معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 154

المقدمــــة
الحمد لله الذي يبعث الحمد له السكينة في نفس الناطق بالحمد , والسامع له طوعاً وقهراً، ليكون الحمد مفتاحاً للألفة ونشر شآبيب المودة والرأفة بين الناس، وصراطاً مستقيماً إلى السراء، وواقية من الضراء.
الحمد لله الذي جعل الحمد أول ما نطق به آدم عليه السلام حينما خلقه الله ونفخ فيه من روحه , ثم جعله الآية الأولى بعد البسملة في نظم القرآن، فيتلو كل مسلم ومسلمة وعلى نحو الوجوب العيني اليومي المتكرر قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) وصلى الله على رسوله محمد وآله الطيبين الطاهرين.
ومن أولويات الشريعة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حفظ النفس الإنسانية مطلقاً، ودعوة الناس للتصديق بالرسالات والتنزيل , وهو من مصاديق قوله تعالى[نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ]( )، و هو شاهد على صدق رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمجيء الشرائع والكتب السماوية السابقة كلها بحفظ النفوس وصيانة الأموال، وحرمة التعدي والظلم، ومنه معركة أحد لأنها دفع لظلم وتعد الذين كفروا.
ولم يقاتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون إلا دفاعاً عن النفس والملة والشريعة السمحاء.
فذكرت آية البحث المنافقين وتضمنت ذمهم لتركهم الدفاع عن أنفسهم وأهليهم , وما في هذا الدفاع من حفظ للنفوس، وهل في دفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر وأحد والخندق حفظ لنفوس أهل الكتاب من اليهود والنصارى .
الجواب نعم، بلحاظ وجود طائفة من أهل الكتاب وعوائلهم وأموالهم في المدينة المنورة، ولأن الكفار الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريدون نشر مفاهيم الفساد والضلالة في الأرض والتي يمتنع المنافقون عن التصدي لها أو محاربة أهلها.
لقد أراد الله عز وجل بشرائع الأنبياء حفظ النفوس وذات الحفظ هو موضوع إحتجاج الملائكة على جعل آدم[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، إذ[قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) فكانت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إستدامة للحياة الدنيا، وسبيلا لعمارة الإنسان الأرض بسنن التقوى , وهي وسيلة مباركة دائمة لجلب المنافع ودفع المضار سواء في الأبدان أو الأرزاق، أو الآيات الكونية.
ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، بلحاظ مضامين آية البحث وقاية الناس من شرور وكيد المنافقين، ومن الإعجاز في المقام ذكر المنافقات إلى جانب المنافقين مع أن اسم المنافقين إذا ورد على نحو الإطلاق فإنه يشمل المنافقات لتغليب المذكر كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )، فإنه شامل للرجال والنساء جميعاً .
وقال المتنبي :
فما التأنيثُ لاسم الشمس عَيباً … ولا التذكيرُ فخراً للهلالِ( )
وهل في ذم وتوبيخ وذكر المنافقات ملائمة لهذا الزمان والأزمنة اللاحقة التي صار فيها للمرأة شأن وتولت المناصب الحكومية والتشريعية، مما إستلزم تحذير النساء من المنافقين وما يأتون به من الكدورات , الجواب نعم، فقد إنتشر بسرعة بين الدول تشريع قوانين لصالحها ومنفعتها.
فجاءت آية البحث لتنزيه المجتمعات من النفاق والرياء والخيانة , وتحذر من الميل إلى الكفر، والتجاهر بمفاهيمه ليكون من إعجاز القرآن ذكر حادثة وواقعة مخصوصة وتوثيقها من السماء لتكون مدرسة للأجيال المتعاقبة تقتبس منها الدروس والمواعظ والعبر , وهو من الشواهد على موافقة القرآن لكل زمان، وحاجة الأجيال المتعاقبة لإقتباس الدروس والمواعظ منه، وهو من مصاديق إتصاف القرآن بالبيان العام والكفاية، وفي التنزيل[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
ومن الأخلاق المذمومة التي تبعث آية البحث النفرة في النفوس منها التضاد والتباين عند الفرد والجماعة بين القول والفعل، فإذا كان الإنسان يدرك أن قوله بخصوص موضوع أو حكم حسن فلابد أن يكون ما في قلبه ونفسه موافقاً لما يقول .
ومن الإعجاز في المقام مجيء الآية بصيغة الجمع بقوله تعالى[يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ]( )، وفيه وجوه:
الأول : صعوبة إخفاء الجماعة والطائفة للتباين بين ما يعلنون من الإيمان وما يجمعون على إبطانه من الكفر.
الثاني : توجه الدعوة القرآنية لكل فرد من المنافقين للتوبة والإنابة، لما فيها من الكشف عن قبح التضاد بين ظاهر المنافقين وما يخفون .
ولا تتزاحم أو تتعارض هذه الدعوة الشخصية مع الزجر العام للمنافقين وتوبيخهم في آية البحث، والذي يفيد بالدلالة التضمنية الدعوة للتوبة والهدى.
الثالث : بعث الحيطة والحذر في نفوس المسلمين من المنافقين ، قال تعالى في ذم المنافقين[وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ]( ).
الرابع : حث المسلمين على الأمر بصيرورة الباطن والسريرة موافقة للإيمان الظاهري الذي يتجلى باللسان والنهي عن النفاق والأخلاق المذمومة وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الخامس : إرادة التنبيه على حال المنافقين ، وهو أنهم يدّعون الإيمان بالسنتهم دون الفعل ، فلا يختص النفاق باخفاء الكفر ، ولكنه يظهر على عالم الأفعال , فترى المنافقين يتخلفون عند الشدائد عن وظائف النصر والدفاع ، وهو الذي تدل عليه آية البحث إذ أنها تبين التضاد بين قول وفعل المنافقين ، فقد خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة أحد ، وساروا مع الجيش حتى إذا صاروا وسط الطريق تناجوا بمفاهيم الكفر والجحود ليرجع ثلث جيش المسلمين دفعة واحدة في وقت يحتاج المسلمون إلى الفرد الواحد، ففيه تكثير للسواد، وبعث للخوف في قلوب الذين كفروا.
فنزلت آية البحث لتوثق قبح أفعال المنافقين وإصرارهم على عدم نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وخذلانهم له وللمؤمنين , مع وبيانها لقانون وهو مع هذا الخذلان فان المسلمين لم يخسروا معركة أحد ، إنما نزلت بهم مصيبة فيها ، لتكون هذه المصيبة وبالاً على المنافقين ، ويتوجه لهم اللوم والذم من قبل الناس لغدرهم وسوء صنيعهم , أما يوم القيامة فان عذاب المنافقين شديد .
لقد أخبرت آيات القرآن عن نزول العذاب بالمنافقين في الدنيا وفي عالم البرزخ ويوم القيامة بدليل قوله تعالى [وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] ( ).
إذ تدل الآية أعلاه على نزول العذاب بالمنافقين في الدنيا، ومعه تهيئة النار لتكون بإنتظارهم، وهذه الآية من الدلائل على أن الجنة والنار مخلوقتان، وإن لم يستدل بها القائلون بخلقهما, وهو المختار .
وقد ذكرت الآية أعلاه غضب وسخط الله على المنافقين والمشركين بصيغة الماضي مما يدل على أنه أعم من أن يختص بعالم الآخرة ، وقيدت الآية أعلاه نزول العذاب بالمنافقين بسوء الظن بالله ، فهل كان إنسحاب المنافقين بتحريض عبد الله بن أبي بن أبي سلول من الطريق إلى معركة أحد من سوء الظن هذا.
الجواب نعم ، وفيه حجة عليهم لسبق نصر المسلمين في معركة بدر قبل وقوع معركة أحد .
لقد جاءت آية البحث ببيان خصال مذمومة للمنافقين إتضحت معانيها عند وقوع معركة أحد ومصيبة المسلمين فيها ، لتدل بالدلالة الإلتزامية على ظهور دولة الإسلام وذهاب سلطان الذين كفروا وصيرورتهم عاجزين عن صدّ الناس عن مسالك الهدى والإيمان.
وقيل أن المنافق أسوء من الكافر لأنه ساواه في الكفر وزاد عليه في الخداع.
والمختار أن الكافر هو الأسوء إذ لزم الأمر الحيطة والحذر من المنافق لأنه يعيش بين ظهراني المسلمين ، ويحتسب منهم ولكن الكافر يعلن ويبطن الكفر ، وجاءت آية البحث لدعوة المنافقين للتوبة والإنابة ، ومن مصاديق هذه الدعوة تلاوة المنافق لآية البحث وإنصاته واستماعه لها .
وهل يشمل المنافقين عمومُ الخطاب في قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) أم لابد من قيد وشرط الإيمان في الإستماع للقرآن ، الجواب هو الأول ، ومن الإعجاز أن الإستماع يحتاج إلى مؤونة زائدة عن السماع والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، فكل إستماع هو سماع وليس العكس ، فقد نزلت آية البحث في ذم المنافقين لتدعوهم إلى التفكر في أنفسهم وسوء إختيارهم وضررهم للملة والدين والمجتمع ، ليكون الإنصات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتلو القرآن في الصلاة وخارجها والإستماع لآيات القرآن ممن يتلوها باباً للتوبة والإنابة .
ثم أن الإنسان يستمع لما يذكره ويبين له حاله , ومن الآيات تكرار تلاوة آيات القرآن فيسمعها المنافق خمس مرات في الصلاة اليومية عدا القراءة خارج الصلاة , وفيه طرد للغفلة , ومنع من الإقامة على العناد ومفاهيم النفاق .
ومن الآيات في المقام أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتل منافقاً، ولم يجهز على أحد منهم نعم , أمر مرة أن يخرجوا من المسجد النبوي .
وقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهدم المسجد الذي بناه المنافقون ليجتمعوا فيه ، فيعيبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويظهرون الإستهزاء ويتخذون هذا المسجد محلاً للتفريق بين المؤمنين ، قال تعالى [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا] ( ) .
والمراد من الضرار محاولة إضرار الغير والسعي فيه ، وقيل أنهم ضاروا المؤمنين من أهل قباء لأن أهل قباء كانوا جميعاً يصلون في مسجد قباء ، فلما بُني مسجد ضرار قريباً منه صارت طائفة منهم تحضر فيه ، ولكن معنى الضرار في المقام أعم من أن يختص بأهل قباء , وسيأتي مزيد كلام في الجزء التالي( ).
(كان الذين بنوا مسجد الضرار اثني عشر رجلاً .
1- خِذَامُ بْنُ خَالِدٍ مِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ زَيْدٍ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَمِنْ دَارِهِ أَخْرَجَ مَسْجِدَ الشِّقَاقِ.
2- َثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ.
3- َهَزَّالُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ.
4- َمُعْتَبُ بْنُ عُشَيْرَ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدٍ.
5- َأَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الأَزْعَرِ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدٍ.
6- َعَبَّادُ بْنُ حُنَيْفٍ أَخُو سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ.
7- َجَارِيَةُ بْنُ عَامِرٍ.
8- مُجَمِّعُ بْنُ جَارِيَةَ وهو وأخوه أدناه ابنا جارية أعلاه .
9- َ زَيْدُ بْنُ جَارِيَةَ.
10- َنَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ وَهُوَ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ.
11- َبحرَجُ.
12- وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ وَهُوَ إِلَى بَنِي أُمَيَّةَ رَهْطُ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ.
وأخرج هذا المسجد من دار خذام بن خالد، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبحرج وهو جد عبد الله بن حنيف:
(وَيْلَكَ يَا بَحْرَج مَاذَا أَرَدْتَ بِمَا أَرَى؟ فقال يا رسول الله ما أردت إلا الحسنى ، وهو كاذب)( ).
وكما نسب قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ] ( ) نصر المسلمين في معركة بدر إلى الله عز وجل مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه قاتلوا يومئذ ، فكذا فان آية البحث تدل على إعانة الله عز وجل للمسلمين , وأنه هو الذي يكشف المنافقين , ويجعلهم عاجزين عن إخفاء الضغائن والغل الذي في صدورهم عند طرو حال الشدة والمصيبة ، وهو من مصاديق العلم في قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] ومن معاني العلم في المقام الكشف والوضوح , وتدل عليه ذات آية البحث من جهات متعددة :
الأولى : ذم المنافقين بنعتهم بذات الصفة ، فقوله تعالى [الَّذِينَ نَافَقُوا]بذاته تبكيت وتوبيخ للذين يبطنون الكفر والشك والريب بالنبوة والتنزيل مع إعلانهم الإنتساب للإسلام .
الثانية : ذكر آية البحث للذين نافقوا بعد إختتام الآية السابقة بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) وفيه دعوة للمقارنة والإستقراء وإستنتاج المسائل والفصل بين المؤمنين وتفانيهم في مرضاة الله وما يستحقون من الثناء , وبين المنافقين وقبح سرائرهم وسوء قولهم.
ليكون من إعجاز القرآن أن خاتمة الآية السابقة كاشف وبيان لأول الآية التي تأتي بعدها ، وهو من الشواهد والبراهين التي تدل على أن نظم آيات القرآن توقيفي من عند الله , وعلى خلو القرآن من الزيادة أو النقيصة ، ويدل قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] على وجود طائفة أخرى غيرهم لا تتصف بالإيمان ، ويخرج الذين كفروا بالتخصيص لأنهم زحفوا لمحاربة الإيمان وأهله ، فأبتدأت آية البحث بذكر المنافقين وكشف الله عز وجل لهم بواقعة أحد .
فاظهر المنافقون الشماتة يوم أحد بالشهداء ، وقالوا كما في الآية التالية [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ) ووردت آيات عديدة في ذكر خصال المنافقين يوم الخندق وكيف أنهم كانوا يتسللون عند حفر الخندق ومن غير إذن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) .
وقال أوس بن قيظي ، أحد بني حارثة بن الحارث يا رسول الله أن بيوتنا عورة من العدو ، فاذن لنا أن نرجع إلى دورنا لأنها خارج المدينة .
وفي معركة تبوك قام المنافقون بتخذيل المؤمنين وإرهابهم وقال أحدهم : أتحسبون أن جلاد بني الأصفر كجلاد العرب بعضهم بعضاً , لكأني بكم غداً مقرنين في الحبال .
ولا يختص الأمر بحال المعركة ، إنما تكون المصيبة في واقعة أحد مناسبة ووسيلة لمعرفة وتعيين المنافقين وكذا الوقائع الأخرى التي حدثت في بداية الإسلام.
ولا يصح أن يرمي المسلمون بعضهم بعضاً في هذه الأزمنة بالنفاق لعدم الموافقة في الرأي أو المذهب الفقهي أو الكلامي إذ بينت آية البحث حال المنافقين باصرارهم على عدم الدفاع عن بيضة الإسلام ، وإمتناعهم عن الذب عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل والمدينة وأهلها.
فان قلت قد علمنا أن الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ضرورة يوم معركة أحد لصيرورة بعض المشركين قريبين منه ، وهم يرومون قتله ، فوصلت حجارتهم إليه فسالت الدماء من رأسه ووجهه الشريف .
(ورمى عتبة بن أبي وقاص النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فكسر رباعيته اليمنى السفلى , وجرح شفته السفلى) ( ).
وعتبة هذا أخو سعد بن أبي وقاص ، وقام عبد الله بن شهاب الزهري بشجه في وجهه ، وجرح ابن قمئة وجنته , فدخلت حلقتان من المغفر الذي يغطى شطراً من وجهه في وجنته ، ووقع في حفرة من الحفر التي عملها أبو عامر الفاسق ليقع فيها المسلمون فأخذ الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بيده .
ترى وكان أشدهم عليه يومئذ ابن قمئة ولما قام برمي النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: خذها وأنا ابن قمئة .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أقماك( ) الله عز وجل .
ونادى ابن قمئة أنه قتل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وحان وقت صلاة الظهر فأم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين قاعداً لشدة جراحاته وصلوا قعوداً خلفه .
وحالما انقضت معركة أحد رجع ابن قمئة إلى أهله فخرج إلى غنم له وكانت على ذروة جبل فصار يعترض عليها فشد عليه تيسها فنطحه فارداه من فوق الجبل فمات في الحال .
لقد كان الدفاع عن النبي يوم معركة أحد حاجة , ترى كيف يكون الدفاع عن التنزيل يومئذ .
الجواب من وجوه :
الأول : لم يكتمل نزول القرآن أوان وقوع معركة أحد إذ أنها جرت في السنة الثالثة للهجرة وأستمر نزول القرآن إلى السنة العاشرة من الهجرة النبوية الشريفة ، حيث نزلت آيات الأحكام ، ومنها آيات سورة المائدة التي هي آخر سور القرآن نزولاً .
الثاني : لا ينزل جبرئيل بالقرآن إلا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من الأدلة على عظيم شأنه بين أهل السماء والأرض ، إذ استبشرت الملائكة حين علمت ببعثته كما في حديث الإسراء الطويل ، إذ كان جبرئيل يستفتح كل سماء ، فيسأله خزنتها من أنت ؟ يقول جبرئيل ، قيل ومن معك ؟ يقول : محمد قيل على نحو التسائل : بعث إليه ؟ يجيب جبرئيل قد بعث إليه ، فيفتح لهما( ).
ليكون علم الملائكة يبعثه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الأسراء من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) في إحتجاج الله عز وجل على الملائكة عندما تساءلوا عن علة تولي الإنسان الخلافة في الأرض ففي بعثته رحمة للناس ونشر لمبادئ الإسلام وتثبيت لسنن عبادة الناس لله عز وجل.
ومن خصائص بعثته أن هذه العبادة على نحو يومي متكرر إذ يؤدي كل مسلم ومسلمة الصلاة خمس مرات في اليوم، لتدل على الخشوع والخضوع لله عز وجل وبقصد القربة مع تلاوة آيات القرآن .
لتكون الصلاة سبيلاً لمغفرة الذنوب ومحو السيئات وستر الآثام ، وهي مناسبة كريمة للأجر والثواب .
الثالث : لقد أرادت قريش الحرب على القرآن ومنع تلاوة الناس لآياته ، إذ تبعث عناية الناس بآيات القرآن وتلاوتها والتدبر في معانيها الحسد والغيظ في قلوب الذين كفروا ، قال تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ) ليكون من معاني الآية أعلاه توالي نزول آيات القرآن بما يفضح المنافقين ، ويجعل الناس تحترز منهم .
الرابع : من منافع تقادم الأيام حفظ المسلمين لآيات القرآن وإمتثالهم لأوامره ، وإجتنابهم لما نهى عنه ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
الخامس : إنتفاع أجيال المسلمين من بيان وتفسير النبي لآيات القرآن سواء البيان بالسنة القولية أو الفعلية .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمور :
الأول :سبق فريضة الحج لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقوم بتثبيتها والدعوة إليها ، ولبيان قانون وهو لو لا بعثته لما أدى الناس فريضة الحج ، وليبقى المشركون ينصبون الأصنام فوق البيت ويحضرون عدداً منها معهم ولتمادوا في كفرهم .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه دعا المسلمين للتقيد بالمناسك وفق الكيفية التي أداها وفيه تعاهد لوحدة المسلمين ونبذ الفرقة بينهم (عن جابر قال رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر ويقول ( لتأخذوا عني مناسككم فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه ) ( ).
الثاني : إقتران أداء الصلاة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحرصه على أدائها وأداء المسلمين والمسلمات لها .
وكانت هي وصيته ساعة دنو الوفاة والإنتقال إلى الرفيق الأعلى إذ قال (الصلاة وما ملكت أيمانكم) وفي لفظ الصلاة وأتقوا الله فيما ملكت أيمانكم).
الثالث : تشريع الصيام والزكاة في السنة الثانية للهجرة ، وعن (أبو العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير ، قال : كنا بالمربد ، فإذا أنا برجل أشعث( ) الرأس بيده قطعة أديم ، فقلنا له : كأنك رجل من أهل البادية ؟ قال : أجل . فقلنا له : ناولنا هذه القطعة الأديم التي في يدك ، فأخذناها ، فقرأنا ما فيها ، فإذا فيها : من محمد رسول الله إلى بني زهير ، أعطوا الخمس من الغنيمة ، وسهم النبي والصفي وأنتم آمنون بأمان الله وأمان رسوله . قال : فقلنا : من كتب لك هذا) ( ).
ليجتمع في ذات السنة فرض الزكاة والصيام وتقع معركة بدر وينزل حكم الخمس ، مما يدل على سرعة إرتقاء المسلمين في سلّم المعارف وتلقيهم الأحكام والتكاليف الشرعية بالقبول والرضا والغبطة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ) وفي ذات الوقت ظهرت أخلاق النفاق والمغالطة ومراءاة الذين كفروا عند طائفة قليلة من الناس سمّاهم الله عز وجل في آية البحث الذين نافقوا ، فان قلت إذا كانوا قليلي العدد فلماذا هذه الكثرة من الآيات التي جاءت ببيان قبيح فعلهم وتضمنت ذمهم وأخبرت عن سوء عاقبتهم ، والجواب من وجوه :
الأول : إرادة بيان الضرر الذي يأتي من المنافقين .
الثاني : تنزيه المسلمين من أخلاق النفاق المذمومة .
الرابع : تفقه المسلمين في الدين .
الخامس : صحيح أن عدد المنافقين قليل إلا أن أثرهم كبير بلحاظ الشأن والمنزلة التي يحتلونها بين قبائلهم ومجتمعاتهم .
وتتجلى هذه الحقيقة بقيام عبد الله بن أبي بن أبي سلول بتحريض نحو ثلاثمائة من جيش المسلمين على الرجوع والإنخزال في الطريق إلى معركة احد .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها مدد للمسلمين والمسلمات وتحذير لهم، وفيها بيان لجهاد وصبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه في تلقي الأذى من الذين كفروا ومن المنافقين ، وكيف أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يكظم غيظه فلا يبطش بالمنافقين ، وقد جاءت آيات القرآن بالبشارة على تحمل الأذى وعدم إظهار الغيظ .
قال تعالى في وصف المتقين الذين أعدّ وأصلح لهم الله الجنة [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
وهذا هو الجزء الرابع والخمسون بعد المائة من تفسيري للقرآن , وفيه بيان لشذرات من ذخائر الآية السابعة والستين بعد المائة من سورة آل عمران في ثورة علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً بفضل وفيض ولطف من عند الله الذي نسعى لطلب رضوانه مع إرادة قصد القربة ، وسيأتي في البحث الأصولي بيان وجوه قصد القربة والمراد منه .
ويتعلق موضوع آية البحث بخصوص لوازم واقعة أحد وكيف أنها والخسارة التي لحقت المسلمين فيها مناسبة كريمة للكشف عن المنافقين ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] والذي تبدأ به آية البحث الإنذار والوعيد للمنافقين وتحذيرهم من الإقامة على النفاق في أيام الإسلام ومعاركهم الأخرى بعد واقعة أحد .
لقد نزل الملائكة يوم معركة أحد لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وقاتلوا معهم ، ودفعوا المشركين عن مواضعهم ، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
لتكون آية البحث مدداً للمسلمين إلى يوم القيامة تتجدد منافعها ودلالتها وغاياتها كل يوم ، ويسيح المسلم في رياضها , وما تبعقه من معاني العز والصبر , وهو من الإعجاز في فلسفة تلاوة القرآن على نحو الوجوب العيني على كل مسلم ومسلمة خمس مرات في اليوم، فذات التلاوة مدد وعون لهم ، ومضامين الآيات التي يتلوها مدد وسلاح وتعضيد ، قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
حرر في 20/4/2017
22 رجب 1438

قوله تعالى[وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ]الآية 167
الإعراب واللغة
الواو: حرف عطف .
ليعلم : اللام للتعليل .
يعلم : فعل مضارع منصوب بـ(أن) مضمرة بعد اللام ، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو ويعود لله عز وجل والمصدر المؤول (أن يعلم) مجرور باللام يتعلق باذن الله الوارد في الآية السابقة لأنه معطوف عليه .
الذين : اسم موصول مبني في محل نصب مفعول به .
نافقوا : فعل ماض مبني على الضم ، والواو فاعل .
وقيل : الواو حرف عطف ، وقيل للإستئناف .
قيل : فعل ماض مبني على المجهول .
لهم : اللام : حرف جر ، هم ضمير في محل جر متعلق بـ (قيل) .
تعالوا : فعل أمر جامد مبني على حذف حرف العلة والفعل الجامد هو الذي يلازم صيغة واحدة ، ولا يدل على الزمن الماضي أو المضارع ، ومنه ما يلازم صيغة الماضي مثل : ليس ، بئس .
و(تعال ) بمعنى أقدم ، ولا يأتي منه إلا فعل الأمر ، وفي التنزيل [فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ] ( ).
(قال الأَزهري تقول العرب في النداء للرجل تَعالَ بفتح اللام وللاثنين تَعالَيا وللرجال تَعالَوْا وللمرأَة تَعالَي وللنساء تَعالَيْنَ ولا يُبالُون أَين يكون المدعوّ في مكان أَعْلى من مكان الداعي أَو مكان دونه ولا يجوز أَن يقال منه تعالَيْت ولا يُنْهى عنه.
وتقول تَعالَيْت وإِلى أَي شيء أَتَعالَى وعَلا بالأَمْرِ اضْطَلَع به واسْتَقَلَّ.
قال كعب بن سعد الغَنَوي يُخاطِبُ ابنَه عليّ بن كعب وقيل هو لعليّ بن عديٍّ الغَنَوي المعروف بابن العرير
اعْمِدْ لِما تَعْلُو فما لكَ
بالذِي لا تَسْتَطِيع مِنَ الأُمورِ يَدانِ) ( ).
فيصدر (تعالوا قاتلوا) من الأعلى ومن الأدنى لبيان كثرة النداء الموجه إلى المنافقين بالدفاع عن الإسلام وأهل المدينة .
ويقابل الفعل الجامد الفعل المتصرف أي الذي له ثلاث صيغ :
الأولى : الماضي .
الثانية : المضارع .
الثالثة : الأمر .
وعليه أغلب الأفعال كما تقول : قرأ، يقرأ، اقرأ.
وكما في الفعل ذهب إذ ورد في القرآن بصيغة الماضي [مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ] ( ) وبصيغة المضارع [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] ( ) وبصيغة الأمر [اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ]( ).
قاتلوا : فعل أمر مبني على حذف النون لأنه من الأفعال الخمسة ، الواو : فاعل .
في سبيل الله : في سبيل : جار ومجرور متعلق بقاتلوا وسبيل مضاف ، واسم الجلالة : مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة تحت آخره .
أو ادفعوا ، أو : حرف عطف .
أدفعوا مثل قاتلوا .
قالوا : فعل ماض مبني على الضم .
الواو : فاعل .
لو نعلم : حرف شرط غير جازم ، وهو حرف امتناع لإمتناع ، أي يمتنع السبب فيتعذر حصول المسبَب نتيجة له ، وفي التنزيل [وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ] ( ).
نعلمُ : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعة الضمة الظاهرة على آخره ، والفاعل ضمير مستتر تقديره (نحن) .
قتالاً : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة .
لأتبعناكم : اللام واقعة في جواب لو .
أتبعنا : فعل ماض مبني على السكون .
والضمير (نا) فاعل و(كم) مفعول به .
هم للكفر : هم ضمير منفصل مبتدأ في محل رفع .
للكفر : جار ومجرور متعلق بـ (أقرب ).
يومئذ : يوم ظرف زمان منصوب وعلامة نصبه الفتحة .
إذ : اسم ظرفي في محل جر مضاف إليه ، والتنوين في (يومئذ ) للعوض عن جملة محذوفة .
أقرب : خبر مرفوع وعلامة رفعة الضمة الظاهرة على آخره .
منهم : من : حرف جر , هم : ضمير في محل جر يتعلق بـ (أقرب ) .
للإيمان : جار ومجرور .
يقولون : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة .
الواو : فاعل .
بأفواههم : الباء : حرف جر.
أفواه : جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل يقولون، وأفواه مضاف ، والضمير (هم) مضاف إليه .
ما : اسم موصول في محل نصب مفعول به .
ليس : فعل ماض جامد ناقص .
واسم ليس ضمير مستتر تقديره (هو) .
في قلوبهم : في : جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر (ليس).
وقلوب مضاف ، والضمير (هم) مضاف إليه .
والله أعلم : الواو حرف استئناف .
لفظ الجلالة مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
بما : الباء، حرف جر .
ما : اسم موصول مبني في محل جر متعلق بـ (اعلم) .
يكتمون : فعل مضارع مرفوع بثبوت النون ، والواو فاعل ويعود للذين نافقوا .
وجملة (نافقوا) لا محل لها لأنها صلة الاسم الموصول (الذين) .
وجملة (تعالوا) في محل رفع نائب فاعل .
وجملة (قالوا) لا محل لها استئناف بياني , وجملة [لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً] في محل نصب مقول القول .
والنفاق اسم ومصطلح ظهر في بدايات الإسلام من جهات :
الأولى : تضمنت الآيات القرآنية التي نزلت بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة هذا الاسم فلم يكن النفاق معروفاً في مكة وقبل الهجرة النبوية لأن المسلمين كانوا هناك مستضعفين ، ليكون ظهور النفاق شاهداً على قوة ومنعة الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
الثانية : عند ظهور ونصر المسلمين على جيش الذين كفروا في معركة بدر ، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) , إدعى بعض الناس الإسلام , مع الشك والحسد للمسلمين .
الثالثة : إصرار الذين كفروا من قريش وحلفائهم على قتال المسلمين وتسيير الجيوش لقتالهم والإجهار بارادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وخوف بعض الناس منهم .
الرابعة : إتساع الإسلام وإنتشار الدعوة إلى الإيمان والنطق بالشهادتين .
الخامسة : إقامة بعضهم على الكفر والعناد وعدم إنتقالهم إلى منازل الإيمان حتى بعد نطقهم بالشهادتين ، وإدراكهم ورؤيتهم للمعجزات العقلية والحسية .
السادسة : نزول آيات قرآنية تبين خصال المنافقين وتذكرهم بأوصافهم ، إذ تفضل الله عز وجل وسمّاهم المنافقين ، وقد تفضل الله عز وجل بتسمية بعض الأنبياء والوقائع , كما في تسمية معركة بدر وحنين .
ومن الآيات في المقام أن البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وردت على لسان الأنبياء السابقين بالاسم والمعجزة والصفات الكريمة، وفي التنزيل[وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
وقد ورد في الوحي والبشارة لزكريا [يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا] ( ).
وتدل خاتمة الآية أعلاه في مفهومها على تفضل الله عز وجل بتسمية بعض الأنبياء والأولياء باسماء من عنده ومنه قوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( ) الذي يتضمن تسمية الله عز وجل لآدم وأنه هو سبحانه الذي ناداه بهذا الاسم ، وأن أسماء كثيرة هي من عند الله عز وجل ، وهل علّم الله عز وجل آدم عليه السلام اسم المنافق , فيه وجوه :
الأول : علّم الله عز وجل آدم مادة وموضوع النفاق، وأنه يعني إخفاء الشخص كفره مع إظهاره الإيمان.
الثاني : تفضل الله وعلم الله عز وجل آدم أسماء المنافقين .
الثالث : علّم الله عز وجل آدم أسماء وأشخاص المنافقين .
الرابع : النفاق والمنافقون ليسوا من الأسماء التي علّمها الله لآدم لأنه أمر مستحدث مع بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهجرته إلى المدينة المنورة ، وتعدد المشارب والمذاهب فيها ، فقد كانت فيها قبائل من اليهود وهم بنو النضير وبنو قينقاع وبنو قريظة .
وكان يهود الجزيرة من أصول متعددة فمثلاً يرجع بنو قينقاع إلى بني إسرائيل في النسب وهناك من يعود إلى قبائل وذراري إسماعيل مثل يهود غطفان وخيبر ، وهناك يهود ينحدرون من حمير والقبائل السبئية اليمنية .
إذ كانت اليهودية ديانة توحيد في الجزيرة العربية وسيأتي بيانه، وقد ورد ذكر تيماء في مواضع متعددة من العهد القديم منها ما يشير إلى نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في سفر اشعياء :
(وحي من جهة بلاد العرب في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين
هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء وافوا الهارب بخبزه)( ).
(عن أبي البختري قال : صحب سلمان رجل من بني عبس فكان لا يستطيع أن يفضله في عمل إن عجن خبز وإن سقى الركاب هيأ العلف للدواب حتى انتهى إلى دجلة وهي تطفح فقال له سلمان انزل فأشرب قال فشرب قال له ازدد فازداد قال كم تراك نقصت منها فقال ما عسى أن أنقص من هذه .
فقال له سلمان : فكذلك العلم تأخذ منه ولا تنقصه فعليك بما ينفعك قال فعبرنا إلى نهرون فإذا الأكداس عليه من الحنطة) ( ).
قال تعالى[وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ]( ).
وقيل أن العطف في قوله تعالى [فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) هو من عطف العلة على السبب وإستدل بما يكون قياساً مع الفارق بقول لإياس بن قبيصة الطائي .
وقد تولى إياس بن قبيصة أمور الحيرة بأمر من كسرى بعد قتله النعمان بن المنذر وبُعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد مضت سنة وثمانية أشهر على ملك قبيصة للحيرة ، وكان يعاونه في أمورها النخير جان وقيل كان قبلها المنذر أبو النعمان قد عهد إلى إياس بن قبيصة الطائي بالوصية بولده وأنه ملكه على الحيرة وهو بعيد .
وكان لإياس دالة على كسرى ، فعندما هرب كسرى من بهرام مرّ بإياس فأهدى له فرساً وجزوراً ، وقام كسرى بتقريب إياس منه ، واستعان به في حروبه وكان يثني عليه ، وقيل أن إياساً تعقب قيصراً وأدركه في (سانيدما ) وقتل كثيراً من جنوده وأن قيصراً نجا بصعوبة ، وفيه تردد إلا أن يكون أحد قادة قيصر في سرية من جنوده .
وكان إياس يحضر مجلس كسرى ابرويز وأقطعه ثلاثين قرية على نهر الفرات وولاه على عين تمر .
وولاه كسرى العرب الذين كانوا في جيشه في معركة ذي قار إذ كانت معه طوائف من قبائل عربية من تغلب والنمر بين قاسط وفضاعة وإياد , ولكنها لم تقاتل يومئذ .
فعند حدوث المعركة تظاهر إياس وجيشه بالهزيمة أمام جيش بني شيبان وطوائف من قبيلة بكر بن وائل الذين ناصروهم .
وفي أخبار بيعة العقبة في منى قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد عن الإمام علي عليه السلام (ثم التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا علي أية أخلاق للعرب كانت في الجاهلية، ما أشرفها ! بها يتحاجزون في الحياة الدنيا.
قال: ثم دفعنا إلى مجلس الاوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال علي عليه السلام : وكانوا صدقاء صبراء، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم من معرفة أبي بكر بأنسابهم.
قال: فلم يلبث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا يسيرا حتى خرج إلى أصحابه فقال لهم: ” احمدوا الله كثيرا، فقد ظفرت اليوم أبناء ربيعة بأهل فارس، قتلوا ملوكهم واستباحوا عسكرهم وبي نصروا “.
وكانت الوقعة بقراقر إلى جنب ذي قار)( ).
وقام إياس أيام الفتوحات بتسليم الحيرة إلى جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد بعد معارك قليلة متفرقة ، ووصله بالهدايا , ورضي بأن يكون عيناً للمسلمين على ملك فارس .
(وَأقْدَمْتُ وَالْخَطِيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا … لأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ وشجَاعِها) ( ).
وهو بيت من قصيدته عندما هرب من كسرى وخشيته منه ،ومنها
ما ولدتْني حاصِنٌ ربَعيَّة … لئن أنا مالأتُ الهوَى لاتّباعِها
ألم ترَ أنَّ الأرضَ رحبٌ فسيحة … فهل تُعجزنّي بقعة من بقاعِها
ومبثوثةٍ بثَّ الدَّبى مُسيطرَّةٍ … رددْنا على بِطائها من سراعِها
وأقْدَمتُ والخطّيّ يخطُر بيننا … لأعلمَ من جَبانُها من شجاعِها) ( ).
قانون العطف في القرآن موعظة
من خصائص خلافة الإنسان في الأرض أمور :
الأول : الدنيا دار موعظة .
الثاني : كل واقعة هي موعظة .
الثالث : إتعاظ الإنسان من الوقائع والأحداث .
الرابع : الموعظة من الوقائع طريق للأمن والسلامة والوقاية .
الخامس : عدم إختصاص إتعاظ الإنسان بما يجري عليه من الوقائع ، ومن مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )صيرورة الإنسان متعظاً مما يقع له ولغيره من الحوادث وإقتباسه الدروس منها ، وليس من حد للمنافع العظيمة لهذا الإتعاظ ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
وابتدأت آية البحث بحرف العطف الواو ، وهل فيه موعظة أم لابد من لحاظ المعطوف والمعطوف عليه مجتمعين , الجواب هو الأول.
إذ يبعث حرف العطف على إدراك قانون وهو لزوم إستحضار مضامين الآية السابقة للإنتفاع الأمثل وبيان شأبيب ذخائرها ودلالاتها من جهات :
الأولى : تجديد النفع من الإتعاظ من الآية السابقة ، وكأنه من عمومات في الإعادة إفادة .
الثانية : الإعتبار والإتعاظ من الجمع بين مضامين الآية المعطوفة والآية المعطوف عليها.
الثالثة : إتخاذ العطف مدرسة في الموعظة، وفيه شاهد على إرتقاء المسلمين لإنتزاع الموعظة من المسائل الموضوعية والحكمية في الآية القرآنية.
الرابعة : إتصاف العطف في أول أو وسط الآية القرآنية بأنه دعوة إلى الإتعاظ من أسرار العطف.
وتحتمل الموعظة في قوله تعالى[وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ]( ) وبلحاظ الكم والكيف وجوهاً:
الأول : كل آية قرآنية موعظة متحدة.
الثاني : آيات القرآن مجتمعة موعظة.
الثالث : في كل آية من القرآن موعظة متعددة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، لبيان أن علم الموعظة يفتح كنوزاً وخزائن من القرآن لا تنقطع، ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها تبدأ بحرف العطف الواو بقوله تعالى[وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ]( )، وعدد حروف العطف فيها اثنا عشر حرفاً سواء بالواو أو الفاء أو(أو).
الرابع : الثناء على المسلمين بإخبار الآية أعلاه بأن التنزيل عليهم مع أنه القرآن نزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه شاهد قرآني بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام بتبليغ كل ما نزل من آيات القرآن إلى المسلمين .
وهل في الآية دليل على سلامة القرآن من التحريف، الجواب نعم، لتجدد الخطاب القرآني[وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ]، في كل زمان إلى يوم القيامة وتوجهه لكل جيل من المسلمين، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وقد تقدم أن العطف في القرآن أعم من أن يختص بحروف العطف ، فقد يأتي العطف من وجوه :
الأول : التشابه الموضوعي .
الثاني : الإتحاد الموضوعي .
الثالث : التقارب في المعنى والدلالة .
الرابع : العطف في لغة الخطاب وإتحاد جهته او موضوعه ، وفي التنزيل [ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
الخامس : إبتداء الآية باسم موصول يدل على إرادة الذين ورد ذكرهم في الآية السابقة ، كما في الآية التالية لآية البحث إذ تبدأ بقوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ).
السادس : الإتحاد في الثناء والمدح , أو الذم والتوبيخ .
السابع : وحدة الموضوع في تنقيح المناط .
الثامن : التشابه والإلتقاء في الجزاء ومصاديقه .
التاسع : العطف بالفعل وصيغته من الماضي أو المضارع بما يفيد الإتحاد بين آيتين متعاقبتين من القرآن .
العاشر : العطف بين آيات القرآن في الأمر والنهي .
الحادي عشر : العطف باسم الجلالة وصفات الله الحسنى .
الثاني عشر : العطف بالضمير الخاص بالله عز وجل كما في قوله تعالى [هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ]( ).
الثالث عشر: العطف بالاسم الموصول الذي يراد منه الله عز وجل فان قلت قد ورد ذكر العطف بالاسم الموصول في الوجه الخامس أعلاه فهل هذا من التكرار .
الجواب لا ، فلابد من ‘فراد وجه ومعنى خاص للأسماء الحسنى في المقام للتقدير ولإنفراده بدلالات ومنه قوله تعالى [وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ* اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ] ( ).
الرابع عشر : العطف بالضمير المفرد والجمع ، ومن الأخير ما ورد في ذم الذين كفروا من قريش [وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ] ( ) .
وروي في سبب نزولها (أن قريشاً جمعت جماعة من فتيانها وجعلوهم مع عكرمة بن أبي جهل وخرجوا يطلبون غرة في عسكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، واختلف الناس في عدد هؤلاء اختلافاً متفاوتاً ، فلما أحس بهم المسلمون بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أثرهم خالد بن الوليد في جملة من المسلمين ، ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة وأسروا منهم جملة ، فسيقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمن عليهم وأطلقهم ، فهذا هو أن كف الله أيديهم عن المسلمين بالرعب وكف أيدي المسلمين عنهم بالنهي في بيوت مكة وغيرها وذلك هو بطن مكة . وقال قتادة : أسر النبي الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الجملة بالحديبية عند عسكره ومن عليهم ، وذلك هو بطن مكة . قال النقاش : الحرم كله { مكة } ، والظفر عليهم هو أسر من أسر منهم ، وباقي الآية تحريض على العمل الصالح ، لأن من استشعر أن الله يبصر عمله أصلحه .
وقرأ الجمهور من القراء : بما تعملون بالتاء على الخطاب . وقرأ أبو عمرو وحده : بما يعملون بالياء على ذكر الكفار وتهددهم .) ( ) .
الخامس عشر : العطف باسم الإشارة للمفرد والجمع كما في قوله تعالى [قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ) .
السادس عشر : العطف بأداة للسببية .
السابع عشر : العطف بين العلة والمعلول طرداً وعكساً .
الثامن عشر : العطف بين الآيات بالحرف المشبه بالفعل .
التاسع عشر : العطف بين الآيات بالفعل الماضي الناقص , أي تبدأ الآية المعطوفة بواحدة من كان وأخواتها .
العشرون : العطف بلا الخبرية كما في قوله تعالى[وَلاَ تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة/224) لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ] ( ) إذ إبتدأت آية بحرف العطف مع لا الناهية ، ثم إبتدأت آية (لا) الخبرية .
الحادي العشرون : العطف بـ(كم) الخبرية و(كم) الإستفهامية ووردت (كم) في عشرين موضعاً من القرآن ، وهي على وجوه :
الأول : إفادة الإخبار وتفيد البيان والتنبيه والتحذير والتوبيخ كما في قوله تعالى [وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا] ( ).
الثاني : ورود (كم) للإستفهام لبعث المسلمين والناس على التدبر والتفكر ، في الخلق والتنزيل , والله عز وجل عالم بكل شئ ولا يخفى عليه أمر في السماء والأرض ، ومنها ما ورد في قصة أهل الكهف : [قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ] ( ).
الثالث : إرادة المعنى الأعم وإفادة (كم)الخبر والإستفهام مجتمعين خاصة وأن هذا التقسيم إستقرائي من علماء النحو تتجلى مصاديقه في اللغة بوضوح ، ولكن قولنا بالمعنى الأعم لـ (كم) في القرآن دعوة للعلماء للتحقيق والمندوحة في إستقراء المسائل من الحرف القرآني ، ومنه قوله تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ] ( ) فصحيح أن الآية تفيد الإخبار إلا أن الإستفهام في طوله ولا يتعارض معه .

قانون إعجاز العطف في القرآن
لقد إبتدأت آية البحث بقوله تعالى(وليعلم الذين نافقوا) ليدل حرف العطف الواو على إرادة الصلة والترابط بين آية البحث والآية التي قبلها ويحتمل هذا العطف وجوهاً:
الأول : العطف على نحو العموم المجموعي لكل من الآيتين.
الثاني : العطف بصيغة العموم الإستغراقي لكل من الآيتين.
الثالث : العطف على نحو العموم المجموعي للآية السابقة، وعلى نحو الموجبة الجزئية لآية البحث.
الرابع : العطف على الآية السابقة كعموم إستغراقي لمضامينها ويكون العطف في آية البحث على نحو الموجبة الجزئية والعموم الأفرادي .
الخامس : العطف بين الآيتين على نحو الموجبة الجزئية لكل منهما.
السادس : العطف على نحو الموجبة الجزئية للآية السابقة والعموم المجموعي لآية البحث.
السابع : العطف على نحو الموجبة الجزئية للآية السابقة والعموم الإستغراقي لآية البحث.
الثامن : عطف الجملة بين الآيتين بأن تكون الجملة الأولى من آية البحث معطوفة على الجملة الأخيرة من الآية السابقة ، وهو ظاهر بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] ( ).
التاسع : عطف الكلمة الأولى من آية البحث على الكلمة الأخيرة من الآية السابقة .
ويمكن شطر وتقسيم الوجهين الأخيرين أعلاه إلى وجوه وفق التقسيم أعلاه.
العاشر : تعدد وجوه العطف فيكون شاملاً للوجوه أعلاه كلها في آن واحد وبين آيتين مخصوصتين من القرآن.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وهو من إعجاز قانون العطف في القرآن، من جهات:
الأولى : تفتح صيغ العطف في القرآن خزائن غير متناهية للعلوم.
الثانية : ضروب العطف في القرآن عون للمسلمين عامة والعلماء خاصة لإستقراء الدروس والعبر من الصلة بين آيات القرآن من جهة الموضوع والحكم.
الثالثة : لزوم إستقراء وجوه الإعجاز في العطف بين آيات القرآن.
الرابعة : بيان قانون وهو أن العطف في القرآن سبيل لتثبيت الأحكام، ووسيلة لدفع الوهم والترديد .
ومن الآيات أن الإعجاز في العطف بين آيات القرآن ليس إجمالياً وموضوعاً متحداً .
ويمكن تقسيم العطف في القرآن إلى أقسام:
الأول : العطف بين آيتين من القرآن، ونسميه العطف الغيري.
الثاني : العطف بين ثلاث آيات أو أكثر من القرآن.
الثالث : العطف في ذات الآية القرآنية الواحدة، ونسميه العطف الذاتي.

في سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة , وهي على شعبتين :
الشعبة الأولى : صلة هذه الآية بالآيات السابقة لها ، ومنها وجوه :
الوجه الأول : صلة آية البحث بالآية السابقة[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( )، وفيها مسائل:
المسألة الأولى : إبتدأت آية البحث بحرف العطف الواو، وفيه دلالة على الصلة والإتحاد الموضوعي بينها وبين آية السياق ومن أسرار العطف في القرآن وجوه:
الأول : إستقراء المسائل والأحكام من الآية المعطوف عليها والمتقدمة في نظم القرآن.
الثاني : بيان المسائل والأحكام من الآية المعطوفة والتالية.
الثالث : إستنباط الأحكام والدلالات من الجمع بين الآيتين فتأتي واو العطف في أول الآية لتؤسس لأبواب من العلم والفيض والمدد من عند الله، بلحاظ أن الآية القرآنية عون ومدد للمسلمين في رسمها وكلماتها ومضامينها القدسية.
ترى لماذا عطفت الآية بالواو ولم تعطف بـ (ثم) التي تفيد مع العطف التراخي، الجواب إنكشاف ووضوح حال الناس حالما جاءت جيوش الذين كفروا إذ خرج المؤمنون إلى ميدان القتال، واستعدوا للقاء الذين كفروا.
ومن الآيات أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قام بنفسه بتعيين مواضع أصحابه في المعركة، قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
أما المنافقون فقد إنخزلوا من وسط الطريق إلى معركة أحد، ومنهم من تخلف عن الخروج إلى المعركة، نعم ليس كل الذين تخلفوا عن الخروج إلى معركة أحد هم منافقون، فمنهم مؤمنون ولكن كانت لهم أعذار , منهم جابر بن عبد الله الأنصاري .
المسألة الثانية : من إعجاز نظم القرآن التداخل الموضوعي بين آية البحث وآية السياق ويكون الجمع بين خاتمة الآية السابقة وآية البحث (وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا ) وفيه وجوه:
الأول : تنمية ملكة الإيمان عند المسلمين.
الثاني : إنه حرب على النفاق.
الثالث : فيه دعوة للتنزه والإحتراز من النفاق والريب ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ]( ).
وكثيرة هي الآيات التي تبدأ بحرف العطف الواو ، ولكن آية البحث جاءت بالإبتداء بالعطف مع لام التعليل مع الفعل بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا]( )، ولم يذكر الذين كفروا في المقام مع أنهم السبب في معركة أحد وما لحق المسلمين فيها من الأضرار.
فلم تقل الآية (وليعلم المنافقين وليعلم الذين كفروا ).
والجواب تبين الآيات القطع بالعلم بالذين كفروا الذين زحفوا من مكة لقتال المسلمين ، ففضحهم عملهم وقد تقدم قبل خمس آيات قوله تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ) وليس هناك أشد عذاباً ممن حارب نبياً وقاتله وأصابه بالجراحات الشديدة مع سقوط سبعين شهيداً من المؤمنين في يوم واحد ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]بلحاظ آية البحث وجوهاً :
الأول : ليعلم المؤمنين الذين تنزهوا عن النفاق .
الثاني : ليعلم المؤمنين الذين حصّنوا أنفسهم وأهليهم من النفاق .
الثالث : ليعلم المؤمنين الذين لا ينصتون إلى الذين نافقوا .
الرابع : ليعلم المؤمنين الذين لا يحاكون المنافقين في تحريضهم على القعود ، وقد تقدم قبل إحدى عشرة آية [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا]( ).
الخامس : ليعلم المؤمنين الذين يتوبون من النفاق , ويحتمل هذا المعنى في شموله وجوهاً :
الأول : الذين تابوا من النفاق وأصلحوا قبل واقعة أحد .
الثاني : الذين تابوا من النفاق قبل نزول آية البحث .
الثالث : الذين تابوا بعد واقعة أحد ونزول آية البحث ، وتقدير الآية (وليعلم المؤمنين الذين سيتوبون بعد نزول آية البحث ).
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق خاتمة الآية السابقة وبداية آية البحث .
المسألة الثالثة : تنفي خاتمة آية البحث التقدير (وليعلم الذين نافقوا بعد الإيمان) وهو من أسرار تقدم العلم بالمؤمنين على العلم بالمنافقين ، والفصل بينهما، ومجئ كل واحد منهما في آية غير التي جاء فيها الآخر، إذ أن الإيمان والإخبار عن علم الله عز وجل به تزكية وعصمة من النفاق ليكون من معاني ودلالات الجمع بين الآيتين البشارة بسلامة المسلمين من النفاق ، وجاءت هذه البشارة في ثنايا ذكر واقعة أحد لتكون على وجوه:
الأول : مواساة المسلمين والمسلمات.
الثاني : بيان قانون وهو إذا أبتلي المسلمون بمصيبة فان البشارات تأتي معها.
الثالث : يفتح هذا القانون ذخائر من العلم للعلماء , وتتجلى فيه درر من إعجاز القرآن.
الرابع : دعوة العلماء لمعرفة منافع مجيء البشارة في أوان المصيبة.
الخامس : الدلالة على صدق إيمان المسلمين بعنايتهم بالبشارة من عند الله في ساعة الضراء والألم، وفي وصف ومدح المسلمين والثناء عليهم، قال تعالى[وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ]( ).
ومن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثبوت الإيمان في النفوس والمجتمعات ، وهو من معاني الرسالة الخاتمة، وقوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ) ويتجلى قانون الثبات هذا في معركة أحد إذ جاهد المسلمون في ميدان القتال وبذلوا أنفسهم وسالت دماؤهم وهم مستبشرون بدرجات الإيمان التي فازوا بها.
ولقد فجعت نساء الأنصار بالمصيبة يوم معركة أحد ، فمنهن من فقدت زوجها وأخرى أخاها وأخرى ابنها ، وتلقين المصيبة بالرضا والقبول ، وهو أمر لا يقع إلا مع الإيمان ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتولى أحياناً الإخبار عن شهادتهم ونعيهم إلى ذويهم , مع بيان المرتبة السامية والثواب العظيم الذي فازوا به .
وفي طريق عودته من معركة أحد مرّ بامرأة من بني دينار قد أصيب أبوها وزوجها وأخوها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد.
فنعوا ثلاثتهم إليها وكانت الإشاعة بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بلغت المدينة في ذات اليوم فبادرت المرأة إلى القول : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(قَالُوا : خَيْرًا يَا أُمّ فُلَانٍ هُوَ بِحَمْدِ اللّهِ كَمَا تُحِبّينَ قَالَتْ أَرُونِيهِ حَتّى أَنْظُرَ إلَيْهِ ؟
فَأُشِيرَ لَهَا إلَيْهِ حَتّى إذَا رَأَتْهُ قَالَتْ : كُلّ مُصِيبَةٍ بَعْدَك جَلَلٌ) ( ) .
والمراد من الجلل أي الصغير واليسير , والجلل من الإضداد ، فيأتي بمعنى الصغير اليسير ، وقد يأتي بمعنى العظيم .
(عَنِ الأَصْمَعِىِّ يُقَالُ : ذَلِكَ أَمْرُ جَللٌ في جَنْبِ هَذّا الأَمْرِ أَيْ : صَغِيرٌ يَسِيرٌ . والجَلَلُ : العَظِيُم وَأَمْرٌ جَلِيلٌ أَي عَظِيمٌ
وَأُخْبِرْتُ عَنْ أَبِى عُبَيْدَةَ : الجَلَلُ الهَيِّنُ والجَلَلُ العَظِيمُ قَالَ أبو عَمْرٍو : الجَلَلُ : الصَّغِيرٌ والجَلَلُ : العَظِيمُ أَنْكِرُهُ . وَقَالَ الخَلِيلُ : العَظَيمُ) ( ) .
ليكون من الإعجاز في قوله تعالى [فَبِإِذْنِ اللَّهِ] ( ) في آية السياق هداية المسلمين والمسلمات إلى الصبر عند المصيبة وتحمل الأذى من غير جزع أو يأس أو قنوط ، كأن الآية تقول للمسلمين : وما أصابكم يوم التقى الجمعان تحليتم معه بالصبر باذن الله، وفيه دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل على نيلهم مرتبة ودرجة رفيعة في الصبر الذي هو صفة من صفات الأنبياء والصالحين.
لقد كان في المدينة منافقون يسعون في الصد عن سبيل الله ويكرهون خروج المؤمنين للدفاع عن الأهل والدين والمال ، فجاءت آية البحث لفضحهم وخزيهم ، وذات ذكرهم فيها على نحو الخصوص شاهد سماوي على وجود فئة من الناس يظهرون الإسلام ويخفون الكفر الذي قد يظهر على ألسنتهم عندما يكون المسلمون في شدة وأذى ، فجاءت مصيبة المسلمين في معركة أحد لينكشف هؤلاء المنافقون وتخرج معالم كفرهم على ألسنتهم وفي أفعالهم من جهات :
الأولى : ظن المنافقين ضعف ووهن الإسلام .
الثانية : إعانة المنافقين للذين كفروا ممن يحارب الإسلام .
الثالثة : إرادة المنافقين الشماتة بالمؤمنين .
الرابعة : بغض المنافقين لمبادئ الإسلام .
الخامسة : ثقل أداء الفرائض والعبادات على المنافقين ، قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ) .
السادسة : ظهور الحسد والعصبية والشح في أفعال المنافقين عند نزول المصيبة بالمسلمين .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : وما أصابكم يوم التقى الجمعان ليعلم المنافقين ) .
لقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه قبل الهجرة أشد الأذى من كفار قريش ، خاصة وأن مفاصل الحكم والقرار كانت بأيديهم ، وقد قاموا أولاً بعزل وحصار بني هاشم ، ثم توجهوا إلى الأفراد والأشخاص الذين أسلموا خاصة أولئك الذين ليس لهم قبائل وبيوتات ظاهرة في الشأن تحميهم وتذب عنهم ، مثل عمار بن ياسر وبلال وخبّاب.
إذ كان مجتمع مكة يتألف من سادة وزعماء يستحوذون على التجارة ويتصرفون بالأموال ، ويتولون الصلات مع القبائل ، ومن موالي وعبيد وإماء ، وأفراد من قبائل عربية تقطن خارج مكة وبعيداً عنها ، وهؤلاء من المستضعفين في مكة الذين سرعان ما مالوا إلى الإسلام ، لما رأوا من المعجزات وما فيه من العز المفقود في ظل تركيبة المجتمع المكي ، ولم يختصر دخول الإسلام عليهم بل دخله أشراف وفرسان شجعان وأبناء بيوتات ظاهرة في مكة ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان قانون وهو ملائمة الإسلام وشرائعه لكل الناس على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] ( )، وقد كان المسلم العبد لأحد كبراء قريش يعذب في شدة الرمضاء فيشتريه أحد المسلمين ويعتقه ، للتسليم بالأخوة بين المؤمنين وهم في مكة من قبل أن يؤاخي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار في المدينة ، وهو من المصاديق المتقدمة زماناً لقوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
لقد كان المسلمون في أيام الإسلام الأولى يشعرون بالغبطة عند دخول فرد واحد الإسلام سواء من قريش أو غيرهم لتمر السنوات سريعاً، ويدخل الناس جماعات وطوائف في الإسلام على نحو دفعي ، وفي آن واحد ، وينتشر المسلمون في ربوع الأرض ، ويصاحبهم القرآن يحكي لهم برسائل سماوية وكلام الله عز وجل ما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه الأوائل من الأذى في جنب الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( ).
لتدل هذه الآيات على موضوعية نصر المسلمين بجذب الناس للإيمان، وتقييد هذا النصر بأنه من عند الله لبيان معجزة عقلية وحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)( ).
وهل النفاق وأذى المنافقين من مصاديق الحديث أعلاه ، الجواب نعم ، إذ تبين آية البحث قانوناً وهو وجود منافقين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام عند وقوع معركة أحد ، وأنهم لم يسكتوا إنما أظهروا النفاق وسعوا في الإضرار بالمسلمين ، وقد يكون الضرر الذي يأتي منهم أشد من الضرر الذي يأتي من العدو ، للإحتراز العام عند المسلمين من العدو وإفتضاح كيده ، ولكن المنافقين يعيشون مع المسلمين ، ويحضرون في الصلاة والمنتديات العامة .
وقد يكون أذاهم وأسباب الفتنة التي يثيرونها في واقعة محوصة أشد من أذى الكفار ، فوقعت معركة أحد وحلّت المصيبة بالمسلمين للإحتراز من المنافقين ، لتكون هذه المصيبة من مصاديق قوله تعالى[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
فان قلت المتبادر إلى الذهن أن مكر الله عز وجل في المقام خاص بما يتوجه من الإبتلاء إلى الذين كفروا ، الجواب إنه أعم فيشمل ما يأتي للمسلمين من الخير والأذى ، ومن النصر والخسارة مع التباين بإن إبتلاء المسلم رحمة وباب للثواب، وإبتلاء الكافر إنذار ومقدمة للعذاب، قال تعالى [وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ] ( ).
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : ليعلم الذين نافقوا يوم التقى الجمعان).
من خصائص المنافقين إظهار الإسلام وأداء الفرائض مع المسلمين أحياناً مع إبطان الكفر والصدود والجحود ، فجاءت معركة بدر بالنصر العظيم للمسلمين.
وعجز المنافقون عن إظهار كفرهم لما في هذا النصر من البراهين القاطعة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه أمر خارق للأسباب، ولكن قريشاً عرفوا كيف ينتفعون من المنافقين ، ويحرضونهم على نحو خفي بأن يصل وعيدهم وتهديدهم إلى المدينة وعزمهم على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأسر المهاجرين وإعادتهم مقيدين بالأصفاد إلى مكة.
فيقوم المنافقون بافشاء هذه التهديدات وإيصالها إلى المنتديات والبيوت فيكون حديث الرجال والنساء ، وهو من أسرار ذكر المنافقات في مواضع من القرآن ، وإنذارهن بالعذاب الشديد بعرض واحد مع المنافقين إذ كن يقمن بالسعي لبعث الخوف في قلوب المؤمنات من المشركين وقتالهم فيكون هذا السعي وبالاً على أهله في النشأة الآخرة، قال تعالى[يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ]( ).
ليكون من معاني الجمع بين آية البحث والسياق وجوه :
الأول : ليعلم الله الذين نافقوا قبل معركة أحد .
الثاني : ليعلم الله الذين نافقوا أثناء معركة أحد .
الثالث : ليعلم الله الذين نافقوا بعد معركة أحد .
والنسبة بين الوجوه أعلاه هي العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء بنهج وسنخية دائمة للمنافقين في كل تلك الحالات ، وسنخية خاصة بحسب الحال في الوجوه أعلاه مع ضابطة كلية وهي إبطانهم الكفر ، وظهوره على اللسان عند حلول مناسبة له .
لقد كانت معركة أحد ومقدماتها وآثارها وسيلة لكشف المنافقين وإحاطة المسلمين علماً بأشخاصهم .
وهل تتضمن آية البحث تحذير المسلمين من المنافقين ، وأخذ الحيطة من أقوالهم وأفعالهم، الجواب نعم ، ليكون من معانيها وجوه:
الأول : وجود جماعة أو طائفة بين المسلمين تتصف بالنفاق .
الثاني : صدور ضروب الصدود عن الحق من المنافقين قبل معركة أحد.
الثالث : ندب آية البحث المسلمين إلى معرفة المنافقين أشخاصاً وفعالاً.
الرابع : إرادة سلامة مجتمعات المسلمين من النفاق وأضراره.
الخامس : وقاية المسلمين والمسلمات من النفاق , فقد يهم المؤمن بمحاكاة المنافق في قول أو نقل إشاعة ، أو أسباب قعود وخشية من لقاء العدو ، فجاءت آية البحث لتحذر بالدلالة التضمنية من محاكاة المنافقين والتشبه بهم .
المسألة السادسة : هل يصح تقدير الجمع بين الآيتين (وما أصابكم ليعلم المنافقين) أي على نحو الإطلاق ومن غير تقييد بالتقاء الجمعين في معركة أحد.
الجواب نعم ، فكل مصيبة تنزل بالمسلمين هي مناسبة لفضح المنافقين .
ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم توالي أسباب كشف المنافقين , ومنه حال المصيبة العامة والخاصة ، فقد كانت معركة أحد من الأولى ، أما الخاصة فهي كثيرة ومتعددة ، وفيها يكتشف في أيام النبوة والرسالة أمر المنافق أو المنافقة من الجيران أو الأصحاب أو الذين يتصل معهم المسلم بالمعاملة والتجارة والبيع والشراء ، وفيه دعوة للمسلمين للإلتفات لحالات النفاق التي تظهر عند المصيبة.
وهو من الإعجاز في ندب الله عز وجل المسلمين إلى الإسترجاع والذكر عند نزول البلاء أو حلول المصيبة ولو كانت على نحو القضية الشخصية ، قال تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ) ليكون من الفلاح في الآية أعلاه صيرورة الإسترجاع وسيلة لكشف ومعرفة المنافقين ، وفضحهم ورد كيدهم إلى نحورهم ، ومنعهم من الفتنة والمكر مع دعوتهم إلى التوبة والإنابة ، قال تعالى [هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ]( )
وهل في آية البحث دعوة للمسلمين لإظهار أخبار المنافقين وافشائها وعدم كتمانها ليعلم بها عامة المسلمين ، الجواب نعم ، وهو من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقيل أن ضرر المنافقين على المسلمين أشد من ضرر الكفار الذين يقاتلون المسلمين ، والمختار أن الأعم من الحالات بخلافه فالذي يقاتل المسلمين بالسيف أشد ضرراً على المسلمين في نفوسهم وإقتصادهم وأموالهم وثغورهم ويكون جهاد الكفار بالسيف والعلم والبيان .
فصحيح أن المنافقين يعيشون بين المسلمين ومعهم ويسعون للعبث في الحياة اليومية العامة للمسلمين إلا أن آيات القرآن برزخ ومانع من هذا العبث ، وهي سلاح للمسلمين والمسلمات للتوقي من المنافقين .
لقد جعل الله عز وجل مصيبة المسلمين في معركة أحد مناسبة لكشف درن النفاق ، وهو من باب المثال الأمثل ، وليس من حصر للمناسبات والأسباب التي يكشف ويُعرف بها المنافقون ، ومنها أمور :
الأول : كل فريضة من الصلاة اليومية، إذ يظهر المنافقون التكاسل ويميلون إلى التباطئ في أدائها، قال تعالى[وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى] ( ) .
الثاني : تلاوة آيات القرآن في الصلاة لما فيها من الـتأديب والإصلاح والتنزه عن النفاق ، إذ يقبل المؤمنون على تلاوتها بشوق وعزم مع التدبر في معانيها ومضامينها.
الثالث : كثرة جدال المنافق، ولجوئه إلى المغالطة.
الرابع : الإمتناع عن النفير والنصرة في ساعة الحاجة إليه، وفي ذم المنافقين , قال تعالى[قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً *أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ]( )،
وتتضمن هذه الآيات توبيخ المنافقين، وفيها شاهد على أن الآيات التي وردت في ذمهم وتوبيخهم كثيرة ولا تنحصر بالآيات التي ذكرتهم بصفة النفاق، وفي تفسير الآيات أعلاه ورد عن(مقاتل قال : نزلت في المنافقين، وذلك أنَّ اليهود أرسلوا إلى المنافقين، فقالوا : ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه فإنّهم إنْ قدروا عليكم هذه المرّة لم يستبقوا منكم أحداً، وإنَّا نشفق عليكم، أنتم إخواننا وجيراننا هلمَّ إلينا.
فأقبل عبدالله بن أُبيّ وأصحابه على المؤمنين يعوّقونهم ويخوّفونهم بأبي سفيان ومن معه , وقالوا : لئن قدروا عليكم هذه المرّة لم يستبقوا منكم أحداً.
ما ترجون من محمّد؟ فوالله ما يريدنا بخير وما عنده خير، ما هو إلاّ أنْ يقتلنا هاهنا، انطلقوا بنا إلى إخواننا وأصحابنا، يعني اليهود، فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلاّ إيماناً واحتساباً)( ).
الخامس : إتخاذ الشك والريب بالمعجزات والبينات والدلالات الواضحات منهاجاً، قال تعالى[وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ]( ).
السادس : خبث سريرة المنافق وإتصافه بالحسد والكبر والعجب وإرادة الوقيعة بالناس، ومن أسباب ضلالة إبليس حسده لآدم ، وفي التنزيل حكاية عن إبليس[قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ]( ).
المسألة السابعة : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار ، ومن مصاديق الإمتحان مجئ الحزن مع السعادة ، وكذا العكس وتأتي النعمة المتعددة والمتشعبة من عند الله ، وقد تصاحبها أو تتعقبها المصيبة والشدة والأذى، وقد تكون المصيبة نوع طريق وسبيل إلى نعمة أعظم وأكبر .
ولقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالنصر المبين في معركة بدر ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) لتكون الآية أعلاه حرباً على النفاق من وجوه:
الأول : تحقق النصر للمسلمين خزي للمنافقين .
الثاني : إلجام المنافقين ، ومنهم من بث الشكوك ، ففضحه النصر.
الثالث : ذكر اسم (بدر ) في القرآن تبكيت وتوبيخ للمنافقين من جهات:
الأولى : مجئ اسم بدر في القرآن كموضع لمعركة خاضها المسلمون ضد الذين كفروا .
الثانية : إكرام الله للمسلمين بذكر خروجهم للقتال دفاعاً عن الإسلام .
الثالثة : بيان القرآن لفضل الله عز وجل على المسلمين بالنصر والغلبة، قال تعالى[وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ]( )، وذكرت أسباب نزول خاصة للآية أعلاه تتعلق ببني الأبيرق وحادثة سرقة , وهي في دلالتها أعم، والمدار على عموم المعنى وليس على سبب النزول.
الرابعة : حرمان المنافقين أنفسهم من الإنتفاع الأعم والأمثل من النصر في معركة بدر .
الخامسة : لحوق الخيبة بالمنافقين في معركة بدر ، لإنكشاف عجز الذين كفروا عن هزيمة المسلمين .
السادسة : بمعركة بدر تخلص المسلمون من منازل الذل والضعف ، لذا سميت الواقعة يوم الفرقان في قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابن السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) .
السابعة : دعوة آية (ببدر) المسلمين والمسلمات جميعاً إلى تقوى الله والخشية منه .
وهل تشمل هذه الدعوة المنافقين، الجواب نعم ، وهو من فيوضات الإيمان الظاهري برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
المسألة الثامنة : تقدير الجمع بين الآيتين ، ليعلم الذين نافقوا يوم التقى الجمعان) .
لإرادة زمان مخصوص تستبين فيه معادن الرجال وتنكشف البواطن بلحاظ أن القتال وحال الضراء إبتلاء يظهر حقائق ما تنطوي عليه النفوس من الإيمان أو ضده ، فحتى لو لم يصب المسلمون بالخسارة في معركة أحد فانها مناسبة لمعرفة المؤمنين ، والفصل بينهم وبين المنافقين ، ويدل على هذا المعنى بجلاء انسحاب المنافقين من وسط الطريق إلى معركة أحد ، فأزاحوا الستار عن مكنونات أنفسهم من الجحود والخور والجبن قبل رؤية جيش الذين كفروا ، وعندما لامهم عدد من الأنصار ودعوهم إلى العودة إلى جيش المسلمين ، وعدم خذلان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ساعة الشدة أظهروا لخداع والغدر ، قال تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ] ( ) .
لقد كان لرأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول شأن عند أهل المدينة فهو من بني سالم بن عوف , ومن أكبر رؤساء الخزرج ، وكانوا يعدون لتنصيبه ملكاً على الأوس والخزرج لمنع الفتنة والإقتتال بينهم .
وإنقطع هذا الأمر بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة وإنقياد الأنصار رجالاً ونساء إلى طاعة الله ورسوله ، قال تعالى [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] ( ).
فظل ابن أبي سلول حاسداً ناقماً على الإسلام يظهر عداوته أحياناً ويخفيها أحياناً أخرى ، ولا يعلم أحد ما يحدث لو تولى الأمرة والملك في المدينة وماذا يقع فيها من الحروب والقتال والتعدي والظلم على أهلها وعلى اليهود وعلى من حولها من القبائل ، فما محاه الله عز وجل من الأذى والضرر عن الناس بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من أن يحصى .
وجاءت معركة أحد ليظهر عبد الله بن أبي عداوته للإسلام ، ويتخذ من منزلته وشأنه عند الأنصار وسيلة لتحريضهم على الرجوع عن القتال فأخذ ينادي وسط الطريق (علام نقتل أنفسنا وأولادنا) ( ).
ترى لماذا ذكر الأولاد وقتلهم ، فيه وجوه :
الأول : كان مع جيش المسلمين الأب وابنه ومنهم عبد الله بن عبد الله بن أبي سلول وكان اسمه (الحباب) فبدّل النبي صلى الله عليه وآله وسلم اسمه إلى عبد الله , والذي شهد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المعارك ثم قاتل في معارك الردة وأستشهد في معركة اليمامة سنة (12) للهجرة .
الثاني : التهديد بأن إذا قاتلنا المشركين سيدخلون المدينة غازين وسيقتلون الذراري ، وأن الرجوع عن المعركة نوع أمان من هذا الغزو من جهات :
الأولى : خشية الذين كفروا من إقتحام المدينة لوجود مقاتلين فيها .
الثانية : إمتناع المشركين عن غزو المدينة مداراة لإنسحاب شطر من الأوس والخزرج عن قتالهم .
الثالثة : حراسة المدينة وأهلها .
وكأن عبد الله بن أبي يعد أصحابه وأنه أخذ عهداً من المشركين بأنه إذا رجعوا بأصحابه فأنهم لا يغزون المدينة بعد القضاء على جيش المسلمين إن استطاعوا ، ولكن الله عز وجل قطعهم وكبتهم وأخزاهم في موضع جبل أحد قبل أن يصلوا إلى المدينة ، وفي التنزيل [فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] ( ).
إن قوله تعالىفَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ شاهد على عجز الذين كفروا عن غزو المدينة بعد معركة أحد, ومن أسرار خلافة الأنبياء في الأرض مجئ المعجزات تترى على أيديهم لأمور بلحاظ المقام , وهي :
الأول : هداية الناس إلى الإيمان .
الثاني : دعوة الناس لكف أيديهم عن المؤمنين .
الثالث : إدراك الناس لقبح الكفر ، وأن الإقامة عليه ضلالة وجهالة .
الرابع : جذب الناس للإسلام ، قال تعالى [فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمْ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ] ( ).
الخامس : صيرورة صحابة للنبي يتبعونه ويذبون عنه .
السادس : التذكير بوجوب عبادة الله ، وأن الحياة لا تتقوم إلا بها وكان بلاغ الأنبياء إلى قومهم [يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ] ( ).
السابع : بيان فضل الله عز وجل على الناس ، وليس من حصر لوجوه الفضل والمنّ الإلهي التي بينّها الأنبياء وتهدي إليها معجزاتهم ، وكل معجزة لنبي فضل عظيم من عند الله وهدى ، وفي التنزيل [وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ]( ).
والمعجزة هو الأمر الخارق للعادة , المقرون بالتحدي , السالم من المعارضة ، مع خصوصية للمعجزة باتصافها من ذات السنخية التي برع بها قوم النبي , والفن والعلم الذي اشتهر في زمانه .
ففي زمان موسى عليه السلام مثلاً كان الناس مفتونين بالسحر والسحرة فجاء موسى عليه السلام بالمعجزة المتعددة كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ] ( ) وأظهر معجزاته العصا إذ كانت تبتلع عصي السحرة وتفضحهم , وصاحبت بني إسرائيل في منافعها , وفي التنزيل[قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى]( ).
وبعث الله عيسى بين قوم يولون عناية بالطب فكانت معجزاته رحمة لهم إذ كان يبرئ الأبرص والأعمى ، وفي التنزيل [وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي] ( ) والأكمه الأعمى يقال كمهت العين أي عميت ، وقيل هو العمى من الولادة ، وأما الأبرص فهو الذي يصاب بداء في الجلد لايبرئ منه مع تمكنه واستفحاله .
ومن الإعجاز في معجزة عيسى عليه السلام أن كلاً من الآيات الثلاث أعلاه لم يصل الطب مع إرتقائه إلى علاج لمرضى العمى والبرص وكذا فان علماء طب الأبدان غير قادرين على إحياء الموتى ، ليدرك الناس أن معجزة النبي بقوة وفضل من عند الله عز وجل .
وعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال (إن الله عز وجل جعل اسمه الاعظم على ثلاثة وسبعين حرفا، فأعطي آدم منها خمسة وعشرين حرفا وأعطى نوحا منها خمسة وعشرين حرفا، وأعطى منها إبراهيم ثمانية أحرف، وأعطى موسى منها أربعة أحرف، وأعطى عيسى منها حرفين، وكان يحيي بهما الموتى ويبرئ بهما الاكمة والابرص، وأعطى محمدا اثنين وسبعين حرفا، واحتجب حرفا لئلا يعلم ما في نفسه ويعلم ما في نفس العباد)( ).
وجاءت معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية وحسية ليبقى القرآن شاهداً على الزمان وحياة الناس في الدنيا ، وليمتنع الكفار عن محاربته ، ويعلم الناس صدق نبوته بمعجزاته ومنها :
الأولى : كل آية من آيات القرآن.
الثانية : نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معارك الإسلام الأولى بالمعجزة .
الثالثة : إنقطاع المؤمنين برسالته إلى طاعة الله وطاعته .
ليكون تقدير الجمع بين آية البحث والآية السابقة بلحاظ هذه المسألة وهي المسألة الثامنة من الوجه الأول من الشعبة الأولى من سياق الآيات : وليعلم الذين نافقوا بعد رؤيتهم معجزات النبوة لتكون الحجة عليهم أبلغ وأعظم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
المسألة التاسعة : تقدير الجمع بين الآيتين ( وما أصابكم يوم التقى الجمعان ليعلم الذين قيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله …. ).
ومن إعجاز القرآن إتصافه بالبيان والنص المانع من الترديد والتباين في التأويل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ] ( ) ومن خصائص هذا البيان أمور :
الأول : إنه رحمة بالناس جميعاً .
الثاني : فيه إزاحة للحواجز والموانع التي تحول دون دخول الإنسان الإسلام .
الثالث : إنه من فضل الله عز وجل في هداية الناس لسبل الإيمان ، قال تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى…] ( ).
الرابع : بيان قانون وهو أن القرآن جامع للأحكام ، وحرب على مفاهيم الضلالة .
الخامس : القرآن دستور الحياة المصاحب للناس في كل زمان ومكان .
ومن خصائص بيانه أنه برزخ دون عزوف الناس عنه ، ومن الآيات في المقام تلاوة المسلم القرآن خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني ليتفقه في الدين وليتقن سنن مدرسة البيان والكشف ، إذ أن هذه القراءة وسيلة مباركة للإرتقاء في سلم المعارف الإلهية .
ومن إعجاز القرآن أنه كشف المنافقين وبيّن أن أفعالهم القبيحة ليست علة تامة لما لحق المسلمين من الخسارة يوم معركة أحد والتي وقعت في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، لذا ذكرت الآية السابقة المصيبة والخسارة ووقوعها باذن الله ليعلم المؤمنين ، وجاءت بحرف العطف الواو بين إذن الله وبين علمه تعالى بالمؤمنين .
لبيان قانون وهو تعدد العلل والأسباب والغايات والمقاصد الحميدة مما أصاب المسلمين يوم معركة أحد منها :
الأول : فبأذن الله الذي له ملك السموات والأرض لبيان قانون وهو ليس من مصيبة في الأرض إلا باذن الله عز وجل ، قال تعالى [مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ) .
الثاني : فبأذن الله لفضح المنافقين والإحتراز من خيانتهم وغدرهم في قادم الأيام .
الثالث : فباذن الله يمتنع الناس عن إتباع رؤساء النفاق خاصة وأنهم يدّعون الإسلام ظاهراً ويحضرون الصلاة .
الرابع : فباذن الله لينال المسلمون الثواب العظيم .
الخامس : فباذن الله الرحمن الرحيم .
السادس : فباذن الله الذي يرى رسوله الكريم وأصحابه .
السابع : البشارة بالثواب العظيم .
الثامن : فباذن الله ليتوكل المسلمون على الله ويتلقوا ما يأتيهم من الأذى بالقبول والرضا .
وجاء على لسان الأنبياء في خطابهم لقومهم وإحتجاجهم عليهم في التنزيل [قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ).
المسألة العاشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : وما أصابكم يوم التقى الجمعان قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم ) .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار وتفضل وخفف عن المؤمنين بآيات القرآن وبيانها وتلاوتها نزول المصيبة بالمسلمين في معركة أحد ، وجاءت آية للتخفيف بذكرها لحال المنافقين وتخليهم عن أداء واجب الدفاع .
وهل يمكن تقدير الجمع بين هذه الآية والآية السابقة : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبسبب تخلف المنافقين عن أداء واجبهم وإنخزالهم وسط الطريق .
الجواب نعم وإن لم يكن علة تامة للخسارة ولكنه حجة ، إذ إنسحب ثلاثمائة من جيش المسلمين وسط الطريق بتحريض رأس النفاق .
ولم يبق مع النبي إلا نحو سبعمائة ، وهو الذي يتجلى في قوله تعالى [تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا] والذي هو مفهوم عام يشمل دفع العدو يوم معركة أحد كما يأتي بيانه في باب التفسير .
وظاهر قوله تعالى [لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ] ( ) إرادة المعنى الأعم لبيان سنخية الذين نافقوا وإصرارهم على الجحود , وإظهار هذا الإصرار بالمغالطة والدعوى الكاذبة ، وأنهم يظنون عدم وقوع قتال بين النبي وأصحابه من جهة وبين جيش المشركين الذين كفروا مع أن أمارات المواجهة والقتال ظاهرة وجلية من جهات :
الأولى : بعث رؤساء الكفر من قريش التهديد والوعيد إلى النبي وأصحابه من حين واقعة بدر ليستمر هذا التهديد لأكثر من عام ، والمسلمون عاكفون على أداء الفرائض وتلقي آيات التنزيل والتفقه في الدين، حتى صار التهديد حقيقة , وفي خطاب وأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورد في التنزيل [وَقُلْ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ] ( ) .
الثانية : منع قريش ذوي قتلاهم في معركة بدر من النياحة عليهم كيلا تضعف الهمم .
الثالثة : طواف كفار قريش على القبائل لتحريضهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الرابعة : ذهاب عدد من الكفار من أهل المدينة لتحريض قريش على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووعدهم بالتأييد والنصرة إذا وقع القتال مع المسلمين .
الخامسة : تجاهر كفار قريش بالعزم على الثأر لخسارتهم في معركة بدر.
السادسة : غلبة المسلمين على بعض الطرق التجارية التي تربط بين الشام والعراق ، وتعرض تجارة قريش للضرر والتعطيل .
السابعة : مجئ الأخبار بسعي كفار قريش للتجهز للزحف على المدينة بجيش كبير ، ومن الآيات في المقام أن مكة مدينة مفتوحة يأتيها الناس على مدار السنة من وجوه :
الأول : أداء أهل القبائل والمدن الحج في الموسم ليكون من الإعجاز في رسالة ابراهيم عليه السلام ودعائه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تيسير واستمرار دخول الناس إلى مكة قهراً وكرهاً على الذين كفروا في الحج والعمرة ، وبلوغ أخبار نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن إلى أهلها على نحو يومي متصل , ووصول أخبار ومكر كفار قريش إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وهو من مصاديق دعاء ابراهيم كما ورد في التنزيل [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً]( ).
ومن الأمن في مكة دخول وخروج الناس إليها من غير ممانعة وإضرار من الذين كفروا وإن كانوا هم الرؤساء ، لتكون هذه الرئاسة حجة عليهم وسبيلاً لنزول البلاء بهم .
الثاني : مجئ الناس إلى مكة للتجارة والشراء والبيع ، فما دامت البلدة محلاً لتوافد الناس من مختلف القرى والأمصار فلابد أن تكون سوقاً عامة لذا كانت هناك أسواق في مكة أيام الموسم مثل سوق عكاظ وسوق ذي المجاز وسوق مجنة , وأشهرها الأول.
لقد أكرم الله عز وجل مكة بالبيت الحرام لتأتي معه البركة والفيوضات في النفوس والأموال والآيات وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] ( ).
ومن أسرار لفظ الناس في الآية أعلاه تعدد المنافع من البيت وجواره وزيارته ، ومن معاني قوله تعالى (مباركاً) إزدهار التجارة والبيع والشراء في مكة إذ أنها المركز المالي الأول في الحجاز أمس واليوم وغداً وصيرورة هذه التجارة نوع طريق ومناسبة لنشر مبادئ الإسلام.
الثالث : قيام الناس بأداء مناسك العمرة والتي لا تصح إلا بالطواف بالبيت الحرام وبه تتقوم ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ) دخول عامة الناس إلى مكة لينصتوا لآيات القرآن ويطلعوا على معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية ، ترى كيف يكون هذا الإطلاع بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى من مكة ، الجواب من جهات :
الأولى : وجود مستضعفين من المسلمين رجالاً ونساءً في مكة عجزوا عن الهجرة وتخلفوا عنها .
الثانية : من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد على صدقها وصحة نزول القرآن من عند الله عز وجل توالي دخول الناس في الإسلام على نحو يومي ، ولابد من دراسة خاصة بأسباب سعي كفار قريش للبطش بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيامهم بتعذيب بعض أصحابه خاصة الذين ليس لهم عشيرة من قريش من وجوه :
أولاً : لماذا أراد كبار كفار قريش قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعزمهم على قتله في فراشه.
ثانياً : ما هي الغايات الخبيثة لكفار قريش في سعيهم للحوق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق هجرته إلى المدينة , وجعلهم الجوائز لمن يأتي به , ولم يظهر منهم هذا السعي عند هجرته الأولى إلى الطائف .
ثالثاً : المسائل الجامعة للوجهين أعلاه .
لقد أدركت قريش أن ضياء الإسلام يشع على القلوب المنكسرة .
وأن دخول الناس الإسلام متصل خاصة وأنه دخل بيوت كبار كفار قريش.
الثالثة : ذات البيت الحرام يدعو الناس إلى الإسلام، وهو يلعن الذين كفروا وما جعلوا حوله وفوقه من الأصنام ، وهذه الدعوة من مصاديق البركة في قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا..]( ).
الرابعة : تناقل المسلمين والناس آيات القرآن , إذ كان العرب يولون عناية كبيرة للشعر فجاء القرآن بالمعجزة البلاغية التي تتعدى أوزان الشعر وكل كلمة من القرآن فريدة تنفذ إلى شغاف القلوب وتستحوذ على العقول وتدعوها إلى الإيمان والصلاح، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
الخامسة : ذات هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة إيقاظ للناس بلزوم التدبر في النبوة وأسرارها , والتفكر في ذخائر القرآن ومعاني الحكمة فيه.
السادسة : وجود أمة من الأنصار تأوي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والمهاجرين من أصحابه , وهو حجة وبرهان يدعو الناس بكرة وعشياً إلى الإسلام.
وهل هو من مصاديق قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( )، الجواب نعم.
لقد كانت بعض القبائل التي يعرض عليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام في موسم الحج يعزفون ويعرضون عن دعوته لأنهم يرون عشيرته وهم قريش يكذبونه ويحذرون الناس من إتباعه ، ومن القبائل من تظن عجزها عن مواجهة قريش , ولا قبل لها بجفاء ومعاداة رجالاتها , وتحمل غضبهم وسخطهم إذ كانوا يبقون الرجال في الموسم لمنع الناس من الإنصات لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معاني قوله تعالى[كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ]( )، أن المقتسمين قوم إقتسموا القرآن، وقالوا بعضهم أنه سحر، وبعضهم شعر، وبعضهم كذب , وبعضهم أساطير الأولين، ووجه آخر أن قوماً منهم قالوا بأن القرآن سحر، ومنهم من قال أنه شعر، وإدعى بعضهم أنه كذب وأساطير الأولين , وقيل اقتسموا الطريق لينفروا الناس عن رسول الله .
و( قال مقاتل: كانوا ستة عشر رجلا بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم، فاقتسموا عِقَاب مكة وطرقها، وقعدوا على أنقابها يقولون لمن جاء من الحجاج: لا تغترُّوا بهذا الرجل الخارج الذي يدعي النبوة منّا. وتقول طائفة منهم: إنه مجنون، وطائفة: إنه كاهن، وطائفة: إنه شاعر، والوليد قاعد على باب المسجد نصبوه حكمًا فإذا سئل عنه قال: صدق أولئك يعني المقتسمين)( ) .
كما كان عمه أبو لهب يتبعه في طوافه على القبائل في منى وأسواق مكة، وهو يؤذيه ويرميه بقبيح القول، ويحذر الناس منه ، واسمه عبد العزى بن عبد المطلب ومعه امرأته أم جميل أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان .
ومن جهة قبيح القول والتحذير من الإستماع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ورد عن (عباد الدؤلى يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على الناس في منازلهم قبل ان يهاجر إلى المدينة يقول : يأيها الناس ان الله يأمركم ان تعبدوه ولا تشركوا به شيئا . قال ووراءه رجل يقول : يأيها الناسإن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم , فسألت من هذا الرجل , فقيل أبو لهب) ( ).
وأما من جهة إيذاء أبي جهل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد ورد (عن الاشعث بن سليم، عن رجل من كنانة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسوق ذى المجاز وهو يقول: ” يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ” وإذا رجل خلفه يسفى عليه التراب، وإذا هو أبو جهل، وإذا هو يقول: يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى) ( ).
(عن ابن عباس، عن العباس قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” لا أرى لي عندك ولا عند أخيك منعة، فهل أنت مخرجي إلى السوق غدا حتى نقر في منازل قبائل الناس ” وكانت مجمع العرب.
قال: فقلت: هذه كندة ولفها، وهى أفضل من يحج البيت من اليمن، وهذه منازل بكر بن وائل، وهذه منازل بنى عامر بن صعصعة، فاختر لنفسك.
قال: فبدأ بكندة فأتاهم , فقال: ممن القوم ؟ قالوا: من أهل اليمن.
قال: من أي اليمن ؟ قالوا: من كندة , قال: من أي كندة ؟ قالوا: من بني عمرو بن معاوية.
قال: فهل لكم إلى خير ؟ قالوا: وما هو ؟ قال: ” تشهدون أن لا إله إلا الله وتقيمون الصلاة وتؤمنون بما جاء من عند الله “.
قال عبدالله بن الاجلح: وحدثني أبى عن أشياخ قومه، أن كندة قالت له: إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” إن الملك لله يجعله حيث يشاء “.
فقالوا: لا حاجة لنا فيما جئتنا به.
وقال الكلبي: فقالوا: أجئتنا لتصدنا عن آلهتنا وننابذ العرب، الحق بقومك فلا حاجة لنا بك.
فانصرف من عندهم فأتى بكر بن وائل , فقال: ممن القوم ؟ قالوا: من بكر بن وائل.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أي بكر بن وائل ؟ قالوا: من بني قيس بن ثعلبة.
قال: كيف العدد ؟ قالوا: كثير مثل الثرى.
قال: فكيف المنعة ؟ قالوا: لا منعة، جاورنا فارس، فنحن لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم.
قال: ” فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم، وتستنكحوا نساءهم، وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين، وتحمدوه ثلاثا وثلاثين، وتكبروه أربعا وثلاثين؟” .
فبشرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالفتح والعز ولم يسألهم إلا التسبيح والتهليل شكراً لله عز وجل.
قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا رسول الله.
ثم انطلق.
فلما ولى عنهم، قال الكلبي: وكان عمه أبو لهب يتبعه، فيقول للناس لا تقبلوا قوله.
ثم مر أبو لهب فقالوا: هل تعرف هذا الرجل ؟ قال: نعم، هذا في الذروة منا، فعن أي شأنه تسألون ؟ فأخبروه بما دعاهم إليه , وقالوا: زعم أنه رسول الله.
قال: ألا لا ترفعوا برأسه قولا، فإنه مجنون يهذي من أم رأسه)( ).
ومن فضل الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن جعل أربعة أشهر من السنة أشهراً حرماً ليس فيها قتال أو غزو أو ثأر ، وهي شهر رجب منفرداً , وشهر ذي القعدة وذي الحجة ومحرم متتالية .
والشهر جزء من اثني عشر جزء من السنة ، وهو في الإصطلاح الشرعي المدة الزمنية المحصورة بين هلالين ، وسمي الشهر شهراً لإشتهاره بين الناس ، وتجليه باطلالة الهلال وإطلاع الأرض عليه وعلمهم بأوانه ، ويجمع جمع قلة على أشهر ، وجمع الكثرة : الشهور .
وسمي شهر رجب لما أرجبوا الشجر أي قاموا بتدعيمها عند كثرة حملها لئلا تتكسر أغصانها ، أو لوضع الشوك حولها لئلا يصل إليها آكل أو سارق .
وسمي رجب لتعظيم العرب له في الجاهلية وعدم استحلال القتال فيه ، وهو من أسباب تسميته رجب مضر , لأن مضر كانت لا تغيره عن أوانه وزمانه وتره من غير نسيئة ، وهكذا في تسمية الشهور الأخرى ، فهناك أسباب مخصوصة لتسمية كل شهر .
وقد تقدم فصل منه في تسمية شهر رمضان( ) .
وهاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة في شهر ربيع الأول ، وقيل سمي الشهر بهذا الاسم أيام كلاب بن مرة الجد الخامس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه كانت ولادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وفي سبب تسميته وجوه :
الأول : كان العرب يخصبّون فيه ما غنموه من أسلاب في شهر صفر بلحاظ أن صفراً هو أول الشهور التي يحل فيها القتال , بعد ثلاثة شهور حرم .
الثاني : كانت العرب تسمي شهري ربيع ربيع الشهور .
الثالث : سمي شهر ربيع لأنه حلّ في فصل الربيع ، ويقل العرب : شهر ربيع ، ولا يقولون ربيع مجرداً لذا قيل بأن العلة لبدايته بحرف الراء ، كما ابتدأ شهر رمضان بحرف الراء فلا يقال رمضان ، إنما يقال شهر رمضان لورود النصوص عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنهي عن القول رمضان من غير ذكر شهر كما تقدم بيانه .
ومن خصائص المنافقين تلقي وجوب العبادة بالكسل والتشكي وإيجاد الأعذار ، ليدل تقيد المسلمين بأحكام الصلاة والصيام والفرائض الأخرى على سلامتهم من النفاق أو الإنصات للمنافقين .
وفي باب الفقه ولو إمتنع الناس عن الحج مثلاً فعلى الحاكم حملهم على الحج وتيسير أسباب الإستطاعة من الزاد والراحلة وإزاحة الموانع عن أدائهم للحج لوجوب عمارة البيت الحرام وتحقق مصداق العبادة وقوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
ولو إمتنع الناس عن الصيام في بلد من البلدان من غير علة قاهرة , إنما بسبب يمكن معه التدارك كما لو كانت ساعات الصيام طويلة وفي شدة القيظ فعلى الحاكم والفقيه حملهم على الصيام وتيسير أمره والتخفيف عنهم في الوظائف ونحوها لقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ]( ).
وصحيح أن الصيام هو الكف والإمتناع عن الأكل والشرب إلا أنه أمر وجودي , وحبس للنفس عن الأكل والشرب .
ترى لماذا لم يهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة في أحد الأشهر الحرم كي يأمن قريشاً وكيدها في الطريق إنما هاجر في شهر ربيع الأول , الجواب من وجوه :
أولاً : طلب كفار قريش النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإتفاقهم على قتله وتوزيع ديته على عشائر قريش .
ثانياً : الإذن من عند الله عز وجل بالهجرة , ويحتمل هذا الإذن بالهجرة جهات :
الأولى : الإجمال في الإذن من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة ويترك له تعيين أوانها والجهة المقصودة في الهجرة والطريق الذي يختاره النبي صلى اله عليه وآله وسلم والصاحب في سفر الهجرة .
الثانية : الإجمال من جهة الزمان مع التعيين في الجهة والبلدة بالهجرة إلى مكة مع تعيين أوان الهجرة وجهتها وكيفيتها .
الثالثة : تفويض إختيار الزمان والمكان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : مجيء الأذن والأمر من عند الله بالهجرة مع تعيين أوانها ومسالك الطريق بفضل ولطف من الله عز وجل.
والصحيح هو الأخير أعلاه وهو من فضل الله ومكره الجميل في قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
ومن معاني وتفسير الآية أعلاه أن أبا جهل أخبر قريشاً في إجتماع لهم بدار الندوة بأن يتم إختيار غلام قوي العضلات، شديد البأس من كل قبيلة، ويعطى سيفاً صارماً، ليضربوا بها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ضربة واحدة، أي يكون إختيار هؤلاء من قبل رؤساء قريش ولا يجوز لكل قبيلة أن تختار واحداً منها , وهو غاية المكر والدهاء .
(فقال أبو جهل : والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره .
قالوا : وما هذا؟ قال : تأخذوا من كل قبيلة غلاماً وسطاً شاباً مهداً ، ثم يعطى كل غلام منهم سيفاً صارماً ، ثم يضربوه به – يعني ضربة رجل واحد – فإذا قتلتموه تفرق دمه في القبائل كلها ، فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلهم ، وإنهم إذا أرادوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه) ( ).
وكما أكدت آية البحث بأن الله مع المسلمين عند نزول المصيبة فان الله عز وجل هو الذي أذن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة وبالزمان والكيفية التي فيها أمور :
أولاً : نجاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة وفي الطريق إلى المدينة .
ثانياً : الصحبة المناسبة في السفر .
ثالثاً : تجلي وبيان معجزة لأهل مكة عامة وقريش خاصة وهي خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة في الوقت الملائم لنشر دين الإسلام.
رابعاً : القاء اليأس في قلوب الذين كفروا .
خامساً : بدء حال جديدة وانعطاف في تأريخ الإسلام بالهجرة النبوية المباركة وهو من مصاديق [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
سادساً : تحدي كفار قريش.
سابعاً : بيان عظيم قدرة الله عز وجل بأنه يحفظ نبيه وينجيه في أشق الأحوال.
ثامناً : إنذار قريش من اللحاق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتجهيز الجيوش لمحاربته.
المسألة الحادية عشرة : تقدير الجمع بين هذه الآية والآية السابقة : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فالمنافقون للكفر يومئذ أقرب منه للإيمان ) وفيه وجوه :
الأول : لقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة الحق وصاحبتها المعجزة العقلية والحسية للتخفيف عن الناس في مسالك الهداية مع جذبهم إلى مقامات الإيمان ، ومع الإيام الأولى للدعوة دخل أفراد من أهل البيت والصحابة الإسلام ، ليقابلوا بالشدة والإيذاء من كفار قريش.
وبعد جهد وجهاد ومشقة وعناء دخلت طائفة من الناس الإسلام ، وأنعم الله عز وجل على أجيال المسلمين بالأنصار الذين صاروا مأوى وملجأ للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين وأصبحت يثرب نواة المجتمع الإسلامي .
وليس ثمة فترة بينه وبين صيرورتها عاصمة دولة الإسلام ، وهي معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم تصبح عاصمة بعد مغادرته إلى الرفيق الأعلى ، إنما صارت عاصمة في السنوات الأولى لهجرته، وبما عجزت قريش عن مثله لنفسها في مكة.
فصارت المدينة عاصمة في أول سنة لقدومه لها ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) الجواب نعم ، فمن النصر صيرورة المدينة المنورة عاصمة دولة الإسلام ، وقد وقعت معركة بدر في اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة .
لقد أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام ليلة الهجرة أن ينام في فراشه ويتغطى ببرده الأخضر وأمره أن يؤدي الأمانات إلى أهلها لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع شدة أذى رؤساء قريش له , كان الناس يضعون أماناتهم عنده ، وقد اشتهر باسم الصادق الأمين ، وفي هذا الأمر دلالة على أن قريشاً لن يجهزوا على علي عليه السلام في فراشه .
وخرج النبي مهاجراً من بين يدي كفار قريش وهو يحثو عليهم التراب ويقرأ [وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ] ( ).
(روي أن ابن الكوا قال لعلي عليه السلام: أين كنت حيث ذكر الله أبا
بكر فقال: ” ثاني اثنين إذ هما في الغار” ؟ فقال عليه السلام: ويلك يا ابن الكوا كنت على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وقد طرح علي ريطته، فأقبل قريش مع كل رجل منهم هراوة فيها شوكها، فلم يبصروا رسول الله صلى الله عليه وآله فأقبلوا علي يضربوني حتى ينفط جسدي)( ).
ومع نصر المسلمين في معركة بدر وتوافد المسلمين إلى المدينة ورجوع الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمور الدين والدنيا ، وفي حلّ الخصومات والنزاعات , وإقامة الصلاة خمس مرات في اليوم في المسجد النبوي ومساجد أخرى في المدينة منها :
الأول : مسجد قُباء بضم القاف , وهو أول مسجد بني في الإسلام ، وفيه قوله تعالى [لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ] ( ) ويبعد عن المسجد النبوي خمسة كيلو مترا ، وفيه مبرك الناقة .
وكان كل أهل قباء يصلون فيه وأراد اثنا عشر رجلاً من المنافقين بناء مسجد ضرار .
وهل من موضوعية لآية البحث في فضح المنافقين في بناء مسجدهم وهدمه ، الجواب نعم ، إذ أن الآية تبين الحاجة إلى التصدي للذين نافقوا ومنعهم من بث مفاهيم الضلالة .
قال تعالى [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ] ( ).
ووردت النصوص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن المراد من المسجد الذي أسس على التقوى هو المسجد النبوي الشريف مع شأن ورفعة مسجد قباء وذكره في أسباب نزول آية المسجد الذي أسس على التقوى .
(عن أبي سعيد الخدري قال : اختلف رجلان رجل من بني خدرة ، وفي لفظ : تماريت أنا ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى . فقال الخدري : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال العمري : هو مسجد قُباء . فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك فقال هو هذا المسجد ، لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : في ذلك خير كثير ، يعني مسجد قباء .
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والزبير بن بكار في أخبار المدينة وأبو يعلى وابن حبان والطبراني والحاكم في الكنى وابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي قال : اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى . فقال أحدهما : هو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم . وقال الآخر : هو مسجد قباء . فأتيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألاه فقال هو مسجدي هذا) ( ).
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال (“صلاة في مسجد قُباء كعُمرة”.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزورُ مسجد قُباء راكبًا وماشيًا , وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما بناه وأسسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف، كان جبريل هو الذي عَيَّن له جِهَة القبلة) ( ).
الثاني : مسجد القبلتين : وهو مسجد بني سلمة وقيل نزل قوله تعالى [وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ] ( ) وهو في هذا المسجد فحّول القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام في صلاة الظهر في مسجد بني سلمة في شهر رجب قبل معركة بدر بشهرين ، وكأنها مقدمة لجهاد رؤساء الكفر الذين استحوذوا على الأمور في مكة وأشاعوا فيها عبادة الأوثان .
وعن (مجاهد وغيره : نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مسجد بني سلمة، وقد صلّى بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر فتحوّل في الصلاة واستقبل الميزاب،
وحوّل الرّجال مكان النساء , والنساء مكان الرجال فسمّي ذلك المسجد مسجد القبلتين) ( ) .وكان هذا في شهر رجب قبل معركة بدر بشهرين .
وجاءت بعض الأخبار بأن الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأستدار في صلاته إلى البيت الحرام وهو في المسجد النبوي وجاء الخبر إلى أهل قباء وهم في الصلاة فاستداروا أثناء الصلاة .
و(عن عمارة بن أوس الأنصاري قال : صلينا إحدى صلاتي العشي ، فقام رجل على باب المسجد ونحن في الصلاة ، فنادى أن الصلاة قد وجبت نحو الكعبة ، فحوّل أو انحرف أمامنا نحو الكعبة) ( ).
والمختار نزول آية تحويل القبلة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد النبوي ، وبلغ الخبر أهل مسجد القبلتين , وهم في الصلاة فاستداروا نحو المسجد الحرام ، وعن أبي سعيد المعلى قال (كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنمر على المسجد فنصلي فيه ، فمررنا يوماً ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعد على المنبر ، فقلت : لقد حدث أمر…! فجلست . فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {قد نرى تقلب وجهك في السماء}( ) حتى فرغ من الآية.
فقلت لصاحبي : تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنكون أول من صلى فتوارينا فصلينا ، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى للناس الظهر يومئذ إلى الكعبة)( ).
الثالث : مسجد الجمعة ، لقد وصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة في شهر ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة ، وأقام في قباء أربعة أيام حتى صباح يوم الجمعة فغادر قُباء ضُحى يوم الجمعة متوجهاً إلى المدينة وأدركته صلاة الجمعة في بطن وادي الرانوناء وإلى الأن هناك محلة في المدينة المنورة تسمى (رانوناء) .
فصلى الجمعة وسمي المكان (مسجد الجمعة ) ويبعد عن مسجد قباء نحو تسعمائة متراً ، كما يسمى مسجد الوادي ومسجد عاتكة ، ومسجد القبيب , وكان يسكنه بنو سالم بن عوف بن الأنصار.
وبني المسجد في ذات السنة وهي السنة الأولى للهجرة ثم أعيد بناؤه من الحجر عدة مرات حتى تمت توسعته ليستوعب نحو ستمائة مصلياً في الوقت الحاضر .
وتسميته بمسجد الجمعة هي الأولى ، ولا حاجة لكثرة الأسماء الأخرى بلحاظ إقتران هذه التسمية بأمور :
الأول : هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة .
الثاني : صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد .
الثالث : علة بناء المسجد هو صلاة النبي فيه .
الرابع : التذكير بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) .
ويقع مسجد الجمعة في جنوب غربي المدينة المنورة ويبعد عن المسجد النبوي (2300) م .
ثم توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مدينة يثرب يحمل معه معجزات بخصوص هذه المدينة , ونعم كثيرة منها :
الأولى : شيوع الإيمان في المدينة .
الثانية : إقامة صلاة الجماعة والجمعة في المدينة على نحو متصل ومن غير خوف وخشية من الظالمين .
الثالثة : بناء المسجد النبوي لتشع أنواره إلى أرجاء المعمورة إلى يوم القيامة ، وليس من حصر للنعم الإلهية المترشحة عنه .
الرابعة : توالي نزول آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها ما ينزل بها جبرئيل عليه السلام وهو في المسجد النبوي ، وحتى تلك التي يتلقاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو خارج المسجد النبوي فانه يتلوها فيه عند أداء الصلاة ، وفي غير الصلاة ، وهو من الإعجاز في وجوب التلاوة في الفرائض اليومية الخمسة( ) .
الخامسة : إرتقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنبر في المسجد النبوي لتلاوة الآيات وبيان الأحكام وتنمية ملكة الإيمان في النفوس ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو منهاج الأنبياء , والترغيب بالعمل الصالح وبيان عظيم ثوابه ، والزجر عن فعل القبائح , وبيان سوء عاقبتها وذكر قصص الأنبياء , والبشارة بالجنة , والإنذار من عذاب النار .
(عن النعمان بن بشير قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول : أنذركم النار ، أنذركم النار حتى سقط أحد عطفي ردائه على منكبيه) ( ).
إن صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قباء وصلاة الجمعة في الطريق منها إلى المدينة شاهد على إبتداء حال من الأمن والطمأنينة والسلامة من أذى كفار قريش ، وفيه بيان لقانون وهو إيلاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأولوية بعد الهجرة لبيان موضوعيتها في قواعد الإيمان وأدائها في أول وقتها ، وحرصه على صلاة الجمعة في حال الحضر والسفر .
الرابع : مسجد الغمامة : ويبعد هذا المسجد نحو خمسمائة متراَ من باب السلام للمسجد النبوي الشريف ، وهو آخر موضع صلى فيه النبي صلاة العيد ، كما صلى فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الإستسقاء .
وسمي مسجد الغمامة لأن غمامة كبيرة تغشت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أثناء صلاته وخطبته في المسجد .
وعن جابر بن عبد الله عن أنس بن مالك (أَن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم خرج إِلى المصلى ليستسقي، فبدأَ بالخُطْبَة، ثم صلى وكبّر واحدةً افتتح بها الصلاة، فقال: هذا مجمعنا ومستمطرنا ومدعانا لعيدنا ولفطرنا وأَضحانا، فلا يبنى فيه لبنة على لبنة ولا خيمة.) ( ).
الخامس : المساجد السبعة : وهي مجموعة مساجد صغيرة على جبل سلع عند موضع من الخندق الذي حفره المسلمون في واقعة الأحزاب وكأنها مواضع مرابطة لأصحابها يومئذ ، عدا مسجد الفتح وهو أكبرها , وكان مصلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنها مسجد الإمام علي عليه السلام وذكر أنه المكان الذي قتل فيه عمرو بن ود العامري , ومسجد فاطمة عليها السلام ومسجد أبي بكر ومسجد عمر بن الخطاب ومسجد سلمان الفارسي ، وهو صاحب الرأي بحفر الخندق وتلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله بالقبول لتكون هذه المساجد من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
وهي ستة مساجد ويعود إشتهارها بـ (السبع المساجد) لأحد أمرين :
الأول : كانت سبع مساجد واندثر أحدها ونُسي اسمه .
الثاني: ضم مسجد القبلتين لها ، والذي لا يبعد عنها سوى كيلو متر تقريباً .
والراجح هو الأول .
وفي تعدد المساجد في المدينة في أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسائل :
الأولى : بيان حقيقة إنتشار الإسلام وصيرورة أهل المدينة مسلمين .
الثانية : إدراك المسلمين لقانون بناء المساجد في محلات سكناهم .
الثالثة : إتخاذ المسلمين المسجد موضعاً للذكر وإقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابعة : التخفيف عن المسلمين وعدم حملهم على الحضور للمسجد النبوي خمس مرات في اليوم.
الخامسة : كشف المنافقين وإسقاط ما في أيديهم ليكون تعدد بناء المساجد من مصاديق قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] وكل مسجد يدعو الناس إلى الإيمان ونبذ الكفر ومفاهيم النفاق .
السادسة : ذات أداء الصلاة جماعة تنزيه للمسلمين من النفاق .
لقد أخبرت آية البحث بصيرورة المنافقين في أقرب إلى الكفر يوم معركة أحد منه للإيمان لأسباب الخوف والفزع وكثرة أفراد جيش المشركين فظن المنافقون أن المسلمين إنكسروا وخسروا المعركة فأظهروا نفاقهم ، ولكن المسلمين تلقوا مصيبة الخسارة في معركة أحد بالصبر وإدراك قانون وهو لزوم التقيد بسنن طاعة الله ورسوله ، وهذه الطاعة بذاتها نصر على النفس الشهوية وعلى الضلالة وعلى النفاق ومفاهيمه وأشخاص حملته ، وهي نوع طريق إلى النصر في ميدان المعركة ، ليكون من مصاديق الرحمة في قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
المسألة الثانية عشرة : تقدير الجمع بين آية البحث والآية السابقة وليعلم المؤمنين الذين يقولون بأفواههم ما في قلوبهم ).
ويدل ذم آية البحث للذين نافقوا في مفهوم المخالفة على تأكيد الثناء على المؤمنين , ويتجلى من وجوه :
أولاً : التباين بين المؤمنين والذين نافقوا في العلم بهم والكشف عنهم ، فمن إعجاز هذه الآيات أنها لم تقل أو ليعلم المؤمنين , وليعلم الذين نافقوا في آية واحدة ، إنما أفرد لكل منهما آية مخصوصة ليتدبر العلماء والمسلمون جميعاً في معاني ودلالات كل منهما .
ثانياً : من معاني الجمع بين الآيتين وجهان :
الأول : وليعلم المؤمنين الذين لم ينافقوا .
الثاني : وليعلم الذين نافقوا ولم يؤمنوا .
وفي التنزيل [قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ] ( ) وهل تعدد قوله تعالى [لِيَعْلَمَ]في الآيتين من استحالة إجتماع الضدين بلحاظ التضاد بين الإيمان والنفاق , الجواب لا ، لأن العلم سنخية متحدة وإن تعددت مصاديقه .
ثالثاً : لقد كان المسلمون يوم واقعة أحد في مصيبة وإبتلاء شديد ، وقد لا يفطن شطر منهم إلى ما يبثه المنافقون من الإشاعات وأسباب اليأس والقنوط .
فجاءت آية البحث لتحذير وتنبيه المسلمين ، قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً] ( ) وإن قلت إن واو العطف التي وردت في الآية أعلاه تدل على المغايرة إذ ذكرت الآية وبصيغة الذم أصنافاً وهم :
الأول : المنافقون .
الثاني : الذين في قلوبهم مرض .
الثالث : المرجفون في المدينة الذين يحثون المسلمين على القعود وعدم خروج في السرايا وإن خرجت سرية أشاعوا عنها الإنكسار والهزيمة والقتل والرجف هو الإتيان بأخبار متزلزلة لا حقيقة أو أمر ثابت .
المسألة الثالثة عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : أولما أصابكم يوم التقى الجمعان والله أعلم بما يكتمون ) .
وفيه وجوه :
الأول : ورود الخطاب في آية البحث إلى المسلمين مع بيان ما نزل بهم من الشدة والضرر في معركة أحد ، فلم يكن بينهم وبين الهزيمة من حاجز وبرزخ إلا فضل الله ووجود الرسول في صفوفهم ، ليكون تقدمه الجيش وثباته في المعركة حاجة للمسلمين والإسلام ، ووسيلة لنزول الملائكة للمدد والنصرة ، ويتجلى مصداق الصبر الذي ورد في قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ) بثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدد قليل من أهل بيته وأصحابه في ميدان المعركة ، ولم يغادروه مع شدة هجوم المشركين بعد ترك الرماة المسلمين لمواضعهم على الجبل طمعاً بالغنائم .
والذي يقول أن الملائكة لم ينزلوا في معركة أحد لأن المسلمين لم يصبروا ينفيه ثبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة وبه يصدق الثبات فهو أمة وإمام .
وفي إبراهيم عليه السلام ورد قوله تعالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً..]( ) ومن باب الأولوية أن ينال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذات الرتبة والصفة , فان قلت قد كان إبراهيم يدعو بمفرده إلى الله لم يكن معه أصحاب .
والجواب لقد بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي اليوم التالي أسلمت خديجة والإمام علي عليهما السلام , ودخل بعض الصحابة رضوان الله عليهم معهم , وكان يدعو قومه من قريش إلى الإسلام وأغلبهم يصدون ، قال تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ).
الثاني : إبتدأت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] ولكنه لا يعني الإستقلال عن لغة الخطاب في الآية السابقة وهو من الإعجاز والبيان في إبتداء الآية بحرف العطف الواو ، ليكون من معاني الآية أمور :
أولاً : توجه الخطاب في الآية إلى المسلمين وإرادة علمهم بما يقوم به المنافقون .
ثانياً : إقامة الحجة على المنافقين بذكر الآية لأفعال مذمومة صدرت منهم .
ثالثاً : جعل المنافقين ينشغلون باصلاح أنفسهم وستر حالهم .
رابعاً : بيان قانون الجزاء العاجل ، إذ تضمنت الآية السابقة الثناء على المؤمنين ، وجاءت آية البحث بذم المنافقين .
الثالث : إذا أراد الذين نافقوا كتم سوء فعلهم في معركة أحد سواء من جهة انسحابهم وسط الطريق أو إظهار الشماتة بالمؤمنين وما لاقوه من الجراحات أو حثهم المسلمين على القعود ، فان كلاً من آية البحث والسياق تفضحهم وتمنع من إخفاء قبيح ما فعلوه ، لتكون معاني [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] أعم من إخفاء المنافقين الكفر الذي يبطنون ، فيشمل سعيهم للتورية والكذب ، وإدعاء الإحسان ، قال تعالى في ذم المنافقين [فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا]( ).
المسألة الرابعة عشرة : لقد أختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] ليكون من معانيها بلحاظ آية السياق وجوه :
الأول : ما يخفيه المنافقون في صدورهم من الشماتة بالمؤمنين عند خسارتهم يوم أحد .
الثاني : قول المنافقين بأن الشهداء السبعين الذين رحلوا إلى الرفيق الأعلى في معركة أحد لو بقوا في المدينة ولم يخرجوا للقتال لما قتلوا وما ماتوا , فصحيح أن هذا القول أمراً ظاهراً وليس خفياً ومكتوماً إلا أنه يصدق عليه الكتم والإخفاء لتداولهم له في مجالسهم .
الثالث : قيام المنافقين بممالأة ومراءاة الذين كفروا .
الرابع : ظن المنافقين بأن خسارة المسلمين في معركة أحد ستضعفهم وستكون مقدمة لإجهاز الذين كفروا عليهم .
الخامس : إكتئاب المنافقين من بالنصر الذي ناله المسلمون في معركة بدر ، لقوله تعالى في آية السياق [قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا] ( ).
السادس : إمتلاء قلوب المنافقين بالغيظ والحقد لأن الذين كفروا لم يحققوا أي غرض من مقاصدهم الخبيثة في معركة أحد .
السابع : إدراك الذين نافقوا لعجزهم عن سلب المنافع والثمرات والمواعظ التي نالها المؤمنون من معركة أحد .
الثامن : إنطواء قلوب المنافقين على الأسى والحنق لأن بركات وثمرات النصر في معركة بدر حاضرة في معركة أحد ، وما بعدها من الأيام .
التاسع : مما يكتمه الذين نافقوا خشيتهم وأشفاقهم على أنفسهم بعد معركة أحد ، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عادوا إلى المدينة بأمان من جهات :
الأولى : نزول آيات من القرآن تفضح الذين نافقوا , ومنها آية البحث .
الثانية : توبيخ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمنافقين ، وذمه لتخلفهم عن نصرته ونصرة إخوانهم الأنصار .
الثالثة : إعراض المؤمنين عن المنافقين , والمؤمنات عن المنافقات في المعاملة والصلات ، وفي التنزيل [وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] ( ) .
الرابعة : غلظة المؤمنين على المنافقين وإجهازهم عليهم .
الخامسة : فضح عوائل المنافقين لهم ، وبيان سوء سرائرهم وما يقولونه في قلوبهم وداخل بيوتهم ، وفي التنزيل [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) .
العاشر : إرادة الذين نافقوا التشفي بالمسلمين سواء في معركة أحد أو غيرها من الوقائع والأحداث .
الوجه الثاني : صلة آية البحث بالآية قبل السابقة [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : جاءت الآية أعلاه وهي آية السياق في المقام بصيغة الجملة الخبرية ، وكذا آية البحث ، وهو من إعجاز القرآن بأن تأتي الأخبار المتعددة في الموضوع المتحد لبيان موضوعيته , فمعركة أحد مفصل في حياة المسلمين , وشاهد على قانون وهو بناء دولة الإسلام بالصبر والجهاد وتلقي الأذى ونبذ الظلم والإرهاب .
وفي ذكر وقائعها على نحو التفصيل دعوة للمسلمين للعمل بمضامين قوله تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ) وبين الخبر في آية البحث وآية السياق عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من وجوه :
أولاً : ذكر كل من الآيتين لوقائع معركة أحد .
ثانياً : ورود الدلالة على المصيبة في الآيتين .
ثالثاً : توجه الخطاب في الآيتين إلى المسلمين .
رابعاً : ورد اسم الجلالة في كل من الآيتين .
خامساً : عطف كل من الآيتين على الآية التي قبلها.
سادساً : إختتام كل من الآيتين ببيان عظيم قدرة الله .
سابعاً : كل من الآيتين ذكرت مادة ( قال ) وعلى نحو متعدد ، وسيأتي مزيد كلام في مادة الإفتراق .
أما مادة الإفتراق فمن وجوه :
أولاً : إبتدأت آية السياق بأداة الإستفهام الهمزة ثم جاءت الواو ، وقد تقدم أنها للعطف والإستئناف ( ).
وإبتدأت آية البحث بحرف العطف الواو في قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ].
ثانياً : التباين في العطف أعلاه فجاء في آية السياق خطاباً للمسلمين بخصوص المصيبة التي نزلت بهم يوم معركة أحد ، وجاء العطف في أول آية البحث للإخبار عن علم الله بالذين نافقوا وصيرورة وقائع معركة أحد مناسبة لهذا العلم والتعيين والذي يكون بمعنى الكشف والتبين والوضوح كي يحذر المسلمون من المنافقين .
ثالثاً: ذكرت آية البحث المنافقين وجملة من خصالهم وما ظهر منها في معركة أحد ، بينما ذكرت آية السياق المصيبة التي نزلت بالمسلمين يوم أحد لبيان قانون وهو أن الخسارة التي نزلت بالمسلمين في معركة أحد أصابت المنافقين أيضاً من جهات :
الأولى : نطق المنافقين بالشهادتين .
الثانية : إدعّاء المنافقين الإسلام ظاهراً .
الثالثة : نزول الأذى والضرر بعوائل وبيوتات الأنصار ، لذا جاء في الآية التالية في ذم قول المنافقين [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ) ليأتي معنى الأخوة بالنسبة للمنافقين على وجوه :
الأول : الأخوة النسبية .
الثاني : الصلة القبلية والإنتماء للأوس والخزرج ، كما في قوله تعالى [) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا] ( ).
الثالث : الأخوة في النفاق ، وإخفاء الكفر في ذات الوقت الذي يظهرون فيه الإيمان .
الرابع : أخوة المنافقين مع الذين كفروا ، قال تعالى [أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا]( ).
رابعاً : قد تقدم في مادة الإلتقاء ذكر كل من الآيتين لاسم الجلالة ، أما مادة الإفتراق في المقام فهي ورود اسم الجلالة مرة واحدة في آية السياق ومرتين في آية البحث .
خامساًً : عدد كلمات آية السياق هو ثمان عشرة كلمة ، وعدد كلمات آية البحث ثمان وعشرون كلمة .
سادساً : تذكر آية السياق المسلمين بنصرهم في معركة أحد بقوله تعالى [قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا] بينما تبين آية البحث حال المنافقين وتخاذلهم واصرارهم على القعود المقرون بالكذب والمغالطة بقولهم [لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ] ( ) أي لا يقع قتال مع جيش المشركين .
سابعاً : ورد في آية السياق الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قل] وذكرت قول وتسائل المسلمين [أَنَّى هَذَا] ووردت مادة القول في آية البحث على وجوه :
الأول : صيغة المبني للمجهول [قِيلَ لَهُمْ] .
الثاني : صيغة الفعل الماضي مع واو الجماعة [قالوا] .
الثالث : الفعل المضارع للجمع [يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ].
ثامناً : تضمنت آية السياق الإستفهام الإنكاري وبه أفتتحت ولم يأت استفهام في آية البحث .
تاسعاً : يتضمن الخطاب في آية السياق الثناء على المسلمين وإن جاء بصيغة الإستفهام الإنكاري لأن المصيبة التي نزلت بهم جاءت لجهادهم في سبيل الله ، وهو الذي تدل عليه آية البحث بقوله تعالى في ذم المنافقين [وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا].
عاشراً : أختتمت آية السياق بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] وفيه وعد ووعيد للمؤمنين بالنصر والظفر وتدارك أسباب المصيبة ووعيد للذين كفروا , ولم تمر بضع سنوات حتى تحقق كل منهما ، إذ تم فتح مكة , ولحوق الخزي والذل والعار بالذين كفروا .
الحادي عشر : تضمنت آية السياق الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[قل] وليس في آية البحث أمر ، ومن الإعجاز فيها حتى الدعوة إلى القتال فيها جاءت بصيغة القول [وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ].
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : أولما أصابتكم مصيبة ليعلم الذين نافقوا ) وفيه وجوه :
الأول : لقد بينت الآية السابقة أن ما أصاب المسلمين إنما هو باذن الله عز وجل ، ولو شاء سبحانه لم نزلت بالمسلمين خسارة يوم معركة أحد مما يستقرأ منه أن هذه المصيبة رحمة وسبب للفوز بالثواب العظيم .
ومن خصائص الحياة الدنيا تبدل حال الفرد والجماعة فيها ، قال تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ) ومن ضروب تداولها بين الناس ، ومن ضروب ضعف الإنسان عجزه عن تعاهد منزلته وشأنه الحسن أو تغيير سوء حال أو مرض وداء مستعص وأستقرأ من الآية أعلاه قول الدهر يومان ، يوم لك ويوم عليك، ومن المحال دوام المحال ويوم لك ويوم غد لغيرك، ويغزو الإنسان الشيب والكبر حتى يدركه الموت .
ومن إعجاز الآية أعلاه تقييد تداول الأيام بين الناس على نحو التعيين، مما يدل على خروج ملة التوحيد عن هذا التداول والتغير والتبدل والتبديل، فأنزل الله عز وجل القرآن لتبقى آياته وأحكامه في الأرض إلى يوم القيامة، وهل واقعة بدر وأحد من مصاديق الآية أعلاه وتداول الأيام فيها بين الناس، الجواب نعم ، فقد كانت كل منهما نصراً وعزاً للمسلمين ، وهواناً وضعفاً للمشركين .
ولا عبرة بقول أبي سفيان حين صرخ بأعلى صوته في أخر ساعة من معركة أحد حين أراد الإنصراف من المعركة :
أنعمت فعال … إن الحرب سجال
يوم بيوم بدر … أعل هبل) ( ).
وقال حنظلة بحنظلة ألا إن الأيام دول .
فلم يعل هبل في معركة أحد ، بل كانت كلمة الله هي العليا يومئذ ، لذا رد عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمر باجابته في ذات الوقت بما يخزيه ، وكأن آية السياق تقول للمسلمين : قد نجوتم من آثار المصيبة وبقيت الأيام لكم ، وعدتم إلى المدينة وفي رحلكم رسول الله ومعكم آيات القرآن تترى بالنزول .
لقد صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه صلاة الظهر قاعداً وفيه شاهد على سلامتهم من تحول الريح والدولة ، نعم لقد دارت الأيام على المشركين والمنافقين في معركة أحد ، أما المشركون فأنهم رجعوا بخفي حنين وسقط ما في أيديهم , وتجلى لأهل مكة والمدينة والقبائل العربية أن الإسلام دين الله في الأرض .
وصار المسلمون أقوى من أن يقهرهم الذين كفروا أو يزيحوهم عن منازل العز والرفعة التي جعلهم الله فيها والتي تتبين مصاديقها بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وإقامة الفرائض والتقيد بأحكام الحلال والحرام والمبادرة إلى العمل الصالح ، قال تعالى [كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( ).
الثاني : بيان قانون وهو أنه عند الشدائد تنكشف بواطن النفوس ويظهر الإنسان ما في خلجات نفسه ، وما يرغب فيه وما يخشاه ، ووقعت معركة أحد ولم يمض على هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ثلاث سنوات ، وهي مدة قصيرة بخصوص بناء صرح عقائدي وتأسيس نظام حكم ومجتمع متجانس في عمله لولا العناية والفضل من عند الله ، قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ] ( ).
ليكون من معاني خاتمة آية البحث [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ]أي أن الله عز وجل يبتلي المسلمين بالخسارة ليظهر المنافقون خداعهم ويفصحون عن شكهم وضلالتهم ، لتكون هناك ثمرات ومنافع للمسلمين تصاحب الخسارة التي تلحقهم .
الثالث : من معاني الجمع بين الآيتين عدم إنحصار كشف المنافقين بيوم واقعة أحد ، إنما يشمل وجوهاً :
أولاً : مقدمات معركة أحد .
ثانياً : حال المنافقين بعد نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وعجزهم عن إظهار ما يبطنون من الكفر ومفاهيم الشرك .
ثالثاً : إيلاء المنافقين أهمية خاصة لتهديد ووعيد الذين كفروا بعد معركة بدر وبعثهم الأخبار لإرادة الثأر والإنتقام لقتلاهم يومئذ .
رابعاً : إنخزال وخذلان المنافقين في الطريق إلى معركة أحد .
خامساً : كيفية تلقي المنافقين إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
سادساً : سعي المنافقين لصد المسلمين عن القتال .
سابعاً : إظهار المنافقين الشماتة عند نزول المصيبة بالمسلمين في معركة أحد .
ثامناً : حديث المنافقين بعد معركة أحد عن قوة المشركين وعودتهم للقتال مرة أخرى .
ومن خصائص المنافقين إخفاء الشر والجحود فكانت معركة أحد مناسبة لإظهارهم الشر والغيظ والبغضاء للمؤمنين .
الوجه الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إبتدأت آية السياق بألف الإستفهام لدعوة الناس للإصغاء وجذب أسماعهم لما بعد الإستفهام إذ تطل علينا بعده مقارنة وبيان للتضاد بين المؤمنين الذين حرصوا على اتباع رضوان الله وبين الكفار الذين أصروا على الجحود والإقامة على الضلالة وعبادة الأوثان .وذكرت آية البحث المنافقين , ويحتمل نعتهم ونسبتهم بلحاظ آية السياق وجوهاً :
الأول : يلحق المنافقون بالذين كفروا .
الثاني : نطق المنافقين بالشهادتين واقية من نعتهم بالكفر على نحو الإطلاق .
الثالث : حال المنافقين أنهم برزخ ووسط بين الذين يتبعون رضوان الله وبين الذين كفروا .
والصحيح هو الأول إذ أن المنافقين يلحقون بالذين كفروا لذا جاء قوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ..] ( ) .
ومن إعجاز القرآن وجود آيات تجمع في الوصف والذم الكفار والمنافقين ، ومنه آية السياق لأنها لم تحصر الذم بالكفار إنما ذكرت الذين باءوا بسخط من الله وهو أعم ليشمل المنافقين .
المسألة الثانية : إبتدأت آية السياق بالإستفهام والسؤال وذكرت فريقين بينهما تضاد :
الأول : المؤمنون الذين اتبعوا رضوان الله , واجتهدوا في طاعته , وفازوا برحمته وإحسانه , قال تعالى[وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الثاني : الذين باءوا بسخط وغضب من الله عز وجل .
ليكون من معاني العلم في المقام إلى جانب الكشف والوضوح استحقاق المنافقين للعقاب ونزول البلاء بهم ، فمن خصائص آية البحث أنها إنذار ووعيد للمنافقين .
لقد كانت واقعة أحد مناسبة للعلم بالذين إتبعوا رضوان الله من المهاجرين والأنصار الذين خرجوا تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دفاعاً عن النبوة والتنزيل , ولإزاحة مفاهيم الكفر عن النفوس والمجتمعات، قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ]( )، لبيان قانون وهو أن إتباع رضوان الله مرتبة سامية وباب للفوز بالعفو من الله والرزق الكريم، وهل آية البحث من هذا الرزق أم أن القدر المتيقن منه هو الرزق المادي من المال والجاه وصحة الأبدان ونحوها .
الجواب هو الأول، فكل آية قرآنية هي رزق كريم في ذاتها وتلاوتها ومضامينها، إذ تبين آية البحث خداع ومكر المنافقين، وتحذر منهم، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ]( ).
المسألة الثالثة : من مفاهيم الجمع بين الآيتين ترغيب المنافقين بالتوبة والإنابة وبعثهم على السعي في الصالحات وبذل الوسع في طاعة الله وطاعة رسوله لدلالتها على الإخبار عن رفعة وعلو شأن المؤمنين , وعلى جذب الناس إلى الهدى والإيمان ، ومن معاني قوله تعالى : أفمن اتبع رضوان الله وجوه :
الأول : يا أيها الناس اتبعوا رضوان الله .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا اتبعوا رضوان الله .
الثالث : يا أيتها النساء اتبعن رضوان الله .
الرابع : يا أيها الذين نافقوا توبوا إلى الله واتبعوا رضوانه .
وتبين آية السياق الثواب الذي فاز به المؤمنون بلحاظ أن الثناء عليهم ذاته ثواب عظيم .
وهل في مفهوم قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] ثناء على المؤمنين ، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في آية البحث بأن تأتي البشارة في ثنايا الإنذار مع التباين الجهتي ، ويأتي المدح في طيات الذم مع التباين والإختلاف بين الجهة التي ورد فيها الذم على نحو الذكر والتعيين ، وبين الجهة والفرقة التي ورد الذم بخصوصها .
وجاءت آية السياق للبيان وأن المؤمنين ينصرهم ويمدهم الله لأنهم أخلصوا في طاعته ، أما المنافقون فقد أضروا أنفسهم وباؤا بسخط الله لعنادهم وإستكبارهم وإختيارهم حياة الدعة والتواطئ مع الذين كفروا باللسان أو الفعل أو الإعراض عن نصرة الحق والتنزيل .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : أفمن اتبع رضوان الله ليعلم الذين نافقوا).
لقد جاءت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في زمان شاعت فيه عادات الجاهلية وإعتاد الناس على مفاهيم الوثنية ، وليس من السهل الأخذ بأيديهم نحو التوحيد ومبادئ الحق ، فجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , بهذه الرسالة مع حملهم على أداء الفرائض والعبادات ليحتاج معه مدداً وعوناً من عند الله ، فكانت الآيات والمعجزات العقلية والحسية مصاحبة له ، لتتجلى معجزات متعددة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام منها :
الأولى : تلقي طائفة من الناس الدعوة النبوية بالقبول والتصديق فتفضل الله عز وجل وخلّدهم في القرآن من وجوه :
أولاً : تسميتهم بالمهاجرين والأنصار والشهادة لهم بالسبق بالهداية والإسلام لبيان ما لهذا السبق من موضوعية وما يترشح عنه من الفخر والعز، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ] ( ).
ثانياً : الثناء على المؤمنين في آيات القرآن .
ثالثاً : الفصل والتمييز بين المؤمنين والذين كفروا .
رابعاً : بيان قانون تنزه المؤمنين من النفاق .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها دليل ومصداق لكل وجه من الوجوه أعلاه ليتجلى قانون وهو مجئ الآية القرآنية في موضوع لتتضمن معاني ودلالات في مواضيع وأحكام متعددة لتقتبس منها المواعظ والدروس ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] ( ).
الثانية : تحلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأعلى مراتب الصبر ، وتحمله الأذى من قومه أي أن سنخية صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم معجزة حسية له , وأمارة على صدق نبوته .
الثالثة : وجود أمة من المهاجرين والأنصار يحيطون بالنبي في السراء والضراء ، ويتبعون أوامره لتسليمهم بأن الذي ينزل عليه وحي من عند الله عز وجل ، وهذا التسليم مدخل للنصر والغلبة على الذين كفروا ، وهو من مصاديق اتباع رضوان الله الذي تذكره آية السياق .
إن وجود المؤمنين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة على المنافقين ودعوة لهم للكف عن النفاق والرياء وإشاعة الشك والريب بين أهل المدينة لصد المسلمين عن الدفاع ، وهذا الكف حاجة لأن العدو أصبح على أطراف المدينة ولا يريد إلا القتال والفتك والبطش .
لقد قاتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والمهاجرون في معركة أحد قتالاً شديداً وتلقوا الجراحات وسقط سبعون شهيداً منهم .
لتكون كل قطرة دم وكل جرح أصابهم حجة على المنافقين وفضحاً لهم، وهو من مصاديق التضاد والتباين الذي تذكره آية السياق .
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : أفمن اتبع رضوان الله بالإيمان كمن باء بسخط من الله بالنفاق ).
تتضمن آية البحث التخويف والوعيد للمنافقين إذ أنهم يسعون للإضرار بالمؤمنين وأبى الله سبحانه إلا نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، قال تعالى[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ).
ومن نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين آية البحث ، فهي نصر وطريق إلى النصر ، وهذا النصر على وجوه :
الأول : النصر على النفس الشهوية والغضبية .
الثاني : إحتراز المسلمين من النفاق ومصاديقه .
الثالث : فضح المنافقين .
الرابع : ذكر وتعيين أفعال مذمومة وقبيحة للمنافقين .
الخامس : آية البحث مقدمة للنصر على الذين كفروا لما فيها من الحيلولة دون إنتشار مفاهيم النفاق .
السادس : تزجر آية البحث المسلمين والناس جميعاً عن النفاق ، وهل آية البحث من سخط الله الذي تذكره آية السياق ، الجواب نعم ، لما فيها من ذم المنافقين لقعودهم عن القتال ودلالتها التضمنية على تعدي وزحف الذين كفروا لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
لقد انقضت واقعة أحد في ساعات من نهار يوم النصف من شوال من السنة الثالثة للهجرة ، ورجع الذين كفروا خائبين ، ولكنهم لم يخسروا المعركة كتلك الخسارة التي لحقتهم في معركة بدر ، فجاءت آية البحث لتزيد من خيبتهم ومن خسارتهم لأنها تمنعهم من الإنتفاع من النفاق وأهله .
لقد كان الذين كفروا من قريش يأملون بعلو صوت المنافقين في المدينة بعد معركة أحد , كما قال أبو سفيان عند الإنصراف من المعركة في ذكر حال الرماة يوم أحد وتركهم مواضعهم ، قال ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقامهم في موضع ثم قال : احموا ظهورنا ، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا ، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا . فلما غنم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأبا عسكر المشركين انكفأت الرماة جميعاً فدخلوا في العسكر ينتهيون ، والتفت صفوف المسلمين فهم هكذا وشبك بين يديه والتبسوا .
فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخل الخيل من ذلك الموضع على الصحابة ، فضرب بعضهم بعضاً والتبسوا ، وقتل من المسلمين ناس كثير وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة ، وجال المسلمون جولة نحو الجبل ولم يبلغوا حيث يقول الناس : الغاب . إنما كانوا تحت المهراس ، وصاح الشيطان قتل محمد فلم يشك فيه أنه حق .
فما زلنا كذلك ما نشك أنه قتل حتى طلع بين السعدين نعرفه بتكفؤه إذا مشى ، ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصبنا فَرَقِيَ نحونا وهو يقول : اشتد غضب الله على قوم دموا وجه نبيهم ، ويقول مرة أخرى . اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا حتى انتهى إلينا ، فمكث ساعة فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل : أعل هبل أعل هبل) ( ) .
فجاءت آية البحث لإحباط المنافقين وجعل صوتهم يخفت في المساجد والمنتديات العامة ، وأن تكلموا بصيغة الحسد والجحود فان المسلمين يعلمون مقاصدهم الخبيثة فلا يضر المنافقون إلا أنفسهم ، ليكون من إعجاز آية البحث منع وجود طائفة في المدينة تنصر الذين كفروا وهي تعيش بين ظهراني المسلمين .
وترى الدول والجيوش في هذا الزمان تولي عناية فائقة للحصانة من عيون العدو ، ومما يسمى الطابور الخامس ومروجي الإشاعات وينفقون الأموال ويوظفون الرجال للتصدي له ، ليكون من الإعجاز الغيري للقرآن مجئ آية منه تمنع من وجود هذا الصنف من الناس , آية من عدة كلمات تكون حرباً ووعيداً للمنافقين ، وجاءت آيات أخرى بانذارهم وقرب نزول العقاب بهم، قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : أفمن أتبع رضوان الله وقيل لهم قاتلوا في سبيل الله أو أدفعوا ).
لقد تضمنت آية البحث القول إلى المنافقين بالدفاع والبعث إلى النفير حين وصل الذين كفروا إلى أطراف المدينة لإرادة القتل والفتك بالمؤمنين ومن الآيات في هذا الزمان صيرورة جيل أحد جزء من المدينة ومحلاتها لبيان الخطر الذي أحدق بالمدينة بوصول الذين كفروا إليها .
ولا يختص القول بالدفاع في توجهه بالمنافقين إنما هو عام يشمل المسلمين جميعاً من غير أولي الأعذار ، ولكن الآية ذكرت المنافقين لإرادة توبيخهم وتبكيتهم ولاقامة الحجة عليهم بالخروج الفعلي للمؤمنين إلى القتال وهو الذي يدل عليه قوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
فان قلت لم تذكر الآية أعلاه الدفاع إنما ذكرت القتال ، والجواب من جهات :
الأولى : النسبة بين القتال والدفاع هو العموم والخصوص المطلق فكل دفاع هو قتال وليس العكس .
الثانية : إخبار الآية أعلاه عن خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بيته ومن عند أهله وأزواجه مما يدل على الإضطرار للقتال لتعدي الذي كفروا .
الثالثة : دلالة الآية بالدلالة الإلتزامية على كره النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقتال ، وعلى ميله لأن يعيش الناس حياة الدعة والأمن والسكينة مع الأهل وإقامة الشعائر والجهاد التعبدي لتثبيت معالم الإيمان في الأرض ، وهذا الجهاد بالدعوة إلى الله ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) .
الرابعة : موضوع الدعاء في صرف القتال عن المسلمين في تحقيق النصر على الأعداء ، وكان الدعاء سلاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر ومعارك الإسلام اللاحقة لها .
الخامسة : بيان عز المؤمنين وبلوغهم درجة الدفاع بالسيف عن الإسلام والنبوة والتنزيل ، وهو من مصاديق تسميتهم في الآية بالمؤمنين .
السادسة : تتضمن الآية أعلاه الكفاية بالمؤمنين والغنى عن المنافقين ، وأنهم حتى إذا تخلفوا عن القتال فلن يضروا المسلمين في دفاعهم ، ولم تقل الآية (تبوئ للمسلمين ) لبيان أن الذي يقاتل دفاعاً عن الإسلام هو مؤمن ، وأن المنافقين إذا دعّوا إلى القتال تخلفوا عنه .
السابعة : حث المنافقين على التوبة ، وعلى المبادرة إلى الخروج لسوح الدفاع عن الإسلام ، ليكون تقدير آية البحث وفق مضامين آية [وَإِذْ غَدَوْتَ] وإذا قيل لكم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو أدفعوا اتخذتم مقاعد للقتال .
المسألة السابعة : لقد تقدمت آية السياق في نظم القرآن وترتيب آيات سورة آل عمران لتتضمن الإنذار من سخط الله عز وجل الذي يأتي بسبب أمور :
الأول : الكفر .
الثاني : الإمتناع عن طاعة الله ورسوله .
الثالث : التهاون والتكاسل عن أداء الواجبات العبادية .
الرابع : الجحود بالنبوة والتنزيل .
الخامس : الإمتناع عن الفواحش وفعل السيئات .
السادس : النفاق وإخفاء العبد الكفر في ذات الوقت الذي يدعي فيه الإسلام .
السابع : صد المؤمنين عن عبادة الله وطاعة الرسول ، وفي التنزيل [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ] ( ) وتبين آية البحث مسألة وهي عدم إكتفاء المنافقين باخفاء الكفر إنما سعوا في اشاعة القعود ، وحرضوا المؤمنين خاصة الأنصار على القعود وعدم الدفاع عن الرسول والقرآن وعن أنفسهم أيضاً .
فقد توجه لهم الأمر والنداء والطلب والسؤال بلحاظ أن الأمر من العالي إلى الداني , والطلب من المساوي ، والسؤال من الأدنى ، كل واحد يقول لهم دافعوا وجاهدوا وهذا الدفاع بقصد القربة إلى الله وطلب لمرضاته ، وليكونوا ممن ذكرتهم آية السياق بقوله تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ] ( ) ولكنهم إختاروا الإقامة على العناد والجحود بما يستحقون معه السخط من الله ونزول غضبه ، قال تعالى [لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ] ( ).
المسألة الثامنة : ليعلم الذين نافقوا مأواهم جهنم وبئس المصير)
من كنوز القرآن التي يحتاج إليها الناس لغة البشارة والإنذار فيه وجعلها الله قريبة منهم ينهلون منها كل يوم ، وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة للقرآن خمس مرات في الصلاة اليومية لتبعث آيات البشارة الغبطة والشوق إلى النعيم الدائم في نفس القارئ والسامع ، وتبعث آيات الإنذار الفزع والخوف في النفوس ، وتدعو كل آية من القرآن إلى الإخلاص في عبادة الله ونبذ الرياء والنفاق .
وقد تأتي الآية جامعة للبشارة والإنذار في ذات منطوقها ومنه آية السياق إذ أنها تذكر المؤمنين الذين يجتهدون في طاعة الله ويحرصون على اتباع رضوانه في حال السلم والحرب والرخاء والشدة ، وتذكر الذين إختاروا الكفر والجحود ، ثم ذكرت الذين حلّ بساحتهم سخط وغضب الله بكفرهم ونفاقهم .
ولم تقل آية السياق (وبئس المرجع) إنما قالت [وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]وبينهما عموم وخصوص مطلق ، فكل مصير هو مرجع وليس العكس ، وباء أي رجع يقال باء بالشئ أي رجع به ، وقيل المصير هو الصيرورة إلى مصير وحال تخالف ما كان عليه من حال , وأما الرجوع فقد يكون إلى ذات الحال، وقوله تعالى [باء] في آية السياق أعم من الرجوع إذ يشمل إستحقاق سخط الله وحلوله ونزوله بالفرد والجماعة من الذين كفروا والمنافقين .
المسألة التاسعة : تقدير الجمع بين الآيتين : قالوا لو نعلم قتالاً لأتبعناكم مأواهم جهنم وبئس المصير ) .
لقد إبتدأت آية السياق بالثناء على المؤمنين لإتباعهم رضوان الله ، وتحليهم بالصدق في طاعته وطاعة رسوله ، ومن خصائص الإيمان الإقرار بالقلب لله بالربوية وللنبي بالرسالة والتصديق بنزول القرآن من عند الله من غير مخالطة شك أو وهم ، ليدل ذم المنافقين في خاتمة آية البحث [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] على علم الله عز وجل بامتلاء قلوب المؤمنين بالإقرار بالربوبية والتصديق بالنبوة , ونزول القرآن من عند الله عز وجل .
لقد تضمنت بداية آية السياق في مفهومها ذم المنافقين لإصرارهم على التخلف عن مقامات الإيمان ، وإمتناعهم عن طاعة الله ورسوله .
هذا الإمتناع الذي تجلى بوضوح في دعوتهم إلى القتال دفاعاً في سبيل الله عز وجل , ومحاربة مفاهيم الشرك وعبادة الأوثان التي جاءت مع جيش الذين كفروا من قريش , فعندما رجع عبد الله بن أبي بن أبي سلول بثلث جيش المسلمين في الطريق إلى معركة أحد تبعهم عبد الله بن حرام الأنصاري وسألهم الرجوع إلى الجيش وعدم خذلان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنهم أنكروا حدوث قتال بين الفريقين ، بينما كان سبب رجوعهم هو رجحان قتل أنفسهم في المعركة ، إذ كان رأس النفاق ينادي فيهم (يا قوم علام نقتل أنفسنا)( ).
لبيان التضاد حتى في قول المنافقين ولا ينحصر التضاد بين قولهم وفعلهم ، نعم هذا التضاد القولي مرآة وشاهد على التضاد والتباين بين إعلانهم الظاهري وكفرهم الخفي الذي تكون السنتهم مظهراً له ،ومن معاني الجمع بين الآيتين استحقاق الذين نافقوا العذاب الأليم بأمور :
الأول : النفاق والصدود القلبي عن الدعوة إلى الله .
وفي ذم المنافقين قال تعالى[اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( )، أي أن عبد الله بن أبي بن أبي سلول وأصحابه المنافقين إتخذوا دخولهم الإسلام وحلفهم كذباً جنة وواقية لعصمة دمائهم إذ أنكروا توعدهم المؤمنين، بعد أن قام زيد بن أرقم وهو يومئذ غلام بنقل قولهم[لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ]( )، والجُنة، الستر والغطاء الحاج من الأذى .
(ومنه قول الأعشى ميمون .
إذا أنت لم تجعل لعرضك جنة … من المال سار الذم كل مسير)( ).
الثاني : الجفاء والكذب في إجابة دعوة الجهاد , وقد أخبر القرآن عن شهادة الله عز وجل بكذب وزيف ما يدّعي المنافقون بقوله تعالى[وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ]( ).
الثالث : التخلية بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مع قلة عددهم والنقص في أسلحتهم , وبين جيش الذين كفروا مع كثرتهم وكثرة رواحلهم وأسلحتهم .
الرابع : إرادة الذين نافقوا بعث اليأس في نفوس المسلمين ، فجاءت آية البحث في ذم المنافقين لزجر المسلمين عن الإنصات لهم , ومنع اليأس والقنوط من الوصول إلى نفوس المسلمين ، قال تعالى [لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( ).
وصحيح أن آية السياق لم تذكر المنافقين على نحو الخصوص في الرجوع بسخط الله , ولكنها تشملهم من جهات :
الأولى : مجئ آية البحث بذم للذين نافقوا .
الثانية : إبتداء آية البحث بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] والذي يتضمن التخويف والوعيد لهم خاصة وأنه جاء بعد اختتام الآية السابقة بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ليفيد الجمع بينهما الإخبار عن التضاد والتنافي بين الفريقين .
ويتجلى هذا التنافي بخروج المؤمنين للقتال والدفاع في سبيل الله ، وإصرار المنافقين على الإمتناع عن القتال بذرائع واهية.
الثالثة : تدل آية السياق وفق قاعدة السبر والتقسيم على أن الذي لا يتبع رضوان الله يبوء ويرجع بغضب وسخط من الله عز وجل ، إذ ليس من برزخ بين الفريقين ، وكما تدل عليه عاقبة الناس في عالم الآخرة ، فاما إلى النعيم الدائم أو إلى العذاب في نار جهنم .
المسألة العاشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : ومأواهم جهنم والله أعلم بما كانوا يكتمون).
لقد جعل الله عز وجل الدنيا دار إبتلاء وإمتحان ، وتفضل سبحانه ورزق الإنسان العقل وينزه به عن عالم الخلائق في الدنيا من الحيوان والنبات والجماد ، ومن رحمته تعالى أنه جعل كل موجود في الدنيا آية تدعو الإنسان إلى عبادة ربه لتحيط الآيات بالإنسان من فوقه .
ومن تحته ومن جوانبه الأربعة ثم تخاطبه الآيات من نفسه وذاته , وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ) ، لتدل الآية أعلاه على أن الحق جلي , وواضح للناس لتكون الآية أعلاه حجة على المنافقين، وجاء زحف وأصرار الذين كفروا على قتال المسلمين حجة حسية ظاهرة، ودعوة للمنافقين لهجران النفاق , ونفرة ولفظ نفوسهم له، لذا فإن قوله تعالى في آية البحث[وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا]( ) بعث للحمية والهمة في نفوسهم .
ترى هل يقر المنافقون بوجود جنة ونار، أو لا، فيشمله قوله تعالى[وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ]( )، لقد أخبرت آية البحث عن الجواب بالدلالة التضمنية بقوله تعالى[هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ]( )، ليكون من معاني آية البحث إنذار المنافقين والناس جميعاً من النار وشدة العذاب فيها، أما المنافقون فتجب عليهم التوبة والإنابة، وأما الناس، فإن الآية تحذرهم من المنافقين وتدعوهم لإجتناب أخلاق النفاق، فمع عدم وجودهم ومحو أثرهم يخشى الذين كفروا الهجوم على المدينة المنورة، ويتجنبون التعدي على النبوة والتنزيل .
وفي الدعوة إلى الإيمان بالمعجزة والبراهين القاطعة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشاهد بأن الإسلام ونشر مبادئه لا يستلزم السيف ، ولا يحتاج إلى القتال والحروب بدليل أن معارك الإسلام الأولى كانت للدفاع وتدل عليه آية البحث بقوله تعالى[تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ..]( ).
المسألة الحادية عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : وليعلم الذي نافقوا وبئس المصير ).
تقدير أول آية البحث : وليعلم الله الذين نافقوا ) بلحاظ كبرى كلية وهي تلاقي الجيشين في ميدان المعركة مناسبة للعلم بالمؤمنين الذين يذبون عن النبوة والإسلام ، وكشف الذين يدعون الإسلام كذباً وزراً .
ويمكن تقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : ليعلم الذين آمنوا بئس المصير الذي ينتظر المنافقين
في الآخرة فيصبرون على أذاهم .
الثاني : ليعلم أهل الكتاب بئس مصير الذين نافقوا ،فلا يركنوا إليهم ولا يظنوا أن لهم شاناً في الإسلام .
الثالث : ليعلم الناس بئس المصير الذي يرجع إليه الذين نافقوا فيمتنعون عن النفاق وتنفر نفوسهم من أهله .
الرابع : ليعلم الذين نافقوا بئس المصير في الآخرة على نفاقهم وكذبهم وتخلفهم عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
المسألة الثانية عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : ليعلم الذين نافقوا هم للكفر أقرب منهم للإيمان ).
تبين كل من آية البحث وآية السياق التضاد من جهات :
الأولى : التضاد بين الإيمان والكفر .
الثانية : التضاد بين الذين آمنوا والذين كفروا .
الثالثة : دلالة قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) في الآية السابقة على حدة التضاد بين المؤمنين والذين كفروا .
الرابعة : تجلي التضاد بين الفريقين بآية البحث وقوله تعالى [هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ] ليكون هذا القرب حجة على المنافقين في الدنيا والآخرة من جهات :
الأولى : الآية حجة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الذين نافقوا .
الثانية : الآية حجة للمهاجرين والأنصار على الذين نافقوا .
الثالثة : الآية حجة للناس على الذين نافقوا .
الرابعة : إقامة الآية الحجة على الذين نافقوا عند أنفسهم من وجوه :
الأول : الحجة الشخصية عند المنافق على نفسه إذ أن آية البحث تجعله يدرك ضلالته .
الثاني : تجلي الحجة للمنافق بأشخاص أصحابه من جهة التباين بين قولهم وسوء ما يبطنون ، والذي يظهر على ألسنتهم أيضاً ، فلا يعني النفاق بقاء الكفر في النفس خفياً عن الناس، إنما يظهر أحياناً على ألسنتهم أيضاً عند الخوف والطمع وإرادة إعانة الذين كفروا والإضرار بالمسلمين .
الثالث : قيام الحجة عند المنافقين على رؤسائهم وكيف أنهم يدعونهم للصدود عن المعجزات الباهرات ، والعزوف عن الدفاع ضد جيش الذين كفروا .
الرابع : تبيان الحجة عند المنافقين على أنفسهم مجتمعين في قبيح فعلهم ، وهل هذا التبيان الذاتي من رشحات ومصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( )الجواب نعم .
فمن خصائص القرآن أنه يكشف للناس ما يكنون في أنفسهم من الإيمان أو ضده ، ويهديهم لسبل إصلاح النفوس وتهذيب المنطق ، وآية البحث حرب على النفاق من يوم نزولها وإلى يوم القيامة ودعوة للتقوى والرشاد والتبرء مما فعله المنافقون من الصدود عن سبيل الله ، وبث الأراجيف والإشاعات الضارة التي لا أصل لها .
الشعبة الثانية : صلة هذه الآية بالآيات المجاورة التالية، وفيها وجوه :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بالآية التالية [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ).وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تبين آية البحث والآية التالية خصالاً للمنافقين في ساعة الشدة , ومنه دنو ساعة ملاقاة العدو الذي جاء معتدياً مصراً على القتال ، ومنها :
الأول : يدل قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] ( ) على تنزه المؤمنين من النفاق وان هناك تضاداً بينهم .
الثاني : لما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين قدوم جيش المشركين للقتال في معركة أحد، وصيروتهم على مشارف المدينة ، أعلن النفير , وندب المسلمين للقتال ، وذكرت آية السياق حال المنافقين حينئذ ، إذ اعتذروا , وقالوا لا يقع قتال بين المسلمين والذين كفروا ، ولو كنا نعلم بوقوع قتال لما خلّينا بينكم وبين العدو , وصدور هذا الفعل والقول من عدو الله ورسوله عبد الله بن أبي بن أبي سلول إذ إنخزل بثلث الجيش في موضع يسمى الشوط بين المدينة وأحد .
واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام من بني سلمة وهو ابو جابر بن عبد الأنصاري وقال لهم (يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضرهم عدوهم . قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، ولكن لا نرى أن يكون قتال) ( ) .
ليكون تقدير خاتمة الآية السابقة وأول آية البحث ليعلم المؤمنين الذين وقفوا في معركة أحد للقتال تحت لواء النبوة , ويعلم المنافقين الذين رجعوا وسط الطريق .
الثالث : توجه القول للمنافقين أن كثروا سواد المسلمين وادفعوا وأنصروا المدافعين عن الملة والأعراض والأموال فقالوا لا نحسن القتال وأظهروا الخشية من جيش الذين كفروا وكثرته وأسلحته .
إذ زحف كفار قريش بثلاث آلاف رجل ومعهم مائتا فرس ، أما المؤمنون فقد خرجوا إلى ميدان المعركة تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : ظهور أمارات الكفر والجحود على المنافقين ساعة الشدة والحرج ، أما المؤمنون فأنهم أظهروا حسن التوكل على الله ، وأخلصوا في الدفاع عن بيضة الإسلام .
الخامس : الثناء على المؤمنين في ثنايا ذم المنافقين بدليل قوله تعالى [لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ] ( ) والذي يدل على خروج المؤمنين من المهاجرين والأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع والجهاد في سبيل الله رغم نكوص المنافقين .
السادس : بيان خصلة للمنافقين , وهي عدم القيام بالمدد والعون للمؤمنين أثناء المعركة .
لأنهم أخبروا عن عدم إتباعهم للمؤمنين ، وقد خرجت امرأة وهي أم عمارة لتدافع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتفوز بالثناء في النشأتين ، وفي التنزيل [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) .
السابع : من علامات المنافقين إبطان الكفر والجحود في ذات الوقت الذي يظهرون فيه الإيمان ، وتبين آية البحث قانوناً وهو ظهور الكفر على ألسنة وأفعال المنافقين عند البأساء وشدة الحرج ونزول المصيبة بالمسلمين ، وهو الذي تدل عليه الآية السابقة وآية البحث وكيف أن خسارة المسلمين في معركة أحد مناسبة لكشف النفاق بتخلف المنافقين عن النصرة وباظهارهم الشماتة بالمؤمنين وصدهم عن سبيل الله .
وفي التنزيل [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا] ( ).
وتتضمن الآية أعلاه الإخبار عن دعوة المنافقين إلى التنزيل والإنصات إلى القرآن والإستماع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ).
الثامن : إمتناع الذين نافقوا عن عمد عن إكثار سواد المسلمين ، لقد انسحب منهم ثلاثمائة في ميدان الشوط في الطريق إلى معركة أحد ، وإختاروا هذا الموضع للإنسحاب للفتنة , ورجاء إفتتان أكبر عدد من جيش المسلمين بقول عبد الله بن أبي سلول .
(قَالَ ابن إسْحَاقَ : حَتّى إذَا كَانُوا بِالشّوْطِ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَأُحُدٍ ، انْخَزَلَ عَنْهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابن سَلُولَ بِثُلُثِ النّاسِ , وَقَالَ أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي ، مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ فَرَجَعَ بِمَنْ اتّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ وَالرّيْبِ) ( ).
ويقع الشوط خلف جبل الذباب وهو ميدان متسع , وقيل بستان ، ومن معاني قوله تعالى [أَوْ ادْفَعُوا] الوارد في آية البحث أمور :
أولاً : الدفع عن الإسلام .
ثانياً : الدفع عن الأنفس .
ثالثاً : الذب عن الأهل والعرض والذراري .
رابعاً : الدفاع عن البلدة والوطن .
خامساً : كثرة السواد وإفادته بعث الخوف في قلوب الذين كفروا ، وسيأتي بيانه في باب التفسير .
التاسع : إتصاف المنافقين بالكذب والخداع والغش ، فقد وصل جيش المشركين إلى أطراف المدينة ، وهم يقولون ليس من قتال .
العاشر : يجمع المنافق بين المتضادين مع التباين في المحل فهو يدّعي في الظاهر الإسلام ، ولكنه يبطن الكفر ، وجاءت آية البحث لبيان حال خاصة وهي طغيان الكفر ، عند المنافق ودبيبه إلى قوله وفعله أيام معركة أحد لقوله تعالى [هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ] ولابد من تعدد الجهة التي يكون فيها المنافقون ساعة العسر والمحنة أقرب إلى الكفر .
الحادي عشر : فضح التباين بين قول وفعل المنافقين ، وليس من حصر لمصاديق هذا التباين ، ولكن الله عز وجل أحاط بها علماً ، وفي التنزيل [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ).
ليكون من مصاديق الآية أعلاه وجوه :
أولاً : علم الله عز وجل بالغمز ولغة الإشارة وما يستقرأ من العين والنظر من علامات الإنشراح والغبطة والسرور أو الإنقباض والأسى والحزن، ومنه قوله تعالى في ذم المنافقين[فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ]( ).
وتتجلى مدرسة العيون في القرآن، وفق معان عقائدية، وضوابط أخلاقية، وقد إستقرأ منها الشعراء أسرار النظر ودلالة العين وإتساع الحدق أو ضيقها، أو لمعانها على ما في القلب من الرضا أو السخط، وقال بعضهم: إنّ العيون لتبدي في نواظرها … ما في القلوب من البغضاء والأحن
وقال آخر
تريك أعينهم ما في صدورهم … إن الصدور يؤدّي سرّها النظر
وقال آخر
عيناك قد دلتا عينيّ منك على … أشياء لولاهما ما كنت أدريها
تظلّ في نفسك البغضاء كامنة … والقلب يضمرها والعين تبديها
والعين تعرف من عيني محدّثها … إن كان من حزبها أو من أعاديها).
وقال آخر
لا شاهدٌ عندي على غائبٍ … أعدل من طرفٍ على قلبِ
وقال الآخر:
تخبركَ العينُ بكلِّ الذي … في القلبِ من من بغضٍ، ومن حبِّ
وقال الآخر:
إنَّ العيونَ تدلُّ بال … نظر الملحِّ على الدخيلِ
إما على حبٍّ شدي … دٍ، أو على بغضٍ وبيلِ
وقال آخر:
وأعرفُ منها في الحبِّ لين طرفها … وأعرفُ منها البغضَ بالنظرِ الشزرِ
وقال آخر:
إنَّ العيونَ لتبدي في تقلبها … ما في الضمائر من بغضٍ، ومن ومقِ
إذا وددنَ امرءاً أو حزنَ بغضتهُ .. أفضى الضميرُ بما تهوى إلى الحدقِ)( )( ).
ثانياً : إخبار الله عز وجل عن خلجات نفوس المنافقين ليطلع عليها المسلمون ، وفيه نصر لهم ومواساة على الخسارة التي لحقت بهم في معركة أحد ، وعقوبة عاجلة للذين امتنعوا عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأرادوا إشاعة لغة القعود عن الدفاع والصدود عن النبوة والتنزيل ، لتكون آية البحث من الشواهد على أن الجزاء لا يختص بعالم الآخرة بل يشمل الحياة الدنيا .
ثالثاً : إنذار الذين نافقوا بادراكهم لقانون من الإرادة التكوينية وهو علم الله عز وجل بأقوالهم وأفعالهم الخبيثة وأن كانوا يقومون بها بالخفاء ، وتفضل الله عز وجل بالإخبار عنها بالوحي والتنزيل .
وبينهما عموم وخصوص مطلق ، فالوحي أعم أي مع نزول الآية القرآنية التي تتضمن فضح الذين نافقوا وكشف مكرهم فان الله عز وجل يوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكيفية التصدي لهم ، ودفع الضرر الذي قد يأتي منهم ، وفي التنزيل [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
وخرج مرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعيادة سعد بن عبادة أثر مرض عارض أصابه فمر في طريقه بمجلس لعبد الله بن أبي بن أبي سلول فلم يشأ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تجاوز المجلس من غير أن ينزل ويجلس معهم وكان في المجلس بعض الأنصار ومن عامة الخزرج, واليهود فسلم عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم جلس قليلاً فتلا بعض آيات القرآن وذكرّهم بالله ودعاهم إلى الله عز وجل ، وعبد الله بن أبي زام وساكت لا يتكلم إلى أن أتم رسول الله مقالته عندئذ تكلم عبد الله بن أبي وقال :
(يَا هَذَا ، إنّهُ لَا أَحْسَنُ مِنْ حَدِيثِك هَذَا إنْ كَانَ حَقّا فَاجْلِسْ فِي بَيْتِك فَمَنْ جَاءَك لَهُ فَحَدّثْهُ إيّاهُ ( و ) مَنْ لَمْ يَأْتِك فَلَا تَغْتُتْهُ بِهِ وَلَا تَأْتِهِ فِي مَجْلِسِهِ بِمَا يَكْرَهُ مِنْهُ .
فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فِي رِجَالٍ كَانُوا عِنْدَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَلَى ، فَاغْشَنَا بِهِ وَأْتِنَا فِي مَجَالِسِنَا وَدُورِنَا وَبُيُوتِنَا ، فَهُوَ وَاَللّهِ مِمّا نُحِبّ ، وَمِمّا أَكْرَمَنَا اللّهُ بِهِ وَهَدَانَا لَهُ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ حِينَ رَأَى مِنْ خِلَافِ قَوْمِهِ مَا رَأَى :
مَتَى مَا يَكُنْ مَوْلَاك خَصْمَك لَا تَزَلْ تَذِلّ وَيَصْرَعْك الّذِينَ تُصَارِعُ
وَهَلْ يَنْهَضُ الْبَازِي بِغَيْرِ جَنَاحِهِ وَإِنْ جُذّ يَوْمًا رِيشُهُ فَهُوَ وَاقِعُ .
قَالَ ابن هِشَامٍ : الْبَيْتُ الثّانِي عَنْ غَيْرِ ابن إسْحَاقَ ) ( ).
لقد أظهر عبد الله بن أبي حسده وخبثه من أول كلامه إذ قال : يا هذا ، ولم يقل يا رسول الله ، ومع هذا لم يزجره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما وبّخه الأنصار من قومه وأظهر الولاء للإسلام والإنقياد لله ورسوله وأدرك معها عبد الله بن أبي تخلي قومه عنه ، وإزدراءهم للنفاق وأهله وإن كانوا من الرؤساء فيهم ليصبح العز مصاحباً للإيمان , والذل والهوان ملازماً للكفر والنفاق .
ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ) إنكار المؤمنين على رؤساهم كفرهم ونفاقهم وهجرانهم وتوبيخهم والتخلي عن طاعتهم أو الإستماع لهم إذ يحرص المؤمن على طاعة الله والإمتثال لأوامره .
فيكون من مصاديق الرحمة في قوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ) رفعة وعز المؤمن بالنجاة من طاعة رؤساء الكفر وأهل الشرك فلا غرابة أن يجهزوا الجيوش للإجهاز على الإسلام ، ولكن أفراد هذا الجيوش كانوا يدركون القبح الذاتي لفعل هؤلاء الرؤساء ولهذا الإدراك نظرة الميل إلى الهدى التي جعل الله الناس عليها .
الثاني : بلوغ معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية الناس وتدبرهم فيها .
الثالث : نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة أحد بمعجزة من عند الله إذ أنه سبحانه أثنى على نفسه فنسب هذا النصر إليه سبحانه ، وبيّن أنه كان يوم الفرقان للإخبار عن حاجة أجيال المسلمين والناس إلى هذا النصر .
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : وليعلم الذين نافقوا وقعدوا) من معاني الجمع بين الآيتين ذكر المنافقين بالاسم ، وهذا الذكر وحده ذم لهم لبيانه صفة قبيحة من صفاتهم تتضمن إخفاء الكفر وإبطان العداوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل في ذات الوقت الذي يدّعون فيه الإسلام وهذه الصفة أم القبائح التي صدرت من المنافقين ، ومنها قعودهم عن نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ، ليكون هذا الذكر كشفاً لما نفوسهم وإخباراً عن وجودهم بين المسلمين ، وهو من مصاديق خاتمة آية البحث [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] .
ومن إعجاز القرآن أن الآيات التي نزلت بخصوص معركة أحد ذكرت المنافقين وقبيح أفعالهم قبل وبعد المعركة , وتدل عليه الشواهد التأريخية ، ولكن الآيات التي جاءت بخصوص معركة بدر لم تذكر المنافقين وأفعالهم وفيه مسائل :
الأولى : لم يكن المسلمون أيام معركة بدر من السيادة , والقوة في المدينة .
الثانية : ليس من قتال في بدايات هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة كما أن بيعة الأنصار له في العقبة إقتصرت على الذب عنه كما يذبون عن أهليهم وذراريهم .
الثالثة : انتصر المسلمون في معركة بدر نصراً مبيناً بمعجزة جلية من عند الله ، مما أخاف الذين كفروا والذين نافقوا .
ومن الإعجاز في قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) بيانه لتبدل حال المسلمين من الذل والضعف إلى الضد من العزة والمنعة ، وفي الآية أعلاه تبكيت للمنافقين لأنها تدل بالدلالة التضمنية على عجز الذين كفروا عن قهر المؤمنين والنيل منهم , ومن دولتهم ، فاذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون انتصروا وهم أذلة في معركة بدر وأن نصرهم من عند الله ، فمن باب الأولوية القطعية أنهم ينتصرون في معركة أحد لأن النصر ماح للذل .
الرابعة : لقد دخلت الغبطة والفرحة بنصر المسلمين في معركة بدر كل بيت من بيوت المدينة ، وعجز المنافقون عن إظهار شكهم وريبهم .
وعندما جاءت الأخبار بعزم كفار قريش على غزو المدينة وطوافهم على القبائل لحشد أهلها ضد الإسلام ، وجمع الجنود والمقاتلين لزحفهم صوب المدينة وإشاعة أرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أظهر المنافقون الشك والخور بقوة ومنعة الإسلام ، وكشفوا عن خوفهم من القتال والدفاع في وجه الذين كفروا .
وقد ورد في موسى عليه السلام في التنزيل[قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ]( ) فدعا عليهم موسى حينئذ ولم يدع عليهم من قبل ونعتهم بالفاسقين وابتلاهم الله بتحريم الأرض المقدسة عليهم أربعين سنة .
وأيهما أشد هؤلاء الذين أمتنعوا عن القتال مع موسى عليه السلام أم المنافقون في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب هو الثاني لذا توعدهم الله عز وجل بأنهم في الدرك الأسفل من النار لأنهم لم يكتفوا بالقعود بل كانوا يبثون السموم وينشرون الإشاعات التي تضر المسلمين ، ويدعون المؤمنين إلى القعود عن الدفاع مع أنه حاجة .
(روي أن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه يوم الحديبية حين صدّ عن البيت : إني ذاهب بالهدي فناحره عند البيت .فقال المقداد بن الأسود : أما واللّه لا نقول لك ما قال قوم موسى إذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون .
ولكنّا نقاتل عن يمينك وشمالك ومن بين يديك ومن خلفك فلو خضت البحر لخضناه معك .
ولو تسنّمت جبلاً لعلوناه معك فسر بنا على بركة الله،
فلما سمع أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بايعوه على ذلك وأشرق وجه رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك وسرّه.) ( ).
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين آية البحث والآية التالية : ليعلم الله الذين نافقوا وقالوا لأخوانهم لو أطاعونا ما قتلوا).
لقد حلت في معركة أحد مصيبة بالمسلمين خاصة وبأهل المدينة عامة ، إذ سقط سبعون شهيداً دفاعاً عن الإسلام وعن أهل المدينة مما يبعث الأسى والحزن والحنق في نفوسهم رجالاً ونساءً .
أما الأسى فلانهم كانوا يقاتلون دفاعاً عن الحق والعرض والمال والشأن ويدفعون الذل والأسى عن أهلها ، والخراب والسلب عما يملكون ، وفي التنزيل [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ]( ).
وأما الحزن فلفقد الأحبة الفوارس الشجعان , وأما الحنق فلظلم وتعدي الذين كفروا إذ قطعوا نحو خمسمائة كيلو متراً على الرواحل ومشياً في أكثر من عشرة أيام لقتال النبوة والتنزيل ويدرك الناس بما رزقهم الله من العقل قبح هذا الفعل ، ومما زاده قبحاً أنهم رجعوا بالخسارة والخيبة والإختلاف فيما بينهم , ويدل عليه قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
لقد كان الملائكة حاضرين يوم معركة أحد فلا يرجع الذين كفروا إلا بالخسارة ، ولكن المنافقين أصروا على الجحود وتوجهوا باللوم إلى الشهداء كما وثقته الآية التالية [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ) .
لقد ورد لفظ [قالوا] في كل من آية البحث والسياق مع إتحاد جهة الصدور وأن هذا القول صادر من الذين نافقوا مع التباين في مضمون القول ، وأنه جاء في آية البحث جواباً واعتذاراً واهياً لا أصل له ، وأما في آية السياق فجاء القول المنافقين إبتداءً منهم ولإرادة الفتنة .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : وليعلم الذين نافقوا قل فأدرأوا عن أنفسكم الموت ) .
مع مجئ آية البحث بصيغة الجملة الخبرية وكذا بالنسبة لآية السياق إلا أنها تضمنت الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قُلْ فَادْرَءُوا] وهو جملة إنشائية في ذات القول ومعنى المقول .
ويدل ذكر القرآن لقول المنافقين وتعدده موضوعاً ومناسبة على لزوم فضحهم والحيلولة دون اضرارهم بالمسلمين .
لقد أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالإحتجاج على المنافقين بالموت من جهات :
الأولى : عجز المنافقين والناس مطلقاً عن صرف الموت عن أنفسهم .
الثانية : قرب الموت من المنافق لأنه ممن باء بسخط الله عز وجل .
الثالثة : من خصائص القرآن أن كثرة الإنذارات تقريب للأجل وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ) فيختار المنافق الإقامة على الكفر ولم يعلموا أن هذه الإقامة مع إدعاء الإيمان ظاهراً سبب لنزول البلاء من عند الله عز وجل .
ولا يختص الأمر الإلهي (قل) بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما يتوجه إلى المسلمين والمسلمات , وتقديره على وجوه :
الأول : قل يا رسول الله .
الثاني : قل يا أيها المسلم .
الثالث : قولي يا أيتها المسلمة .
الرابع : قولوا يا أيها المسلمون .
الخامس : قلن يا أيتها المسلمات .
السادس : قولوا يا أيها المؤمنون .
السابع : قلن يا أيتها المؤمنات .
فيتوجه الإحتجاج والتحدي واللوم من جميع المسلمين والمسلمات إلى المنافقين ، ومن مفاهيم هذا المعنى دعوة المسلمين إلى إجتناب الإضرار بالمنافقين بالضرب ونحوه .
المسألة الخامسة : لقد جعل الله عز وجل الموت خاتمة لحياة الإنسان في الأرض ، وهل الموت أمر وجودي أم عدمي ، الجواب هو الأول ويدل عليه قوله تعالى [خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ..] ( ) فالموت مخلوق لله عز وجل ، وجاءت آية السياق لتجعله مادة للإحتجاج ووسيلة لبعث الفزع والخوف في قلوب المنافقين , والموت مفارقة الروح للجسد ، وأبى الله إلا أن يجعله حاضراً في حياة الناس وقريباً منهم ، قال تعالى [وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ] ( ).
لبيان عجز الإنسان عن معرفة الموضع الذي يفارق فيه الدنيا ، وهل في حضر أو سفر وعند أهله ، أما في نأي عنهم ، وحتى الذي يحتمل موته عند أهله وموضع سكن الأسرة والبيت الذي يسكنه الإنسان , فقد يغادره وينتقل منه للإقامة في غيره .
وصحيح أن الآية أعلاه ذكرت موضع الموت وقصور الإنسان عن معرفته إلا أنها عامة وتشمل الزمان أيضاً بالتبعية والإلحاق ، وتقدير الآية : ولا تدري نفس بأي وقت تموت فجاءت آية السياق الإنذار المنافقين من أمور:
الأول : النفاق .
الثاني : الإصرار على إبطان الكفر .
الثالث : مجئ الموت للذين نافقوا قبل أن تدركهم التوبة ، وفيه حجة من الله عز وجل عليهم لأن كلاً من آية البحث والسياق تدعوهم مجتمعين ومتفرقتين إلى التوبة ونبذ النفاق .
الرابع : إنذار المنافقين من الموت وعالم ما بعد الموت ، وقد جاءت آيات القرآن بالوعيد للمنافقين ، قال تعالى [لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ).
لتكون كلاً من آية البحث وآية السياق إنذاراً وتخويفاً من هذا العذاب .
المسألة السادسة : إبتدأت الآية التالية بالاسم الموصول (الذين) مما يدل على عطفها على الآية السابقة في الموضوع والدلالة ، وقد تقدم بيانه في ( قانون العطف في القرآن موعظة) ( ).
وإبتدأت آية البحث بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] وجاءت مضامين الآية بصيغة الجمع والإخبار عن قول وفعل المنافقين ثم ذكرت آية البحث قولهم بخصوص الشهداء لإرادة الضلالة والغواية ، ورد الله عز وجل عليهم ، وليس من شأن للمنافقين في ملك الله عز وجل وبديع صنعه ، ومع هذا يتفضل فيرد ويحتج عليهم ويفضح مغالطتهم ، ليكون هذا الرد والإحتجاج سبيل هداية للناس .
وعندما احتجت الملائكة على جعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ، قال الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن الفساد الذي ذكرته الملائكة قول وفعل المنافقين ، ومن علم الله عز وجل نزول آية البحث بفضح المنافقين وما فيه من حرب على الفساد ومنع للناس من إتباع نهجهم ، قال تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ) .
وان قيل ماذا فعل المنافقون تضمنت آية السياق جواباً بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا] ( ) ويحتمل المقصود من قول المنافقين وجوهاً :
الأول : الشهداء في معركة أحد .
الثاني : الأنصار الذين خرجوا إلى معركة أحد .
الثالث : عموم الصحابة الذين جاهدوا دفاعاً ودفعاً للذين كفروا .
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من مصاديق الآية الكريمة فان قلت ذكرت الآية القتل بصيغة الماضي بقوله تعالى [مَا قُتِلُوا].
والجواب إرادة التعليق وقصد الذين نافقوا بعث الخوف والفزع في نفوس أهل المدينة خاصة عوائل الأنصار الذين خرجوا إلى معركة أحد ، وكأنهم يقولون أن الذين خرجوا إلى معركة أحد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيقتلون ، ولو رجعوا معنا من وسط الطريق وبقوا في المدينة لا يقتلون .
ولعل فيه اشارة إلى أن المنافقين آمنوا من جهة كفار قريش بأنهم لو بقوا في المدينة أو رجعوا من وسط الطريق إلى معركة أحد فلا شئ عليهم ، وهو من مصاديق ما ورد في آية البحث [هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ]( ).
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم قل فأدرأوا عن أنفسكم الموت ).
عندما عزم المنافقون على الرجوع إلى المدينة في الطريق إلى معركة أحد سألهم إخوانهم من الأنصار العودة إلى جيش المسلمين ، وعدم التخاذل ولكنهم لجأوا إلى النفاق والخداع والمكر ،وقالوا سوف لا يكون قتال بين الفريقين ، فقريش التي زحفت هم قوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهله كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبي رحمة يريد المسلم ويكره القتال ولا يبدأ مع القوم ، إنما يكون لقاء للدعوى إلى الله والجدال بين الفريقين ، وتغافلوا عن أمور :
الأول : ما بلغ أهل المدينة من إستعداد كفار قريش للقتال والحرب من أكثر من سنة قبل معركة أحد .
الثاني : إرادة كفار قريش الثأر لما نالهم يوم معركة الفرقان أي في معركة بدر .
الثالث : زحف ثلاثة آلاف مقاتل ووصولهم إلى أطراف المدينة لا يرضون إلا بالقتال ولمعان السيوف .
الرابع : نزول قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ) وفيه شاهد بأن القتال سيقع بين الطرفين .
لذا لبس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمة الحرب وخرج من بيته ليخبر المسلمين بالإستعداد للقتال وعدم الخشية منه .
لقد تضمنت آية السياق التحدي للذين نافقوا بالموت وحتمية طروه وزيارته لكل إنسان ، هذا الزائر الذي لا يغادر حتى يأخذ معه روح المزور ويتركه جثة هامدة ، يزور ملك الموت الإنسان مرة واحدة ، ولكنها زيارة تنقله من عالم الإختبار والإمتحان إلى عالم الحساب والجزاء ، ليكون من الحكمة الإلهية في سنة الموت وقطعه لصلة الإنسان بالدنيا توبيخ الكفار والمنافقين وزجرهم وتحذيرهم من التمادي في التعدي والظلم , ودعوتهم للتدارك , قال تعالى[كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً]( ).
الوجه الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين ( وليعلم الذين نافقوا أن الذين قتلوا في سبيل الله احياء عند ربهم ).
لقد كان إحتمال قتل بعض الأنصار في معركة أحد هو الموضوع الذي بث المنافقون منه سمومهم وأرادوا به إشاعة الفوضى والإرباك في المدينة ، فجاء الرد من عند الله ليحمل البيان والبشارة عن حال الشهداء بعد مغادرتهم الدنيا , وأنهم أحياء عند الله يتنعمون في الآخرة سواء بالتوسعة في قبورهم وكأنها من رياض الجنة أو بغدوهم على الجنة .
لقد خسر المسلمون في معركة أحد سبعين شهيداً ستة وستين شهيداً من الأنصار , وأربعة من المهاجرين وهم : حمزة بن عبد المطلب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصعب بن عمير وعثمان بن شماس ، وعبد الله بن جحش .
فأراد المنافقون إثارة الأشجان وإتخاذ سقوط الشهداء من الأنصار موضوعاً لتأليب الناس على الإسلام ، ولكن الله عز وجل الذي نصر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معركة بدر نصرهم بآية السياق التي أخبرت عن كون الشهداء في أحسن نعمة .
لقد أصر المنافقون على عدم الإلتفات إلى كون معركة أحد دفاعية محضة وأنه يجب الدفاع وأن القتيل فيها شهيد وغيور ، ولكنهم أرادوا الفتنة فقطعها الله عز وجل بالبشارة عن عظيم منزلة الشهداء ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ] ( ) لقد كان الذين نافقوا فتنة ويبغون الفتنة ويمنعون من إطفائها ودفع شرورها , فجاء ذمهم وفضحهم في آية البحث من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
إن فضل الله عز وجل بالإخبار عن حال وسعادة الشهداء بعد قتلهم وعروجهم إلى مقامات الخلود توبيخ للمنافقين , ومنع من تأثيرهم على الناس في دعوتهم للقعود .
لقد أراد المنافقون الشماتة بالشهداء فجاءت آية السياق لتدعو ذويهم لإكرامهم والإفتخار بهم وعدم الإنصات لأقوال المنافقين .
ومن إعجاز الجمع بين الآيتين دعوة أبناء المنافقين إلى عدم الإصغاء لهم لأن الإخبار السماوي عن الخلود في النعيم يجذب القلوب والأذهان ، ويخبر الناس عن كون الإيمان والدفاع عنه [تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ] ( ).
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو أدفعوا تكونوا أحياء عند ربكم ترزقون ) بدخول الإنسان الإسلام يكون قد تخطى عقبة كأداء ليتوجه نحو أداء الفرائض وإصلاح النفس واللسان ، ولكن المنافقين أبوا إلا الإقامة في السر والخفاء على الكفر, فصاروا هم أنفسهم عقبة في نشر مبادئ الإسلام وفي الدفاع عنها , وتفضل الله عز وجل وكفى رسوله والمؤمنين شرهم بآية البحث والآيات التي تذم المنافقين وتدعوهم إلى التوبة والإنابة .
وتفضل بآيات القرآن التي تتضمن الثناء على المؤمنين وتبين حسن عاقبتهم وورد في التنزيل خطاب وأمر من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى] ( ).
ومن معاني الجمع بين هذه الآيات دعوة المنافقين لمعرفة قانون سعادة الشهيد وفوزه بالأمن من الخوف والفزع في الآخرة لأنه حارب جيش كفار قريش الذين زحفوا للإجهاز عليهم وعلى الإسلام .
فقد صار استشهاد سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد واقية وحصناً لحفظ الإسلام إلى يوم القيامة ، وهو من معاني آية السياق [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) مجئ الثواب لشهداء أحد من عمل المسلمين الصالحات في كل جيل وأفراد الزمان الطولية ، وحينما إلتقى المسلمون والذين كفروا في معركة بدر توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء والمسألة ، وقال متضرعاً متوسلاً (يا رب إن تهلك هذه العصابة في الأرض فلن تعبد في الأرض أبداً) ( ).
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون).
لقد أخبرت كل من آية البحث والسياق عن قانون يدل على قدرة الله عز وجل المطلقة وأنه سبحانه يعلم الأشياء ما ظهر منها وما خفي .
لقد فضح الله عز وجل المنافقين بما يخفونه في قلوبهم من الكفر والجحود ، ولا يستطيع غير الله عز وجل الإخبار عما في مكنونات القلوب ، وما يضمره الناس في نفوسهم من النوايا والمقاصد والعزائم وما يدور في خلدهم ، فمن أسرار نفخ الله من روحه في آدم وجعله خليفة في الأرض علم الله عز وجل بكل ما يفكر به الإنسان وينسى الإنسان الفكرة والبلغة والأمنية ، ولكن الله عز وجل لا ينساها .
المسألة الرابعة : من إعجاز القرآن الإلتفات والإنتقال من البشارة والإنذار وبالعكس ، ومن الحديث عن الإيمان الإنتقال إلى ذم الذين كفروا ليكون ورود المتضادين في الآيتين المتعاقبتين مدرسة لفقاهة المسلمين وحرب على الكفر وهذه الحرب من جهات :
الأولى : توبيخ الذين كفروا , وتأكيد سوء إختيارهم .
الثانية : ذم المنافقين لإخفائهم الكفر .
الثالثة : بيان الحسن الذاتي للإيمان وحاجة الناس إليه .
الرابعة : ترغيب الناس في الإيمان ، وبعث النفرة في نفوسهم من الكفر ، وفي التنزيل [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ] ( ) لتجعل النفوس تزدري النفاق وإخفاء المنافق الكفر في ذات الوقت الذي يتظاهر فيه بالإيمان .
وجاءت آية السياق لتملأ السكينة نفوس المسلمين ويدركون قانوناً وهو الفوز والثواب في الدنيا والآخرة على الإيمان ، وأن الذي يقتل منهم دفاعاً عن الإسلام يسكن جنان الخلد ، لتكون كل من آية البحث والسياق إصلاحاً للمسلمين لمراتب العز والرفعة والشهادة على الناس ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا]( ) .
المسألة الخامسة : لقد تضمنت آية البحث ذم الذين نافقوا مع بيان عدد من خصالهم القبيحة ومحاولتهم بث الخلاف والفرقة بين المسلمين بصيغ الشك والريب ، بينما جاءت آية السياق للثناء على الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله , ليكون من معانيه وجوه :
الأول : سلامة الشهداء من النفاق من قبل أن يغادروا الدنيا ، لأن المنافقين إمتنعوا عن الخروج إلى القتال .
الثاني : مبادرة الشهداء للجهاد في سبيل الله .
الثالث : الشهادة رد عظيم على أكاذيب ومغالطات المنافقين .
الرابع : بذل بعض المؤمنين أنفسهم في سبيل الله شاهد على عدم ترتب الأثر على تحريض المنافقين على القعود .
الخامس : إقامة الحجة على المنافقين بالشهادة والقتل في سبيل الله من جهات :
الأولى : بيان إصرار الذين كفروا على القتال .
الثانية : الحاجة إلى الدفاع عن الإسلام والمدينة .
الثالثة : فوز الشهداء بالمرتبة السامية والخلود في النعيم في ذات الوقت الذي تتوجه فيه الإنذارات إلى المنافقين .
ومن إعجاز القرآن ان ذكر الشهداء وما نالوه من الثواب العظيم دعوة للمنافقين للتوبة خاصة وأن شطراً منهم يقرأون القرآن ويسمعون تلاوته من قبل الإمام في الصلاة ، ويسمعون آياته خارج الصلاة .
وفي هذا الذكر بعث للسكينة في نفوس عوائل الشهداء ، ودعوة لهم لعدم الإصغاء إلى المنافقين والمنافقات الذين لا يريدون الخير للمؤمنين .
(عن أبي أذينة الصدفي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : شر النساء المتبرجات وهن المنافقات ، لا يدخل الجنة منهن إلا مثل الغراب الأعصم) ( ).
لقد ذكرت آية البحث صفات للمنافقين ، وتشترك معهم بها المنافقات لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
الوجه الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ] ( )وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تضمنت آية السياق الثناء على المؤمنين الصابرين ، وتدل بالدلالة التضمنية على إعراضهم عن المنافقين وتجاهلهم لقولهم ونية الإبطاء في الدفاع عن الإسلام رجاء بعثهم ونفرتهم ، ومن وجوه تقدير الجمع بين الآيتين أن المهاجرين والأنصار دعوا المنافقين للدفاع في ذات الوقت الذي يتوجه فيه المهاجرون والأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ميادين القتال .
وموضوع نزول آية السياق ما بعد معركة أحد مباشرة فما أن قطع جيش المشركين مسافة في طريق العودة إلى مكة حتى أظهروا الندامة وشعروا بالخزي ولحوق الذل والعار بهم خاصة عند دخولهم مكة من غير أن ينجزوا شيئاً من غاياتهم الخبيثة .
(قالوا : لا محمداً قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم) ( ).
فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخبر فأمر بالنفير والخروج خلف العدو مع شدة الجراحات التي فيهم كما تدل عليه آية السياق بقوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ] ( ) لبيان كثرة جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ونزف بعض الجراحات ومنها نزف بعض جراحات النساء مثل أم عمارة التي خرجت مع النفير رغم جراحاتها في معركة أحد ، فوصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد , وتبعد عن المدينة المنورة عشرين كيلو متراً من جهة جنوبها .
فوصل خبر خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى أبي سفيان ومرّ ركب من عبد قيس بجيش المشركين فطلب منهم أبو سفيان أن ينقلوا رسالة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم عزموا على الرجوع إلى القتال ، وأنهم لا يرضون إلا باستئصال المؤمنين فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين الذين معه [حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ) فأصاب جيش المشركين الخوف والرعب ، وقالوا نرجع قابل أي في السنة التالية ، وكانت تلك غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مع أنهم لم يلقوا عدواً ، وما خرجوا إلا دفاعاً ولبعث الخوف في قلوب المشركين المعتدين .
وأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حمراء الأسد ثلاثة أيام : الإثنين والثلاثاء والأربعاء ، ورجع إلى المدينة في العشرة الأواخر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
تعدد جراحات النبي ص يوم أحد
لقد تعدد الجراحات في وجه وبدن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : كسر الأسنان الأمامية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم السفلى .
الثاني : شق الشفة السفلى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : الشج والجرح في وجنة ووجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : سيلان الدم من وجه وفم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعطشه عطشاً شديداً ,والذي أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عتبة بن أبي وقاص وهو أخو سعد بن أبي وقاص .
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول (كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الاسلام)( ).
فنزل قوله تعالى [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ] ( ).
الخامس : دخول حلقتان من المغفر في وجنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
والمِغفَر بكسر الميم وفتح الفاء صفيحة من حديد تلبس تحت البيضة الحديد التي توضع على الرأس ، وأصل الغفر الستر , والمغفر هو فرع من الدرع الحديد يكون على الرأس كالقلنسوة .
ومن أنواع المغفر ، المغفر اليماني , وورد في الخبر كان مرحب فارس خيبر يلبسه يوم فتحها ، فقد جاء عن بريدة (قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربما أخذته الشقيقة فلبث اليوم واليومين لا يخرج، فلما نزل خيبر أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس، وإن أبا بكر أخذ راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم نهض فقاتل قتالا شديدا ثم رجع فأخذها عمر فقاتل قتالا شديدا هو أشد من القتال الاول ثم رجع، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ” لأعطينها غدا [رجلا] يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يأخذها عنوة ” .
وليس ثم علي، فتطاولت لها قريش، ورجا كل رجل منهم أن يكون صاحب ذلك، فأصبح وجاء علي بن أبي طالب على بعير له حتى أناخ قريبا وهو أرمد قد عصب عينه بشقة برد قطرى .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مالك ؟ قال: رمدت بعدك.
قال: أدن مني.
فتفل في عينه فما وجعها حتى مضى لسبيله.
ثم أعطاه الراية فنهض بها وعليه جبة أرجوان حمراء قد أخرج خملها، فأتى مدينة خيبر وخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مغفر يماني وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه وهو يرتجز ويقول :
قد علمت خيبر أني مرحب * شاك سلاحي بطل مجرب
إذا الليوث أقبلت تلهب * وأحجمت عن صولة المغلب .
فقال علي عليه السلام :
أنا الذي سمتني أمي حيدره * كليث غابات شديد القسوره
أكيلكم بالصاع كيل السندره .
قال : فاختلفا ضربتين، فبدره علي بضربة فقد الحجر والمغفر ورأسه، ورقع في الاضراس، وأخذ المدينة) ( ).
وفي رواية أن مرحباً كان عليه مغفر معصفر يماني .
والمعصفر أي مصبوغ باللون الأصفر من نبات اسمه العصفر يزرع في أرض العرب وهو على قسمين :
الأول : الريفي .
الثاني : البري .
(ويقال للعصفر المخلّص صبيب وأنشد :
دماً سِجالاً كصبيب العُصفُرِ
وقد عصفَر ثوبه – إذا صبغه بصبيبة العصفر ويسمّى صبيبه عُصفراً كما يسمّى جناه ويقال للتي تلتقط العصفر الغابية)
السادس : عدم إنقطاع نزف الدم من جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في ميدان المعركة ومص بن سنان ، وأبو سعيد الخدري الدم عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم أزدره .
(فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ : مَنْ مَسّ دَمِي دَمَهُ لَمْ تُصِبْهُ النّارُ) ( )( ).
( ).
السابع : وقوع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق ليقع فيها المسلمون , وأخذ الإمام علي عليه السلام بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : كسر أنف النبي .
التاسع : سقوط الثنيتين من أسنان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما نزع أبو عبيدة الجراح إحدى حلقتي المغفر من وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سقطت ثنيته ثم نزع الحلقة الثانية فسقطت ثنيته الأخرى ، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساقط الثنيتين .
والثنية إحدى الأسنان الأربع في مقدم الفم , ثنتان في الفك العلوي وثنتان في الفك السفلي , ويسمى الواحد منها في علم الطب السن القاطع .
وتنقسم الإسنان إلى :
الأول : الأسنان اللبنية ، والتي تنمو عند الطفل في الشهر الخامس .
الثاني : الأسنان الدائمة ، وتكون عند البالغ .
والأسنان أربع فئات :
الأولى : القواطع .
الثانية : الأنياب .
الثالثة : الضواحك .
الرابعة : الأضراس .
وتختص الضواحك بالدائمية ، فليس عند الطفل ضواحك وللأسنان أكثر من طريقة في الترقيم عالمياً ، منها ما يسمى نظام الترقيم الموحد بإستعمال الأحرف الكبيرة من A إلى T في الأسنان اللبنية .
وفي الأسنان الدائمة تستعمل الأعداد من (1-32) بعدد الأسنان الدائمة عند الإنسان .
ويكون الرقم ( 1 ) خاصاً بالضرس الثالث في الفك العلوي من جهة يمين الإنسان ، ويستمر العد إلى أن يصل إلى رقم (16) وهو آخر ضرس من جهة اليسار .
ويكون تحته الرقم (17) للضرس الثالث في الفك السفلي من جهة اليسار ، ثم يستمر إلى رقم (32) وهو آخر ضرس في الفك السفلي من جهة اليمين , أي أن رقم (1) تحته (32) ورقم (16) تحته (17) .
وهناك ترقيم الإتحاد الدولي لطب الإنسان FDi ويقوم هذا النظام برقمين من آحاد وعشرات ، فيرمز الآحاد إلى رقم السن في الفك ، ويرمز العشرات إلى موضع السن , ويتألف من قسمين :
الأول : رقم العشرات ويدل على موضع السن في الفك، وهو من رقم عشرة إلى رقم أربعين بتقسيم الأسنان إلى أربعة أقسام بلحاظ موضعها.
الثاني : رقم الآحاد , ويدل على رقم السن.

لتكون الأسنان الرباعية حسب الجدول أعلاه:
11-21
41-31
وتدل تسمية العرب لها بالرباعية على وجود نظام طبي متقدم سابقاً عند العرب ومعروف عند عامتهم يعتمد تسمية الأسنان بلحاظ موضعها من الفكين ووظائفها وحتى الطب الحديث فإنه يقسم الرباعية إلى قاطع مركزي علوي وقاطع مركزي سفلي.
وهناك ترقيم يسمى ترقيم بالمر palmer ويعتمد رموز الإتجاه L مع كتاب رقم السن بداخلها ، ويستخدم الحروف الصغيرة للأسنان اللبنية a b c d e
لقد بقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا ثنايا في فمه بعد معركة أحد ليكون شاهداً على جهاده في سبيل الله ، وقرب القتل وصيرورته قاب قوسين أو أدنى منه، ولكنه نجى من الموت بفضل وحفظ ومنً من الله عز وجل ، لتكون هذه الأمارة معجزة حسية له وحجة متجددة على كل من رآها أو سمع بها إلى يوم القيامة ، وهل تكون هذه المعجزة الحسية عقلية ، الجواب نعم فهي جامعة للوجهين, وهي مناسبة للتدبر فيها من الأجيال المتلاحقة من المسلمين والناس .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ]( ) الوارد في الآية قبل السابقة , الجواب نعم ، فمع مضي مئات السنين يكون وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما لاقاه من كفار قريش دعوة حاضرة للإسلام , ووسيلة للثبات في مسالك الهدى ، والإقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صبره ، وهو من مصاديق تلاوة كل مسلم ومسلمة في كل يوم وعلى نحو الوجوب العيني [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
قانون تواضع النبي(ص)
يمكن إنشاء قسم في السنة النبوية اسمه : سنة المعاملة لبيان مصاديق لقوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) في باب المعاملة والصلات بين الناس ، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفشي السلام ، ويبدأ به ويرد السلام ويجيب على الأسئلة , وإذا حدثه إنسان إنصرف إليه بكله ، وأنصت إليه واجابه لما يريد سواء كان كبيراً أو صغيراً ، كما أنه لم يجعل حجباً بينه وبين اللائي يأتين للسؤال والتفقه يدخلن على بيوته وهو مع أزواجه فيجيبهن ومنهن من أنزل فيها قرآن .
و(كان الظهار في الجاهلية يحرم النساء فكان أوّل من ظاهر في الإِسلام أوس بن الصامت ، وكانت امرأته خولة بنت خويلد ، وكان الرجل ضعيفاً، وكانت المرأة جلدة ، فلما تكلم بالظّهار قال : لا أراك إلا قد حرمت عليّ فانطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلك تبتغي شيئاً يردّك عليّ فانطلقت ، وجلس ينتظرها .
فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وماشطة تمشط رأسه ، فقالت : يا رسول الله إن أوس بن الصامت من قد علمت من ضعف رأيه وعجز مقدرته ، وقد ظاهر مني فابتغ لي يا رسول الله شيئاً إليه قال يا خويلة : ما أمرنا بشيء في أمرك وأن نؤمر فسأخبرك ، فبينا ماشطته قد فرغت من شق رأسه وأخذت في الشق الآخر أنزل الله عز وجل ، وكان إذا أنزل عليه الوحي تربد لذلك وجهه حتى يجد بردة فإذا سرّي عنه عاد وجهه أبيض كالقلب ، ثم تكلم بما أمر به ، فقالت ماشطته : يا خويلة إني لأظنه الآن في شأنك فأخذها أفكل ثم قالت : اللهم بك أعوذ أن تنزل فيّ إلا خيراً فإني لم أبغ من رسولك إلا خيراً .
فلما سرّي عنه قال : يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك فقرأ [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ]( )، إلى قوله [فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا] ( )، فقالت : والله يا رسول الله ما له خادم غيري ولا لي خادم غيره ، قال [فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ]( )، قالت : والله إنه إذا لم يأكل في اليوم مرتين يسدر بصره ، قال[فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا]( )، قالت : والله ما لنا في اليوم إلا وقية ، قال : فمريه فلينطلق إلى فلان فليأخذ منه شطر وسق من تمر فليتصدق به على ستين مسكيناً وليراجعك) ( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا صافح رجلاً لا يسحب يده حتى يسحب المصافح يده وإذا تصدق وضع بيده الصدقة في يد المسكين ، وإذا دخل إلى المجلس جلس حيث ينتهي به المجلس من غير أن يقصد الإفراد بصدره ، وكان يسعى في قضاء الحوائج من غير ملل أو كلل وكان صلى الله عليه وآله وسلم يعقل بعيره بيده ، ويكنس داره ، ويجيب دعوة الحر والعبد ، والفقير ويجلس مع أهل الصفة ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا عيّاب ، ولم يكن مزّاحاً ولكنه كان لطيفاً ودوداً .
وفي كتاب ذخائر العقبى( ) (وعن أنس بن مالك قال كتب النبي صلى الله عليه وسلم لرجل عهدا فدخل الرجل يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم والنبى صلى الله عليه وسلم يصلي فرأى الحسن والحسين يركبان على عنقه مرة ويركبان على ظهره مرة ويمران بين يديه ومن خلفه فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من الصلاة قال له الرجل : ما يقطعان الصلاة فغضب النبي صلى الله عليه وسلم فقال ناولني عهدك فأخذه فمزقه ثم قال (من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا فليس منا ولا أنا منه).
وعن جابر قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين على ظهره وهو يقول نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أو الحملان أنتما.
وعن عبد الله قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حتى إذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا أرادوا أن يمنعوهما قال دعوهما فلما أن صلى وضعهما في حجره , وقال (من أحبنى فليحب هذين)) ( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يغضب لنفسه ، وإذا أغضبه أمر أعرض وكان سريع العفو ، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يساوي بين جلسائه ، وكان منزها عن الغيبة وعن ذم الآخرين ولا يتكلم إلا بما فيه الصلاح والرشاد ورجاء الثواب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) ، وكان لا يمدح أو يذم مذاقاً ، أنما يبادر إلى شكر الله عز وجل على ما يأكل لإرادة تنمية ملكة الشكر عند المسلمين , وبيان مصداق له وكونه طريقاً إلى السعة والرزق الكريم ، قال تعالى [وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ] ( ).
وكان دائم البشر , وفيه دعوة للناس ليصلوا إليه ويتفقهوا في الدين ويبينوا حاجاتهم ، وهذا البشر وسهولة الخلق من مقدمات قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ] ( ) الذي ورد خمس عشرة في القرآن ، وهل فيه حجة ونوع تحد ، الجواب نعم ، لما في الترغيب بسؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الكشف عن المغيبات , وتأكيد صدق نبوته بالمعجزة والبرهان .
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يصبر على الغريب والأعرابي في جفوته وفي عدم معرفته بعظيم مقام النبوة ، ومنع الصحابة من التعرض له ، ويترك له إستقراء هذا المقام بالسؤال وإجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيان الحال والشواهد الجلية .
فان قلت لمّ وصفت تواضع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه قانون , الجواب لبيان ثبوت سنخيته وانه بوحي من عند الله فلا يقبل التبدل أو التغيير أو النقص والنسخ ، فلقد أراد الله عز وجل للخصال الحميدة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون نبراساً وضياءً ينير سبل الهداية للمسلمين , ويقتبس منه الناس رياحين حين السمت ، ويمكن التأليف في كل من:
الأول : قانون صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : قانون زهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : قانون رشحات سنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع :قانون حسن خلق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : قانون عدل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : قانون (أدبنى ربى فأحسن تأديبى) ( ).
السابع : قانون سخاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : قانون حلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن جرير بن عبد الله ، قال : أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل ترعد فرائصه , قال : فقال له : هون عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد( ) في هذه البطحاء قال : ثم تلا جرير بن عبد الله البجلي : ( وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد) ( ).
(وقال أبو حاتم: كان خلف الأحمر شاعراً، وكان وضع على عبد القيس شِعراً مصنوعاً عبثاً منه، ثم تَقَرَّأ فرجع عن ذلك وبيّنه.
وقال أبو حاتم: سمعتُ الأصمعي يقول: سمعتُ خَلفاً الأحمر يقول: أنا وضعتُ على النابغة هذه القصيدة التي فيها:
خيلٌ صِيامٌ وخيلٌ غير صائمة … تحتَ العَجَاج وأُخْرى تَعْلِكُ اللُّجما
وقال أبو الطيب في مراتب النحويين: أخبرنا محمد بن يحيى، أخبرنا محمد بن يزيد قال: كان خلف الأحمر يُضْرَب به المثلُ في عَمل الشعر، وكان يعمل على أ لْسنة الناس، فيشبه كلَّ شعر يقوله بشعر الذي يضَعُه عليه، ثم نَسَك، فكان يختم القرآن في كلّ يوم وليلة، فلما نَسك خرج إلى أهل الكوفة، فعرَّفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس، فقالوا له: أنتَ كنتَ عندنا في ذلك الوقت أوثقَ منك الساعةَ؛ فبقي ذلك في دواوينهم إلى اليوم) ( ).
قانون صفات المنافقين
يظهر المنافق الإسلام للإيهام بأنه من المسلمين فيبث سمومه ، ويجعل المسلمين يأمنون ويثقون به ويتخذونه بطانة ووليجة ، ويبوحون له بأسرارهم ، وقد ورد أمر المنافقين في القرآن وعلى نحو متعدد , ويمكن تقسيمه إلى وجوه :
الأول : توبيخ المنافقين بالنص والتصريح , وذكرهم على نحو التعيين ، كما في قوله تعالى [يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ]( ).
الثاني : ذم المنافقين بالصفة والخصال القبيحة التي يتصفون بها ، ومنه ما ورد في آية البحث .
الثالث : ورود الذم للمنافقين لسوء ما يفعلون كما في قوله تعالى [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ] ( ) .
الرابع : ذكر الأفعال القبيحة التي تدل على النفاق ، قال تعالى [مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً] ( ) .
الخامس : الإخبار عن إقامة المنافقين في منازل الخداع والكذب ، قال تعالى [فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ] ( ).
وتدل آية البحث على وجود صفات مشتركة للمنافقين ، وهو لا يمنع من وجود صفات خاصة ببعض أفراد المنافقين بحسب الحال والشأن والمناسبة ، فقد لا يعرف المسلمون أن شخصاً ما منافق , فيبتلى بمسألة ولكنه لا يفتضح فيها ، فتأتي أكبر منها فلا يستطيع التستر على نفاقه ، وتتوالى ضروب الإمتحان على الإنسان مطلقاً سواء كان مؤمناً أو منافقاً أو كافراً .
ومن إعجاز القرآن بيانه لصفات المنافقين والعلامات التي تدل عليهم والخصال القبيحة التي يتصفون بها ، وجاءت السنة بذكر هذه الخصال والتحذير منها ومن أصحابها ومنها :
الأولى : يعمل المنافق بخبثه وقبح ما انطوت عليه سريرته ، ويظن أنه مصلح ويريد الإصلاح ، قال تعالى في ذمهم [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ] ( ).
وتدل الآية أعلاه على أن من خصائص المنافقين المغالطة والجدال بالباطل والإصرار على الكذب والوهم ، ويحتمل نعت المنافقين لأنفسهم بأنهم مصلحون وجوهاً :
الأول : الظن بالإصلاح في ذات فعل النفاق والفساد .
الثاني : قصد المنافق فعلاً صالحاً آخر غير الذي يفسد فيه ، وكأنه ممن قال فيهم الله [خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا] ( ) .
الثالث : الكذب والإفتراء من المنافقين .
الجواب لا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة ، ومن ضروب الإعجاز فيها ، وقد يظن المنافق أن أداءه الصلاة تزكية لأفعاله كلها ، ومن إعجاز القرآن أنه لم يكتف ببيان صفة المنافقين وذكر إلجاء المسلم إلى آيات أخرى بعيدة عنها ، وهذا الإتصال بين صفة المنافقين ونعت الله لهم بالمفسدين معجزة للقرآن , وتخصيص سورة باسم المنافقين ومصداق لقوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( ).
وعن سلمان الفارسي في قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}( ) قال سلمان: لم يجئ أهل هذه الآية بعد)( )، وكأن المنافقين يخشون التجاهر بالفساد والإصرار عليه، وتحريف الحقائق في أيام النبوة إلى أن يأتي زمان يظهرون فيه نفاقهم، وفيه شاهد على موضوعية آية البحث في كل زمان، ودعوة المسلمين للحذر والحيطة من المنافقين.
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ثلاث من كن فيه فهو منافق ، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : من إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان ) ( ).
الثانية : إستخفاف المنافق بالمؤمنين وإجتهادهم في طاعة الله وسعيهم الدؤوب في إقامة الشعائر والدفاع عن بيضة الإسلام .
وفي التنزيل[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ]( )، إذ يتوجه الخطاب من عند الله ورسوله والمؤمنين والناس إلى المنافقين ليصلحوا أنفسهم، ويكون باطنهم مرآة لظاهرهم الإيماني، وتأتيهم الدعوة لإقتفاء نهج المسلمين في طاعة الله ورسوله، ولكنهم يردون بما فيه إصرارهم على الضلالة بالإستهزاء بالمؤمنين من وجوه:
أولاً : أشخاص المؤمنين.
ثانياً : إرادة الدخول في الإسلام، فمن معاني السفيه ضعيف الرأي، قليل الحيلة.
ثالثاً : إرادة الإفتراء على المؤمنين، ونعتهم بالعجز عن معرفة مواضع المصالح وكيفية جلبها، وتعيين المفاسد وصيغ دفعها.
رابعاً : إصرار المنافقين على الباطل، وعدم إقرارهم بالضلالة التي هم عليها، وإمتناعهم عن الإنصات للنصائح، والدعوات لهم بالتوبة وصدق الإيمان، قال تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ]( ).
الثالثة : إتصاف المنافقين بأنهم يخادعون الله، من جهات:
الأولى : سنخية الإيمان الظاهري الذي يتصفون به.
الثانية : إقامة المنافقين على الكفر والضلالة.
الثالثة : التهيء للوثوب على الإسلام ومبادئه حالما تحين الفرصة، وقد ظنوا أن معركة أحد مناسبة لضعف ووهن المؤمنين، فأخبرت آية البحث بأنها مناسبة لكشف زيف وخداع المنافقين.
الرابعة : خداع المنافقين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وإعتذارهم بحجج واهية عند دعوتهم للدفاع والمرابطة ، ويختارون الإعتزال والقعود كما في واقعة الخندق حيث كان جيش المشركين يحيط بالمدينة من أكثر أطرافها واتفق أن جاءت ليلة شديدة الظلمة وإشتدت فيها الريح مع بعثها لصوت قوي كالصاعقة فأخذ المنافقون يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحداً بعد آخر يستأذنون منه للرجوع إلى بيوتهم بدعوى أنها مكشوفة خالية وأنه ليس من أحد غيرهم يحمي عيالهم من العدو والسّراق والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يأذن لهم لا يرد منهم أحداً ، ولا يشكو إليهم شدة وجور الذين كفروا .
و(عن حذيفة قال : لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ، ونحن صافون قعود ، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا ، وقريظة اليهود أسفل نخافهم على ذرارينا ، وما أتت علينا ليلة قط أشد ظلمة ، ولا أشد ريحاً منها ، أصوات ريحها أمثال الصواعق ، وهي ظلمة ما يرى أحد منا اصبعه ، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون { إن بيوتنا عورة وما هي بعورة } فما يستأذنه أحد منهم إلا أذن له ، يتسللون ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك ، إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً رجلاً حتى مر علي ، وما علي جنة من العدو ، ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ، ما يجاوز ركبتي ، فأتاني وأنا جاث على ركبتي .
فقال : من هذا ؟ قلت : حذيفة , فتقاصرت إلى الأرض فقلت : بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم فقال : قم . فقمت فقال : إنه كان في القوم خبر ، فأتني بخبر القوم قال : وأنا من أشد الناس فزعاً ، وأشدهم قراً ، فخرجت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم احفظه من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، ومن فوقه ، ومن تحته ، قال : فو الله ما خلق الله فزعاً ولا قراً في جوف إلا خرج من جوفي ، فما أجد منه شيئاً ، فلما وليت قال : يا حذيفة لا تحدث في القوم شيئاً حتى تأتيني ، فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم ، نظرت في ضوء نار لهم توقد ، واذا برجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ، ويمسح خاصرته ويقول : الرحيل . . . الرحيل . . . ثم دخل العسكر فإذا في الناس رجال من بني عامر يقولون : الرحيل . . . الرحيل يا آل عامر لا مقام لكم ، وإذا الرحيل في عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبراً فوالله أني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم ، ومن بينهم الريح يضربهم بها ز
ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انتصفت في الطريق أو نحو ذلك ، إذا أنا بنحو من عشرين فارساً متعممين ، فقالوا : اخبر صاحبك أن الله كفاه القوم ، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يشتمل في شملة يصلي ، وكان إذا حز به أمر صلى ، فأخبرته خبر القوم أني تركتهم يرتحلون . فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذا جاءتكم جنود . . . })( ).
لبيان قانون من نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو تفضل الله بالمدد من الملائكة وبما لا يضر معه إنخزال وتخذيل المنافقين إنما يكون بغيهم على أنفسهم ، وقد وثقت هذه الآيات كذبهم ورياءهم ، وفي التنزيل بخصوص واقعة الخندق التي تسمى أيضاً معركة الأحزاب وصف لحال المنافقين بقوله تعالى [وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً] ( ).
وقد وقعت معركة الخندق بعد معركة أحد ليشمل قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] الذي إبتدأت به آية البحث وقائع المعارك اللاحقة لمعركة أحد، وفيه دعوة للعلماء والمحققين للمقارنة بين فعل وضرر المنافقين في معركة أحد ، وفعلهم وحذرهم في معركة الخندق ، وفيه وجوه :
الأول : إرادة نسبة التساوي في حال الضرر الذي صدر عن المنافقين في معركة أحد ومعركة الخندق .
الثاني : الضرر الذي تركه إنخزال المنافقين في معركة أحد أكثر من تركهم للمرابطة في معركة الخندق .
الثالث : تخاذل وتخذيل المنافقين في معركة الخندق أشد ضرراَ على الإسلام من إنخزالهم وسط الطريق إلى معركة أحد .
والصحيح هو الثاني أعلاه من وجوه :
أولاً : إنخزال ثلث جيش المسلمين في الطريق إلى معركة أحد من وسط الطريق من موضع يسمى الشوط والمراد منه مكان متسع بين شَرفَين من الأرض يكون طوله مدى صوت الرياح ، إذ إختاره عبد الله بن أبي سلول للإنخزال والإنسحاب من جيش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المتوجه لقتال المشركين لإغراء وفتنة عموم الجيش وخاصة الأنصار الذين هم أكثرهم أفراد الجيش للرجوع معه ، ليكون إختيار موضع الإنخزال من مصاديق النفاق والمكر , وقوله تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ] ( ).
ثانياً : إنسحاب المنافقين من ميدان معركة الخندق بالإستئذان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : قيام المنافقين بالإنسحاب من معركة الخندق على نحو الأفراد منهم معتب بن قشير وأوس بن قرظي ، خاصة وأن حصار الأحزاب استمر لأكثر من عشرين ليلة .
(عن عروة بن الزبير ومحمد بن كعب القرظي قالا : قال معتب بن قشير: كان محمداً يرى أن يأكل من كنز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط ، وقال أوس بن قيظي في ملأ من قومه من بني حارثة { إن بيوتنا عورة } وهي خارجة من المدينة : إئذن لنا فنرجع إلى نسائنا وأبنائنا وذرارينا ، فأنزل الله على رسوله حين فرغ منهم ما كانوا فيه من البلاء يذكر نعمته عليهم ، وكفايته إياهم بعد سوء الظن منهم) ( ).
رابعاً : لم تقع مواجهة ومبارزة متعددة وقتال شديد بين المسلمين والذين كفروا في معركة الخندق مثلما حصل في معركة أحد ، وهو من أسرار تسمية معركة أحد [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )وهذه التسمية وحدها حجة على المنافقين في كل من معركة أحد والخندق .
خامساً : لقد جاء القرآن باتخاذ الله ورسوله والمؤمنين أولياء وناصرين ، قال تعالى [إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ]( ).
ولكن المنافقين يصرون على إظهار الميل إلى الكافرين ويرجون نوالهم ويراؤونهم ويخشون تبدل الريح وصيرورة الغلبة لهم ، فجاء الإنذار والوعيد لهم والمقترن بالذم وبيان علته بقوله تعالى [الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً] ( ) .
سادساً : كان هناك رأس للنفاق في الطريق إلى معركة أحد تولى بنفسه تحريض الناس إلى الرجوع ، أما في معركة الخندق فلم يكن هناك رأس أو رئيس يدعو الناس إلى ترك المرابطة ، وهو من الإعجاز في آية البحث وتعدد معاني [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] ( ) ومنها وجوه :
الأول : صد المنافقين عن تحريض المسلمين على القعود .
الثاني : زجر المنافقين ونهيهم عن منع الناس من دخول الإسلام .
الثالث : كشق خبث المنافقين وسوء سريرتهم .
الرابع : تلاوة المسلمين لآية البحث ومضامينها القدسية وإدراك قانون وهو بعث الآية المسلمين إلى معرفة المنافقين بصفاتهم وأشخاصهم ، إذ تدل الآية بالدلالة التضمنية على قيام المنافقين بأفعال مخالفة للشرع ونطقهم بأقوال تكشف ما يبطنون من الكفر والضلالة .
وهل يختص الأمر بانسحاب ثلث جيش المسلمين وسط الطريق بتخويف وتحريض رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي أم أنه أعم ، الجواب هو الثاني ، لذا فان الآية السابقة ذكرت خصوص معركة أحد وما اصاب المسلمين فيها بقوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) لبيان قانون كشف المنافقين من وجوه :
أولاً : أوان ما قبل معركة أحد .
ثانياً : يوم معركة أحد وسقوط الشهداء من المسلمين .
ثالثاً : ما بعد معركة أحد ورجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة ، وحزن البيوت والعوائل على فقد الأحبة .
الخامسة : مصاحبة الضرر للمنافقين في حضورهم القتال مع المؤمنين ، إذ يعمد المنافقون إلى إظهار الخوف من العدو وإلى الفرار ، ولا يأتون برأي سديد لإنعدام الإخلاص في نفوسهم ، قال تعالى في ذمهم [لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً …]( ).
وقد يرغب المسلمون في خروج المنافقين معهم حتى وإن كانوا يعملون بسوء سرائرهم لإرادة كثرة السواد وعسى أن تدركهم التوبة وتأخذهم الغيرة والحمية ، فجاءت الآية أعلاه لبعث المسلمين على التوكل على الله ، وعدم التطلع إلى نصرة المنافقين لأن ضررهم أكثر من نفعهم ،إذ يأتون بالأفعال التي تؤدي إلى الإضطراب وأسباب الفساد والخلاف والفرقة ، ونزلت الآية أعلاه في معركة تبوك ، وتبين بالدلالة التضمنية غنى المسلمين عن المنافقين وعدم الحاجة لهم في الخروج إلى معركة تبوك .
ومن الإعجاز فيها بيان الضرر المتعدد من المنافقين وخروجهم إلى المعركة لقوله تعالى في ذات الآية أعلاه [وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ] ( ) لبيان الملل والجزع والحاجة إلى الطعام والشراب .
السادس : من خصال المنافق نقض العهد مع الله ورسوله مع أن هذا العهد هو نفع وخير محض له ، أي أن المنافق يترك ما يجب عليه ، وما فيه نفعه إلى ما يضره ، ومن خصائص خلافة الإنسان الوفاء بالعهد فلما إحتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) مع أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، أجابهم الله بصيغ البرهان والحجة القاطعة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
ومن الآيات أن الملائكة اكتفوا بهذا الجواب ، ولم يسألوا بياناً وتفصيلاً لمصاديق علم الله في خلافة الإنسان مما يجهله الملائكة ويتعذر عليهم علمه ، أما الإنسان فانه يجادل ويطلب التوضيح والدليل المتعدد لذا ورد قوله تعالى [وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً]( ).
وورد في إبراهيم عليه السلام قوله تعالى [أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي] ( ) أما الملائكة فان نفوسهم أطمئنت حالما قال الله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) وليس هذا من باب المقارنة للتباين الموضوعي، ومن علم الله عز وجل في المقام رسالة إبراهيم وجهاده في سبيل الله وإختياره للخلة ومنها رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووفاؤه والأنبياء والمؤمنون بالعهود ، قال تعالى [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً] ( ).
ليكون من معاني نقض المنافق للعهد تخليه عن المسؤولية الخاصة والعامة فأبقاهم الله في حال النفاق إلى يوم القيامة ، قال تعالى [وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ] ( ).
السابعة : من علامات النفاق التكاسل عن الصلاة وهو على أقسام :
الأول : التكاسل عن أداء الصلاة اليومية .
الثاني : تأخير الصلاة عن أول وقتها .
الثالث : التكاسل والخمول في أداء ركعات الصلاة فيتصف قيامه وركوعه وسجوده بالخمول .
الرابع : التباطئ في مقدمات الصلاة كالوضوء وغسل الجنابة .
الخامس : الفتور والتكاسل عن حضور صلاة الجماعة ، و(عن أبي بن كعب ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بهم صلاة الصبح ، فلما انفتل قال : أشاهد فلان ؟ أشاهد فلان ؟ لنفر من المنافقين لم يشهدوا الصلاة ، ثم قال : إن أثقل الصلاة عليهم هاتان الصلاتان : صلاة الصبح وصلاة العشاء ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما حبوا .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عليكم بالصف المقدم ، فإنه على مثل صف الملائكة ، ولو تعلمون ما فيه إذا لابتدرتموه قال : وصلاتك مع الرجل أزكى من صلاتك وحدك ، وصلاتك مع الرجلين أزكى من صلاتك مع الرجل ، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله ) ( ).
ويبين قوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ) إرادة الإطلاق في تكاسل المنافقين لعموم وجوه الصلاة التي يتكاسلون عند القيام لها وعند أدائها ، وتذكر الآية أعلاه خصالاً متعددة للمنافقين وهي :
الأولى : مخادعة المنافقين لله عز وجل ورسوله ، ومن معاني قوله تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ] أي يخادعون رسول الله باظهارهم الإيمان وإخفائهم الكفر .
الثانية : عقوبة الله عز وجل لهم على خداعهم وإبطانهم الكفر والجحود ، وسمي الجزاء من عند الله (يخادعهم) باسم ذات الفعل ويحتمل هذا الجزاء والمخادعة وجوهاً :
الأول : في الحياة الدنيا .
الثاني : في الآخرة .
الثالث : الأمر الجامع في الدنيا والآخرة .
والصحيح هو الأخير لبيان شدة العقاب والعذاب على النفاق ومخادعة الله ورسوله والمؤمنين ، قال تعالى [يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ] ( ).
وهل يختص عذاب المنافقين في الآخرة بمضامين الآية أعلاه , الجواب لا ، إنما هو أعم لذا قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا] ( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : أيهما أشد اذى وعذاباً على المنافقين جزاء الدنيا أو الآخرة .
الثانية : هل آية البحث من المخادعة التي تذكرها الآية أعلاه .
والجواب على الأولى هو أن جزاء الآخرة أشد وأمر على المنافقين ، وأما الثانية فالجواب نعم ، فان آية البحث من مخادعة الله عز وجل للمنافقين لوجوه :
أولاً : بيان الآية لعلم الله بالمنافقين .
ثانياً : فضح آية البحث للمنافقين .
ثالثاً : بيان الآية الخصال القبيحة للمنافقين .
رابعاً : توثيق قول المنافقين عند الشدة والقتال .
خامساً : ذكر الآية لقانون وهو التباين والتضاد بين ما يقوله المنافقون ويدّعونه من الإيمان ، وما يأتون به من الأعذار الواهية للإمتناع عن قتال الذين كفروا ، وبين ما يخفون في قلوبهم من الغيظ والغل على المؤمنين .
سادساً : بيان إمتناع المنافقين عن الدفاع عن المدينة وأهلها .
ومن الآيات في جزاء ومخادعة الله للمنافقين أنها مستمرة ومتجددة إلى يوم القيامة , ففي كل يوم يتلو المسلمون خمس مرات آية البحث والآيات التي تذم المنافقين ، وهو من أسرار وجوب تلاوة القرآن في الصلاة اليومية وجوباً عينياً على كل مسلم ومسلمة .
الثالثة : من خصال المنافقين التي تذكرها الآية أعلاه من سورة النساء قيامهم للصلاة وهم في حال كسل وتثاقل وتباطئ ، وهل هذا الكسل أمر وجودي يتعلق بالآخرين أم أنه أمر عدمي يعود لصاحبه ، الجواب الوجهان معاً ، فان قيام المنافقين إلى الصلاة بكسل وتهاون حرب عليها ، وصد للمؤمنين من الإقبال عليها والشوق إليها وإنتظار وقتها .
لقد كان المنافقون يبغون الفتنة بلهوهم وغفلتهم عن الصلاة .
الرابعة : جعل المنافقين موضوعية لمراءاة الناس في أفعالهم , ومن شرائط أداء العبادات قصد القربة وإرادة طاعة الله عند أداء الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو الحج أو الخمس , ويبغض الله عز وجل الفعل الذي فيه رياء لأن الله عز وجل هو صاحب النعمة بتوفيق العبد لأداء العبادة وهو الذي يجزيه عليها ، وهو سبحانه غني عنها .
(عن شداد بن أوس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :
إذا جمع الله الأولين والآخرين ببقيع واحد ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي ، قال : أنا خير شريك ، كل عَمل عُمل لي في دار الدنيا كان لي فيه شريك ، فأنا أدعه اليوم ولا أقبل اليوم إلا خالصاً . ثم قرأ {إلا عباد الله المخلصين}( ) {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً})( ).
ترى ما هي النسبة بين الشرك والرياء المختار هو نسبة العموم والخصوص من وجه وأن الرياء أدنى رتبة من الشرك .
وقد ورد عن الحسن البصري أن الرياء شرك (عن عبد الواحد بن زيد قال : قلت للحسن : أخبرني عن الرياء؟ أشرك هو؟ قال : نعم يا بني ، وما تقرأ { فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } ) ( ).
فان قلت قد ورد (عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم} اتقوا الشرك الأصغر. قالوا : وما الشرك الأصغر؟
قال : الرياء يوم يجازي الله النّاس بأعمالهم) ( ).
والجواب ورود تقييد الرياء بالصغر من جهة الشرك يخرجه بالتخصيص عن الشرك بالله لدلالة إرادة الرياء في ذات الفعل العبادي وليس في أصل الإعتقاد ، فمثلاً قد يحسن المسلم صلاته ليراه الناس أو ليمتدحه غيره ، أو ليقترب من شخص ذي شأن أو يطلب به جاهاً ، أو يريد زواج امرأة ثم يجعل ما يناله في طاعة الله وفي سبيله .
ومن الإعجاز في سنن العبادة في الإسلام التعدد في سنخية وضروب العبادة كالصلاة والصوم والزكاة ، وتكرار ذات الفعل العبادي ،فمثلاً يؤدي كل مسلم ومسلمة الصلاة خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني .
ومن الآيات أن بعض الصلوات قد تؤدى على انفراد مثل صلاة الصبح لمن لا يخرج إلى المسجد ، كما أن الصوم عبادة لا يعلم بها إلا الله عز وجل لأنها إمساك عن الأكل والشرب والجماع من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس وينتفي الرياء قهراً في أكثر آناته ، لخلو الصائم بنفسه فيها .
لذا ورد (عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله جعل حسنة ابن آدم عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم ، والصوم لي وأنا أَجزي به)( ).
ومن إعجاز القرآن تجلي مفاهيم المدح والذم لإصلاح المسلمين وتثبيت أقدامهم في مقامات الإيمان ، فتبين الآية صفات المنافقين لأمور :
الأول : تحذير المسلمين من النفاق .
الثاني : كشف المنافقين ، وهو من مصاديق آية البحث [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] ولبيان قانون وهو أن هذا العلم لا يختص بمعركة أحد بل يشمل كل فعل عبادي .
الثالث : دعوة المسلمين للإجتهاد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون في التنزه عن صفات النفاق ، قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ) وخصال النفاق من الأثم ومن العدوان مجتمعين ومتفرقين .
الخامسة : إتصاف المنافقين بالقصور والتقصير في ذكرهم لله عز وجل ، ومنه التكاسل والتثاقل عن أداء الصلاة حتى يقارب وقتها الإنقضاء (عن العلاء بن عبد الرحمن قال : دخلت على أنس بن مالك حين صلينا الظهر ، فقالت له جاريته : الصلاة ، فقلت : أية صلاة يا أبا حمزة ؟ قال : العصر ، قلت : إنما صلينا الظهر الآن ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : تلك صلاة المنافق ، يترك الصلاة حتى إذا كانت في قرن الشيطان أو بين قرني الشيطان قام فصلى لا يذكر الله إلا قليلا) ( ).
ومن معاني قلة ذكر الله عز وجل في الآية وجوه :
الأول : الإسراع في الصلاة وكأنها نقرة ديك ، وقيل الذكر في الآية هو الصلاة ، ولكن الآية أعم .
الثاني : لا يذكر المنافقون الله إلا باللسان ، لإبطانهم الكفر .
الثالث : يذكر المنافقون الله عز وجل في حضرة الناس ولا يستحضرون ذكره في أنفسهم ، فجاء تأديب المسلمين بقوله تعالى [وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ]( ).
الرابع : مع أن المنافقين دخلوا الإسلام ، وهم في الظاهر مسلمون إلا أنهم لا يذكرون معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا قليلاً .
الخامس : لا يحتج المنافقون بمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع تجليها لذا فان القلة التي تذكرها الآية تتعلق بالكم والكيف .
السادسة : من خصال المنافقين إعانتهم للذين كفروا، وولايتهم لهم، وفي خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ]( )، وقد يؤدي هذا القول وما يترتب عليه إلى دبيب الأسى والحسرة إلى نفوس عامة الصحابة إذ تظهر جماعة من بين ظهرانيهم عزماً على الإمتناع والصدود عن بعض الأوامر ولكن الله عز وجل تفضل بالإخبار عن قولهم، وذكر صفتهم وأنهم منافقون لبعث النفرة في نفوس المسلمين منهم ومن قولهم .
ولم تختتم الآية حتى وردت فيها أسباب بعث الطمأنينة في نفوس المسلمين إذ نعتت المنافقين بالكاذبين، لبيان كذبهم من جهات:
الأولى : كذب المنافقين في إدعائهم الإيمان.
الثانية : فضح المنافقين في كذبهم بإدعائهم الأخوة مع المؤمنين.
الثالثة : إذا أخرج أهل الكتاب لا يخرجون معهم ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، في المقام نصح أهل الكتاب ومنهم يهود المدينة بأن لا يتكلوا على كلام المنافقين , ودعوة اليهود بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع إلى اجتناب قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة : إدعاء المنافقين النصرة لأهل الكتاب إنما هم يريدون الفتنة.
الخامسة : لا يقدر المنافقون على عدم طاعة الله ورسوله والذين آمنوا.
السادسة : كذب المنافقين من جهة عجزهم عن نصرة الذين يقاتلون المسلمين.
السابعة : إتصاف المنافقين بأنهم كاذبون.
الثامنة : تجدد صدور الكذب من المنافقين.
التاسعة : تحذير الناس من وعود المنافقين.
إعجاز الآية الذاتي
إبتدأت آية البحث بحرف العطف الواو لتملي على القارئ والسامع الرجوع إلى الآية السابقة ، والتدبر في كل من :
الأول : مضامين الآية السابقة .
الثاني : مضامين ومعاني آية البحث .
الثالث : الصلة والربط بين آية البحث والآية السابقة .
الرابع : العطف بين مضامين آية البحث ، كما ورد في [وَقِيلَ] في [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا…] ويمكن تسمية العطف بين مضامين وجمل الآية الواحدة بالعطف الذاتي .
وهل في هذا العطف دلالة على لزوم الرجوع إلى الآية التالية لتمام المعنى ، الجواب لا دليل عليه إلا أنه يبعث على التبادر بالعطف والتداخل الموضوعي بين الآيات المتتالية .
ومن إعجاز هذه الآيات تعدد الحاجة للرجوع إلى الآية السابقة لآية البحث من وجوه :
الأول : حرف العطف في أول آية البحث .
الثاني : لام التعليل في قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ] إذ يدل إبتداء الآية بذكر المعلول على تقدم العلة في الآية السابقة .
ومن الإعجاز في المقام اختتام الآية السابقة بأحد أفراد المعلول بقوله تعالى[وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالث: إتحاد ذات الفعل بين خاتمة الآية السابقة وآية البحث إذ يتكرر فيهما قوله تعالى(ويعلم).
الرابع : الإخبار عن إرادة علم الله عز وجل في كل مرة الآيتين ، وقد أحاط الله عز وجل علماً بكل شئ ، وهو سبحانه يعلم بالفعل قبل وقوعه .
الخامس : إتحاد موضوع الآيتين من جهات :
الأولى : إرادة وقائع معركة أحد .
الثانية : نزول المصيبة بالمسلمين في معركة أحد.
الثالثة : صيرورة واقعة أحد مناسبة للكشف من جهات :
الأولى : كشف صدق إيمان المهاجرين والأنصار .
الثانية : كشف وفضح الذين نافقوا .
الثالثة : فضح وخزي الذين كفروا , وأصروا على العدوان على المسلمين .
الرابعة : واقعة أحد دعوة للناس جميعاً لنبذ الكفر والظلم والتعدي ، ومن الآيات أن موضوع هذه الدعوة مصاحب للإنسان في فطرته ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
فحينما إحتجت الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض لأنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) أجاب الله عز وجل بالبرهان العام القاطع [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) لتكون حياة الإنسان في الأرض حجة متجددة في كل يوم تبين صحائف إعجازية من علم الله مما لم يكن يعلمه الملائكة فيزداد الملائكة تسبيحاً وخضوعاً وخشوعاً لله عز وجل ويتوجهون بالدعاء للمسلمين وأهل الأرض ، ومنه قوله تعالى [الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا] ( ) .
وهل إستغفار الملائكة للذين آمنوا من علم الله الذي لم تكن الملائكة تعلمه عند خلق آدم ، الجواب نعم ، وكأن الجمع بين الآيتين أعلاه وآية الخلافة أعلاه يتضمن أموراً :
الأول : فوز المؤمنين بالمغفرة بدعاء وإستغفار الملائكة .
الثاني : هداية الناس للإسلام ببركة دعاء واستغفار الملائكة .
الثالث : نيل الذين يؤمنون العفو والمغفرة عما ارتكبوه من الذنوب قبل التوبة والإنابة ، وهل يصح القول وبعد التوبة , الجواب نعم , وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
الرابع : بيان الصلة المباركة بين أهل السماء وأهل الأرض والتي تتجلى باستغفار ودعاء الملائكة للذين آمنوا , وموضوعية هذا الإستغفار في هداية المسلمين إلى عمل الصالحات .
لقد أخبرت آية البحث عن قانون وهو طرو المصيبة على المسلمين سبب لكشف زيف إدّعاء المنافقين ولفضحهم ، ومن إعجاز الآية الذاتي عدم وقوفها عند العلم بالذين نافقوا قبل وأثناء وبعد معركة أحد ، بل أخبرت الآية عن توجه الدعوة للذين نافقوا بأن يجاهدوا في سبيل الله أو يدفعوا عن انفسهم وأموالهم وعن كيفية إعتذارهم بالباطل .
وتبين الآية قانوناً وهو أن الذين نافقوا لا يقاتلون في سبيل الله ولا يدافعون عن أنفسهم وأهليهم .
وتقسم آية البحث الناس إلى أقسام :
الأول : المؤمنون .
الثاني : الذين كفروا .
الثالث : الذين نافقوا وهم أقرب للكفر في حال الشدة والضيق .
ومن إعجاز آية البحث تقييد قرب المنافقين للكفر ومفاهيمه بحال الشدة وأوان الإبتلاء ونزول المصيبة ، مما يدل بالدلالة التضمنية على كونهم في حالات أخرى في حال برزخ بين الإيمان والكفر ، خاصة عندما يأتي النصر والغنائم للمسلمين ، قال تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ]( ).
ومن صفات المنافق أنه إذا أصاب خيراً وخصباً سكن إليه ، أما نزلت بالمسلمين عامة أو به مصيبة وبلاء ، جحد بالنبوة وتكاسل عن العبادات وأظهر الشك والريب .
وتبين الآية التنافي والتضاد بين أمرين :
الأول : ما يظهره المنافقون من الإيمان .
الثاني : ما يبطنون من الكفر والجحود .
وأختتمت الآية بقانون وهو علم الله عز وجل بما يخفي المنافقون مجتمعين ومتفرقين ، مما يدل على أن قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] ذم الذين نافقوا لسوء سرائرهم .
ومن إعجاز القرآن تفسير آياته بعضها لبعض , وبينما ورد قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] في آية البحث اجتمع موضوع هذا العلم في آية واحدة بقوله تعالى [وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ] ( ).
ويمكن تسمية آية البحث آية [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في آية البحث ، ولم يرد لفظ[وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ] فيه إلا مرتين والأخرى قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ]( ).
ولئن ذكرت الآية أعلاه الذين كفروا بأنهم كانوا كاذبين فان آيات القرآن ذكرت شهادة الله على كذب المنافقين في آيات عديدة منها قوله تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ]( ).
إعجاز الآية الغيري
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالقرآن ، وتحتمل هذه النعمة في إتحادها وتعددها وجوهاً :
الأول :كل سورة من القرآن نعمة عظمى على الناس .
الثاني : سور القرآن مجتمعة نعمة عظمى , وآية وفضل من الله سبحانه .
الثالث : كل آية قرآنية نعمة عظمى .
الرابع : كل آية من القرآن نعمة من جهات :
الأولى : أنها نعمة متعددة بلحاظ أن كل جملة وشطر من الآية القرآنية نعمة على المسلمين والناس .
الثانية : الآية القرآنية نعمة توليدية .
الثالثة : تفرع النعمة عن الآية القرآنية من جهات منها :
الأولى : نزول الآية القرآنية ، لذا كانت الملائكة تُشيع آيات القرآن في نزولها .
وفي المرسل عن ( إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ألا أدلّكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك حين نزلت ملأ فضلها ما بين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك؟
قالوا بلى يا رسول الله. قال : سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر له إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ولياليها مثل ذلك،
وأعطي نوراً يبلغ به السماء ووقي فتنة الدّجال) ( ).
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (نزلت سورة الانعام جملة واحدة شيعها سبعون
ألف ملك، حتى انزلت على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فعظموها وبجلوها، فان اسم الله فيها في سبعين موضعا، ولو علم الناس ما فيها ما تركوها) ( ).
الثانية : البركات التي تتغشى الأرض وأهلها بنزول الآية القرآنية ، وبين البركات التي تترشح عن نزول السورة القرآنية وبينها عموم وخصوص مطلق ، فبركات نزول السورة أكثر وأعظم وذات النسبة بين نزول مجموع سور القرآن وبين نزول السورة الواحدة ، لقانون وهو أن بركات وفيوضات القرآن ليس لها حد أو منتهى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ).
الثالثة : المنافع العظيمة بتلاوة الآية القرآنية , وتشمل هذه المنافع أفراداً :
الأول : الأحياء ومنهم تالي الآية القرآنية وسامعها ومن يتعظ منها ، وهو من ذخائر وجوب تلاوة القرآن في الصلاة على كل مسلم ومسلمة .
الثاني : ترتب الثواب على قراءة المسلم القرآن وبلوغه آبائه أحياءً وأمواتاً .
الثالث : إنتفاع الذي علّم المسلم التلاوة .
الرابع : مجئ وإكتناز الثواب لأولاد تالي وسامع الآية القرآنية .
وهل يشترط في ترتب الثواب للتالي والسامع مع الإسلام ، الجواب نعم لتجلي شرط إرتكازي وهو التصديق بأن القرآن نازل من عند الله عز وجل .
لقد تقدم في إعجاز آية البحث الذاتي ذكر دلالة واو العطف الذي تبدأ به آية البحث بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ] ولهذا العطف موضوعية أيضاً في إعجاز الآية الغيري .
الأولى : دعوة المسلمين والمسلمات للتدبر في مضامين آية البحث وصلتها بالآية السابقة .
الثانية : بعث الصبر والتأسي في نفوس المسلمين لما أصابهم يوم أحد ويتعلق موضوع هذا الصبر من وجوه :
الأول : صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم أحد من جهات :
الأولى : ما لحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الجراحات الشديدة.
الثانية : فقد حمزة عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهيداً يوم معركة أحد إذ قتله وحشي بالرمح غدراً وغيلة .
الثالثة : سقوط سبعين شهيداً من المسلمين .
الرابعة : دعوة النبي صلى الله وآله وسلم لأصحابه بالرجوع إلى المعركة ويدل عليه قوله تعالى[إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]( ).
الخامسة : إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الدعاء على كفار قريش، قال تعالى[لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ]( ).
السادسة : الجراحات الكثيرة التي أصابت أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد ولحقت حتى النساء ، كما في جراحات أم عمارة التي جاءت لتسقي جيش المسلمين الماء ، وتسمع أخباره ، وعندما رأت إقتراب العدو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بادرت إلى الدفاع عنه .
الآية سلاح
من إعجاز القرآن أن الآية القرآنية سلاح من وجوه :
الأول : كل كلمة وجملة من الآية القرآنية سلاح .
الثاني : مضامين الآية القرآنية حرز وواقية .
الثالث : دلالات الآية القرآنية مدد وعون .
الرابع : عطف الآية القرآنية على غيرها سلاح ومدد للمسلمين ، ومنه آية البحث وعطفها على الآية السابقة .
الخامس : صيرورة الآية القرآنية معطوفاً عليها .
إذ يقتبس المسلمون المواعظ والحكم من الوجوه أعلاه بما ينفعهم من جهات :
الأولى : القضية الشخصية بأن يتخذ المسلم الآية القرآنية سلاحاً لنفسه ، وأموره الخاصة .
الثانية : إنتفاع الأسرة المسلمة من الآية القرآنية .
ومن أسرار هذا الإنتفاع التعاضد والتعاون فيه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ..] ( ).
الثالثة : إتخاذ الجماعة من المسلمين الآية القرآنية سلاحاً وواقية ، ومنهم الذين يؤدون الصلاة جماعة ، وهو من أسرار تلاوة إمام الصلاة القرآن ، وإصغاء المأمومين له ، ليكون من معاني ومصاديق قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) إنتفاع المسلمين والمسلمات من تلاوة إمام الجماعة .
الرابعة : إنتفاع الطائفة من المسلمين من الآية القرآنية ، بما يفيد وحدة المسلمين ونبذ الفرقة والخلاف ، ومنه قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ..] ( ).
الخامسة : إتخاذ الأمة الآية القرآنية منهاجاً ودستوراً وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) فليس من حصر لوجوه مصاديق انتفاع المسلمين وأجيالهم المتعاقبة من الآية القرآنية وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
ومن معاني آية البحث إخبار المسلمين عن قانون وهو أن الذين نافقوا صاروا معروفين بصفاتهم ، وأن معركة أحد تتضمن معاني الرحمة والتخفيف عن المسلمين ، فمع النصر الإلهي للمسلمين في معركة بدر يأتي الفضل والرزق الإلهي ، ومع الخذلان والإنكسار في معركة أحد يأتيهم أيضاً النصر والفضل من عند الله عز وجل .
وبينما يحسّ المسلم بالضرر الناتج عن معركة أحد في الآيات السابقة ، أختتمت الآية السابقة بفضل الله في ثنائه وشكره للمؤمنين ، وجاء أول هذه الآية بالإخبار عن العلم بالذين نافقوا لتكون مواساة للمسلمين ودعوة لهم للحيطة والحذر .
ومن أسباب إرتقاء الفرد والجماعة للعمل للغد والمستقبل عدم الوقوف عند الماضي لذاته ، لتكون خاتمة الآية السابقة ومضامين آية البحث وسيلة وحرزاً للعمل في الحاضر والمستقبل ، فيزداد المسلم إيماناً ويتخذ من آية البحث واقية من النفاق .
ومن الإعجاز في آية البحث تعدد وجوه الإنتفاع منها كسلاح من جهة الكم والكيف ،وكل شطر من الآية الكريمة موعظة , وفيها مسائل :
الأولى : إحتراز المسلمين والمسلمات من النفاق وإن قلت : سلمنّا بأن المسلمين يجتنبون النفاق بالمبادرة إلى الخروج إلى سوح القتال دفاعاً عن الإسلام ، فكيف تجتنب المسلمات النفاق في المقام وقد وضع الله عنهن القتال ، الجواب من وجوه :
الأول : حث المسلمات أزواجهن وإخوانهن وأبنائهن على الخروج للجهاد والدفاع عن بيضة الإسلام ، كما في واقعة أحد إذ قال تعالى في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) .
لتدل الآية أعلاه بالدلالة التضمنية على علم ورضا أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلبسه لأمة الحرب وخروجه للقتال ، ولم يذكر التأريخ إحتجاجاً لبعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خروجه وخروج المؤمنين معه إلى القتال , وهو من مصاديق منزلتهم الرفيعة ، وصيغة العموم بقوله تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] ( ) ودلالته بالدلالة التضمنية على عدم منع أو نهي عوائل أصحابه لهم عن الخروج ، وفيه آية من الثناء على المسلمات وزجر عن النفاق ، وتوبيخ للمنافقات ، وبيان قانون وهو أن شآبيب النصر للمسلمين صارت قريبة .
فان قلت هل من فرق بين المسألة الأولى والثانية أعلاه ، الجواب نعم ، إذ أن حث المسلمات ذويهن على الخروج غير عدم منعهن لهم .
الثاني : خروج الصحابيات إلى معركة أحد للقيام بسقاية الماء وتضميد الجرحى ، وكانت فاطمة الزهراء عليها السلام معهن ، وكذا صفية بنت عبد المطلب عمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومنهن أم سليط وهي أم قيس بنت عبيد من بني النجار وأم أبي سعيد الخدري , وكانت يوم أحد تسقي المسلمين بالقرب وشهدت خيبر وحنيناً .
الثالث : قيام بعض الصحابيات بالقتال في معركة أحد , عندما إقترب المشركون من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصارت سهامهم وحجارتهم تصل إليه ، ومنهن أم عمارة نسيبة بنت كعب من بني النجار من الأنصار .
الثانية : إتخاذ المسلمين آية البحث سلاحاً ووسيلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن وجوه :
الأول : بيان القبح الذاتي للنفاق .
الثاني : المناجاة للأمن من النفاق .
الثالث : زجر المنافقين والإغلاظ عليهم وحثهم على لزوم التنزه عن الكفر الذي يخفونه في نفوسهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ).
الرابع : دعوة الناس لعدم الإصغاء إلى المنافقين .
الخامس : الترغيب بالدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيضة الإسلام .
الثالثة : دعوة المسلمين إلى عدم الميل إلى المنافقين إذ تبين الآية أنهم أقرب إلى الكفر خاصة في ساعة الشدة وعند نزول المصيبة .
الرابعة : الإحتجاج على المنافقين وذمهم لسوء ما يفعلون .

مفهوم الآية
إبتدأت الآية بإنذار المنافقين وإخبارهم بأن الله عز وجل ابتلى المسلمين بمعركة أحد لكشف كذب وخداع المنافقين ، ولتنمية ملكة الحيطة والحذر عند المسلمين منهم .
لقد جاءت معركة أحد على حال المهادنة والرأفة مع المنافقين ،وجعلت المسلمين في يقظة من قولهم والظن باعتذارهم عن الخروج للدفاع .
ومن مفاهيم قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] دعوة المسلمين للمناجاة فيما بينهم للتنزه عن النفاق وعدم الركون إلى المنافقين الذين هم من الظالمين لأنفسهم ويشملهم قوله تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ] ( ) .
وتتضمن آية البحث توجيه اللوم للمنافقين لنكوصهم وإصرارهم على القعود عن قتال الكفار الذين زحفوا لإستباحة المدينة وتخريبها والفتك بأهلها , ومنع توالي نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو خير محض لأهل الأرض .
فمن إعجاز القرآن نزوله نجوماً وعلى التوالي والتعاقب لتكون فيه بشارة حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل لحين تمام نزول القرآن لذا فحينما نزل قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ] ( ) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (نعيت إلى نفسي وقرب أجلي) عن ابن عباس( ).
لبيان أن النعي لم يأت إلا بعد أن تم نزول آيات القرآن كلها ، وتعاهدها المسلمون بالتلاوة والحفظ والعمل بمضامينها .
وتبين الآية ظهور الدعوة إلى القتال في سبيل الله والإجهار بها وتخبر بأن جفاء وإعراض المنافقين عنها , لم يضر المؤمنين ولن يقعدهم عن الخروج للدفاع وفيه شاهد على حصر المنافقين ومنع تأثيرهم على الناس ، وجاءت آية البحث للتضييق عليهم من وجوه :
الأول : ذات نعت الذين نافقوا بهذا الاسم تبكيت لهم وإخبار عن تخلفهم عن منازل الإيمان .
الثاني : حرمان المنافقين من الثناء الذي يأتي من عند الله للمؤمنين .
الثالث : صيرورة المنافقين في منزلة تبعدهم عن أهل الإيمان خاصة عند الشدائد وحلول أسباب الضرر ، لذا قال تعالى في آية البحث [هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ].
الرابع : إخبار آية البحث عن إقامة المسلمين الحجة على الذين نافقوا في ساعة ظهور النفاق وإثارة الفتنة ، إذ قال تعالى [وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ..]لبيان تعدد الدعوة للمنافقين للدفاع بقصد القربة إلى الله وطلب رضوانه .
لقد كان هذا القول رحمة بالمنافقين ودعوة لهم للإنابة ويدل في مفهومه على ثبات المسلمين في منازل الإيمان ، وعزمهم على الصبر في ميدان القتال، وان أصر المنافقون على القعود ويدل عليه قول واعتذار المنافقين [لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ..] أي أن الذين دعوهم إلى الدفاع خرجوا بأنفسهم للدفاع وأنهم لا يحتاجون المنافقين قادة وأمراء إنما هم تابعون لجيش المسلمين ، وكأن الآية تدل بالدلالة التضمنية على الكفاية والغنى عن المنافقين .
وتتضمن آية البحث في مفهومها معاني اصرار المنافقين على العزوف عن الإيمان بصيروتهم أقرب إلى منازل الكفر والجحود مما يدل على أنهم لم يكتفوا بالقعود عن القتال إنما صاروا يمالئون الذين كفروا ، وأختتمت آية البحث بالوعيد للذين نافقوا والإخبار بأن الله عز وجل يعلم ما في سرائرهم ويحصي عليهم نواياهم ومقاصدهم الخبيثة ، لبيان وقاية المسلمين منه وكفاية شرهم وأذاهم ، وفي التنزيل [وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ..] ( ).
الآية لطف
تبدأ الآية بالإخبار عن علم الله عز وجل بسنخية الأشخاص , وفيه تذكير للمسلمين والناس جميعاً بأن الله عز وجل قريب منهم يعلم بأقوالهم وأفعالهم ، قال تعالى [مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ…] ( ).
وذكرت آية البحث الذين نافقوا وفيه شاهد على أن الله يعلم ما في القلوب وأن طائفة من الناس دخلوا الإسلام ظاهراً ولكنهم بقوا مقيمين على الكفر والجحود ، فابتلاهم الله عز وجل بما يكشف هذه الإقامة ويدل على قبحها والحساب عليها بأن لحقت الخسارة المسلمين في معركة أحد ، وسقط سبعون شهيداً منهم في يوم واحد ، ولم يستشهدوا إلا بأذن الله عز وجل .
فأخبرت الآية بعد التالية عن عظيم شأنهم وخلودهم في النعيم عند الله، ليكون قتلهم إنتقالاًً من عالم الدنيا وما فيها من البلاء والإمتحان إلى دار النعيم التي ليس فيها إلا الأمن والغبطة والحياة الدائمة بسعادة .
لقد بينت معركة أحد عداوة الذين كفروا من قريش للإسلام وإرادتهم الإجهاز عليه ، وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأخرج المنافقون رؤوسهم وأظهروا ما يبطنون من الكفر والجحود وانسحبوا من وسط الطريق إلى معركة الدفاع , وتظاهروا بانكار حدوث قتال بين الفريقين مع أن أماراته جلية وواضحة إذ أطل على مشارف المدينة جيش عرمرم يتألف من ثلاثة آلاف رجل , يستعد ليوم اللقاء هذا لأكثر من سنة , ليكون من معاني قوله تعالى في الآية السابقة ( يوم التقى الجمعان ) بيان ذهاب هذا الإستعداد سدىً , قال تعالى[وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا]( ).
وإبتدأت آية البحث بحرف العطف الواو , وفيه بعث للأذهان لإستحضار مضامين الآية السابقة طوعا وقهراً والتي تتضمن الإخبار عن واقعة أحد وأنها معركة التقى فيها جيشان :
الأول : جيش إجتمع على الحق والهدى، بإمامة رسول صلى الله عليه وآله وسلم خرجوا دفاعاً عندما أشرف العدو على المدينة المنورة، وصار يهدد أهلها.
الثاني : جيش الذين كفروا الذين إجتمعوا على محاربة النبوة والتنزيل، جاءوا غازين ومصرين على العدوان، ويتوعدون رسول رب العالمين الذي بعثه الله عز وجل[رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، وأصحابه من المهاجرين والأنصار.
وهل إبتداء آية البحث بحرف العطف من اللطف الإلهي , الجواب نعم، إذ تذم فاتحة آية البحث الذين نافقوا، وجاء هذا الذم بعد المدح والثناء للمؤمنين، ومن معانيه أمور :
الأول : بيان غنى الله ورسوله عن الذين نافقوا.
الثاني : سبق الإيمان للنفاق , وهذا السبق من وجوه اللطف بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، فلقد بايع الأنصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيعة العقبة في موسم الحج، ثم إستقبلوه بصيغة الإيمان والتسليم بنبوته، قال تعالى[وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]( ).
الثالث : الترغيب بالإيمان، وبعث النفرة في النفوس من النفاق، ولا يختص كل من هذا الترغيب والنفرة بخصوص طائفة من المسلمين، إنما يشمل المؤمنين والمنافقين وأهل الكتاب والناس جميعاً ليكون من الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تقدم وسبق الرغبة في الإيمان إلى النفوس وبعثها على كره ومقت النفاق وأهله، لتكون آية البحث من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ]( ) .
وتتضمن آية البحث الدعوة للقتال، وهو بذاته مكروه لما فيه من الأذى وسفك الدماء، إلا أن هذه الكراهة تنتفي عندما يكون القتال دفاعاً عن الحق، وملة التوحيد والعرض والمال .
فمن إعجاز آية البحث تقييدها دعوة المسلمين للذين نافقوا للقتال بأنه(في سبيل الله) ليكون هذا التقييد من أمارات النصر والفلاح، إذ يقاتل المسلمون قربة إلى الله ولجعل كلمته هي العليا , فلا يصل إليهم الخوف والنفرة والألم، ويقاتل الذين كفروا من أجل الأوثان وإشاعة الفسوق، والإمتناع عن العبادة التي هي علة خلق الإنسان بقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، والغايات المذمومة التي يقاتل الكفار من أجلها سبب لغزو الخوف إلى قلوبهم، وظهور اليأس على ألسنتهم وفي أفعالهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( )، فتارة ينفذ الخوف إلى قلوبهم بالكاف والنون، وأخرى بالأسباب والعلل الظاهرة والخفية، وجاءت آية البحث لطفاً من عند الله لمنع الناس من النفاق، ولإصلاحهم للإيمان.
وليكون من معاني قوله تعالى(في سبيل الله) إمتناع الخوف من الذين كفروا وجيوشهم من الوصول إلى قلوب ومجتمعات المسلمين وليزدادوا حباً لله وخوفاُ منه سبحانه، وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الاحرار)( ).
وقيل بأن عبادة الأحرار أعلاه وحدها هي الصحيحة والمقبولة ولا دليل على هذا الحصر إنما جاء الحديث لبيان مراتب الثواب، وما يفيد إحتراز المسلم من النفاق، فكما أن قصد القتال دفاعاً وفي سبيل الله ينفي النفاق فإن الخوف من عند الله عز وجل يطرد عن القلب الخوف من الذين كفروا والذين يقيمون على عبادة الأوثان، وفي التنزيل[قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى]( ).
ومن اللطف في آية البحث بيانها لقبح التضاد بين الإيمان الظاهري والكفر الباطني , لينتفع المسلمون والناس من هذا القانون، فرب إنسان تقدم في إسلامه بأن أسلم في السنة الأولى أو الثانية للهجرة ولكن النفاق صاحبه، ويدخل آخر بعده الإسلام بسنة أو سنوات بقلب خال من النفاق ببركة آية البحث التي تتضمن في دلالاتها بيان ضرر النفاق على صاحبه في الدنيا والآخرة.
ومن خصائص آية البحث أنها تمنع من جعل زينة ومباهج الدنيا هي الغاية والأمل وصيرورتها نوع طريق ومقدمة للنفاق، والعزوف عن الدفاع عند الحاجة إليه، وأختتمت الآية بالإخبار عن علم الله عز وجل بما يكتم المنافقون في نفوسهم، وتدل الآية بالدلالة التضمنية على علم الله عز وجل بما يخفي كل إنسان في سريرة نفسه، والله سبحانه يصرف المؤمن عن نية السوء ويقربه ويمده لتنجز نية الخير والصلاح .
(وسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة, ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.
إفاضات الآية
لقد وقعت معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة , ويظهر أن رؤساء الكفر من قريش تعجلوا في الخروج غزاة من مكة إلى المدينة قبل أن تدركهم الأشهر الحرم والتي تبدأ بشهر ذي القعدة فليس بين معركة أحد في أوانها وبين الأشهر الحرم إلا نحو خمسة عشر يوماً، وهم يسعون إلى خزيهم وخيبتهم من حيث لا يعلمون، لذا قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
لقد إبتدأت آية البحث بالإخبار عن إحاطة الله عز وجل بكل شئ وإظهار مكنونات النفوس لإقامة الحجة على الناس وهو سبحانه يعلم بما يدور في الأذهان من أسباب الأمل والحزن ، لقد أشرقت الأرض بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأينعت القلوب بينابيع الحكمة ، ولكن المنافقين غلبت عليهم الكدورة ، وأصروا على الكفر في قرارة أنفسهم .
وكانت سيادة أحكام الإسلام في المدينة المنورة في أيامها الأولى ، وجاء نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر آية جذبت الناس إلى التدبر بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن هذا النصر معجزة عقلية وحسية وعضّد القرآن هذا النصر بالإخبار بأنه من عند الله عز وجل وأنه سبحانه أنزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من أسرار إجتهاد النبي بالدعاء عشية ويوم معركة بدر فنزل قوله تعالى [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) .
وعندما دخل البشيران زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة المدينة ليزفا لأهلها بشارة النصر في معركة بدر أظهر عدد من المنافقين الشك وسارعوا إلى تكذيب البشارة وقال بعض من الناس : ما جاء زيد بن حارثة إلا فلا)( ) أي فاراً هارباً خاصة وأنه كان يركب ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القصواء ، وما لبث أن وصل الأسرى , وفيهم بعض كبار قريش مثل العباس عم النبي , وسهيل بن عمرو ، وأبو العاص بن الربيع إذ جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأسرى يدخلون المدينة بين يديه ثم أطلت الطلعة البهية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة المنورة ولابد من دراسة مقارنة بين دخوله أول مرة للمدينة هارباً خائفاً من قريش وبين دخول الفتح والظفر من معركة بدر ، وليس بينهما سوى سبعة عشر شهراً في معجزة حسية وعقلية تتصل منافعها على الناس إلى يوم القيامة .
وورد في موسى عليه السلام [فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ] ( ) وتتجلى أفضلية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام , وخرج أهل المدينة لتهنئة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأعتذر عدد من الأنصار الذين تخلفوا عن المعركة وقالوا ظننا أنه ليس من معركة لأن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين كان بقصد التصدي لقافلة أبي سفيان ، وإجتازت القافلة من غير أن يتعرض لها المسلمون ، ولكن كفار مكة أصروا على الخروج لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فشاء الله عز وجل ألا تكون أول غزوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم طلب المال والإستيلاء عليه وإن كان هذا الإستيلاء حقاً لأن فيه إستيفاء لحقوق المهاجرين ، وعوضاً عن الأذى والضرر الذي لحقهم وديات للذين قتلوا من المسلمين والمسلمات تحت التعذيب مثل ياسر وسمية أبوي عمار بن ياسر .
وربما تقّول بعضهم في الأزمنة اللاحقة للمعركة ، ومنها هذا الزمان بأن المسلمين كانوا ينهبون القوافل أو أن الإسلام إبتدأ على التعرض للتجارة في الطريق ، فأنعم الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأجيال المسلمين المتعاقبة بأن أبدل التعرض للقافلة إلى معركة تتصف بأمور:
الأول : فرضت معركة بدر على المسلمين .
الثاني : لم يقصد المسلمون القتال ، ولم يستعدوا لملاقاة جيش يتألف من ثلاثة أضعاف عددهم .
الثالث : إصرار الذين كفروا على القتال .
الرابع : التفات واتعاظ المسلمين من مسألة وهي عدم إبتداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال وصيروته قانوناً في تأريخ الإسلام .
الخامس : النصر السريع والحاسم للمسلمين في معركة بدر.
السادس : قتل الذين كانوا يتمادون في إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في مكة .
السابع : كثرة غنائم المسلمين من المعركة .
الثامن : دخول سبعين أسيراً إلى المدينة ليكون دخولهم شاهداً على منعة وعز الإسلام ، وهل فيه دعوة للمنافقين لنبذ النفاق , الجواب نعم ، ليكون دخول الأسرى مقدمة لمنع المنافقين من إظهار نفاقهم عند وقوع معركة أحد ، مع دعوتهم للتنزه عن النفاق قبل وبعد معركة أحد ، وهل هذا المنع من مصاديق رفع الذلة عن المسلمين بالنصر في معركة بدر وقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) .
الجواب نعم ، فان قلت قد إبتدأت آية البحث بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] الجواب من إفاضات ذات آية البحث أمور :
الأول : بيان قاعدة وهي أن النفاق ضد الإيمان بلحاظ إختتام الآية السابقة بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) ومجيء آيات كثيرة بذم النفاق والوعيد عليه بالعذاب الأليم .
الثاني : الزجر عن النفاق ودعوة الذين يدخلون الإسلام للتنزه عن السجايا التي تدل على النفاق .
الثالث : تذكير آية البحث بمعركة بدر ونصر المسلمين فيها لقوله تعالى [قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ..] ولم يجلب هذا القتال على المسلمين إلا النصر الذي يجب أن يكون واقية من النفاق , ونوع طريق لدخول الإيمان إلى النفوس ، وهو من الإعجاز في تلاوة كل مسلم ومسلمة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) سبع عشرة مرة في اليوم وعلى نحو الوجوب العيني.
وهل هذه التلاوة واقية من النفاق , الجواب نعم، فلما تفضل الله عز وجل ونهى عن النفاق وبين سوء العذاب الذي ينتظر المنافقين تفضل وهدى المسلمين والمسلمات إلى العمل العبادي الذي يكون واقية وعلاجاً من النفاق في آن واحد.
ومن خصائص علاج الأبدان أن تكون له أعراض جانبية في الجملة ، وحتى في الأزمنة السابقة فأنه يتصف بالطعم المر وصعوبة جرعه، وقد يلزم قطع العضو المصاب ، فتفضل الله عز وجل وجعل تلاوة القرآن واقية وعلاجاً من النفاق والأخلاق المذمومة في آن واحد ومن غير أن تكون لها أضرار إنما هي خير محض وسبيل للرزق الكريم، وإمتلاء النفس بالطمأنينة، والسكينة والرضا، قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ) .
ويكون من إفاضات آية البحث تلاوة المسلم والمسلمة لها في الصلاة فتبعث في نفوسهم الحذر من النفاق، واللوم للمنافقين الذين إمتنعوا عن نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند مجيء جيوش الذين كفروا.
الآية بشارة
موضوع آية البحث هو واقعة أحد التي إبتدأت بنصر سريع لجيش المسلين ، وتوالي سقوط حملة لواء المشركين واحداً بعد آخر وشرع جيش المشركين بمقدمات الفرار لولا أن قام الرماة الذين يحمون ظهر المسلمين بترك مواضعهم طمعاً بالغنائم .
ترى هل من موضوعية لمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في همّ جيش الذين كفروا بالفرار في الساعات الأولى من معركة تهيأوا لها لأكثر من سنة , وقطع ثلاثة آلاف رجل أكثر من عشرة أيام بين مكة والمدينة من أجل الثأر والبطش والإنتقام .
الجواب نعم ، فلقد حضر حلفاء قريش معهم وأكثرهم سمعوا القرآن وبلغتهم معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكانت وقائع معركة بدر وما فيها من الإعجاز حاضرة في الوجود الذهني عند الفريقين ، ليكون من أسرار ورود لفظ [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( )بخصوص معركة بدر( ) ومعركة أحد كما في الآية السابقة إستحضار الجيشين يوم أحد لواقعة بدر ونصر المسلمين فيها مما زاد من همّة وعزيمة المسلمين وإمتلاء قلوب الذين كفروا بالخوف والفزع لتكون ذكرى واقعة بدر من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( ).
ويكون من وجوه تقدير الآية السابقة على وجوه منها :
الأول : وما أصابكم يوم التقى الجمعان ووقائع معركة بدر حاضرة في الأذهان .
الثاني : وما أصابكم يوم ألتقى الجمعان لم يبلغ درجة الهزيمة ، لأن نصر المسلمين في معركة بدر سبب لبعث الفزع والخوف في قلوب المشركين .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لقد أنعم الله عليكم بمعركة بدر ونصركم فيها لتقل خسارتكم في معركة أحد .
وإبتدأت آية البحث بالإخبار عن صيرورة معركة أحد وخسارة المسلمين فيها مناسبة لكشف وفضح المنافقين ، لبيان قانون وهو في كل واقعة للمسلمين هناك بشارة وبصيرة .
ومن البشارات في آية البحث قوله تعالى [أَوْ ادْفَعُوا]أي أن المشركين لا يستطيعون دخول المدينة والإستيلاء عليها ، لأن الدفاع نوع أمن ولكنه تكثير لسواد المسلمين وطرد للنفاق في النفوس .
ويدل قول المنافقين [لاَتَّبَعْنَاكُمْ] على أن المهاجرين والأنصار عازمون على ملاقاة العدو ، وأن شك وقعود الذين كفروا لن يصدهم ولن يمنعهم وأختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ]وفيه بشارة للمسلمين منطوقاً ومفهوماً ، أما المنطوق فان المنافقين عاجزون عن إخفاء ما في صدورهم من الكفر والغل والحسد وأسباب الشك , وأما المفهوم فان الله عز وجل يعلم صدق إيمان المسلمين وإخلاصهم في طاعة الله ورسوله ، وفيه بشارة بدفاعهم عن النبوة والتنزيل ، ودعوة لهم للتعاون والتعاضد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ) إن ذم الذين نافقوا تخفيف عن المؤمنين وبشارة لهم يمنع إتساع النفاق وإزدياد أهله ورواده ، فمن الإيجاز في آية البحث أنها وتلاوة المسلمين والمسلمات لها تأتي على النفاق وتزجر الناس عنه .
الآية إنذار
إبتدأت آية البحث بالتبكيت والتخويف للمنافقين وإنذارهم من الإقامة على الضلالة في ذات الوقت الذي يظهرون فيه الإسلام لأن هذه الإقامة حرب على الإسلام .
لقد جعل الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منهاج الأنبياء وسلاح الصالحين لبناء صرح الإيمان والأخلاق الفاضلة في الأرض ، وعندما إحتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) إحتجوا بالإفساد في الأرض وسفكه الدماء ، فرد عليه الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علمه سبحانه حضور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الأجيال المتعاقبة , والتنزيل والسنة والعقل واللسان روافد له .
لذا فان مجئ آية البحث بذم المنافقين يدل على لزوم الأمر بالإيمان والترغيب فيه ، والنهي عن الكفر إعلاناً وإبطاناً ، وتجلت معاني قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) جملة وموضوعاً من آية البحث من جهات :
الأولى : إبتداء الآية بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] .
الثانية : علم الله عز وجل من قبل أن يخلق آدم بأن المؤمنين سيحثون المنافقين على الدفاع .
الثالثة : علم الله عز وجل بفساد الذين كفروا وإصرارهم على التعدي ، ومنه هجومهم على المدينة في معركة أحد والخندق .
الرابعة : علم الله عز وجل بفساد المنافقين وأنهم لن يضروا الإسلام .
الخامسة : علم الله بانحسار الفساد والقتل من الأرض .
السادسة : إختتام آية البحث بعلم الله مما يخفي المنافقون في نفوسهم .
ومتى ما أدرك الإنسان أن الله عز وجل يعلم ما يبطنه في سريرته فانه يحذر من الإقامة على الكفر ، ومن نية السوء .
وفي آية البحث إنذار من وجوه:
الأول : الإنذار للمسلمين من المنافقين ومكرهم .
الثاني : الإنذار من رجاء نصرة المنافقين ليكون من معاني آية البحث ، بعث المسلمين على التوكل على الله ، ورجاء رفده وفضله ، قال تعالى [وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً] ( ) .
الثالث : تنمية ملكة الحيطة والحذر من النفاق عند المسلمين .
الرابع : بيان قانون في الإسلام وهو لزوم عصمة النفوس من درن النفاق .
الخامس : إنذار الذين يدخلون الإسلام حديثاً من النفاق ، فقد يدخل المهاجر إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحينما يقف في الصلاة في المسجد النبوي خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يظن أن الذين يقفون إلى جانبه في صفوف الصلاة كلهم مؤمنون ، خاصة وأنهم سبقوه في دخول الإسلام ، فجاءت آية البحث لتحذره من المنافقين ، وتخبره بأن الله عز وجل قد أنذرهم ووبخهم ، وفي التنزيل [وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ] ( ).

الآية موعظة
لقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً، وكل ممكن محتاج، وهذه الحاجة رحمة من عند الله عز وجل بالإنسان ليتدبر كنه الحياة الدنيا ، وضعفه عن البلغة والغاية .
ويحتاج الإنسان الموعظة، ويترتب عليها النفع الظاهر، والأثر في الباطن عند السامع والمتعظ مطلقاً، لذا ذكرت آية البحث لما يكتمه الذين نافقوا في أنفسهم، لتكون آية البحث موعظة تنفذ إلى بواطنهم، وتبين لهم قبح النفاق، والتخلية بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين سيوف الذين كفروا.
وعن مالك بن دينار قال: إن البدن إذا سقم لم ينجع فيه طعام ولا شراب ولا نوم ولا راحة , وكذلك القلب إذا علقه حب الدنيا لم تنجع فيه الموعظة)( ).
ولا دليل على هذا القول، ويتجلى بطلانه بأن جعل الله عز وجل الموعظة وسيلة الدعوة إلى الله وسبيل الهداية , والموعظة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة بذاتها وموضوعها وأثرها وكيفية تلقيها، قال تعالى[فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ]( )، والموعظة هي تذكير وترغيب وترهيب بالبرهان والخبر والخطاب .
وقيل أن قوله تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( )، منسوخ بآية السيف، ولا دليل عليه إنما الآية محكمة , والعمل بها باق إلى يوم القيامة، وهي مقدمة على آية السيف من جهة الكم والأثر وسعة الزمان والمكان.
وقيل أن آية السيف نسخت قوله تعالى[وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ]( )، والأصل عدم النسخ، وعدد منهم يقولون أن آية السيف هي[فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ]( )، ولكن لابد من قراءة الآية كلها خاصة وأنها جملة شرطية وتمام الآية هو[فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وقد مرت سنوات على نزول هذه الآية ولم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتل كل مشرك وكافر، وكانوا يأتون إليه ويسألونه عن الإسلام ومعجزات النبوة، وأكثرهم يدخل الإسلام، ومنهم من يرجع إلى قومه فيتركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشأنه فإن لم يسلم فإن أبناءه يدخلون الإسلام لأنه دين الحق.
وفي خطاب وحكم وأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) أي أن لم يسلم فهيئ له الأسباب ليصل سالماً إلى الموضع والمحل الذي يأمن فيه وأمنع الناس من التعرض له .
والآية أعلاه ليست منسوخة ، وبه قال الحسن البصري ، وهو ظاهر الحديث الوارد عن الإمام علي عليه السلام.
(قال سعيد بن جبير : جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال : إن أراد الرجل منا أن يأتي محمداً بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلامه أو يأتيه لحاجته .
فقال علي لا لأن الله عز وجل يقول : {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} الآية.) ( ).
(عن سعيد بن أبي عروبة قال : كان الرجل يجيء إذا سمع كلام الله وأقرَّ به وأسلم . فذاك الذي دعي إليه ، وإن أنكر ولم يقر به فرد إلى مأمنه ، ثم نسخ ذلك فقال { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة }( )) ( ).
وسعيد هذا من علماء البصرة واسمه مهران ابن النضر مولى بني عدي ابن يشكر حافظ لأحاديث السنة النبوية , وليس له مصنف ، ومن شيوخه الحسن البصري ، ومحمد بن سيرين ، وسلمان الأعمش وغيرهم .
واختلط سعيد بن أبي عروبة وعاش بعد اختلاطه ثلاث عشرة سنة ، قال أبو نعيم : كتبت حديثين ثم اختلط فقمت وتركته .
(وقال ابن معين: قال يحيى القطان: إذا سمعت من شعبة أو هشام أو ابن أبى عروبة شيئا لا أبالي ألا أسمعه من أصحابه، إنهم ثقات.
وقال عبدة بن سليمان: سمعت من سعيد في الاختلاط.
وقال أحمد: سماع يزيد بن زريع من سعيد قديم، وكان يأخذ الحديث بنية.
وقال ابن معين: اختلط سعيد بعد هزيمة إبراهيم بن عبد الله.
قلت: عاش بعد ثلاث عشرة سنة، وكانت الهزيمة في سنة خمس وأربعين ومائة.) ( ).
و (عن مسلم بن إبراهيم قال: كتبت عن سعيد التصانيف فخاصمني أبى فسجرت التنور وطرحتها فيه.
وقال ابن مهدى: سمع غندر من سعيد بن أبى عروبة – يعني في الاختلاط.
وقال أبو عمر الحوضى: دخلنا على سعيد بن أبى عروبة أريد أن أسمع منه، فسمعت منه كلاما ما سمعته.
قال: الازد أزد عريضة، ذبحوا شاة مريضة، أطعموني فأبيت، ضربوني فبكيت فعلمت أنه مختلط، فلم أسمع منه ) ( ).
وجاءت آية البحث لتكون موعظة للمسلمين بإجتناب قتل المنافق الذي يمتنع من النفير والخروج للدفاع عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن الإسلام وأهل المدينة، لكفاية التوبيخ الوارد في آية البحث بذم وإنذار المنافق، وقد بينت آية البحث أن الذين نافقوا في حال التقاء الصفين للقتال، ولمعان السيوف وبلوغ العدو أطراف المدينة يكونون أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان كما وصفتهم آية البحث مما يدل على حقيقة وهي أن ضرر المنافقين إذا حضروا مع المسلمين يكون أكثر من ضررهم إذا قعدوا عنها، ويدل عليه قوله تعالى[لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ]( ).
ونزلت الآية أعلاه في موضوع معركة تبوك , ومعانيها ودلالاتها أعم، وفيه شاهد بأن المنافقين لا يريدون للمسلمين النصر ولا يثبتون في الوغى عند اللقاء، ويفرون عند الكريهة ولأسرعوا السير في فرارهم ونشروا النميمة، بينما أخبرت الآيات بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا ونادى الصحابة في معركة أحد وكانوا يسمعون قوله فعادوا , كما في قوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
الحاجة إلى آية البحث
من قوانين الإرادة التكوينية أن الناس محتاجون لأمور :
الأول : كل آية قرآنية حاجة مستديمة للناس كافة في أمورهم العامة والخاصة , وهو من مصاديق عالمية بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتكليف الكفار بالفروع كتكليفهم بالأصول .
الثاني : تلاوة الآية القرآنية , لذا تفضل الله عز وجل وجعل تلاوة القرآن واجبة في كل صلاة يومية وليس من كتاب يُقرأ في كل زمان مثل القرآن كماً وكيفاً ومضموناً وإستدلالاً وفيه تنجز لمصداق متجدد لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
والمختار أن تلاوة المسلمين القرآن في الصلاة نوع طريق وعلة لإستدامة الحياة الإنسانية وصرف شرور حروب الإبادة العامة والقتل العشوائي الواسع ، وهذا الصرف من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثالث : الآية القرآنية ضياء ينير دروب الهداية للمسلمين ، وبرزخ دون الفتنة والخصومة والإختلاف .
الرابع : الثواب العظيم على قراءة الآية القرآنية .
الخامس : الفيض والرحمة التي تأتي للمسلمين لطفاً وفضلاً من الله على حفظهم لآيات القرآن رسماً وتلاوة وكتابة .
السادس : تعاهد المسلمين للقرآن ما بين الدفتين باب للرزق الكريم .
وهل من صلة بين تلاوة آيات القرآن وبين آية البحث , الجواب نعم من جهات :
الأولى : التلاوة واقية من النفاق .
الثانية : تفقه المسلمين في المعارف الإلهية ومعرفة معادن الرجال .
الثالثة : أخذ المسلمين الحائطة لدينهم , والإحتياط سبيل النجاة .
الرابعة : بعث الخوف في قلوب المنافقين ، وجعلهم يدركون أن المسلمين يعلمون بما يضمرون من الكفر والصد عن مفاهيم الإيمان .
الخامسة : بعث المسلمين للنفير والدفاع والمرابطة مع عدم الإصغاء للذين نافقوا ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
وصحيح أن آية البحث جاءت بخصوص ذم المنافقين إلا أنها أعم لاتصالها موضوعاً وحكماً ودلالة بالآيات السابقة التي تتضمن الإخبار عن وقائع معركة أحد .
لقد هجم ثلاثة آلاف رجل من الذين كفروا على المدينة المنورة للبطش والإنتقام وهدم صرح دولة النبوة والتنزيل فرجعوا خاسرين خائبين ، قال تعالى [وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ] ( ) .
وفي معركة بدر (استفتح أبو جهل يومئذ فقال: اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا يعلم فأحنه الغداة فأنزل الله:[ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).

وقال يومئذ :
ما تنقم الحرب العوان مني * بازل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني امي) ( ) .
فقتل أبو جهل في ذات المعركة ولكن الذين من خلفه لم يتعظوا فزحفوا للقتال في معركة أحد .
وعاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من معركة أحد في ذات يوم نشوبها لتنزل آيات من القرآن تبين تلك الواقعة وتُبقي أثرها ونفعها لأجيال المسلمين إلى يوم القيامة .
لقد كانت من شآبيب تسليم الناس بأن الإسلام باق وأن أحكامه سائدة والناس محتاجون إليه وإليها ، وكأن آية البحث تقول للمسلم ( قاتل في سبيل الله أو أدفع ولا تكن مثل المنافقين الذين فضحهم الله في آية البحث.
ثناء الله على نفسه في آية البحث
إبتدأت آية البحث بحر فالعطف ثم لام التعليل ثم الفعل المضارع (وليعلم) ونسبة العلم في الآية إلى الله عز وجل وموضوع وذات النسبة إلى الله عز وجل ثناء من الله عز وجل على نفسه ، فتقع الحوادث باذن الله وقيد الإذن هذا مدح وثناء من عند الله لنفسه لأنه لا أحد من الخلائق تتوقف الحوادث على إذنه أو يقدر على منعها والسعة أو التضييق فيها ، وفي التنزيل [يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ] ( ).
لبيان أن التوسعة والتضييق في الأمور والأحداث من مشيئة وقدرة الله ومنها واقعة أحد ، فقوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ] ( ) ثناء من الله على نفسه من جهات :
الأولى : حصر واقعة أحد في شطر من نهار , ولا يعقل أن ثلاثة آلاف مقاتل زحفوا لخمسمائة كيلو متراً على السواحل ومشياً .
وكان يتوعدون ويعدون لهذا اليوم لأكثر من سنة وإذا هم ينسحبون خلال ذات يوم المعركة ، ومن ثناء الله عز وجل على نفسه إخباره بوجود أمة مؤمنة تتصف بأمور :
الأول :طاعة الله ورسوله .
الثاني : القتال في سبيل الله .
الثالث : دفع الذين كفروا .
الرابع : دعوة الناس للقتال في سبيل الله ، وهذه الدعوة من منازل الجهاد والصبر في ميدان المعركة بدليل قول المنافقين [لاَتَّبَعْنَاكُمْ].
الخامس : صبر المؤمنين في منازل القتال في سبيل الله بفضل ولطف من الله عز وجل .
ولقد إبتدأت آية البحث بثناء الله عز وجل على نفسه من جهات :
الأولى : علم الله عز وجل باشخاص المنافقين وسوء فعلهم .
الثانية : الإبتلاء العام بحدوث القتال وإصابة المسلمين بالخسارة بإذن الله ، فمن معاني قوله تعالى [فَبِإِذْنِ اللَّهِ] في الآية السابقة أنه لو شاء الله عز وجل لرجعوا بالغنائم من معركة أحد ولم يخسروها .
الثالثة : إعانة الله للمسلمين في القتال ، وبعثهم على ملاقاة العدو ، وبيان قانون وهو أن قعود المنافقين لا يمنع المؤمنين من الجهاد .
الرابعة : غنى الله عز وجل عن الذين كفروا والذين هم قريبون من الكفر .
الخامسة : بيان علم الله عز وجل بما يخفي المنافقون في صدورهم وأنه مخالف ومناقض لما يقولون .
السادسة : إنذار الذين نافقوا بأن الله عز وجل يحول دون تحقق أمانيهم الباطلة ، ومن الآيات أنه حالما إنتشرت إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ، وبلغت الإشاعة المدينة ، دخلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذات اليوم وصل صلاة المغرب بأصحابه في المسجد النبوي .
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت آية البحث بحرف العطف الواو لبيان إتحاد موضوعها مع مضامين الآية السابقة ، ويحتمل العطف في المقام وجوهاً :
الأول : إرادة عطف أول آية البحث على خاتمة الآية السابقة بلحاظ إتحاد موضوع العلم ويكون : وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا .
الثاني : عطف مضامين آية البحث على مضامين الآية السابقة .
الثالث : عطف أول آية البحث على مضامين الآية السابقة , ومنه وجوه:
أولاً : وما أصابكم ليعلم الذين نافقوا .
ثانياً : وما أصابكم يوم التقى الجمعان ليعلم الذين نافقوا .
الثالث : ليعلم المنافقين يوم التقى الجمعان .
لقد ورد قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ثلاث مرات واحدة منها بخصوص معركة بدر وهو قوله تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) فهل يمكن أن تشمل مضامين آية البحث وقائع معركة بدر ، ويكون تقدير الجمع بينها وبين الآية السابقة : ليعلم المنافقين يوم بدر .
الجواب نعم ، فان قلت لم يكن النفاق ظهر في المدينة في أيام واقعة بدر والتي حدثت في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، الجواب كان هناك نفاق ولكن لم يكن ظاهراً بجلاء ، فمثلاً عبد الله بن أبي بن أبي سلول كان يضمر العداوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويظن أنه حال دونه ودون إمرته على أهل المدينة .
بالإضافة إلى ظهور النفاق عند عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه منتصرين من معركة بدر ، وسيادة أحكام الإسلام بعدها , من الصلاة والصوم والزكاة والخمس , فبعد نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر ، أقاموا بعرصاتها ثلاثة أيام ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناقته ووقف على قليب بدر وقرع الكفار الذين قتلوا وسحبوا إليه .
إذ وقف عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال (يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإنى قد وجدت ما وعدني ربي حقا ؟ “.
فقال له أصحابه ” يا رسول الله أتكلم قوما موتى ؟ ! فقال: ” لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق) ( ) .
ويحتمل أوان هذا الوقوف والنداء وجوهاً :
أولاً : عند طرح القتلى من الذين كفروا في قليب بدر، وهو الذي يرويه ابن إسحاق عن عائشة .
ثانياً : نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقتلى المشركين في جوف الليل ، وهو المروي عن أنس بن مالك .
ثالثاً : هذا النداء عند مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لموضع بدر( ) .
وعند العودة المباركة إلى المدينة بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين يديه بشيرين إلى المدينة لإخبار أهلها بالنصر والغلبة على المعتدين المشركين الذين جاءوا بقصد القتال وغزوا المدينة بلحاظ أنهم لو لم يجدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في موضع بدر لزحفوا نحو المدينة وهو الظاهر من كثرتهم , إذ كان عددهم نحو ألف , والبشيران هما :
الأول : بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن رواحة إلى أهل العالية من المدينة .
الثاني : زيد بن حارثة وهو من المهاجرين ، بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السافلة مما يدل على أن أهل المدينة تعارفوا مع المهاجرين واطمأنوا لهم ووثقوا بهم .
ووصلا إلى أطراف المدينة أوان اشتداد الضحى وتفرقا في العقيق ، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرهما بكلمات مخصوصة إنما ترك بيان ونقل نصر المسلمين وما آلت إليه معركة بدر ، أحدهما بالكيفية التي عليها أهل المدينة في التخاطب والبيان , والآخر بلغة قريش وبها نزل القرآن .
فجعل عبد الله بن رواحة ينادي يا معشر الأنصار أبشروا بسلامة رسول الله وقتل المشركين وأسرهم قتل ابنا ربيعة وابنا الحجاج ، وأبو جهل وزمعة بن الأسود ، وأمية بن خلف ، ثم قام بذكر عدد من الأسرى ممن يعرفهم أهل المدينة فقال : وأسر سهيل بن عمرو .
وقال : غداً يقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأسرى مقرنين ، ثم أخذ يبشر بيوت الأنصار داراً بعد دار ، وكان الصبيان معه ينشدون (يقولون: قتل أبو جهل الفاسق) ( ).
أما زيد بن حارثة فانه دخل المدينة على ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القصواء ما وصل إلى المصلى صاح وهو على راحلته قُتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة .
ويلاحظ أن زيداً ذكرهما باسميهما وقدمهما في الذكر لأنه من أهل مكة ويعلم بمنزلتهما وشأنهما ، بينما اكتفى عبد الله بن رواحة بذكرهما بالنسبة لأبيهما ربيعة من بني أمية ، والغريب أن يجري التفاخر به من قبل بعض بني أمية فيما بعد مع كفر، فحينما تولى مروان بن الحكم تزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية .
وهي (بنت هاشم بن عتبة، فوقع بين خالد بن يزيد بن معاوية وبين بعض ولد مروان كلام، فقال لخالد: اسكت، فلست واللّه تُعَدّ لا في العير ولا في النفير، فقال له خالد: وهل كان في العير غير جدي، وفي النفير غير جدي، ولكن لو قلت: حبيلات وغنيمات والطائف … .
وقول خالد: جدي في العير جدي في النفير يشير إلى أن جده لأبيه أبا سفيان هو الذي كان في العير، وجده لأمه هو الذي كان في النفير، وهو عتبة بن ربيعة بن أمية بن عبد شمس لأن أم جده معاوية هي بنت عتبة.) ( ).
وقوله حبيلات : جمع قلة للحبلة وهي أصل شجرة العنب .
وكانت تسمى الكرم فكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها هذا الاسم كيلا تميل إليها النفوس خاصة وان الخمر المسكر يتخذ منها ، وهو ام الخبائث .
وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ لِلْعِنَبِ الْكَرْمَ إِنَّمَا الْكَرْمُ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ) ( ).
لقد أراد خالد تعيير بني مروان بأن جدهم الحكم أبا مروان نفاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف حيث إنشغل بزراعة أشجار قليلة من العنب ، ورعى عدداً قليلاً من الغنم لولا أن عثمان بن عفان أرجعه في خلافته .
وهل يحق لخالد بن يزيد أن يفتخر بجده أبي سفيان أنه كان في عير مكة وان جده عتبة كان في نفير المشركين لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجواب لا ، فكل منهما فعل مذموم وقبيح شرعاً وعقلاً .
وكان الحكم حاكى مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقصد الإستهزاء ، فالتفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورآه وهو يختلج في مشيته ، فقال كن كذلك ، فصار يرتعش في مشيته , وقيل كان يتسمع لسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويطلع عليه من باب بيته ، وأنه هو الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يفقأ عينه .
وقيل كان إذا تكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم اختلج بوجهه أي ردد الكلام بهيئة المستهزئ , فقال النبي : كن كذلك , فلم يزل يختلج حتى مات .
ومن إعجاز آية البحث إبتداؤها بواو العطف، ومجيء ذات الواو بعد جملة من ثلاث كلمات لقوله تعالى[وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ]ترى لماذا لم تقل الآية (الذين قيل لهم) وتسقط واو العطف الجواب إرادة بيان تعدد الخصال المذمومة التي يتصف بها المنافقون وأنها لا تنحصر باخفاء الكفر إنما تتضمن خصالاً :
الأول : الإمتناع عن الجهاد .
الثاني : ترك الدفاع عن الأنفس والأهل والمال والوطن .
الثالث : الإعتذار بالكذب والزيف والمغالطة فوصلت جيوش عظيمة للذين كفروا أطراف المدينة يريدون القتال ، ويقول المنافقون إنه لن يحدث قتال .
الرابع : قرب ودنو الذين نافقوا من الكفر ، وعدم تخليهم عن مفاهيم الضلالة .
الخامس : التباين والتضاد بين ما يقوله المنافقون من الإنتماء للإسلام والإستعداد لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتال العدو إذا وقعت المعركة , وبين ما يخفون في قلوبهم من الشرك والإصرار على عدم النصر .
ترى لماذا تبين آية البحث ما في قلوب المنافقين الجواب من جهات :
الأولى : ورود البيان في آيات القرآن الأخرى منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ] ( ).
الثانية : النفاق من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً من جهة ما يضمره المنافقون في قلوبهم من مراتب الكفر والشرك والضلالة والحسد .
الثالثة : إتصاف ما في قلوب المنافقين بأنه من المتزلزل غير المستقر أو الثابت .
وإذ إبتدأت آية البحث بالإخبار بأن مصيبة المسلمين في معركة أحد سبب للعلم بالذين نافقوا أختتمت الآية بالإخبار عما يخفي المنافقون في نفوسهم ، ومن الإعجاز مجئ الآية بصيغة المضارع [يَكْتُمُونَ] لبيان قانون من جهات :
الأولى : علم الله بما كتم وأخفى المنافقون في نفوسهم قبل نزول الآية .
الثانية : بيان حقيقة وهي إخفاء المنافقين البغض لأحكام الإسلام والكره لنصر المسلمين .
الثالثة : إرادة إقامة المنافقين على نية السوء والأذى للمسلمين في كل الزمان اللاحق .
الرابعة : عدم الطمع بالمنافقين كطائفة وجماعة .
الخامسة : إنذار المنافقين بأن كل ما يخفون وما يبيتون من المقاصد الخبيثة يعلمه الله عز وجل ، ويحاسبهم عليه ، قال تعالى [وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ] ( ) .
وتبين الآية صفات وخصال مذمومة للمنافقين من جهات :
الأولى : تعيين المنافقين بصفتهم بقوله تعالى [الَّذِينَ نَافَقُوا] وبيان أنهم استحقوا هذه الصفة بما أخفوه من الكفر والجحود , وما ارتكبوه من الفعل القبيح .
الثانية : توجه الصحابة بالحث والقول للمنافقين بالقتال في سبيل الله أو الدفاع وتكثير السواد وإمتناع المنافقين .
الثالثة : تعدد الندب وطلب العون من المنافقين لإقامة الحجة عليهم .
الرابعة : لجوء المنافقين للغش والمغالطة والزيف بانكار إحتمال حدوث قتال بين المسلمين والذين كفروا .
ومن الإعجاز ورود قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ…] ( ) أي أن أهل البيت والصحابة وأهل المدينة علموا من ساعة ورود أخبار دنو جيش المشركين , ولبس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمة الحرب وخروجه من المدينة بحدوث قتال شديد بين الفريقين ، ثم أن المسلمين اختلفوا يومئذ هل يبقون في المدينة يتحصنون فيها ويقاتلون العدو في أزقتها وشوارعها إذ يخرجون للقائه كما تقدم مفصلاً في أجزاء سابقة .
وكان رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول هو صاحب القول الأول أعلاه ، وهو من أسباب حنقه وتحريضه الأنصار على الرجوع والعودة من وسط الطريق ، إذ وقف وهو في الشوط (وَقَالَ : أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي ، مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ فَرَجَعَ بِمَنْ اتّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ وَالرّيْبِ)( ).
لبيان التضاد بين ما يكون يقوله ابن أبي سلول في المدينة ودلالته على حتمية القتال وبين إعتذاره المقرون بالسخط والعداوة .
وصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استمع لمشورة عدد من أصحابه ممن كانوا يتوقون للقاء العدو وطلب النصر أو الشهادة إلا أن خروجه إلى ميدان معركة أحد لم يكن عن طاعته لهم إنما كان بالوحي من عند الله ، قال تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] ( ) والمراد من العزم هنا تنجز الأمر بالوحي والتنزيل وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يفصل أمراً إلا بالوحي ، ولما كانت مشورة أصحابه يومئذ على قسمين مختلفين جاء الوحي موافقاً للخروج للقاء العدو ، فكان إنخزال المنافقين سبباً للخسارة .
وهل هذا الإنخزال من مصاديق ما تقدم قبل آيتين [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ] ( ) الجواب نعم ، إذ إنسحب ثلاثمائة من جيش المسلمين ، وهل تاب شطر منهم بعدئذ ، الجواب نعم ، إذ أن تلك الواقعة ورجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سالماً ونزول القرآن طريقاً للتوبة والإنابة من جهات :
الأولى : نزول آية البحث وهي تذكر المنافقين بخطأ وضلالة قيامهم بالإنخزال والإنسحاب من المعركة.
ومن وجوه هذا التذكير تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها في الصلاة وعلى المنبر، وفي حالات أخرى وتلاوة المسلمين لها في الصلاة وخارجها، والإحتجاج بها على المنافقين.
الثانية : تبين آية البحث حث المؤمنين للمنافقين على الجهاد والدفاع عن الإسلام والأهل، وهذا الحث دعوة للتوبة.
الثالثة : على سبيل المثال حينما يعلم العامل أن ربّ العمل يراقبه ويعلم بما يقوم به فأنه يسعى بجد في إنجاز عمله، وقد جعل الله عز وجل الدنيا مزرعة للآخرة، ليجتهد الناس في طاعته، وأخبر سبحانه عن علمه بما يخفي الإنسان في سريرته، قال تعالى في الثناء على نفسه[يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ) .
وفي خاتمة آية البحث زجر عن النفاق وعن نوايا السوء وقصد إرتكاب الفاحشة، فصحيح أن موضوع الآية هو ما يخفيه المنافقون إلا أنها أعم في دلالتها وإنتفاع الناس منها، وحتى المؤمن يدرك منها أن الله عز وجل يعلم ما يخفيه في صدره فيصلح سريرته، ويتنزه عن الأوهام القبيحة والخيانة والغدر .
وفي الآية دعوة للنصح والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقصد القربة إلى الله، وإخبار الله عز وجل عن علمه بما في الصدور وإطلاعه على النوايا والعزائم والضغائن وأسبابها طريق إلى التوبة والإنابة والصلاح , ولما إحتجت الملائكة على جعل الإنسان[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، أخبرهم الله عن واسع علمه , ومن علم الله عز وجل إخباره الناس في القرآن بأنه يعلم ما يخفون وما يكتمون، ويأتي هذا الإخبار تارة في خطاب عام للناس وآخر لخصوص طائفة .
وخاتمة آية البحث من الثاني، وهو وأثره وبركاته ونفعه من مصاديق علم الله الذي تذكره الآية أعلاه من سورة البقرة إذ يصلح المفسد نفسه ، ويتوب المنافق، ويستغفر المعتدي والظالم، قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ).
الرابعة : كشف آية البحث لحقيقة وهي إزدياد حدة خداع المنافقين عند الشدائد، وصيرورتهم أقرب للكفر مفهوماً وفعلاً عند أوان القتال وإحتمال الضرر.
وفي قوله تعالى[هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ]( )، دعوة للمسلمين لعدم رجاء نصرة المنافقين ساعة الشدة، وعند مداهمة العدو المدينة، وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان يخرج للدفاع هو وأصحابه في الغزوات، ويبقى المنافقون في المدينة وفيها اليهود أيضاً من غير ضرر على الإسلام .
ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أحياناً يستعمل عند غيابه ابن أم مكتوم على المدينة وهو أعمى.
الخامسة : ذم المنافقين بأنهم يقولون خلاف الذي يبطنون، وسيأتي بيانه في تفسير قوله تعالى[يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ]( ).
السادسة : الإخبار عن علم الله عز وجل بكل ما يضمر المنافقون في قلوبهم من الكفر والجحود والغيظ والجبن والخور، لتدل خاتمة آية البحث على أن المراد من أول الآية (ليعلم الذين نافقوا) أي لكشفهم وفضحهم وبيان عدم حاجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لهم، قال تعالى[وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ]( ).

موضوع النزول
من إعجاز القرآن إتصافه بالبيان والوضوح ، ومن وجوه البيان تعيين مناسبة وموضوع الآية ، ومنه ذكر الوقائع والأحداث وما يترتب عليها من الأثر والتأثير ، وتضمنت هذه الآيات التوثيق السماوي لواقعة أحد التي جرت في السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة ، وجريان الدماء بين المسلمين والذين كفروا فيها .
وتكون مصاديق إحتجاج الملائكة في قوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) وجوهاً :
الأول : بقاء مشركي مكة على الكفر من الفساد .
الثاني : التحريض على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الفساد .
الثالث : إصرار المشركين على القتال , وسقوط سبعين من الصحابة شهداء من سفك الدماء الذي أظهرت الملائكة نفرتها منه .
وهل قتل المؤمنين للذين كفروا من سفك الدماء , الجواب لا، إنما هو على وجوه :
الأول : إنه دفاع عن ملة التوحيد والنبوة والتنزيل .
الثاني : في قتال المسلمين رضا لله والملائكة .
الثالث : لقد نزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معارك الإسلام الأولى ، وفيه شاهد بأن قتال المسلمين ليس مما احتجوا عليه .
(عَنْ ابن عَبّاسٍ قَالَ حَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ ، قَالَ أَقْبَلْت أَنَا وَابن عَمّ لِي حَتّى أَصْعَدْنَا فِي جَبَلٍ يُشْرِفُ بِنَا عَلَى بَدْرٍ وَنَحْنُ مُشْرِكَانِ نَنْتَظِرُ الْوَقْعَةَ عَلَى مَنْ تَكُونُ الدّبْرَةُ فَنَنْتَهِبُ مَعَ مَنْ يَنْتَهِبُ . قَالَ فَبَيْنَا نَحْنُ فِي الْجَبَلِ إذْ دَنَتْ مِنّا سَحَابَةٌ فَسَمِعْنَا فِيهَا حَمْحَمَةَ الْخَيْلِ فَسَمِعْت قَائِلًا يَقُولُ أَقَدِمَ حَيْزُومُ فَأَمّا ابن عَمّي فَانْكَشَفَ قِنَاعُ قَلْبِهِ فَمَاتَ مَكَانَهُ وَأَمّا أَنَا فَكِدْت أَهْلَكَ ثُمّ تَمَاسَكْتُ) ( ).
وعن الإمام علي عليه السلام (جاء رجل من الأنصار قصير برجل من بني هاشم , ولفظ أبي نعيم بالعباس أسيرا يوم بدر فقال الرجل إن هذا والله ما أسرني لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجها على فرس ابلق ما أراه في القوم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ذاك ملك كريم ) ( ).
وتبين آية البحث وجود طائفة تتصف بالنفاق ، أراد منهم المؤمنون النصرة والعون والدفاع وتكثير سواد المسلمين ، ولكنهم إمتنعوا عن القتال وانسحبوا من وسط الطريق بذرائع واهية تدرك الأجيال المتعاقبة زيفها ، ولم يترك الله عز وجل مغالطة وكذب المنافقين في ساعة المحنة وشدة اللقاء بل ذكره لتتلوه أجيال المسلمين إلى يوم القيامة , وتكون فيه موعظة وإصلاح ، وتنزيه للمسلمين من النفاق , ومنع لضرره عليهم .
وأختتمت الآية ببيان جلال وعظيم قدرة الله , وسلطان الله عز وجل وأنه سبحانه يعلم بما يخفي المنافقون في صدورهم لبيان قانون وهو المنع من إضرارهم بالإسلام ، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : تفقه المسلمين في المعارف الإلهية وإتخاذ الفقاهة حرزاً من النفاق .
الثانية : بيان الأذى والخسارة التي لحقت المسلمين في معركة أحد .
الثالثة : عدم إنحصار الجهة التي تؤذي المسلمين يوم معركة أحد بالذين كفروا ، فقد جاء الأذى من المنافقين الذين يعيشون بين ظهراني المسلمين .
الرابعة : تخويف وإنذار المنافقين .
الخامسة : توبة وإنابة المنافقين والمنافقات خاصة وأن الآية أخبرت عن قبيح قولهم وسوء ما يضمرون في نفوسهم .
السادسة : تنمية ملكة التوكل على الله عند المسلمين .
السابعة : بعث اليأس في قلوب الذين كفروا بأن المنافقين لن ينفعوهم ، فقد فضحتهم آية البحث وجعلتهم مشغولين بأنفسهم .
الثامنة : توثيق وقائع معركة أحد ومنع التحريف وسوء التأويل بخصوصها .
التاسعة : بيان قانون وهو أن قتال المسلمين في سبيل الله ، وليس من أجل الدنيا الفانية .
العاشرة : التحذير من المنافقين وصيرورتهم عند الشدة أقرب للكفر والضلالة .
الحادية عشرة : تلاوة المسلمين والمسلمات لآية البحث في الصلاة اليومية .
الثانية عشرة :بعث النفرة في النفوس من النفاق .
الثالثة عشرة : تحذير الذين نافقوا من مخادعة المسلمين , ومهادنة الكافرين .
الرابعة عشرة : تنمية الأخلاق الحميدة في المجتمعات وجعل الناس يكرهون مفاهيم الكفر والعداوة والحسد .
التفسير
قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا]
إبتدأت هذه الآية بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ]وهي كلمة تتألف من وجوه :
الأول :حرف العطف الواو .
الثاني : لام التعليل .
الثالث : الفعل المضارع .
الرابع : إرادة الفاعل .
وتقديره (هو) ويعود إلى الله عز وجل .
ومن معاني هذا التعدد كثرة الذخائر العلمية في الكلمة القرآنية الواحدة بالإضافة إلى دلالات العطف بالواو ولزوم الرجوع إلى الآية السابقة وعلى نحو الإطلاق أو الموجبة الجزئية، كما تقدم في باب الصلة بين أول وآخر الآية( ).
وإبتدأت الآية بمسألة علمية وهي تعقب العلم بالمنافقين للعلم بالمؤمنين ، وفيه وجوه :
الأول : أولوية معرفة المؤمنين ونيلهم الثواب العظيم .
الثاني : بعث المسلمين للإجتهاد في سبل الإيمان .
الثالث : دعوة المسلمين للتعارف والتعاون فيما بينهم بصفة الإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ) .
الرابع : بيان قانون وهو كثرة المؤمنين ، وكون المنافقين فئة قليلة .
الخامس : من أسرار إختتام الآية السابقة بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] وإبتداء هذه الآية بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] أن المؤمنين أمة لا يضرها كيد الأعداء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
السادس : من أسرار الفصل بين الآيتين إمهال المنافقين من جهات :
الأولى : دعوة المنافقين للإتعاظ من قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] وبعث الشوق في نفوسهم للتوبة والإنابة .
الثانية : إدراك المنافقين لعظيم منزلة المؤمنين .
الثالثة : معرفة المنافقين بقانون وهو أن الله عز وجل يعلم بهم وأن الملائكة يكتبون ما يقولون وما يفعلون ، قال تعالى [مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ] ( ) .
الرابعة : حث المؤمنين على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنه زجر المنافقين عن إبطان الكفر وإظهاره بخبث يجري على اللسان .
فابطان المنافق الكفر أمر عقائدي يؤدي به إلى السخط من عند الله ، ولكن الذي يخشى منه قيام المنافقين ببث سمومهم وسعيهم في محاربة الإسلام من بين صفوف المسلمين .
الخامسة : إمهال المنافقين من مصاديق معاني الرحمة في خطاب الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
السادسة : إرادة تنزه المنافقين من الخصال المذمومة ، ومن الإعجاز في السنة النبوية بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لصفات المنافقين ، ليكون هذا البيان فرقاناً يميز , ويفصل بين المؤمنين والمنافقين .
وعن (النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها . إذا ائتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر) ( ).
ترى هل تنطبق الخصال أعلاه كلاً أو بعضاً على حال المنافقين في آية البحث ووقائع معركة أحد ، الجواب نعم .
وتلقي الكفار للنبوة بالجحود من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً من وجوه :
الأول : الكافر الذي يكتفي بالجحود .
الثاني : الذي يصد عن النبوة بلسانه .
الثالث : الذي يسعى بين الناس ويدعوهم لعدم التصديق بالنبي .
وتتباين هذه الدعوة من شخص إلى آخر في جهة صدورها ومن طرف المتلقي .
الرابع : الذي يحارب النبي والمعجزة بالسيف .
وقد كان كفار قريش من الوجه الأخير أعلاه ، فأخزاهم الله عز وجل وأعز رسوله والمؤمنين من جهات :
الأولى : كثرة المهاجرين والأنصار .
الثانية : توالي نزول آيات القرآن .
الثالثة : عمل أهل البيت والصحابة بمضامين وأحكام آيات القرآن حال نزولها .
الرابعة : فشل محاولات إغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : وليعلم الذين نافقوا في حضرة رسول الله .
الثاني : وليعلم الذين نافقوا قبل وقوع معركة أحد .
الثالث : وليعلم الذين نافقوا حين وصول خبر قدوم جيش المشركين .
الرابع : وليعلم الذين نافقوا من أجل بث الفرقة بين المسلمين .
الخامس : وليعلم الذين نافقوا خوفاً وجبناً .
السادس : وليعلم الذين نافقوا لأن الكفر مستحوذ على نفوسهم .
السابع : وليعلم الذين نافقوا في الطريق إلى معركة أحد .
الثامن : وليعلم الذين نافقوا وجادلوا المؤمنين وأصروا على الرجوع وخذلان النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
التاسع : وليعلم الذين نافقوا وحرموا أنفسهم من نعمة الإيمان.
العاشر : وليعلم الذين نافقوا بعد معركة أحد .
الحادي عشر : وليعلم الذين نافقوا ممن امتنع عن الخروج إلى معركة أحد .
الثاني عشر : وليعلم الذين نافقوا ولم يتوبوا من النفاق .
الثالث عشر : وليعلم الذين نافقوا من الرجال والنساء .
الرابع عشر : وليعلم الذين نافقوا قبل معركة أحد .
الخامس عشر : ليعلم اللواتي نافقن قبل وبعد معركة أحد .
السادس عشر : ليعلم الذين نافقوا وقالوا لإخوانهم وأبناء عمومتهم من الأنصار لا تخرجوا للقتال .
السابع عشر : ليعلم الذين نافقوا ويحسبون أنهم يقعدون عن القتال فعلوا خيراً ، إنما خسروا الدنيا والآخرة .
الثامن عشر : ليعلم الذين يعرضون عن دعوة الحق ويعزفون عن فعل الصالحات ، قال تعالى [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا]( ).
التاسع عشر : ليعلم الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف , بلحاظ انها من خصال المنافقين .
العشرون : ليعلم الذين نافقوا فبشرهم بأن لهم عذاباً إليماً .
الحادي والعشرون : ليعلم الله الذين نافقوا الذين يحشرهم مع الكافرين في نار جهنم ، قال تعالى[ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا] ( ).
الثاني والعشرون : ليعلم الله الذين نافقوا الذين يخادعون الله.
الثالث والعشرون : ليعلم الله الذين نافقوا , وعلمه هذا من خداعه وفضحه لهم .
الرابع والعشرون : ليعلم الله الذي نافقوا الذين نسوا الله فنسيهم .
وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : وليعلم اللائي نافقن .
الثاني : وليعلم الذين نافقوا واللائي نافقن .
الثالث :وليعلم ما يقوله الذين نافقوا عند المصيبة .
الرابع : وليعلم ما يقوله الذين نافقوا في شماتتهم بالمؤمنين.
الخامس : وليعلم ظن الذين نافقوا بنصر الذين كفروا .
السادس : وليعلم بحب وميل الذين نافقوا لظهور الذين كفروا وانكسار جيش المسلمين ، وهو من معاني خاتمة آية البحث [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ].
السابع : وليعلم رؤساء الذين نافقوا .
الثامن : وليعلم الذين نافقوا ويحرضون الناس للميل لمفاهيم النفاق .
التاسع : وليعلم الذين نافقوا ويعادون من لا يقتفي أثرهم ويحاكيهم في أقوالهم وأفعالهم الخبيثة .
ومنه ما ورد في ذم المخلفين من الأعراب بقوله تعالى [يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ]( ) والذي يدل بالدلالة التضمنية على علم الله عز وجل بأمور :
الأول : ظهور الخداع والتضليل على ألسنة المنافقين مما يدل على أن النفاق لا يقف عند بواطن نفوسهم ، إنما يشمل الألسنة وعالم الأفعال .
الثاني : بيان الضرر الكبير الناتج عن المنافقين وخداعهم .
الثالث : جعل المسلمين في حال يقظة وفطنة وقدرة على الفصل والتمييز بين الكلمة التي يراد منها الحق والإنصاف ، والكلمة التي في ظاهرها هي حق ولكنها تنطوي على الخداع والغواية والنفاق ، ليصبح المسلمون في حرز وواقية من شرور النفاق ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) لبيان قانون وهو هداية الله عز وجل للمسلمين للإحتراز من المنافقين .
من خصائص المعارك الأولى للمسلمين الفصل والتمييز بين المؤمنين والمنافقين وهو الذي تدل عليه خاتمة الآية السابقة وبداية آية البحث .
وفي التنزيل [وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] ( ) ويعجز الناس عن إدراك منافع معركة أحد والأثر المبارك لها بخصوص معركة الخندق من جهات :
الأول : زمان معركة الخندق وعدم تعجل كفار قريش بها .
الثاني : إكتفاء كفار قريش بمحاصرة المدينة مع كثرة جنودهم إذ كان عددهم عشرة آلاف حيث يقوم الجنود والرؤساء منهم بالضغط والإلحاح والمناجاة بالباطل لإقتحام المدينة ، ولكن قلوبهم إمتلات بالخوف والرعب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( ) .
الثالث : خيبة الذين كفروا ورجوعهم من معركة الخندق من غير أن ينالوا أي بغية قد أنفقوا الأموال وتحملوا المشاق وجاءوا من أجلها .
الرابع : هلاك بعض فرسان المشركين كما في قتل عمرو بن ود العمري، إذ إجتاز الخندق فقتله الإمام علي عليه السلام .
من معاني النفاق ما يفعله المنافق ، قال في الصحاح (النفِاق بالكسر : فعل المنافق)( ) ليكون من معاني مجئ الآية بصيغة الفعل الماضي ثبوت نفاقهم وزيف إدعائهم ، ثم جاءت مضامين آية البحث لتؤكد تجدد نفاقهم مما يدل على صدور النفاق منهم في أفراد الزمان الطولية الماضي والحاضر والمضارع .
علم المناسبة
ورود مادة (نافق) سبعاً وثلاثين مرة في القرآن بالفاظ متعددة ومع كثرة لفظ المنافقين عنها إلا أن لفظ [الَّذِينَ نَافَقُوا] لم يرد في القرآن إلا مرتين .
وإلى جانب وروده في آية البحث فقد ورد في قوله تعالى [أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا…] ( ).
ونزلت الآية أعلاه في عبد الله بن أبي سلول ، ورفاعة بن تابوت ، وعبد الله بن نبتل وأوس بن قيظي إذ كان بنو النضير حلفاء الخزرج وكانت دورهم داخل المدينة المنورة ، وقد حاصرهم المؤمنون ، وقيل المراد قريظة والنضير ، وأن الخزرج حلفاء بني قينقاع ، أما بنو النضير وبنو قريظة فهم حلفاء الأوس .
ومن خصائص الآيات التي تذكر المنافقين أنها مدنية نزلت بالمدينة لأنه ليس ثمة نفاق في مكة قبل الهجرة ، وهل صار النفاق بعد الهجرة في مكة الجواب لا ، فاما أن يهاجر المؤمن وأما أن يكون مستضعفاً بين مجتمع الذين كفروا .
وتارة يرد ذكر المنافقين صراحة وبالصفة الجلية وتارة بالعلامة والإشارة التي تدل عليهم ، قال تعالى [لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ] ( ) .
لقد أثنى الله عز وجل على الفقراء الصابرين ذوي الفقه ، قال تعالى [تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا] ( ) لبعث المسلمين على الإبتداء باعانتهم قبل أن يلجأوا إلى السؤال ، ولم تتضمن آيات القرآن نصاً في معرفة المنافقين بسيماهم ، ولكن ذكرتهم لصفة والقول المخادع والفعل القبيح والقعود والتكبر المقرون بالخوف كما في قوله تعالى [وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ] ( ).
لبيان شكر الله لأشخاص المنافقين ودعوتهم للتوبة والإنابة وهو من فيوضات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنطق بالشهادتين فمن يسلم ظاهراً وهو في باطنه لا زال على الكفر ظالم لنفسه ينال العذاب الأليم في الآخرة ، لكن آيات القرآن تبين له قبح هذا التضاد ، وتدعوه إلى التوبة .
وجاءت آيات كثيرة بخصوص واقعة أحد تتضمن بيان جهاد وصبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته وأصحابه من المهاجرين والأنصار ، وفيه مسائل :
الأولى : التعريف بالمنافقين لتخلفهم عن الإيمان .
الثانية : ذم المنافقين لغدرهم وخيانتهم .
الثالثة : بيان غنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين عن المنافقين .
الرابعة : نيل طائفة من المسلمين الشهادة حجة على المنافقين ، وشاهد على ثبات الإيمان في القلوب .
الخامسة : توالي نزول آيات القرآن التي تثني على المؤمنين وهل في آية البحث شذرات من هذا الثناء الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : ذكر المنافقين في الآية على نحو الخصوص وتقدم ذكر المؤمنين للدلالة على التباين بينهم .
الثانية : قول المؤمنين للذين نافقوا تعالوا قاتلوا في سبيل الله .
الثالثة : دلالة قول المؤمنين أعلاه على قتالهم في سبيل الله .
الرابعة : بذل المؤمنين أنفسهم في سبيل الله .
الخامسة : استعداد المؤمنين للدفاع والمرابطة بعد القتال لقوله تعالى [أَوْ ادْفَعُوا]وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
السادسة : إقرار المنافقين بأن المؤمنين ذاهبون إلى القتال لقولهم [لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ]
السابعة : يدل ذم المنافقين على ما يخفون في صدورهم على القضاء على المؤمنين بأنهم لا يخفون إلا الإيمان والعزم على الذب والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل.
بحث كلامي
جاءت آيات القرآن بقانون وهو علم الله عز وجل بكل شئ قبل وبعد وقوعه بل حتى الملائكة يعلمون في الجملة بافعال بني آدم قبل خلقهم لما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) وفي هذا الإحتجاج حجة على الناس بلزوم التسليم بعلم الله عز وجل بالوقائع قبل حدوثها ، وفي التنزيل [عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا] ( ).
والعلم علمان :
الأول : إدراك ذات الشئ .
الثاني : الحكم على الشئ .
وعلم الله عز وجل أعم وأوسع من هذا التقسيم لأن الأشياء كلها حاضرة عنده سبحانه ، وهو يعلم الموجود والمعدوم .
وأختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] أي أنه سبحانه أعلم من المنافقين أنفسهم بما يدور في خلدهم ، وما يضمرون من الكفر والضلالة ، ولابد من الإيمان بالقدر أي بما قدّر الله .
والقدر لغة هو اسم مصدر من قدر الشئ يقدره تقديراً ويأتي بمعنى الحكم والترتيب والدرجة والحد الذي ينتهي إليه الشئ ، قال تعالى [وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا] ( ) وقال سبحانه [إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ]( ).
وما في الإصطلاح فهو ما يقّدره الله من القضاء وما يحكم به سبحانه ، وأختلف في القضاء والقدر على وجوه :
الأول : هما بمعنى واحد .
الثاني : النسبة بينهما هو العموم والخصوص المطلق ، وأن معنى القضاء داخل في القدر .
الثالث : كل واحد من القضاء والقدر له معنى يختلف عن الآخر ، وسيأتي بيانه في بحث مستقل إن شاء الله .
ومن معاني الإيمان بالقدر أمور :
الأول : التسليم بعلم الله الأزلي بالأشياء كلها ، وأنه سبحانه يعلم الأشياء قبل إيجادها ، وفي التنزيل [أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا] ( ) .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها تجمع بين قدرة الله المطلقة وعلمه بكل شئ ، لبيان علمه بالموجود والمعدوم ، والتصرف التام بالخلائق وشؤونها وأنه سبحانه هو الرحيم الذي لا يفعل إلا ما هو خير محض ونعمة على الخلائق .
الثاني : إن الأمور تجري بمشيئة الله التي إذ كتب سبحانه ما يجري لكل إنسان من خير أو شر ورزق وهل هو مؤمن أو كافر من قبل أن يخلق ، وهو لا يتعارض مع قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الثالث : لله عز وجل المشيئة المطلقة في ملكه يفعل ما يريد ، وفي التنزيل [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
الرابع : الإقرار بأن ليس من خالق إلا الله عز وجل وظهرت فرقة القدرية أيام الدولة الأموية وأول من قال بالقدر بالبصرة معبد الجهني ، وقيل أول من قال بها غيلان القدري ، وقد صلبه هشام بن عبد الملك على أبواب الشام ، والقدرية هم جماعة تقول بأن الله لا يعلم بالشئ إلا بعد وقوعه ، وأن الأفعال بمشيئة الناس وليس بمشيئة الله ، ولكن الله عز وجل يقول [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ] ( ) لذا فالمراد من القدرية هو كل من قال بأنه يقّدر فعله بنفسه ، ويوجده مستقلاً من غير تدخل وتوسط ولطف من عند الله , وهم قلة ولكن أعطوا في عالم التصنيف والتحقيق أكقر كقيرا مما يستحقون ومقولتهم الباطلة , وصارت عند بعضهم تهمة حاضرة بتوسيع معناها .
(قال الأوزاعي: أول من نطق بالقدر رجلٌ من أهل العراق يقال له: سوسن، وكان نصرانيا فأسلم، ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلان عن معبد.) ( ).
(قال ابن عون: كنا جلوساً في مسجد بني عدي، وفينا أبو السوار، فدخل معبد الجهني من بعض أبواب المسجد فقال أبو السوار: ما أدخل هذا مسجدنا؟ لا تدعوه يجلس إلينا.
بينا طاوس يطوف بالبيت لقيه معبد الجهني، فقال له طاوس: أنت معبد؟ قال: نعم. فالتفت إليهم طاوس فقال: هذا معبد، فأهينوه.
وقال طاوس: احذروا معبد الجهني فإنه كان قدرياً.
قال أبو الزبير المكي: مررت أنا وطاوس فإذا معبد الجهني جالس في جانب المسجد، قلت لطاوس: هذا الذي يقول في القدر ما يقول. فعدل إليه طاوس حتى وقف عليه وقال: أنت المفتري على الله القائل ما لا تعلم؟ قال معبد: يكذب علي)( ).
وتقول القدرية أن الله عز وجل لا يعلم بالشيء قبل وقوعه، وأن الأمر أنف أي مستأنف لم يسبق به قدر ولا علم من الله به.
والقدرية على قسمين:
الأول : وقولهم على شعبتين:
الأولى : ليس لله علم بالحوادث قبل وقوعها وأن كان سبحانه يعلم الحوادث والوقائع والأشياء.
الثانية : إيجاد العبد لفعله على نحو الإستقلال من غير تدخليه لمشيئة الله، ونعتهم كثير من العلماء بالكفر والإرتداد، وهؤلاء أفراد قلائل فضحهم ووبخهم العلماء، وصلبهم الحكام المسلمون.
الثاني : وهم الذين يقرون بأن الله يعلم بالحوادث قبل وقوعها، ولكنهم أن أفعال العباد بمشيئتهم، ودافعة منهم على جهة الإستقلال، وبهذا تكون تسمية القدرية غير مناسبة، إذ تدل في ظاهرها على أنهم يقولون بالقدر ويقول كل مسلم بالإيمان بالقدر، وكان الأولى تسمية القدرية باسم يدل على الوهم والمغالطة التي يتبنون بدليل ما ورد عن (حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن لكل أمة مجوساً وإن مجوس هذه الأمة الذين يقولون لا قدر ، فمن مرض فلا تعودوه وإن مات فلا تشهدوه ، وهم من شيعة الدجال حق على الله أن يلحقهم به)( )، فيدل هذا الحديث على لزوم تسميتهم بما يغاير القول بالقدر ليكون الاسم عوناً للمسلمين والناس على فهم المسمى والمقصود، لذا ترى أغلب الناس لا يعلم من هم القدرية ويمكن تسميتهم(المكذبون بالقدر).
وكان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه فكتب إليه عبد الله بن عمر: إنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، فإياك أن تكتب إليّ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر)( ).
وفي رواية: يقولان لا قدر( ) بدل يكذبون بالقدر، نعم إذ ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سماهم القدرية فلا غبار على صحة الإسم، (حدثنا أنس بن عياض، حدثنا عمر بن عبد الله مولى غُفْرَة، عن عبد الله بن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذين يقولون: لا قدر. إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)( )، وأكثر هذه الأحاديث من المراسلين فمثلاً قال الترمذي: حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الْكُوفِىُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنِ الْقَاسم بْنِ حَبِيبٍ وَعَلِىِّ بْنِ نِزَارٍ عَنْ نِزَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِى لَيْسَ لَهُمَا فِى الإِسْلاَمِ نَصِيبٌ الْمُرْجِئَةُ وَالْقَدَرِيَّةُ)( ).
ومحمد بن فضيل ضعيف، وقال بعض علماء الرجال بأن هذا الحديث باطل.
لقد كان الصحابة يسلمون بأن القدر بيد الله، وما من شيء يحدث إلا بأمره ومشيئته وأذنه، وتدل عليه الآية السابقة بقوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ]( )، ولم تكن مسألة نفي القدر موجودة أيام النبوة والتنزيل إنما ولدت بعدها بسنوات ومن قبل أفراد وليس جماعات، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: بني الإِسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان ، والحج)( ).
فلم يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرط الإيمان بالقدر.
ونسب بعضهم نحو اثني عشرة فرقة إلى القدرية، وقد ترى طائفتين متخاصمتين , كل طائفة تنسب الأخرى إلى القدرية، وينسب بعضهم المعتزلة إلى القدرية لأنهم يقولون بخلق القرآن .

قوله تعالى [وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ]
إبتدأ هذا الشطر من الآية بحرف العطف الواو لبيان أن كذب المنافقين في إعتذارهم غير النفاق من جهتين :
الأولى : صدور القول الدعوة والحجة من المؤمنين وتوجهها إلى المنافقين .
الثانية : جواب المنافقين على هذا القول هو غير النفاق لبيان أنه رشحة منه وتبين الآية إقامة الحجة على المنافقين بدعوتهم إلى الجهاد والمصابرة في الدفاع عن بيضة الإسلام ، وعن النفوس والأعراض .
ومن الإعجاز في آية البحث أمور :
الأول : تعدد القول المتوجه إلى المنافقين لحثهم على الجهاد والصبر .
الثاني : بلوغ الموعظة والدعوة إلى الإيمان ونبذ النفاق إلى كل المنافقين ،
وهل تدل الآية على إنعدام البرزخ في حال هجوم الذين كفروا فاما أن يدافع المسلم بالكيفية التي يقدر عليها ، وأما أن يكون منافقاً ، الجواب لا ، لذا فان آية البحث لم تكتف بتخلف المنافقين عن القتال ، إنما ذكرت كذبهم وخداعهم والإعتذار بما يخالف الحال والأمارات إذ أن كفار قريش دقوا طبول الحرب ، وجاءوا بجيش لم تعهده الجزيرة في تلك السنوات مما بعد عام الفيل ، وهجوم ابرهة على البيت الحرام ، وهلاكه وجنوده كما في قوله تعالى [وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ] ( ) .
وكان الأولى برؤساء قريش الإتعاظ من تلك لواقعة ، خاصة وأنهم كانوا يجتمعون على نحو شبه يومي في دار الندوة المطلة على البيت الحرام ويذكرون أيام العرب والوقائع والشعر الذي قيل فيها وما يتضمنه من الإسباب والنتائج .
ويكشف قول المنافقين [لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ]حقيقة وهي أن المسلمين لم يريدوا القتال وأنهم مضطرون إليه كدفاع عن النبوة والتنزيل ، ولو كان المسلمون هم الذين يطلبون القتال لما اعتذر المنافقون بنفيه وإنكاره .
الثالث : لقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد ومعه ألف من الصحابة ، وصحيح أن عدد جيش المشركين هو ثلاثة أضعاف هذا العدد , وهم مدججون بالسلاح ، ومعهم المؤن والأموال إلا أن خروج ألف مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاهد على صدق نبوته وعزم المسلمين على الدفاع مع الإعتقاد بأن النصر من عند الله ، وهم يستصحبون نصر الله لهم في معركة بدر مع قلتهم وذلتهم آنذاك فيكون النصر في معركة أحد من باب الأولوية .
ولكن النفاق رفع رأسه في الطريق ، وإنكشف زيف المنافقين بأن تناجوا بالباطل والعودة إلى المدينة ، وتوجهوا في دعوتهم إلى عموم الأنصار وهم أكثر وعامة جيش المسلمين ، لقد بلغ أهل المدينة أن غاية كفار قريش من هجومهم وزحفهم على المدينة أمران :
الأول : قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : أسر الصحابة من أهل البيت وعامة قريش واعادتهم إلى مكة ، وكأنهم يقولون للمسلمين عامة والأنصار خاصة لم نأت لقتالكم , فظهر النفاق جلياً بالتخلي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان عبد الله بن أبي بن أبي سلول هو رأس الدعوة والتحريض على الرجوع الى المدينة بقوله (مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ) ( ) أن ذكره لقومه شاهد على أن قريشاً جاءوا لقتل النبي وإرادة وأد الإسلام ومنع التنزيل , قال تعالى [يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ).
وقام عبد الله بن عمرو بن حرام وهو أبو جابر بن عبد الله الأنصاري بسؤالهم ألا يخذلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومهم وأن يرجعوا إلى صفوف الجيش ، ولكنهم أصروا على الرجوع بحجة واهية لا أصل لها .
قوله تعالى [أَوْ ادْفَعُوا]
تبين آية البحث تعدد صيغ الجهاد في سبيل الله من وجوه :
الأول : محاربة النفس الشهوية بالسلامة من النفاق .
الثاني : قتال الكفار الذين جاءوا للقتال والغزو والبطش .
الثالث : الذي يكثر سواد المسلمين من غير قتال .
الرابع : دفع الكفار عن المدينة .
الخامس : المرابطة والحراسة .
لتبين الآية تنظيم القرآن للصفوف وخطط الدفاع في الإسلام ، فمن لا يستطيع القتال في ميدان المعركة يتولى الدفع والحراسة ، وإذا ما قاتل المسلمون العدو في ساحة المعركة , وأراد غزو المدينة المنورة فانه يكون ضعيفاً منهكاً فيكون الدفاع أسهل إلى جانب تعضيد النساء والصبيان للمدافعين .
ومتى ما علم الذين كفروا بوجود جيش للقتال , وآخر يليه للدفاع فانه يخشى الهجوم ويتجنب القتال ، وجاء الحديث النبوي بالثواب العظيم الذي يفوز به الذي يعمل على إكثار سواد المسلمين وإن لم ينو القتال .
(عن أنس بن مالك , قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الشهداء ثلاثة : رجل خرج بنفسه وماله محتسباً في سبيل الله يريد أن لا يقتِل ولا يُقتل ولا يقاتل ، يكثر سواد المؤمنين ، فإن مات وقتل غفرت له ذنوبه كلها ، وأجير من عذاب القبر ، وأومن من الفزع الأكبر ، وزوّج من الحور العين ، وحلت عليه حلة الكرامة ، ووضع على رأسه تاج الوقار والخلد .
والثاني رجل خرج بنفسه وماله محتسباً يريد أن يقتل ولا يقتل ، فإن مات أو قتل كانت ركبته مع ركبة إبراهيم خليل الرحمن بين يدي الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
والثالث رجل خرج بنفسه وماله محتسباً يريد أن يقتل ويقتل ، فإن مات أو قتل جاء يوم القيامة شاهراً سيفه واضعه على عاتقه , والناس جاثون على الركب يقول : ألا أفسحوا لنا ، مرتين . فإنا قد بذلنا دماءنا وأموالنا لله قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والذي نفسي بيده لو قال ذلك لإبراهيم خليل الرحمن ، أو لنبي من الأنبياء لتنحى لهم عن الطريق لما يرى من واجب حقهم ، حتى يأتوا منابر من نور عن يمين العرش ، فيجلسون فينظرون كيف يقضى بين الناس ، لا يجدون غم الموت ، ولا يغتمون في البرزخ ، ولا تفزعهم الصيحة ، ولا يهمهم الحساب ، ولا الميزان ولا الصراط ، ينظرون كيف يقضي بين الناس ، ولا يسألون شيئاً إلا أعطوا ، ولا يشفعون في شيء إلا شفعوا ، ويعطون من الجنة ما أحبوا ، وينزلون من الجنة حيث أحبوا ) ( ).
ومن خصائص الإشتراك في الدفاع عن الإسلام والمدينة التنزه عن أخلاق النفاق .
قوله تعالى [قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ]
من خصائص القرآن توثيق طرفي الحوار بذكرهما من حيث جهة الصدور والموضوع والدلالة وهو من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، وقد ذكرت آية البحث ما قاله المؤمنون للمنافقين في دعوتهم للجهاد، ويدل جوابهم (لأتبعناكم) على أن جهة صدور القول في(قيل لهم تعالوا) هم المؤمنون من المهاجرين والأنصار الذين خرجوا إلى معركة أحد.
وفي جواب المنافقين هذا حجة عليهم لتركهم إخوانهم من المؤمنين يلاقون عدواً كافراً لا يرضى إلا بقتلهم.
وهل يحتمل تأويل آية البحث بأن المراد لو نعلم قتالاً: أي أننا نجهل فنون القتال ولا نحسنه.
الجواب لا، خاصة وأن السنة وأخبارها تبين المراد من إعتذارهم.
ولدلالة ذات آية البحث برميهم بالقرب والدنو من الكفر لأمور:
الأول : الكذب والمخادعة.
الثاني : المخادعة.
الثالث : التخلية بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وبين جيوش الذين كفروا.
الرابع : إنكار وقوع القتال , وقد ورد في الآية السابقة تسمية معركة أحد يوم إلتقى الجمعان وتبين الآية دنو حال المنافقين وأنهم لم يصلوا إلى مراتب الأمرة في جيش المسلمين لإقرارهم بأنهم متخلفون حتى عن إتباعهم للمؤمنين.
ولو حرف إمتناع الإمتناع، أي أن المنافقين يقولون بالقطع بعدم وقوع قتال بين المؤمنين والذين كفروا، وتقدير قولهم: نحن نعلم أنه ليس من قتال فلا حاجة لخروجنا معكم وإتباعنا لكم). وهو من مصاديق التباين والتضاد بين ما يقولونه بأفواههم من نفي القتال، وما يكتمونه في قلوبهم الذي هو على وجوه:
الأول : الحتم بوقوع القتال.
الثاني : إستحضار تهديد ووعيد الذين كفروا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
الثالث : ظن الذين كفروا بنصر كفار قريش لكثرة أفراد جيشهم وأسلحتهم وشدة بأسهم.
الرابع : إرادة المنافقين بإنخزالهم إظهار ضعف وقلة عدد المسلمين.
الخامس : مما يكتمه المنافقون أن إنسحابهم من وسط الطريق بقصد تثبيط العزائم.
السادس : يخفي المنافقون في قلوبهم التواطئ بينهم وبين الذين كفروا على عدم القتال.
السابع : رغبة المنافقين بضعف حكم الإسلام وإرادتهم منع إتساع أحكامه، وفي الآية شاهد على أن المؤمنين يدافعون عن النبوة والتنزيل ويقاتلون الذين كفر سواء جاء معهم المنافقون أو لم يأتوا.
قوله تعالى [ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ]
من أمارات عطف آية البحث على الآية السابقة قوله تعالى [يَوْمَئِذٍ] إذ ورد في الآية السابقة قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] وهو من حسن النسق في نظم القرآن والإتصال بين آياته بما يجعل الأذهان متعلقة بالموضوع والحكم اللذين تأتي بهما الآية القرآنية ، أن تكرار ذكر واقعة أحد شاهد على موضوعيتها في تأريخ الإسلام وبناء صرح دولته ونيل المسلمين مراتب العز والرفعة ، ترى كيف صار المنافقون أقرب للكفر ، الجواب من جهات :
الأولى : التحريض على الرجوع عن القتال وهذا التحريض من النجوى المنهي عنها في قوله تعالى [فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ).
الثانية : الإمتناع عن الدفاع .
الثالثة : ظهور الجبن والخور وعدم الرغبة في دفع الذين كفروا .
الرابعة : إغراء الذين كفروا بجيش المسلمين وكانوا بمقدار ثلث عدد جيش الذين كفروا , وإنسحاب ثلاثمائة من جيش المسلمين جعله أقل من ربع ععدد جيش المشركين ، ولا ينحصر الأمر بالكم والعدد ، إنما يشمل العزائم والهمم ، فان انسحاب المنافقين من وسط الطريق إلى المعركة تقوية للهمم الذين كفروا وإن كانت هذه القوة الإضافية باب للبلاء وسبب لتفضل الله بتعجيل نزول الملائكة لنصرة النبي وأصحابه ، وكانت وظائف الملائكة يوم أحد متعددة منها :
الأولى : القتال دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار ، ومع جهاد عدد من أهل البيت والصحابة في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان بعض الملائكة يقاتل دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة لبيان عجز الذين كفروا عن الوصول إليه , وغلق الباب أمام شماتة المنافقين .
(عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَمَعَهُ رَجُلَانِ يُقَاتِلَانِ عَنْهُ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ كَأَشَدّ الْقِتَالِ مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ) ( ) .
الثانية : بعث الفزع والخوف بين صفوف المشركين وإرباكهم .
الثالثة : إعانة المؤمنين لقتل أو أسر الذين كفروا .
الرابعة : التلطف بالمؤمنين بعد المعركة .
الخامسة : قيام الملائكة بتغسيل بعض الشهداء , ففي معركة أحد إلتقى حنظلة وأبو سفيان كل واحد منهما شاهراً سيفاً يريد قتل صاحبه فاستعلاه حنظلة فرآه شداد بن الأوس من جيش الذين كفروا فنصر أبا سفيان وضرب حنظلة فقتله .
وعن ابن سعد (فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان صاحبكم يعنى حنظلة لتغسله الملائكة فسئلت صاحبته فقالت خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك غسلته الملائكة ثم انزل الله تعالى نصره على المسلمين فحشوهم بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر وكانت الهزيمة لا شك فيها.) ( ).
وصار هذا التغسيل باب عز وفخر لأولاده وذريته يتفاخرون به وينسبون أنفسهم إلى غسيل الملائكة ، مع أن هذا الغسل لم ينحصر ويختص به .
وكذا بالنسبة لحمزة إذ أصيب وهو جنب فغسلته الملائكة ، وعن جابر الأنصاري ( قال: لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهونني والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينه، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ” لا تبكه أو ما تبكيه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع ” ) ( ).
وألقى الله عز وجل النعاس على المؤمنين في معركة أحد , قال تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ]( ).
(قَالَ أَبُو طَلْحَةَ أُلْقِيَ عَلَيْنَا النّعَاسُ فَكُنْت أَنْعَسُ حَتّى سَقَطَ سَيْفِي مِنْ يَدِي. وَكَانَ النّعَاسُ لَمْ يُصِبْ أَهْلَ النّفَاقِ وَالشّكّ يَوْمَئِذٍ فَكُلّ مُنَافِقٍ يَتَكَلّمُ بِمَا فِي نَفْسِهِ وَإِنّمَا أَصَابَ النّعَاسُ أَهْلَ الْيَقِينِ وَالْإِيمَانِ)( ).
قوله تعالى [يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ]
يكون التباين بين قول وباطن المنافقين على وجوه :
الأول : إدّعاء المنافقين الإيمان وإخفاؤهم الشك والريب الغالب على نفوسهم .
الثاني : إظهار المنافقين الإستعداد لقتال الكفار المعتدين ، وهم يبيتون إجتناب القتال ، كما في إنسحابهم من وسط الطريق إلى معركة أحد .
الثالث : إظهارهم الفرح بنصر المسلمين وإبطانهم الرغبة بهزيمتهم .
الرابع : إستماع المنافقين لرسول الله وإظهارهم التدبر في آيات القرآن ، وهم يبيتون الكفر بالتنزيل .
الخامس : قيام المنافقين بأداء الفرائض على الظاهر ، وهم ينكرون وجوبها .
السادس : يظهر المنافقون كرههم للذين كفروا بينما هم يسعون لإعانتهم في الخفاء .
السابع : إتخاذ المنافقين المغالطة طريقاً للجدال والإعتذار وهم يعلمون في قرارة أنفسهم بمجانبة ما يقولون الصواب .
الثامن : قد يقول المنافقون كلمة حق ويريدون بها باطلاً .
التاسع : يعلن المنافقون إسلامهم ، ويخبرون عن عزمهم على طاعة الله ورسوله ، ولكنهم يتخلون عما يعلنون ، ويعزفون عما يدعّون من الإيمان ، وفي التنزيل [وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ولا يصدر القول إلا من الأفواه وجريانه على الألسنة ، وفي إضافته للأفواه في آية البحث مسائل :
الأولى : البيان والتوضيح .
الثانية : التأكيد .
الثالثة : التغليظ .
الرابعة : بيان التضاد بين قول وفعل المنافقين .
الخامسة : أخذ المسلمين الحائطة والحذر مما يقول المنافقون .
ومن الآيات الإشارة إلى الكتابة والتدوين ولحوقهما بالقول ، وهل في الآية أمارة على توصل العلم في قادم الأيام إلى صدور القول من الإنسان من غير الفم ، كما لو كانت الكلمات تخطر على الذهن وتجري مرتبة في مخارج الحروف فتصدر من جهاز تابع لذات الإنسان أو أنه عام كما لو كان الإنسان يتكلم بفمه .
الجواب لا يبعد هذا ، فالآية حث على الإرتقاء العلمي , وتبين الآية أن إيمان المنافقين خاص بالسنتهم وأنه لا يتجاوزها ، وأن ما ينطقون به من الآيات لا يتواطئ مع ما يضمرون من الكفر ، وفي التنزيل [يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ] ( ) وكثيرة هي الآيات التي ذكرت الألسن والأفواه في ذم المنافقين والكافرين ، وفي حسابهم وشدة عذابهم يوم القيامة لأن قولهم الكذب والزور والخداع والبهتان حجة عليهم .
لقد انسحب من الطريق إلى معركة أحد ثلاثمائة من أهل النفاق والذين أنصتوا وأطاعوا رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول فهل نطقوا كلهم لأتبعناكم ، الجواب لا ، أنما يلحق الساكت بالناطق من :
الأولى : إتحاد فعل الإنخزال والرجوع .
الثانية : الرضا بما يقوله بعض رؤساء النفاق .
الثالثة : شمول مضامين آية البحث للمنافقين الذين رجعوا ، فهذا الآية شاهد عليهم في الدنيا والآخرة .
الرابعة : حضور القرآن حجة يوم القيامة ، ومن مصاديقه في المقام قوله تعالى [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ) .
الخامسة : من إعجاز هذا الشطر من آية البحث مجيؤه بصيغة الفعل المضارع [يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ..] ( ) لإرادة إستمرار حال النفاق والإعتذار الزائف من قبل الذين نافقوا ، فمن لحقهم من الصحابة قالوا له [لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ] وحينما رجعوا إلى المدينة ووقع القتال فعلاً فأنهم يأتون باعذار أخرى للتغطية على إنخزالهم ، قال تعالى [يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ] ( ) ومنه قوله تعالى [قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ] ( ) .
ومن معاني صيغة المضارع في الآية تجدد التحذير للمسلمين من المنافقين على نحو يومي وفي حال السراء والضراء ، وهو من الإعجاز في تلاوة المسلمين القرآن في الصلاة خمس مرات في اليوم وجوباً عينياً على كل مسلم ومسلمة .
وهل تشمل مضامين آية البحث المنافقات أم أن الأمر يختص بالرجال منهم ، الجواب هو الأول ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : يقول الذين نافقوا يوم معركة أحد خلاف ما يضمرون .
الثاني : يقول الذين نافقوا عند عودتهم للمدينة من غير أن يدافعوا عن أهلها غير ما يكتمون من الكفر والضلالة .
الثالث : يقول المنافقون بخصوص الصلاة والعبادات ما ليس في قلوبهم من بغضها .
الرابع : يصف المنافقون وقائع معركة أحد خلاف ما يكتمون في قلوبهم ، إذ أنهم يكتمون الشماتة بالمؤمنين .
الخامس : تقول المنافقات خلاف ما يكتمن من البغض لأهل الإيمان .
السادس : يقول المنافقون والمنافقات ما لا يتعدى أفواههم من معاني الإيمان .
وتفتح آية البحث باب التحقيق العلمي في أقوال المنافقين بما توثقه آيات القرآن والسنة النبوية وأخبار الصحابة ، وقد جاءت الآية التالية ببيان قول الذين نافقوا [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ) وما في قلوبهم خلاف هذا القول من وجوه :
الأول : يعلم الذين نافقوا أن الموت قريب من كل إنسان .
الثاني : أن الشهادة مرتبة سامية يُرزق معها المؤمن الخلود في النعيم .
الثالث : هذا القتل لا يصيب كل المؤمنين الذين يقاتلون .
الرابع : كلما كثر عدد المسلمين أزاء العدو فان عدد قتلاهم يقل وينقص .
الخامس : بيان الحجة على المنافقين بكون إنسحابهم من المعركة من أسباب سقوط سبعين شهيداً في معركة أحد .
السادس : من خداع ومغالطة المنافقين قولهم بأن الشهداء لو لم يخرجوا إلى معركة أحد لم يقتلوا ، فلو لم يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحت لوائه لإستباح الذين كفروا المدينة وسبوا أهلها .
قوله تعالى [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ]
من عظيم قدرة وسلطان الله عز وجل أنه يعلم بما يدور في خلد الإنسان من النوايا والعزائم ، ومن الأسى واللوم للذات أو الغير ، ومن الرضا .
وعن الإمام جعفر الصادق في قوله تعالى [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى] ( ) قال [السِّرَّ] ما أكننته في نفسك و[أَخْفَى] ما خطر ببالك ثم نسيته، لبيان أن الآية أعلاه إنذار للمنافقين وزجر لهم عن التشفي بالمسلمين بسبب خسارتهم في معركة أحد ، ومن النفاق أنه بدل أن ينفروا لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذب عن الحرمات إختار المنافقون القعود والميل النفسي والرغبة بلحوق الخسارة بالمسلمين مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يطلب ملكاً أو مالاً أو دنياً , إنما أراد الخير ونجاة الناس في النشأتين .
وهل انتفعت ذراري المنافقين من رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم ، وجاءهم هذا النفع لإيمانهم وتبرئهم مما كان عليه المنافقون ، ومن الإعجاز أن آية البحث ضياء ينير مسالك الهدى .
ومن منافعها صيرورة المنافقين في عزلة ، وعجز عن إظهار الشماتة بالمسلمين خاصة وأن أسباب النصر والرفعة تترى على المسلمين .
وتتضمن الآية إنذار المنافقين من جهات :
الأولى : يبتلي الله المنافقين فيخرجون ما يخفون في صدورهم .
الثانية : التخويف والوعيد للمنافقين .
الثالثة : إخبار الله عز وجل رسوله الكريم بأشخاص المنافقين ، وورد (عن أبي مسعود عقبة بن عمرو، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: “إن منكم منافقين، فمن سميت فليقم”.
ثم قال: “قم يا فلان، قم يا فلان، قم يا فلان”. حتى سمى ستة وثلاثين رجلا ثم قال: “إن فيكم -أو: منكم -فاتقوا الله”)( ).
وفيه دلالة على أن قلوب المنافقين عليلة ، وأنهم ينوون إلحاق الضرر بالمسلمين ، ولتكون خاتمة الآية وعداً من عند الله للمسلمين بأن المنافقين لن يضروهم .
وأعلم : اسم تفضيل ، وهو مشتق من حروف الفعل الماضي الثلاثي المتصرف التام المبني للعلوم (علم) ليدل على إرادة تفضيل علم الله عز وجل على علم غيره سواء في موضوع مخصوص أو مطلقاً .
وفي الآية مسائل :
الأولى : تحدي المنافقين باخبارهم بأن الله عز وجل يعلم ما في قلوبهم , ذكوراً وأناثاً.
الثانية : إنذار المنافقين .
الثالثة : يعلم الله عز وجل الذي يتوب من المنافقين .
الرابع : إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بكفاية وصرف الله عز وجل لشرور المنافقين لأنه سبحانه يعلم ما يخفون من النوايا وهو سبحانه يحول دون جلبهم المفسدة والأذى ، وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
بحث بلاغي
من أنواع البديع الإيغال ويسمى أيضاً الإمعان والتبليغ والتتمييم ، وهو ختم الكلام أو بيت الشعر بنكتة يتم المعنى بدونها خاصة وأن الخاتمة محل للاسماع ، وتقف عندها الأذهان والخواطر والإيغال السير الشديد والإستمرار فيه وبه قال الأصمعي( ) .
وقال الأعشى :
تَقْطَعُ الأَمْعَزَ المُكَوكِبَ وَخْداً … بِنَواجٍ سَرِيعةِ الإِيغالِ( )
ومن إعجاز القرآن أن كل جملة فيه تفيد تمام المعنى ، وتتصل بها غيرها للبيان وتعدد المعاني والمقاصد ، وهو شاهد على قانون وهو أن علوم القرآن من اللامتناهي .
(عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ، فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) ( ).
(عن سهل بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه عن جده : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تشددوا على أنفسكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بتشديدهم على أنفسهم ، وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات) ( ).
وعن ( سهل بن أبي أمامة أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير، وهو يصلي صلاة خفيفة كأنها صلاة مسافر أو قريبًا منها، فلما سلم قال: يرحمك الله، أرأيت هذه الصلاة المكتوبة، أم شيء تنفلته؟ .
قال: إنها المكتوبة، وإنها صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخطأت إلا شيئًا سهوت عنه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: “لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم”.
ثم غدوا من الغد فقالوا: نركب فننظر ونعتبر قال: نعم فركبوا جميعًا، فإذا هم بديار قفر قد باد أهلها وانقرضوا وفنوا، خاوية على عروشها فقالوا: تعرف هذه الديار؟ قال: ما أعرفني بها وبأهلها. هؤلاء أهل الديار، أهلكهم البغي والحسد، إن الحسد يطفئ نور الحسنات، والبغي يصدق ذلك أو يكذبه، والعين تزني والكف والقدم والجسد واللسان، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) ( ).
وجاءت خاتمة الآية بصيغة من صيغ الإيفاد بالإخبار عن علم الله عز وجل بما يخفي المنافقون في صدورهم، وما يبيتون عمله مع أن الشطر السابق له بيّن جانباً بما يخفونه في صدورهم بقوله تعالى[يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ]( )، وقد جاء بعض مما يكتمون بقوله تعالى[يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ]( )، فمع مرور سنوات بين واقعة أحد، وصدور هذا القول من المنافقين فإنه من مصاديق خاتمة آية البحث.
وعن زيد بن أرقم قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصاب الناس شدّة ، فقال عبدالله بن أبيّ لأصحابه : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله .
وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبدالله بن أبيّ فسأله ، فاجتهد يمينه ما فعل ، فقالوا : كذب زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع في نفسي مما قالوا شدة حتى أنزل الله تصديقي في{إذا جاءك المنافقون}( ) فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم ، فلووا رؤوسهم، وهو قوله: {خشب مسندة}( ) قال: كانوا رجالاً أجمل شيء)( ).
بحث لغوي
تتعدد معاني النفق والنفاق في اللغة (ويقال: للسوق درّة وغرار أي نفاق وكساد)( ) ويقال نفقت السلعة أي لم تباع .
ليكون من معاني النفاق كساد تجارة الذي يخفي الكفر في ذات الوقت الذي يظهر فيه الإيمان ، فلا يجد المنافق أنصاراً وأعواناً ، ومن إعجاز ذم القرآن للمنافقين تضاؤل عدد المنافقين.
وقد تأتي آيات القرآن بوصف النفاق بأنه مرض كما في قوله تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ]( ), قال الخليل (أي نفاق)( ).
والمختار أن النسبة بين النفاق ومرض القلوب هو العموم والخصوص المطلق ، فالنفاق أعم وأوسع كمّا وكيفاً ، وقد يخرج النفاق إلى الخارج بالقول والفعل كما في آية البحث كما تدل عليه آية البحث بقوله تعالى [قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ].
كما أنهم إنخزلوا من وسط الطريق إلى المعركة ، ويأتي النفاق بمعنى النقص والذهاب والفني (ونَفَقَ السِّعْرُ نَفَاقاً. وطَعَامٌ نَفِقٌ : إذا لم يكُنْ له نَزَلٌ .
والنَّفَقَةُ: ما أنْفَقْتَ واسْتَنْفَقْتَ. ونَفِقَ الطَّعامُ: أي فَنِيَ.
ونَفِقَتْ نِفَاقُ القَوْم: أي نَقَصَتْ نَفَقَاتُهم. ومِيْرَةٌ نَفِقَة.
وفَرَسٌ نَفِقٌ : قَصِيرُ الغايَة.) ( ).
ويقال انفق الرجل أي افتقر وفني ماله , قال تعالى [إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ]( ) ويقال نفقت الدابة تنفق نفوقاً أي ماتت .
والنفق في الأرض معروف وهو سرب يُحفر في الأرض له مخلص ومخرج من الجهة الأخرى .
وقيل أن كلمة النفاق مأخوذة من النافق ، وهو موضع يرققه اليربوع من حجره ليخرج منه عندما يداهمه خطر من قبل القاصعاء أي الفتحة التي يدخل ويخرج منها إذ يضرب برأسه النافقاء ويهرب ، وقيل هذا المعنى هو أصل لفظ المنافق .
والمختار أن أصلها أعم إذ تنطبق عليه المعاني اللغوية الأخرى ، وهو من إعجاز تعدد معاني اللفظ القرآني .

قانون الإحتجاج بآية البحث على الذين نافقوا
لقد أنعم الله عز وجل على الإنسان بالعقل , وجعله آلة التمييز والفصل بين الأشياء وتعيين الأمر الحسن والميل الفطري له ،وتحديد الأمر السيئ والنفرة منه ، سواء يتم هذا التعيين والتحديد بالبديهيات أو التجريبيات أو المحسوسات أو الفطريات أو المتواترات ، مما يكفي منه تصور الموضوع والمحمول للتصديق بها أو تحتاج إلى وسط وقياس ظاهري أو خفي وجاء القرآن ليكون الضياء الذي ينير للعقول السبيل ،ويأتي بالحجة والبرهان ، ويخاطب الناس على نحو الخطاب والنداء العام للناس جميعاً والخاص للمسلمين ، وآخر لأهل الكتاب كما في قوله تعالى [يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]( ) ومع كثرة ورود مادة النفاق ومشتقاتها في القرآن وكثرة الذم للمنافقين ،
فليس في القرآن نداء (يا أيها المنافقون) مثلاً وعدم ورود مثل هذا النداء نوع توبيخ وتبكيت لهم ، وفيه بشارة وبعث للسكينة في نفوس المؤمنين بأن النفاق أمر متزلزل غير مستقل وأن التوبة قريبة منهم لعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وهل من موضوعية وأثر لآية البحث في توبة المنافقين .
ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه موضوع متجدد للإحتجاج سواء في الموضوع أو الحكم أو الدلالة ، وجاءت آية البحث للإحتجاج على المنافقين والكافرين من وجوه :
الأول : الخسارة التي تصيب المسلمين سبب لزيادة إيمان المسلمين ، لتكون مناسبة للنفع العام للمؤمنين .
الثاني : بيان آية البحث لخصال المنافقين ، لتكون تلاوة الآية حجة دامغة على المنافقين .
الثالث : من وجوه الإجتجاج بالآية القرآنية فضح المغالطة التي يلوذ بها المنافقون ، لذا قال الله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ] ( ).
ليكون من معاني الآية أعلاه عدم ركون المؤمنين إلى قول المنافقين .
الرابع : من ضروب الإحتجاج في القرآن القصة , وهي على أقسام :
أولاً : قصص الأنبياء والصالحين ، كما في أهل الكهف [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى] ( ).
ثانياً : قصص الظالمين والمكذبين بالنبوة والتنزيل ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا]( ).
ثالثاً : القصص التي تبين جهاد الأنبياء ضد الطواغيت كما في قوله تعالى إلى موسى [اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى] ( ).
وفي الرسالة الخاتمة ظهرت طائفة من الناس وهم المنافقون ،لتكون قصص القرآن موعظة لهم ، وذات تلاوتها حجة عليهم ، ودعوة لهم للتوبة والإنابة ، ومنها آية البحث التي تطل عليهم كل يوم تحثهم على الكف عن النفاق .
لقد نزلت آية البحث لتكون عوناً للمسلمين لدحض شبهات المنافقين ، وكان سقوط سبعين شهيداً من المسلمين في واقعة أحد التي جاءت آية البحث بخصوص موضوعها مناسبة ليبث المنافقون الأراجيف في المدينة ، ويدعوا إلى القعود وعدم قتال الذين كفروا وهو الذي تجلى بقوله تعالى [وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ.. ] ( ) ومن الإعجاز في آية البحث مجئ الإحتجاج فيها من جهات :
الأولى : قانون السببية والعلة والمعلول .
الثانية : الحوار والمناشدة .
الثالثة : الإحتجاج بالبرهان إذ كان جيش المشركين على مشارف المدينة، ولا يرضون إلا باستباحتها .
الرابعة : المناظرة والخطاب العام بخصوص مسألة معينة وهي الدفاع .
بحث كلامي
حرف التعليل هو الذي يؤتى به لبيان علة الأمر، أو الإظهار وبيان السبب، وحروف التعليل اللام، ان، كما، حتى، إذ، الباء، كي، وقد يكون حرف التعليل على سبيل الرجاء كما في (لعل) .
ومن التعليل بـ(كي) قوله تعالى[فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ]( )، ومن التعليل بحرف الباء، قوله تعالى في ذم ووعيد الذين كفروا[أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ]( )، واختلفت بعض الفرق من المسلمين في علة الأحكام الشرعية على أقوال :
الأول : وجوب تعليل أحكام وأفعال الله تعالى، وقد يكون هذا القول فرغ التحسين والتقبيح العقليين.
الثاني : تعليل أحكام وأفعال الله ولكن على سبيل التفضل لا الوجوب.
الثالث : إنكار القول بتعليل أحكام الله.
ومع أن نسبة هذه الأقوال للطوائف الكلامية معلومة ومثبتة في الكتب إلا أني أترك ذكر نسبتها على نحو التعيين كالمعتزلة والماتريدية والأشعرية، إنما المطلوب البيان، وإرادة النظر للنظريات والأقوال من غير إنحياز سببه الإنتماء والولاء .
فالقرآن سور جامع وفيه البيان والكفاية، من غير حاجة إلى الدخول في خلافات وخصومة في نظريات مستحدثة لا حاجة للمسلمين على نحو العموم المجموعي والإستغراقي بها، قال تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( )، وإجماع علماء الإسلام بأن الله عز وجل فاعل مختار، وأن أفعاله عن مشيئة وإختيار حسب علمه وبمشيئته، وتتضمن الحكم والمصالح والمنافع المتجددة, والنزاع بينهم لفظي وصغروي، فالذي يمنع من القول بأن أفعال الله عز وجل لها علة غائية يقول بأنها لا تخلو من حكمة ومقصود، ترى لماذا منعوا من القول بالعلة الغائية، إحتجوا بأن الذي يفعل لغرض يجب أن يكون منتفعاً من غرضه، ومقاصد فعله، ولا أصل لهذا القول والملازمة في الفعل الإلهي، لقانون غنى الله عز وجل وعدم حاجته إنما يحتاج الممكن، فعلى القول بالعلة الغائية في أفعال الله إنما هي لغاية مصالح الخلق في الدنيا والآخرة، ومنه قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، إذ تنطبق مضامين الآية أعلاه على مصاديق كل آية من آيات القرآن، والمراد من العلة في المقام إنما يشمل الحكمة والمقاصد السامية والثمرة والنفع من تشريع الحكم .
والأصل في العبادات هو إتيانها دون الوقوف عند معانيها وعلتها الخاصة ، وفي التنزيل[وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ويمكن تقسيم الحكم بلحاظ وقت إتيان الفعل ، وينقسم إلى أقسام :
الأول : الأداء : وهو إتيان العبادة في وقتها إذا كان لها وقت معلوم ، ويقسم الأداء إلى أقسام :
أولاً : الأداء في وقت معين ومحصور ، مثل الصيام فانه مخصوص في شهر رمضان يبدأ من أول يوم من الشهر .
ثانياً : الأداء في وقت محصور ولكنه موسع ، كما في أداء الصلاة اليومية فان وقت الأداء أعم من مدة إتيان فعل الصلاة ، فمثلاً يستمر وقت أداء صلاة الصبح بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس بينما لا يستغرق أداؤها سوى أربع دقائق أو نحوها .
ثالثاً : صحة أداء جزء من العبادة في الوقت وجزء بعده ، كما في أداء ركعة من صلاة الصبح مثلاً قبل طلوع الشمس أو إتيان ركعة من صلاة العصر قبل غروب الشمس .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة .
وروي عن عطاء بن يسار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصُّبْحِ رَكْعَةً قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ) ( ).
الثاني : الواجب الذي لا يكون له وقت معين ، وهذا لا يوصف بالأداء والقضاء ، وهو على شعب :
الأولى : العبادة التي لها سبب مثل تحية المسجد .
الثانية: العبادة التي ليس لها سبب مثل بعض الصلوات المستحبة كصلاة الشكر والأذكار والتسبيح .
الثالثة : العبادة التي تكون من الشعبتين أعلاه بأن يؤتى بها مرة كسبب وأخرى من غير سبب مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
الثالث : النوافل المفتوحة التي لا تختص بوقت محدد , وهي خير محض.
الرابع : العبادة العينية التعينية بوقت مخصوص كصيام شهر رمضان المحصور بين هلالين , قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ) .
الخامس : العبادة متحدة الموضع والمكان التي تتجلى بأداء الحج, قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ).
ومن عجائب الدنيا بئر زمزم في ماهيته وجريان وتدفق مائه والنصوص التي جاءت بخصوصه ، والنفع العظيم منه .
تلك البئر المباركة التي فجرها جبرئيل عليه السلام بعقبه لإسماعيل وأمه ، وكانت سبباً للسكن والإقامة حول البيت الحرام في واد قفر وأرض جرداء ليس فيها ماء أو زرع ، ويدل عليه ما ورد في التنزيل حكاية عن إبراهيم [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] ( ).
لقد ولد إسماعيل لإبراهيم عليه السلام من هاجر واشتدت الغيرة في قلب زوجته الأولى سارة وصارت هاجر تتطاول لكونها صارت أم ولد وورد في سفر التكوين (ورات سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لابراهيم يمزح
فقالت لابراهيم اطرد هذه الجارية و ابنها لان ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني اسحق
فقبح الكلام جدا في عيني ابراهيم لسبب ابنه
فقال الله لابراهيم لا يقبح في عينيك من اجل الغلام و من اجل جاريتك في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها لانه باسحق يدعى لك نسل
و ابن الجارية ايضا ساجعله امة لانه نسلك
فبكر ابراهيم صباحا و اخذ خبزا و قربة ماء و اعطاهما لهاجر واضعا اياهما على كتفها و الولد و صرفها فمضت و تاهت في برية بئر سبع
و لما فرغ الماء من القربة طرحت الولد تحت احدى الاشجار
و مضت و جلست مقابله بعيدا نحو رمية قوس لانها قالت لا انظر موت الولد فجلست مقابله و رفعت صوتها و بكت
فسمع الله صوت الغلام و نادى ملاك الله هاجر من السماء و قال لها ما لك يا هاجر لا تخافي لان الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو
قومي احملي الغلام و شدي يدك به لاني ساجعله امة عظيمة
و فتح الله عينيها فابصرت بئر ماء فذهبت و ملات القربة ماء و سقت الغلام) ( ).
بينما بلغت سارة الثمانين ولم تلد ، ولم تعلم أن الله عز وجل يدخر لها رزقاً كريماً يبقى خالداً إلى يوم القيامة بذرية من الأنبياء المتعاقبين ، ويذكرهم في القرآن ، ولم تذكر هاجر في القران أنما ذكرت سارة بقوله تعالى [وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (هود/71) قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ] ( ).
بحث أخلاقي
تجعل آية البحث المسلمين يستحضرون ملاقاة المصيبة والخسارة يوم أحد والتدبر في موضوعها وأسبابها وآثارها ، وليس من إنسان إلا وتلاقيه المصائب في الدنيا ، وهو من ضروب الإبتلاء فيها سواء المصيبة في البدن أو الرزق أو فقد الأحبة ، وجاءت آية البحث لتبين قانوناً وهو أن مصيبة المسلمين فيما يلاقونه من الأذى في سبيل الله ، مما يدل على ركوبهم جادة الصبر والدفاع وعدم تخليهم عنه .
وتبين الآية صبر المسلمين , وأن المصيبة الحقيقية التي تأتي للمسلم هو الضرر في الإسلام , ومع هذا فهو لا يعتدي على الغير , ولا يحرض عليه.
(وأخرج مسلم عن أم سلمة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها .
قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأخلف الله لي خيراً منه ، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) ( ).
(عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال : قلت يا رسول الله ما حق جاري علي ؟ قال : ( إن مرض عدته وإن مات شيعته وإن استقرضك أقرضته وإن اعوز سترته وإن أصابه خير هنأته وإن أصابته مصيبة عزيته.
ولا ترفع بناءك فوق بنائه فتسد عليه الريح ولا تؤذه بريح قدرك الا أن تغرف له منها )) ( ).
لبيان إتصاف المسلم بمواساة جيرانه مطلقاً وإن كان بعضهم من ملة أخرى غير الإسلام ، وهل آية البحث مواساة للمسلمين .
الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن بأن تنزل الآية القرآنية وتكون لها منافع عظيمة في مواضيع متعددة , ومن منافع آية البحث في المقام التعزية والمواساة للمسلمين من جهات :
الأولى : تحمل وصبر المسلمين على الأذى المتحد في أوانه والمتعدد في جهة صدوره من الكفار والمنافقين أيام معركة أحد .
الثانية : سقوط سبعين شهيداً من المسلمين , وحرمان المسلمين من الغنائم والأسرى يوم معركة أحد .
الثالثة : كثرة جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ، وكانت نجاته يوم معركة أحد من أعظم صيغ المواساة من عند الله عز وجل ، وفيه دعوة للمسلمين للشكر لله عز وجل على هذه النعمة وسط المصائب ، وفيه شاهد على قانون وهو أن الله عز وجل يمنّ وينعم على المسلمين بأعظم النعم حتى عند نزول المصيبة بهم , وهم يجاهدون في سبيله تعالى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
والشكر لله من مكارم الأخلاق , وثبت في علم الأصول أن شكر المنعم واجب .
الرابعة : مواساة الله عز وجل للمسلمين , ودعوته لهم للصبر بالإخبار عن المصيبة بصيغة الماضي ، وتقدير الآية : أولما أصابتكم مصيبة لا تصابون بمثلها ) .
وهو الذي يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لن ينالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن) ( ).
الخامسة : تفضل الله عز وجل بذكر قول وتساؤل المسلمين فيما بينهم عن سبب الخسارة يوم أحد .
السادسة : إخبار آية البحث عن وهن وضعف جيش الذين كفروا مع كثرته، فلم يكونوا سبب خسارة المسلمين لقوله تعالى [قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ]( ) لإرادة تهذيب أخلاق المسلمين وزيادة عزائمهم وعدم طرو الخوف والحزن على نفوسهم .
وتتضمن آية البحث بيان ضرر النفاق العام والخاص وأنه داء ومرض في ذات الإنسان , وغفلة عن الحاضر والمستقبل , وهو برزخ دون الإستعداد العام لعالم الحساب ، وتبعث آية البحث على الصدق مع الله عز وجل , وإصلاح السرائر , والتنزه عن الكذب والخداع .
وعن (عن ميمون الكردي ، عن أبي عثمان النهدي ، عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : إنما أخاف عليكم كل منافق عليم ؛ يتكلم بالحكمة ويعمل بالجور) ( ).
وقد يقال بأن ذكر المنافقين وتدني أخلاقهم وسوء عاقبتهم ورد في سبعة وثلاثين موضعاً من القرآن ولكنه أكثر بكثير ، وتتجلى هذه الكثرة بصيغة العطف في الآيات الخاصة بالمنافقين .
ومن خصائص آية البحث تنمية ملكة الصدق عند المسلمين وبعث النفرة في نفوسهم من الكذب والمراءاة والخداع ، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (بُعثت لأتُمّم مكارم الأخلاق) ( ).
ومن تمام الأخلاق آية البحث ، وما فيها من تهذيب وإصلاح للأخلاق والنفوس ، ومن معاني الوعيد في آية البحث أنها برزخ دون إرتقاء المنافقين في سلم المناصب في الأمرة والحكم والفقاهة ، ليكون تدني حال المنافق من العقوبة العاجلة له على تخلفه عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ساعة الشدة ، وفي هذه الأزمنة قد ينعت بعضهم الذي يمدح غيره أو يتلطف معه أو الذي يسكت عن كشف بعض الحقائق بأنه نفاق وأنه منافق ، وهو خلاف القدر المتيقن من وصف المنافق في القرآن فقد يكون هذا السكون عن عذر ولو على نحو صرف الطبيعة .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لاَ تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ فَيَتَمَرَّغَ عَلَيْهِ وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِى كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلاَّ الْبَلاَءُ)( ).
أي أنه لا يرغب بالإنتقال إلى عالم الآخرة، ولا يريد مغادرة الدنيا إلا من البلاء الذي يلاقي، وليس المراد الناس كلهم، إنما المراد بيان شدة البلاء، وتوالي الفتن وشياع هذا القول عن عدد من الناس في زمانه , وتكون هذه الرغبة في زمان أشد وأكثر من زمان آخر , فهي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة , ويبين الحديث النبوي أعلاه أنها تكون ظاهرة وجلية في آخر الزمان .
ومما يذكر أن الوزير المهلبي الحسن بن محمد بن هارون وزير معز الدولة أحمد بن بويه الديلمي ، كان يتصف بالفطنة وعلو الهمة وسعة الصدر والكرم والجود مع أدب ظاهر .
وكان قبل أن يتصل بمعز الدولة ويرقى في المناصب في غاية الضنك والضائقة والفقر ، وسافر مرة فلاقى مشقة في سفره ، وأشتهى لحماً ، فلم يقدر على شرائه ، فقال حينئذ :
(ألا موت يباع فأشتريه … فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موت لذيذ الطعم يأتي … يخلصني من العيش الكريه
إذا أبصرت قبراً من بعيد … وددت لو أنني مما يليه
ألا رحم المهيمن نفس حر … تصدق بالوفاة على أخيه) ( ).
وكان معه رفيق في سفره اسمه عبد الله الصوفي فقام واشترى بدرهم لحماً وطبخه وقدمه إليه ثم افترقا .
ولما تولى المهلبي الوزارة ، ضاقت الحال بصاحبه هذا فكتب بيتين من الشعر في رقعة وبعثها إلى الوزير :
ألا قل للوزير فدته نفسي … مقالة مذكر ما قد نسيه
أتذكر إذ تقول لضنك عيش .. ألا موت يباع فأشتريه ( ).
فتذكره الوزير صنيعه في تلك الواقعة فأمر له بسبعمائة درهم بدل الدرهم الذي أنفقه عليه ووقع في رفعته [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ) .
ثم أرسل إليه وقلّده عملاً يرتزق به ، وكان المهلبي يستحضر وهو في الوزارة فقره وأيام فاقته ، فقال
رق الزمان لفاقتي … ورثى لطول تحرقي
فأنالني ما أرتجيه … وحاد عما أتقى
فلأطفحن عما أتا … ه من الذنوب السبق
حتى جنايته بما … صنع المشيب بمفرقي .
وله أيضاً :
قال لي من أحب والبين قد ج .. د وفي مهجتي لهيب الحريق
ما الذي في الطريق تصنع بعدي .قلت أبكي عليك طول الطريق ( ).
ونسبة الرقة والعطف عليه إلى الزمان ، وكان الأولى به أن يشكر الله عز وجل بقوله وشعره .

قانون الصحة في أداء الفرائض
لقد وردت آيات قرآنية تتضمن أداء الفرائض العبادية وأحكامها، وقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأدائها بحضرة المسلمين ، وجاءت أحاديث نبوة عديدة ببيان كيفيتها وثوابها ، ويحتمل بلحاظ موضوعية السنة وجوهاً :
الأول : إنه من تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب للمسلمين .
الثاني : إنه من تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحكمة للمسلمين .
الثالث : أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الفرائض العبادية وأدائها من الكتاب والحكمة .
الرابع : إنه أمر آخر غير الكتاب والحكمة الذي يذكره قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ).
والمختار أنه من تفسير وبيان أحكام الكتاب ، ومن تعليم الحكمة الذي تذكره الآية أعلاه لما فيها من تسخير للعقل والجوارح في طاعة الله ، ورجاء الفوز بالثواب العظيم يوم القيامة ، وفي التنزيل[وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ) .
ومن الحكمة الصحة العامة والبدنية الخاصة للمسلمين عند أداء الواجبات العبادية .
ويوماً بعد يوم تتكشف للناس في عالم الطب معجزات في كيفية أداء الفرائض ، ومنافعها الصحية ، وإن كانت هذه المنافع المستقرأة حديثاً يدركها المسلم بالفطرة ويحس بها بالتجربة والوجدان في أدائه الفرائض ، ففي الصلاة مثلاً أظهرت دراسات علمية حديثة أن كيفية أداء المسلمين للصلاة ، وتضمنها القيام والركوع ثم القيام ثم السجود لمرتين والجلوس على الأرض ثم القيام للركعة الثانية يقلل من آلام أسفل الظهر إذا تم أداؤها على نحو منتظم وملائم وليس كنقرة الديك .
ومن الآيات في أداء الصلاة أنها إنقطاع إلى الله عز وجل ولابد حين الغور في أسرار وذخائر الصلاة إستحضار المسألة الأهم فيها، وهو الإنتقال الذهني إلى عالم الملكوت ، وقد أثبت العلم أن الصلاة تزيل الإرهاق الجسدي من جهة أدائها بحركاتها المنتظمة ، ولكن العلاج النفسي في الصلاة يستلزم فهماً عميقاً من العلماء الذين يدرسون ماهية ومنافع الصلاة .
ومن منافع الصلاة على الصحة والبدن أمور :
الأول : الوقاية من آلام الركبتين .
الثاني : إعطاء المرونة والمنعة من التآكل والوهن للفقرات القطنية في العمود الفقري .
الثالث : الإتيان بتمارين رياضية على نحو قهري مع المائز وهو أن فيها البركة والأجر والثواب .
الرابع : تساوي المسلمين والمسلمات في أداء الصلوات ، فليس من أمة يؤدي أفرادها حركات منتظمة مجتمعين ومتفرقين خمس مرات في اليوم طاعة لله عز وجل مثل المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الخامس : الركوع والسجود بعد القيام واقية من هشاشة العظام، وعلاج لآلام الظهر وتخفيف لها .
السادس : تجلي البرهان بسماوية تشريع الصلاة بدراسات طبية وعلمية عن منافع كل حركة وكيفية وحال من أحوال الصلاة وسر إرتباطها بما قبلها وما بعدها .
السابع : يؤدي السجود إلى المرونة في أربطة منطقة الظهر , وفيه تقوية لعظامه , وتخفيف من شدة آلام الظهر .
الثامن : تقوية عضلات الجسم ، فمن الإعجاز الغيري للصلاة إشتراك جميع أعضاء وعضلات البدن في أدائها .
التاسع : تنشيط المفاصل , ومنع الخدر والخمول من الوصول إليها في إتيان الصلاة خمس مرات .
العاشر : الصلاة واقية من الأدران التي تصيب الجهاز الهضمي.
الحادي عشر : في الصلاة صحة للقلب وتنظيم واستقرار لضغط الدم .
الثاني عشر : سلامة الكبد ، وحسن أداء وظائفه .
الثالث عشر : دوام عمل الرئتين .
الرابع عشر : ديمومة نشاط الكليتين وأدائها لوظائفها .
الخامس عشر : تساعد الصلاة على إفراز هرمون الشباب الميلاقونين الذي تفرزه الغدة الصنوبرية وهي غدة صغيرة قطرها 7,2 ملم في مخ الإنسان ويوجه الميلاتونين في خلايا كل كائن حي ، وينظم الإيقاع الحيوي عند الإنسان وينظم حياته من جهة النوم والإستيقاظ ، ويزيد إفرازه عندما يخفت الضوء ، بينما يقل إفرازه عند زيادة حدة الضياء ، وكان هذا الهرمون منبه خاص لجسم الإنسان وباعث له للإستعداد وباعث له للإستعداد للسكون أو العمل ، وهو من مصاديق إنسجام البدن مع الآيات الكونية بقوله تعالى [هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا] ( ) وكلما تقدم الإنسان في العمر قل إفراز هرمون الميلاتونين في جسمه ولعله من آثار ظهور أعراض الشيخوخة وأضطرابات الجهاز المناعي ، إذ أن هذا الهرمون مضاد للأكسدة كما أنه يعيق نشوء ونمو الخلايا السرطانية ، ويبطئ نمو بعض الأورام .
ولابد من دراسات طبية وعلمية خاصة في منافع الصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس في الوقاية من مرض السرطان والأمراض الأخرى ، ومع تحذير الأطباء من الجلوس على الأرض لمن تعدى عمره أربعين سنة فان الدراسات العلمية بينت ان جلوس المسلمين على الأرض يساعد في اللياقة البدنية
السادس عشر : ينشط الركوع والسجود الدورة الدموية ويساعدان في وصول الدم إلى الرأس .
السابع عشر : في الصلاة تنشيط للذهن وإرتقاء في الملكات الذهنية والبدنية بأداء أفعال الصلاة وبالإنقطاع فيها عن زخرف الدنيا .
الثامن عشر : لقصد القربة في الصلاة موضوعية تهذيب النفس وصلاح البدن .
التاسع عشر : من الأمراض التي تطرأ على الإنسان عند التقدم في العمر تيبس المفاصل (Oster Arthritis) وأداء الصلاة واقية منه، ومن الإنزلاق الغضروفي .
وإذا أجريت إحصائية بين المرضى ممن يؤدون الصلاة ومن غيرهم لتبين قلة هذه الأمراض عند المواظبين على الصلاة , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
العشرون : ليس من حصر لمنافع صلاة الجماعة النفسية والبدنية على الفرد والجماعة , وتبعث على السكينة إذ تطرد عن النفس الهموم الخاصة والضغط النفسي وعناء المكتب والعمل والبيت ، وتدفع الوهم والقلق والكآبة وتحارب النفس الغضبية والشهوية ، وهو من رشحات ومصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
الحادي والعشرون : يجذب أداء الصلاة المودة ويمنع من الأخلاق المذمومة ، ويحارب الرذيلة والجريمة ، والصلاة من الأمارات على عدالة الإنسان وسلامته من الفسوق والفجور وسبب ظاهري للثقة به ، والإطمئنان إليه بقيد خلوها من الرياء ، وفي التنزيل [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( ).
الثاني والعشرون : تجب الصلاة على كل مسلم البلوغ وعلاماته, وعند بلوغ السنة الخامسة عشرة القمرية ويستحب قبلها لتساهم الصلاة في النمو السليم لعضلات الظهر ، وتيسير عمل فقرات السلسلة الظهرية وتكسب المناعة من الأمراض التي تتفرع عن ضعف العضلات التي تجاور العمود الفقري .
الثالث والعشرون : يقوي كل من الركوع والسجود مجتمعين ومتفرقين عضلات جدار البطن ، ويسهلان تقلصها ,وأنقباضها وحسن أدائها في الهضم كما يساعدان الأمعاء في دفع الهواء من جوف المعدة إلى الفم ، فيحجب تمددها ، وسوء الهضم والأثر السلبي على القلب .
الرابع والعشرون : تعالج الصلاة الإحتقان أسفل البطن الذي قد يترشح عن إلتواء خلقي في بيت الرحم.
الخامس والعشرون : يولي الأطباء ورجال السياسة وغيرهم في هذا الزمان أولوية للصحة النفسية، وصارت علماً مستقلاً وقد سبقهم الإسلام بالوقاية والعلاج من الأمراض النفسية، بأداء الصلاة خمس مرات في اليوم، وهو من مصاديق قوله تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، وفي المرسل(عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَا بِلَالُ أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ)( ).
ومن الإعجاز في أداء الصلاة أن كل فرض من الفرائض اليومية الخمس له منافع خاصة به ، وهو من مصاديق قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ]( ).
وتقدير الآية في المقام على وجوه :
الأول : حافظوا على الصلوات لسلامتكم وصحتكم .
الثاني : حافظوا على الصلوات للوقاية من الأمراض .
الثالث : حافظوا على الصلوات ليستنبط ويستنتج العلماء عامة وأطباء الأبدان خاصة المسائل والمنافع العامة والخاصة منها .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا لقد منّ الله عليكم إذ بعث رسولاً من أنفسكم فحافظوا على الصلوات .
الخامس : لابد من تناول الأطباء بالتحقيق التفصيلي منافع تلاوة القرآن أثناء الصلاة والوقوف بخشوع وأدب واستقامة لحين إتمام تلاوة سورة الفاتحة وسورة أو آيات أخرى معها بالإضافة إلى الفوائد الخاصة بكل سورة وآية فان سورة الفاتحة تمنع غضب الله وسورة الأخلاص تمنع النفاق وسورة الفلق تمنع الحسد .
السادس : حافظوا على الصلوات لطرد الفقر والفاقة , ومن معاني اسم الصلاة أنها الدعاء .
قانون منافع مشورة النبي للصحابة
لقد بينت آية البحث قانوناً وهو منّ الله عز وجل على المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفضخ المنافقين , وتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن كل آية من القرآن منّ وإحسان منه تعالى على المسلمين، وهو من أسرار ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة وتلاوته آيات القرآن على المسلمين، وقد تقدم قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ]( )، لبيان أن مشورة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين منّ وطول من الله من وجوه :
الأول : مشاورة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين منّ من الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إنه منّ ونعمة من الله عز وجل على المسلمين بإستشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم.
الثالث : تنمية ملكة الرأي السديد عند المسلمين .
الرابع : إشتراك المسلمين فيما يرون من الرأي السديد مع ما ينزل من مصاديق الوحي والتنزيل.
الخامس : توثيق القرآن لرأي ومشورة المسلمين، إذ تتجلى وعلى نحو الموجبة الجزئية فيما يأمر به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : إكرام الله عز وجل للمسلمين ومنّه عليهم بالتهيء لإبداء الرأي في المسائل التي تجوز فيها المشورة.
ويمكن تقسيم إستشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بلحاظ الموضوع منها ما يكون في ميدان المعركة، والذي يمكن تقسيمه وشطره، فمثلاً في معركة بدر، إستشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه، قبل العزم على القتال، ثم استمع إلى المشورة بخصوص موضع القتال مع أنه[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
لقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لإعتراض قافلة أبي سفيان وانتزاع حقوق له ولأصحابه عند قريش، فجازت القافلة ولم يتعرضوا لها، ولكن كفار قريش جهزوا الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، ولما علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر بادر إلى استشارة أصحابه وكانت هذه الإستشارة على قسمين :
الأول : الإستشارة العامة للمهاجرين والأنصار .
الثاني : إرادة خصوص الأنصار .
فحالما علم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بزحف جيوش قريش، أطلع أصحابه على الأمر، واستشارهم في كيفية التصرف ، إذ أن الحال على وجوه ممكنة ومحتملة منها :
الأول : إنصراف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة المنورة .
الثاني : ملاقاة كفار قريش، وقتالهم .
الثالث : طلب الصلح والمهادنة، إذ لم يكن مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلا سلاح المسافر، وكان معه فرسان وسبعون من الإبل بينما كان مع كفار قريش مائة فرس وستمائة درع، وعدد كبير من الإبل، ويكفي أنهم كانوا ينحرون في بعض أيام مسيرهم إلى معركة بدر تسعة أو عشرة من الجمال كل يوم .
الرابع : نصب كمائن ومباغتة جيش قريش .
الخامس : إستنزاف جيش قريش .
السادس : بعث رسل إلى المدينة المنورة لطلب مدد وعون إذ أن شطراً من المسلمين تخلفوا عن الخروج , فقد كانوا يظنون بعدم وقوع قتال، وقد قدموه عذراً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند عودته منتصراً غانماً من المعركة.
قال ابن إسحاق : وأتاه الخبر عن قريش ومسيرهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش( ).
وتبين إستشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه قانوناً وهو إكرام المسلمين في خياراتهم، وإن كانوا بحضرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا يتكلم إلا بالوحي وعن الوحي، ليجاهد الصحابة عن رضا بالقتال من غير كآبة أو شقاق، ولبيان أنهم لم يقاتلوا مكرهين أو مجبورين، فجاءهم النصر لصبرهم، وتجلى الأمر في معركة أحد، قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
وبعد أن استمع النبي لقول عدد من المهاجرين والأنصار، أعاد السؤال وطلب المشورة وقال بذات الصيغة (اشيروا عليّ أيها الناس) فعلم الأنصار أنه يريدهم على نحو التعيين لوجوه:
أولاً : يؤلف الأنصار أكثر الصحابة في معركة بدر، إذ كان عددهم هو مائتين وواحداً وثلاثين، وعدد الأوس منهم هو واحد وستون، وعدد الخزرج هو مائة وسبعون ، أما عدد المهاجرين فهو ثلاث وثمانون , وهو المروي عن البراء بن عازب.
ثانياً : إحتمال الإنسحاب إلى المدينة وقيام قريش بالتعدي على حدودها، وفيها مزارع وضياع للأنصار.
ثالثاً : تقييد بيعة الأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بيعة العقبة .
رابعاً : يتصف الأنصار بأنهم أهل تلك المنطقة أو أنهم قريبون منها، إذ تبعد بدر عن المدينة المنورة نحو مائة وخمسين كيلو متراً بينما تبعد عن مكة نحو ثلاثمائة وعشرة كيلو متراً، وعن جدة نحو مائتين وسبعين كيلو متراً وعن البحر الأحمر عشرين كيلو متراً .
قال الرحالة ابن جبير( ) :ثم نزلنا مريحين قائلين يوم الخميس التاسع والعشرين من ذي الحجة، وبيننا وبين بدر مقدار مرحلتين، فلما كان أول الظهر رحلنا مقربة من بدر فنزلنا بائتين. ثم قمنا قبل نصف الليل فوصلنا بدراً وقد ارتفع النهار. وهي قرية فيها حدائق نخل متصلة، وبها حصن في ربوة مرتفعة، ويدخل اليها على بطن واد بين جبال. وببدر عين فوارة، وموضع القليب الذي كان بإزائه الواقعة الاسلامية التي أعزت الدين وأذلت المشركين، هو اليوم نخيل، وموضع الشهداء خلفه، وجبل الرحمة الذي نزلت فيه الملائكة عن يسار الداخل منها الصفراء، وبإزائه جبل الطبول، وهو شبيه كثيب يزعمون أن أصوات الطبول تسمع بها كل يوم جمعة، كأنها آثار إنذارات باقية بما سلف من النصر النبوي في ذلك الموضع، والله أعلم بغيبه.
وموضع عريش النبي، صلى الله عليه وسلم الله عليه وآله وسلم، يتصل بسفح جبل الطبول المذكور، وموضع الوقيعة أمامه. وعن خيل القليب مسجد يقال: أنه مبرك ناقة النبي، صلى الله عليه وسلم وصح عندنا، على زعم أحد الأعراب الساكنين ببدر، أنهم يسمعون أصوات الطبول بالجبل المذكور، لكن عين لذلك كل يوم اثنين ويوم خميس. فعجبنا من زعمه كل العجب ولا يعلم حقيقة ذلك الا الله تعالى.
وبين بدر والصفراء بريد، والطريق اليها في واد بين جبال تتصل بها حدائق النخيل، والعيون فيها كثيرة: منها حصنان يعرفان بالتوأمين، وحصن يعرف بالحسنية، وآخر يعرف بالجديد، حصون كثيرة، وقرى متصلة( ).
لقد كانت بيعة الأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة مقيدة بأمرين :
الأول : وصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة وكانت تسمى يثرب .
الثاني : منع الأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما يمنعون أبناءهم ونساءهم .
وكانوا قد قالوا في بيعة العقبة قبل هجرته المباركة :
يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ( ).
بحث بلاغي وكلامي
من أسرار الخطاب والبيان التعليل، سواء في بيان الحكم، أو الترغيب أو الترهيب، وإدراك الناس لمعاني وأسرار التعليل أو لإتخاذه وسيلة للأغراض والمقاصد الحميدة، ويأتي التعليل بصيغ متعددة، منها حروف التعليل اللام، إن، إذ، الباء، كي، لعل.
وقد بينت آية السياق أموراً وهي :
الأول : ما لحق المسلمين من الخسارة والضرر في معركة أحد.
الثاني : تأكيد حقيقة وهي أن خسارة المسلمين في معركة أحد لم تقع إلا بإذن الله عز وجل.
الثالث : بيان علة لخسارة المسلمين في معركة أحد، وهو علم الله عز وجل بالمؤمنين بكشف صدق إيمانهم في ساعة الشدة والإبتلاء، قال تعالى[وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ]( ).
وجاء التعليل في آية البحث بحرف اللام، وهو من أشهر حروف وأدوات التعليل، كما أنه يتصف بالبيان والوضوح في إرادة التعليل، وهو من أسرار اللغة العربية، وأهليتها لأن تكون الوعاء اللغوي لنزول القرآن .
ومن الآيات أن آية البحث تبدأ بلام التعليل لبيان صلتها وإتحادها في الموضوع مع الآية السابقة .
وبينهما عموم وخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء من جهات :
الأولى : إبتداء كل من الجملة التعليلية بحرف عطف .
الثانية : حرف العطف في الآيتين هو الواو بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ].
الثالثة : إتحاد الفاظ وصيغة الفعل [يعلم] إذ جاء بصيغة الفعل المضارع لبيان قانون وهو أن علم الله بكل من المؤمنين والذين نافقوا بخصوص مضمون الآية وما يترتب عليه من الثواب للمؤمنين والعقاب للمنافقين لا ينقطع بمعركة أحد ، إنما هو متجدد كل يوم ، وهو من أسرار فرض الصلاة على كل مسلم ومسلمة خمس مرات في اليوم .
وفي الجمع بين الآيتين دعوة للمنافقين للتوبة والإنابة .
الرابعة : نسبة الفعل والعلم إلى الله عز وجل لبيان قانون وهو أنه لا يستطيع العلم بالمؤمنين والعلم بالمنافقين والتمييز بينهما إلا الله عز وجل ، وهو الذي يمن على رسوله وعلى المؤمنين ببيان هذه الحقائق ، فيبعث السكينة في نفوس المؤمنين ، ويكشف ويفضح المنافقين .
أما مادة الإفتراق فمن جهات :
الأولى : ورد قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] في الآية السابقة بينما ورد قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] في آية البحث .
الثانية : جاء قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] في خاتمة آية السياق بينما جاء قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا]في بداية آية البحث , وفيه نوع وعيد لهم .
الثالثة : لم تقل الآية السابقة (وليعلم الذين آمنوا ) لبيان أن المنافقين من الذين أظهروا الإسلام ، فذكرت الآية المؤمنين أي الذين آمنوا بألسنتهم وجوارحهم وأركانهم .
الرابعة : ذكرت الآية السابقة المؤمنين من غير صفة زائدة ، بينما ذكرت آية البحث الذين نافقوا بصفات متعددة ذات قبح ذاتي وعرضي .
ألفاظ قاعدة اللطف
لقد أراد الله عز وجل للحياة الدنيا أن تكون دار لطفه ومنّه ، وهذا اللطف من مصاديق علم الله عز وجل في قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) في إحتجاج الله عز وجل على الملائكة الذين استفهموا وسألوا عن خلافة الإنسان في الأرض وهو الذي يرتكب المعاصي فيها والتردي إلى حال سفك الدم الحرام .
فمن لطف الله تعالى إنقطاع أمة من أهل الأرض في كل زمان إلى طاعة الله واجتهادها في تعظيم شعائره ، وحرصها على الإمتناع عن الفساد ، وقد أثنى الله عز وجل على المسلمين بقوله تعالى [وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] ( ).
وجاءت آيات قرآنية كثيرة تنص على اللطف الإلهي منها قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ] ( ) ومنها [إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ]( ) [اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ]( ).
وأول آية في نظم القرآن ذكرت فيها مادة اللطف في سورة الأنعام بقوله تعالى [وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ] ( ) وليس من حصر للطف الإلهي ، ومنهم من قيده وحصره بما يقرب العبد إلى طاعة الله , ويبعده عن المعصية، ولكنه لا يصل الى درجة تمكين العبد من فعل الصالحات، ولا يبلغ درجة الإلجاء ولا دليل على هذا التقييد ، وليس من حد أو منتهى للطف الإلهي فان قلت تتضمن آية البحث والآيات السابقة ذات المعنى وهو تقريب المؤمنين لفعل الصالحات البعثة النبوية، وتعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلم الكتاب والحكمة، وهو غير إتيان المسلم الأفعال العبادية واللطف الإلهي أعم وأعظم من ذات التعليم، ليشمل الإستجابة والإمتثال لمضامين هذا التعليم بفضل الله عز وجل .
وقيل بوجوب اللطف على الله عز وجل، وصحيح أن المراد من هذا الوجوب عدم صدوره من طرف آخر، فمن البديهيات والمسلمات أنه لا أحد يوجب على الله شيئاً، إنما المراد من قاعدة اللطف هذه الضرورة العقلية، وأن العقل يكشف عما هو ضروري برحمة ولطف من الله، والمراد اللزوم، وعدم إمكان الإنفكاك , فيقال أن النبوة واجب على الله لأنها لطف، ولا تصل النوبة إلى معنى الوجوب في اللطف حتى على التعريف أعلاه، فلا حاجة إلى القول أن الأمر الفلاني واجب على الله لأن لطفه يقتضيه، إنما يبقى هو لطف ورحمة ومنّ .
والنزاع لفظي وصغروي بين القائل بهذا الوجوب من المعتزلة، وعدم القائل به من الأشاعرة، وليس في القرآن أو السنة النبوية ما يعني أن التنزيل أو النبوة أو غيرهما واجب على الله، وفي آية البحث تأديب للمسلمين وإخبار بأن النبوة منّ ولطف من عند الله ولا يترشح من اللطف والمنّ عن الله عز وجل إلا المنّ والفضل منه سبحانه، والشكر والثناء من الناس.
لقد كان خلق الله للإنسان لطفاً محضاً وفضلاً منه تعالى، فلا يترتب على هذا الفضل واجب إلا على العباد أنفسهم حتى على القول بأن المراد من الواجب هو الضرورة العقلية، وما يتفرع عن قاعدة الحسن والقبح العقليين.
وبلحاظ هذه الآيات هل يصح القول أن المنّ على المؤمنين , والزجر عن النفاق واجب على الله ) .
الجواب لا ، إنما هو فضل ورحمة , إن القول بوجوب اللطف على الله قد يبعث على الوهم والإبهام ، وإن كان المقصود منه ما يقال من الضرورة العقلية ونحوها ، وهو خلاف قاعدة نفي الجهالة والضرر ، ولعل أصله من الترجمة من الفلسفة اليونانية أيام الدولة العباسية ، وإشتداد الإختلاف بين المعتزلة والأشاعرة ، إذ أعطى المعتزلة في مباحثهم أولوية للعقل ويبدو أن عدداً من العلماء أخذوا هذه النظرية من المعتزلة ، وليس لها أصل في الأحاديث الواردة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام ، وهناك قانون وهو كل مسلم ومسلمة يقول بقاعدة اللطف وأن الله عز وجل لطيف بالمسلمين وبعباده مطلقاً , ولكن ليس بمعنى الواجب على الله فهذا اللفظ دخيل على الإسلام .

قانون الزكاة منّ من الله
من إعجاز آية الصدقات[إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ) .
ويتجلى في الآية الترتيب في المستحقين من جهات :
الجهة الأولى : الإبتداء بالفقراء , وهم الذين أشد حاجة من غيرهم للزكاة ، وقد ورد لفظ الفقراء في القرآن بصيغة العموم والخصوص ، أما العموم فعندما يضاف الفقر للناس بلحاظ حاجتهم مجتمعين ومتفرقين إلى الله تعالى ، قال سبحانه [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] ( ) , وأما الخاص فالمراد أهل الفاقة والعوز الذين لا يملكون قوتهم .
كما ورد لفظ الفقراء في النكاح [وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ).
وفيه مسائل :
الأولى : هل آية الصدقات من فضل الله الذي تذكره الآية أعلاه.
الثانية : هل يجوز الإعطاء من الزكاة للذي يريد الزواج .
الثالثة : هل تعطى التي تريد الزواج من الزكاة .
الرابعة : هل يدفع من الزكاة في نفقات دراسة أبناء العاجز عنها.
الخامسة : الذي يأخذ الزكاة وهو مستحق لها , هل يعيدها إذا بلغ درجة الغنى.
أما الأولى أعلاه , فالجواب نعم , فان الزكاة من فضل الله من وجوه :
أولاً : نزول آية الصدقات من عند الله عز وجل .
ثانياً : آية الصدقات معجزة في باب التكافل الإجتماعي ليكون من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، من جهات :
الأولى : نزول أحكام الزكاة من عند الله، ليكون من معاني قوله تعالى[وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً]( )، الإعجاز في ضبط حياة الناس بما يجلب لهم المنافع , ويدفع عنهم المضار .
الثانية : نزول الأمر بالزكاة على نحو الوجوب الذي لا يجوز تركه أو العزوف والإعراض عنه.
الثالثة : تحديد نصب ومقادير من المال تجب فيها الزكاة لبيان التخفيف عن المسلمين، ودعوتهم للكسب وطلب الرزق من غير أن يأخذ بيت المال منهم شيئاً , إلا سهام مخصوصة مثل سهم في سبيل الله .
الرابعة : بيان قانون وهو إلتفات التشريع الإسلامي للطبقة الوسطى التي لا تجب عليها الزكاة وليست مستحقة لها، وهم الذين عند كل واحد منهم قوت عائلته ولسنته، ولكنه لا يملك النصاب لدفع الزكاة، كما إذا كان من أصحاب الغلات وعنده فائض من الحاصل أقل من النصاب , يقارب مثلاً ستمائة كيلو من الحنطة والشعير، أو يزرع ما ليس من أموال الزكاة كما لو كان يزرع الخضروات , أو شخص عنده ما يعادل عشرين ديناراً ذهباً، وكل دينار مثقال ذهب عيار ثمان عشرة حبة.
ثالثاً : في آية الصدقات تهذيب للأخلاق ، وهي مانع من الجريمة والجناية لما فيها من المواساة للفقراء ودعوتهم للصبر ، وقبول عطية الغني بأمر من الله سبحانه , وإذا كان الغني مأموراً بدفع الزكاة فهل يدل قوله تعالى[إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا…]( )، أن الفقراء يجب أن يقبلوا الزكاة، الجواب نعم، إنما هو رزقهم وحقهم إلا أن يكون هناك عنوان ثانوي يمنع منه في مصداق مخصوص، نعم لا يجب إعلام الفقير بأنه زكاة ، وعليه إجماع علماء الإسلام , فقد يكون الأولى عدم إخبار الفقير إذا كان فيه كسر لقلبه مثلاّ ، وقد يكون الأولى هو الإخبار لما فيه من تعظيم شعائر الله.
وقيل قد يكون هذا الإخبار من المنّة، وقال الله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى]( )، ولكن إخبار الفقير بأن المال زكاة أجنبي عن مضامين الآية أعلاه، إن موضوع الآية أعلاه هو المنّ على الفقير وعلى السائل مطلقاً، وهذا المنّ مذموم، والله عز وجل هو المنّان، لذا وردت آية البحث بالإخبار عن منّه وإحسانه سبحانه، إذ إبتدأت بقوله تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( )، ليكون معناه أنه هو الذي منّ على دافع الزكاة بأمور:
الأول : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي تدل عليه آية البحث، وتقديرها بصيغة المفرد: لقد منّ الله على المؤمن إذ بعث له رسولاً.
الثاني : ورود وجوب الزكاة في القرآن.
الثالث : إقتران الزكاة بالصلاة في آيات عديدة , قال تعالى[الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ]( ).
الرابع : فتح أبواب الرزق على المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : دلالة دفع الزكاة على الأمن والأمان , وكان العرب يغزو بعضهم بعضاً، فلما بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم تمت معاني الأخوة بينهم، وصلحت نفوسهم، وصار أحدهم يدفع زكاته لأخيه المسلم بدل أن يعاني من تعديه وهجومه للإستحواذ على أمواله، ونهب ما عنده من الأنعام.
السادس : لما أخبرت الآية السابقة عن كون المسلمين درجات عند الله جاء حكم الزكاة للإرتقاء في سلم الدرجات.
وفي الآية أعلاه من سورة البقرة, قال ابن عباس : بالمنّ على الله تعالى والأذى لصاحبها)( ) .
ولكن مضمون الآية وإبتداؤها بنداء الإيمان ينفي المنّ على الله، إذ إبتدأت بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] إنما يراد المن على السائل سواء في أوان الصدقة أو قبله أو بعده.
رابعاً : لما قالت آية البحث [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ) فقد جاءت آية الصدقات منّ من عند الله على الأغنياء والفقراء وعامة المسلمين .
خامساً : آية الصدقات مناسبة لشكر المسلمين لله عز وجل على منّه عليهم بأحكام الزكاة وفيوضاتها ، قال تعالى [وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ] ( ).
سادساً : يصح تقدير آية البحث : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً منهم بآية الصدقات ، ليتجلى إعجاز , وهو نزول كل آية من القرآن منّ وفضل من الله عز وجل على المسلمين .
سابعاً : إشاعة الشكر والثناء والمدح بين المسلمين بالزكاة وإخراجها ودفعها إلى مستحقيها ، وورد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل)( ).
وعن أسامة بن زيد قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من صنع إليه معروف فقال لفاعله : جزاك الله خيرا ، فقد أبلغ في الثناء) ( ) .
ثامناً : يصح تقدير قوله تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ) بوجوه بلحاظ المنافع والغايات من آية الصدقات من وجوه :
الأول : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً بآية الصدقات لتزكيتهم وتطهيرهم .
الثاني : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيه رسولاً من أنفسهم يتلو عليه آية الزكاة ، وهو قانون ينطبق على كل آية من القرآن .
الثالث : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيه رسولاً يأخذ حصة مخصوصة من أموال أغنيائهم لتعطى إلى فقرائهم .
الرابع : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً لتعاهد الأخوة الإيمانية بينهم بالزكاة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] .
وتمام الآية أعلاه هو [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( )وفي آية الصدقات بلحاظ الآية أعلاه وجوه :
الأول : من أبهى مصاديق الأخوة الإيمانية قوانين الزكاة .
الثاني : ذات الزكاة وأحكامها وأموالها وسيلة مباركة للأخوة الإيمانية .
الثالث : هل يجوز صرف شطر من أموال الزكاة لاصلاح ذات البين بين المؤمنين إذا كان يصدق عليه أنه [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] أو لمنفعة الفقراء والمساكين ومعيشتهم .
الرابع : إخراج الزكاة وإعطاؤها إلى المستحقين إصلاح للنفوس وتهذيب للألسن ، وبرزخ دون الغيبة والإفتراء ، ودعوة إيمانية للتقوى .
الخامس : الزكاة مانع الفرقة والخلاف بين المسلمين .
وتضمنت الآية أعلاه من سورة الحجرات الأمر للمسلمين بتقوى الله والخشية منه ، وتتجلى التقوى في المقام من وجوه :
الأول : تلاوة آية الصدقات .
الثاني : الإقرار العام بأن آية الصدقات منّ وطول وفضل من عند الله عز وجل .
الثالث : العمل بمضامين آية الصدقات ، (عن عبد الله بن أبي أوفى ، وكان من أصحاب الشجرة : أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتاه قوم بصدقاتهم قال : اللهم صلّ عليهم ، فأتيته بصدقتي فقال : اللهم صلّ على أبي أوفى قال ابن عباس : ليس هذا صدقة الفرض، إنما هو كصدقة كفارة اليمين) ( ) .
ولكن الحديث ظاهر في الصدقات وعلى نحو متعدد ، ولو دار الأمر بين الإطلاق والتقييد في مواطن الرحمة والأجر , فالأصل هو الإطلاق ، وهل يجوز سؤال الفقير عند رفع الزكاة والصدقة له بالدعاء لصاحب المال .
الجواب نعم ، وفيه تعظيم لشعائر الله ، وقيل بعدم جواز طلب الدعاء من الفقير لقوله تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا *إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا] ( ) وأن طلب الدعاء من هذا الجزاء .
ولا أصل للقول بعدم الجواز أعلاه ، إنما الدعاء وسيلة لرجاء الجزاء من عند الله ، والفوز بدعاء الغير مما منّ الله به على المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعوتان ليس بينهما وبين الله حجاب : دعوة المظلوم ، ودعوة المرء لأخيه بظهر الغيب) ( ).
ويستحب لدافع الزكاة أن يدعو ويسأل الله عز وجل الخلف (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : إِذَا أَعْطَيْتُمُ الزَّكَاةَ فَلاَ تَنْسَوْا ثَوَابَهَا أَنْ تَقُولُوا اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا وَلاَ تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا) ( ).
فان قلت قد ورد الوعد من الله بالخلف والعوض لدافع الزكاة والذي ينفق في سبيل الله مطلقاً لقوله تعالى [وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] ( ) .
والجواب هذا صحيح وجاءت السنة النبوية بالحث على الدعاء للشكر لله عز وجل على الهداية والتوفيق لدفع الزكاة , ورجاء المضاعفة بالخلف من العوض .
الرابع : الأمر بالمعروف بخصوص آية الصدقات وبيان فضل المبادرة إلى إخراج الزكاة ، ومن المعروف حث الفقير والمستحق للزكاة على الدعاء لصاحب المال وشكره والثناء عليه .
الخامس : النهي عن حبس الزكاة ، ومنع الفقراء حقهم الذي فرض الله لهم ، ومن الإعجاز في آية الصدقات أنها لا تختص بالفقراء بل وردت بخصوص ثمانية أصناف من المستحقين.
وعن (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ان الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث اللهم اغفر له اللهم ارحمه) ( ).
وهل في آية البحث ثناء على المؤمنين , الجواب نعم من جهات :
الأولى : دعوة المؤمنين للدفاع عن الإسلام ، وفيه شهادة لهم من الله في الدنيا والآخرة ، إذ تحضر آية البحث بمضامينها يوم القيامة .
الثانية : بيان آية البحث لقانون وهو مجئ المنّ للمسلمين من وجوه :
الأول : نيل المسلمين من المنّ الإلهي الذي يأتي للناس جميعاً ، ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وسلامته يوم أحد .
الثاني : الإنتفاع من المنّ الإلهي لعموم المسلمين والمسلمات ، لذا لم يقم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقتل أحد من المنافقين لأنهم نطقوا الشهادتين .
وعن (حذيفة : المنافقون الذين فيكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . قلنا : يا أبا عبد الله وكيف ذلك ؟
قال : لأن أولئك كانوا يسرون نفاقهم ، وإن هؤلاء أعلنوه) ( ). وبلحاظ آية البحث فان المنافقين في عهد رسول الله أكثر شراً , لأنهم كانوا يرون المعجزات ويجحدون بها و كما تخلوا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وامتنعوا عن الذب عن شخصه الكريم .
الثالث : إختصاص المسلمين بمن وإحسان وفضل من الله يأتيهم كمؤمنين صبروا في ميدان معركة أحد .
الثالثة : قيام المؤمنين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابعة : زكاة المؤمنين في معركة أحد من دمائهم دفاعاً .
ويكون وجوب الزكاة بلحاظ المضامين القدسية لآية البحث على وجوه :
الأول : الزكاة منّ من الله عز وجل على المسلمين ،وقيل أن سهم [وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ] ( ) يكون للذين كفروا ، ولا دليل عليه .
وقال في الكشاف ({ والمؤلفة قُلُوبُهُمْ }( ) أشراف من العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألفهم على أن يسلموا فيرضخ لهم شيئاً منها حين كان في المسلمين قلة) ( ).
ولعل الزمخشري نظر إلى كيفية تقسيم غنائم حنين , وهو أمر مختلف عن الزكاة وقضية عين شخصية .
والمختار أن المؤلفة قلوبهم أناس من ذوي الشأن والجاه دخلوا الإسلام , ولم يدخل الإيمان في قلوبهم ، فيتآلفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالزكاة كيلا يبثوا مفاهيم النفاق ويظهروا الحسد ، ووردت أخبار متعددة تدل على هذا المعنى منها ما ورد (عن عمر بن عبد الله بن المهاجر مولى غفرة ، أنه قال في أسطوان التوبة : كان أكثر نافلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها ، وكان إذا صلى الصبح انصرف إليها وقد سبق إليها الضعفاء ، والمساكين ، وأهل الضر ، وضيفان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤلفة قلوبهم ، ومن لا مبيت له إلا المسجد .
قال : وقد تحلقوا حولها حلقاً بعضها دون بعض فينصرف إليهم من مصلاه من الصبح ، فيتلو عليهم ما أنزل الله عليه من ليلته ، ويحدثهم ويحدثونه حتى إذا طلعت الشمس جاء أهل الطول والشرف والغنى فلم يجدوا إليه مخلصاً ، فتاقت أنفسهم إليه وتاقت نفسه إليهم ، فأنزل الله عز وجل {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه….}( ) إلى منتهى الآيتين ، فلما نزل ذلك فيهم قالوا : يا رسول الله لو طردتهم عنا ونكون نحن جلساءك وإخوانك لا نفارقك ، فأنزل الله عز وجل { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي}( ) إلى منتهى الآيتين)( ).
و(عن يحيى بن أبي كثير قال: المؤلفة قلوبهم : من بني هاشم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب .
ومن بني أمية أبو سفيان بن حرب ، ومن بني مخزوم الحارث بن هشام وعبد الرحمن بن يربوع ، ومن بني أسد حكيم بن حزام ، ومن بني عامر سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزي ، ومن بني جمح صفوان بن أمية .
ومن بني سهم عدي بن قيس ، ومن ثقيف العلاء بن حارثة أو حارثة ، ومن بني فزارة عينية بن حصن ، ومن بني تميم الأقرع بن حابس .
ومن بني نصر مالك بن عوف ، ومن بني سليم العباس بن مرداس .
أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل رجل منهم مائة ناقة مائة ناقة إلا عبد الرحمن بن يربوع وحويطب بن عبد العزى ، فإنه أعطى كل واحد منهما خمسين ) ( ).
الثاني : شهادة القرآن قبل ثلاث آيات للمسلمين بالإيمان بقوله تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] إذ نال المسلمون هذه الصفة السامية، والمرتبة العالية بفضل من الله ليترتب عليه أمور :
أولاً : إخراج الأغنياء من المؤمنين زكاة أموالهم.
ثانياً : وصول الزكاة والعون المالي إلى الفقراء بما ييسر لهم سبل المعيشة، ولا يتعارض تلقي وقبض الزكاة مع قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ) .
لأن هذا التلقي بأمر من الله عز وجل، وهو قبض لحقوق الفقراء التي جعلها الله عز وجل في أموال الأغنياء.
ثالثاً : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في باب الزكاة , ووجوب إخراجها والتصدق بها.
الثالث : لقد كان أكثر عرب الجزيرة في حال فقر وعوز، وهو من أسباب شيوع الغزو والنهب بينهم، ويدل عليه حال المسلمين الأوائل، فتفضل الله عز وجل عليهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتخرج لهم الأرض كنوزها لتكون مصاديق وتقدير آية البحث على وجوه منها :
أولاً : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً ليرزقهم الله رزقاً واسعاً .
ثانياً : لقد منّ الله على الناس إذ بعث فيهم رسولاً ليتبين الذين آمنوا.
ثالثاً : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً ليأخذ منهم الزكاة، قال تعالى[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
رابعاً : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً ليتلقى الفقراء الزكاة.
خامساً : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً يأمرهم بالصلاة والزكاة، وهو إمامهم فيهما.
فان قلت إذن كيف تكون الزكاة مناً على الناس إن كانت في دفعها خاصة بالمسلمين ، الجواب من وجوه :
الأول : إنبساط قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، على آيات القرآن من وجوه :
أولاً : كل آية من القرآن رحمة من الله .
ثانياً : كل حكم في الكتاب والسنة رحمة بالناس .
ثالثاً : كل فريضة وأمر عبادي رحمة بالناس .
الثاني : قانون الزكاة حكم سماوي لنشر التعاون والتكافل بين الناس.
الثالث : الأصل هو وجوب الفرائض العبادية على الناس جميعاً لتكليفهم بالفروع كتكليفهم بالأصول .
الرابع : في الزكاة تهذيب للأخلاق، وزجر عن السيئات واتباع الهوى.
الخامس : تبين الزكاة والتقيد بأحكامها أنها طريق إلى السعادة وحرب على الحقد والحسد والبغضاء.
السادس : الترغيب بالثواب الذي يترشح عن الزكاة، قال تعالى[قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا]( ).
السابع : تنشر الزكاة الرحمة بين الناس , وهذه الرحمة مترشحة عن رحمة الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامن : لقد جاء الأنبياء والرسل بالزكاة والحث عليها، ومن وجوه تفضيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثبوت أحكام الزكاة وتقيد المسلمين بها الى يوم القيامة .
وعن كعب أنه حلف (بالذي فلق البحر لموسى ، أنا نجد في الكتاب أن داود النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، كان إذا انصرف من الصلاة ، قال : اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته لي عصمة أمري ، وأصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي ، اللهم إني أعوذ بك برضاك من سخطك ، وبعفوك من نقمتك ، وأعوذ بك منك ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد .
وعنه أن صهيبا حدثه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقولهن عند انصرافه من صلاته ( ).
أما بالنسبة للمسألة الثانية , وهي هل يجوز إعطاء الزكاة للذي يريد الزواج , الجواب نعم، إذا كان لا يملك مؤونة ونفقات الزواج الخالية من الإسراف والإفراط ، وكان يسعى لعفاف فرجه ، إذ ذكرت الآية الفقراء ، ولم تختص بالأكل والشرب ، إنما مطلق الحاجة التي يعجزون عنها ، والزواج باب للرزق الكريم ، قال تعالى [وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] ( ).
والزواج مستحب إستحباباً مؤكداً ، ومنهم من قيد الإستحباب بخصوص من تاقت نفسه للزواج ، ويكون بالنسبة لغيره أمراً مباحاً، ولا دليل على هذا التفصيل ، فالإستحباب مطلق ويدل عليه الكتاب والسنة ، وقد يكون واجباً بعنوان ثانوي , وهو متعدد ومتكثر .
والزواج نوع طريق لعبادة الله ومصداق لعمومات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( )سواء بخصوص الزوجين أو التناسل والتكاثر لعمارة الأرض بالعبادة وذكر الله ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً]( ).
وقال تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً] ( ) وجاء الأمر من الله بالزواج وعدم الترفع عن تزوج الفقير وغير ذي النسب لأن الكفاءة بالإسلام والصلاح , قال تعالى [وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] ( ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من تزوج فقد أحرز نصف دينه، فليتق الله في النصف الباقي) ( ).
فيجوز الإعطاء من الزكاة للذي يريد الزواج وليس عنده مؤونته, إذ وردت الآية بذكر الفقراء مطلقاً من غير تعيين لماهية الفقر وناحية العوز ، وقد تكون الأولوية في الزكاة لهذا الإعطاء مع دفع الضرر ، وخشية الوقوع في الفتنة ومقدمات الحرام، ولو كان دافع الزكاة هو أبو هذا الفقير , فهل يجوز , الجواب لا ، إنما يكون دفعه له من المؤونة ، إلا أن يكون لا يملك ما يزيد على المؤونة .
فان قلت قد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اتقوا النار ولو بشق تمرة ، واستنزلوا الرزق بالصدقة ، ادفعوا البلاء بالدعاء ، ما نقص مال من صدقة ، لا صدقة وذو رحم محتاج)( ) والجواب بين ذي الرحم والابن عموم وخصوص مطلق , فذو الرحم أعم ويشمل الإخوان والأقارب ، كما أن النسبة بين الصدقات في الحديث أعلاه وبين الزكاة عموم وخصوص مطلق ، إذ تشمل الصدقات هنا الصدقة المستحبة .
ولو كان الأب غنياً وقادراً على تزويج ابنه ، ولكنه يمتنع عن إعانته ودفع مؤونة الزواج ، فهل هو مانع من مساعدة الذي يروم الزواج من مال الزكاة والخمس , الجواب لا .
ويجوز إعطاء الابن زكاته لأبيه إذا كانت الديون قد ركبته .
ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً إلى منزله فجاءت(زينب امرأة عبد الله بن مسعود تستأذن عليه ، فقيل : يا رسول الله ، هذه زينب تستأذن عليك ، فقال : أي الزيانب؟ قيل : امرأة عبد الله بن مسعود ، قال : نعم ، ائذنوا لها، فأذن لها ، فقالت: يا نبي الله ، إنك أمرتنا اليوم بالصدقة ، وكان عندي حلي ، فأردت أن أتصدق ، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق من تصدقت به عليهم ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : صدق ، زوجك ، وولدك أحق من تصدقت به عليهم)( ).
وأما بالنسبة للمسألة الثالثة فلا تعطي الزكاة الواجبة إلى المسلمة التي تريد الزواج إلا بقصد أنها فقيرة أو محتاجة لقلة المهر مثلاً لأن الأصل هو قيام الرجل بدفع المهر ، قال تعالى [وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) .
والأصل أن يقوم الزوج بمؤونة ونفقات الزواج ، ولكن لو احتاجت البنت في تجهيزها إلى مال تفتقر إليه جاز إعطاؤها من الزكاة من غير تقييد وحصر بكون الزواج لا يتم إلا بتجهيزها .
لقد جاءت آية الصدقات بصيغة التذكير [لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ] وهو عام ويشمل المسلمات ، ويصح تقدير الآية : إنما الصدقات للفقراء والفقيرات والمساكين والمسكينات ….) .
وهل يصح والعاملات عليها ، الجواب نعم ، إذا كانت بعض المؤمنات تقوم بجمع أموال الزكاة والحقوق الشرعية ، وكذا يصح تقديره : والمؤلفة قلوبهن إذا كانت هناك بعض النسوة من ذوي الشأن تلزم استمالتهن للإسلام ودفع شرهن وكيدهن ضد الإسلام , وقد ذكر القرآن المنافقات على نحو الخصوص , ومنه قوله تعالى[الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ]( ).
وأما المسألة الرابعة فيجوز الإعطاء للأب العاجز عن نفقات دراسة أولاده وفق العرف والمتعارف ، فاذا كان فقيراً لا يدخل مدرسة الأغنياء مع وجود مدرسة عامة مثلها أو قريباً منها .
أو يبعثهم للدراسة في الخارج مع وجود ذات الفصل والإختصاص في البلد ، فلا يجب دفع الزكاة بهذا الخصوص.
وأما الخامسة فاذا بلغ الفقير الذي كان يستلم الزكاة مرتبة الغنى فلا يجب عليه إعادة أموال الزكاة لأنه يتملكها من حين قبضه لها ، ولكن عليه شكر لله عز وجل ثم الناس بالتقيد بالحقوق الشرعية وإخراج الزكاة .
وبعد ذكر آية الصدقات للفقراء ذكرت المساكين ، وقد اختلف في الفرق بينهما , ومادة الإلتقاء بينهما على وجوه :
الأول : نسبة التساوي فهما واحد ، فالفقير هو المسكين ولكن آية البحث تنفي هذا المعنى ، وتبين وجود فارق بينهما ، حتى وإن كان من عمومات إذا إجتمعا إفترقا وإذا إفترقا إجتمعا , والذي قال بأنهما واحد ذكر أن ورود اسم الفقراء والمساكين على نحو التعدد في آية الصدقات إنما هو للتأكيد ، ولكن الأصل في واو العطف المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه إلا مع القرينة الصارفة ، ومن القرائن الصارفة تعدد أصناف المستحقين في الآية وهي ثمانية ، ولو دار الأمر فيهما بين الإتحاد بين الأول والثاني منهما , والمغايرة بين البواقي ، وبين المغايرة فيها إبتداء من الأول إلى الثامن , فالأصل هو الثاني .
والمختار أن الفارق بين الفقير والمسكين هو على نحو الموجبة الجزئية ، ولابد من التحقيق في مسألة : وهي لماذا ذكرت الآية الفقراء والمساكين ، وما هي المقاصد السامية والمنافع العظيمة من هذا التعدد، وماذا لو لم تذكرهما معاً ، فمن الإعجاز في الصدقات وذكر كل من الفقير والمسكين مسائل :
الأولى : السعة والمندوحة لدافع الزكاة في إعطاء المستحقين ومعرفتهم , والقسمة عليهم , قال تعالى[لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( ).
الثانية : منع الحرج في تعيين المستحق للزكاة .
الثالثة : إنتفاء الخلاف بين الفقهاء وعموم المسلمين فيمن يستحق الزكاة .
الرابعة : الإجزاء بالدفع عند التلبس بالفقر أو المسكنة .
الخامسة : التخفيف عن المؤمنين وعدم الحاجة إلى التحقيق في ماهية الذي يبدو عليه الفقر ، وهل هو فقير أو لا ، فتكفي المسكنة وأمارات الفاقة وبعد التبيين والتفصيل في آية الصدقات جاءت آية أخرى خاصة بالصدقات بذكر الفقراء وحدهم ، قال تعالى [إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] ( ).
الثاني : الفقير المحتاج ليتعفف ، وهو مستقرأ من قوله تعالى [لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا]( ).
ولكن اسم الفقراء في الآية أعلاه يجمع المساكين معهم بلحاظ الخصال المتعددة التي بينهما الآية أعلاه على نحو الإعجاز ، أما المسكين فهو الفقير السائل .
الثالث : الفقير المحتاج والمسكين سائر الناس ، ولو قيل بالعكس كان صواباً لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ..] ( )ولكن الآية تبين حاجة الناس مجتمعين ومتفرقين إلى الله عز وجل , وبه تمتاز عن آية الصدقات إذ قيدت الآية أعلاه الفقر النوعي العام بأنه فقر إلى الله ورحمته ورضوانه , لذا تفضل الله وقال [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ] ( ) .
فمهما بلغ شأن وجاه وأموال الإنسان فهو فقير ومحتاج إلى الله عز وجل ، لذا تفضل الله عز وجل وشرّع صلاة الجماعة ليدرك معها المسلم بأنه يقف مع المسلمين بخضوع وخشوع بين يدي الله ، وأنه لا فرق بينهم من جهة العبودية لله عز وجل ، وكذا بالنسبة للفرائض العبادية الأخرى إذ يجب على كل مسلم أداء فريضة الحج مرة واحدة في العمر فينادي كل واحد من وفد الحاج (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك )ويشكر الغني الله عز وجل لأنه صار مستطيعاً لحج بيت الله الحرام ووفقه الله لأدائه .
الرابع : الفقير المسلم , والمسكين من أهل الكتاب وتنفي هذا القول آية البحث لأن المراد من المستحقين على نحو الأصل والتعيين هم من المسلمين ، ولا ينتقل إلى غيرهم من أهل الكتاب ونحوهم إلا على نحو عرضي وبالقضية الشخصية .
الخامس : الفقير الذي لا شئ له والمسكين الذي له شئ ، قاله الشافعي ، ولعله مستقرأ من قوله تعالى [أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ] ( ) بلحاظ أن هؤلاء المساكين عندهم ملك وآلة تصلح أن تكون مصدراً للرزق .
السادس : الفقير الذي عنده شئ يملكه , والمسكين الذي لا شئ عنده ، قاله أبو حنيفة .
السابع : الفقراء المهاجرون , والمساكين الأعراب ،ولعله أستدل بخصوص الفقراء وأنهم المهاجرون بقوله تعالى [ِللْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا] ( )
ولكن الآية تدل في مفهومها على وجود مهاجرين غير فقراء وأن الفقر الذي صاروا عليه أمر عرضي بسبب الهجرة وتركهم أموالهم في مكة لنصرة الله ورسوله ولسلامة الدين ، وإجتناب الأذى الذي يأتي من كفار قريش ونحوهم .
الثامن : الفقراء والمساكين صنفان مستقلان .
التاسع : هما قسمان لصنف واحد يختلفان بالوصف لا بالجنس أي أن المغايرة المستقرأة من واو العطف تتعلق بالوصف . دون الجنس .
لقد ورد (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ : أَحِبُّوا الْمَسَاكِينَ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ فِى دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ أَحْيِنِى مِسْكِينًا , وَأَمِتْنِى مِسْكِينًا , وَاحْشُرْنِى فِى زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ) ( ).
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتعوذ من الفقر ، وقد أنعم الله عز وجل عليه بقوله تعالى [وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى] ( ).
قيل لو كانت المسكنة أشد من الفقر لما سأل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الله عز وجل المسكنة ، وقد أنعم الله عز وجل عليه بالكفاية ، وهل يدل قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) على الكفاية بخصوص دفع الذين كفروا وكيدهم عنه أم إرادة المعنى الأعم .
الجواب هو الثاني ومنه طرد شبح الفقر والفاقة فلا يصلان إليه ، ولتكون الآية أعلاه بشارة اليسار والثروة عند المسلمين وهو الذي تجلى في هذا الزمان بكنوز الأرض من ثروات النفط والمعادن مما يقل معه عدد الفقراء في بلاد المسلمين .
وقد يقترن المسكين بمعنى الذلة مع كونه في حال سعة ومندوحة ، فيقال : ضربوا فلاناً المسكين .
والفقير لغة هو المحتاج , وضده الغني أي المكتفي في حاجته.
والمسكين وصف من السكون والذي هو من مظاهر الذل والضعف ويشمل الفقير وغيره ، قال تعالى [أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ] ( ).
وشدة الفاقة وإلتصاقها بالتراب لا تتعارض مع التجمل والعفة ، (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليس المسكين بالطوّاف عليكم فتعطونه لقمة لقمة ، إنما المسكين المتعفف الذي لا يسأل الناس إلحافاً ) ( ).
وقد ورد لفظ الفقراء بصيغة الجمع في القرآن سبع مرات ، منها ما يتعلق بالصدقات والحث على إعانة الفقراء والمحتاجين ، ومنها ما تؤكد حاجة الناس جميعاً لرحمة الله ، منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] ( ) وفيه مواساة للفقراء وبيان لإلتقاء الناس جميعاً معهم بالفقر والحاجة إلى رحمة الله ودعوة للفقراء والمساكين إلى طاعة الله ورسوله والمسألة والدعاء إلى الله عز وجل بقضاء الحاجات وعدم الإنقطاع إلى الأغنياء رجاء نوالهم لأنهم يلتقون معاً في الفقر والفاقة إلى رحمة الله عز وجل ، وفيه ترغيب للأغنياء بدفع الزكاة وإدراك قانون وهو أنهم محتاجون لدفعها أكثر من حاجة الفقراء لها ، قال تعالى [وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ] ( ).
وفي الآية تذكير بمنّ الله عز وجل على المسلمين والناس ، وهل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين من منّ الله عز وجل على الناس لفقرهم وحاجتهم لهذه البعثة ، الجواب نعم .
الجهة الثالثة : بعد أن ذكرت آية الصدقات الفقراء والمساكين من أصناف مستحقي الزكاة والصدقات ذكرت الذين يتولون جمع الصدقات , بأمر وتعيين من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام والحاكم بقوله تعالى[إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
وتحتمل الآية أموراً :
الأول : إرادة العامل على الزكاة ممن هو محتاج للأخذ منها .
الثاني : المقصود كل عامل على الزكاة يجب أن يدفع له من الزكاة .
الثالث : إرادة قانون وهو أن الذي يتفرغ للقيام بأعباء الشريعة والتبليغ والقضاء وأحكام الحلال والحرام يأخذ من الصدقات من سهم العاملين عليها وسهم في سبيل الله .
والمختار هو الأخير وهو لا يتعارض مع عدم أخذ العامل الغني من الزكاة ، ولكن يحتمل عدم الأخذ وجوهاً :
الأول : حرمة أخذ العامل الغني من الزكاة .
الثاني : إرادة كراهة أخذ العامل الغني من الزكاة .
الثالث : الإباحة وأن له أن يأخذ , وله ألا يأخذ وللحاكم أن يعطيه من الزكاة أو يمنعه .
الرابع : ليس من قانون ثابت في المقام بل بحسب الحال والشأن وكثرة أو قلة الفقراء ، وكذا مال الزكاة ، فمع كثرة الفقراء والمساكين وقلة مال الزكاة لا يأخذ منه .
وأختلف في جواز تولي غير المسلم العمل على الزكاة وجواز أخذه الأجر على عمله على القول بجوازه وإعطائه بمقدار أجره , والمختار عدم وصول النوبة إليه مع وجود المسلم القادر على العمل على الزكاة.
والعاملون على الزكاة أعم من الجباة والمُصدقين ، فيشمل هذا المعنى الكاتب والحاسب والخازن والحاشر والحارس والراعي ، أما أجرة الوزان والكيال فعلى صاحب المال .
والمختار هو الثالث ، إذ أن الآية القرآنية تنفي كراهة أو حرمة أخذ العامل على الزكاة والحقوق الشرعية منها مطلقاً سواء كان حراً أو عبداً ، غنياً أو فقيراً .
وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (لا يقبل الله صدقة من غلول) ( ) ويحتمل الغلول هنا أمرين :
الأول : السرقة خلسة من مال الغنائم كما في قوله تعالى [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] ( ) .
الثاني : المراد من الغلول المعنى الأعم , فيشمل السرقة والغصب والمال الربوي والرشوة .
وما المراد من الصدقة في الحديث أعلاه هل هو الزكاة خاصة أم المعنى الأعم الشامل للزكاة الواجبة والصدقة المستحبة .
المختار هو الثاني .
أقسام الواجب
يقسم الواجب إلى أقسام :
الأول : الواجب الأصلي : ووجوبه مستقل قائم بذاته كوجوب الصلاة ووجوب الصيام .
الثاني : الواجب التبعي : وهو الذي يتفرع وجوبه عن الواجب الأصلي كمقدمة له أو شرط أو جزاء منه ، وهل النية واجب أصلي أو تبعي.
الجواب هو الثاني سواء كانت شرطاً أو ركنا منه , بلحاظ أنها فرع الفعل العبادي وتابعة له في الوصف والزمان , قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ..]( ) والقبلة شرط بالصلاة ، قال تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ]( ) .
وهل استقبال البيت واجب تبعي لأنه شرط في الصلاة أم أنه واجب أصلي لنزول الأمر به مستقلاً .
الجواب الأمران معاً فهو واجب أصلي وتبعي لتتجلى مسألة وهي تعدد اللحاظ الجهتي في تعيين الواجب فقد يكون من جهة واجباً أصلياً، ومن جهة أخرى تبعياً، وكذا بالنسبة لأقسام الواجب الأخرى مثل المطلق والمقيد، والنفسي والغيري.
الأول : الواجب النفسي : وهو المطلوب لذاته وليس من أجل شيء آخر كما في الصلاة .
الثاني : الواجب الغيري : الذي يؤمر به لأجل غيره كالوضوء .
وقد قسمت هذا الواجب إلى شعبتين :
الأولى : الواجب الشرعي : كالوضوء .
الثانية : الواجب العقلي كقطع المسافة في الحج .
وأشكل على الواجب النفسي بأنه لم يطلب لذاته ، بل لغايات أخرى كالثواب والجزاء , قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) والأحاديث منها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل (الصلاة معراج المؤمن) ( ).
ولكن المدار ليس على الغايات الجلية بقصد العبد فالجزاء فلا يعلمه إلا الله عز وجل وهو القادر عليه.
والأصل هو الوجوب النفسي لأن الغيري يحتاج إلى مؤونة .
كما يقسم الواجب إلى قسمين:
الأول : المطلق ، وهو الذي لا يتوقف وجوبه على شئ آخر كالصلاة ، لا تترك بحال ، وهل النية وجوبها نفسي أم غيري ، الجواب هو الثاني لأن ما في القلوب من النوايا والعرائم مرآة لعالم الفعل .
الثاني : الواجب المقيد : وهو الذي يتوقف وجوبه على شئ مخصوص مأخوذ من الشئ على نحو الشرطية مثل الحج مشروط بالإستطاعة .
كما يقسم الواجب إلى قسمين بلحاظ خطاب التكليف :
الأول : الواجب العيني : هو الفعل الذي يتعلق بكل مكلف لا يسقط عن الآخرين .
الثاني : الواجب الكفائي : وهو المطلوب من جهة المكلف بنحو صرف الوجود ، ويتوجه فيه الخطاب إلى جميع المكلفين إلا أنه يكتفى بأداء فعل واحد عنهم ، أما إذا تركوه جميعاً فيؤثم الجميع .
والنية واجب عيني ، لا يسقط عن أحد المكلفين .
والدفاع واجب كفائي , وقد يكون عينيا كما في آية البحث وموضوع معركة أحد الذي تذكره آية البحث لذا توجه النداء للمنافقين الذين يظهرون الإسلام .
تظهر ويقسم الواجب إلى المنجز والمعلق ، النية واجب منجز .
وقد يتحد زمان الوجوب والواجب كالصيام عند رؤية الهلال فالوجوب زمان رؤية الهلال والواجب في نفس اليوم وكالصلاة في وقتها .
أما الواجب المعلق فهو أن فعليةه الوجوب متقدمة زماناً على فعلية الواجب .
ويقسم الواجب إلى قسمين :
الأول :الواجب التعييني .
وهو إذا تعلق الأمر بواجب مخصوص لا يمكن الإتيان ببدل عنه , والنية منه ، مثل الصلاة والصوم شهر رمضان فهو واجب تعييني ، ويتجلى هذا الواجب بقوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ] ( ) .
الثاني : الواجب التخييري وهو الذي يصح الإمتثال بإتيان فرد من مصاديق متعددة له ، كما في قوله تعالى [فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
ويمكن تقسيم الواجب إلى قسمين :
الأول : الواجب بالذات وهو الذي يتوجه الأمر للمكلف بإتيانه مثل الوضوء ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) .
الثاني : الواجب البدلي : وهو الذي يؤتى به عند تعذر الواجب بالذات عند الضرورة والعذر والمشقة والحرج في أدائه، لقاعدة نفي الحرج في الدين ، وقاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، كما في الطهارة الترابية والتيمم بالتراب كمقدمة للصلاة ، قال تعالى[وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا]( ).
ويقسم الواجب بلحاظ الوقت إلى الموسع والمضيق .
والموسع والمضيق فردا الواجب المؤقت الذي يكون لأدائه وقت مخصوص كالصلاة اليومية , والواجب في الدفاع في معركة أحد واجب مضيق , لذا تضمنت الآية دعوة المنافقين للدفاع ثم ذمهم عند قعودهم من غير عذر .
في مقابل الواجب غير المؤقت الذي ليس لأدائه وقت مخصوص كدفع الكفار , أو له مناسبة عرضية , كما في آية البحث[وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا]( ).
ويمكن تقسيم الواجب تقسيماً مستحدثاً في هذا الجزء إلى قسمين :
الأول : الواجب الزماني .
الثاني : الواجب المكاني .
ويقسم الواجب إلى التعبدي والتوصلي الأول يأتي به قربة إلى الله ورجاء الثواب.
أما التوصلي فهو يكفي حصوله في الخارج من غير قصد القربة .
والنية :وهي القصد إلى الفعل بعنوان الإمتثال والقربة إلى الله ويكفي فيها الداعي في القلب وقيل يشترط الإخطار بالبال والتلفظ .
الفرق بين الركن والشرط :
الركن جزء داخل في ذات الأمر أما الشرط فهو واجب خارج عن حقيقة وماهية الفعل ، لذا اختلف في النية هل هي ركن أو شرط ، فمثلاً نية الصوم لو كانت جزء لكانت داخلة في النهار ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا سبق إلا في نعل أو خف أو حافر )وفي الحديث حذف أي لا سباق إلا في ذي خف أو ذي نعل أو في حافر .
غياث بن ابراهيم النخعي الكوفي ، أن الخليفة العباسي المهدي كان يهوى سباق الحمام ، فنقل غياث حديثا : لا سباق إلا في خف أو حافر أو جناح ، فاجزى له ، المهدي العطاء .
وقال المهدي : شهد أن قفاك قفا كذاب ).
والمسابقة على قسمين :
الأول : أن يكون بلا عوض وهو جائز إن لم يكن من اللهو .
الثاني : ما يكون بعوض وهو حرام باستثناء النعل والحافر والخف لأنها من مقدمات الحرب وتنمية ملكة القتال عند المسلمين ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ] ( ).
والنعل : حديدة السهم أي المسابقة باللام .
والحافر : حافر الخيل ، ومنهم من الحق به البغال والحمير .
والخف : أي خف الإبل والفيلة .
ويحتمل السبق معان :
الأول : المقدم في الجري وفي كل أمر، تقول له: في هذا الأمر سُبْقةُ وسابقةٌ وسَبْق، والجميع الأسباق، والسوابق)( ).
الثاني : السبُق بسكون الباء لإرادة المصدر والمراد المسابقة .
الثالث : السبَق بفتح الباء هو الخطر والمال الذي يوضع بين المتسابقين ويتراهن عليه , ومن سبق أخذه , والجمع الأسباق .
وأختلف في جواز العوض والتسابق به سواء من المتسابقين وفي النضال والرهان أو من غيرهم ، وأطال ابن القيم الكلام في هذه المسألة في كتاب (الفروسية).
ومن وجوه الفرق بين الركن والشرط بخصوص الصوم مثلاً أن الركن جزء داخل في الصوم ، أما الشرط فهو واجب خارج عن حقيقة وماهية الفعل وقيل بأن النية شرط لكونها تتقدم على الصيام فيؤثر بها من الليل ، كما تكفي نبذ واحدة للصيام ، وقيل : او كانت جزءّ لكانت داخلة في النهار .
والمختار أن نية الصيام على وجوه مجتمعة ومتفرقة وهي :
الأول : نية الصوم شرط فيه عند العزم على الصيام من الليل .
الثاني : النية جزء من الصيام في نهار الصوم .
الثالث : النية شرط وجزاء طيلة آنات الصيام .
والمختار أن النية في الصيام على وجوه كما سيأتي ، والصيام لغة هو الإمساك ، أي الإمتناع عن الفعل أو القول ، وفي التنزيل [إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا] ( ) والصيام في الإصطلاح الشرعي هو الإمساك عن المفطر من طلوع الفجر إلى غروب الشمس وزوال الحمرة المغربية .
وصوم الشمس استواؤها في كبد السماء عند إنتصاف النهار ، وقبل أن تبدأ بالزوال إلى جهة الغروب ، وصوم الريح سكونها وتوقفها عن الحركة .
علم المناسبة
وردت مادة النفاق ومشتقاته في آيات عديدة من القرآن ، وكل واحدة منها مدرسة عقائدية وضياء ينير دروب المسلمين .
إذ ورد لفظ [الْمُنَافِقُونَ] ثمان مرات في القرآن تتضمن التحذير والزجر والإنذار ، قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً] ( ) وتضمنت عدة آيات بالوعيد للمنافقين بالعذاب الأليم الذي ينتظرهم في الآخرة ، قال تعالى [يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] ( ).
وورد عن أبي الدرداء وأبي ذر (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود، وأول من يؤذن له برفع رأسه، فأنظر من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، فأعرف أمتي من بين الأمم”. فقال له رجل: يا نبي الله، كيف تعرف أمتك من بين الأمم، ما بين نوح إلى أمتك؟ قال: “أعرفهم، مُحَجَّلون من أثر الوضوء، ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم، وأعرفهم يُؤْتَون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم وذريتهم) ( ).
وكما جاءت آية البحث والآية التي بعدها بخصوص معركة أحد ، وكيف أنها مناسبة لفضح المنافقين ، فقد جاءت آيات أخرى بخصوص معركة الأحزاب منها تسع آيات متتالية تبدأ بقوله تعالى [وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً * قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنْ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
وفيه آية إعجازية تدل على قانون وهو عدم إنحصار موضوع وذم النفاق بالآية التي تذكر المنافقين ولفظ النفاق ، إنما يشمل آيات أخرى من القرآن ، وهو من أسرار قانون العطف في القرآن ، وتجليات الإعجاز فيه .
ترى ما هو أثر ونفع الآيات الخاصة بالنفاق في موضوعه الجواب من وجوه :
الأول : تجلي النفع من الآيات الخاصة بالنفاق بتناقص عدد المنافقين .
الثاني : حجب المنافقين عن الإكثار من بث السموم .
الثالث : إحاطة المسلمين بوجود طائفة من المنافقين بين ظهرانيهم مع لزوم أخذ الحائطة والحذر منهم .
الرابع : قذف اليأس في نفوس الذين كفروا بأنهم لا ينتفعون من المنافقين وصيرورتهم عاجزين عن نصرة الذين كفروا سواء عند إرادتهم الهجوم على المسلمين أو في غير حال الهجوم .
الخامس : دعوة المنافقين إلى التوبة والإنابة .
ومن الآيات في المقام ورود سورة كاملة باسم (سورة المنافقون ) وتبدأ بقوله تعالى [إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ] ( ).
ومن الإعجاز تكرر اسم المنافقين فيها مرتين ، مرة بصيغة الرفع (المنافقون) وأخرى بصيغة النصب (المنافقين) كما ورد ذات الاسم مرتين أيضاً في سورة التوبة بقوله تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ] ( ) .
وورود التبعيض بـ(من) في الآية نوع إعجاز جلي من جهات :
الأولى : المنافقات من المنافقين .
الثانية : المنافقون من المنافقات .
الثالثة : المنافقون من المنافقين .
الرابعة : المنافقات من المنافقات .
وقوله تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ] من سورة التوبة وهي من آخر السور التي نزلت قبل سورة المائدة التي هي آخر سور القرآن نزولاً ، وقد ورد التبعيض بصيغة المدح في ذكر المؤمنين كما في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] ( ).
كما ورد في ذكر طوائف من أهل الكتاب وكون [بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]وكذا ورد وصف الذين كفروا بالولاية والنصرة فيما بينهم بقوله تعالى [وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] ( ).
وورد في ذم الظالمين قوله تعالى [وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ] ( ).
وقد ورد في ذكر المنافقين والمنافقات بنسبة التبعيض مع ذكر المنافقات على نحو الخصوص ، فلم تقل الآية والمنافقات بعضهن من بعض ، ولا المنافقون بعضهم أولياء بعض .
وتحتمل النسبة والتبعيض بخصوص المنافقين والمنافقات وجوهاً :
الأول : صلة القربى بين المنافقين والمنافقات .
الثاني : إرادة إنعدام الأصل للنفاق ، وأنه كالعدوى وبعض المنافقين بأخذ النفاق من بعضهم الآخر .
الثالث : وهن وضعف النفاق وان فضح أي منافق يضر بالآخرين منهم.
الرابع : إرادة إنعدام النصرة والمعونة بين المنافقين .
وجاءت الآيات بوصف المنافقين بالبخل والشحة والخوف والفروق عن فعل الخير ، قال تعالى [أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ] ( ).
الخامس : التشابه في أقوال وأفعال المنافقين والمنافقات وفيه بشارة للمؤمنين بسهولة إنكشاف المنافقين والتوقي من أذاهم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من صيغ الإعجاز في الآية ومصاديق الآية السابقة , وقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ].
وكان شطر من يهود الجزيرة من غير نسل يعقوب وبني إسرائيل إنما كانوا من العرب وإختاروا الإنتماء للديانة اليهودية , لنفرة النفوس من عبادة الأوثان , ولميل النفوس بالفطرة للديانة السماوية , ولتقدم الديانة اليهودية زماناً على النصرانية ومن اليهود العرب :
الأول : ذكر أن يهود خيبر مهاجرون من اليمن خاصة وأن المهاجر والمبتعد عن أرضه يكون أقرب لتبديل وتغيير رأيه وملته .
الثاني : ذكر أن مرحب فارس خيبر من قبيلة حمير من اليمن ، ومبارزته مع الإمام علي عليه السلام ، وقتل الإمام له يوم فتح خيبر أمر مشهور عند عامة المسلمين في أجيالهم المتعاقبة .
ولم يقاتل يهود خيبر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولم يضمروا له العداء خاصة مع بعد قريتهم وحصونهم عن المدينة المنورة إلا بعد أن جاءهم رئيس بني النضير حيي بن أخطب بعد جلائه من المدينة .
الثالث : يعود نسب يهود فدك إلى قبيلة عبس الغطفانية ، وتبعد فدك عن المدينة المنورة نحو (280) كم وهي قريبة من مدينة حائل ، وتشتهر بزراعة القمح والنخيل ، وكان يسكنها العماليق , وقيل هم من ذرية عمليق بن لامخ بن أرام بن سام بن نوح ، أما المصادر اليهودية فأختلفت في نسب عمليق على قولين :
الأول : نسب عمليق إلى حام بن نوح .
الثاني : نسب عمليق إلى سام بن نوح .
الثالث : عمليق ابن عم يعقوب بن إسحاق والذي هو إسرائيل .
وخاض العماليق مع بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر ومغادرة موسى عليه السلام إلى الرفيق الأعلى في غزة وسيناء ، ومن ملوكهم جالوت الذي قتله داود وبقتله إنهزم جنوده ، قال تعالى [فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ] ( ) .
ولم يرد ذكر جالوت في القرآن إلا في ثلاث آيات متتاليات من سورة البقرة ( ).
وجاء الملك نابونيد من العراق إلى فدك وفتك بالعماليق وأكثر القتل فيهم ، ثم رحل عنها بعد عشر سنوات ، فعاد العماليق إليها ،ولكن بحال من الضعف والوهن فجاء اليهود واستولوا عليها ، حتى تم فتحها في السنة السابعة من الهجرة النبوية ، وصالحوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على النصف من فدك ، وكان رئيس اليهود في فدك يشع بن نون وقد حرص على السلام والأمن مع المسلمين خاصة بعد أن سمع وقومه ما نزل بأهل خيبر , فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليؤمنهم ويتركوا الأموال فرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإيجاب وهي من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
وإجماع المسلمين على قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنحل وإعطاء فدكاً إلى فاطمة الزهراء عليها السلام بعد فتحها ومصالحة أهلها .
(عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت هذه الآية { وآت ذي القربى حقه} دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة فأعطاها فدك .
وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس قال : لما نزلت { وآت ذي القربى حقه } أقطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة فدكا ) ( ).
وكان أهل فدك يحتفظون ببعض الأسفار التي فيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته .
وكانت طوائف عديدة من القبائل العربية من غير اليهود تسكن فدكاً وقد أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم السرايا إلى بني عبيد الله بن سعد من أهل فدك وكان سبب الغزوة بلوغ أخبار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن في فدك جمعاً يريدون أن يمدوا يهود خيبر بالرجال والسلاح ، فخرج الإمام علي عليه السلام في مائة رجل إلى فدك ، وكان يسير الليل ويكمن النهار ، فلا تسبقه الأخبار إلى الأعداء بقدومه .
(الواقدي بإسناده أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث بشير بن سعد في ثلاثين راكبا إلى بني مرة من أرض فدك فاستاق نعمهم، فقاتلوه وقتلوا عامة من معه وصبر هو يومئذ صبرا عظيما، وقاتل قتالا شديدا، ثم لجأ إلى فدك فبات بها عند رجل من اليهود، ثم كرّ راجعا إلى المدينة.
قال الواقدي: ثم بعث إليهم رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم غالب بن عبد الله، ومعه جماعة من كبار الصحابة، فذكر منهم أسامة بن زيد، وأبا مسعود البدري، وكعب بن عجرة.
ثم ذكر مقتل أسامة بن زيد لمرداس بن نهيك حليف بني مرة، وقوله حين علاه بالسيف : لا إله إلا الله، وأن الصحابة لاموه على ذلك حتى سقط في يده وندم على ما فعل.
وقد ذكر هذه القصة يونس بن بكير عن ابن إسحاق عن شيخ من بني سلمة، عن رجال من قومه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث غالب بن عبد الله الكلبي إلى أرض بني مرة فأصاب مرداس بن نهيك حليفا لهم من الحرقة فقتله أسامة.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن أسامة بن محمد بن أسامة عن أبيه عن جده أسامة بن زيد ؟ قال: أدركته أنا ورجل من الانصار – يعني مرداس بن نهيك ] فلما شهرنا عليه السيف قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فلم ننزع عنه حتى قتلناه. فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرناه فقال ” يا أسامة من لك بلا إله إلا الله ” فقلت: يا رسول الله إنما قالها تعوذا من القتل.
قال: ” فمن لك يا أسامة بلا إله إلا الله “.
فوالذي بعثه بالحق ما زال يرددها علي حتى تمنيت أن ما مضى من إسلامي لم يكن، وأني أسلمت يومئذ ولم أقتله.) ( ).
وكان العرب من أهل فدك يأتون للحج في الموسم مع تمجيدهم الأصنام الخاصة بهم ، وكانت تلبية أهل فدك (لبيك إن الحمد لله والملك لا شريك لك إلا شريك هو لك ) وكانت كل قبيلة لها صنم خاص تقف عنده في البيت الحرام , ولكل قبيلة تلبية خاصة ، وكانت قريش تقف عند إساف وتلبي : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك تملكه وما ملك ، وتكون التلبية تارة بحسب الصنم الذي يقفون عنده ، وأخرى بحسب القبيلة أي لكل قبيلة تلبية خاصة بها ومنها .
وكانت تلبية أهل فدك هي (لبيك أن الحمد لك والملك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك أبو بنات بفدك ).
وذكر “محمد بن حبيب” ان طواف أهل الجاهلية بالبيت اسبوعاً، وذكر انهم كانوا يمسحون الحجر الأسود، ويسعون بين الصفا والمروة. وكانوا يلبّون. وذكر ان نسك قريش كان لإساف.، وان تلبيتهم:
” لبيك اللهم لبيك،لبيك، لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك “.
وان تلبية من نسك للعزى: ” لبيك اللهم لبيك، لبيلك وسعديك، ما أحبنا اليك “.
وان تلبية من نسك للات: ” لبيك اللهم لبيك، لبيك، كفى ببيتنا بنية،ليس بمهجور ولا بلية، لكنه من تربة زكية أربابه من صالحي إلبرية “.
وكانت تلبية من نسك لجهار: ” لبيك، اللهم لبيك. لبيك، اجعل ذنوبنا جبار،واهدنا لأوضح المنار، ومتعنا وملنا بجهار”.
وكانت تلبية من نسك لشمس: “لبيك، اللهم لبيك، لبيك، ما نهارنا نجره، ادلاجه وحره و قره، لا نتقي شيئاً ولا نضره، حجاً لرب مستقيم بره “،
وكانت تلبية من نسك لمحرق: “لبيك، اللهم لبيك، لبيك حجاً حقاً، تعبداً ورقا “،
وكانت تلبية من نسك لود”:”لبيك اللهم لبيك، لبيك، معذرة اليك “.
وكانت تلبية من نسك ذا الخلصة: “لبيك، اللهم لبيك، لبيك، بما هو أحب اليك “.
وكانت تلبية من نسك لمنطبق: ” لبيك، اللهم لبيك، لبيك “.
وتلبية عك، أنهم كَانوا اذا بلغوا مكة، يبعثون غلامين أسودين أمامهم، يسيران على جمل ” مملوكين، قد جردا، فهما عريانان، فلا يزيدان على ان يقولا: ” نحن غرابا عك “. واذا نادى الغلامان بذلك صاح من خلفهما من عك: “عك اليك عانية، عبادك اليمانية، كيما نحج الثانية، على الشداد الناجية “.
وكانت تلبية من نسك مناة: ” لبيك اللهم لبيك، لبيك، لولا ان بكراً دونك يبرك الناس ويهجرونك، ما زال حج عثج يأتونك، إنا على عدوائهم من دونك”،
وتلبية من نسك لسعيدة: ” لبيك اللهم لبيك، لبيك لبيك، لم ناًتك للمياحة، و.لا طلباً للرقاحة، ولكن جئناك، للنصاحة “..
وكانت تلبية من نسك ليعوق: ” لبيك اللهم لبيك، لبيك، بغض إلينا الشر،وحبب إلينا الخير، ولا تبطرنا فنأشر، ولا تفدحنا بعثار “.
وكانت تلبية من نسك ليغوث:” لبيك، اللهم لبيك، لبيك، أحبنا بما لديك، فنحن عبادك، قد صرنا اليك “.
وكانت تلبية من نسك لنسر: “اللهم لبيك، اللهم لبيك، لبيك، اننا عبيد، وكلنا ميسرة عتيد، وأنت ربنا الحميد، اردد إلينا مُلكنا والصيد”.
وكانت تلبية من نسك ذا اللبا: ” لبيك اللهم، لبيك، لبيك، رب فاصرفن عنّا مضر، وسلّمن لنا هذا السفر، إن عما فيهم لمزدجر، واكفنا اللهم أرباب هجر “.
وكانت تلبية من نسك لمرحب: ” لبيك اللهم لبيك، لبيك، اننا لديك. لبيك، حببنا اليك”.
وكانت تلبية من نسك لذريح: ” لبيك، اللهم لبيك، لبيك، كلنا كنود، وكلنا لنعمة جحود، فاكفنا كل حية رصود “.
وكانت تلبية من نسك ذا الكفين: ” لبيك، اللهم لبيك، لبيك، إن جرهماً عبادك، الناسُ طرف وهم تلادك، ونحن أولى منهم بولائك “.
وتلبية من نسك هبل: ” لبيك اللهم لبيك، اننا لقاح، حرمتنا على أسنة الرماح، يحسدنا الناس على النجاح”.

وقد تعرض “اليعقوبي” لموضوع التلبية، فقال: ” فكانت العرب، اذا أرادت حج البيت الحرام، وقفت كل قبيلة عند صنمها وصلوا عنده، ثم تلبوا حتى يقدموا مكة، فكانت تلبياتهم مختلفة.
وكانت تلبية قريش: لبيك اللهم لبيك لا شريك لك، تملكه وما ملك.
وكانت تلبية كنانة: لبيك اللهم لبيك، اليوم يوم التعريف، يوم الدعاء والوقوف.
وكانت تلبية بني أسد: لبيك اللهم لبيك، يا رب أقبلت بنو أسد، أهل التواني والوفاء والجلد اليك.
وكانت تلبية بني تميم: لبيك اللهم لبيك، لبيك عن تميم، قد تراها قد أخلقت أثوابها وأثواب من وراءها، وأخلصت لربها دعاءها.
وكانت تليية قيس عيلان: لبيك اللهم لبيك، لبيك أنت الرحمان، أتتك قيس عيلان، راجلها والركبان.
وكانت تلبية ثقيف: لبيك اللهم إن ثقيفاً قد أتوك، وأخلفوا المال وقد رجوك.
وكانت تلبية هذيل: لبيك عن هذيل قد أدلجوا بليل، في إبل وخيل.
وكانت تلبية ربيعة: لبيك ربنا لبيك، لبيك إن قصدنا اليك. وبعضهم يقول: لبيك عن ربيعة، سامعة لربها مطيعة.
وكانت حمير وهمدان يقولون: لبيك عن حمير وهمدان والحليفين من حاشد والهان.
وكانت تلبية الأزد: لبيك رب الأرباب، تعلم فصل الخطاب، لملك كل مثاب.
وكانت تلبية مذحج: لبيك رب الشعرى، ورب اللات والعزى.
وكانت تلبية كندة وحضرموت: لبيك لا شريك لك، تملكه، أو تهلكه، أنت حكيم فاتركه.
وكانت تلبية غسان: لبيك رب غسان، راجلها والفرسان.
وكانت تلبية بجيلة: لببك عن بجيلة في بارق ومخيلة،
وكانت تلبية قضاعة: لبيك من قضاعة، لربها دفاعة، سمعاً وطاعة.
وكانت تلبية جذام: لبيك من جذام، ذوي النهي والأحلام،
وكانت تلبية عك والأشعريبن: نحج للرحمان بيتاً عجبا مستتراً مضبباً محجبا .
كما جاء في أخبار دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى الإسلام وهو في مكة قبل الهجرة طوافه إلى القبائل الأشهر الحرم من موسم الحج في شهري ذي القعدة وذي الحجة يعرض عليهم عبادة الله عز وجل وحده من غير شرك ، ومن خصائص الأشهر الحرم الأمن وعدم إشاعة القتل كما أن قريشاً تحرص على سلامة الموسم وإزدهار التجارة فيه ، ولكنهم كانوا يحذرون القبائل من الأنصات إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يجعل القبائل تولى عناية للإطلاع على ما جاء به ، ولان دعوته صدق وحق ومقرونة بالمعجزة والبرهان ، وملائمتها للعقل والفطرة فان القبائل تدرك سر هذا التحذير ودلالته على خشية كفار قريش على إستجابة الناس لدعوة الحق ، وفي التنزيل حكاية عن مؤمن آل فرعون [وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ] ( ) .
وعن طريق (سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان . بسم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب ، من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران . إن أسلمتم فإني أحمد إليكم الله إله إبراهيم وإسحق ويعقوب . أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد ، فإن أبيتم فالجزية ، وإن أبيتم فقد آذنتكم بالحرب ، والسلام . فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به وذعر ذعراً شديداً ، فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة ، فدفع إليه كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقرأه فقال له الأسقف : ما رأيك . . . ؟ فقال شرحبيل : قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوّة ، فما يؤمن أن يكون هذا الرجل! ليس لي في النبوّة رأي ، لو كان رأي من أمر الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك .
فبعث الأسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران ، فكلهم قال مثل قول شرحبيل ، فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة ، وعبدالله بن شرحبيل ، وجبار بن فيض ، فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألهم وسألوه ، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له : ما تقول في عيسى ابن مريم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال لي في عيسى صبح الغد .
فأنزل الله هذه الآية { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب } إلى قوله { فنجعل لعنة الله على الكاذبين} فأبوا أن يقروا بذلك .
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الغد بعدما أخبرهم الخبر أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميلة له ، وفاطمة تمشي خلف ظهره للملاعنة ، وله يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبيه : إني أرى أمراً مقبلاً ان كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعناه لا يبقي على الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك فقالا له : ما رأيك؟ فقال : رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً . فقالا له : أنت وذاك . فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك قال : وما هو؟ قال : حكمك اليوم إلى الليل ، وليلتك إلى الصباح ، فمهما حكمت فينا فهو جائز . فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية ) ( ).
ومن القبائل العربية التي تأتي من فدك إلى مكة في موسم الحج .
إذ ورد عن عبد الله بن وابصة العيس عن أبيه عن جده قال : جاءنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منازلنا في منى ، ونحن نازلون بأزاء الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف ودعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله فما استجابوا له لكثرة تحذير وإنذار قريش القبائل غضب قريش .
الحمد لله الذي قال[وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ] ، ومن الآيات في المقام أن أكثر مساحات المعمورة مغمورة بمياه البحار والمحيطات، وعلى نحو خارق للتصور الذهني، ويدعو إلى التدبر في بديع صنع الله عز وجل .
إذ يبلغ مقدار الماء في الأرض نحو 1400 مليون كم2 ، نسبة مياه البحار والمحيطات منه 97,5% وهي مياه ملحية، لتبقى نسبة 2,5% للمياه العذبة، وهذه النسبة ليست متاحة بمجموعها للإنتفاع البشري بيسر، إذ أن نسبة 40% منها في باطن الأرض ومثله متجمد في المناطق القطبية وأعالي الجبال، لتبقى مياه الأنهار تستوعب نسبة 20% من المياه العذبة وبمقدار 5.% من مياه الأرض، وقد لا يكفي لحاجات الناس المتزايدة في الزراعة والصناعة والإستهلاك مع زيادة سكان الأرض، وذكر أن سكان الأرض تزداد حاجتهم للماء بمقدار 90 مليار متر مكعب سنويا لذا قد تكون المياه سبباً للنزاعات والحروب، فلابد من حكم عام عادل يتضمن الإنصاف، ويدفع الضرر.
الجواب الأول :سمي النهر نهراً بسعته وضيائه، ومنه لفظ النهار، وجمع النهر أنهار وقد ورد في القرآن بلفظ المفرد ومنه قوله تعالى في قصة طالوت أحد ملوك بني إسرائيل[قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ]، كما ورد بصيغة الجمع أنهار في مواضع عديدة منها قوله تعالى في ذم الذين كفروا[وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ].
يمكن تقسيم الأنهار إلى قسمين:
الأول : النهر الوطني وهو الذي يكون إبتداء وإستدامة وإنتهاء في بلد واحد، أي أن منبعه ومجراه ومصبه في ذات الدولة الواحدة، ومصداق هذا النهر متغير وليس ثابتاً بلحاظ أنشطار، في بعض الدول، فما يكون نهراً وطنياً قد يصبح دولياً، كما في إنقسام دول الإتحاد السوفيتي مثل نهر دنيبر إذ ينبع من روسيا، ويعبر إلى روسيا البيضاء ثم إلى أوكرانيا ليصب في البحر الأسود وطول النهر هو 2,290كم.
الثاني : النهر الدولي وهو الذي يمر في مجراه بأكثر من دولة ، وأطلق عليه في الإصطلاح الطريق المائي الدولي لبيان شرط صلاحيته للملاحة وليشمل البحيرات والقنوات، وبين المجرى المائي الدولي وبين النهر الدولي عموم وخصوص مطلق وفق إصطلاح علم المنطق، فالمجرى هو الأعم والأوسع ، وجرت المنازعة الدولية في المحكمة الدائمة للعدل الدولي على نهر الأودر والذي ينبع من جبال السوديت التشكيلية ويمر غربي بولندا ويصب في بحر البلطيق وقيل أن حوالي 241 نهراً تمر في أكثر من دولة ويسكن في أحواضها أكثر من ملياري إنسان.
وتسمى الدول التي تقع على النهر الواحد البلدان المتشاطئة، وأطول الأنهار في العالم نهر النيل وطوله 6671كم وتقع منابعه في هضبة البحيرات في أوغندا وتنزانيا، وبرواندي وهي بحيرات فيكتوريا والبرت واد، في الدائرة الإستوائية التي تهطل فيها الأمطار على مدار السنة، وبعد خروج النهر من المنطقة الإستوائية تقل كميات الأمطار، ولو لا كثرة الأمطار لأنخفض مستوى مائه، وقد خلّد القرآن نهر النيل ولكن مع جحود الطواغيت لهذه النعمة العظمى كما في قول فرعون[أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي]، أي تحت مرآه وفي مملكته، ويمر نهر النيل على نحو عشر دول في أفريقيا، ويكون مصبه في البحر الأبيض المتوسط.
ومن الأنهار الدولية نهي الفرات وطوله نحو 3596 كم ويمر بتركيا 24,8% وسوريا 14,7% والعراق 60.5% ويصب في شط العرب ثم الخليج , ونهر دجلة وينبع من جبال طوروس في تركيا منه 1400كم في العراق، ويمر في سوريا نحو 50كم، وتقع بغداد على نهر دجلة.
وعقدت أربعون دولة إجتماعاً في برشلونة سنة 1921 إتفاقية تنظم العمل في الممرات المائية الصالحة للملاحة وتتقوم هذه الإتفاقية بالملاحة الحرة لجميع السفن في الممرات المائية سواء كانت هذه السفن تعود إلى الدول المطلة على النهر أو غير المطلة عليه.
وهناك إتفاقيات ثنائية، وإجراءات خاصة لبعض الأنهار مثل إتفاق الولايات المتحدة مع كندا في 1954 بشأن الأنهار التي تصب في البحار وفي أسيا إشتركت تايلند ولاوس وكمبوديا وفيتنام سنة 1995 بمفوضية للإشراف على نهر ميكونج ثم أصبحت الصين وبورما شركاء معهم، وطول هذا النهر 4350 .
والموضوع الأساس في الأنهار في هذا الزمان ليست الملاحة إنما هي الزراعة وماء الشرب.
وبيّن قرار معهد القانون الدولي في(ساليزبورغ) لسنة 1961 حق إنتفاع كل دولة حوضية من المياه بالكيفية المناسبة بشرط التقيد بالقانون الدولي وحق إنتفاع الدول الأخرى ذات المصلحة في ذات المجرى المائي.
كما أوصت لجنة الموارد الطبيعية التابعة للأمم المتحدة بإجتماعها في طوكيو للفترة من 24 آذار إلى 4 نيسان 1975 على لزوم التقسيم العادل لمياه الأنهار الدولية، وضمان حقوق كل الدول المتشاطئة في الوارد المائي للأنهار الدولية، وهناك نحو ثلاثمائة إتفاقية ومعاهدة بين الدول المتشاطئة إلى جانب الإلتزام العرفي بين الدول في المقام , ويحتاج العرف إلى قوة مادية ومعنوية ليأخذ صبغة القانون.
وقد قامت الأمم المتحدة بصياغة قانون إستعمال المجاري المائية الدولية للأغراض غير الملاحية بتأريخ 21/5/1997 ولكنها لم تتوصل إلى معاهدة ملزمة تقوم على قواعد ثابتة في المقام.
ولا بد من موضوعية لطول النهر في البلد الذي يمر فيه وإن كان بلد مصب، وهناك مبادئ أخلاقية وعرفية وإنسانية عامة منها التوزيع العادي للمياه، وحق الإنتفاع منه .
وقاعدة لا ضرر ولا ضرار بالدول والشعوب الأخرى , والتقيد بالمعاهدات العامة بالأنهار، والخاصة بذات النهر التي يمر بالدول المتشاطئة، وعدم الإستحواذ على الماء، مع الرجوع إلى التباحث والتفاوض عند حصول لإختلاف، وحل النزاعات على المياه بالطرق السلمية .
وهل في قوله تعالى[وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ]، دعوة للناس إلى عدم الإستثار بالماء وعدم الإقتتال عليه، الجواب نعم، وهو من إعجاز القرآن بأن تأتي الآية القرآنية واقية وبشارة وإنذار , وفيها دعوة للإنتفاع العام والأمثل من الماء والعلم عند الله.

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn