معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 155

المقدمــــة
الحمد لله الذي جعل آيات القرآن ضياءً يشع على الآفاق، وربيعاً للقلوب , وعطراً للجوانح والأركان , وعلة لجلب الرزق الكريم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) بتقريب هو أن الإيمان بنزول القرآن من عند الله عز وجل وتلاوة آيات القرآن عبادة، وقد تفضل الله عز وجل وجعل قراءته واجبة خمس مرات في ساعات الليل والنهار , وعندئذ يكون العبد أقرب إلى الله , ومنقطعاً إليه، وراجياً نواله وعفوه ومغفرته .
الحمد لله الذي تفضل علينا وعليكم فجاء هذا الجزء وهو الخامس والخمسون بعد المائة من تفسيري للقرآن في تفسير الآية الثامنة والستين بعد المائة من سورة آل عمران ، وتختص بحال المنافقين وإصرارهم على القعود عن الدفاع من غير علة أو عذر , واقتران هذا القعود بالسخرية بالمؤمنين وتوجيه اللوم للذين أستشهدوا منهم في معركة أحد .
لقد نصب المنافقون أنفسهم عضداً لجيوش الذين كفروا التي زحفت على المدينة لإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأسر أهل بيته وأصحابه خاصة المهاجرين منهم .
فجاءت آية البحث لتنسخ وتمحو كيد ومكر المنافقين ، وتمنع من ترتب الأثر على الأراجيف التي يبثونها في المدينة لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهي أن كل آية من القرآن في المقام على وجوه:
الأول : الآية القرآنية حرب على النفاق.
الثاني : أنها واقية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : دعوة للناس لدخول الإسلام , وهو من عمومات قوله تعالى[قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ] ( ).
وهو من الشواهد على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف إنما كانت المعجزة آله نفاذ الإيمان إلى القلوب ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا]( ).
لقد إبتدأت الدعوة الإسلامية في مكة إذ بعث الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله سلم في ربوعها وكان المسلمون آنذاك قلة مستضعفين لاقوا شتى صنوف التعذيب من كفار قريش ، ولم يكن يومئذ نفاق ومنافقون ، ولكن بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتحقق النصر المبين له وللمؤمنين في معركة بدر في السنة الثانية للهجرة كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) .
ظهرت حالة النفاق بأن أعلن بعض الناس التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع إخفائه الكفر بها وبالتنزيل ، وتطلعه إلى إجهاز الكفار على المؤمنين فجاءت آيات القرآن ببيان خصال المنافقين المذمومة وفضحهم .
وبين الكفر والنفاق عموم وخصوص من وجه .
الحمد لله الذي جعل معركة أحد مناراً للإسلام وحجة على الناس بأن المسلمين كانوا في حال دفاع عن النبوة والتنزيل والنفوس والأعراض والأموال ونحوه من الضرورات الواجبة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ) .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أن كل آية من القرآن حجة على الناس ، وأن سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة وبرهان , وتقتبس منها المواعظ، وفيها زجر للمنافقين وإبطال لمغالطاتهم .
ومن المسلمات في المقام أن معركة أحد مفروضة على المسلمين لإشراف جيش المشركين على المدينة يريدون القتال حتى أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا له وهم في الطريق إلى المعركة الدفاعية ، نستعين باليهود قال: لا.
ليكون هذا الدفاع وسنخيته ونفعه وبركاته من مصاديق نعم الله عز وجل التي لا تقدر الخلائق على إحصائها ، قال تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) .
وهل يمكن تقدير الآية أعلاه على نحو التقييد وان تعدوا نعمة الله بمعركة أحد لا تحصوها ، الجواب نعم لبيان قانون وهو أن عجز المسلمين والناس عن النعم الإلهية لا يختص بإطلاق وعموم النعم إنما يشمل وجوهاً :
الأول : أفراد النعم الإلهية ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : النعم الإلهية بكل آية من آيات القرآن وعددها ستة آلاف وثلاثمائة وست وعشرون آية .
الثالث : النعم بالسنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية بلحاظ أنها شعبة من الوحي [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الرابع : النعم على الأمة في العبادة وكيفية الفرائض والمناسك والتوفيق لأدائها ، قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامس : النعم على نحو القضية الشخصية للأفراد والجماعات .
السادس : النعم الإلهية في فضح المنافقين ، وبيان قبح النفاق ، كما تدل عليه آية البحث .
السابع : ما أنعم الله عز وجل به على المسلمين في ميادين المعارك , والنصر والفتح والغنائم وإنجذاب الناس إلى الإسلام .
الثامن : من النعم توارث المسلمين سنن الإيمان ، وتعاهدهم لأحكام الشريعة .
التاسع : من أعظم النعم الهداية إلى شكر الله عز وجل والثناء عليه فله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه ، وعظيم قدرته، وسعة سلطانه، وتوالي نعمائه على الفرد والطائفة والأمة.
الحمد لله الذي بفضله ولطفه تتم الصالحات والذي أحصى كل شئ عدداً وجعل لكل شئ كتاباً وأمداً واختص بالإطلاق في الحكم والأمر والمشيئة والإرادة والملك والقدرة والسلطان ودوام الحياة الأزلية والرحمة والخلق والعلم والعفو والرزق والحلم والعزة والكبرياء والمنّ والحكمة .
وإنفرد الله سبحانه بالإطلاق في كل من :
الأول : الحياة الأزلية الدائمة [هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).
الثاني : الملك ، فليس من شئ إلا وهو ملك لله عز وجل , وهل يدل قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا] ( ) على إنحصار ملك الله عز وجل بها ، الجواب لا، واثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره .
ومن أسماء الله المالك والملك والمليك ومالك الملك ، ولله عز وجل مطلق التصرف في ملكه وكل فرد من ملكه محتاج إليه سبحانه وإلى رحمته في الإيجاد والإستدامة ، وفي التنزيل [إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] ( ).
الثالث : الحكم لله [وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ] ( ) ويقف حكام الأرض يوم القيامة بين يديه للحساب ، بما يجعل أغلب الناس يغبطون أنفسهم أنهم لم يكونوا حكاماً في حياتهم الدنيا .
وهل يقف الأنبياء مع الحكام في هذا الموقف، الجواب لا، لآيات من القرآن منها ما ورد في التنزيل حكاية عن إبليس [قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ] ( ).
الرابع :لله عز وجل المشيئة والإرادة الكونية والإرادة الشرعية ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا] ( ) .
وتدل الآية أعلاه على إفادة آية البحث بالدلالة التضمنية دعوة الذين نافقوا للتوبة والإنابة ، فان قلت لقد ذمت الآية أعلاه الذين يتبعون الشهوات وكشفت عن حقيقة وهي إرادتهم ميل وضلالة بعض المؤمنين وترغيبهم بالحرمات وحثهم على القعود عن الدفاع ، وقيل الآية أعلاه خاصة بالزناة بلحاظ نظم الآيات , وموضوعها أعم .
(عن ابن عباس {ويريد الذين يتبعون الشهوات} قال: الزنا)( ).
لقد أراد الذين نافقوا دعوة المؤمنين إلى الراحة والقعود وعدم تحمل أعباء الخروج للقتال والضرب في الأرض والتعرض لحرارة السيف وشدة ألم الجراحات ، ويريد الله عز وجل لهم النصر والظفر ليعيشوا وذراريهم في كنف الإيمان وينتهجوا الصراط المستقيم للإقامة في النعيم .
ومن بديع مشيئة الله وأسباب إنقياد الخلائق له أنه يوجِد الشئ أو يعدمه بالكاف والنون ، وفي التنزيل [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
ويريد الله عز وجل الخير والصلاح وحسن العاقبة للؤمنين لذا تفضل وأنزل آية البحث للإحتراز من المنافقين وأراجيفهم ، وفي التنزيل [إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ] ( ) وفيه دعوة للمؤمنين لرجاء النصر من عند الله ، وعدم الإنصات إلى الذين نافقوا وإنذارهم بأن يغزوهم الموت فجاة وهم بأسوء حال من المرض والداء والفقر والخزي الذي لحقهم بآية البحث .
الخامس : ليس من حاكم مطلق في الكائنات والخلائق مجتمعة ومتفرقة إلا الله عز وجل ، وفي التنزيل [إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ]( ) ؟
و(إلا) من أظهر أدوات الحصر والقصر والإفراد , جاءت هنا لنفي الشريك له سبحانه .
ومن فضل الله على الخلائق أنه الرب والإله والحاكم والرازق والمحيي والمميت وإليه المصير ، ولم يجعل حاجة العباد إلا اليه سبحانه ليخلصوا له في إيمانهم ، ولتتجلى لهم حقيقة وهي القبح الذاتي للكفر والنفاق والظلم ، ومنه آية البحث التي تدل بالدلالة التضمنية على ظلم وتعدي الذين كفروا بالتلبس بذات الكفر ، وبالهجوم على المدينة لإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وتدل بالدلالة المطابقية على سوء فعل الذين نافقوا وكيف أنهم سارعوا إلى نصرة الذين كفروا عن قصد أو غير قصد .
وهل آية البحث من حكم الله ، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في الآية القرآنية بأن تكون مرآة لمشيئة الله ، وإنفراده بالملك والجبروت والأمر والنهي , وفي التنزيل [وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا..]( ) فأراد الذين كفروا والذين نافقوا حكم الجاهلية ، وسيادة مفاهيم الوثنية ، ومنع عبادة الله عز وجل بالكيفية التي يريد بقاءها في الأرض إلى يوم القيامة فأخزاهم الله في معركة بدر وأحد لتكونا النواة المباركة لثبات مبادئ الإسلام .
(عن المقدام بن هانئ ، عن ابن هانئ : أن هانئا لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع قومه فسمعهم يكنون هانئا أبا الحكم ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : إن الله هو الحكم وإليه الحكم.
فلم تكنى أبا الحكم ؟ ، قال : قومي إذا اختلفوا في شيء رضوا بي حكما فأحكم بينهم.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن ذلك لحسن ، فما لك من الولد ؟ ، قال شريح ، وعبد الله ، ومسلم ، قال : فأيهم أكبر ؟ ، قال : شريح.
قال : فأنت أبو شريح فدعا له ولولده ، فلما أراد القوم الرجوع إلى بلادهم ، أعطى كل رجل منهم أرضا حيث أحب في بلاده ، قال أبو شريح : يا رسول الله ، أخبرني بشيء يوجب لي الجنة.
قال : طيب الكلام ، وبذل السلام ، وإطعام الطعام ) ( ).
السادس : لله عز وجل القدرة المطلقة في الإيجاد والجعل والإعدام والبعث ، وجميع الأشياء مستجيبة لأمره ، ومنقادة لمشيئته، تتباهي بعظيم قدرته وسلطانه ، وتتجلى ببدائع الكون ومجراته وكواكبه ودقة أنظمته ، ولا يختص معنى الكون في الإصطلاح بالسماء إنما يشمل جميع الخلائق ومنه أفراد الزمان وتعاقب الليل والنهار .
وهو أعظم مما تحيط به عقول الناس وآلات الكشف والتقنية الحديثة ، وما يدركه الإنسان بحواسه كاف للإقرار بمظاهر الإطلاق في قدرة الله ، وفي التنزيل [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ* الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
وهل من صلة بين الآيات الكونية وبين وجوب التنزه عن النفاق ، الجواب نعم ، لأن كل آية في السماء والأرض تدعو الإنسان إلى الإيمان ، والإقرار بالوحدانية لله عز وجل وسلامة النفس من الشك والريب ومفاهيم الضلالة ليكون من المدد الإلهي للأنبياء جميعاً ، وللنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة آية الشمس والقمر ، وعالم الأفلاك وتعاقب الليل والنهار بانتظام ، وتجليات ودلالات كنوز الأرض ومنافعها ، قال تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ] ( ) فان نزل الملائكة مدداً لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وأحد والخندق وحنين ، فان الآيات الكونية تطل كل يوم على الإنسان ذكراً وأنثى لتمنع عنه النفاق ولتدعو للإصغاء لدعوة النبوة والإستجابة للمعجزات ومحاربة الكفار الذين يزحفون على المدينة لقتال النبي وأصحابه، فان قلت هؤلاء الكفار أيضاً تطل عليهم الآيات الكونية فلماذا يصرون على الكفر .
الجواب أن هذه الآيات تحارب الكفر والنفاق في بواطن النفوس وعلى الجوارح وتضعف همم الذين كفروا ، وتبعث الفرقة والشقاق بينهم ، والخوف في نفوسهم ، لتكون من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] ( ).
لقد أختتمت الآية السابقة بقانون [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] ( ) لبيان أن الله عز وجل أعلم بالذين نافقوا من أنفسهم ، وأنهم ينسون الخاطرة والنية السيئة ولكن الله عز وجل يعلم بها قبل أن يخلقوا ولا ينساها وهي حاضرة عنده في الدنيا والآخرة ، وهو سبحانه الذي يبتليهم بما يحول دون تحقق مصداق الخبث والمكر الذي ينوون ، لتكون خاتمة الآية السابقة إنذاراً متجدداً للذين نافقوا .
ويعجز المنافقون عن دفع الموت عن أنفسهم فيغادرون الدنيا ، ولكن مضامين الإنذار في خاتمة الآية السابقة باقية ، وتشفي صدور الأجيال المتعاقبة من المؤمنين .
ثم جاءت آية البحث لتتضمن في دلالتها علم الله عز وجل بما يقوله ويفعله الذين نافقوا وهو من باب الأولوية بالنسبة لما يخفون ويكتمون في نفوسهم ، وفيه دعوة للمؤمنين والناس جميعاً بأن يغمر حب الله قلوبهم ، فلا يجد النفاق له حيزاً ومقاماً فيها ، قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
لقد أخبرت الآية السابقة عن قانون وهو التباين والتضاد بين ما يقوله الذين نافقوا وما يضمرون في نفوسهم من النوايا والمقاصد سواء فيما يخص ذات القول أو غيره , إنهم يريدون هدم صرح الإيمان والتعجيل بالهجوم على الإسلام قبل تمام نزول آيات القرآن .
ومع قلة كلمات آية البحث وأنها أخبرت عن خصال مذمومة للمنافقين من جهات :
الأولى : توجيه الذين نافقوا اللوم إلى الشهداء لخروجهم للدفاع .
الثانية : إدعاء الذين نافقوا بأن الشهداء لو بقوا في المدينة لما قتلوا .
الثالثة : جمود الذين نافقوا على الأخوة النسبية لقوله تعالى في آية البحث [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ] أي من الأوس والخزرج في ذات الوقت الذي نزل القرآن بالأخوة الإيمانية ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة] ( ) ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشواهد موضوعية الوحي في سننه قيامه بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار .
وهل هذا الجمود من الحرب على الأخوة الإيمانية , الجواب نعم ، وفيه شاهد على مراتب الصبر العالية التي تجلت في السنة النبوية وعدم بطش النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمنافقين ، ليكون الأذى الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون من الذين نافقوا من مصاديق قوله صلى الله عليه وآله وسلم ( لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أتت علي ثلاثة من بين يوم وليلة ما لي ولبلال طعام إلا ما واراه إبط بلال) ( ) عن أنس .
وأيها أشد على الإسلام :
الأول : أذى الكفار عندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل الهجرة .
الثاني : الأذى الذي يجلبه المنافقون على الإسلام .
الثالث : هجوم الكفار على المدينة المنورة ، كما في معركة أحد وحنين .
الرابع : الجامع بين هجوم الكفار وأذى المنافقين بلحاظ أنهما في وقت واحد .
والصحيح هو الأخير ، لبيان إتصاف آية البحث بأمور :
الأول : آية البحث حاجة للمسلمين والمسلمات .
الثاني : في آية البحث تخفيف عن المسلمين .
الثالث : بعث اليأس في قلوب الكفار من الذين نافقوا في آية البحث من لجم لأفواههم لبيان قانون وهو أن آية البحث تنفع الذين آمنوا في حال الحرب والسلم .
وقد عرّف النفاق بأنه( إظهار الخير وإسرار الشر)( )، وأنه ستر المنافق كفره وإظهاره الإيمان، أو أنه القول باللسان أو الفعل بخلاف ما هو مضمر في القلب من الإعتقاد وتتقوم هذه التعاريف بالإختلاف من بين السريرة والعلانية.
وجاءت آية البحث بمضامين تدل على أن صفات المنافقين أعم من أن تختص بالتباين والتضاد بين السر والعلانية، إنما تشمل مطابقة قول وفعل المنافق مجتمعين لما يضمره من الكفر، والشك والريب، ويدل عليه قوله تعالى[وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ]( ).
ومنهم من جمع بين المنافقين والزنادقة، وليس بتام , وقد وردت آيات القرآن بذم وتبكيت المنافقين، وذكرت آية البحث صفات تدل على النفاق غير إضمار الكفر وهي:
الأولى : توجيه اللوم للشهداء بذريعة أنهم لو تخلفوا عن الدفاع في معركة أحد لم يقتلوا ولم يذكروا الموت، ولكن الله عز وجل إحتج عليهم به.
الثانية : التجاهر بالقعود عن النفير الضرورة مع مجيء الدعوة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكل المسلمين غير أولي الأعذار.
ومن مصاديق عموم الدعوة النبوية للدفاع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم(أستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس)( )، وفيه وجوه:
الأول : ابن أم مكتوم أعمى وهو من أولي الأعذار.
الثاني : الدلالة على بقاء طائفة من المسلمين في المدينة تخلفوا عن الخروج لعذر، فإن قلت قد يكون إستخلاف ابن أم مكتوم ليصلي بالنساء خاصة، والجواب لو دار الأمر بين وجود ذوي أعذار في المدينة أو عدمه فالصحيح هو الأول، مع وجود شبه لابن ام مكتوم من جهة العذر المتحد أو المتعدد، ووجود الصبيان الذين لم يأذن لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج، والشيوخ الكبار.
الثالث : إقامة الحجة على الذين نافقوا في قعودهم.
الرابع : موضوعية إستدامة أداء الصلاة في المسجد النبوي، وتأكيد السنة النبوية القولية والفعلية على لزوم تعاهدها.
الثالثة : جمع الذين نافقوا بين القول والفعل اللذين يدلان على النفاق، وبين ما يضمرون من الكفر والجحود، فقد يقال أن هذا الإضمار لا يضر عامة المسلمين ، فأخبرت آية البحث عن ظهور مصاديق النفاق والكذب والزيف على ألسنة وأفعال الذين نافقوا ، مما يدل على شدة ضررهم على الإسلام، لتكون آية البحث وما فيها من الإحتجاج عليهم مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات، وهو من الشواهد على تسمية الآية القرآنية بالآية لما فيها من النفع العام والغايات السامية الحميدة , قال تعالى[وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا]( ).
لقد وردت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية , ولغة الفعل الماضي ، وفي علم البلاغة يحتمل الخبر الصدق والكذب , والأولى تأكيد الإستثناء ، فيقال :
الأول : يحتمل الخبر الصدق والكذب إلا التنزيل والكتب السماوية .
الثاني : تحتمل الجملة الخبرية الصدق والكذب إلا القرآن فانه حق وصدق ، قال تعالى [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ] ( ) .
الثالث : لا يحتمل خبر القرآن إلا الصدق ، ولما إحتج الملائكة على جعل أدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) إحتج الملائكة وموضوع الإحتجاج من شعبتين :
الأولى : إفساد الإنسان في الأرض .
الثانية : قتل الإنسان للنفس التي حرّم الله .
الرابع : لا تحتمل السنة النبوية الصحيحة إلا الصدق والحق .
ويحتمل قول الذين نافقوا الذي تذكره آية البحث بلحاظ إحتجاج الملائكة كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) بلحاظ صبغته وجوهاً :
الأول : قول الذين نافقوا بخصوص الشهداء من الفساد في الأرض .
الثاني : إنه من قتل النفس المحترمة بغير حق .
الثالث : جاء كلام الذين نافقوا لغرض الإفساد .
الرابع : إنه ليس من الفساد ولا من قتل النفس .
الخامس : إنه مقدمة للفساد وقتل النفس المحرمة ، بلحاظ أن إرجاف الذين نافقوا وصدهم عن سبيل الله سبب لغزو المشركين ، وإغوائهم بالمؤمنين .
السادس : التفصيل فشطر من كلام الذين نافقوا فساد ، وآخر لإرادة القتل .
وباستثناء الوجه الرابع أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق ومواضيع إحتجاج الملائكة لذا تفضل الله عز وجل ورد عليهم بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) فمن علمه تعالى نزول آية البحث وما فيها من الإحتجاج على الذين نافقوا ، ومجئ الآية التالية وهي تتضمن إخبار الله عز وجل عن حياة الشهداء في النعيم عنده سبحانه وبضيافته .
وكما ينفرد الله عز وجل بالربوبية المطلقة للخلائق وعظيم القدرة والمشيئة الواسعة ، فان ضيافته سبحانه للشهداء والمؤمنين دائمة أزلية مستمرة ليس لها حد ولا نهاية ، ولا يقدر على هذه الضيافة والإكرام إلا هو سبحانه ولكن الذين نافقوا إنشغلوا بأيامهم في الحياة الدنيا وأمتلأت نفوسهم بالخوف من الذين كفروا ولم يعلموا أن أيامهم قليلة ، وترددوا في قبول فرض العبادات تثاقلاً , وفي الصلاة قال تعالى [وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ).
فلم تمر ست سنوات على معركة أحد حتى تم فتح مكة لتنطوي أيام الكفر والوثنية في الجزيرة ، وكانت دماء شهداء أحد جسراً وصراطاً يستضئ به المؤمنون والمؤمنات في كل زمان .
لقد تضمنت آية البحث شعبتين :
الأولى : الخبر ، وهو على أقسام :
الأول : ذكر الذين نافقوا واكتفت آية البحث بذكر الاسم الموصول (الذين) ولم تذكر نفاقهم أو تصرح بابطانهم الكفر ولكنها معطوفة على الآية السابقة التي إبتدأت بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] ( ) أي يكشف الله حقيقة ويعلم بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون ، وهذا العلم من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
فان قلت لقد كشف الله المنافقين في وقائع معركة أحد , وصار الناس جميعاً يعلمون بهم وبقبيح فعلهم ، الجواب نعم ، وفيه عز إضافي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، فلا تنحصر أسباب هذا العز بالعلم بالمنافقين بل تشمل العلم بهم من منازل الإيمان وإتخاذ المؤمنين لهذا العلم واقية وحرزاً .
وتقدير الجمع بين أول آية البحث وأول الآية السابقة : وليعلم الله الذين نافقوا وقالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا ) .
لقد أختتمت الآية السابقة بصيغة المضارع [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] ( ) لبيان قانون وهو أن الله عز وجل يعلم قبل وأثناء وبعد نزول آية البحث بما كتم ويكتم المنافقون من سوء النوايا وشرور العزائم ، وهل من مصاديق الآية عزم الذين نافقوا إغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، سواء كان هذا العزم حاضراً في الوجود الذهني عندهم يوم نزول آية البحث أو ترشح وبرز بينهم بعد نزولها ، إذ أن الله عز وجل يعلم ما كان وما يكون ، وما خطر على ذهن العبد وما سيقع له سواء كان موجوداً أو لم يولد بعد ، لتكون خاتمة آية البحث شفاء لصدور المؤمنين .
الثاني : إخبار الآية السابقة عن قول للذين نافقوا لبيان أن النفاق لا يختص باضمار الكفر ، إنما يجري على اللسان ، وفيه شاهد بأن تعريف النفاق وفق الإصطلاح ، ومن إعجاز القرآن البيان المانع من الإجمال والترديد ، إذ ذكرت الآية ماهية قول الذين نافقوا بالقعود والبقاء في المدينة عند النفير .
الثالث : بيان الآية للجهة التي يتوجه لها كلام الذين نافقوا بقوله تعالى [لِإِخْوَانِهِمْ] ليفيد الكثرة وتعدد سنخية هؤلاء الإخوان ومنهم :
الأول : ذات الذين نافقوا أي أن المنافق يقول ويخبر أخاه المنافق بأن الشهداء لو اطاعونا ما قتلوا ) وهو من مصاديق [بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ..] ( ).
الثاني : قول المنافق للمؤمنين من الأنصار بخصوص الشهداء .
الثالث : عند رجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من معركة أحد أستقبلهم أهل المدينة بالغبطة لنجاة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن المنافقين استقبلوهم بأسى يشبه الشماتة وسعي لإضعاف هم المسلمين .
فترى المنافق الذي قعد عن المعركة يلاقي المهاجر أو الأنصاري الذي شارك في المعركة ويقول له لو أن فلاناً من الشهداء أطاعني ولم يخرج للقتال لما قتل .
لقد تضمنت آية البحث الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإحتجاج بالموت من جهات :
الأولى : مجئ الموت للمنافق ، إذ يدل قوله تعالى [قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ] على أن الموت أمر وجودي ، وهو مستجيب لأمر الله عز وجل في زيارته للإنسان ، فلا يأتي قبل الأجل ولا يتأخر أو يتباطئ عنه ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( ).
الثاني : إتخاذ الأمر المحسوس برهاناً عقلياً ، وحجة على الذين نافقوا فمن الإعجاز في الإحتجاج القرآني أمور :
الأول : الإتيان بالشاهد والدليل القريب من كل إنسان .
الثاني : إدراك البرهان القرآني من قبل الناس جميعاً مع التباين في مداركهم والإختلاف في ألسنتهم .
الثالث : إتحاد سنخية البرهان مع التباين في تلقيه إذ أنه يزيد المسلم إيماناً ويكون حجة على الكافر والمنافق , وهو طريق للتوبة والإنابة .
فان قلت قد ورد عن أبي أمامة الباهلي (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : أنا زعيم بيت في ربض الجنة( ) لمن ترك المراء ، وإن كان محقا ، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحا ، وبيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه) ( ).
والجواب القدر المتيقن من الحديث أعلاه هو خصوص الحق الشخصي والجدال على المسألة الخاصة .
الثالثة : عجز المنافقين وان اجتمعوا عن دفع الموت عن أي واحد منهم ، إذ أن تقدير قوله تعالى [قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ]على وجوه :
أولاً : يا أيها المنافق ادرء عن نفسك الموت .
ثانياً : يا أيتها المنافقة ادرئي عن نفسك الموت .
ثالثاً : يا أيها المنافقون ادرءوا عن أي واحد منكم الموت .
رابعاً : يا رأس النفاق ادرء عن نفسك عن الموت .
خامساً : يا أيها المنافقون والمنافقات ادرءوا عن رأس النفاق الموت .
سادساً : يا أيتها المنافقات أدرأن عن أنفسكن الموت .
سابعاً : يا أيها المنافق أدرء عن صاحبك الموت .
ثامناً : يا أيها المنافق أدرء وأدفع الموت عن المنافقين أو المنافقات .
تاسعاً : يا أيها المنافق أدرء عن المنافقة الموت .
عاشراً : يا أيتها المنافقة أدرئي عن المنافق الموت .
وهل في الآية بشارة لضعف النفاق وصيرورته واهناً , الجواب نعم ، لأن ذكر الموت وطروه على المنافقين شاهد على إنقراضهم كأشخاص .
لقد أختتمت آية البحث بالإحتجاج على الذين نافقوا بعجزهم عن دفع الموت عن أنفسهم، وابتدأت الآية التالية بالنهي عن الظن بأن الشهداء أموات وأنهم غادروا الحياة الدنيا إلى العدم وعالم القبر وما فيه من السكون ، إذ أخبرت عن إتصافهم بعد الموت بخصال وهي:
الأولى : الحياة.
الثانية : الحياة عند الله.
الثالثة : الإخبار بأن حياتهم عند الله ربهم لبيان إحاطتهم بالرحمة وتوالي الفضل من عند الله عز وجل عليهم , فقد أفنوا حياتهم في رضوان وطاعة ربهم، وهم الذين يجازيهم بالحياة عنده حالما يغادرون الحياة الدنيا.
الرابعة : مجيء الرزق الكريم للشهداء من عند الله عز وجل.
وهل في الجمع بين الآيتين إخبار عن تخلف الذين نافقوا عن الشهادة والقتل في سبيل الله لتحدي خاتمة آية البحث ببيان عجزهم عن دفع الموت عن أنفسهم .
الجواب نعم، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى (وقعدوا) كما يدل عليه ما ورد في الآية السابقة[وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ]( ).
ليكون من إعجاز نظم الآيات إتصال التحدي للذين نافقوا بآية البحث والآية التالية، وبما يتعلق بالحياة الدنيا وعالم البرزخ ويوم القيامة.
وذكرت آية البحث قعود الذين نافقوا وقد يتبادر إلى الذهن إرادة إمتناعهم عن الخروج وهذا صحيح ولكنه أعم فيشمل وجوهاً:
الأول : الرجوع من وسط الطريق، كما في إنخزال ثلث جيش المسلمين في الطريق، إلى المعركة بتحريض رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول.
الثاني : العزم على القعود من الأصل، وقبل أن يأتي جيش المشركين من مكة ويصل إلى أطراف المدينة.
الثالث : إختيار القعود عن الدفاع عن الدعوة إلى النفير.
الرابع : القعود عن الإنفاق في سبيل الله، والإمتناع عن إعانة المجاهدين وعوائلهم.
الخامس : قعود المنافق بعد الخروج إلى ميدان المعركة وحضور القتال.
السادس : مبادرة المنافق إلى الهزيمة والفرار.
فجاءت آية البحث بتذكير الذين نافقوا بالموت، وما يتعقبه من الوقوف بين يدي الله للحساب، قال تعالى[مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا]( ).

حرر في الخامس عشر من شهر شعبان 1438
13 نيسان 2017

قوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] الآية 168.
الإعراب واللغة
الذين : خبر لمبتدأ محذوف وتقدير الآية بلحاظ عطفها على الآية السابقة على وجوه :
الأول : هم الذين قالوا لإخوانهم .
الثاني : الذين نافقوا قالوا لإخوانهم وقعدوا .
الثالث : الذين نافقوا وقالوا لإخوانهم .
قالوا : فعل ماض مبني على الضم ، الواو فاعل .
لإخوانهم : اللام : حرف جر .
إخوان : اسم مجرور وعلامة جره الكسرة تحت آخره ، وهو مضاف متعلق بقالوا .
الضمير هم : مضاف إليه .
وقعدوا : الواو حالية وحرف عطف.
قعدوا : فعل ماض ، والواو فاعل .
لو أطاعونا : لو : حرف شرط غير جازمة .
أطاعوا : فعل ماض ، والواو فاعل يعود للشهداء من المؤمنين : وتقدير الآية : قال المنافقون لو أطاعنا الشهداء وقعدوا ما قتلوا في معركة أحد .
وجملة أطاعونا في محل نصب مقول القول .
ما قتلوا ، ما : نافية .
قتلوا : فعل ماض مبني للمجهول مبني على الفتح .
الواو : نائب فاعل ، وجملة ما قتلوا : لا محل لها جواب شرط غير جازم .
قل : فعل أمر : الفاعل ضمير مستتر تقديره أنت ، وهو خطاب متوجه من الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويشمل المسلمين بالإلحاق، وهل يشمل المسلمات أم أن القتال ساقط عن النساء وكذا الإحتجاج في موضوعه .
الجواب هو الأول ، للتباين الموضوعي بين الإحتجاج على المنافقين وبين قتال الذين كفروا في معارك الإسلام الأولى .
فأدرءوا : فادرءوا الفاء رابطة لجواب شرط مقدّر .
ادرءوا : فعل أمر مبني على حذف النون ، الواو : فاعل .
عن أنفسكم : عن : حرف جر .
أنفسكم : اسم مجرور وهو مضاف ، الضمير كم : مضاف إليه .
وجملة ادرءوا جواب شرط مقدر أي كنتم صادقين بأن القعود يدفع الموت فأدفعوا عن أنفسكم الموت بقعودكم .
الموت : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره .
إن كنتم صادقين : إن : حرف شرط جازم .
كنتم : فعل ماض ناقص مبني على السكون .
الميم : ضمير اسم كان .
صادقين : خبر كان منصوب وعلامة نصبه الياء .
وجملة كنتم صادقين : لا محل لها تفسيرية .
وجواب شرط (أن) محذوف دلّ عليه ما قبله .
وتأتي (لو) على وجوه :
الأول : حرف إمتناع أي أنها تدل على إمتناع الجواب لإمتناع الشرط ، أي امتناع أمر لعدم تحقق سببه .
الثاني : حرف عرض تدل على السؤال والطلب برفق ولين ويدخل على الفعل المضارع ، مثل : لو تدعو الله فتقضى حاجتك .
الثالث : حرف مصدري بمعنى (إن) ولكنه لا ينصب الاسم .
كما في قوله تعالى [وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ] ( ).
الرابع : حرف تمن ، يدل على طلب المحال أو الأمر صعب النوال ، قال تعالى [يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ] ( ).
الخامس : حرف تقليل لا محل له من الإعراب .
وتكرر حرف (لو) في الآية السابقة وآية البحث , وتقدم في الآية السابقة [لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً] ( ).
سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة , وهي على شعبتين :
الشعبة الأولى : صلة هذه الآية بالآيات المجاورة السابقة , وهي على وجوه :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ]( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قد تقدم في الجزء السابق أن من صيغ العطف الاسم الموصول ومنه آية البحث إذ تبدأ بالاسم الموصول [الَّذِينَ] الذي يدل بالدلالة التضمنية على إرادة الذين ذكروا في الآية السابقة .
ومن الإعجاز في الآية السابقة أن مضامينها خاصة بالذين نافقوا وتبين دعوة المؤمنين لهم للدفاع وإختيار الذين نافقوا القعود المقرون بالجدال والمغالطة , وإرادة إرباك المسلمين وخططهم الخاصة والعامة.
ويدل تعدد وتوالي الآيات التي تخص معركة أحد وحال المنافقين فيها على ما لها من موضوعية في تأريخ الإسلام .
ويحتمل العطف بين الآيتين وجوهاً :
الأول : إرادة عطف تمام آية البحث على تمام آية السياق .
الثاني : عطف الاسم الموصول وحده على الآية السابقة .
الثالث : إرادة العطف بالمعنى والدلالة .
الرابع : عطف مضامين آية البحث على خاتمة الآية السابقة .
الخامس : تتصف آية البحث بأنها من شعبتين :
الأولى : صيغة الجملة الخبرية ، وهو خاص بالمنافقين قولاً وفعلاً .
الثانية : الأمر من الله المتوجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) ليكون من إعجاز آية البحث مجئ الذم من الله ورسوله والمؤمنين إلى المنافقين .
فان قلت قد تجلى الذم من الله ورسوله بقوله تعالى [قل] وتقدير الآية : قل يا محمد للذين نافقوا ادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ) فكيف يكون الذم من المؤمنين ، الجواب : تلاوة المسلمين والمسلمات لآية البحث ذم وتبكيت للمنافقين ، ، وهو من أسرار تلاوة القرآن في الصلوات الخمسة ، فلولا فضل الله لا يعلم أحد أن وجوب تلاوة القرآن في الصلاة يكون على وجوه :
الأول : التلاوة في الصلاة نزاهة وعصمة من النفاق , ونذير دائم منه , قال تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( ).
الثاني : انه باب للأمر بصدق الإيمان ، ونهي عن إبطان الكفر والضلالة، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) .
الثالث : تلاوة المسلمين القرآن في الصلاة تذكير بواقعة أحد على نحو الإجمال والتفصيل ، ومنه حال المنافقين يومئذ .
الرابع : بيان جهاد النبي والصحابة ضد المنافقين ، ودفع شرورهم ، فان قلت بعض المنافقين من الصحابة , الجواب نعم ، ولكنهم يخرجون بالتخصيص بسوء إختيارهم وإقامتهم على النفاق ، ويتعدد المعنى الإصطلاحي للصحابة ، ويمكن تقسيمهم على مراتب :
الخامس : بعث الفزع والخوف في قلوب المنافقين وعلى نحو يومي متجدد ، إذ تغزو آية البحث النفوس والمجتمعات فتكون توبيخاً للمنافق ، وتحذيراً للمؤمن والناس جميعاً .
لقد أراد المنافقون محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من بين صفوفهم ، وما يسمى في هذا الزمان بالطابور الخامس فأخزاهم الله وأمر رسوله الكريم بتحديهم بالموت ، وهل يختص هذا التحدي بمضامين آية البحث .
الجواب إنما ورد ذكر الموت من باب المثال الأمثل والبرهان القريب ، والدليل الحسي الذي تترتب عليه مدارك ومسائل عقلية لتكون آية البحث دعوة للمسلمين للإحتجاج على المنافقين .
المسألة الثانية : تكرر لفظ [الَّذِينَ] في كل من آية البحث والسياق وبينهما عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء إتحاد الجهة والمقصود من هذا اللفظ , وهم المنافقون أيام معركة أحد .
أما مادة الإفتراق فهو ورود (الذين )في الآية السابقة بصيغة المفعول به لقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] ( ).
وورد في آية البحث بصيغة المبتدأ الذي يدل بالدلالة التضمنية على الإخبار عنه أو قيامه بالفعل متحداً أو متعدداً ، مذكراً أو مؤنثاً ، ومن الإعجاز في الاسم الموصول في هذه الآيات إرادته الجمع وخصوص المنافقين لبيان قانون وهو أن معركة أحد جعلت الناس من جهة أطراف القتال على أقسام :
الأول : المؤمنون الذين خرجوا إلى ساحة الدفاع تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الكفار من قريش وحلفائهم والذين زحفوا من مكة لقتال النبوة والتنزيل ، ليتجلى عدم التكافؤ بوضوح ، فلا ينحصر احتساب قوة الطرفين بعدد الجنود والسلاح وحال الدفاع أو الهجوم ونحوه من أسباب التعادل والترجيح في فنون الحرب القديمة والحديثة ، إنما تترجح كفة النبوة والتنزيل وإن كان الذين كفروا أكثر عدداً وعدة .
وهذا الترجيح من جهات :
الأولى : مخاطبة النبوة والتنزيل للعقول .
الثانية : إقامة الحجة على الذين كفروا بأنهم يقاتلون الحق .
الثالثة : مصاحبة المعجزة للنبوة لقانون من الإرادة التكوينية وهو أن كل نبي يأتي بالمعجزة لتزين المعجزات الحياة الدنيا ، وتجعل الإيمان حاضراً في نفوس الناس والمجتمعات في كل زمان ، وهو من الآيات في توالي بعثة الأنبياء ، وإتحاد أو تعدد المعجزات التي تجري على يد واحد منهم ، قال تعالى [وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ] ( ).
الرابعة : مجئ المدد وأسباب النصرة من عند الله عز وجل إلى الأنبياء وأتباعهم ، قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ] ( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزول القرآن على نحو التدريج والتتابع .
ليكون نزول آية البحث حجة على الذين كفروا ، فمن لم يتعظ من الآيات المكية وما فيها من الإنذار والوعيد فان الآيات المدنية جاءت ببيان الأحكام مع الإنذار والبشارة ، وكل آية معجزة بذاتها .
ولقد أنعم الله عز وجل علينا في هذا السِفر بأن جعلت في تفسير كل آية من القرآن بابين :
الأول : إعجاز الآية الذاتي .
الثاني : إعجاز الآية الغيري .
مع تضمن تفسير الآية مصاديق كثيرة من إعجازها .
الخامسة : إقامة الحجة على الذين كفروا بايذائهم للأنبياء وسعيهم لصد الناس عن إنتهاج الإيمان والعمل في مرضاة الله .
ومن أقبح الأفعال محاربة النبي بالسيف ، ليجمع كفار قريش في عملهم بين الفساد والقتل بغير حق اللذين ذكرهما الملائكة في الإستفهام والسؤال عن جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) .
ويتجلى مصداق بهي لقوله تعالى في الرد عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) بآية البحث وما فيها من فضح للمنافقين من وجوه :
الأول : النفاق من الفساد في الأرض ، وفي التنزيل [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ] ( ).
الثاني : القعود عن نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبيح وضار بالذات في الدنيا والآخرة ، فمن معاني آية البحث الإخبار عن حرمان المنافقين أنفسهم من الجزاء الحسن والثواب في الآخرة ، ولا يقف الأمر عند هذا الحرمان فليس من برزخ يومئذ أنما يكون القعود عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن عمد وإبطان الكفر والجحود وسبباً لنزول العذاب ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( ).
الثالث : توثيق آية البحث لشماتة المنافقين بالشهداء من المسلمين مع أن الشهداء فازوا باللبث الدائم في النعيم .
الرابع : الإحتجاج على المنافقين بالموت وقربه منهم ، وعجزهم عن صرفه .
المسألة الثالثة : وبلحاظ بداية الآية السابقة يمكن تقدير أول آية البحث : وليعلم الذين نافقوا وقالوا لإخوانهم وقعدوا ..) وتبين هذه الآيات سخط الله عز وجل على المنافقين ، وعدم رضاه عن ظهور ما يخفون من الكفر على ألسنتهم بالخداع والقعود والشماتة بالمؤمنين ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( ).
ومن إعجاز القرآن البيان النافع , ومن مصاديقه ما يترشح عن الجمع بين آيات القرآن ، وهي خزائن علمية لا تنفد ، ويمكن إنشاء علم مستقل في الجمع بين كل آيتين من القرآن اسمه : البيان في الجمع بين الآيتين ).
ليضاف إلى البيان الخاص بكل آية منهما .
وقد ذكرت آية السياق خصالاً مذمومة للمنافقين ، ثم ذكرت آية البحث خصالاً أخرى من ذات السنخية ، فقد ذكرت آية البحث أموراً :
الأول :علم الله عز وجل بالمنافقين .
الثاني : دعوة المؤمنين للمنافقين للجهاد والدفاع عن النبوة والتنزيل .
الثالث : إعتذار المنافقين عن الدفاع بحجة واهية ، وكذب ظاهر بادعاء أنه لا يكون قتال بين المسلمين والذين كفروا .
الرابع : قرب المنافقين من الكفر .
الخامس : يعلم المنافقون أن معركة أحد واقعة حتماً وأنهم ينسحبون من الطريق للتخلية بين الكفار والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : يكتم المنافقون الرغبة بأنهزام المسلمين وإرادة الشماتة بهم ، فأختتمت آية السياق بفضحهم وأما آية البحث فتضمنت أموراً :
الأول : قعود المنافقين عن القتال مع حاجة النبوة والإسلام لخروجهم .
الثاني : عند وقوع معركة أحد نسي وتناسى المنافقون قولهم [لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ] ( ) إنما صاروا يلومون الشهداء بأنهم لو بقوا في المدينة ولم يخرجوا إلى المعركة لم يقتلوا .
الثالث : تأكيد الآية لكذب المنافقين وإصرارهم على المغالطة .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين أول آية السياق ومضامين آية البحث على وجوه :
الوجه الأول : وليعلم الذين قالوا لإخوانهم لو أطاعونا ما قتلوا ، لبيان أن المنافقين لم يكتفوا بالقعود عن الجهاد وبمحاولة تثبيط همم المؤمنين بأمور :
أولاً : الإنسحاب من جيش المسلمين من الطريق إلى معركة أحد .
ثانياً : القعود عن الدفاع .
ثالثاً : توجيه اللوم للشهداء .
ومن الشواهد على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف أن توجيه اللوم للمنافقين على قعودهم لم يأت في القرآن إلا بعد أن صار جيش المشركين على مشارف المدينة المنورة ، وصار الدفاع عن النفوس والأعراض واجباً وجوباً عينياً .
ليكون من معاني الآية السابقة وقوله تعالى [تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا]( ) أي إن لم تؤمنوا بالقتال في سبيل الله فأدفعوا عن أنفسكم وعيالكم القتل وذل السبي ، وفي التنزيل [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ] ( ).
وتقدير قوله تعالى (تعالوا قاتلوا) على وجوه :
الأول : تعالوا معنا ندافع عن شخص رسول الله .
الثاني : تعالوا اتبعونا، لأن خروجنا في سبيل الله.
الثالث : تعالوا لنصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : تعالوا للذب عن النفوس والأعراض فإن الموت دونها شهادة.
الخامس : تعالوا قاتلوا الذين كفروا فإن قتالهم في سبيل الله.
السادس : تعالوا أنصروا النبوة والتنزيل.
وهل يختص صدور لفظ ( تعالوا ) بالمجاهدين في دعوتهم للمنافقين، الجواب لا، فقد يصدر هذا اللفظ من النساء والصبيان في المدينة ، ويكون معنى تعالوا أي إنهضوا وأخرجوا واتركوا القعود بين ظهراني النساء .
وتقدير الآية: وقالت المؤمنات للذين نافقوا تعالوا قاتلوا في سبيل الله) وفيه شاهد على نبذ المؤمنات للنفاق، وعصمتهن من شرور الأراجيف في المدينة.
السابع : تعالوا قاتلوا كما يقاتل إخوانكم من الأوس والخزرج.
الثامن : تعالوا بينوا صدق ما تعلنون من الإيمان.
التاسع : تعالوا صدّوا الذين كفروا في تعديهم وظلمهم.
العاشر : تعالوا قاتلوا في سبيل الله , وفيه تنزه عن النفاق ومغفرة للذنوب، قال تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ]( )، ليكون قول (تعالوا) سبيل رضوان الله في الدنيا والآخرة.
الحادي عشر : تعالوا لما فيه رحمة بكم لأن النفير في سبيل الله، باب للرزق الكريم وخير محض(للنفس والذرية) قال تعالى[وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
الثاني عشر : انبذوا النفاق وإبطان الكفر وتعالوا قاتلوا في سبيل الله.
الثالث عشر : لا تنصتوا لأقوال رؤساء النفاق , وتعالوا قاتلوا في سبيل الله سبحانه .
الرابع عشر : كما نصر الله عز وجل المسلمين في معركة بدر فإنه ينصرهم في المعارك اللاحقة فتعالوا قاتلوا في سبيل الله.
الخامس عشر : لقد قاتلنا في سبيل الله فتعالوا قاتلوا معنا.
السادس عشر : لا يرضى الذين كفروا إلا بقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقتلكم ، فتعالوا قاتلوا في سبيل الله.
ومن معاني الجمع بين الآيتين إبلاغ المنافقين بأن الله عز وجل يعلم ما يقولون وما يتحدثون به وأنه سبحانه يحاسبهم من جهات :
الأولى : النفاق والزيف والمغالطة التي يقولون .
الثانية : ما يخفي المنافقون من العداوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل لقوله تعالى في خاتمة آية السياق [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] ( ).
الثالثة : التباين والتضاد بين ما يظهر المنافقون من النفاق وما يخفون من الكفر .
الوجه الثاني : وليعلم الذين نافقوا وقعدوا ) ويصح تقدير الآية (وليعلم الذين قعدوا لنفاقهم ) ليخرج الذين قعدوا من المؤمنين أولي الأعذار ، قال تعالى [لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ] ( ) .
إذ تقسم الآية أعلاه المؤمنين إلى أقسام :
أولاً : المجاهدون في سبيل الله .
ثانياً : المجاهدون بأنفسهم .
ثالثاً : المجاهدون بأموالهم .
رابعاً : المجاهدون بأنفسهم وأموالهم .
خامساً : المؤمنون القاعدون عن القتال عن عذر وعاهة .
سادساً : المؤمنون القاعدون من غير عذر ومنهم نفر ممن اعتذر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عند عودته من معركة بدر .
وهل تشمل الآية أعلاه المنافقين القاعدين ، الجواب لا ، وهو قياس مع الفارق ، فمن إعجاز القرآن عدم تسمية آية البحث للمنافقين بالقاعدين، إنما ذكرتهم بلفظ (الذين قعدوا) أي تعمدوا القعود وهو رشحة من نفاقهم .
وتقدير الجمع بين الآيتين على وجوه :
الأول : وليعلم الذين نافقوا .
الثاني : وليعلم الذين نافقوا وقعدوا .
الثالث : وليعلم الذين قعدوا .
والنسبة بين الذين نافقوا وقعدوا وبين الذين نافقوا هي العموم والخصوص المطلق ، وقد يقال هناك ملازمة بين النفاق والقعود ، والجواب لا دليل عليه ، إذ أنهم على أقسام :
الأول : المنافقون الذين قعدوا عن عمد .
الثاني : الذين قعدوا عن عذر .
الثالث : الذين خرجوا للقتال تحت لواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد رجع مع رأس النفاق في الطريق إلى أحد ثلاثمائة من أفراد الجيش فهل يحتمل وجود منافقين أخرين لم يرجعوا معهم وأستمروا في السير إلى معركة أحد ، الجواب نعم ، وأن تعددت الأسباب والغايات من سيرهم .
وهل يشمل قوله تعالى [وَقَعَدُوا]الذين نافقوا ممن قعد عن عذر ، الجواب نعم ، فانه يلحق بالذين قعدوا عن عذر ، بدلالة خاتمة الآية السابقة [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] ( ) فيؤاخذ الله المنافقين بسوء سريرتهم .

الوجه الثالث : لما جاءت آية السياق بالإخبار عن إذن الله عز وجل بوقوع معركة أحد كي يعلم سبحانه المؤمنين الصابرين في الميدان ويعلم المنافقين الذين يحرضون على القعود وهم قاعدون في بيوتهم ، ويمشون في الأسواق أوان المعركة وناقوس الخطر يهدد أهل المدينة جميعاً لإصرار لذين كفروا على البطش والإنتقام .
لقد كانت نسبة المهاجرين إلى الأنصار في معركة بدر الثلث تقريباً ، إذ كان عدد المهاجرين 83 ، وعدد الأنصار 231 ، وكان عدد الشهداء أربعة عشر ، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار ، أما في معركة أحد فكان الفارق كبيرا في عدد الشهداء ، إذ كان عدد المهاجرين أربعة من أصل سبعين شهيداً ، والباقي من الأنصار ، مما يدل على الزيادة الكبيرة في أعداد الأنصار وتفانيهم في مرضاة الله , كما قامت طائفة من الأنصار بحراسة أطراف وأسوار المدينة ، وكان عدد من رؤساء الأنصار يتولون حراسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم أسيد بن خضير ، وسعد بن عبادة ، وسعد بن معاذ .
لذا فان قول المنافقين [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] لم يضر المؤمنين ، ولم يلتفتوا إليه لأن بعضهم يشد عضد بعضهم الآخر ، ويتناجون في الخروج ولا يخشون لقاء العدو .
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : وليعلم الذين نافقوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت .
لقد كانت علة النفاق ظهور رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانقياد الناس لها طواعية ، وإصرار الذين في قلوبهم مرض على الضلالة والغواية والذين كانوا على طائفتين :
الأولى : الذين لم يغادروا مستنقع الكفر ظاهراً وباطناً .
الثانية : الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر والشرك .
فتفضل الله عز وجل بآية البحث وما فيها من الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقوم بالإحتجاج على الذين نافقوا مع بيان موضوع وكيفية الإحتجاج وأن لا يتعدى اللسان والقول [قُلْ فَادْرَءُوا].
لتبين الآية أن الموت حجة وزاجر للمنافقين والذين كفروا .
ويتجلى سر من أسرار تفضل الله عز وجل بجعل الموت أمراً وجودياً بقوله تعالى [خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ] ( ) ليكون على وجوه :
الأول : تذكير الناس بالموت (عن أنس بن مالك قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بقوم من الأنصار يضحكون ، فقال : أكثروا ذكر هادم اللذات) ( ).
الثاني : استحضار الموت في الوجود الذهني سبيل إلى التوبة والإنابة .
الثالث : الإحتجاج على الذين كفروا بالموت وحتمية طروه على الإنسان .
الرابع : يتبادر إلى الذهن عند ذكر الموت عالم ما بعد الموت ، وما فيه من الحساب والجزاء .
الخامس : يملي ذكر الموت على الإنسان الإقرار بقانون وهو ضعفه وعجزه عن الإستمرار في البقاء في الدنيا ، وإختيار هذا البقاء لساعة واحدة من أفراد الزمان ، فمن عمّر وعاش مائة عام يدرك والناس خلال تلك السنين أنه عرضة للموت في كل لحظة منها ، وفي كل ساعة منها قد يغمض عينه ، فلا يستطيع فتحها إلى حين دخوله القبر أو بالعكس يغمضها فلا يستطيع فتحها .
(وقال يزيد الرقاشي كان في بني إسرائيل جبار من الجبابرة وكان في بعض الأيام جالساً على سرير مملكته فرأى رجلا قد دخل من باب الدار ذا صورة منكرة وهيئة هائلة فاشتد خوفه من هجومه وهيئته وقدومه فوثب في وجهه وقال له: ” من أنت أيها الرجل ومن أذن لك في الدخول إلى داري فقال أذن لي صاحب الدار وأنا الذي لا يحجبني حاجب ولا أحتاج في دخولي على الملوك إلى إذن ولا أرهب سياسة السلطان ولا يفزعني جبار ولا أحد من قبضتي فرار فلما سمع هذا الكلام خر على وجهه ووقعت الرعدة في جسده .
وقال: أنت ملك الموت , قال: نعم قال أقسم عليك باللّه إلا أمهلتني يوماً واحداً لأتوب من ذنبي وأطلب العذر من ربي وأرد الأموال التي أودعتها خزائني إلى أربابها ولا أتحمل مشقة عذابها، فقال كيف أمهلك وأيام عمرك محسوبة وأوقاتها مثبتة مكتوبة .
فقال أمهلني ساعة، فقال إن الساعات في الحساب وقد عبرت وأنت غافل وانقضت وأنت ذاهل وقد استوفيت أنفاسك ولم يبق لك نفس واحد، فقال من يكون عندي إذا نقلتني إلى لحدي فقال لا يكون عندك سوى عملك فقال ما لي عمل؟ فقال لا جرم يكون مقيلك في النار ومصيرك إلى غضب الجبار ” .
وقبض روحه، فخر عن سريره وعلا الضجيج من أهل مملكته وارتفع ولو علموا ما يصير إليه من سخط ربه لكان بكاؤهم عليه أكثر وعويلهم أوفر ) .
ومن الآيات زيارة الموت لبعض أقران العبد ومن حوله في كل فترة من أيام حياته ، وقد يتخطف شباباً بتمام الصحة ، كما يبتلى الناس بالحروب والإقتتال فيما بينهم ، فيصرع خيرة الرجال منهم ، وجاءت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للوقاية من هذه الحروب وجعل الغبطة والسعادة تغمر الإنسان بأدائه الفرائض العبادية والتنزه عن الظلم والتعدي ، لذا ورد قوله تعالى [رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ] ( ) لبيان أنه حتى الذين كفروا لا يودون أن يكونوا منافقين ، فمن بركات هذه الآيات بعث النفرة من النفاق في نفوس الناس , وصيرورة الكفار يكرهون المنافقين ويبغضونهم وخداعهم ومكرهم ، وهو من مصاديق شدة عقابهم بقوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( ).
ومن معاني الجمع بين الآيتين قرب دنو الأجل من المنافق فلم يتحل المنافق بالإيمان وليس عنده عمل صالح يشفع له ويدفع عنه الموت إلى أجل، ليكون أجل المنافق من مصاديق الثبوت في قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
لقد جاءت آية البحث بالأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يتحدى الذين نافقوا بعجزهم عن دفع الموت عن أنفسهم .
ومن منّ الله عز وجل على المؤمنين أنه لم يخوفهم ويتوعدهم بالموت ، ومع هذا فأنهم إنقادوا لأمره تعالى في الدفاع وإختاروا التعرض للموت الذي هو شهادة وحضور في عالم الخلود ، وفي التنزيل [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ] ( ).
وفيه شاهد بأن المؤمنين لم يطيعوا المنافقين ولم ينصتوا لهم , ليجعلوا الحجة على المنافقين جلية وواضحة .
لقد كانت واقعة بدر مقدمة وعوناً للمسلمين للتنزه عن النفاق ، ثم جاءت معركة أحد لتكون كشفاً وفضحاً للمنافقين ، ومن معاني النصر في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) النصر على النفاق ، وصيرورة عدد المنافقين في تناقص ، والمنع من زيادة ودخول أفراد كثيرين في جماعة المنافقين ، فقد كان النصر في معركة بدر معجزة تبين صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتمنع من دبيب الشك والريب إلى النفوس أو إستقراره في جنباتها .
ومن معاني النصر فيها أنها مقدمة لخروج المسلمين إلى معركة أحد ، وعدم إطاعة الذين نافقوا او إتباعهم عند إنخزالهم من وسط الطريق إلى المعركة .
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : وقيل لهم قاتلوا في سبيل الله أو أدفعوا قل فأدروا عن أنفسكم الموت ) وفيه وجوه :
الوجه الأول : من خصائص آيات القرآن تعدد مادة ( قال )، بالصيغ المتعددة من الماضي والأمر والمضارع والمبني للمعلوم والمبني للمجهول ، وكل مرة ترد فيها مادة القول حجة ومادة للإحتجاج ومناسبة لإقتباس المواعظ والعبر منها .
لقد تناجى المنافقون بالعودة من الطريق إلى معركة أحد والرجوع إلى المدينة وعدم الإشتراك في القتال للظن بأن الذين كفروا لا يطلبون إلا النبي محمداً صلى الله عليه وآله والمهاجرين ، فقال رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول حينئذ (ما ندرى علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس) ( ).
لتكون الأقوال التي توجهت إلى المنافقين في معركة أحد على وجوه :
الأول : الدعوة النبوية العامة للنفير عند قدوم الذين كفروا للقتال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) .
الثاني : المناجاة بين المسلمين للخروج للدفاع .
الثالث : مشورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه يومئذ إذ كانوا فريقين :
أولاً : الذين قالوا بالبقاء في المدينة والدفاع فيها إذا اقتحمها العدو .
ثانياً : الخروج للقاء العدو خارج المدينة ، قال تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ).
وكان رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول مع الرأي الأول أعلاه ، وقيل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يميل إليه أي أنه عدل إلى الثاني عند رؤية عدد من المسلمين يلحون بالخروج .
فان قيل هناك تباين بين المشورة بكيفية الدفاع ولقاء العدو وبين القول والدعوة للمنافقين بالخروج , والجواب النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه ، بلحاظ أن ذات المشورة بعث على القتال وإقرار عام بالعزم على الدفاع والصبر فيه ، لأن هذه المشورة من الإجماع المركب ، فاما الخروج للقتال وأما الدفاع في ذات المدينة المنورة ليشترك الصبيان والنساء في القتال والدفاع ، فليس في المشورة قول أو رأي بالقعود أو الإمتناع عن القتال ، وهو من مصاديق الآية قبل السابقة , وتسمى (يوم التقى الجمعان ) لبيان أن هذه التسمية أعم وأوسع من الحصر بذات يوم معركة أحد وهو النصف من شهر شوال ليشمل مقدمات القتال إذ أن معاني اليوم أعم من أن تختص بالمعنى اللغوي من طلوع الشمس إلى غروبها ، أو من طلوع الفجر الصادق إلى مغيب الشمس فيقال يوم الحصاد أي أوان ووقت الحصاد , ويوم القيامة مع تعدد مواطن وأهوال وطول مدة الحساب ، وفي التنزيل [وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا] ( ).
الرابع : عندما رجع الذين نافقوا من الشوط في طريق السير إلى معركة أحد لحقهم بعض الصحابة وسألوهم العودة إلى صفوف جيش الإسلام وعدم التخلية بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين جيوش الذين كفروا حتى على القول بأنهم يطلبون خصوص النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن الدفاع عنه واجب ، وأتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أي أنه مشى معهم خطوات وهم في حال الرجوع إلى المدينة ، ويحتمل حال وهيئة جيش المسلمين ساعتئذ وجوهاً :
الأول : إستمرار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالسير إلى معركة أحد حتى مع رجوع عبد الله بن عمرو خلف الذين نافقوا بحثهم على الرجوع للقتال .
الثاني : توقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المسير ريثما يعود لهم عبد الله بن عمرو .
الثالث : كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه واقفين في الموضع وفي حال تهيء وترتيب للصفوف .
والمختار هو الأخير لأن المنافقين إنسحبوا من الشوط وهو الميدان الفسيح بين جبلين .
فلحقهم عبد الله بن عمرو بن حرام ليعود بعد اليأس منهم إلى جيش المسلمين ويستشهد يوم أحد فيخلد في السنة النبوية وفي أخبار الإسلام وتتعاهد أجيال المسلمين الآية التالية [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ).
الخامس : دعوة أهل المدينة رجالاً ونساءً للمنافقين للدفاع عن النفوس والعرض والمال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) .
وهل يصح صدور ذات القول بالقتال او الدفاع من المنافقين أنفسهم الجواب نعم ، لموضوعية الإيمان الظاهري وللحمية والألفة والأخوة مع المؤمنين في النسب وهو الذي يدل عليه قوله تعالى في آية البحث [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ..]( ).
فان قلت قد ورد قوله تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ]( ) الجواب لا تعارض بين جواز صدور بقوله بالدفاع من المنافقين ، وبين أمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف لأن القول غير الأمر والنهي وأدنى منها مرتبة ، ولبيان هذا القول لم يؤثر أو ينفع في المنافقين ، فيأتيهم القول بالدفاع عن حوزة الإسلام ولكنهم يعرضون عنه ويأمرون بالمنكر أي بالإنخزال والإنسحاب من المعركة ، وينهون عن الخروج للقتال .
ليتوجه الإحتجاج بالموت إلى جميع المنافقين حتى الذين قالوا لأصحابهم منهم بالدفاع .
وهل يدرء المؤمنون عن أنفسهم الموت , الجواب أنهم سلمون بأنه حق ونهاية حتمية لحياة كل إنسان في الحياة الدنيا ، قال تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ) .
وهل النفاق إنقلاب على الأعقاب ليصدق على المنافقين أنهم انقلبوا على أعقابهم في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , والجواب أن المنافقين لم يبلغوا درجة الإيمان كي يصدق عليهم أنهم انقلبوا فهم بالأصل مقيمون في مستنقع النفاق والعزوف عن الإيمان .
ومن معاني الجمع بين الآيتين بلحاظ هذه المسألة وهي السادسة تعدد مضامين القول والإحتجاج على المنافقين ليكون على وجوه :
الأول : دعوة المنافقين للقتال وتقييده أنه في سبيل الله ، وليس طمعاً في مغانم ومكاسب .
وهل يبين هذا القيد معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن المسلمين لا يجلبون الغنائم من معركة أحد ، وأن الخروج إليها أمر خالص لوجه الله عز وجل وإرادة القربة إليه .
الجواب نعم ، لذا ظهرت نوايا الخبث والعناد والمكر على ألسنة وف فعل المنافقين .
الثاني : حث المنافقين على الدفاع وحمل السلاح في المدينة بوجه جيش الذين كفروا الذين زحفوا من مكة وقطعوا نحو خمسمائة كيلو متراً لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الثالث : دعوة المنافقين لتكثير سواد المسلمين ، وإن لم يقاتلوا ولكن يحضرون في صفوف الجيش ويوحون إلى العدو بكثرة جيش المسلمين وقد تكون هذه الكثرة سبباً بانزجار العدو المشرك وإجتنابه القتال ، من الأسرار في عدم إبتداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال ، ولجوئه إلى الوعظ والإنذار والترغيب بالإسلام وبيان التباين والتضاد بينه وبين القتال ، فلابد عند نشوب القتال من وقوع جرحى وقتلى من الطرفين ، وكل واحد منهم في معرض القتل أو الجرح ليدرك كل من الطرفين أن السلم ومنع القتال هو الأحسن له شخصياً لما فيه من صرف القتل المحتمل عنه قال تعالى [وَإِنْ امرأة خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( ).
وهو من مصاديق مادة المقام في قوله تعالى[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) أي التقوا للقتال .
وهل من معانيه التقوا بكراهة القتال , الجواب نعم , وهو من أسرار نفخ الله من روحه في آدم , قال تعالى [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ] ( ) ليكون من وظائف العقول والأفئدة والحواس النفرة من القتال ويكون تقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : يوم التقى الجمعان على كره القتال .
الثاني : يوم التقى الجمعان باذن الله .
الثالث : يوم التقى الجمعان جمع المؤمنين وجمع الذين كفروا .
الرابع : يوم التقى الجمعان وتخلى المنافقون عن نصرة الإسلام .
الخامس : يوم التقى الجمعان ليثبت الإسلام إلى يوم القيامة .
السادس : يوم التقى الجمعان ويخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سالماً .
السابع : يوم التقى الجمعان بمعركة أحد في السنة الثالثة للهجرة .
الثامن : يوم التقى الجمعان بمعركة أحد بعد أن التقوا في معركة بدر .
التاسع : يوم التقى الجمعان لينصر الله الحق ) ولتكون منافع اللقاء على الإسلام والمسلمين متجددة إلى يوم القيامة .
العاشر : يوم التقى الجمعان عيد للمسلمين لما فيه من معاني النصر لهم.
الحادي عشر : يوم التقى الجمعان مناسبة للمواعظ والعبر .
الثاني عشر : يوم التقى الجمعان سقط سبعون شهيداً من المسلمين .
الثالث عشر : يوم التقى الجمعان لم ينفع المنافقين قعودهم إذ أخزاهم الله عز وجل بآية البحث .
الرابع عشر : الذين نافقوا حملوا أوزارهم لقعودهم وبثهم الأراجيف يوم التقى الجمعان ، قال تعالى [لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ] ( ).
وتقدير آية السياق على وجوه:
الأول : أو أدفعوا عن رسول الله إذ أن الذين كفروا لن يرضوا إلا بقتله, فأخزاهم والمنافقين الله عز وجل .
الثاني : أو ادفعوا عن ذراريكم والأجيال اللاحقة من المسلمين فقد كان صبر وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معارك الإسلام الأولى واقية من إتصال غزو الذين كفروا .
الثالث : أو ادفعوا الظلم والجور ومفاهيم الكفر.
الرابع : أو ادفعوا النفاق عن أنفسكم، ونزهوا قلوبهم من الشك والريب.
الخامس : أو ادفعوا بالكلمة الطيبة وشد عضد المؤمنين.
المسألة السابعة : لقد تضمنت خاتمة آية السياق الذم والتوبيخ والوعيد للذين نافقوا ، أما الذم والتوبيخ فلقبح ما يخفون في نفوسهم من الكفر ، ومن العزم على المكر بالمسلمين ، وإرادة الظلم والتعدي ، والحصار على الإسلام وموالاة وتأليب الذين كفروا .
وأما الوعيد فلأن الإخبار عن علم الله عز وجل بما يكتمون مقدمة لنزول سخط الله عز وجل بهم ، واستحقاقهم العذاب الأليم في الآخرة ، ومن خصائص هذا الوعيد أنه بشارة للمسلمين بانتقام الله عز وجل من المنافقين ودفع أذاهم وكف شرورهم ، ليكون من معاني خاتمة الآية السابقة وجوه :
الأول : والله أعلم بما يكتمون فيرد كيدهم إلى نحورهم .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا الله أعلم بما يكتم الذين نافقوا فلا تلتفتوا إليهم لأن الله يكفيكم شرورهم ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
الثالث : والله أعلم بما يكتمون , بينما لا يكتم المؤمنون إلا الإيمان والعزم على الصبر والدفاع .
الرابع : والله أعلم بما يكتمون ليكون مما يحصيه الله عليهم ، فيؤاخذ الله عز وجل المنافقين على نوايا السوء التي يبيتون .
المسألة الثامنة : ترى لماذا لم تأت خاتمة آية السياق بصيغة الخطاب لتكون موافقة للغة خاتمة آية البحث [إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] أو العكس بأن تأتي خاتمة آية البحث بلغة الغائب بدلاً من الخطاب خاصة مع إتحاد الموضوع والجهة وإرادة الذين نافقوا .
الجواب من وجوه :
الأول : لقد إنتقلت آية البحث إلى الحكم ومقدمات الجزاء بالأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بانذار الذين نافقوا ليكون من إعجاز القرآن مجئ الإنذار بنبذ الوصف المذموم للذين نافقوا والذين كفروا مجتمعين ومتفرقين كما في الجمع بين آية السياق والبحث ومجئ الثناء والبشارة للمؤمنين .
وتدل عليه الآية التالية فأما الثناء فهو لإختيار إحتمال القتل في سبيل الله، وأما البشارة فتتجلى بعظيم المنزلة التي ينالها الشهداء يوم القيامة بقوله تعالى في الآية التالية [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
الثاني : إرادة معنى الإلتفات وفق الإصطلاح البلاغي بالانتقال من لغة الغائب إلى الخطاب ، وفيه جذب للأسماع ، وزيادة في الإنتباه ، وهو مناسبة للتدبر .
الثالث : بيان قانون وهو بعد ذكر حال الذين نافقوا يأتي ما يجب على المسلمين قوله وفعله . ليلاحق إحتجاجهم الذين نافقوا.
ومن خصائص كل من آية البحث والسياق أن كل كلمة منهما حجة على المنافقين , ودعوة للمسلمين للإجتهاد في طاعة الله ، وعدم الإصغاء للأراجيف التي يبثها أهل الشك والريب .
الرابع :ليس من قوة وسلطان يستطيع إيجاد حال الإحتراز العام من هذه الأراجيف بين صفوف الجيش والمجتمع قبل وبعد المعركة إلا الله عز وجل , فتفضل بآية البحث , وفيه شاهد على أمور :
الأول : نزول القرآن من عند الله .
الثاني : الإعجاز في نزول القرآن نجوماً، وفي أوقات وسنوات متعددة ، وفي أحوال وأسباب متباينة للنزول ، وهو أمر أغاظ الكفار وأدركوا معه أن كيفية النزول هذه حرب على الكفر والنفاق ، لذا ورد قوله تعالى [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً]( ).
المسألة التاسعة : تقدير الجمع بين الآيتين : قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين).
وفيه شاهد على إرادة التحدي وتكذيب المنافقين لإدعائهم عدم حدوث قتال بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين جيش الذين كفروا ، وتتجلى أمارات القتال بالتهديد والوعيد الذي يصل إلى المدينة من كفار قريش من حين معركة بدر التي وقعت في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، ويحتمل عزم كفار قريش على الثأر لقتلاهم في تلك المعركة من جهة أوانه جهات :
الأولى : لقد نوى المشركون العودة إلى القتال قبل وقوع معركة بدر .
الثانية : لقد كان الذين كفروا يستعدون لمعركة أحد , ويظنون أنها فاصلة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قبل وبعد معركة بدر ولكنهم خرجوا إلى بدر سراعاً وعلى عجل بسبب رسول أبي سفيان إليهم بتعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لقافلتهم ، أي لم يكن خروجهم إلى معركة بدر هو الذي يبغون ويتهيؤون له ، كما أن هذا الخروج لم ينسخ أو يسقط ما يستعدون له ، وهو من التمادي في الكفر والعناد، والإصرار على محاربة النبوة والتنزيل لذا توعدهم الله عز وجل بأشد العذاب .
الثالثة : أصّر المشركون على الرجوع للقتال عند سقوط سبعين قتيلاً منهم يوم بدر .
الرابعة : بعد رجوع من بقي من المشركين إلى مكة اجتمعوا في دار الندوة حيث يتخذون قرار الحرب والسلم ونحوهما وعزموا على الثأر وتجهيز الجيوش وقيل أنهم استأجروا الفين من الأحباش للخروج معهم للقتال في معركة أحد .
الخامسة : ظهور الحزن والأسى في مكة على قتلاهم في معركة بدر، وتنامي المناجاة بالثأر معه ، لذا قام رؤساء قريش بنهي أهل مكة عن النياحة والبكاء على قتلاهم في معركة بدر ، وكانت المرأة تبكي على بعير لها قد هلك أو فُقد فيأذنون لها ويسكتون عنها ، ولا يأذنون ببكاء الأم او الأخت أو البنت أو الأب على القتيل من كفار قريش في معركة بدر، وهو من الأذى العقوبة العاجلة للكفار , قال تعالى [وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمْ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ]( ).
السادسة : إصرار الذين كفروا على الثأر عند طوافهم على القبائل لجمع الأعوان .
ولا تعارض بين هذه الوجوه فقد أحس المشركون بالذل والهوان بسبب خسارتهم في معركة بدر ولم يعلموا أن ذلهم بالتلبس بالكفر وإصرارهم على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستديم , ويتصف هذا الذل بأنه يتغشى الدنيا والآخرة .
العاشرة : الضمير [هِمْ] في [يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ] لتتكرر النسبة إلى الذين نافقوا في ذات الموضوع والمسألة بصيغة الفاعل بواو الجماعة وبالضمير[هِمْ] أعلاه لتبين الآية في مفهومها تقسيماً للقول من وجوه :
الأول : القول الذي لا يتعدى اللسان ومن أسرار نسبته إلى الذين نافقوا أنه حجة عليهم .
الثاني : القول الذي يخرج على الألسنة ليعبر عما في القلب .
الثالث : القول المباين والمناقض لما في القلوب ، وهو الذي يتصف به الذين نافقوا .
وورد عن ابن عباس في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ]( ) (قال: هم المنافقون)( ).
( قال السدي : نزلت في رجل من الأنصار زعموا أنه أبو لبابة بن عبد المنذر أشارت إليه قريظة يوم حصرهم ما الأمر؟ وعلى ما نزل من الحكم؟ فأشار إلى حلقه أنه بمعنى الذبح) ( ).
وتبين بعده عن النفاق وأنه جاء بتلك الإشارة التي هي كالزلة
وكان أبو لبابة ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك هو وأوس بن خدام وثعلبة بن وديعة وكعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أميه .
وعند عودة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك قام أبو لبابة وأوس وثعلبة فربطوا أنفسهم بالسواري ، وجاءوا بأموالهم وسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتقبلها منهم لأنها كانت سبب تخلفهم لإنشغالهم بها .
وعن جابر وفي حديث قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لا أحلهم حتى يكون قتال ” . قال: فنزل القرآن ” وآخرون اعترفوا بذنوبهم)( ).
وفي الخبر المشهور : لا أحلهم حتى أومرَ فيهم .
وأبو لبابة بن المنذر الأوسي الأنصاري أختلف في اسمه على وجوه :
الأول : اسمه بشير قاله موسى بن عقبة وعروة .
الثاني : اسمه رفاعة ، قال إسحاق( ) وقيل رفاعة ومعشر أخوان لأبي لبابة .
الثالث : اسمه مروان عن الزمخشري.
وعن ابن اسحاق أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رد أبا لبابة والحارث بن حاطب بعدما خرجا معه إلى بدر ، فأمر أبا لبابة على المدينة وضرب لهما بسهميهما وأجرهما مع أصحاب بدر ، وأحتسبا من البدريين، وقالوا : كان أحد النقباء ليلة العقبة .
وكانت راية بني عمرو يوم الفتح معه إذ حاصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بني قريظة أحدى وعشرين ليلة ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يصالحهم واريحا من أرض الشام ، فأبى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ ، فسألوا النبي صلى الله عليه وآله أن يرسل إليهم أبا لبابة ليستشيروه لأنه مناصح لهم ، وكانت عياله وماله عندهم فبعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يوصيه بوصية خاصة وحينما وصل إليهم ، قالوا له : ما ترى يا أبا لبابة ؟ في نزولنا على حكم سعد بن معاذ؟.
فاشار أبو لبابة بيده إلى حلقه كناية عن الذبح وأنه القتل ، فنزل جبرئيل فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان أبو لبابة يحرضهم على القتال والتفاني فيه ، وفي قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ] ( ) .
( قال الكلبي والزهري: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر الانصاري،
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصلح على ما صالح إخوانهم من بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام، فأبى أن يعطيهم ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة، وكان مناصحا لهم، لان عياله وولده وماله كانت عندهم فبعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتاهم فقالوا: ما ترى يا أبا لبابة ؟ أننزل على حكم سعد بن معاذ ؟
فأشار أبو لبابة بيده إلى حلقه: إنه الذبح فلا تفعلوا، فأتاه جبرئيل فأخبره بذلك، قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، فنزلت الآية فيه، فلما نزلت شد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي، فمكث سبعة أيام لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له: يا أبا لبابة قد تيب عليك، فقال: لا والله لا احل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يحلني، فجاءه فحله بيده، ثم قال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يجزيك الثلث أن التصدق به، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام))( ).
وفي الآية (قال عطا: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبرئيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فاخرجوا إليه واكتموا، قال: فكتب إليه رجل من المنافقين: إن محمدا يريدكم، فخذوا حذركم، فأنزل الله هذه الآية) ( ).
لقد إلتفت وندم أبو لبابة على فعله , وخرج من ديار بني قريظة إلى المسجد النبوي وربط نفسه بسارية من سواري المسجد حتى تاب الله عليه وحله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده ، وعندما خرج أبو لبابة من بني قريظة لم يمر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكأنه يعلم بأن جبرئيل أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما فعل ، فذهب إلى المسجد النبوي وشد حبلاً في عنقه ، ثم شد طرفه الآخر إلى أحد اسطوانات المسجد وقال لا أحله حتى أموت أو يتوب الله عليّ ، ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما فعل وما قال وتفويض أمره إلى الله ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
أما لو أتانا لأستغفرنا له ، فاما إذا قصد إلى ربه فالله أولى .
وكان أبو لبابة مع ما فيه من الشدة والأذى يصوم النهار ولا يأكل بالليل إلا ما يسد رمقه، إذ كانت بنته تأتيه بعشائه وتحله لقضاء الحاجة إلى أن نزلت توبته ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيت أم سلمة.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
(يا ام سلمة قد تاب الله على أبي لبابة، فقالت: يا رسول الله أفاؤذنه بذلك ؟ فقال: لتفعلن فأخرجت رأسها من الحجرة فقال: يا أبا لبابة أبشر قد تاب الله عليك، فقال: الحمد لله، فوثب المسلمون يحلونه، فقال: لا والله حتى يحلني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) بيده .
فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال: يا أبا لبابة قد تاب الله عليك توبة لو ولدت من أمك يومك هذا لكفاك، فقال: يا رسول الله أفأتصدق بما لي كله ؟ .
قال: لا، قال: فبثلثيه ؟ قال: لا .
قال: فبنصفه قال: لا .
قال: فبثلثه ؟ قال: نعم، فأنزل الله: ” وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم * خذ من أموالهم صدقة “( ) إلى قوله: ” أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم) ( ).
وما زالت هذه السارية تسمى باسمه كما تسمى اسطوانة التوبة وعلى هذا قد يكون أبو لبابة قد ربط نفسه في سارية المسجد مرتين .
وتوفى أبو لبابة في بدايات خلافة الإمام علي عليه السلام .
الحادية عشرة : الضمير [هم] في قوله تعالى [مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ] لبيان التضاد بين ما ينطق به المنافقون وما يضمرون في قلوبهم .
لقد ورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال أَيُّهَا اَلنَّاسُ مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَ سَدَادَ طَرِيقٍ فَلاَ يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ اَلرِّجَالِ أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي اَلرَّامِي وَ تُخْطِئُ اَلسِّهَامُ وَ يُحِيلُ اَلْكَلاَمُ وَ بَاطِلُ ذَلِكَ يَبُورُ وَ اَللَّهُ سَمِيعٌ وَ شَهِيدٌ أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ اَلْحَقِّ وَ اَلْبَاطِلِ إِلاَّ أَرْبَعُ أَصَابِعَ فَسُئِلَ ع عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ هَذَا فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ وَ وَضَعَهَا بَيْنَ أُذُنِهِ وَ عَيْنِهِ ثُمَّ قَالَ اَلْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ وَ اَلْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ)( ).
لإرادة التباين بين الحواس ولكن ليس ثمة مسافة بين الفم والقلب وهما من سنخية واحدة بلحاظ أن الفم مرآة لما في القلب وهو الظاهر والمتبادر ، ولكن المنافقين خالفوا الأصل والتطابق بين اللسان والفؤاد ، ولم يكن الناس يعلمون هذه الحقيقة لولا أن تفضل الله عز وجل بآية البحث وهي نعمة عظمى على المسلمين والناس جميعاً .
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على قبح ما يضمر المنافقون في نفوسهم ، والذي يترشح من الجوارح عندما يجد منفذاً فتفضل الله بآية البحث لسد الذرائع على الذين في قلوبهم مرض .
وهل في الآية إنذار للذين نافقوا بأن الله عز وجل يخرج ما في قلوبهم من الكفر وضروب الضلالة , الجواب نعم ، وهو الذي تشير إليه خاتمة الآية السابقة .
وإن قلت قد ذكرت آية البحث قولاً للذين نافقوا يدل على صدودهم عن سبيل الله كما في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] الجواب حتى هذا القول هو خلاف ما في قلوبهم ، إذ أنهم يضمرون أمرواً :
الأول : الشماتة بالشهداء .
الثاني : الصد عن سبيل الله.
الثالث : دعوة المسلمين للقعود من الجهاد .
الرابع : تخويف الناس من دخول الإسلام واتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سنن التقوى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
الخامس : محاولة منع المسلمين والمسلمات من توجيه اللوم للذين نافقوا على إنخزالهم من وسط الطريق إلى معركة أحد .
السادس : إعانة الذين كفروا .
السابع : تمني هزيمة المسلمين .
الثامن : رغبة الذين نافقوا في ضعف الإسلام في المدينة بعد ان رأوا عشق وتقيد المسلمين والمسلمات بأداء الفرائض .
الثانية عشرة : واو الجماعة [بِمَا يَكْتُمُونَ] للدلالة على إخفاء الذين نافقوا المكر والكيد الكبير بالمسلمين وفيه إنذار للذين آمنوا .
وعن (إبراهيم عن الأسود قال كنا في حلقة عبد الله فجاء حذيفة حتى قام علينا فسلم ثم قال : لقد أنزل النفاق على قوم خير منكم قال الأسود سبحان الله إن الله يقول { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } ( ). فتبسم عبد الله وجلس حذيفة في ناحية المسجد فقام عبد الله فتفرق أصحابه فرماني بالحصا
فأتيته فقال حذيفة : عجبت من ضحكه وقد عرف ما قلت لقد أنزل النفاق على قوم كانوا خيرا منكم ثم تابوا فتاب الله عليهم)( ).
أي أن حذيفة رمى ابن الأسود بالحصا أمارة على دعوته له وأراد حذيفة البيان بأن قوماً من المنافقين من طبقة الصحابة ابتلوا بالنفاق ثم تابوا ونالوا شرف التفضيل على صحابة عبد الله .
ويكنى حذيفة ابا عبد الله وهو من غطفان وحليف لبني عبد الأشهل من الأنصار ، وأمه من رهطهم واسمها الرباب بنت كعب بن عبد الأشهل ممن بايعت مع النساء , وقتل أبوه في معركة أحد .
قتله واحد من المسلمين يظنه من المشركين فدفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ديته، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حذيفة باسماء المنافقين ، ليبقى شاهداً عليهم ويخبر عمن تاب منهم قبل وبعد إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى وفيه دعوة لهم للتوبة ، وكان عمر لا يصلي على رجل لم يصل عليه حذيفة ، وشهد حذيفة معركة نهاوند ، ولما قتل النعمان بن مقرن أخذ الراية ، وكان فتح همزان والري( ) والدينور على يد حذيفة سنة اثنتين وعشرين .
وفي تلك السنة (شكا أهل الكوفة سعداً، فعزله عمر. وولى عمار بن ياسر الصلاة، وعبد الله بن مسعود بيت المال) ( ).
وتوفى حذيفة سنة ست وثلاثين بعد خلافة الإمام علي عليه السلام باربعين يوماً في المدائن إذ كان والياً عليها من أيام عمر (عن حذيفة قال : لقد حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان وما يكون حتى تقوم الساعة. ) ( ).
الثالثة عشرة : تتضمن آية السياق حث للذين نافقوا وغيرهم بتكثير سواد المسلمين ، فيأتي الأمر والخطاب إلى الذين نافقوا بالدفع والدفاع فيستجيب له غيرهم من المسلمين ، ويكون حجة على قائله للمبادرة إلى الدفاع ، كما يكون حجة على المنافقين إلى يوم القيامة (عن أبي حازم قال : سمعت سهل بن سعيد يقول : لو بعت داري فلحقت بثغر من ثغور المسلمين ، فكنت بين المسلمين وبين عدوّهم . فقلت : كيف وقد ذهب بصرك؟ قال : ألم تسمع إلى قوله الله { تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا} أسوّد مع الناس ففعل)( ).
ومن مصاديق الدفاع في آية البحث أمور :
الأول : المرابطة في الثغور .
الثاني : حراسة أطراف المدينة .
الثالث : حفظ أموال المسلمين ، ومنع حدوث النهب والسرقة أثناء إنشغال النبي والمهاجرين والأنصار بقتال العدو .
الرابع : مد المقاتلين بالسلاح والعتاد ، وإعارة الرواحل والسيوف والدروع .
الخامس : دفع مغالطات وأراجيف المنافقين وهل يصح مخاطبة المنافق نفسه ، بدفع قولهم [لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ] ( ) أو قولهم كما في آية البحث [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] الجواب نعم .
ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : فادفعوا نزغ الشيطان عن نفوسكم .
الثاني : فأدفعوا ما تكتمون من الكفر ومفاهيم الضلالة عن أنفسكم ، وهذا الدفع من مصاديق خاتمة الآية [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] ( ) أي أن هذا الإخبار دعوة للذين نافقوا لأصلاح أنفسهم والتنزه عن النفاق ، لبيان قانون وهو من خصائص الإخبار القرآني البعث على عمل الصالحات وإجتناب السيئات .
الثالث : فإدفعوا سلطان الذين كفروا عن أنفسكم، قال تعالى[وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ]( ).
الرابع : فادفعوا عن أطراف المدينة بالمرابطة فيها، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الخامس : فادفعوا جيش الذين كفروا عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، لأصل التبادر، وحمل الكلام على الحقيقة.
السادس : فادفعوا جيش المشركين عن المدينة.
السابع : فادفعوا كما كنتم تدفعون الذين يهاجمون المدينة والتي كانت تسمى يثرب.
الثامن : فادفعوا العدو الكافر كما يدفع إخوانكم من المهاجرين والأنصار.
التاسع : فادفعوا عن النبوة والتنزيل.
العاشر : فادفعوا النفاق عن أنفسكم.
الحادي عشر : فادفعوا المناجاة بالإثم والعدوان.
الثاني عشر : فادفعوا بخروجكم إلى الميدان المصيبة وكثرة القتل والشهداء.
وهذا المعنى من إعجاز هذه الآية، إذ يؤاخذ الذين نافقوا الشهداء على قتلهم في سبيل الله، بينما لو خرجوا معهم لدافع بعضهم عن بعض.
الثالث عشر : فادفعوا أنفسكم عن مواطن النفاق وأبعدوا آذانكم عن سماع أقوال أصحابكم الذين نافقوا، قال تعالى[وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا]( ).
الرابع عشر : فادفعوا عن المؤمنين من المهاجرين والأنصار.
الخامس عشر : فادفعوا عن الذين قتلوا في سبيل الله.
السادس عشر : فادفعوا عن أنفسكم عذاب يوم القيامة, وفي التنزيل[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
وهل الذين نافقوا مشمولون بالنداء المبارك أعلاه , الجواب نعم لإيمانهم الظاهري .
وتتضمن آية البحث الإخبار عن توجيه الذين نافقوا لوماً خفياً إلى الشهداء , فجاءت آية البحث بحث وندب الذين نافقوا إلى الدفاع عن الشهداء، وإن قصروا بالأمر وأصروا على الإقامة في مواطن النفاق وقد نزلت الآية التالية بالدفاع عنهم , والإخبار عن خلودهم في دار النعيم، ليتولى المسلمون والمسلمات الدفاع عنهم على نحو يومي وإلى يوم القيامة.
وعن معاذ بن أنس الجهني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِنْ مُنَافِقٍ. أُرَاهُ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يَحْمِى لَحْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ وَمَنْ رَمَى مُسْلِمًا بِشَىْءٍ يُرِيدُ شَيْنَهُ بِهِ حَبَسَهُ اللَّهُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ)( ).
الوجه الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إبتدأت آية السياق بحرف العطف الواو لبيان عطف موضوعها ومضامينها القدسية على الآية السابقة لها ، وصلتها معها وتوجه الخطاب فيها إلى المسلمين لبيان ما لحقهم من الخسارة يوم معركة أحد , أما آية البحث فأنها إبتدأت بالاسم الموصول [الَّذِينَ] والمراد الذين نافقوا .
ليفيد الجمع بين الآيتين دلالة آية البحث على أمور :
الأول : إرادة البيان .
الثاني : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفتهم لأحوال المنافقين , والتضاد الذي يتصفون به من جهة التباين بين ما يقولون ويدعون من الإيمان وبين إبطانهم الكفر والصدود .
الثالث : من إعجاز القرآن ومصاديق قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ] ( ) تفضل الله عز وجل ببيان الأمور التي تبعث الناس على حب الإيمان ، وذكر القبائح التي تصاحب الكفر والنفاق لتنفر منها النفوس ، فجاءت كل من آية البحث والسياق ليبغض الناس النفاق ، ويمتنعون عنه .
لقد انقضت وقائع معركة أحد في يوم واحد هو النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وبحضور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إماماً وقائداً لجيش المسلمين حيث أصابته جراحات بليغة ونزل الملائكة مدداً لنصرته وأصحابه من المهاجرين والأنصار ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
ومن معاني الربوبية المطلقة لله عز وجل وسعة رحمته ولطفه وكرمه أنه إذا أنزل نعمة فهو أكرم من أن يرفعها ، فنزل الملائكة مدداً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معارك الإسلام الأولى ، بدر ، أحد ، الخندق ، حنين ، لتبقى نعمة المدد من عند الله فنزلت آيات القرآن لتكون كل آية منه مدداً وعوناً للمسلمين في حال الحرب والسلم .
وليس من سلاح يدخل إلى البيوت وينفذ إلى القلوب مثل آيات التنزيل، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ) وبيان أنه ملك تصرف , وملكية الله عز وجل للأكوان وعالم الموجودات ثابتة ومتجددة وظاهرة للخلائق كلها .
لقد إحتجت الملائكة على جعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) لأن الإنسان يفسد في الأرض ويسفك الدماء بظلم وقهر وتعد ويقتل الإنسان ظلماً في الأرض فتفضل الله عز وجل وأجابهم بالحجة والبرهان [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ومن علم الله عز وجل في المقام أمور :
الأول : بعث الله الأنبياء بالدعوة إلى عبادته تعالى وعمل الصالحات وإجتناب السيئات ، ومنها القتل وسفك الدماء ظلماً .
ومن الآيات في المقام أن أول إنسان هبط إلى الأرض وهو آدم كان نبياً رسولاً ، وورد عن أبي ذر أنه قال (قلت يا رسول الله أرأيت آدم أنبياً كان؟ قال : نعم. كان نبياً رسولاً كلمه الله قبلاً)( ).
ومن وجوه الإبتلاء في الدنيا هبوط حواء زوج آدم معه ، وقد هبط معهما إلى الأرض إبليس ليكون فتنة وسبباً من أسباب الفساد في الأرض، وليكون من معاني قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) أي أن أكثر أسباب الفساد في الأرض من إبليس الذي كان مع الملائكة في الجنة، وكان يتصف بالإنقطاع إلى العبادة .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (ان إبليس ركع ركعتين في السماء أربعة آلاف سنة)( ).
ومن مصاديق علم الله عز وجل نزول كل من آية البحث وآية السياق لبيان مسائل:
الأولى : النصرة والتعضيد بآية البحث .
الثانية : النصرة بآية السياق .
الثالثة : النصرة بالجمع بين آية البحث والسياق .
الثاني : بيان ظلم وتعدي الذين كفروا من قريش باصرارهم على الهجوم والقتل ، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية والعقلية في المقام أمور :
أولاً : زحف ثلاثة آلاف رجل من قريش وحلفائهم لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : صيرورة طائفة من جيش المشركين قريبين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاروا يرمونه بالحجارة، ولم يستطيعوا الوصول إليه لواقية وحفظ من عند الله له.
وهل فيه شهادة على نزول الملائكة لنصرته الجواب نعم، فإن قلت وردت آية المدد الملكوتي بصيغة الجمع[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( )، الجواب نعم إذ يشمل خطاب وصيغة الجمع النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وهم الإمام والقائد، بالإضافة إلى أن نجاته يوم أحد نصر وفضل من الله عز وجل على كل مسلم إلى يوم القيامة.
ثالثاً : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إعراضاً عن الظالمين والكافرين ، الذين أصروا على قتله .
وهل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة مهاجراً خائفاً من مصاديق قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ) الجواب نعم من وجوه :
1- إستدامة دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى عبادة الله وإلى التصديق بنبوته ، لبيان إمتثال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتم وأحسن إمتثال لأمر الله تعالى بقوله تعالى [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ]( ).
2- دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذوي القربى للهجرة معه ، وقد هاجر معه عدد منهم مثل الإمام علي عليه السلام وفاطمة الزهراء وعمته صفية بنت عبد المطلب وفاطمة بنت أسد .
3- عدم إلتفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى إغراءات كبار كفار قريش لترك الدعوة إلى الله .
ومن خصائص النبوة تجاهر النبي بذم الأوثان وما يعبد الناس من دون الله، إذ يبين كل نبي أن عبادة غير الله باطلة وفيها الهلاك ، ولم يرض رؤساء قريش بذم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأوثان والأصنام، وفي السنة الرابعة لبعثته اشتدت عداوة رؤساء الكفر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة بعد أن رأوا دخول الناس والمستضعفين منهم خاصة الإسلام وتبصر الناس بالقبح الذاتي لعبادة الإصنام وضلالة الرؤساء ، ولما رأى وجهاء قريش حرص وعناية أبي طالب بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن أخيه جاء وفد منهم إليه وقالوا : يا أبا طالب إن ابن أخيك قام بسب آلهتنا ، وفيه إهانة وإيذاء لنا لما في هذا السب من فضح لسفاهة الذين يعبدون الأصنام ، ويلجأون إليها متوسلين ومتقربين إلى الله عز وجل ، وفي التنزيل حكاية عنهم [مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى]( ) ثم عرج وجهاء قريش إلى مسألة وهي أن سبّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للأصنام وعبادة الأوثان شتم لآبائهم وهم في قبورهم ، لأنهم غادروا الدنيا وهم مقيمون على التزلف لها، وطمس لتأريخ ومجد قريش بين القبائل.
وخيروا أبا طالب بين أمرين :
الأول : كفالة وكفاية أبي طالب بأن يتجنب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفار قريش وإصرارهم على عبادة الأوثان .
الثاني : التخلية بين كفار قريش وبين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتحتمل هذه التخلية مسائل :
الأولى : تقييد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحبسه، قال تعالى[وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( )، ومن إعجاز القرآن أن الآية أعلاه من مكر الله عز وجل وفضح الذين كفروا وإلحاق الخزي بهم.
الثانية : منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الإتصال مع الناس والدعوة إلى الله .
الثالثة : تغريب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بعض ضياع وحيطان قريش خارج مكة ، فقد كانت لهم بساتين في الطائف مثلاً .
الرابعة : الإستهزاء بالنبي وإغواء السفهاء به .
الخامسة : تجويع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحرمانه من الطعام .
السادسة : تعذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما كانوا يعذبون أصحابه .
السابعة : تضييع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطمس أخباره .
الثامنة : قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذه المسائل من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، ولو دار الأمر بين الأخف والأشد فان الذين كفروا يلجأون إلى الأشد والأكثر ضرراً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام .
نعم يكون هذا اللجوء على نحو التدرج في الأذى ولكن [يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ] ( ) فقد أبى الله عز وجل أن تصل أيديهم إلى النبي الأكرم وأن يكونوا برزخاً دون نزول وتبليغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الآيات للمسلمين والناس ، ويدل عليه بالدلالة التضمنية قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ]( ) بتقريب وهو أن الأمر من الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ الرسالة دليل على حفظ الله عز وجل له وتفضله تعالى بازاحة الموانع التي تحول دون التبليغ سواء كانت من البشر أو من غيرهم ، وفي يوسف عليه السلام ورد قوله تعالى [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ) لبيان تفضل الله بعدم تمكن امرأة العزيز من فتنة يوسف عليه السلام ، ثم دخل السجن وأقام فيه سنوات.
ومن وجوه تفضيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلامته من السجن وتفضل الله عز وجل بنزول القرآن عليه على النجوم والوقائع والأحداث، فلم ينزل عليه القرآن دفعة واحدة ، وهو من المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان عدد من الوافدين من القبائل والأمصار إلى المدينة ممن دخل الإسلام أو لم يدخله بعد يبقون في المدينة أياماً ليروا كيفية نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكيف يأخذه العرق الشديد في اليوم الشديد البرودة .
(قال زيد بن ثابت : كنت أكتب بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتف {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون}( ) وابن أم مكتوم عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله قد أنزل الله في فضل الجهاد ما أنزل ، وأنا رجل ضرير فهل لي من رخصة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا أدري . . . قال زيد بن ثابت: وقلمي رطب ما جف حتى غشي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوحي، ووقع فخذه على فخذي حتى كادت تدق من ثقل الوحي ، ثم جلى عنه فقال لي: اكتب يا زيد {غير أولي الضرر})( ).
ثالثاً : الحصانة السماوية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته عدم هجوم جيوش الدولة الفارسية والدولة الرومانية على المدينة المنورة، وقد كان الروم في الشام , ووكيل كسرى يحكم في اليمن ، ولعلهم اتعظوا من هجوم أبرهة وهلاكه وجنوده .
وقال عبد المطلب يشكر الله عز وجل ويثني عليه .
(أنت منعت الجيش والأفيالا … وقد رعوا بمكة الأفيالا
وقد خشينا منهم القتالا … وكل أمر منهم معضالا
شكراً وحمداً لك ذا الجلالا) ( ).
كما تخشى الجيوش الكبيرة الزحف والتقدم في صحراء الجزيرة العربية من جهات :
الأولى : طول المسافة .
الثانية : شدة الحر .
الثالثة : الأرض جرداء خالية ، يصعب معها توفير الزاد للجنود والعلف للخيل والرواحل خاصة وان جنود كسرى وقيصر لا يطيقون أكل الخشن ، والتدبير فيه .
الرابعة : قلة الماء في الجزيرة ، فصحيح أن هناك آباراً في الطريق إلا أنها قليلة، وتكفي للمارة والقوافل الصغيرة .
الخامسة : عدم إطاقة العرب لوجود الجيوش والإغارة عليها ليلاً أو نهاراً .وهذه الموانع من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ).
السادسة : قلة المنافع والغنائم من غزو الجزيرة , وفيه تعطيل لشطر من الجيش , مع إنشغال كل من الروم والفرس بعضهم ببعض , وفي التنزيل [غُلِبَتْ الرُّومُ *فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ] ( ).
ومن أمر الله صدّ جيوش الدول العظمى عن دار الوحي والتنزيل والهجرة .
ومن الآيات أن الله عز وجل جعل بيته الحرام في بقعة جرداء ، وصحراء قاحلة كيلا تصل إليه أيدي الظالمين وينتشر الفسوق من حوله فلما ترسخت أحكام الإسلام في الأرض وصار ينادى لحج بيت الله الحرام في مشارق الأرض ومغاربها إزدانت مكة وحوالي البيت بالأشجار والقصور الشاهقة وتحقق سلامة البيت وأهله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ] ( ).
رابعاً : يمكن القول من الآيات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تخلف الدول الكبرى عن إغاثة وإعانة كفار الجزيرة من قريش ونحوهم ، وقد قام بعض كفار مكة وكفار المدينة وبعض أهل الكتاب فيها بالذهاب إلى ملك الروم وإلى ملك فارس ، ومنهم من طلب المدد لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخذلهم الله وأشغلهم عن النبوة والتنزيل ومن الملوك آنذاك من بلغته المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من ورث عن آبائه البشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : عزوف جيوش الدول الكبرى آنذاك عن دخول جزيرة العرب خشية غدر أهلها ، فهم أدلاء لهم في النهار غزاة وناهبون لمعسكرهم في الليل .
وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : جذب العرب إلى مقامات الإيمان وتحليهم بالتقوى .
الثانية : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثالثة : إنقطاع الغزو والنهب بين القبائل لسيادة الأخوة في الله بينهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) فاذا كان العرب يتعاهدون قبل الإسلام الأشهر الحرم ، ويمتنعون عن القتال والقتل فيها ، فقد جعل الله عز وجل برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيام السنة كلها أمناً وسلاماً ، وهو من عمومات قوله تعالى [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ] ( ).
المسألة الثانية : أخبرت آية السياق عن وقوع القتال بين جيش الإسلام بامامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجيش الذين كفروا من قريش وحلفائهم من كل:
أولاً : كنانة .
ثانياً : الأحابيش ، سموا بهذا الاسم لأنهم اجتمعوا في جبل حبش بأسفل مكة ، وتحالفوا بالله أنهم يد على غيرهم ما سجى الليل وأوضح النهار ،وأختلف فيهم ومنهم :
1- إنهم بنو المصطلق والحباء بن سعد بن عمرو ، وبنو الهون بن خزيمة.
2- قال الجوهري : هم بطن من قريش ، ولكنهم أعم في النسب .
3- هم بطون من كنانة من خزيمة .
4- من عبد مناف بن قصي بن كلاب القرشي الكناني .
وسنذكر بحثاً مستقلاً عن حلف الأحابيش وسببه وزمانه ، إذ لا يصح قتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : مقام النبوة وأنه لم يأت إلا بالدعوة إلى الله وعبادته, قال تعالى [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ).
الثانية : توالي آيات القرآن التي تحذر من البقاء على الكفر , وتزجر عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالثة : لقد كان حلف الأحابيش ضد غيرهم من القبائل وأنهم (يد على غيرهم) والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من خاصة قريش وليس من غيرهم، لذا احتج فيما بعد الأحابيش على كفار قريش كما في صلح الحديبية .
ثالثاً : حضر مع جيش المشركين للقتال في معركة أحد مائة شخص من ثقيف .
وكان مع المشركين ماءتا فرس كما خصصوا خمس عشرة ناقة عليها الهوادج للنساء اللائي جئن لدق الطبول وإثارة العزائم والتذكير بالثأر لقتلاهن في واقعة بدر ، ومنهن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان .
رابعاً : عبيد وغلمان قريش , ومنهم وحشي قاتل حمزة، وقتل حمزة (يوم أحد على رأس اثنين وثلاثين شهرا من الهجرة وهو يومئذ ابن تسع وخمسين سنة، كان أسن من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأربع سنين، وكان رجلا ليس بالطويل ولا بالقصير، قتله وحشي بن حرب وشق بطنه، وأخذ كبده فجاء بها إلى هند بنت عتبة بن ربيعة، فمضغتها، ثم لفضتها، ثم جاءت فمثلت بحمزة، وجعلت من ذلك مسكتين ومعضدين وخدمتين حتى قدمت بذلك وبكبده مكة.
وكفن حمزة في بردة، فجعلوا إذا خمروا بها رأسه بدت قدماه، وإذا خمروا بها رجليه تنكشف عن وجهه، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: غطوا وجهه، وجعل على رجليه الحرمل)( ).
المسألة الثالثة : لقد تضمنت آية السياق تسمية يوم معركة أحد بأنه (يوم التقى الجمعان) .
وأصل اللقاء والتلاقي للمودة والمناجاة وأسباب بعث الطمأنينة والسكينة في النفوس، (والتلقي هو الإستقبال) ( )، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لاَ تَلَقَّوُا الأَجْلاَبَ فَمَنْ تَلَقَّى مِنْهُ شَيْئًا فَاشْتَرَى فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إِذَا أَتَى السُّوقَ)( )، أي لصاحب السلعة كالقروي الخيار عند دخول السوق، ومعرفة السعر الحقيقي لسلعته لخيار الغبن، ونفي الجهالة والغرر ولما في تلقيها وإستقبالها من التضييق على أهل السوق وأن لم يصل إلى مرتبة الإحتكار.
ولكن ورد في القرآن بارادة الحرب والقتال ، وفيه شاهد على جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه وأنهم كانوا يلتقون مع الذين كفروا بلمعان السيوف وجريان الدماء ، ومع هذا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لا يثأرون ولا ينتقمون لسقوط الشهداء وكثرة الجراحات التي أصابتهم من المشركين ، فما أن يعلن أحدهم إسلامه وينطق بالشهادتين حتى تزول كل ضغينة نحوه ويحضر صلاة جماعة خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وربما قرّبه وأنصت إليه الرسول فلا يثير الأمر حفيظة المهاجرين والأنصار.
وعن جبير بن مطعم( ) قال: كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه في مسجده منصرفه من الجعرانة ، فطلع هبار بن الأسود من باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما نظر القوم إليه قالوا: يا رسول الله، هبار بن الأسود ، فقال: قد رأيته، فأراد رجل القيام إليه ، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن اجلس .
ووقف عليه هبار ، فقال: السلام عليك يا نبي الله؟ إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، ولقد هربت منك في البلاد، وأردت اللحوق بالأعاجم، ثم ذكرت عائدتك وفضلك وصفحك عمن جهل عليك، وكنا يا نبي الله أهل الشرك، فهدانا الله بك، وسعدنا بك من الهلكة، وكنا يا نبي الله أهل الشرك، فاصفح عن جهلي، وعما كان يبلغك عني، فإني مقر بسوأتي، معترف بذنبي .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد عفوت عنك، فقد أحسن الله إليك حيث هداك إلى الإسلام، والإسلام يجب ما قبله)( ).
لقد بينت آية السياق إختصاص الدعوة للقتال بأنه في سبيل الله ، ولم تأت هذه الدعوة إلا بعد أن صار المشركون عبدة الأوثان على مشارف المدينة لا يرضون إلا بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وكأن آية البحث تقول :
أولاً : قاتلوا من أجل درء القتل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ) , مع أن الله عز وجل كتب له الحفظ والسلامة من القتل في معركة أحد .
ثانياً : قاتلوا ليتوالى نزول آيات القرآن .
ثالثاً : قاتلوا دفاعاً عن أنفسكم لأن المشركين يجهزون على المسلمين وأهل المدينة، لذا ذكرت آية البحث الدفاع والدفع على نحو الخصوص بقوله تعالى(او أدفعوا).
رابعاً : قاتلوا لحفظ بيضة الإسلام .
خامساً : قاتلوا دفاعاً عن المال والعرض .
سادساً : قاتلوا لمنع الذل والهوان عنكم وعن أبنائكم .
سابعاً : من الآيات في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مجيء قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) في أول نظم القرآن ، وتلاوة كل مسلم ومسلمة له عدة مرات كل يوم على نحو الوجوب العيني ، وشرّعت الصلاة في مكة وقبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة .
فما أن يدخل أحد من أهل المدينة الإسلام ليحضر الصلاة اليومية في المسجد النبوي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يسمعه يتلو سورة الفاتحة ، لبيان أن القتال في سبيل الله دفاع عن الحمد لله سبحانه والثناء عليه، وفي هذا الدفاع جهاد لإستدامة الصلاة والفرائض العبادية الأخرى خاصة وان الصيام والزكاة فرضا في السنة الثانية للهجرة.
ليدخل المسلمون إلى معركة أحد ، وقد أدوا الفرائض ، وفيه تقريب للنصر ، وصرف للبلاء , ومنع من كثرة القتل بين صفوفهم ، وفي التنزيل [إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ]( ) بلحاظ أن أداء المسلم للفرائض العبادية إحسان للذات والغير الموجود والمعدوم ، وهل فيه إحسان إلى المنافقين ، الجواب نعم ، وهو حجة عليهم ، وكأن آية السياق تدعوهم لأمور :
الأول : دافعوا لإقامة الصلاة .
الثاني : دافعوا لصيام شهر رمضان .
ولما تفضل الله تعالى وقال [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] ( ) فانه سبحانه وقى المسلمين والمسلمات أسباب منع أداء هذا الفرض العبادي , ومنه أمور :
أولاً : دفع كيد الذين كفروا .
ثانياً : منع المشركين من إستباحة المدينة .
ثالثاً : توبيخ المنافقين على قعودهم عن الدفاع عما كتب الله عز وجل عليهم خاصة وأن المنافقين مشمولون بالنداء في الآية أعلاه ، بلحاظ أنه سور جامع لكل من نطق بالشهادتين .
الثالث : دافعوا عن فريضة الزكاة ، وما فيها من الإعانة للفقراء والمساكين وعموم ذوي الحاجات، قال تعالى[إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ…]( ).
الرابع : دافعوا عن فريضة الحج وتنزيه البيت الحرام من الأصنام وعبادتها .
ووجوه الدفاع هذه من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة بقوله تعالى تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا ويحتمل الدفاع عن الفرائض بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : انه من القتال في سبيل الله .
الثاني : أنه من الدفاع في قوله تعالى [أَوْ ادْفَعُوا].
الثالث : انه فرد جامع للأمرين معاً للقتال والدفاع .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، ليكون من مصاديق الآية أعلاه وجوه :
الأول : دافعوا عن الصلاة .
الثاني : دافعوا عن الصيام .
الثالث : دافعوا عن الزكاة .
الرابع : دافعوا عن الحج .
الخامس : دافعوا عن الخمس ، وعن الفقراء والمساكين الذين ينتفعون من الصدقات والحقوق الشرعية .
ومن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنته الدفاعية مجئ آية الصدقات بدفع سهم إلى[الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ] ( ) وهل يدخل المنافقون فيهم الجواب فيه تفصيل، فقد يدخل فيهم بعض المنافقين دون غيرهم.
ومع تعلق مضامين آية البحث بمعركة أحد التي وقعت في السنة الثالثة للهجرة فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم من غنائم معركة حنين التي جرت أحداثها في السنة الثامنة للهجرة وبعد فتح مكة مع كثرة الغنائم يومئذ وهي :
الأول : أربعة وعشرون ألفاً من الإبل .
الثاني : أربعون ألفاً من الشياء .
الثالث : أربعة آلاف أوقية من الفضة .
الرابع : ستة آلاف من السبي .
وقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوزيع أربعة أخماس الغنائم على أفراد الجيش الذي معه ، وكانت تسعة عشر ألفاً ومائتين من الإبل ، واثنتين وثلاثين ألف شاة ، وثلاثة آلاف ومائتي أوقية من الفضة وأربعة آلاف وثمانمائة من السبي .
ويعادل البعير عشرة من الشياه ،وكان عدد أفراد جيش المسلمين اثني عشر الفاً ، وقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتقسيمها بالتساوي بينهم كما في حديث عبادة بن الصامت ، نعم كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطي الفارس ثلاثة أضعاف الراجل أي من كان معه فرس يأخذ ثلاثة أضعاف الراجل في القتال ، لأنه اشترى الفرس وتعاهده من ماله وتولى العناية به ، وفيه ترغيب للمسلمين باقتناء الخيل وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ..] ( ) .
وكان يصيب الرجل من المسلمين يومئذ بعيران أو عشرون من الشياء ، وقد يحصل الفارس منهم على أربعة من الإبل .
وقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوزيع أكثر الخمس الخاص به على المؤلفة قلوبهم لجلبهم إلى الإسلام والهدى وعى غيرهم ، وفيه شاهد بأن أحكام آية الصدقات الواردة في الزكاة قد تشمل الخمس ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
(عن أبى موسى قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة ومعه بلال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعرابي فقال:
ألا تنجز لي ما وعدتني ؟ فقال له ” أبشر ” فقال: قد أكثرت علي من أبشر ! فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان فقال: ” رد البشرى فاقبلا أنتما ” ثم دعابقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه، ثم قال ” اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما وأبشرا ” فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر: أفضلا لامكما.
فأفضلاها منه طائفة.) ( ).
ومن الإعجاز أن الخسارة الفادحة لثقيف وهوازن في معركة حنين بسبب شدة ظلمهم وتماديهم في التعدي ، فقد رأوا فتح مكة بمعجزة ودخول قريش وغيرها في الإسلام ، ومع هذا أصروا على القتال بخطط محكمة
فتفضل الله عز وجل بنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وإرادته إلحاق الخزي بالذين كفروا يوم حنين لتبقى ، ويتجدد هذا الخزي إلى يوم القيامة ببركة القرآن وما فيه من الزجر عن الإصرار على التعدي على صرح الإيمان وإرادة المنع من أداء الفرائض العبادية النازلة من عند الله .
ومن الآيات الكونية التأريخية أن هذه الخزي أصاب الطواغيت الذين حاربوا الأنبياء والمسلمين كما في نمرود وهو ملك شنعار ، وقد تجبر وطغى وادعى الربوبية ، وهو واحد من أربعة ملوك ذكروا في القرآن ، ولكنه لم يذكر باسمه وهم مؤمنان وهما ذو القرنين وسليمان , وكافران وهما النمرود وبختنصر .
وفي التنزيل حكاية عن النمرود في جداله مع إبراهيم [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ] ( ) .
فقد ذكر الله في أول الآية بأن آتاه الملك ولكن الله نعته في آخر الآية بالكافر لبعث الإزدراء في نفوس المسلمين ، وبعث النفرة في نفوس الناس من الطواغيت الذين يتكبرون عن عبادة الله ، ولم يرد لفظ (بالشمس )في القرآن إلا في الآية أعلاه .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : الذين قالوا لإخوانهم , وقعدوا يوم التقى الجمعان ) .
من إعجاز القرآن أنه جعل المواعظ والعبر تتجلى من صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، والأذى الذي لاقوه من الذين كفروا ، فذكرت هذه الآيات واقعة أحد على نحو التعيين .
وقد ورد في القرآن ذكر كل من معركة :
الأولى : معركة بدر بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الثانية : غزوة بني قينقاع , ورد ذكرها في قوله تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ] ( ) .
وجمعهم رسول الله في سوق بني قينقاع , وقال (احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة واسلموا فانكم قد عرفتم اني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله اليكم قالوا يا محمد انك ترى انا قومك ولا يغرنك انك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت لهم فرصة اما والله لو حاربتنا لتعلمن انا نحن الناس) ( ).
والمراد من الفئتين في الآية أعلاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين قاتلوا في سبيل الله وكفار قريش الذين أصروا على الكفر والجحود وحاصرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى نزلوا على حكمه ، وكان هذا الحصار بين معركة بدر وأحد .
الثالثة : معركة أحد ، وهي أكثر معارك الإسلام ذكراً في آيات القرآن ، ومنها آية البحث وعدد من الآيات التي قبلها والآيات التي بعدها ، لتكون هذه الكثرة والخصوصية من إعجاز القرآن, إذ ذكرت في نحو ستين آية من القرآن , ولم يرد اسمها فيه ولابد من علة لهذا الأمر .
الرابعة : معركة الأحزاب وجاءت سورة كاملة باسمها وتضمنت آيات منها توثيقاً لجبن وخداع المنافقين ، قال تعالى [وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا] ( ).
الخامسة : صلح الحديبية ، وعند تخلف أكثر الأعراب من حول المدينة عن الخروج عندما استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزل قوله تعالى [سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنْ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا] ( ) ، ولما تمت بيعة الرضوان في الحديبية نزلت البشارة التي تتغشى النشـأتين بقوله تعالى [لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ] ( ) .
وبعد أن تم الصلح بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووفد قريش قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ] ( ).
السادسة : غزوة خيبر في شهر محرم من السنة السابعة للهجرة ، وقيل في شهر صفر ، وجاءت بعد عشرين يوماً من صلح الحديبية ، قال تعالى [وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا] ( ).
السابعة : فتح مكة إذ خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة متوجهاً إلى مكة ، وطلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القبائل المحيطة بالمدينة : أسلم ومزينة وجهينة وغفار وسليم ) الخروج معه فلحقه الفا رجل .
ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير قتال إلا مواجهات محدودة ، قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطعن بها بقوس بيده وهو يتلو قوله تعالى[وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( ) [قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ]( ) فتهوى الأصنام إلى الأرض .
الثامنة : معركة حنين , والتي وثقها القرآن بقوله تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ]( ).
وتسمى غزوة حنين إنما هي معركة دفاعية ، وهي من أشد معارك الإسلام ، وأكثرها خطورة على الإسلام مع كثرة عدد المسلمين ومجيئها بعد فتح مكة من غير ثمة زمان يذكر .
إذ خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه اثنا عشر ألفاً من المسلمين ، عشرة آلاف جاءوا معه من مكة ، وألفان من مسلمي الفتح .
ولكن هوازن وثقيفاً كمنوا في شعاب ومضائق تهامة لينقضوا بغتة على جيش المسلمين الذي كان ينحدر في الوادي في آخر ساعة الفجر وبعد أن أدى المسلمون صلاة الصبح وانهزمت الطلائع الأولى لجيش المسلمين ، والذين من بعدهم ، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا نفر من أهل بيته وأصحابه من المهاجرين والأنصار .
وظهر حينئذ رأس النفاق وقال (وقال ابو سفيان لا تنتهي هزيمتهم دون البحر ، وكانت الأزلام يومئذ معه) ( ).
(وَصَرَخَ جَبَلَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ – وَقَالَ ابن هِشَامٍ : صَوَابُهُ كَلَدَةُ – أَلَا بَطَلَ السّحْرُ الْيَوْمَ فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ أَخُوهُ لِأُمّهِ وَكَانَ بَعْدُ مُشْرِكًا : اُسْكُتْ فَضّ اللّهُ فَاك ، فَوَاَللّهِ لَأَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ .) ( ).
(قَالَ ابن هِشَامٍ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَهْجُو كَلَدَةَ
رَأَيْتُ سَوَادًا مِنْ بَعِيدٍ فَرَاعَنِي … أَبُو حَنْبَلٍ يَنْزُو عَلَى أُمّ حَنْبَلِ
كَأَنّ الّذِي يَنْزُو بِهِ فَوْقَ بَطْنِهَا … ذِرَاعُ قَلُوصٍ مِنْ نِتَاجِ ابن عِزْهِلِ
أَنْشَدَنَا أَبُو زَيْدٍ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وَذَكَرَ لَنَا أَنّهُ هَجَا بِهِمَا صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ ، وَكَانَ أَخَا كَلَدَةَ لِأُمّهِ ) ( ).
وتداخلت الصفوف والنبي صلى الله عليه وآله وسلم واقف على دابته في وجه العدو وأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينادي يا للأنصار فرجعت جماعة كبيرة منهم وأشتد القتال ، ونزل الملائكة لنصرة المسلمين الذين أخذوا يقاتلون بتفان , ودفعوا هوازن ومن معها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ووقعت طائفة منهم بالأسر .
فرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قبته والأسرى من حولها قد وثقت أيديهم ، وفي قبته زوجتاه أم سلمة وميمونة .
وانهزم بعض من جيش المسلمين راجعين نحو مكة وساروا يوماً وليلة ليخبروا أهل مكة بهزيمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأظهر المنافقون الشماتة وقال بعضهم : ترجع العرب إلى دين آبائها ، وقد قُتل محمد وتفرق أصحابه .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الملازمة بين إقامة دولة الإسلام وبين حياته وسلامته الشخصية ، وكان الأمير بمكة عتاب بني أسد ، ومعه معاذ بن جبل فأصابهما والمؤمنين في مكة غم شديد .
وقال عتاب بن أسيد : إن قُتل محمد ، فان دين الله قائم والذي يعبده محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يموت ، ولم تستمر هذه الحال إذ جاء الخبر في المساء بنصر الإسلام ونزول الهزيمة الشديدة بهوازن , ليخزي الله الذين نافقوا , وفيه دعوة لأهل مكة وهم حديثوا عهد بالإسلام لليقظة وأخذ الحذر من المنافقين , والتدبر في الآيات التي تذمهم .
ولحق المنهزمون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأوطاس وهو بين حنين والطائف إذ وقع القتال فيه بين المسلمين والفلول التي انهزمت من معركة حنين .
وفي أوطاس قسّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غنائم حنين وفيه نكتة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يحرم المسلمين الذين إنهزموا من المعركة من نصيبهم من الغنائم بل انتظر رجوعهم للجيش، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
التاسعة : غزوة الطائف , ووقعت في ذات الشهر الذي وقعت فيه معركة حنين ، وهو شهر شوال من السنة الثامنة للهجرة ، إذ تعقب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلول هوازن وقاتلهم في أوطاس، وسار إلى الذين إجتهدوا إلى بلدتهم الطائف وتحصونوا فيها ، وكان لها سور عال وحصون دفاعية , ولها أبواب تغلقها ثقيف بعد أن تدخل أقواتاً تكفيها لسنة كاملة .
ووصل إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجيش المسلمين معه في العشرين من شوال وحاصرها نحو خمس عشرة ليلة .
وسعى المسلمون لإقتحام الطائف بالدبابات، والدبابة هي آلة تصنع من الخشب ، وتغطى بالجلود فيدخل فيها الرجال لحمايتهم من سهام الذين يقفون على الحصن وخلفه ، ثم تدفع هذه الدبابة الخشبية من الداخل أو من الخلف إلى أن تصل إلى جدار الحصن لثقبه وإحداث ثغرة فيه ، وإستطاع نفر من المسلمين الوصول إلى جدار الطائف بالدبابة لخرقه ، وأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار ، فاضطروا للخروج من تحتها ، فقامت ثقيف برمي هؤلاء النفر من المسلمين بالنبل ، فقتل جماعة منهم فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقطع أعناب ثقيف .
وقيل استعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يومئذ المنجنيق والذي أصل إختراعه في الصين بين القرنين الخامس والثالث قبل الميلاد ، وهو أداة لرمي شعلة من نار من حجارة أو خرق وقماش مشتعلة على القلاع وأسوار وأبراج المدن المحاصرة بعد سحب حبل من الخلف يجره عدد من الرجال , ولكن لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رمى أهل الطائف بالمنجنيق .
والطرق التي ذكر فيها ضعيفة ومرسلة ، والمختار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستعمل المنجنيق ، وقد أخذه العرب من الروم ، وكان يسمى (النيران السودة) و(جار السوء) واستخدمه جيش يزيد بن معاوية فأصابوا به الكعبة المشرفة في حربه مع عبد الله بن الزبير .
العاشرة : غزوة تبوك , وفي شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة وبعد نحو ستة أشهر من حصار الطائف توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك عندما بلغه إستعداد الجيش الروماني بأعداده الكبيرة وأسلحته الفتاكة وتدريبه العالي وكثرة خيوله ودروعه للإجهاز على الإسلام .
وكان جيشهم يقدر بأربعين ألف مقاتل , وقيل أكثر من هذا العدد وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثين ألف مسلم كان الطقس حاراً مع قلة زاد المسلمين، ويتقاسم الرجلان منهم التمرة الواحدة، ويتعاقبان على البعير الواحد في السفر، مع قلة الماء، وقد ينحرون البعير ليشربوا الماء الذي في جوفه فوقعت معجزات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الطريق منها هطول المطر في الصيف ، والإستستقاء، وتكثير الطعام، وبينما أبطأ أبو ذر لضعف بعيره , فلما يأس منه أخذ متاعه ولحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم , بينما أظهر المنافقون الخبث والمكر والإستهزاء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولم تكن المسافة بين المدينة وتبوك بالقصيرة، إذ أنها نحو خمسمائة وثلاثين كيلو متر، وبلغ الرومان قدوم جيوش المسلمين، واستحضروا في منتدياتهم معركة مؤتة التي وقعت قبلها بسنتين، وكان جيش المسلمين حينئذ ثلاثة آلاف رجل إلا أنهم فتكوا بالعدو , وأحدثوا إرباكاً فيه، فكيف وقد جاء في معركة تبوك ثلاثون ألفاً ومعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه ولم يخسر هو معركة، ولم ينسحب أو يفر من ميدان المعركة، مما يدل بالدلالة الإلتزامية على قتال المسلمين بين يديه حتى الموت أو النصر، وهو من مصاديق قوله تعالى[قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ]( ).
فتفرق جيش الرومان وإجتنبوا المواجهة، ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرض تبوك، فلم يجد جيشاً فبقى فيها بضعة عشر يوماً للتحدي وتأكيد العز وأسباب النصر , وبيان المدد من عند الله تعالى .
وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم سرية من أربعمائة وعشرين رجلاً وعليهم خالد بن الوليد إلى دومة الجندل لأسر أُكيدر بن عبد الملك الكندي، وكان ملكاً يدين بالنصرانية سعى في إعانة الرومان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد بأنه سيجد أُكيدر يصطاد خارج الحصن فيأسره، وهل فيه تحذير لخالد من الفتك والقتل كما حدث مع بني جُذيمة .
الجواب نعم، وصحيح أن جيش الرومان تفرق واجتنب قادته اللقاء إلا أنه لا يمنع من المناجاة والحمية بينهم عند سماع فتك المسلمين ببعض النصارى وأهل القلاع .
وفيه نكتة فبعد أن وجد المسلمون أُكيدر خارج الحصن يصطاد البقر وأسره تم إحضاره عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبطش به لأنه كان يساعد في الحرب على الإسلام بل صالحه على الجزية، وحقن دمه، وأذن له بالعودة إلى بلدته فجاء عدد من أمراء وملوك مدن الشام القريبة من الجزيرة وصالحوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجزية، مثل صاحب أيلة، وتسمى مدينة العقبة في هذا الزمان، وأهل جزباء وأهل أدرج .
لقد تحقق النصر في تبوك للإسلام من غير أن تسفك قطرة دم وهو من الشواهد على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف، وأن من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، إتخاذ قتال المسلمين في بدايات الإسلام للدفاع وإسئصال القتال، للضعف والوهن الذي لحق الذين كفروا وهو من مصاديق علم الله تعالى الذي تذكره الآية أعلاه من سورة البقرة بأن القتل بالباطل لن يستمر في الأرض لأن عقوبته عاجلة ومتصلة.
ولنزول آيات من القرآن أسباب تتعلق ببعض معارك الإسلام ، وورد في بعضها بيان حال المنافقين في تلك المعارك ، كما في قوله تعالى [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وتبين آية البحث مسألة وهي معاني الأخوة النسبية وإرادة الذين نافقوا إتخاذها وسيلة للصد عن الجهاد والدفاع عن النبوة والتنزيل ، ومن معاني الجمع بين الآيتين إتصاف المنافقين بأمور :
الأول : إخفاء الكفر والجحود مع إدعاء الإيمان .
الثاني : قعود المنافقين عن الدفاع الذي هو من الواجبات ، وحتى على القول بانه واجب كفائي فان الآية تدل على الحاجة إلى اشخاص المنافقين في الدفاع وتكثير السواد .
الثالث : حث المنافقين المسلمين على القعود عن القتال .
الرابع : توثيق معركة أحد والأذى الذي لاقاه النبي وأصحابه من الكفار الذين زحفوا للقتال ، ومن المنافقين الذي امتنعوا عن نصرته ، وإختاروا بث الأراجيف في المدينة ، قال تعالى [فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ] ( ).
المسألة الخامسة: تقدير الجمع بين الآيتين : قل فأدرءوا عن أنفسكم الموت يوم التقى الجمعان ) .
من خصائص الحياة الدنيا إقتراب الموت من كل إنسان في كل لحظة من أيام حياته ، ويشترك معه في عرض واحد القتل في بعض الأحوال كالخصومة الشديدة والقتال والحروب التي تحرق الأخضر واليابس ، وكم من برئ ذهب ضحية المنازعات والخصومات ، ومن خصائص خلافة الإنسان في الأرض نفرته من القتال ويكون أغلب الذين يخرجون للقتال مكرهين او شبه مكرهين أو غير راضين عن القتال ، إلا الذين يقاتلون في سبيل الله في ملاقاة الكفار المعتدين ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ).
فتفضل الله عز وجل وبعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) لسلامة وأمن الأبرياء بالمنع من النزاعات والقتال والحروب ، فان قلت [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) شاهد على وقوع المعارك حتى في أيام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والجواب من وجوه :
الأول : معارك الإسلام دفاعية لردع الذين كفروا .
الثاني : حروب الإسلام الأولى لإرادة نشر الإسلام والأمن في الأرض، وهذا الأمن مطلوب بذاته وهو نوع مقدمة لنشر الرحمة والسلم في الأرض .
الثالث : لقد توجه النبي بدعوته إلى الناس جميعاً بأمر من الله ، وفي التنزيل [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا] ( ) وقد سعى المنافقون لمنع هذه الدعوة ووصولها إلى الناس وإنتفاعهم منها ، فاجتمع الدفاع والنصر للمسلمين في آن واحد ، وهو من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمدد من عند الله عز وجل له وللمؤمنين لذا وردت آيات نصرة الملائكة بصيغة الجمع منها قوله تعالى في معركة بدر [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
فان قلت قد اجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء عشية ويوم معركة بدر وجاء النصر إستجابة لدعائه ، والجواب هذا صحيح ، ولكن الآية تشمل الإستجابة لدعاء أهل البيت والصحابة والدعاء من المهاجرين والأنصار يومئذ ، وتنمية ملكة الدعاء عندهم .
وهل تختص الإستجابة في الآية بمعركة بدر الجواب لا ، إذ يتجدد موضوعها في كل معركة من معارك الإسلام لوحدة الموضوع في تنقيح المناط وفيه مسائل :
الأول : ترغيب المسلمين بالدعاء .
الثاني : حث المسلمين على اللجوء إلى الدعاء ساعة الشدة والضيق .
الثالث : زجر الذين كفروا عن التعدي على المسلمين .
الرابع : دعوة الناس لترك المسلمين يؤدون المناسك والعبادات من غير أذى أو تضييق عليهم .
الخامس : بيان قانون من الإرادة التكوينية ، وهو أن الدعاء سلاح الأنبياء ، وأن الله عز وجل يسمع دعاء الصالحين ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) .
السادس : حث المسلمين والناس على إزالة الموانع التي تحول دون الدعاء ومقدمات الإستجابة له .
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : وما أصابكم يوم التقى الجمعان قل للذين نافقوا فأدرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ).
وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : لا تمنع الخسارة تعييب المسلمين من قيامهم بالإحتجاج .
الثاني : بيان الأولوية عند المسلمين بلحاظ إقامة الحجة على المنافقين وتقديمها على التفكر بالخسارة في المعركة .
الثالث : تأكيد حقيقة وهي أن المسلمين لم ينهزموا أو يخسروا معركة أحد ، فانشغالهم بالجدال والإحتجاج والتذكير بالموت وحتمية وقوعه شاهد على أنهم خرجوا من معركة أحد أعزة أقوياء ليكون الإحتجاج بقوله تعالى [قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ]من رشحات قوله تعالى بخصوص نتائج معركة بدر [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( )ويكون من معاني الآية أعلاه ، ولقد دخلتهم معركة أحد وخرجتم منها وأنتم أعزة ) .
ومن وجوه العز نزول الأمر من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالإحتجاج على المنافقين وعلى الذين كفروا بعد إنتهاء المعركة ، ومن خصائص الإحتجاج على الذين نافقوا في آية البحث أن موضوع الإحتجاج باق ومتصل ومتجدد في حال الحرب والسلم ، وفي أيام النبوة وبعد إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
ومن معاني الجمع بين الآيتين بيان قانون وهو أن نزول المصيبة بالمسلمين ليس مانعاً من دعوتهم الناس لمحاربة الكفار المعتدين .
فان قيل إذا كانت عاقبة المنافقين [فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( ) فكيف تتوجه لهم الدعوة لقتال الذين كفروا ، الجواب يدعي المنافق الإسلام ويحضر الصلوات ، ويتوجه له الخطاب التكليفي كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ]( ) وإن كانت آيات أخرى تتضمن ذم المنافقين وإخراجهم بالتخصيص من صفة الإيمان كما في قوله تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ]( ) .
ومن المنافقين من لم يرجع مع عبد الله بن أبي حين انصرف وأصحابه في الطريق إلى معركة أحد وهو الحارث بن سويد بن الصامت ، وحينما بدأ القتال نهض مع المسلمين ، ولكن حينما وقع القتال وتداخل الصفان عدا على المجذر بن زياد وقيس بن زيد فقتلهما وفر إلى الكفار .
وكان المجذر قد قتل في أيام الجاهلية سويد بن الصامت والد الحارث في بعض المعارك التي وقعت بين الأوس والخزرج ، وبعد حين وتعاقب السنين على واقعة أحد رجع الحارث إلى المدينة المنورة .
فنزل جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبره بقدومه وأنه هو الذي قتل المجذر بن زياد وقيس بن زيد وأمره أن يذهب إليه ويقيم عليه الحد ، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قباء وعلموا أن النبي جاءهم بغير الساعة التي يأتيهم بها فهرعوا جميعاً لإستقباله وحضر معهم الحارث (وعليه ثوب مورس فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عويم بن ساعدة بضرب عنقه فقال الحارث لم يا رسول الله فقال بقتلك المجذر بن زياد وقيس بن زيد فما راجعه) ( ).
ومن إعجاز خطابات القرآن تجدد توجهها للمسلمين والمسلمات ليكون فيها زيادة في إيمان المؤمنين ودعوة للمنافقين للتخلي عن الخداع والمخادعة .
وقد دلت الأخبار على أن بعض المنافقين حضروا معارك الإسلام كما في معركة الأحزاب وتسمى أيضاً معركة الخندق ، وقال جماعة منهم [إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا]( ).
وفيه شاهد بأن المنافقين إذا حضروا ع المسلمين فأنهم يعلمون على الإضرار بهم وغرباك صفوفهم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ]( ).
بعض وجوه النفاق
ومن المنافقين :
الأول : زوى بن الحارث .
الثاني : الحارث بن سويد وجلاس بن سويد بن الصامت ،وفيه نزل قوله تعالى [يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ] ( ) إذ أنه لم يكتف بالتخلف عن معركة تبوك بل (لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمر.) ( ) .
الثالث : منهم بجاد بن عثمان بن عامر .
الرابع : نبتل بن الحارث وهو من بني لوذان بن عمرو بن عوف ، قال ابن إسحاق (وَهُوَ الّذِي قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِيمَا بَلَغَنِي : مَنْ أَحَبّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الشّيْطَانِ فَلْيَنْظُرْ إلَى نَبْتَلَ بْنِ الْحَارِثِ وَكَانَ رَجُلًا جَسِيمًا أَذْلَمَ ثَائِرَ شَعْرِ الرّأْسِ أَحْمَرَ الْعَيْنَيْنِ أَسْفَعَ الْخَدّيْنِ وَكَانَ يَأْتِي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَتَحَدّثُ إلَيْهِ فَيَسْمَعُ مِنْهُ ثُمّ يَنْقُلُ حَدِيثَهُ إلَى الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ الّذِي قَالَ إنّمَا مُحَمّدٌ أُذُنٌ مَنْ حَدّثَهُ شَيْئًا صَدّقَهُ . فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِ { وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤْذُونَ النّبِيّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ })( ).
الخامس : الجد بن قيس .
السادس : مخشن بن حمير رجل من أشجع حليف لبني سلمة .
السابع : وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف .
(يُشِيرُونَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إلَى تَبُوكَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ أَتَحْسِبُونَ جَلّادَ بَنِي الْأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَاَللّهِ لَكَأَنّا بِكَمْ غَدًا مُقَرّنِينَ فِي الْحِبَالِ إرْجَافًا وَتَرْهِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ مُخَشّنُ بْنُ حُمَيّرٍ) ( ).
الثامن : رأس النفاق بعد عبد الله بن ابي بن أبي سلول .
وفي السنة التاسعة للهجرة النبوية الشريفة أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم النفير والتجهز إلى تبوك ومحاربة الروم بعد أن علم أنهم وحلفاءهم يعدون العدة للإجهاز على المسلمين ، وأن هرقل أعطى لجنوده عطاء إضافياً .
وقد كان عام قحط وجذب وعسرة ومع مضي سنوات على إنتصار المسلمين في المعارك ، وتحقق فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ، فان المنافقين لم يتوبوا وينقطعوا عن النفاق إذ أظهروا الخداع والإمتناع عن الخروج إلى الروم خاصة مع بعد الشقة والضراء وشدة الحال ، ومن مصاديق النفاق يومئذ :
الأول : مناجاة المنافقين فيما بينهم بالقول لا تنفروا في الحر، والتباهي بالقعود فنزل قوله [فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ] ( ) .
الثاني : كثرة استئذان المنافقين وسؤالهم النبي إعفاءهم من الخروج إلى تبوك ، وقال النبي للجد بن قيس أحد بني سلمة : يا جد هل لك العام في جلاد ( )بني الأصفر( ) ، فقال يا رسول أأذن لي ولا تفتني بالنساء وأني أخشى إن رأيت بنات بني الأصفر أن لا أصبر ، فأعرض عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : قد أذنت لك ، ونزل قوله تعالى [وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي] ( ) .
الثالث : لقد حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الميسورين وأهل الغنى من المسلمين على الإنفاق لحملة تبوك .
الرابع : قام عبد الله بن أبي بن أبي سلول بالعسكرة على ثنية الوداع في حلفائه من قومه ومن اليهود ومن المنافقين .
(قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَضَرَبَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ مَعَهُ عَلَى حِدَةِ عَسْكَرِهِ أَسْفَلَ مِنْهُ نَحْوَ ذُبَابٍ ، وَكَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ لَيْسَ بِأَقَلّ الْعَسْكَرَيْنِ . فَلَمّا سَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ تَخَلّفَ عَنْهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ، فِيمَنْ تَخَلّفَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الرّيْبِ) ( ).
الخامس : أرجاف المنافقين في المدينة بعد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحو تبوك للدفاع ، واستخلف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، فقال المنافقون : ما خلفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا استثقالاً وتخففاً منه ، فبلغ الإمام علي عليه السلام كلام المنافقين فأخذ سلاحه وخرج خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأدركه وهو نازل بالجُرف .
وأخبره بما قاله المنافقون وما يبثونه من الأراجيف فقال النبي : (كَذَبُوا وَلَكِنّي خَلّفْتُكَ لِمَا تَرَكْتُ وَرَائِي فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِك أَفَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى ؟ إلّا أَنّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي فَرَجَعَ عَلِيّ إلَى الْمَدِينَة) ( ).
ولم يعاقب النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنافقين على كذبهم وأراجيفهم وهو الذي تدل عليه آية البحث بقوله تعالى [قُلْ فَادْرَءُوا..] لأنه يدل بالدلالة التضمنية على إتخاذ منهج البيان والإحتجاج بالبرهان على المنافقين .
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين ( قل وما أصابكم يوم التقى الجمعان فباذن الله ) .
لقد أمر الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يحتج على الذين نافقوا عند إظهارهم الشماتة بالشهداء ، وما فيه من الإرجاف في المدينة وبعث الحزن والحسرة في نفوس المؤمنين والمؤمنات والحث على التكاسل عن الجهاد ، فجاء قوله تعالى للنبي محمد [قل] ليفضح المنافقين ، ويبكتهم على قعودهم ، ويمنع الناس من الإنصات لهم .
وصحيح أن مضمون آية البحث يختص بتذكير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للذين نافقوا بالموت وعجزهم عن إختيار أوانه أو ارجائه أو دفعه ، ولكن الآية أعم من موضوعها من جهات :
الأولى : الإذن للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإحتجاج على المنافقين وعلى الذين كفروا .
الثانية : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببيان منزلة الشهداء وعظيم الثواب الذي فازوا به .
الثالثة : دعوة المسلمين للإحتجاج على المنافقين فبينما يسعى المنافقون لبث الأراجيف في المدينة ، للصد عن الدفاع يقوم المسلمون بالإحتجاج عليهم ببركة آية البحث ، وإذ نزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معارك الإسلام الأولى فان آية البحث نزلت مدداً وعوناً للمسلمين من جهات :
الأولى : ما قبل المعركة فاذا دعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين إلى النفير فان المنافقين عاجزون عن بث سمومهم .
الثانية : عند التوجه إلى المعركة والتهيئة قبل دخول المعركة موضوعية في سير وقائعها وهو من مصاديق قوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( ).
وأراد المنافقون بأنسحابهم من معركة أحد إضعاف هممّ المؤمنين ، فتفضل الله عز وجل بآية البحث والسياق لتقوية همم وعزائم المؤمنين ، ودخولهم المعركة بحسن التوكل على الله والرضا بقضائه ، وقد نزل بخصوص حال المسلمين في معركة أحد [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ).
الثالثة : ما بعد المعركة ليحل الأمن والسلام في المدينة، ويتجلى للناس سوء فعل المنافقين سواء في قعودهم أو لومهم للشهداء أو تحريضهم على القعود .
ويأتي الأمر الإلهي [قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ]بعد معركة أحد لمنع دبيب الوهن أو الجبن إلى نفوس المسلمين والمسلمات ، فان قلت إن الجهاد ساقط عن النساء.
والجواب هذا صحيح ولكن الإسلام بحاجة إلى تعضيدهن للمؤمنين ، وسلامتهن من الوهن والخوف والوجل وجعل الله آية البحث سلاحاً بيدهن بوجه المنافقين وأراجيفهم.
وما أصاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الجراحات وسقوط الشهداء من الصحابة في معركة أحد إنما هو بإذن الله وهو الذي يدل عليه قوله تعالى قبل آيتين[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ]( )، لترشح القتل والجراحات عن اللقاء الذي لم يقع إلا بإذن الله عز وجل.
وفي التنزيل [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا] ( ) لبيان أن هذه الخسارة خير محض من جهة عاقبتها ونفعها وثوابها العظيم بالإضافة إلى حقيقة وهي خروج الذين كفروا من معركة أحد بالإحباط من جهات:
الأولى : إنقضاء المعركة دون أن ينال كفار قريش غايتهم.
الثانية : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل، ويترشح عن هذه السلامة توالي نزول آيات القرآن ودخول الناس في الإسلام وهل معركة أحد من مصاديق النصر في قوله تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا]( )، أم أنه من مقدماته، الجواب لا تعارض بين الأمرين.
الثالثة : إنكسار وهزيمة المشركين في بداية المعركة.
الرابعة : سقوط القتل من المشركين يوم معركة أحد، وعددهم إثنان وعشرون رجلاً كما أن ابن إسحاق الذين ذكر أسماءهم( ).
الخامسة : توثيق القرآن لخسائر جيش الذين كفروا في معركة أحد، ومن الآيات في المقام أن الله عز وجل نسب إيقاع الخسارة بهم إلى نفسه سبحانه، بقوله[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، وهل في الآية أعلاه شاهد على نزول الملائكة يومئذ، وقتالهم إلى جانب المؤمنين الجواب نعم، وهو لا يتعارض مع جهاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في سبيل الله، ومصاديق قوله تعالى[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ).
المسألة الثامنة : لقد بينت آية البحث قعود المنافقين عن الدفاع ولومهم المبطن للشهداء ، ويحتمل من جهة الزمان والوقت وجوهاً :
الأول : قعود المنافقين قبل معركة أحد .
الثاني : لوم المنافقين للشهداء قبل معركة أحد .
الثالث : قعود المنافقين بعد معركة أحد .
الرابع : لوم المنافقين للشهداء بعد معركة أحد .
وهذه الوجوه من مصاديق آية البحث والمراد من الوجه الثاني أعلاه أن المؤمنين كانوا يستعدون للقاء العدو، ولكن المنافقين يلومونهم على هذا الإستعداد وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( )، لذا فمن الذخائر العقائدية في معركة أحد فضح المنافقين .
المسألة التاسعة : وهل قول المنافقين لإخوانهم وقعودهم باذن الله ، الجواب نعم ، فليس من مشيئة مطلقة للعبد مؤمناً كان أو كافراً ، قال تعالى [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ] ( ) فان قلت لم أذن الله عز وجل للمنافقين أن يبثوا الأراجيف في المدينة الجواب من جهات :
الأولى : لابد من التسليم بقانون وهو أن الله عز وجل [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
الثانية : كشف وفضح الذين نافقوا وإقامة الحجة عليهم ،وفي التنزيل [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ) لبيان نفع وكفاية الإحتجاج وإقامة البرهان ، وفي الآية أعلاه دعوة للمسلمين للصبر مع الناس .
الثالثة : إحتراز المسلمين مجتمعين ومتفرقين من النفاق .
الرابعة : تهيئ المسلمين لمعارك الإسلام التي وقعت بعد معركة أحد مثل الخندق وفتح مكة وحنين ، مع الذم الذي تضمنته آية البحث للذين نافقوا فان بعضهم أظهر الخداع وزاول الكذب في معركة الخندق ، ولا يعلم أحد ماذا كان يرتكبه المنافقون من قبيح الفعل وأسباب الضرر العام في معركة الخندق لولا هذه الآيات التي فضحت سوء فعلهم في معركة أحد ، وزجرتهم عن تكرار ذات الآثام ، ومنعت المؤمنين رجالاً ونساءً من الإنصات لما يبثون من الأراجيف ، وتفضل الله بنزول الآية التالية التي تبين خلود الشهداء في النعيم وإنصراف الموت عنهم بقوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( )، في ذات الوقت الذي تتحدى فيه آية البحث المنافقين بالعجز عن دفع الموت عن أنفسهم.
وحينما زحف ثلاثة آلاف رجل من المشركين إلى معركة أحد هل كان رؤساء الكفر يتكلمون عن الذين نافقوا ويتابعون سعيهم الخبيث في المدينة، الجواب لا يبعد هذا خاصة وأن بعض من سكنة المدينة ذهب إلى قريش بعد معركة بدر وأخذ يندب قتلاهم ويحرضهم على الثأر .
(وقال محمد بن إسحاق: كان من حديث كعب بن الاشرف، وكان رجلا من طئ ثم أحد بنى نبهان وأمه من بنى النضير، أنه لما بلغه الخبر عن مقتل أهل بدر حين قدم زيد بن حارثة وعبدالله بن رواحة، قال: والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.
فلما تيقن عدو الله الخبر خرج إلى مكة، فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السهمى، وعنده عاتكة بنت أبى العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، فأنزلته وأكرمته، وجعل يحرض على قتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وينشد الاشعار ويندب من قتل من المشركين يوم بدر)( ).
وأخذ كعب يندب أصحاب القليب أي قتلى قريش يوم معركة بدر الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برميهم في القليب يومئذ ومن رثائه لهم
(طَحَنَتْ رَحَى بَدْرٍ لِمَهْلِك أَهْلِهِ … وَلِمِثْلِ بَدْرٍ تَسْتَهِلّ وَتَدْمَعُ
قُتِلَتْ سَرَاةُ النّاسِ حَوْلَ حِيَاضِهِمْ … لَا تَبْعُدُوا إنّ الْمُلُوكَ تُصَرّعُ
كَمْ قَدْ أُصِيبَ بِهِ مِنْ أَبْيَضَ مَاجِدٍ … ذِي بَهْجَةٍ يَأْوِي إلَيْهِ الضّيّعُ
طَلْقُ الْيَدَيْنِ إذَا الْكَوَاكِبُ أَخْلَفَتْ … حَمّالُ أَثْقَالٍ يَسُودُ وَيُرْبَعُ
وَيَقُولُ أَقْوَامٌ أُسَرّ بِسَخَطِهِمْ … إنّ ابن الْأَشْرَفِ ظَلّ كَعْبًا يَجْزَعُ
صَدَقُوا فَلَيْتَ الْأَرْضُ سَاعَةَ قُتّلُوا … ظَلّتْ تَسَوّخُ بِأَهْلِهَا وَتُصَدّعُ
صَارَ الّذِي أَثَرَ الْحَدِيثَ بِطَعْنِهِ … أَوْ عَاشَ أَعْمَى مُرْعَشًا لَا يَسْمَعُ
نُبّئْت أَنّ بَنِي الْمُغِيرَةِ كُلّهُمْ … خَشَعُوا الْقَتْلَ أَبِي الْحَكِيمِ وَجُدّعُوا
وَابْنَا رَبِيعَةَ عِنْدَهُ وَمُنَبّهٌ … مَا نَالَ مِثْلَ الْمُهْلِكِينَ وَتُبّعُ
نُبّئْت أَنّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامِهِمْ … فِي النّاسِ يَبْنِي الصّالِحَاتِ وَيُجْمَعُ
لِيَزُورَ يَثْرِبَ بِالْجُمُوعِ وَإِنّمَا … يَحْمَى عَلَى الْحَسَبِ الْكَرِيمِ الْأَرْوَعُ)( ).
الوجه الثالث : صلة هذه الآية بقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين ، والذين نافقوا قالوا لأخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا ..) .
تبين آية السياق قانوناً من الإرادة التكوينية ، وهو أن الله عز وجل هو المنّان ، ولا يقدر على منّه إلا هو سبحانه من جهة الكم والكيف والسعة والإتصال والدوام والبركة وقانون العلة والمعلول يترشح النفع الخاص والعام والثواب العظيم من منّ الله، وفيه وجوه :
الأول : كل مخلوق محتاج إلى منّ الله وهذه الحاجة مطلقة، ويتفاوت الناس في إدراكها من تقوى الله حضور هذه الحاجة في الوجود الذهني على نحو الدوام، وقال تعالى[حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمْ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ]( ).
الثاني : يتغشى منّ الله عز وجل الخلائق كلها .
الثالث : بين منّ ورحمة الله عموم وخصوص من وجه ، يلتقيان في مادة ويفترقان في مادة ، لبيان سعة فضل الله وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ] ( ) .
الرابع : كل آية من القرآن منّ من عند الله عز وجل .
الخامس : منّ الله حجة على الناس ، ودعوة لهم للإيمان .
وقد يقع خلاف بين فردين أو طائفتين من المؤمنين ، وقد يقتتلان كما في قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ…] ( ) ولكن منّ الله عز وجل عليهم متصل ومستمر مجتمعين متفرقين ، ومنه الآية أعلاه وآية البحث والسياق وهناك مسألتان :
الأولى : لا يختص منّ الله عز وجل بالمؤمنين والذي تذكره آية البحث.
الثانية : هل آية البحث من منّ الله على المؤمنين .
أما الأولى فالجواب منّ الله عز وجل عام وشامل للناس والخلائق جميعاً ، وإذ ذكرت آية السياق منّ الله على المؤمنين فان إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، إذ أنّ منّ الله ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عام للناس جميعاً ( )،كما أن منّ الله أعم من أن يختص ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فالحياة الدنيا كلها منّ ولطف من عند الله عز وجل.
وأما الثانية فان آية البحث منّ من الله عز وجل من وجوه :
أولاً : آية البحث منّ على المؤمنين بلحاظ أنها آية من القرآن نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي تلاوتها أجر وثواب ، وفيها بيان لخصال المنافقين .
ثانياً : آية البحث منّ على المنافقين لأنها تبين خصالهم المذمومة ، وتدعوهم إلى التوبة منها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) وآية البحث منّ على الناس جميعاً لما فيها من التحذير من النفاق ، وبيان قانون وهو أن النفاق والمنافقين لن يضروا الإسلام شيئاً .
فان قلت قد ذكرت آية البحث قولهم بأن الشهداء لو بقوا في المدينة، ولم يخرجوا إلى الدفاع عن النبوة والتنزيل لما قتلوا ، وفي هذه القول دعوة للصدود والإمتناع عن الخروج للجهاد والدفاع .
الجواب هذا صحيح إلا أن بيانه في آية البحث إبطال لهذه الدعوة، ومن خصائص القبائح والسيئات أنها إذا ظهرت للعلن تنفر النفوس منها ، فمن إعجاز القرآن توثيقه للوقائع وذكره للخصال والأفعال سواء الحميدة أو القبيحة مع الترغيب في الأولى ، وبعث النفرة في الثانية ، قال تعالى [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ…]( ).
ومن منّ الله عز وجل على المؤمنين ذكر القرآن لما يقوله المنافقون وإخبارهم عن أراجيفهم .
المسألة الثانية : لقد ذكرت آية السياق المؤمنين بلغة الثناء عليهم وبيان توالي فضل الله عز وجل عليهم ، فان قلت قد وردت الآية وذكر المنّ فيها بصيغة الماضي منّ الله ، فكيف يكون التوالي ، الجواب يكون من وجوه :
الأول : من خصائص منّ الله الدوام والتجدد والزيادة والمضاعفة فيه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ] ( ) .
الثاني : بلوغ الإنسان مرتبة الإيمان منّ من الله ، وكذا شهادة الله عز وجل للمؤمنين بالإيمان .
الثالث : ذات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم منّ دائم وتترشح عنها مصاديق لامتناهية من المنّ .
الرابع : سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المنّ الإلهي على المؤمنين والناس، لقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وهل آية البحث دعوة للمنافقين والمنافقات للتوبة، الجواب نعم، مثلما هي زاجر عن ركوب جارة النفاق.
وتحتمل توبة الفرد الواحد من المنافقين وجوهاً :
الأول :إنها منّ من الله على المؤمنين .
الثاني : إنها منّ من ذات التائب على المؤمنين .
الثالث : توبة المنافق منّ من الله عز وجل عليه لما فيها من النفع له وفي المرسل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده ، ما من إنسان يتوب قبل أن يموت بيوم إلا قبل الله توبته)( ).
الرابع :توبة المنافق منّ من الله عز وجل على الناس جميعاً .
وباستثناء الوجه الثاني فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق المنّ الإلهي في آية البحث ، ليكون من معاني الجمع بين آية البحث والسياق لزوم توجه المؤمنين بالشكر لله عز وجل على نعمة نزول آية البحث وما فيها من الدعوة للمنافقين للتوبة من النفاق ودلالة مضامينها على لزوم التوقي منه .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين والذين نافقوا قعدوا ) .
ومن معاني الجمع بين الآيتين تغشي المنّ الإلهي ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً ، فليس من إنسان ذكراً أو أنثى إلا وينال من المنّ العظيم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل زمان النبوة الشريفة وإلى الأجيال اللاحقة وإلى يوم القيامة .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار المن والرحمة والهبات ، ومن أعظم الهبات فيها بعثة الأنبياء من وجوه :
الأول : إبتداء وجود الإنسان بنبي الله آدم ومن حق كل إنسان أن يفتخر بأن أباه نبي رسول وهذا الفخر من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) حينما استفهوا وتسألوا عن جعل الإنسان خليفة في الأرض مع أنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
وهل يختص هذا الفخر والإفتخار بالمؤمنين من الناس أم أنه عام وشامل ، الجواب هو الثاني إذ يشمل الناس على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي والبدلي بلحاظ أن الأبوة والبنوة أمران يتعلقان بالنسب والذراري .
ولو تم خلق الإنسان بواسطة الإستنساخ ففيه وجوه :
أولاً : يحق لإنسان الإستنساخ الإفتخار بالبنوة لآدم النبي .
ثانياً : يحق له الإفتخار ولكن بمرتبة أدنى ، ومن وجه أقل رتبة من غيره من البشر في هذه الأزمنة .
ثالثاً : لا يحق له التفاخر بأبوة آدم لعدم دلالته وفق السنخية والقواعد في الخلق .
رابعاً : إرتقاء العلم وصناعة إنسان آخر بغير طريقة الإستنساخ وأخذ الخلايا من الإنسان ذكراً أو أنثى .
والمختار هو الأول ، لصدق الخلافة في الأرض التي إبتدأت بآدم عليه السلام ، ولا تنقطع إلا بالنفخ في الصور ، قال تعالى [فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ]( ).
الثاني :كان آدم عليه السلام نبياً رسولاً، وقد نفخ الله فيه من روحه ، وكلمه قبلاً ، وفي التنزيل [قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ]( ).
الثالث : توالي تعاقب الأنبياء والرسل، قال تعالى[وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ]( ).
ولما غادر آدم الحياة الدنيا كان ابنه شيث هو النبي ، ومعنى شيث أي هبة الله .
الرابع : نزول الوحي والكتب السماوية على الأنبياء والرسل لتكون ضياء يهدي الناس إلى سبل الرشاد .
الخامس : كثرة عدد الأنبياء ، إذ يبلغ عددهم مائة وأربعة وعشرين الف نبي من بينهم ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولاً .
السادس : تعدد مواضع وأمصار الأنبياء .
السابع : بذل الأنبياء الوسع في الدعوة إلى الله .
الثاني : مجئ كل نبي بمعجزة متحدة أو متعددة تدل على صدق نبوته .
التاسع : وجود أنصار وتابعين لكل نبي من الأنبياء .
العاشر : جهاد الأنبياء وأصحابهم وأنصارهم في سبيل الله ، وفي التنزيل [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ) .
الحادي عشر : نزول القرآن جامعاً لمدرسة النبوة وشاهداً عليها ، وليس من شهادة أعظم من شهادة الله عز وجل ، وفي التنزيل [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً]( ).
الثاني عشر : اختتام النبوات برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومجيئه بالشريعة المتكاملة الجامعة للأحكام السالمة من التحريف والتبديل ، فان قلت إنما ترد هذه السلامة بخصوص القرآن وامتناعه عن الزيادة والنقصان، الجواب هذا صحيح وهو مرآة لأحكام الشريعة ومنه يصدر المسلمون في أمور الحلال والحرام .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين والذين نافقوا يقولون لو نعلم قتالاً لأتبعناكم ) وفيه وجوه :
الأول : تأكيد فضل الله عز وجل على المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه زجر وتخويف للمنافقين .
الثاني : دعوة المسلمين إلى عدم الخشية من المنافقين وما يبثونه من السموم والأكاذيب والدعايات التي يريدون بها الإضرار بالإسلام.
فمن معاني ومصاديق منّ الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، التفقه في الدين ، والفصل بين الحق والباطل ، قال تعالى [وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا] ( ).
الثالث : من قوانين الإرادة التكوينية أن الله عز وجل يعطي بالأتم والأكمل والأحسن ، ومنه منّ الله عز وجل على المؤمنين من جهات :
الأولى : إصلاح المسلمين لمراتب الإيمان .
الثانية : تعاهد المسلمين للإيمان في القول والعمل .
الثالثة : وقاية المسلمين من النفاق .
الرابعة : فضح الذين نافقوا والكشف عن إبطانهم الكفر والجحود .
فهم يضمرون الكفر ولكن هذه الآيات لم تبقه مضمراً وخفياً ، بل صار أمراً مكشوفاً يجلب لهم العار في الدنيا ويكون سبباً لتوجه اللوم لهم ، والنهي عن المنكر ، أما في الآخرة فيكون من تجليات آية البحث إنكشاف ما يبطنه الذين نافقوا لأهل والمحشر ، وبخصوص يوم القيامة ، قال تعالى [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ] ( ).
إذ يرى المنافقون النعيم الذي يفوز به المؤمنون ، والفضائل التي ينالون، فيأتون ويحلفون بالله أنهم مؤمنون بالله ورسوله وأنهم صلوا وصاموا وحضروا صلاة الجماعة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد نال الذين معهم في صفوف صلاة الجماعة في المسجد النبوي الخير العظيم ، وهم حرموا أنفسهم منه، قال تعالى[وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
عندئذ يختم الله على أفواههم لتشهد عليهم جوارحهم وأركانهم وبعدئذ يطلق الأفواه ويأذن لها بالكلام ، كما ورد في التنزيل [وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ] ( ).
ويمكن تأسيس علم مستقل هو دلالة كل آية من القرآن على شهادة الكافرين والمنافقين على أنفسهم ، ومنه في آية البحث مسائل :
الأولى : شهادة ألسنة الذين نافقوا عليهم بأنهم أظهروا اللوم المقرون بالشماتة بشهداء أحد .
الثانية : دلالة آية البحث على زحف جيوش الذين كفروا لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحاربة الإسلام، فكما تتضمن آية البحث ذم الذين نافقوا فأنها تذم وتتوعد الذين كفروا وتقبح ظلمهم وتعديهم.
الثالثة : إمتناع الذين نافقوا عن الدفاع، وهل قعودهم شهادة عليهم أم لابد من تقوم الشهادة باللفظ والإخبار، الجواب هو الأول.
(عن أنس في قوله { اليوم نختم على أفواههم }( ) قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضحك حتى بدت نواجذه قال : أتدرون ممن ضحكت؟
قلنا : لا يا رسول الله ، قال : من مخاطبة العبد ربه فيقول : يا رب ألم تجرني من الظلم؟
فيقول : بلى . فيقول : إني لا أجيز عليَّ إلا شاهداً مني فيقول : كفى بنفسك عليك شهيداً ، وبالكرام الكاتبين شهوداً .
فيختم على فيه ويقال لأركانه : انطقي ، فتنطق بأعماله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام ، فيقول بعداً لكن وسحقاً ، فعنكن كنت أناضل )( ).
وتخبر جوانح وجوارح المنافق يوم القيامة عن قعوده عن الدفاع وعن سعيه بقدميه لتحريض المسلمين على القعود ، فان قلت كيف يكون الختم على أفواههم وأقوالهم حجة عليهم كما تدل عليه آية البحث ، الجواب أنهم يذكرون ما قالوا ، فتشهد عليهم جوارحهم بأنهم قالوا كلمة الكفر والنفاق ، ليكون من معاني منّ الله عز وجل على المؤمنين بلحاظ آية البحث وجوه:
الأول : سلامة المؤمنين من الختم على الأفواه ، لأنه يأتي للإحتجاج على الذين كفروا بعد إنكارهم ما كانوا من الكفر والجحود وهذه السلامة من عمومات قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، بلحاظ أن كلاً من الإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل والإستقامة واقية من الختم على الأفواه، وأن هذا الختم سبب وموضوع للحزن الذي تنفيه الآية أعلاه عن المؤمنين .
الثاني : تجلي مصاديق آية البحث يوم القيامة لأجيال المسلمين كافة ، فلقد أظهر المنافقون الرياء والشك أثناء أيام معركة بدر وأحد والخندق وحنين ونحوها من معارك الإسلام الأولى.
وجاءت آية البحث لتوثيق بعض ضروب نفاقهم وشكهم وكذبهم ليرى المسلمون والناس جميعاً يوم القيامة صدق مضامين آية البحث وأنها حق وصدق ، ومن خصائص آية البحث الوعيد للمنافقين بأنه يتعذر عليهم يوم القيامة إخفاء ما كانوا يبطنون من الكفر والضلالة .
لقد ذكرت آية البحث إنكار الذين نافقوا وقوع القتال بين المسلمين والذين كفروا في معركة أحد ، مع أن جيوش الذين كفروا أطلت على المدينة ، ووصلت مشارفها وهم ينوون الإنتقام لقتلاهم يوم معركة بدر ومنهم بعض الرؤساء مثل أمية بن خلف وأبي جهل وعتبة بن ربيعة لتُسئل يوم القيامة جوارح المنافقين وكيف أنهم كانوا كاذبين في دعواهم بنفي وإنكار القتال يوم معركة أحد .
لتكون آية البحث من منّ الله على المؤمنين ببعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونزول آية البحث عليه من عند الله وهي تكشف نوايا الذين نافقوا وتعاهدهم لغايات خبيثة .
المسألة الخامسة : ليعلم الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لقد منّ الله على المؤمنين ) .
ذكرت آية السياق موضوع المنّ الإلهي على المؤمنين وأنه بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم وهو موضوع عام أعظم من أن يكون له حد أو منتهى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
وتقدير الآية بلحاظ آية السياق ( وأن تعدوا منّ الله ببعثة النبي محمد لا تحصوها ).
ومن المنّ والفضل الإلهي بلحاظ آية البحث وجوه :
الأول : كل كلمة من آية البحث .
الثاني : مضامين آية البحث .
الثالث : تلاوة آية البحث .
الرابع : بعث المسلمين على التدبر في مضامين ودلالات آية البحث .
الخامس : فضح المنافقين وتوثيق أقوالهم التي تدل على إبطان الكفر وإرادتهم بعث الضعف والجبن والخور في مجتمعات المسلمين ، ليكون قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ) واقية من ترتب الأثر على أراجيف المنافقين .
وفي إخبار آية السياق عن منّ الله عز وجل على المؤمنين وجوه:
الأول : زجر وتوبيخ المنافقين .
الثاني : دعوة المنافقين للتوبة والإنابة .
الثالث : بعث الناس على الإحتراز من النفاق .
الرابع : تقدم وسبق واقية من النفاق لمن يريد دخول الإسلام .
الخامس : إجتهاد المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتحذير من المنافقين ، وبيان قبح النفاق وضرره العام ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ) .
ومن الخير الإنتفاع الأمثل من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزه عن النفاق .
السادس : قيام المؤمنين والمؤمنات بدعوة المنافقين للدفاع وصد جيش الذين كفروا ، وهذه الدعوة بالفطرة لأن العدو صار على مشارف المدينة ، ولا يرضى إلا باستباحتها باذن من قيادتهم أو بانفلات من الجنود ورجال القبائل خاصة وانهم يطلبون الثأر لقتلاهم في معركة بدر ، ومما يدل على الغيظ والحقد الذي يملأ صدورهم قيامهم بالتمثيل بالقتلى من المسلمين يوم معركة أحد.
كما في تمثيلهم بحسد حمزة عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإخراج كبده ، وقيام النسوة بقطع آذان الشهداء وجعلها قلائد لهن لا لشئ إلا لأنهم قالوا[رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا]( ).
ترى هل استمر القول والدعوة للمنافقين بالدفاع بعد عودتهم إلى المدينة وإنخزالهم من جيش المسلمين ، الجواب نعم ، وفيه أذى لهم وبيان لقبح فعلهم بالعودة والقعود ، وهو من الإعجاز في الآية السابقة وتعدد وجوه القول والندب إلى القتال بقوله تعالى [وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا]( ) لإمكان التفكيك فيها على جهات :
الأولى : تعالوا قاتلوا واخرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعركة أحد .
الثانية : توجه قول [تَعَالَوْا قَاتِلُوا]في سوح المعركة إلى المنافقين الذين حضروا معركة أحد ، ممن لم ينسحبوا مع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول طمعاً منهم بالغنائم أو حمية أو إرادة فرصة للإجهاز على بعض المسلمين عند تعرضهم للخسارة والهزيمة أو للشماتة والتثبيط في حال تقدم أو إنسحاب المسلمين هو من الإعجاز في تقييد الآية القتال بأنه(في سبيل الله).
الثالثة : سؤال بعض الصحابة للمنافقين بالرجوع إلى المعركة عندما عزموا على الرجوع من الشوط .
الرابعة : صدور الدعوة من بعض المنافقين بالتدارك والرجوع إلى جيش المهاجرين والأنصار وهو من عمومات قوله تعالى [وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ] ( ) .
الخامسة : توجه اللوم من أهل المدينة للمنافقين حين رجوعهم من الجيش ، وهي مسألة عامة لمن ينفرط عن نظام السير للقاء العدو مع تجلي قانون وهو أن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للدفاع عن الحق والتنزيل ، لذا جاء التقييد بسنخية القتال وأنه بقصد القربة والإخلاص في سنن التقوى.
ومن الإعجاز في فضل ومنّ الله على المسلمين أنه كاشف للمنافقين وهو من تجليات الجمع بين أول آية السياق وأول الآية السابقة بتقدير : لقد منّ الله على المؤمنين ليعلم الذين نافقوا ) بلحاظ كبرى كلية وهي مقابلة المؤمنين للنعم الإلهية بأمور :
الأول : الشكر لله عز وجل ، قال تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ).
الثاني : الثناء على الله عز وجل وإظهار الحب والتضرع إليه .
الثالث : الإنقطاع إلى طاعة الله ورسوله ، قال سبحانه [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
ومن رحمة الله في المقام كشف وفضح المنافقين وتحذير المؤمنين والناس جميعاً منهم ومما يبثون من الأراجيف وأسباب الصدود، إذ تبين آية البحث قانوناً وهو أن المنافقين لم يكتفوا بالقعود إنما أخذوا يحثون المؤمنين على القعود والمؤمنات على الإقعاد.
وفي الجمع بين الآيتين توبيخ للمنافقين فبدل الإنتفاع من منّ الله عز وجل الذي ويأتي للمؤمنين على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والبدلي فأنهم يضرون أنفسهم ويحملون أوزارهم وآثامهم وأوزارهم الذي يفتتن بهم ، فجاءت كل من آية البحث لمنع الناس من الإنتفاع أما المسلم فانه يتمسك بعرى الإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا..] ( ) بلحاظ أن من مصاديق هذا التمسك أمور :
الأول : التنزه عن النفاق .
الثاني : العصمة من الإنصات والإصغاء إلى المنافقين .
الثالث : المناجاة بالتوقي من آفة الشك والريب .
الرابع : التدبر والتفكر بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : جهاد الكفار في معركة أحد والخندق والصبر والمرابطة في الميدان .
وأما بالنسبة للناس فيجب إدراك قانون وهو أن المنافقين ليسوا بمؤمنين وإن أظهروا الإنتساب إلى الإسلام .
لقد جاءت آية البحث لتكون واقية من النفاق وحرزاً من دبيبه إلى النفوس والمجتمعات ، فيخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى ميدان المعركة ، وتبقى آية البحث حارساً في المدينة ، وغذاء للنفوس ودرعاً للجوانح والجوارح من النفاق والرياء والخور والجبن ، وفي خصوص معركة أحد نزل قوله تعالى إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ.
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين إذ أخبرهم عن قول الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا ..).
ويحب الله عز وجل من عباده مناجاتهم له ، ودعائهم وتضرعهم إليه قال سبحانه [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) وقال تعالى [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
ليأتيهم الفضل والمنّ من عند الله سبحانه بآيات القرآن والسنة النبوية القولية والفعلية ، وكل فرد منها يبين قبح النفاق ، وسوء ما يفعله ويقوله المنافقون ، إذ يصدون بالسبب الزائف الناس عن الخروج لقتال المشركين الذين أطلوا على المدينة المنورة بخيلهم وأسلحتهم وعدتهم والنساء التي معهم اللائي يضرب بالدفوف إعلاناً للحرب والقتال .
ويأتين بالاشعار التي تتضمن الطلب بثأر قتلى بدر من المشركين والذين كانوا معتدين أيضاً ليكون من خصال الذين كفروا أمور :
الأول : تلقي الخسارة المقرونة بالخزي كما في معركة بدر ، ويدل عليه مفهوم خطاب الله عز وجل للمسلمين [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الثاني : عدم الإتعاظ من الخسارة والهزيمة .
الثالث : المناجاة بتكرار التعدي كما في عودة الذين كفروا إلى القتال في معركة أحد .
الرابع : بذل الوسع للإستهزاء بالمؤمنين والجحود بالمعجزات ، قال تعالى[وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ]( ).
ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه منّ من الله عز وجل على المؤمنين ، وعلى الناس جميعاً بالإلحاق فان قلت قد قيدت آية السياق المن من الله عز وجل على المؤمنين برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه من أنفسهم بقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ]( ) والجواب من جهات :
الأولى : ثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، فرسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم منّ من الله على الناس جميعاً .
الثانية : لقد خلق الله عز وجل آدم وبث الناس من ذريته وأمرهم الله بعبادته ، قال تعالى [خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا] ( ).
الثالثة : لقد منّ الله على المؤمنين وبواسطتهم على الناس جميعاً .
الرابعة : إرادة الأصل وهو وجوب الإيمان وإقرار كل إنسان بربوبية الله المطلقة .
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين فما أطاعوا الذين نافقوا )
كانت معركة أحد ملحمة يتجلى فيها التضاد بين الإيمان والكفر لتطل وقائع هذه المعركة على الناس في كل زمان ومكان وتكون موعظة وسبيل هداية ، وهو من الإعجاز في إتصافها بخصوصية وهي كثرة خسارة المسلمين فيها وإتخاذهم لها موعظة وعبرة , وتبين آية البحث أذى المنافقين للمؤمنين في معركة أحد ، فمع الملاقاة بالسيوف مع الذين كفروا ،هناك المنافقون يبثون الأراجيف لتثبيط هم المؤمنين فإن قلت قد وردت سورة باسم معركة وهي سورة الأحزاب الجواب هذا صحيح إلا أنه لا يتعارض مع رجحان عدد الآيات التي جاءت بخصوص معركة أحد.
وصحيح أن قوله تعالى [وَقَعَدُوا] خاص بالمنافقين إلا انه يشمل سعيهم من جهات :
الأولى : إرادة قعود المؤمنين .
الثانية : بعث عوائل المؤمنين على الشك والريب، وحثهم على القعود.
الثالثة : محاولة بث فلسفة الندامة في نفوس المؤمنين على الدفاع , والجهاد في سبيل الله وهل هو من عمومات قوله تعالى[لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ]( )، الجواب لا، لأن آية البحث واقية من وقوع مثل هذه الندامة، وهي سبب في حسن توكل المؤمنين والمؤمنات على الله، والصبر في ملاقاة العدو الكافر، قال تعالى[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
لذا فضح الله عز وجل ما يقوم به المنافقون ، وتولى بنفسه الإحتجاج عليهم في آية البحث وبيانه لعجزهم عن دفع الموت عن أنفسهم ، ومن منّ الله عز وجل على المؤمنين أنه لم يخوفهم ويتوعدهم بالموت.
المسألة التاسعة : لقد أخبرت آية السياق عن كون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يزكي المسلمين .
ومن معاني التزكية في المقام التطهير والتنزه عن فعل السيئات وإرتكاب الآثام ليكون المسلمون الأمة الزاكية ، وهو من مصاديق قوله [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وهل تنحصر منافع تزكية المسلمين بهم أنفسهم , الجواب لا ، إنما موضوع الآية أعم في أثره ونفعه ودلالته من جهات :
الأولى : التزكية مقدمة لعمل الصالحات
الثانية : التزكية مرآة للتوبة .
الثالث : إرادة تزكية المسلمين ومنتدياتهم من النفاق , ووقايتهم من الشك والريب .
الرابع : إصلاح المسلمين للدفاع عن النبوة والتنزيل .
الخامس : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتلقيهم الأمر بالإمتثال , والنهي باجتناب ما نهي عنه ، وفي التنزيل [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ…] ( ).
المسألة العاشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته , والذين نافقوا قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا )
لقد جعل الله عز وجل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ومنه الإخبار عن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنها نعمة وخير محض نال معها شطر من الناس صفة المؤمنين والشهادة لهم من الله بالمنزلة الرفيعة.
ويبين قوله تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ..] ( ) مسألة وهي أن بلوغ مرتبة الإيمان منّ من عند الله على المؤمنين , ومعها تأتي مصاديق وأفراد لامتناهية من المنّ الإلهي لذا ذكرت الآية تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن وتزكيتهم وتعليمهم الكتاب والحكمة , ويتجلى المن الإلهي في التلاوة بقوله تعالى[وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً]( ).
ومن مصاديق تلاوة النبي لآيات القرآن آية البحث ليكون من معاني وتقدير آية السياق وجوه :
أولاً :يتلو عليهم آياته في فضح وذم المنافقين .
ثانياً : يتلو عليهم آياته بلزوم عدم الإنصات للمنافقين .
ثالثاً : يتلو عليهم آياته [وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ).
رابعاً : يتلو عليهم آياته ليتنزهوا عن النفاق ، وهناك تضاد بين الإيمان والنفاق ، ويدل وصف آية البحث للذين منّ الله عليهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم مؤمنون بالدلالة التضمنية على استعدادهم للدفاع عن النبوة والتنزيل ، وسلامتهم من النفاق ، لدلالة وصف المؤمنين على إمتلاء نفوسهم وجوارحهم بالإيمان لأن الله عز وجل [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ).
فمن معاني آية السياق وجوه :
الأول : لقد منّ الله على المؤمنين في ظاهرهم وباطنهم , وتبين آية البحث والآيات التي تذم النفاق على موضوعية ما يضمره الإنسان.
الثاني : لقد منّ الله على المؤمنين الذين صدقوا في إيمانهم .
الثالث : لقد منّ الله على المؤمنين بخلو أفئدتهم من النفاق ، وهذا الخلو مقدمة للمسارعة للإستجابة لنداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالدفاع عن الإسلام .
الرابع : لقد منّ الله على المؤمنين فلا يلتفتون إلى شكوك وأباطيل المنافقين .
الخامس : لقد منّ الله على المؤمنين ليرث الأبناء من بعدهم الإيمان ويحذروا المنافقين ، وهو من الإعجاز في آية البحث لأنها واقية لأجيال المسلمين من المنافقين ، وقد ذكرت آية السياق تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آيات الله عز وجل على المؤمنين .
وبين آيات الله وآيات القرآن عموم وخصوص مطلق ، فآيات الله أعم وأكبر ، وعدد آيات القرآن هو ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية أما آيات الله فهي من اللامتناهي ولا يقدر على إحصائها إلا الله عز وجل وهو من عمومات قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا..] ( ) وكل آية من عند الله هي نعمة على الخلائق ، ولكن دلالة آية السياق على إرادة آيات القرآن بقرينة التلاوة بقوله تعالى [يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ..] ( ) .
أما آيات الله بالمعنى الأعم فقد ورد ذكرها بصيغة البيان ونحوه , كما في قوله تعالى [وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ] ( ).
وجاءت آيات عديدة تبين ذخائر ومعالم الآيات الكونية كما في تكرار قوله تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ] في قوله تعالى [يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمْ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِ بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنْ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ * وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ) , مع تقدير ( ومن آياته ) في الآيتين الأخيرتين أعلاه .
المسألة الحادية عشرة : لقد أخبرت آية السياق عن قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم المؤمنين الكتاب والحكمة فمع بلوغ مرتبة الإيمان يأتي تعليم الكتاب والحكمة من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه بيان آية في خلق الإنسان وإصلاح المؤمنين لمراتب الرفعة والعلو والشأن .
ومن الإعجاز مجئ صفة الإيمان بصيغة الإستقرار والثبات , أما التعليم فورد بصيغة الفعل المضارع الذي يدل على التجدد والإستمرار ، وهو من مصاديق المنّ الذي تذكره آية السياق .
ومن أسماء الله المنان ، فهو الذي منّ على المؤمنين ويمنّ عليهم على نحو دائم ومتجدد .
ومن تعليم الكتاب الذي تذكره آية السياق ما ورد في آية البحث من وجوه :
الأول : بيان وجود طائفة تتصف بالنفاق وإبطان الكفر مع إظهارهم الإيمان .
الثاني : نزول آية البحث لبيان قبيح ما يفعل الذين نافقوا بلحاظ كبرى كلية وهي أن نزول كل آية من القرآن من مصاديق منّ الله عز وجل على المسلمين والمسلمات برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : إصلاح آية البحث المؤمنين للدفاع عن النبوة والتنزيل , وعدم القعود , ذاك الذي يرغّب به الذين نافقوا .
الخامس : تذكير آية البحث بالموت ، وإتخاذه وحضوره عند الإنسان متى شاء الله حجة على الذين نافقوا .
السادس : دلالة خاتمة الآية على نعت الذين نافقوا بالكذب ، وتخلفهم عن صدق الدعوى والقصد .
السابع : عدم إكتفاء المنافقين بابطان وإخفاء الكفر ، إنما أخذوا يبثون الشكوك وما يشبه الشماتة بالشهداء مما يبين الحاجة إلى آية البحث من جهات :
الأولى : ذم المنافقين .
الثانية : فضح المنافقين , وبيان حرمانهم أنفسهم من دعاء ورأفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن الإمام الباقر عليه السلام، قال بينا داود على نبينا وآله وعليه السلام جالس وعنده شاب رث الهيئة يكثر الجلوس عنده ويطيل الصمت إذ أتاه
ملك الموت فسلم عليه وأحد ملك الموت النظر إلى الشاب، فقال داود على نبينا وآله
وعليه السلام: نظرت إلى هذا ؟ فقال: نعم إني امرت. بقبض روحه إلى سبعة أيام في هذا
الموضع فرحمه داود فقال: يا شاب هل لك امرأة ؟ قال: لا وما تزوجت قط قال داود: فأت
فلانا – رجلا كان عظيم القدر في بني إسرائيل – فقل له: إن داود يأمرك أن تزوجني
ابنتك وتدخلها الليلة وخذ من النفقة ما تحتاج إليه وكن عندها فإذا مضت سبعة أيام
فوافني في هذا الموضع فمضي الشاب برسالة داود على نبينا وآله وعليه السلام فزوجه الرجل ابنته وأدخلوها عليه وأقام عندها سبعة أيام، ثم وافى داود يوم الثامن فقال له داود: يا شاب كيف رأيت ما كنت فيه ؟ قال: ما كنت في نعمة ولا سرور قط أعظم مما كنت فيه، قال داود: اجلس فجلس وداود ينتظر أن يقبض روحه فلما طال قال: انصرف إلى منزلك فكن مع أهلك فإذا كان يوم الثامن فوافني ههنا، فمضى الشاب، ثم وافاه يوم الثامن وجلس عنده، ثم انصرف اسبوعا آخر ثم أتاه وجلس فجاء ملك الموت داود، فقال داود صلوات الله عليه: ألست حدثتني بأنك أمرت بقبض روح هذا الشاب إلى سبعة أيام ؟ .
قال: بلى، فقال: قد مضت ثمانية وثمانية وثمانية ! قال: يا داود إن الله تعالى رحمه برحمتك له فأخر في أجله ثلاثين سنة)( ).
لقد حرم الذين نافقوا أنفسهم من رحمة ورأفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهم، قال تعالى في الثناء عليه[لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ]( ).
وهل آية البحث من رأفة الله بالناس ومنهم الذين نافقوا، الجواب نعم.
ومن الإعجاز في الآية أعلاه التخصيص بعد العموم، إذ نسبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى نفوس المسلمين والعرب وليشمل الخطاب الذين نافقوا , وحصرت رأفته بالمؤمنين، لبيان قانون، وهو أن رأفة الله أعظم، وشاملة للناس جميعاً .
ومن أسمائه تعالى(الرؤوف) ومن مصاديق الإطلاق والعموم في رأفته وشمولها الناس جميعاً قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ]( )،
الثالثة : كشف ما يقوله المنافقون من سوء القول .
الرابعة : قعود المنافقين عن الدفاع وملاقاة الذين كفروا في معركة أحد .
وبين القاعدين عن وفي المعركة وبين المنافقين عموم وخصوص مطلق ، فالقاعدون أعم , وهم على وجوه :
أولاً : المؤمنون القاعدون عن عذر .
ثانياً : المؤمنون القاعدون من غير عذر ، ويختلفون عن الذين نافقوا بأنهم لا يبثون الأراجيف والإشاعات المغرضة ، ولا يحرضون على القعود.
ثالثاً : الذين اكتفوا بالجهاد بأموالهم ، وهل يصح القول بأن المؤمنات من القاعدين لأن القتال ساقط عنهن ، الجواب لا .
رابعاً : المؤمنون القاعدون من غير عذر .
ويدل عليه قوله تعالى [لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً] ( ).
وفي الآية نكتة وهي عدم جواز رمي كل قاعد عن القتال بالنفاق ، إذ تصف الآية القاعدين أعلاه بأنهم مؤمنون ، وفيه شاهد بأنهم لم يقعدوا نتيجة لقول المنافقين أو محاكاتهم .
وتتضمن الآية أعلاه الإشارة إلى طوائف :
الأولى : المؤمنون القاعدون الذين ليس لهم عذر بقعودهم , مع اللوم وبيان تفويت الثواب على النفس بهذا القعود .
الثانية : المؤمنون الذين لهم عذر في قعودهم ، (عن زيد بن ثابت قال : كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فغشيته السكينة ، فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فخذي فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم سري عنه : فقال : اكتب . فكتبت في كتف { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله }( ) إلى آخر الآية.
فقال ابن أم مكتوم – وكان رجلاً أعمى – لما سمع فضل المجاهدين : يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟
فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السكينة ، فوقعت فخذه على فخذي ، فوجدت ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى .
ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : اقرأ يا زيد . فقرأت { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اكتب { غير أولي الضرر) ( ).
الثالثة : المجاهدون في سبيل الله بأموالهم .
الرابعة : المجاهدون في سبيل الله بأنفسهم
الخامسة : المجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم .
وتبين الآية تفضيل المجاهدين ، ولم تذكر المنافقين مع قعودهم ولم يرد لفظ [القاعدون] في القرآن بالرفع إلا في الآية أعلاه
المسألة الثانية عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين قل للذين نافقوا فأدرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ) .
لقد أكرم الله عز وجل المسلمين بآية السياق من وجوه وهي :
الأول : ذكر منّ الله عز وجل على المسلمين وبما لا يقدر عليه غيره سبحانه ، وهو من مصاديق الملكية المطلقة لله عز وجل , وفي التنزيل [وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]( ).
وتبين الآية أعلاه أن منّ الله على المؤمنين من البركة التي تذكرها الآية أعلاه ومن كرمه وجوده وإحسانه ولطفه في ملكه ، وليرجعوا إليه بذخائر التقوى ويستقروا بالجنة ثواباً دائماً لذا ليس من برزخ بين العبد والإيمان ، ولا يلزم الأمر إذناً من أحد الخلائق ، فالإيمان حبل وصلة بين الله عز وجل وبين العباد .
الثاني : الملازمة بين الإيمان وتوالي المن الإلهي مع تقييد هذا المنّ في المقام , وهو بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته العامة للناس.
ومن معاني هذا التقييد خروج المؤمنين من الأمم السالفة ، فان قلت قد تلقى هؤلاء المؤمنون البشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في إخبار عيسى للحواريين والناس ، إذ ورد في التنزيل [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ) .
الجواب إنما ذكرت آية السياق الظرفية في البعثة بقوله تعالى[إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ]( ) فذكرت آية السياق (إذ) لإرادة الزمن الماضي أي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبي بلغ مرتبة الرسالة قبل نزول آية السياق ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ).
الثالث : من خصائص المؤمنين التسليم بأنهم لا يستطيعون دفع الموت عنهم مجتمعين ومتفرقين ، قال تعالى [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ).
ومن معاني هذا التسليم ومضامين الآية أعلاه التوجه إلى سوح الدفاع عن الإسلام ، لبيان أن فوز طائفة من المؤمنين بالشهادة إنما جاء عن تأديب وهداية من عند الله عز وجل ، ليكون فيه زاجر للمنافقين عن بث المغالطات في المدينة .
الرابع : من معاني الجمع بين الآيتين أن الرضا بالقتل في سبيل الله من خصائص الإيمان .
الخامس : دلالة آية السياق على تقدم المن الإلهي على المؤمنين مجتمعين ومتفرقين قبل وقوع معركة أحد، مما يدل على أنهم خاضوا المعركة بسلاح المن الإلهي مع نزول مصاديق من المن عليهم كل يوم من حين البعثة النبوية وإلى خروجهم إلى المعركة حتى جاء مصداق عظيم لهذا المنّ بنزول الملائكة لنصرتهم يومئذ.
الشعبة الثانية : صلة آية البحث بالآيات المجاورة التالية , ومنها وجوه :
الوجه الأول : صلة آية البحث بالآية التالية [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) وفيها مسائل :
المسألة الأولى : إتحاد موضوع الآيتين ، وكل واحدة منهما نزلت بخصوص معركة أحد (عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون })( ).
وفيه شاهد على الشأن العظيم لمعركة أحد في تأريخ بناء صرح دولة الإسلام ، وتثبيت أحكامه إلى يوم القيامة على الفرد أو الجماعة أو الأمة ساعة من نهار لتغير مجرى الأحداث وتؤسس لطريق وصراط ، فيتلو كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
ومن الآيات تشريع الصلاة في مكة قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ليكون دعاء المسلمين والمسلمات بالهداية إلى الصراط المستقيم مقدمة وعوناً لهم في الصبر في معارك الإسلام الأولى ، ووسيلة مباركة لنزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ومن الهداية إلى الصراط بلحاظ آية البحث أمور :
الأول : بيان وجود طائفة بين المسلمين تتصف بالنفاق .
الثاني : إستعاذة المسلمين والمسلمات من النفاق والمنافقين .
الثالث : علم المسلمين بما يبثه المنافقون من الأراجيف وصدودهم عن النفير الدفاعي .
الرابع : لقد أخبرت آية البحث عن قعود المنافقين عن الدفاع مع إقتراب جيوش المشركين من المدينة ، ليكون من الصراط المستقيم في المقام مسائل :
الأولى : السخط على المنافقين وعدم الرضا بما يقومون به .
الثانية : التوكل على الله وسؤال العون والمدد والكفاية ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ] ( ).
الثالثة : الإمتناع عن التشبه بالمنافقين في قعودهم وتحريضهم على القعود.
الرابعة : المناجاة بالنفير والدفاع والتقيد بأداء الفرائض والواجبات .
الخامسة : دلالة آية البحث على إتباع المؤمنين الصراط المستقيم واستشهاد جماعة منهم شاهد على إعراضهم العام التلاوم الذي أظهره المنافقون كما في آية البحث [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] فكل المهاجرين والأنصار الذين حضروا معركة أحد لم يطيعوا المنافقين في حثهم على القعود ، ولكن المنافقين اكتفوا بتوجيه اللوم إلى الذين استشهدوا لإرادة الدعوة إلى القعود في معارك الإسلام الأخرى , ومن المنافقين من حضر معركة أحد , وورد القرآن بذمهم , وكشف ما في صدورهم , وأن همهم كان بأنفسهم , بقوله تعالى [ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ] ( ).
المسألة الثانية : التباين بين مضامين الآيتين من جهة تعلق آية البحث بذم الذين المنافقين بينما تتضمن الآية التالية الثناء على المؤمنين الذين قتلوا في سبيل الله في معركة أحد ، ليكون من معاني الآية الإنتصار للذين قتلوا من المؤمنين ولعموم الصحابة من المهاجرين والأنصار الذين حضروا معركة أحد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ..]( ).
وفيه توثيق من السماء، وبيان التباين بين قبيح ما يفعله الذين نافقوا وبين صدق وإخلاص المؤمنين في الدعوة إلى الله ، ومحاربة الشرك ومفاهيم الضلالة .
إن زحف الذين كفروا بجيوش كبيرة لقهر المؤمنين والنية في إستئصال الإسلام ، لم يجعل المهاجرين والأنصار يصابون بالخوف أو الفزع أو الميل إلى طرف المنافقين ، ودعوتهم بالقعود , ويدل عليه قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) .
ليبدأ عصر جديد يطل على الجزيرة والعالم وهو ثبات المسلمين في مقامات الإيمان وإمتناعهم عن طاعة الذين كفروا الذين يريدون لهم ترك دينهم، وعن الإستجابة للذين نافقوا الذين يحثونهم على القعود .
ومن الشواهد على الصلة والجامع بين الذين كفروا والمنافقين ، بلحاظ معركة أحد جهات :
الأولى : زحف جيش عرمرم من المشركين صوب المدينة مقدمة لدعوة المنافقين بالقعود عن قتالهم .
الثانية : حث المنافقين المسلمين على القعود مقدمة لغلبة جيش المشركين ودخولهم المدينة وسبي أهلها، ولكن ورد في التنزيل[وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ) فجاءت كل من آية البحث والسياق لفضح المنافقين ومنع جيش المشركين من التقدم صوب المدينة .
الثالثة : التأليب والتعاون الظاهر والخفي، والمقصود وغير المقصود بين الكفار والمنافقين ضد الإسلام والنبوة، وفيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهة أن التوقي والنجاة من هذا التعاون لا يتمان إلا بمدد ومنّ وفضل من عند الله.
الرابعة : دلالة آية البحث والآية التالية على خيبة الذين نافقوا وعلى ظهور الإسلام قوياً منيعاً بعد معركة أحد.
المسألة الثالثة : ذكرت كل من آية البحث والآية التالية لفظ [قُتِلُوا] وبينهما عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء إرادة الشهداء في معركة أحد ، ومادة الإفتراق ذكرهم في آية البحث على لسان المنافقين مع بيان إرادة المنافقين التعريض بهم فتفضل الله بالدفاع عنهم وينقطع كلام وتعريض الذين نافقوا في آوانه، ولكن دفاع الله عن المؤمنين باق إلى يوم القيامة من جهات:
الأولى : مصاحبة القرآن وآياته لأيام الحياة الدنيا.
الثانية : تلاوة المسلمين والمسلمات آية البحث كل يوم عدة مرات في الصلاة اليومية.
الثالثة : إستحضار المسلمين لآية البحث في الجدال والمناظرة، ومن الإعجاز في أمر الله عز وجل للنبي[قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ]( )، لزوم عناية المسلمين وعلى نحو العموم المجموعي والإستغراقي والبدلي بالإحتجاج الوارد في آية البحث وإستقراء المسائل منه.
الرابعة : إدراك المسلمين لقانون وهو تفضله بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قل) عهد للمسلمين عليهم أن يحفظوه ويتعاهدوه، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( )، أن بقاء دفاع الله عز وجل عن المؤمنين عامة والشهداء خاصة في الأرض من الشواهد والمعاني المتعددة لملكية الله المطلقة، وقوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
أما آية السياق فقد ورد ذكر الشهداء فيها من عند الله عز وجل بالأصالة، لأن الشهادة إرتقاء في المنزلة ورفعة في النشأتين .
لقد تعقب الثناء على الشهداء والإخبار عن نيلهم المنزلة الرفيعة إستهزاء المنافقين بالذين خرجوا للجهاد وشماتتهم بالشهداء فجاءت الآية التالية ناسخة لكل من الإستهزاء والشماتة وليصير المنافقون في حال ذل وفزع وخوف ، فقد علم الله عز وجل بما يقولون والمقاصد الخبيثة من قولهم هذا بدليل خاتمة الآية السابقة [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] ( ) .
وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : والله عليم بما يخفي المنافقون في صدورهم ، وهل يشمل هذا المعنى مناجاتهم بالسر والخفاء ، وعزمهم على بث الوهن والضعف في صفوف المسلمين ، أم أن الآية تختص بما يخفيه المنافقون في صدورهم من الكفر والغل والحسد للمؤمنين.
الجواب هو الأول لتكشف خاتمة الآية السابقة عن حقيقة وهي علم الله عز وجل بالذي يتناجى به المنافقون وما يحيكون من خيوط المكر ، وورد في التنزيل ذم المنافقين بقوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ * أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ] ( ).
الثاني : والله أعلم بما يكتم ويخفي المنافقون من الكيد والمكر بالمسلمين، لقد كانت حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خطر لإحتمال قيام المنافقين بالغدر به كما حدث في ليلة العقبة بين تبوك والمدينة، وأرادوا مزاحمة ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يطرح في الوادي، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حذيفة أن يردهم، وقد أخبر الله عز وجل رسوله بأسمائهم وأسماء آبائهم، فسأله حذيفة أن تضرب أعناقهم عند الصباح، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدّثَ النّاسُ وَيَقُولُوا : إنّ مُحَمّدًا قَدْ وَضَعَ يَدَهُ فِي أَصْحَابِهِ)( )، وسماهم لحذيفة وعمار.
ويحتمل المراد من الناس في الحديث أعلاه وجوهاً :
الأول : الصحابة .
الثاني : الصحابة من الرجال والنساء .
الثالث : المسلمون الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك ، وعددهم ثلاثون ألفاً .
الرابع : المنافقون والكفار ، إذ يسعون في بث الفرقة والخلاف .
الخامس : المراد أهل الكتاب من اليهود والنصارى زمن النبوة .
السادس : المراد الناس جميعاً أيام النبوة .
السابع : المقصود أجيال الناس والأمم والملل إلى يوم القيامة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه في المقام فيصبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المنافقين ليكون هذا الصبر والسلام من الغضب شاهداً على نبوته وحجة على المنافقين .
وقال ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لحذيفة : إنّ اللّهَ قَدْ أَخْبَرَنِي بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَسَأُخْبِرُك بِهِمْ إنْ شَاءَ اللّهُ غَدًا عِنْدَ وَجْهِ الصّبْحِ فَانْطَلِقْ حَتّى إذَا أَصْبَحْتُ فَاجْمَعْهُمْ فَلَمّا أَصْبَحَ قَالَ اُدْعُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُبَيّ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي سَرْحٍ وَأَبَا خَاطِرٍ الْأَعْرَابِيّ وَعَامِرًا وَأَبَا عَامِرٍ وَالْجُلَاسَ بْنَ سُوَيْدِ بْنِ الصّامِتِ وَهُوَ الّذِي قَالَ لَا نَنْتَهِي حَتّى نَرْمِيَ مُحَمّدًا مِنْ الْعَقَبَةِ اللّيْلَةَ وَإِنْ كَانَ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ خَيْرًا مِنّا إنّا إذًا لَغَنَمٌ وَهُوَ الرّاعِي وَلَا عَقْلَ لَنَا وَهُوَ الْعَاقِلُ وَأَمَرَهُ( ) أَنْ يَدْعُوَ مُجَمّعَ بْنَ حَارِثَةَ وَمُلَيْحًا التّيْمِيّ وَهُوَ الّذِي سَرَقَ طِيبَ الْكَعْبَةِ وَارْتَدّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَانْطَلَقَ هَارِبًا فِي الْأَرْضِ فَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ .
وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ حِصْنَ بْنَ نُمَيْرٍ الّذِي أَغَارَ عَلَى تَمْرِ الصّدَقَةِ فَسَرَقَهُ وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَيْحَكَ مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا ؟ فَقَالَ حَمَلَنِي عَلَيْهِ أَنّي ظَنَنْتُ أَنّ اللّهَ لَا يُطْلِعُك عَلَيْهِ فَأَمّا إذَا أَطْلَعَك اللّهُ عَلَيْهِ وَعَلِمْته فَأَنَا أَشْهَدُ الْيَوْمَ أَنّك رَسُولُ اللّهِ وَإِنّي لَمْ أُؤْمِنْ بِك قَطّ قَبْلَ هَذِهِ السّاعَةِ.
فَأَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَثْرَتَهُ وَعَفَا عَنْهُ.
وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ طُعَيْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ عُيَيْنَةَ وَهُوَ الّذِي قَالَ لِأَصْحَابِهِ اسْهَرُوا هَذِهِ اللّيْلَةَ تَسْلَمُوا الدّهْرَ كُلّهُ فَوَاَللّهِ مَا لَكَمَ أَمْرٌ دُونَ أَنْ تَقْتُلُوا هَذَا الرّجُلَ فَدَعَاهُ فَقَالَ وَيْحَكَ مَا كَانَ يَنْفَعُكَ مِنْ قَتْلِي لَوْ أَنّي قُتِلْتُ ؟
فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ فَوَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ لَا نَزَالُ بِخَيْرِ مَا أَعْطَاك اللّهُ النّصْرَ عَلَى عَدُوّك إنّمَا نَحْنُ بِاَللّهِ وَبِك فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ
وَقَالَ اُدْعُ مُرّةَ بْنَ الرّبِيعِ وَهُوَ الّذِي قَالَ نَقْتُلُ الْوَاحِدَ الْفَرْدَ فَيَكُونُ النّاسُ عَامّةً بِقَتْلِهِ مُطْمَئِنّينَ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ
فَقَالَ وَيْحَكَ مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَقُولَ الّذِي قُلْت ؟
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ كُنْتُ قُلْتُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إنّك لَعَالِمٌ بِهِ وَمَا قُلْتُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
فَجَمَعَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَهُمْ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا الّذِينَ حَارَبُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ فَأَخْبَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِقَوْلِهِمْ وَمَنْطِقِهِمْ وَسِرّهِمْ وَعَلَانِيَتِهِمْ وَأَطْلَعَ اللّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيّهُ عَلَى ذَلِكَ بِعِلْمِهِ وَمَاتَ الِاثْنَا عَشَرَ مُنَافِقِينَ مُحَارِبِينَ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ { وَهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا })( ).
الثالث : والله أعلم بما يكتمون فيفضحهم ويخزيهم في التنزيل والسنة.
الرابع : والله أعلّم بما يكتمون من البغض لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , والحب والولاء للذين كفروا.
الخامس : والله أعلم بما يكتم المنافقون وما يكتم غيرهم من الناس، فمن صفات الله علمه بما يخفي الناس في صدورهم، وكل الخطرات والنوايا والمقاصد حاضرة عنده سبحانه قبل وجودها وبعده من غير أن تغيب عنه سبحانه , ويكون حضورها بالدقة والتفصيل , وبما يفوق التصور الذهني للناس.
السادس : والله أعلم بالمنافقين وتعريضهم بالمؤمنين لصبرهم في الدفاع عن ذات المنافقين وعوائلهم.
السابع : قد ورد قوله تعالى[وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ]( )، والنسبة بين الظالم والمنافق هو العموم والخصوص المطلق، إذ يشمل الظالم أيضاً الكافر والمتعدي.
الثامن : لقد أختتمت الآية السابقة بالإنذار والوعيد والتهديد للمنافقين، وهو من العقوبة العاجلة على النفاق، وفيه دعوة لهم للتنزه عنه، وفي التنزيل[بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ *وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ]( )، أي بما يضمرون في قلوبهم من الجحود وإنكار النبوة، وإرادة الصدود عن التنزيل لإغواء الناس، وإيجاد أتباع لهم يتولون محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة ولو بالخفاء وبالتظاهر بالإنتماء للإسلام، فجاءت آية البحث لفضحهم وإخبار المسلمين بالأفعال التي تدل على النفاق ليتفقهوا في الدين ويجتهدوا في تقوى الله .
ومن الإعجاز أن هذا التفقه عام شامل لكل المسلمين والمسلمات مما يدل على حاجتهم له، قال تعالى[وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ]( ).
الوجه الثاني : صلة آية البحث بقوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : جاءت كل من الآيتين بصيغة الجملة الخبرية مع التباين الموضوعي بينهما من وجوه :
الأول : تتحدث آية البحث عن معركة أحد ومكر وخبث المنافقين قبل وبعد المعركة ، فقد كانوا في سكون وخمول إلى أن جاء جيش المشركين وأطل على المدينة المنورة.
والمنافقون في آية البحث على وجوه :
أولاً : الذين يحضرون مع النبي والمسلمين الصلاة ويعلنون الإسلام ويقسمون بالله بأنهم مسلمون ، قال تعالى [وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ] ( ) .
ثانياً : الذين بقوا على الكفر من أهل المدينة ويراد من إخوانهم في آية البحث أي إخوانهم في النسب ، وما هو أعم كما سيأتي.
ثالثاً : هل تشمل الآية بعض أهل الكتاب في المدينة أم أن قوله تعالى [لِإِخْوَانِهِمْ] يجعلهم خارجين بالتخصيص .
المختار هو الأول، خاصة كانت هناك إطلاق وولاء بين الأوس والخزرج ويهود المدينة.
الثاني : أخبرت آية السياق عن حال الشهداء بعد إنتقالهم إلى عالم الآخرة ، مع بيان قانون وهو ليس بينهم وبين السعادة التامة والدائمة إلا مفارقة الروح الجسد ، ويعلمون بما يدخره الله عز وجل للمؤمنين عموماً ومنهم المجاهدون في معركة أحد الذين لم يقتلوا ، إذ نالوا درجة الشهادة وهم أحياء خاصة وأن الجراحات تغشت أبدانهم .
لقد قاتل الشهداء في معركة أحد لتكون كلمة الله هي العليا وليهتدي الناس إلى الإسلام وينبذوا عبادة الإصنام ، ولو أرادوا أنفسهم لأكتفوا بأيمانهم وجلسوا يصلون كل يوم ويصومون شهر رمضان وهربوا إلى رؤوس الجبال مع غنيمات قليلة يقتاتون بها خاصة وأن آية البحث تتضمن الإخبار عن دعوة المنافقين لهم بالقعود عن القتال .
الثالث : لقد كانت معركة أحد فيصلاً بين الإيمان والنفاق إذ ظهر النفاق بالإمتناع عن القتال والدفاع ، وفيها إنفصال وتباين بين حال المنافقين من الذل والخوف المترتب على القعود والشك وبين حال الشهداء من الغبطة والفرح في الآخرة ، وفي التنزيل [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ) .
الرابع : ذكرت آية البحث قعود المنافقين وهو أعم من أن يختص بحال الدفاع عن الإسلام والنبوة والتنزيل فقد قعدوا عن رزقهم وعن الشأن الرفيع والمنزلة السامية بحسن الإيمان والفوز بالمراتب العالية مع الشهداء ، إذ أخبر القرآن على تعدد وجوه نيل المراتب الرفيعة في الآخرة كما في قوله تعالى [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا] ( ).
ولم يرد لفظ [رَفِيقاً] في القرآن إلا في الآية أعلاه للترغيب بطاعة الله ورسوله في أداء الوظائف العبادية .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن أكثر أيام النبوة حال سلم وحضور وليس حال حرب وقتال ، ومع عظيم شأن معارك الإسلام الأولى فانها اتصفت بقصر المدة , وقلة عدد الساعات أو عدم وقوع قتال من جهات :
الأولى : لم تستغرق معركة بدر إلا شطراً من نهار اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، حيث بدأت المعركة برشق السهام ثم تقدم ثلاثة من كبار المشركين وهم عتبة بن ربيعة وابنه الوليد وأخوه شيبة وطلبوا المبارزة فخرج لهم من بين الصفوف ثلاثة من الأنصار ولما عرّفوا لهم أنفسهم قالوا نريد الإكفاء من قريش.
وفي هذا الطلب بغي ظاهر ، وإرادة قصد قطع الرحم ، وبداية شؤم عليهم وعلى جمعهم وتأكيد لحقيقة وهي أنهم على باطل ويخوضون في الباطل ويصرون على الظلم.
فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة من أهل بيته بالخروج إذ قال : قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة لتنتهي المبارزة بقتل المشركين الثلاثة ويدرك معها الجيشان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمعجزة في نصرة ونزول الملائكة مدداً بعد الحاح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء وسؤال النصر ، كما ورد في التنزيل [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
الثانية : إنقضاء معركة أحد في ذات اليوم الذي إبتدأت به وهو معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : مجئ ثلاثة آلاف مقاتل .
الثاني : تعيين جيش المشركين لغايات محددة ، منها قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنسحبوا من غير أن ينالوا منه أو يحققوا أي غاية لهم ، وهو من الشواهد على نزول الملائكة وبعث الله الخوف في قلوب الذين كفروا.
ويدل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل لي تراب الأرض طهوراً ، وجعلت أمتي خير الأمم) ( ) على أن المشركين حضروا معركة أحد وقلوبهم مملوءة بالرعب ويتغشى الخوف صفوفهم , وهو حجة على الذين نافقوا.
الثالث : عدم مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم موضع المعركة إلا بعد أن دفن الشهداء ، وتأكد بأن المشركين إنهزموا وإنسحبوا إلى مكة .
الرابع : موضوعية الدعاء في السنة النبوية الدفاعية قبل وأثناء وبعد المعركة .
فلما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم العودة إلى المدينة دعا بفرسه وركبه وأحاط به المسلمون وأكثرهم جرحى ، ولما كانوا بأصل جبل أحد ، قال : أصطفوا حتى أثني على الله .
لبيان حقيقة وهي أنهم رجعوا من معركة أحد منتصرين شاكرين لله عز وجل سلامة النبوة والتنزيل ، فأصطف المسلمون خلفه صفين كي يسمعوا دعاءه وثناءه على الله , ووقفت النسوة خلفهم وعددهن أربع عشرة امرأة.
وتوجه النبي صلى الله عليه وآله سلم إلى الدعاء وقال (اللهم، لك الحمد كله! اللهم، لا قابض لما بسطت، ولا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت!
اللهم إني أسألك من بركتك ورحمتك وفضلك وعافيتك! اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول!
اللهم إني أسألك الأمن يوم الخوف والغناء يوم الفاقة، عائذاً بك .
اللهم من شر ما أعطيتنا وشر ما منعت منا! اللهم توفنا مسلمين! اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين!
اللهم عذب كفر أهل الكتاب الذين يكذبون رسولك ويصدون عن سبيلك! اللهم أنزل عليهم رجسك وعذابك! إله الحق! آمين!
وأقبل حتى نزل ببني حارثة يميناُ حتى طلع على بني عبد الأشهل وهم يبكون على قتلاهم، فقال: لكن حمزة لا بواكي له) ( ).
ومن الآيات في معركة أحد أن بدايتها كانت نصراً عظيماً للمسلمين على المشركين ليستحضر الفريقان عند اللقاء قانون نصر المسلمين في بداية المعركة ، والذي تكرر في معركة بدر ومعركة أحد ، وحتى في معركة الخندق إذ إجتاز عمرو بن ود العامري الخندق وهو من فرسان قريش ودعا إلى المبارزة فصرعه الإمام علي عليه السلام ففر من كان معه ، قال تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) وهذا الإستحضار من أصل الإستصحاب الذي هو دليل عقلي قبل أن يكون دليلاً أصولياً .
الثالثة : إنسحاب المشركين من معركة الأحزاب خائبين بعد حصار للمدينة دام نحو عشرين ليلة .
لقد حضر عشرة آلاف مقاتل من المشركين وحلفائهم يريدون الإجهاز على الإسلام والنبوة .
لم يتعظ المشركون من نتائج معركة بدر وأحد ، وخيبتهم في كل منها فلاقوا ذات النتيجة في معركة الخندق التي لم يقع فيها قتال شديد بين الطرفين ، لذا ذكرت معركة بدر في القرآن بصيغة اللقاء كما في قوله تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
وورد ذات اللفظ بخصوص معركة أحد مرتين , قال تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ولم يرد ذات لفظ اللقاء في معركة الخندق وهو من إعجاز القرآن ودقة توثيقه للوقائع والأحداث ، وفيه شاهد على أنه يعصم ذاته من التحريف والتبديل والتغيير ، وهو من الشواهد على قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
الرابعة : إنجاز صلح الحديبية , ومن شروطه أن من أراد الدخول في الإسلام وعقد النبي , فليدخل فيه ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذكر أن فيه نزل [فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا] ( ) ووضعت الحرب أوزارها ودخل في الإسلام في السنتين بعده أكثر من عدد الذين دخلوا قبله ، وكان صلح الحديبية ضربة موجعة للذين نافقوا .
الخامسة : فتح مكة بعد نقض قريش وحلفائها شروط صلح الحديبية إذ رفدت قريش بالسلاح بني بكر الذين دخلوا في عقدهم ، وقاتلوا خزاعة التي إنهزمت إلى الحرم , فخرج عمرو بن سالم الخزاعي باربعين راكباً يريد المدينة ليبين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نقض قريش الصلح ، فدخل المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالساً فيه بين أصحابه .
فوقف عمرو بن سالم عليه وقال :
يَا رَبّ إنّي نَاشِدٌ مُحَمّدًا … حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا
قَدْ كُنْتُمْ وُلْدًا وَكُنّا وَالِدَا … ثُمّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللّهُ نَصْرًا أَعْتَدَا … وَادْعُ عِبَادَ اللّهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللّهِ قَدْ تَجَرّدَا … إنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبّدَا
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدًا … إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُوَكّدَا … وَجَعَلُوا لِي فِي كَدَاءٍ رُصّدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا … وَهُمْ أَذَلّ وَأَقَلّ عَدَدَا
هُمْ بَيّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجّدًا … وَقَتَلُونَا رُكّعًا وَسُجّدَا) ( ).
وكانزهذا السبب في سير النبي واصحابه بجيش عرمرم لفتح مكة الذي تم بفضل من عند الله ، وعدم وقوع قتال كبير فيه من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
السادسة : معركة حنين , ومع شدتها , فإنها لم تستمر إلا بضع ساعات, لتخلد بقوله تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ] ( ).
السابعة : غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة والتي لم يقع فيها قتال .
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا بل يستبشرون بنعمة من الله ) وفيه وجوه :
الأول : عندما عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من معركة بدر دخلوا المدينة بألوية النصر ، وقد قدمت بين أيديهم الغنائم والأسرى من رجالات قريش ، فعمت الغبطة والسعادة أهل المدينة ، ولكن عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من معركة أحد أمر مغاير على نحو الموجبة الجزئية ، إذ دخلوا المدينة والجراحات تتغشاهم ، والنياحة عمت دور الأنصار باستشهاد ست وستين منهم في يوم واحد .
ولم تكن المدينة آنذاك بلدة ذات محلات وأطراف متباعدة إنما كانت بيوتها صغيرة متجاورة فأخذت النساء تطوف على بيوت الشهداء لتعزيتهم ، ونشط المنافقون والمنافقات في بث السموم والشكوك والحث على القعود عن الجهاد .
فجاءت كل من آية البحث والسياق للدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين عامة والشهداء خاصة ، ولا يقدر أحد على الدفاع مثل القرآن فمن خصائص فضح المنافقين ، وإبطال مغالطتهم صيرورة الناس في واقية وحرز من أراجيفهم ، لقد جاء الدفاع عن الشهداء بأمور غيبية مبهرة تزيد إيمان المسلمين وتجعلهم يجتهدون في العبادة ، قال تعالى [وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] ( ) .
الثاني : لقد أخبرت آية البحث عن صدور نوع سخرية من الذين نافقوا بالشهداء والقتل في سبيل الله بالجدال بمسألة ظاهرة هي كالشبهة البدوية بأن الشهداء لو بقوا في المدينة أو رجعوا مع المنافقين من وسط الطريق إلى معركة أحد لما قتلوا .
فتضمنت ذات آية البحث تحديهم بعجزهم عن صرف الموت وما ورائه من العذاب عن أنفسهم، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] ( ) .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها لم تذكر في التحدي القتل ، وبين الموت والقتل عموم وخصوص مطلق ، فكل قتل هو موت وليس العكس .
ثم جاءت آية السياق لتبين حال الشهداء وأنهم في تمام الغبطة والسعادة لتحقق مصداق الوعد الإلهي وتجلي صدق أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن منزلة الشهداء والمؤمنين عامة في جنان الخلد .
وحين انتهت معركة أحد فقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمه حمزة فسأل عنه .
(وأخرج الحاكم وصححه عن جابر قال : فقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حمزة حين فاء الناس من القتال فقال رجل : رأيته عند تلك الشجرات وهو يقول : أنا أسد الله وأسد رسوله ، اللهم ابرأ إليك مما جاء به هؤلاء؛ أبو سفيان وأصحابه ، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء بانهزامهم .
فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحوه ، فلما رأى جثته بكى ، ولما رأى ما مثّل به شهق ثم قال : ألا كفن؟
فقام رجل من الأنصار فرمى بثوب عليه ، ثم قام آخر فرمى بثوب عليه.
ثم قال لجابر : هذا الثوب لأبيك وهذا لعمي ، ثم جيء بحمزة فصلى عليه , ثم يجاء بالشهداء فتوضع إلى جانب حمزة فيصلي عليهم يرفع ويترك حمزة حتى صلى على الشهداء كلهم .
قال : فرجعت وأنا مثقل قد ترك أبي عليَّ ديناً وعيالاً ، فلما كان عند الليل أرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا جابر إن الله أحيا أباك وكلمه قلت : وكلمه كلاماً! قال : قال له : تمن . . . .
فقال : أتمنى أن ترد روحي وتنشئ خلقي كما كان ، وترجعني إلى نبيك فأقاتل في سبيلك فأقتل مرة أخرى . قال : إني قضيت أنهم لا يرجعون , وقال : قال صلى الله عليه وآله وسلم : سيد الشهداء عند الله يوم القيامة حمزة) ( ).
ويدل قول الذين نافقوا [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ]على ظنهم بأن الموت فناء للإنسان وأنه أمر عدمي ، وقد جاءت آيات القرآن بالإخبار عن كونه أمراً وجودياً ، قال تعالى [نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ] ( )
وبينت آية السياق أن الموت والقتل إنتقال من منزل مؤقت إلى منزل دائم وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) لإرادة الصراط والطريق الذي يجعل المسلم ينتقل إلى دار السعادة والغبطة والسلامة من الحزن والأمن من الخوف .
ليكون من أسرار وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة سورة الفاتحة في الصلوات اليومية أنها وسيلة للإستبشار بفضل الله في الآخرة .
و(بل) حرب إضراب جاء للإحتجاج على الذين نافقوا ولمنع إفتتان الناس بقولهم .
الثالث : يدل الإخبار عن إستبشار الشهداء بحياتهم عند الله وأنها حياة إدراك ووعي وإستحضار لأمور الدنيا وحال المؤمنين فيها، فجاءت آية السياق بأمور :
أولاً : عظيم فضل الله على الشهداء .
ثانياً : غبطة وسعادة الشهداء بما رزقهم الله في الآخرة ، ونجاتهم من الخوف والحزن من أهوالها ، فان قلت لم يحن يوم الحساب وعرصات القيامة بعد .
والجواب نعم هذا صحيح ، ولكن آية السياق تتضمن بشارتهم بالأمن من أهوالها .
ثالثاً : بلوغ الشهداء حال اليقين بأنهم والمؤمنون من خلفهم على الحق والهدى ، لذا ورد قوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ] أي بالكرامة التي نالوا وما أعد الله عز وجل للمؤمنين ، ليكون من المقاصد السامية لآية السياق ترغيب الذين نافقوا بالإيمان وجعلهم يتدبرون في عواقب الأمور ، ويستحضرون النعيم الذي ناله الشهداء فيكفوا من الشماتة بهم، وفي التنزيل[قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ومن الإعجاز في السيرة النبوية أنها مرآة للوحي , فلم يعاقب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين نافقوا أو يؤاخذهم على صدهم عن سبيل الله عندما رجع من معركة أحد بلحاظ أمور :
الأول : التخاذل والإنسحاب من وسط الطريق إلى المعركة .
الثاني : القعود عن الدفاع عن أنفسهم وأهليهم وإقامة الحجة عليهم كما في قوله تعالى في آية البحث [أَوْ ادْفَعُوا].
الثالث : قيام الذين نافقوا بتثبيط عزائم المؤمنين ، وما فيه من إعانة للذين كفروا .
ولم يوبخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم رؤوس النفاق وصبر عليهم ، فجاءت آية البحث ناصراً له ، ولو عاقبهم لأزدادوا عناداً ولخرج غيرهم من أهل النفاق ، ولكن آية البحث وسيلة سماوية مباركة لقطع دابر النفاق .
الرابع : كل من آية البحث والسياق مدرسة في الفقاهة حلت على الأرض ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيهما من الزجر عن إبطان الكفر والشماتة بالمجاهدين والصابرين ، ومن بيان حال الشهداء في بحبوبة الجنة ، وظلال أشجارها ، وعذب مياه أنهارها غير المنقطعة ، وقيل أن العرب كانوا في الجزيرة في ندرة من المياه العذبة فذكر القرآن أنهار الجنة والجواب من جهات :
الأولى : لم يأت القرآن لخصوص عرب الجزيرة ، إنما جاء للناس في مشارق الأرض ومغاربها ، قال تعالى في خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ) .
الثانية : لم يختص ذكر الأنهار في القرآن بخصوص الماء ، بل جاء بالمعجزة والتحدي للعقول بتعدد سنخية الأنهار في الجنة ، قال تعالى [مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى] ( ) فقد ذكرت الآية أربعة أصناف من الأنهار وجاء كل فرد منها بصيغة الجمع ، وليس في الدنيا كلها أنهار من لبن أو أنهار من خمر أو أنهار من عسل بل كل فرد من اللبن والعسل قليل بين الناس ، ولا يكفي لحاجتهم ، وهذه الأنهار هي :
الأولى : أنهار ماء عذب زلال صاف غير أسن ولا كدر , لا يتغير لونه أو ريحه أو طعمه بمرارة .
الثانية : أنهار جارية من لبن لا يتحول إلى الحموضة ولم يخرج من ضروع الماشية .
الثالثة : أنهار من خمر ليس كخمر الدنيا المحرم والضار والذي يصدع الرأس ويوهن العقل ، ويؤدي إلى المرض ونقص العمر ، إنما هو خمر لذة للشاربين لم يعصرها الرجال , وهي جزاء حسن للمؤمنين على صبرهم وحبسهم للنفس الشهوية ، قال تعالى[الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لاَ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
الرابعة : أنهار من عسل مصفى ، لم يخرج من بطون النحل إنما هو بالكاف والنون .
وإن شاء المؤمن أكل وشرب قائماً أو متكئاً إلى جانب إكرام الله عز وجل لهم بالحور العين ، ومن فضل الله الذي يفرح به الشهداء والذي تذكره آية السياق واستبشارهم بما أعده الله عز وجل للمؤمنين من بعدهم الذين لم ينصتوا أو يستجيبوا للمنافقين وتحريضهم للقعود عن الدفاع هو استقبال الحور العين لهم بآية لم تخطر على الوجود الذهني ولكن من خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن بيان علوم من الغيب بما يبعث السكينة في قلوب المؤمنين.
(عن علي عليه السلام قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً }( ) قلت : يا رسول الله ، هل الوفد إلا الركب؟ .
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذي نفسي بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة وعليها رحال الذهب شرك نعالهم نور يتلألأ ، كل خطوة منها مثل مد البصر ، وينتهون إلى باب الجنة ، فإذا حلقة من ياقوتة حمراء ، على صفائح الذهب وإذا شجرة على باب الجنة ينبع من أصلها عينان ، فإذا شربوا من إحدى العينين فتغسل ما في بطونهم من دنس ، ويغتسلون من الأخرى ، فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبداً ، فيضربون بالحلقة على الصفيحة ، فلو سمعت طنين الحلقة يا علي .
فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل ، فتستخفها العجلة،
فتبعث قيمها فيفتح له الباب ، فإذا رآه خر له ساجداً ، فيقول : ارفع رأسك فإنما أنا قيمك ، وكلت بأمرك . فيتبعه ويقفو أثره ، فتستخف الحوراء العجلة ، فتخرج من خيام الدر والياقوت ، حتى تعتنقه .
ثم تقول : أنت حبي ، وأنا حبك وأنا الراضية ، فلا أسخط أبداً ، وأنا الناعمة فلا أبأس أبداً ، وأنا الخالدة فلا أموت أبداً ، وأنا المقيمة فلا أظعن أبداً.
فيدخل بيتاً من أساسه إلى سقفه مائة ألف ذراع بني على جندل اللؤلؤ والياقوت طرائق حمر ، وطرائق خضر ، وطرائق صفر ، ما منها طريقة تشاكل صاحبتها.
وفي البيت سبعون سريراً ، على كل سرير سبعون فراشاً ، عليها سبعون زوجة، على كل زوجة سبعون حلة ، يرى مخ ساقها من وراء الحلل ، يقضي جماعهن في مقدار ليلة من لياليكم هذه) ( ).
الثالثة : قد تظهر في قادم الأيام أزمة مياه في بلدان أقيمت وعمارتها على ضفاف أنهار كبيرة وتكون الحياة حسرة عليهم وسبباً للإقتتال والحروب , وتنشأ أنهار أو شبه أنهار في ذات جزيرة العرب ببركة نبوة محمد , وترشح كنوز الأرض من فيوضات القرآن وتلاوة المسلمين له , وعدم إنصات المهاجرين والأنصار إلى صدود الذين نافقوا والذي تدل عليه آية البحث , وآية جزاء الشهادة في معركة أحد التالية .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : الذين نافقوا قالوا لاخوانهم لو أطاعنا الفرحون بما أتاهم الله من فضله ما قتلوا )
لقد أصرّ الذين نافقوا على الرجوع من وسط الطريق إلى معركة أحد وعذرهم أنه لا يقع قتال بين الفريقين ، ولكن عندما وقع قتال وسقط الشهداء توجهوا باللوم لهم بأنهم امتنعوا عن طاعتهم بالرجوع ، وفيه شاهد بأن دعوة عدو الله بن أبي بن أبي سلول بالرجوع وعدم مواصلة السير إلى معركة أحد كانت عامة وبلغت الأنصار كلهم ، أي أنه كان يحرض على الجبن والخور والتخلية بين الذين كفروا وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم علناً .
لقد جاءت آية السياق لتبعث الحسرة في قلوب الذين نافقوا ، ومضامينها وإخبارها عن غبطة وسعادة الشهداء بما أتاهم الله من فضله من مصاديق قوله تعالى[قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
ومن مواطن يوم القيامة ما تضمن الإخبار عنه قوله تعالى[يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ]( ) فينادي المنافقون المؤمنين ألم نكن معكم ألم ننطق بالشهادتين ، ونحضر الصلاة معكم .
فيذكرهم المؤمنون بقعودهم ورجوعهم من وسط الطريق ، والذي حضر منهم غزوة أحد مع المؤمنين يذكرونه بأنه لم يقاتل وينكشف لهم جميعاً الغطاء فيرون حال المنافق وما يتصف به حينئذ من جهات:
الأولى : لواذ المنافق بالفرار.
الثانية : إمتناع المنافق عن لقاء العدو.
الثالثة : إلقاء المنافق اللائمة على المؤمنين.
الرابعة : تربص المنافق بالمؤمنين الدوائر.
الخامسة : تمني المنافق في قرارة نفسه نزول الخسارة بالمؤمنين.
السادسة : ظن المنافقين بأن الله لا ينصر النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم , وينتظرون هلاك المؤمنين، وفي التنزيل[بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا]( ).
السابعة : إرادة المنافقين التسويف، والإعتذار، والدعوة لإرجاء القتال والدفاع، وفي التنزيل[وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ]( )، ويمكن تقسيم صفات المنافقين بحسب اللحاظ والموضوع من وجوه:
الأول : تقسيم صفات المنافقين إلى شعبتين:
الأولى : صفات المنافقين في حال السلم.
الثانية : صفات المنافقين في حال الحرب.
الثاني : تقسيم صفات المنافقين بحسب ورودها في سور القرآن، منها جهات:
الأولى : صفات المنافقين في سورة البقرة.
الثانية : صفات المنافقين في سورة آل عمران، منها آية البحث.
الثالثة : صفات المنافقين في سورة الأنفال كما في قوله تعالى[إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ) .
وصحيح أن الآية أعلاه نزلت في واقعة بدر إلا أن موضوعها أعم، وكأنها مقدمة وتحذير للمنافقين في معركة أحد وكيلا يقعدوا ويبثوا الأراجيف
الرابعة : صفات المنافقين في سورة التوبة.
الخامسة : ما تذكره سورة الأحزاب من صفات مذمومة للمنافقين منها قوله تعالى[وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً]( ).
السادسة : صفات المنافقين في سورة الحشر.
السابعة : صفاتهم في سورة المنافقين.
الثالث : بيان صفات وأحوال المنافقين من جهتين:
الأولى : صفات وقبائح المنافقين في الدنيا.
الثانية : بؤس الذين ماتوا على النفاق في الآخرة، كما في قوله تعالى[يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ]( ).
ويمتنع عن لقاء العدو ويلقي باللائمة على المؤمنين ويتربص بهم الدوائر ويتمنى في قرارة نفسه تعرضهم للخسارة .
وعن ابن عباس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم ستراً منه على عباده ، وأما عند الصراط فإن الله يعطي كل مؤمن نوراً وكل منافق نوراً فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات ، فقال المنافقون : { انظرونا نقتبس من نوركم } ( )وقال المؤمنون : { ربنا أتمم لنا نورنا }( ) فلا يذكر عند ذلك أحد أحداً) ( ).
لقد أنعم الله على الشهداء إذ هداهم إلى طاعة الله ورسوله ففازوا بالنعيم الدائم .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين الشهداء يستبشرون بنعمة من الله وفضل قل فادرءوا عن أنفسكم الموت ).
من معاني الجمع بين آية البحث وآية السياق الوعيد للذين نافقوا بأنهم إذا انتقلوا إلى عالم الآخرة بالموت سيرون عظيم المنزلة والشأن للشهداء عند الله ، وتقدير آية البحث بلحاظ آية السياق على جهات:
الأولى : قل فادرءوا عن أنفسكم الموت حين ترون النعم التي فاز بها الشهداء .
الثانية : قل للذين نافقوا فادرءوا عن أنفسكم الموت الذي سيجعلكم تندمون على أمور :
الأول : إختيار النفاق .
الثاني : المناجاة بالباطل والتعاون بين المنافقين وطاعة بعضهم بعضاً في الصدود والعزوف عن الدعوة إلى الله التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : ندم الذين نافقوا على قعودهم وحثهم المسلمين على القعود ، وفي التنزيل [وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ] ( ).
الثالثة : يستبشر الذين قتلوا في سبيل الله بمن خلفهم من المؤمنين الذين لم ينصتوا لأقوال الذين نافقوا.
الوجه الثالث : وفيه مسائل :
الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين : يستبشرون بنعمة من الله وفضل قل فادرءوا عن أنفسكم الموت ).
عند إنقضاء معركة أحد تجلى التباين بين وجود وحال أهل الدنيا وبين الشهداء الذين انتقلوا إلى عالم الآخرة ، فبادر الذين نافقوا إلى بث أراجيفهم ساعة شدة المصيبة ولوعة الفراق ، وأخذوا يظهرون الأسف ويدّعون الحسرة على الشهداء مع توجيه اللوم لأنهم لم ينصتوا إلى الذين نافقوا ، مما يدل على سعيهم لتولي زمام الأمرة والسيادة في المدينة ، وإرادتهم عدم صدور الناس بخصوص الجهاد والضرب في الأرض إلا بأمرهم ومشورتهم .
فكان أمر الله عز وجل لنبيه الكريم في آية البحث للإحتجاج عليهم حاجة للمسلمين والناس جميعاً ، ومانعاً من تولي الذين نافقوا الصدارة في المجتمع ، ومقام الرأي والمشورة ، وهو من إعجاز آية البحث وصيرورتها مدداً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في حال السلم وبعد إنقضاء المعركة , وتخويفاً للذين نافقوا بالموت.
حتى إذا مات المنافق تجلى للناس الفارق بينه وبين الشهيد في عالم الآخرة بلحاظ إستحضارهم لهذه الآيات.
فقد أخبرت آية السياق بأن الشهداء فرحون بفضل الله شاكرون لأنعمه أما المنافق فانه يبوء بذنبه ، وينتظر شدة العذاب في الآخرة .
الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل يستبشرون بنعمة من الله ) .
لقد جاءت آية البحث قانوناً من الإرادة التكوينية، وإخباراً عن منزلة الشهداء عند الله، وإنفرادهم بالثواب العظيم حالما ينتقلون إلى عالم الآخرة، وليس بينهم وبين النعيم إلا مغادرة الدنيا والموت إنقطاع لزينة الدنيا، وخسوف لقمر مباهجها ، وهذا الخطيب العظيم الجالب للحزن والأسى، والفراق القهري بين الإنسان وأهله ، يدرك معه الجميع عجزهم عن صده أو رده ، ويتساوى فيه الشريف والوضيع , والمحسن والمسئ ، وهو بداية عالم الخلود ، فجاء ذكره في آية البحث بصيغة الإنذار للذين نافقوا، وورد ذكره في آية السياق بلغة الثناء على الشهداء .
وورد عن عثمان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنَازِلِ الآخِرَةِ فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ )( ).
وقد يظن المنافقون أن الميت وإن كان يبعث بعد الموت إلا أنه لا يعيش نعيماً ولا يلاقي عذاباً ، فجاءت آية السياق بتأكيد النعيم الذي فاز به شهداء أحد ، والذي يدل بالدلالة الإلتزامية على حرمان الذين نافقوا منه .
وقال ابن القيم (فإن الله سبحانه وتعالى جعل لابن آدم معادين وبعثين يجزى فيهما الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى
فالبعث الأول مفارقة الروح للبدن ومصيرها إلى دار الجزاء الأول
والبعث الثانى يوم يرد الله الأرواح إلى أجسادها ويبعثها من قبورها إلى الجنة أو النار ! وهو الحشر الثانى ولهذا في الحديث الصحيح وتؤمن بالبعث الآخر فإن البعث الأول لا ينكره أحد وإن أنكر كثير من الناس الجزاء فيه والنعيم والعذاب وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هاتين القيامتين وهما الصغرى والكبرى في سورة المؤمنين وسورة الواقعة وسورة القيامة وسورة المطففين وسورة الفجر وغيرها من السور) ( ).
ولكن الآيات الثلاثة التالية أخبرت عن قانون وهو أن الشهداء أحياء عند الله عز وجل من ساعة موتهم ينتظرون أصحابهم المؤمنين ليكون هذا الإنتظار والإستبشار بقدومهم شاهداً على عدم إنصات من بقي من الأحياء إلى المنافقين في أراجيفهم , ولآية البحث والسياق موضوعية في نماء ملكة عدم الإنصات للذين نافقوا.
لقد تولى الله عز وجل بنفسه الإخبار عن حلول الشهداء بالنعيم والفضل الإلهي بنزول آية السياق ، وهل هذا النعيم من مصاديق عز المؤمنين الوارد في قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الجواب نعم ، وفيه مسائل :
الأولى : إرادة العز للمؤمنين في الدنيا والآخرة .
الثانية : مراتب عز المؤمنين في الآخرة من الكلي المشكك التي تكون على مراتب متفاوتة ، وكلها سامية ودرجات رفيعة إلا أن الشهداء أعلى مرتبة ، ويبدأ نعيمهم من حين مفارقة الدنيا ، وإن كانت آية السياق لا تنفي هذه النعمة عن عموم المؤمنين لأن إثبات هذه النعمة للشهداء لا يدل على نفيها عن غيرهم من المؤمنين .
الثالثة : عزة المؤمنين من رشحات عز الله عز وجل ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا] ( ) وليس من عز يوم القيامة إلا عزه سبحانه وهو الذي يتفضل على المؤمنين بالعز بأن يمنع عنهم الحزن ، ويدفع الخوف عن الوصول إليهم.
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها نزلت في إقامة الحجة على المنافقين ، وكيف أنهم يظهرون الإسلام ولكنهم يمالئون الكفار ، ويتخذونهم أولياء ، قال تعالى [بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] ( ) .
ومن جهالة وغفلة المنافقين وعدم علمهم التي تذكرها الآية أعلاه من سورة المنافقين جهلهم بحال زكرامة الشهداء بعد مغادرتهم الدنيا ، فلا تدخل أرواحهم في القبور أو تحوم حولها ، بل ينعم الله عز وجل عليهم بالحياة السعيدة حال موتهم ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل يكون الشهداء حينئذ من عالم الأرواح وحدها .
الثانية : ما هو شأن الأجساد والتي يغطيها التراب .
أما الأولى فالجواب لا ، إنما يكونون باجساد مثالية تشبه أجسادهم في الدنيا بفضل ولطف من عند الله ، وفي يوم القيامة تعود لهم ذات أجسامهم [وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ] ( ).
أما الثانية فان الأجساد باقية في وضعها قابلة للتآكل والتلف .
ويتلو المسلمون آية البحث ليكون من مصاديقها : يا أيها الذين آمنو قولوا للمنافقين كما أمر الله عز وجل رسوله الكريم أن يوبخ الذين نافقوا بتذكيرهم بالموت وعجزهم عن دفعه لتأكيد كذبهم وزيف إدعائهم الإيمان، قال تعالى[فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( )، ويختلف الناس في مذاهبهم، وتتباين أفكارهم وآراؤهم، ويشتد الخلاف بينهم في أمور كثيرة بين مقر ومنكرلها، ولكنهم جميعاً يتفقون على قانون الموت وأنه حق وخاتمة لحياة كل إنسان، فجعله الله حجة على الذين نافقوا لأنهم يعجزون عن إنكاره.

إعجاز الآية الذاتي
إبتدأت آية البحث بالاسم الموصول [الذين] لبيان عطفها على الآية السابقة في الموضوع والدلالة ، وقد جاءت الآية السابقة بخصوص المنافقين وتضمنت ذكر خصال مذمومة لهم ، فجاءت هذه الآية بذكر خصال أخرى للمنافقين تضر بهم وبالمسلمين ، وتكون عوناً للذين كفروا في ظلمهم وتعديهم ، وفيه دلالة على الحاجة العامة والخاصة لآية البحث من جهات :
الأولى : تفقه المسلمين في الدين , ومعرفة خصال مذمومة للمنافقين الذين بين ظهرانيهم، قال تعالى[وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ]( ).
الثانية : بيان قانون وهو قبح القعود عن الدفاع .
الثالثة : إقامة الحجة على المنافقين لما تتضمنه آية البحث من توثيق إقرارهم بدعوة المؤمنين إلى القعود المقرونة بالإمتناع عن الخروج إلى ميادين الدفاع تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد جعل المنافقون من أنفسهم أسوة سيئة فجاءت آية البحث في منطوقها بالتحذير منهم.
لقد كان العرب يقاتلون حمية وعصبية تحت اسم القبيلة ويغزون وتتعرض بيوتهم للغزو ونساؤهم للسبي فحينما يقع الغزو والنهب ، فلابد أن أحد الطرفين مغزو ومنهوب، وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخير الدنيا والآخرة ، وبناء صرح الأخلاق الحميدة واللجوء الى أحكام الشريعة التي تسود الجميع بعرض ومرتبة واحدة ، قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( ).
ومن التقوى التنزه عن صفات النفاق ، لتكون آية البحث من مصاديق إكرام الله عز وجل للمسلمين في الآية أعلاه ، بتقريب أنه من الإكرام الإلهي للمسلمين تحذيرهم من المنافقين ، ودعوتهم لعدم الإصغاء إليهم .
الرابعة : تبعث آية البحث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ، لما تدل عليه من إنكشاف أمر المنافقين وحرمان الذين كفروا من ظهير لهم بين ظهراني المسلمين، لتكون آية البحث من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( ).
وتتضمن آية البحث الإحتجاج على المنافقين بالموت وعدم استطاعتهم رده وصرفه إذا نزل بساحتهم ، وجاءهم على الفراش أو في السوق حال السفر .
ومن إعجاز الآية الذاتي ذكرها للأخوة النسبية والقبلية وتقدير الآية : الذين قالوا لإخوانهم من الأوس والخزرج ، وهل تشمل الآية أفراد القبائل الذين ينهون أبناء القبيلة عن الهجرة والدفاع تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنها خاصة بالأنصار وأهل المدينة في واقعة أحد، الجواب هو الأول.
وهو من الإعجاز في آية البحث وإستقراء صيغة العموم منها.
ويمكن تسمية آية البحث آية [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ] ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في آية البحث .

إعجاز الآية الغيري
إبتدأت آية البحث بالاسم الموصول [الذين] ليدل بلحاظ نظم الآيات وعطفه على الآية السابقة على بعث النفرة في نفوس المسلمين والمسلمات من المنافقين الذين لم يخرجوا للقتال تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكتفوا بالسكوت والقعود عن القتال ، إنما راحوا يبثون الأراجيف لتثبيط هممّ المؤمنين وإعانة جيش الذين كفروا الذي أصبح على مشارف المدينة , وهو قادر على إستباحتها لولا فضل الله عز وجل ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
ولقد نزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ، وهم أنفسهم وغيرهم ينزلون لو أراد جيش المشركين الزحف على المدينة وقصد الفتك بأهلها وتخريبها وهدم المسجد النبوي ليكون من معجزات هذا المسجد سلامته من التخريب والعبث والهدم من أول أيام بنائه وإلى يومنا هذا لتتم هذه المعجزة إلى يوم القيامة ، وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : الذين قالوا لإخوانهم بالقعود فاحذروهم .
الثاني : الذين قالوا لإخوانهم بالقعود فلا تنصتوا إليهم .
الثالث : الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا فجلبوا لأنفسهم الخزي في النشأتين .
لقد جرت وقائع معركة أحد في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة وأصابت المسلمين فيها خسارة كبيرة من غير أن يتعرضوا لهزيمة فخرجوا منها أعزة ، وهذا الخروج من مصاديق قوله تعالى بخصوص معركة بدر[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) فليس من ذلة تصل إلى المسلمين بعد معركة بدر ، فان قلت قد ذكرت أن المراد من الذلة في الآية أعلاه الضعف والقلة ونقص السلاح.
والجواب هذا صحيح ، ولكن المراد من الذلة التي عصم منها المسلمون بعد معركة بدر أعم وأكبر ، وهو من الجزاء العاجل والثناء العظيم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبدريين .
وحينما عاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من معركة أحد نزلت الآيات التي تخزي المنافقين وتبين عظيم منزلة الشهداء السبعين الذين سقطوا في المعركة ، ليفوزوا وأهليهم بنعم عظمى وهي أن المواساة بقتلهم جاءت من عند الله عز وجل في القرآن والتنزيل ، وإبتدأت هذه المواساة بالخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى في الآية التالية[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
لبيان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو أبو هذه الأمة وهو صاحب المصيبة بفقد الشهداء وفيه دعوة لعوائل الشهداء بالمبادرة إلى مواساة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتـأسي به في صبره ، وتبكيت الذين نافقوا على قولهم [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ).
وتتوجه آية البحث إلى الذين خاطبهم المنافقون فتنسخ قولهم , وتمنع من ترتب الأثر عليه في النفوس إذ ابتدأت آية البحث بقوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ] ( ) ليكون من معاني الآية : يا أيها الأوس والخزرج لا تستمعوا إلى الذين نافقوا وقالوا لكم لو أطاعنا الشهداء ما قتلوا وقولوا لهم فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين .
وتبين آية البحث أن من خصال الذين نافقوا السعي لإيذاء المؤمنين ، وإتيان ما يشق عليهم سماعه وبذلهم الوسع والطاقة لإحراج المؤمنين والتذكير بمصيبة القتل في معركة أحد ، قال تعالى [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا]( ).
فجاءت آية البحث ليبلغ المسلمون مراتب التقوى ، والإقرار بأن الموت حق وصدق وأنه قادم إلى المنافقين , والمائز هو أن الشهداء أحياء عند الله وأن العذاب هو عاقبة المنافقين ، قال تعالى[وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً]( ).
الآية سلاح
لقد زحف المشركون بجيش عرمرم على المدينة ليصلوا في أيام البيض من شهر شوال إلى أطراف المدينة المنورة , وهم يقصدون أموراً :
الأول : قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم يرون أن هذه المعارك بسبب رسالته ، وأن قتله إستئصال للإسلام .
الثاني : إرادة قطع المعجزات النبوية بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووقف نزول آيات القرآن التي قوضت سلطان قريش ، وكسرت هيبتهم بين أهل مكة وعند القبائل .
الثالث : لقدأراد المنافقون منع ذم المسلمين والناس جميعاً لعبادة الإصنام وتعيير قريش بها، وتحرص قريش على عدم تجلي منافاتها وعبادتها لقدسية البيت الحرام وحج الناس إليه، وببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلتفت الناس إلى حقيقة وهي أنهم لا يمكن تحمل عناء السفر إلى مكة وصعود الجبال وهبوط الأودية لبلوغ مكة والصبر على حرها ، ومج مائها من أجل عبادة أوثان يصنعونها بأيديهم لا تغني ولا تسمن.
لقد أدى نزول القرآن إلى تثوير التقوى ضد الباطل والظلم ومفاهيم الشرك ، مما جعل الذين كفروا من قريش يمتلئون غيظاً ويسعون إلى وقف هذه المفاهيم وابقاء الأصنام تحيط بمكة ، ومن الشواهد على عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ومن صباه يأبى التقرب إلى صنم أو المشاركة في أعياد خاصة بالعادات الوثنية.
وعن (أم أيمن قالت: كان بوانة صنما يحضره قريش يوما في السنة وكان أبو طالب يحضره مع قومه وكان يكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يحضر ذلك العيد مع قومه فيأبى حتى رأيت أبا طالب غضب عليه ورأيت عماته غضبن عليه يومئذ أشد الغضب.
وجعلن يقلن إنا نخاف عليك مما تصنع من اجتناب الهتنا.
وجعلن يقلن يا محمد ما تريد ان تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمعا فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله
ثم رجع إلينا مرعوبا فزعا فقلن عماته ما دهاك قال: إني أخشى ان يكون بي لمم فقلن ما كان الله ليبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك فما الذي رأيت.
قال إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي وراء ك يا محمد لا تمسه قالت فما عاد الى عيد لهم حتى تنبئ) ( ).
الرابع : لقد أرادت قريش زيادة عدد المنافقين وصيرورتهم أمة يستطيعون الجهر بالأمر بالمنكر والنهي عن المعروف فجاءت آية البحث لمنع مثل هذه الزيادة ولإلحاق الخزي بالمنافقين ، وبعث الخوف والهلع في قلوب الذين كفروا وعجزهم عن فتنة أهل المدينة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ…] ( ).
ومن وجوه ضرر المنافقين وإستفحال امرهم لولا آيات القرآن هذه أن أول من أنشب الحرب بين جيش المسلمين وجيش الذين كفروا هو أبو عامر الراهب كما عن ابن اسحاق.
وأبو عامر هذا هو عبد بن عمرو بن صيفي بن ملك بن النعمان أحد بني ضبيعة ، وهو من الأوس كما تقدم بيانه , وكل من أبي عامر وعبد الله بن أبي سلول عدو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأيهما أشد عداوة .
الجواب هو الأول، لأنه كان يظهر العداوة ويحرض كفار قريش على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقاتل إلى جانبهم.
وحينما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة مهاجراً عرض على أبي عامر الإسلام ودعاه إلى اتباعه ، ولكنه أبى ، وخرج إلى مكة إحتجاجاً على سلطان الإسلام في المدينة بعد الهجرة ، ومعه خمسون غلاماً من الأوس ، ومنهم من يقول خمسة عشر .
وكان (يعد قريشا ان لو لقى قومه لم يتخلف عليه منهم رجلان فلقيهم في الاحابيش وعبدان أهل مكة فنادى يا معشر الاوس أنا أبو عامر قالوا فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق وكان يسمى في الجاهلية الراهب.
فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق فلما سمع ردهم عليه قال لقد أصاب قومي بعدى شر ثم قاتلهم قتالا شديدا ثم راضخهم بالحجارة)( ).
والآية سلاح في تثبيت معالم الإيمان في النفوس وإزاحة النفاق والريب والشك منها ومن المجتمعات ، لقد أسست آية البحث لمحو وإزالة النفاق موضوعاً وأثراً.
وتدعو الآية النبي محمداً والمؤمنين للإحتجاج على المنافقين بلحاظ أن قوله تعالى [قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ] ( ) مفتاح للإحتجاج وتعدد مسائله .
مفهوم الآية
تبين الآية الحالة العامة التي كان عليها أهل المدينة من جهات :
الأولى : وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني أهل المدينة ولا ينطق إلا عن الوحي ، ولا يحكم إلا بما أنزل الله ، وفي خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( ).
الثانية : زحف جيوش الذين كفروا من قريش وحلفائهم من الأحابيش وغطفان وبلوغهم أطراف المدينة بما لم يعرفه أهلها تلك السنين من طرف الكثرة عدداً وعدة , إذ حضر ثلاثة آلاف رجل يطلبون الحرب ويتوعدون بالقتل والنهب والسبي .
الثالثة : إظهار المؤمنين العزم على ملاقاة الذين كفروا في ميادين القتال، وتفانيهم في طاعة الله والذب عن رسوله الكريم .
وفي رواية وحشي قاتل حمزة ما يدل على أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحيطون به ويتفانون دونه ، ويمنعون وصول العدو إليه لعلمهم بأنه رسول الله وأن القرآن لا ينزل إلا عليه وأن النصر يأتي بدعائه . (قالوا: وكان وحشيٌّ عبداً لابنة الحارث بن عامر بن نوفل ويقال كان لجبير بن مطعم فقالت ابنة الحارث: إن أبي قتل يوم بدر، فإن أنت قتلت أحد الثلاثة فأنت حر، إن قتلت محمداً، أو حمزة بن عبد المطلب، أو علي بن أبي طالب، فإني لا أرى في القوم كفؤاً لأبي غيرهم.
قال وحشي: أما رسول الله فقد علمت أني لا أقدر عليه، وأن أصحابه لن يسلموه. وأما حمزة فقلت: والله لو وجدته نائماً ما أيقظته من هيبته، وأما علي فقد كنت ألتمسه.
قال: فبينا أنا في الناس ألتمس علياً إلى أن طلع علي، فطلع رجلٌ حذرٌ مرسٌ، كثير الالتفات، فقلت: ما هذا صاحبي الذي ألتمس! إذ رأيت حمزة يفري الناس فرياً، فكمنت إلى صخرة، وهو مكبسٌ، له كثيب، فاعترض له سباع ابن أم أنمار وكانت أمه ختانة بمكة مولاة لشريف بن علاج بن عمرو بن وهب الثقفي، وكان سباع يكنى أبا نيار
فقال له حمزة: وأنت أيضاً يا ابن مقطعة البظور ممن يكثر علينا. هلم إلي! فاحتمله حتى إذا برقت قدماه رمى به، فبرك عليه فشحطه شحط الشاة. ثم أقبل إلى مكبسا حين رآني، فلما بلغ المسيل وطىء على جرفٍ فزلت قدمه، فهززت حربتي حتى رضيت منها، فأضرب بها في خاصرته حتى خرجت من مثانته.
وكر عليه طائفة من أصحابه فأسمعهم يقولون: أبا عمارة! فلا يجيب، فقلت: قد والله مات الرجل! وذكرت هنداً وما لقيت على أبيها وعمها وأخيها،
وانكشف عنه أصحابه حين أيقنوا موته ولا يروني، فأكر عليه فشققت بطنه فأخرجت كبده، فجئت بها إلى هند بنت عتبة، فقلت: ماذا لي إن قتلت قاتل أبيك؟( ). قالت: سلبى!
فقلت: هذه كبد حمزة. فمضغتها ثم لفظتها، فلا أدري لم تسغها أو قذرتها. فنزعت ثيابها وحليها فأعطتنيه، ثم قالت: إذا جئت مكة فلك عشرة دنانير.
ثم قالت: أرني مصرعه! فأريتها مصرعه، فقطعت مذاكيره، وجدعت أنفه، وقطعت أذنيه، ثم جعلت مسكتين ومعضدين وخدمتين حتى قدمت بذلك مكة، وقدمت بكبده معها)( ).
الرابعة : توالي نزول آيات القرآن وأحكام الفرائض إذ نزلت كل من فريضة الصيام والزكاة في السنة الثانية للهجرة ، أي خرج المسلمون إلى معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وقد صاموا شهر رمضان من تلك السنة ليكون هذا الصيام سبيلاً للفرج ، ومفتاحاً للنصر المبين على الأعداء ، لأن المعركة وقعت بين الصائمين الذين يقاتلون قربة وطاعة إلى الله عز وجل وبين الذين يحاربون الصيام ومناسك العبادة ليكون من مصاديق قوله تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ) .
وفي المقام نكتة وهي تجلي بركات الصيام بالنصر من أول سنة صام فيها المسلمون بلحاظ أن من أسماء الصيام الصبر، قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
ومن مفاهيم الآية الثناء على المهاجرين والأنصار الذين خرجوا إلى معركة أحد لأنهم لم يصغوا إلى نداءات المنافقين المتكررة بالقعود ، فان قلت من أين استقرأت هذا التكرار ، الجواب ورود آية البحث بصيغة الجمع بالأطراف الثلاثة وهي :
الأول : جهة صدور القول إذ إبتدأت آية البحث بالاسم الموصول (الذين) وإرادة المنافقين منه .
الثاني : ذات القول وصيغة الجمع فيه (قالوا) وتحتمل واو الجماعة في ذات هذا القول وجوهاً :
أولاً : كل منافق يقول بخصوص أخيه من أفراد قبيلته ونحوهم : لو أطاعني ما قُتل .
ثانياً : قول المنافقين متفرقين : لو أطاعونا ما قتلوا .
ثالثاً : اجتماع المنافقين وقولهم في آن واحد : لو أطاعونا ما قتلوا .
رابعاً : صدور صيغة الجمع عن المفرد للتفخيم والكلام باسم الجماعة كما لو كان القائل عبد الله بن أبي بن أبي سلول رأس النفاق .
خامساً : قصد الفرد الواحد من المنافقين الجماعة من المؤمنين , وتقدير الآية : لو أطاعوني ما قتلوا .
الثالث : الجهة التي يتوجه إليها كلام المنافقين بقوله تعالى ( لإخوانهم )
وفي الآية مسائل :
الأولى : إخبار المنافقين عن إحصاء الله عز وجل لأقوالهم وأفعالهم وعلمه بما يخفون في صدورهم من الكفر والعناد والغل .
فان قلت إنما ذكرت الآية قول للمنافقين وقعودهم ، الجواب من وجوه:
أولاً : ذات قول المنافقين استهزائهم بالشهداء دليل على قبح ما يضمرون .
ثانياً : تحريض المنافقين على القعود .
ثالثاً : إخبار آية البحث عن قعود المنافقين مع أنهم من المسلمين ، ويجب عليهم الدفاع عن أنفسهم وأهليهم .
وقيل بالضرورات الخمسة وأن الشرائع كلها جاءت بها وهي :
الأول : دين الإسلام والتوحيد والعبودية لله عز وجل .
الثاني : سلامة النفس .
الثالث : تعاهد النسل .
الرابع : حفظ المال .
الخامس : حصانة العقل .
والدفاع في معركة أحد للذب عن التوحيد والضرورات الأخرى أعلاه, وأمر الله عز وجل بالقصاص لحفظ النفس ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ..]( )، وجعل الله عز وجل النكاح سبيلاً للتكاثر وحفظ النسل .
ومن الآيات أنه لم يهبط آدم إلى الأرض إلا ومعه زوجه حواء، ولم يغادر الدنيا إلا كثر أولادهما وأحفادهما , وإنتشروا في بقاع من الأرض..
وأنزل الله عز وجل حدّ السرقة لحفظ المال ، قال تعالى [وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا…] ( ) أما حد الزنا والقذف فلحفظ العرض .
وإقامة الحد على شارب الخمر لحفظ العقل .
ويقدم الدين خاصة عند المعارضة لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) وبالدين تحفظ القيم والسنن والأحكام وتجلب المصالح وتدفع المفاسد ،وفيه تخفيف عن المسلمين والناس بحفظ الضروريات الأربعة الأخرى أعلاه .
مع موضوعية التقية في المقام لأنها لا تتعارض مع حفظ الدين بل هي واقية له , وفيها سلامة للنفس والمال والعرض .
وحفظ النفس مقدم على حفظ المال إذ يمكن استدراك وتعويض المال ، ولكن النفس إذا أصابها التلف لا تعود ، وقد يكون تسامح أحياناً في باب العقل.
وليس من قانون وترتيب ثابت في هذه الضرورات , ولم يأت الكتاب والسنة بتعيين وحصر هذه الضرورات ، إنما هو إستقراء وبيان .
الثانية : لقد ظن المنافقون كفاية إعلانهم دخول الإسلام مع إتخاذه للخداع وتثبيط همم المؤمنين ، قال تعالى[يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ]( ) فكشفت آية البحث عن قول وفعل للمنافقين مغاير ومناف لصفة الإسلام ، وفيه أمور:
الأول : إخبار المنافقين بأن الله عز وجل يرى ويسمع ما يفعلون .
الثاني : التوثيق السماوي الباقي إلى قيام الساعة لسوء فعل المنافقين.
الثالث : دعوة أبناء وإخوان المنافقين للإعراض عنهم، وعدم محاكاتهم في مكرهم وكيدهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
الرابع : تذكير المنافقين بقانون وهو سماع الله عز وجل لما يقولون ، قال تعالى [مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه ورودها بصيغة الإطلاق فتشمل المناجاة بالصلاح وما هو ضده , لتكون الآية جامعة للبشارة والإنذار في منطوقها.
وتبين الآية أعلاه قانوناً وهو تثبيت النجوى التي تتضمن مفاهيم الإيمان، وتدعو إلى الصلاح، وفضح ودفع ضرر النجوى بالسوء والإضرار بالمؤمنين، كما في نجوى الذين نافقوا بالقعود الذي ورد في آية البحث بقوله تعالى[الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا..].
وهذا المعنى من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ) أي يمحو الله عز وجل نجوى النفاق والسوء وضررها ويثبت نجوى الإيمان والصلاح ومنافعها .
وهل تتضمن آية البحث هذا المعنى من المحو والتثبيت، الجواب نعم ، لبيان قانون من وجوه :
الأول: تعدد مفاهيم الآية القرآنية .
الثاني : التداخل الموضوعي بين آيات القرآن .
الثالث : إستنباط المسائل والقوانين من الصلة بين آيات القرآن .
الرابع : من خصائص الآية القرآنية أنها تذكّر بالآية القرآنية الأخرى .
الثالثة : لقد أراد المنافقون للأنصار القعود عن القتال في ذات الوقت الذي وصل فيه جيش المشركين إلى أطراف المدينة المنورة، ويتصف هذا الجيش بأمور :
الأول : كثرة عدد أفراد الجيش إذ يبلغ عددهم ثلاثة آلاف رجل .
الثاني : كثرة الرواحل التي مع جيش المشركين وكان معهم مائتا فرس لم تركب ظهورها في الطريق، لتكون جاهزة في ميدان المعركة .
قال موسى بن عقبة (ولم يكن مع المسلمين فرس واحدة) ( ) .
قال الواقدي لم يكن مع المسلمين يوم أحد من الخيل الا فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرس أبى بردة.
وقال ابن عقبة فجعلوا أي المشركون على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبى جهل)( )، وأضعافها من الإبل.
الثالث : طلبُ المشركين الثأر لقتلاهم في معركة بدر .
الرابع : التدريب والإستعداد من قبل المشركين للمعركة لنحو سنة ، ففي معركة بدر فزع المشركون وأنتدبوا للحرب حالما بلغتهم رسالة أبي سفيان بأن قافلة تجارتهم قد تتعرض للنهب ، أما في معركة أحد فقد إتخذوا الإحتياط والعدة .
الخامس : لقد طاف رجال قريش على القبائل يحرضونهم على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل معركة أحد ، والغاية من هذا الطواف أعم إذ أنهم يريدون بعث الفزع والخوف في قلوب الناس من دخول الإسلام .
السادس : يبين قوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا]قانوناً وهو أن التباين بين الإيمان والنفاق لم يمنع أو يبطل الأخوة النسبية ، وأن المسلمين محتاجون إلى أخوة تشد بعضهم إلى بعض وتحجب عنهم أذى المنافقين ، لذا نزل قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) وقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار بأن عيّن لكل واحد منهم أخاً له من الصحابة ، ليكون هذا التآخي حرباً على النفاق , وبرزخاً دون الإنصات للمنافق وإن كان من ذات الطائفة والقبيلة أو كان أخاً في النسب .
لقد حرم المنافقون أنفسهم من أخوة المؤمنين بأصرارهم على القعود والحث عليه ، وكأن هذا الحث هدم للأخوة التي بنى عليها المنافقون آمالهم في إضعاف الإسلام والصدّ عن سبيل الله .
الرابعة : بيان حقيقة وهي عناية المنافقين بالأخوة النسبية وتقديمها على الإيمان ، والدفاع عن النبوة والتنزيل ، فأراد الله عز وجل بيان قانون وهو أن اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونصرته أعظم وأولى من الإلتفات إلى قول المنافقين ، قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
وهل تتضمن آية البحث في مفهومها تحذير المؤمنين من المنافقين وإن كانوا إخوانهم ، الجواب نعم .
ومن مفاهيم آية البحث (يا أيها الذين آمنوا احذروا إخوانكم من المنافقين) ليكون من إعجاز آية البحث أنها تذكر قولاً للمنافقين بخصوص الشهداء وأنهم لو لم يخرجوا إلى الجهاد والدفاع لما قتلوا، ليصير على وجوه:
الأول : بعث النفرة في نفوس المؤمنين من المنافقين.
الثاني : ذكر قول المنافقين ليتفقه المسلمون في المعارف الإلهية، ويأخذوا الحيطة والحذر من المنافقين وأقوالهم.
الثالث : إكرام المسلمين للشهداء، وعدم الإلتفات لما يقوله المنافقون.
الرابع : تلقي أجيال المسلمين المتعاقبة لآية البحث بالتدبر وبالشكر لله عز وجل على صيرورتها سبباً للنصر.
الخامس : مبادرة المؤمنين للخروج للدفاع ضد كفار قريش وعدم الإصغاء للمنافقين.
لقد أراد المنافقون بعث الكراهة والنفرة في نفوس المسلمين من القتال والقتل في سبيل الله.
وقد أكد القرآن أن القتال بذاته مكروه , ولكنه ضرورة لإصرار الذين كفروا على التعدي، ويدل عليه قوله تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( )، ولم يكتف المنافقون بالنيل من الشهداء بل أنهم قعدوا عن أمور:
الأول : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للنفير، ومن الآيات أنه لم يدع المسلمين للخروج للقتال إلا بعد أن صار الكفار على مشارف المدينة المنورة، فمع أنهم يستعدون للقتال في مكة لأكثر من سنة فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يواظب وأهل بيته وأصحابه على إقامة الصلاة، وتلاوة آيات القرآن، وبيان أحكام الشريعة.
الثاني : قعد المنافقون عن نصرة إخوانهم من الأوس والخزرج، لبيان قانون وهو أن قعود المنافقين جزء علة وسبب لسقوط الشهداء من المؤمنين.
وهو من مصاديق قوله تعالى (أو ادفعوا) بلحاظ كبرى كلية وهي أن تكثير سواد المسلمين زاجر للمشركين عن مواصلة الهجوم والتعدي، ومن أسباب طمع المشركين بقتال المسلمين في معركة بدر، رؤية قلة عدد المسلمين حتى قالوا: أنهم(أكلة رأس).
وسوف يقول الشهداء يوم القيامة للذين نافقوا لو أطعتم الله ورسوله ما قتلنا في معركة أحد) ولو خرجتم معنا ما نال منا العدو , وهو من مصاديق قوله تعالى[فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ]( ).
الثالث : قعود المنافقين عن الدفاع عن أنفسهم وعن أهل المدينة والأعراض والأموال.
الآية لطف
من إعجاز الآية القرآنية أنها لطف عام وخاص ، وليس من حصر لمعاني ووجوه اللطف الذي يترشح عن الآية القرآنية منطوقاً ومفهوماً , وهي لطف بالناس جميعاً ، لما فيها من الدعوة إلى الإيمان والإقرار بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، وهو من أسرار نزول الكتب السماوية وتوالي بعث الأنبياء من عند الله مسلحين بالمعجزة القاهرة للعادة المقرونة بالتحدي السالمة من المعارضة .
ونزل القرآن من عند الله لتوثيق معجزات الأنبياء، وهل تضمن القرآن ذكر كل معجزات الأنبياء ، الجواب ذكر القرآن شطراً من معجزات الأنبياء على نحو التفصيل والباقي بالدلالة والإشارة، ولبيان فرد مبارك من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) إذ أن عدد الأنبياء هو مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ، وهو من إعجاز القرآن أن يأتي بأفراد قليلة لتحيط وتد ل على الأعم والأوسع والأشمل .
ومن مفاهيم آية البحث أن المؤمنين لا يقولون مثلما يقول الذين نافقوا بخصوص الشهداء ، ولا يدعون للقعود بدليل تلاوتهم للآية التالية ، وقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( )ويتلو المسلمون هذه الآية بايمان وتصديق وتدبر ، ولا يعلم الذي يقرأها منهم , أنه قد يلحق بشهداء معركة أحد في معارك الإسلام اللاحقة كالخندق وحنين .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه مجيؤها خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتشمل القارئ والسامع , وتقديرها على وجوه :
الأول : يا أيها الرسول لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً .
الثاني : يا أيها المؤمن لا تحسب الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لا تحسبوا الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً .
الرابع : يا أيها الذين نافقوا لا تحسبوا الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً .
فبينما يبث المنافقون أراجيفهم ويحث بعضهم بعضاً على القعود عن الدفاع , ويدعون عوائل المؤمنين إلى منعهم من الخروج تحت لواء النبوة التي أشرقت على أرض الجزيرة بضياء الهدى والغلبة والنصر، ونزلت الآية التالية لتكون كالصاعقة عليهم لبيان قانون وهو أن اللطف الإلهي المترشح عن الآية القرآنية لا ينحصر أو يختص بها إنما تبينه وتعضده الآيات القرآنية المجاورة لها لأمور :
الأول : الزيادة في البيان .
الثاني : الإعادة والتذكير بالمعجزة والبرهان، قال تعالى[بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ]( ) .
الثالث : تيسير الفهم وإعانة المسلمين والناس على التدبر في آيات القرآن .
الرابع : إقامة الحجة على الذين كفروا .
الخامس : فضح وإسكات المنافقين ، وهو الذي تدل عليه آية البحث ، لورودها بصيغة الفعل الماضي [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ].
وهذه الصيغة من اللطف في الآية الكريمة من جهات :
الأولى : بيان بطلان أراجيف الذين نافقوا .
الثانية : إثبات حقيقة وهي أن دعوة المنافقين للقعود مغالطة وهروب من الواجب الإنساني والضرورة ، وفي التنزيل [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلاَ أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ]( ).
وفي الآية أعلاه وردت أقوال منها انها نزلت في المنافقين .
الثالثة : جعل تلاوة آية البحث واقية من الإنصات للذين نافقوا .
الرابعة : تدل آية البحث بالدلالة التضمنية على شهادة بعض الصحابة من المهاجرين والأنصار وفيه شاهد على عدم إصغاء المؤمنين لقول المنافقين ومجموع قتلى المسلمين يوم أحد سبعون شهيداً ، (وقال قتادة: عن أنس، قتل من الانصار يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون ويوم اليمامة سبعون.
وقال حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أنه كان يقول: قارب السبعين يوم أحد، ويوم بئر معونة، ويوم مؤتة، ويوم اليمامة) ( )كما ورد ذات المعنى عن أبي سعيد الخدري( ).
(وكان أنس بن مالك يقول: يا ربّ، سبعين من الأنصار يوم بئر معونة! وكان أبو سعيد الخدري يقول: قتلت من الأنصار في مواطن سبعين سبعين يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون، ويوم جسر أبي عبيد سبعون. ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم على قتلى ما وجد على قتلى بئر معونة. وكان أنس بن مالك يقول: أنزل الله فيهم قرآناً قرأناها حتى نسخ: ” بلغوا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه”)( ).
والمختار أن مجموع قتلى المسلمين سبعون في معركة أحد أربعة من قريش والباقي من الأنصار ، وهو المروي عن سعيد بن المسيب ومجاهد وغيرهما( ).
إفاضات الآية
لما بعث الله عز وحل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كشر الكفر عن أنيابه، وظهرت آثار عبادة كفار الجزيرة للأصنام بالجفاء والصدود عن النبوة والتنزيل وتناجوا بالقتال والحرب، وأخذوا يلقون الأشعار التي تدل على دق طبول الحرب , وليس من سلاح عند المسلمين إلا التنزيل والتقوى وحضور شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الآيات أن تلك الأشعار لم تجد إذناً صاغية , ولم يتناقلها الركبان على خلاف عادة العرب، بسبب أنهم إنشغلوا بتلاوة ونقل آيات القرآن والتدبر في معانيها، التي تبعث النفرة من الكفر والكافرين , ولا يختص هذا الأمر بالمؤمنين بل هو شامل للناس.
كما ظهرت هذه الآثار في النفاق وبقاء نفوس المنافقين على إخفاء الكفر والجحود، فجاءت آية البحث حرباً على النفاق وإزاحة له من النفوس، ليكون فيها مدد للمسلمين في ملاقاة الذين كفروا بتقوية صفوف المسلمين في حال الحرب والسلم ، وتنزيه منتدياتهم من صيغ الشك والريب التي بيتها المنافقون.
ومن إعجاز الآية مجيؤها بصيغة الفعل الماضي[الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ] للدلالة على فتور وإنحسار هذا القول، وإثبات حقيقة وهي أن آية البحث واقية من تكرار وإنتشار أقوال المنافقين فلم تقل الآية الذين يقولون لإخوانهم.
وتقدير آية البحث: الذين نافقوا وقالوا لإخوانهم، بلحاظ أن هذا القول خصلة من خصال النفاق، لتتجلى صفات وخصال لهم بلحاظ الجمع بين الآية السابقة وآية البحث وهي:
الأولى : إتصاف الذين نافقوا بالكذب والمكر والخداع، فحينما يُدعون إلى قتال المشركين في معركة أحد ينكرون حدوث أي قتال مع أنه لم يعد بين جيش المشركين والمدينة المنورة إلا بضع كيلو مترات.
الثانية : إصرار الذين نافقوا على عدم الخروج للدفاع والتجاهر بالإمتناع عن الوقوف في ميدان القتال لملاقاة الذين كفروا.
ويدل قوله تعالى في الآية السابقة[قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ] أي أنهم لم يستجيبوا حتى للدعوة بتكثير سواد المسلمين، ولو من غير قتال، وقد يكون الجيش فرقتين واحدة تقاتل وأخرى تنتظر الإشتراك ودخول القتال، أو أنها تتظاهر بالعزم على دخول المعركة، وقد إمتنع الذين نافقوا عن إتباع الذين آمنوا في طاعة الله ورسوله والخروج إلى ميدان معركة أحد.
ومن خصائص الخطاب القرآني أنه يوحد ولا يفرق، ويجمع ولا يشتت، فمن إعجاز آية البحث إتحاد المسلمين في الدفاع في سبيل الله، وعلى نبذ النفاق وأسباب الفرقة والشقاق، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).

الآية بشارة
تتعلق مضامين آية البحث بمعركة أحد إبتداء واستدامة وإنقضاء وحال المنافقين وأقوالهم فيها ، ليكون موضوعها مدرسة للمسلمين يقتبسون منها المواعظ والسنن ، وذكرت الآية الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل الله في معركة أحد ، ويتجلى هذا القيد وصدق النية ، وإرادة الشهداء قصد القربة لما ورد في الآية السابقة [تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ).
ليكون من معانيه بلحاظ آية البحث أن الشهداء حضروا وقاتلوا في سبيل الله وقتلوا) لذا تكرر لفظ يستبشرون في الآية التالية والتي بعدها، ويتعلق كل منهما بالشهداء مع التباين الموضوعي بينهما ، فهم يستبشرون بالمؤمنين الذين سيلحقون بهم بالإنتقال من الحياة الدنيا إلى مقامات الخلد ويستبشر الشهداء بما رزقهم الله عز وجل من النعيم الحاضر .
لقد آخذ الذين نافقوا الشهداء على شهادتهم وقتلهم في سبيل الله ولم يعلموا أن تلك الشهادة بشارة أزلية ، ومقدمة للخلود بالنعيم , وتدل خاتمة آية البحث على حقيقة وهي أن في هلاك المنافق مناسبة للبشارة للمؤمن وليس للشماتة بموته، للتباين في كيفية الموت وحسن عاقبة المؤمن وسعادته الأبدية بالموت ، ليكون من معاني ومفهوم آية البحث أن المؤمنين هم الذين يقولون للذين نافقوا : لو أطاعونا ما قعدوا ولا خسروا بالموت .
وصحيح آية البحث ذكرت الموت وهو نوع إنذار إلا إنه ورد بخصوص الذين نافقوا وعجزهم عن دفعه عن أنفسهم ، وفيه بشارة للمؤمنين بأن الذين نافقوا إلى هلاك ، وأن ذات النفاق إلى زوال.
فمن خصائص آية البحث والآيات المجاورة أنها وسيلة سماوية لإستئصال النفاق من الأرض ، ولم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا وقد استبان ذل المنافقين ، وتناقص عددهم وضعف شأنهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ) وفيه نكتة وهي بيان قانون لأول مرة في هذا السِفر وهو أن ضعف المنافقين وعجزهم عن التأثير في الوقائع والأحداث من مصاديق الآية أعلاه من جهات :
الأولى : في ضعف وإنحسار النفاق تخفيف وكمال للدين عند المسلمين ، ومن الآيات ان الآية اعلاه لم تقل اكملت لكم الدين ، إنما نسبت الدين إلى المسلمين لإرادة مناهجهم في أداء الفرائض وعمل الصالحات .
قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الآية إنذار
لقد إبتدأت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا] وذات الخبر في الآية إنذار في موضوعه وحكمه ودلالته .
وتلك معجزة للقرآن بأن يأتي الخبر فيه فيكون إنذاراً أو بشارة أو فرضاً وأمراً أو نهياً وزجراً وبياناً لضروب من الصلاح للترغيب فيه ، او الفساد لإجتنابه والإبتعاد عنه ، مع مجئ آيات أخرى من القرآن تعضد هذا المعنى الوارد في الآية .
تبدأ الآية بانذار المنافقين من جهات :
الأولى : بيان سوء قولهم، وفي قوله تعالى[مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ) .
قال ابن عباس: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر، حتى إنه ليكتب قوله: “أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت ، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر، وألقى سائره، وذلك قوله:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ})( ).
الثانية : زجر المنافقين عن الشماتة بالمؤمنين .
الثالثة : تحذير المسلمين والمسلمات من محاكاة المنافقين في سخريتهم والسلامة من مغادرة الدنيا قهراً .
الرابعة : إنذار الناس جميعاً من الإنصات للمنافقين وترديد ما يقولونه ويبثونه من الأراجيف .
الخامسة : إنذار المنافقين والمنافقات من دخول جيش الذين كفروا إلى المدينة واستباحتها ، لأن الذين قتلوا من المؤمنين درع حصينة لها ، ووقوا بدمائهم الزكية أسوار وأزقة ودور المدينة .
السادسة : ذكر الآية للقعود إنذار من الحساب والمؤاخذة عليه في الدنيا والآخرة ، لضرورة الدفاع عن النبوة واستدامة التنزيل وعن النفس والأموال والأعراض .
إن ذكر قول المنافقين وتوثيقه في القرآن إنذار للمنافقين ، ومن خصائص وصفات النبي أنه منذر ، قال تعالى [إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ] ( ).
ومن إعجاز القرآن مجئ الإنذار لقوم ليكون عاماً في دلالته وأثره ، وقد نزل القرآن بلغة إياك أعني وأسمعي يا جارة .
فيكون الإنذار في آية البحث من جهات :
الأولى : الإنذار للذين نافقوا وهو على وجوه :
أولاً : إنذار ولوم الذين نافقوا على قعودهم عن الدفاع وإنسحابهم من وسط الطريق إلى ميدان معركة أحد .
ثانياً : إخبار آية البحث عن قول المنافقين بخصوص الشهداء : لو أطاعونا ما قتلوا ، إنذار لهم وتوبيخ على جهلهم المركب ، وعدم معرفتهم بأن الشهداء فازوا بالحياة الدائمة في جنان الخلد ، فجاءت الآية التالية تأديباً وتبكيتاً للمنافقين ومنعاً للناس من محاكاتهم بأقوالهم ، ومقاصدهم الخبيثة ، إذ قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
ثالثاً : الإنذار للمنافقين من سخط المسلمين والأجيال المتعاقبة عليهم ، وهل يختص هذا السخط بأجيال المسلمين ، الجواب لا ، إنما هو أعم ويشمل الناس كلهم ، إذ يحاكي الناس المسلمين في نبذ النفاق لقبحه الذاتي وضرره على الفرد والطائفة والأمة ، وهذه المحاكاة من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وإذا كان الناس يلومون الذين نافقوا على غشهم بابطان الكفر في ذات الوقت الذي يدّعون فيه الإيمان، فهل يصح القول أن ذات آية البحث إنذار للناس أيضاً ، الجواب نعم ، كيلا يتخذوا منهاج النفاق مسلكاً ولو على نحو السالبة الجزئية .
الثانية : لما أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ]( ) جاءت آية البحث بفضح ما يخفي المنافقون من وجوه :
الأول : ما يخفيه ويكتمه الذين نافقوا في نفوسهم من الجحود ونوايا السوء .
الثاني : المناجاة بين المنافقين بالقعود عن الدفاع.
الثالث : بث المنافقين الأراجيف.
الرابع : إمتناع المنافقين عن الدفاع، وبغضهم للشهادة في سبيل الله، فجاءت الآية التالية لبيان عظيم الأجر وحسن العاقبة لشهداء أحد.
الخامس : من معاني قعود الذين نافقوا الذي تذكره آية البحث قعودهم عن الإنفاق في سبيل الله، وإستهزاؤهم بالذين يبادرون إلى البذل والنفقة وإخراج الزكاة والخمس .
وعن قتادة قال: أقبل رجل من فقراء المسلمين يقال له الحجاب أبو عقيل قال : يا نبي الله بت أجر الحرير الليلة على صاعين من تمر ، فاما صاع فأمسكته لأهلي وأما صاع فهو ذا . فقال المنافقون : إن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع هذا)( )، فأنزل الله الآية أعلاه.
ويمكن تأليف مجلدات خاصة بعلم الله بما يخفي المنافقون من وجوه :
الأول : ما يخفيه كل منافق في قلبه من الكفر والغيظ والحسد .
الثاني : الأمر الجامع الذي يكتمه المنافقون في قلوبهم، وهو الكفر والجحود وإن أظهروا الإيمان بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الحال المتجدد والمتبدل لما يخفيه المنافقون في صدورهم كالشماتة عند استشهاد طائفة من المسلمين وكالحزن عند مجئ النصر للمسلمين والفرح عند سماع إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد التي لم تستمر لبضع ساعات، إذ وردت الأخبار بعدها إلى المدينة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقاتل وسط الميدان، ليكون دحض الإشاعة مقروناً بقانون وهو أن المسلمين لم ينهزموا في معركة أحد وإن خسروا فيها والحرب سجال .
فمن أسرار صيغة المضارع في قوله تعالى[يَكْتُمُونَ] بيان التجدد الموضوعي فيما يخفي الذين نافقوا ولبيان قانون أن كل واقعة وحادثة يضمرون معها ما يغاير الإيمان ، وينافي سننه.
الثالثة : يكتم الذين نافقوا في نفوسهم الإقرار بأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التنزيل والبراهين والمعجزات حق وصدق وشاهد على نبوته إلا أنهم يأبون صيرورة هذا الإقرار تسليماً وأمراً مستولياً على قلوبهم، قال تعالى[وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( ) أي علموا بالآيات على نحو القطع واليقين ، وصحيح أن الآية أعلاه جاءت بخصوص آل فرعون وصدودهم عن رسالة موسى عليه السلام ومعجزة العصا والمعجزات الأخرى التي جاء بها إلا أنها تبين حال الذين كفروا والذين نافقوا .
ليكون من معاني آية البحث إنذار الذين كفروا على مسألة وهي أنهم يخفون في أنفسهم بأن الخروج للدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل حق وفيه الأجر والثواب ، وان الملائكة ينزلون لنصرة المؤمنين ، ولكن النفاق والعناد يغلب على نفوسهم .
الرابعة : إنذار الذين نافقوا على إرادتهم الإضرار بأخوانهم في النسب وبالمهاجرين ، فلا يصل قول المنافق وتحريضه بالقعود لجميع الأنصار، ولا كل الذين يسمعون قوله يستجيبون له ، مما يدل على أنه يريد خروج أقل عدد من الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ميدان المعركة ، فالآية إنذار للذين نافقوا على سعيهم لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في ميدان المعركة ، ورجوع الذين كفروا على الصحابة الذين قعدوا عن المعركة لأن الذين كفروا يطلبون ثارات بدر، ومنع نشر الصحابة الأوائل الإسلام في ربوع الجزيرة .
ولقد صار القتل قريباً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفصله عنه إلا واقية ورحمة من عند الله ، ونجاته يومئذ معجزة جلية في السنة الدفاعية ، اذ هجم المشركون مدججين بالسيوف والدروع والنبال والسهام على النبي وليس معه إلى نحو أحد عشر من أهل بيته وأصحابه ومعهم امرأة وهي أم عمارة إنتصرت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما رأت إحاطة المشركين به وفرار أكثر أصحابه وصيرورة حجارتهم تصل إليه وابن قميئة يقول (قتلت محمداً)( ).
وقد يسأل سائل ترى ماذا لو قُتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة أحد ، هل يتم فتح مكة في أوانه في السنة الثامنة للهجرة ، وهل يكون الإسلام على ما هو عليه الآن.
وكيف يكون حال المسلمين في الأحكام , والقرآن لم يتم نزوله خاصة ، وأن أكثر آيات الأحكام نزلت بعد معركة أحد ، وكانت سورة المائدة آخر سور القرآن نزولاً ، لذا فانها خالية من المنسوخ في الجملة .
الجواب لا يتم فتح مكة في أوانه ولا يكون حال المسلمين كما هو عليه الآن إلا أن يشاء الله ، لتكون سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد فضلاً من الله على كل من :
الأول : كل مسلم إلى يوم القيامة .
الثاني : كل مسلمة وإلى يوم القيامة .
الثالث: كل منافق تاب أو لم يتب لما في آيات القرآن التي نزلت بعد معركة أحد من الإنذار والمواعظ ومنها آية البحث .
الرابع : كل إنسان من أهل الأرض ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وفيه دعوة للمسلمين والناس جميعاً لشكر الله عز وجل على نعمة نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة أحد وأن الذين قتلوا من الشهداء كانوا فيه دروعاً دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذا ذكرت آية البحث وبصيغة الذم ما قاله الذين نافقوا من أسباب الشماتة بهم ، وبينت الآية التالية عظيم منزلتهم عند الله بقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) .
ومن الإعجاز في تعقب الآية أعلاه لآية البحث ونيل شهداء أحد المراتب السامية هو فدائهم لرسول الله بأنفسهم ودمائهم ، وعدم الإصغاء لأقوال الذين نافقوا.
وهل يدل هذا المعنى على زيادة سخط الله عز وجل على الذين نافقوا لأنهم يشمتون بالذين ذبوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وضحوا بأنفسهم من أجل توالي نزول القرآن وكذا بالنسبة للصحابة الأحياء من المهاجرين والأنصار , فكل واحد منهم مشروع شهادة.
الجواب نعم ، لذا ورد الإنذار والوعيد للذين نافقوا بقوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ..] ( ) أي أن النار دركات إلى الأسفل ، كما أن الجنة درجات إلى الأعلى .
لقد أبى الله عز وجل إلا أن ينجو النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أو معارك الإسلام الأخرى لبيان إعجاز في قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ) فخاب وخسر الذين نافقوا ولم يجلبوا على أنفسهم إلا الخزي والعار في النشأتين .
والذين نافقوا أعم من الذين ذكرتهم آية البحث (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ قَوْمًا مِنْ الْعَرَبِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمُوا وَأَصَابَهُمْ وَبَاءُ الْمَدِينَةِ حُمَّاهَا فَأُرْكِسُوا فَخَرَجُوا مِنْ الْمَدِينَةِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَعْنِي أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهُمْ مَا لَكُمْ رَجَعْتُمْ قَالُوا أَصَابَنَا وَبَاءُ الْمَدِينَةِ فَاجْتَوَيْنَا الْمَدِينَةَ فَقَالُوا أَمَا لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَافَقُوا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَمْ يُنَافِقُوا هُمْ مُسْلِمُونَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا }( ))( ).
الآية موعظة
لقد تضمنت آية البحث مسائل :
الأولى : قول الذين نافقوا .
الثانية : قعود الذين نافقوا .
الثالثة : الأمر من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قل] وهل تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من مصاديق هذا القول.
الجواب نعم ، ليكون من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الأمر بالقول إليه أكثر ترديداً وقولاً بين الناس إلى يوم القيامة ، إذ يتلو كل مسلم ومسلمة آية البحث على نحو الوجوب في الصلوات اليومية الخمسة كل يوم ، ليكون من وجوه تقدير الآية وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا قولوا للذين نافقوا تعالوا قاتلوا في سبيل الله.
الثاني : يا أيها المسلم قل للذين نافقوا تعالوا قاتلوا في سبيل الله .
الثالث : يا أيتها المسلمة قولي للذين نافقوا تعالوا قاتلوا في سبيل الله .
الرابع : يا أيها الناس قولوا للذين نافقوا تعالوا قاتلوا في سبيل الله .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا ذكّروا المنافقين بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أمره الله عز وجل به (فأدرءوا عن أنفسكم الموت) .
ومن البشارات في آية البحث أن المؤمنين لم ينصتوا إلى الذين نافقوا ، وفيه قهر للنفاق , وزجر من إظهار الكفر والشك وأسباب الريب .
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بأن تولى بنفسه محاربة النفاق وشل أيدي الذين نافقوا بدل أن يقوموا بتثبيط عزائم المؤمنين وإضعاف هممهم ، ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الله عز وجل يهيئ أسباب ومقدمات النصر لهم ، ويزيح الموانع التي تحول دون إقامة الفرائض والشعائر، وهو من مصاديق قوله تعالى[ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ) أي أن الله عز وجل يتفضل بتيسير المقدمات لتعظيم شعائر الله ، وأنه سبحانه يعد المسلمين والمسلمات بالكرامة في الدنيا والآخرة بتنزيه المساجد والمنتديات من النفاق وإخفاء الكفر والضلالة، وهل تدل مضامين آية البحث على قرب الموت من الذين نافقوا.
الجواب نعم فقوله تعالى [فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ] تحد للذين نافقوا وإخبار بأنهم إلى الموت والهلاك قريبون , قال تعالى[إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ] ( ) ليكون المنافق أمام أحد أمرين :
الأول : التوبة والإنابة .
الثاني : الموت على النفاق وصرف أذاه عن المؤمنين ،ووقوفه بين يدي الله عز وجل للحساب ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
ومن مصاديق الموعظة في آية البحث أمور :
الأول : بيان قبح النفاق وضرره على الذات والغير .
الثاني : لزوم عدم ترك المنافقين وشأنهم فلابد من منعهم من بث السموم والأوهام ونشر مفاهيم القعود والصد عن سبيل الله ، فجاءت آية البحث لتحقق هذه المنافع سواء بنزولها من عند الله أو بتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها أو بقراءة المسلمين لها في الصلاة وخارجها .
الثالث : توثيق آية البحث لأقوال المنافقين دعوة للمسلمين للصبر المقرون بالعزم على الدفاع عن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن التنزيل وأحكام الحلال والحرام ، والسعي لإزاحة عبادة الأوثان من الوجود الذهني وعالم الواقع .
الرابع : نبذ القعود عن الدفاع، والإخبار بأنه قبيح ومكروه ومجلبة للخسارة والضرر الفادح العام ، ومتى ما أدرك الذين كفروا من قريش أن المسلمين يبادرون للدفاع ويستجيبون للنفير فانهم يمتنعون عن جمع حشودهم للهجوم على المدينة ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( )، وكأن آية البحث تقول للمسلمين : يا أيها الذين آمنوا إياكم والقعود .
الآية رحمة
إبتدأت آية البحث بذكر خصلة وقول للمنافقين يتضمن عدم الرضا عن دفاع المسلمين عن الملة والنفوس والأهل والمدينة .
لقد كان أهل يثرب يقاتلون من يأتي للإعتداء عليهم ، فلما جاء الإسلام وخرج المسلمون لرد الإعتداء قصّر نفر وهم المنافقون ، وقعدوا عن الدفاع , وبعضهم من أشراف المدينة ، وقاموا بالتحريض المبطن على القعود، فصاروا سبباً لبث الوهن والضعف والإرباك بين المسلمين ، فتفضل الله عز وجل بآية البحث لمحو ما قد يترتب على قولهم ، ومنع أثرهم لتكون رحمة من وجوه :
الأول : الآية رحمة بالأنصار الذين عاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيعة العقبة الثانية بالدفاع عنه إذا جاء إلى المدينة ، فقد صار المشركون على أبواب المدينة وهم يطلبون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويريدون قتله ، فقد دخل الإسلام بيوت الأوس والخزرج ، ثم صاروا يتناجون ويتدارسون أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة ، وكيف أنه خائف على نفسه ، ويلاحق في جبال مكة من قبل رؤساء الكفر ويزدادون غلظة عليه وعلى أهل بيته وأصحابه ، فجاء رجال من الأوس والخزرج إلى مكة في موسم الحج واجتمعوا معه في العقبة وعددهم سبعون ، ودعوه إلى المدينة .
عن جابر بن عبد الله الأنصاري (فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللّهِ عَلَامَ نُبَايِعُكَ ؟ قَالَ ” تُبَايِعُونِي عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ فِي النّشَاطِ وَالْكَسَلِ وَعَلَى النّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا فِي اللّهِ لَا تَأْخُذْكُمْ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ وَتَمْنَعُونِي مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ وَلَكُمْ الْجَنّةُ فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ وَهُوَ أَصْغَرُ السّبْعِينَ .
فَقَالَ رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ إنّا لَمْ نَضْرِبْ إلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيّ إلّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ وَإِنّ إخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافّةً وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ وَأَنْ تَعَضّكُمْ السّيُوفُ .
فَإِمّا أَنْتُمْ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللّهِ وَإِمّا أَنْتُمْ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ لَكُمْ عِنْدَ اللّهِ .
فَقَالُوا : يَا أَسْعَدُ أَمِطْ عَنّا يَدَك فَوَاَللّهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ وَلَا نَسْتَقِيلُهَا فَقُمْنَا إلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا فَأَخَذَ عَلَيْنَا وَشَرَطَ يُعْطِينَا بِذَلِكَ الْجَنّةَ ثُمّ انْصَرَفُوا إلَى الْمَدِينَةِ .
وَبَعَثَ مَعَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَمْرَو بْنَ أُمّ مَكْتُومٍ وَمُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ يُعَلّمَانِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ الْقُرْآنَ وَيَدْعُوَانِ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَنَزَلَا عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَة .
َ وَكَانَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ يَؤُمّهُمْ وَجَمَعَ بِهِمْ لَمّا بَلَغُوا أَرْبَعِينَ فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِمَا بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أُسَيْد بْنُ الْحُضَيْرِ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأَسْلَمَ بِإِسْلَامِهِمَا يَوْمئِذٍ جَمِيعُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ الرّجَالُ وَالنّسَاءُ إلّا أُصَيْرِم عَمْرَو بْنَ ثَابِتِ بْنِ وَقْش ٍ فَإِنّهُ تَأَخّرَ إسْلَامُهُ إلَى يَوْمِ أُحُدٍ وَأَسْلَمَ حِينَئِذٍ وَقَاتَلَ فَقُتِلَ قَبْلَ أَنْ يَسْجُدَ لِلّهِ سَجْدَةً فَأُخْبِرَ عَنْهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا)( ).
لتكون آية البحث دعوة لتجديد البيعة بالمصداق الفعلي ، وقد يظن رؤساء قريش أن الأوس والخزرج يجزعون ويملون من القتال دفاعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن توالي الهجوم عليهم يجعلهم يفضلون مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين لهم ، ومن الشواهد عليه ما ورد حكاية عن المنافقين في التنزيل [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] ( ).
ونزلت الآية اعلاه بعد نزول آية البحث بسنوات مما يدل على بقاء المنافقين على ضلالتهم ، وسعيهم لإضعاف الإسلام ، وفيه نكتة وهي لولا نزول آية البحث والآيات ذات المعنى المتحد معها لتجاهر المنافقون بالدعوة إلى إخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المدينة ، ولقاموا بذات الأمر على نحو عملي ،ولكن جعلهم الله بآية البحث ضعفاء أذلة .
الثاني : آية البحث رحمة بالمهاجرين والأنصار الذين خرجوا إلى ميدان المعركة وقاتلوا ودافعوا وعادوا إلى المدينة تتغشاهم الجراحات فلم تلقاهم مقولة الذين نافقوا الذين صاروا بنزول آية البحث يستحيون من قعودهم , وهل أصبحوا يجتنبون التجاهر والتفاخر به ، الجواب نعم .
الثالث : آية البحث رحمة بالشهداء الذي قتلوا في معركة أحد ، وكذا الشهداء الذين قتلوا في معركة بدر التي جرت قبلها بثلاثة عشر شهراً لما تتضمنه الآية من اللوم إلى المنافقين الذين توجهوا باللوم إلى الشهداء بذريعة أنهم لم يطيعوا الذين نافقوا في القعود ، وفيه بيان لقانون وهو إكرام الله عز وجل للشهداء في الدنيا ، كما في آية البحث ، وفي الآخرة كما في الآية التالية بقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) , ومن مصاديق الإكرام الإضافي لهم التعاقب بينهما , للدلالة على عدم ثمة مدة بين حياة الشهداء في الدنيا وحياتهم في الآخرة.
الرابع : تتجلى في مضامين آية البحث رحمة الله بالمؤمنات من أهل المدينة لأنها واقية من الإنصات لأراجيف وسموم الذين نافقوا .
الحاجة لآية البحث
الإنسان من عالم الإمكان، وقد خلق الله عز وجل آدم , ونفخ فيه من روحه ، وخلق زوجه حواء وأهبطهما إلى الأرض للخلافة فيها ، وهيئ مقدمات وأسباب التناسل والتكاثر بين الناس ، ولم يغادر آدم الحياة الدنيا إلا وكان أولاده وأحفاده كثيرين ، وتلك آية من قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فاذا كان كل واحد من هؤلاء لا يغادر الأرض إلا بعد أن يكون له العشرات أو المئات من الذرية يكون المجموع جمعاً كبيرا.
وقد ذكر أبو جعفر بن جرير في تاريخه عن بعضهم أن حواء ولدت لآدم أربعين ولدا في عشرين بطنا قاله ابن إسحق وسماهم والله تعالى أعلم وقيل مائة وعشرين بطنا في كل واحد ذكر وأنثى أولهم قابيل وأخته قليما وآخرهم عبد المغيث وأخته أم المغيث ثم انتشر الناس بعد ذلك وكثروا وامتدوا في الأرض ونموا كما قال الله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً] ( ).
وقد ذكر أهل التاريخ أن آدم عليه السلام لم يمت حتى رأى من ذريته من أولاده وأولاد أولاده أربعمائة ألف نسمة والله أعلم( ).
عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر الغفاري، قال: قلت: يا رسول الله، كم كتاب أنزل الله عز وجل؟ قال: ” مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل الله على شيث خمسين صحيفة ” .
وإلى شيث أنسابُ بني آدم كلهم اليوم، وذلك أن نسل سائر ولد آدم غير نسل شيث، انقرضوا وبادوا فلم يبق منهم أحد، فأنساب الناس كلهم اليوم إلى شيث عليه السلام( ).
ولا دليل على هذا القول ، ويدل على خلافة الإنسان، وتعدد الأنساب، قوله تعالى أعلاه، ويحتمل البث فيها:
الأول : إرادة الأولاد الصلبيين من آدم وحواء .
الثاني : المقصود الأبناء والأحفاد .
الثالث : إرادة عموم البشر .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة، وأن ذات الأولاد الصلبيين لآدم وحواء صار لهم أولاد وأحفاد ، نعم كان شيث هو خليفة ووصي آدم عليه السلام .
ومن شرائط خلافة الإنسان في الأرض الإيمان والإقرار لله عز وجل بالوحدانية ووجوب عبادة الناس له ذكوراً وأناثاً، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
وخالف شطر من الناس الغاية التي خلقوا من أجلها وكانوا على مراتب في التمادي في الغي , وأشدهم وأقبحهم فعلاً أولئك الذين لاقوا دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتوحيد بالسيوف والقتال .
(عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ، ثم قرأ { فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر } ) ( ).
وقد أصر كفار قريش على الجحود ، وعلى إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهاجر إلى المدينة المنورة فزحفوا بجيوش عظيمة لقتاله ، فخرج والمهاجرون والأنصار للدفاع عن ملة التوحيد وعن أنفسهم ، وتخاذل المنافقون وتجاهروا بالقعود الذي هو تخاذل وخذلان ، فصارت حاجة البحث حاجة للمؤمنين والمنافقين والكفار .
أما المؤمنون فان الآية واقية وحرز لهم من الإنصات للمنافقين , وهي توبيخ لهم ، ولجم لألسنتهم وأما الكفار فتبعث الآية الفزع والخوف في نفوسهم .
ثناء الله على نفسه في آية البحث
لقد تقدم في الآية السابقة دعوة الذين نافقوا للقتال في سبيل الله في معركة أحد بقوله تعالى [وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا] ( ) .
لبيان قانون وهو وجوب الدفاع في سبيل الله ضد المشركين الذين يجهزون الجيوش الكبيرة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومحاربة التنزيل .
وفي الآية مدح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أن الذي يقاتل دونه وتحت لوائه إنما يقاتل في سبيل الله ليقع أجره على الله عز وجل وهو الذي يجزيه ويتبعه على هذا القتال.
ومن معاني ثناء الله على نفسه في المقام أن ثواب القتال في سبيله لا يقدر عليه إلا هو سبحانه لأنه متصل ودائم غير منقطع ، إذ ينقطع ملك الناس وسلطانهم في الدنيا بينما يكون ثواب الذي يقاتل في سبيل الله , أُستشهد أو لم يستشهد في الدنيا والآخرة، قال تعالى[وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا..]( ).
وقيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (أخبرنا بعمل يعدل الجهاد في سبيل الله ، قال : لا تطيقونه ، قالوا : يا رسول الله ، أخبرنا لعلنا نطيقه ، قال : مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله ، لا يفتر من صوم ولا صدقة ، حتى يرجع المجاهد إلى أهله)( ).
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الصيام أن الله تعالى هو الذي يجزي عليه ، وجاء الحديث أعلاه ببيان قانون من عالم الثواب وهو أنالصبر والدفاع يعدل الصيام والقيام والقنوت والمواظبة على الصدقة مجتمعة في زمان واحد وعلى نحو الإتصال لبيان قانون وهو أن الذين ذكرتهم آية البحث بقوله تعالى [وَقَعَدُوا] إنما قعدوا عن رزقهم وحرموا أنفسهم من الثواب في النشأتين .
ثم أخبرت آية البحث عن الموت ومداهمته للذين نافقوا ، وعجزهم وأن اجتمعوا عن دفعه عن أحدهم خصوصاً رأسهم عبد الله بن أبي بن أبي سلول وهو من بني عوف بن الخزرج، وسلول امرأة من خزاعة هي أم أبي بن مالك ، وكان عبد الله يكنى أبا الحباب لابنه الحباب الذي بدّل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اسمه وسماه عبد الله وهو من فضلاء الصحابة ،وشهد بدراً وأحداً ، والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وأستشهد في معركة اليمامة في السنة الثانية عشرة للهجرة .
ولابد من تأليف مجلد خاص باسماء أهل البيت والصحابة الذين شهدوا بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باستثناء التي يأمرهم فيها بالبقاء في المدينة .
لقد هلك رأس النفاق بعد آذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مناسبات متعددة شخصية وعامة (فلما مات( ) سأله( ) ابنه الصلاة عليه، فنزلت: [وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ]( )، وسأله أن يكسوه قميصه يكفن فيه، لعله يخفف عنه، ففعل)( ) ومن وجوه ثناء الله عز وجل على نفسه في آية البحث أن الموت بيده سبحانه وكذا أوانه وكيفيته .
ويأمر الله سبحانه ملك الموت بقبض الأرواح ، وينزع روح المنافق بما يؤثر به ويؤذيه، لتطهير الأرض منه ، وفيه دعوة للناس للتوبة والإنابة .
النعم التي تذكرها آية البحث
لقد بينت آية البحث فعل وقول للمنافقين لتكون نعمة من جهات :
الأولى : تحذير المؤمنين ، وإرشادهم إلى لزوم أخذ الحيطة والحذر من المنافقين وكيدهم ومكرهم .
الثانية : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفة أحوال الناس .
الثالثة : إخبار آية البحث عن نشوء طائفة جديدة , فالى جانب المؤمنين والذين كفروا صار هناك قسيم ثالث لهما وهم الذين نافقوا وهم كالبرزخ غير المستقر، لإخبار الآية السابقة بأنهم في ساعة الشدة وعند دنو جيش العدو، يصيرون[لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ]( )، فجاءت آية البحث لمنع هذا القرب والحيلولة دون إستدامته.
ليكون من الإعجاز في قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) قبل آيتين الإشارة إلى إنسحاب الذين نافقوا من وسط الطريق وعدم مشاركتهم في القتال بين المؤمنين والذين كفروا .
فان قلت قد ورد ذات اللفظ بخصوص معركة بدر كما في قوله تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ..] ( ) ولم يكن يومئذ في المدينة منافقون لأن الإسلام لم يظهر سلطانه الإجتماعي والديني بعد .
والجواب هذا صحيح ، وهو شاهد على ما نذهب إليه من إرادة عزل المنافقين يوم أحد ، وهل يكون هذا العزل سبباً لسلامتهم من الإثم.
الجواب لا ، لأنه دليل على ولائهم للذين كفروا وعزوفهم عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : بعث السكينة في نفوس المؤمنين على نحو الحصر والتعيين .
الخامسة : شمول بيوت المؤمنين وعوائلهم بالسكينة والأمن .
السادسة : إرادة تنمية صبغة الصلاح في مجتمعات ومنتديات المؤمنين .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية فتترشح السكينة على النفوس من المجتمعات وكذا العكس ، لتكون هذه السكينة مقدمة للأمر بالإيمان والنهي عن النفاق .
وتبعث آية البحث النفرة في النفوس من القعود عن الجهاد لأنه من رشحات الكفر الذي هو خفي ومغطى في النفوس، لذا فمن الإعجاز في الآية قبل السابقة إخبارها عن وقوع معركة أحد باذن الله لبيان حقيقة أن من منافع معركة أحد أموراً :
الأول : الثناء على الذين خرجوا للجهاد إستجابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودفاعاً عنه وعن القرآن , وهذا الخروج من مصاديق قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ) وهل من رحمة الله عز وجل نزول آية البحث ، الجواب نعم , وتفيض مصاديق البركة منها إلى يوم القيامة .
الثاني : بيان قبح القعود والإخبار عن قانون وهو كون القعود من غير عذر فرع النفاق وشاهد عليه .
الثالث : ذم المنافقين وإتصال ودوام هذا الذم إلى يوم القيامة ، ليكون من إعجاز القرآن انه ليس من مدح أو ذم متصل ومتجدد إلى يوم القيامة مثل الذي يرد في القرآن ذكرهم بالمدح أو الذم.
الرابع : بعث النفرة في نفوس المسلمين من القعود وما فيه من التشبه بالمنافقين ومحاكاتهم وهذا البعث من مصاديق قوله تعالى [بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ]( ).
ليكون من رحمة الله عز وجل تفقه المسلمين في الدين وحرصهم على الإبتعاد عن القعود وعن محاكاة المنافقين في خصالهم المذمومة ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا]( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت آية البحث بالاسم الموصول[الَّذِينَ ] وقد يكون هذا اللفظ معطوفاً على سابق له ، أو غير معطوف ، والأول هو الغالب , ويدل نظم الآيات على إرادة المعنى الأول منه وإرادة الذين نافقوا .
لقد ذكرت آية البحث قولاً للذين نافقوا ، مع الجهة التي توجه إليها هذا القول وهم إخوانهم بقوله تعالى [إِخْوَانِهِمْ].
ومن إعجاز الآية التعدد في أطراف القول :
الطرف الأول : الذين نافقوا ومجئ الآية بصيغة الجمع .
الطرف الثاني : لفظ الإخوان .
الطرف الثالث : الذين قتلوا في معركة أحد من الأنصار , وحتى من المهاجرين أيضاً لإرادة المعنى الأعم للفظ(إخوانهم) في آية البحث ليشمل إخوة الذين نافقوا للذين كفروا من قبائل المهاجرين أو عموم الذين كفروا.
وأختلف في عدد الشهداء يوم أحد على أقوال :
الأولى : مجموع عدد القتلى، وفيه وجوه:
الأول : سبعون شهيداً , قاله ابن هشام.
الثاني : خمسة وستون.
الثالث : تسعة وأربعون , قاله موسى بن عقبة( ).
الرابع : أربعة وأربعون شهيداً، عن عروة.
الخامس : سبعة وأربعون شهيداً، عن عروة أيضاً .
الثانية : عدد القتلى من المهاجرين، والمشهور أنهم أربعة وهم حمزة بن عبد المطلب، وعبد الله بن جحش، ومصعب بن عمير , وشماس بن عثمان.
الثالثة : عدد القتلى من الأنصار , والمشهور أنهم أربعة وستون شهيداً.
كما أختلف في عدد قتلى المشركين يوم معركة أحد على وجوه:
الأول : قتلى المشركين إثنان وعشرون، قاله ابن إسحاق.
الثاني : قتل منهم يومئذ تسعة عشر رجلاً، قاله عروة.
الثالث : قتل منهم يومئذ ستة عشر رجلاً , قاله موسى بن عقبة، وقال الربيع عن الشافعي : ولم يؤسر من المشركين سوى أبى عزة الجمحى، وقد كان في الأسارى يوم بدر، فمنّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا فدية واشترط عليه الا يقاتله، فلما أسر يوم أحد قال: يا محمد امنن علي لبناتي، وأعاهد ألا أقاتلك.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أدعك تمسح عارضيك بمكة وتقول: خدعت محمدا مرتين، ثم أمر به فضربت عنقه.
وذكر بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ : ” لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين)( ).
أما قول المنافقين بلحاظ آية البحث فهو متحد وهو : لو أطاعنا الشهداء وبقوا في المدينة ولم يخرجوا إلى الجهاد لما قتلوا في ميدان معركة أحد ، لبيان كثرة ترديد هذا القول ، وبلوغه لأهل المدينة رجالاً ونساءً , فنزلت آية البحث دفاعاً عن المؤمنين الأحياء منهم والأموات ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] ( ).
ومن إعجاز الآية عجز الذين نافقوا عن إنكار مضامينها خاصة وأنها أخبرت عن قولهم وصدوره في الزمن الماضي[وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ] وفيه نكتة وهي أن آية البحث سبب في إنحسار هذا القول من المنافقين، وصيرورتهم منشغلين بأنفسهم .
وأخبرت آية البحث عن قعود الذين نافقوا عن الجهاد والدفاع عن أنفسهم ، ومن الآيات إقتران القعود بالقول القبيح والأراجيف الصادرة من الذين نافقوا .
وهل يختص القول المذموم الصادر من المنافقين بخصوص ما ذكرته آية البحث، الجواب لا ، إنما ذكرت آية البحث موضوعاً خاصاً من باب المثال ، وبيان شدة الضرر القادم من الذين نافقوا، ويمكن تأليف مجلد خاص يتعلق بأقوال المنافقين من جهات :
الأولى : ما ورد في القرآن من أقوال المنافقين منها [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ) وقوله تعالى [وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ]( ).
وقد يأتي رد وبيان للناس بخصوص الذين نافقوا وخبثهم بلغة الإشارة والفعل.
كما في تولي المنافقين للذين كفروا ، قال تعالى [بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا] ( ) .
وفيه إنذار للمنافقين من إتخاذهم الكفار أخلاء ومتبوعين ، وتحذير للمسلمين من إعانة المنافقين للذين كفروا ليكون قول الذين نافقوا لاخوانهم المقرون بقعودهم (لو اطاعونا ما قتلوا) من توليهم للكافرين , فتكون آية البحث من مصاديق قوله تعالى [وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً]( ).
ومن الأفعال التي تدل على النفاق التكاسل عن أداء الفرائض العبادية، قال تعالى[وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى] ( ).
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لَيْسَ صَلاَةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ الْمُؤَذِّنَ فَيُقِيمَ ، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً يَؤُمُّ النَّاسَ ، ثُمَّ آخُذَ شُعَلاً مِنْ نَارٍ فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لاَ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ بَعْدُ) ( ).
لقد ابتدأت آية البحث بذكر خصال للمنافقين وهي:
الأولى : تأكيد وصف المنافقين بأنهم يبطنون الكفر مع تظاهرهم بالإيمان.
الثانية : القول الذي يدل على الزيغ والخبث لما ورد في أول الآية [َقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ].
الثالثة : بيان آية البحث لمتعلق قول الذين نافقوا ومضامينه إذ يخص الشهداء في معركة أحد .
الرابعة : قعود الذين نافقوا عن الجهاد وعن الدفاع .
الخامسة : توثيق آية البحث لقول الذين نافقوا بقوله تعالى [لَوْ أَطَاعُونَا] وهل يشمل لوم الذين نافقوا الجرحى من المؤمنين ، الجواب نعم ، وقد جرح عبد الله بن عبد الله بن أبي بن أبي رأس النفاق .
لقد تضمنت آية البحث ذم الذين نافقوا وبيان بطلان قولهم , ومن المجاز قول أربد لعامر: هل لك أن تتغدّى به قبل أن يتعشّى بنا؟: يريد أن نهلكه قبل أن يهلكنا)( ).
ولم تكتف آية البحث بذكر قول وقعود الذين نافقوا وان كان كل واحد منهما حجة عليهم ، إنما جاءت بالأمر من عند الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليحتج به، ويذكّرهم بقانون تخلف الإنسان مطلقاً عن دفع الموت .
ومن إعجاز آية البحث أن القول الذي أمر الله عز وجل به النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يأتي على كل من قول وفعل الذين نافقوا ، فقد قالوا [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا].
وتبين آية البحث أن الذين نافقوا لا يقدرون على دفع الموت عن أنفسهم في ذات وقت وزمان معركة أحد .
ويتغشى الإحتجاج خاتمة آية البحث ومضامينها , وتقديره على وجوه :
الأول : إن كنتم صادقين فيما تقولون ) إذ يلازم الكذب النفاق لحاجة المنافق إلى ستر وإخفاء ما يبطن من الكفر ، وهذا الكذب أعم من أن ينحصر باللسان فقد يأتي بالفعل والإشارة والتعريض .
الثاني : إن كنتم صادقين في إخوتكم , لقوله تعالى في آية البحث [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ..] فمن معاني الأخوة الحرص على الأخ، وإرادة الخير والفلاح له ، وليس في القعود إلا الأذى والشر .
الثالث : ان كنتم صادقين باعلانكم الإيمان واقراركم بالشهادتين ، فقد يكون دعاء المؤمن وعمله الصالحات سبباً لإرجاء الأجل وأوان الموت ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
الرابع : إن كنتم صادقين بأن قعودكم يدفع عنكم القتل أو الموت ، وبما أن المنافقين لا يستطيعون رد الموت عن أنفسهم فأنهم ليسوا صادقين بدعواهم .
الخامس : إن كنتم صادقين بالقول [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]لبيان أن القتل يأتي للشهداء حتى وإن قعدوا ، لصيرورة الناس في غفلة، فيدخل الذين كفروا المدينة ، فيقتل الذين كتب الله لهم الشهادة وغيرهم من المؤمنين من المهاجرين والأنصار ، وقد لا يكون فيه أجر وثواب عظيم بينما ذهب الشهداء إلى معركة أحد لتكون نوع طريق إلى النعيم الدائم والحياة الأبدية عند الله عز وجل .
و(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء ، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا) ( ).
السادس : لما كنتم تعجزون عن درء الموت عن أنفسكم فكونوا صادقين مع الله ورسوله .
السابع : ان كنتم صادقين بظنكم بخسارة المسلمين أو تحقيق الذين كفروا الغلبة لكثرة عددهم وأسلحتهم ورواحلهم ، فان الموت قادم إليكم لتحاسبوا على النفاق وتعاهد الكفر في قلوبكم .
الثامن : ان كنتم صادقين في إيمانكم فتمنوا الموت لأنه نوع طريق إلى عالم الآخرة ، وما أعدّ الله فيه من الكرامة لأهل الإيمان والتقوى ، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
أسباب النزول
نزلت آية البحث في واقعة أحد ، عندما إنخزل ثلث جيش المسلمين في الطريق إلى معركة الدفاع بايماء وتحريض من عبد الله بن أبي بن أبي سلول رأس النفاق .
(وأخرج ابن جرير عن جابر بن عبد الله في قوله { الذين قالوا لإخوانهم } قال : هو عبد الله بن أبي)( ) ولو دار الأمر في جهة صدور القول في(قالوا لإخوانهم) بين:
الأول : إرادة الشخص الواحد.
الثاني : المتعدد والجماعة.
الثالث : صدور القول من شخص واحد ثم صدوره من جماعة، وترديده من جماعة، فالصحيح هو الثاني والثالث أعلاه.
لإرادة بيان أثر وضرر الشخص المنافق إذا كان رأساً في المجتمع والقبيلة، ومع هذا لم ينتقم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن أبي بن سلول , ومن عادة الرؤساء والملوك إيقاع اللوم في الهزيمة على بعض القواد ونحوهم ومعاقبتهم عقوبة شديدة.
ومن القادة ورؤساء الجيوش من يختر القتل في المعركة على الهزيمة وتحمل تبعاتها ومحاسبته عليها مع أنه لم يقصر في الخطط والعمل , ولكن كفة العدد هي الراجحة، ومن قادة الميدان من يقتل نفسه عند الهزيمة والإنسحاب .
بينما لم يؤاخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً ممن قعد أو إنسحب وسط الطريق أو انهزم من ميدان المعركة أو خصوص الرماة الذين تركوا مواضعهم وصاروا سبباً لمجئ خيل الذين كفروا للمسلمين من خلفهم ، وهو من شواهد النبوة ، والدلائل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يفعل أمراً إلا بالوحي الذي يتصف بالرحمة والرأفة بالذين نطقوا بالشهادتين .
ولم يطلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أو بعد أي معركة إحصاء أسماء الذين قعدوا وتخلفوا عن المعركة مع مجئ آية البحث بالنص والقطع عن قعود الذين نافقوا ، مما يدل على أن آية البحث ليس تحريضاً من الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين على المنافقين إنما جاءت لأمور :
الأول : البيان والتوثيق السماوي .
الثاني : ذكر الأذى الشديد الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الذين كفروا ومن المنافقين .
الثالث : دعوة الناس إلى التوبة والإنابة .
الرابع : بيان قانون من الإرادة التكوينية وهو أن الله عز وجل أراد بزوغ شمس الإسلام , والهداية للناس , وإقامة الفرائض العبادية , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).

من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : إبتدأت آية البحث بالاسم الموصول [الَّذِينَ] للدلالة على إرادة طائفة وجماعة قد ورد ذكرهم في الآية السابقة وهم الذين نافقوا ، وفي تكرار الاسم الموصول بيان لأمور:
الأول : عدد المنافقين ليس قليلاً .
الثاني : وجوب إتخاذ المسلمين الحيطة والحذر من أهل النفاق .
الثالث : بيان الحاجة إلى آية البحث .
الرابع : ذكر الخصال المذمومة للذين نافقوا .
فبعد أن إبتدأت الآية السابقة بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] ( ) جاء ذكر صفاتهم بحرف العطف الواو [وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا] ( ) أي سواء إمتنعوا عن القتال وقعدوا وأظهروا الشماتة بالشهداء أو سكتوا فان الله عز وجل يعلمهم وهو إنذار لهم وزاجر للناس عن النفاق ، ومن مفاهيم الآية أنها كشفت معركة أحد الذين نافقوا.
وجاءت الآية بصيغة الفعل الماضي , ويحتمل وجوهاً :
الأول : إنحسار النفاق .
الثاني : نزول الخزي بالمنافقين .
الثالث : إذا وجد منافقون جدد فان الله يعلمهم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه، ومن غايات آية البحث والآية السابقة منع صيرورة فئة وطائفة أخرى من الناس منافقين ، ليكون من فيوضات معركة أحد والشواهد على عدم هزيمة المسلمين أو نصر المشركين فيها نزول الآيات التي تخص هذه المعركة ، ومنع تلبس طائفة جديدة من الناس بالنفاق والرياء وإخفاء الكفر في ذات الوقت الذي يظهرون فيه الإيمان .
لقد حصرت هذه الآيات الذين نافقوا بصفاتهم وخبثهم وجعلت المسلمين رجالاً ونساء يعرفونهم بأقوالهم وأفعالهم ، مع عدم ترتب الأثر عليها .
ومن منافع معركة أحد وجوه :
الأول : المنع من تمدد النفاق .
الثاني : كبح أصوات الذين نافقوا .
الثالث : إزاحة الذين نافقوا عن منازل الرئاسة القبلية والإجتماعية ، إذ صار الخزرج مثلاً لا يصغون إلى أقوال عبد الله بن أبي بن أبي سلول بعد أن كانوا والأوس يعدون العدة لتتويجه ملكاً عليهم.
وحينما قال عبد الله بن أبي بن أبي سلول في غزوة بني المصطلق وقيل في غزوة تبوك كما ورد في التنزيل [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] ( ) ( أتى عَبْدَ اللّهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ بَلَغَنِي أَنّك تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُبَيّ فِيمَا بَلَغَك عَنْهُ فَإِنْ كُنْت لَا بُدّ فَاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ فَأَنَا أَحْمِلُ إلَيْك رَأْسَهُ فَوَاَللّهِ لَقَدْ عَلِمَتْ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ لَهَا مِنْ رَجُلٍ أَبَرّ بِوَالِدِهِ مِنّي ، وَإِنّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلُهُ فَلَا تَدْعُنِي نَفْسِي أَنْظُرُ إلَى قَاتِلِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ يَمْشِي فِي النّاسِ فَأَقْتُلُهُ فَأَقْتُلُ ( رَجُلًا ) مُؤْمِنًا بِكَافِرِ فَأَدْخُلُ النّارَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ : بَلْ نَتَرَفّقُ بِهِ وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا .
لبيان الحلم والحكمة في السنة النبوية , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
وَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَحْدَثَ الْحَدَثَ كَانَ قَوْمُهُ هُمْ الّذِينَ يُعَاتِبُونَهُ وَيَأْخُذُونَهُ وَيُعَنّفُونَهُ)( )، ويحسن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون صحبته لأن آية البحث تنبيه وتوبيخ يومي له , وواقية من شره .
ويمكن إنشاء قانون وهو :
موضوعية وأثر الآية القرآنية في ماهية السنة النبوية .
لقد بدأ الأنصار بالإعراض عن الذين نافقوا ورؤسهم من حين معركة أحد وهو من بركات آية البحث .
و(عن الزهري قال : كان لعبد الله بن أبيّ مقام يقومه كل جمعة لا يتركه شرفاً له في نفسه وفي قومه ، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة يخطب قام فقال : أيها الناس هذا رسو ل الله بين أظهركم أكرمكم الله به ، وأعزكم به فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس.
فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أحد وصنع المنافق ما صنع في أحد ، فقام يفعل كما كان يفعل ، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا : اجلس يا عدو الله ، لست لهذا المقام بأهل . قد صنعت ما صنعت. فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول : والله لكأني قلت هجراً أن قمت أسدد أمره
فقال له رجل : ويحك ارجع يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال المنافق : والله لا أبغي أن يستغفر لي .) ( ).
الثانية : من غايات آية البحث توثيق قول الذين نافقوا بخصوص أمور :
الأول : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار إلى معركة أحد وماهيته ، لأن الذين نافقوا يدّعون ليس من قتال ينتظرهم .
الثاني : مبادرة الأوس والخزرج إلى الخروج تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : رجوع الذين نافقوا من وسط الطريق إلى معركة أحد ، فصحيح أن آية البحث ذكرت قول الذين نافقوا إلا أنها أخبرت عن قعود المنافقين .
وبين هذا القعود ورجوعهم من وسط الطريق إلى المعركة عموم وخصوص مطلق فهذا الرجوع جزء من القعود ومقدمة له بالإضافة إلى أن الذين نافقوا يومئذ على أقسام :
الأول : الذين خرجوا إلى معركة أحد وبقوا في ميدان المعركة حتى إذا ما بدأ القتال إجتنبوا لقاء العدو ، وكانوا من أوائل الذين فروا من ميدان المعركة .
الثاني : الذين تخلفوا عن الخروج إلى معركة بدر وأحد ، وجاهروا بالقعود والتخلف عن الخروج للدفاع .
الثالث : الذين قعدوا وقاموا بالتحريض على القعود .
الرابع : الذين امتنعوا عن الخروج للجهاد ، وقاموا بتوجيه اللوم إلى الشهداء فجاءت آية البحث لذمهم وتقبيح فعلهم .
ومن غايات آية البحث تذكير المنافقين خاصة والناس عامة بالموت وحلول الأجل ، وحاجة الإنسان إلى الصدق ، حال مغادرته الدنيا ، والذي يرى الشواهد بأن الموت يأتي لغيره بالقتل أو بدونه , يدرك أنه لا يدفع الموت عن نفسه ، ولما كان الذين نافقوا عاجزين عن دفع الموت عن أنفسهم فلابد أنه يأتي لغيرهم من الناس .
وتتضمن الآية بيان العناء والمشاق التي لاقاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته الناس لعبادة الله عز وجل ونبذ الشرك وترك عبادة الأصنام والنهب العام والقتل العشوائي ثأراً والكف عن العادات المذمومة كالوأد وفعل الفواحش وما لاقاه المهاجرون والأنصار في إقامتهم الشعائر وأدائهم الفرائض العبادية، هذا وهم محرومون من أداء فريضة الحج بسبب إستيلاء الذين كفروا على مكة وإشاعة التزلف إلى الأوثان فيها .
لقد أبى الذين كفروا إلا الرضا بالبقاء على حالهم في مكة ، وأدركوا أن الإسلام يزيحهم عن منازل الرياسة والسلطنة , وأن الشباب المسلم في المدينة يتوثب للإنقضاض عليهم ، ومن المسلمين في مكة المستضعفون والعبيد والإماء ، الذين صاروا يلوحون بالخروج على طاعة الذين كفروا ، وأظهروا صدق الإيمان بالصبر على التعذيب الوحشي الذي عرضهم له رؤساء الكفر من قريش الذين أرادوا المبادرة إلى الهجوم على المدينة لأن قوى الإسلام في تزايد مطرد وسريع , وهو من عمومات قوله تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
وقد تحدى القرآن المنافقين بالخطاب العام الموجه للمسلمين [قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ] ( ) فتلقاه المؤمنون والمؤمنات بالرضا والقبول وإتخذوا منه واقية من شكوك وأراجيف الذين نافقوا .

التفسير
قوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا]
لابد من إنشاء علم مستقل خاص بالأوامر الإلهية الخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وألفاظها ومضامينها ، ومنها (قل) الذي ورد في القرآن ثلاثمائة واثنتين وثلاثين مرة وفيه بيان لجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبذله الوسع في التبليغ والبشارة والإنذار .
ليتلقى المسلمون الأوامر من جهات :
الأولى : أمر الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) .
الثانية : توجه الأمر من الله إلى المسلمين , كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا]( ).
الثالثة : الأمر من الله سبحانه إلى المسلمين بواسطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى[وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
الرابعة : أمر الله عز وجل إلى المسلمين بالإلحاق , وتقدير آية البحث على وجوه :
أولاً : قل يا محمد للذين نافقوا فادرءوا عن أنفسكم الموت , وفي خطاب وأمر إلى النبي محمد بخصوص المنافقين قال تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا]( ).
ثانياً : أيها المسلم قل فادرءوا……
ثالثاً : أيتها المسلمة قولي فادرءوا…..
رابعاً : أيها المسلمون قولوا فادرءوا…
خامساً : يا ايتها المسلمات قلن فادرءوا.. .
سادساً : يا أيها الذين آمنوا قولوا للذين نافقوا فأدروا عن أنفسكم الموت .
سابعاً : يا أيها الناس قولوا للذين نافقوا فأدرءوا عن أنفسكم الموت ، بلحاظ أن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم موجهة إلى الناس جميعاً ذكوراً وأناثاً.
ثامناً : يا أيها المنافقون قولوا لأنفسكم فأدرءوا عن أنفسكم الموت .
تاسعاً : يا أيها المنافق قل للذين نافقوا فادرءوا عن أنفسكم الموت .
عاشراً : يا أيها الذين نافقوا قولوا للمنافق فأدرء عن نفسك الموت .
الحادي عشر : يا أيها الذين كفروا قولوا للمنافقين فأدرءوا عن أنفسكم الموت .
الثاني عشر : يا أيها الذين آمنوا أمروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر بالقول للذين نافقوا فأدرءوا عن أنفسكم الموت .
وتتعدد هذه الوجوه مرة أخرى بتوجه الخطابات أعلاه نحو المنفرد من المنافقين والمنافقات ، فيكون الخطاب في أولاً أعلاه على جهات :
الأولى : قل يا محمد للذي نافق أدرء عن نفسك الموت .
الثانية : قل يا محمد للتي نافقت فادرئي عن نفسك الموت .
الثالثة : قل يا محمد للائي نافقن فأدرءن عن أنفسكن الموت إن كنتن صادقات .
وهكذا تتضاعف وتنشطر الخطابات المستقرأة من لفظ (قل) في القرآن وهو من أسرار بقاء الآية القرآنية غضة طرية إلى يوم القيامة ، وحاجة الناس إليها في كل زمان ، فتفضل الله عز وجل وجعل قراءتها واجبة على كل مسلم ومسلمة عدة مرات في الصلاة اليومية ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).
وهل في آية البحث وعيد للمنافقين ، الجواب نعم , من جهات :
الأولى : قرب آجال المنافقين ومغادرتهم الدنيا ، قال تعالى[إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( ).
الثانية : الوعيد بالعقاب العاجل على المنافقين في الدنيا .
الثالثة : لقد التقى الجمعان في الميدان يوم معركة أحد في الدنيا ، وسيلتقي الناس عامة يوم الحشر ، ويقفون بين يدي الله عز وجل للحساب.
ومن معاني القول في المقام وجوه :
الأول : قول المنافقين من الأوس لإخوانهم من الأوس .
الثاني : قول المنافقين من الخزرج لإخوانهم من الخزرج .
الثالث : قول المنافقين من الأوس لإخوانهم من الخزرج .
الرابع : قول المنافقين من الخزرج لإخوانهم من الأوس .
الخامس : قول المنافقين لإخوانهم من المهاجرين.
السادس : قوله المنافقات من الأوس لإخوانهن من ذات القبيلة.
السابع : قول المنافقات من الخزرج لإخوانهن من ذات القبيلة.
الثامن : قول المنافقات لإخوانهن الصلبيين.
التاسع : قول المنافقات لأزواجهن بأن الشهداء لم يطيعونا إذ طلبنا منهم القعود والإمتناع عن الخروج إلى معركة أحد و[لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا].
العاشر : قول المنافقين لإخوانهم من الذين كفروا .
لبيان الإعجاز في التعدد والتباين في سنخية المصداق للفظ القرآني وكأنه من المشترك المعنوي .
وقد ورد قوله تعالى [أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ] ( ) .
الحادي عشر : أقوال وأقاويل المنافقين بعضهم لبعض في مناجاتهم بينهم بالباطل والإثم .
و(عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية وأغزاها التقى المنافقون فانغضوا رؤوسهم إلى المسلمين ، ويقولون : قتل القوم ، وإذا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تناجوا وأظهروا الحزن فبلغ ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ومن المسلمين ، فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإِثم والعدوان}( ) الآية .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال : كان المنافقون يتناجون بينهم ، فكان ذلك يغيظ المؤمنين ويكبر عليهم ، فأنزل الله في ذلك { إنما النجوى من الشيطان })( ).
وبين الحديث الثاني والحديث الأول أعلاه عموم وخصوص مطلق، إذ يتضمن الثاني ذكر مناجاة المنافقين في حال الحرب والسلم فجاءت الآية أعلاه تأديباً وتعليماً للمسلمين والمسلمات , وزاجراً للمنافقين، ودعوة لهم للصلاح.
الثاني عشر : الذين قالوا لإخوانهم الذين لاموهم على القعود .
الثالث عشر : الذين قالوا لعوائلهم التي لم ترض على قعودهم ، وترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يلاقون جيش الذين كفروا في ميدان الوغى .
وفي غزوة الحديبية حيث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه متوجهين إلى مكة لأداء مناسك العمرة ، وقد استنفر الأعراب من حول المدينة فامتنع أكثرهم عن الخروج معه ، وكان خروجه في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة لأنه شهر حرام .
لقد مرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على(مزينة وجهينة وبني بكر، واستنفرهم إلى الحديبية فاعتلوا وتشاغلوا بأهليهم وأموالهم: يقول: عليهم ما تمنوا وظنوا، وذلك أنهم قالوا: إنما خرج محمدٌ في أكلة رأس ، يقدم على قومٍ موتورين، فأبوا أن ينفروا معه)( )،
ولم تمض على غزوة بني المصطلق إلا ثلاثة أشهر إذ بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم يعدون العدة لغزو المدينة فسار لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وغنموا غنائم كثيرة وسبوا نساءهم ، فتزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم جويرية بنت الحارث بن ضرار وهو رئيسهم إذ أسلمت وأولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتابها إلى ثابت بن قيس الذي قام بأسرها .
وعن ثوبان عن عائشة قالت(كانت جويرية جاريةً حلوة، لا يكاد يراها أحدٌ إلا ذهبت بنفسه، فبينا النبي صلى الله عليه وسلّم عندي ونحن على الماء إذ دخلت عليه جويرية تسأله في كتابتها. قالت عائشة: فوالله ما هو إلا أن رأيتها فكرهت دخولها على النبي صلى الله عليه وسلّم، وعرفت أنه سيري منها مثل الذي رأيت، فقالت: يا رسول الله، إني امرأة مسلمةٌ أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأنا جويرية بنت الحارث بن ضرار , أبي سيد قومه، أصابنا من الأمر ما قد علمت، ووقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس وابن عم له، فتخَلَصني من ابن عمه بنخلات له بالمدينة، فكاتبني ثابت على مالا طاقة لي به ولا يدان، وما أكرهني على ذلك إلا أني رجوتك صلى الله عليك فأعنى في مكاتبتي! .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أو خيرٌ من ذلك؟ .
فقالت: ما هو يا رسول الله؟ قال: أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك. قالت: نعم يا رسول الله، قد فعلت! فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى ثابت فطلبها منه، فقال ثابت: هي لك يا رسول اله بأبي وأمي. فأدى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما كان عليها من كتابتها، وأعتقها وتزوجها. وخرج الخبر إلى الناس)( ).
ولما صار بنو المصطلق أصهار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الزواج بادر الصحابة الذين معه يومئذ إلى عتق سباياهم من مائة بيت منهم ، وفيه شاهد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان يريد من زواجه المتعدد أموراً:
الأول : الألفة مع القبائل .
الثاني : دعوتهم للإسلام .
الثالث : منع العصبية وسفك الدماء .
الرابع : إزالة النفرة في نفوسهم .
الخامس : منع الأحقاد التي تترتب على القتال والقتل .
وكان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى العمرة في الحر ، وكان في الموضع بئر واحدة وسبق المشركون إلى المكان , وكانت معهم الأسلحة والرواحل , ومن عادة المشركين عندما يستولون على الماء لا يسقون المسلمين منه.
أما المسلمون فأنهم إذا سبقوا إلى الماء يقومون بالسقاية وجاء المسلمون وشكوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قلة الماء فأخرج سهماً من كنانته ودعا بدلو من ماء البئر ، فتوضأ ومضمض فاه ثم مج في الدلو ففارت البئر كما يفور القدر ، وأخذ المسلمون يغترفون من جانبها .
(وأخرج أبو نعيم عن الواقدي قال كان ناجية بن جندب يقول دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين شكي إليه قلة الماء فأخرج سهما من كنانته فدفعه إلي ودعا بدلو من ماء البئر فتوضأ ثم مضمض فاه ثم مج في الدلو ثم قال انزل بالدلو فصبها في البئر وانزح ماءها بالسهم ففعلت فوالذي بعثه بالحق ما كدت أخرج حتى يغمرني ففارت كما يفور القدر حتى طمت واستوى بشفيرها يغترفون من جانبيها حتى نهلوا من آخرهم وعلى الماء يومئذ نفر من المنافقين ينظرون إلى الماء والذي يجيش بالرواء .
فقال أوس بن خولي لعبد الله بن أبي ويحك يا ابا الحباب أما آن لك ان تبصر ما انت عليه ابعد هذا شيء وردنا بئرا نتبرض ماءها تبرضا لم يخرج في القعب جرعة ماء فتوضأ( ) في الدلو ومضمض فيه ثم أفرغه فيها فحثحثها وجاشت بالرواء.
فقال ابن أبي قد رأينا مثل هذا( ) فقال أوس قبحك الله وقبح رأيك.
وأقبل ابن أبي يريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أين ما رأيت اليوم( ).
قال ما رأيت مثله قط قال فلم قلت ما قلت استغفر الله فقال ابنه يا رسول الله استغفر له فاستغفر له)( ).
وحينما دعوا أن عبد الله بن أبي قال وللتوبة والإيمان بعد معجزة فوران الماء من البئر(قد راينا مثل هذا ) أي أنها ليست معجزة ، وقد رأينا مثلها سابقاً من غير صدرت من غير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندها إحتج عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : أين ما رأيت اليوم) خاصة وأن عبد الله بن أبي ذكر رؤيته لفوران الماء من البئر بصيغة الجمع (رأينا) بينما سأله النبي عن رؤيته هو أين ما رأيت اليوم).
ليزجره عن الكلام باسم الخزرج والأوس والكذب عليهم والإفتراء على النبوة فحتى لو خرج المنافقون مع جيش المسلمين فأنهم لا يمتنعون عن الشك والريب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ] ( ).
وتتعلق مضامين آية البحث بوقائع معركة أحد التي جرت في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، وصدر الكلام أعلاه من رأس النفاق في خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للهجرة في السنة السادسة مما يدل على حاجة الإسلام لآية البحث لمنع تمادي المنافقين في بث الأراجيف وتحريض الناس على الإمتناع عن نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولزجرهم عن التجاهر بالقعود والدعوة إليه إذ يدل أول آية البحث [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ …] أنهم كانوا يدعون أقاربهم وجيرانهم وأبناء قبيلتهم إلى الإمتناع عن الخروج للدفاع .
وهل في الآية تقديم وتأخير ، ويكون تقدير الآية الذي قعدوا وقالوا لاخوانهم ) الجواب نعم ، ولكنه لا يتعارض مع الأصل وهو عدم التقديم والتأخير ، أي تفسر الآية أولاً على الأصل والظاهر ثم بلحاظ التقديم والتأخير ، وفيه نكتة وهي تجدد كل من :
الأول : قول المنافقين بخصوص الشهداء لو أطاعونا ما قتلوا ).
الثاني : قعود المنافقين عن القتال ، ومن أسرار تأخر القعود على القول في آية البحث أن المنافقين قعدوا عن معركة بدر وأحد ، وسيقعدون عن غيرها أيضاً .
الثالث : تجدد حث المنافقين عامة المسلمين على القعود عن القتال .
الرابع : إشتراك المنافقات من النساء في الحث على القعود عن القتال .
لقد ذكرت الآية الإخوان في الجهة التي يتوجه لها نهي المنافقين عن الخروج للقتال .
ويحتمل أمرين :
الأول : إرادة الحصر بالأخوة القبلية .
الثاني : المقصود المعنى الأعم من الأخوة .
والمختار هو الثاني ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : الذين قالوا لإخوانهم في النسب .
الثاني : الذين قالوا لإخوانهم في الإنتماء القبلي .
الثالث : الذين قالوا لجيرانهم .
الرابع : الذين قالوا لأبنائهم .
الخامس : اللائي قلن لأزواجهن .
السادس : اللائي قلن لإخوانهن في النسب .
السابع : اللائي قلن لإخوانهن في الإنتماء القبلي : لو أطاعونا ما قتلوا
الثامن : اللائي قلن لأبنائهن ..
التاسع : الذين قالوا لأهل المدينة لو أطاعونا ما قتلوا ، أي لو أطاعنا الشهداء وقعدوا وامتنعوا عن الخروج للقتال تحت لواء النبوة ما قتلوا في معركة أحد .
العاشرة : تقدير الآية: الذين نافقوا قالوا لإخوانهم المنافقين، قال تعالى[وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ]( )، بلحاظ تعدد الجهات في القول من وجوه:
الأول : جهة صدور القول.
الثاني : الذين يتوجه إليهم القول وذكرتهم الآية بلفظ(لإخوانهم).
الثالث : المراد الشهداء، وهو الفرد الغائب من هذه المحاورة فأكرمهم الله، إذ نزلت الآية التالية بالإخبار عن حياتهم عند الله بقوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ), ليكون من معاني تقدير الآية أعلاه وجوه:
الأول : لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله لا يعلمون ما يقع لكم.
الثاني : لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله لا يعلمون بما يقوله الذين نافقوا.
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لا تحسبوا أن الذين قتلوا لا يعلمون بأراجيف وأقاويل الذين نافقوا، وهذا العلم من مصاديق ما ورد في الآية بعد التالية[فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ]( ) .
فمن فضل الله عز وجل علمهم بما يقول المنافقون عنهم، وصدود وإعراض المؤمنين عن هذا القول.
الرابع : يا أيها الذين نافقوا لا تحسبوا أن الذين قتلوا أمواتاً بل أحياء يعلمون ما تقولون، وجاءت الآية التي بعدها بالإخبار عن إستبشارهم بالمؤمنين من بعدهم بقوله تعالى[وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ]( ).
وهل يمكن حمل الكلام على معنى آخر بخصوص الإخوان ، وإرادة الكفار ، ليكون تقدير الآية : الذين قالوا لإخوانهم الذين كفروا لو أطاعنا المؤمنون بالقعود ما قتلوا .
الجواب نعم بدليل قوله تعالى [أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا] ( ) .
ليكون من معاني الأخوة في القرآن وجوه :
الأول : الأخوة النسبية بين الأبناء من صلب أب واحد كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا]( ).
الثاني : الأخوة القبلية بلحاظ الإنتماء إلى قبيلة واحدة .
الثالث : الأخوة الإيمانية وهو الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيت دعائم الإسلام ، وتنمية ملكة التقوى في النفوس ، وبعث المسلمين على التعاون والتآزر بينهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهذه الأخوة نوع طريق لوجوه :
الأول : الأمر بالمعروف .
الثاني : مقدمات الأمر بالمعروف .
الثالث : قبول الأمر بالمعروف .
الرابع : النهي عن المنكر بين المسلمين .
الخامس : الإستجابة والإمتثال للأمر والنهي في مرضاة الله قربة إليه تعالى ، قال سبحانه [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
وهل تدل الأخوة الإيمانية التي أمر الله عز وجل بها النبي محمداً صلى الله عليه وآله وصلم والمؤمنين بقوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، وبقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بين الصحابة، وتأكيد مصاديق الأخوة العام بينهم في حال الحرب والسلم على تفضيله على الأنبياء السابقين لأن أخوة موسى جاءت بأخيه هارون، وأخوة المسلمين عامة الجواب نعم، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وهل الأخوة الإيمانية ناسخة للأخوة القبلية ، الجواب لا ، إنما هي في طولها وتكون تثبيتاً لها وتقييداً وفق قواعد الكتاب والسنة ، كما ورد عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (انصر اخاك ظالما أو مظلوما فقال يارسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما قال تأخذ فوق يديه)( ).
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ] ( ).
وصحيح أن آية البحث إبتدأت بصيغة الماضي إلا أنه يفيد الإستمرار والإستدامة، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : الذين قالوا لأخوانهم وقعدوا ، وهو ذات النص الذي وردت به الآية وهو الأصل والمرسوم في المصاحف، وغيره من الوجوه نذكره على نحو التقدير , وإرادة المفهوم وعموم المعنى .
الثاني : الذين قعدوا ويقولون لأخوانهم ، وفيه تقديم وتأخير بذات الفعل المركب والمتعدد من القول والقعود .
الثالث : الذين يقولون لأخوانهم ويقعدون .
الرابع : الذين قالوا لأخوانهم ويقعدون .
ولا تعارض بين هذه الوجوه لتعدد المعارك والسرايا والغزوات فان قلت من المنافقين من يخرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى القتال ولم يقعد .
والجواب جاءت آية البحث بخصوص معركة أحد والمعنى أعم , وقد يخرج المنافق إلى المعركة وهو ينوي عدم القتال , ويسعى في التحريض على الإمتناع عن القتال , فيصدق عليه أنه من القاعدين أيضاً .
وقد أشار القرآن إلى هذه المسألة وبين حقيقة وهي أن خروج المنافقين مع المؤمنين إلى ميدان المعركة ليس فيه نفع ، قال تعالى [لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ] ( ).
ترى ماذا لو أطاع المؤمنون المنافقين وقعدوا ، الجواب لدخل المشركون إلى المدينة وقتلوا المؤمنين والمنافقين ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ]( ).
لبيان قانون وهو أن خروج المهاجرين والأنصار إلى معركة أحد دفع للموت عن المنافقين أنفسهم .
لقد ذكرت آية البحث خصلتين للذين نافقوا في خصوص معركة أحد وهما :
الأول : قول الذين نافقوا بأن الشهداء لو سمعوا كلامنا بعدم الخروج إلى معركة أحد لما قتلوا .
الثاني : إمتناع الذين نافقوا عن واجب الدفاع، وعن عبد الله بن عمر قال (كنا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكر الفتن و أكثر في ذكرها حتى فتنة الأحلاس , فقال قائل : و ما فتنة الأحلاس ؟ .
قال : هي فتنة هرب وحرب ثم فتنة السرى أو السراء ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع ثم فتنة الدهماء , لا تدع من هذه الأمة إلا لطمته لطمة فإذا قيل انقطعت تمادت , يصبح الرجل فيها مؤمنا و يمسي كافرا حتى يصير الناس إلى فسطاطين , فسطاط إيمان لا نفاق فيه و فسطاط نفاق لا إيمان فيه فإذا كان ذاكم فانتظروا الدجال من اليوم أو غد)( ).
وفيه حجة على الذين نافقوا بأنهم كانوا يصدون المسلمين عن الدفاع قبل معركة أحد ، وهو من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فمع صدور الدعوة للقعود من إخوان المؤمنين فأنهم بادروا إلى الخروج وجاهدوا في سبيل الله واستشهد عدد منهم فلا يتم هذا الخروج وبذل النفوس إلا لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة رضوان الله ، لتكون معركة أحد والفريقان اللذان تقابلا فيها من مصاديق قوله تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
ويحتمل المراد من [إِخْوَانِهِمْ] وجوهاً :
الأول : إرادة الشهداء من الأنصار .
الثاني : المقصود عموم الشهداء من المسلمين .
الثالث : إرادة الأحياء من الأنصار أي أنهم خاطبوا الأحياء من الأنصار , وتقدير الآية الذين قالوا لإخوانهم من الأوس والخزرج (لو أطاعنا الشهداء ما قتلوا ).
الرابع : مخاطبة المنافقين للمسلمات: وتقدير الآية الذين قالوا لأخواتهم وقعدوا معهن : لو أطاعنا الشهداء ما قتلوا .
الخامس : قيام المنافقات ببث الأراجيف، وتقدير الآية على شعب :
الأولى : اللائي نافقن وقلن لأخواتهن من الأوس والخزرج لو أطاعنا الشهداء ما قتلوا .
ولم يعلم المنافقون والمنافقات أن الشهيد يرد على الله الذي بيده مقاليد الأمور، وخزائن فضله لا تنضب , وفي التنزيل[وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ]( ).
الثانية : اللائي نافقن وقلن لأخواتهن لو أطاعنا الشهداء ما قتلوا .
الثالثة : اللائي نافقن وقلن لأخوانهن المنافقين لو أطاعنا الشهداء ما قتلوا ).
السادس : مخاطبة الذين نافقوا للشهداء أنفسهم وإن غادروا الدنيا ، وتقدير الآية : الذين قالوا لإخوانهم الشهداء وقعدوا لو أطعتمونا ما قتلتم ) وفيه مسألة وهي أن المنافقين يرددون هذا القول في حالات :
الأولى : عند المناجاة بين الذين نافقوا أنفسهم .
الثانية : إرادة جدال المنافقين مع عموم المؤمنين من الأنصار والمهاجرين.
الثالثة : قول الذين نافقوا للذين كفروا وهو من وجوه رياء وممالئة الذين نافقوا للذين كفروا .
ومن معاني الجمع بين خاتمة الآية السابقة وأول هذه الآية وهو (والله أعلم بما يكتمون الذين قالوا لأخوانهم ) تأكيد قانون من جهات :
الأولى : يفضح الله عز وجل ما يخفيه الذين نافقوا من الكفر والعناد والإستكبار .
الثانية : إبتلاء الذين نافقوا بما يجعلهم يجرون على ألسنتهم ما يدل على ما يكتمون ، فتكون الحجة عليهم في الدنيا والآخرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
الثالثة : بيان النسبة بين ما يخفيه الذين نافقوا وما يظهرونه من القول وهو العموم والخصوص المطلق ، فما يخفونه من الكفر والضغائن والغيظ أكثر وأشد مما يظهرون على ألسنتهم .
الرابعة : بيان حقيقة وهي عدم إكتفاء الذين نافقوا بكتمان وإخفاء الكفر بل صاروا يظهرون على ألسنتهم الشماتة بالمؤمنين.
الخامسة : بيان قانون وهو أن الذي يعلمه الله عز وجل عن الناس باختلاف مذاهبهم هو أعظم وأكثر مما يظهر في عالم الأقوال والأفعال، وورد حكاية عن عيسى عليه السلام في التنزيل [تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ] ( ).
بحث نحوي
تتعدد وجوه العطف في القرآن , ومنها ما يكون ظاهراً جلياً ، ومبيناً في صناعة النحو والبلاغة ، ومنها ما هو أعم ويستقرأ من نظم ودلالات الآية لتكون الآية القرآنية مدرسة في علوم اللغة ، أكبر واوسع من أن تحيط القواعد التي وضعت في المقام ، لبيان قانون وهو حاجة العلماء في كل زمان إلى القرآن ، وإمكان تأسيس وفتح أبواب جديدة من العلوم في الإختصاصات المختلفة، ومنها البيان والبديع والبلاغة والنحو والصرف ومن العطف وجوه :
الأول : العطف بين المترادفين ، وهو من اكثر أنواع العطف .
الثاني : عطف الفرع على الأصل ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً]( ).
الثالث : العطف بين أفراد الموضوع أو الحكم المتعدد( ) ، كما في قوله تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ) .
إذ تكرر حرف العطف الواو في الآية اثنتي عشرة مرة .
الرابع : عطف المسُبب على السبَب وبالعكس ، وهل منه قوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا] ( ) الجواب لا دليل عليه إذ لم يثبت بأن قعود الذين نافقوا سبب لقولهم [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]، نعم يمكن أن يكون من مصاديق الوجه الثامن أدناه.
الخامس : عطف المعلول على العلة وبالعكس .
السادس : العطف بالاسم الموصول ، كما في آية البحث .
إذ أن تقدير الذين في أول الآية هو : الذين نافقوا .
السابع : عطف البيان الذي يفيد الإيضاح ، كما في قوله تعالى [جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ]( ) .
الثامن : عطف المُسببات لسبب واحد بعضها على بعض كما في قوله تعالى[وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى]( ).
التاسع : عطف الأسباب بعضها على بعض لمُسبب واحد، والعلل المتعددة لمعلول واحد، كما في قوله تعالى[هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ]( ).
العاشر : عطف الخاص على العام بما يكون بين المعطوف عليه والمعطوف عموم وخصوص مطلق ، أي يكون المعطوف فرداً من أفراد المعطوف عليه ، كما في قوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ] ( ) .
وقوله تعالى [ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنْ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ]( ) بلحاظ إنطباق لفظ الزوج على الواحد وعلى الاثنين .
ولا يكون زوجاً إلا ومعه فرد آخر مثله في الاسم أو الجنس ، والمراد الذكر والأنثى ، وقال لبيد :
(من كل محفوف يظل عصيه … زوج عليه كلة وقرامها) ( ).
ومن عطف الخاص على العام قوله تعالى[مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ]( )، فصحيح أن الدَين مقدم على الوصية، إلا أن الآية أعلاه تفيد الترغيب بالوصية بالدين وقضائه، لبيان أن الدَين على قسمين:
الأول : ما يذكره الإنسان في وصيته , فيدخل في عمومات قوله تعالى[مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا]( ).
الثاني : ما ينساه أو لم يطرأ على ذهنه، أو لا يظنه ديناً، ولكن عند وفاته تقوم الحجة على وجود دَين عليه.
وجاء العطف في آية البحث بقوله تعالى [وَقَعَدُوا] لبيان تعدد الصفات الخبيثة للذين نافقوا، وأنهم يجمعون بين أمور :
الأول : القعود عن واجبات الدفاع .
الثاني : الدس والتدليس وتوجيه اللوم إلى الشهداء لخروجهم للقتال والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام ، ويحتمل هذا اللوم في صيغته وجوهاً :
أولاً : إرادة اللوم الظاهر .
ثانياً : اللوم المبطن وشبه الخفي .
ثالثاً : اللوم الخفي .
ولا تعارض بين هذه الوجوه لأن قولهم[لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ) من مصاديق قوله تعالى[يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ]( ).
الثالث : إخفاء المنافقين الكفر بالرسالة والجحود بالنبوة والإعراض والتجافي عن التنزيل .
الرابع : إظهار الذين نافقوا للإيمان كذباً وزوراً ليبقى المؤمنون في حيطة وحذر منهم .
الخامس : إرادة الذين نافقوا اللبس وإنكار قتل الشهداء وتوجيه اللوم إلى الشهداء أنفسهم بدلاً من توجيهه إلى الذين كفروا لظلمهم وتحديهم ومحاربتهم الإسلام .
لقد كانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بالناس جميعاً, ولكن المنافقين قابلوها بالمكر والخبث مع قربهم من معجزاتها على نحو يومي, فكانت آية البحث من مصاديق مكر وخزي وعقاب الله سبحانه لهم في قوله تعالى[وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلْ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ]( ).
قوله تعالى [وَقَعَدُوا]
من الإعجاز في آية البحث أنها طوق أمن وحرز من إتساع النفاق كماً وكيفاً ، إذ أنها تمنع من إزدياد عدد المنافقين ، وتبعث ذات المنافقين على التوبة والإنابة وتجعلهم في فزع وخوف , وتحول دون بثهم السموم ، وتخبر عن فعل للمنافقين بصيغة الماضي من جهات :
الأولى : التلبس السابق بالنفاق ، لعطف آية البحث على الآية السابقة التي تبدأ بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا…] ( ).
الثانية : إخبار آية البحث عن صدور قول المنافقين بالزمن الماضي بدليل قوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ..].
الثالثة : قعود الذين نافقوا في الزمن الماضي [وَقَعَدُوا].
لبيان حقيقة وهي أن قعود المنافقين عن الدفاع في معركة أحد وغيرها لم يضر المسلمين وهو من مصاديق قوله تعالى [اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
وهل في الآية تقديم وتأخير، الجواب نعم ، من غير أن يتعارض مع ظاهر الآية ، وهو من إعجاز القرآن بأن تفسير الآية مرة على ظاهرها وأخرى على نحو التقديم والتأخير في الآية , ومن ذخائره إستقراء المسائل من جهات :
الأولى : موضوعية نص ومنطوق الآية الكريمة .
الثانية : لحاظ التقديم والتأخير في الآية الكريمة .
الثالثة : الجامع المشترك بين الوجهين أعلاه وإرادة المنافقين أموراً :
الأول : الشماتة بالشهداء .
الثاني : التشكيك بالنفع العام من الدفاع مع أنه حاجة وبلغة لإقامة سنن التوحيد ، قال تعالى [وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ]( ).
الثالث : تثبيط عزائم المؤمنين .
ومن وجوه تقدير الآية , والتقديم والتأخير فيها :
الأول : الذين قالوا لإخوانهم لو أطاعونا ما قتلوا وقعدوا ، أي أن قولهم بخصوص الشهداء سابق لقعودهم , وتكون الواو بمعنى الفاء وتقديره : فقعدوا لبيان حقيقة وهي أن المنافقين يخادعون أنفسهم بإيجاد عذر واحد لقعودهم وهو من مصاديق قوله تعالى [يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ] ( ) .
وهل آية البحث من مصاديق الآية أعلاه الجواب نعم من جهات :
الأولى : مخادعة المنافقين لله ورسوله بقعودهم .
الثانية : مكر ودهاء وخبث المنافقين وبثهم الأراجيف في المدينة لمخادعة المؤمنين والمؤمنات ، لذا ذكرت آيات القرآن المنافقات بعرض واحد مع المنافقين للسموم التي يبثونها داخل الأسر والعوائل ومجتمعات المؤمنين ، قال تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ] ( ).
الثالثة : مخادعة المنافقين لأنفسهم وإختيارهم القعود عند الدفاع، وما فيه من الخزي في الدنيا والآخرة .
الرابعة : جاءت آية البحث رحمة بالمؤمنين والناس جميعاً وفيها دعوة للمنافقين لإدراك حقيقة وقبح مخادعتهم .
الثاني : الذين قعدوا وقالوا لإخوانهم لو أطاعونا ما قتلوا .
الثالث : الذين قالوا وهم قاعدون لاخوانهم لو أطاعونا ما قتلوا ) ليكون من معاني الواو في (وقعدوا) وجوه :
الأول : إرادة واو الحال وهي التي تدخل على جملة اسمية أو فعلية مسبوقة بمعرفة كما في الواو في [وأنها] من قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ).
الثاني : واو المعية التي تفيد الجمع بين شيئين وهي بمعنى (مع) وينتصب الاسم الذي يأتي بعدها لأنه مفعول به وينتصب الفعل المضارع الذي بعدها بأن المضمرة كما في الواو في قوله تعالى [وَلاَ نُكَذِّبَ]في قوله تعالى [وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثالث : واو العطف ، لبيان عطف قعود الذين نافقوا على قولهم للشهداء [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا].
ويمكن تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : الذين قعدوا وقالوا لإخوانهم .
الثاني : الذين قعدوا وقالوا عن الذين استشهدوا لو أطاعونا ما قتلوا .
الثالث : الذين قالوا لإخوانهم في المدينة من الأوس والخزرج وقعدوا .
لقد ذكرت آية البحث أمراً وجودياً وفعلاً جلياً من قبل المنافقين وهو قعودهم عن الدفاع عن الإسلام والنبوة والتنزيل وعن أنفسهم ، واقترن هذا القعود بحث المؤمنين عليه , وإرادة محاكاتهم فيه بصيغ التخويف من القتل، وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : يقعد كل منافق على نحو مستقل عن غيره .
الثاني : التطامن والتوافق بين المنافقين على القعود.
الثالث : كل منافق يحرض غيره من أصحابه على القعود وإيجاد العذر والذريعة المتحدة والمتعددة لهم، و(عن عمران بن حصين ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أخوف ما أخاف عليكم جدال المنافق عليم اللسان)( ).
الرابع : هناك رؤوس للنفاق يتولون حث أصحابهم على القعود ، كما في عبد الله بن أبي بن أبي سلول ، ودعوتهم في طريق معركة أحد إلى الرجوع والنكوص على نحو علني ومسموع من قبل أفراد الجيش ، ويكون من معاني آية البحث وجوه :
الأول : وقَعدوا.
الثاني : وأَقعدَوا.
الثالث : وأُقعدِوا .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق آية البحث .
ومن إعجاز آية البحث أنها لم تذكر قعود المنافقين إلا مقترناً مع قول خبيث لهم في الصد عن سبيل الله وتوجيه اللوم للشهداء وبعث الحسرة في نفوس عوائلهم على فقدهم.
فجاءت آية البحث لبيان قبح القعود وللإخبار بأن الشهداء تركوا الأمر القبيح ونبذوا المعصية واختاروا الواجب وما شهادة سبعين من المؤمنين في معركة أحد إلا كونها فرع الواجب.
ويحتمل موضوع القعود وجوهاً :
الأول : القعود عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : عدم الخروج إلى القتال في معركة أحد .
الثالث : الرجوع من وسط الطريق إلى المعركة .
الرابع : عدم إستجابة المنافقين للدعوة والندب للقتال التي تتجلى في قوله تعالى [وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ) .
الخامس : الإمتناع عن الدفاع .
وكل هذه الوجوه من مصاديق الآية الكريمة ، فان قلت هناك تعارض بين الوجه الثاني والثالث أعلاه فالرجوع من وسط الطريق غير عدم الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الأصل .
والجواب إرادة المعنى الأعم ، وبين الذين قعدوا والذين رجعوا من وسط الطريق عموم وخصوص مطلق ، فمن المنافقين من بقى في بيته ولم يخرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع , ومنهم من رجع حينما وصل جيش المشركين لأطراف المدينة المنورة.
لقد أخبرت آية البحث عن قعود وإمتناع الذين نافقوا عن أمرين مجتمعين ومتفرقين وهما :
الأول : القتال في سبيل الله .
الثاني : الدفاع .
وأكدت الآية قبل السابقة بأن هذه القعود لم يمنع من لقاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لجيش الذين كفروا مع كونه ثلاثة أضعاف جيش المسلمين .
وفيه حجة على الذين نافقوا من وجوه :
الأول : حتمية حدوث القتال في معركة أحد وهو الذي يدل عليه بالدلالة التضمنية قوله تعالى [وَقَعَدُوا]،
الثاني : لا يجلب القعود إلا الذل والهوان والقتل والأسر .
الثالث : نفرة أهل المدينة رجالاً ونساءً من الذي يخذل المؤمنين ويقعد عن القتال .
الرابع : حاجة المسلمين إلى الذي يكثر سوادهم .
الخامس : إتحاد وتآلف أهل المدينة في ملاقاة العدو الكافر يبعث في قلوب جنوده الخوف والفزع ، ومن الآيات في نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن غزو الخوف لقلوبهم تفضل الله عز وجل به , وإن قعد الذين نافقوا , وفي التنزيل[إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( ).
وتقديره على وجوه :
الأول : خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى ميدان المعركة ، ولكن الذين نافقوا قعدوا .
الثاني : لقد التقى الجمعان ولمعت السيوف وسالت الدماء ، والذين نافقوا قاعدون في المدينة مع الصبيان والنساء .
الثالث : لقد إحتج الإسلام والمسلمون يوم معركة أحد إلى عموم الذين نطقوا بالشهادتين ، ولكن الذين نافقوا أخفوا أنفسهم مثلما اخفوا الكفر الذي يبطنون ، ففضحهم الله وأخبر عن قعودهم ، وفيه دعوة للمسلمين والمسلمات إلى إحصائهم .
وهذا الفضح من باب الأولوية القطعية إذ أن الله عز وجل كشف ما يخفون في صدورهم .
وقد أثنى الله على نفسه ببيان عظيم قدرته بخصوص يوم القيامة , وما فيه من الأهوال وكثرة المواطن , وموارد الفزع , وحشر الناس جميعاً في صعيد واحد .
ومن أسماء يوم القيامة أنه يوم السرائر ، قال تعالى [يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ] ( ) .
لتؤكد آية البحث وخاتمتها على أن الله عز وجل يكشف سرائر المنافقين في الدنيا ، أما في الآخرة فيكون هذا الكشف شاملاً للناس جميعاً ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان سخط الله عز وجل على الذين نافقوا .
الثانية : بيان الملازمة بين النفاق وكشف ما في صدور المنافقين .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار رحمته وهو الذي يستر ذنوب عباده ، وصحيح أن اسم (الستار) ليس من أسماء الله الحسنى التي ورد فيها الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال (إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً ، من أحصاها دخل الجنة ، إنه وتر يحب الوتر)( ).
وهذا لايعني أن (الستار) ليس من أسمائه أو ليس من صفاته التي هي ذات صبغة الكمال والجلال ، ولا يطرأ عليها نقص، وإثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره .
وبين اسم الغفار واسم الستار عموم وخصوص مطلق ، فالغفار أعم لانه يشمل محو شر الذنب وعقوبته ، أما الستر فقد يكون دائماً أو مؤقتاً ، وقد يحاسب على ما هو مستور .
وتدل هذه الآيات في مفهومها على فضل الله على المؤمنين بسترهم في الدنيا , وبالإخبار عن رضا الله عز وجل عنهم , وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
أما المنافقون فأنهم اصبحوا مكشوفين، قال تعالى في ذمهم[وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ]( ) .
ويحتمل قعود الذين نافقوا بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً:
الأول : إنه من الإنصراف في قوله تعالى(ثم إنصرفوا).
الثاني : القعود من صرف قلوب الذين نافقوا.
الثالث : إنصراف المنافقين مقدمة لقعودهم.
الرابع : إنه من رشحات صرف قلوبهم عن الحق والدعوة إلى الدفاع عن النبوة والتنزيل، ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية الكريم وفيه نكتة وهي أن قعود الذين نافقوا لم يأت إلا عن مكر وخبث متصل منهم.
وهل يمكن القول أن الله هو الستار للناس في الدنيا إلا المنافقين ، أو أن الله عز وجل ستار للمؤمنين على نحو الحصر والتعيين ، الجواب لا ، إنما هو سبحانه ستّار للناس جميعاً ، وهو من مصاديق رحمته بأهل الأرض ، ورشحات الخلافة التي تفضل بها الله عز وجل على الإنسان ، وهذا الستر من أعظم النعم، وهو من فضل الله في الدنيا والآخرة، نعم هذا الستر من الكلي المشكك إذ أن الإيمان والعمل الصالح يجعله حاضراً ومتصلاً ومتجدداً، أما النفاق والكفر فهما سببان في عدم زيادته من فضل الله إلا بالتوبة بالإنابة.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ مِنَ الإِجْهَارِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ فِي اللَّيْلِ عَمَلا ، ثُمَّ يُصْبِحَ ، وَقَدْ سَتَرَهُ رَبُّهُ ، فَيَقُولُ: يَا فُلانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا ، وَكَذَا ، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ ، وَيَبِيتُ فِي سِتْرِ رَبِّهِ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ)( ).
ترى لماذا كشف الله حال المنافقين ، الجواب ما كشفه الله عز وجل عن حال المنافقين معشار ما يتصفون به من الخبث والمكر , ونوايا الشر للمسلمين , وهذا الكشف حاجة من جهات:
الأولى : عصمة المؤمنين من الإستماع للذين نافقوا.
الثانية : بيان مصداق لما ورد في الآية السابقة بقوله تعالى(ليعلم الذين نافقوا)( ) وكشفهم وإظهار زللهم.
الثالثة : فيه حاجة لأهل وذوي الشهداء.
الرابعة : إنه حاجة لذات الذين نافقوا لإصلاحهم وهي دعوة لهم للتوبة.
الخامسة : إنذار عوائل الذين نافقوا من اتباعهم.
فمن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم توجه الخطابات التكليفية من عند الله إلى الناس جميعاً من غير واسطة، وهو من أسرار تعاهد وحفظ الله عز وجل للقرآن من الزيادة والنقصان والتبديل والتحريف إلى يوم القيامة، قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
ويُحتمل حال المنافقين من جهة الترتيب بين القول والفعل وجوهاً :
الأول : تقدم القول : لو أطاعونا ما قتلوا على القعود .
الثاني : تقدم القعود والإمتناع عن الدفاع .
الثالث : الملازمة بين القول الخبيث أعلاه وبين القعود .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية فان قلت جاء القعود متقدماً على معركة أحد ، وسقوط الشهداء فيها ، الجواب لقد أراد الذين نافقوا المعنى الأعم من جهات :
الأولى : شهداء معركة بدر من المسلمين ، وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة بدر وإبتدأت المعركة بالمبارزة بين أهل البيت وعتبة بن ربيعة وأخيه وابنه ، وقتل الإمام علي عليه السلام للوليد وحمزة لعتبة وهلاك شيبة في آية من عند الله ومصداق لقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) .
بلحاظ أن مضامين الآية أعلاه أعم من أن تختص بالنتيجة النهائية للمعركة إنما تشمل تفاصيل المعركة، ويكون من وجوه تقديرها :
الأول : ولقد نصركم الله ببدر بالمبارزة الأولى .
الثاني : ولقد نصركم الله ببدر بقتل علي عليه السلام للوليد .
الثالث : ولقد نصركم الله ببدر بكثرة قتلى الذين كفروا .
الرابع : ولقد نصركم الله ببدر ببعث الخوف في قلوب الذين كفروا ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( ).
الخامس : ولقد نصركم الله ببدر بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والجراح .
السادس : ولقد نصركم الله ببدر بنزول الملائكة مدداً وعوناً لكم ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) .
السابع : ولقد نصركم الله ببدر بتفاني المهاجرين والأنصار في الدفاع .
الثامن : ولقد نصركم الله مع قلة عددكم وأسلحتكم .
التاسع : ولقد نصركم الله بالمعجزة والمدد الملكوتي .
العاشر : ولقد نصركم الله ببدر لتشكروا الله .
الحادي عشر : ولقد نصركم الله ببدر لتستعدوا لمعركة أحد .
الثاني عشر : لقد علم الله حاجتكم إلى النصر فنصركم ببدر .
الثالث عشر : من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) أن نصركم الله ببدر .
الرابع عشر : لقد نصركم الله ببدر فلا تركنوا إلى الظالمين والمنافقين والكافرين .
الخامس عشر : ولقد نصركم الله ببدر ليخزي المنافقين، وهل من موضوعية لمكر وكيد المنافقين في الذل الذي تذكره آية (ببدر) بقوله تعالى(وأنتم أذلة) .
الجواب نعم، فقد كان المنافقون يبثون الأراجيف بأن جيش قريش وأهل مكة سيأتون يطلبون النبي صلى الله وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه وظهر النفاق جلياً بلغة الشك عندما دخل البشير إلى المدينة وهو يعلن للناس النصر على جيش المشركين ومجيء الأسرى والغنائم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ففي طريق عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة من معركة بدر بعث بشيرين إلى أهلها يزفون لهم نبأ النصر والظفر بالمشركين الذين أصروا على الجحود، وأبوا إلا القتال، وهذان البشيران هما :
الأول : زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , بعثه النبي إلى السافلة.
الثاني : عبد الله بن رواحة الخزرجي أحد النقباء ليلة العقبة.
ومن الآيات أنهما كانا وجعفر بن أبي طالب بعدئذ بسنوات أمراء معركة مؤتة بقرب الكرك في الأردن فقتلوا جميعاً، فأخذ الراية خالد بن الوليد من غير أن تكون له أمرة، فجال بها وإنسحب بالمسلمين.
ومنهم من يذكر محاسن لعبد الله بن أبي سلول منها بأنه حضر بيعة الرضوان ، وقد ورد أن جميع من حضر بايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا الجد بن قيس اختبأ تحت بطن بعير , ولكن تلبسه بالنفاق سابق لهذه البيعة ومتأخر عنها .
(وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لَمْ يُبَايِعْنَا عَلَى الْمَوْتِ وَلَكِنْ بَايَعَنَا عَلَى أَنْ لَا نَفِرّ . فَبَايَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ النّاسَ، وَلَمْ يَتَخَلّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَهَا، إلّا الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ فَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ وَاَللّهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْهِ لَاصِقًا بِإِبْطِ نَاقَتِهِ . قَدْ ضَبَأَ إلَيْهَا ، يَسْتَتِرُ بِهَا مِنْ النّاسِ)( ).
وكان جد بن قيس كبير بني ساعدة ولكن النبي أزاحه .
(عن ابن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لبني ساعدة : من سيدكم ؟ قالوا : الجد بن قيس قال : بم سودتموه ؟ قالوا : إنه أكثرنا مالا و إنا على ذلك لنزنه بالبخل .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأي داء أدوأ من البخل ؟ قالوا : فمن ؟ .
قال : سيدكم البشر بن البراء بن معرور]( ).
وكان البراء أول من استقبل الكعبة حيا وميتا و كان يصلي إلى الكعبة ورسول الله صلى الله عليه وآله و سلم يصلي إلى بيت المقدس فأطاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما حضره الموت قال لأهله استقبلوا بي الكعبة).
وفي الحديبية وقبل إبرام الصلح أرسلت قريش إلى عبد الله بن أبي تعرض عليه الأذن بالطواف بالبيت بمفرده فنصحه ابنه بعدم سبق رسول الله بالطواف فاستجاب له (قال الواقدي: حدثني جابر بن سليم، عن صفوان بن عثمان، قال: فكانت قريش قد أرسلت إلى عبد الله بن أبي: إن أحببت أن تدخل فتطوف بالبيت فافعل. وابنه جالس عنده.
فقال له ابنه: يا أبت، أذكرك الله أن تفضحنا في كل موطن؛
تطوف بالبيت ولم يطف رسول الله؟
فأبى ابن أبي وقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلامه ذلك فسر به)( ).
وذكر أنه كثّر سواد المسلمين وكونه طلب قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما حضرته الوفاة ، ولا تتعارض هذه الأخبار مع نفاقه وذم القرآن للمنافقين ، وقد وردت الأخبار بأنه رئيسهم.
إذ تبين الآية السابقة حال التردد والتباين بالنسبة للمنافقين بقوله تعالى [هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ]( ) في مفهومها احتمال أن يكونوا في بعض الأيام أقرب للإيمان من غير أن ينسلخوا من صبغة النفاق، أو أن يكونوا في حال برزخ ووسط بين الإيمان والكفر خاصة في حال السلم وقدوم الغنائم، وفي ذم المنافقين قال تعالى[الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
وحتى لو كثّر المنافق سواد المسلمين ، فان ضرر وجوده مع المسلمين أكثر من نفعه بدليل قوله تعالى [لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ]( ).
ليشكر المسلمون الله عز وجل على قعود المنافقين ، ولبيان قانون يتعلق بآية البحث وهو أن قعودهم الذي تذكره آية البحث هو خير للمسلمين ، وأصلح لهم في أمور القتال ومقدماته .
وتقدير بداية آية البحث الذين نافقوا وقالوا لإخوانهم) للدلالة على صدور هذا القول من منازل النفاق وإبطان الكفر والصدود , ويمكن تأسيس قاعدة وهي كشف وفضح النفاق على نحو اكثر وضوحاً في حال الضراء وعند شدة البأس وأيام القتال .
ويتبين معها ضرره على الإسلام والمسلمين ، لذا اختصت آية البحث ببيان حال المنافقين ووصفهم بالقاعدين ، إلا أن القعود أعم , وبين القاعدين والمنافقين عموم وخصوص مطلق ، فكل منافق قاعد وليس كل قاعد هو منافق , فقد يكون القاعد مؤمناً معذوراً لعاهة في بدنه أو عدم وجود راحلة يركبها أو سيف يحمله أو حاجة والديه له .
(عن عبد الله بن عمر قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد الجهاد ، فقال : ألك والدان؟ قال : نعم . قال : ففيهما فجاهد)( ).
ومن إعجاز القرآن أنه قبل عذر المؤمنين الذين قعدوا ، ومنعهم من التشديد على أنفسهم وزجر المؤمنين عن مؤاخذتهم وتوبيخهم على هذا القعود مع بيان أفضلية المجاهدين ، قال تعالى [لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
لتدل الآية أعلاه على تقسيم المؤمنين إلى أقسام :
الأول : المجاهدون بأموالهم وأنفسهم .
الثاني : المجاهدون بأنفسهم .
الثالث : المجاهدون بأموالهم .
الرابع : القاعدون عن عذر .
الخامس : القاعدون من دون عذر .
ليشمل التفضيل الوجوه الثلاثة أعلاه ، وعدم إختصاصه بالذين يجمعون بين الجهاد بالنفوس والأموال بدليل خاتمة الآية التي تضمنت قانون تفضيل المجاهدين مطلقاً أي سواء كان بالأنفس أو الأموال أو هما معاً مع إستقراء التفاضل بينهما وأن أفضلها هو الوجه الأول أعلاه .
ولم تذكر الآية أعلاه قعود المنافقين ليكون من إعجازها التقييد الوارد فيها بصيغة الإيمان ، بينما وردت آية البحث في ذم قعود المنافقين .
لبيان أنه لا ملازمة بين القعود والنفاق ، فقد يكون القعود مقترناً بالإيمان ، فان قلت قد يكون المنافق معذوراً في قعوده فهل تشمله الآية أعلاه أم يشمله الذم في آية البحث ، الجواب هو الثاني ، ومن إعجاز آية البحث أنها لم تذكر القعود وحده بل ذكرت خصالاً أخرى للمنافقين وهي قولهم لأخوانهم [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] وتضمنت الأمر من الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإحتجاج عليهم [قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ].
وهناك مسألتان :
الأولى : لم تقل الآية : الذين قالوا لاخوانهم لو أطاعونا ما قتلوا وقعدوا .
الثانية : لم تقل : الذين قعدوا وقالوا لإخوانهم لو أطاعونا ما قتلوا).
أما الأولى أعلاه فانها تفيد حصول القول قبل القعود، وأما الثانية فتفيد تحقق القعود من الذين نافقوا قبل قولهم .
بينما تبين آية البحث بصيغتها أموراً :
الأول : التداخل بين قول الذين نافقوا فيما يخص الشهداء وبين قعودهم .
الثاني : إصرار الذين نافقوا على المغالطة بالجمع بين قول وفعل يتصفان بالنفاق، وفي التنزيل[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]( ).
الثالث : إرادة بيان حال الذين نافقوا بأنهم كانوا يقولون وهم في حال قعود [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا].
الرابع : من إعجاز الآية إرادة بيان تقدم قول المنافقين (لو أطاعونا ما قتلوا مرة) ، وتقدم القعود بالنسبة لمصاديق أخرى من قول الذين نافقوا مرة أخرى، ويحتمل وجوهاً :
الأول : تعدد القول وإتحاد القعود .
الثاني : إتحاد القول وتعدد القعود .
الثالث : إتحاد كل من القول والقعود .
الرابع : تعدد القول والقعود .
والصحيح هو الرابع سواء كان هذا التعدد صادراً من الفرد الواحد من المنافقين أو منهم على نحو العموم الإستغراقي، قال تعالى[وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ]( ).
ويحتمل نعت المنافقين بالقعود من جهة مقدماته وجوهاً :
الأول : قعود الذين نافقوا إبتداء وطواعية .
الثاني : مناجاة الذين نافقوا بالقعود وعدم الخروج للقتال .
وفيها جهتان:
الأولى : حدوث هذه المناجاة بين المنافقين باختيارهم ومن غير سبب ظاهري .
الثانية : وقوع هذه المناجاة عند قدوم جيش المشركين للقتال .
الثالث : توجه الدعوة للذين نافقوا بالدفاع والقتال في سبيل الله .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وهو من إعجاز آية البحث بأن يأتي اللفظ ليفيد التعدد في مصاديقه مع تباين الأحوال .
ومن مصاديق الوجه الثاني أعلاه ، تحريض رأس النفاق على الرجوع من الطريق إلى معركة أحد .
وعن (الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم كُلهم قد حدث قال: خَرَجَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -يعني حين خرج إلى أحد-في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كان بالشَّوط -بين أحد والمدينة-انحاز عنه عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس، وقال أطاعهم فخرج وعصاني، ووالله ما ندري علام نقتُل أنفسنا هاهنا أيها الناس، فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق وأهل الريب) ( ).
ومن مصاديق الوجه الثالث أعلاه قيام عبد الله بن عمرو بن حرام أبي جابر بن عبد الله الأنصاري باللحاق بالذين نافقوا وتحذيرهم .
إذ قال لهم (يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضرهم عدوهم .
قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، ولكن لا نرى أن يكون قتال) ( ) .
وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : وقعدوا لغلبة النفاق والكفر الذي يضمرون على جوارحهم عند الشدة والضراء ، وفي التنزيل [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ] ( ) .
الثاني : وقعدوا بعد توجه النداء لهم بالخروج للدفاع .
الثالث : وقعدوا بعد المناجاة بينهم بالقعود .
الرابع : وقعدوا خذلاناً للمؤمنين .
الخامس : وقعدوا فكشفوا عما يكتمون مما أخبرت عنه خاتمة الآية السابقة .
لقد قال الله تعالى [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] ( ) ولأن الله عز وجل جعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) فانه سبحانه أخبر عن مصداق من مصاديق ما يكتمون وهو العزم على القعود إن نودي إلى الجهاد والدفاع .
السادس : وقعدوا كيلا يكثروا سواد المسلمين .
السابع : وقعدوا لإغراء جيش الذين كفروا بالمؤمنين .
الثامن :قعدوا فجلبوا على أنفسهم الذل والخزي .
التاسع : وقعدوا فحرموا أنفسهم من الثواب العظيم للنفير والبعث والدفاع .
العاشر : ولما أخبرت الآية السابقة عن حال وشأن الذين نافقوا وأنهم [لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ] ( )جاء القعود مصداقاً لهذا القرب القبيح في ذاته وأثره .
الحادي عشر : ويقولون بأفواههم في الإعتذار عن القعود ما ليس في قلوبهم ، إذ يدّعون بعدم وقوع قتال بين المؤمنين والذين كفروا وهم يعلمون أن القتال صار أمراً حتماً .
الثاني عشر : وقعدوا ظناً منهم أنهم يضرون المسلمين , ويتمكن الذين كفروا من الغلبة عليهم .
ونزل قزله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) بخصوص كفار قريش وإجتماعهم في دار الندوة المجاورة للبيت الحرام في مكة للتآمر والبطش برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت أقوالهم متعددة تبين دهائهم وإرادتهم البطش بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإنتقام منه وهي على وجوه :
الأول : إخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة على بعير بصفة المطرود ، قاله ابو البختري ( ).
الثاني : الأمر بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قاله ابو جهل مع بيانه لكيفية القتل بأن يتم اختيار رجل فتي شديد البأس مل كل قبيلة من قريش وأن يتم اختيارهم من قبل رؤساء قريش وليس من رؤساء القبيلة نفسها فيقومون بضربه بسيوفهم ضربة رجل واحد ، ومن أسرار هذا الإختيار إجتناب إختيار من يكون عنده ميل للإسلام أو من يتردد أو يمتنع عن ضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوان الفعل .
واذا ما أجتمعوا واشتركوا في قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فان بني هاشم لا يكون أمامهم من خيار إلا قبول الدية ، إذ لا يقوون على طلب دمه بمحاربة كل بطون قريش .
وصاحب هذا الرأي هو أبو جهل إذ قال كما في رواية معاوية بن قرة (ليجتمع من كل بني أب رجل فيقتلوه)( ) وقُتل ابو جهل في معركة بدر .
الثالث : شدّ النبي محمد في الوثاق ومنعه من الخروج والإختلاط بالناس وإرادة السخرية منه بأنه لو كان نبياً لما ربطه قومه في الوثاق , ولبيان مصداق لإفترائهم بأنه مجنون , قال تعالى[وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ]( ).
الرابع : إخراج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى أحد أطراف الأرض بأهل مكة .
ووفود القبائل التي تأتي لها للحج والعمرة والتسوق وبيانه المعجزات لهم وتلاوته آيات القرآن عليهم ، وحتى الذين لا يدعوهم شخصياً ، فهم يرونه يصلي خمس مرات في اليوم في المسجد الحرام ، وتصلهم الدعوة بالوسائط المتعددة .
وكان في بدايات الدعوة يقف للصلاة وخلفه الإمام علي عليه السلام وخديجة الكبرى ، كما في الرواية والخبر عن عفيف الكندي قال (كنت أمرأً تاجراً فقدمت مكة أيام الحد فأتيت العباس، فبينا نحن عنده إذ خرج رجلٌ فقال تجاه الكعبة يصلي، ثم خرجت امرأة تصلي معه، ثم خرج غلام فقال يصلي معه. فقلت: يا عباس ما هذا الدين ؟ فقال: هذا محمد بن عبد الله ابن أخي، زعم أن الله أرسله وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة آمنت به، وهذا الغلام علي بن أبي طالب آمن به، وايم الله ما أعلم على ظهر الأرض أحداً على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة ! .
قال عفيف: ليتني كنت رابعاً.) ( ) .
ومن المقاصد الخبيثة من إخراج كفار قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التخلية بينه وبين سباع الأرض في الطريق ، وبينه وبين الكفار في الأمصار ، خاصة وقد شاع مالاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هجرته إلى الطائف وكيف أنهم أدموا قدميه ورموه بالحجارة وحرضوا الصبيان والعبيد عليه , فأوحى الله عز وجل له بالهجرة من مكة .
فان قلت هل هذه الهجرة قبل إخراج قريش له ، الجواب لا ، فهو قياس مع الفارق ، إذ أن الله عز وجل اختار له الهجرة إلى المدينة وقيّض له صاحباً في السفر ونوق يركبون عليها ، قال تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ) .
وتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة حيث الأنصار من الأوس والخزرج ، لتكون هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكيفيتها والمعجزات التي جرت أثناء الطريق على وجوه :
الأول : أنها حجة على المنافقين .
الثاني : فيها دعوة للمنافقين والمنافقات لأصلاح البواطن وتنزيه النفوس من النفاق .
الثالث : دعوة المنافقين للتوبة والإنابة .
الرابع : بيان حقيقة وهي عدم إلحاق المنافقين الضرر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من باب الأولوية القطعية بالقياس مع رؤساء الكفر من قريش الذين عجزوا عن الحاق الضرر به , وهم في مقامات الرئاسة والشأن والمال , وهو من عمومات قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
قوله تعالى [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]
وتتضمن الآية بالدلالة التضمنية الإخبار عن استشهاد جماعة من المؤمنين في معركة أحد .
والنسبة بين الذين لم يطيعوا المنافقين وبين الشهداء هي العموم والخصوص المطلق , وتقدير الآية : لو أطاعونا ما قتُل جماعة منهم) لإرادة المنافقين توجيه اللوم إلى عموم الأنصار من الأوس والخزرج والمهاجرين الذين زحفوا تحت لواء النبوة إلى معركة أحد ، ولم يستجيبوا لدعوة رأس النفاق عبد الله بن أبي بالرجوع عن القتال .
ليأتي الأجر والثواب للمهاجرين والأنصار الذين خرجوا إلى معركة أحد من جهات متعددة منها أنهم لم يستمعوا لأقوال وشكوك المنافقين والمنافقات ودعوتهم للقعود ، فعدم الإستماع هذا باب عظيم للثواب لذا جاءت الآية التالية بالإخبار عن حياة الخلد في النعيم لشهداء معركة أحد .
وليس من مهاجر أو أنصاري خرج إلى معركة أحد وحضر ميدان المعركة إلا ويصدق عليه أنه لم يطع المنافقين في دعوتهم إلى القعود ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا]( ).
ولقد خصّ المنافقون في لومهم الذين قتلوا في سبيل الله لغاية خبيثة في نفوس المنافقين من جهات :
الأولى : صد الأنصار من الأوس والخزرج عن الخروج للقتال في معارك الإسلام اللاحقة ، خاصة وان المشركين عندما غادروا معركة أحد توعدوا المسلمين بالعودة إلى القتال في قابل .
(وَلَمّا انْقَضَتْ الْحَرْبُ انْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ فَظَنّ الْمُسْلِمُونَ أَنّهُمْ قَصَدُوا الْمَدِينَةَ لِإِحْرَازِ الذّرَارِيّ وَالْأَمْوَالِ فَشَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام اُخْرُجْ فِي آثَارِ الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَاذَا يُرِيدُونَ فَإِنْ هُمْ جَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ مَكّةَ وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ فَوَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ أَرَادُوهَا لَأَسِيرَنّ إلَيْهِمْ ثُمّ لَأُنَاجِزَنّهُمْ فِيهَا.
قَالَ عَلِيّ: فَخَرَجْتُ فِي آثَارِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُونَ فَجَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ وَوَجّهُوا إلَى مَكّةَ وَلَمّا عَزَمُوا عَلَى الرّجُوعِ إلَى مَكّةَ أَشْرَفَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَبُو سُفْيَانَ ثُمّ نَادَاهُمْ مَوْعِدُكُمْ الْمَوْسِمُ بِبَدْرٍ.
فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ” قُولُوا : نَعَمْ قَدْ فَعَلْنَا ” قَالَ أَبُو سُفْيَانَ ” فَذَلِكُمْ الْمَوْعِدُ ” ثُمّ انْصَرَفَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمّا كَانَ فِي بَعْضِ الطّرِيقِ تَلَاوَمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَمْ تَصْنَعُوا شَيْئًا أَصَبْتُمْ شَوْكَتَهُمْ وَحْدَهُمْ ثُمّ تَرَكْتُمُوهُمْ وَقَدْ بَقِيَ مِنْهُمْ رُءُوسٌ يَجْمَعُونَ لَكُمْ فَارْجِعُوا حَتّى نَسْتَأْصِلَ شَأْفَتَهُمْ.
فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَنَادَى فِي النّاسِ وَنَدَبَهُمْ إلَى الْمَسِيرِ إلَى لِقَاءِ عَدُوّهِمْ وَقَالَ ” لَا يَخْرُجْ مَعَنَا إلّا مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ”
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ : أَرْكَبُ مَعَك ؟ قَالَ ” لَا فَاسْتَجَابَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَا بِهِمْ مِنْ الْقَرْحِ الشّدِيدِ وَالْخَوْفِ وَقَالُوا : سَمْعًا وَطَاعَةً)( ).
لقد علم المنافقون بأن الحرب والقتال سيتجدد فأرادوا تثبيط عزائم المؤمنين ، وهل كان المشركون يقصدون بوعيدهم تحريض المنافقين للقيام بالحث على القعود ، الجواب نعم , فجاءت هذه الآيات لإبطال مقاصدهم الخبيثة مما جعل المشركين يعزفون عن الحضور إلى بدر في العام التالي ، الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد يكون في الجمع بين الكفار والمنافقين وجهادهم في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( ) إشارة إلى التعاون بينهم في محاربة الإسلام , ومنع إنتشار مبادئه وأحكامه .
لقد وقف تحت لواء النبوة في معركة أحد سبعمائة من المهاجرين والأنصار، وجلهم من الأنصار لذا توجه لهم المنافقون بالأراجيف، وذكروا الشهداء منهم بعنوان القتل، فلم يقل المنافقون، لو أطاعونا ما أستشهدوا ولا: لو أطاعونا ما ماتوا , إنما ذكروا القتل بالذات، ولم يوجهوا اللوم إلى الذين كفروا لقيامهم بقتل الصحابة ظلماً وتعدياً، ليتجلى في هذا السفر بيان لخصلة للمنافقين وهي عدم لومهم الذين كفروا على أمور:
الأول : الإصرار على الجحود بالربوبية والنبوة والتنزيل.
الثاني : تحريض الذين كفروا على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثالث : إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وضرب الحصار عليهم في شعب أبي طالب، وإيذاء وتعذيب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل الهجرة، وحتى بعد الهجرة بخصوص من بقي منهم في مكة.
وقد خاطب وعاتب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زوجه سودة بنت زمعة بأنها تحرض على الله ورسوله يوم جيء بأسرى بدر ودخلوا المدينة وكانت سودة خارج بيتها ذهبت تعزي آل عفراء لإستشهاد عوف ومعوذ ابني عفراء، أي أنها بادرت للذهاب للتعزية من قبل أن تأخذ الإذن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان غائباً، وسودة أول زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ولم يتزوج قبلها منذ وفاة خديجة عليها السلام.
فسمعت سودة بقدوم أسرى قريش وهي في بيت المصاب، فرجعت إلى بيت النبوة وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد دخل، وإذا سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة أسيراً قد شُدت يداه إلى عنقه بحبل وهو من وجهاء وسادات قريش، فلم تتمالك نفسها، فقالت له (أي أبا يزيد، أعطيتم بأيديكم، ألا متم كراما)( ).
لم تتوقع سودة أن سادات قريش يقعون في الأسر المهين، ولم تسمه باسمه وكنته أبا زيد , ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلامها يذهب سدىً، بل رد عليها وقال (يا سودة أعلى الله وعلى رسوله تحرضين)( ).
لذم الذين كفروا وتثبيط عملهم، لغلظة قلوبهم وإصرارهم على الكفر, ولسنخية وعمل قريش بالتجارة، قال تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
وتلك معجزة بيانية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن جعل كلام زوجه تحريضاً على الله وعلى رسوله ثم على المؤمنين بالتبعية والإلحاق.
فقالت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي حين رأيت أبا زيد مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت).
وهل يلحق كلام سودة هذا بكلام المنافقين كما في آية البحث , خاصة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعت كلامها بأنه تحريض على الله ورسوله ، الجواب لا، إنما هي زلة لسان تداركتها بالإعتذار، ومخاطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة وأن الله عز وجل بعثه بالحق، ثم جاء فداء الأسرى وفكاكهم من الأسر، وقد أمر رؤساء قريش بعدم التعجيل بإعطاء الفداء لفكاك الأسرى، وأول أسير تم دفع فدائه وفكاكه هو أبو وداعة بن ضبيرة السهمي.
إذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصه (إنّ لَهُ بِمَكّةَ ابْنَا كَيّسًا تَاجِرًا ذَا مَالٍ وَكَأَنّكُمْ لَهُ قَدْ جَاءَكُمْ فِي طَلَبِ فِدَاءِ أَبِيهِ) ( ) وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فان ابنه أظهر التأييد لقول كبار قريش بعدم التعجل في فكاك الأسرى ، ولكنه خرج ليلاً من مكة وتوجه إلى المدينة، ودخلها ودفع أربعة آلاف درهم واخذ أباه إلى مكة وحينما رأوه قد دخل مكة أخذت قريش تبعث بفداء الأسرى ، فقدم إلى المدينة مِكرز بن حفص يريد فداء سهيل بن عمرو (وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ مَالِكُ بْنُ الدّخْشُمِ ، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فَقَالَ
أَسَرْتُ سُهَيْلًا فَلَا أَبْتَغِي … أَسِيرًا بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ
وَخِنْدَفُ تَعْلَمُ أَنّ الْفَتَى … فَتَاهَا سُهَيْلٌ إذَا يُظّلَمْ
ضَرَبْتُ بِذِي الشّفْرِ حَتّى انْثَنَى … وَأَكْرَهْت نَفْسِي عَلَى ذِي الْعَلَمِ) ( ).
وفي قوله تعالى [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا..] حذف وتقدير الآية على وجوه :
الأول : لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا أي أن خصال المنافقين المذمومة لا تنحصر بأبطانهم الكفر بل يحثون عليه ، ويدعون إلى العزوف عن صفات الإيمان .
الثاني : لو أطاعونا ولم يطيعوا الله ورسوله ما قتلوا ) إذ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاهم إلى الدفاع , وهذه الدعوة بأمر من عند الله عز وجل ، وفيها وعد كريم من عند الله عز وجل بالنصر .
وتبين آيات القرآن أن الله عز وجل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من حين الإستعداد لمعركة أحد وأثناء المعركة كما في قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
لتجمع الآية أعلاه بين أمور :
أولاً : الدعوة إلى النفير في المدينة والتهيئ للقتال .
ثانياً : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المعركة .
ثالثاً : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجعل أصحابه في مواضعهم .
رابعاً : توجيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه , ولزوم الصبر وعدم إبتداء القوم بالقتال مع أنهم كافرون ومعتدون.
وجاء قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ..]( ) جامعاً للوعد وتنجزه واقعاً في بداية معركة أحد ، وللنصر في بداية المعركة موضوعية في سير أحداثها وكل بداية حسنة تلقي فيضها على مراتب وأفراد العمل الأخرى .
وهل لنصر المسلمين في بداية المعركة موضوعية في لجوء جيش المشركين إلى الإنسحاب في ذات المعركة ثم إظهارهم الندم وهم في الطريق إلى مكة ، الجواب نعم ، لما في هذه النصر من دلالة على النصر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين مع قلة عددهم وأسلحتهم بالنسبة لجيش الذين كفروا إلى جانب البراهين والدلالات الباهرات بنزول الملائكة يوم بدر لنصرة النبي والمسلمين .
وتجلي هذا الأمر للمشركين أيضاً لإقامة الحجة عليهم، وزجرهم عن تكرار التعدي على المدينة والمسلمين وهو الذي إتضح بتفاصيل معركة الخندق فمع كون عدد جيش المشركين آنذاك عشرة آلاف فأنهم لم يستطيعوا اقتحام المدينة ، وفي خصوص معركة الخندق ورد قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) .
(عن سليمان بن صرد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يوم الأحزاب الآن نغزوهم ولا يغزونا) ( ).
الثالث : من وجوه تقدير آية البحث : لم يطيعونا فقتلوا )، وهو من الأراجيف التي يبثها المنافقون في المدينة وكأن هناك ملازمة بين طاعتهم وبين الحياة والسلامة من القتل ، لقد قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) ولكن المنافقين إجتهدوا في منع المسلمين من طاعة الله ورسوله وإرادة حرمانهم من الرحمة التي تدل عليها الآية أعلاه ، فجاءت آية البحث لفضحهم .
الرابع : لو أطاعونا لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ) إذ كان المنافقون يريدون بقعودهم عدم قتال المشركين الذين يصرون على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم يطلبونه بشخصه الكريم .
لذا فان قول المنافقين هذا حرب على الإسلام ، وقد كان أكثر جيش المسلمين يوم أحد من الأنصار ، فلو أطاعوا المنافقين وقعدوا لسهل على الذين كفروا الوصول إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتله ، ولم يعلموا أن الملائكة نزلت مدداً لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصابه ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
ولقد قعد الأنصار عن القتال فهل يسلمون من القتل، الجواب لا ، إنما يطلب المشركون الثأر لقتلاهم في معركة بدر وخيبتهم، وخسارتهم وما دفعوه من الأموال لفكاك الأسرى.
وكلام المنافقين ليس بصحيح ويدل واقع الحال على تقدير قولهم ، لو أطاعونا لقتلوا ) أي خلاف وعكس ما قاله المنافقون فمع قعود الأنصار عن القتال يغزو جيش المشركين المدينة، ويعبثون فيها، ويستبيحونها ويجلسون على رؤوس السكك والطرقات للنهب والفتك .
وكأن المنافقين يريدون بالتحريض على القعود قتل أكبر عدد من الأنصار والمهاجرين , لذا نزلت آية البحث لفضحهم .
لقد ذكرت الآية السابقة قانوناً يتعلق بالذين نافقوا وهو أنهم يقولون بألسنتهم غير ما يخفون في قلوبهم بخصوص ذات الموضوع المتحد ، أي أنهم لا يتكلمون عن موضوع ويخفون في أنفسهم موضوعاً مغايراً كالذي يتكلم عن الطقس وهو يضمر في نفسه موضوعاً لا صلة له بالطقس وطيب الهواء لطافة الجو ونحوه ويضمر في نفسه ما لو أخبر لكان فيه حرج شديد عليه.
إنما الذين نافقوا يظهرون الشفقة على الشهداء وهم يضمرون الشماتة بهم وتخويف الأحياء من المؤمنين والعداوة للإسلام ، وتقدير آية البحث بلحاظ الآية السابقة على وجوه :
الأول : قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، وفي قلوبهم مسائل :
الأولى : الحسد للمؤمنين الذين خرجوا إلى معركة أحد .
الثانية :الرغبة بغلبة الذين كفروا .
الثالثة : تمني الذين نافقوا عدم عودة المهاجرين إلى المدينة ، قال تعالى في ذمه وتوثيق خبث الذين نافقوا [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ] ( ).
الرابعة : علم المنافقين بوقوع القتال لعزم الذين كفروا الثأر والإنتقام ووصول جيوشهم إلى مشارف المدينة وتقدير ما يخفونه في نفوسهم: نحن نعلم قتالاً فلا تتبعكم .
الثاني : تقدير الآية : قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم ، وفي قرارة نفوسهم أن القتال واقع وأن المسلمين سيقع منهم شهداء خاصة، وقد رأى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا قبل المعركة وبين للمسلمين تفاصيلها ويعلم الجميع (فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح)( ).
لقد نزل ثلاثة آلاف رجل من المشركين عند جبل أحد على شفير الوادي ببطن السبخة من القناة قريباً من المدينة المنورة يوم الأربعاء الثاني عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة فاقاموا في موضعهم يوم الخميس والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا زال في المدينة لم يخرج للقائهم فرأى في منامه رؤيا تتقوم بثلاثة أمور :
الأول : ثلمة في سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل أن السيف الذي رآى بها الرؤيا ذو الفقار .
الثاني : ذبح بقر .
الثالث : إدخال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده في درع حصينة( ) .
ومن شواهد الرسالة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقوم بتأويل رؤياه ينفسه لأنها شعبة من الوحي وتتعلق بمعركة كبرى مع المشركين.
وأما بالنسبة للأول أعلاه ورؤية ثلمة في سيف النبي , فقال: يصاب رجل من أهل بيتي أي قالها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة القطع لأن رؤياه شعبة من الوحي، فقتل حمزة ليستعد المهاجرون والأنصار للشهادة.
أما الثاني وهو ذبح البقر , فقال أن نفراً من أصحابي يقتلون.
وأما الثالثة فقال أولت الدرع الحصينة المدينة أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرجع سالماً من المعركة.
وفي هذه الرؤيا وتأويلها مدرسة عقائدية تستنبط منها المسائل والمواعظ، ومنها زجر المنافقين عن بث الأراجيف بخصوص الشهداء ، ومنعهم من إثارة أهل المدينة بسبب قتل أبنائهم.
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن رؤياه وتأويلها قبل خروجه إلى جبل أحد وأشار على أصحابه أن يتحصنوا بالمدينة ولا يخرجوا للقاء العدو ، وفيه شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقتبس الدروس وسبل الهداية من رؤياه لأنها من الوحي.
وفي رؤيا إبراهيم ورد إسماعيل عليه معجزة تبين تسالم الأنبياء على التصديق برؤياهم ، قال تعالى [قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ] ( ).
ولما ألحت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم طائفة من الصحابة بالخروج خصوصاً أولئك الذين لم يحضروا معركة بدر لبس لأمة الحرب وخرج وأوصى أصحابه بتقوى الله والصبر عند البأس ولقاء العدو، وأن لا يفعلوا إلا ما أمرهم الله به، وذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عنده تسعة أسياف وهي :
الأول : ذو الفقار . و(نَادَى مُنَادٍ يَوْمَ أُحُد ٍ : لَا سَيْفَ إلّا ذُو الْفَقَارِ وَلَا فَتَى إلّا عَلِيّ)( ).
الثاني : ثلاثة أسياف أصابها من سلاح في قينقاع وهي :
أولاً : سيف قلعي .
ثانياً : سيف يسمى البتال .
ثالثاً: سيف يسمى الحتف .
الخامس : سيف المخدم .
السادس : الرسوب .
السابع : سيف ورثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أبيه .
الثامن : القضيب ، وهو أول سيف تقلد به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
التاسع : سيف يسمى العضب ، أعطاه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن عبادة .
ويقال كان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم درع داود عليه السلام التي كان لابسها يوم قتل جالوت ، قال تعالى [وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ] ( ) وعند النبي صلى الله عليه وآله وسلم دروع هي :
الأولى : ذات الفضول .
الثانية : فضة .
الثالثة : السعدية .
ويسمى مغفر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السبوغ .
الثالث : من خصائص القرآن فضح المنافقين، وتأتي السنة النبوية لتفضحهم ثم تقع الحوادث والوقائع لتكون من عمومات قوله تعالى [يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ] ( ) .
الرابع : تقدير الآية : قالوا لو نعلم قتالاً لأتبعناكم ) لإرادة بعث المؤمنين على التوكل على الله وعدم الخشية من القتال وإن كان جيش المشركين أضعاف عددهم ، قال تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
وكما ذكرت آية البحث قول الذين نافقوا بخصوص الشهداء فقد ورد ذات القول في التنزيل حكاية عن الذين كفروا ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( ) .
ترى ما هي الصلة والنسبة بين الذين نافقوا والذين كفروا الذين تذكرهم الآية أعلاه.
الجواب هو العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
ويدخل شطر من المنافقين بذات القول الذي تذكره الآية أعلاه بلحاظ أنهم من الكافرين ولو لخصوص الجهاد والدفاع عن النبوة والتنزيل .
وإذ ذكر المنافقون خصوص الشهداء وأنهم لو بقوا وقعدوا في المدينة لم يقتلوا فان الذين كفروا ذكروا ما هو أعم وأوسع من جهات :
الأول : أراد الذين كفروا جميع الغزاة ، وهل يدخل فيه المرابطون والعيون ، الجواب نعم .
الثاني : المسلمون الذين يخرجون من المدينة للتجارة والكسب .
الثالث : المسلمون الذين يذهبون لأداء العمرة والحج إذ أن قريشاً وسائر المشركين يترصدون بالمسلمين .
الرابع : الصحابة الذين يسافرون إلى القرى والأمصار للدعوة إلى الله ونقل آيات القرآن وتلاوتها على الناس .
الخامس : المهاجرون الذين يعودون إلى قراهم ومدنهم سواء للرجوع والإقامة فيها ، أو لتبليغ قومهم ، وحثهم على الإيمان .
ومنهم عروة بن مسعود الثقفي ، وهو من أكابر قومه ، وقيل هو المراد في قوله تعالى [وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ] ( ) وأنهم أرادوا الوليد بن المغيرة من أهل مكة ، وعروة بن مسعود من أهل الطائف.
لقد حاصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الطائف بعد واقعة حنين التي وقعت بعد فتح مكة ، ثم تركهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعاد إلى المدينة ، وفيه نكتة وهي أن القائد والإمام يجب ألا ينشغل بمسألة قتال فرعية ، ويترك شؤون الحكم والعاصمة وإدارة البلد .
ولحق عروة بن مسعود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأدركه قبل أن يصل إلى المدينة المنورة فأعلن اسلامه ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرجع إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أن فعلت فأنهم قاتلوك ) ( ) .
وفيه آية فلم يزجره أو يمنعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الذهاب لأن فيه القتل إنما أخبره عن القتل ، لأن الآية التالية تبين حياة الخلود في النعيم للشهداء .
قال عروة : يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا أحب إليهم من أبصارهم ، وفي رواية من أبكارهم ، والأول أصح ، وكان مطاعاً فيهم ، وأذن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالذهاب إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام (فَمَرَّ عَلَى اللاتِ وَالْعُزَّى، فقال: يَا مَعْشَرَ الْأَحْلافِ: إِنَّ الْعُزَّى لا عُزَّى، وَإِنَّ اللاتَ لا لاتَ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا، قَالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَرَمَاهُ رَجُلٌ فَأَصَابَ أَكْحَلُهُ فَقَتَلَهُ .
فَبَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ:”هَذَا مَثَلُهُ كَمَثَلِ صَاحِبِ يس” قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)( ).
وقد أكرمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً بأن جعله شبيهاً بالخلقة لأحد الأنبياء كما في حديث الأسراء إذ وصف لأصحابه الأنبياء الذين رآهم فقال (فَأمَّا مُوسَى فَضَرْبٌ رَجْلُ الرأسِ كأنَّهُ مِنْ رِجالِ شَنُوءَةَ.
وأمَّا عِيسَى فَرَجْلٌ أحْمَرُ كأنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ، فأشْبَهُ مَنْ رأيْتُ بِهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ؛
وأمَّا إبْرَاهِيمُ فأنا أشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ؛ فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حدث قريشا أنه أُسري به…..)الحديث.
عن جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: “لما كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فَمَثَّلَ الله لي بَيْتَ المَقْدِسِ، فَطَفِقتُ أُخْبرُهُم عَنْ آياتِهِ وأنا أنْظُرُ إلَيْهِ”.)( ) .
ويدل قول المنافقين [لَوْ أَطَاعُونَا] أنهم كانوا يحرضون الأنصار على القعود ، وعدم الذهاب إلى معركة أحد لبيان عظيم منزلة الأنصار في تأريخ الإسلام ، وكيف أنهم جاهدوا المنافقين بالإعراض عن حثهم على القعود ، ولم يعاقبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذا الحث ، إنما جاءت آية البحث لفضحهم وإثبات ثبات الأنصار في مقامات الإيمان، وفي التنزيل[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
ومع أن حرف [لو] حرف إمتناع لإمتناع فان المؤمنين لو أطاعوا المنافقين بالقعود فأنهم لا ينجون ولا يسلمون من القتل ، ولو لم يخرجوا لهم لدخل الكفار إلى المدينة وعبثوا فيها وانتقموا من الأنصار قتلاً وتأسيراً وسبياً ، بينما خروجهم إلى معركة أحد على وجوه :
الأول : الإنتصار للإسلام .
الثاني : البيان العملي لمصداق إتباع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : خروج المهاجرين والأنصار إلى معركة أحد مناسبة لنزول الملائكة مدداً وعوناً من عند الله ، ومن الإعجاز في المقام إخبار القرآن عن نزول الملائكة مدداً للمؤمنين مجتمعين ومتفرقين، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
ومن أسرار نظم وسياق آيات القرآن مجئ هذه الآية التي تخص وقائع معركة أحد بعد آية (ببدر) ونصر المسلمين فيها مع ورود الإخبار إلى نزول الملائكة في واقعة بدر في سورة أخرى بقوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ).
وجاء قوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ) خطاباً من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبياناً بأن نزلوا نصرة ومدداً إلى الصحابة من المهاجرين والأنصار إذ جمعت الآية بينهم بلفظ المؤمنين.
وفيه نكتة وهي تعاضد المهاجرين والأنصار في الدفاع ، وتفانيهم وإيثارهم وبذل كل واحد منهم الوسع في الجهاد والدفاع ، وللإخبار بأن الأنصاري لا يكتفي بتعضيد الأنصاري ، وكذا بالنسبة للمهاجرين ، إنما الجامع المشترك بينهم هو الإيمان ، به يقاتلون وبه يدافعون .
ولتشهد الآية على إنتفاء النسب والقبيلة بين المسلمين أوان القتال بينما بقي المنافقون يتباكون على النسب ويتخذون منه نوع طريق أعوج للصد عن سبيل الله ، ليكون عدم الإصغاء لهم ، والوقاية من مكرهم من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) .
فتفضل الله عز وجل وجعل كل مسلم ومسلمة يتلوها عدة مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني لتحضر آية الصراط هذه عند فتنة المنافقين وتكون حرزاً من أذاهم .
الرابع : خروج المؤمنين إلى معركة أحد برزخ دون هجومهم على المدينة .
الخامس : لقد كان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لقتال العدو حرزاً متجدداً وزاجراً للذين كفروا للكف عن غزو المدينة .
وهل يختص مراد الذين نافقوا بالطاعة هو القعود ، الجواب لا ، إنما هو أعم إذ يشمل وجوهاً :
الأول : لو أطاعونا في النفاق وعدم صدق الإيمان .
الثاني : لو أطاعونا في حب الدنيا وزينتها .
الثالث : لو أطاعونا في المعاصي وفعل السيئات .
الرابع : لو أطاعونا في ممالئة الذين كفروا .
الخامس : لو أطاعونا وما أطاعوا رسول الله .
السادس : لو أطاعونا في التقصير في أداء الواجبات العبادية .

قوله تعالى [قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ]
من معاني الآية أن الموت أمر وجودي يأتي للناس بذاته يزور الفرد منهم فلا يغادره إلا ويسلب روحه ويتركه جثة هامدة، ويصبح الناس يسمونه الجنازة، فيقال هل صليت على الجنازة، هل دفنت الجنازة، وحتى هذا الاسم لا يستمر طويلاً فسرعان ما يزول بمواردة الحسد في الأرض بأمر من عند الله عز وجل من يوم قتل قابيل بن آدم أخاه هابيل ، قال تعالى [فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ]( ).
ومن خصائص المؤمنين التسليم بقانون وهو عجزهم عن درء أو دفع الموت عن أنفسهم وهم يعلمون بأن القتل في سبيل الله لا يقدم لهم أجلاً ، وفي التنزيل [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ…] ( ).
فكما ورد في الآية أعلاه الأمر من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) فقد ورد في آية البحث ذات الأمر من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) لبيان قانون وهو تقيد المؤمنين بمضامين الأمر الذي يحتجون به على الذين كفروا والذين نافقوا ، ليكون هذا التقيد على وجوه :
الأول : إنه حجة إضافية على الذين ظلموا، تتجدد في كل زمان .
و(عن أبي أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يجيء الظالم يوم القيامة ، حتى إذا كان على جسر جهنم بين الظلمة، والوعرة لقيه المظلوم فعرفه ، وعرف ما ظلمه به ، فما يبرح الذين ظلموا يقضون من الذين ظلموا ، حتى ينزعوا ما في أيديهم من الحسنات ، فإن لم يكن لهم حسنات أدرك عليهم من سيئاتهم مثل ما ظلموا ، حتى يوردوا الدرك الأسفل من النار)( ).
وهل قول المنافقين بخصوص الشهداء [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ظلم ، الجواب نعم، وهو ظلم للشهداء وذويهم وظلم من المنافقين لأنفسهم ، ومن الإعجاز أن الحديث أعلاه ذكر إقامة الذين ظلموا في الدرك الأسفل من النار ، ولم يرد لفظ [الدَّرْكِ] في القرآن إلا في آية واحدة تتعلق بعذاب المنافقين ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
وبين الظلم والنفاق عموم وخصوص مطلق فالظلم أعم .
الثاني : بيان مصداق يومي متكرر إلى يوم القيامة لإمتثال المسلمين للأمر الإلهي الذي نزل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ(قل)، فكل يوم يتلو المسلمون آية البحث للإحتجاج على المنافقين، ومن الآيات هلاك المنافقين , ولكن الإحتجاج اليومي عليهم مستمر إلى يوم القيامة.
الثالث : سلامة المسلمين والمسلمات من النفاق إذ أنهم يحاكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الإحتجاج على المنافقين، والمحتج غير المحتج عليه.
الرابع : تهيئة المسلمين للإستعداد لتلقي الموت على نزاهة وعصمة من النفاق وإخفاء الكفر , قال تعالى[يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ]( ).
ومن معاني آية البحث الوعيد من جهات :
الأولى : الوعيد بقرب الموت من المنافقين لأنه وملك الموت مستجيبان لأمر الله عز وجل , قال تعالى [فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ]( ).
الثانية : التخويف بعالم البرزخ والحساب الإبتدائي للمنافق في القبر .
الثالثة : الإنذار من الحساب الشديد للمنافق في عرصات يوم القيامة .
الرابعة : الوعيد للمنافقين والمنافقات من سوء المقام الذي ينتظرهم يوم القيامة .
ويكون تقدير آية البحث : فأدرءوا عن أنفسكم الموت وما بعد الموت .
المسألة الثامنة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على المؤمنين فأدرءوا عن أنفسكم الموت ) .
وفيها وجوه :
الأول : جاءت آية السياق بصيغة الجملة الخبرية ، ولكن الجمع بينهما وبين آية البحث يجعلها تتضمن معنى الإنشاء فهل فيه تغيير وتبديل للمعنى ، الجواب لا، وهو من إعجاز نظم آيات القرآن بتعدد الصيغ والمعاني للفظ القرآني بلحاظ السياق لإقتباس الدروس والمواعظ منه ، مع أن الأصل هو ما مرسوم في المصاحف .
الثاني : صحيح أن آية السياق ذكرت منّ وفضل الله برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على خصوص المؤمنين إلا أن موضوعها أعم وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : لقد منّ الله على المنافقين .
ثانياً : لقد منّ الله على أهل الكتاب .
ثالثاً : لقد منّ الله على الناس جميعاً .
رابعاً : لقد منّ الله على أهل مكة .
خامساً : لقد منّ الله على أهل يثرب ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اسماً ومسمى ، ومن الأول تغيير اسمها إلى طيبة والمدينة .
سادساً : لقد منّ الله على الرجال والنساء .
سابعاً : لقد منّ الله على عبدة الأوثان برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتوبوا .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزول الآيات التي تتعلق بالموت من جهات :
الأولى : التذكير بالموت وشموله للناس جميعاً ، قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( ).
الثانية : حضور الموت عند كل واحد ورؤية من حوله لأمارات حضوره، سواء الأقارب والأهل أو غيرهم ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ] ( ).
وجاءت الآية أعلاه خطاباً وعوناً لهم على إصلاح أنفسهم للدنيا والآخرة، فان قلت تدل الآية على مغادرة الذي يحضره الموت الدنيا ، والجواب إرادة البر بالوالدين والأقربين بما ينتفع الميت به وهو في قبره .
وورد عن (النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”)( ).
الثالثة : بيان الأجر وعظيم الثواب للذي يهاجر في سبيل الله عز وجل، فقد كان الذين نافقوا يبثون الأراجيف في المدينة ، ويقولون بأن خروج المسلم من المدينة سواء للقتال والدفاع أو للتجارة سبب في قتله وموته وتخسره عائلته ، ويتباكى المنافقون عليه كأخ لهم ومن قبيلتهم من الأوس والخزرج ، كما ورد في التنزيل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا]( ) فجاء الخطاب والوعد الكريم من عند الله عز وجل للمسلمين بأن الله عز وجل يثيبهم على الهجرة أعظم الثواب إن ماتوا في الطريق، قال تعالى[وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ]( ).
الرابعة : لقد نزلت آية البحث بخصوص معركة أحد ، وفيها نزل قوله تعالى وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ .
فلما سمع المؤمنون من المهاجرين والأنصار بقدوم جيوش قريش تمنوا الموت والقتل في سبيل الله في ذات الوقت الذي يبث فيه المنافقون أراجيفهم ويحثون على القعود عن القتال ويتباهون بامتناعهم عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خوفاً من جيش الذين كفروا .
فجاءت الآية أعلاه لبيان عدم ترتب الأثر على قعود المنافقين ، ومحاولتهم إقعاد غيرهم وصرف شطر من المؤمنين عن القتال ، وهذا البيان ومصاديقه الواقعية من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ تجعل آية البحث المنافقين مشغولين بأنفسهم ، يتلفتون يمنة ويسرة خشية مداهمة ملك الموت لهم ، والذي يأتيهم بأقسى وأشد حال .
(وقال رسول الله صلى عليه وآله وسلم: الميت تحضره الملائكة ، فإذا كان الرجل صالحاً قال : أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أخرجي حميدة وابشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان ، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة ،
فإذا كان الرجل السوء قال : أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ، أخرجي ذميمة وابشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج ، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء.
فيستفتح لها فيقال : من هذا؟ فيقال فلان . . .
فيقال : لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ، ارجعي ذميمة فإنها لا تفتح لك أبواب السماء . فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر)( ).
ومن أسرار الحديث أعلاه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أن الأرواح تعرج إلى السماء أولاً، حضور الملائكة لقبض روح الإنسان ، وليس ملك الموت وحده وذكر صنفين من الناس :
الأول : الرجل الصالح .
الثاني : الرجل السوء .
ليدخل المنافق في الثاني أعلاه ، وبين الرجل السوء وكل من الكافر أو المنافق عموم وخصوص مطلق فيدخل معهما في الرجل السوء الظالم والمتعدي ومرتكب الفواحش .
ولما احتجت الملائكة على جعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) بأن بعضاً من ذريته يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء أقام الله عز وجل عليهم الآية بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل حضور ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب عند الإنسان ساعة موته ليبدأ عالم الجزاء من ساعة مغادرة الروح للجسد .
(عن أبى سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كان ممن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا فسأل عن اعلم اهل الارض فدل على راهب فأتاه فقال انه قتل تسعة وتسعين نفسا فهل له من توبة قال لا فقتله فكمل به مائة .
ثم سأل عن اعلم اهل الارض فدل على رجل عالم فأتاه فقال قتل مائة نفس فهل له من توبة فقال نعم ومن يحول بينه وبين التوبة انطلق إلى ارض كذا وكذا فان بها ناسا يعبدون الله فاعبد معهم ولا ترجع إلى ارضك فانها ارض سوء فانطلق حتى إذا اتى نصف الطريق اتاه الموت .
فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله عزوجل وقالت ملائكة العذاب انه لم يعمل خيرا قط فأتاهم ملك في صورة آدمى فجعلوه بينهم فقال قيسوا ما بين الارضين (فالى أيهما كان ادنى فهو له فقاسوا فوجدوه ادنى إلى الارض)( ).
لقد أختتمت آية البحث بالإنذار مما بعد الموت، وجاءت الآية لتذكير المنافقين والناس جميعاً بما بعد الموت من الحساب .
وحيث يبدأ الجسد بالبلى بعد دخوله القبر ، ويأخذ الدود بالعبث والأكل فيه إلا من شاء الله حفظه وسلامته ، وهذا الدود ليس من الأرض إنما من ذات جسد الإنسان بعد مغادرة الروح له ، لذا يستحب الإسراع في الدفن ، وأول ما يبدأ التعفن بالبطن والفرج وهما العضوان الأكثر فتنة وإفتتاناً في الدنيا ، ثم الأعضاء الرخوة في البدن من الكبد والطحال والأمعاء، ويأخذ الجسد بالتحول إلى اللون الأخضر ثم ينتفخ الوجه وعموم الجسد، ولا يبقى من الإنسان إلا عظمة العصعص ، وهو أساس البدن ، ومنه يركب الإنسان عند بعثه .
(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “كل جسد ابن آدم يبلى إلا عَجْبُ الذَّنَب، منه خلق ومنه يركب)( ).
(عن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام قال: عجبت للمتكبر الفخور كان أمس نطفة وهو غدا جيفة!
والعجب كل العجب لمن شك في الله وهو يرى الخلق ! والعجب كل العجب لمن أنكر الموت وهو يرى من يموت كل يوم وليلة !
والعجب كل العجب لمن أنكر النشأة الاخرى وهو يرى الاولى ! والعجب كل العجب لعامر دار الفناء ويترك دار البقاء)( ).
وفي قصة البقرة التي أمر الله عز وجل موسى عليه السلام أن يذبحها بنو اسرائيل لمعرفة القاتل عندما احضروا قتيلاً عنده لا يعرف قاتله ، كما في قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا] ( ) أخذوا قطعة من البقرة من عجب الذنب فضربوا المقتول بها فأحياه الله وأخبر عن قاتله .
وكل آية في القرآن حجة على المنافقين لأنهم يتلون آيات القرآن ويحضرون الصلاة .
ومن الإعجاز أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحرص على إمامة المسلمين بنفسه في الصلاة ويقوم بتلاوة آيات القرآن في الصلاة وعلى المنبر وفي المجالس ، وعلى الراحلة في حال السفر وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ]( ).
ومن آيات القرآن ما فيها تذكير بالموت وما بعد الموت لتكون زاجراً للمنافقين عن النفاق وعن القعود ، وهل يحاسب المنافقون يوم القيامة على قعودهم ، وقولهم للشهداء ، لو أطاعونا ما قتلوا ، الجواب نعم.
ومن خصائص الآية القرآنية أنها حجة ، لذا فان قوله تعالى [قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ..]( ) تخويف ووعيد للمنافقين، وهل يشمل الذين كفروا، الجواب نعم ،فاذا كان الوعيد بالموت وما بعده يتوجه إلى الذين قعدوا عن الدفاع فمن باب الأولوية القطعية توجهه إلى الذين كفروا .
ومن معاني آية البحث وجوه :
الأول : فأدرءوا عن أنفسكم كيفية الموت التي كتبها الله عز وجل عليهم.
الثاني : فأدرءوا عن أنفسكم قبض أرواحكم المقرون بسخط الله على المنافقين .
الثالث : فأدرءوا عن أنفسكم الموت وما دمتم لا تستطيعون فأدرءوا الموت عن أنفسكم فتوبوا إلى الله ، وكفوا عن الإستهزء بالمؤمنين وعن بث الأراجيف في المدينة .
الرابع : فأدرءوا عن أنفسكم ما بعد الموت من العذاب .
ومن الآيات بيان الله عز وجل لما يلقاه المنافقون في الآخرة من سوء العاقبة ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( ).
لقد تكررت مادة (قال) في الآية مرتين مع التباين بينهما، إحداهما قول مكروه صادر من المنافقين , وآخر أمر من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قل) ليكون من إفاضات الآية إنقطاع المنافقين وإنعدام ترتب الأثر على قولهم لإخوانهم[لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] إلا الأثر الذي يكون حجة على المنافقين وخزياً لهم , وهو الذي يتجلى بأمر الله عز وجل إلى النبي[قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ] الذي هو باق إلى يوم القيامة من جهات:
الأولى : ورود الأمر من الله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في آية البحث.
الثانية : سلامة القرآن من التحريف والتبديل والزيادة والنقص.
وهل بقاء أمر الله عز وجل للنبي(قل) من أسباب هذه السلامة الجواب نعم، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثالثة : تلاوة المسلمين لآية البحث كل يوم من أيام الحياة الدنيا، وفي مشارق الأرض ومغاربها.
لقد إنقضت أيام عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقين في الدنيا، ولكن إحتجاج المسلمين يلاحقهم كل يوم بقوله تعالى[فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ويكون تقديره في المقام على وجوه:
الأول : هلا درأتم عن أنفسكم الموت.
الثاني : لم تدرءوا عن أنفسكم الموت.
الثالث : إذا كنتم عاجزين عن درء الموت عن أنفسكم، فلماذا السخرية بالشهداء، والسعي للقعود من الجهاد.
وهل يتصل ويستمر الإحتجاج على المنافقين في عالم الآخرة، الجواب نعم، ليشترك فيه الشهداء أنفسهم، ويكون الإحتجاج حينئذ قولياً وفعلياً، بلحاظ الكرامات التي يفوز بها شهداء أحد في عالم الجزاء، وتشترك به جوارح ذات المنافق لتكون حجة عليه .
وعن أنس بن مالك قال: ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو تبسم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا تسألوني من أي شيء ضحكت ؟ .
فقال : « عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة ، يقول : يا رب أليس وعدتني أن لا تظلمني ؟ قال : بلى ، قال : فإني لا أقبل علي شهادة شاهد إلا من نفسي ، فيقول : أو ليس كفى بي شهيدا وبالملائكة الكرام الكاتبين ؟ قال : فيردد هذا الكلام مرات فيختم على فيه ، وتكلم أركانه بما كان يعمل فيقول : بعدا لكم وسحقا ، عنكم كنت أجادل)( ).
وتحتمل الآية بلحاظ الإيمان وجوهاً :
الأول : الإتحاد الموضوعي فذات الخطاب والتحدي في آية البحث يتوجه إلى المؤمنين [قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ] ليكون نوع طريق للتقوى .
الثاني : يضاف إلى الخطاب في الآية عجز المؤمن عن درء القتل عنه في المعركة ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ] ( ).
الثالث : التباين في الخطاب ، فيأتي تذكير المؤمنين بالموت ولكن ليس على نحو التحدي ، كما في قوله تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ]( ) , قال تعالى[فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى]( ).
الرابع : بيان فضل الله في إرجاء الموت عن المؤمن ومحو الأجل العاجل عنه ، قال تعالى [ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ]( ) أي أجل يمحوه الله وأجل محتوم ومستوفى ليجني المؤمن من الصالحات ويكتنز الحسنات .
والمختار هو الثالث والرابع أعلاه ، وكأن الآية تقول إن المسلمين يعلمون بأنهم لا يدرءون عن أنفسهم الموت وهم يستعدون له ومن يقتل منهم يكون حياً عند الله مخلداً في النعيم ، وفيه رد لشماتة المنافقين ويسلم المسلمون بأن الموت يأتي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه خاتمة حياة كل نبي .
قال تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] ( ) .
وفيه تصد متقدم زماناً للمنافقين ومنع لإراجيفهم عندما ينتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى فلا يقولون : لو كان نبياً ما مات ، ليكون من إعجاز القرآن تقدم الحجة والبرهان والرد على أعداء الله ورسوله قبل أن يأتوا بالمغالطة والشك والريب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) إذ انقطع التنزيل عند مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا فجاءت الآية أعلاه بخصوص حال ومسألة قد تحدث بعد إستشهاده صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معاني آية البحث أن المهاجرين والأنصار بخروجهم إلى معركة أحد تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دفعوا عن المنافقين الموت ، ويكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : قل فأدرءوا عن أنفسكم الموت يوم معركة أحد كما درأه عنكم الذين قتلوا في سبيل الله .
الثاني : قل فأدرءوا عن أنفسكم الموت بالخروج للدفاع .
الثالث : قل أعينونا بدفع القتل عن أنفسكم ، بلحاظ أن النسبة بين الموت والقتل هي العموم والخصوص المطلق ، فالموت أعم ، وكل قتل هو موت وليس العكس .
الرابع : قل فأدرءوا عن أنفسكم الموت على الفراش بينما يعود المجاهدون من سوح القتال سالمين غانمين .
وتضمنت الآية الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتحدي المنافقين بالموت وعجزهم عن دفعه ، وهل يختص الأمر به أم أنه أعم ، الجواب هو الثاني فجاء ذكر الموت من باب المثال والبرهان الحاضر الجلي .
وفي الآية مسائل :
الأولى : الإذن من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالإحتجاج على الذين نافقوا .
الثانية : الإحتجاج على الذين كفروا بعجزهم عن درء الموت عن أنفسهم بلحاظ أنه إنتقال إلى عالم الحساب والجزاء .
الثالثة : دعوة المسلمين للإرتقاء في باب الجدال والإحتجاج وإقامة البرهان على الذين نافقوا والذين كفروا ، قال تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ) .
وفي الآية شاهد على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف إنما أقام الله صرحه بآيات القرآن، وسلاح البرهان ، فحتى الذين قصروا من المسلمين لم يكرهوا على الخروج إلى القتال مع أنه في سبيل الله وكذا الذين فروا من المؤمنين من القتال يوم معركة أحد لم يوبخهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ]( ).
وهل في الآية أمن للذين نافقوا من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدم العقوبة الآنية على قعودهم .
الجواب نعم، فلم تتضمن آية البحث الوعيد في الدنيا ، ولا التخويف والتهديد بالقتل، إنما أنذرتهم بالموت الذي يأتي لكل إنسان مسلماً كان أو غير مسلم، وفيه غاية اللطف ، لقد جاء الأمر من عند الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالإغلاظ على الذين نافقوا .
وهل يمكن حمل الموت في الآية على إرادة الكفر والجحود كما في قوله تعالى[أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( )، لبيان أن المنافقين عاجزون عن التنزه عن النفاق، والتخلص من إستحواذ الكفر على نفوسهم .
الجواب نعم، ولكنه في طول المراد بالأصل وهو الموت الذي يعني زهوق الروح , قال الله في ذمهم[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ]( ).
وفي الآية وعيد للذين نافقوا ، ودعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بتخويفهم وإنذارهم ليس فقط بالموت وحده ، إنما تخويفهم بأن الله عز وجل يعجل بوفاتهم ويقبض أرواحهم في الفراش إنتقاماً منهم ، فما أن يرجع المهاجرون والأنصار من معركة أحد حتى تصل أسماعهم بأن فلاناً وفلاناً من المنافقين ماتا من غير علة وآخر لدغته الحية , وآخر سقط عليه الجدار .
وهل قام الملائكة الذين نزلوا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في معركة أحد بايذاء وضرب الذين نافقوا لقعودهم وصدودهم عن سبيل الله .
الجواب لا ، إنما نزلوا في ميدان المعركة لدفع الذين كفروا ، قال تعالى [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( ) .
ففي ختام الآية وعيد للذين نافقوا بتقريب آجالهم وسوء عاقبتهم ، وفيه حث لهم على التوبة والصلاح ونبذ النفاق الذي أكدت آية البحث أنه لا يجلب لأصحابه نفعاً .
ومن إعجاز آية البحث أنها تحتج على الذين نافقوا بأن أجل الشهداء ثابت في ذات اليوم وإن لم يأتي جيش المشركين للقتال ، وحتى لو لم تقع هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة ، إنما هو الأجل المنخرم ، بسبب جور وظلم الذين أشركوا لذا تعقبت آية حياة الخلود هذه الآية بقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ).
لبيان أن الذين كفروا حرموهم مما تبقى من أيامهم في الحياة الدنيا وشمت بهم الذين نافقوا فرزقهم الله عز وجل الخلود بما يفوق عالم الزمان وأفراده الطولية .
وعندما دعى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأعراب والمنافقين إلى أداء العمرة في السنة السادسة حيث تم صلح الحديبية تثاقلوا وخافوا على أنفسهم ، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لا يرجعون إلى المدينة ، فصحيح أن عددهم كان ألفاً واربعمائة إلا أنهم لم يخرجوا باسلحتهم ودروعهم وأقنعتهم ، إنما كان معهم سلاح الراكب وهو السيف، وقال تعالى [بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا] ( ).
ومن صفات المنافقين وأسباب خذلانهم وتخاذلهم أنهم لم يعرفوا الله عز وجل بعظيم قدرته وسلطانه ، وإرادته في نصر رسوله الكريم والمؤمنين ، فجاءت الآية التالية لبيان حال النعيم التي صار إليها شهداء أحد ، ليكون ن فضله تعالى نوع ضمان وطمأنينة لجميع المؤمنين وأن الله يجازيهم على صبرهم وجهادهم ، قال تعالى [وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ] ( ).
لقد أنذرت آية البحث الذين نافقوا بالموت ، وهل يصح هذا المعنى إنذاراً للمؤمنين ، الجواب لا .
(عن سهل بن سعد قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا محمد ، عش ما شئت فإنك ميت ، واعمل ما شئت فإنك مجزى به ، واحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل ، وعزه استغناؤه عن الناس) ( ).
ليكون التذكير بالموت في موضوعه وأثره متبايناً بين المؤمنين من جهة وبين الكفار والمنافقين من جهة ، أما المؤمنون فيتلقون التحدي في قوله تعالى [فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ] من جهات :
الأولى : إنه مادة للإحتجاج مع الذين نافقوا ، وباب للجدال ليكون من معاني قوله تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ) أن من منافع الجدال مع الذين كفروا والذين نافقوا أموراً :
الأول : إقامة الحجة على الكفار والمنافقين .
الثاني : كفاية شر ودفع ضرر الذين كفروا والذين نافقوا ، ليكون الجدال من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) لبيان أن الجدال يمنع من زيادة شدة أذاهم للمؤمنين .
الثالث : اشغال المنافقين بأنفسهم ، وبعث الخوف في أنفسهم من أمور :
أولاً : طرو الموت .
ثانياً : مغادرة الدنيا بحال النفاق .
ثالثاً : عدم وجود عمل صالح عند المنافقين ينفعهم في الآخرة .
رابعاً : ملاحقة الآيات القرآنية التي تتضمن الوعيد للمنافقين لهم ، كما في قوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا] ( ).
خامساً : إلقاء الخلاف والفرقة بين المنافقين أنفسهم ومنعهم من الإتحاد والإجتماع على الإضرار بالمؤمنين وعوائلهم .
سادساً : تنمية ملكة الجدال والإحتجاج عند المؤمنين ، بحيث يخشى االمنافق إظهار ما يبطن من مفاهيم الكفر , وضروب الغضاضة بحضرة المؤمنين .
الرابع : بيان مرتبة السمو والرفعة التي يتصف بها المؤمنون بطاعة الله والإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الجدال بالأحسن والأبلغ والذي يجذب الناس إلى مراتب الإيمان .
الخامس : إرتقاء المسلمين في سلم المعارف الإلهية من جهات :
الأولى : التفقه في مسائل الجدال والإحتجاج .
الثانية : تمييز المسلمين بين مراتب الجدال وهي بلحاظ الآية أعلاه من سورة النحل على وجوه :
أولاً : الجدال بما ليس فيه جرح وتعريض وذم بالخلف أو السلف .
ثانياً : الجدال والمناظرة بالحسن الخالي من الأذى للمجادل الظاهر والخفي .
ثالثاً : الجدال بالأحسن والأفضل ، وبيان الحق بصيغ الرفيق واللين ، وقال الثعلبي (قال المفسرون : أعرض عن أذاهم ولا تقّصر في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق .
ونسختها آية القتال {إنَّ رَبَّكَ هُوَ أعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ وَإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِه}.)( ).
ولكن الجدال نوع مفاعلة كلامية من وجوه :
الأول : المجادل بكسر الدال .
الثاني : المجادَل بفتح الدال .
الثالث : موضوع ومادة الجدال .
الرابع : الغاية من الجدال .
والمختار أن الآية محكمة غير منسوخة وهي من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ( )] .
وكم من جدال دفع إقتتالاً ومسايفة .
وهل يشمل لفظ [بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ) الغايات من جدال النبي والمؤمنين للذين كفروا أم أن القدر المتيقن هو ذات الجدال .
بحث أخلاقي
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إرادة الإستقرار للمجتمع وتغشيه بمفاهيم المودة وإرتقاؤه إلى مراتب التفكر والتدبر والتعاون والتكافل وهو الذي تبعث عليه آية البحث . ومن خصائصها منع سيادة أسباب الفتنة في مسألة تتصف بوجود القابل لها وهي سقوط الشهداء في معركة أحد .
لقد أراد المنافقون تزكية أنفسهم فنزلت آية البحث لفضحهم وبيان قبيح فعلهم ، ومن خصائص الخلق الحميد أنه أصل وقواعد تتقوم بها حياة الأمم وتؤدى بها الفرائض ، وهي سد منيع دون العداوة والبغضاء ، وقد أشاع الذين كفروا الرذائل وأصروا على الكفر ، وسنن العصبية , فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لتثبيت الأخلاق الحسنة إلى يوم القيامة .
وجاءت آية البحث بالنصيحة والإرشاد ، وبيان قانون وهو جذب الناس إلى مقامات الإيمان ووقايتهم من النفاق بالخلق الحميد والإحتجاج اللطيف كما في قوله تعالى[قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ) .
لقد تحدث الذين نافقوا عن الشهداء بلغة الشماتة فجاءت آية البحث لترد على المنافقين بما يجعلهم ينشغلون بأنفسهم ويتركون المراء .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قال : أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام : يا خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مع الأبرار ، فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي ، وأن أسقيه من حظيرة قدسي ، وأن أدنيه من جواري)( ).
والخلق هو السجية والطبع ومنهاج السلوك وهو مرآة لما يبطنه الإنسان وهيئة مستقرة في النفس تترشح عنها الأفعال على نحو شبه تلقائي ، فأراد الله عز وجل للمسلمين والمسلمات أن يكون القرآن هو الأصل الذي يبتني عليه المسلمون نظام سيرتهم وسنخية أفعالهم ، وأن لا يصدرون إلا عنه فأخبرت آية البحث عن فوز المهاجرين والأنصار بأسمى مراتب الأخلاق بالدفاع عن النبوة والتنزيل .
وتضمنت ذم الذين امتنعوا عن هذا الدفاع واحتجوا عليه وأرادوا بث روح الفرقة بين المسلمين وإثارة الندم على النهج السليم والعمل الصالح الحكيم ، وهو الإستجابة لدعوة الرسول للدفاع عن التنزيل .
وهناك نوع برزخ بين الخلق والتخلق ، فالخلق ملكة والتخلق تكلف وتصنع لا يخلو من مراء ورياء ينكشف عند الشدة والمحنة ، فأراد الله عز وجل للمنافقين اللحاق بالمؤمنين في الخلق الحميد ، وعدم الإقامة على مفاهيم الضلالة التي منها يوجهون اللوم إلى الشهداء الذين ذبوا عنهم وحفظوهم وذريتهم بلباس الإيمان والتقوى ، وقال تعالى [وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا] ( ).
ولقد سعى رؤساء الكفر من قريش باشاعة الفسق والقتل ومحاربة الإسلام فاستحقوا الهلاك ، ولأن الله عز وجل أبى إلا أن يجعل رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )فانه تفضل وجعل هلاك كفار قريش على مراتب والحاق الذل بهم ليتعظوا .
فقد قُتل منهم سبعون في معركة بدر ، وأسر سبعون ، وكل من هذا القتل والأسر أذلهم بين الناس ، وكسر شوكتهم ثم جاءت معركة أحد لتكون خسارة المشركين فيها أكبر وأعظم من خسارة المسلمين , بدليل قوله تعالى بخصوص معركة أحد [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) .
والآية أعلاه حجة على الذين نافقوا بأن الخسارة والذل والهوان تلاحق المشركين , وأن المؤمنين يتنقلون من نصر إلى نصر خلف لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحيط بهم الملائكة مدداً وعوناً .
ومن معاني الإحتجاج في خاتمة آية البحث على المنافقين بعجزهم عن دفع الموت ، دعوتهم للصمت والسلامة من أثقال الذنوب .
(عن أبي الدرداء قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا الدرداء ألا أنبئك بأمرين خفيفةٍ مؤنتُهما عظيم أجرُهما ، لم تلق الله عز وجل بمثلهما؟ طول الصمت ، وحسن الخلق) ( ).
قوله تعالى [إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]
جاءت خاتمة الآية خطاباً موجهاً إلى الذين نافقوا ، ويحتمل بلحاظ جهة الصدور وجوهاً :
الأول : إرادة الخطاب من الله إلى الذين نافقوا .
الثاني : إتصال خاتمة الآية بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ] فتكون خاتمة الآية من ضمن إحتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الذين نافقوا .
الثالث : خاتمة آية البحث قانون كلي وإحتجاج يتعلق بأقوال وأفعال الذين نافقوا .
الرابع : إرادة تلقين المسلمين الإحتجاج على الذين نافقوا ، ليكون هذا الإحتجاج واقية من الإستماع لهم والإستجابة لدعوتهم للقعود والتراخي عند النفير ، ومن البراهين على أن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان دفاعاً محضاً عدم إمكان الإبطاء والتراخي عن النفير لصيرورة جيش الذين كفروا على أطراف المدينة , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
لقد كان جيشهم نحو أربعة أضعاف جيش المسلمين بعد إنخزال ثلثه بتحريض رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول , وكان عدد جيش المشركين يوم أحد ثلاثة آلاف رجل ، ترى هل كان رأس النفاق على إتفاق مع المشركين على خذلان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , لا يبعد هذا
وتحتمل نسبة وكثرة عدد جيش المشركين وجوها:
الأول : إنه أكثر من مجموع سكان المدينة رجالاً ونساءً.
الثاني : أ نه أكثر من عدد الرجال فيها.
الثالث : أنه أكثر من عدد المسلمين في المدينة من المهاجرين والأنصار الذين خرجوا للمعركة تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقاعدين والذكور والأناث بحيث لو خرج حتى القاعدين ومجموع النساء المؤمنات مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ لبقى عدد جيش المشركين أكثر من عدد المسلمين .
الرابع : عدد المسلمين والمسلمات وأبنائهم أكثر من عدد جيش المشركين الذي يبلغ ثلاثة آلاف.
الخامس : عدد المسلمين والمسلمات من البالغين أكثر من عدد جيش المشركين.
والمختار هو الخامس أعلاه، وكذا الرابع من باب الأولوية.
لقد خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد ألف من المسلمين قبل أن ينخزل ثلاثمائة في الطريق بتحريض رأس النفاق، ومن المستبعد أن يكون متر تخلف ألفان من ذوي الأعذار والمنافقين، نعم لو جمع المسلمون رجالاً ونساء لكان عددهم أكثر من جيش الذين كفروا.
وكان المسلمون والمسلمات وأولادهم أكثر من عدد جيش المشركين ، وفيه آية من جهات :
الأولى : بناء صرح الإسلام .
الثانية : رسوخ مبادئ الإسلام في المجتمع .
الثالثة :إتقان المسلمين أداء الفرائض والعبادات، وصيرورة مناجاتهم بذكر الله وتعاهد سنن النبوة ، وفي خطاب للمسلمين والمسلمات ، قال تعالى [وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ..] ( ).
الرابعة : إدراك الذين كفروا لحقيقة وهي قتال أهل المدينة رجالاً ونساءً لهم إن أرادوا غزوها وإقتحامها .
الخامسة : بعث اليأس في قلوب المشركين , وفي التنزيل[وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ]( ).
السادسة : صيرورة المدينة المنورة في عصمة من الكفر وسيادة مفاهيمه .
وهل هو من مصاديق وأسرار تبديل النبي صلى الله عليه وآله وسلم اسمها من يثرب إلى طيبة ، الجواب نعم .
وجاء ذات لفظ الإحتجاج [إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] في القرآن حكاية عن الذين كفروا والذين نافقوا كما قوله تعالى [وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ] ( ).
لبيان صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإخبار آيات القرآن بالحق، وتسليم المؤمنين بصدق الوعد من عند الله عز وجل .
بحث بلاغي
من أنواع البديع الإيغال، ويسمى أيضاً التبليغ والتتميم بأن يختتم الكلام بقاعدة أو بيان يتم المعنى دونه ، ولكنه يتضمن الفائدة الإضافية ، والتوكيد المعنوي والتذكير ، ويأتي الإيغال في الشعر ، وقافيته .
والإيغال لغة هو المشي بهمة وسرعة، والإمعان فيه ،وقال الأعشى يذكر الناقة :
(يقطع الأمْغَزَ المكوكبَ وخْدًأ … بِنواجٍ سريعةِ الإيغالِ) ( ).
ومن إعجاز القرآن خواتيم الآيات ، فكل خاتمة لآية قرآنية مدرسة في الفقاهة وعلم الكلام .
إذ تفيد خاتمة آية البحث تحدي المنافقين وبيان ركوبهم جادة الكذب والزيف عن عمد ودراية .
لقد جاء القرآن بعلم جديد وهو صيرورة الموت حجة وبرهاناً على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم الدفاع عن الإسلام .
ومن أسرار خواتيم آيات القرآن مجئ الخاتمة في آية تتضمن موضوعاً معيناً، مع إمكان تقديرها من جهات :
الأولى : في أول الآية القرآنية .
الثانية : في وسط الآية القرآنية .
الثالثة : في آيات قرآنية أخرى .
وهو من الأسرار في نظم وسياق آيات القرآن والمواعظ المقتبسة منها .
وقد ورد قوله تعالى [فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ) بلحاظ أن الذي يقر بالآخرة ونيله الثواب والأجر فيها ، يكون الموت أحب إليه لأنه واسطة ونوع طريق للنجاة من الأذى والإبتلاء في الدنيا .
لقد اختار المنافقون الحيطة والحذر من القتال وامتنعوا حتى عن الدفاع عن أنفسهم ، فجاءت خاتمة آية البحث لبيان أن الحذر لا يصرف القدر وأنه لا ينفع مع الذين كفروا من قريش وحلفائهم وأعوانهم الذين لا يرضون إلا بسفك الدماء وإزهاق الأرواح وإشاعة الفجور وطمس الحق والحقائق ، ولكن[ يَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ]( ) برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإقامة الصلاة والفرائض العبادية الأخرى .
لقد طغت عبادة الأوثان في الجزيرة ووصلت إلى البيت الحرام وأشركها الذين كفروا حتى في التلبية التي هي عبادة خالصة لله عز وجل .
وكانت إفاضة مزدلفة لبني زيد من عدوان من مضر ، فلا يتوجه الحجاج من مزدلفة إلى منى حتى يأذنوا لهم ، (وكان آخر من تولاه منهم أبو سيارة عميلة بن الأعزل) ( ) العدواني ، وكان يفيض على حمار وليس على ناقة أو فرس ، لبيان حال العز والثقة التي هو فيها ، وأنه لا يخشى الفرار من أحد .
وقيل أن حماره عاش أربعين سنة من غير أن يصيبه عارض ، وصار من أمثالهم (أصح من حمار أبي سيارة ) ومتوسط عمر الحمار هو أربعون سنة ، وقيل كانت له أتان عوراء
(لاهم مالي في الحمار الأسود … أصبحت بين العالمين أحسد) ( ).
وقال الشاعر :
(نَحْنُ دَفَعْنَا عَنْ أَبِي سَيّارَهْ … وَعَنْ مَوَالِيهِ بَنِي فَزَارَهْ
حَتّى أَجَازَ سَالِمًا حِمَارَهْ … مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَدْعُو جَارَهُ) ( ).
والمراد من الموالي في المقام أبناء العمومة .
وكان أوان الإجازة للإفاضة من منى بأن يأتي أبو سيارة وينظر إلى أعالي جبل تبير إلى أن تطل عليها أشعة الشمس الأولى :
فينادي : أشرف تبير ، كيما نغير .
ثم يأذن للناس بالإفاضة من مزدلفة .
وكانت قريش تفرض على الحاج الصرورة الذي يحج لأول مرة خلع ملابسه لأنها تدنست من الآثام التي ارتكبها ، ولبس ملابس خاصة بالحمس وهم قريش وحلفاؤها وكنانة وخزاعة , فالذي يحج من غيرهم عليه أن يخلع ثيابه ويطوف بالبيت عرياناً رجلاً أو امرأة .
أي الناس في الطواف في البيت على أقسام :
الأول : أحمسي يطوف بثيابه .
الثاني : من غير الحمس يطوف بالثياب الخاصة بالأحمس سواء إجارة أو عارية .
الثالث : الذي من غير الحمس , ويسمون الحلة الذين لا يجدون ثياب الأحمس ، وهم على شعبتين :
الأولى : الذي يطوف عرياناً ، رجلاً كان أو امرأة ، فنهى الله عز وجل عنه , وقال سبحانه [خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ] ( ).
الثانية : الذي يطوف بثيابه ولكن عليه أن يلقيها ويخلعها بعد طوافه بها، ويحرم عليه وعلى غيره لبسها .
(وكانت العرب تسمى تلك الثياب اللقي قال بعض الشعراء …
كفى حزنا كرى عليه كأنه … لقي بين أيدي الطائفين حريم) ( ).
وكان الحمس أي قريش ومن والاها يشددون في دينهم ويتقيدون بأمور عند النسك منها :
الأول : عدم دخولهم البيوت من أبوابها إلى أن جاء الإسلام ونهاهم كما في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) .
الثاني : عدم سلي السمن ، ولا إدخار اللبن .
الثالث : الإمتناع عن الحيلولة بين الرضيع والثدي إلى أن يعافه .
الرابع : عدم جز الشعر .
الخامس : الإمتناع عن قص الأظافر .
السادس : ترك الدهن .
السابع : إعتزال النساء .
الثامن : ترك الطيب والعطر .
التاسع : إجتناب أكل اللحم .
العاشر : ترك لبس الوبر والصوف والشعر في الإحرام .
فكان الإسلام حاجة في التلبية الخالية من الشرك ، وأوقات أداء المناسك، وفي اللباس وما فيه من إكرام وفد الحاج وإنقطاعهم إلى الله عز وجل ، أما في التلبية فقد كان لكل قبيلة تلبية خاصة تتصف بأمور :
الأول : ورود لبيك اللهم لبيك في التلبية العامة .
الثاني : ذكر اسم القبيلة في التلبية وكأنه من التفاخر والتباهي في المناسبات الكبيرة .
الثالث : ذكر اسم الوثن والصنم الذي تتزلف به القبيلة .
ويقف أحدهم في باب المسجد الحرام ويقول : من يعير مصوناً ؟ من يعير ثوباً ، فان لم يجد ألقى ثيابه خارج المسجد ودخله ليطوف عرياناً يبدأ بالصنم أساف فيستلمه ثم الحجر الأسود ثم يطوف بأن يجعل البيت الحرام على يمينه أي عكس الطواف زمن إبراهيم وطواف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
وإذا أكمل سبعة أشواط استلم الركن ثم استلم الصنم نائلة وتكون خاتمة طوافه ، فيخرج فيجد ثيابه كما هي لم يتعرض لها أحد فيأخذها ويلبسها ، وإذا أراد أن يطوف مرة أخرى فانه يطوف بثيابه ولا يخلعها .
وأنساف ونائلة صنمان نصبا في البيت الحرام يتقرب إليهما العرب في الطواف باغواء من ابليس ليفسد عليهم دينهم ، وليكونوا مردة جاحدين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته ، لذا قيل أن قريشاً هي التي تقدس هذين الصنمين وتحلف بهما، ولم تكن القبائل الأخرى تتقرب إليهما أو تطوف بهما , قال تعالى[اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ]( ).
وجاءت الأخبار بأن أساف بن بغي ونائلة بنت وائل وهما من جرهم ، وقد تعشقها وهما في اليمن ، فجاءا إلى مكة حجاجاً ، ودخلا الكعبة فوجودا خلوة في البيت , ففجر بها في الكعبة .
فمسخهما الله حجرين ، فقام الناس بنصبهما على الصفا والمروة للإتعاظ بهما.
وطال الزمان فأتخذوهما عند بئر زمزم ، وصارت قريش تنحر عندهما، وفي رواية إن انسافاً قبال الحجر الأسود ، ونائلة عند الركن اليماني وهو الذي يفيده الخبر أعلاه في كيفية الطواف أيام الجاهلية.
ولا تعارض بين الأخبار فقد كانا عند الصفا والمروة ، ثم نقلهما عمرو بن لحي إلى الكعبة وجعلهما عند زمزم ثم نقلا إلى المطاف ، ونصبوا عند الصفا صنماً يقال له (مجاور الريح) ونصبوا على المروة صنماً آخر يسمى (مطعم الطير) .
و(عمرو بن لحي بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر بن مزيقيا بن ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب ابن يعرف بن قحطان).
وكان عمرو بن لحي وأهل مكة على دين ابراهيم ، ولكنه خرج إلى الشام ، ونزل البلقاء فرأى قوماً يعبدون الأوثان وسألهم عنها فقالوا نستنصر بها على عدونا فيأتينا النصر ونستشفي بها من المرض ، فأخذ منها واحداً وهو هبل ونصبه بالبيت الحرام ليكون أول من بدّل في دين ابراهيم ، وذكرت أخبار عديدة في استيلاء خزاعة على البيت سنتعرض لها إن شاء الله .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لأكثم بن أبي الجون الخزاعي: يا أكثم، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قُصبة في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به. فقال أكثم: يضرني شبهه يا رسول الله؟.
قال: لا، إنك مؤمن وهو كافر، وإنَّه كان أول من غير دين إسماعيل عليه السلام، فنصب الأوثان، وسيب السائبة، وبحر البحيرة، ووصل الوصيلة، وحمي الحامي)( ).
ترى ما هي الصلة بين عبادة الأوثان والنفاق ، الجواب للأوثان وعبادتها موضوعية بنماء النفاق وحصوله وعلة النفاق هي عدم تمكين الإيمان من القلب وصعوبة تدبر المنافق بالمعجزات واستقراء قوانين التوحيد منها ، ودلالتها على بطلان الشرك .
علم المناسبة
ورد لفظ [إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ثماني وعشرين مرة في القرآن ، وفي هذا العدد مدرسة في علم الكلام والإحتجاج ومصداق لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بأن يتفضل الله عز وجل ويحتج بنفسه أو يأمر رسوله والمسلمين بالإحتجاج على الذين كفروا والذين نافقوا لهدايتهم إلى سواء السبيل ، وأن لم يتوبوا بصيغة الإحتجاج فان المسلمين يتعظون منها ، ويتخذونها مناراً وضياءً في سبل الصلاح والإصلاح .
ولما احتجت الملائكة على جعل الإنسان[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) لإفساده وسفكه الدماء تفضل الله وعلّم آدم الأسماء ثم تحدى الملائكة بعجزهم عن الإخبار عنها بقوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
ولم يرد لفظ [بِأَسْمَاءِ] في القرآن إلا في الآية أعلاه فاستجاب الملائكة لله وإلتجأوا إلى التسبيح والثناء على الله عز وجل ، وبادروا إلى السجود إلى آدم حالما أمرهم الله عز وجل ، بينما توجه ذات الإحتجاج إلى الذين نافقوا والذين كفروا فلم يتعظوا ، وكان حجة عليه ، لتكون قصة خلق آدم وإقامته القصيرة في الجنة موعظة للمسلمين والناس جميعاً ، وفي إستجابة الملائكة دعوة للناس جميعاً للإستجابة عند نزول الإحتجاج[إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] وعند تلاوته من قبل المسلمين .
وليس من كتاب وطريق يتضمن معاني هذه الموعظة بأبهى صيغة مثل القرآن ولتترشح عنه مسائل :
الأولى : حاجة الناس وإلى يوم القيامة إلى القرآن وآياته .
الثانية : موضوعية الإحتجاج في حياة الناس .
الثالثة : إتخاذ الإحتجاج النازل من السماء قانوناً وسنة ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) صدور المسلمين والمسلمات عن الإحتجاج القرآني .
الرابعة : الإحتجاج القرآني واقية من الزيغ , وسلاح ضد النفاق .
الخامسة : فيه دلالة على حفظ القرآن من التحريف , وحاجب دون طرو الزيادة أو النقيصة عليه .
السادسة : بيان معجزة لوجوب تلاوة المسلم القرآن في الصلاة كل يوم، لتكون هذه التلاوة تجديداً للإحتجاج على الكفار والمنافقين ، وإختيار طائفة منهم التوبة والإنابة وإنتفاع المؤمنين أنفسهم من هذه الإحتجاج .
وورد لفظ[إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] في بدايات سورة البقرة لأنه مدرسة مستقلة , وبرهان ودليل يدعو إلى عبادة الله والتصديق بالنبوة والتنزيل ، إذ ورد قوله تعالى [وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ) .
ليكون الإحتجاج على الذين كفروا مقدماً في نظم القرآن على الإحتجاج على الذين نافقوا .
وورد لفظ [إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] في سورة آل عمران ثلاث مرات( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn