة بأمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن يكون خاتم النبيين معهم في المعركة لا يخشون الإنكسار والخيبة والهزيمة .
وجاءت آية البحث لتؤكد قانوناً وهو مع وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة قد يصاب المسلمون بالخسارة ، ولكن هذه الخسارة رحمة لهم من جهات :
الأولى : دلالة آية السياق بالتمايز والتضاد بين المؤمنين الذين خرجوا إلى المعركة طلباً لرضوان الله وبين جيش الذين كفروا وضلوا عن السبيل .
الثانية : جاءت خسارة المسلمين في معركة أحد في طول صبرهم وقتالهم، فهي جزء من جهاد المسلمين ، وفي التنزيل [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
الثالثة : خسارة المسلمين في معركة أحد زاجر للذين كفروا عن الإستمرار في التعدي على حرمات المسلمين .
الرابعة : لقد كان قصد الذين كفروا ومن قبل أن يخرجوا من مكة هو قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فعادوا من معركة أحد ولم يصلوا إليه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) والآية أعلاه خاصة بعودتهم من معركة أحد ، نعم المدار على عموم المعنى وليس سبب أو موضوع النزول ، ومن وجوه تقديرها :
الأول : فينقلبوا من معركة أحد خائبين .
الثاني : فينقلبوا إلى مكة خائبين .
الثالث : فينقلبوا خائبين لعدم قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المعركة .
الرابع : فينقلبوا خائبين لأن المعركة نزلوا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الخامس : فينقلبوا خائبين باذن الله .
السادس : فينقلوا خائبين لدفاع أهل البيت والصحابة عن النبي .
السابع : فينقلبوا خائبين لعدم تحقق هزيمة المسلمين .
الثامن : فينقلبوا خائبين لعجزهم عن أسر عدد من المسلمين ، لقد أسّر المسلمون سبعين من المشركين يوم معركة بدر ، ولاقت قريش الأذى والعناء وبذلت الأموال الطائلة في فكاكهم من الأسر ، فزحفت في ثلاثة آلاف رجل في معركة أحد ، وتعرض المسلمون للخسارة وأنهزم أكثرهم، ومع هذا لم يرجع المشركون بأسرى من المسلمين ، وهو معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية ، فان قلت قد سقط سبعون شهيداً من المؤمنين وفقدان الشهيد أعظم خسارة من الأسير ، فقد يعود الأسير ، والجواب من وجوه :
الأول : علو مرتبة المسلمين عند الله ، قال تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ] ( ).
الثاني : تبعث كثرة الشهداء من المسلمين الفزع في قلوب الذين كفروا وهل يبعث قوله تعالى[وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( )، الخوف والفزع والقنوط في نفوس وجوانح الذين كفروا، الجواب نعم، وهو من الإعجاز في مفهوم الخطاب القرآني.
الثالث : من وجوه خيبة الذين كفروا أنهم لم يدخلوا معهم أسرى إلى مكة، بينما فقدوا في معركة بدر سبعين قتيلاً ، وغاب عنهم سبعون أسيراً دفعة واحدة .
التاسع : فينقلبوا خائبين لما أصابهم من الخزي عند أهل مكة والقبائل .
العاشر : فينقلبوا خائبين لفوز المسلمين بآية البحث التي يخفف الله عز وجل بها عنهم وقع شدة المصيبة أما الذين كفروا فليس هناك من يخفف عنهم وطأة الخسارة والخيبة ، وهو من مصاديق قوله تعالى[ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ]( ).
ولم يبلغ المسلمون مراتب إتباع رضوان الله إلا بلطف ومنّ وإذن من عند الله عز وجل ، ليكون من مصاديق الجمع بين الآيتين بلحاظ واقعة احد وجوه :
الأول : أفمن اتبع رضوان الله بالتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : أفمن اتبع رضوان الله وآمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأطاع الله ورسوله ، مع أن القتال والقتل قريبان من كل مسلم، فليس بين هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعركة بدر سوى سنتين، وأما أن إنقضت سنة أخرى حتى زحف الذين كفروا في معركة أحد، ثم جاءت معركة الخندق وما فيها من الأخطار الشديدة على المسلمين إذ أحاط بالمدينة عشرة آلاف رجل لأكثر من عشرين ليلة ، وثبت المسلمون في منازل الإيمان مع هذا التوالي في هجوم المشركين ، وكثرة المعارك التي جرت بين المسلمين وبينهم معجزة حسية تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن الآيات والمعجزة التي جاء بها جعلت المسلمين يقطعون بأنهم على الحق والهدى ، وأن الحياة لا تتقوم إلا بالإيمان بالله ورسوله والتنزيل وان الآخرة دار الجزاء والثواب ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ]( ).
لقد كان بعض الرؤساء يرجو إنصراف شطر من المسلمين عن النبوة والإسلام بسبب الضراء وشدة القتال ، فجاء ثباتهم في مراتب رضوان الله نعمة عظمى وموضوع مبارك للتخفيف عن المسلمين ، إذ أن هذا الثبات من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( ).
وهل هذا الرعب من وجوه تخفيف مصيبة يوم أحد من المسلمين الجواب نعم، من غير أن يلزم الدور بينهما.
فمن مصاديق قوله تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ..]( ). أن الله عز وجل يلقي الرعب في قلوب المشركين بصبر وجهاد المسلمين ، فيكون هذا الرعب تخفيفاً عن المسلمين من جهات:
الأولى : حسن المواساة .
الثانية : إصابة المشركين بالوهن والضعف .
الثالثة : أداء المسلمين العبادات والفرائض من غير منع من الذين كفروا.
الرابعة : دخول طائفة من الناس الإسلام لأمور :
أولاً : تجلي معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ومنها المعجزات في السنة الدفاعية وشواهد ميادين القتال .
ثانياً : إنشغال رؤساء الكفر عن صد الناس عن الإسلام .
ثالثاً : هداية الله لقلوب الناس للإيمان ، وهل يمكن القول مع صبر المسلمين في ميادين القتال يهدي الله عز وجل الناس ، ويبصّرهم بحقائق الخلق ، ويزيح عنهم كابوس الضلالة .
الجواب نعم ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
الجواب لا ، إنما هو رديف له , ومدد لذات المدد الملكوتي، وبينهما عموم وخصوص من وجه فمادة الإلتقاء من جهات:
الأولى : منّ وفضل الله على المؤمنين .
الثانية : كل من نزول الملائكة لنصرتهم ، وهداية الناس للإيمان من فضل الله، فتجد الذي يقف محارباً بسيفه وفرسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في المعركة يأتي مسلماً نادماً معتذراً في اليوم التالي ، وفي التنزيل[وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ]( ).
الثالثة : إتحاد صفة المدد والعون، فنزول الملائكة مدد من عند الله للمسلمين ، ودخول أفراد في الإسلام مدد آخر .
الرابعة : كل من نزول الملائكة ودخول الناس في الإسلام شكر وجزاء من عند الله للذين اتبعوا رضوانه وثناء عليهم .
الخامسة : كل من آية نزول الملائكة مدد, ودخول الناس في الإسلام أخبر عنه القرآن ، وجاءت آيات خاصة به ، قال تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً]( ).
السادسة : تقوم كل من الآيتين بالصبر والتقوى .
السابعة : كل من الآيتين معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامنة : كل من النعمتين طريق للنصر والغلبة على الذين أشركوا .
التاسعة : لا تأتي أي من النعمتين إلا للذين اتبعوا رضوان الله سبحانه.
العاشرة : الصبر سلاح وطريق لنزول الملائكة ولدخول الناس في الإسلام .
وأما مادة الإفتراق فمن جهات :
الأولى :نزول الملائكة للنصرة آية سماوية ودخول الناس في الإسلام آية أرضية .
الثانية : نزل الملائكة من السماء في معارك الإسلام الأولى لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ودخول الناس في الإسلام أمران مستمران ومتجددان .
ومن الإعجاز والبشارة في آية نزول الملائكة مجئ آياتها بصيغة المضارع بقوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
الثالثة : قد لا ينفع المسلمين في قتالهم دخول الفرد والاثنين والثلاثة الإسلام ، بينما يجذب النصر للمسلمين نزول ملك واحد من الله لإعانتهم ونصرتهم .
الرابعة : ينزل الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أما دخول الإنس الإسلام فهو أمر جاء في كل زمان .
الخامسة : نزول الملائكة للقتال بأمر وأذن من عند الله إلى الملائكة ، أما دخول الإنسان للإسلام فمن غير وحي ، ولكنها الفطرة وتجلي الآيات .
السادسة : نزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نوع طريق لدخول الناس في الإسلام .
الخامس : أفمن اتبع رضوان الله وآمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأطاع الله ورسوله ، مع أن القتل والشهادة قاب قوسين أو أدنى من كل مسلم ، فليس بين هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعركة بدر سوى سنة وبضعة شهور.
وما أن إنقضت سنة أخرى حتى زحف الذين كفروا في معركة أحد ، ثم جاءت معركة الخندق وما فيها من الأخطار الشديدة على المسلمين إذ أحاط بها عشرة آلاف رجل لأكثر من عشرين ليلة، ومع ثبات المسلمين في منازل الإيمان مع هذا التوالي في هجوم المشركين، وكثرة المعارك التي جرت بين المسلمين وبينهم معجزة حسية تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن الآيات والمعجزة التي جاء بها جعل المسلمين يقطعون بأنهم على الحق والهدى ، وإن الحياة لا تتقوم إلا بالإيمان بالله ورسوله والتنزيل وان الآخرة دار الجزاء والثواب .
لقد كان بعض الرؤساء يرجو إنصراف شطر من المسلمين عن النبوة والإسلام بسبب الضراء وشدة القتال ، فجاء ثباتهم في مراتب رضوان الله نعمة عظمى وموضوع مبارك للتخفيف عن المسلمين ، ومن مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( ) .
وهل هذا الرعب وجوه تخفيف مصيبة يوم أحد من المسلمين الجواب نعم ، فمن مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ..] ( ). أن الله عز وجل يلقي الرعب في قلوب المشركين بصبر وجهاد المسلمين ، فيكون هذا الرعب تخفيفاً عن المسلمين من جهات :
الأولى : حسن المواساة .
الثانية : إصابة المشركين بالوهن والضعف .
الثالثة : أداء المسلمين العبادات والفرائض , ومن غير منع من الذين كفروا .
الرابعة : دخول طائفة من الناس الإسلام لأمور :
أولاً : تجلي معجزات لنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنها المعجزات في السنة الدفاعية وشواهد ميادين القتال .
ثانياً : إنشغال رؤساء الكفر عن صد الناس عن الإسلام .
ثالثاً : هداية الله لقلوب الناس للإيمان ، وهل يمكن القول مع صبر المسلمين في ميادين القتال يهدي الله عز وجل الناس ، ويبصرّهم بحقائق الخلق ، ويزيح عنهم كابوس الضلالة ، الجواب نعم ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ) .
الجواب لا ، إنما هو رديف له، وبينهما عموم وخصوص من وجه فمادة الإلتقاء من جهات :
الأولى : منّ وفضل الله المؤمنين .
الثانية : كل من نزول الملائكة لنصرتهم ، وهداية الناس للإيمان فتجد الذي يقف محارباً بسيفه وفرسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في المعركة يأتي مسلماً نادماً معتذراً في اليوم التالي ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ] ( ).
الثالثة : إتحاد صفة المدد والعون ، فنزول الملائكة مدد من عند الله للمسلمين ، ودخول أفراد في الإسلام مدد آخر .
الرابعة : كل من نزول الملائكة ودخول الناس في الإسلام شكر وجزاء من عند الله للذين اتبعوا رضوانه وثناء عليهم .
الخامسة : كل من آية نزول الملائكة مدداً ودخول الناس في الإسلام أخبر عنه القرآن ، وجاءت آيات خاصة به ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً]( ).
السادسة : تقوم كل من الآيتين بالصبر والتقوى .
السابعة : كل من الآيتين معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامنة : كل من النعمتين طريق للنصر والغلبة على الذين اشركوا .
التاسعة : لا تأتي أي من النعمتين إلا للذين أتبعوا رضوان الله .
العاشرة : الصبر سلاح وطريق لنزول الملائكة ولدخول الناس في الإسلام .
وأما مادة الإفتراق فمن جهات :
الأولى : نزول الملائكة للنصرة آية سماوية ودخول الناس في الإسلام آية أرضية .
الثانية : نزل الملائكة في معارك الإسلام الأولى لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودخول الناس في الإسلام أمر مستمر ومتجدد .
الثالثة : قد لا بنفع المسلمين في قتالهم دخول الفرد والأثنين والثلاثة الإسلام ، بينما يجذب النصر للمسلمين نزول ملك واحد من الله لإعانتهم ونصرتهم .
الرابعة : ينزل الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أما دخول الإنس الإسلام فهو أمر جاء في كل زمان .
الخامسة : نزول الملائكة للقتال بأمر وأذن من عند الله إلى الملائكة ، أما دخول الإنسان للإسلام فمن غير وحي ، ولكنها الفطرة واجلي الآيات .
السادسة : نزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نوع طريق لدخول الناس في الإسلام .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين ، افمن اتبع رضوان الله ليعلم المؤمنين ) وفيه وجوه :
أولاً : لقد ذكرت آية السياق إسم الجلالة مرتين ، وورد في آية البحث مرة واحدة كما جاء على نحو الفاعل المقدر بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] وفيه دعوة للتدبر بالمعاني القدسية لذكر كل من الآيتين لإسم الجلالة ، وموضوع هذا الذكر ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
الجواب نعم وتلاوة كل آية من القرآن ذكر لله عز وجل.
وبين آية السياق وآية البحث آيتان ورد ذكر إسم الله مرة واحدة في كل منهما .
ثانياً : ورد لفظ[أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ]( ) في آية السياق بصيغة المفرد والمراد منه الجنس أي الذين اتبعوا رضوان الله وورد إسم المؤمنين بآية البحث بصيغة الجمع، وتحتمل النسبة بينهما وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي وأن الذين يتبعون رضوان الله هم المؤمنون الذين يريد الله أن يعلمهم أي ينصرهم ويثيبهم .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الذين اتبعوا رضوان الله أعم من الذين يريد أن يعلم الله أنهم مؤمنون .
الثانية : الذين يريد الله أن يعلم بايمانهم عند الشدائد هم الأعم والأكثر من الذين أتبعوا رضوانه .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه ، إذ جاءت آية السياق مطلقة ، فتشمل أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما قبلها وما بعدها والمؤمنين فيها ، فهي قانون عام .
أما آية البحث فتتعلق بواقعة أحد ، وإن كان المراد من المؤمنين أعم من الذين خاضوا معركة أحد .
ثالثاً : من معاني الجمع بين الآيتين بيان قانون وهو تجلي معالم رضوان الله ، ووضوح سبل التقوى ، وقد تفضل الله عز وجل برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن لبيان الأحكام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
رابعاً : ترغيب الناس في الإسلام ودعوتهم لإنتهاج سبل الهداية والرشاد ، وما فيه الفلاح في النشأتين ، وإبلاغهم جميعاً بأن اتباع رضوان الله واجب لا يجوز تركه أو التفريط فيه .
خامساً : إرادة الإنذار والتحذير من الإقامة على الكفر والصدود عن سبل الإيمان ، وفي التنزيل [وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] ( ).
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : وما أصابكم يوم التقى الجمعان كمن باء بسخط من الله ) وفيه وجوه :
الأول : تتجلى معاني المدح والثناء على المسلمين في آية البحث لإخبارها عن قانون من جهات :
الأولى : نزول المصيبة بالمسلمين .
الثانية : تعيين المصيبة التي حلّت بالمسلمين ، فما أصابكم لم يكن عن آفة سماوية أو أرضية ، أو بسبب سعي المسلمين في طلب الدنيا ، ولم يخرجوا من المدينة للكسب والضرب في الأرض للتجارة وطلب الرزق وإن كان أمراً مشروعاً ومحبوباً ، ولكنهم خرجوا للدفاع عن النبوة والتنزيل والنفوس والأعراض والأرزاق أيضاً، لذا ورد في الآية التالية ذكر الدفاع على نحو الخصوص بقوله تعالى[وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ]( ).
الثالثة : ما أصاب المسلمين بسبب ظلم وجحود الذين كفروا وبسيوفهم التي تريد منع الناس من السعي في رضوان الله ، لذا إستحق الذين كفروا السخط والغضب من عند الله عز وجل .
الثاني : لقد كانت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله جلية، مقرونة بالمعجزة والبرهان ، وليس فيها وسط أو برزخ بين الإيمان والكفر ، نعم ، ظهر النفاق عندما صار الإسلام قوياً له دولته في المدينة المنورة .
فجاءت آيات القرآن لفضح المنافقين في أفعالهم وما يجري على ألسنتهم وبما يؤدي إلى تخييرهم بين التنزه عن النفاق والتوبة منه، وبين الإصرار عليه، وجاءت آية البحث لتقودهم والناس إلى الأول والنجاة من مستنقع الثاني أعلاه والذي لا يجلب لصاحبه إلا الضرر المستديم .
الثالث : قد يفرح الذين كفروا لما نزل بالمسلمين يوم معركة أحد من كثرة عدد الشهداء والجراحات التي أصابت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة ، وحرمانهم من الغنائم والأسرى من المشركين ، ولكن هذا الفرح وبال على الذين كفروا لأنه من أسباب نزول سخط الله عليهم وصيرورتهم في بلاء وإبتلاء متصل .
الرابع : لقد حلّت المصيبة بالمسلمين يوم أحد ، ولكن الذي أصاب الذين كفروا يومئذ أشد وأمر إذ استحضروا غضب الله عليهم لأن كل ما أصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بسبب ظلمهم وتعديهم.
(عن أنس بن مالك قال: كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد وشج في وجهه، فجعل يمسح الدم ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله.
فأنزل الله: ” ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون”)( )( ).
والمختار أن موضوع الآية أعلاه أعم وأشمل ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شكى أمره إلى الله ، وأراد بقوله هذا أموراً :
أولاً: تنمية ملكة الصبر عند المسلمين .
ثانياً : تأكيد حقيقة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصيب بالجراحات مثلما أصيبوا ، وكان لأهل البيت سهم في الشهادة، وفي طريق عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معركة أحد سمع بكاء ونوائح في بيوت بني عبد الأشهل من الأنصار على قتلاهم فجرت دموع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على خديه ليشتد العذاب على الذين كفروا من قريش ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لَكِنّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ)( ).
ليكون من معاني آية البحث الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : وما أصابك يوم التقى الجمعان فباذن الله وليعلم الذين آمنوا برسالتك .
الثانية : وما أصابكم أهل بيتك يوم التقى الجمعان فباذن الله .
الثالثة : وما أصاب أصحابك يوم التقى الجمعان فباذن الله .
الرابعة : وما أصاب أمتك يوم التقى الجمعان فباذن الله.
الخامسة : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فباذن الله .
ثالثاً : قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم) يريد به الذين كفروا وزحفوا بالسلاح والخيل والرجال لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمن الناس من بقي على مفاهيم الكفر ، ولم يؤمن ولكنه لم يحارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، لذا فان قول النبي أعلاه يختص بالذين اعتدوا على المسلمين وسعوا إلى قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتلقى آيات القرآن من عند الله عز وجل .
وهل هذا القول دعاء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم، فصحيح أنه ذكر وعلى نحو الإستفهام الإنكاري إلا أنه شكوى إلى الله عز وجل .
وفيه بيان لقانون : وهو أن الذين يعتدون على النبي لا يجدون الفلاح، قال تعالى[إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ]( ).
رابعاً : صدور الإنذار للذين كفروا على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ويحتمل هذا الإنذار وجوهاً :
أولاً : إرادة خيبة وخسارة الذين كفروا لقوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
ثانياً : المقصود عجز الذين كفروا عن تحقيق النصر على المسلمين في معركة أحد أو المعارك اللاحقة .
ثالثاً : توجيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإنذار إلى الذين كفروا لسوء ما سيلقون في الحياة الدنيا .
رابعاً : حرمان الذين كفروا من الفلاح ومصاديق التوفيق ، وهو الذي يتجلى بانشغال الذين كفروا بالإنفاق على محاربة الإسلام ، مما يحرمهم من البركة ويفقدهم حسن التدبير في أمورهم الخاصة والعامة ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ] ( ).
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين: وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله ليعلم المؤمنين وليعلم الذين باءوا بسخط من الله) وفيه وجوه :
الأول : من إعجاز الآية بيانها للتضاد بين المؤمنين والذين كفروا , وبلوغ هذا التضاد أعلى مراتبه بجريان الدماء وسقوط القتلى من الفريقين وهو الذي أدركتهم الملائكة بخطابها إلى الله عز وجل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) ولكن الملائكة لم يحيطوا بعلم الله ومنه تفاصيل واقعة أحد ، وفيها أمور:
أولاً : محاربة الفساد .
ثانياً : سفك الدماء ظلماً بسقوط سبعين شهيداً.
ثالثاً : إنحسار الكفر ومفاهيم الضلالة.
رابعاً : المدار على العاقبة فإن معركة بدر وأحد بداية نهاية سطوة وسلطان الذين كفروا.
خامساً : إستحقاق الذين كفروا العذاب الأليم بمحاربتهم الإسلام وإظهارهم الفساد في الأرض.
الثاني : من معاني الجمع بين الآيتين كشف الذين كفروا لبيان قانون وهو أن القتال في معركة أحد دليل التضاد بين المؤمنين والذين كفروا.
ومن معاني قوله تعالى[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، أن جمعاً يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وينصره ويذب عنه فنالوا الثواب وجمعاً يسعى لقتل الرسول وسط المعركة فرجعوا بسخط الله.
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قريباً من جيش المشركين، وتصله حجارتهم أي من باب الأولوية أن سهامهم ونبالهم تصل إليه خاصة وأنه إندفعوا في الهجوم، ولكن الله عز وجل حفظه، قال تعالى[وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ]( ).
الثالث : لقد كانت معركة بدر إنذاراً للذين كفروا من أهل مكة والقبائل التي حولها، فقد كان نصر المسلمين فيها معجزة جلية ذات لسان يخاطب العقول، ويزجر الجوارح عن التعدي على المسلمين، ولكن الذين كفروا أصروا على إعادة الكرة، وقد قال الله تعالى[وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ]( )، فقد رجع الذين كفروا من معركة أحد بالخزي وسخط الله، وهل نصر للمسلمين أعظم من الخسارة التي لحقت بهم يوم أحد الجواب نعم.
الشعبة الثانية : صلة هذه الآية بالآيات المجاورة التالية , وفيها جهات :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بالآية التالية [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ]( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إبتدأت آية السياق بواو العطف مما يدل بالدلالة التضمنية على إتصالها بآية البحث في الموضوع وهو واقعة أحد ، وفيه شاهد قرآني على موضوعية هذه الواقعة بين أهل السماء والأرض ، وتأكيد لحقيقة وهي أنها مدرسة للمسلمين لإستقراء المواعظ والعبر ، والإنتفاع الأمثل منها.
وقد أختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]وتقدير الآية ، وليعلم الله المؤمنين ، وإبتدأت آية السياق بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا]( ).
ومن أسرار صيغة العطف في المقام جذب الأسماع والإشارة إلى إتحاد موضوع الآيتين ولزوم الربط والجمع بينهما في الوجود الذهني، وإستنتاج المسائل من وجوه :
أولاً : مضامين آية البحث .
ثانياً : معاني ودلالات آية السياق التي هي معطوفة على آية البحث .
ثالثاً : الذخائر والدلالات من العطف والجمع بين الآيتين .
ومن الإعجاز في نظم هذه الآيات العطف على العطف فلم تقل الآيتان (ليعلم المؤمنين وليعلم المنافقين) إنما ذكرت علم الله عز وجل بالمؤمنين على نحو العطف على ما قبلها لبيان قانون وهو تعدد الغايات الحميدة من الآية القرآنية .
المسـألة الثانية : لقد ذكرت آية البحث المصيبة التي ألمّت بالمسلمين يوم معركة أحد ، وابتدأت آية السياق بالمواساة للمسلمين وتتجلى هذه المواساة بذكر علة وسبب ما نزل بالمسلمين وهو كشف المنافقين الذين يخفون الكفر مع نطقهم بالشهادتين ، وحضورهم جماعة المسلمين ، وقد يخرجون معهم للقتال ، وهو الذي تدل عليه آية البحث والسياق ، فان قلت يمكن أن يكشف الله عز وجل المنافقين بـأسباب غير خسارة المسلمين في المعركة ، والجواب من وجوه :
الأول : إن الله عز وجل هو أعلم بالمصلحة وسبل دفع المفسدة، وفي التنزيل[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
الثاني : إعانة المسلمين بخصوص كشف ومعرفة المنافقين ، إنما تقدم قوله تعالى [فَبِإِذْنِ اللَّهِ].
الثالث : من الآيات أن ذكر علم الله بالمؤمنين جاء بصيغة العطف على إذن الله ، فلم تقل الآية (باذن الله ليعلم المؤمنين وليعلم المنافقين)إنما ذكرت العلم بالمؤمنين بصيغة العطف .
الرابع : تعددت أسباب كشف المنافقين.
الخامس : بيان قانون وهو أن كشف المنافقين أعم من أن ينحصر بما نزل بالمسلمين من المصيبة ، إذ يشمل أموراً :
الأول : مجئ جيوش الذين كفروا وبلوغهم مشارف المدينة المنورة.
الثاني : ساعة إستشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه في كيفية ملاقاة الذين كفروا .
الثالث : تخلف طائفة من المنافقين عن الخروج للقتال ، من دون علة أو عذر .
الرابع : إنخزال ثلث جيش المسلمين من وسط الطريق إلى ميدان معركة أحد بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول، وهذا الإنخزال من عموم وأفراد وأسباب المصيبة التي ألمت بالمسلمين يومئذ.
وتقدير آية البحث : أولما أصابتكم مصيبة بانخزال ثلث جيش المسلمين مع حاجتهم إلى السواد ودخول أي مسلم عوناً لهم في المعركة .
أم عمارة
من الآيات في المقام أن امرأة مسلمة من أصحاب بيعة العقبة جاءت بالسقاء والماء ، وإرادة تتبع أنباء المعركة وهي أم عمارة نسيبة بنت كعب من بني النجار من الخزرج فرأت إنكسار المسلمين ، وإقتراب المشركين من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإرادة قتله ، فدخلت المعركة وقاتلت بين يديه ، ولو لم ينسحب المنافقون لما أضطر الأمر وبلغ الحال إلى قتالها .
نعم لقد أراد الله عز وجل بيان قانون وهو أنه ينصر رسوله بجنود من عنده وإن كانت ضعيفة ومستضعفة ليكون اشتراكها في المعركة ورجوعها سالمة إلى أهلها حجة على المنافقين ، وتكون جراحاتها وثيقة جهادية خلّدت ذكرها بين أجيال المسلمين لتصير أسوة للنساء ، وتؤلف عنها الكتب والعروض المرئية والمسموعة في قادم الأيام .
ولقد أثنى عليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي في ميدان المعركة بيدها.
وقال (لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان) ( ).
لقد توجه الناس في هذا الزمان إلى العناية بالمرأة واحتلت مراتب سامية في الحكم والشأن والرئاسة ، وصارت تنافس في الإنتخابات العامة ، وتحوز الأصوات ، وتحصد المقاعد وتنجح في عملها وإدارتها وقد سبقهم الإسلام بآيات باهرات بخصوص المرأة، وتقدم منا الكلام أن أول من آمن امرأة وهي خديجة بنت خويلد زوج النبي، وأول شهيدة هي امرأة وهي سمية أم عمار بن ياسر ، لنبين هنا أن أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصاري أول امرأة تقاتل بين يدي رسول الله كما أنها إحدى اثنتين حضرتا بيعة العقبة ، فليس ثمة نساء في معركة بدر ، أما معركة أحد فكانت قريبة عن المدينة ، فخرجت لمة من النساء لمداواة الجرحى وسقاية الماء وفيهن فاطمة الزهراء عليها السلام .
وقاتلت أم عمارة في معركة أحد وأصيبت بثلاثة عشر جرحاً ، وصارت تشهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولها رواية عنه، روى عنها الحارث بن عبد الله بن كعب.
و(عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال قالت أم عمارة كانت الرجال تصفق على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة بيعة العقبة والعباس بن عبد المطلب آخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلما بقيت أنا وأم منيع .
قال زوجي عرفة بن عمرو قال : يا رسول الله هاتان امرأتان حضرتا معنا تبايعانك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بايعتهما على ما بايعتكم عليه إني لا أصافح النساء قالت فرجعنا إلى رجالنا فلقينا رجلين من قومنا سليط بن عمرو وأبا داود المازني يريدان أن يحضرا البيعة , فوجدا القوم قد بايعوا , فلما كان بعد بايعا أسعد بن زرارة وكان رأس النقباء في السبعين ليلة العقبة)( ).
ومع كثرة جراحات أم عمارة فحينما سمعت منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد خرجت مع المسلمين وشدت عليها بثيابها ونزف الدم الذي لم يفارقها ، فصارت النسوة تكمد جراحها ليلة كاملة إلى الصباح .
فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حمراء الأسد أرسل عبد الله بن كعب المازني يسأل عنها ويطمئن على صحتها قبل أن يدخل إلى بيته ، فرجع وهو يخبره عن سلامتها ، فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فباذن الله ليعلم المنافقين).
لقد أحاط الله عز وجل علماً بكل شئ من الموجود والمعدوم ، وهو أعلم بالمنافقين قبل أن يولدوا ، وفي الثناء على نفسه ، قال تعالى[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ) وأراد الله عز وجل أن يفضح الذين يخفون الكفر في ذات الوقت الذي يدّعون فيه الإنتساب للإسلام .
ومن سنخية المعاملة في الحياة الدنيا كثرة الأعوان والأنصار والأصدقاء مع إقبال الدنيا ، وقلتهم مع إدبارها، وبالنسبة لحال القتال ، فان المسلمين جلبوا في معركة بدر الغنائم إلى المدينة ، وصار الأسرى من كفار قريش سبباً لدخول مئات الأوقيات من الذهب والفضة إلى بيوتات البدريين ، فاشتاق المؤمنون وعامة المسلمين لمعركة أخرى مع المشركين لحضور النصر والمدد الإلهي .
وهو أمر جلي ومن المنافقين من أصر على ركوب الفتنة ، ومحاولة تحريف الحقائق ، وتخويف المسلمين وعوائلهم من جيش الذين كفروا يوم معركة أحد .
وفي ذم المنافقين ورد قوله تعالى [بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا] ( ).
وصحيح أن الآية أعلاه تتعلق بخروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للعمرة فكان صلح الحديبية إلا أن موضوعها أعم ، ويدل على ما يبطن المنافقون من الكفر والضلالة .
كانوا يقولون (قالوا : إنَّ محمّداً وأصحابه أكلة رأس فلا يرجعون، فأين تذهبون؟
انتظروا ما يكون من أمرهم)( ).
لقد كان المنافقون يصفون المؤمنين بالسفه لإيمانهم فكيف وقد خرجوا إلى ميادين القتال دفاعاً عن بيضة الإسلام ، وقد ورد في التنزيل [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ]( ) وليس من سفه أشد من مجئ القرآن بذمه وفضحه .
لقد أراد الله عز وجل للناس برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الصلاح واختيار الخلود في نعيم الآخرة ، ولكن المنافقين يعلمون ما يضرهم ويجلب الأذى للناس فجاءت مصيبة واقعة أحد لتكون مناسبة لبثهم الإشاعات وأسباب الصد عن سبيل الله فأخبرت آية البحث بأن الذي أصاب المسلمين إنما هو باذن الله ، لبعث السكينة في نفوس المسلمين من كيد المنافقين.
وفي قوله تعالى[فَبِإِذْنِ اللَّهِ] حرب على النفاق وخزي للمنافقين وإبطال لكيدهم.
وهل فيه تلقين للمسلمين للرد على المنافقين والكافرين ، الجواب نعم .
ولما جاء قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا…]( ) فان قوله تعالى [فَبِإِذْنِ اللَّهِ]مدد للمسلمين والمسلمات بأن لا يحاكوا الذين كفروا ولا يقوموا بصد الذين يرغبون بالخروج للدفاع وللتجارة والضرب في الأرض فلا يصيب المسلمين إلا ما يأذن به الله ، وفيه بشارة الأجر والثواب .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : وما أصابكم ليعلم المنافقين ) من خصائص الحياة الدنيا أن الأنبياء وأتباعهم أكثر الناس بلاء فيها ، لبيان قانون من جهات :
الأولى : بيان صدق الإيمان .
الثانية : علو ورفعة مراتب جهاد الأنبياء في سبيل الله .
الثالثة : بلوغ المؤمنين الدرجات العالية بالصبر وتحمل الأذى في جنب الله ، وقد تقدم قبل ثلاث آيات قوله تعالى [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ]( ).
الرابعة : دعوة المسلمين للإقتداء بالأنبياء في صبرهم , وتلقيهم الأذى من الذين كفروا ، قال تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ).
الخامسة : ملاقاة المؤمنين للذين كفروا في سوح المعارك ، ومن الآيات في المقام أن المسلمين كانوا في معارك الإسلام الأولى في حال دفاع عن الملة والنفوس والأعراض .
ومن منهاج النبوة عدم بدء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال وكان يحث أمراء السرايا على الإبتداء بالوعظ والدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك ، وألا يقاتلوا حتى يبدأ الذين كفروا القتال .
فان قلت قد لا تصح هذه القاعدة في هذه الأيام لأن الحرب تكون فيها سريعة ، ويكون النصر فيها حليفاً لمن يبدأ الضربة الأولى خاصة مع الأسلحة الفتاكة في هذا الزمان .
الجواب إنه قياس مع الفارق، وقد شاء الله عز وجل أن يتسع الإسلام وتكون الأولوية للإحتجاج والبرهان ، وليس للحرب والقتال، قال تعالى[لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ]( ) وعلى فرض وقوع المعارك والحروب في هذا الزمان فأكثرها لا يقع على أساس التضاد والتناقض في الملة والدين , وفيه تخفيف عن المؤمنين، وتثبيت لأحكام الشريعة، وهو مناسبة لتجلي إعجاز آيات القرآن.
السادسة : بيان قانون وهو سلامة أهل الإيمان من مكر ودسائس المنافقين الذين يسعون لضعف المسلمين وقعودهم عن الدفاع ، وفي التنزيل [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
فان قلت قد أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) ومن عظيم قدرة وسلطان الله أنه سبحانه يكشف المنافقين من غير أن يصاب المسلمون بنكسة ونكبة وخسارة في معركة أحد.
والجواب هذا صحيح وقد حصل إذ جاءت آيات من القرآن لكشفهم كما جاءت السنة النبوية بما يتضمن فضحهم ولكن الله عز وجل ذكّر المسلم بالمنافقين من جهة ما نزل بالمسلمين من المصيبة , وليس هو العلة التامة له .
ومن معاني آية البحث وجوه :
الأول : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فباذن الله ليبوء الذين كفروا بسخط من الله .
الثاني : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فباذن الله ليرزقكم الأجر والثواب .
الثالث : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فباذن الله لأنكم جلبتم على أنفسكم الخسارة بالتخلف عن طاعة أوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فباذن الله ، وهو الذي يأذن بنصركم في المعارك اللاحقة .
الخامس : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فباذن الله لأنه سبحانه حاضر معكم [وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ] ( ) .
السادس : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله لأنه موعظة لكم .
السابع : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فباذن الله وهو اللطيف بكم الذي يدفع عنكم أضرار المصيبة .
الثامن : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فباذن الله فلا يشمت بكم الذين كفروا .
التاسع : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فباذن الله , وليفضح الذين نافقوا .
لقد إبتدأت آية السياق بقوله تعالى [وليعلم] أي أن الله عز وجل جعل وقائع معركة أحد تأتي بما يكشف المنافقين والمنافقات , وزيف إدعائهم الإيمان .
وجاء الفعل (يعلم) بصيغة المبني للمعلوم ، ويكون تقديره بلحاظ العطف على آية السياق موضوعاً وحكماً ودلالة على وجوه :
الأول : ليعلم الملائكة من هم الذين نافقوا .
الثاني : ليعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنافقين أشخاص المنافقين.
الثالث : ليعلم المؤمنون الذين نافقوا .
الرابع : لتعلم المؤمنات الذين نافقوا .
الخامس : ليعلم المؤمنون اللائي نافقن .
السادس : لتعلم المؤمنات من هن اللائي نافقن وقد ورد ذكر المنافقات مع المنافقين في القرآن ، قال تعالى[وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا]( ).
السابع : ليعلم أهل المدينة بالذين نافقوا.
الثامن : ليعلم الناس من هم المنافقون .
التاسع : ليعلم المنافق بنفسه، وفي التنزيل[بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ]( ).
العاشر : ليعلم الذين نافقوا بعضهم ببعض ، وقد ذكرت آية السياق بأن خسارة المسلمين سبب لمعرفة المنافقين ، فهل النصر في معركة بدر سبب آخر لمعرفتهم ، أم أن هذه المعرفة خاصة بحال المصيبة والنكسة ، لأنها كاشفة لمعادن الرجال ، وتبين ما في السرائر من الإيمان أو الكفر ، الجواب هو الأول ، ولكن حال المصيبة تضر بالذين نافقوا , ويفضحون أنفسهم من وجوه :
الأول : إظهار الشماتة بالمؤمنين .
الثاني : قيام الذين نافقوا باشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : تحريض المنافقين المسلمين على القعود وعدم الخروج للنفير ، مع أن الكفار على مشارف المدينة المنورة ، إذ لم يبعد جبل أحد عن المسجد النبوي سوى ثمانية كيلو مترات ، ثم ما لبثوا بعدها بأقل من سنتين ، أن جاءوا وأحاطوا بالمدينة في واقعة الأحزاب ، وظهر النفاق يومئذ جلياً وذكر الله عز وجل في القرآن المنافقين بخصالهم وأفعالهم التي تدل على أشخاصهم منه قوله تعالى [إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا] ( ).
الوجه الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : جاءت آية البحث بصيغة الخطاب الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ويتضمن بيان ملاقاه المسلمون من الأذى والخسارة التي نزلت بهم في معركة أحد ، ومع أن آية السياق وردت بذات الموضوع إلا أنها جاءت بصيغة الجملة الخبرية ، وتتحدث عن طائفة وفريق من الناس وهم المنافقون ، وهذا التباين بصيغة الخطاب نوع لوم وذم لهم .
لقد خسر المنافقون تلقي خطاب الإيمان ومضامين المواساة التي وردت في آية البحث والآية السابقة لها ، وهل في هذا التباين والتغاير في لفظ الخطاب إخبار عن تحمل المنافقين الخسارة , التي لحقت بالمسلمين أو شطر منهم .
الجواب قد بينت آيات البحث تفاصيل واقعة أحد ، لتفتح الباب أمام العلماء والمحققين لإستقراء المواعظ وتحليل مجرى الأحداث وحال المنافقين والضرر الذي ترشح عن قبيح فعلهم ، ومن الآيات أن وقائع معركة أحد من المتواتر والثوابت التأريخية من جهات :
الأولى : آيات القرآن الخاصة بواقعة أحد وهي المعركة التي نزلت فيها أكثر آيات من القرآن خاصة بمعركة واحدة من معارك الإسلام ، وسيأتي بيانه في الجزء التالي إن شاء الله ( ).
الثانية : السنة النبوية ، وهي من وجوه :
أولاً : السنة القولية .
ثانياً : السنة الفعلية .
ثالثاً : السنة القولية .
رابعاً : السنة الدفاعية .
ومن الآيات في المقام أن أخبار معركة أحد في السنة النبوية لم تنقطع بانقضاء يومها ووقائعها وآثارها القريبة ، فقد وقعت معركة أحد في السنة الثالثة من الهجرة ، وعندما عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك في السنة التاسعة ، وأقترب من المدينة المنورة وأطل على جبل أحد (هذا جبل يحبنا ونحبه) ( ) وفيه وجوه :
أولاً : تأكيد قانون وهو أن المسلمين لم ينهزموا في معركة أحد ، وأن المشركين لم ينتصروا فيها .
ثانياً : بيان حب الأرض التي يطأها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له وللمؤمنين .
ثالثاً : نصرة الأرض التي يقاتل عليها المؤمنون لهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) وقوله تعالى [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ] ( ).
إذ تبين الآية أعلاه أن الأرض تسمع قول الله وتستجيب لأمره .
رابعاً : بيان حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأيام الدفاع عن الإسلام .
خامساً : في جبل أحد ذكرى نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل .
سادساً : تُذكر رؤية جبل أحد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالمصيبة بفقد سبعين شهيداً .
سابعاً : منع المسلمين من النفرة من محل المصيبة في معركة أحد .
ثامناً : بيان قانون وهو أن المصيبة في معركة أحد موعظة للمسلمين اقتبسوا منها الدروس والمواعظ .
تاسعاً : تكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلغة جماعة المتكلمين : (هذا جبل يحبنا ونحبه) ( ) ويحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه يتكلم بلغة التفخيم .
الثاني : إرادة أهل البيت والصحابة الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد .
الثالث : المقصود الصحابة الذين كانوا مع النبي يوم العودة من معركة تبوك وساعة نطق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الحديث الشريف .
الرابع : المقصود عموم المسلمين أوان الحديث .
الخامس : إرادة عموم المسلمين والمسلمات يوم نطق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الحديث .
السادس : المقصود عموم المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
والمختار هو الأخير ، وتكون الوجوه الأخرى أعلاه في طوله ، أن لغة التفخيم في الوجه الأول فلم تثبت عن النبي ، وكان صلى الله عليه وآله وآله وسلم يحرص على بيان عبوديته لله عز وجل بالقول والفعل والإجتهاد بالعبادات والمناسك .
وعن الأوزاعي قال (المعنى إنّ جبرئيل أتى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال له : يا جبرئيل صف ليّ النّار؟
فقال : إنّ الله أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتّى احمرّت ثمّ أوقد عليها ألف عام حتّى اصفرّت ثمّ أوقد عليها ألف عام حتّى اسودّت فهي سوداء مظلمة لا يضي لهيبها ولا جمرها،
والّذي بعثك بالحقّ لو أنّ ثوباً من ثياب أهل النّار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعاً ولو أنّ ذَنوَباً من سرابها صبّت في الأرض جميعاً لقتل من ذاقه،
ولو أنّ ذراعاً من السلسة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعاً لذابت وما استقلّت ولو إنّ رجلاً دخل النّار ثمّ أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه فبكى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبكى جبرئيل لبكائه .
وقال : أتبكي يا محمّد وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر قال : أفلا أكون عبداً شكوراً،
ولم بكيت يا جبريل وأنت الروّح الأمين أمين الله على وحيه؟
قال : أخاف أن أبتلي بما أبتلي هاروت وماروت. فهو الّذي منعني عن اتكالي على منزلتي عند ربّي فأكون قد آمنت مكره , فلم يزالا يبكيان حتّى نوديا من السّماء أنً يا جبرئيل ويا محمّد إنّ الله قد أمنكما أن تعصياه فيعذبكما , ففضّل محمّد على الأنبياء كفضل جبرائيل على ملائكة السّماء)( ).
المسألة الثانية : ذكرت آية البحث ما لحق المسلمين من الأذى والضرر يوم معركة أحد بصيغة الخطاب للمسلمين , فهل تشمل المصيبة وأضرارها المنافقين الذين ذكرتهم آية السياق خاصة وانهم يعلنون الإسلام ويبطون الكفر فيه وجوه محتملة :
الأول : يلحق المنافقين ما يلحق المؤمنين من الأذى والضرر .
الثاني : يلحق المنافقين الأذى على نحو السالبة الجزئية .
الثالث : لا يصيب المنافقين أذى وضرر في واقعة أحد .
الرابع : شماتة المنافقين لما أصاب المسلمين يوم معركة أحد .
الخامس : ندم المنافقين على قعودهم عن الجهاد .
والمختار هو الثاني والرابع أعلاه ، فمع أن المنافقين شمتوا بالمسلمين لما أصابهم فان الأذى والضرر لحقهم أيضاً , ولكن ليس بذات الرتبة والضرر الذي لحق المسلمين ، فليس فيهم جراحات , ولم يقتل عدد من المنافقين في المعركة في المعركة لأنهم رجعوا وسط الطريق ومنهم من لم يخرج إلى المعركة أصلاً .
ولكن أصابهم الأذى لأن الشهداء والجرحى على قسمين :
الأول : من المهاجرين .
الثاني : من الأنصار .
والأنصار إخوان وأبناء عمومة للمنافقين , وهو الذي يدل عليه قوله تعالى في الآية بعد التالية [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ) بالإضافة إلى أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً وأن المنافقين من الذين نطقوا بالشهادتين فان قلت أنهم يبطنون الكفر .
وهذا صحيح إلا أن الإجهار بالإنتماء للإسلام وحضور الصلوات بجعل في قلوبهم محلاً للحزن والإسى عند إصابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجراحات ، ليكون من معاني آية البحث وآية السياق مجتمعين ومتفرقين دعوة المنافقين للتوبة والإنابة ، وجعل الإيمان ينفذ إلى قلوبهم باثارة حمية الدين وملة التوحيد في نفوسهم لإستهجان وإنكار ظلم كفار قريش .
المسألة الثالثة : ذكرت آية البحث في خاتمتها المؤمنين , وأخبرت بأن الله عز وجل جعل المصيبة تحل بالمسلمين ليعلم المؤمنين الذين أخلصوا في طاعتهم لله والرسول ، مع أن الله عز وجل يعلم بهم قبل أن يخلق آدم .
ذكرت الآية المؤمنين من غير صفات أخرى لبيان أن صفة الإيمان وحدها كافية لتلقي المدح والثناء وجلب الخير والنفع ، ولأنها شاهد على بذل المؤمنين الوسع في الجهاد والصبر في ميدان القتال ، وقد ذكر ذات الاسم في بداية المعركة بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ] ( ) .
أما آية البحث فانها ذكرت المنافقين بالاسم والصفات المتعددة التي يتصفون بها ، ومن الإعجاز عدم إنحصار ذكر صفاتهم بآية البحث إنما وردت الآية التي بعدها بذكر صفات أخرى للمنافقين ، مع أن الله عز وجل يعلمهم باشخاصهم وأفعالهم وصفتهم ، ولكن البيان ورد ليعلم المسلمون والمسلمات بهم وبخصالهم ، فتكون تلك المعرفة على وجوه :
الأول : معرفة المسلمين للمنافقين باشخاصهم ليعلموا بصفاتهم .
الثاني : تفقه المسلمين , ومعرفتهم بخصال المنافقين المذمومة ليعلموا بأشخاصهم, ويتم تعيينهم , وأخذ الحائطة منهم , قال تعالى [وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ] ( ).
الثالث : نفرة النفوس من النفاق .
الرابع : إمتناع الناس عن الإنصات للمنافقين أو إتباعهم .
الخامس : معرفة المنافقين بحالهم ، ولزوم التوبة من النفاق .
السادس : علم المنافقين والمنافقات بأن الله عز وجل يعلم بحالهم ويؤاخذهم عليه .
السابع : إرادة بيان قانون وهو أن المنافقين يبوؤون بالإثم بسبب مالحق المسلمين من المصيبة لتثبيطهم الهمم وقعودهم عن الجهاد وبثهم السموم .
الثامن : إنذار المنافقين ، قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
المسألة الرابعة : لقد تضمنت آية البحث الثناء على المؤمنين ، وجاءت آية السياق بذم المنافقين وبيان خصلة من صفاتهم بتوجيه نوع لوم للمؤمنين الذين استشهدوا من قبائلهم أو جيرانهم أو أصدقائهم بأنهم لو بقوا في المدينة ولم يخرجوا للقتال في معركة أحد ما قتلوا لبيان التمايز والتضاد بين المؤمنين والمنافقين ، والإخبار عن خصال حميدة عند المؤمنين من جهات :
الأولى : المبادرة إلى النفير .
الثانية : بذل الوسع للنصر على الذين كفروا .
الثالثة : التعاون والتآزر في ميدان القتال .
وهو من أبهى مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
الرابعة : التسليم بأن الشهداء أحياء في مقام كريم عند الله عز وجل .
الخامسة : عدم إظهار المسلم الندم والحسرة على الخروج لقتال الذين كفروا .
السادسة : تلاوة المؤمنين والمؤمنات لآية البحث والسياق وأخذ الحائطة من أقوال المنافقين .
السابعة : الإحتجاج على المنافقين , ومن أسرار آية السياق أن مضمونها مادة للحجة والبرهان ، فيكفي المؤمن أن يتلو قوله تعالى [قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ] ( ) لإقامة الحجة على المنافقين واسقاط ما في أيديهم ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ).
المسألة الخامسة : أختتمت آية البحث ببيان سبب من أسباب ما لاقاه المسلمون من الخسارة في معركة أحد وهو علم الله بالمؤمنين بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] .
ولم تذكر آية البحث صفات المؤمنين ، ولكن الآية التالية لها وآية السياق ذكرنا صفات المنافقين لتدل في مفهومها على الصفات الحميدة للمؤمنين وكيف أنهم تنزهوا عن الصدود والقعود ، ليكون تقدير خاتمة الآية على وجوه منها :
الأول : ليعلم المؤمنين الذين لم ينافقوا .
الثاني : ليعلم المؤمنين الذين يدعون إلى الله بالصبر والدفاع .
الثالث : ليعلم المؤمنين الذين ساهموا في بناء قواعد صرح الإسلام ، وقد أثنى الله عز وجل على ابراهيم واسماعيل إذ شيّدا قواعد البيت الحرام بقوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ).
وقد بنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه قواعد الإسلام بالدماء والجراحات والصبر , وتحمل الأذى من كفار قريش ونحوهم .
الرابع : ليعلم المؤمنين الذين يكون عملهم حجة على المنافقين والكفار.
الخامس : ليعلم المؤمنين الذين صبروا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة ومنهم الذين فروا من المعركة ثم عادوا إليها وإن لم يقاتلوا بعد عودتهم إلى ميدان المعركة .
إعجاز الآية الذاتي
إبتدأت آية البحث بحرف العطف الواو الذي يدل بالدلالة التضمنية على عطف آية البحث على الآية السابقة لها .
ومن الإعجاز إختتام الآية السابقة بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) لبيان قانون وهو من عظيم قدرة الله نزول الخسارة والأذى بالمسلمين في معركة أحد .
وهو لا يتعارض مع إخبار آية البحث بأن الذي أصابهم باذن الله عز وجل ، ليكون من إعجاز آية البحث بعث المسلمين على الدعاء وسؤال الله عز وجل تدارك الخسارة التي أصيب بها يوم أحد ، والإلحاح بالدعاء للفوز بالنصر في معارك الإسلام اللاحقة .
لقد قيدت آية البحث ما لحق المسلمين من الخسارة بأنه باذن الله، وفيه بعث للسكينة في نفوس المسلمين بالأمن من الخسارة والهزيمة في قادم الأيام .
لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ومن الإعجاز فيه بيانه وذكره للوقائع والمصائب التي لحقت المسلمين والخسارة التي ألمت بهم مجتمعين ومتفرقين ، فقد ذكر الله واقعة بدر وما فيها من النصر ثم ذكر معركة أحد ، وما نزل بالمسلمين من الخسارة والأذى والضرر .
وجاءت الآية بصيغة الخطاب للمسلمين وهو نوع إكرام ومواساة لهم ، لقد وثّق القرآن ما جرى للمسلمين في معركة أحد ليكون موعظة للمسلمين .
وتحتمل حاجة المسلمين للموعظة والحكم المستقرأة من وقائع معركة أحد وخسائر المسلمين فيها وجوهاً :
الأول : حاجة المسلمين للإتعاظ من معركة أحد ووقائعها عند طرو حال الحرب والقتال مع الذين كفروا .
الثاني : يحتاج المسلمون ذكرى وقائع معركة أحد عند الشدائد والمحن .
الثالث : لا يحتاج المسلمون ذكر وقائع معركة أحد إلا في حال الدراسة والتحقيق .
الرابع : حاجة الأمراء والحكام والعلماء لإستحضار وقائع معركة أحد لإستنباط المسائل والمواعظ منها عند الحاجة .
وبأستثناء الوجه الثالث أعلاه فان كل الوجوه الأخرى من مصاديق آية البحث ، لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بآية البحث وتفضله بالإخبار عن وقائع معركة أحد ، ما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون من الأذى ، وأسباب الضرر ، ومن اعجاز آية البحث الذاتي عدم تأخر نزولها عن أيام واقعة أحد ليتخذ المسلمون هذه الآية واقعة وسلاحاً في المعارك اللاحقة .
لقد تضمنت الآية الشهادة من الله عز وجل بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أصيبوا وحلت بهم مصيبة يوم معركة أحد ، وفيه مناسبة لسخط الله عز وجل على الذين كفروا ، وقرب الإنتقام منهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) لأنه ملك تدبير وسلطنة وقدرة .
ومن الإعجاز في نظم الآيات إختتام الآية السابقة بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) ومن قدرته سبحانه بلحاظ مصيبة المسلمين يوم معركة أحد وجوهاً :
الأول : قدرة الله عز وجل على نزول المصيبة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وقد أخبر الله عز وجل عن كونهم[ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الثاني : وقوف المصيبة عند حد وقدر مخصوص وهو المستقرأ من إبتداء الآية بالإسم الموصول (ما) في أول الآية ، وحصر المصيبة بيوم معلوم دون سائر أيام الدعوة الإسلامية .
الثالث : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على السلامة من المصائب في أيام السلم والحرب باستثناء يوم معركة أحد .
الرابع : بيان قانون وهو لا يصيب المسلمين الأذى والضرر إلا بأذن ومشيئة من عند الله ، وفيه بشارة الثواب العظيم على المصيبة والأمن من تكرار وقوعها .
الخامس : الثناء على المسلمين بأنه لم تنزل بهم المصيبة وهم قعود في البيوت إنما خرجوا للقاء العدو وقاتلوه وهم يرجون رضوان الله ونيل الأجر والثواب منه بدليل قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] فكأن الآية تقول : وما أصابكم يوم التقى الجمعان في سبيل الله فابشروا بالنصر والثواب .
(عن ابن عباس قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا غلام احفظ الله يحفظك احفط الله تجده أمامك تعرف بالله في الرخاء يعرفك في الشدة واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك واعلم أن الخلائق لو اجتمعوا على أن يعطوك شيئا لم يرد الله أن يعطيك لم يقدروا عليه أو يصرفوا عنك شيئا أراد أن يصيبك به لم يقدروا على ذلك فإذا سألت فسل الله وإذا استعنت فاستعن بالله , واعلم أن النصر مع الصبر , وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا , واعلم أن القلم قد جرى بما هو كائن) ( ).
السادس : صيرورة المصيبة التي نزلت بالمسلمين يوم معركة أحد مناسبة لتعيين المؤمنين ، ومعرفة الملائكة والناس بهم لبيان قانون وهو أن القتال يكشف السرائر ، ويبين صدق الإيمان .
ويمكن تسمية آية البحث [وَمَا أَصَابَكُمْ] ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في آية البحث ، نعم ورد ذات اللفظ ومن غير واو العطف في قوله تعالى[لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ] ( ) ومن إعجاز نظم القرآن أن الآية أعلاه تتعلق بذات واقعة أحد.
إعجاز الآية الغيري
تخاطب آية البحث المسلمين على نحو العموم الإستغراقي ، وبصيغة الفعل الماضي للواقعة التي تعرضوا لها ، وهل يصح تقدير الآية بالخطاب للمسلمات ، وما أصابكن يوم التقى الجمعان فباذن الله).
أم أن الآية خاصة بالرجال من المسلمين وما لاقوه من القتال ، الجواب هو الأول من جهات :
الأولى : عموم المصيبة وتغشيها لمجتمعات المسلمين والمسلمات .
الثانية : دخول الحزن والأسر ، وإرتفاع البكاء والنياحة في بيوت أهل المدينة ، وقد مرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بيوت عبد الأشهل من الأنصار فسمع النياحة فجرت دموعه على خديه ، لتكون هذه الدموع شاهداً على عموم المصيبة , وسبباً للسخط من الله عز وجل على الذين كفروا .
وقد ورد قبل أربع آيات قوله تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
وفيه وجوه :
الأول : من خرج مجاهداً مدافعاً في معركة فبإذن الله اتبع رضوان الله.
الثاني : أفمن اتبع رضوان الله وصبر في ميدان معركة أحد ، فبإذن الله.
الثالث : أفمن اتبع رضوان الله ، وتنزه عن النفاق فبإذن الله ، وفيه دعوة للمسلمين ليشكروا الله عز وجل على السلامة من النفاق ، ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه حرب على النفاق ودعوة للمسلمين للتقيد بسنن الإيمان والتقوى .
الثالثة : قتال بعض النسوة المؤمنات في معركة أحد وأصابتهن بالجراحات .
لقد دخلت المصيبة والحزن بسبب معركة بدر كل بيت من بيوت مكة ، أما في معركة أحد فقد دخلت المصيبة والحزن كل بيت من بيوت المسلمين في المدينة ، ولكنه قياس مع الفارق من جهات :
الأولى : تلقي بيوت مكة المصيبة وهم في حال ضلالة .
الثانية : ذهاب قتلى المشركين غير مأسوف عليهم وليس لهم من مأوى إلا النار .
وحينما ألقي قتلى المشركين في القليب يوم بدر ، خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جوف الليل وأخذ يناديهم باسم أهل القليب ،بقوله (يا أهل القليب، يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام، فعدد من كان منهم في القليب، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربى حقا.
فقال المسلمون: يا رسول الله أتنادى قوما قد جيفوا ؟.
فقال: ” ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني) ( ).
أما قتلى المسلمين في معركة أحد فقد صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذهبوا شهداء وخُلدوا في القرآن ، كما وجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما وعده ربه حقاً بالنصر والغلبة على الذين كفروا ، فان الشهداء لقوا ما وعدهم الله من حياة الخلد في النعيم .
هل ما وعد الله الشهداء من مصاديق ما وعد الله ورسوله ، الجواب نعم .
وأخبرت آية البحث عن قانون وهو أن الذي أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إنما هو بإذن الله عز وجل لـتأكيد قانون وهو أنه لا يصيب المسلمين أذى أو ضرر إلا باذن الله عز وجل به ، لبيان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه دعوة للمسلمين للجوء إلى الله عز وجل والإستجارة به .
الثالثة : لحوق الذل والهوان بقريش بعد معركة بدر واختيارهم سوء العاقبة ، وقد ورد (عن ابن عباس: ” الذين بدلوا نعمة الله كفرا ” قال: هم والله كفار قريش.
قال عمرو: هم قريش، ومحمد نعمة الله: ” وأحلوا قومهم دار البوار ” قال: النار يوم بدر.) ( ).
الرابعة : لقد دخل المسلمون معركة أحد عقب نصر مبين في معركة بدر ، أما الذين كفروا فدخلوها بعد هزيمة وذل .
الخامسة : لم يحقق المشركون أي نصر في معركة أحد ، وعجزوا عن بلوغ أي غاية جاء ثلاثة آلاف رجل من أجلها ومعهم مائتا فرس مجنبة الركوب في الطريق مع تعطيل الأعمال وإنفاق الأموال الطائلة فان قلت قد نادى أبو سفيان بأعلى صوته فليس من مكبرات للصوا آنذاك ، ولكن الذين يسمعون القول ينقلونه إلى غيرهم وكانت الحواس سليمة وذات تمرين للحاجة المستمرة لها نادى :
الحرب سجال يوم بيوم بدر ، وقالت زوجته هند : نحن جزيناكم بيوم بدر .
الجواب إنه من مكر وكيد المشركين وقد (أجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف فقالت: (خزيت في بدر و بعد بدر)( ).
ومن الإعجاز الغيري لقوله تعالى [فَبِإِذْنِ اللَّهِ] البشارة والأمل للمسلمين وهدايتهم إلى سبيل مبارك للنجاة من المصيبة ، وهو التسبيم والتقيد بأحكام الشريعة ، والتحلي بالتقوى ، ليكون دفع المصيبة من مصاديق قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
فان قيل لماذا يأذن الله عز وجل بنزول المصيبة بالمسلمين جاءت آية البحث بالجواب متعقباً للإخبار عن إذن الله ببيانها لأمر آخر وعلة ثانية لخسارة المسلمين ، بتجلي مصاديق الإيمان ، ومعرفة المؤمنين بعضهم لبعض وإصابة الذين كفروا بالفزع والخوف بالعلم بالمؤمنين .
ومن إعجاز آية البحث أنها لم تقل فبإذن الله ليعلم المؤمنين ) إنما قالت [وليعلم المؤمنين] لبيان أن كل فرد منها جزء علة فيما أصاب المسلمين ، وسيأتي مزيد بيان في تفسير قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ].
الآية سلاح
لقد ابتدأت آية البحث بحرف العطف الواو وفيه دعوة للرجوع للآية السابقة عند التدبر في مضامين آية البحث التي تتضمن ذكر المصيبة التي نزلت بالمسلمين يوم معركة أحد ، وهل يصدق على هذه المضامين أنها سلاح بيد المسلمين .
الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : تتضمن الآية السابقة تذكير المسلمين بمعركة بدر ونصر المسلمين العظيم فيها ، وتوثيق القرآن لقانون ، وهو أن نزول هذا النصر من عند الله بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) ومن مصاديق هذا النصر أن المسلمين غنموا وكسبوا ضعف ما خسروا في معركة أحد.
والمختار أن قوله تعالى [قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا] إرادة الإضعاف المتعددة من المكاسب والغنائم في معركة بدر .
الثانية : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين بان جاء نصرهم قبل الخسارة في معركة أحد .
الثالثة : عدم ترك الله للمسلمين يوم المصيبة والخسارة يوم أحد، فحينما تساءلوا عن سبب الخسارة جاءهم الجواب بأنه من عند المسلمين أنفسهم ، وليس من معصية في المقام إلا أن المعنى من عند أنفسكم كمؤمنين بدليل ما ورد في الآية قبل السابقة التي وصفت المسلمين بصيغة الإيمان بقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
من فضل الله في آيات القرآن نزولها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال السراء والضراء والرخاء والشدة ، وهل هذا التعدد في هيئة وحال المسلمين من مصاديق الإطلاق البياني في قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) أم أن التباين يتعلق بالحال دون المحل .
الجواب هو الأول خاصة وأن آيات القرآن مرآة لحال المسلمين، وتأخذ بأيديهم نحو مسالك الإيمان ، ليكون من مصاديق خاتمة الآية[وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ليرتقي المسلمون في مراتب الإيمان ، فمن إعجاز آية البحث أن الله عز وجل أذن بجريان وقائع معركة أحد بما يتضمن الإبتلاء وشدة البلاء للمسلمين ونزول المصيبة بهم لإعانتهم في إيمانهم وثبات أقدامهم في مقامات الهدى والفلاح ، وليكون من معاني الآية وجوه :
الأول : ليعلم الله أن المؤمنين نتفعوا من مدده وعونه في نفوسهم وأشخاصهم وعوائلهم .
الثاني : ليعلم الله المؤمنين الذين يلقون الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا .
الثالث : ليعلم الله المؤمنين الذين عصموا أنفسهم بجهادهم في معركة أحد من الإرتداد .
الرابع : ليعلم الله المؤمنين الذين ثبتوا عند المصيبة ويثبتون عند الشدائد .
الخامس : ليعلم الله المؤمنين والذين نزلت بهم المصيبة فيحفف عنهم ويمنع عنهم توالي المصائب ، ومن الإعجاز في المقام أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قال بخصوص معركة أحد : لَنْ يَنَالُوا مِنّا مِثْلَهَا حَتّى تَسْتَلِمُوا الرّكْنَ)( ).
مفهوم الآية
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بخصوص الآيات التي نزلت في واقعة بدر وما ناله المسلمون من النصر وما كسبوه من الغنائم منها قوله تعالى[وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]( ) .
وقد تقدم في تفسير هذه الآية وموضوع نزولها أنها نزلت في واقعة بدر، لتدل بالدلالة التضمنية على وجود غنائم عند المسلمين يومئذ، ونزلت في فقدان قطيفة حمراء مما غنمه المسلمون يوم معركة بدر.
ومنها قوله تعالى[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( ).
بينما جاءت آية البحث لتحكي ما لحق المسلمين في معركة أحد ، ومن الإعجاز أنها تمنع الإنصراف إلى غير وقائع معركة أحد وإن تعرض فيها المسلمون لخسارة أو نكسة بدليل قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) وقد ورد هذا اللفظ لإرادة معركتين :
الأول : معركة بدر .
الثانية : معركة أحد .
وحيث أن معركة بدر كانت نصراً مبيناً من عند الله ، صار المقصود من آية البحث هو خصوص معركة أحد , وفق قاعدة السبر والتقسيم .
الآية لطف
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً ، وهذه الحاجة لطف من عنده تعالى بالناس لأنها وسيلة مباركة لجذبهم إلى منازل العبادة التي هي علة خلقهم ، وليس من حصر لوجوه حاجة الإنسان فهو محتاج إلى رحمة الله عز وجل في كل آن من آنات حياته، وتلاحقه ذات الحاجة بعد موته , ولكن على نحو مضاعف أضعافاً لا يقدر الناس على إحصائها ، وهو من بديع صنع الله فكما قال الله عز وجل [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) فان الناس لا يستطيعون إحصاء أمور كثيرة منها حاجتهم إلى رحمة ومنّ الله عز وجل .
وتتجلى وجوه من هذه الحاجة في كل آية من آيات القرآن وذات تلاوتها حاجة للإنسان وخير محض ونفع عام له بخصوص ما تقدم من أحواله وما تأخر ، وهو من عمومات قوله تعالى [لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ] ( ) .
فصحيح أن الآية أعلاه وردت خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنها تشمل المسلمين فهي نعمة ورحمة متجددة تتغشى المسلمين والمسلمات وتدعوهم إلى رجاء وسؤال العفو والمغفرة من عند الله خاصة وأن الآية أعلاه جاءت معلولاً لعلة وهي فضل من عند الله بقوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا]( ) فيأتي الفتح من عند الله لتتعقبه المغفرة منه سبحانه .
ومن المتسالم عليه أن النصر والفتح جاء بفضل الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وكما ورد في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( ) ولم يأت لفظ [لِيَغْفِرَ لَكَ] إلا في الآية أعلاه .
وورد قوله تعالى [لِيَغْفِرَ لَكُمْ] في قوله تعالى [قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى] ( ).
فذات الدعوة من عند الله للإيمان سبيل ونوع طريق إلى المغفرة ، وقد نال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المرتبة الأسمى بالإطلاق بالمغفرة لما تقدم من الذنب وما تأخر ، والمختار أن المراد المؤمنون من أمته ، وهو المعصوم بالوحي من الذنب والمعصية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
وتتجلى المغفرة بما ذكرته آية البحث من نزول المصيبة بالمسلمين في معركة أحد .
ومن وجوه حاجة الإنسان المواساة عند المصيبة , ويتطلع إلى الأحبة والأرحام والأصدقاء التخفيف عنه .
وجاءت المصيبة للمسلمين في واقعة أحد , وهم يدافعون عن النبوة والتنزيل ، فتفضل الله عز وجل وواسهم بآية البحث فهي والآية السابقة ( )من آيات المواساة ، إذ جعل الله عز وجل الدنيا دار الإبتلاء والإختبار .
ومن ينجح في إختبار الإقرار بالتوحيد والنبوة ، يبتلى بآخر غيره مع الفارق وهو فضل وإعانة ومدد الله عز وجل له بالإختبارات اللاحقة ، وكلما يجتاز المؤمن إختباراً يزيد الله عز وجل عابه بالمدد , ويخفف عنه وطأة الإبتلاء ، قال (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) ( ).
ومن الشواهد عليه أن المسلمين ابتلوا بمعصية وخسارة يوم أحد، في شهر شوال من السنة الثالثة من الهجرة .
وتتضمن آية البحث المواساة والبشارة بالأجر والثواب بلحاظ خاتمتها وقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] .
(عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم :يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلاَءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِى الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ) ( ).
إفاضات الآية
لقد نزلت آية البحث بعد معركة أحد ، ويتعلق موضوعها بما أصاب المسلمين من الضرر والخسارة الفادحة في النفوس والجراحات والحرمان من الغنائم ، ولم يترك الله عز وجل الواقعة تمر من غير أن يبين أسبابها ومجرى الأحداث فيها ونتائجها بل تفضل بذكرها في القرآن وعلى نحو التفصيل ، وبيان كيفية إنتفاع المسلمين منها في الدنيا والآخرة ، إذ يتضمن قوله تعالى [مَا أَصَابَكُمْ]الوعد الكريم من عند الله عز وجل بالثواب العظيم للمسلمين في الآخرة على المصيبة التي ألمّت بهم ، وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : وما أصابكم يوم التقى الجمعان يجازيكم الله عليه .
الثاني : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فهو في سبيل الله .
الثالث : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فهو بعين الله .
الرابع : أن الله عز وجل لا يضيع مصابكم يوم التقى الجمعان ، وفي التنزيل [أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ] ( ).
الخامس : وما أصابكم يوم التقى الجمعان يذكره الله في القرآن فيبقى عزاً وفخراً لكم .
السادس : وما أصابكم يوم التقى الجمعان حجة على الذين كفروا وسبب في تعجيل عذابهم .
السابع : وما أصابكم يوم التقى الجمعان تزكية لكم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ] ( ).
الثامن : وما أصابكم يوم التقى الجمعان سبب لفيض وبركة من عند الله عز وجل ، لقد جعل الله عز وجل السموات والأرض ملكاً به وحدة لا يشاركه في ملكها أحد ، ليكون عطاؤه منها لعباده من اللامتناهي ، وليس له إنقطاع ، ولا يتوقف على إذن ملك أو رسول، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ) .
لتبين الآية أعلاه إنعدام الشريك وان الله عز وجل لا يفوض من أمور الخلق والإنشاء إلى غيره ، ولا تكون مشيئته وتنجز فعله من غير تعليق على إرادة ورضا غيره .
ليكون من فيوضات آية البحث البشارة بأن الله عز وجل هو الذي يجازي المسلمين على المصيبة التي تعرضوا لها ، وفيه إنذار للذين كفروا وتذكير بقبح فعلهم .
وبعد أن كان المسلمون مستضعفين صاروا أمة وجيشاً وجمعاً يلاقون في سوح المعارك الكفار الذين استضعفوا وأكثروا من إيذائهم في مكة ، ليكون قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]نعمة من وجوه :
الأول : تأهل المسلمين للقاء الذين كفروا نعمى عظمى .
الثاني : صبر وجهاد ودفاع المسلمين يوم معركة أحد نعمة عظمى .
الثالث : حال المسلمين بعد معركة أحد نعمة ومنّ وفضل من الله عز وجل , وبشارة لنعمة تتعلق بواقعة الخندق ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا] ( ).
الآية بشارة
بين البشارة والمصيبة نوع تناف وتضاد ، ولكن الحقيقة القرآنية أمر إعجازي يبهر العقول , وآية بليغة من خصائصها جمع المتضاد وتفريق المتشابه .
فمع إخبار آية البحث عن المصيبة التي نزلت بالمسلمين فأنها تتضمن البشارة من جهات :
الأولى : لغة الخطاب من الله إلى المسلمين , وفيه غاية الإكرام لأنه مقيد بصفة الإيمان وإرادة المعنى العام للعطف على نداء الإيمان بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( ).
الثانية : البشارة بثبات المسلمين في منازل الإيمان فمع ما أصابهم من الأذى الشديد وخسارة سبعين شهيداً ، وكثرة الجراحات فأنهم تلقوا هذه المصائب بالصبر وتعاهد سنن الإيمان .
ومن الآيات أنهم صلوا صلاة المغرب والعشاء في ذات يوم معركة أحد جماعة بامامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : تسمية يوم معركة أحد [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ] أمارة على قلة المعارك بين المسلمين والذين كفروا ، إذ ذكرت الآية هذا اليوم على نحو الإجمال ، وقد ورد ذات اللفظ بخصوص معركة بدر بقوله تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
ومن أعظم البشارات قلة المعارك بين المسلمين والذين كفروا ، لما فيه من إحتمال إنقطاع هذه المعارك بنصر الإسلام ، فان قلت كيف تكون هذه الخاتمة .
الجواب بدلالة منطوق آية البحث ولغة الخطاب فيها ، وإختتامها بعلم الله عز وجل بالمؤمنين .
لقد كانت مصيبة المسلمين يوم أحد باباً للرفعة والعز في الدنيا والآخرة ، وهي مناسبة للثواب والأجر العظيم ، وقد ورد قبل تسع آيات [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ).
ومع أن كلاً من القتل والموت زهوق للروح ومغادرة للدنيا إلا أن الآية جاءت بالبشارة العظمى بالفوز بالمغفرة والرحمة من عند الله عز وجل .
وتقدير آية البحث بلحاظ باب البشارة هذه على وجوه :
الأول : وما أصابكم أيها المؤمنون فهو في سبيل الله .
الثاني : وما أصابكم والرسول معكم .
الثالث : وما أصابكم بامامة رسول الله واوامره التي هي وحي وتنزيل .
الرابع : وما أصابكم والملائكة مدد وعون لكم (عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَمَعَهُ رَجُلَانِ يُقَاتِلَانِ عَنْهُ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ كَأَشَدّ الْقِتَالِ مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ) ( ).
وقيل أن دفاع الملائكة خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن الملائكة لم يقاتلوا يومئذ إلا في الدفاع عن شخص النبي لأن وعد الله للمسلمين بأن يمدهم بالملائكة مشروط بالصبر والتقوى لقوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ) .
ولا دليل على هذا الحصر والتقييد أنما نزل الملائكة للذب والدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ولطرد الذين كفروا وجعلهم يصابون بالفزع والخوف .
الخامس :وما أصابكم يوم التقى الجمعان , ففيه الأجر والثواب .
السادس : وما أصابكم يوم التقى الجمعان , فهو خزي وعار على الذين كفروا .
السابع : يا أيها الذين آمنوا أبشروا لما أصابكم يوم التقى الجمعان .
الثامن : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبعين الله .
وفي قوله تعالى [وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا] ( ) أي بعين الله .
التاسع : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فهو مدون في اللوح المحفوظ ، (وعن ابن عباس: (واصنع الفلك بأعيننا)، قال : بعين الله .
وعن ابن عباس ، قال : إن لله عز وجل لوحا محفوظا من درة بيضاء ، جفافه ياقوتة حمراء ، قلمه برق ، وكتابه نور ، عرضه ما بين السماء والأرض ، ينظر فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ، يخلق بكل نظرة ، يحيي ويميت ، ويعز ويذل ، ويفعل ما يشاء .
وعن كعب ، قال : ما نظر الله عز وجل إلى الجنة قط إلا قال لها : طيبي لأهلك ، فزادت طيبا حتى يدخلها أهلها)( ).
العاشر : وما أصابكم يوم التقى الجمعان لتسألوا الله النصر .
الحادي عشر : وما أصابكم يوم التقى الجمعان لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني عشر : وما أصابكم يوم التقى الجمعان لن يصيبكم مرة أخرى .
الثالث عشر : وما أصابكم يوم التقى الجمعان ذكره الله في القرآن .
الرابع عشر : وما أصابكم يوم التقى الجمعان بشارة ثبات الإسلام في الأرض .
الخامس عشر : وما أصابكم يوم التقى الجمعان أمر لن يتكرر .
السادس عشر : وما صرف الله عنكم من الضرر أكثر مما أصابكم يوم التقى الجمعان .
السابع عشر : وما أصابكم يوم التقى الجمعان باعث للصبر ، وفي التنزيل [إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
الثامن عشر : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فقد أصاب المؤمنين من الأمم السابقة .
التاسع عشر : وما أصابكم يوم التقى الجمعان دعوة للناس لدخول الإسلام لما في أثر المصيبة من المعجزات .
العشرون : ما أصابكم يوم التقى الجمعان مناسب لتعاهد الصلاة والفرائض العبادية الأخرى .
الحادي والعشرون : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبظلم , وجور, وتعد من الذين كفروا ، وفي التنزيل [وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ] ( ).
الثاني والعشرون : وما أصابكم يوم التقى الجمعان [هَذَا بَلاَغٌ لِلنَّاسِ]( ).
الثالث والعشرون : وما أصابكم يوم التقى الجمعان لينزل الملائكة لنصرتكم .
الرابع والعشرون : وما أصابكم يوم التقى الجمعان مع وجود الملائكة مدداً وناصرين لكم أي لو لم يكن الملائكة حاضرين فلا يعلم ما حلّ بالمسلمين يومئذ إلا الله .
الخامس والعشرون : وما أصابكم يوم التقى الجمعان تنمية لملكة التقوى والزهد .
السادس والعشرون : وما أصابكم يوم التقى الجمعان من مصاديق الإخلاص في العبادة ، وفيه قهر للشيطان ، وفي التنزيل [قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ]( ).
السابع والعشرون : وما أصابكم يوم التقى الجمعان نوع طريق للمغفرة ووسيل للرزق الواسع ، قال تعالى [فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ]( ).
الآية إنذار
لقد ذكرت آية البحث مصيبة حلت مع المسلمين لتكون إنذاراً من جهات :
الأولى : ذات المصيبة في معركة أحد .
الثانية : تعدد مصاديق المصيبة يوم معركة أحد .
الثالثة : الإنذار من تكرار ذات المصيبة .
الرابعة : الآثار المترشحة عن مصيبة معركة أحد ومنها :
الأول : طمع الذين كفروا بالمسلمين والنيل منهم .
الثاني : إغراء المنافقين .
الثالث : كثرة الإشاعات المغرضة في المدينة .
الرابع : شدة جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : الإنذار من قلة الصبر والمواساة عند المسلمين أثر مصيبة واقعة أحد .
وهل يصح القول أن قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] تحذير من معنى مقدر هو (يوم يلتقي الجمعان) بصيغة المضارع الجواب نعم، لبيان حال الذين كفروا وأنهم دائبون في الظلم والتعدي ، ولن يرضوا إلا باستئصال الإسلام إن استطاعوا , [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
وتبين آية البحث وجوب إحتراز المسلمين من آثار الخسارة يوم أحد , ترى كيف يتجلى هذا الإحتراز في منهاج النبوة ؟
الجواب لقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف جيش المشركين يطلبهم ويتعقب آثارهم مع شدة ما به وأصحابه من شدة الجراحات .
فقد بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن جيش الذين كفروا يريدون الكرة على المدينة لأنهم ندموا على الإنسحاب من معركة أحد من دون أن يحققوا أي غاية جاءوا من أجلها .
وكان عدد من وجوه ورؤساء الأنصار باتوا عند باب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم سعد بن عبادة ، وحباب بن المنذر ، وسعد بن معاذ ، وقتادة بن النعمان وغيرهم ,خشية مباغتة جيش الذين كفروا ، مما يدل على أن أخبار قدومهم وغدرهم كانت قد بلغت المسلمين .
فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح ثم أمر بلالاً أن ينادي بالمسلمين للنفير والخروج للقتال ، وقيد الخروج بأنه خاص بالذين خرجوا إلى معركة أحد وشاركوا فيها بالأمس ، للتعريف بالمنافقين ، وبيان حرمانهم من الثواب وعدم الحاجة لهم ، فجاء جابر بن عبد الله الأنصاري واستأذن بالخروج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأن أباه منعه للعناية بأخواته ، وقد قتل أبوه في معركة أحد.
فلم تقعده المصيبة التي لم يمر عليها إلا يوم واحد ، بفقد أبيه عن الشوق للخروج للدفاع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وتناجى المهاجرون والأنصار فخرجوا بجراحاتهم فكانت غزوة حمراء الأسد لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عسكر فيها ويبعد موضعها عن المدينة المنورة عشرين كيلو متراً ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلوائه وهو معقود لم يحل منذ معركة أحد فدفعه إلى الإمام علي عليه السلام , وأختلف في سبب هذه الغزوة على قولين :
الأول : عزم أبي سفيان وأكثر أصحابه على الرجوع للإغارة على المدينة وتجديد القتال ، قاله موسى بن عقبة .
الثاني : خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإرهاب العدو ، وإخبارهم بالمصداق العملي أن الذي أصاب المسلمين لم يضعفهم عن لقاء عدوهم ، قاله إبن اسحاق .
ولا تعارض بين القولين ، إنما يكون الثاني في طول الأول ، ولم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن بلغه عزم كفار قريش على الرجوع ، وتحتمل علة وأصل هذا الخروج وجوهاً :
الأول : معرفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكر وفنون قريش في الحرب , وكيفية غدرها وكيدها .
الثاني : الوحي من عند الله عز وجل بحال قريش والخروج لمطاردتهم .
الثالث : الفرد الجامع للوجهين أعلاه .
الرابع : أمر آخر مثل تنمية ملكة الصبر وملاقاة الأعداء عند المسلمين وإحباط دسائس المنافقين .
الجواب الأصل هو الثاني أعلاه وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج إلا بالوحي ، وتكون الوجوه الأخرى في طوله ومن رشحاته .
وعن الواقدي عن عتبة بن جبيرة عن رجال من قومه في حديث (وحمل سعد بن عبادة ثلاثين جملاً حتى وافت الحمراء. وساق جزراً فنحروا في يومٍ اثنين وفي يومٍ ثلاثاً. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمرهم في النهار بجمع الحطب، فإذا أمسوا أمرنا أن نوقد النيران. فيوقد كل رجل ناراً، فلقد كنا تلك الليالي نوقد خمسمائة نارٍ حتى ترى من المكان البعيد، وذهب ذكر معسكرنا ونيراننا في كل وجهٍ حتى كان مما كبت الله تعالى عدونا) ( ).
لقد كانت مسألة النيران هذه آية في فنون الحرب ، إذ كانت ترى من كل مكان ، وتبدو متعددة منتشرة لتتضمن في دلالتها كثرة جنود المسلمين , وأنهم في حال يقظة وفطنة ورغبة في الدفاع .
وكان أكثر شخص في جيش المشركين يصر على الرجوع للقتال هو عكرمة بن أبي جهل ، ولكن هناك صوت آخر يحذر من هذا الرجوع ويبين ضروب الزلل والخطأ فيه إذ كان صفوان بن أمية يحذرهم من الرجوع ويقول (لا تفعلوا! فإن القوم قد حزنوا وأخشى أن يجمعوا عليكم من تخلف من الخزرج، فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: أرشدهم صفوان وما كان برشيدٍ، والذي نفسي بيده، لقد سومت لهم الحجارة، ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب) ( ).
لقد ذكرت آية البحث مصيبة المسلمين في واقعة أحد ، ويحتمل ذكر المصيبة وجوهاً :
الأول : الإخبار والبلاغ .
الثاني : البيان والكشف .
الثالث : المواساة .
الرابع : التحذير والإنذار .
الخامس : اللوم والتوبيخ .
السادس : تهيئة الأذهان للأضرار المترشحة عن المصيبة .
السابع : إرادة الإخبار عن مصيبة لاحقة .
وجاءت آية البحث للوجوه الأول والثاني والثالث والرابع أعلاه، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا]( ) ويتجلى الإنذار في آية البحث من وجوه :
الأول : ذات أمر المصيبة التي نزلت بالمسلمين إنذار لهم .
الثاني : تلاوة المسلم والمسلمة آية البحث إنذار لهما وللسامعين من المسلمين ، وهو من إعجاز القرآن وإستدامة الغايات الحميدة منه في كل زمان ، وهل يشمل الخطاب أجيال المسلمين في كل زمان أم أنه خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه .
الجواب هو الأول ، ليكون من إعجاز آية البحث مجئ المواساة والثناء من الله عز وجل لكل جيل من المسلمين على ما لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم معركة أحد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) من جهات :
الأولى : الثناء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتوثيق صبره وجهاده في سبيل الله .
الثانية : إكرام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صبره وأصحابه من المهاجرين والأنصار في سبيل الله .
الثالثة : الثناء على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمته وعند الأجيال المتعاقبة منها .
الرابعة : إكرام كل جيل من المسلمين لما لاقاه السابقون منهم ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ]( ).
الخامسة : إخبار الناس عن قانون من الإرادة التكوينية وهو تفضل الله عز وجل بمواساة أجيال المسلمين لما لاقاه نبيهم الكريم من الشدة والجراحات وفقد الأحبة في معركة أحد ، ومن الآيات تجدد هذه المواساة كل يوم وإلى يوم القيامة بتلاوة المسلمين لهذه الآيات في الصلاة اليومية وعلى نحو الوجوب العيني ، فيقرأها المسلمون والمسلمات في مشارق الأرض ومغاربها ، لتكون مناسبة للتذكير بواقعة أحد الدفاعية وإقتباس المسلمين الدروس والمواعظ منها ، ويكون من الشواهد على كون السنة النبوية مرآة للقرآن , ومنها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما رآى جبل أحد (هذا جبل يحبنا ونحبه) ( ).
وهل في تلاوة المسلمين وآية البحث إنذار , أم أن القدر المتيقن من الإنذار أوان وموضوع الآية وسبب نزولها ، الجواب هو الأول ، ففي الآية إنذار للمسلمين والناس جميعاً .
ومن مصاديق الإنذار في المقام دعوة المسلمين إلى الدعاء والمسألة للسلامة والأمن من المصيبة ، وتحث آية البحث المسلمين على الدعاء خاصة وأن خاتمة الآية السابقة تبين قانوناً وهو عظيم قدرة الله , وعدم استعصاء مسألة عليه ، وفي التنزيل[وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ]( ).
الآية ندب إلى الدعاء
من خصائص الآية القرآنية أنها تندب المسلمين والمسلمات إلى الدعاء سواء كانت مضامين الآية القرآنية بصيغة الجملة الخبرية أم الجملة الإنشائية , وتتضمن الأمر والنهي والبشارة والإنذار .
لقد إبتدأت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية بقوله تعالى [وما أصابكم] وأختتمت بصيغة الإنشاء والتعليل البياني بقوله تعالى [وليعلم المؤمنين] .
ومن إعجاز القران أن كلاً من الخبر والإنشاء فيه مناسبة للدعاء والتضرع إلى الله عز وجل ، وقد شرّعنا أبواباً مستحدثة في تفسير كل آية من القرآن منها في سياق الآيات وإعجاز الآية والآية سلاح وغيرها كما سيأتي بيانه ، ويمكن تشريع باب جديد في تفسير كل آية قرآنية بأنها تندب إلى الدعاء والمسألة ، ويتجلى في آية البحث من جهات :
الأول : سؤال المسلمين الله عز وجل الثواب والأجر الجزيل على ما لحقهم من الخسارة يوم أحد .
الثاني : الدعاء بقبول العمل والدفاع في سبيل الله ، وتفضل الله باحتسابه قربة إليه سبحانه وتنقيحه من الرياء والسمعة .
الثالثة : الدعاء لهداية الناس إلى الإيمان وسؤال إصلاحهم للتوبة , وتقريبهم من سبل الإنابة والرشاد .
لقد كانت أمارات ظلم وتعدي كفار مكة على النبي محمد وأهل بيته وأصحابه ظاهرة جلية من بداية الدعوة الإسلامية ، إذ لاقى بنو هاشم الحصار والمضايقة والمقاطعة حتى في نكح نسائهم من عامة قريش , وزواج رجالهم من نساء قريش .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقف في موسم الحج أيام منى وهي من الأشهر الحرم عند العقبة (عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي آية أنزلت من السماء أشد عليك؟ .
فقال كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركوا العرب وافناء الناس في الموسم ، فنزل عليّ جبريل فقال [ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
قال : فقمت عند العقبة ، فناديت : يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي ولكم الجنة ، أيها الناس قولوا لا إله إلا الله، وأنا رسول الله إليكم ، وتنجحوا ولكم الجنة . قال : فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون عليّ بالتراب والحجارة ، ويبصقون في وجهي ويقولون : كذاب صابئ ، فعرض عليّ عارض فقال : يا محمد ، إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك) ( ).
الرابعة : سؤال المسلمين الله عز وجل السلامة من مثل المصيبة التي نزلت بهم في معركة أحد سواء ما لاقوه قبل المعركة بانخزال ثلث جيش المسلمين بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي أو بترك الرماة مواضعهم ، ومجئ خيل الذين كفروا من خلفهم واضطراب جيش المسلمين وشيوع القتل فيهم ، وكثرة الشهداء في صفوف المسلمين والجراحات التي أصابت النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة .
الخامسة : لم تختتم آية البحث بالقول (ليعلم المسلمين) إنما ذكرت المؤمنين على نحو التعيين وبين المسلمين والمؤمنين عموم وخصوص ، فكل مؤمن مسلم وليس العكس ، وفيه دعوة للمسلمين لسؤال بلوغ مرتبة الإيمان بفضل من الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ] ( ) .
لقد أخبرت آية البحث عن قانون وهو : أن ما يقع من البلاء للمسلمين إنما هو باذن الله عز وجل ، وفيه دعوة للمسلمين للدعاء كيلا يأذن الله بنزول المصيبة والبلاء على المسلمين مرة أخرى ، وذات مصيبة المؤمنين نوع واقية من جدوث مثلها , ليكون من الإعجاز الغيري لآية البحث أنها نوع طريق وسبيل هداية لمصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
الحاجة إلى آية البحث
لقد أصرّ الذين كفروا من قريش على محاربة النبوة والتنزيل ، ولما إزداد أذاهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه وعزموا على قتله جاء الأمر من عند الله بالهجرة إلى يثرب لتكون قبلة الإيمان ويسميها الله عز وجل باسم المدينة في مواضع من القرآن مع الثناء على أهلها لبيان المائز والفارق بينهم وبين كفار مكة ، فان احتجوا وقالوا قد كان من أهل مكة المهاجرون مثلما من المدينة الأنصار .
فتأتي الآيات وأخبار السنة التي هي فرقان بين إيذاء أهل مكة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وبين حسن إستقبال واستضافة أهل المدينة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ]( ).
لقد سأل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رؤساء قريش أن يخلوا بينه وبين العرب , وكذا أشار بعض عقلائهم ولكنهم أبوا إلا محاربته ، ترى لماذا أراد النبي منهم تركه وشأنه مع العرب ، الجواب من وجوه :
الأول : مخاطبة القرآن للعقول ودعوته للتدبر والتفكر بالآيات .
الثاني : بيان قانون وهو أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً .
الثالث : نشر الدعوة الإسلامية بين الناس وعد حصرها في بلدة أو قوم مخصوصين ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الرابع : كفاية شرور رؤساء قريش وصدهم الناس عن الإسلام، والتدبر بمعجزات النبوة فاذا جاء وفد من القبائل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو أنه ذهب إليهم في محل إقامته أيام موسم الحج فان قريشاً يحولون دون إيمانهم بنبوته .
وعن (محمد بن المنكدر أنه سمع ربيعة بن عباد أو عباد الدؤلى يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطوف على الناس في منازلهم قبل أن يهاجر إلى المدينة يقول يأيها الناس إن الله يأمركم ان تعبدوه ولا تشركوا به شيئا .
قال : ووراءه رجل يقول يأيها الناس إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم فسألت من هذا الرجل فقيل أبو لهب) ( ).
ومن الناس من يفتتن باعراض وعزوف ومحاربة قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم عشيرته وأهله ليكون من معاني قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( ) بيان قانون من جهات :
الأولى : دعوة بني هاشم وقريش للإسلام .
الثانية : بذل النبي الوسع في دعوة قريش للإسلام ، وهو من المصاديق الخاصة لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ] ( ).
الثالثة : بيان قانون وهو أن إسلام عشيرة وأهل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سبب لدخول كثير من الناس في الإسلام ، وكذا فان إعراضهم وصدودهم عن نبوته نوع عقبة لدخول الناس الإسلام .
الرابعة : لقد تجلت منافع وبركات الآية أعلاه بماهية الناس الذين إشتركوا في الهجوم على المدينة في معركة أحد والخندق ، إذ كان الأحابيش حلفاء وعوناً وسنداً لقريش في حربها وقتالها ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي أن هذه القبائل لم تبدأ القتال والحرب ضد النبوة والإسلام ،ولم يكن بعرض واحد مع قريش في الحرب ، إنما كانوا حلفاء وتابعين لرؤساء الكفر من قريش .
الخامسة : إقامة الحجة على قريش بين القبائل بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنذر قومه وحذرهم من الإقامة على الكفر ومن محاربته.
السادسة : إرادة حسن صلة الرحم وعناية النبوة بالرحم والأهل والأقارب .
السابعة : تأكيد قانون وهو أن عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذراري الأنبياء وهم من ذرية ابراهيم واسماعيل ، وورد في التنزيل [وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ] ( ).
لقد تضمنت آية البحث الإخبار عن نزول المصيبة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ولكنهم لم يكلوا ولم يهنوا حتى كتب الله عز وجل لهم النصر ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ).
وتدل خاتمة الآية أعلاه على أن من الغايات الحميدة لآية البحث تنمية ملكة الصبر عند المسلمين في أجيالهم المتعاقبة والعصمة من الجزع والهلع عن نزول البلاء والمصيبة خاصة الأمر المفاجئ غير المتوقع منها .
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت آية البحث بعد العطف بالإخبار عن حقيقة , وهي نزول المصيبة بالمسلمين وتلقيهم الخسارة ، وإصابتهم بكثرة الجراحات ، فمن مفاخر الإسلام صيغة الخطاب في آية البحث لأنها نزلت بخصوص واقعة أحد ليدل قوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ] على وجوه :
الأول : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إستمرار نزول آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان قانون وهو أن الذي لحق المسلمين من الأذى والضرر يوم أحد لم يمنع من نزول آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أبهى وأعظم صيغ السلامة الخاصة والعامة ، فما دام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سالماً وآيات القرآن تترى في نزولها , فالإسلام والمسلمون بخير ، وهو الأمر الذي أحزن الذين كفروا وجعلهم عاجزين عن صدّ الإسلام .
وذكرت آية البحث يوماً مخصوصاً بقوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ]لبيان الغبطة والسعادة من أيام المسلمين الأخرى ، فهم ليسوا ممن يقال فيهم يوم لك ويوم عليك ، إنما كل أيام الدنيا للمؤمنين إلا ما ندر ، ومنه يوم أحد ، ولا عبرة بالقليل النادر ، بالإضافة إلى قانون وهو أن الذي أصاب المسلمين يومئذ مناسبة لأمور :
الأول : الإتعاظ .
الثاني : إقتباس الدروس .
الثالث : الشكر لله عز وجل .
الرابع : ثبات شرائع الإسلام ، وعجز الذين كفروا عن مواجهة مفاهيمه .
الخامس : بيان قبح فعل الذين كفروا من قريش وأعوانهم ، قال تعالى [وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ]( ).
السادس : دعوة الناس للتدبر في آيات القرآن التي نزلت قبل وبعد معركة أحد .
السابع : دعوة الناس لدخول الإسلام ، فمن كان يظن أن الذين كفروا سيجهزون على المسلمين تبين له بعد واقعة بدر وأحد عصمة النبوة والتنزيل عن الإزاحة عن الإمامة والصدارة ، قال تعالى [يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
الثامن : من معاني قوله تعالى [مَا أَصَابَكُمْ] البشارة بالثواب العظيم عن كل أذى وجرح لحق المسلمين .
التاسع : البشارة بالأمن والسلامة من الإصابة والضرر بعد معركة أحد، وهو المستقرأ من قوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
لقد إبتدأت آية البحث بالإسم الموصول (ما) وهو في محل رفع مبتدأ لتشرأب الأعناق إلى دلالته ومعانيه وما يخبر عنه فيأتي الخبر بأن المصيبة التي وقعت للمسلمين يوم معركة أحد حصلت باذن الله عز وجل ، لبيان قانون وهو أن الخبر في القرآن يهون المصيبة ويصرف الأذى ويصير سبباً لزيادة قوة ومنعة المسلمين ، ولما قال الله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) فانه سبحانه تفضل باسباب ومقدمات تعاهد هذه الأخوة ، ومنها منع الشقاق بين المسلمين أو دبيب الحزن والأسى بينهم عند المصيبة ، فالآية القرآنية تنجي بفضل الله من آثار وأضرار المصيبة , وهو من مصاديق [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) و تبين آية البحث قانوناً من جهتين :
الأولى : المصيبة التي تنزل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تصيب كل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة ، وتقدير الآية : وما أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الجراحات أصابكم بالأذى والألم ) وفيه إنذار للذين كفروا الذين أصروا على التعدي على حرمات الإسلام .
الثانية : ما يصيب المدافعين عن الإسلام من الأذى والضرر مصيبة عند كل المسلمين ، وهل يحق للمسلمين إستحضار مناسبة ذكرى واقعة أحد في النصف من شهر شوال وتلاوة قوله تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ) الجواب نعم .
ويدل تقييد أوان المصيبة بأنه يوم التقى الجمعان على أنه قد يترشح عن المعركة الأذى والمصيبة على قلة المصائب في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومع ذكر آية البحث لمصيبة المسلمين في يوم أحد فانها تدل بالدلالة التضمنية على أمور :
الأول : وقوف خسارة المسلمين عند حد المصيبة والأذى .
الثانية : توالي نزول آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى في حال المصيبة .
الثالث : تلقي المسلمين مجتمعين المصيبة ، وفيه تخفيف من وطأتها لما في الإجتماع والإتحاد في تلقي المصيبة من تشتيت لآثارها ، والتقليل من وقوعها وإستحضار العقل والحكمة في تداركها ، وهو من مصاديق ما ورد قبل آيتين بقوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ) فمن الكتاب نزول آية البحث ، ومن الحكمة التعاون والتآزر عند المصيبة .
ومنه مبادرة المسلمين للخروج تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي لواقعة أحد لمطاردة جيش الذين كفروا وإخبارهم والذين من خلفهم بأن ما أصاب المسلمين يوم أحد لم يفت من عضدهم ، أو يضعفهم عن الدفاع .
ويبين تقييد آية البحث خسارة المسلمين بأنه باذن الله عدم التعارض بين المصيبة والنصر , وكل منهما بيد الله ، وإذ جعل الله عز وجل الخسارة تتغشى طريق القتال ، فانه سبحانه إختص المسلمين بالنصر والغلبة ، فان قلت هل هذا النصر مطلق أم أنه مقيد باجتماع شرائطه ، وتحقق أسبابه .
الجواب هو الأول ، فقد أبى الله عز وجل إلا أن تكون هناك ملازمة بين النبوة والنصر ، وبين الإيمان وعدم الهزيمة ، وقال تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ) وأختتمت الآية بذكر علة أخرى لما أصاب المسلمين وهو علم الله والملائكة والناس بالمؤمنين , وصبرهم والجراحات التي أصيبوا بها ، والمؤمنين السبعين الذين غادروا إلى الرفيق الأعلى شهداء في معركة أحد .
ومن الآيات عطف الآية التالية على مضامين آية البحث مع إتحاد موضوع العطف بتعدد علة ما أصاب المسلمين يوم أحد وكأنه ليس ثمة فاصلة بين الآيتين ، ولكن الله عز وجل أكرم المؤمنين وذكرهم على نحو الخصوص مع إذن بالمصيبة ليكون التحقيق بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] علماً مستقلاً قائماً بذاته قبل الإنتقال إلى حال المنافقين ، ولبيان قانون وهو أن كشف المؤمنين , وبيان سنخية الإيمان ، ليذب الله عن المؤمنين , ويدفع عنهم كيد الذين كفروا ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] ( ).
وإبتدأت الآية بحرف العطف الواو في دلالة على إتصال موضوعها بالآية السابقة ، ثم جاء الإسم الموصول (ما) بمعنى الذي وتقديره : والذي أصابكم والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، فقد ورد (ما) وهو مبهم ، ولابد انه يدل على أمر معلوم ويتجلى في القرآن على نحو الوضوح والتعيين من جهات :
الأولى : دلالة عطف هذه الآية على الآية السابقة وهي آية المصيبة .
وتقدير الجمع بين الآيتين : والمصيبة التي أصابتكم يوم التقى الجمعان فباذن الله .
الثانية : ذكر آية البحث ليوم مخصوص وهو يوم القتال والكر والفر بقوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ].
ومن إعجاز القرآن أن لفظ [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]ورد في القرآن ثلاث مرات ، واحدة بخصوص معركة بدر بقوله تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
وردت آية البحث , وقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا] ( ) .
ومن الإعجاز في المصاديق الواقعية لآيات القرآن أنه لم يقع قتال ولقاء بين المسلمين والذين كفروا مثل معركة بدر وأحد إلى أن تم فتح مكة .
ترى لماذا جاء هذا اللفظ [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] مرتين بخصوص معركة أحد ، ومرة واحدة بخصوص معركة بدر ، الجواب من جهات :
الأولى : التباين الموضوعي في ذات الآيات .
الثانية : جاء النصر في معركة بدر من عند الله عز وجل .
الثالثة : شدة وطأة المصيبة على المسلمين في معركة أحد .
الرابعة : دعوة المسلمين لاقتباس الدروس والمواعظ من وجوه :
الأول : معركة بدر ونصر المسلمين فيها .
الثاني : تحقيق المسلمين الغلبة في بدايات معركة أحد ، وهمّ الذين كفروا بالفرار والهزيمة .
الثالث : نكسة المسلمين في معركة أحد .
الرابع : تعدد ضروب المصيبة التي نزلت بالمسلمين في معركة أحد .
الخامس : عدد الملائكة الذين نزلوا لنصرة المسلمين في معركة أحد أضعاف عددهم في معركة بدر ,
الخامسة : كثرة أفراد الجيش من الطرفين في معركة أحد .
السادسة : ترك فريق من المسلمين ميدان المعركة يوم أحد .
لقد أخبرت الآية السابقة عن المصيبة التي نزلت بالمسلمين في معركة أحد ، وأن سببها هو ذات المسلمين وليس قوة العدو وكثرة أسلحتهم ورواحلهم ، وإن كانت هذه الكثرة ظاهرة وجلية إلا أن الآية تدل بالدلالة التضمنية على أنها ليست سبباً لخسارة المسلمين وتعلق موضوع آية البحث بذات الواقعة وخسارة المسلمين فيها ، ولكنها أخبرت عن قانون وهو أن الذي وقع للمسلمين إنما كان باذن الله عز وجل ،لبيان قانون وهو لا يأتي أذى وضرر للمسلمين إلا وفيه مسائل :
الأولى : بعث السكينة في نفوس المسلمين , وهو من فضل الله سبحانه على المؤمنين في ميدان المعركة وبعدها , فيبعث الله عز وجل السكينة في نفوسهم , ويلقي الخوف والجزع في نفوس الذين كفروا .
الثانية : منع الخلاف والخصومة بين المسلمين , قال تعالى[وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا]( ).
الثالثة : إصلاح المسلمين لمعارك الإسلام اللاحقة من غير خوف أو فزع أو خشية من المصيبة .
الرابعة : رجع المسلمون من ميدان المعركة بالأجر والثواب من عند الله سبحانه .
الخامسة : تنمية ملكة التقوى عند المسلمين ، والتفقه في الدين ومعرفة قانون وهو لا يحدث شئ لهم إلا باذن الله , وهو فخرلهم , وإن كان كل ما يقع للناس بإذن منه تعالى .
السادسة : حضور المشيئة الإلهية في ميدان المعركة .
السابعة : عدم التعارض بين نزول الملائكة لنصرة المسلمين وبين إذن الله عز وجل بحلول المصيبة بهم ، لذا نذهب لعدم خسارة المسلمين لمعركة أحد ، وكيف يخسر المعركة الذين تكون الملائكة مدداً وعوناً لهم لبيان قانون في معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو سلامته والجيش الذي معه من الهزيمة وخسارة المعركة ، وهو من أسرار حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الخروج بنفسه إلى ميدان القتال في معارك الإسلام الأولى .
لقد خصت آية البحث ما أصاب المسلمين في معركة أحد بأنه باذن الله ، ويحتمل مفهومه وجوهاً :
الأول : عدم إصابة المسلمين بالمصيبة في غير ما لحقهم في معركة أحد .
الثاني : إرادة العموم , وورد ما نزل بالمسلمين في معركة أحد من باب المثال .
الثالث : لقد أصيب المسلمون في غير معركة أحد ، ولكن بمرتبة أدنى وأقل كما في معركة بدر فقد سقط أربعة عشر شهيداً في المعركة، وكان نصر المسلمين في معركة بدر عظيماً .
والصحيح هو الثاني والثالث أعلاه ، ليكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : وما أصابكم قبل الهجرة فباذن الله .
الثاني : وما أصابكم بعد الهجرة فبأذن الله .
الثالث : وما أصابكم في كل معركة فاذن الله .
الرابع : وما أصابكم بفقد الأحبة الشهداء فبإذن الله ، وهل في قوله تعالى [فَبِإِذْنِ اللَّهِ]مواساة للمسلمين ، الجواب نعم ، وفيه تخفيف عنهم وزيادة لهم في الإيمان ثم أخبر الله عز وجل عن كون المصيبة سبباً لبيان صدق الإيمان ، وتعيين المؤمنين الذين صبروا وجاهدوا وأخلصوا في طاعتهم لله ورسوله لتدل الآية بالدلالة التضمنية على شدة البلاء وأسباب الخوف التي حلّت بالمسلمين يوم معركة أحد بسبب تعجل الرماة المسلمين وتركهم مواضعهم طمعاً بالغنائم لبيان قانون لزوم الصبر وعدم صيرورة الغنائم الغاية .
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : بيان قانون وهو إقتران الإبتلاء بالدعوة إلى الله .
الثانية : لزوم جهاد النبي محمد صلى لله عليه وآله وسلم وأصحابه في سبيل الله .
الثالثة : بيان حاجة المسلمين إلى الصبر في مرضاة الله .
الرابعة : إكرام الله عز وجل للمسلمين بتوجيه الخطاب لهم ومواساتهم بآية قرآنية .
الخامسة : التوثيق السماوي لما لاقاه المسلمون من الأذى في جنب الله سبحانه .
السادسة : تفضل الله عز وجل بتوثيق واقعة أحد في آيات من القرآن لتبقى وقائعها حية غضة طرية في أذهان المسلمين والمسلمات .
السابعة : منع الشماتة بالمسلمين , وتقدير الآية : يا أيها الذين كفروا لا تشمتوا بالمسلمين فان الذي أصابهم بإذن الله .
الثامنة : الثناء على المسلمين الذين صبروا في معركة أحد فنالوا مرتبة المؤمنين .
التاسعة : تفقه المسلمين في المعارف الإلهية ببيان قانون وهو أن المصيبة تنزل بالمسلمين فتكون إمتحاناً واختباراً لهم .
العاشرة : بعث المسلمين على تعاهد الإيمان عند البلاء وضروب الشدة والبلاء فيه .
الحادية عشرة : تخفيف آية البحث لوطأة المصيبة عن المسلمين في معركة أحد باخبار الآية بأن الذي وقع لهم من شيوع القتل بينهم وإصابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجراحات ، وكذا أهل البيت والصحابة يومئذ إنما هو بإذن الله .
الثانية عشرة : البشارة للمسلمين , فمن إعجاز الآية القرآنية مجئ البشارة بمنطوق ومفهوم ذات الآية التي تتضمن الإخبار عن المصيبة والواقعة وتتجلى البشارة باخبار الآية للمسلمين بأن ما أصابهم هو باذن الله وكفى به فخراً وعزاً .
وقد ورد إذن الله في مجئ معجزات الأنبياء بقوله تعالى [وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ]( ) فهل كانت معركة أحد وما أصاب المسلمين فيها من الآيات التي ذكرتها الآية أعلاه أم أن القدر المتيقن هو الآيات التي كشفت معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفضلاً متصلاً من عند الله عز وجل عليه وعلى المسلمين .
ومن خصائص آية البحث أنها واقية من الإبتلاء والمصيبة التي قد يتعرض لها المسلمون في ميدان القتال ، وتبعث الفزع والخوف في قلوب المشركين ،وليكون نزولها من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ..] ( ).
التفسير
قوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]
لقد ذكرت الآية السابقة ما نزل بالمسلمين من الأذى يوم معركة أحد بأنه مصيبة إذ إبتدأت بقوله تعالى [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ]وإبتدأت آية البحث بقوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ] وتحتمل النسبة بين الآيتين وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي , وأن المراد مما أصاب المسلمين هو ذات المصيبة المذكورة في أول الآية السابقة .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق , وهو على شعبتين :
الأولى : ما أصاب المسلمين والمذكور في آية البحث أعم من المصيبة التي تذكرها الآية السابقة .
الثانية : المصيبة التي تذكرها الآية السابقة أعم مما ذكر في آية البحث بخصوص ما أصاب المسلمين .
الثالثة : نسبة العموم والخصوص من وجه فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه , وفيه مسائل:
الأولى : ذكرت الآية السابقة المصيبة بصيغة المفرد بينهما ذكرت آية البحث اسم الوصول [مَا أَصَابَكُمْ].
الثانية : عند المصيبة قال المسلمون أنى وكيف حدث هذا ونزلت بنا المصيبة ، بينما أخبرت آية البحث بأن الذي نزل بالمسلمين بإذن الله ، وفيه شاهد على تلقي المسلمين له بالقبول والرضا ، وإن إنعدم المانع من كون التسليم بالمصيبة بعد قول أنى هذا وبعد إخبار آية البحث بأنه بإذن الله وذكر علته .
الثالثة : تضمنت الآية السابقة الأمر من الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول للمسلمين بأن المصيبة التي نزلت بهم هي من عند أنفسهم .
بينما أخبرت آية البحث بأن كل الذي أصابهم يوم معركة أحد هو بإذن الله .
الرابعة : قيدت الآية السابقة ما أصاب المسلمين يوم أحد بأنهم أصابوا مثليها أي في يوم بدر .
الخامسة : ذكرت آية البحث ما أصاب المسلمين ليشمل ما لم يكن المسلمون سبباً فيه ، إنما جاء بإذن الله .
السادسة : ذكر آية البحث الآثار والأمور المترتبة على ما أصاب المسلمين والتي هي كالصلة لها بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ومجئ الآية التالية بذات النهج والسياق وهو قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] ( ).
وهل يمكن تأسيس قانون وهو لو جاءت آيتان متعاقبتان في موضوع متحد فان الآية الثانية أعم في موضوعها ، الجواب لا دليل عليه .
ومن تقدير آية البحث وجوه :
الأول : وما أصابكم يوم أحد يعلمه الله عز وجل .
الثاني : وما أصابكم من الخسارة يوم أحد في عين الله .
الثالث : وما أصابكم يوم معركة أحد لكم فيه الأجر والثواب .
الرابع : وما أصابكم يوم معركة أحد موعظة لكم ، وهل يستقرأ معنى الموعظة من قوله تعالى [فَبِإِذْنِ اللَّهِ] الجواب نعم .
الخامس : وما أصابكم من مصيبة بلحاظ الجمع بين آية البحث والآية السابقة التي تبدأ بقوله تعالى [ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ] .
السادس : وما أصابكم يوم أحد قد أصبتم مثليه يوم بدر .
السابع : وما أصابكم يوم أحد قلتم أنى هذا .
الثامن : وما أصابكم يوم أحد قل يا محمد هو من عند أنفسكم .
التاسع : وما أصابكم يوم التقى الجمعان إن الله على كل شئ قدير ) ومن معاني الجمع بين الآيتين أن الله عز وجل قادر على محو ما أصاب المسلمين ، ويجعل نصرهم في معركة أحد مثل نصرهم في معركة بدر أو مثليه كما ذكرت الآية السابقة لفظ مثليه وإرادة الضعف والكثرة والتعدد .
العاشر : وما أصابكم يوم التقى الجمعان بانتقال سبعين شهيداً إلى الرفيق الأعلى , وقد تقدم ذكر أسمائهم مع ترجمة مختصرة لكل منهم .
الحادي عشر : وما أصابكم يوم التقى الجمعان بالجراحات البليغة التي أصابت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصحيح أنها حلّت بجسده الشريف إلا أنها مصيبة وسبب للحزن عند أجيال المسلمين إلى يوم القيامة .
ويطرأ في التصور الذهني عند كل مسلم ومسلمة وفي كل زمان السؤال : ترى ماذا لو قُتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في واقعة أحد في السنة الثالثة للهجرة , ثم يشكرا الله عز وجل على نعمة سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ويدركا أنه بحفظ وعناية من عند الله عز وجل إلى أن يتم تبليغ الرسالة ، ونزول آيات القرآن .
الثاني عشر : وما أصابكم يوم التقى الجمعان من كثرة الجراحات ، وفرار كثير منكم ، وإنكشاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للعدو ، حتى صارت حجارتهم تصل إليه ويسمع كلامهم وتهديدهم ، ولكن الله عز وجل حجبه عنهم , ومنعهم من رؤيته .
(وَقَالَ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ : سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُ شَهِدْتُ أُحُدًا فَنَظَرْتُ إلَى النّبْلِ يَأْتِي مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَطُهَا كُلّ ذَلِكَ يُصْرَفُ عَنْهُ وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ شِهَابٍ الزّهْرِيّ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ دُلّونِي عَلَى مُحَمّدٍ لَا نَجَوْتُ إنْ نَجَا وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ إلَى جَنْبِهِ مَا مَعَهُ أَحَدٌ ثُمّ جَاوَزَهُ فَعَاتَبَهُ فِي ذَلِكَ صَفْوَانُ .
فَقَالَ : وَاَللّهِ مَا رَأَيْته أَحْلِفُ بِاَللّهِ إنّهُ مِنّا مَمْنُوعٌ فَخَرَجْنَا أَرْبَعَةً فَتَعَاهَدْنَا وَتَعَاقَدْنَا عَلَى قَتْلِهِ فَلَمْ نَخْلُصْ إلَى ذَلِكَ) ( ).
ويحتمل ما أصاب المسلمين من الأذى والخسارة بالمقارنة مع ما أصاب الذين كفروا وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي وأن الذي أصاب المسلمين يوم معركة أحد بمقدار ما نزل بالذين كفروا .
الثاني : الذي أصاب المسلمين يوم أحد أقل مما أصاب الذين كفروا .
الثالث : ما حلّ بالمسلمين من الخسارة والأذى يوم أحد أكثر مما حلّ بالذين كفروا .
ولبيان المقارنة لابد من تعيين الموضوع فمن جهة عدد القتلى كان عدد قتلى المسلمين أكثر من عدد قتلى المشركين .
لقد وردت الآية بصيغة الفعل الماضي لتدل بالدلالة التضمنية على إرادة معركة مخصوصة ، قد إنقضى زمانها .
وقد ورد لفظ [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]مرة واحدة بخصوص معركة بدر بقوله تعالى يوم [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
وجاءت اثنتان منها في موضوع معركة أحد ، وكلاهما في سورة آل عمران أحدهما آية البحث والأخرى قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا] ( ) .
ولم يأت لفظ الجمعان بصيغة النصب أو الكسر (الجمعين) في القرآن لأنه حال قتال وشدة ولمعان السيوف ، ولبيان الأذى فيه .
وقد خرجت معركة بدر بالتخصيص من المراد بلفظ [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] الوارد في آية البحث من جهات :
الأولى : لم يكن يوم معركة بدر مصيبة للمسلمين ، إنما كان يوم نصر وعز .
الثانية : لقد ورد قوله تعالى بخصوص معركة بدر [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الثالثة : ذكرت الآية السابقة كلاً من معركة بدر ومعركة أحد ، فصحيح أنها جاءت بخصوص معركة أحد والخسارة التي لحقت المسلمين يومئذ إلا أنها أخبرت عن النصر العظيم في معركة بدر بقوله تعالى [أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا] ( ) أي خسرتم بمعركة أحد خسارة قد كسبتم ضعفها في معركة بدر .
قوله تعالى [فَبِإِذْنِ اللَّهِ].
بيان حقيقة من الإرادة التكوينية ، وهي أن نزول المصيبة يوم معركة أحد كان بإذن الله ومشيئة من الله عز وجل فلا يصيب المسلمين شئ إلا أن يأذن الله عز وجل ، وهو نعمة عظمى ، تأتي في ثنايا المصيبة والأذى الذي لحق النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وعمّ المسلمين والمسلمات ، وفيه مسائل :
الأولى : مواساة المسلمين .
الثانية : دعوة المسلمين للإستجابة لله عز وجل , واللجوء إليه سبحانه لصرف المصائب ، وفي التنزيل [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
الثالثة : من الإعجاز في حال المؤمنين إقتران السكينة مع الإيمان وظهورها على الجوارح والأركان .
الرابعة : زيادة إيمان المسلمين حتى في حال المصيبة ، وقد ذمّ الله عز وجل قوماً بقوله [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ] ( ) وورد (عن ابن عباس { ومن الناس من يعبد الله على حرف } قال : كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله قال : هذا دين صالح؛ وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله ، قال : هذا دين سوء .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيسلمون ، فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن ، قالوا : إن ديننا هذا صالح فتمسكوا به؛ وإن وجدوا عام جدب وعام ولاد سوء وعام قحط ، قالوا : ما في ديننا هذا خير . فأنزل الله { ومن الناس من يعبد الله على حرف } .) ( ).
الخامسة : تنمية ملكة الصبر عند المسلمين , وعن الإمام علي عليه السلام (قال : الصبر من الإِيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، إذا قطع الرأس نتن باقي الجسد ، ولا إيمان لمن لا صبر له) ( ).
السادسة : دعوة المسلمين للمرابطة , وأخذ الحيطة والحذر .
السابعة : بيان قانون وهو حضور الرحمة الإلهية مع المسلمين في ميدان القتال .
ودلالة الآية بالدلالة الإلتزامية والمفهوم على أن الذي محاه الله عز وجل عن المسلمين من المصائب والبلايا يوم أحد أكبر وأعظم مما نزل بهم ، وتدل عليه سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل مع أن الأعداء صاروا على بعد أمتار منه ، وكانت حجارتهم تصل إليه , وكانوا يجاهرون بطلبهم له على نحو الخصوص .
وكانت أم عمارة مثلاً تذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولحقتها جراحات عديدة .
و(عن أم سعد بنت سعد بن الربيع قالت لها يا خالة أخبريني خبرك قالت : خَرَجْت أَوّلَ النّهَارِ وَأَنَا أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُ النّاسُ وَمَعِي سِقَاءٌ فِيهِ مَاءٌ فَانْتَهَيْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَهُوَ فِي أَصْحَابِهِ وَالدّوْلَةُ وَالرّيحُ لِلْمُسْلِمِينَ .
فَلَمّا انْهَزَمَ الْمُسْلِمُونَ انْحَزْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقُمْت أُبَاشِرُ الْقِتَالَ وَأَذُبّ عَنْهُ بِالسّيْفِ وَأَرْمِي عَنْ الْقَوْسِ حَتّى خَلَصَتْ الْجِرَاحُ إلَيّ . قَالَتْ فَرَأَيْت عَلَى عَاتِقِهَا جُرْحًا أَجَوْفَ لَهُ غَوْرٌ ، فَقُلْت : مَنْ أَصَابَك بِهَذَا ؟ قَالَتْ ابْنُ قَمِئَةَ أَقْمَأَهُ اللّهُ لَمّا وَلِيَ النّاسُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَقْبَلَ يَقُولُ دُلّونِي عَلَى مُحَمّدٍ ، فَلَا نَجَوْت إنْ نَجَا ، فَاعْتَرَضْت لَهُ أَنَا وَمَصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَأُنَاسٌ مِمّنْ ثَبَتَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَضَرَبَنِي هَذِهِ الضّرْبَةَ وَلَكِنْ فَلَقَدْ ضَرَبْته عَلَى ذَلِكَ ضَرْبَاتٍ وَلَكِنْ عَدُوّ اللّهِ كَانَ عَلَيْهِ دِرْعَانِ) ( ).
وقيل ليس من فرق بين الإستثناء باذن الله , والإستثناء بقول أن شاء الله لتقارب المعنى والأستعمال بينهما .
وصحيح أن المشيئة المطلقة والإذن الكوني مما ينفرد به الله عز وجل وحده ، وكل منهما من خصائص الربوبية المطلقة ولكن هناك فروق بينهما ، والمختار أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، وأن المشيئة أعم .
وجاءت آية البحث لتبين تعلق الإذن من الله بالزمن الماضي إذ يتعلق موضوع آية السياق بمعركة أحد ، وقد نزلت بعد وقائع المعركة بدليل إبتداء آية السياق بصيغة الفعل الماضي [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] .
فلم يكن في الآية تعليق إنما إخبار عن عدم وقوع المصيبة بالمسلمين إلا بعد أن إذن الله عز وجل بوقوعها ترى لمن توجه الإذن من عند الله عز وجل في المقام ، الجواب من وجوه :
أولاً : إلى جيش المشركين بالزحف على المدينة ، قال تعالى [سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
ثانياً : إلى ذات المصيبة للوقوع يوم أحد، ولو لم يأذن الله لما وقعت المصيبة وحلت الخسارة بالمسلمين .
ثالثاً : ترك الرماة المسلمين مواضعهم .
رابعاً : الجراحات التي أصابت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووصول حجارة وسهام المشركين إليه .
خامساً : وقوع المعركة يوم الأحد النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة لأن آية السياق ذكرته بقوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ].
سادساً : مغادرة سبعين شهيداً إلى الرفيق الأعلى ممن أحبوا لقاء الله فأحب لقاءهم وأذن بقدومهم عليه .
ولا تعارض بين هذه الوجوه والأشياء كلها مستجيبة لأمر الله عز وجل.
من قوانين الإرادة التكوينية ليس من أمر يحدث في الكون إلا بمشيئة وإذن من عند الله عز وجل ، ومن أسرار إرتقاء الإنسان لبلوغ مرتبة الخلافة في الأرض أمور :
الأول : تسليم الإنسان بهذا القانون .
الثاني : بلوغ الإنسان مرتبة الهداية والإيمان باذن الله .
الثالث : إصلاح الإنسان للخلافة في الأرض باذن الله ويوم خلق الله عز وجل آدم وأخبر الملائكة عن خلافته وذريته في الأرض، فاحتجوا بما ورد في التنزيل [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ليكون من علم الله عز وجل أنه سبحانه يمّن على الناس في مسألة الخلافة وتعاهدها باذنه فاذا تمادى الناس بما هو خلاف الخلافة فتح عليهم أبواب الهداية والرشاد واسباب الإمتحان والإبتلاء , مع بعث الأنبياء والرسل ، ويقيّض الله عز وجل لهم إنصاراً يحيون معاني الخلافة .
ترى ما هي النسبة بين إذن الله ومشيئة الله ، الجواب فيه وجوه :
الأول : نسبة التساوي بين إذن الله ومشيئته .
الثاني : تقارب المعنى بين إذن الله والمشيئة .
الثالث : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وفيه شعبتان :
الأولى : مشيئة الله أعم من إذنه .
الثانية : إذن الله أعم من مشيئته .
الرابع : نسبة العموم والخصوص من وجه ، وهناك مادة للإرتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
الخامس : إنهما مما إذا إجتمعا افترقا ، وإذا افترقا إجتمعا .
والقول الشائع هو الأول وأقصى ما يقال في المقام هو الوجه الثاني أعلاه .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثالث أعلاه ،ويصح الإستثناء بالمشيئة ، كما قوله تعالى [وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ] ( ).
ويحتمل (إذن الله) بلحاظ الكيفية في الإتحاد والتعدد وجوهاً :
الأول : مجئ إذن واحد من الله عز وجل لكل الذين أصابهم يوم أحد ، وعلى نحو العموم المجموعي ، وقد يقال يدل عليه إبتداء آية البحث بالأسم الموصول (ما).
الثاني : وقوع القتل والشهادة عند المسلمين باذن الله .
الثالث : ترك الرماة منازلهم باذن الله أي أن مقدمة المصيبة والخسارة لم تقع إلا باذن الله .
الرابع : التفصيل , وهو أن فقد الشهداء باذن خاص والجراحات التي أصابت النبي صلى الله عليه وآله وسلم باذن خاص من عند الله .
الخامس : كل من مصاب وأذى لحق المسلمين في معركة أحد باذن خاص به فيكون الأذن من المتعدد ومنه وجوه :
الأول : الإذن من الله باستشهاد كل شهيد من المسلمين .
الثاني : الإذن الخاص من الله عز وجل لكل جراحة أصابت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الإذن لكل جراحة لحقت بأحد المؤمنين يوم معركة أحد .
الرابع : الإذن من الله بترك الرماة المسلمين مواضعهم خلافاُ لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : الإذن من الله عز وجل في تعدي وظلم الذين كفروا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وقد رمى ابن قمئة النبي صلى الله عليه وآله سلم بالحجارة على نحو متعدد .
وكل حجارة لم تنطلق من يده إلا باذن خاص من الله ، ولم تصل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا باذن خاص من عند الله عز وجل ، لتكون حجة عليه وعلى أصحابه من الكفار ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ) لبيان قانون وهو أن الإذن يكون متعدداً حتى في الفعل الواحد من جهة الصدور وبلوغ غايته والأثر .
وقد يترتب الحكم على العلة بفاء التعقيب والسببية ومنه قوله تعالى(فبإذن الله) لبيان قانون وهو لم تقع المصيبة للمسلمين في معركة أحد إلا بإذن الله، ولو لم يأذن الله في المصيبة والخسارة للمسلمين لما وقعت لبيان أن المنافع والثمرات منها أكثر من أن تحصى، ولبيان مصداق لقوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) إذ يجعل الله النفع العظيم للمسلمين في النصر على العدو الكافر في معركة بدر، ويجعل لهم النفع العظيم في الخسارة والإنكسار كما في معركة أحد.
علم المناسبة
ورد لفظ [إذن] في القرآن تسعاً وثلاثين مرة في القرآن ، كلها تعود لله عز وجل إلا واحدة منها بقوله تعالى [وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ] ( ) .
إن تكرار لفظ الإذن في القرآن ونسبته إلى الله عز وجل في ثمان وثلاثين موضعاً آية عقائدية وكلامية تقتبس منها العلوم والمسائل ، ويمكن تسميتها (مدرسة الإذن في القرآن) ومن إعجاز نظم القرآن تقارب وإتحاد مضامين الإذن الإلهي بخصوص التنزيل ومعجزات الأنبياء .
وإذ تتحدث آية البحث عما أصاب المسلمين في معركة أحد من الخسارة والأذى ، جاءت آية أخرى بالمعنى والدلالة الأعم ، قال تعالى [مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ) لبيان إفادة قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]مسائل :
الأولى : من الإيمان في آية البحث الإيمان بالله ، وهذا الإيمان نوع طريق مبارك لتثبيت الإيمان .
الثانية : تفضل الله بالهداية للمؤمنين وعدم إصابتهم بالجزع أو الفزع عند نزول المصيبة .
الثالثة : أختتمت الآية أعلاه بقانون وهو أن الله عز وجل بكل شئ عليم ، مما يدل على علمه تعالى بالمؤمنين .
الرابعة : دعوة المسلمين للرضا بما أصابهم في معركة أحد لأنه لم يقع إلا باذن الله ، وهو باب للثواب وسبب لظهور اليأس والقنوط على أفعال الذين كفروا .
ومع كثرة ورود لفظ (إذن) في القرآن فلم يرد باضافة الفاء له إلا في آيتين من القرآن الأولى آية البحث والأخرى قوله تعالى [مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ] ( ).
ونزلت الآية أعلاه بحصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبني النضير (عن جابر قال : رخص لهم في قطع النخل ، ثم شدد عليهم فقالوا : يا رسول الله علينا إثم فيما قطعنا أو فيما تركنا من وزر ، فأنزل الله { ما قطعتم من لينة }( ) الآية .
وأخرج ابن إسحق عن يزيد بن رومان قال : لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني النضير تحصنوا منه في الحصون فأمر بقطع النخل والتحريق فيها , فنادوه يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فنزلت { ما قطعتم من لينة…})( ).
قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]
إبتدأ هذا الشطر من الآية بحرف العطف الواو ، وهناك فرق بينه وبين تقدير فبإذن الله ليعلم المؤمنين ، إذ يكون المعنى وفق هذا التقدير أن العلم بالمؤمنين والمنافقين علة تامة لإذن الله عز وجل في نزول المصيبة بالمسلمين ، ويمكن حينئذ القول بامكان سبل ووسائل أخرى غير المصيبة لمعرفة المؤمنين ، خاصة وأن الآية السابقة أختتمت بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ].
ليكون حرف العطف الواو من إعجاز الآية الذاتي والغيري ومناسبة لتفقه المسلمين في الدين ، ولو قالت الآية (وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله) لكان فيه كفاية وبرهان ، ولكن الله عز وجل أراد التفصيل بأمور :
الأول : تفقه المسلمين في الدين .
الثاني : إرتقاء المسلمين في سلم المعارف الإلهية .
الثالث : بيان المنافع العظيمة المترشحة عن المصيبة يوم أحد , ويعلم الله عز وجل المؤمنين قبل أن يخلقوا بل قبل أن يخلق آدم ، وهذا العلم من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) عندما إحتج سبحانه على الملائكة الذين استفهموا بصيغة الإنكار عن جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) وهو الذي يكثر فيها الفساد ويسفك الدماء ، ولا يعلم الملائكة قبل خلق آدم بأن هناك مؤمنين ينصرون رسوله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة أحد ليستأصلوا معه الفساد من الأرض .
وليكون قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] على وجوه :
الأول : ليعلم الله المؤمنين باذنه .
الثاني : ليعلم الله المؤمنين في أقوالهم وأفعالهم وصبرهم في ميادين القتال .
الثالث : ليعلم الله المؤمنين الذين لبوا نداء الدفاع .
الرابع : ليعلم المؤمنين لينالوا الأجر والثواب العظيم ، وفي التنزيل[وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الخامس : ليعلم الله المؤمنين الذين لا يخشون الذين كفروا إنما يخافون الله عز وجل ويجتهدون في طاعته ويسعون في رضاه ، ويحبون لقاءه .
السادس : ليعلم الله المؤمنين الذين يجاهدون في سبيله[صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ]( ).
ومن أسماء الله تعالى العالم، والعليم ، وعلام الغيوب .
والعلم إدراك الشئ على ما هو عليه ، وموافقة الإحاطة لما يطابق الواقع ، والقطع بالشئ ليكون العلم أسمى مرتبة من الظن المعتبر ، وإن كان كلاً منهما من أفراد التصديق ولا يدّب الشك إلى مصداق العلم .
ويمكن تقسيم العلم إلى قسمين :
الأول : إدراك كنه وحقيقة الشئ , ونسميه العلم بالذات .
الثاني : الحكم على الشئ وإدراك الصفات ، وجاءت آية البحث للمعنى الأعم ليعلم الناس من هم المؤمنون وليشهد الملائكة للمؤمنين الذين صبروا في ميدان القتال ، وهناك درجة ورتبة بين النطق بالشهادتين ، وبين تلبية نداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للخروج للدفاع ، قال تعالى [يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ] ( ).
ومن معاني علم الله عز وجل في المقام نيل المؤمنين ما يستحقون من الثواب .
ويكون تقدير الآية على وجوه منها :
الأول : ليعلم المؤمنين الذين استجابوا لله ورسوله .
الثاني : ليعلم المؤمنين الذين وضعوا اللبنات الأولى في تثبيت الصبر والتقوى في الإسلام .
الثالث : ليعلم المؤمنين الذين تنزهوا عن النفاق والأخلاق المذمومة .
الرابع : ليعلم المؤمنين الذين نصروا وآزروا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في ساعة المحنة وميدان القتال .
الخامس : ليعلم المؤمنين الذين تلقوا المصيبة بالصبر والرضا .
السادس : ليعلم المؤمنين ويبشروهم بالثواب العظيم .
السابع : ليعلم المؤمنين المجاهدين ويعلم أخبارهم بعد المعركة ، قال تعالى [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ] ( ).
الثامن : ليعلم المؤمنين والمؤمنات .
التاسع : ليعلم المؤمنين الذين زادتهم المصيبة إيماناً .
العاشر : ليعلم الله المؤمنين الذين يتوكلون عليه في السراء والضراء .
الحادي عشر : ليعلم الله المؤمنين الذين يسارعون إلى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الثاني عشر : ليعلم الله الذين يأمرون بالمعروف ويقومون بفعله وينهون عن المنكر بالسيف والنفس والمال ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
الثالث عشر : ليعلم الله المؤمنين الذين بصبرهم وجهادهم يصاب الذين كفروا بالخزي في النشأتين .
الرابع عشر : ليعلم المؤمنين وصدق إيمانهم .
الخامس عشر : ليعلم الملائكة المؤمنين فينصروهم .
السادس عشر : ليعلم الناس المؤمنين ويقتدوا بهم .
السابع عشر : ليعلم الله المؤمنين في توادهم وتآخيهم .
الثامن عشر : ليعلم الله كل مؤمن على نحو الإستقلال والإنفراد، وهو من مصاديق قوله تعالى [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ]( ).
التاسع عشر : ليعلم الله المؤمنين عند دخولهم القبور وعالم البرزخ ليكونوا في مأمن من حساب منكر ونكير .
العشرون : ليعلم الله المؤمنين يوم القيامة .
الحادي والعشرون : ليعلم الله المؤمنين فيزيد عليهم من فضله ،ويبارك في ذريتهم ، ويجعل لهم الغبطة والسعادة في أزواجهم ، وفي التنزيل [وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا] ( ) .
الثاني والعشرون : ليعلم المؤمنين الذين سوف يحضرون معركة الخندق ويصبرون في حصار قريش للمدينة وإن لم يكن حصاراً تاماً، إذ عجزت قريش عن الإحاطة بالمدينة من جهاتها الأربعة .
الثالث والعشرون : ليعلم المؤمنين الذين يتلون القرآن ويعلمون بأحكامه وسننه .
الرابع والعشرون : ليعلم المؤمنين الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان ، ولم يفارقوه , لذا يمكن تقسيم المؤمنين بلحاظ آية البحث إلى أقسام :
الأول : الذين خرجوا إلى معركة أحد .
الثاني : الذين اشتركوا في القتال .
الثالث : الذين استشهدوا في معركة أحد .
الرابع : الرماة الذين تركوا مواضعهم .
الخامس : الرماة الذين لم يغادروا مواضعهم ، ممن تعاهد وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدم ترك موضعه ، ومن الآيات أن أمير الرماة وهو عبد الله بن جبير كان من ضمن التسعة الذين بقوا في مواضعهم واستشهدوا فيه ، فنال شرف الدنيا والآخرة، وهل يصح القول : ليعلم الله عبد الله جبير وفلان وفلان الذين لم يتركوا مواضعهم طمعاً بالغنائم ، الجواب نعم .
الخامس والعشرون : وليعلم المؤمنين بالله إلها واحداً حمداً.
السادس والعشرون : ليعلم المؤمنين بالملائكة رسلاً من الله وجنداً له، ومن الإعجاز في معركة أحد أنها مناسبة كريمة للتصديق بالملائكة بآية حسية لنزولهم لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، وكيف لا يؤمن المسلم بمن ينزل لنصرته ويدرك وجوده مدداً وعوناً بواسطة آلة البصر وآلة السمع، وعن سعد بن أبي وقاص قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَمَعَهُ رَجُلَانِ يُقَاتِلَانِ عَنْهُ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ كَأَشَدّ الْقِتَالِ مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ)( )، وفيه مسائل:
الأولى : تجلي المعجزة العقلية والحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون بين معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين عموم وخصوص مطلق، فمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعم وأكثر وفيه تفضيل له.
الثانية : تفضل الله بتقريب المسلمين إلى منازل الإيمان، ليكون تقدير آية البحث على وجوه:
أولاً : ليعلم المؤمنين الذين يقربهم الله عز وجل إلى منازل الإيمان.
ثانياً : ليعلم الذين صاروا بفضل الله مؤمنين.
ثالثاً : ليعلم الذين أنزل الملائكة لنصرتهم ليكونوا من المؤمنين، وبخصوص معركة أحد نزل قوله تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( )، لبيان قانون وهو الحتم والقطع بنزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لأن من خصالهم أمور :
أولاً : الصبر وتحمل الأذى.
ثانياً : الرضا بقضاء الله، وعن جابر بن عبد الله(قال: لما قتل أبي جعلت أكشف التراب عن وجهه والقوم ينهونني فجعلت عمتي فاطمة بنت عمرو تبكيه…)( ).
ثالثاً : الخشية من الله عز وجل.
رابعاً : ملاقاة الذين كفروا في ميدان القتال.
السابع والعشرون : ليعلم المؤمنين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى هذا المعنى تتضمن الآية التخفيف عن المسلمين بتيسير الإيمان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبرهان الجلي والقريب لنيل مرتبة وصفة الإيمان في ساعة العسرة والشدة.
الثامن والعشرون : ليعلم المؤمنين الذين يعلمون بالمنافقين، ويحذرونهم.
التاسع والعشرون : ليعلم المؤمنين الخاشعين الصابرين، قال تعالى[إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا]( ).
الثلاثون : ليعلم المؤمنين الذين أستشهدوا في معركة أحد.
الحادي والثلاثون : ليعلم المؤمنين الذين جرحوا في معركة أحد.
وهل يشمل هذا التقدير المؤمنات اللاتي جرحن يومئذ مثل أم عمارة أم لابد من تقدير خاص وهو: ليعلم المؤمنات اللاتي جرحن في معركة أحد .
الجواب هو الأول، ويكون الثاني في طوله بدليل أن قوله تعالى(ليعلم المؤمنين) عام يشمل المؤمنين والمؤمنات.
الثاني والثلاثون : ليعلم المؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويؤدون فريضة الصيام والحج والخمس، قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
ومن معاني آية البحث البشارة في ساعة الشدة بوجود مؤمنين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن خصائصهم الثبات في ميدان المعركة وقتال الذين كفروا، ليكون قوله تعالى(وليعلم المؤمنين) بشارة ثبات مبادئ الإسلام في النفوس والمجتمعات، وفيه مسائل :
الأولى : الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حسن وصدق التبليغ، وأداء الرسالة، وفي التنزيل[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ]( ).
الثانية : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين والناس.
الثالثة : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل.
الرابعة : بعث السكينة في نفوس المسلمين بخصوص وراثة ذراريهم للإيمان وبقائهم عليه.
الخامسة : بشارة إستدامة الإيمان، ففي كل زمان يتوجه قوله تعالى(ليعلم المؤمنين) وتقديره على وجوه:
أولاً : ليعلم المؤمنين في هذا الزمان.
ثانياً : ليعلم المؤمنين في هذه السنة.
ثالثاً : ليعلم المؤمنين في هذا الشهر.
رابعاً : ليعلم المؤمنين في هذا الأسبوع.
خامساً : ليعلم المؤمنين في هذا اليوم.
سادساً : ليعلم المؤمنين في هذه الساعة.
سابعاً : ليعلم المؤمنين في هذه الدقيقة.
ثامناً : ليعلم المؤمنين الذين يشكرونه سبحانه على كل حال.
تاسعاً : ليعلم المؤمنين الذين يستغفرون الله، ويتخذون الإستغفار وسيلة لجلب المصلحة ودفع المفسدة، وقد تقول أن الغاية من الإستغفار هو محو الذنوب ورجاء تجاوز الله عن السيئات، فكيف يكون سبباً وعلة لرجاء المصلحة ودفع المفسدة , الجواب من جهات :
الأولى : الإستغفار دعاء , وقال تعالى[قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ]( ).
الثانية : الإستغفار لجوء إلى الله عز وجل وإستجارة به سبحانه.
الثالثة : إن الله عز وجل هو اللطيف الخبير، الذي يرزق من يشاء من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب.
الرابعة : يعطي الله عز وجل الكثير بالقليل.
الخامسة : مع محو الذنوب يأتي الرزق الكريم.
السادسة : من خصائص العفو والمغفرة إنتفاء المانع والبرزخ دون الرزق الكريم وحال اليسر ونزول البركة .
ويكون المؤمنون في الآية على وجوه :
الأول : الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ميدان معركة أحد ، ولم يرجعوا من وسط الطريق ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
الثاني : الشهداء الذين سقطوا في معركة أحد , وعددهم سبعون شهيداً ومنهم حمزة بن عبد المطلب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : النساء المسلمات اللائي خرجت مع المسلمين إلى المعركة .
الرابع : الذين ناصروا وعضدوا المسلمين في خروجهم إلى معركة أحد .
الخامس : كل مسلم ومسلمة يدرك بأن مصيبة معركة أحد أصابته ، ولا يختص الأمر بالصحابة بل هو مسألة سيالة إلى يوم القيامة لإرادة ثواب المسلمين وهو من الشواهد على المعاني الكريمة المستقرأة من صيغة المضارع في قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] لبعث المسلمين على العمل بما يدل على صبرهم وانتفاعهم الأمثل من واقعة أحد , ويكون من وجوه تقدير آية البحث وجوه :
الأول : ليعلم الله المؤمنين الذين تعاهدوا التنزيل رسماً وتلاوة وتفسيراً وتأويلاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) .
الثاني : ليعلم الله المؤمنين المجاهدين الصابرين .
الثالث : ليعلم الله المؤمنين الذين يغبطون الشهداء والذين جاهدوا تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة أحد .
الرابع : ليعلم الله المؤمنين الذين ينبذون الكفر ومفاهيم الضلالة.
الخامس : ليعلم الله المؤمنين المرابطين في سبيل الله خشية مباغتة الذين كفروا ، فقد جاءوا في معركة أحد على نحو ظاهر وتصل أخبارهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد يباغتون المسلمين فجأة في دهاء ، ليكون من خصال المؤمنين أخذ الحيطة والحذر وهيئة المرابطة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) .
السادس : الإذن من الله عز وجل بفوات الغنائم على المسلمين في معركة أحد .
وهل هذا الأذى متحد خاصة وأنه لم تقع في أيدي المسلمين يومئذ غنائم ثم تخلوا عنها وتركوها ، الجواب لا ، إنما هو إذن متعدد يشمل كل ما يمكن أن يقع غنيمة بأيديهم مما يعلمه الله عز وجل ليكون الإذن في المقام بشارة العوض والبدل من عنده وتعالى ويحتمل هذا العوض جهات :
الأولى : العوض الحال .
الثانية : العوض والبدل العاجل .
الثالثة : العوض الآجل في الدنيا .
الرابعة : العوض والبدل المضاعف في الدنيا .
الخامسة : العوض في الآخرة الذي ليس له حد أو منتهى .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق العوض الذي يتفضل به الله عز وجل ، وهو من أسرار مجئ التقييد باذن الله في المصائب التي لحقت المسلمين يوم معركة أحد.
الثالث والثلاثون : ويعلم المؤمنين لينجيهم من الشرور والمصائب .
الرابع والثلاثون : ليعلم المؤمنين فيحجب عنهم السيئات والفواحش ويمنعها من الوصول إليهم ، وفي يوسف عليه السلام ورد قوله تعالى [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ) إذ تبين الآية أعلاه أن كلاً من السوء والفحشاء لا يستطيعان الوصول إلى يوسف ، وكأنه من قاعدة : من العصمة إمتناع المعصية .
الخامس والثلاثون : ليعلم الله المؤمنين الذين نالوا مرتبة الفلاح بفضل الله وحسن طاعتهم لله ورسوله في السراء والضراء .
السادس والثلاثون : ليعلم المؤمنين فيأتيهم النصر في معركة أحد ومعارك الإسلام اللاحقة ، قال تعالى [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
السابع والثلاثون: ليعلم المؤمنين ، فيذب عنهم ويصرف عنهم كيد الذين كفروا ويكفيهم شر القتال ، ومن مصاديق هذا المعنى ، قوله تعالى بخصوص وقائع معركة الخندق التي وقعت بعد معركة أحد [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
الثامن والثلاثون : من معاني خاتمة آية البحث البشارة بنزول شآبيب الرحمة على المسلمين مجتمعين ومتفرقين ، قال تعالى في الثناء على نفسه [وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا] ( ).
التاسع والثلاثون : من إعجاز القرآن مجئ الثواب العظيم جزاء على الإيمان بقوله تعالى [لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا] ( ).
الأربعون : ليعلم المؤمنين لينالوا مرتبة تلقي السلام والأمن والحصانة من عند الله عز وجل .
وقد وردت عدة آيات في السلام من الله على عدد من الأنبياء والشهادة لهم بالإيمان ، كما في قوله تعالى [سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الحادي والأربعون : وليعلم المؤمنون الذين استشهدوا في معركة أحد.
الثاني والأربعون : وليعلم المؤمنين الذين بقوا أحياء بعد إنقضاء معركة أحد.
الثالث والأربعون : وليعلم المؤمنين الذين خرجوا إلى معركة أحد تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ).
الرابع والأربعون : ليعلم المؤمنين الذين لم يولدوا بعد.
الخامس والأربعون : ليعلم المؤمنين الذين يصدقون بالوقائع التي وردت في القرآن ومنها واقعة أحد.
السادس والأربعون : ليعلم المؤمنين الذين نجوا من النفاق، وهو من أسرار تقدم المؤمنين والعلم بهم على المنافقين والعلم بهم في نظم الآيات وورود كل منهما في آية مستقلة، وسيأتي مزيد كلام في الجزء التالي( ).
آيات نزلت في معركة بدر
لقد جاءت آيات بخصوص معركة بدر منها :
الأولى : قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الثانية : قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ *وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ) .
لقد كانت معركة بدر واقعة الدعاء والإجتهاد به ، فقد إنقطع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدعاء قبل تهيئة الجيش للمعركة وبعدها ، فحالما رأى أن جيش المشركين نحو ألف ، بينما لا يزيد جيش المسلمين على ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً باسلحة قليلة وسيوف شبه بالية ، استقبل القبلة ورفع يديه إلى السماء وصار يهتف بربه ويناجيه ويتضرع إليه ، وهو يقول :
(اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام لا تعبد في الأرض) ( ) وسقط رداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إنشغاله بالدعاء ورفع يديه مبسوطتين رجاء نزول المنّ والهبات من عند الله .
و(عن الربيع بن أنس قال : كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة عليهم السلام ممن قتلوهم بضرب على الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به) ( ).
(قال مجاهد : ما مُدّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيما ذكر الله تعالى غير الألف من الملائكة {مُرْدِفِينَ} التي ذكر الله في الأنفال وأمّا الثلاثة والخمسة فكانت بُشرى {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ} يعني الا)( ).
والمختار خلافه إنما نزل الملائكة في معركة أحد أيضاً للقتال ، ولو دار الأمر في المدد الملكوتي , هل قاتل أم لم يقاتل فالجواب هو الأول .
الثالثة :قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] ( ).
الرابعة : ومن مصاديق قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ] ) أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يكثر من مشاورة أصحابه قبيل معركة بدر .
(عن الحباب بن المنذر قال : أشرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر بخصلتين فقبلهما مني . خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعسكر خلف الماء ، فقلت يا رسول الله أبوحي فعلت أو برأي؟ .
قال : برأي يا حباب .
قلت : فإن الرأي أن تجعل الماء خلفك ، فإن لجأت لجأت إليه ، فقبل ذلك مني . قال : ونزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أي الأمرين أحب إليك تكون في دنياك مع أصحابك أو ترد على ربك فيما وعدك من جنات النعيم؟ فاستشار أصحابه فقالوا : يا رسول الله تكون معنا أحب إلينا ، وتخبرنا بعورات عدونا ، وتدعو الله لينصرنا عليهم وتخبرنا من خبر السماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما لك لا تتكلم يا حباب! فقلت : يا رسول الله اختر حيث اختار لك ربك . فقبل ذلك مني قال الذهبي : حديث منكر .
وأخرج ابن سعد عن ابن عباس . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً يوم بدر فقال الحباب بن المنذر : ليس هذا بمنزل ، انطلق بنا إلى أدنى ماء إلى القوم ، ثم نبني عليه حوضاً ونقذف فيه الآنية فنشرب ونقاتل ونغور ما سواها من القلب .
فنزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : الرأي ما أشار به الحباب بن المنذر ) ( ).
الرابعة : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً]( ) وفي الآية وجوه :
الأول : أنها وردت في قوم من أهل مكة كانوا قد أسلموا ولكنهم يخفون إسلامهم) .
فلما خرج المشركون إلى معركة بدر أخذوهم معهم ، فأصيب بعضهم بالنبال فهم لم يطلبوا المبارزة ولم يخرجوا بين الصفين لقتال المسلمين ، ولكن جاءت النبال فأصابت بعض هؤلاء المسلمين وبعد انتهاء المعركة جاء نفر من المسلمين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقالوا له : كان هؤلاء أصحابنا وهم مسلمون وخرجوا مع المشركين مكرهين فاستغفروا لهم فنزلت الآية أعلاه ، فكتبوا إلى من بقي من المسلمين في مكة أنه لا تدركهم التوبة , لا عذر لكم بالبقاء فاستجابوا وخرجوا فلحقهم المشركون وفتنوا بعضهم ، وبهذا المعنى ورد عن إبن عباس .
الثاني : (نزلت هذه الآية في شباب من قريش، كانوا تكلموا بالإسلام بمكة، منهم: علي بن أمية بن خَلَف، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو العاص بن منبه بن الحجاج، والحارث بن زَمْعة.)( ) عن عكرمة.
الثالث : (وقال الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وخرجوا مع المشركين يوم بدر، فأصيبوا فيمن أصيب فنزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع، وبنص هذه الآية حيث يقول تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}( ) أي: بترك الهجرة { قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ } أي: لم مكثتم هاهنا وتركتم الهجرة؟ { قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ } أي: لا نقدر على الخروج من البلد، ولا الذهاب في الأرض { قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً [فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا])( ).
الخامسة : قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( )عن سعد بن مالك قال: لما كان يوم بدر جئت بسيف.
فقلت: يا رسول الله، إن الله قد شفي صَدري من المشركين أو نحو هذا فهبْ لي هذا السيف! فقال لي: هذا ليس لي ولا لك! فرجعت فقلت: عسى أن يعطي هذا من لم يُبْلِ بلائي! فجاءني الرسول، فقلت: حدث فِيَّ حدثٌ ! فلما انتهيت قال: يا سعد إنك، سألتني السيف وليس لي، وإنه قد صار لي، فهو لك! ونزلت: “يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول”)( ).
السادسة : قوله تعالى [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ] ( ).
وهذه آيات يتعلق موضوعها بمعركة بدر ومقدماتها ونتائجها ، فقد أراد المسلمون الوصول إلى قافلة أبي سفيان وإجتناب القتال مع الذين كفروا لعدم إستعداد وتهيئ المسلمين له ولكن الله عز وجل أراد لهم لقاء كفار قريش ، ولما وصل خبر قافلة أبي سفيان قادمة من الشام محملة بالبضائع وليس معها إلا نحو ثلاثين رجلاً وسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه (ما ترون فيها لعل الله يغنمناها ويسلمنها أصحاب طالوت ) ( ).
وطالوت ملك من بني إسرائيل ، نال مرتبة الملك بدعاء من أحد أنبيائهم بعد سؤال بني إسرائيل له ، وفي التنزيل [وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ) ولم يكن طالوت من سبط النبوة ولا سبط الملك إنما هو من سبط يامين بن يعقوب , وكان طالوت يفوقهم بالعلم بفنون الحرب والقتال مع بسطة في الجسم ، فكان أي منهم لا يبلغ حد منكبيه من جهة الطول وأخرج معه التابوت الذي هو أمارة النصر عند بني إسرئيل .
(فقال طالوت : لا حاجة لي في كلّ ما أرى. لا يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه، ولا صاحب تجارة مشتغل بها،
ولا رجل عليه دين،
ولا رجل تزوّج بامرأة لم يدن منها ولا أبتغي إلاّ الشاب النشيط الفارغ.
فاجتمع ثمانون ألفاً ممن شرطه وكان في حرّ شديد فشكوا قلّة المياه بينهم وبين عدوهم،
وقالوا : إنّ المياه لا تحملنا فادع الله تعالى أن يجري لنا نهراً.) ( ).
وفي التنزيل [فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ] ( ) وكان القليل الذي تذكره الآية أعلاه هم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً .
وعن (البراء بن عازب قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر : أنتم اليوم على عدّة أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاء معه إلاّ مؤمن قال : وكنّا يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ) ( ) وذات العدة يخرج بها الإمام المهدي من آل محمد عليه السلام .
لقد استبشر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذات مدة طالوت يوم بدر ، ولبيان قانون وهو الإتحاد في العدد والإيمان وتحقيق النصر والظفر على جيش المشركين وإن كان كثيراً في عدده وسواده وأسلحته وفيه شاهد بأن الله عز وجل جمع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم النبوة والرياسة العامة ، ولكنه تواضع لله عز وجل وإختار العبودية والخضوع لله عز وجل ليبقى الإسلام وأحكامه إلى يوم القيامة ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
وفي رواية أبي أيوب أعلاه أن النبي سألهم أن يتعادوا ويحصوا عددهم بعد أن ساروا يوماً أو يومين ، وهذا لا يمنع من الإحصاء العام بأن يعرف ويتفقد كل واحد منهم صاحبه وأبناء عمومته .
وحينما أخبروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدوهم واستبشروا خيراً بموافقته لعدة جيش طالوت لأصحابه (ما ترون في قتال القوم؟ فقلنا مثل ذلك .
فقال المقداد : لا تقولوا كما قال أصحاب موسى لموسى {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون}( ) فأنزل الله {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون})( ).
أي أجابوا بمثل ما أجاب أصحاب طالوت وخشيتهم من جالوت وجنوده ، ولكن النصر بيد الله ، ولا يختص بالأسباب من جهة العدد والكثرة والسلاح .
ولما نزل قوله تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ) أي أما قافلة أبي سفيان أو النصر على المشركين في معركة بدر استبشر المسلمون وعزموا على لقاء القوم ، وأدركوا أن النصر حليفهم , لتكون الآية أعلاه مدداً عظيماً للمسلمين .
وقد مضت القافلة إلى مكة ، وفاتت المسلمين فبقيت الطائفة الأخرى حصراً وهم جيش المشركين ، وبعد نزول الآية أعلاه وما فيها من الوعد من الله عز وجل ، أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلح بالدعاء (اللهم إني أنشدك وعدك) ( ) .
(فقال ابن رواحة : يا رسول الله إني أريد أن أشير عليك ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل من أن يشير عليه .
فقال : يا ابن رواحة لأنشدن الله وعده فإن الله لا يخلف الميعاد فأخذ قبضة من التراب فرمى بها رسول الله صلى الله عليه و سلم في وجوه القوم فانهزموا فأنزل الله عز و جل { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}( ) فقتلنا وأسرنا)( ).
السابعة :قوله تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ]( ) وفي موضوع نزولها وجوه :
الأول :أن هذه الآية نزلت في قريش قبل وبعد معركة بدر بسنة إنذاراً ووعيداً لهم .
الثاني : نزلت الآية في بني قينقاع بعد واقعة بدر للتحذير والإنذار ، إذ جمعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعاهم إلى الإسلام .
الثالث : إرادة المعنى الأعم وشمول الذين كفروا في مكة وغيرهم .
الثامنة : قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ] ( ).
وتتعلق الآية أعلاه بمعركة بدر ، والمراد من الفئتين هما :
الأولى : جيش المسلمين .
الثانية : جيش المشركين .
التاسعة : قوله تعالى [وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ] ( ).
لقد أغرى كفار قريش الشيطان والنفوس التي غلب عليها الغضب والجوارح التي استحوذ عليها حب الإنتقام من المسلمين مع أنهم لم يتعرضوا لقافلة أبي سفيان الذي بعث إلى أبي جهل وجيش المشركين ، وهم في طريقهم إلى بدر أني قد توجهت إلى مكة والقافلة بأمان وليس من ضرر عليها .
و(عن ابن عباس قال : جاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال الشيطان { لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم}( ) وأقبل جبريل عليه السلام على إبليس وكانت يده في يد رجل من المشركين فلما رأى جبريل انتزع يد ، وولى مدبراً هو وشيعته .
فقال الرجل : يا سراقة انك جار لنا؟! فقال { إني أرى ما لا ترون }( ) وذلك حين رأى الملائكة { إني أخاف الله والله شديد العقاب } قال : ولما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين فقال المشركون : وما هؤلاء { غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم } ) ( ).
وفي قوله تعالى [إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ] ( ) أن إبليس رأى جبرئيل عليه السلام يقود فرسه لم يركبه بعد ، وهو يمشي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع جبرئيل الملائكة من أصحابه .
لقد تلبس إبليس يومئذ بهيئة سراقة بن مالك فرآه كفار قريش كيف إنهزم من ميدان المعركة بعدها وعدهم النصرة .
وحينما تجهزت قريش للمسير إلى معركة بدر خافوا أن خرجوا من مكة أن يأتيهم من خلفهم بنو بكر بن عبد مناة من كنانة للعداوة والحرب التي بينهم ، وأرادوا أن يقصدوا عن الخروج ، فجاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك وقال لهم [وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ] ( ) من أن تأتيكم من كنانة من خلفكم ما تكرهون سواء في أنفسكم أو أموالكم أو أهليكم في مكة ، وكان سراقة بن مالك من أشراف كنانة، وكان يصاحبهم بصورة سراقة في كل منزل وهم في طريقهم إلى معركة بدر .
ولما تقابل الصفان كان يضع يده بيد الحارث بن هشام وقيل بيد أخيه أبي جهل , فلما رأى جبرئيل عليه السلام وبيده اللجام يقود الفرس ولم يركب بعد , أدرك أنه لا طاقة له بالقتال ، وقد بلغ مراده بأن زجّر بالمشركين في ورطة ، وأن الدماء ستسيل أنهاراً ولى مولولا .
فتشبث به الحارث بن هشام وهو يظن أنه سراقة ، وقال له كيف كفر من غير قتال (فضرب في صدر الحارث فسقط الحارث، وانطلق إبليس لايرى حتى وقع في البحر، ورفع يديه وقال: يا رب، موعدك الذي وعدتني!.) ( ).
وعندما رجع من بقي من كفار قريش إلى مكة قالوا : ما خذل الناس وصار سبباً للهزيمة إلى سراقة بن مالك ، فجاءهم وقال لهم أني لم أعلم بخروجكم هذا ، فعلموا أنه الشيطان وإغواؤه ،وفيه مصداق وشاهد وتنزيه على نحو الموجبة الجزئية لموضوع خلافة الإنسان ، فحينما إحتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) بقولهم[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) أقام الله عز وجل عليهم الحجة برده عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
وتبين مقدمات معركة بدر أن من علم الله عز وجل في المقام أن من الإفساد وسفك الدماء في الأرض ما يكون بسبب إبليس وتحريضه على فعل المنكر والقبيح ، وكان إبليس يوم خلق آدم وإحتجاج الملائكة أعلاه معهم وفي جماعتهم ، ولم يعلموا أنه ليس منهم إلا بعد أن أمرهم الله عز وجل بالسجود فامتنع ، كما ورد في قوله تعالى [وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً]( ).
(عن ابن عباس قال : إن من الملائكة قبيلة يقال لهم الجن ، فكان إبليس منهم ، وكان يوسوس ما بين السماء والأرض ، فعصى فسخط الله عليه ، فمسخه الله شيطاناً رجيماً) ( ).
(عن الإمام الصادق عليه السلام قال: سألته عن إبليس أكان من الملائكة ؟ وهل كان يلي من أمر السماء شيئا ” ؟
قال: لم يكن من الملائكة، ولم يكن يلي من السماء شيئا “، كان من الجن وكان مع الملائكة، وكانت الملائكة تراه أنه منها، وكان الله يعلم أنه ليس منها، فلما أمر بالسجود كان منه الذي كان.) ( ).
ليكون موعظة لهم وتحذيراً من معركة أحد والخروج إليها .
وفي التنزيل [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) وسراقة هذا هو الذي لحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما خرج من مكة ليلة أراد كفار قريش قتله في فراشه فنام الإمام علي عليه السلام في فراشه .
وأسلم سراقة بعد فتح مكة , وقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد إسلامه في المدينة ، كيف بك إذا لبست سواري كسرى (وعن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لسراقة بن مالك ( كيف بك إذا لبست سواري كسرى ) قال فلما أتى عمر بسواري دعا سراقة فألبسه وقال قل الحمد لله الذي سلبهما كسرى ابن هرمز والبسهما سراقة الأعرابي .
وكان سراقة رجلاً أزب الذراعين كثير الشعر فيها فلبس سواري كسرى بعد فتح فارس ورفع يده شاكراً لله عز وجل , وسراقة شاعر .
وأخرج الحارث بن أبي أسامة عن ابن محيريز قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( فارس نطحة او نطحتان ثم لا فارس بعد هذا أبدا والروم ذوات القرون كلما هلك قرن خلفه قرن))( ).
ويوم أراد سراقة اللحاق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم طمعاً بجائزة كفار قريش ساخت قوائم فرسه إلى صدره فوثب منها، وعلم أن الأمر معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكف عن طلبه وصاحبه .
وفي قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ *قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ] ( ) ومن الإعجاز في قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ..]مسائل :
الأولى : تعليم الله عز وجل آدم الأسماء كلها من الإرتقاء بين الخلائق، وبيان نيل المؤمن المنزلة الرفيعة عند الله ، قال سبحانه [هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ]( ).
الثانية : إتخاذ الأسماء ومعرفتها حجة وبرهان على إستحقاق الإنسان الخلافة في الأرض .
الثالثة : سؤال الله عز وجل للملائكة عن الأسماء والمسميات .
الرابعة : عدم قدرة الملائكة على الإجابة .
الخامسة : أمر الله عز وجل لآدم بإخبار الملائكة عن الأسماء .
السادسة : رؤية الملائكة لحفظ آدم للأسماء واستجابته لأمر الله عز وجل بالإمتثال الأحسن .
السابعة : إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بأنه إحاط بكل شئ علماً وأن الملائكة متخلفون عن معرفة كنه بديع خلقه .
مسائل نافع بن الأزرق لعبد الله بن عباس
اشتهرت هذه المسائل بين أهل العلم، وتلقوها بالقبول، وهي منثورة في كتب التفسير والتراجم .
فقد روى الطبراني( ) قال: حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي ثنا إبراهيم بن بشار الرمادي ثنا أبو عبد الرحمن الحراني وهو عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي ثنا عبيد الله بن عياش وموسى بن يزيد الحرانيان قالا ثنا جويبر عن الضحاك بن مزاحم الهلالي قال :
خرج نافع بن الأزرق ونجدة بن عويمر في نفر من رؤوس الخوارج ينقرون عن العلم ويطلبونه حتى قدموا مكة فإذا هم بعبد الله بن عباس قاعدا قريبا من زمزم وعليه رداء أحمر وقميص وإذا ناس قيام يسألونه عن التفسير.
يقولون يا بن عباس ما تقول في كذا وكذا فيقول هو كذا وكذا فقال له نافع بن الأزرق ما أجرئك يا بن عباس على ما تجريه منذ اليوم.
فقال له بن عباس ثكلتك أمك يا نافع وعدمتك ألا أخبرك من هو أجرأ مني قال من هو يا بن عباس قال رجل تكلم بما ليس به علم ورجل كتم علما عنده.
قال صدقت يا بن عباس
أتيتك لأسألك قال هات يا بن الأزرق فسل :
قال أخبرني عن قول الله عز وجل [يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ]( )، ما الشواظ قال اللهب الذي لا دخان فيه.
قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد قال نعم أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت
ألا من مبلغ حسان عني
مغلغلة تدب إلى عكاظ
أليس أبوك قينا كان فينا
إلى القينات فسلا في الحفاظ
يمانيا يظل يشب كيرا
وينفخ دائبا لهب الشواظ
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل ( إنما أنت من المسحرين ) ما المسحرون قال من المخلوقين قال فهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال نعم أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت وهو يقول :
فإن تسألينا مم نحن فإننا
عصافير من هذا الأنام المسحر
قال صدقت فأخبرنا عن قول الله عز وجل[فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ]( )، ما المليم قال المذنب قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال نعم أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت وهو يقول
بعيد من الآفات لست لها بأهل
ولكن المسيء هو المليم
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل لكي لا تأسوا على
ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ما الأسى قال لكي لا تحزنوا قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد قال نعم أما سمعت قول لبيد بن ربيعة
قليل الأسى فيما أتى الدهر دونه
كريم النثا حلو الشمائل معجب
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل يطوفون بينها وبين حميم آن ما الآن قال الذي قد انتهى حره قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال نعم أما سمعت قول نابغة بني ذبيان
فإن يقبض عليك أبو قبيس
تحط بك المنية في هوان
وتخضب لحية غدرت وخانت
بأحمر من نجيع الجوف آن
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل[فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ]( )، ما الصريم قال كالليل المظلم قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال نعم أما سمعت قول نابغة بني ذبيان
لا تزجروا مكفهر الأكفاء له
كالليل يخلط أصراما بأصرام
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل[إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ]( )، ما غسق الليل قال إذا أظلم قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل ان ينزل الكتاب على محمد قال نعم أما سمعت بقول النابغة
كأنما جل ما قالوا وما وعدوا
آل تضمنه من دامس غسق
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل [وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا]( )، ما المقيت قال قادرا قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل ان ينزل الكتاب على محمد قال نعم أما سمعت بقول النابغة
وذي ضغن كففت النفس عنه
وإني في مساءته مقيت
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل [وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ]( )، قال إقباله بسواده قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد قال نعم أما سمعت قول امرى القيس
عسعس حتى لو يشاء كان
لنا من ضوء نوره قبس
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل[وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ]( )، قال الزعيم الكفيل قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد قال نعم أما سمعت قول امرئ القيس
وإني زعيم إن رجعت مملكا
بسير ترى منه الفرانق أزورا
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل[وَفُومِهَا]( )، ما الفوم قال الحنطة قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال نعم أما سمعت قول أبي ذؤيب الهذلي
قد كنت تحسبني كأغنى وافد
قدم المدينة عن زراعة فوم
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل[بِالأَزْلاَمِ]( )، ما الأزلام قال القداح قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد
قال نعم أما سمعت قول الحطيئة
لا يزجر الطير إن مرت به سنحا
ولا يقام له قدح بأزلام
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل[وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ]( )، وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة قال أصحاب الشمال قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال أما سمعت بقول زهير بن أبي سلمى
نزل الشيب بالشمال قريبا
والمرورات دائيا وحقيرا
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل[وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ]( )، قال اختلط ماؤها بماء الأرض قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل ان ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال نعم أما سمعت قول زهير بن أبي سلمى
لقد عرفت ربيعة في جذام
وكعب خالها وابنا ضرار
لقد نازعتم حسبا قديما
وقد سجرت بحارهم بحاري
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل [أَحَدٌ]( ) [الصَّمَدُ]( ) أما الأحد فقد عرفناه فما الصمد قال الذي يصمد إليه في الأمور كلها قال فهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد قال نعم أما سمعت بقول الأسدية
ألا بكر الناعي بخيري بني أسد
بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل[يَلْقَ أَثَامًا]( )، ما الاثام قال جزاء قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال نعم أما سمعت بقول بشر بن أبي حازم الأسدي
وإن مقامنا ندعو عليهم
بأبطح ذي المجاز له أثام
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل[وَهُوَ كَظِيمٌ]( )، ما الكظيم قال الساكت قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قال نعم أما سمعت بقول زهير بن جذيمة العبسي
فإن تك كاظما بمصاب شاس
فإني اليوم منطلق لساني
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل[إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]( )، قال إذ تقتلونهم بإذنه قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد قال نعم أما سمعت بقول عتبة الليثي :
نحسهم بالبيض حتى كأنما
نفلق منهم بالجماجم حنظلا
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ]( )، هل كان الطلاق في الجاهلية قال نعم طلاقا بائنا ثلاثا أما سمعت قول أعشى بني قيس بن ثعلبة حين أخذه أختانه عنزة فقالوا له إنك قد أضررت بصاحبتنا وإنا نقسم بالله أن لا نضع العصا عنك أو تطلقها فلما رأى الجد منهم وأنهم فاعلون به شرا قال :
يا جارتا بيني فإنك طالقة
كذاك أمور الناس غاد وطارقة
فقالوا والله لتبينن لها الطلاق أو لا نضع العصا عنك فقال
فبيني حصان الفرج غير ذميمة
وما موقة منا كما أنت وامقة
فقالوا والله لتبين الطلاق أو لا نضع العصا عنك فقال :
وبيني فإن البين خير من العصا
وان لا تزالي فوق رأسك بارقة
فأبانها بثلاث تطليقات.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد:
وعن الضحاك بن مزاحم الهلالي قال خرج نافع بن الأرزق ونجدة بن عويمر في نفر من رؤوس الخوارج ينقرون عن العلم ويطلبونه حتى قدموا مكة فإذا هم بعبد الله بن عباس قاعداً قريباً من زمزم وعليه رداء له أحمر وقميص فإذا أناس قيام يسألونه عن التفسير يقولون يا أبا عباس ما تقول في كذا وكذا فيقول هو كذا وكذا .
فقال له نافع بن الأزرق ما أجرأك يابن عباس على ما تخبر به منذ اليوم فقال له ابن عباس ثكلتك أمك يا نافع وعدمتك ألا أخبرك من هو أجر أمتي قال من هو يا ابن عباس قال رجل تكلم بما ليس له به علم أو كتم علماً عنده قال صدقت يابن عباس أتيتك لأسألك قال هات يا ابن الأزرق فسل قال فأخبرني عن قول الله عز وجل “يرسل عليكما شواظ من نار” ما الشواظ
قال اللهم الذي لا دخان فيه قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت:
ألا من مبلغ حسان عـنـي مغلغلة تدب إلى عـكـاظ
أليس أبوك قيناً كان فـينـا إلى الفتيان فسلا في الحفاظ
يمانياً يظـل يشـب كـيراً وينفخ دائباً لهب الـشـواظ
قال صدقت فأخبرني عن قوله[وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ]( )، ما النحاس قال الدخان الذي لا لهب فيه قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال نعم، أما سمعت نابغة بني ذبيان يقول :
يضيء كضوء سراج السليط لم يجعل الله فيه نحاساً
يعني دخاناً
قال صدقت فأخبرني عن قول الله “أمشاج نبتليه”( ) قال ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا في الرحم كانا مشجاً قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم أما سمعت قول أبي ذؤيب الهذلي وهو يقول
كأن النصل والفوقـين فـيه خلاف الريش سيط به مشيج
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل “والتفت الساق بالساق”( ) ما الساق بالساق قال الحرب قال هل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم أما سمعت قول أبي ذؤيب:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرت عن ساقها الحرب شمـرا
قال صدقت فاخبرني عن قول الله عز وجل “بنين وحفدة”( ) ما البنون والحفدة قال أما بنوك فإنهم يغاظونك وأما حفدتك فإنهم خدمك قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت:
حفد الولائد حولهن وألقيت بأكفهن أزمة الأحمـال
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل “إنما أنت من المسحرين”( ) قال من المخلوقين قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت وهو يقول:
من الآفات لست لها بأهل ولكن المسيء هو المليم
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل “قل أعوذ برب الفلق”( ) ما الفلق قال ضوء الصبح قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم أما سمعت قول لبيد بن ربيعة وهو يقول:
الفارج الهم مبذول عساكـره كما يفرج ضوء الظلمة الفلق
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل “لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم” ما الأساة قال لا تحزنوا قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم أما سمعت قول لبيد ربيعة:
قليل الأسى فيما أتى الدهر دونه كريم الثنا حلو الشمائل معجب
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل “يطوفون بينها وبين حميم آن”( ) ما الآن قال الذي قد انتهى حره قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم أما سمعت قول نابغة بني ذبيان:
فإن يقبض عليك أبو قبـيس تحط بك المنية في هـوان
وتخضب لحية غدرت وخانت بأحمى من نجيع الجوف آن
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل “فأصبحت كالصريم”( ) ما الصريم قال الليل المظلم قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم أما سمعت قول نابغة بني ذبيان:
لا تزجروا مكفهراً لا كفاء له كالليل يخلط أصراماً بأصرام
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل “إلى غسق الليل”( ) ما غسق الليل قال إذا أظلم قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم أما سمعت النابغة وهو يقول:
كأنما جد ما قالوا وما وعدوا
آل تضمنه من دامس غسق
قال أبو خليفة الآل: السراب .
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل “وكان الله على كل شيء مقيتاً” ما المقيت قال قادر قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم أما سمعت قول امريء القيس:
وذي ضغن كففت الضغن عنه وإني في مساءتـه مـقـيت
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل “والليل إذا عسعس”( ) قال إقبال سواده قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم أما سمعت قول امريء القيس:
عسعس حتى لو نشأ أدنا كان له من ضوئه مقبس
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل “وإذا البحار سجرت”( ) قال اختلط ماؤها بماء الأرض قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم أما سمعت قول زهير بن أبي سلمى:
لقد عرفت ربيعة في جـذام وكعب حالها وابنا ضـرار
لقد نازعتهم حسبـاً قـديمـاً وقد سجرت بحارهم بحارى
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل “وإنه تعالى جد ربنا” قال ارتفعت عظمة ربنا قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم أما سمعت قول طرفة بن العبد للنعمان بن المنذر:
إلى ملك يضرب الدراعـين لم ينقص الشيب منه قبـالا
أترفع جـدك إنـي امـرؤ سقتني الأعادي سجالاً سجالاً
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل “وأنتم سامدون”( ) قال لا هون قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم أما سمعت قول هزيلة بنت بكر تبكي عاداً:
بعثت عاداً لقـيمـاً وأتى سعد شـريدا
قيل قم فانظر إليهم ثم دع عنك السمودا
قال فأخبرني عن قول الله عز وجل “إذا اتسق”( ) ما اتساقه قال إذا اجتمع قال فهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم أما سمعت قول أبي صرمة الأنصاري:
إن لنا قلائصاً نقـانـقـاً مستوسقات لو تجدن سائقاً
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل “أو تسمع لهم ركزاً”( ) ما الركز قال صوتاً قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم أما سمعت قول خراش بن زهير:
فإن سمعتم بخيل هابـط شـرفـاً أو بطن قو فاخفوا الركز واكتتموا
قال صدقت فأخبرني عن قول الله عز وجل “إذ تحسونهم بإذنه”( ) قال إذ تقتلونهم بإذنه قال وهل كانت العرب تعرف ذلك قبل أن ينزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم قال نعم أما سمعت قول عتبة الليثي:
نحسهم بالبيض حتى كأننـا نفلق منهم بالجما جم حنظلا
وقال الهيثمي:
قوله تعالى “فسبحان الله حين تُمسون وحين تُصبحون”( ) عن أبي رزين قال خاصم نافع بن الأزرق ابن عباس فقال تجد الصلوات الخمس في كتاب الله قال نعم فقرأ عليه “فسبحان الله حين تمسون” المغرب “وحين تُصبحون” الصبح “وعشياً” العصر “وحينَ تُظهرون” الظهر “ومن بعد صلاة العشاء” قال صلاة العشاء. رواه الطبراني عن شيخه عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم وهو ضعيف.
قال السيوطي في الإتقان:
حميد الأعرج وعبد الله بن أبي بكر بن محمد عن أبيه قال: بينا عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير القرآن، فقال نافع ابن الأزرق لنجدة بن عويمر: قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاما إليه فقالا: إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا وتأتينا بمصادقة من كلام العرب، فإن الله تعالى إنما أنزل القرآن بلسان عربي متين.
فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما، فقال نافع:
أخبرني عن قول الله تعالى (عن اليمين وعن الشمال عزين)( ) قال: العزون: حلق الرفاق. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم: أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول:
فجاءوا يهرعون إليه حتى يكونوا حول منبره عزينا
قال: أخبرني عن قوله(وابتغوا إليه الوسيلة)( ) قال: الوسيلة: الحاجة، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عنترة وهويقول:
إن الرجال لهم إليك وسـيلة إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
قال: اخبرني عن قوله (شرعة ومنهاجاً)( ) قال: الشرعة: الدين، والمنهاج: الطريق، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو يقول:
لقد نطق المأمون بالصدق والهدى وبين للإسلام ديناً ومـنـهـجـاً
قال: أخبرني عن قوله تعالى[إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ]( )، قال: نضجه وبالغه، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
إذا ما مشت وسط النساء تأودت كما اهتز غصن ناعم النبت يانع
قال: أخبرني عن قوله تعالى (وريشاً)( ) قال: الريش المال، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول:
فرشني بخير طال ما قد بـريتـنـي وخير الموالي من لا يريش ولا يبري
قال: أخبرني عن قوله تعالى (لقد خلقنا الإنسان في كبد) ( ) قال: في اعتدال واستقامة، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت لبيد بن ربيعة وهو يقول:
يا عين هلا بكيت أربـد إذ قمنا وقام الخصوم في كبد
قال: أخبرني عن قوله تعالى (يكاد سنا برقه) ( ) قال: السنا الضوء، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت أبا سفيان بن الحارث يقول:
يدعو إلى الحق لا يبغي به بدلاً يجلوبضوء سناه داجي الظلم
قال: أخبرني عن قوله تعالى (وحفدة) ( ) قال: وهم الأعوان. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت الشاعر يقول:
حفد الولائد حولهن وأسلمت بأكفهن أزمة الأحـمـال
قال: أخبرني عن قوله تعالى (وحنانا من لدنا)( ) قال: رحمة من عندنا، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت طرفة بن العبد يقول:
أبا منذر أفنيت فاستبق بـعـضـنـا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
قال: أخبرني عن قوله تعالى (أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا)( ) قال: أفلم يعلم بلغة بني مالك، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت مالك بن عوف يقول:
لقد يئس الأقوام أني أنـا ابـنـه وإن كنت عن أرض العشيرة نائياً
قال: أخبرني عن قوله تعالى [مثبوراً ] ( ) قال ملعوناً محبوساً من الخير، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عبد العزيز بن الزبعري يقول:
إذا أتاني الشيطان في سنة النو م ومن مال ميله مثـبـوراً
قال: أخبرني عن قوله تعالى [فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ] ( ) قال: ألجأها، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت حسان بن ثابت يقول:
إذا شددنا شـدة صـادقة فأجأناكم إلى سفح الجبل
قال: أخبرني عن قوله تعالى [نَدِيًّا] ( )قال: النادي: المجلس، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول:
مقــامـــات وأنـــدية ويوم سير على الأعداء تأويب
قال: أجبني عن قوله تعالى [أَثَاثًا وَرِئْيًا] ( ) – قال: الأثاث: المتاع، والرئى: من الشراب، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول:
بملمومة شهبـاء لـو قـذفـوا بـهـا شماريخ من رضوى إذن عاد صفصفاً
قال: أخبرني عن قوله تعالى [وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى] ( ) قال: لا تعرق فيها من شدة حر الشمس، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت الشاعر يقول:
رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخـصـر
قال: أخبرني عن قوله تعالى [ له خوار ] ( ) قال: له صياح، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
كأن بني معاوية بن بكـر لى الإسلام صابحة تخور
قال: أخبرني عن قوله تعالى [وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي] ( ) قال: لا تضعفا عن أمري، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
إني وجـدك مـا ونـيت ولم أزل أبغـي الـفـكاك لـه بـكل سـبـيل
قال: أخبرني عن قوله تعالى [الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ] ( ) قال: القانع: الذي يقنع بما أعطى، والمعتر: الذي يعترض الأبواب. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
على مكثريهم حق معتر بابهم وعـنـد الـمـقـلــين الـســمــاحة الـبذل
قال: أخبرني عن قوله تعالى [وَقَصْرٍ مَشِيدٍ] ( ) قال: مشيد بالجص والآجر، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت عدي بن زيد يقول:
شاده مـرمـراً وجـلــلـه
قال: أخبرني عن قوله تعالى شواظ قال: الشواظ: اللهب الذي لا دخان له، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول أمية بن الصلت:
شادَهُ مَرْمَراً وجَلَّلَهُ كا … ساً فللطيرِ في ذُراهُ وُكورُ( )
قال: أخبرني عن قوله تعالى[قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ] ( ) قال: فازوا وسعدوا، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول لبيد بن ربيعة:
فاعقلي إن كنت لما تعقلي … ولقد أفلح من كان عقـل
قال: أخبرني عن قوله تعالى [يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ] ( ) قال: يقوي، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت حسان بن ثابت:
برجال لستم وأمثـالـهـم
أيدوا جبريل نصراً فنزل
قال: أخبرني عن قوله تعالى – وفومها – قال: الحنطة. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول أبي محجن الثقفي:
قد كنت أحسبني كأغنى واحد
قدم المدينة عن زراعة فوم
قال: أخبرني عن قوله تعالى [وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ] ( ) قال: السمود: اللهو والباطل، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول هذيلة بنت بكر وهت تبكي قوم عاد:
ليت عاد قبلوا الحق ولم يبدوا جحوداً
قيل قم فانظر إليهم ثم دع عـنـك الـســـمـــودا
قال: أخبرني عن قوله تعالى [لاَ فِيهَا غَوْلٌ] ( ) قال: ليس فيها نتن ولا كراهية كخمر الدنيا، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول امرئ القيس:
ربّ كأس شربت لا غول فيها
وسقيت النديم منها مـزاجـاً
قال: أخبرني عن قوله تعالى [وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ] ( ) قال: اتساقه: اجتماعه، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول طرفة بن العبد:
إن لنا قلائصاً نقـانـقـاً
مستوسقات لم يجدن سائقاً
قال: أخبرني عن قوله تعالى [وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ) قال: كالحياض الواسعة، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول طرفة بن العبد:
كالجوابي لا تنى مـتـرعة
بقرى الأضياف أو للمتحضر
قال: أخبرني عن قوله تعالى [فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ] ( ) قال: الفجور والزنى، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الأعشى:
حافظ لفرج راض بالتقى
ليس ممن قلبه فيه مرض
قال: أخبرني عن قوله تعالى [مِنْ طِينٍ لاَزِبٍ] ( ) قال: الملتزق، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول النابغة:
فلا تحبسون الخير لا شر بعـده
ولا تحبسون الشر ضربة لازب
قال: أخبرني عن قوله تعالى [أَندَادًا] ( ) قال: الأشباه والأمثال، قال: ووهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول لبيد بن ربيعة:
أحمد الله فـلا نـد لـه
بيديه الخير ما شاء فعل
قال: أخبرني عن قوله تعالى [لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ] ( ) قال: الخلط بماء الحميم والغساق. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول الشاعر:
تلك المكارم لا قعبان من لبن
شيباً بماء فعادا بعد أبـو الا
قال: أخبرني عن قوله تعالى [عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا] ( ) قال: القط: الجزاء، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيتـه
بنعمته يعطي القطوط ويطلق
قال: أخبرني عن قوله تعالى [مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ] ( ) قال: الحمأ السواد، والمسنون: المصور، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول حمزة بن عبد المطلب:
أغر كأن البدر شقة وجهـه
جلا الغيم عنه ضوؤه فتبددا
قال: أخبرني عن قوله تعالى [الْبَائِسَ الْفَقِيرَ] ( ) قال: البائس: الذي لا يجد شيئاً من شدة الحال، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول طرفة:
يغشاهم البائس المدقع والضيف
وجار مجـاور جـنـب
قال: أخبرني عن قوله تعالى [مَاءً غَدَقًا] ( ) قال: كثيراً جارياً، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
تدني كراديس ملتفاً حدائقـهـا
كالنبت جادت بها أنهارها غدقاً
ثال: أخبرني عن قوله تعالى [بِشِهَابٍ قَبَسٍ] ( ) قال: شعلة من نار يقتبسون منه، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول طرفة بن العبد:
هم عراني فبت أدفـعـه
دون سهادي كشعلة القبس
قال: أخبرني عن قوله تعالى [عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) قال: الأليم: الوجيع، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
نام من كان خلياً من ألم
وبقيت الليل طولاً لم أنم
قال: أخبرني عن قوله تعالى [وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ] ( ) قال: أتبعنا على آثار الأنبياء. أي بعثنا، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول عدي بن زيد:
يوم قفت عيرهم من عـيرنـا
واحتمال الحي في الصبح فلق
قال: أخبرني عن قوله تعالى [إِذَا تَرَدَّى] ( ) قال إذا مات وتردى في النار، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول عدي بن زيد:
خطفته مـنـية فـتـردى
وهو في الملك يأمل التعميرا
قال: أخبرني عن قوله تعالى [فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ] ( ) قال: النهر: السعة، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول لبيد بن ربيعة:
ملكت بها كفى فأنهرت فنقهـا
يرى قائم من دونها وما ورائها
قال: أخبرني عن قوله تعالى [وَضَعَهَا لِلأَنَامِ] ( ) قال: الخلق، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت لبيد بن ربيعة:
فإن تسألينا مم نحـن فـإنـنـا
عصافير من هذا الأنام المسحر
قال: فأخبرني عن قوله تعالى [أَنْ لَنْ يَحُورَ] ( ) قال: أن لن يرجع بلغة الحبشة، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
ولا المرء إلا كالشهاب وضوئه
يحور رماداً بعد إذ هوساطع
قال: أخبرني عن قوله تعالى [ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا] ( ) قال: أجدر أن لا تميلوا، قال: وهل تعرف العرب غير ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
إنا تبعنا رسول الله واطرحـوا
قول النبي وعالوا في الموازين
قال: أخبرني عن قوله تعالى [وَهُوَ مُلِيمٌ] ( ) قال: المسيء المذنب، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول أمية بن الصلت:
بريء من الآفات ليس لها بأهل
ولكن المسيء هو الـمـلـيم
قال: أخبرني عن قوله تعالى [إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] ( ) قال: تقتلونهم، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
ومننا الذي لاقى بسيف محـمـد
فحس به الأعداء عرض العساكر
قال: أخبرني عن قوله تعالى [مَا أَلْفَيْنَا] ( ) قال: يعني وجدنا، قال: وهل تعرف العرب غير ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول نابغة بني ذبيان:
فحسبوه فألفوه كما زعـمـت
تسعاً وتسعين لم تنقص ولم تزد
قال: أخبرني عن قوله تعالى [جَنَفًا] ( ) قال: الجور والميل في الوصية، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول عدي بن زيد:
وأمك يا نعمان في أخوزاتها
تأتين ما يأتينـه جـنـفـاً
قال: أخبرني عن قوله تعالى [بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ] ( ) قال: البأساء: الخصب، والضراء: الجدب، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول زيد بن عمرو:
إن الإلـه واسـع حـكـم
بكفه الضر والبأساء والنعم
قال: أخبرني عن قوله تعالى [إِلاَّ رَمْزًا] ( ) قال: الإشارة باليد والإيماء بالرأس، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
ما في السماء من الرحمن مرتمز
إلا إليه وما في الأرض من وزر
قال: أخبرني عن قوله تعالى [فَقَدْ فَازَ] ( ) قال: سعد ونجا، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول عبد الله بن رواحة:
وعسى أن أفوز ثمت ألقى
حجة أتقي بها الفتـانـا
قال: أخبرني عن قوله تعالى [سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ] ( ) قال: عدل، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
تلافينا فقاضينـا سـواء
ولكن جرعن حال بحال
قال: أخبرني عن قوله تعالى [الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ] ( ) قال: السفينة الموقرة، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول لبيد بن الأبرص:
شحناً أرضهم بالخيل حتى
تركناهم أذل من الصراط
قال: أخبرني عن قوله تعالى [زَنِيمٍ] ( ) قال: ولد الزنى، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
ولقد قلت وزيد حاسـر
يوم ولت خيل زيد قدداً
قال: أخبرني عن قوله تعالى [بِرَبِّ الْفَلَقِ] ( ) قال: الصبح إذا انفلق من ظلمة الليل، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول زهير بن أبي سلمى:
الفارج الهم مسدولاً عساكره
كما يفرج غم الظلمة الفلق
قال: أخبرني عن قوله تعالى [خَلاَقٍ] ( ) قال: نصيب، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال نعم، أما سمعت قول أمية بن الصلت:
يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم
إلا سرابيل من قطر وأغلال
قال: أخبرني عن قوله تعالى [كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ] ( ) قال: مقرون، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول عدي بن زيد:
قانتاً لله يرجـو عـفـوه
يوم لا يكفر عبد ما ادخر
قال: أخبرني عن قوله تعالى [جَدُّ رَبِّنَا] ( ) قال: عظمة ربنا، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول أمية بن الصلت:
لك الحمد والنعماء والملك ربنـا
فلا شيء أعلى منك جداً وأمجد
قال: أخبرني عن قوله تعالى [حَمِيمٍ آنٍ] ( ) قال: الآني الذي انتهى طبخه وحره، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول نابغة بن ذبيان:
ويخضب لحية غدرت وخانت
بأحم خر من نجيع الخوف آن
قال: أخبرني عن قوله تعالى [وَأَكْدَى] ( ) قال: كدره بمنه. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الشاعر:
أعطى قلـيلاً ثـم أكـدي بـمـنـه
ومن ينشر المعروف في الناس يحمد
قال: أخبرني عن قوله تعالى [لاَ وَزَرَ] ( ) قال: الوزر: الملجأ، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول عمروبن كلثوم:
لعمرك ما إن له صخـرة
لعمرك ما إن له من وزر
قال: أخبرني عن قوله تعالى [قَضَى نَحْبَهُ] ( ) قال: أجله الذي قدر له، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول لبيد بن ربيعة:
ألا تسألان المرء مـاذا يحـاول
أنحب فيقضي أم ضلال وباطل
قال: أخبرني عن قوله تعالى [الْمُعْصِرَاتِ] ( ) قال: السحاب يعصر بعضها فيخرج الماء من بين السحابتين، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول نابغة:
تحربها الأرواح من بين شمـائل
وبين صباها المعصرات الدوامس
قال: أخبرني عن قوله تعالى: [سَنَشُدُّ عَضُدَكَ] ( ) قال: العضد: المعين الناصر، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول النابغة الذبياني:
في ذمة من أبي قابوس منقذه
للخائفين ومن ليست له عضد
قال: أخبرني عن قوله تعالى [فِي الْغَابِرِينَ] ( ) قال: في الباقين، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول عبيد بن الأبرص:
ذهبوا وخلفني المخلف فيهم
فكأنني في الغابرين غريب
قال: أخبرني عن قوله تعالى [فَلاَ تَأْسَ] ( ) قال: لا تحزن، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول امرئ القيس:
وقوفاً بها صحبى على مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتحمل
قال: أخبرني عن قوله تعالى [يَصْدِفُونَ] ( ) قال: يعرضون عن الحق، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول أبي سفيان:
عجبت لحلم الله عنا وقد بـدا
له صدفنا عن كل حق منزل
قال: أخبرني عن قوله تعالى [أَنْ تُبْسَلَ] ( ) قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول زهير:
وفارقتك برهن لا فكاك لـه
يوم الوداع فقلبي مبسل غلقاً
قال: أخبرني عن قوله [فَلَمَّا أَفَلَتْ] ( ) قال: زالت الشمس عن كبد السماء، أما سمعت قول كعب بن مالك:
فتغير القمر المنـير لـفـقـده
والشمس قد كسفت وكادت تأفل
قال: أخبرني عن قوله تعالى [كَالصَّرِيمِ] ( ) قال: الذاهب، أما سمعت قول الشاعر:
غدوت عليه غدوة فوجدته
قعوداً لديه بالصريم عواذل
قال: أخبرني عن قوله تعالى – تفتؤ – قال:لا تزال، أما سمعت قول الشاعر:
لعمرك ما تفتأ تذكر خـالـداً
وقد غاله ما غال من قبل تبع
قال: أخبرني عن قوله تعالى [خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ] ( ) قال: مخافة الفقر، أما سمعت قول الشاعر:
وإني على الإملاق يا قوم ماجد
أعد لأضيافي الشواء المضهبا
قال: أخبرني عن قوله تعالى [حَدَائِقَ] ( ) قال : البساتين، أما سمعت قول الشاعر:
بلاد سقاها الله أما سهولهـا
فقضب ودر مغدق وحدائق
قال: أخبرني عن قوله تعالى [مُقِيتًا] ( ) قال: قادراً، أما سمعت قول أحيحة الأنصاري:
وذي ضغن كففت النفس عنه
وكنت على مساءته مقيتـاً
قال: أخبرني عن قوله تعالى [وَلاَ يَئُودُهُ] ( ) قال: لا يثقله، أما سمعت قول الشاعر:
يعطي المئين ولايئوده حملـهـا
محض الضرائب ماجد الأخلاق
قال: أخبرني عن قوله تعالى [سَرِيًّا] ) قال: النهر الصغير، أما سمعت قول الشاعر
سهل الخليقة ماجد ذونائل
مثل السريّ تمده الأنهار
قال: أخبرني عن قوله تعالى [كَأْسًا دِهَاقًا] ( ) قال: ملأى، أما سمعت قول الشاعر:
أتانا عامر يرجوقراناً
فأترعنا له كأساً دهاقاً
قال: أخبرني عن قوله تعالى [لَكَنُودٌ] ( ) قال: كفور للنعم، وهو الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويجيع عبده أما سمعت قول الشاعر:
شكرت له يوم العكاظ نواله
ولم أك للمعروف ثم كنود
قال: أخبرني عن قوله تعالى [فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ] ( ) قال: يحركون رؤوسهم استهزاء بالناس، أما سمعت قول الشاعر:
أتنغض لي يوم الفخار وقد ترى
خيولاً عليها كالأسود ضـوارياً
قال: أخبرني عن قوله تعالى [ُيهْرَعُونَ] ( ) قال: يقبلون إليه بالغضب، أما سمعت قول الشاعر:
أتونا يهرعون وهم أسارى
نسوقهم على رغم الأنوف
قال: أخبرني عن قوله تعالى [بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ] ( ) قال: بئس اللعنة بعد اللعنة، أما سمعت قول الشاعر:
لا تقذفني بركن لا كفاء له
وإن تاسفك الأعداء بالرفد
قل: أخبرني عن قوله تعالى [غَيْرَ تَتْبِيبٍ] ( ) قال: تخسير. أما سمعت قول بشر بن أبي حازم:
هم جدعوا الأنوف فأوعبوها
وهم تركوا بني سعد تبابـاً
قال: أخبرني عن قوله تعالى [فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ] ( ) ما القطع؟ قال: آخر الليل سحراً، قال مالك ابن كنانة:
ونائحة تقوم بقطـع لـيل
على رجل أصابته شعوب
أي داهية قال: أخبرني عن قوله تعالى [هَيْتَ لَكَ] ( ) قال: تهيأت لك، أما سمعت قول أحيحة الجلاح الأنصاري:
به أحمي المضاف إذا دعاني
إذا ما قيل للأبطال هـيتـاً
قال: أخبرني عن قوله تعالى [يَوْمٌ عَصِيبٌ] ( ) قال: شديد، أما سمعت قول الشاعر:
هم ضـــربـــوا قـــوانـــــس خـــــــيل حـــــــجــــــ ـر
بجـــنــــب الـــــــرده فـــــــي يوم عـــــــصــــــ ـيب
قال: أخبرني عن قول الله تعالى [لاَ يَسْأَمُونَ] ( ) قال: لا يفترون ولا يملون، أما سمعت قول الشاعر:
من الخوف لا ذوسمة من عبادة
ولا زهـــومـــن طـــول الـــتـــعـــبـ ــد يجــــــهــــــ ـد
قال: أخبرني عن قوله تعالى [طَيْرًا أَبَابِيلَ] ( ) قال: ذاهبة وجائية تنقل الحجارة بمناقيرها وأرجلها فتبلبل عليهم فوق رؤوسهم، أما سمعت قول الشاعر:
وبالفوارس من ورقاء قد علموا
أحلاس خيل على جرد أبابيل
قال: أخبرني عن قوله تعالى [ثَقِفْتُمُوهُمْ] ( ) قال: وجدتموهم، أما سمعت قول حسان:
فإما تثقفن بني لـؤي
جذيمة إن قتلهم دواء
قال: أخبرني عن قوله تعالى [فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً] ( ) قال: النقع: ما يسطع من حوافر الخيل، أما سمعت قول حسان:
عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع موعدها كداء
قال: أخبرني عن قوله تعالى [فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ] ( ) قال: في وسط الجحيم، أما سمعت قول الشاعر:
رماهم بسهم فاستوى في سوائها
وكان قبولاً للهوى ذي الطوارق
قال: أخبرني عن قوله تعالى [فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ] ( ) قال: الذي ليس له شوك، أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت:
إن الحدائق في الجنان ظلـيلة
فيها الكواعب سدرها مخضود
قال: أخبرني عن قوله تعالى [طَلْعُهَا هَضِيمٌ] ( ) قال: منضم بعضه إلى بعض، أما سمعت قول امرئ القيس:
دار لبيضاء العوارض طـفـلة
مهضومة الكشحين ريا المعصم
قال: أخبرني عن قوله تعالى [قَوْلاً سَدِيدًا] ( ) قال: عدلاً حقاً، أما سمعت قول حمزة:
أمين على ما استودع الله قلبه
فإن قال قولاً كان فيه مسدداً
قال: أخبرني عن قوله تعالى [إِلًّا وَلاَ ذِمَّةً] ( ) قال: الإل: القرابة، والذمة: العهد، أما سمعت قول الشاعر:
جزى الله إلا كان بيني وبينهم
جزاء ظلوم لا يؤخر عاجلاً
قال: أخبرني عن قوله تعالى [خَامِدِينَ] ( ) قال: ميتين، أما سمعت قول لبيد:
حلوا ثيابهم على عوراتهم
فهم بأفنية البيوت خمود
قال: أخبرني عن قوله تعالى [زُبَرَ الْحَدِيدِ] ( ) قال: قطع الحديد، أما سمعت قول كعب بن مالك:
تلظى عليهم حين أ، شد حميها
يزير الحديد والحجارة ساجر
قال: أخبرني عن قوله تعالى[فَسُحْقًا] ( ) قال: بعداً، أما سمعت قول حسان:
ألا من مبلغ عـنـي أبـياً
فقد ألقيت في سحق السعير
قال: أخيرني عن قوله تعالى [إِلاَّ فِي غُرُورٍ] ( ) قال: في باطل، أما سمعت قول حسان:
تمنتك الأمانـي مـن بـعـيد
وقول الكفر يرجع في غرور
قال: أخبرني عن قوله تعالى [وَحَصُورًا] ( ) قال: الذي لا يأتي النساء، أما سمعت قول الشاعر:
وحصور عن الحنا يأمر النا
س بفعل الخيرات والتشمير
قال: أخبرني عن قوله تعالى [عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا] ( ) قال: الذي ينقبض وجهه من شدة الوجع، أما سمعت قول الشاعر:
ولا يوم الحساب وكان يوماً
عبوساً في الشدائد قمطريراً
قال: أخبرني عن قوله تعالى[يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ] ( ) قال: عن شدة الآخرة، أما سمعت قول الشاعر:
قد قامت الحرب ينا على ساق
قال: أخبرني عن قوله تعالى [إِيَابَهُمْ] ( ) قال: الإياب: المرجع، أما سمعت قول عبيد بن الأبرص:
وكـل ذي غـيبة يؤب
وغائب الموت لا يؤب
قال: أخبرني عن قوله تعالى [حُوبًا] ( ) قال: إثماً بلغة الحبشة، قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت قول الأعشى:
فإني وما كلفتموني من أمركم
ليعلم من أمسى أعق وأحوبا
قال: أخبرني في قوله تعالى [الْعَنَتَ] ( ). قال: الإثم. أما سمعت قول الشاعر:
رأيتك تبتغي عنتي وتسعـى
مع الساعي على بغير دخل
قال: أخبرني عن قوله تعالى [فَتِيلاً] ( ) قال: التي تكون في شق النواة، أما سمعت قول نابغة:
يجمع الجيش ذا الألوف ويغزو
ثم لا يرزأ الأعادي فـتـيلا
قال: أخبرني عن قوله تعالى [مِنْ قِطْمِيرٍ] ( ) قال: الجلدة البيضاء التي على النواة، أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت:
لم أنل منهم فسيطاً ولا زبداً
ولا فوفف ولا قطمـيرا
قال: أخبرني عن قوله تعالى [أَرْكَسَهُمْ] ( ) قال: حبسهم، أما سمعت قول أمية:
أركسوا في جهنم إنهـم كـا
نوا عتاتاً يقولون كذباً وزوراً
قال: أخبرني عن قوله تعالى [أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا] ( ) قال: سلطنا، أما سمعت قول لبيد:
إن يغبطوا ييسروا وإن أمروا
يوماً يصيروا للهلك والفقـد
قال: أخبرني عن قوله تعالى [أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) قال: يضلكم بالعذاب والجهد بلغة هوازن، أما سمعت قول الشاعر:
كل امرئ من عباد الله مضطهد
ببطن مكة مقهور ومفـتـون
قال: أخبرني عن قوله تعالى [كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا] ( ) قال: كأن لم يسكنوا، أما سمعت قول لبيد:
وغنيت سبتاً قبل مجرى داحس
لوكان للنفس اللجوج خلـود
قال: أخبرني عن قوله تعالى [الْعَذَابِ الْهُونِ] ( ) قال: الهوان، أما سمعت قول الشاعر:
إنا وجدنا بـلاد الـلـه واسـعة
تنجى من الذل والمخزاة والهون
قال: أخبرني عن قوله تعالى [وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا] ( ) قال: النقير، ما في شق النواة، ومنه تنبت النخل، أما سمعت قول الشاعر:
وليس الناس بعدك في نقير
وليسوا غير أصداء وهام
قال: أخبرني عن قوله تعالى [لاَ فَارِضٌ] ( ) قال: الهرمة، أما سمعت قول الشاعر:
لعمري لقد أعطيت ضيفط فارضاً
يساق إليه ما يقوم علـى رجـل
قال: أخبرني عن قوله تعالى [الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ] ( ) قال: بياض النهار من سواد الليل، وهو الصبح إذا انفلق، أما سمعت قول أمية:
الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق
والخيط الأسود لون الليل مكموم
قال: أخبرني عن قوله تعالى [بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ] ( ) قال: باعوا نصيبهم من الآخرة بطمع يسير من الدنيا، أما سمعت قول الشاعر:
يعطي بها ثمناً فيمنعـهـا
ويقول صاحبها ألا تشرى
قال: أخبرني عن قوله تعالى [حُسْبَانًا مِنْ السَّمَاءِ] ( ) قال: نار من السماء، أما سمعت قول حسان:
بقية معشر صبت عليهـم
شآبيب من الحسبان شهب
قال: أخبرني عن قوله تعالى [وَعَنَتْ الْوُجُوهُ] ( ) قال: استسلمت وخضعت، أما سمعت قول الشاعر:
لبيك عليك كل عان بـكـربة
وآل قصي من مقل وذي وفر
قال: أخبرني عن قوله تعالى [مَعِيشَةً ضَنكًا] ( ) قال: الضنك: الضيق الشديد، أما سمعت قول الشاعر:
والخيل لقد لحقت بها في مأزق
ضنك نواحيه شديد المـقـدم
قال: أخبرني عن قوله تعالى [مِنْ كُلِّ فَجٍّ] ( ) قال: طريق، أما سمعت قول الشاعر:
حازوا العيال وسدوا الفجاج
بأجساد عـاد لـهـا آيدان
قال: أخبرني عن قوله تعالى [ذَاتِ الْحُبُكِ] ( ) قال: ذات الطرائق والخلق الحسن، أما سمعت قول زهير بن أبي سلمى:
هم يصربون حبيك البيض إذ لحقوا
لا ينكصون إذ ما استلحموا وحموا
قال: أخبرني عن قوله تعالى [حَرَضًا] ( ) قال: الدنف الهالك من شدة الوجع، أما سمعت قول الشاعر:
أمن ذكر ليلى إن نأت غربة بها
كأنك جم للأطبـا مـحـرض
قال: أخبرني عن قوله تعالى [يَدُعُّ الْيَتِيمَ] ( ) قال: يدفعه عن حقه، أما سمعت قول أبي طالب:
يقسم حقاً لليتيم ولـم يكـن
يدع لذا أيسارهن الأصاغرا
قال: أخبرني عن قوله تعالى [السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ] ( ) قال: منصدع من خوف يوم القيامة، أما سمعت قول الشاعر:
ظباهن حتى أعرض الليل دونها
أفاطير وسمى رواء جدورهـا
قال: أخبرني عن قوله تعالى [فَهُمْ يُوزَعُونَ] ( ) قال: يحبس أولهم على آخرهم حتى تنام الطير، أما سمعت قول الشاعر:
وزعت رعيلها بأقب نـهـد
إذا ما القوم شدوا بعد خمس
قال: أخبرني عن قوله تعالى [كُلَّمَا خَبَتْ] ( ) قال: الخبء: الذي يطفأ مرة ويسعر أخرى، أما سمعت قول الشاعر:
والنار تخبـوعـن آذانـهـم
وأضرمها إذا ابتدروا سعيراً
قال: أخبرني عن قوله تعالى [كَالْمُهْلِ] ( ) قال: كدردري الزيت، أما سمعت قول الشاعر:
تبارى بها العيسى السموم كأنها
تبطنت الأقراب من عرق مهلا
قال: أخبرني عن قوله تعالى [أَخْذًا وَبِيلاً] ( ) قال: شديداً ليس له ملجأ، أما سمعت قول الشاعر:
خزي الحياة وخزي الممات
وكلا أراه طعامـاً وبـيلا
قال: أخبرني عن قوله تعالى [فَنَقَّبُوا فِي الْبِلاَدِ] ( ) قال: هربوا بلغة اليمن، أما سمعت قول عدي بن زيد:
فنقبوا في البلاد من حذر المـو
ت وجالوا في الأرض أي مجال
قال: أخبرني عن قوله تعالى [إِلاَّ هَمْسًا] ( ) قال: الوطء الخفي والكلام الخفي، أما سمعت قول الشاعر:
فباتوا يدلجون وبات يسرى
بصير بالدجا هاد هموس
قال: أخبرني عن قوله تعالى [مُقْمَحُونَ] ( ) قال: المقمح: الشامخ بأنفه المنكس رأسه، أما سمعت قول الشاعر:
ونحن على جوانبها قعـود
نغض الطرف كالإبل ألقما
قال: أخبرني عن قوله تعالى [فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ] ( ) قال: المريج: الباطل، أما سمعت قول الشاعر:
فراعت فانتقدت به حشاها
فخر كأنه خوط مـريج
قال: أخبرني عن قوله تعالى [حَتْمًا مَقْضِيًّا] ( ) قال: الحتم: الواجب، أما سمعت قول أمية:
عبادك يخطئون وأنت رب
بكفيك المنايا والحـتـوم
قال: أخبرني عن قوله تعالى [وَأَكْوَابٍ] ( ) قال: القلال التي لا عرى لها، أما سمعت قول الهذلي:
فلم ينطق الديك حتى ملأت
كؤب الدنان له فاستـدارا
قال: أخبرني عن قوله تعالى [وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ] ( ) قال: لا يسكرون، أما سمعت قول عبد الله بن رواحة:
ثم لا ينزفون عنها ولكن
يذهب الهم عنهم والغليل
قال: أخبرني عن قوله تعالى [كَانَ غَرَامًا] ( ) قال: ملازماً شديداً كلزوم الغريم الغريم، أما سمعت قول بشر بن أبي حازم:
ويوم النسار ويوم الحفار
وكان عذاباً وكان غراماً
قال: أخبرني عن قوله تعالى [وَالتَّرَائِبِ] ( ) قال: هوموضع القلادة من المرأة، أما سمعت قول الشاعر:
والزعفران على ترائبها
شرقاً بها اللبات والنحر
قال: أخبرني عن قوله تعالى [وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا] ( ) قال: هلكى بلغة عمان وهم من اليمن، أما سمعت قول الشاعر:
فلا تكفروا ما قد صنعنا اليكموا
وكافوا به فالكفر بور لصانعه
قال: أخبرني عن قوله تعالى[نَفَشَتْ] ( ) قال: النفش: الرعي بالليل، أما سمعت قول لبيد:
بدلن بعد النفش الوجـيفـا
وبعد طول الجرة الصريفا
قال: أخبرني عن قوله تعالى [أَلَدُّ الْخِصَامِ] ( ) قال: الجدل المخاصم في الباطل، أما سمعت قول مهلهل:
إن تحت الأشجار حزماً وجوداً
وخصيماً ألـد ذا مـغـلاق
قال: أخبرني عن قوله تعالى [بِعِجْلٍ حَنِيذٍ] ( ) قال: النضيج مما يشوى بالحجارة، أما سمعت قول الشاعر:
لهم راح ونار المسك فيهم
وشاويهم إذا شاءوا حنيذا
قال: أخبرني عن قوله تعالى – من الأجداث ( ) – قال: القبور، أما سمعت قول ابن رواحة:
حينا يقولون إذا مروا على جدثي
أرشده يا رب من عان وقد رشدا
قال: أخبرني عن قوله تعالى – هلوعاً ( ) – قال: ضجراً جزوعاً، أما سمعت قول بشر بن أبي حازم:
لا مانعاً لليتيم نحلتـه
ولا مكباً لخلقه هلعاً
قال: أخبرني عن قوله تعالى – ولات حين مناص ( ) – قال: ليس بحين فرار، أما سمعت قول الأعشى:
تذكرت ليلى حين لات تذكر
وقد بنت منها والمناص بعيد
قال: اخبرني عن قوله تعالى – ودسر ( ) – قال: الدسر: الذي تخرز به السفينة، أما سمعت قول الشاعر:
سفينة نوتي قد أحكم صنعهـا
منحته الألواح منسوجة الدسر
قال: أخبرني عن قوله تعالى – ركزاً ( ) – قال: حساً، أما سمعت قول الشاعر:
وقد ترجس ركزاً مفقـر نـدس
بنبأة الصوت ما في سمعه كذب
قال: أخبرني عن قوله تعالى – باسرة ( ) – قال: كالحة، أما سمعت قول عبيد بن الأبرص:
صبحنا تميماً غداة النسا
ر شهباء ملمومة باسرة
قال: أخبرني عن قوله تعالى – ضيزي( ) – قال: جائرة، أما سمعت قول امرئ القيس:
ضازت بنوأسد بحكمهـم
إذ يعدلون الرأس بالذنب
قال: أخبرني عن قوله تعالى – لم يتسنه ( ) – قال: لم تغيره السنون، أما سمعت قول الشاعر:
طاب منه الطعم والريح معاً
لن أتراه متغيراً من سـن
قال: أخبرني عن قوله تعالى – ختار ( ) – قال: الغدار الظلوم الغشوم، أما سمعت قول الشاعر:
لقد علمت واستيقنت ذات نـفـسـهـا
بأن لا تخاف الدهر صرمى ولا خترى
قال: أخبرني عن قوله تعالى – عين القطر ( ) – قال: الصفر، أما سمعت قول الشاعر:
فألقى في مراجل من حديد
قدور القطر ليس من البراة
قال: أخبرني عن قوله تعالى – أكل خمط( ) – قال: الأراك، أما سمعت قول الشاعر:
ما مغزل فرد تـراعـي بـعـينـهـا
أغن غضيض الطرف من خلل الخمط
قال: أخبرني عن قوله تعالى – اشمأزت ( ) – قال: نفرت، أما سمعت عمرو بن كلثوم:
إذا عض الثقات بها اشمأزت
وولته عشـوزنة زبـونـاً
قال: أخبرني عن قوله تعالى – جدد ( ) – قال: طرائق، أما سمعت قول الشاعر:
قد غادر النسع في صفحاتها جدداً
كأنها طرق لاحت علـى أكـم
قال: أخبرني عن قوله تعالى – أغنى وأقنى( ) – قال: أغنى من الفقر، وأقنى من الغنى، أما سمعت قول عنترة العبسي:
فأقنى حياءك لا أبا لك واعلمي
أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
قال: أخبرني عن قوله تعالى – لا يلتكم ( ) – قال: لا ينقصكم بلغة بني عبس، أما سمعت قول الحطيئة العبسي:
أبلغ سراة بني سعد مغلغلة
جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا
قال: أخبرني عن قوله تعالى (وأباً) ( ) قال: الأب: ما يعتلف منه الدواب، أما سمعت قول الشاعر:
ترى به الأب واليقطين مختلـطـاً
على الشريعة يجري تحتها الغرب
قال: أخبرني عن قوله تعالى (لا تواعدوهن سراً) ( ) قال: السر: الجماع، أما سمعت قول امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنـنـي
كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي
قال: أخبرني عن قوله (فيه تسيمون) ( ) قال: تزرعون، أما سمعت قول الأعشى:
ومشى القوم بالعماد إلى الدرحاء أعيي المسيم أين المساق
قال: أخبرني عن قوله تعالى (لا ترجون لله وقاراً) ( ) قال: لا تخشون لله عظمة، أما سمعت قول أبي ذؤيب:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
وحالفها في بيت نوب عوامل
قال: أخبرني عن قوله تعالى (ذا متربة) ( ) قال: ذا حاجة وجهد، أما سمعت قول الشاعر:
تربت يد لك ثم قل نوالـهـا
وترفعت عنك السماء سجالها
قال: أخبرني عن قوله تعالى (مهطعين) ( ) قال: مذعنين خاضعين، أما سمعت قول تبع:
تعبدني نمر بن سعد وقد درى
ونمر بن سعد مدين ومهطع
قال: أخبرني عن قوله تعالى – هل تعلم له سمياً ( )- قال: ولداً، أما سمعت قول الشاعر:
أما السمي فأنت منه مكثر
والمال فيه تغتذي وتروح
قال: أخبرني عن قوله تعالى – يصهر ( )- قال: يذاب، أما سمعت قول الشاعر:
سخنت صهارته فظل عثاله
في سيطل كفيت به يتردد
قال: أخبرني عن قوله تعالى – لتنوء بالعصبة( ) – قال: لتثقل، أما سمعت قول امرئ القيس:
تمشى فتثقلها عجـيزتـهـا
مشي الضعيف ينوء بالوسق
قال: أخبرني عن قوله تعالى – كل بنان ( )- قال: أطراف الأصابع، أما سمعت قول عنترة:
فنعم فوارس الهيجاء قومي
إذا علق الأعنة بالبـنـان
قال: أخبرني عن قوله تعالى – إعصار ( )- قال: الريح الشديدة، أما سمعت قول الشاعر:
فله في آثارهن خوان
وحفيف كأنه إعصار
قال: أخبرني عن قوله تعالى – مراغماً( ) – قال: منفسحاً بلغة هذيل، أما سمعت قول الشاعر:
واترك أرض جهرة إن عندي
رجاء في المراغم والتعادي
قال: أخبرني عن قوله تعالى – صلداً( ) قال: أملس، أما سمعت قول أبي طالب
وإني لقرم وابن قرم لهـاشـم
لآباء صدق مجدهم معقل صلد
قال: أخبرني عن قوله (لأجراً غير ممنون ( )- قال: غير منقوص، أما سمعت قول زهير:
فضل الجواد على الخيل البطاء فلا
يعطي بذلك ممنونـاً ولا تـرقـا
قال: أخبرني عن قوله تعالى – جابوا الصخر( ) – قال: نقبوا الحجارة في الجبال فاتخذوها بيوتاً، أما سمعت قول أمية:
وشق أبصارنا كيما نعيش بها
وجاب للسمع أصماخاً وآذانا
قال: أخبرني عن قوله تعالى – حباً جماً ( )- قال: كثيراً، أما سمعت قول أمية:
إن تغفر اللهم تغفر جماً
وأي عبد لك لا ألمـا
قال: أخبرني عن قوله تعالى – غاسق ( )- قال: الظلمة، أما سمعت قول زهير:
ظلت تجوب يداها وهي لاهية
حتى إذا جنح إلا ظلام والغسق
قال: أخبرني عن قوله تعالى – في قلوبهم مرض( ) – قال: النفاق، أما سمعت قول الشاعر:
أجامل أقواماً حياء وقـد أرى
صدورهم تغلي على مراضها
قال: أخبرني عن قوله تعالى – يعمهون ( )- قال: يلعبون ويترددون، أما سمعت قول الأعشى:
أراني قد عمهت وشاب رأسي
وهذا اللعب شين بالكـبـير
قال: أخبرني عن قوله تعالى – إلى بارئكم ( )- قال: خالقكم، أما سمعت قول تبع:
شهدت على أحـمـد أنـه
رسول من الله بارىء النسم
قال: أخبرني عن قوله تعالى – لا ريب فيه ( )- قال: لا شك فيه، أما سمعت قول ابن الزبعري:
ليس في الحق يا أمامة ريب
إنما الريب ما يقول الكذوب
قال: أخبرني عن قوله تعالى – ختم الله على قلوبهم ( )- قال: طبع عليها، أما سمعت قول الأعشى:
وصهباء طاف يهود بها
فأبرزها وعليها ختـم
قال: أخبرني عن قوله تعالى – صفوان( ) – قال: الحجر الأملس، أما سمعت قول أوس بن حجر:
على ظهر صفوان كأن متونه
عللن بدهن يزلق المتنـزلا
قال: أخبرني عن قوله تعالى – فيها صر ( ) قال: برد، أما سمعت قول نابغة:
لا يبرمون إذا ما الأرض جللها
صر الشتاء من الإمحال كالأدم
قال: أخبرني عن قوله تعالى – تبوئ المؤمنين ( )- قال: توطن المؤمنين، أما سمعت قول الأعشى:
وما بوأ الرحمن بيتك منزلاً
بأجياد غزي الغنى والمحرم
قال: أخبرني عن قوله تعالى – ربيون ( )- قال: جموع كثيرة، أما سمعت قول حسان:
وإذا معشر تجافوا عن ال
قصد حملنا عليهم ربينـا
قال: أخبرني عن قوله تعالى – مخمصة ( )- قال: مجاعة، أما سمعت قول الأعشى:
تبيتون في المشتا ملأى بطونكم
وجاراتكم سغب يبيتن خمائصا
قال: أخبرني عن قوله تعالى: (وليقترفوا ما هم مقترفون) ( )، قال: ليكتسبوا ما هم مكتسبون، أما سمعت قول لبيد:
وإني لآت ما أتـيت وإنـنـي
لما اقترفت نفسي على لراهب.