المقدمة
الحمد لله حمداً كثيراً دائماً متصلاً في أفراد الزمان الطولية كلها، الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم قدرته، وتوالي عفوه ومغفرته بعد أن منّ بالهداية والإيمان , وفي التنزيل[بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ).
الحمد لله في السر والعلانية على نعمة وقاية المؤمنين والمؤمنات من آفة النفاق ، وليس من حصر لأسباب وطرق هذه الوقاية ، ومنها تلاوة آيات القرآن وأداء الصلاة والفرائض الأخرى في أوقاتها .
الحمد لله ملء السماوات والأرض وما بينهما ، الحمد لله الذي خلقهن بالكاف والنون، قال تعالى[وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ]( ).
الحمد لله الذي جعلنا نعجز عن إحصاء النعم التي تفضل ويتفضل بها على الواحد منا، وعلى الجماعة , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
الحمد لله الذي جعل نزول الآية القرآنية نعمة متعددة , وإحساناً متصلاً ورحمة للأحياء والأموات، وموضوعاً للإقالة والتدارك، وهو من مصاديق الصراط في قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
ومن أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة للآية أعلاه على نحو الوجوب العيني عدة مرات في اليوم.
الحمد لله الذي لا يقدر على إجابة الدعاء غيره ، والذي تفضل ورغّب الناس بالدعاء وحثهم عليه، ووعد المؤمنين الإستجابة بقوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ), وفيه دعوة للناس جميعاً للهداية والسياحة في رياض الدعاء التي ليس لها حد أو منتهى .
الحمد لله في السراء والضراء , والشدة والرخاء , واليسر والعسر والذي جعل الحمد لله سبيلاً لمحو العسر والضيق , ومناسبة للتخفيف والرزق الكريم.
الحمد لله الذي أنعم علينا بصدور هذا الجزء وهو السادس والخمسون بعد المائة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن) في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً.
ويختص هذا الجزء بتفسير الآية الكريمة [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) وهي من بين الآيات التي يتوارث المسلمون والمسلمات حفظها والعلم بها والإحاطة بمضامينها ، وحضورها في الوجود الذهني عندهم ، والفخر بها في المنتديات والمجالس والتي جاءت إكراماً لشهداء أحد , ورداً على الذين نافقوا وأراجيفهم التي توثقها الآية السابقة بقوله تعالى [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ).
فلقد أطاع المؤمنون الله عز وجل ورسوله وخرجوا إلى النفير للدفاع عن بيضة الإسلام وتعاهد إستمرار نزول القرآن الذي ينحصر بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأولين والآخرين، ومن البشارات والوعد الإرتكازي على سلامته يوم معركة أحد نزول القرآن نجوماً وعلى نحو التدريج فتنزل آية واحدة أو آيات متعددة في اليوم ، سواء بلحاظ سبب نزول مخصوص لها أو عدمه، وقد تأتي بضعة أيام لا ينزل فيها قرآن ، وفي التنزيل [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى]( ).
ونزلت الآية أعلاه في مكة إذ أبطأ جبرئيل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلتين أو ثلاثاً .
لقد نزل القرآن على مدى ثلاث وعشرين سنة ومنه المكي والمدني ومجموع آيات القرآن هو ستة آلاف وثلاثمائة وست وعشرون آية .
(وروى ابن جريج أن جبريل لبث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اثنا عشرة ليلة , فقال المشركون : لقد ودّع محمداً ربُّه ، فنزلت: {ما ودعك ربك وما قلى}) ( ).
وابن جريج من تابعي التابعين (80-150 ) للهجرة وهو رومي الأصل ، وجده عبد لأم حبيب بنت جبير .
وكان يعتني بالأشعار الغريبة والأنساب ، فقيل له لو لزمت عطاء وتعلمت منه ، فلما جاء إلى عطاء ليتعلم , قيل له : قرأت القرآن ، قال لا ، قال : فأذهب فأقرأ القرآن ثم أطلب العلم ، فغاب مدة ثم عاد وسُئل قرأت القرآن أي بتدبر، ليكون مقدمة وأصلاً لطلب العلم , قال : نعم قيل له : تعلم الفريضة أي المواريث ثم أطلب العلم فذهب حتى تعلمها وعاد ليلزم عطاء سبع عشرة سنة.
ومجموع أيام سنوات التنزيل القمرية أعلاه هو 8165 يوماً وإذا قسمت على عدد آيات القرآن من جهة أوان نزولها تكون النتيجة هي نزول 3/1 أي آية وثلث الآية كل يوم، وقد ينزل شطر آية في يوم ثم ينزل شطر آخر منها في يوم آخر، كما في قوله تعالى[أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]( ).
لبيان قانون وهو الإتصال اليومي للتنزيل ، وبين نزول جبرئيل بالوحي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزوله بآيات القرآن عليه عموم وخصوص مطلق ، فالأول أعم ، وهو من فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وفيه بيان لمرتبة السنة النبوية ، بالإضافة إلى موضوعية مسائل :
الأولى : ضبط عدد ومضامين الآيات .
الثانية : إشتراك عدد من الآيات في سبب النزول .
الثالثة : الحاجة الآنية لتعدد الآيات النازلة .
الرابعة : تطلع المسلمين وعلى نحو يومي لنزول آيات القرآن، وكان بعضهم يسأل بعضاً هل نزلت اليوم آيات جديدة من القرآن , بغية التدارس والتباحث فيها .
الخامسة : الفصل والتمييز بين الوحي عامة وبين آيات القرآن خاصة.
السادسة : تنمية ملكة حفظ المسلمين لآيات القرآن.
الحمد لله الذي جعل العلوم المستنبطة والمسائل المستقرأة من آيات القرآن من اللامتناهي ، وهي متجددة بالذات والأصالة أي من غير حاجة للرجوع إلى الإكتشافات العلمية الحديثة ، والتي تكون تعضيداً للقرآن وشاهداً عقلياً حاضراً على صدق نزوله من عند الله، فالى جانب كون القرآن معجزة عقلية فإن تعضيده بالعقل والحواس والإكتشافات العلمية معجزة إضافية للقرآن، ودعوة لتعاهده وتدارسه والتدبر في معانيه ودلالاته، قال تعالى[كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
وفيه ترغيب للعلماء في مختلف العلوم ومن شتى المذاهب والملل للسياحة في مضامين القرآن ، والغوص في مكنون ذخائره ، وإستقراء الإعجاز في السنة النبوية من ثنايا رشحات القرآن .
وبلحاظ نظم هذه الآية والآيات السابقة فانها تتعلق بواقعة أحد التي جرت أحداثها في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة وتوافق سنة 624 ميلادية .
ولم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المعركة إلا بعد أن صار جيش الذين كفروا على أطراف المدينة ، وعند جبل عينين وجبل أحد ، هذا الموضع الذي صار في هذا الزمان ضمن الحدود الإدارية للمدينة المنورة , وتجاوزه عمرانها ليصبح موضع شهداء أحد جزء من المدينة.
وكأنهم أحياء مع كل جيل من أجيال المسلمين ، ومن الآيات زوار شهداء أحد أكثر من الذين يأتون لأهل المدينة الأحياء مجتمعين وفي كل سنة ،وضيافة الشهداء الأجر والثواب من عند الله لمن يزورهم لأنهم عند الله سبحانه .
وتلك معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد على حياتهم التي تذكرها آية البحث بقوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ) لتكون زيارة المسلمين والمسلمات للشهداء من رشحات حياتهم عند الله والشواهد اليومية الحاضرة عليها، بتقريب وهو ما داموا أحياء عند الله فانه سبحانه يجعلهم أحياء في الحياة العامة للناس.
(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ) ( ).
لتكون حياة الشهداء في أذهان الناس فرع حياتهم عند الله ، كما في حب الله تعالى للعباد الصالحين وحب الناس لهم بالتبعية , وحياة الشهداء عند الله من الشواهد على فوزهم بمرتبة سامية من حب الله لأنهم بذلوا أعز ما يملكون في سبيله وهي نفوسهم ، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( ).
ومن كنوز السنة النبوية قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بزيارتهم ، وفيه زجر للذي يتردد في هذه الزيارة ، ومنع من الإتيان بتأويل يحول دون زيارتهم، وقد عاب عليهم المنافقون خروجهم للقتال ، وإختيارهم الشهادة ، كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( ) ليتسالم المسلمون والمسلمات على زيارتهم , ولم يعب أحد زيارتهم مما يدل على إنقطاع سلطان وأثر المنافقين , وهل لدمائهم موضوعية بهذا الإنقطاع , الجواب نعم .
ويحرص أغلب وفد الحاج الذين يأتون من كل فج على زيارتهم بعد زيارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسجد النبوي الشريف.
ليكون من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] إختصاص الشهداء بأمور كريمة في الحياة الدنيا منها :
الأول : صيرورة قبور الشهداء أعلاماً .
الثاني : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بزيارة شهداء أحد لتكون زيارة المسلمين لهم من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ]( ) .
وعن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتى على المقابر قال السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع أسأل الله العافية لنا ولكم)( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتعاهد زيارتهم , ويجوز ذكر بعض الشهداء بالدعاء لهم أو السلام عليهم بالاسم مثل حمزة بن عبد المطلب عم النبي , ومصعب بن عمير , وعبد الله بن عمرو بن حرام .
وتستحب تلاوة آيات من القرآن عندهم خاصة آية البحث والآيات التي تخص معركة أحد.
الثالث : زيارة المسلمين لقبور شهداء أحد على مدار أيام السنة.
ومن شواهد هذا الإعجاز في آية البحث قيام وفد الحاج والمعتمرين بزيارة قبور شهداء أحد وشطر منهم يصعدون على جبل الرماة وارتفاعه عشرون متراً ويطل على قبورهم من جهة الجنوب ويبدو أقل إرتفاعاً مما كان يوم المعركة لتراكم الأتربة والغبار والطمى بسبب السيول .
وقد بُني على الجبل قبل نحو مائتي سنة مسجد , ومعه بعض البيوت ثم ازيلت في هذه الأزمنة ، وقيل كان اسمه جبل عينين ، وسبب تسميته جبل الرماة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضع عليه فرقة ممن يحسنون الرمي وعددهم خمسون ، وجعل عبد الله بن جبير أميرهم .
وأوصاهم بعدم ترك مواضعهم بأي حال ، ولكن أغلبهم تركوا مواضعهم عند رؤيتهم إنتصار المسلمين طمعاً بالغنائم فحملت خيالتهم على من بقي من الرماة , وهم أميرهم مع ثمانية منهم الذين أبوا مخالفة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو تأويله لخصوص بداية المعركة، و(عن ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا فلما غنم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأباحوا عسكر المشركين اكب الرماة جميعا في العسكر ينتهبون)( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : وهل من موضوعية لآية البحث في عمارة قبور شهداء أحد بالزيارة .
الثانية : ما هي موضوعية السنة النبوية في تعاهد المسلمين والمسلمات لزيارة قبور الشهداء .
أما الأولى , فالجواب نعم ، لإخبار الآية عن حياة الذين قتلوا في سبيل الله عنده سبحانه ، مما يدل بالدلالة التضمنية على سماعهم السلام والتحية في الزيارة .
ويحتمل ردهم السلام على من يزورهم وجوهاً :
الأول : لا يرد الشهداء السلام إلا أن يؤذن لهم .
الثاني : يقوم الشهداء بالرد على بعض الزوار دون بعضهم الآخر .
الثالث : لا يؤذن للشهداء برد السلام إلا في وقت مخصوص ، وفيه شعبتان :
الأولى : الذي يزور الشهداء في ذات الوقت المخصص يردون عليه دون غيره .
الثانية : يرد الشهداء السلام في هذا الوقت على من زارهم في النهار والليل .
الرابع : يرد الشهداء السلام على من زارهم لأنهم أحياء عند الله عز وجل والذي يدل بالدلالة الإلتزامية على كامل الحياة وأنهم يسمعون ويرون ويعقلون ويعلمون بما يجري لأصحابهم من باب الأولوية القطعية بالنسبة لحياتهم في الدنيا ، أي لما كانوا في الدنيا يعلمون بما يجري لأصحابهم فمن باب الأولوية علمهم به ، وهم عند الله عز وجل لعظيم فضله تعالى على من يكون حياً في حضرته وسلطانه المطلق .
والصحيح هو الأول والأخير للزيادة في إكرام الله عز وجل للذين قتلوا في سبيله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]( ) بلحاظ المعنى الأعم للآية وشمولها للمؤمن والكافر ، وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) ( ).
الرابع : صيرورة زيارة شهداء أحد مناسبة لاقتباس المواعظ والدروس والعبر .
الخامس : تجاوز بيوت وأحياء المدينة المنورة شهداء أحد لتكون مقبرتهم كالحي والمحلة المستقلة وسط بيوت المدينة، وليسوا في ناحية بعيدة عنها , لدمائهم الزاكية أثر في هذا التوسع الذي تشهده المدينة المنورة ، ولكن المنافقين لم ينظروا إلا لقتلهم في المعركة وغاب عنهم الأجر الدنيوي والأخروي لفقد وقتل الشهداء في المعركة .
لقد زحف المشركون نحو المدينة بجيش عرمرم , ليكون موضع نزولهم في أطرافها شاهداً يومياً غضاً على إصرارهم على الظلم وخزيهم , وليكون معلم قبور الشهداء وزيارة المسلمين لهم على نحو يومي من مصاديق قوله تعالى في ذم جيش مشركي قريش [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
ومن إعجاز القرآن تعدد الخطاب الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيه ، فمرة يأتي بلفظ (قل) وما فيه من الأحكام والأوامر , وأخرى بصيغة الجملة الخبرية أو الشرطية , قال تعالى [وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي] ( ).
ومدرسة (قل) في القرآن أعم من أن تحيط بها الدراسات ، وكل فرد منها علم مستقل بذاته ، وجاءت بأمور :
الأول : الإحتجاج على أهل الكتاب الذين في المدينة منها[وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا برْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( ) .
الثاني : تبكيت الكفار والمنافقين .
الثالث : الدعوة إلى البذل والتضحية في سبيل الله .
الرابع : الترغيب بالإيمان , والزجر عن الضلالة ومقدماتها, قال تعالى[وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا]( ).
الخامس : دفع الأذى والضرر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
ويأتي الخطاب من الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ [يَسْأَلُونَكَ] إذ ورد بهذا اللفظ خمس عشرة مرة، ويجتمع السؤال للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقول ، كما في قوله تعالى[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ]( ) وبصيغة الإستفتاء بلفظ[يَسْتَفْتُونَكَ]( ) وهو أرفع مرتبة من السؤال , لما في الإستفتاء من الإقرار بالنبوة وعظيم المنزلة .
ويأتي الأمر من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتوجه الى أهل الكتاب والأميين كما يأتي بخصوص الذين كفروا ليكون موعظة للناس جميعاً وطريقاً للتوبة والإنابة ، كما في تكراره في قوله تعالى[قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَ أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ * قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ * قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ]( ) .
إذ ورد لفظ (قل) في هذه الآيات أربع مرات ، ثم جاءت بعدها أربع آيات كل واحدة منها تتضمن لفظ (قل)( ).
وتتضمن الآية السابقة الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(قل) أي أن الله عز وجل يقول : يا محمد (قل) للذين نافقوا ليكون أعظم وأدوم قول في الحياة الدنيا ، إذ يتلو كل مسلم ومسلمة هذا القول في الصلاة اليومية الواجبة خمس مرات في اليوم وجوباً عينياً على كل مكلف رجلاً كان أو امرأة.
وتتجلى منافع هذا الوجوب بقانون وهو أن الصلاة حرب على النفاق .
لقد ابتدأت آية البحث بالنهي الموجه من عند الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص عدم الظن بأن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً , لتتضمن الإكرام من جهات :
الأولى : إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالفوز بشرف تلقي الخطاب من عند الله عز وجل.
الثانية : تزكية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتلقيه الأوامر والنواهي من عند الله سبحانه.
الثالثة : دلالة آية البحث بالدلالة التضمنية على تقيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأوامر والنواهي التي تأتي من عند الله .
الرابعة : إكرام الشهداء لما في الشهادة من أمور :
الأول : الشهادة للشهداء بأنهم قتلوا في سبيل الله .
الثاني : دعوة المسلمين إلى إكرام الشهداء .
الثالث : بيان غبطة وسعادة الشهداء في الآخرة .
الرابع : إبطال مقولة الذين نافقوا عن الشهداء باقتران قتلهم بخروجهم إلى معركة أحد ، ودلالة ما ورد في الآية السابقة[لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ) على إرادة الذين نافقوا وصف الموت بأنه أمر عدمي وأنه خسارة فتعقبتها آية البحث بالإخبار عن كون موت الشهيد طريقاً لخلوده في النعيم .
وتحتمل النسبة بين الذين قتلوا من المسلمين في معركة أحد وبين مضامين آية البحث وإرادة الحياة الأبدية في النعيم وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي فكل الذين قتلوا في معركة أحد من المسلمين هم أهل آية البحث وأنهم قتلوا في سبيل الله .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : الذين فازوا بالقتل في سبيل الله يوم أحد شطر من مجموع الذين قتلوا من جماعة وجمع المسلمين ، أو لا أقل هناك استثناء .
الثانية : الذين قتلوا في معركة أحد أعم من أن تكون نواياهم في القتال بقصد في سبيل الله .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك تشابه في وجه ومادة للإلتقاء بين عموم المسلمين الذين قتلوا في معركة أحد، وهناك مادة للإفتراق بينهم .
والصحيح هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه .
كما في حديث قزمان الذي قاتل يوم معركة أحد قتالاً شديداً وقتل سبعة أو ثمانية من المشركين، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول (إنه لمن أهل النار)( ).
ولم يصدر هذا القول من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إبتداء أو عند قتاله المشركين، ولكنه كان يقوله عندما يذكر قزمان بحضرته وقبل واقعة أحد ، فكانوا يستحضرون قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصه عند بذله الوسع وإظهاره الشجاعة في قتال المشركين فتحيروا من الأمر لما بينهما من التضاد في الموضوع المتحد .
ولكن الجراحات أثبتته فحمله المسلمون ونقلوه إلى دار بني ظفر ، وبالغوا في إكرامه لإستبساله في القتال .
وكانوا يثنون على بلائه في القتال وتوجهوا له بالبشارة بالسعادة الإبدية سواء بقي حياً أو مات من جراحاته وهذه البشارة وعمل المسلمين بها من مصاديق آية البحث وتأكيدها على لزوم إجتناب احتساب الشهيد ميتاً .
وقالوا (يا قزمان فأبشر، قال بماذا أبشر فوالله ان قاتلت الا على أحساب قومي ولولا ذلك لما قاتلت قال ابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة: فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهما من كنانته فقتل به نفسه)( ).
ليكون ختمه لحياته بظلمه لنفسه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وليدرك المسلمون في ساعة الشدة والضراء وتكالب الأعداء معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلمها إلا الله سبحانه .
وتكون من مصاديق قوله تعالى[عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا]( ).
وقد يخشى الإنسان إظهار هذا القول وبيان سوء عاقبة الذي يقاتل مع المسلمين في المعركة ضد الكفار بنية أهل الدنيا بأنه في النار فقد يتوب ويصلح أمره في أي ساعة من حياته ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطع بأنه في النار , وفيه تنبيه للمسلمين بموضوعية قيد [في سبيل الله]الوارد في آية البحث من وجوه :
الأول : إستحضار قيد [في سبيل الله] عند القيام بعمل ، لتنزيه أعمال المسلمين .
الثاني : تنمية ملكة قصد القربة في حياة المسلمين اليومية وأعمالهم الخاصة والعامة .
الثالث : منع الجهالة والغرر بتأكيد عدم الملازمة بين القتال مع المسلمين وبين نيل مرتبة الشهادة التي تتوقف على قصد القتال في سبيل الله .
الرابع : إرادة تهذيب أفعال المسلمين حتى في حال الحرب لأن الذي يقاتل في سبيل الله يجتنب التعدي ويحرص على التنزه عن الظلم، ويتجلى هذا المعنى بوضوح في قوله تعالى[وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]( ).
ليكون من معاني ومفهوم الآية أعلاه بلحاظ آية البحث نواهي متعددة وهي :
الأول : لا تقاتلوا إلا في سبيل الله .
الثاني : لا تقاتلوا حمية وعصبية .
الثالث : لا تتقاتلوا بينكم , لأن قيد في سبيل الله لا يصدق على قتال المسلم لأخيه , وجاء النهي في الكتاب والسنة عن القتل مطلقاً، قال تعالى[وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ]( ) .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك ، حرمت علي دماؤهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله .
وقال صلى الله عليه وسلم: لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والتارك لدينه ، والنفس بالنفس .
وقال لوفد عبد القيس حين قدموا عليه ، فأمرهم بالإيمان بالله ، وقال : أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم .
قال : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وأن تعطوا الخمس من المغنم)( ).
الرابع : اجتنبوا القتال ان لم يكن في سبيل الله .
الخامس : اتبعوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فانه لا يأمر بالقتال إلا إذا كان في سبيل الله , ابتداء واستدامة .
السادس : في القتال الذي ليس في سبيل الله الخسارة والندامة.
السابع : لا تكونوا كالذين كفروا ، وبينهم وبين المسلمين تضاد لأن المسلمين لا يقاتلون إلا في سبيل الله .
الثامن : لا تقاتلوا الذين لا يقاتلونكم ، بدليل قوله تعالى في الآية أعلاه [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ]( ).
وهل من معاني صيغة المضارع في الآية أعلاه ترك الذي قاتلكم في الماضي ثم اعتزل قتالكم ، الجواب نعم ، وهو من الشواهد على أن قتال المسلمين للدفاع وليس للإنتقام والثأر .
لقد كان استئصال مسألة الثأر عندما أرسل الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم معجزة حسية عظمى له لابد أن تتوجه الدراسات لها ، فلا يستطيع نظام أو قانون أو دولة أن تقضي عليه بسنوات معدودة أو عقود من السنين , ولكن القرآن والسنة خلّصا الناس منه ومن آثاره وأضراره .
نعم حدثت وقائع فردية كان فيها القصاص مع الذم للذي يثأر في الإسلام, وكان المسلمون محتاجين إلى القضاء على مسألة الثأر المتجذرة في النفوس والمجتمعات.
وقدم تقدم الحديث عما متعارف في مجتمعات العرب من كون الهامة طير وهو البومة تخرج من رأس القتيل وتنادي اسقوني اسقوني حتى يؤخذ بثأره، وقيل هي روح الميت .
(وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لَا عَدْوَى وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ خَلَقَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ فَكَتَبَ حَيَاتَهَا وَمُصِيبَاتِهَا وَرِزْقَهَا)( ).
ويحتمل المراد من حرف (لا) المكرر في الحديث أعلاه وجوهاً :
الأول : إرادة النهي .
الثاني : المقصود النفي .
الثالث : إرادة النهي والنفي معاً .
والمختار هو الأخير ، والنفي في المقام أعم وأبلغ والمراد من العدوى
إنتقال المرض للغير , وأما الصفر الوارد في الحديث أعلاه فالمراد منه ما كانت العرب تزعم بأن في البطن حية يقال لها الصفر إذا جاع الإنسان صارت تؤذيه ، وهي تعدي الغير ، فجاءت السنة بنفيه والنهي عن القول به.
وقد يخرج المسلم للدفاع في معارك الإسلام الأولى فلا يقاتل ولا يقتل ، ويرجع سالماً ولكنه يفوز بالثواب العظيم لأن قصده هو [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] أما قزمان فقد قاتل وقتل ولكنه لم ينل الثواب ، ولم يكن من أهل آية البحث , وهل فيه دليل على تخصيص السنة للقرآن , الجواب نعم , ولكن لا نقول بنسخ السنة للقرآن .
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ان الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى العباد ليقضي بينهم ، وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ، ورجل يقتل في سبيل الله ، ورجل كثير المال ، فيقول للقارئ : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟ قال : بلى يا رب قال: فماذا عملت فيما علمت ؟ قال : كنت أقوم به أثناء الليل وآناء النهار ، فيقول الله له : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت ، ويقول الله: بل أردت أن يقال : فلان قارئ ، فقد قيل ، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟ قال : بلى قال : فماذا عملت فيما آتيتك ؟ قال : كنت أصل الرحم ، وأتصدق ؟ فيقول الله : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت ، فيقول الله : بل أردت أن يقال : فلان جواد ، فقد قيل ذاك ، ويؤتي بالذي قتل في سبيل الله ، فيقال له : فيم قتلت ؟ فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك ، فقاتلت حتى قتلت ، فيقول الله : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت ، ويقول الله عز وجل له : بل أردت أن يقال : فلان جريء : فقد قيل ذلك)( ).
وفي خروج المسلم هذا دعوة للمسلمين للتنزه عن طلب غايات دنيوية في الخروج إلى ميدان المعركة بل في الإيمان وعمل الصالحات مطلقاً، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنما الأعمال بالنيات، ولكل أمرء ما نوى).
ومن الإعجاز في الآية السابقة دفاع الله عز وجل ورسوله عن جميع الذين قتلوا في معركة أحد من المسلمين وعدم حصر الدفاع عن خصوص الذين كانت نيتهم في القتال خالصة لوجه الله ، والسبب في هذا العموم أن الذين نافقوا أرادوا النيل من كل الذين قتلوا في معركة أحد وأنهم لم يطيعوهم ثم جاءت آية البحث بالتقييد فيما يخص الثواب العظيم للذين قتلوا في سبيل الله.
وتدل الآية السابقة بالدلالة التضمنية على أن المنافقين سعوا في تثبيط عزائم الصحابة والأنصار على نحو الخصوص , وهو من المغالطة في المقام وكأن الذين نافقوا أقاموا الحجة على الشهداء ، فتفضل الله عز وجل ونصرهم بكلامه وأبطل دعوى الذين نافقوا , وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ]( ).
وإبطال الله عز وجل للدعوى لا يختص بموضوعها إنما يشمل أموراً :
الأول : فضح وخزي أصحاب الدعوى الباطلة .
الثاني : دعوة المسلمين لأخذ الحيطة والحذر من الذين نافقوا وما يدّعون .
الثالث : الإنذار والوعيد لأصحاب الدعوى الباطلة .
الرابع : زجر الناس عن إدعاء الباطل وتزييف الحقائق .
الخامس : نقل الناس إلى مفاهيم سامية بصيرورة الصدق والحق هو الأصل في الدعوى .
السادس : موضوعية قصد القربة والعمل في سبيل الله في عالم الأقوال والأفعال .
ولا يختص هذا القصد بالقتال والقتل إنما هو عام يشمل ميادين الحياة كلها .
لقد جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية فيما يخص حال الشهداء في الآخرة ، وأنهم في ضيافة الرحمن ، ولكن المقاصد السامية منها ومنافعها على المسلمين والمسلمات في الحياة أعم من أن تنحصر بموضوع أو حكم أو طبقة أو جيل من المسلمين ، وهو من الآيات في الصلة والإرتباط بين الحياة الدنيا وعالم الآخرة ، وويتجلى في علوم :
الأول : قانون إنتفاع المسلمين في الدنيا من حياة الشهداء .
الثاني : قانون النفع العام من الشهداء يوم القيامة .
الثالث : قانون إنتفاع الذراري من حياة الشهداء .
وتبين آية البحث إرتقاء المسلمين في سلّم المعارف الإلهية , فحالما تخبر الآية عن حياة الشهداء عند الله تعالى أنهم يعلمون أنها حياة الخلد في النعيم تنقطع عندهم أسباب الأسى والحزن بفقد الشهداء .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) .
فيكون من مصاديق الآية أعلاه عدم حزن الذين آمنوا على فقد الشهداء أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه عموم الحزن على الذات والنفس .
المختار هو الأول , وهو من إعجاز القرآن وبيان التداخل بين آياته ولزوم إتساع علم التفسير لإستنباط المسائل العامة .
فان قلت تجلى التقييد في الآية أعلاه بأنه لا خوف عليهم أي على ذاتهم، والجواب هذا صحيح إلا أنه إنحلالي ، وتقديره على وجوه :
الأول : إن الذي آمن وعمل الصالحات لا خوف عليه ولا هو يحزن .
الثاني : إن الذي آمن وعمل الصالحات لا يحزن لأن الشهداء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
الثالث : إن الذين قتلوا في سبيل الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
لقد قيدت آية البحث قتل الشهداء السبعين في معركة أحد بأنه [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] وفيه نكتة وهي أن الذين خرجوا إلى معركة أحد لقتال العدو الكافر ، كانت نيتهم وقصدهم الخروج والقتال [فِي سَبِيلِ اللَّهِ]لوجوه :
الأول : تأكيد القرآن على صفة الإيمان التي يتصف بها جيش المسلمين إلى معركة أحد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) .
الثاني : وحدة الموضوع في تنقيح المناط والتشابه الإجمالي العام بين المؤمنين في المقام .
الثالث : كل واحد من جيش المسلمين كان عرضة للقتل .
الرابع : إصابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه بالجراحات البالغة .
لقد نزلت آية البحث بخصوص شهداء أحد وعظيم منزلتهم عند الله عز وجل ، ولكن موضوعها أعم إذ تشمل البشارة للمجاهدين يومئذ بالثواب العظيم ، والمنزلة الرفيعة وتجعلهم يتشوقون للقاء العدو الكافر ليتجلى التباين بين الفريقين برجحان كفة المسلمين بالسكينة التي تتغشاهم والوعد الكريم من عند الله عز وجل مع قلة عددهم والنقص في أسلحتهم , ووهن الذين كفروا لإمتلاء نفوسهم بالخوف لقوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) .
وتحتمل آية البحث بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : ليس من ملازمة بين آية البحث والخوف الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا .
الثاني : تبعث آية البحث الخوف في قلوب الذين كفروا في الحياة الدنيا.
الثالث : تبعث آية البحث ومصاديقها الخوف في قلوب الذين كفروا في عالم الآخرة .
والمختار هو الوجه الثاني والثالث أعلاه ، وهو من مصاديق تعدد ضروب الأثر بالآية القرآنية , ويتلو المسلم آية البحث لتملأ السكينة نفسه ، ويتسلح بالصبر والرضا لفقد الأحبة في معارك الإسلام الأولى الذين صاروا برزخاً دون إتساع مفاهيم الكفر والضلالة ، وتكون الآية سبباً لإزاحة الخوف من قلوب المسلمين من لقاء العدو المشترك ، وهو من أسرار إنزجار الكفار عن التآلف والتحالف لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان قلت قد حصل هذا التحالف بين قريش وكنانة والأحابيش .
والجواب هذا صحيح ، ولكنه لم يرق إلى مرتبة التحالف التام ، ولم تشترك فيه قبائل أخرى ، وأجتنب ملك اليمن الهجوم على المدينة ، كما امتنعت كل من دولة الروم وفارس عن غزو المدينة المنورة ، ومن خصائص الملوك الذين يرثون الملك عن آبائهم وليس لغيرهم سلطان عليهم إجتناب زج جنودهم في معارك غير محسوبة النتائج أو أن الثمرة من القتال ليست كبيرة بالإضافة إلى بلوغ أخبار رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدول العظمى ، وقيامه بارسال الرسائل إلى هرقل ملك الامبراطورية البيزنطية ، وكانت عاصمته القسطنطينية بواسطة دِحية الكلبي .
وإلى كسرى ملك فارس وهو خسرو الثاني بواسطة عبد الله بن حذافة السهمي وقيل كانت عاصمته تيسفون ، وهي المدائن .
وإلى المقوقس في مصر أوصلها حاطب بن أبي بلتعة ،وإلى ملك الحبشة ، وكان على المسيحية , المذهب اليعقوبي ، كما أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملك عمان أوصلها عمرو بن العاص .
وإلى ملك اليمامة بيد سليط بن عمرو ، وإلى ملك البحرين وهي الإحساء ونواحيها أوصلها العلاء بن الحضرمي , ورسالة إلى الأمير الحارث الغساني ملك تخوم الشام أوصلها شجاع بن وهب الأسدي ، ورسالة إلى ملك اليمن الحارث الحميري بيد المهاجر بن أمية المخزومي .
وأختلف في خروج الرسل على قولين :
الأول : أنهم خرجوا من المدينة المنورة في وقت واحد .
الثاني : خروجهم من المدينة تباعاً .
والمختار هو الثاني .
وعاد جميع الرسل إلى المدينة , لم يسجن أو يقتل أحدهم ، وهو معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ( السنة في الدعوة إلى الله )، وهذا الإصطلاح قسيم جديد نؤسسه , وهؤلاء الرسل أمناء على الرسائل ، ولا يحق لهم فتحها وكسر الختم الذي عليها .
ولما سأل المقوقس حاطب بن أبي بلتعة عن نتائج المعارك بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعدائه ، قال حاطب : الحرب سجال ، مرة يغلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخرى يخسر ، فقال المقوقس واسمه جريح بن مينا : وهل النبي يخسر ، فرد حاطب بما أسكت المقوقس إذ استشهد بصلب عيسى عليه السلام .
وذكرأن ( جبر بن عبد الله القبطي مولى أبي بصرة الغفاري هو الذي أتى من عند المقوقس بمارية القبطية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع حاطب ابن أبي بلتعة) ( ).
وقد اختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسله من الصحابة عن الوحي ، فكانوا يتصفون بخصال تناسب حالهم والجهة والملك الذي يتوجهون إليه ، فقد أرسل دِحية الكلبي إلى هرقل عظيم الروم ، وكان دحية جميل الصورة حسن الهيئة ، وهو فارس شجاع وعليم بأحوال الروم لتجارته معهم .
وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن حذافة إلى كسرى عظيم الفرس ، وكانت له معرفة باللغة الفارسية ، ويتصف بالشجاعة ورباطة الجأش ، وعدم الخشية من هيبة السلطان عند الدخول عليه .
وبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس، وكان على دراية بالنصرانية ، ويتصف بالقدرة على الحوار ومواصلة الجدال.
وعن ابن عباس فيه نزل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ..]( )، فحينما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم التوجه إلى مكة لفتحها ، قام حاطب بن أبي بلتعة بارسال رسالة إلى قريش يخبرهم بما يريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القيام به وأنه نوى غزوهم وبعث بكتابه مع امرأة .
فنزل جبرئيل عليه السلام ليخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر فبعث الإمام علي عليه السلام ومعه المقداد بن الأسود في أثرها ، وقيل كان مع علي الزبير بن العوام واسم هذه المرأة سارة وهي مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف ، أتت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتجهز لفتح مكة , فقال لها : أمسلمة جئت ؟
قالت : لا ، قال : أمهاجرة جئت : قالت :لا .
فلم يغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعرض عنها إنما سألها عن علة مجيئها من مكة إلى المدينة .
(قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالي واحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني، فقال لها : فأين أنت من شباب مكة؟ وكانت مغنية نائحة .
قالت : ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر .
لبيان أن أهل مكة لم يقيموا فرحا بعدها , كما حرّم عليهم الرؤساء البكاء والنياحة .
فحثّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على إعانتها بني عبد المطلب وبني المطلب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى .
وكتب حاطب معها الى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير، هذه رواية يادان عن ابن عباس، وقال مقاتل بن حيان : أعطاها عشرة دراهم، قالوا : وكساها برداً على أن توصل الكتاب الى أهل مكة، وكتب في الكتاب :
(من حاطب بن أبي بلتعة الى أهل مكة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريدكم فخذوا حذركم) .
فخرجت سارة ونزل جبرائيل فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما فعل، فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّاً وعمّاراً وعمر والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مرثد وكانوا كلهم فرساناً، وقال لهم: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فأن بها ظعينة معها كتاب من حاطب الى المشركين , فخذوه منها وخلّوا سبيلها، وأن لم تدفعه أليكم فاضربوا عنقها.
فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا لها : أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب، فبحثوها وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً فهمّوا بالرجوع فقال علي عليه السلام : والله ما كذبنا ولا كذّبنا وسلّ سيفه .
وقال : أخرجي الكتاب وإلاّ والله لاجرّدنّك ولأضربنّ عنقك. فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها قد خبأته في شعرها، فخلّوا سبيلها ولم يعترضوا لها ولا لمن معها ورجعوا بالكتاب الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأرسل رسول صلى الله عليه وآله وسلم الى حاطب فأتاه، فقال له : هل تعرف الكتاب؟ قال : نعم .
قال : فما حملك على ماصنعت؟ .
فقال : يا رسول الله والله ما كفرتُ منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أجبتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع بعشيرته، وكنت عزيزاً فيهم،
وكان أهلي بين ظهرانيهم، فخشيت على أهلي فاردتُ أن أتخذ عندهم يداً، وقد علمت أنَّ الله ينزل بهم بأسه، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً. فصدّقه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعذره)( ).
وكان ارسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاطباً إلى المقوقس متقدماً زماناً على حادثة الرسالة هذه .
وجاءت آية البحث بخصوص شهداء معركة أحد ممن قاتل يومئذ تحت لواء النبوة ، وقُتل في ميدان المعركة أو أصيب بالجراحات ومات خارج ساحة المعركة ، إذ أكرمهم الله عز وجل ونعتهم بأنهم قاتلوا في سبيله .
ووقعت معركة أحد في الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة من الهجرة النبوية الشريفة من مكة إلى المدينة ، وجاءت بعد ثلاثة عشر شهراً من معركة بدر التي انتصر فيها المسلمون انتصاراً كبيراً ووثقه القرآن بنسبة هذا النصر إلى الله مع بيان البرهان على هذه النسبة وهو ضعف المسلمين آنذاك ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
ولقد اجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء يومئذ ، وكان المسلمون في حاجة إلى رحمة ولطف من الله ، وأن النصر على القوم الكافرين لا يتم إلا بفضله تعالى .
وعن ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال(اللهم ان تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد .
وقد رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه – يريد الغبار)( ).
وذات الجملة في الدعاء ذكرها يوم أحد ، فحينما رآى الصحابة من المهاجرين والأنصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم حياً بعد اشاعة قتله استبشروا وفرحوا واحاطوا به .
(عن السدي قال : انطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة ، فلما رأوه وضع رجل سهماً في قوسه فأراد أن يرميه فقال : أنا رسول الله .
ففرحوا بذلك حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حياً ، وفرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع . فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين ذهب عنهم الحزن ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا ، فأقبل أبو سفيان حتى أشرف عليهم ، فلما نظروا إليه نسوا ذلك الذي كانوا عليه ، وهمهم أبو سفيان .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ليس لهم أن يعلونا ، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد . ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم) ( ).
ومن معاني آية البحث دعوة الناس إلى التوبة والإنابة ، ومنهم الذين نافقوا ممن يستهزء بالشهداء او يوجه لهم اللوم على قتلهم في سبيل الله ، فصحيح أن هذه الآيات رد على الذين نافقوا , وإخبار عن حسن حال الشهداء بما يبعث الكآبة والغيظ في قلوب الذين نافقوا إلا أنه لا يتعارض مع إرادة هذه الآيات توبة الذين نافقوا ، وحثهم على التخلص من النفاق ببيانها لقانون وهو أن إصرارهم على بث الأراجيف لن يجلب لهم إلا الإثم والبلاء ، وليس فيه ضرر على المسلمين بسبب جعل هذه الآيات الحصانة والمنعة عند المسلمين من أقاويل المنافقين .
وتتجلى هذه الحصانة بأمور :
الأول : تأكيد آية البحث لعدم موت الشهداء .
الثاني : بيان آية البحث للفرح والسعادة التي تغمر الشهداء في الآخرة .
الثالث : تلاوة المسلمين والمسلمات لآية البحث عدة مرات في اليوم ، وهل يمكن احتسابها مواساة من الله لهم .
الجواب نعم ، وتلك معجزة فيكون المعُزي بفقد الشهداء هو الله عز وجل لتتصف هذه التعزية بمسائل :
الأولى : من معاني ودلالات الآية القرآنية مواساة المسلمين .
الثانية : دخول التعزية القرآنية بالشهداء برفق إلى كل بيت من بيوت المسلمين ، ومنها بيوت الذين قتلوا في سبيل الله ، سواء كانوا آباءً أو أزواجاً أو أبناءً .
الثالثة : تلاوة المسلمين للتعزية النازلة من السماء بخصوص الشهداء ، وهذا التلقي من أسرار إبتداء آية البحث بقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ] أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من تلقى هذه التعزية وما في صيغة النهي هذه من التأكيد والإكرام له , والقطع بفضل الله عز وجل من وجوه :
الأول : فضل الله على الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بحياة الشهداء في الآخرة , والإخبار عنها في آية البحث ، قال تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
الثاني : فضل الله عز وجل على المسلمين الذين قاتلوا في معركة أحد .
الثالث : مواساة الذين جرحوا في معركة أحد , وهم أكثر المهاجرين والأنصار الذين اشتركوا في المعركة .
الرابع : إكرام المسلمين الذين قتلوا في معركة أحد بين الناس ، إذ ذكرت آية البحث حالهم في الآخرة ، ليملى على العلماء إستقراء المسائل والمنّ الإلهي عليهم في الحياة الدنيا من وجوه :
أولاً : شأن الشهداء عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وذكره لهم في أحاديثه قبل وبعد المعركة .
وعن جابر قال (قال رجل يوم أحد أرأيت إن قتلت في سبيل الله فأين أنا قال في الجنة قال فألقى ثمرات كن في يده ثم قاتل حتى قتل) ( ).
ثانياً : إكرام المسلمين لأشخاص الشهداء ، وذكرهم أو شطر منهم بأسمائهم .
وإذ تنتهي التعزية بعد أيام معدودة من المصيبة فان المواساة من عند الله بالشهداء باقية بين الناس إلى يوم القيامة ، وهو من معاني الإعجاز في قوله تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ) بلحاظ أن مصيبة الشهداء في معركة أحد مصيبة كل جيل وطبقة من المسلمين في كل زمان ، لذا لا بأس من إستحضار ذكرى هذه المعركة والتدبر في دلالاتها والإتعاظ منها وإقتباس الدروس منها ، ومنها آية البحث التي تتضمن خلودهم في النعيم .
ومن منافع ذكرها لهذا الخلود بقاؤها حية طرية في أذهان المسلمين والمسلمات .
ومنذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة يرد تفسير آية البحث ونحوها في كتب التفسير في سطر أو سطرين أو بضعة سطور ، ومنها ما ينقله اللاحق عن السابق ، ليأتي هذا الجزء والجزء التالي وهو السابع والخمسون بعد المائة في تفسير آية البحث خاصة , وبيان مضامينها , والدلائل والمسائل المستنبطة منها ، وتجليات الذخائر العلمية التي في ثناياها والتي تترشح عنها ، وفيه دعوة للعلماء في الأجيال القادمة للتدبر والتحقيق والتوسعة في علم التفسير والتأويل .
وهو مناسبة للشكر لله عز وجل على هذه الفريدة والفيض منه تعالى ، وفي التنزيل [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ( ).
لقد تضمنت آية البحث الإخبار عن قانون بسيط غير مركب ويتصف بالجلاء والوضوح ، وهو أن شهداء أحد أحياء عند الله من حين مغادرتهم الدنيا ، وفيه منع من الظن المخالف لواقع وعلم الغيب .
ولا يعني هذا إدعاء الذي يفتك بالناس ويعتدي على الإبرياء وعلى نحو عشوائي ، ويقتل نفسه بأنه شهيد ، سواء كان بين المسلمين أو غيرهم .
فقد نال قتلى المسلمين في معركة أحد مرتبة الشهادة من جهات :
الأولى : الخروج للمعركة بأمر من الله ورسوله لقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
الثانية : الدفاع عن بيضة الإسلام .
الثالثة : قصد القربة إلى الله في القتال ..
الرابعة : مقاتلة ومحاربة الذين كفروا في سبيل الله وهو الذي شهد الله عز وجل به كما في آية البحث .
الخامسة : دفاع الصحابة عن أنفسهم بلحاظ أنهم أمة مؤمنة ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
السادسة : إرادة الدفاع عن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
أولاً : حضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان معركة أحد .
ثانياً : تبييت المشركين النية على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والجمع بين سبق الإصرار والترصد في ذات الموضوع المتحد .
وإذا كان سبق الإصرار في القانون الجنائي كيفية نفسانية وظرفاً شخصياً لا يتعدى إلى الشركاء بخلاف سبق الترصد الذي هو ظرف مكاني يتصل أثره على الشركاء ، فان هذه القاعدة تنخرم بخصوص سبق الإصرار في معركة أحد ،إذ كان المشركون يتناجون على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مدة سنة ، ومن حين هزيمتهم في معركة بدر ، ولم تكن هذه المناجاة مستحدثة بل هي مستصحبة من قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة إذ كانوا يرومون قتله في فراشه لولا الوحي ،وبين قصد قتله في معركة أحد وإرادة اغتياله في فراشه عموم وخصوص مطلق ، فقد اتفق رؤساء قريش في مكة يومئذ على قتله في فراشه .
ثالثاً : سعي قريش لوقف نزول آيات القرآن بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنقطاع الوحي ، ولعلمهم بورع وتقوى أصحابه فلا أحدمنهم يدّعي نزول الوحي عليه ، وان إدّعاه فلا أحد يصدقه ، ثم أن لغة القرآن جلية واضحة لا يمكن محاكاتها ، قال تعالى [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا] ( ).
رابعاً : حضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان لمعركة .
ومن الآيات أنه لا يفر ولا ينهزم مع جواز هذا الفرار عند الحاجة والضرورة ووجود الراجح ، كما في قوله تعالى [وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
ترى ما هي منافع ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان ، الجواب من وجوه :
الأول : بيان مصداق لقانون [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) في أشد الحوال فحال الرخاء غير حال الشدة والضراء ، ولكن النبوة منهاج سماوي واحد .
الثاني: بيان شاهد عملي لقانون ثبات الإسلام في المجتمعات والنفوس ، فمع توالي سهام ونبال وحجارة الذين كفروا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغادر ميدان المعركة ، ومهما تحمل المسلمون من الأذى والعناد فأنهم لن يتركوا معالم الإيمان وسنن التقوى .
الثالث : إرادة نفرة نفوس المسلمين من الفرار والهزيمة ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) , ويكون تقدير الآية أعلاه على وجوه:
أولاً : ولكم في رسول الله أسوة حسنة في ثباته في الميدان .
ثانياً : ولكم في رسول الله أسوة حسنة في ملاقاة الحتوف .
ثالثاً : ولكم في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة في الخروج إلى المعركة , مع رجحان كفة العدو الكافر في العدد والعدة والعتاد .
رابعاً : ولكم في رسول الله أسوة حسنة في الصبر وتحمل الإصابة والجروح والقروح .
خامساً : ولكم في رسول الله أسوة حسنة في طاعة الله وأداء الفرائض والعبادات , وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: صلوا كما رأيتموني أصلي)( ).
وعن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أصيب دون ماله فهو شهيد، ومن أصيب دون أهله فهو شهيد، ومن أصيب دون دينه فهو شهيد)( ).
حرر في العاشر من رمضان 1438
الخامس من حزيران 2017
قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] الآية 169.
الإعراب واللغة
ولا تحسبن : الواو : حرف استئناف .
لا : ناهية جازمة، وهي لا تدخل إلا على الفعل المضارع وتجزمه إلا أن يكون مبنياً بخلاف لام النافية التي تدخل على الفعل المضارع وعلى الجملة الإسمية وتبقي الجملة على حالها لأن (لا) النافية لا تعمل شيئاً .
ومن خصائص (لا) الناهية أن جملتها إنشائية بينما تكون جملة (لا) النافية خبرية تحتمل التصديق والتكذيب.
تحسبن: فعل مضارع مبني على الفتح في محل جزم والفاعل ضمير مستتر تقديره (أنت) .
والنون : نون التوكيد الثقيلة ، والتوكيد بالنون الثقيلة أبلغ وأظهر ولدلالة زيادة المبنى على زيادة المعنى في الجملة .
قال ابن مالك (وأعربوا مضارعا: إن عريا من نون توكيد مباشر، ومن نون إناث: كير عن من فتن)( ).
وعريا : أي خلا ، والمراد من نون أناث نون النسوة.
ومن أحكام نون التوكيد الثقيلة أمور :
الأول : أنها مفتوحة والفتحة أخف الحركات .
الثاني : كونها مشدّدة لأنها نونان أُدغمت إحدهما في الأخرى .
الثالث : إنها متحركة ، لمنع التقاء ساكنين ،ولو كان المدغم فيه ساكنان لزم التقاء الساكنين ، وهو لا يصح .
وتكسر النون الثقيلة مع ألف الإثنين وجماعة النساء فاذا أردت تأكيد فعل الأمر (صوما) تقول صومانِ)
الذين : اسم موصول مبني في محل نصب مفعول به أول .
قتلوا : فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم .
الواو : نائب فاعل .
في سبيل الله : في حرف جر .
سبيل : اسم مجرور وعلامة جره الكسرة تحت آخره، وهو مضاف، ولفظ الجلالة مضاف إليه مجرور .
أمواتاً ، مفعول به ثان منصوب بالفتحة الظاهرة على آخره.
بل : حرف يفيد الإضراب أي السكوت عن الأول .
أحياء : خبر لمبتدأ محذوف ، وتقديره : هم أحياء عند ربهم .
عند : ظرف مبني متعلق بمحذوف صفة لأحياء .
ربّ : مضاف إليه مجرور وهو مضاف .
هم : مضاف إليه .
يرزقون : فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع .
الواو : نائب فاعل .
وجملة [وَلاَ تَحْسَبَنَّ] لا محل لها استثنائية .
وجملة [قُتِلُوا] لا محل لها صلة الموصول [الَّذِينَ] .
وجملة [بَلْ أَحْيَاءٌ] لا محل لها استثنائية .
وجملة [يُرْزَقُونَ] في محل رفع خبر ثان للمبتدأ هم .
سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة , وهي على شعبتين :
الشعبة الأولى : صلة هذه الآية بالآيات المجاورة السابقة , وهي على وجوه :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لقد إبتدأت الآية السابقة بالإخبار عن صفات وخصال مذمومة للمنافقين مع تعددها , وورد بيانها بكلمات معدودة وهي [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا].
لتكون هذه الخصال على وجوه :
الأول : تأكيد إتصاف المنافقين بالخبث والإقامة على الصدود عن دعوة الحق ، والنفير إلى الدفاع .
الثاني : إمتناع الذين نافقوا عن مواساة المسلمين وعوائلهم بالشهداء الذين رحلوا إلى الرفيق الأعلى في معركة أحد ، إنما صار همهم بأن الشهداء لو لم يخرجوا للقتال لبقوا أحياء .
الثالث : سعي الذين نافقوا لتزكية قعودهم ، وفيه وجوه :
أولاً : إرادة ترغيب المسلمين بالقعود .
ثانياً : بيان خصلة مذمومة أخرى للمنافقين، وهي إتخاذهم المغالطة منهاجاً ، فجاء القرآن بالبيان والفقاهة والإحتجاج بالبرهان ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
ثالثاً : مناجاة الذين نافقوا بالباطل وأسباب الضلالة ، وقد نهى الله عز وجل عنها بقوله تعالى [فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ..]( ).
وإذا كان قعود الذين نافقوا إثم فهل هو من العدوان ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : قعود الذين نافقوا عدوان على أنفسهم واتباع للهوى ، قال تعالى[بَلْ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ]( ).
الثانية : القعود والسكوت عن التعدي , وعدوان على النبوة والتنزيل ، وفي هذا القعود إصرار على الجحود والضلالة .
الثالثة : إنه مقدمة للعدوان على أهل المدينة .
رابعاً : منع الناس من لوم المنافقين على قعودهم ، لتكون آية البحث حاجة، ومناسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومن أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة آية البحث في الصلاة اليومية :
الأول : غلبة ذم الذين نافقوا في المجتمعات وعلى الألسن , وكشف زيف إدعائهم .
الثاني : إنفراد المنافقين بالقعود المذموم والمقرون بالدعوة المبطنة إليه .
الثالث : قيام المنافقين بتزيين قعودهم والذي يدل في مفهومه على التخويف من لقاء جيش الذين كفروا .
الرابع : لقد عجز الذين نافقوا عن نيل مرتبة الجهاد والدفاع في سبيل الله، لإبطانهم الكفر والضلالة ، فجاءت آية البحث للتنبيه والتحذير من المنافقين، وبعث النفرة من القعود والإشارة إلى أضراره .
الخامس : عدم رضا المنافقين عن الشهداء لعدم إنصاتهم لدعوة المنافقين بالقعود مع أن العدو على أطراف المدينة إذ أقام جيش الذين كفروا عند جبل أحد يومين ، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه لملاقاتهم , فخلّد الله عز وجل تلك الواقعة بقوله تعالى قبل ثلاث آيات[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
أي أن قعود الذين نافقوا لم يمنع من اللقاء ومواجهة المسلمين للذين كفروا .
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً الذين قال فيهم المنافقون لو أطاعونا ما قتلوا ).
لقد تضمنت الآية السابقة الأمر من الله سبحانه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتبدأ آية البحث بذات صيغة الخطاب .
وتجمع الآيتان بين القتل ونفي الموت مع التباين في المحل والزمان، إذ أخبرت الآية السابقة عن قتل الشهداء ومغادرتهم الدنيا، وجاء هذا الإخبار حكاية عن الذين نافقوا لبيان أنهم لا ينظرون إلا من الدنيا وإليها لحبهم لزينتها وتعلقهم بها مع ما فيها من الإبتلاء والإفتتان، قال تعالى[مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ]( ).
لقد أرادوا بقاء أحوال الناس في عبادة الأوثان على ما هي عليه لأن الذين كفروا من قريش ونحوهم يقاتلون دونها ، ويستهزئون بالمؤمنين ، ولا ملازمة بين النفاق وإرادة البقاء على الكفر ، ويدل عليه قوله تعالى في الآية السابقة[هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ]( ) والذي يدل بالدلالة التضمنية على إفادة التزلزل وعدم الإستقرار في أقوال وأفعال الذين نافقوا، فجاءت هذه الآيات لتقريبهم إلى منازل الإيمان، ومنعهم من التمادي في الغي، ومن الإرتماء في أحضان الذين كفروا .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله ولم يطيعوا الذين نافقوا أمواتاً ) وفيه وجوه :
الأول : الأصل بالنسبة لمقدمات القتال في سبيل الله ترغيب المجاهدين واعانتهم بالسلاح والمؤن ونفقة العيال لعمومات قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ) الذي يشمل كلاً من:
أولاً : المجاهدون المدافعون عن النبوة والتنزيل .
ثانياً : أرباب الأموال .
ثالثاً : القاعدون عن عذر ومن دون عذر .
رابعاً : المسلمات والمؤمنات.
فان قلت أن القتال ساقط عن النساء ، والجواب هذا صحيح إلا أن كتابة وفرض القتال أعم من مزاولته ، ويمكن تقسيم الواجب العام الذي يأتي للأمة بلحاظ الذكور والإناث من المكلفين , وهناك من التكاليف ما تختص به المرأة دون الرجل , مثل غسل الحيض والنفاس .
الثاني : لقد تجلت معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية بنزول آيات القرآن ، وظهور المعجزات على يديه مثل تكثير الطعام القليل ليشبع الجماعة الكبيرة ، وجريان الماء بين أصابعه في ساعة ضيق وفقد للماء كما في صلح الحديبية .
(عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله قال عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة يتوضأ منها فأقبل الناس نحوه فقال : مالكم مالكم ؟
قالوا يا رسول الله ليس عندنا ماء نشرب ولا نتوضأ منه إلا ما في ركوتك فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده في الركوة فجعل الماء يفور من بين أصابعه أمثال العيون .
قال جابر : فشر بنا وتوضأنا .
قال فقلت لجابر : كم كنتم يومئذ , قال لو كنا مائة ألف لكفانا كنا خمس عشرة مائة، وقال ابن سعد ويقال ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون رجلا)( ).
وتبين آية البحث والسياق معجزة أخرى من جهة شدة العداوة التي لاقاها رسول الله ، وتعدد جهاتها والرؤساء فيها، فالذين حاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم علية القوم وذوو الرياسات القبلية والإجتماعية فيها ، وفي قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ) شاهد عليه بأن أقطاب الكفر من قريش كانت لهم سطوة وشأن بين القبائل وعند الملوك .
ومن عادة الملوك العناية الزائدة برؤساء القبائل والطوائف خاصة في الأمصار والبلدات التي تجاوز ممالكهم وسعيهم لطلب ودهم أو استمالتهم ، أو تسخيرهم لحماية ثغورهم وحدودهم وتنجيز غاياتهم ، وهو أمر ظاهر في كل زمان.
وإلى جانب عداوة رؤساء قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظهرت عداوة أخرى من داخل المدينة المنورة بصيرورة طائفة تظهر الإيمان وتبطن الكفر ليستحوذ على ألسنتها وأقوالها في أوقات الشدة أو نزول المصيبة بالمسلمين ، قال تعالى [إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] ( ).
الثالث : الواجب على نحو القضية الشخصية، وفرض القتال واجب عام متعدد المصاديق ويشمل أموراً :
أولاً : مقدمات القتال .
ثانياً : مزاولة القتال .
ثالثاً : مداواة الجرحى .
رابعاً : إعانة عوائل المقاتلين عامة والشهداء خاصة .
(عن زيد بن ثابت ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من جهز غازيا في سبيل الله فله مثل أجره ، ومن خلف غازيا في أهله بخير ، أو أنفق على أهله فله مثل أجره) ( ) وتقدير هذا الحديث بلحاظ جهاد النساء على وجوه :
الأول : مَن جهزت غازياً فلها مثل أجره .
الثاني : ومن خلفت غازيا في أهله بخير أو أنفقت على أهله فلها مثل أجره .
الثالث : ومن سعت في الإنفاق على أهل الغازي فلها مثل أجره .
كما ورد الحديث بصيغة أخرى، (عن زيد بن خالد الجهني : عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا )( )، ويكون تقدير الحديث : من جهزت غازياً في سبيل الله فقد غزت.
لبيان كتابة أجر الغزو للمؤمنة التي تمد المرابط والمدافع عن التنزيل والنبوة ، لتكون المؤمنة حجة على المنافقين الذين قعدوا.
ويشمل الحديث النساء في إعانتهن لعوائل الغزاة والمرابطين ولا تختص هذه الإعانة بالمال.
خامساً : زجر المنافقين ومنعهم من الصدود عن سبيل الله وجعل الحواجز أمام المؤمنين لبلوغ مرتبته السامية، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ]( ).
سادساً : المناجاة بالدفاع والصبر عند اللقاء .
سابعاً : نبذ القعود عن القتال وبعث النفرة منه وبيان أضراره الخاصة والعامة .
وباستثناء الوجه ثانياً أعلاه فان الوجوه الأخرى تشمل المرأة المسلمة وتدعوها للعمل في سبيل الله .
وقد ينشغل المؤمنون في الجهاد والدفاع فتكون المؤمنات هن الحصن الحصين والواقية من النفاق وضرره في المدينة ، وحتى الوجه ثانياً أعلاه فان من المؤمنات من قاتلت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في أم عمارة التي كانت تذب عنه في معركة أحد ، لتكون حجة على الذين نافقوا في قعودهم وحثهم على القعود بينما المؤمنات يقاتلن بأنفسهن ويبغين الشهادة ، ويفزن بالثناء من عند الله ورسوله ومن المؤمنين.
لقد إنخزل ثلاثمائة من المنافقين من الطريق إلى معركة أحد ، ولم تذكر إلا اسماء عدد قليل منهم وبصيغة الذم لهم جميعاً ، بينما يرد ذكر أم عمارة نسيبة بنت كعب بالثناء والمدح ، وعن عمر بن الخطاب قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يوم أحد يقول: ما التفت يميناً ولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني.) ( ).
لقد جاءت نسوة من قريش مع الكفار إلى معركة أحد ليضربن بالدفوف ويقلن الأشعار والأهازيج التي تبعث على القتال ، ولكنهن لم يقاتلن أو يرمين بسهم نعم، كن يحملن المكاحل والمراود ليدفعن بها إلى من ينهزم من الرجال , تعييراً له , وتحذيراً لغيره من الكفار من محاكاته .
ولكنه شاهد على هزيمة جيش المشركين في أول المعركة مع كثرته وكونه نحو أربعة أضعاف المسلمين، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]( ).
قالت أم عمارة في وصفها لنساء كفار قريش يوم معركة أحد (ما رأيت امرأة منهن رمت بسهمٍ ولا بحجر، ولكن رأيت معهن الدفاف والأكبار، يضربن ويذكرن القوم قتلى بدر، ومعهن مكاحل ومراود، فكلما ولى رجلٌ أو تكعكع ناولته إحداهن مروداً ومكحلةً ويقلن: إنما أنت امرأة!
ولقد رأيتهن ولين منهزماتٍ مشمراتٍ ولها( ) عنهن الرجال أصحاب الخيل، ونجوا على متون الخيل يتبعن الرجال على الأقدام، فجعلن يسقطن في الطريق. ولقد رأيت هند بنت عتبة، وكانت امرأة ثقيلة ولها خلقٌ، قاعدةً خاشيةً من الخيل ما بها مشيٌ، ومعها امرأة أخرى، حتى كرّ القوم علينا فأصابوا منا ما أصابوا، فعند الله نحتسب ما أصابنا يومئذٍ من قبل الرماة ومعصيتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم.) ( ).
ولقد خرجت عدد من النسوة المؤمنات مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد ولكنهن لم يعيرن الذين انهزموا يومئذ لأن الأخوة الإيمانية سور جامع لهم .
ورد عن امرأة من جيش المشركين كانت تقاتل وأخرى رفعت اللواء حينما قُتل حملته من بني عبد الدار تباعاً واحداً بعد آخر وهو رجالاً ونساءً على الباطل بينما يكون قتال المسلمين في سبيل الله ، وهم الذي دلت عليه الآية قبل السابقة، وتجلى في آية البحث التي من معانيها وجوه :
الأول : الذين قاتلوا في سبيل الله وعادوا سالمين .
الثاني : الذين قاتلوا في سبيل الله وجرحوا .
الثالث : الذين قاتلوا في سبيل الله وقتلوا، وفيه حجة على الذين نافقوا بعدم الملازمة بين القتال في سبيل الله وبين الشهادة .
وهل التفت الذين نافقوا لهذا المعنى ، الجواب نعم ، لذا خصوا الشهادة بالذكر ، وهم يقصدون الصد العام عن الجهاد والدفاع ، وتقدير كلامهم على وجوه :
الأول : إن أردتم ألا تُقتلون فأطيعونا وأقعدوا .
الثاني : نحن قعدنا فلم نُقتل .
الثالث : من يقعد معنا لا يُقتل , ويتجلى في المقام الأمر من الله بطاعته وطاعة رسوله وبيان منافع هذه الطاعة كما في قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) .
ليكون من معاني الجمع بين الآية أعلاه والآية السابقة وما فيها من دعوة الذين نافقوا لطاعتهم تحذير المسلمين والمسلمات من المنافقين أشخاصاً وأقوالاً وأفعالاً، قال تعالى في ذمهم[يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ]( ).
وبيان قانون وهو أن طاعتهم لا تجلب إلا الأذى والشر ، وتدعو آية البحث إلى البذل والتضحية والعطاء في سبيل الله ، وهو مما يؤذي الذين نافقوا ، ويبطل سحرهم ، ويكشف زيفهم ، وهل هو من الغلظة عليهم في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
الجواب نعم، وهو باب آخر مستقل يأتي فيه التأديب للمسلمين والزجر للمنافقين والإصلاح للنفوس ، وتطهير الأسماع من براثن الكفر والنفاق .
المسألة الرابعة : لقد ورد في أسباب نزول آية البحث (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش . فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ، وحسن مقبلهم . قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا – وفي لفظ –
قالوا : إنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله : أنا أبلغهم عنكم . فأنزل الله هؤلاء الآيات { ولا تحسبن الذين قتلوا…}الآية. وما بعدها) ( ).
ولعل المراد هو أن الله عز وجل أبدلهم عن أجسامهم الكثيفة وما أصابت وأصيبت في الدنيا بأجساد لطيفة لخصوص عالم البرزخ ، وجاء ذكر الطير لتقريب المعنى .
وقد ورد الحديث بسند أصح عن كعب بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ فِى شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)( )، أي إرادة التشبيه وتقريب المعنى بذكر الأمور الحسية للدلالة على المدركات العقلية.
فتبعث ذات أجساد الشهداء وغيرهم وتعود الأرواح إليها ، قال تعالى [مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى]( ).
وجاء الحديث أعلاه بذكر المؤمن , وبينه وبين الشهيد عموم وخصوص مطلق ، فكل شهيد هو مؤمن وليس العكس، ومن إعجاز القرآن والبيان التفصيلي فيه والمانع من اللبس والترديد في الدنيا والآخرة ذكر الآية لإختصاص الشهداء بالحياة عند الله من حين مفارقتهم الدنيا.
ولو تردد الأمر بين حياتهم بأن تكون أرواحهم في طيور أو حياتهم كبشر ، فالصحيح هو الثاني إلا أن تكون السنة النبوية مقيدة وإلا فتحمل الآية على ظاهرها .
ويدل عليه الحديث أعلاه عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقول الشهداء (يا ليت أخواننا يعلمون ما صنع المسلمين إلى أن ابلغهم عنكم) فينصرف المعنى إلى ظاهره وأن الله عز وجل يبلغ بأنهم أحياء كهيئتهم في الدنيا ، وهو الواسع الكريم ، ويمكن تقريب المعنى بحديث الإسراء وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم التقى بالأنبياء بهيئتهم ، وما ورد بخصوص عالم البرزخ بأن الميت يكون في جسد مثالي بحيث لو رأيته لقلت : هذا فلان ، وهل يستدل في المقام بعالم الرؤيا ورؤية الأحياء للميت في المنام بهيئته في الدنيا، الجواب لا .
ولو تردد الأمر في حياة الشهيد في عالم البرزخ بين صيرورة روحه في جسد مثالي أم أنه في جسده الذي استشهد فيه ، فلابد من الإعجاز والنعمة الخاصة للشهداء في المقام، ولابد من موضوعية للنص في المقام.
ومن التشبيه في المقام قوله تعالى[اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
المسألة الخامسة : لقد جاءت آية البحث خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتتضمن النهي عن الظن بأن الشهداء أموات عديموا الحركة لا يعلمون ما يجري لهم أو ما يقع لأصحابهم ولواء الإسلام من بعدهم ، وفيه زجر للذين نافقوا رجالاً ونساءً من التعريض بالشهداء أو ذمهم وما فيه بث روح التكاسل والقعود عن الدفاع عن النفوس والأعراض والأموال .
فينزل خطاب من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليشمل الناس جميعاً ، ويدعوهم للإتعاظ والتدبر في ماهية الحياة وأنها مزرعة للآخرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بلحاظ إنتفاع الناس جميعاً من هذا الخطاب .
المسألة السادسة : تضمنت آية السياق تحدي الذي نافقوا بأنهم عاجزون عن دحر الموت عن أنفسهم ، فهل فيه إخبار عن تخلفهم عن مرتبة القتل في سبيل الله والحياة الأبدية في النعيم عند الله عز وجل .
الجواب نعم، وكما ورد قوله تعالى[تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ* مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ]( )، للإخبار بالدلالة التضمنية عن موت أبي لهب على الكفر، وذمه وهو حي في الدنيا مع أنه عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكذا وردت آية السياق للإخبار عن كون المنافقين يموتون موتاً، وحتى لو قتل بعضهم فأنه يلحق بالموت لأنه لم ينو أو يسعى للقتال في سبيل الله، لتبعث آية البحث الحسرة في نفوسهم من جهات:
الأولى : إصرار الذين نافقوا على القعود الذي ليس فيه نفع لا في الدنيا ولا في الآخرة.
الثانية : تجلي التنافي بين القعود وبين القتل في سبيل الله، لأن من معاني القعود الإمتناع عن القتال في سبيل الله، وقد سُئل المنافقون ما هو أدنى مرتبة من القتال، وهو الدفاع بقوله تعالى(أو ادفعوا) ولكنهم إمتنعوا عن القيام بأي عمل ينفع الإسلام ويتضمن تعظيم شعائر الله.
الثالثة : رؤية المنافقين للمهاجرين والأنصار يتسابقون للخروج إلى القتال، ويحيطون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتطلعون إلى ما يقول ويتدارسون آيات القرآن، ويتلونها في الصلاة، ويتلهفون لما سينزل منها، لتنزل آية البحث بالبشارة والسعادة وما يبعث السكينة في النفوس ليس بخصوص الشهداء بل للصحابة الذين هم عرضة للشهادة أيضاً ليكون من معاني آية البحث[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
المسألة السابعة : من معاني الجمع بين آية البحث والآية السابقة تقسيم المسلمين إلى أقسام :
الأول : المؤمنون الذين خرجوا إلى معركة أحد ، وشاركوا في الدفاع عن النبوة والتنزيل، قال تعالى[انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
الثاني : الذين قعدوا عن القتال عن عذر مثل ابن أم مكتوم .
الثالث : الذين إنسحبوا من وسط الطريق إلى المعركة .
الرابع : الذين أصروا على القعود من غير عذر ، وبينهم وبين القسم الثالث أعلاه عموم وخصوص مطلق، إذ أن الذين انسحبوا من وسط الطريق هم من القاعدين أيضاً.
وتتضمن آية السياق في مفهومها الثناء على المؤمنين من وجوه :
الأول : الذين عصموا أنفسهم من النفاق الذي تجلى في آية السياق بالقعود ، والتحريض عليه وإدعاء سلامة الشهداء من القتل لو لم يخرجوا إلى معركة أحد .
الثاني : الذين حثوا وندبوا الناس إلى الخروج للدفاع وإن كانت أعذارهم تقعدهم عنه.
الثالث : المؤمنات اللائي خرجن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد .
الرابع : عموم المسلمات الصابرات في المدينة ممن وقاهن الله عز وجل من النفاق والإنصات إلى المنافقين، ومن إعجاز القرآن مجيؤه بمدح المؤمنات خاصة على صبرهن، وإعراضهن عن فتنة الكفار والمنافقين، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ]( ).
ويدل تكرار ذكر المنافقات في القرآن على لزوم أخذ المسلمات الحيطة والحذر من كل من .
أولاً : المنافقون .
ثانياً : المنافقات .
ثالثاً : ذات وسنخية النفاق في القول والعمل .
الخامس : المهاجرون والأنصار الذين خرجوا إلى معركة أحد حالما ندبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع عندما صار جيش المشركين على أطراف المدينة، قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
ليكون من معاني خاتمة الآية أعلاه سماع الله عز وجل لمناجاة الذين نافقوا بالباطل وقولهم عن الشهداء[لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا..]( ) وعلم الله تعالى بزيف هذا القول وعدم تحقق مصداقه في الواقع لأنهم لو قعدوا لدخل جيش المشركين إلى المدينة وقتلوا المؤمنين لثارات بدر وبغضاً وعداوة مع الإسلام وأداء المسلمين الصلاة والعبادات خالصة لوجه الله وهو سبحانه عليم بمبادرة المؤمنين للخروج، وبسقوط سبعين شهيداً منهم ليفوزوا بالحياة الكريمة الأبدية التي ليس فيها عناء أو مشقة أو إجهاد لكسب المعيشة ودفع أسباب الإفتتان .
ومن معاني قوله تعالى [وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ..] في الآية أعلاه بلحاظ الجمع بين الآية السابقة , وآية البحث مسائل :
الأولى : والله سميع لما يقوله الذين نافقوا .
الثانية : والله سميع لمناجاة المؤمنين بالخروج للقتال .
الثالثة : والله سميع لإحتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين على الذين نافقوا لقوله تعالى في الآية السابقة [قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ].
ومن إعجاز القرآن أن الله عز وجل يأمر النبي والمؤمنين بأمر ثم يثيبهم عليه ، ويأتي الثواب العظيم على هذا الإحتجاج لأنه امتثال لأمر الله ، وإذا تلا المسلم الآية [قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ]فيه وجوه :
الأول : الثواب للمؤمن عند تلاوة آية البحث في الصلاة ولمن يستمع له، وهو من الإعجاز وترتب النفع والثواب على قوله تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثاني : تنمية ملكة التقوى عند المسلم .
الثالث : التسليم بأن الموت حق .
الرابع : عدم خشية المؤمن من الموت .
الخامس : إصابة المنافق بالفزع عند تلاوته لآية البحث أو عند سماعها، وهو من أسرار تلاوة المسلمين للقرآن في الصلاة , ومنافعها الغيرية على الذي يتلوها والذي يسمعها ، ولا تختص هذه المنافع بأمور الدنيا بل تشمل الدنيا والآخرة .
السادس : لما نزل الأمر من عند الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإغلاظ على المنافقين بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ) تفضل الله عز وجل وبيّن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وجهاً من وجوه هذه الغلظة .
وهل يختص موضوع الغلظة في آية السياق بالتذكير بالموت ، الجواب لا، ويكون على وجوه :
الأول : غياب حلاوة الدنيا عن عين المنافق ، لأن ذكر الموت يهدم السياحة الذهنية في زينتها ، ويمنع من تذوق طعم السعادة فيها .
الثاني : الوقوف بين يدي الله للحساب ، قال تعالى [وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ] ( ).
الثالث : جعل الناس يتذاكرون الموت ، ويترشح عنه طوعاً وقهراً وجوب الإستعداد له ، وهذا الترشح من فيوضات وبركات رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بأن صار الناس يتفكرون فيما بعد الموت ويستحضرون أهوال الآخرة بعد أن كانوا يجحدون بها ، وينكرون وجود عالم وحياة بعد الموت , وفي كفار قريش نزل قوله تعالى [وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا] ( ).
(وحكى الطبري أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه) ( ).
الرابع : موت وهلاك عدد من المنافقين عند حلول آجالهم ، ليكون موت الفرد منهم مصداقاً للتحدي الذي تتضمنه آية السياق .
وقد رجع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول وأصحابه من وسط الطريق إلى معركة أحد بينما اشترك ابنه عبد الله في معركة أحد ، وسلول اسم امرأة من خزاعة أي أم أُبي مالك بن الحارث بن عبيد بن سالم بن غنم بن عمرو بن الخزرج ، ولكبر بطن سالم يسمى بالحبلى ، وكان لأبنائه منزلة رفيعة عند الأوس والخزرج .
وكان عبد الله بن أبي يكنى أبا الحباب لاسم ابنه التقي الذي أبدله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسماه عبد الله .
ومع أن الخزرج كانوا يعملون على تتويج عبد الله بن أبي ملكاً عليهم وأن هذا التتويج يعود على ابنه بالمنزلة الرفيعة ثم يرثه من ابيه إلا أن عبد الله أخلص في إيمانه وشهد معركة بدر وأحد والمشاهد كلها : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يثني عليه وأوصاه أن يبر أباه ويحسن صحبته، وفي التنزيل[وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا]( ).
ولما مات رأس النفاق عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسأله أن يصلي عليه لتكون هذه الصلاة رجاء للمغفرة وإكراماً له بين الأوس والخزرج عند مفارقته الدنيا فنزل قوله تعالى[وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ] ( ) .
ثم سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطيه قميصه يكفن فيه لعله يخفف عنه ضغطة القبر، وما فيه من الحساب الإبتدائي فأعطاه إياه .
لقد هلك رأس النفاق وبقي ابنه عبد الله مثالاً للتقوى والصبر وشاهداً على إنحسار النفاق واستشهد عبد الله في معركة اليمامة والتي قتل فيها نحو ألف ومائتين من المسلمين ، ووقعت هذه المعركة في السنة الثانية عشرة للهجرة ، وقد تسمى معركة عقرباء ، وهي إحدى معارك الردة في ملاقاة مسيلمة الكذاب وقومه بني حنيفة ، إذ استبسل بنو حنيفة في القتال معه وهم يعلمون أنه كذاب ولكنها العصبية وحمية الجاهلية إذ خرج معه أربعون ألفاً وقُتل منهم نحو أربعة عشر ألفاً بعد قتال شديد وضارٍ، ومن مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، صيرورة الناس في مرتبة يعلمون بها النبي الصادق وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذي يدّعي النبوة كذباً.
وهل يشمل قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ) الشهداء في معركة اليمامة أم أن القدر المتيقن هو خصوص معركة أحد خاصة وأن الخطاب في الآية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ووقعت معركة اليمامة بعد إنتقاله إلى الرفيق الأعلى ، الجواب هو الأول ، وتقدير الآية بخصوص معركة اليمامة على وجوه :
الأول : ولا تحسب الذين يقتلون في معركة اليمامة أمواتاً .
الثاني : ولا تحسبوا الذين يقتلون في معركة اليمامة أمواتاً .
الثالث : ولا تحسبوا الذين قتلوا في معركة اليمامة أمواتاً .
وكان شعار المسلمين يوم اليمامة (يا محمداه) ( ).
المسألة الثامنة : من دلالات الجمع بين آية البحث والآية السابقة تأكيد التباين بين قعود المنافقين وجهاد المؤمنين في الموضوع المتحد ، وهو معركة أحد ، لقد كان غزو وزحف جيش المشركين إلى المدينة ومقاصدهم الخبيثة إبتلاءً عظيماً، ومن أسرار قعود الذين نافقوا ما ترتب على معركة بدر، وقتل سبعين من المشركين فيها، وإدراكهم بأن كفار قريش يطلبون في زحفهم وقتالهم أموراً :
الأول : قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : منع توالي نزول آيات القرآن .
الثالث : حجب الناس عن دخول الإسلام .
الرابع : قتل المهاجرين والأنصار الذين قتلوا رؤساء الشرك يوم معركة بدر ، فان قلت وهل يعلمون بهم ، الجواب نعم من جهات :
الأولى : تواتر الأخبار عن تفاصيل المعركة .
الثانية : قد وقع سبعون من المشركين أسرى بيد المسلمين .
الثالثة : بقاء هؤلاء الأسرى في المدينة لم يسجنوا أو يعزلوا في موضع واحد ، فصاروا يسمعون الأخبار والتفاصيل عن المعركة مما غاب عنهم معرفته خاصة وأن المشركين كانوا في حال هزيمة وفرار .
الرابعة : كان القاتل يأخذ سلب المقتول كسيفه ودرعه ، وكانت عائدية السيوف والدروع معروفة يومئذ ، فاذا وجد سيف فلان من المشركين عند أحد الصحابة عرف انه قاتله , إلا مع القرينة على الخلاف .
الخامسة : تنزه الصحابة عن الكذب يوم معركة بدر .
السادسة : وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط المعركة ، وثناؤه على الذي بذلوا الوسع في القتال , وحثه الرماة , ودعاؤه لهم .
السابعة : سؤال ذوي المقتول من قريش عمن قتله وكيفية قتله .
الثامنة : هناك حالات بينه وظاهرة لا تحتمل الترديد كما في قتل الإمام علي عليه السلام وحمزة وعبيدة بن الحارث لعتبة بن ربيعة وأخيه شيبة وابنه الوليد .
التاسعة : وضوح وتجلي مواضع المسلمين في معركة بدر إذا كانوا على طوائف من جهة مواجهة العدو , وقتاله , أو الحراسة , ويدل عليه الجدال الذي وقع بينهم عند قسمة غنائم معركة بدر.
وعن ابن إسحاق (ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَمَرَ بِمَا فِي الْعَسْكَرِ مِمّا جَمَعَ النّاسُ فَجَمَعَ فَاخْتَلَفَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ فَقَالَ مَنْ جَمَعَهُ هُوَ لَنَا.
وَقَالَ الّذِينَ كَانُوا يُقَاتِلُونَ الْعَدُوّ وَيَطْلُبُونَهُ وَاَللّهِ لَوْلَا نَحْنُ مَا أَصَبْتُمُوهُ لَنَحْنُ شَغَلَنَا عَنْكُمْ الْقَوْمُ حَتّى أَصَبْتُمْ مَا أَصَبْتُمْ.
وَقَالَ الّذِينَ كَانُوا يَحْرُسُونَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مَخَافَةَ أَنْ خِفْنَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ كَرّةَ الْعَدُوّ فَقُمْنَا دُونَهُ فَمَا أَنْتُمْ بِأَحَقّ بِهِ مِنّا)( ).
العاشرة : القصائد والأشعار والأراجيز التي قيلت بخصوص معركة بدر، وتفاخر المسلمين فيها ، وما تتضمنه من التحدي لكفار قريش من غير خشية منهم ومن أسلحتهم ورسائل الوعيد التي يبعثون بها إلى المدينة المنورة.
ومن الإعجاز في السنة النبوية الدفاعية أن كفار قريش أخذوا يستعدون لمعركة أحد من حين إنقضاء معركة بدر وقبل دخولهم مكة خائبين ، أي وهم في طريق الهزيمة إليها أخذوا يتدبرون الأمر ويخططون لإعادة الكرة والهجوم وحساب تنامي قوة المسلمين التي لم تكن بالعدد والسلاح ، إنما كانت بالإيمان وحسن التوكل على الله ، قال تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ).
وقد دخل مكة أوان معركة بدر أبو سفيان بقافلته المؤلفة من ألف بعير محملة بالبضائع والذهب والفضة فلم يقم بتوزيعها على أهلها ، إنما انتظر عودة رؤساء قريش الذين خرجوا لمعركة بدر ، وكان الكثير من تلك البضائع تعود إليهم ، فكانوا على فرق :
الأولى : المشركون الذين عادوا من معركة بدر .
الثانية : قتلى المشركين الذين أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقائهم في القليب وهو البئر التي جف ماؤها ، إلا أمية بن خلف فانه انتفخ في درعه ، فأراد المسلمون أن يخرجوه فتقطع فطرحوا عليه التراب والحجارة حتى غيبوه.
وحينما خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتلى الذين ألقوا في القليب ذكره معهم إذ وقف عليهم وقال صلى الله عليه وآله وسلم (يا أهل القليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم ! كذبتموني وصدقني الناس !
ثم قال: يا عتبة، يا شيبة، يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام، وعدّد من كان في القليب.
هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً. فقال له أصحابه: أتكلم قوماً موتى ؟ فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني)( ).
وكان حذيفة بن عتبة بن ربيعة مؤمناً مهاجراً وواقفاً ساعئتذ إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجهه قد تغير ، وظهر نوع أسى عليه، فقال له : لعله دخلك من شأن أبيك شيء ، أي حينما رأى أبوه جثة هامدة تجر إلى القليب.
فقال : لا والله يا رسول الله ، ولكني كنت أرجو لأبي الإسلام لأنه كان ذا عقل وحلم .
ولم يرض له أن يموت على الكفر ، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء لحذيفة بخير (قال محمد بن سعد في الطبقة الأولى من أهل بدر: أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، واسمه هشيم، وأمه أم صفوان، واسمها فاطمة بنت صفوان بن أمية بن محرث الكناني)( ).
واسم أبي حذيفة حسل ، ولكنه إشتهر بكنيته وفيه نوع إكرام له ، وهو من المهاجرين إلى الحبشة هو وزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشية العامرية وولد لهما هناك محمد بن حذيفة ، وكل منها كان أبوه من رؤساء الكفر .
وقُتل عتبة في معركة بدر ، أما سهيل بن عمرو فقد أبرم صلح الحديبية مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم دخل الإسلام .
المسألة التاسعة : تقدير الجمع بين الآيتين : قل للذين نافقوا بأن الذين قتلوا في سبيل الله ليسوا أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ) .
ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قيامه بالبشارة والإنذار ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ) ومن إعجاز القرآن أن ذات البشارة تكون إنذاراً في مفهومها ، وكذا فان إنذار الذين كفروا ، والذين نافقوا يكون في مفهومه بشارة .
وهل تتضمن آية السياق الإنذار للذين نافقوا ، الجواب نعم ، وفيه مسائل :
الأولى : لوم الذين نافقوا على قعودهم في ساعة الشدة والحاجة إلى الدفاع .
الثانية : بيان قانون وهو أن القعود عن صد الذين كفروا سبيل للندامة ، ومن إعجاز آية السياق أنها تبعث الندامة والحسرة في نفوس الذين نافقوا ، لتكون مصاديق آية البحث وإخبارها عن حياة الشهداء عند الله عز وجل من مصاديق اسم الإشارة (ذلك) في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ) من جهات :
الأولى : إخبار آية البحث عن حياة الذين قتلوا في سبيله نقض لكلام الذين نافقوا .
الثانية : إختيار المهاجرين والأنصار قتال العدو سبب لبعث الحسرة في نفوس الذين نافقوا.
الثالثة : إرادة بيان الأذى والأسى الذي استولى على قلوب الذين نافقوا لأن الصحابة لم يسمعوا كلامهم[فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً]( )، أي ليس من تبديل في صدق عزائم المؤمنين يترتب على سماع الذين نافقوا.
الرابعة : تغزو الحسرة قلوب الذين نافقوا من وجوه :
الأول : نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للنفير للقاء العدو والذي يدل بالدلالة التضمنية على أمور :
أولاً : عدم الفرار من المدينة المنورة أمام العدو .
ثانياً : الإمتناع عن مهادنة الكافرين .
ثالثاً : بيان مصداق عملي لقوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
رابعاً : عزم النبي ومعه المهاجرون والأنصار للقاء العدو .
الثاني : مبادرة الصحابة لتلبية نداء الجهاد ليتضمن قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) الثناء عليهم والشهادة من الله عز وجل لهم بالإستجابة .
المسألة العاشرة : لقد أختتمت آية السياق بتحدي الذين نافقوا بصيغة الجملة الشرطية بقوله تعالى [إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] وصحيح أن موضوع الآية هو عجزهم عن دفع الموت عن أنفسهم حينما يحل بساحتهم إلا أن موضوعها أعم من جهات :
الأولى : نفي الصدق عن الذين نافقوا .
الثانية : تعدد وجوه التحدي التي يواجه بها المؤمنون أهل الريب والنفاق والذين يبثون الأراجيف في المدينة .
الثالثة : تقوية ملكة الجدال وإقامة البرهان عند المسلمين , وكأن الآية تقول : احتجوا عليهم بالموت وكيف أنه قاهر لهم وقاطع لخداعهم ومكرهم وهل حلول الأجل والموت للمنافقين من مصاديق خداع الله لهم في قوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
الجواب نعم ، إذ أن حياة الإنسان في الدنيا قصيرة وأيامه معدودة, وطوبى لأهل التقوى والصلاح ،قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
الرابعة : تأكيد التباين بين المؤمنين والمنافقين في لغة الخطاب القرآني بأن يأمر الله جل وعلا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لتوجيه اللوم إليهم وتحديهم وتخويفهم بالموت وعالم ما بعده ، إذ يتوجه الأمر من عند الله عز وجل في آية السياق للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإحتجاج على الذين نافقوا وتوبيخهم على إفترائهم على الجهاد والدفاع في سبيل الله.
فلم يكن المقصود من قولهم [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] الشهداء وحدهم ، إنما كان الذين نافقوا يوجهون اللوم الخفي والمبطن إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإخراجهم معه وإلى الصحابة الذين عادوا من المعركة لأنهم خرجوا وقاتلوا معهم ، لذا نصر الله عز وجل رسوله الكريم بخاتمة آية السياق وبآية البحث .
ويمكن إنشاء باب في تفسير كل آية وهو نصر الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في آية البحث ، ويكون هذا النصر على وجوه :
الأول : النصر بمنطوق الآية .
الثاني : النصر من عند الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بما في الآية من الأوامر والنواهي .
الثالث : ثناء الله سبحانه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين نصر لهم .
الرابع : ذم الذين كفروا وتقبيح فعل المنافقين في الآية القرآنية نصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الخامس : تجلي نصر الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في مفهوم الآية الذي يقابل المنطوق .
السادس : بشارات الآية القرآنية نصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
السابع : ثناء الله عز وجل على نفسه نصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الثامن : بديع صنع الله عز وجل ، وفضله على العالمين نصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين كما في قوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ] ( ).
التاسع : الوعد الكريم بالثواب الجزيل والإنذار والوعيد للذين كفروا نصر من الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وفي التنزيل [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
المسألة الحادية عشرة : لقد أختتمت آية البحث بذكر رزق الله عز وجل للشهداء إذ تفضل عليهم باكرام متعدد الوجوه وفيه تعريض بالذين نافقوا بأنهم محرومون من هذا الرزق والنعيم الأخروي ، ليكون رزق الله للناس تذكيراً لهم بلزوم السعي إلى الرزق الكريم في الآخرة الذي لا يختص بالشهداء إنما يشمل أهل الإيمان جميعاً .
(عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الإِسلام ثمانية أسهم : الإِسلام سهم ، والصلاة سهم ، والزكاة سهم ، والصوم سهم ، وحج البيت سهم ، والأمر بالمعروف سهم ، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد في سبيل الله سهم ، وقد خاب من لا سهم له) ( ).
فمن الإعجاز التباين الموضوعي بين خاتمتي آيتي السياق والبحث إذ يتوجه التحدي واللوم والفضح للذين نافقوا ليتعقبه الثناء على الذين قتلوا في سبيل الله ، ليكون الجمع بينهما باعثاً للسكينة في قلوب المسلمين والمسلمات ، وهو من مصاديق [وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا] ( ).
ترى كيف يكون ذكر الرزق الكريم للشهادة تعريضاً بالذين نافقوا ، الجواب من وجوه :
الأول : إبطال مقولة الذين نافقوا التي تتضمن معنى اللوم للشهداء لأنهم قتلوا، والأصل أن يتوجه اللوم الذم إلى الذين كفروا , نعم الذين قتلوا المؤمنين بغير حق، وقتل سبعين شهيداً من الصحابة في معركة أحد من مصاديق إحتجاج الملائكة[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ليكون تسبيح الملائكة سبباً للإذن من عند الله عز وجل لهم بالهبوط إلى الأرض لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , قال تعالى[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
الثاني : الإخبار عن قانون وهو الملازمة بين القعود عن القتال وبين الخسارة.
الثالث : صيرورة القتل في سبيل الله طريقاً للخلود في النعيم الدائم.
وقد ثبت كتاباً وسنة أن يوم القيامة لا يحل إلا بعد أن ينفخ في الصور والنشور ليقف الناس للحساب ثم الجزاء ، ولكن الشهداء إنفردوا بالفوز بمرتبة عظيمة وهي إتصال حياتهم ما بعد الموت بما قبله وبقاؤهم أحياء عند الله برزق كريم مناسب إلى أن تقوم الساعة فيدخلهم الله عز وجل الجنة، وهل يمكن الإستدلال بقوله تعالى (أحياء عند ربهم)على أن الشهداء أسمى مرتبة من الملائكة لإخبار آية البحث , فهذا العند كظرف ومكان ومنزلة نالوها بدمائهم، أما الملائكة فأنهم[عِبَادٌ مُكْرَمُونَ]( )، بفضل وإحسان من الله عز وجل .
الجواب لا يرقى هذا المعنى إلى مرتبة الدليل بأفضلية الشهداء على الملائكة والله عز وجل واسع كريم.
وعن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قال : يساق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا انتهوا إلى باب من أبوابها وجدوا عنده شجرة يخرج من تحت ساقها عينان تجريان ، فعمدوا إلى احداهما فشربوا منها ، فذهب ما في بطونهم من أذى أو قذى وبأس ، ثم عمدوا إلى الأخرى فتطهروا منها ، فجرت عليهم نضرة النعيم ، فلن تغير أبشارهم بعدها أبداً ولن تشعث أشعارهم كأنما دهنوا بالدهان ، ثم انتهوا إلى خزنة الجنة فقالوا{سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين }( )
ثم تلقاهم الْوِلْدَان يطوفون بهم كما يطيف أهل الدنيا بالحميم ، فيقولون : ابشر بما أعد الله لك من الكرامة.
ثم ينطلق غلام من أولئك الولدان إلى بعض أزواجه من الحور العين ، فيقول : قد جاء فلان باسمه الذي يدعى به في الدنيا فتقول : أنت رأيته؟
فيقول : أنا رأيته.
فيستخفها الفرح حتى تقوم على أسكفة بابها ، فإذا انتهى إلى منزله نظر شيئاً من أساس بنيانه فإذا جندل اللؤلؤ فوقه أخضر ، وأصفر ، وأحمر ، من كل لون . ثم رفع رأسه فنظر إلى سقفه فإذا مثل البرق . ولولا أن الله تعالى قدر أنه لا ألم لذهب ببصره)( ).
وأيهما أعظم وأكبر الرزق الذي تذكره آية البحث أم الرزق الذي يأتي للشهداء والمؤمنين عامة في الجنة ، الجواب هو الثاني، لأنه غير محدود كماً وكيفاً وزماناً.
الرابع : لقد جاء الأنبياء والكتب السماوية بقانون وهو الملازمة بين الإيمان والسعادة الأبدية، لتكون بعثة الأنبياء السابقين على وجوه:
أولاً : أنها حجة سابقة زماناً وحاضرة على الذين نافقوا، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
ثانياً : فيها تخفيف عن المؤمنين.
ثالثاً : أنها واقية لهم من الإنصات إلى الذين نافقوا.
رابعاً : صيرورة الذين آمنوا بالرسل السابقين أسوة حسنة للمهاجرين والأنصار والمؤمنين عموماً، والشهداء خاصة، قال تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
الخامس : إن قول الذين نافقوا بخصوص الشهداء [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ) فراق وتضاد بين المنافقين والشهداء ، فيحرم المنافقون من النعيم الذي يناله الشهداء ، ترى من الذي إختار هذا التضاد ، الجواب من وجوه :
الأول : الشهداء هم الذين تعجلوا بالشهادة لقطع الصلات مع المنافقين في الدنيا والآخرة .
الثاني : الذين نافقوا هم الذين اختاروا هذا التضاد .
الثالث : كل من الفريقين أراد هذا التضاد .
الرابع : هذا التضاد أمر قهري .
الخامس : الذين كفروا وساقوا الجيوش لمحاربة النبوة والتنزيل والإيمان.
والصحيح هو الثاني ، فالمنافقون هم الذين سعوا إلى الإضرار بأنفسهم وإلحاق الخوف والحزن بها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ) .
لقد تعالت أصوات المنافقين بعد معركة أحد ، وكثرة الشهداء فيها ، لتصبح هذه الأصوات وبالاً عليهم في النشأتين ، أما في الدنيا فمن جهات :
الأولى : توثيق آية السياق لقبيح قول الذين نافقوا .
الثانية : تعدي وظلم وتجرأ الذين نافقوا إذ أن خطابهم للشهداء (لو اطاعونا) يكون تقدير مفهومه : لو أطاعونا وما أطاعوا الله ورسوله .
لذا تضمنت آية السياق ذم المنافقين بنعتهم بأنهم أقرب للكفر ، ثم جاءت آية البحث لتبكيتهم وتوبيخهم وإخبار الناس جميعاً بأن الذي أطاع الله ورسوله فاز وربح بيعه سواء قاتل، أو لم يقاتل ولكنه حضر الميدان تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكثّر سواد المسلمين ، لذا قالت آية السياق [أَوْ ادْفَعُوا].
ومن أسماء الجيش (الخميس) لصيرورته من خمس طوائف :
الأولى : المقدمة .
الثانية : الميمنة .
الثالثة : الميسرة .
الرابعة : القلب .
الخامسة : الساقطة وهي المؤخرة .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل معركة في المقدمة أو في القلب ، وحتى لو كان في القلب فانه يصبح في المقدمة عند إشتداد القتال ، أو انسحاب أو تراجع الطلائع الأولى للمسلمين ، كما في معركة أحد ومعركة حنين لينفرد بهذه الخصوصية ويكون أعظم قائد في التأريخ خاصة وأنه لا يقف في موضع في القتال إلا بالوحي ، وإعانة المدد الملكوتي، إذ كان جبرئيل عليه السلام مصاحباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل هذه المصاحبة من مصاديق قوله تعالى [ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى]( ) أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه خاص بأسباب النزول في مكة عندما أبطأ جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقّول بعض المشركين وظهرت علامات شك عندهم.
الجواب هو الأول وأن مضامين الآية أعلاه تتغشى أيام النبوة كلها ، وهل هي مستمرة في موضوعها وفي نفعها وأثرها في الحياة الدنيا حتى بعد مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، الجواب نعم ، بتجلي الآيات والبراهين اليومية التي تدل على صدق نبوته وحمل المسلمين لواء الإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ).
الثالثة : لحوق الذل والخزي للمنافقين لعجز الذين كفروا عن النيل من الإسلام ولرجوعهم خائبين في ذات يوم معركة أحد ، وليكون قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) ذماً للذين نافقوا من وجوه :
الأول : لقد انتقم الله من الذين كفروا يوم معركة أحد .
الثاني : يا أيها الذين نافقوا لم ينفع قعودكم الذين كفروا .
الثالث : بيان شمول الكبت للذين كفروا والمنافقين .
الرابع : من مصاديق عودة الذين كفروا خائبين عجز الذين نافقوا عن منع المسلمين من الدفاع عن النبوة والتنزيل .
الرابعة : نزول آية السياق لتوثق تجرأ وظلم الذين نافقوا وإصرارهم على إعانة الذين كفروا بالصدود.
الخامسة : حضور آية البحث في المساجد والمنتديات والبيوت والأسواق لتحمل في ثناياها الثناء لشهداء أحد، والذكر الحسن لهم، وليس من ذكر اسمى وأحسن من وروده في القرآن، وهو من مصاديق قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
وأما في الآخرة فمن جهات:
الأولى : إقامة الحجة على الذين نافقوا.
الثانية : رؤية الذين نافقوا حال النعيم الذي فيه الشهداء.
الثالثة : نزول العذاب الأليم بالذين نافقوا.
الرابعة : توسل الذين نافقوا بالشهداء لإعانتهم والشفاعة لهم دون جدوى، قال تعالى[انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ]( ).
المسألة الثانية عشرة : لقد جاءت آية السياق بصيغة القطع والجزم من وجوه :
الأول : وجود طائفة في المدينة المنورة يخفون الكفر في ذات الوقت الذي يظهرون فيه الإيمان ، ويدل عليه أول كلمة في الآية [الذين قالوا].
إذ أن الاسم الموصول الذي ابتدأت به آية السياق معطوف على الاسم الموصول في الآية السابقة ومضامينها ، ويدل إفراد آيتين متعاقبتين لمسألة المنافقين وبيان شأنهم في معركة أحد على موضوعيته وما له من الأثر والتأثير وهو مناسب لإقامة الحجة عليهم .
الثاني : عدم إكتفاء الذين نافقوا باخفاء الكفر والضلالة إنما هم يقولون ويعلنون ما يدل على نفاقهم .
ويتصف هذا القول بصبغة الإخفاء والإظهار، الإخفاء في حال السلم، والإظهار في حال قرب العدو من المدينة ، وإحتمال إصابة المسلمين بالضرر، ومن معاني وخصائص هذا الإظهار ، أنه إعانة للذين كفروا ، ومحاولة لإضعاف المسلمين فتفضل الله عز وجل وأخبر عن قولهم ، وقبيح فعلهم وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيه من الدلالة على صدق نبوته، وهو من الشواهد على قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
ترى لماذا ذكر الله قول الذين نافقوا لإخوانهم ولم يتركه يذهب أدارج الرياح ثم يؤاخذهم عليه يوم القيامة، الجواب من جهات :
الأولى : توثيق قول المنافقين .
الثانية : علم أهل السماء والأرض بسوء فعل المنافقين، ولما إحتج الملائكة على جعل آدم[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) بأن الإنسان يفسد في الأرض ويقوم بالقتل بغير حق، تفضل الله عز وجل وأجابهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
ليكون بيان القرآن لما يفعله المنافقون شاهداً ومصداقاً لإحتجاج الملائكة على إفساد الإنسان في الأرض لأن قعود وقول المنافقين [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ) بخصوص الشهداء من الفساد ومقدمات الفساد في الأرض وهل تلحق المقدمة في المقام بالفساد .
الجواب نعم ، مع القصد إليها والعلم بما يترتب عليها من الضرر .
الثالثة : تحذير الناس عامة والمسلمين والمسلمات خاصة من فعل المنافقين، لقد كان الإسلام في سنواته الأولى، حيث يستبشر ويفرح المسلمون بدخول أي فرد الإسلام غنياً أو فقيراً، حراً أو عبداً ، ويبذلون الوسع لجذب الناس إلى الإيمان ، فقد لا يلتفتون إلى إضمار بعض الذين يدخلون الإسلام الكفر ، والإصرار على الإقامة على الجحود، فنزلت آية السياق لكشف هذه الحقيقة وتحذير المسلمين منهم ز
وجاء القرآن بنعت المنافقين بأنهم هم العدو ويجب أخذ الحائطة والحذر منهم ، قال تعالى [وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ]( ).
الرابعة : إخبار أجيال المسلمين المتعاقبة وإلى يوم القيامة عما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون من الأذى من المنافقين والذي جاء متلازماً مع هجوم الذين كفروا على المدينة .
الخامسة : دعوة الذين نافقوا إلى التوبة والإنابة ، وجعلهم يدركون أن قعودهم وصدودهم فعل قبيح يعلمه الله ويحاسبهم عليه، وهو من معاني الوعيد في قوله تعالى[وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ]( ).
الثالث : قعود الذين نافقوا عن الدفاع ولم يوصف الذين نافقوا بالقعود إلا بعد توجه الأمر والنداء لهم بالدفاع عندما صار جيش الكفار على مشارف المدينة المنورة ، فلم ينعتوا بالقعود عند تخلفهم عن معركة بدر، وقد لا يكون آنذاك شأن وموضوعية للنفاق الذي أظهر مع نماء قوة الإسلام.
المسألة الثالثة عشرة : لقد ذكرت آية البحث تعريض الذين نافقوا بالمؤمنين الذين أستشهدوا في معركة أحد وتضمنت آية البحث ثناء الله على الشهداء، والإخبار عن فوزهم بالخلود في دار النعيم ، وفيه وجوه :
أولاً : توبيخ المنافقين على ما يقولون ومخالفة قولهم للحق والصدق .
ثانياً : بيان زيف ما يقول المنافقون ، ومن الإعجاز في المقام عدم تأخر هذا البيان عن قول وشماتة المنافقين بالشهداء ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ) أم أن القدر المتيقن من الآية هو عالم المشيئة والخلق والفعل ، الجواب هو الأول ، فلم يجعل الله عز وجل فترة وزماناً يبعث فيه المنافقون بأراجيفهم .
فجاءت آية البحث متعقبة لآية البحث وما فيها من قول الذين نافقوا لنسخه ومحو أثره من الأذهان .
ثالثاً : بيان قانون وهو أن القتل في سبيل الله دفاعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل طريق الحياة الأبدية والعيش في النعيم ، فليس بين الشهيد وبين النعيم الدائم إلا مغادرة الروح الجسد .
رابعاً : من خصائص الحياة الدنيا وجود أمور وأمارات فيها تكون على جهات:
الأولى : أنها مرآة لعالم الآخرة .
الثانية : هي سبيل للهداية .
الثالثة : هي حجة حاضرة على الناس .
الرابعة : فيها إنذار من الكفر والنفاق وسوء عاقبة كل منها.
ومعركة أحد من هذه المصاديق إذ قال تعالى[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) ليكون هذا اللقاء بالسيف عنوان الإنفصال والفراق في الآخرة ، إذ يساق الذين آمنوا إلى الجنة , ويساق الذين كفروا والمنافقون إلى النار ، ليكون يوم القيامة يوم الفراق بين المؤمنين والذين كفروا وتدل آية البحث على تحقق الفراق في الحياة الدنيا بدليل القتال بينهم وسقوط القتلى ، وقال تعالى [وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ] ( ) أي الفرقة والإختلاف في الحساب أو الحكم والجزاء ومنازلة ، وهو فراق لا إجتماع بعده ليكون لقوله تعالى قبل ثلاث آيات [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) بالأجر والثواب للمؤمنين والعذاب الأليم للذين كفروا ، لذا ورد في القرآن البيان بعد الآية أعلاه من سورة الروم [فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ]( ).
المسألة الرابعة عشرة : لقد إبتدأت آية السياق بالجملة الخبرية ثم جاءت الجملة الإنشائية إذ تضمنت الآية الأمر من الله عز وجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قل) ومع أن الله عز وجل قرن طاعة الرسول بطاعته تعالى واوجب طاعته وإتباع أمره بقوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ) فان الآيات تتضمن الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قل).
ولم يرد أمر من الله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ (افعل ) ولكن آيات القرآن كلها تدل عليه وتشير إليه، وفي التنزيل[أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
ولم يرد لفظ (افعل) في القرآن إلا مرة واحدة في خطاب إسماعيل إلى أبيه إبراهيم عليهما السلام [قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ] ( ) ,
وقد أختلف في علم الأصول هل تدل صيغة (افعل) على العلو والإستعلاء وصدورها من العالي إلى الداني أو لا .
وتدل الآية أعلاه على إرادة الوجه الثاني وفيه دعوة لعلماء الأصول للرجوع إلى القرآن والصدور عنه ، ويشمل الأمر ولفظ افعل أموراً :
الأول : إتيان فعل .
الثاني : النطق بقول أو كتابته .
الثالث : الترك لفعل مخصوص مثل دع، اترك ، ذر , كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
أما القول [لا تفعل ] فهو ليس من الأمر إنما هو من النهي والزجر ، كما في قوله تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ] ( ) وهو ذات المعنى الذي جاءت به آية السياق كما يأتي في تفسيرها إن شاء الله .
المسألة الخامسة عشرة: من دلالات الجمع بين آية البحث والآية السابقة حصول القتل بالمؤمنين في معركة أحد ، ولكن المنافقين ذكروا هذا القتل بصيغة تنم عن الخبث والمكر والدهاء وإرادة إتخاذه وسيلة لصد الأحياء من المؤمنين عن الجهاد والدفاع عن النبوة والتنزيل ، وتقديره على وجوه :
الأول : يقول الذين نافقوا لمن قُتل أخوه شهيداً : أقعد عن الدفاع وأطعنا ولا تلحق بأخيك ، ففي طاعتنا استدامة لحياتك.
الثاني : يذهب الذين نافقوا للأم ليقولوا : اجعلي ابنك يقعد مثلنا، ففي القعود سلامته.
الثالث : تقول اللائي نافقن للزوجة: حثي زوجك على القعود عن القتال والدفاع.
الرابع : يتوجه الذين نافقوا لأبناء قبيلتهم من الأوس والخزرج بالحث على القعود والحجة الظاهرة فيه السلامة من اللحاق بالشهداء لتكشف ذات آية البحث والآية السابقة حقيقة وهي أن قول الذين نافقوا بخصوص الشهداء وتحريضهم المسلمين على القعود إنما هو نوع مغالطة.
فان قلت لِمَ ذكر الله عز وجل كلام وقول الذين نافقوا في القرآن , ولم يتركه ليذهب أدراج الرياح، والجواب من وجوه :
الأول : توثيق القرآن لأباطيل وأراجيف المنافقين لتكون حجة عليهم .
الثاني : بيان الأذى الشديد الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون على وجوه :
أولاً : شدة الأذى من الذين كفروا وهجومهم المتعدد على المدينة .
ثانياً : الأذى المترشح من قبيح فعل الذين نافقوا .
ثالثاً : الفرد الجامع للأذى من الكفار والمنافقين .
رابعاً : ما يأتي من الأذى من بعض أهل الكتاب في المدينة .
الثالث : منع الإفتتان بما يبثه المنافقون من المكر .
الرابع : دعوة الناس للتوبة ودخول الإسلام , قال تعالى[قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ]( ).
الخامس : تنمية ملكة اليقظة والحيطة من المنافقين والنفاق قبل وبعد الدخول إلى الإسلام.
الساد س: قطع دابر المنافقين ، فلا غرابة أن تأتي سورة كاملة من القرآن باسم سورة المنافقون، تبين خصالهم المذمومة وتصفهم بالكفر بقوله تعالى[ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ).
وكيف أنهم يمتنعون عن الفوز بنعمة إستغفار الرسول لهم، ويريدون الإيقاع بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وإخراجهم من المدينة المنورة، ويتناجون بمنع الإنفاق على المؤمنين، كما ورد في سورة المنافقين[هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ]( ).
المسألة السادسة عشرة : لقد إبتدأت آية البحث بالجملة الخبرية وأختتمت بجملة إنشائية وأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ(قل) وتوجيه قوله ولومه وتحديه للمنافقين، وتعقبتها آية السياق في ذات صيغة الخطاب التي أختتمت بها آية البحث.
نعم جاءت آية البحث بصيغة الأمر (قل) أما آية السياق فابتدأت بصيغة النهي والنفي (ولا تحسبن الذين قتلوا).
ومن أسرار الأمر من الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (قل) بقاء هذا الأمر والقول بين الناس إلى يوم القيامة ، فقد انتهت معركة أحد بذات اليوم الذي إبتدأت فيه وهو اليوم الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دخوله المعركة ليوم واحد لتبقى غضة حاضرة في الأذهان وفي المجتمعات كل يوم من أيام الحياة الدنيا إلى يوم القيامة من وجوه:
الأول : تلاوة المسلمين لآيات القرآن كل يوم وعلى نحو الوجوب العيني في الصلاة، ومن الإعجاز في المقام أن معركة أحد أكثر معارك الإسلام ذكراً في القرآن.
الثاني : ورود موضوع معركة أحد في المناهج الدراسية لعموم العالم الإسلامي.
الثالث : زيادة وفد الحاج والمعتمرين قبور شهداء أحد، بشوق ورعبة، ومن الآيات أن حمزة بن عبد المطلب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين شهداء أحد.
وانتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى في السنة الحادية عشرة للهجرة ويوافق السنة (632) ميلادية .
ولم يعمر المنافقون الذين قعدوا وحرضوا على القعود عن الدفاع، وتجاهروا به في المدينة ولم يحاسبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يدع المسلمين للإنتقام منهم لقطع دابر الأراجيف والأقاويل الخبيثة ، ولكن آية البحث بقيت حية وغضة طرية إلى يوم القيامة وحاضرة في الوجود الذهني للمسلمين والمسلمات .
ليكون من إعجاز القرآن إستدامة المدح والذم اللذين وردا فيه إلى يوم القيامة ، وهو خزي إضافي للمنافقين ، ودعوة للناس لنبذ النفاق والتبرأ منه ومن أهله .
ليكون من معاني قوله تعالى [يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ]( ) ولادة وخروج المؤمن التقي من المنافق الخبيث ، وقد تحقق هذا المصداق في ذات معركة أحد ، إذ خرج أبو عامر الفاسق إلى مكة لتحريض الذين كفروا وجاء معهم في معركة أحد وهو يمنيهم بأن قومه من الأوس سينضمون إليه ويستجيبون لدعوته ولن يتخلفوا عن دعوته إذ كان من سادات الأوس ، وقيل هو رأسهم، واسمه (عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان الأوسي) ( )، وعندما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة أظهر أبو عامر العداء للإسلام وغادر إلى مكة.
ولما التقى الجمعان في معركة أحد كما أخبرت آية[وَمَا أَصَابَكُمْ]( )، كان أبو عامر الفاسق أول من برز ونادى (يا معاشر الأوس أنا أبو عامر، فقالوا: لا نعم الله بك عيناً يا فاسق، وكان أبو عامر يسمى في الجاهلية الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الفاسق.
فلما سمع ردهم عليه، قال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتلهم قتالاً شديداً، وأضمخهم بالحجارة )( ).
وكان ابنه حنظلة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستشهد يومئذ وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ان صاحبكم يعني حنظلة لتغسله الملائكة)( )، فسمي غسيل الملائكة وكان الأوس يفتخرون به.
المسألة السابعة عشرة : أختتمت آية البحث بصيغة الجملة الشرطية(إن كنتم صادقين) في خطاب للذين نافقوا يتضمن الذم والتوبيخ ويتعلق بآية جلية من الإرادة التكوينية وهي حتمية موت كل إنسان وعجزه عن دفع الموت عنه أو إرجائه، أما خاتمة آية السياق فتتعلق بحال الشهداء والكرامة التي اختصهم الله بها من بين أجيال البشر وطبقات الصالحين.
ومن الإعجاز في السنة النبوية بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإختلاف والتباين بين المؤمن والكافر في كيفية الموت وقبض الملائكة لروح كل منهما .
(وعن قتادة قال أصحاب النبي : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ يَمْرَضُ الرَّجُلُ الَّذِي كُنَّا نَرَى أَنَّهُ صَالِحٌ فَيُشَدَّدُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَيَمْرَضُ الرَّجُلُ الَّذِي مَا كُنَّا نَرَى فِيهِ خَيْرًا فَيُهَوَّنُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَوْتِهِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَبْقَى مِنْ ذُنُوبِهِ شَيْءٌ فَيُشَدَّدُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَوْتِهِ لِأَنْ يَلْقَى اللَّهَ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ تَبْقَى مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْءٌ فَيُهَوَّنُ عَلَيْهِ لِأَنْ يَلْقَى اللَّهَ وَلَا حَسَنَةَ لَهُ. قَالَ الثَّوْرِيُّ: بَلَغَنَا أَنَّ عِلَاجَ مَلَكَ الْمَوْتِ أَشَدُّ مِنْ أَلْفِ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ)( ).
ليكون من معاني الآية إنذار الذين نافقوا بكيفية زيارة ملك الموت لهم وبيان قانون من جهات :
الأولى :عجز الذين نافقوا عن صرف الموت عنهم .
الثانية : جهل وعدم علم الذين نافقوا بساعة الموت ، وقد يرجع المجاهد إلى المدينة سالماً فيخبره الناس بأن فلاناً المنافق قد مات في فراشه عن علة, وصاحباً له مثله من غير علة.
الثالثة : تعذر معرفة الذين نافقوا لكيفية مجئ ملك الموت وهيأته أثناء قبض الروح .
الرابعة : تأكيد حقيقة وهي أن الذين كفروا لا يستثنون في هجومهم على المدينة أحداً من أهلها ، قال تعالى [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ]( ) ولكن الذي يقتل من المنافقين ليس شهيداً إنما مات موتاً، وإن كان قتله بذات يد الكافر الذي قتل مؤمناً شهيداً في ميدان المعركة إلا أن يشاء الله , وتفضله بجعل قتله في سبيل الله , ولو بلحاظ نفع المسلمين من تضحيته وشهادته , قال تعالى [فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ] ( ).
ليكون من معاني الآية التالية بعث الحسرة في نفوس الذين نافقوا لأنهم عرضة للقتل ، ولكنهم لا يفوزون بمرتبة السمو والرفعة التي ينالها الشهداء بحياتهم عند الله عز وجل .
ومن الإعجاز في نظم الآيات مجئ هذه الآيات بذكر قانون القتل في سبيل الله ، مع التباين الجهتي في الموضوع من وجوه :
الأول : ذكرت الآية قبل السابقة عموم المؤمنين الذين حضروا المعركة أحد , إستقراء من قوله تعالى [قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا] ( ) ويحتمل تقدير الآية وقوله تعالى [ادْفَعُوا] في الآية أعلاه وجوهاً :
أولاً : أو ادفعوا في سبيل الله .
ثانياً : أو ادفعوا عن أنفسكم وأهليكم , وبقصد القربة إلى الله وفي سبيله تعالى .
ثالثاً : أو ادفعوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد رأيتم المعجزات الباهرات التي تجري على يديه، ومصاحبة الوحي له.
رابعاً : أو ادفعوا عن أنفسكم وأهليكم وذراريكم وإن لم يكن بقصد القربة إلى الله .
خامساً : أو ادفعوا ولا تقصروا، فان القعود مبغوض ذاتاً وأثراً .
سادساً : أو ادفعوا المال إنفاقاً في سبيل الله حتى وإن قعدتم عن الجهاد .
سابعاً : أو ادفعوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبيان ظلم الذين كفروا بتعديهم واصرارهم على الهجوم على المدينة ، ومتى ما علم الذين كفروا أن الأوس والخزرج يذبون ويدافعون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنهم ينزجرون عن تكرار الهجوم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق الآية الكريمة .
الثاني : حرمان الذين من الفوز بالثواب المترشح عن القتل في سبيل الله لدعوتهم للقعود إذ أن ثواب الشهادة أعم من أن يختص بصاحبها إنما يشمل ذويه وأهله وأصحابه والمعضدين له والآمرين له بالمعروف والناهين له عن التكرار ، وهو من أسرار إخبار آية البحث عن حياة الشهداء عند الله .
الثالث : بيان آية البحث عظيم منزلة الذين قتلوا في سبيل الله لبعث السكينة في نفوس المسلمين وبيان قانون , وهو عدم خسارة المؤمن في أي حال من الأحوال .
ومن الإعجاز في هذه الآيات أنها ذكرت الذين يخفون الكفر مع إدعاء الإيمان بلفظ الذين نافقوا ، وليس بلفظ المنافقين ، وذكرت الشهداء بلفظ الذين قتلوا في سبيل الله ، ولم تقل :ولا تحسبن الشهداء ، وبين اللفظين عموم وخصوص مطلق , فالأخير أعم .
الثالث : إكرام المؤمنين لإستعدادهم لبلوغ مرتبة القتل في سبيل الله بالنفير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد للدفاع عن الإسلام والنبوة .
الرابع : تحقق مصداق خارجي لقانون القتل في سبيل الله في كل معركة من معارك الإسلام الأولى تقريباً لبيان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فبعد أن كان الناس يعبدون الأوثان ، ولا يتقاتلون بخصوصها إنما يكون قتالهم للنهب والغزو وطلب الثأر ، وكأنها تحرضهم على العادات المذمومة جاءت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لينقسم الناس إلى قسمين :
الأول : الذين بادروا للإيمان .
الثاني : الذين أصروا على الكفر .
وألح الكفار في إيذاء وقتال المسلمين وإرادة حملهم على ترك الإسلام والتخلي عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأداء الفرائض والعبادات فبذل المؤمنون أنفسهم في سبيل الله ، ومال الذين نافقوا يومئذ إلى منازل الكفر وأظهروا مفاهيم الضلالة ، فتفضل الله عز وجل بآية السياق لفضحهم .
وجاءت آية البحث لتبعث الحسرة في نفوسهم ، وفي التنزيل [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ).
المسألة الثامنة عشرة : لقد أمر الله عز وجل نبيه الكريم بالرد على المنافقين وتحديهم بان يدفعوا عن أنفسهم الموت كما في آية البحث ، وهو من مصاديق الغلظة في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ).
ثم جاءت آية البحث لتبين حال الشهداء والمنزلة العظيمة التي فازوا بها لينالوا مرتبة خاصة وهي غبطتهم من قبل كل من :
الأول : الملائكة .
الثاني : أهل الأرض .
الثالث : أهل القبور وعالم البرزخ .
الرابع : الشهداء الذين سبقوهم .
وفيه حجة وتوبيخ للمنافقين ودعوة للمؤمنين للبذل والدفاع ..
وتندب آية السياق المؤمنين إلى النفير والدفاع وهي واقية من إستماعهم وغيرهم من الناس إلى المنافقين .
المسألة التاسعة عشرة : لقد إحتج المنافقون بالحياة والموت ، وأن عدم خروج المؤمنين إلى ميدان المعركة سبب في استدامة حياتهم وعدم هلاكهم وقتلهم في المعركة.
فجاءت آية السياق متعقبة لآية البحث لتتضمن الإخبار عن قانون وهو أن الشهادة في سبيل الله سبب لإستدامة حياة الشهيد ودوام إقامته في النعيم من غير انقطاع , ويدل مفهومه على أن القعود لا يجلب إلا الندم والحسرة ، ويكون مقدمة لتجرأ المشركين في مواصلة التعدي والهجوم على المسلمين ومزارعهم وممتلكاتهم .
لقد خرج المسلمون إلى معركة أحد من غير طمع في عوض أو بدل من حطام الدنيا ، ومراتب الجاه فيها .
ولقد أخبرت آية [ببدر] عن حال المسلمين يومئذ، وكيف أنهم في هيئة استضعاف وذل , قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
وهل يعني هذا زوال الإستضعاف على نحو تام بالإنتصار في معركة بدر، الجواب لا ، إنما بينت الآية عظيم قدرة الله عز وجل ونصره للمسلمين بمعجزة وبنزول الملائكة مدداً لهم.
ومن الآيات أن لفظ [الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ورد بخصوص معركة بدر ومعركة أحد لبيان وجه جامع مشترك بين المعركتين ومنه قلة عدد المسلمين والنقص في أسلحتهم ورواحلهم في مقابل كثرة عدد جيش المشركين وكثرة أسلحتهم ورواحلهم , كما تعرضوا في الطريق إلى المعركة لفتنة وإمتحان شديد إذ انسحب ثلث الجيش مع رأس النفاق عبد الله بن أبي , وهو ينادي الأنصار بالإمتناع عن الذهاب إلى المعركة بالقول (مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَا هُنَا) ( ).
وعادوا إلى المدينة وهم عازفون عن اللقاء ولمعان السيوف , وكان المؤمنون ينظرون إليهم فلم تمل نفوسهم إليهم ولم يحاكوهم في فعلهم وخورهم، مع أنهم صاروا بحال أشد من الضعف ولكنهم تمسكوا بسنن التقوى وجاهدوا في الذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبذلوا النفوس والأموال لتكون كلمة الله هي العليا , وهو من أبهى مصاديق قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
ومن إعجاز القرآن بيانه لصبر المؤمنين يوم أحد ، وعدم إفتتانهم برجوع الذين نافقوا ، إذ ورد قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
ولما رجع المنافقون من وسط الطريق إلى جبل أحد لحقهم عبد الله بن عمرو بن حرام وناشدهم الرجوع إلى صفوف المسلمين ولكنهم أصروا فقال: ابعدكم الله وحينما رجع وافق النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصف أصحابه (وكادت طائفتان من الباقين – وهما بنو سلمة عشيرة عبد الله بن عمرو وبنو حارثة – أن تفشلا لرجوع المنافقين ، ثم ثبتهم الله تعالى)( )( ) وقوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا] ( ).
وعبد الله بن حرام استشهد في ذات معركة أحد وهو من النقباء ووالد الصحابي جابر بن عبد الله الانصاري .
الثاني : أرادت الطائفتان التقاعد عن الخروج ( )وكان ذلك ذنباً صغيراً منهم أي أنهم نووا عدم الخروج أصلاً من المدينة خاصة بعد ميل النبي صلى الله عليه وآله وسلم للبقاء في المدينة وقتال العدو فيها , والحاح جماعة من المؤمنين عليه حتى لبس لأمة القتال , ولكن القول بالتقاعد هذا ضعيف وبعيد .
الثالث : إنه حديث نفسي خطر ببالهم فنزلت به الآية القرآنية ، لبيان أن صرف مثل هذا الحديث تم بفضل ورحمة من الله ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
الرابع : قيل أن نفر من بني حارثة طرأ عليهم نفاق وضعف وظهر عليهم الجبُن وعاهدوا الله بعدها ، فنزل فيهم عند واقعة الخندق قوله تعالى
[وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً] ( ) لبيان تنزههم عن النفاق ظاهراً وباطناً , ولأن الله عز وجل نعتهم بالمؤمنين لذا كانوا يفتخرون بالآية ، فقد ورد عن جابر بن عبد الله (فينا نزلت . في بني حارثة ، وبني سلمة { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا }( ) وما يسرني أنها لم تنزل لقول الله { والله وليهما } .) ( ).
الخامس : المراد بالهم بالفشل الخور والجبن هو عند اشتداد القتال إذ كانا جناحي الجيش (عن مجاهد { إذ همت طائفتان } قال : بنو حارثة كانوا نحو أحد ، وبنو سلمة نحو سلع ) ( ).
كما أختلف في المراد من الطائفتين في الآية الكريمة على وجوه :
الأول : المراد أنهم قوم من المهاجرين والأنصار ، ذكره الماوردي ولم يذكر جهة الصدور ( ).
الثاني : أنهم بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار وبه قال جابر بن عبد الله الذي كان حاضراً المعركة ، وقال ابن عباس الذي كان أيام معركة أحد صغيراً في مكة مع أبيه العباس بن عيد المطلب .
الثالث : هم طائفتان من الأنصار عن الحسن البصري( ) أي من غير تعيين لقبيلة منهم .
الرابع : المراد من الفشل في الآية جماعة (منهم بنو حارثة بن الحارث ، ومنهم أوس بن قيظى ، وأبو عربة بن أوس بن يامين ، ، وبنو سلمة بن جشم ، وهما حيان من الأنصار) ( ).
الخامس : (هم بنو الحارث وبنو الخزرج وبنو النبيت , والنبيت هو عمرو بن مالك من بني الأوس) ( ).
والصحيح هو ما ورد عن جابر بن عبد الله أن الطائفتين بنو حارثة وبنو سلمة من الأنصار وأن أوان وحال الفشل عند إلتقاء الجمعين وترك الرماة مواضعهم , وحصول الإرتباك في جيش المسلمين ، وفرار الكثير من الصحابة .
وهل يحتمل تكرار الهم بالفشل وان جماعة منهم أرادوا الرجوع مع عبد الله بن أبي من وسط الطريق فعصمهم الله ، وطائفة أرادوا إعتزال القتال ساعة اشتداد القتال ، الجواب هذا بعيد .
إذ تدل الآية على التؤاطئ على الهم والمناجاة فيه ولو بالإشارة وتشابه الآمارات عليه بين الطائفتين وليس هو همّا متفرقاً على نحو القضية الشخصية ثم أن تقدير النسبة في منكم أي من المؤمنين .
وتقدير الآية : إذ ذهب طائفتان من المؤمنين أن تفشلا ) ومن إعجاز القرآن أن لفظ [تفشلا] لم يرد في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان أمور :
الأول : امتناع المؤمنين عن الفشل والجبن .
الثاني : طرو الهم بالفشل على طائفتين من المؤمنين مرة واحدة في معركة أحد ، ، ومغادرته وإنصرافه عنهم وعن جميع المؤمنين في كل معارك الإسلام اللاحقة .
الثالث : لم يطرأ الهمّ بالفشل على طائفة أو جماعة أو أفراد من المسلمين في معركة بدر , وجاء النصر من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
وقد ذكر تحقق الفشل للمسلمين في معركة أحد بقوله تعالى [حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ..] ( ) لبيان التباين في مراتب ومنازل الفشل والهمّ به كما ورد التحذير من الفشل والخور , وبيان أنه ملازم للفرقة والخصومة والشقاق بين المسلمين ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ..] ( ).
وسئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُذْكَرَ، وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، فَمَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) ( ).
لقد جاءت آيات القرآن بالبشارة للمحسنين والصالحين الذين يسارعون في فعل الخيرات بأن لهم أجراً عظيماً ، وتفضل الله عز وجل وأخبر عن فوز الشهداء والذين قتلوا في سبيله بأنهم أحياء عنده تعالى [وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا]( ).
لقد كان خروج الصحابة إلى معركة أحد من أعظم القربات ومن القواعد التي أسست لبناء صرح الإسلام ، فعرضوا أغلى ما يملكون وهي أنفسهم قرباناً فاختار الله عز وجل منهم طائفة لتفوز بالمرتبة السامية والحياة الدائمة .
وكان عدد الشهداء يوم معركة أحد سبعين ، وقد وقع قتلى في جيش المشركين يومئذ وعددهم اثنان وعشرون ، وعن السدي (قال : ذكر الله قتلى المشركين بأحد ، وكانوا ثمانية عشر رجلاً)( ).
وقد ذمهم الله عز وجل في القرآن ونسب قتلهم إليه سبحانه بقوله تعالى لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ.
المسألة العشرون : من معاني الجمع بين الآيتين عدم إصغاء المؤمنين إلى الذين نافقوا في أراجيفهم وصدودهم عن سبيل الله ، لقد قعد الذين نافقوا وظنوا أن عامة الأنصار سيحاكونهم بهذا القعود ، ولكن براهين النبوة والتنزيل تجلت بالنفير العام للأنصار إلى معركة أحد ، وهو من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ليكون من معجزاته في السنة الدفاعية أمور :
الأول : خروج الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة بدر .
الثاني : قتال الصحابة من المهاجرين والأنصار في معركة بدر .
الثالث : النصر المبين للمسلمين في معركة بدر .
الرابع : رفع حال الفقر وإزاحة المسكنة عن المسلمين بالنصر في معركة بدر ، والغنائم التي جلبوها معهم من المعركة .
الخامس : مبادرة المسلمين للخروج إلى معركة أحد من غير تردد أو إعتراض ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
إذ تفيد الآية أعلاه حقيقة وهي أن المؤمنين من المهاجرين والأنصار مستجيبون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال الحرب والسلم ، وأن تحريض المنافقين على القعود حجة عليهم في النشأتين ، وليس له أثر في نفوس المؤمنين .
السادس : تحريض المؤمنين من قبل عوائلهم على الخروج وتهيئة مستلزمات الخروج ، وخرجت بعض النسوة مع فاطمة الزهراء عليها السلام لمداواة الجرحى ، ومنهن من كانت تأتي بالماء والسقاء لأفراد الجيش وما تلبث أن تدخل المعركة عندما رأت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس معه إلا أفراد قليلون من أهل بيته وأصحابه يحيط بهم العشرات ثم المئات من جيش المشركين .
السابع : ملاقاة المسلمين لجيش المشركين في معركة أحد , ومن لم يستشهد منهم أصيب بالجراحات ، وخصت آية السياق الشهداء وبينت عظيم منزلتهم لبعث السكينة والبشارة في نفوس عموم المسلمين والمسلمات, من جهات :
الأولى : سلامة وصحة إختيار الشهادة في سبيل الله .
الثانية : فوز الشهداء بالمنزلة الرفيعة عند الله .
الثالثة : نجاة الشهداء من ضغطة القبر وعذاب البرزخ الإبتدائي لعدم وجود ثمة فترة بين الشهادة، والإنتقال إلى جوار الله ليتغشاهم لطفه ورحمته.
الرابعة : بعث الطمأنينة في نفوس المسلمين والمسلمات بخصوص الشهداء.
الخامسة : من مقدمات البشارة الصبر والتأسي والإكثار من الإسترجاع، قال تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
وصحيح أن المؤمنين لم ينصتوا لأراجيف وشبهات الذين نافقوا ، ولم يقعدوا عن الدفاع في سبيل الله إلا انه قد تكون هناك آذان صاغية للمنافقين بعد سقوط الشهداء في معركة أحد خاصة مع كثرة عددهم وهم سبعون شهيداً منهم ستة وستون من الأنصار .
فجاءت الآية التالية لمنع هذا الإصغاء ولتسليح المؤمنين بالحجة والبرهان لدحض أباطيل وشبهات المنافقين ، فالذين سخروا منهم لتضحيتهم أحياء ولم يموتوا، وحياتهم ليس هي حياة أهل الدنيا ولا الحياة البرزخية المحضة إنما هم أحياء عند الله بضيافته تعالى، وفي التنزيل[وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]( ).
المسألة الحادية والعشرون : مع قصر مدة معركة أحد فقد وصلت إلى المدينة إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المعركة ، فأظهر المنافقون الشماتة ، وبثوا الأراجيف ، وسرعان ما جاءت الأخبار بسلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخابوا.
وعندما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة كانت الجراحات ظاهرة على وجهه مع سقوط أسنانه الأمامية وكثرة الجراحات في أصحابه ، وفقد سبعين شهيداً.
فصار المنافقون والفاسقون يظهرون القول القبيح ويدسون السموم وينشرون الشرور وقال بعضهم: ما محمد إلا طالب ملك ولو كان نبياً ما أصيب بمثل ما أصيب به هو وأصحابه يدّعون بأن أي نبي لا يصاب بجرح أو خدش من العدو.
وأخذ المنافقون يبدون الأسى على الشهداء ويقولون لو قعدوا عن القتال مثلنا لما قتلوا ، وقام عبد الله بن أبي سلول بلوغ ابنه عبد الله الذي أصيب بجرح في المعركة .
ونزل قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) أي لا تضعفوا لما أصابكم من الجراحات والخسارة في معركة أحد ، ولا تقعدوا عن جهاد عدوكم ، وقوله تعالى [وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] أي أثناء المعركة وبعدها، وأن النصر قادم والظفر بالمشركين وفتح مكة قريبان، قال تعالى[إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا* وَنَرَاهُ قَرِيبًا]( ).
فنزلت آية البحث تتحدى المنافقين والفاسقين بحتمية طرو الموت عليهم من جهات :
الأولى : موضوع الموت وكونه خاتمة حياة الإنسان .
الثانية : قرب الموت من كل إنسان في أي لحظة من حياته، وقد يصعد النفس ولا ينزل ، وحتى الصبي الذي لا يدرك يكون الموت قريباً منه، عندما يكبر يعلم أنه نجا من الموت حتى أدرك مع قربه منه من حين ولادته.
الثالثة : عجز المنافقين عن دفع الموت عن أنفسهم ، وهذا العجز من وجوه :
الأول : عجز المنافق عن دفع الموت عن نفسه .
الثاني : قصور المنافق عن منع حلول الموت في أوانه ومكانه .
ومن إعجاز القرآن ذكره للمنافقات على نحو التعيين ، وقد ذكر لفظ المؤمنات في القرآن اثنتين وعشرين مرة ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا] ( ).
الثالث : جهل المنافق بأوان ومحل وفاته .
المسألة الثانية والعشرون : إبتدأت آية البحث بحرف العطف (الواو) لبيان إتصالها بالآية السابقة لها .
وقد أختتمت الآية السابقة بقانون يتعلق بعلم الله بما يخفيه الناس في صدورهم من العزائم والنوايا والرغائب ، ولكن الآية خصت الذين نافقوا ليكون من معانيها التخويف والوعيد لهم ، وجاء هذا المعنى أيضاً بصيغة الخطاب بقوله تعالى [إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنْ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ] ( )، ولا تنحصر مضامين هذا القانون بالناس إنما تشمل الملائكة والجن أيضاً ، قال تعالى [قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ] ( ).
كما جاء لفظ [يَكْتُمُونَ] بصيغة الغائب لتأكيد ذم الذين نافقوا ، كما في قوله تعالى [وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ] ( ) .
وهل يصح تقدير الآية : والله أعلم بما كتموا ، الجواب نعم ، ولكن الآية ناظرة إلى حال المنافقين في زمن نزول الآية واوان معركة أحد ، لبيان أثر ما يخفون في نفوسهم على أقوالهم وأفعالهم .
بالإضافة إلى إقامة الذين نافقوا على إبطان الكفر أمس واليوم وغداً إلا من تدركه التوبة ، قال تعالى [وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى] ( ).
وتقدير خاتمة الآية السابقة : والله أعلم بما كتموا وما يكتمون من الآن وما سيكتمون غداً ).
ومنه ما يخفونه من الحسد للمسلمين لنصرهم في معركة بدر ، وقدومهم بالغنائم مع سبعين أسيراً من المشركين ثم شماتتهم بهم لكثرة القتلى منهم في معركة أحد .
المسألة الثالثة والعشرون : لقد أختتمت آية السياق باحتجاج على الذين نافقوا وهذا الإحتجاج أمر وتلقين من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ] وفيه مسائل:
الأولى : تفضل الله عز وجل بالمدد والعون إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى في موضوع الإحتجاج .
الثانية : بيان قانون وهو أن الله عز وجل يتولى بنفسه الإحتجاج على الذين نافقوا والمشركين .
وفي هذا الإحتجاج ذخائر وعلوم لا يعلمها ويظهر مفاتيحها إلا الله عز وجل , قال سبحانه [قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
الثالثة : منع الذين نافقوا من الإساءة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن الله عز وجل هو الذي يأمره بالإحتجاج ويبين له مادة الإحتجاج.
الرابعة : بعث الطمأنينة في نفوس المسلمين وحثهم على تلاوة آية السياق لأنها أمر من عند الله عز وجل .
الخامسة : عجز الذين نافقوا عن رد الإحتجاج لأنه نازل من عند الله ، وفي التنزيل [قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
السادسة : إبتداء آية البحث باحتجاج آخر على الذين نافقوا ، وهو من أسرار النهي الوارد بقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ] ومن الإحتجاج على الذين نافقوا إبطال مغالطتهم بأن الشهداء لو أطاعوهم ما قتلوا إذ أنهم في سعادة دائمة عند الله عز وجل .
المسألة الرابعة والعشرون : تضمنت خاتمة آية السياق التحدي للذين نافقوا بقوله تعالى[إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] وإذ يعجزون مجتمعين ومتفرقين عن دفع الموت عن أحدهم فإذن هم ليسوا صادقين في أمور:
الأول : إدعاء الذين نافقوا الأخوة مع كل من:
أولاً : المؤمنين من الأوس.
ثانياً : المؤمنون من الخزرج.
ثالثاً : الصحابة من المهاجرين.
رابعاً : ذات المنافقين فيما بينهم.
فمن خصائص المنافقين أن قلوبهم غير متآلفة، وهو من عمومات قوله تعالى[تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى]( ).
الثاني : المنافقون ليسوا صادقين بقولهم بخصوص الشهداء(لو أطاعونا ما قتلوا) من جهات:
الأولى : لو أطاعهم الذين إستشهدوا في معركة أحد لماتوا في آجالهم.
الثانية : لا يحب الذين نافقوا المؤمنين من الأوس والخزرج .
الثالثة : يعلم الذين نافقوا أن المؤمنين لم ولن يطيعوهم.
الوجه الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إبتدأت كل من آية البحث والسياق بحرف العطف الواو مع التباين في سنخية موضوع الآية إذ ابتدأت آية السياق بجملة خبرية لا تفيد إلا الصدق والحق لأنها من عند الله ، وابتدأت آية البحث بجملة تتضمن النهي ، ترى ما هي النسبة بينهما.
الجواب هذا النهي فرع الجملة الخبرية الواردة في آية السياق ، وهو من إعجاز نظم آيات القرآن والتداخل الموضوعي بينها ، فليس من آيتين بين الدفتين إلا وهناك وجوه للصلة بينهما .
لقد أخبرت آية السياق عن قانون يتعلق بمعركة أحد، وهو كشف المنافقين بواسطة هذه المعركة من وجوه :
الأول : ما لحق المسلمين في معركة أحد من الخسارة .
الثاني : كثرة الشهداء من المسلمين عامة والأنصار خاصة .
الثالث : حرمان المسلمين من الغنائم في معركة أحد .
الرابع : إنهزام أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المعركة وان رجع أغلبهم إلى الميدان، وقد تقدم قبل آيات قوله تعالى[إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]( ).
الخامسة : كثرة جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه .
لقد كانت معركة أحد مناسبة لإقامة الحجة على المنافقين وسبباً لمعرفة الناس بهم ، إذ أن الله عز وجل يعلم المنافقين وما يفعلون وما يضمرون من الكفر والجحود قبل أن يخلقهم وآبائهم ، ويمكن تقدير أول آية السياق على وجوه :
الأول : ليعلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين نافقوا، ولهذا العلم منافع كثيرة منها :
الأولى : أخذ الحائطة من المنافقين .
الثانية : الإمتناع عن إتخاذ المنافقين بطانة .
الثالثة : عدم إحتساب المنافقين مع جيش المسلمين ، إذ أنهم يغدرون في أي ساعة ، كما انخزل ثلث جيش المسلمين في طريقهم إلى معركة أحد .
الرابعة : الغلظة على المنافقين وتحذيرهم وإنذارهم من سخط الله .
الثاني : ليعلم المهاجرون من هم الذين نافقوا , فيحذروهم ويجتنبوا إتخاذهم بطانة ووليجة .
الثالث : ليعلم الأنصار من الذين نافقوا من أهل المدينة فلا يفتتنون بهم، لقد كانت مسألة النفاق وحدوثها إمتحاناً للمؤمنين وباباً للأذى، فالمنافق عدو من بين ظهراني المؤمنين، ومن إعجاز القرآن ذكر المنافقات قال تعالى[الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( ) .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها ذكرت المنافقين والمنافقات وصفاتهم المذمومة، ثم إختصت خاتمتها بنعت المنافقين بالفسق دون المنافقات فهل يشملهن هذا النعت أم لا ، المختار هو الأول لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
ولبيان أن النفاق دخل البيوت وأن أراجيف المنافقين تصل إلى عوائل المؤمنين ومنهم الذين أصيبوا بفقد الشهداء خاصة ، وان عددهم ليس قليلاً لذا جاء الأمر من عند الله عز وجل بالحث على الإسترجاع عند المصيبة وبيان عظيم أجره في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
ليكون ذات النفاق ووجود المنافقين وشماتتهم وأراجيفهم كلها مصائب مجتمعة في موضوع متعدد ، وفي صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عليهم الأجر والثواب .
المسألة الثانية : من دلالات الجمع بين آية البحث وآية السياق التباين بين المؤمنين والمنافقين، إذ إبتدأت آية السياق بالوعيد والتخويف للمنافقين بينما ذكرت آية البحث الشهداء بالإكرام وصيغ المدح والثناء التي يدل عليها الجزاء الحسن من عند الله .
لقد أُفرد الشهداء من بين الناس بتقديم أنفسهم فداء وتضحية لإقامة شعائر التوحيد ، وصد العدوان ودفع الظلم فرزقهم الله منزلة عظيمة لم ينلها أحد من البشر.
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الشهداء (أنهم يدخلون الجنة قبل الصديقين والمؤمنين بخمسمائة عام)( ).
لقد ذكرت هذه الآية نوع علة لمعركة أحد بأن الله عز وجل يعلم المؤمنين ويعلم الذين نافقوا ، ولم تقل هذه الآيات وليعلم الذين قتلوا في سبيل الله لأن النسبة بين المؤمنين وبينهم هي العموم والخصوص المطلق، فمن فضل الله عز وجل جمع قوله تعالى[وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) للمهاجرين والأنصار الذين اصطفوا للقاء الذين كفروا , وفي هذا الجمع وجوه :
الأول : تأكيد قانون وهو أن الذين حضروا معركة أحد من المسلمين في معرض الشهادة .
الثاني : إمتناع الذين نافقوا عن الوصول إلى ميدان معركة أحد كما ورد عن رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول ، إذ قال (أَطَاعَهُمْ وَعَصَانِي ، مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ فَرَجَعَ بِمَنْ اتّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ وَالرّيْبِ)( ).
الثالث : بيان السعة في فضل الله عز وجل وشمول المؤمنين في الأجر والثواب في نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ليشمل قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] وجوهاً :
أولاً : الذين لاقوا الذين كفروا في ميدان المعركة بقوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) .
ثانياً : الصابرون في الميدان الذين لم يفروا أو ينهزموا .
ثالثاً : المؤمنون الذين تخلفوا في المدينة عن عذر .
رابعاً : المؤمنات في المدينة سواء اللائي خرجن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للإعانة في سقاية الجيش ومداواة الجرحى أو اللائي بقين في المدينة.
فمن معاني التحذير من الذين نافقوا في هذه الآية دعوة المؤمنات إلى الحيطة والحذر من أراجيف الذين نافقوا وما يبثون من الأباطيل .
خامساً : المؤمنون والمؤمنات في مكة وغيرها .
فمن وجوه علم الله بهم، علمه بامتناعهم عن الخروج مع جيش الذين كفروا أو تجهيزه وإعانته، قال تعالى[وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ]( )، لبيان أنه لو سلط الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على أهل مكة أوان صلح الحديبية لقتل عدد من المؤمنين والمؤمنات من أهلها ممن كانوا يخفون إيمانهم لأنهم بين ظهرانيهم، وربما جعلهم الذين كفروا دروعاً بشرية من غير أن يعلم بهم المهاجرون والأنصار في هجومهم، لذا قال الله تعالى[أَنْ تَطَئُوهُمْ] .
ويعنى الوطئ هنا القتل والإبادة، والمراد من المعرة : مفعلة من عراه إذا دهاه وشق عليه، والإثم والمكروه والمشقة ودفع الكفارة، والملامة وبث المنافقين الأقاويل بأن المؤمنين قتلوا أهل دينهم الذين كانوا في مكة، أي أن الله عز وجل قادر على أن يدخلكم من حين سنة الحديبية وهي السادسة للهجرة إلى مكة فاتحين ولكن خشية على المؤمنين فيها , وليدخل الناس في الإسلام قبل الفتح، ويمتنع رؤساء قريش عن القتال عند أبواب مكة، ففي الآية حذف تقديره: فتصيبكم منهم معرة بغير علم لأدخلتكم مكة عامكم هذا).
لقد أعان الذين نافقوا العدو وهم بين ظهراني المسلمين ، فمن باب الأولوية ان يقوم المسلمون الذين تخلفوا في مكة من المستضعفين والذين قصرت بهم الأسباب بتثبيط همم الذين كفروا ، وحث الناس على عدم نصرة رؤساء الكفر والشرك .
المسألة الثالثة : بين القتال والقتل عموم وخصوص مطلق ، فالذي يقاتل أعم من أن يقتل أو يجرح ، فقد يشترك الإنسان في المعركة ويخرج سالماً .
وقد اشترك في معركة أحد سبعمائة من المؤمنين واستشهد منهم سبعون أي بنسبة العشر منهم ، أما عدد المؤمنين والمؤمنات أوان معركة احد فلا يعلمه إلا الله عز وجل , وكثرتهم من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكل واحد منهم ظهير للمدافعين عن الإسلام في معركة أحد .
لقد تعجل جيش الذين كفروا بالرجوع إلى مكة يوم معركة أحد ، فهل كان لشؤون الحكم والرياسة , والخشية من انشاء مسلمي مكة جيشا لمنع الذين كفروا من العودة إليها موضوعية في إختيار الذين كفروا لشهر شوال للقتال بحيث إذا رجعوا إلى مكة فأنهم يرجعون في شهر حرام ، وهو شهر ذي القعدة ، فلا يقاتلهم مسلموا مكة أو يمنعونهم من دخول مكة خاصة مع تجدد خسارة المشركين معركة أحد كما خسروا في بدر , وأن المناجاة بالإيمان تأتي سريعة وتكون مثمرة إذ تكون معجزات النبوة حاضرة في الوجود الذهني، قال تعالى[انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
ومن معاني الجمع بين هذه الآيات علم المؤمنين والذين نافقوا بالشهداء وبنيلهم أسمى المراتب عند الله عز وجل .
لقد اعتذر الذين نافقوا عن الذهاب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد بانه لا يكون هناك قتال ، إنما امتنع الذين نافقوا عن القتال في سبيل الله ، وعن الدفاع والسعي لصرف العدو الكافر عن المدينة وأهلها من وجوه :
الأول : موالاة الذين كفروا .
الثاني : إبطان الكفر والجحود بمعجزات النبوة .
الثالث : إمتلاء قلب المنافق بالخوف .
الرابع : خشية المنافق من الجرح والقتل أو الأسر.
الخامس : إرادة المنافقين حجب النصر عن المؤمنين ورغبتهم في منع ظهور الإسلام .
السادس : تثاقل الذين نافقوا عن أداء الصلاة والصيام وإمتناعهم عن دفع الزكاة وإعانة الفقراء والإنفاق في سبيل الله ليكون من معاني قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ) وجوه:
الأول : إرادة قهر النفس الشهوية .
الثاني : الإمتناع عن محاكاة المنافقين .
الثالث : التنزه عن النفاق لأن كلاً من الصبر والصيام شاهد على السلامة من النفاق وواقية منه .
الرابع : تقدير الآية أعلاه على وجوه :
اولاً : واستعينوا بالصبر على النفاق .
ثانياً : واستعينوا بالصلاة على النفاق .
ثالثاً: واستعينوا بالصبر على أذى الذين نافقوا، وهل الصبر في المقام من جهاد المسلمين لهم والإغلاظ عليهم كما في قوله تعالى [جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( ) .
الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في الشريعة الإسلامية بأن يكون الصبر والتحمل جهاداً في صرف أذى المنافقين .
رابعاً : واستعينوا بالصلاة لعصمة النفوس من النفاق ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ) .
خامساً : واستعينوا بالصبر عند ملاقاة الذين كفروا في معركة أحد .
سادساً : واستعينوا بالصبر على قول الذين نافقوا لاخوانهم [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ).
سابعاً : واستعينوا بالصبر على الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم .
ثامناً : واستعينوا بالصبر والصلاة والله أعلم بما يكتمون .
الخامس : تهيئة أذهان المسلمين والمسلمات للأذى الذي يأتي من الذين كفروا، والذي يأتي من الذين نافقوا وليكون الصبر من مصاديق إمتناع الضرر عن الوصول للمسلمين، فمن مصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ) أي لصبركم وأدائكم الصلاة وتلاوتكم آيات القرآن، واستعدادكم للبذل والعطاء في سبيل الله إنصرفت عنكم مراتب من الضرر ليبقى الأذى وحده يطرأ على المسلمين ، وفيه حجة على الذين كفروا ، وتبكيت لهم , وإخبار لهم وللناس جميعاً عن قانون وهو أن أداء المسلمين العبادات واقية من الضرر وبشارة بأن الذين نافقوا لن يصدوا المؤمنين عن الجهاد، ولن يؤدي قعود المنافقين إلا إلى هزيمة الذين كفروا في ميدان القتال.
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً وليعلم الذين نافقوا ) وفيه أمور :
الأمر الأول : تبين كل من الآيتين عظيم قدرة الله عز وجل وأن مقاليد الأمور في الدنيا والآخرة بيده سبحانه ، وهو الذي جعل الدنيا دار امتحان وإبتلاء واختبار ، فتجلى فيها التباين بين الإيمان والنفاق، ووقعت معركة أحد باذن الله عز وجل لكشف معادن الناس، وإثبات البرهان على إستحقاق المؤمن الثناء والأجر والثواب ، وإقامة الحجة على كل من الكافر والمنافق.
ولما أراد الله عز وجل أن يجعل[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) أحاط الملائكة علماً بالأمر، وهذه الإحاطة لطف منه سبحانه بأهل السماء والأرض، فاحتجت الملائكة لما انكشف لها من أعمال البشر [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ) .
ترى ما هو حال الكفار والمنافقين بلحاظ الآية أعلاه ، الجواب النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق إذ يشتركان في الفساد ويختص الكافر بسفك الدماء والسعي لقتل المؤمنين وهو الذي تبين واضحاً وجلياً في معركة بدر وأحد ، إذ أصر الذين كفروا على القتال وسعوا إلى قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، وليكون من معاني سفك الدماء ومبادرة الملائكة للإحتجاج بخصوصه وجوه :
الأول : ويسفك الدماء بارادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة وبعد الهجرة.
الثاني : ويسفك الدماء بقتل حمزة عم النبي .
الثالث : ويسفك الدماء بقتل طائفة من المهاجرين والأنصار .
فتفضل الله عز وجل وقال للملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) فخر الملائكة ساجدين لله لأن هذا الجواب حجة عليهم وسبب لإقناعهم ببديع صنع الله بجعل خليفة في الأرض ، ولابد من مصاديق لمضامين علم الله في الآية أعلاه والمقاصد السامية في هذا الإخبار فجاءت آية البحث لبيان قانون وهو من علم الله عز وجل وجوه :
الأول : بعثة الأنبياء لإستئصال الفساد .
الثاني : إختتام النبوات بالشريعة المتكاملة والباقية إلى يوم القيامة ،قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ) .
الثالث : ملاقاة المؤمنين وأتباع الأنبياء للذين كفروا في ميادين القتال .
الرابع : إخبار آية البحث عن الثواب العظيم الذي ناله الشهداء الذين سفك دماءهم الذين كفروا في معارك الإسلام الأولى ظلماً وعدواناً ، فهذا الثواب من مصاديق رد الله على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الأمر الثاني : من خصائص القرآن بيانه لعلوم من الغيب لا يعلمها إلا الله فيتفضل بنزول آيات القرآن بالإخبار عنها وبما يكون مفتاحاً لعلوم متعددة ينتفع منها البشر، ومنها أمور تتعلق بعالم الآخرة ، كما في آية البحث وكشفها لحال شهداء أحد , وكيف أنهم أحياء عند الله لم يكن الموت إعداماً لهم ، إنما كان نوع طريق وإنتقال إلى عالم السعادة الدائمة ، ليكون من أسرار قوله تعالى [تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) .
إن آية البحث أعظم مواساة لأهل المدينة عموماً بفقدهم سبعين قتيلاً في معركة أحد ، وللشهداء الذين قد يقتلون في معارك الإسلام اللاحقة مثل معركة الخندق وحنين ، أو الذين يقتلون في السرايا أو عند الضرب والسفر في الأرض .
ومن إعجاز القرآن تعدد المنافع في كل فرد من علوم الغيب ثم بيانه وكشفه في القرآن ، ومنها بخصوص آية البحث مسائل :
الأولى : إنفراد الشهداء في سبيل الله بمكرمة عظيمة في الآخرة تغبطهم عليها الخلائق , ويتوجه اللوم في المحشر إلى الذين كفروا والمنافقين ومن أسباب اللوم إقامة الحجة اليومية عليهم بهذه الآيات.
الثانية : مجئ النعم الإلهية للشهداء على نحو دفعي .
الثالثة : علوم الغيب التي تخبر عنها آيات القرآن ضياء ينير دروب الهداية للمسلمين ، ولما نزل قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) جاءت آية البحث لبعث السكينة في نفوس المسلمين رجالاً ونساءً بخصوص الصحابة الذين استشهدوا في معركة أحد .
الرابعة : لما أكثر الذين نافقوا بث الأراجيف في المدينة المنورة ، جاءت علوم الغيب في القرآن لفضحهم ، وفي خطاب وأمر موجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى [وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ]( ) .
لبيان التحدي للذين نافقوا مجتمعين ومتفرقين بسنخية العمل وعواقبه وما يترتب عليه وبعلوم الغيب التي أحاط بها الله عز وجل ، وهو الذي يتفضل ويبين ما يشاء منها ، ليكون هذا البيان من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
لقد بينت آية البحث قانوناً من علم الغيب لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ولا يستطيع أن يهبه ويتفضل به إلا هو سبحانه، فغير الله عز وجل من الخلائق لا يهب ولا يعطي إلا على نحو الموجبة الجزئية خشية النفاذ ، ولكن الله عز وجل يفيض على الفرد الواحد من الناس ما تعجز الخلائق مجتمعة عن معشاره خاصة وأن عالم الآخرة ملك محض لله عز وجل تتعطل فيه الهبات والهدايا بين الناس ، وينشغل كل إنسان بنفسه .
(عن أبي سعيد قال : لمّا نزلت هذه الآية {وَجِاىءَ يومئذ بِجَهَنَّمَ} ( ) تغيّر لون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرق في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه ما رأوا من حاله فانطلق بعضهم إلى عليّ عليه السلام فقالوا : يا علي لقد حدث أمر قد رأيناه في نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء عليّ فاحتضنه من خلفه ثمّ قبَّل بين عاتقيه ثمّ قال : يا نبي الله بأبي أنت وأُمّي ما الذي حدث اليوم وما الذي غيّرك؟
قال : جاء جبريل (عليه السلام) فأقرأني هذه الآية : {كلاّ إذا دُكّت الأرض دكاً دكّا وجاء ربّك والملك صفّاً صفّا وجيء يومئذ بجهنّم} قلت : فكيف يجاء بها؟
قال : يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع، ثمّ تعرض لي جهنّم فتقول : ما لي وما لك يا محمّد فقد حرّم الله لحمك ودمك عليّ، فلا يبقى أحد إلاّ قال : نفسي نفسي وأنّ محمّداً يقول : أُمّتي أُمّتي،
فيقول الله سبحانه إلى الملائكة : ألا ترون الناس يقولون : ربِّ نفسي نفسي وأنّ محمداً يقول : أُمّتي أُمّتي؟)( ).
وتبين مضامين الآية أعلاه والبشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته والناس عند نزولها أن علوم الغيب التي يتفضل بها الله عز وجل لا تختص بالبشارات الخاصة، كما في آية البحث واخبارها عن رفعة مقام الشهداء في الآخرة، إنما تشمل الإنذار العام للناس جميعاً من أهوال الآخرة وحضور النار لتتلقف الكافرين والمنافقين والمجرمين ، وإختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء والشفاعة لأمته ممن نطقوا بالشهادتين .
وهل يشمل قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (أمتي أمتي) الذين ذكرتهم آية السياق بأنهم قعدوا وحرضوا على القعود وإتخذوا من شهادة نفر من المهاجرين والأنصار مادة وذريعة في هذا التحريض ، أم أنهم خارجون عن هذا القول والشفاعة .
الجواب هو الثاني من جهات :
الأولى : إخبار القرآن عن دخول الذين نافقوا النار وتبوئهم أدناها وأشد مراتبها عذاباً , لقوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
الثانية : خروج المنافقين بالتخصيص من مصاديق أمة محمد لنعتهم بالصدود عن الدعوة إلى التوحيد ولأنهم يضمرون الكفر في قرارة نفوسهم.
الثالثة : من خصائص يوم القيامة كشف السرائر، قال تعالى[يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ]( ) أي تظهر الأفعال الخفية والمشهورة، وتكشف النوايا والمقاصد .
و(عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “يُنْصَب لكل غادر لواء عند اسُتِه يوم القيامة، فيقال: هذه غَدْرة فلان ابن فلان) ( ).
ويبدأ عذاب المنافق من حين دخوله إلى القبر، أما يوم القيامة فيأتيه العذاب الذي ينزل بالظالمين ، قال تعالى [يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ]( ).
وإن قلت قد ورد عن أنس بن مالك قال (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ألا إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ، ثم تلا هذه الآية { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم…}( ) الآية )( ).
والجواب المراد بأهل الكبائر في الحديث العاقون لآبائهم أو لأمهاتهم والذين استحقوا إقامة الحد عليهم .
وقد ورد الوعيد الجامع للمنافقين والكفار بقوله تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ]( ) مما يدل على أن المراد من أهل الكبائر في موضوع الشفاعة من المؤمنين، وليس أرباب النفاق والقعود والتحريض عليه إلا من تدركه التوبة والإنابة .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه تقدم اسم المنافقين والمنافقات على الذين كفروا في الوعيد مما يدل على أن دخولهم الإسلام وبال عليهم في الآخرة لأنه خداع وزيف وكذب ، بالإضافة إلى اقامة الحجة عليهم لصيرورتهم قريبين من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويسمعون تلاوة آيات القرآن كل يوم ويقومون بتلاوتها أيضاً، ومن أسرار هذه التلاوة التدبر القهري في معانيها ودلالاتها، قال تعالى[وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ]( ).
الأمر الثالث : من مفاهيم الجمع بين الآيتين المقارنة بين حال الشهداء في الآخرة وحال المنافقين في الدنيا ، وقد يقال بوجود تباين موضوعي في القياس .
والجواب أنما تتجلى المقارنة بلحاظ الإتحاد الموضوعي من جهات :
الأولى : إرادة أهل طبقة وبلدة واحدة .
الثانية : مسألة الحياة فالذين نافقوا أحياء في الدنيا , وإن كانوا كالأموات فيها، والذين قتلوا في سبيل الله أحياء في الآخرة .
الثالثة : إتحاد موضوع الإحتجاج وهو معركة أحد فالشهداء بادروا للخروج إليها ، وبذلوا الوسع في الدفاع عن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوالي نزول آيات القرآن .
الرابعة : بيان عظيم فضل الله على الشهداء مع عدم رضاه عن الذين أصروا على القعود والعدو على مشارف المدينة .
الأمر الرابع : تتجلى بالجمع بين الآيتين والتقدير الوارد في هذه المسألة وهي الرابعة وجوه إعجازية في تفسير قوله تعالى [فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى]( ).
وهناك محذوف في الآية أعلاه وتقديرها على وجوه منها :
الأول : فلله ملك دار الآخرة والحياة الدنيا ، ويدل عليه قوله تعالى [وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالْأُولَى] ( ) .
الثاني : فلله القدرة المطلقة في الآخرة والأولى .
الثالث : ليس لغير الله مشيئة في الدار الآخرة أو في الحياة الدنيا .
الرابع : فلله الحكم في الآخرة والأولى .
الخامس : فلله العفو والفضل في الآخرة والأولى .
السادس : فلله الإحاطة والعلم في الآخرة والأولى .
السابع : فلله المشيئة في أهل الدنيا وأهل الآخرة .
يقلب الله أحوال أهل كل منهما وفق إرادته لا راد لحكمه ، ولا موضوعية أو أثر لقعود الذين نافقوا ، وهو سبحانه الذي يبتليهم ، قال تعالى في ذم المنافقين [أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ] ( ).
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : قيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله كما قاتل الشهداء ) .
من الإعجاز في الشريعة الإسلامية التساوي في الحقوق والواجبات ، فما أن يدخل العبد الإسلام حتى يكون له ما للمسلمين وعليه ما عليهم من غير تمييز وتفضيل إلا بالإجتهاد في طاعة الله ورسوله ، قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ) .
وكما توجه الخطاب والأمر إلى الشهداء بالخروج إلى معركة أحد فقد توجه إلى الذين نافقوا ودعوا إلى النفير والإجتماع وتلقي الأوامر النبوية وتعيين المواضع في القتال ، ولكنهم اختاروا القعود ليحجبوا عن أنفسهم طاعة الرسول ، ويتخلفوا عن الدفاع .
ومن الإعجاز والدقة العقلية في الوصف القرآني الذي يكون حجة دائمة في الدنيا وحاضرة في الآخرة تقييد الدعوة الموجهة إلى الذين نافقوا بأنها [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] .
ثم ذكرت آية السياق الدفع بقوله تعالى [أَوْ ادْفَعُوا] ولو قالت آية السياق (تعالوا قاتلوا أو ادفعوا في سبيل الله) لقال بعضهم المراد القتال مطلقاً ولو حمية وعصبية، وأن قيد [فِي سَبِيلِ اللَّهِ] هو خاص بالدفاع لإرادة الدفاع عن بيضة الإسلام، ولامتنعوا عن الغزو مثلما حرّضوا على القعود عن الدفاع .
وورد قيد (في سبيل الله) ليشمل الدفاع ولبيان قانون وهو أن الذين قُتلوا في معركة أحد إنما كان قتلهم في سبيل الله إلا من خرج بالدليل والتخصيص.
ومن خصائص البعثة النبوية التخفيف عن الناس مطلقاً وعن المسلمين والمسلمات خاصة، وعن المؤمنين والمؤمنات على نحو خصوص الخصوص.
فقد قاتل المهاجرون والأنصار في معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة( ) .
وتخلف المنافقون ولم يكن لتخلفهم ضرر كبير على الإسلام من جهات:
الأولى : ليس من نفير عام في معركة بدر .
الثانية : تخلف بعض الصحابة المؤمنين ظناً منهم بعدم حصول قتال وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خرجوا لإعتراض قافلة أبي سفيان ، وفي التنزيل [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا] ( ).
الثالثة : دخول سبعين أسيراً من المشركين إلى المدينة قبل دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه راجعين من معركة بدر ، في آية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً ، لتصير مقدمة لمعركة أحد من وجوه :
الأول : بعث الشوق في قلوب المسلمين إلى لقاء العدو في معركة أحد ، ومن الآيات إكرام الله عز وجل لهم وجعل شوقهم هذا في سبيله بقوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ) إذ كانوا يتمنون الشهادة في لقاء العدو ليكون هذا التمني من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) من وجوه :
أولاً : تلقي المسلمين آية البحث[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]بالقبول والرضا والتسليم فحالما نزلت الآية كخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلقى المسلمون مضامينها بالغبطة والإقرار والتصديق وصار شوقهم إلى حياة ما بعد الموت أكثر من رغبتهم في الحياة الدنيا .
فان قلت يتصف وجودهم في الدنيا بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم وهي أعظم النعم.
والجواب هذا صحيح ،وهم لا يريدون إلا القتال بين يديه والدفاع عنه، وتدل آية البحث على أن شهداء معركة أحد رفقاؤه في الآخرة .
ثانياً : خروج المسلمين لساحات الدفاع وعدم إصغائهم للذين نافقوا بصدهم عن سبيل الله وعدم محاكاتهم في قعودهم .
ثالثاً : مجئ القرآن بتوثيق تمني المسلمين الشهادة بقوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ) وقيل أن الآية عتاب للذين إنهزموا في معركة أحد بينما كان جماعة منهم يرغبون بالخروج للقاء العدو وألحوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج من المدينة للقاء العدو , قال القرطبي (فالآية عتاب في حق من انهزم , لا سيما وكان منهم حمل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على الخروج من المدينة) ( ) .
والمختار أن الآية أعم من العتاب ، ولا تخلو من الثناء على المسلمين , وأنها توثق شوقهم للدفاع ودفع العد , ومنهم الذين فاتهم حضور معركة بدر , وأدركوا حرمانهم من الثواب العظيم للبدريين , والغنائم التي نالوها .
(عن الربيع وقتادة قالا : أن أناساً من المؤمنين لم يشهدوا يوم بدر والذي أعطاهم الله من الفضل ، فكانوا يتمنون أن يروا قتالاً فيقاتلوا ، فسيق إليهم القتال حتى إذا كان بناحية المدينة يوم أحد؛ فأنزل الله { ولقد كنتم تمنون الموت . . . } الآية)( ).
ويفيد ظاهر مضمون الآية أعلاه نزولها بعد وقوع معركة أحد ، ويدل على التفسير أعلاه أن شطراً من علماء التفسير لم يذكر موضوع العتاب في سبيل نزول الآية أعلاه أو موضوعها .
الثاني : إنتفاع المسلمين من الغنائم الكثيرة التي جلبوها من معركة بدر، ومجئ الرجال والنساء من قريش لفك أسراهم ، ولا يختص المجئ بدفع الأموال بدلاً من الأسرى ، إنما يبين حقيقة مستحدثة وهي توافد وتعاقب رجالات قريش إلى المدينة رجاء إعانتهم بفك الأسرى ، والإنقاص من عوض وبدل الأسر , وليروا البراهين التي تدل على صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : موضوعية أصل الاستصحاب في المقام والذي هو أصل عقلي مصاحب للإنسان في حياته العامة ، ليحضر في معركة أحد من جهات :
الأولى : استصحاب نصر المسلمين في معركة بدر .
الثانية : تطلع المسلمين إلى المدد من عند الله ، ليكون قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) وعداً منه سبحانه للنصر في معركة أحد ، وتبعث الآية النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للدعاء : اللهم كما نصرتنا في معركة بدر فانصرنا في معركة أحد).
الثالثة : لقد عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم سالماً من معركة بدر ودخل المدينة وأصحابه يحيطون به ظافراً منتصراً .
وعندما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد تطلع أهل المدينة وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذات العودة الميمونة.
وتفضل الله عز وجل برجوعه سالماً من الموت وإن كان مثقلاً بالجراحات ، التي هي مواساة نبوية حاضرة لذوي الشهداء في معركة أحد بل حتى في معركة بدر ، وجاءت آية البحث مواساة من عند الله لتترشح عنها مصاديق غير متناهية من الأجر والثواب ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى] ( ) بأن جعل الله سبحانه المؤمنين في النعيم الدائم .
الرابعة :استصحاب المؤمنين نيل الغنائم وشد وثاق الأسرى من الذين كفروا .
الخامسة : استصحاب الذين كفروا للهزيمة والخسارة في معركة أحد كما خسروا معركة بدر ، وهو الذي تجلى في بداية المعركة وسقوط أصحاب اللواء منهم قتلى واستعدادهم للفرار , لولا ترك الرماة المسلمين مواضعهم وبخلاف ما أمرهم الله عز وجل به , وطرو الظن بالخسارة على الذين كفروا بمعركة أحد وإحتمال هزيمتهم فيها، من مصاديق قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : وقيل للذين نافقوا تعالوا ادفعوا كما دافع الذين قتلوا [في سبيل الله].
لقد جعل الله عز وجل نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة دامغة في حال السلم والحرب ، ففي حال السلم كان يدعو الناس إلى التوحيد وإقامة الفرائض العبادية وعمل الصالحات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأما في حال الحرب فانه يندبهم للدفاع عن الملة والنفوس .
وتكون كل من دعوة التوحيد والندب إلى الدفاع فيصلاً بين الناس ، فعندما دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى الإيمان آمنت به طائفة من الناس ، ولم يكن إيمانهم على نحو العموم المجموعي الدفعي ، إنما تجلى بخصوص الأفراد والتعاقب خاصة مع شدة إيذاء رؤساء الكفر للذين يعلنون اسلامهم وحتى الذين يخفونه ويظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسمى آيات الصبر وهذا الصبر بأمر من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ]( ).
وتبين الآية أعلاه أن الله عز وجل هو الذي يأتي بالفرج والفتح ، وتجلى مصداق الآية أعلاه بالنصر في معركة بدر ، كما تبين إتصاف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر في معركة أحد ونتائجها والخسارة التي لحقت المسلمين فيها ، مما يدل على أن النصر ليس نهاية للصبر او قاطعاً له إنما هناك ملازمة بين الدعوة إلى الله والصبر ، وبين الإيمان والصبر.
(عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قال: إسباغ الوضوء شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان والتسبيح والتكبير يملأ السماوات والأرض، والصلاة نور، والزكاة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك)( ).
وتتضمن الآيتان ذكر أمور :
الأول : النفاق .
الثاني : القعود .
الثالث : الدفاع والقتال .
الرابع : علم الله بما يكتم الناس في قلوبهم .
الخامس : القتل في سبيل الله .
السادس : توجه الخطاب والأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإخبار عن خلود الشهداء في النعيم بصيغة النهي عن الظن بأنهم أموات.
ففي آيتين متعاقبتين يتجلى مصداق من مصاديق التضاد , وبين النفاق والدفاع، وبين القعود والقتل في سبيل الله من غير أن ينجو الذين يقعدون في بيوتهم والعدو على أطراف المدينة من الموت على الفراش.
ومن بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه مع شدة هجوم الذين كفروا وكثرة أفراد جيوشهم وأسلحتهم ورواحلهم بالقياس مع جيش المسلمين الذي لا يعادل ربع عددهم وأقل من هذه النسبة بخصوص الأسلحة والرواحل ، ومع هذا فانه لم يقتل من المسلمين إلا مقدار العشر منهم لأن مجموعهم سبعمائة والذين أستشهدوا سبعون.
فجاءت آية البحث بما يجعل كل المؤمنين الذين قاتلوا في معركة أحد أو لم يقاتلوا فيها، ولم يخرجوا إلى المعركة يتمنون الشهادة يومئذ، لأن آية البحث تخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة التأكيد والتنبيه[وَلاَ تَحْسَبَنَّ] لطرد الظن بأن الشهداء صاروا في عداد الأموات، وفي تفسير قوله تعالى [قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ]( ) .
ورد (عن أيفع بن عبد الكلاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار قال لأهل الجنة{كم لبثتم في الأرض عدد سنين}( ) قالوا: {لبثنا يوماً أو بعض يوم} قال : لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم ، رحمتي ورضواني وجنتي اسكنوا فيها خالدين)( ).
وبين الذين دافعوا والذي قتلوا يوم أحد عموم وخصوص مطلق، فليس كل الذين دافعوا ودفعوا قتلوا ، وقد يكون الدفع بالإنفاق في سبيل الله ، أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو على وجوه منها:
الأول : دفع النفاق والرياء والمكر.
الثاني : دفع المنافقين عن منازل الرياسة والشأن التي تجعل الناس ينصتون لهم.
الثالث : دفع المسلمين إلى الدفاع عن النبوة والتنزيل.
الرابع : دفع مفاهيم الكفر والضلالة، قال تعالى[وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
الخامس : دفع الناس عن الإنصات لرأس النفاق والذين قالوا[لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ]( ).
السادس : دفع الحزن والكآبة عن المؤمنين وعوائلهم بعد كثرة خسائر المسلمين في معركة أحد.
السابع : دفع جيش المشركين عن المدينة.
الثامن : دفع الخوف والفزع عن نفوس المسلمين والمسلمات.
التاسع : دفع الأموال في سبيل الله.
العاشر : دفع الحمية والعصبية عن النفوس، وجعل القصد في الدفاع رضوان الله.
وهل التصدي للذين نافقوا وزجرهم عن الحث على القعود أو الشماتة بالشهداء من مصاديق قوله تعالى [أَوْ ادْفَعُوا] الجواب نعم ، كما تقدم بيانه في الجزء السابق( ) .
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : الذين نافقوا للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ) .مع أن كلمات القرآن من المحدود إذ يبلغ عددها (سبعة وسبعين ألف كلمة وتسعمائة وأربعاً وثلاثين كلمة، وقيل وأربعمائة وسبعاً وثلاثين، وقيل ومائتان وسبع وسبعون، وقيل غير ذلك) ( ).
ولكن مضامينها تحيط باللامتناهي من العلوم والمواضيع والمسائل وهو من إعجاز القرآن وملائمته لإمامة الناس في جميع أفراد الزمان.
وقيدت آية السياق صيرورة الذين كفروا إلى الكفر في معركة أحد أقرب منه للإيمان ، وفيه مسائل :
الأولى : قد يكون الذين نافقوا في بعض الأحوال على وجوه :
أولاً : القرب من منازل الإيمان .
الثاني : البرزخ والوسط بين الإيمان والكفر .
الثالث : التردد والتذبذب مرة بالقرب إلى الإيمان وأخرى إلى الكفر في ذات الساعة الواحدة، ويدل عليه قوله تعالى في ذم المنافقين[مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ]( ).
وورد(عن قتادة في الآية { مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء} يقول : ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرحين بالشرك. قال: وذكر لنا : أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يضرب مثلاً للمؤمن والكافر والمنافق كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر ، فوقع المؤمن فقطع ، ثم وقع المنافق حتى كاد يصل إلى المؤمن ، ناداه الكافر : أن هلم إليّ فإني أخشى عليك ، وناداه المؤمن أن هلم إليّ فإن عندي وعندي يحض يحصي له ما عنده .
فما زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى عليه الماء فغرقه ، وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك)( ).
وهل المراد من (يومئذ) في آية السياق خصوص يوم واقعة أحد وهو النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، الجواب لا ، إنما تشمل مقدمات المعركة ، وحال عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى المدينة من معركة أحد ، ومن قرب الذين نافقوا إلى الكفر قولهم بخصوص الشهداء كما في الآية السابقة[لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] أي وردت أخبار الشهداء وأسماء الذين قتلوا إلى المدينة بعد المعركة فظهرت أصوات النفاق وبواطن الكفر التي هي من الشواهد على قربهم من الذين كفروا فجاءت آية البحث لزجرهم وتبكيتهم .
المسألة الثامنة : تقدير الجمع بين الآيتين : يقول الذين نافقوا بأفواههم ما ليس في قلوبهم ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ).
لقد جاءت آية البحث بخصوص الشهداء الذين قتلوا في معركة أحد بالإخبار عن كونهم أحياء عند الله عز وجل، وليس أحياء في القبور وذكرت آية السياق منهاجاً مذموماً في سيرة وعمل المنافقين وهو التباين بين ما يظهرون من القول وبين ما يخفون في صدورهم من النوايا والمقاصد ، ومن العقائد والمفاهيم .
وعن الإمام علي عليه السلام :
دواؤك فيك وما تبصر … وداؤك منك وما تشعر
وتزعم أنك جرم صغير … وفيك انطوى العالم الأكبر)( ).
وأخبرت الآية السابقة عن قول الذين نافقوا بخصوص الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله ، إذ أخذوا يتحدثون في مجالسهم وتتكلم المنافقات في البيوت ومجالس العزاء والنياحة التي أقيمت بعد واقعة أحد بأن الشهداء لو أطاعونا ما قتلوا في معركة أحد، وبلحاظ آية السياق فان هذا القول الصادر من المنافقين مخالف لما يضمرون في قلوبهم.
ترى كيف تكون هذه المخالفة، ولماذا الذي يقوله المنافقون لا أصل له في قلوبهم وقناعاتهم ، الجواب من جهات :
الأولى : إرادة الذين نافقوا بث الفرقة والخلاف في صفوف المسلمين .
الثانية : تحريض عوائل المسلمين على السعي بين المهاجرين والأنصار لإرادة القعود وإجتناب الدفاع والغزو .
الثالثة : البغضاء للدفاع عن الإسلام .
الرابعة : ارادة الشماتة بالمؤمنين .
الخامسة : الحسد للمؤمنين على قيام دولة الإسلام .
السادسة : الضيق والإنقباض من أداء الفرائض العبادية .
السابعة : إرادة نصر الذين كفروا في ميدان المعركة .
الثامنة : لما نزلت آية البحث أدرك الناس عظيم منزلة الشهداء، وعلم المنافقون أنهم أحياء عند الله ومع هذا العلم فأنهم بقوا على ذات القول [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] .
ليكون من خصائص النفاق الإصرار على مفاهيم الجحود والضلالة حتى مع تبيان مصاديق الهدى والصلاح، قال تعالى[وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا]( ) أي أنهم أقروا بأن الرسالة حق، والتنزيل حق.
ليفيد الجمع بين الآيات حقيقة وهي إقامة الحجة على الذين نافقوا وإبتلاؤهم بإعراض المؤمنين والمؤمنات عنهم ببركة آيات القرآن .
ولما نزلت آية البحث صار ما في قلوب الذين نافقوا أمر آخر وهو حياة الشهداء عند الله عز وجل ، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلاوة كل مسلم ومسلمة لآيات القرآن في الصلاة اليومية الخمسة عدة مرات في اليوم ، فيتلو ذات المنافق آية البحث ، وليس بين شهادة الشهداء وبين نزول آية البحث ثمة فترة ومدة .
ومن إعجاز القرآن إنطباع معنى وأثر الآية القرآنية في القلب ، وهو من مصاديق آية السياق [يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ]أي مما في قلوب الذين نافقوا أمور :
الأول : عدم موت وانعدام الذين قتلوا في سبيل الله .
الثاني : حياة الذين قتلوا في سبيل الله .
الثالث : الذين قتلوا في سبيل الله ضيوف عند الرحمن من ساعة قتلهم وإلى يوم القيامة .
الرابع : عدم إنصات المسلمين والمسلمات للذين نافقوا في مسألة حياة الشهداء .
الخامسة : إكبار الذين نافقوا للشهداء وحسدهم على عظيم المنزلة التي فازوا بها ، قال تعالى [أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا] ( ).
المسألة التاسعة : من معاني الجمع بين الآيتين التباين بين الذين قتلوا في سبيل الله والذين نافقوا في القول والفعل ، إذ خرج المهاجرون والأنصار للقاء جيش قريش وهم يعلمون بوقوع القتال ، وكل واحد منهم يتوقع القتل ، وكانوا يرومون الشهادة ، ويعشقون لقاء الله، أما الذين نافقوا فاختاروا التخلف عن القتال.
ومن إعجاز الآية السابقة أنها لم تذكرهم بصفة البقاء في المدينة ، إنما ذكرت القعود بقوله تعالى [وَقَعَدُوا] لبيان أنه أمر وجودي مستحدث متقوم بالإرادة والقصد.
أما البقاء في المدينة فهو أمر مستديم وحال ثابتة، ليبدأ التباين بخصوص المعركة في ساعة النفير إلى الخروج إلى الدفاع .
وهو من أسرار قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) خروج المنافقين بالتخصيص من الآية لورودها بلفظ المؤمنين ، فلم يكونوا مع المسلمين الذين إتخذوا مواضعهم في معركة أحد ، فمن المنافقين من إنسحب وسط الطريق ومنهم من تخلف في المدينة ويصدق على كل منهم بأنهم[ قَعَدُوا]( ) .
فان قلت هناك أفراد من المنافقين كانوا حاضرين معركة أحد ، فهل تشملهم الآية أعلاه لأنهم حضروا المعركة , الجواب لا ، لأنهم ليسوا بمؤمنين، ولم يقاتلوا في المعركة إلا الذين يقاتل عصبية وحمية وعلى النسب والاسم ، وعلى فرض أن المنافق حضر إلى معركة أحد وقتل فيها فهل يقصده المنافقون بالقول [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ).
الجواب نعم ، لأنهم يقصدون كل الذين قتلوا في المعركة لإرادة إتخاذ هذا القتل سبباً في الصد عن سبيل الله ، وهو من معاني ورود لفظ الأخوان في الآية السابقة [قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ]( ) .
وقد رجع أكثر المهاجرين والأنصار من المعركة سالمين ، فهل قصدهم المنافقون بالذكر ، الجواب ان قولهم [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ) يشمل حتى المهاجرين والأنصار الذين رجعوا من المعركة سالمين من الموت من جهات :
الأولى : لو اطاعونا ما خرجوا .
الثانية : لو اطاعونا ما أصابتهم الجراحات .
الثالثة : لو اطاعونا ما تحملوا المشقة والأذى .
لقد جاءت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه بعد معركة بدر الغنائم الكثيرة مما ألجم الذين نافقوا ، أما في معركة أحد فقد رجع المسلمون من غير غنائم ولكن مع ثبات إيمانهم , فكانت مناسبة لبث المنافقين أراجيفهم ووجدوا آذاناً صاغية لهم ، فنزلت آية السياق وآية البحث ليصبح أهل المدينة متسلحين بآيات القرآن في الصبر والرضا بأمر الله ، والإعراض عن الذين نافقوا .
لقد احتج الملائكة على جعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) لأن الإنسان يفسد في الأرض ، وتجلى مصداق متحد وفي زمان وموضوع ظاهر من هذا الفساد من جهتين :
الأولى : هجوم الذين كفروا على النبوة والتنزيل في معركة أحد ، ومجيؤهم من مكة المكرمة وقطع نحو خمسمائة كيلو متراً من أجل القتال.
الثانية : خذلان وتخاذل الذين نافقوا وقعودهم .
فتفضل الله عز وجل وبيّن مصداقاً لقوله تعالى في الرد على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) بأن أنزل الملائكة الذين احتجوا على خلافة الإنسان في الأرض لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم تولى الله عز وجل نصرة المؤمنين الأحياء والشهداء بنزول آية السياق والبحث لتدخل كل بيت من بيوت المدينة قبل وأثناء وبعد أراجيف المنافقين فتجعلها [هَبَاءً مَنْثُورًا]( ).
وهل تؤدي آية البحث إلى توبة طائفة من الذين نافقوا ، الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن بأن يأتي الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص حياة البرزخ وعالم الآخرة ، فيكون أثر آية البحث على وجوه :
الأول : توبة طائفة من المنافقين وامتناعهم عن قول [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ) ليصير قولهم (طوبى لهم إذ لم يطيعونا ) .
الثاني : نفرة فريق من المنافقين من أرباب النفاق الذين سعوا في ضلالة الناس .
لقد حرّض رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول الصحابة على الرجوع من الطريق إلى معركة أحد ، فعاد معه ثلاثمائة من الأوس والخزرج ومن يتبعهم ، وبعد وقوع معركة أحد وسقوط الشهداء وتجلي آيات نصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه وإنسحاب جيش الذين كفروا بخوف وذل كما يدل عليه قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
هل بقي ذات الثلاثمائة الذين انسحبوا مع رأس النفاق على نفاقهم وقولهم [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( )، الجواب لا دليل عليه، لأن آية البحث باعث للندامة في نفوسهم، وطريق للتوبة.
ولو قلت لا ملازمة بين هذا الرجوع والنفاق وليس كل من رجع مع رأس النفاق هو منافق ويقول [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا].
والجواب هذا صحيح، والمختار أن هؤلاء لم يشتركوا جميعاً بالقول [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ) وأن عدداً من الذين قالوا هذا القول رجعوا عنه بعد نزول آية البحث ، وهو من مصاديق قانون: وهو كل آية قرآنية لها ساعة نزولها أثر حسن ومباشر في القلوب وفي المجتمعات وعلى الإلسن .
الثالث : قيام المؤمنين بالجدال والإحتجاج بآية البحث لبيان حال الشهداء في الآخرة.
وهل تصلح هذه الآية للمواساة والتخفيف عن عوائل المؤمنين الذين قتلوا في معركة أحد ، الجواب نعم ، ومن القوانين في الحياة العامة أن المواساة بالآية القرآنية أبهى وأحسن مواساة، وفيها تخفيف عن المسلمين والناس .
الرابع : منع المنافقين من الإكثار من الأراجيف وتعدد الأقوال بخصوص القتال والشهداء وزجرهم عن الإجتهاد في التحريض على القعود وإعانة الذين كفروا باللسان واليد .
الخامس : مبادرة المؤمنين إلى الخروج إلى سوح الدفاع حال النفير ، إذ تكون آية البحث حاضرة في الوجود الذهني ، وعند المناجاة فيما بينهم .
لقد صار التباين بين إخلاص إيمان الشهداء وتذبذب المنافقين مناسبة لميا الناس إلى الإسلام ، وصاروا لا يلتفتون إلى أقوال المنافقين .
فمن أسرار خلافة الإنسان في الأرض ، وقول الله في الرد والإحتجاج على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ميل الإنسان بالفطرة إلى الحق والهدى ، والنفرة من النفاق والتدليس والتضاد بين الظاهر والباطن .
ليصبح بذل شهداء أحد أنفسهم في سبيل الله وسيلة هداية متجددة للناس وواقية من النفاق والزيف والتعدي على المبادئ والمفاهيم العقائدية المترشحة عن الحجة والبرهان فالشهادة حق , والكفر والنفاق من الباطل , قال تعالى[كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ]( ).
المسألة العاشرة : وليعلم الذين نافقوا أن الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم يرزقون ) ومن إعجاز القرآن أن مضامينه جلية واضحة ينهل منها الناس جميعاً ذكوراً وأناثاً مسلمين وغير مسلمين، نعم هذا النهل من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
فجاءت آية السياق لبيان فتنة شبه خفية من داخل مجتمع وصفوف المسلمين ، لا يقدر على صدها ودفعها إلا الله عز وجل ، ولأنه تعالى أبى إلا أن تكون نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) فقد تفضل بدفع هذه الفتنة بآية السياق والبحث.
ولما أمر الله عز وجل نبيه الكريم بالدفع بالأحسن بقوله[ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ) فقد تفضل سبحانه بدفع شرور الذين نافقوا بآيات القرآن وهي الأحسن في كل زمان ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
وهل ذكر القرآن لقول المنافقين [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ) من هذه القصص التي تذكرها الآية أعلاه، وأن عدم العلم بما يخفيه الذين نافقوا في صدورهم من الغل والغيظ والعداوة لأهل الإيمان من الجهالة والغفلة التي تذكر كشفها وطردها الآية أعلاه.
أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو قصص الأنبياء السابقين وانها نزلت في سورة يوسف التي جاءت خاصة بذكر قصة نبي الله يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام .
والمختار هو الأول فلا دليل على حصر القصص القرآنية بما حدث في الأزمنة الغابرة .
والقصص : جمع قصة وهي النبأ والخبر ، واقتفاء الأثر كما في قوله تعالى[قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا]( ).
والقصة : الأمر والحدث والحديث (وقد اقْتَصَصْتُ الحديث: رويته على وجهه. وقد قَصَّ عليه الخبرَ قَصَصاً. والاسم أيضاً القَصَصُ بالفتح، وُضِعَ موضع المصدر حتَّى صار أغلبَ عليه. والقِصَصُ، بكسر القاف: جمع القِصَّةِ التي تُكْتَبُ) ( ).
فان قلت هل يشمل قوله تعالى [أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ) ما جرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوقائع والأحداث ، الجواب نعم ، فليس من تعارض بين وقوع الأحداث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين توثيقها في القرآن بلحاظ أنها أحسن القصص ، ولما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتماً للأنبياء , وهو سيدهم فلابد أن تكون قصصه صلى الله عليه وآله وسلم أحسن القصص بصيغة أفعل التفضيل ، وهل منها آية البحث والإخبار عن الحياة الآبدية للشهداء في النعيم ودار الخلود عند الله عز وجل من هذه القصص أم أن القدر المتيقن من قصص القرآن هو أحوال الحياة الدنيا سواء في الأزمنة الغابرة أو في أيام الرسالة الخاتمة، المختار هو الأول وأن القصص والأخبار التي ترد في القرآن وعلى لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص أحوال الشهداء والناس مطلقاً في عالم البرزخ والقيامة من أحسن القصص بلحاظ أن السنة النبوية شعبة من الوحي لقوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
وهل القصص والأخبار التي ترد في السنة النبوية على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي من [أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( ) الواردة في الآية أعلاه أم أن القدر المتيقن هو القصص الواردة في القرآن على نحو الحصر والتعيين .
المختار هو الأول، فالقصص التي ترد على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي هي من الوحي، من عمومات الآية أعلاه وهو من أسرار مجيء آية أحسن القصص بصيغة الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليشمل الحديث القدسي، وما يأتي به جبرئيل من عند الله، وفيه نكتة وهي دعوة المسلمين والمسلمات إلى تعاهد السنة النبوية والتدبر بما يرد من القصص والأخبار على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
وبين الوحي والقرآن عموم وخصوص مطلق ، فكل قرآن هو وحي ، وليس كل الوحي الذي جاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو قرآن، فقد يأتي جبرئيل بالحديث القدسي ، أو بالأمر والنهي أو بأجوبة غير تلك المذكورة في القرآن بلفظ[يَسْأَلُونَكَ] وهو من فضل الله عز وجل بأن يذكر نعمة في القرآن ويتفضل باضعافها في السنة النبوية ، مع أن النعمة التي ترد في القرآن من ذات النوع والجنس متعددة هي الأخرى.
فقد ورد لفظ [يَسْأَلُونَكَ] خمس عشرة مرة في القرآن وما أجاب عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي أضعاف هذا العدد و(عن المقدام بن معدي كرب ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته( ) يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ، وكل ذي ناب من السباع)( ).
وهناك مسائل :
الأولى : هل قصص الوحي التي ترد في السنة النبوية القولية من أحسن القصص أيضاً ، ويكون تقدير الآية أعلاه من سورة يوسف : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وبما أوحيناه اليك من غير القرآن ) .
الجواب نعم مع التباين الرتبي بين القصة القرآنية والقصة في الحديث ، وشأن سمو الصبغة القرآنية.
الثانية : القصص الواردة في الحديث القدسي والسنة النبوية مما هو ملحق بأحسن القصص ، ومن الحديث القدسي في المقام ما ورد في ذم الظلم والتحذير منه ، مع الإخبار عن نصرة الله عز وجل للمظلوم ، منها ما ورد (عن خزيمة بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اتقوا دعوة المظلوم فإنها تحمل على الغمام ، يقول الله : وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين .
وأخرج أحمد عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً ، فإنه ليس دونها حجاب .
وأخرج الطبراني في الأوسط عن علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول الله : اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصراً غيري .
وأخرج أبو الشيخ ابن حبان في كتاب التوبيخ عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : قال الله تبارك وتعالى : وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله ، ولأنتقمن ممن رأى مظلوماً فقدر أن ينصره فلم يفعل .
وأخرج الأصبهاني عن عبد الله بن سلام قال : إن الله لما خلق الخلق فاستووا على أقدامهم رفعوا رؤوسهم ، فقالوا : يا رب مع من أنت؟ قال أنا مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه) ( ).
وأخبرت آية البحث عن وقوع طائفة من المؤمنين شهداء وهم مظلومون,جار وتعدى عليهم الذين كفروا وقتلوهم لا لشئ إلا لأنهم يقولون : لا إله إلا الله ، وهل يعد قول المنافقين بخصوص الشهداء [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] من الظلم، وعدم النصرة , الجواب نعم ، فهذا القول ظلم من وجوه :
الأول : انه من ظلم الذين نافقوا لأنفسهم .
الثاني : انه ظلم من الذين نافقوا للشهداء أحياء وأمواتاً ، فان قلت هذا الظلم لا يضر الشهداء لأنهم في حال غبطة وكرامة عند الله عز وجل.
والجواب هذا صحيح وليكون من معاني قوله تعالى في آية البحث [بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] أي عند ربهم في واقية من الظلم ، وهل هذه الواقية من الرزق الذي تذكره الآية أعلاه , ويكون تقدير الآية : ويرزقون الواقية والحرز والسلامة من الظلم وما يترتب عليه .
الجواب نعم ، لبيان أن الرزق المقصود في الآية أعلاه أعم من المادي فيشمل المعنوي ، وما يخص الحياة الدنيا والآخرة .
الثالث : أنه ظلم للمؤمنين الأحياء .
الرابع : قول المنافقين [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ) ظلم لعوائل وذراري الشهداء .
الخامس : إنه ظلم من الذين نافقوا لأنفسهم ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
الثالثة : القصص الواردة من السنة النبوية لها شأن خاص غير أحسن القصص القرآنية وأدنى منها مرتبة مع سموها ، كما أنه يمكن تقسيمها إلى أقسام :
الأول : القصص التي تخص علوم الغيب التي يتفضل الله بالوحي بها إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : أخبار الجنة والنار ، كما ورد عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (” احْتَجَّتِ الجَنَّةُ والنَّارُ، فَقالَتِ النَّارُ: يَدْخُلُنِي الجَبَّارُونَ والمُتَكَبِّرُونَ; وَقالَتِ الجنَّةُ: يَدخُلُنِي الفُقَرَاءُ وَالمَساكِينُ; فأَوْحَى اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلى الجَنَّة: أنْتِ رَحْمَتِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أشاءُ) ( ).
الثالث : قصص الأنبياء السابقين ، ومنها ما ذكر فيها اسم نبي على نحو التعيين ، ومنها ما يرد بصيغة الإطلاق من غير ذكر نبي ومنها ما يتعلق بأحوال الأنبياء , والجامع بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جامع وسنخية النبوة المشتركة , ووجوه تفضيله صلى الله عليه وآله وسلم , منها .
(عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى داراً فأتمها إلا لبنة واحدة ، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة .
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل ابتنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة ، فكان من دخلها فنظر إليها قال : ما أحسنها! إلا موضع اللبنة ، فأنا موضع اللبنة فختم بي الأنبياء) ( ).
ومنها ما ورد (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعُطيت خمساً لم يُعطهنَّ نبي قبلي من الأنبياء وجُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ولم يكن نبي من الأنبياء يصلي حتى بلغ محرابه وأُعطيت الرعب مسيرة شهر يكون بيني وبين المشركين شهر فيقذف الله الرعب في قلوبهم وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث إلى خاصة قومه،
وبعثت إلى الجن والإنس،
وكان الأنبياء يعزلون الخمس فتجيء النار فتأكله،
وأمرت أن أقاسمها في فقراء أمتي ولم يبقَ نبي إلا قد أُعطي سؤله وأُخّرت شفاعتي لأمتي ) ( ).
وهل يمكن القول بتفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء الآخرين بأن جعل الله عز وجل شهداء معركة أحد أحياء عنده يرزقون.
الجواب نعم , وإن جاءت الآية مطلقة وأخبرت بتقييد حياة الشهيد عند الله لأنه قتل في سبيل الله أي وأن لم يقاتل ، ولم يقتل في ساحة المعركة ، فتكون الآية شاملة لكل الذين قتلوا في سبيل الله من أيام آدم عليه السلام ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) , مع خصوصية الذكر والتعيين لشهداء معركة أحد .
وأول قتل وقع في الأرض هو قتل قابيل ابن آدم لأخيه هابيل ، وهل كان هابيل ممن قُتل في سبيل الله إذ ورد حكاية عنه في التنزيل [لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ] ( ) .
الجواب إنه يحق بالشهداء بلحاظ عظيم فضل الله على الناس ، وإرادة أدنى مراتب قصد القربة في تلقي القتل، والنص الوارد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
(عن سعد بن أبي وقاص : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنها ستكون فتنة ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي ، قال : أفرأيت إن دخل علي بيتي فبسط إليّ يده ليقتلني؟ قال : كن كابن آدم ، وتلا { لئن بسطت إلىّ يدك لتقتلني } الآية .
وأخرج أحمد ومسلم والحاكم عن أبي ذر قال ركب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حماراً وأردفني خلفه فقال : يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس جوع لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك ، كيف تصنع؟ قلت : الله ورسوله أعلم! قال : تعفف يا أبا ذر.
أرأيت إن أصاب الناس موت شديد يكون البيت فيه بالعبد يعني القبر؟ قلت : الله ورسوله أعلم!
قال : اصبر يا أبا ذر . قال : أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضاً حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء ، كيف تصنع؟ قلت : الله ورسوله أعلم! قال : اقعد في بيتك واغلق بابك . قلت : فإن لم أترك؟
قال : فائت من أنق منهم فكن فيهم . قلت : فآخذ سلاحي؟ قال : إذن تشاركهم فيما هم فيه ، ولكن إن خشيت أن يروّعك شعاع السيف فالق طرف ردائك على وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك فيكون من أصحاب النار) ولم يقل له النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتكون ممن قُتل في سبيل الله لتقييده في آية البحث بالدفاع ولقاء الذين كفروا بالسيف لمنع تعديهم، لقوله تعالى[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
وأخرج البيهقي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اكسروا سيفكم يعني في الفتنة ، واقطعوا أوتاركم ، والزموا أجواف البيوت ، وكونوا فيها كالخير من ابني آدم)( ).
فقد شهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهابيل بأنه خيّر وعبد صالح ، لقد جاءت إلى المسلمين أيام معركة أحد الفتن على نحو دفعي من جهات متعددة :
الأولى : زحف ثلاثة آلاف رجل من قريش للقتال .
الثانية : قعود المنافقين وإنسحابهم من وسط الطريق .
الثالثة : علو أصوات المنافقين في المدينة بالتحريض على القعود والشماتة المبطنة بالشهداء .
الرابعة : إنتقال سبعين من الصحابة إلى الرفيق الأعلى يوم معركة أحد.
الخامسة : كثرة جراحات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة .
السادسة : حال الحزن والألم في المدينة لفقد الشهداء .
فتفضل الله عز وجل وأنزل آية البحث لتكون بلحاظ ضروب الإبتلاء أعلاه على وجوه :
الأول : عدم ترتب الخوف عند المسلمين من زحف جيوش الشرك .
الثاني : إصابة المنافقين بحال من الغيظ والأسى لعجز الذين كفروا عن الإضرار بالإسلام ، وفي التنزيل [وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ) .
الثالث : منع الذين نافقوا من الشماتة بالمسلمين عامة وبالشهداء خاصة.
الرابع : بيان قانون وهو عدم وقوع الخسارة للمسلمين عند الدفاع عن النبوة والتنزيل .
الخامس : تأكيد فيوضات نهج في سبيل الله وقصد القربة .
السادس : بعث الحسرة والندامة في نفوس الذين نافقوا لقعودهم وتخلفهم عن الدفاع في ميادين القتال , من جهات :
الأولى : فضح آية السياق لقول وفعل مذمومين للذين نافقوا ، إنذاراً لهم .
الثانية : تقدير الجمع بين آية السياق والبحث .
لقد قعدتم عن الدفاع ، ولكن المؤمنين لم يقعدوا .
الثالثة : إخبار الذين نافقوا بأن قعودهم لم ولن يضر المسلمين .
الرابعة : تلاوة أجيال المسلمين وإلى يوم القيامة لآية السياق إنذار للذين نافقوا .
الخامسة : توثيق آية السياق لقعود الذين نافقوا ليقفوا بين يدي الله للحساب على القعود يوم القيامة .
وهل هذه الحسرة من مصاديق ما يكتمونه لقوله تعالى في خاتمة آية السياق [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ]( ) .
الجواب نعم ، وفيه مواساة وبشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ودعوة لهم للصبر عن الذين نافقوا لأن الأسى يغلب على نفوسهم خاصة بعد إنتهاء معركة أحد من غير أن يحقق فيها الذين كفروا أي نصر أو غلبة .
ويمكن القول بأن من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) في معركة أحد وجوه :
الأول : خيبة الذين كفروا من الذين نافقوا .
الثاني : تجلي حقيقة وهي عدم ترتب الأثر والضرر على المسلمين بقعود الذين نافقوا .
الثالث : عدم قيام المنافقين بالتمرد وإثارة الفتنة في المدينة ، فحينما رجع ثلاثمائة منهم من وسط الطريق إلى معركة أحد ، اكتفوا بالإعتذار عن القتال بذريعة أنهم لا يتوقعون أو يظنون قتالاً بين المسلمين والذين كفروا ثم أظهروا الشماتة بالشهداء .
وهل هذا الأمر من أسباب صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنافقين وعدم الإذن بالقيام بعقوبتهم أو قتلهم ، الجواب نعم، قال تعالى[فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ]( ) .
وقد صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أذى الكفار في مكة قبل الهجرة ليكون فيه تنمية لملكة الصبر عند المسلمين , ودعوة لهم للإقتداء به، وتحمل أذى الذين نافقوا .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة يتعبد في غار حراء إلى أن جاءه الملك بالوحي , وقال له: إقرأ، قال: ما أنا بقارئ، فضمه الملك حتى بلغ منه الجهد وهكذا ثلاثة مرات ثم قال[اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ) .
فرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيته(فقال زملوني زملوني)( )، إلى أن خفّ الروع عنه فقص على خديجة ما لاقاه وأنه خشي على نفسه، فطمئنته وأيدته .
وذهبت معه إلى ابن عمها ورقة بن نوفل ، وكان قد تنصر في الجاهلية ويكتب الكتاب العبراني، وقد صار شيخاً كبيراً أصيب بالعمى فقص عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصة الملك وقراءته القرآن والوحي .
(فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى ليتني فيها جَذعا أكونُ حيا حين يخرجك قومك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أو مخرجيَّ هُم؟”.
فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يُدركني يومك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزرًا، لم ينشَب وَرَقة أن تُوُفِّي، وفَتَر الوحي)( ).
ولم يقم الذين نافقوا باثارة فتنة كبرى في المدينة عند رجوعهم لأمور :
الأول : لم تصل مرتبة النفاق إلى حد الإنقلاب على دولة النبوة والتنزيل .
الثاني : لم يكن الثلاثمائة الذين رجعوا مع رأس النفاق على مرتبة واحدة من شدة النفاق والتحامل على مبادئ الإسلام ، وقد وصفهم الله عز وجل بالتذبذب والاضطراب ، وعدم الثبات على حال من الإيمان أو الكفر بقوله تعالى [مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً]( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين) ( ).
وقال البعيث بن حريث
(خَيَالٌ لأُمِّ السَّلسَبِيل ودُونها
مَسيرةُ شَهْر للبريد المذَبذَبِ) ( ).
الثالث : عجز المنافقين الذاتي عن إثارة الفتنة من جهات :
الأولى : قلة عدد المنافقين .
الثانية : ضعف ووهن المنافقين .
الثالثة : مجئ آيات التنزيل بذم وتوبيخ المنافقين .
الرابعة : تحذير القرآن والسنة النبوية المسلمين والمسلمات من المنافقين ومكرهم وخبثهم ، ومن الشواهد في المقام ذكر القرآن للمنافقات بالذات خمس مرات , وذكر لفظ المنافقين بالتذكير ثمان مرات إلى جانب ورود لفظ [الَّذِينَ نَافَقُوا] مرتين في القرآن احداهما في آية البحث والأخرى قوله تعالى [أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ]( ) .
الخامسة : إنشغال الذين نافقوا بأنفسهم , وتوجه اللوم لهم على قعودهم .
السادسة : رجوع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سالماً إلى المدينة من معركة أحد .
السابعة : قصر مدة معركة أحد إذ أنها لم تستمر إلا شطراً من نهار .
الثامنة : شيوع إنسحاب الذين كفروا خائبين .
الرابع : الضبط والنظام في دولة الإسلام , ورجوع الناس إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : تآلف أهل المدينة على قانون وهو حكم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيادة شرائع الإسلام فيها ، وهو من عمومات قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ).
المسألة الحادية عشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد جعل الله عز وجل أيام الحياة الدنيا دار امتحان وإبتلاء ، ومن أسرار تعاقب الليل والنهار واستقلال كل يوم بطالع خاص به وكل ليلة بمغيب جديد يخبر عن بداية ليلة جديدة غير الليالي التي مرت من حياة الناس ومن أيام الدنيا مطلقاً هو الإمتحان لأهل الدنيا فيها ، وقد تجري في النهار أو الليل وقائع يشكر أهل القبور الله عز وجل أنهم لم يكونوا حينئذ من أهل الدنيا ، ويتوجه الشهداء إلى الله بالشكر للأمن والسلامة بالقتل في سبيله من الإفتتان بما يجري في الدنيا مثل الفواحش والقتل بغير حق واتباع الطاغوت في ظلمه وتعديه واشعاله المعارك .
وجاءت آية السياق للتخفيف من هذا الإبتلاء والمنع من إفتتان الناس بالنفاق والمنافقين .
لقد أراد الذين نافقوا دخول أقوالهم والزيف الذي يدّعون بيوتات المدينة ، ومن الإعجاز في القرآن إخباره عن وجود منافقات أيضاً وذكرهن على نحو الخصوص في مواضع من القرآن ، قال تعالى [وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ]( ).
وهل قول المنافقين [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ) من ظن السوء بالله , الجواب نعم.
لذا جاءت آية البحث رحمة بالناس وإصلاحاً للمنافقين، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) بلحاظ صيغة الإطلاق في الرحمة لتشمل كل من :
الأول : المهاجرون والأنصار .
الثاني : المؤمنون والمؤمنات .
الثالث : المسلمون والمسلمات .
ومن إعجاز القرآن ذكرهم على نحو التفصيل بقوله تعالى[إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا] ( ) .
بلحاظ أن النسبة بين المسلمين والمؤمنين هي العموم والخصوص المطلق فكل مؤمن هو مسلم وليس العكس .
الثالث : المنافقون والمنافقات .
الرابع : أهل الكتاب .
الخامس : الذين كفروا .
السادس : الجن , لعموم رسالته صلى الله عليه وآله وسلم للإنس والجن ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
وليس من حصر لرحمة الله في بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل تشمل رحمة الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذات شخصه الكريم ، أي بتقدير : وما أرسلناك إلا رحمة لك , أم أنه خارج بالتخصص أو التخصيص .
الجواب هو الأول ، وقد ورد الكتاب والسنة بما يدل على حاجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لرحمة الله ، وغبطته وسعادته بالفوز بهذه الرحمة التي منها تجليات قوله تعالى [اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] ( ) .
وفي التنزيل [قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ) لبيان الأنبياء والرسل من البشر وكل إنسان محتاج إلى رحمة الله سبحانه ، ولكن مرتبة النبوة وما يترشح عنها من الوحي والحكمة والإمامة رحمة وفضل من عند الله عز وجل فاز عدد من خالصة وأسمى مراتب البشر وهم الأنبياء كما ورد ذات المعنى بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا] ( ) .
وقد ذكرت آية البحث الذين قتلوا في سبيل الله ويصدق عليهم بلحاظ الآية أعلاه الإتصاف بخصال :
الأولى : التسليم بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يوحى إليه من عند الله سبحانه .
الثانية : الإقرار بأن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمهاجرين والأنصار بالخروج إلى معركة أحد من الوحي .
الثالثة : لم يقتل شهداء معركة أحد إلا استجابة للوحي , ودفاعاً عن كل من :
الأول : الوحي والتنزيل من جهات :
الأولى : إستدامة الوحي .
الثانية : سلامة الوحي من التحريف .
الثالثة : العمل العام بمضامين الوحي .
الثاني : الموحى إليه والذي ينزل عليه القرآن وهو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الذين يؤمنون بالوحي ويصدقون به ، ومنهم الذين قتلوا في سبيل الله وعوائلهم أي أنهم استشهدوا دفاعاً عنى أنفسهم وعن عوائلهم بصفتهم مؤمنين يتلقون الوحي بالتصديق ، فصحيح أن الذي يدافع عن أهله وعرضه يكون بمنزلة الشهيد ، ولكن الشهداء دافعوا عنهم كعوائل وعرض وأهل , وأيضاً كمؤمنين , وحالوا بين أسرهم وسبيهم وقتلهم وذلهم .
الرابع : لقد أوصى الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه إله الناس جميعاً ، وليس له ند أو شريك ، فقام الشهداء بالدعوة إلى التوحيد وترغيب الناس بالإيمان فأبى المشركون إلا قتالهم ، فصار الشهداء بين أمرين ، إما القتال والدفاع ، وأما ترك الدعوة فهداهم الله عز وجل إلى الأولى ، وأظهروا ثبات الأقدام في مقامات الإيمان ، وبذلوا أنفسهم لتصديق قانون وهو أن نبوة محمد حق، وفي التنزيل[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ]( ).
الخامس : لقد وردت الآية أعلاه بذكر رجاء لقاء الله بصيغة الجملة الشرطية بقوله تعالى [فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا] ( ).
وقدّم شهداء أحد للأجيال المتعاقبة من الناس أبهى مصاديق رجاء لقاء الله بأن جاهدوا بأنفسهم في سبيل الله ، وبين الذين يرجون لقاء الله والشهداء عموم وخصوص مطلق ، ومن صيغ التخفيف عن المؤمنين ومصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) أن رجاء الفوز بلقاء الله لا ينحصر بالقتال في سبيل الله وتلقي الجراحات أو القتل في ميدان المعركة أو خارجها إنما قيدت الآية هذا الفوز ونيل مراتب الكرامة في الآخرة بالعمل الصالح وتعاهد التوحيد ونبذ الشرك ، ولم يرد لفظ [لِقَاءَ رَبِّهِ]( ) إلا في الآية أعلاه ، كما ورد قوله تعالى [مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ) .
ولم يرد لفظ [يَرْجُو لِقَاءَ] إلا في الآية أعلاه لبيان قدسية هذا اللقاء وإنفراده بخصوصية سامية لما فيه من العز وشرف الدنيا والآخرة
الخامس : إرادة إقامة الحجة على الذين نافقوا فالشهداء بشر مثلكم ومن ذات قبائلكم وتقرون بأنهم إخوانكم كما في الآية السابقة [قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ].
ولقد آمن الشهداء بمعجزات النبوة وسعوا إلى لقاء الله أختاروا العمل الصالح والإيمان وإجتناب الشرك وبذلوا أنفسهم ليفوزوا بالسعادة الأبدية .
لقد جاءت آيات البحث لدعوة المنافقين للتنزه عن إبطان الكفر ، ولم ترد منهم القتل في سبيل الله لذا تضمنت الآية السابقة الإحتجاج عليه بعجزهم عن دفع الموت عن أنفسهم لتذكيرهم بأمر وهو لزوم الإستعداد لما بعد الموت لأن الله عز وجل جعل الموت عاقبة حتمية لكل إنسان وهو مقدمة ونوع طريق للحساب .
وفي التنزيل[وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
لقد جعل الله عز وجل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واقية من الإبتلاء وسبيل هدى في مسالكه ، ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة سورة الفاتحة عدة مرات في الصلاة اليومية، وما في هذه السورة من الإقرار بالتوحيد ، وتعدد مصاديق العبودية الخالصة لله عز وجل مناسبة للإتعاظ.
وفيها أيضاً الدعاء والمسألة ، ومنه [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) لتكون أعداد أفراد هذه الهداية بالنسبة لكل مسلم ومسلمة لا يحصيها إلا الله عز وجل ، إذ تكون الصلاة اليومية وتلاوة القرآن فيها واقية من ضروب الإبتلاء اليومي المتجدد الذي يأتي للفرد والجماعة ، ومنه بلحاظ آية السياق أمور :
الأول : وجود المنافقين بين ظهراني المسلمين .
الثاني : عداوة المنافقين للإيمان وأهله .
الثالث : هجوم مشركي قريش على المدينة المنورة .
الرابع : خذلان وإنخزال المنافقين وسط الطريق .
الخامس : تحريض المنافقين والمنافقات المسلمين على القعود .
السادس : طلب المشركين الثأر لواقعة بدر ، وإرادتهم بقاء عبادة الأوثان في البيت الحرام والجزيرة .
السابع : قلة مؤن وأسلحة المسلمين .
الثامن : لزوم تقيد المسلمين بأحكام الصلاة والزكاة والصيام وسنن الحلال والحرام .
المسألة الثانية عشرة : من وجوه تقدير الجمع بين الآيتين : والله أعلم بما يكتم الذين نافقوا ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً).
من أسماء الله عز وجل [العالم][العليم] و[علام الغيوب]وهو الذي يعلم كل شئ ما ظهر وما خفي ، ومنه ما يكتمه الناس في بواطنهم وما ينوون فعله ، وينسى العبد الخاطرة التي تمر على ذهنه ولكنها تبقى حاضرة عند الله عز وجل، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى] ( ).
وجاءت خاتمة آية السياق [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] ( ) لوجوه منها :
الأول : بيان عظيم قدرة الله وسعة سلطانه .
الثاني : إحاطة الله علماً بخفايا النفوس .
الثالث : إنذار الذين نافقوا بأن الله عز وجل يظهر ما يكتمون .
الرابع : البشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بأن الله عز وجل يكفيهم من جهات :
الأولى : شر الذين نافقوا .
الثانية : ما يخفيه الذين نافقوا من النوايا .
الثالثة : المقاصد والأغراض الخبيثة وراء أقوال الذين نافقوا .
الرابعة : ميل الذين نافقوا لجيش الذين كفروا .
الخامسة : سعي الذين نافقوا ومحاولتهم قعود المسلمين عن القتال ، وإعاقة التبرع والإنفاق في سبيل الله، وورد في التنزيل في ذم المنافقين[يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ]( ) .
وعن زيد بن أرقم قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان معنا ناس من الأعراب ، فكنا نبتدر الماء ، وكان الأعراب يسبقونا إليه ، فيسبق الأعرابي أصحابه ، فيملأ الحوض ، ويجعل حوله حجارة ، ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه .
فأتى من الأنصار أعرابياً فأرخى زمام ناقته لتشرب ، فأبى أن يدعه ، فانتزع حجراً فغاض الماء ، فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه ، فأتى عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين فأخبره ، وكان من أصحابه فغضب ، وقال : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفض من حوله يعني الأعراب ، وكانوا يحضرون رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الطعام .
وقال عبدالله لأصحابه : إذا انفضوا من عند محمد فائتوا محمداً بالطعام فليأكل هو ومن عنده ، ثم قال لأصحابه : إذا رجعتم إلى المدينة فليخرج الأعز منها الأذل)( ).
السادسة : منع الذين نافقوا من تضييع أو إنكار تضحية الشهداء .
ومن الإعجاز نزول آية البحث وبيانها لحياة وخلود الشهداء عند الله ، لتكون برزخاً دون تشويه الذين نافقوا للحقائق .
وتقدير خاتمة آية السياق على وجوه :
الأول : والله أعلم بما يكتمون من الغل والحقد .
الثاني : والله أعلم بما يكتمون من الكفر ومفاهيم الشرك والضلالة ، قال تعالى [وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ] ( ) .
الثالث : والله أعلم بما يكتمون من الإصرار على القعود .
الرابع : والله أعلم من أنفسهم بما يكتمون ، فقد لا يحيط الإنسان علماً بما يخفيه في نفسه من النوايا والعزائم وغياب بعضها عنه ولو على نحو مؤقت ولكنها حاضرة عند الله عز وجل .
وقد لا يصل المنافقون بالحالة التي بلغوها من الجمع بين المتضادين من إعلان الإسلام وإبطان الكفر وما يستحقه من العقاب الأليم .
فجاءت آية السياق مطلقة لبيان أن الله عز وجل أعلم بما يخفيه المنافقون.
الخامس : والله أعلم بما يكتمون مجتمعين ومتفرقين .
السادس : والله أعلم بما يكتمون من بغض بعضهم لبعض ، قال تعالى [تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى]( ) .
السابع : والله أعلم بما يكتمون من الإقرار بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ] ( ).
الوجه الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لقد خلق الله الخلائق منّاً منه تعالى عليها مجتمعة ومتفرقة ، وجعل في كل جنس نفعاً ورحمة ومنّ على أفراد ذات الجنس والأجناس الأخرى ، فان قلت تنخرم هذه القاعدة بالإقتتال بين الناس من المسلمين والذين كفروا كما في معركة أحد وسيلان الدماء بغير حق ، فمع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله يدعو إلى عبادته، وينهى عما يقرب الناس من النار ، وعذابها فان الذين كفروا جهزوا الجيوش لقتالهم، وقام الذين نافقوا بايذائه والمؤمنين سواء باصرارهم على القعود أو بث الأراجيف في المدينة ، بعد عجزهم عن بث الإشاعات لسرعان ما يتم كشفها وفضحها بسبب مراتب الإيمان العالية التي يتحلى بها المسلمون والمسلمات .
والجواب يتقوم خلق الإنسان وخلافته في الأرض بالإمتحان والإبتلاء والإفتتان وهو من أسرار خلافته في الأرض , ومعاني قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) لأن الناس يرجعون إلى الله عز وجل ويقفون بين يديه للحساب ثم يأتي عالم الثواب الذي يتصف بالخلود .
(عن عبد الله بن عمرو ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي يده كتابان ، فقال : أتدرون ما هذان الكتابان؟
قلنا لا ، ألا أن تخبرنا يا رسول الله ، قال : للذي في يده اليمنى ، هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة ، وأسماء آبائهم ، وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم ، ثم قال للذي في شماله ، هذا كتاب من رب العالمين ، بأسماء أهل النار ، وأسماء آبائهم ، وقبائلهم .
ثم أجمل على آخرهم ، فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم أبداً فقال أصحابه : ففيم العمل يا رسول الله إن كان قد فرغ منه؟ فقال : سددوا ، وقاربوا ، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة ، وإن عمل أي عمل
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بيديه فنبذهما ، ثم قال: فرغ ربكم من العباد { فريق في الجنة وفريق في السعير }( ).
وأخرج ابن مردويه ، عن البراء بن عازب ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، في يده كتاب ينظر فيه قال : انظروا إليه كيف، وهو أمي لا يقرأ ، قال : فعلمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال : هذا كتاب من رب العالمين ، بأسماء أهل الجنة ، وأسماء آبائهم، وقبائلهم ، لا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم ، وقال : { فريق في الجنة، وفريق في السعير } فرغ ربكم من أعمال العباد)( ).
لقد أراد الله عز وجل لآية البحث أن تكون منّاً على المسلمين والناس جميعاً لما فيها من البشارة والإخبار عن علوم من الغيب بخلود شهداء أحد في النعيم لتفيد وجوهاً :
الأول : إزاحة أسباب الحزن والأسى عن صدور المؤمنين للخسارة التي لحقتهم يوم معركة أحد .
الثاني : بيان مصداق لجزاء الله عز وجل للمسلمين بقوله تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ]( ) لتكون آية البحث من أسباب الصلوات على المؤمنين ومصاديق الرحمة النازلة عليهم خلفاً وعوضاً لفقد الأحبة وتصير سبباً للهداية والرشاد .
الثالث : دخول المواساة من الله عز وجل على قتل الشهداء إلى كل بيت من بيوت المسلمين ، وإستيلاؤها على قلوبهم ونفاذها طوعاً وقهراً إلى قلوب الذين نافقوا ، ليكون من معاني [مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ] ( ) .
ومن خصائص آية البحث أنها تقربهم من مقامات الهدى والإيمان ، فلما أخبرت عن حياة الشهداء في دار النعيم عند الله عز وجل فان المنافقين يميلون إلى الهدى .
وتتوجه آية البحث بالخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتتضمن معنى الخطاب إلى المسلمين والمنافقين والناس جميعاً .
وما أن رجع الذين كفروا إلى مكة يتباهون بأنهم قتلوا سبعين من أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى نزلت آية البحث فطاردتهم ودخلت بيوت مكة لتكون في البيت الحرام وأسواق وبيوت مكة على وجوه :
أولاً : تلاوة المسلمين والمسلمات الذين بقوا في مكة لآية البحث .
ثانياً : مجئ الركبان والمعتمرين ووفد الحاج بآية البحث وهي [تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ] ( ).
ثالثاً : منع الذين كفروا من التفاخر بقتل المؤمنين ، فلم يموتوا ، ولكنهم انتقلوا إلى النعيم الدائم.
(عن ابن إسحاق قال: قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يرغِّب المؤمنين في ثواب الجنة ويهّون عليهم القتل :”ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون”، أي: قد أحييتهم، فهم عندي يرزقون في رَوْح الجنة وفضلها، مسرورين بما آتاهم الله من ثوابه على جهادهم عنه)( ).
رابعاً : بعث الحسرة والندامة في نفوس الذين كفروا .
خامساً : آية البحث مادة لإحتجاج المؤمنين على الذين كفروا، بأنكم قتلتم الشهداء فصاروا أحياء في النعيم بينما ينتظركم العذاب الأليم على هذا الظلم والتعدي .
فان قلت لا يذيق الشهيد حر السيف ولا يجد شدة عند مفارقة الدنيا ، فهل يؤاخذ قاتله من الكفار بالتشديد أم يكون الحساب على التخفيف الذي فاز به الشهيد .
الجواب هو الأول ، فيؤاخذ الكافر على أنه أذاق الشهيد حر السيف وشدة الإصابة ، وأن خفّف عن الشهيد .
الرابع : بيان قانون وهو أن عامة الناس لا ينتقلون حال الموت إلى الحياة الأبدية حال الوفاة والدفن إنما يكونون في عالم البرزخ وعلى نحو متباين ، فيفسح للمؤمن في قبره , ويكون روضة من رياض الجنة ، أما الذي كفر فان القبر يضيق عليه .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار) ( ).
والرياض جمع روضة وهي الحديقة والبستان، وهل يلحق المنافق بالذي كفر أم يكن برزخاً بين المؤمن والكافر في عالم القبر، الجواب هو الأول.
الخامس : دعوة المسلمين لإكرام الشهداء .
السادس : الترغيب بالشهادة والدفاع عن النبوة والتنزيل .
السابع : بعث النفرة من القعود , والذين يحرضون عليه , قال تعالى [وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ] ( ).
الثامن : كشف آية البحث لعلوم من الغيب ببركة الشهداء ، فلم تنزل هذه الآية في واقعة بدر ، وإن كان موضوعها شامل للشهداء فيها ، ولكنها نزلت بعد معركة أحد وكثرة الشهداء فيها ، ومحاولة المنافقين بعث الفتنة بين أهل المدينة رجالاً ونساءً بسبب هذه الكثرة .
لبيان أن معركة أحد ورشحاتها من مصاديق المنّ الإلهي , وعمومات قوله تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
ويكون تقدير آية السياق على وجوه :
الأول : لقد منّ الله على الذين قتلوا في سبيل الله .
الثاني : لقد منّ الله على المؤمنين الأحياء إذ بعث فيهم رسولاً منهم .
الثالث : لقد منّ الله على المؤمنين الأموات .
الرابع : لقد منّ الله على المسلمين والمسلمات إذ أخبرهم عن حياة الشهداء عنده تعالى وإكرامه لهم أحسن إكرام ، وفي التنزيل [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ) .
الخامس : لقد منّ الله على المؤمنين بحياة الشهداء عنده، لتكون هذه الحياة والإخبار عنها سبباً لوقاية المسلمين من الهزيمة والإنكسار في معارك الإسلام اللاحقة ، وهو من الإعجاز في السنة الدفاعية، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدم يسيل من وجنته يوم أحد (لن ينالوا منا مثلها حتى تستلموا الركن.
فلما رأت فاطمة الدم لا يرقأ وهي تغسل الدم، وعلي عليه السلام يصب الماء عليها بالمجن أخذت قطعة حصيرٍ فأحرقته حتى صار رماداً، ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم.
ويقال إنها داوته بصوفةٍ محترقة) ( ).
المسألة الثانية : لقد أخبرت آية السياق عن قانون متصل إلى يوم القيامة وهو المنّ الإلهي ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخصّ به المؤمنين لوجوه :
الأول : إنتفاع المؤمنين من رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإنتفاع الأمثل .
الثاني : إهتداء المسلمين لسبل الرشاد والتقيد بأحكام الشريعة الذي هو طريق الخلود في النعيم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
ومن إعجاز آية السياق تأكيدها على قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعليم الحكمة للمسلمين والمسلمات بقوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ).
الثالث : إقتباس الناس عامة من سنن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وجاءت آية البحث بالإخبار عن شهادة وقتل طائفة من المؤمنين في معركة أحد ، ترى ما هي وجوه النفع العام والخاص من هذه الشهادة بلحاظ آية السياق وذكرها لمنّ الله عز وجل على المؤمنين , الجواب من وجوه:
الأول : صيرورة المسلمين على مرتبة عالية من التقوى .
الثاني : البلاغ العام للناس بأن المسلمين يدافعون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن التنزيل ، ويبذلون النفوس في سبيل الله .
الثالث : تنزه المسلمين عن الرغائب الدنيوية .
ولا يختص هذا التنزه بالذين استشهدوا بل يشمل جميع الذين خرجوا إلى القتال في معركة أحد وعوائلهم الذين آزروهم في هذا الخروج ، ولم يسمع عنهم اعتراض على الخروج إلى معركة أحد ، ولا إحتجاج على كثرة القتلى من المسلمين ، وكان همهم هو رؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سالماً حال العودة من معركة أحد .
ولما أطل عليهم بجراحاته بإشراقة النبوة كان كيوم دخوله مهاجراً من مكة إلى المدينة حينما خرجت النساء والصبيان وهم يقولون :
(طلع البدر علينا * من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا * ما دعا لله داع
قال محمد بن إسحاق: فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيما يذكرون يعنى حين نزل، بقباء على كلثوم بن الهدم أخي بني عمرو بن عوف ثم أحد بنى عبيد، ويقال: بل نزل على سعد بن خيثمة.) ( ).
وقال ابن قيم الجوزية أن هذا الشعر أنشد عند قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم [مَوْضِعُ ثَنِيّاتِ الْوَدَاعِ وَغَلَطُ مَنْ قَالَ إنّ الشّعْرَ أُنْشِدَ عِنْدَ قُدُومِهِ مِنْ مَكّةَ ]
وَبَعْضُ الرّوَاةِ يَهِمُ فِي هَذَا وَيَقُولُ إنّمَا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ مَقْدِمِهِ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ مَكّةَ وَهُوَ وَهْمٌ ظَاهِرٌ لِأَنّ ثَنِيّاتِ الْوَدَاعِ إنّمَا هِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الشّامِ لَا يَرَاهَا الْقَادِمُ مِنْ مَكّةَ إلَى الْمَدِينَةِ وَلَا يَمُرّ بِهَا إلّا إذَا تَوَجّهَ إلَى الشّامِ فَلَمّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ قَالَ هَذِهِ طَابَةُ وَهَذَا أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبّنَا وَنُحِبّهُ .) ( ).
ولا ملازمة في الموضوع بين قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا جبل يحبنا ونحبه وبين الشعر أعلاه ، إذ أن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا قاله عند عودته من معركة تبوك وكون ثنيات الوداع من ناحية الشام لا يكفي لحمل الشعر على خصوص قدومه من جهة الشام خاصة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غيّر الطريق في مسيره ودخوله إلى المدينة إحترازاً وللنجاة من الكفار الذين كانوا جادين في طلبه وصاحبه .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد من الله على المؤمنين ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ) .
لقد ذكرت آية السياق موضوع منّ الله عز وجل على المؤمنين والمؤمنات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والأصل في المنّ توالي شآبيب الرحمة , وسحائب الرأفة والرزق الكريم من عند الله عز وجل على المؤمنين ، بينما وقعت معركة أحد ليسقط سبعون شهيداً من المسلمين في المعركة , فهل هو من المنّ الذي تذكره آية السياق أم أنه استثناء لعمومات ما من عام إلا وقد خصّ .
لقد جاءت آية البحث بالجواب القاطع والبرهان الساطع بأن هذه الشهادة من أبهى مصاديق منّ الله عز وجل على المؤمنين , من وجوه :
الأول : حال ذات الشهيد وإجتيازه إمتحانات الدنيا كلها مما تقدم في حياته بالعفو والمغفرة بالشهادة ووفر على نفسه إمتحان قادم الأيام لو كان حياً ، إذ يدل قوله تعالى [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]بالدلالة التضمنية على مغفرة الله للشهداء كل ذنب فعلوه في حياتهم ، ومحوه من صحيفة أعمالهم ، ولا يستطيع الملائكة قراءته وإيجاده وذكره في صحائف أعمالهم يوم القيامة.
ومن معاني تقدير الجمع بين الآيتين وفق هذه المسألة أن منّ الله على المؤمنين متقدم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومتقدم زماناً على شهادة الذين قتلوا في سبيل الله ومصاحب له ومتأخر عنه ، وهو من أسرار مجئ آية السياق بصيغة الفعل الماضي الذي يفيد الحدوث والإمضاء .
وهل قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] من منّ الله عز وجل على المؤمنين ، الجواب نعم ، إذ أن كل آية من آيات القرآن منّ من الله عز وجل وهو منّ متعدد من جهات :
الأولى : تعدد مضامين الآية القرآنية فاولها في أشياء ووسطها في أشياء وآخرها في أشياء .
الثانية : الآية القرآنية كلام الله الحاضر دائماً بين البشر لتكون تلاوة المسلمين لها من مصاديق ورشحات نفخ الله من روحه في آدم كما في قوله تعالى [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ]( ) .
ليكون من معاني ذكر الحواس في الآية أعلاه لزوم تسخيرها للتدبر في التنزيل والعمل بأحكامه.
ولم تذكر الآية أعلاه الألسن والنطق إنما ذكرت السمع والأبصار ولكل منهما موضوعية في سماع الآية أو قراءتها، وإرادة سماع أو رؤية المسلم وغير المسلم لآيات القرآن وكلام الله، وذكرت الآية الأفئدة للتدبر في مضامين الآية القرآنية .
لقد أبى الله إلا أن تبقى مصاديق الصلة معه عند كل إنسان بتلاوة كلامه الذي أنزله على نبيه ، ومن قبل تلاوة الكتب السماوية السابقة التي أنزلت على الأنبياء السابقين .
فان قلت يختص المسلمون بتلاوة آيات القرآن ، والجواب هذا صحيح ، ولكن الذين كفروا هم الذين حجبوا عن أنفسهم هذه النعمة .
الثالثة :موضوع الآية القرآنية ، وما تهدي إليه من سبل الرشاد وأحكام الحلال والحرام .
الرابعة : صيرورة الآية القرآن سلاحاً في الإحتجاج ومادة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلما ورد قوله تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ) فان الله عز وجل بينّ للناس سبل المعروف ورغبّهم بها ، وأشار إلى أفراد المنكر وحذرهم منها .
الثاني : تصديق المسلمين والمسلمات بمضامين آية البحث ودلالاتها .
الثالث : إقامة الحجة على الذين نافقوا بأن في إعراض المؤمنين عن دعوة الذين نافقوا للقعود خير الدنيا والآخرة، وفي التنزيل[وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ]( ).
الرابع : إقامة الحجة على الذين نافقوا بأنهم يصدون عن سبيل الله ، قال تعالى [وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] ( ) .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : لقد منّ الله على الذين قتلوا في سبيل الله إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم).
يدل قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) على أن خلق الإنسان وعمارته الأرض نعمة ومنّ من عند الله عز وجل عليهم وعلى الخلائق ، وليس من حصر لوجوه المنّ في المقام منها :
الأول : عالم الخلق والنشأة والتكوين واللطف الإلهي فيه ، قال تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
الثاني : الرزق الكريم من عند الله للفرد والأسرة والجماعة والأمة والناس جميعاً، وحينما يتدبر الإنسان في حياته الخاصة يستغرب كيف وصل إلى المرتبة التي هو فيها من جهة الشأن والمال والمسكن والحالة الإجتماعية لأن كل فرد منها فضل من الله وتراه فخوراً بأبيه وأن كان فقيراً، والرجل يعلم ابنه ويجتهد في العناية به ، ويتطلع إلى إرتقائه .
الثالث : من الإعجاز في خلق الإنسان أن الله عز وجل جعله يدرك حاجته إلى رحمته بكل طرفة عين بحال الشهيق والزفير ومتوسطه عند الإنسان في الدقيقة الواحدة نحو أربع عشرة مرة.
ولو أبطأ أحدهما فليس إلا الموت الذي وردت الآية السابقة بالإحتجاج به على الذين نافقوا ليكون قانون النفس تذكيراً للإنسان بالتوبة والإنابة والصلاح ، ولو التفت الذين كفروا من قريش إلى الحاجة إلى التوبة لما جهزوا الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وسقط الشهداء .
وتحتمل حاجة الإنسان للإيمان وجوهاً :
الأول : إنها أكثر من حاجته للتنفس، وفي التنزيل [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ] ( ) .
الثاني : نسبة التساوي بين الحاجة للتنفس والحاجة إلى الإيمان .
الثالث : الحاجة للتنفس أكثر من الحاجة إلى الإيمان .
الرابع : الحاجة لأحدهما مقدمة للحاجة إلى الآخر .
والصحيح هو الأول والأخير أعلاه وإذ تنقطع بالموت نعمة الشهيق والزفير فان الشهداء يتصفون بخصوصية وهي إستدامة حياتهم في الآخرة عند الله كما أخبرت آية البحث .
وهل في قوله تعالى[أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] أنهم أحياء بتنفس كالذي في الحياة الدنيا أم أن نواميس الآخرة أمر آخر لا يعلمه إلا الله عز وجل ، أو كما يكون تنفس الملائكة بالتسبيح والتهليل .
والمختار هو الأول ، فاذا ورد نص بخصوص كيفية حياة ورزق الشهداء في الآخرة يؤخذ به ، أما إذا لم يرد نص فالأصل هو ما متعارف في الحياة الدنيا ، وفي التنزيل [وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
لقد أظهر الذين نافقوا الأسى على فقد الشهداء ، وألقوا باللائمة عليهم لأنهم لم يطيعوا الذين نافقوا إذ أمروهم بالقعود والإمتناع عن الإستجابة لنداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانتصر الله عز وجل لرسوله وللشهداء ولجميع الذين لبوا نداء الدفاع عن ملة التوحيد والتنزيل بأن بيّن في آية البحث المرتبة العظيمة التي فاز بها الشهداء .
المسالة الخامسة : لقد أخبرت آية السياق عن منّ الله عز وجل على المؤمنين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل ينحصر المنّ بهم.
الجواب لا، واثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه من غيره ، إنما بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فضل ولطف ومنّ من الله عز وجل على الناس جميعاً لعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
ولكن ذكر المؤمنين في الآية لبيان عظيم إنتفاعهم الأمثل من بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحسن الإيمان وصدق التقوى ومنه بذل النفوس في سبيل الله ، وتضحيتهم في معركة أحد .
ترى ما هي النسبة بين المنّ الإلهي الذي تذكره آية السياق وبين الرحمة التي تذكرها الآية أعلاه ، فيه وجوه :
الأول : نسبة التساوي وان المنّ هو ذات الرحمة .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : رحمة الله أعم من المنّ الذي تذكره آية السياق .
الثانية : المن الإلهي أعم من الرحمة .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه بلحاظ تقييد آية السياق المنّ بآية خاصة بالمؤمنين ، نعم تترشح على عموم المسلمين والمسلمات وأهل الكتاب والكفار ومصاديق من منافع هذا المنّ بما يكون فرعاً ومصداقاً لآية الرسالة .
ترى لماذا لم تقل الآية ، لقد منّ الله على المسلمين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ، بدل أن يخصّ المؤمنين بالذات ، الجواب النسبة بين المسلمين والمؤمنين عموم وخصوص مطلقاً ، كل مؤمن هو مسلم وليس العكس ، لبيان نكتة وهي خروج الذين نافقوا بالتخصيص من مصاديق الآية فلذا ذكرت الآية السابقة إيذاءهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين والذي استشهدوا بقولهم [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ) .
إنما أراد قعودهم مع أن جيش الذين كفروا صار على مشارف المدينة ويبلغ عددهم ثلاثة آلاف رجل بسلاح ومؤن كبيرة منها مائتا فرس لن تركب ظهورها في الطريق بين مكة والمدينة ليخوضوا فيها القتال .
وهل يمكن تقدير الجمع بين الآيتين ، لقد منّ الله على الذين قتلوا في سبيل الله إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : بين المؤمنين الذين تذكرهم آية السياق وبين الذين قتلوا في معركة أحد عموم وخصوص مطلق فالمؤمنون أعم ، فقد نال الشهداء مرتبة الإيمان قبل أن يفارقوا الدنيا ، أو قل فارقوها وهم مؤمنون .
ولو قلت حتى لو كان عند بعضهم نوع شك أو ريب أو تردد أو ضعف إيمان , الجواب يتم الله له إيمانه ويمحو عنه الشك ويزيحه بتجلي حياته عند الله إذ يرى البراهين القاطعة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما أن الآية الواردة في المسألة الثانية أدناه تنفي عنهم هذا الشك ونحوه ، وقال الله تعالى في الأحياء من أهل أحد[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ) والذي يدل في مفهومه على أمور :
الأول : حصر الفشل والجبن بمرتبة الهم والنية .
الثاني : إنحصار الهم بالفشل بالفشل بطائفتين , ويدل على سلامة غيرهم من طوائف المهاجرين والأنصار منه .
الثالث : سلامة الشهداء بالمصداق الواقعي من الهم بالفشل .
الرابع : تفضل الله عز وجل على الشهداء بالعصمة من الفشل .
الثانية : خروج الذين قتلوا في سبيل الله إلى ميدان معركة أحد شاهد على بلوغهم مرتبة الإيمان لقوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ).
والمختار أن الآية أعلاه نزلت بخصوص واقعة أحد ، وهو المروي عن ابن عباس ، ووردعن الحسن ومجاهد أنه كان يوم الأحزاب ( ).
لقد ذكرت الآية مقاعد القتال وهو شاهد بالإستعداد للقتال وتهيئة أهم مقدماته من وضع أفراد الجيش في مواضعهم ، ولقد ذكرت معركة بدر ومعركة أحد بقوله تعالى [ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ] ( ) .
ولم يذكر فيها قتال بين فريقين متقابلين بدليل نزول قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ) .
(عن ابن مسعود أنه كان يقرأ هذا الحرف { وكفى الله المؤمنين القتال}( ) بعلي بن أبي طالب) ( ).
لقد حاصر المشركون المدينة المنورة في معركة الأحزاب نحو عشرين ليلة، واشتد على المؤمنين خاصة والمسلمين عامة وأهل المدينة الأذى ، وهو الذي كان يهدف إليه المشركون باثارة الجزع عند أهل المدينة ، وتحريض من بقي من المشركين فيها إلى جانب اليهود والذين نافقوا وضعيفي الإيمان من المسلمين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لشدة الضرر الذي لحقهم , وكثرة جيوش الكفار التي تحيط بهم .
إذ كان أفراد عدوهم عشرة آلاف رجل ، ويدل على هذا القصد قوله تعالى [وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا]( ).
ولكن الله عز وجل أنعم على النبي والمؤمنين وأهل المدينة جميعاً بالصبر وتفويت الفرصة على الذين كفروا ، فلم يحققوا أي غاية من غاياتهم الخبيثة ، وعند إشتداد البلاء رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه بالدعاء ، وقال (اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم أنك إن تشأ لا تعبد : فبينما هم على ذلك إذ جاءهم نعيم بن مسعود الأشجعي ، وكان يأمنه الفريقان جميعاً ، فخذل بين الناس ، فانطلق الأحزاب منهزمين من غير قتال . فذلك قوله { وكفى الله المؤمنين القتال })( ).
الثالثة : هل من موضوعية وأثر لشهداء أحد في معركة الأحزاب الجواب نعم ، ويمكن إنشاء قانون وهو لشهداء أحد أثر وموضوعية في كل معركة من معارك الإسلام ، وهو من فيوضات آية البحث ، وما تضمنته من النهي الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعدم إحتسابهم أمواتاً رحلوا عن الدنيا .
لتدل الآية على علمهم بما يقع لإخوانهم في الحياة الدنيا ، وما يلاقون من الشدائد , ويفرحون بالنصر القادم في معارك الإسلام اللاحقة وهو من مصاديق ومعاني الآية التالية [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
المسألة السادسة : لقد ذكرت آية السياق وجوهاً من المنّ الإلهي على المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي :
الأول : بلوغ المسلمين مرتبة الإيمان لوصفهم في آية السياق بالمؤمنين .
الثاني : تفضل الله عز وجل بهداية المسلمين ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الآيات أن هذا الإختصاص والهدى لا يعني الحصر ، إنما جاءت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للناس جميعاً لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ) ولكن المسلمين هم الذين بادروا إلى الإيمان والتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ليكون بين الإيمان الظاهر وضده النطق بالشهادتين .
وليس من تعيين لمصاديق وأفراد المؤمنين ولا حواجز دون دخول الناس الإسلام ليكون من مصاديق وأسرار تلاوة المسلمين آية السياق في الصلاة اليومية ترغيب الناس بدخول الإسلام ليفوزوا بصفة الإيمان ، ويتلقوا مصاديق كثيرة من لطف ومنّ الله عز وجل حجبوها عن أنفسهم بالعناد والجحود ، قال تعالى [وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا] ( ).
الثالث : نيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة الرسالة ، وبين النبي والرسول عموم وخصوص مطلق , فكل رسول هو نبي وليس العكس ، وقد فاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته بأمور :
الأول : رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس كافة .
الثاني : إتصاف رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنها رحمة للعالمين، عن ابي أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله بعثني رحمة للعالمين وهدى للمتقين)( ).
الثالث : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين .
الرابع : إنتساب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لذات المؤمنين .
لبيان أن الأولوية في النسب للإيمان ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ) ولتفيد آية السياق بلحاظ الآية أعلاه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخ للمؤمنين والمؤمنات ، ليفتخر كل مسلم ومسلمة بأخوتهما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإقتدائهما به .
وهناك مسائل بلحاظ آية البحث وهي :
الأولى : هل المسلمون في كل زمان أخوة للذين قتلوا في سبيل الله .
الثانية : هل مادة الحياة التي يلتقي بها أهل كل زمان والشهداء في كل زمان من الشواهد على الأخوة بينهم ، فالمسلمون مؤمنون أحياء في الدنيا والشهداء مؤمنون أحياء في الآخرة .
الثالثة : هل تنفع حياة الشهداء عند الله المؤمنين من أهل الدنيا سواء الصحابة أو التابعين أو تابعي التابعين .
أما المسألة الأولى , فالجواب نعم ، لأن قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) مطلق من غير تقييد أو حصر بالأخوة في ذات أهل الزمان فتتعدى أخوة الصحابة للأجيال اللاحقة وكذا بالعكس لأن الضابطة التي تتقوم بها هذه الأخوة هو الإيمان .
ليدعو ويستغفر السابق للاحق ، وكذا العكس ، فان قلت هذا العموم مناقض للخصوص الوارد في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (“إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)( ).
والجواب إنه من مصاديق الصدقة الجارية , وإضافة دعاء الأخ , وفي التنزيل [وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ).
وأما المسألة الثانية , فالجواب نعم ، ومن خصائص هذه الأخوة أنها تنبض بالحياة مثلما يكون الشهداء أحياء عند الله ، وتتجلى بتلاوة المسلمين والمسلمات لآية البحث والتسليم بأمور :
الأول : صدق إيمان الشهداء .
الثاني : خلوص نية الشهداء بالقتال قربة إلى الله .
الثالث : عدم جعل الشهداء حدوداً وقيوداً لقتالهم في سبيل الله، كما لو كانوا لا يقاتلون إلا الفئة القليلة، أو أنهم لا يبرزون إلا لمن أضعف منهم ، فتدل الوقائع في معركة بدر وأحد وغيرها من معارك الإسلام الأولى على أن الشهداء بذلوا الوسع في الدفاع واختاروا لقاء الله عز وجل فرزقهم عز وجل المقام السامي .
(عن قيس الجذامي( ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن للقتيل عند الله ست خصال : تغفر له خطيئته في أول دفعة من دمه ، ويجار من عذاب القبر ، ويحلى حلة الكرامة ، ويرى مقعده من الجنة ، ويؤمن من الفزع الأكبر ، ويزوّج من الحور العين) ( ).
وأما المسألة الثالثة , فالجواب نعم ، وأخوة الشهداء على وجوه :
الأول : الذين قتلوا في سبيل الله أخوة في الدنيا والآخرة .
الثاني : الذين قتلوا في سبيل الله أخوة لأهل البيت والصحابة ، قال تعالى [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ] ( ).
الثالث : الذين قتلوا في سبيل الله أخوة للتابعين .
الرابع : الذين قتلوا في سبيل الله أخوة للمسلمين في كل زمان .
إن المسلمين والمسلمات من أهل كل زمان ينتفعون بلحاظ آية البحث من وجوه :
الأول : مغادرة الشهداء للحياة الدنيا بالقتل في سبيل الله ، وكأنهم يقولون للأحياء من المسلمين في كل زمان : ضحينا بانفسنا لتبقوا على نهج الإيمان .
الثاني : إتخاذ المسلمين الشهداء أسوة صالحة في التضحية والفداء .
الثالث : إقرار المسلمين بالعالم الآخر والحياة فيه .
الرابع : التفقه في علوم الغيب والعلم بقانون من عظيم قدرة الله ، وهو أن عالم البرزخ لا يختص بأحوال القبر ، إنما هناك أمة من المسلمين يكونون أحياء عند الله من حين الوفاة وهم الشهداء .
المسألة السابعة : لقد تضمنت آية البحث الإخبار عن قتل طائفة من الصحابة في معركة أحد ، وكانت نيتهم في القتال بقصد القربة إلى الله عز وجل فشهد لهم الله عز وجل بأن قتلهم في سبيله تعالى .
وقد أختتمت الآية السابقة بذم الذين نافقوا والإخبار بأن [ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] ( ) وكما يعلم الله عز وجل ما يخفيه المنافقون فانه سبحانه يعلم ما يخفيه الصحابة الذين خرجوا إلى معركة أحد ، فأخبر الله أنه قتلوا في سبيل الله ، فان قلت جاءت هذه الشهادة وهم قد غادروا الدنيا ، فهل كانوا يعلمون بها وهم أحياء ,
الجواب نعم ، ويدل عليه قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) إلى جانب السنة النبوية الشريفة القولية والفعلية .
ولم يشترط ذكر نية قصد القربة وفي سبيل الله على نحو النطق بها ، إنما يكفي المعنى الارتكازي والخاطر على الذهن ، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (الأعمال بالنيّات , وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله , ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) ( ).
ولقد ترك أغلب الرماة مواضعهم على الجبل خلافاً لما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ونزلوا لجمع الغنائم فجاءت خيالة العدو من خلف المسلمين ووقعت الخسارة فيهم .
وهل من هؤلاء الرماة من قتُل في سبيل الله ، الجواب نعم ، وقيل في تفسير قوله تعالى ({مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ}( ) نزلت في الذين تركوا المركز يوم أُحد طلباً للغنيمة.
{وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} يعني الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قُتلوا {وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ} أي الموحدين المطيعين) ( ).
ولا دليل على أن الرماة هم الذين يريدون الحياة في الآية أعلاه ، وقد نعتهم الله عز وجل بالمؤمنين , وشهد لهم بالتقوى حين وقفوا صفوفاً للقاء الذين كفروا , بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
والأصل أنهم قتلوا في سبيل الله ، ويمكن تأسيس قاعدة وهي :كل الذين قتلوا في معركة أحد شهداء قتلوا في سبيل الله إلا من خرج بالدليل مثل قزمان , خاصة وأن النبي أمر أصحابه بالا يقاتلوا إلا بأمر من عنده، ومن المفسرين من حمل قوله تعالى [أَوْ ادْفَعُوا] على طلب القتال حمية.
قال القرطبي في قوله تعالى [أَوْ ادْفَعُوا] في الآية السابقة (إنما هو استدعاء إلى القتال حمية لأنه استدعاهم إلى القتال في سبيل الله وهي أن تكون كلمة الله هي العليا فلما رأى أنهم ليسوا على ذلك عرض عليهم الوجه الذي يحشمهم , ويبعث الأنفة أي أو قاتلوا دفاعا عن الحوزة ألا ترى أن قزمان قال: والله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي .
وألا ترى أن بعض الأنصار قال يوم أحد لما رأى قريشا قد أرسلت الظهر في زروع قناة أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب؟ .
والمعنى إن لم تقاتلوا في سبيل الله فقاتلوا دفعا عن أنفسكم وحريمكم)( ).
ولكنه قياس مع الفارق بين قزمان وما قاله بعض الأنصار من وجوه :
الأول : نية قزمان في القتال من بدايته حمية وعصبية .
الثاني : بقاء قزمان على ذات النية .
الثالث : إخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن كون قزمان في النار( ).
الرابع : مغادرة قزمان الدنيا على الإصرار على الحمية في قصده ونيته في القتال ، (قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال: كان فينا رجل لا يدرى من هو يقال له قزمان، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا ذكر: ” إنه لمن أهل النار “.
قال: فلما كان يوم أحد قاتل قتالا شديدا، فقتل هو وحده ثمانية أو سبعة من المشركين، وكان ذا بأس، فأثبتته الجراحة، فاحتمل إلى دار بني ظفر.
قال: فجعل رجال من المسلمين يقولون له: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان فأبشر.
قال: بماذا أبشر ! فوالله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت ! قال: فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهما من كنانته فقتل به نفسه) ( ).
المسألة الثامنة : لقد أخبرت آية السياق عن كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ذات المؤمنين بقوله تعالى[إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ]( ).
ليتجلى هذا المعنى وصبغة الإتحاد في تضحية الصحابة بأنفسهم دون نفسه وشخصه الكريم ، ليكون من معاني المنّ بلحاظ آية البحث وجوه:
الأول : مجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بآيات القرآن ، لقد جعل الله عز وجل القرآن الطريق والصراط والصلة بينه وبين عباده، وهو كلام الله الذي تفضل وجعله بين الناس ، إذ إبتدأ نزول القرآن في السنة العاشرة قبل الهجرة النبوية .وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (نزل القرآن في ليلة القدر إلى البيت المعمور جملة، ثم نزل من البيت المعمور على رسول الله صلى الله عليه وآله في طول عشرين سنة)( ).
الثاني : إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفرائض العبادية ، وبيان وجوبها العيني على كل مكلف ومكلفة كالصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس .
مع التباين في الإطلاق في الصلاة التي لا تترك على حال ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ) وبين الفرائض الأخرى كالسلامة من المرض وعدم السفر في الصيام لقوله تعالى [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ]( ).
وكالتقييد في الحج بالإستطاعة والزاد والراحلة كما في قوله تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ) وكالزكاة مع تحقق النصاب .
وإذ قال الذين نافقوا وأشباههم أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صارت سبباً لقتل عدد من المؤمنين في المعارك , فالجواب من وجوه :
الأول : جاءت آية البحث لبيان أن قتلهم صار مقدمة لأعظم عاقبة حسنة فاز بها أهل الدنيا .
الثاني : سلامة الذين قتلوا في سبيل الله من الخسارة لأن ما نالوه في الآخرة أفضل وأحسن مما في الحياة الدنيا .
الثالث : لم يقع قتل الشهداء إلا لأنهم يدافعون عن الحق والنبوة وأنفسهم وأهليهم .
الرابع : لقد سالت دماء سبعين شهيداً يوم أحد لتكون نوع طريق لدخول الناس الإسلام ، والتقيد بالفرائض والعبادات .
الخامس : تأكيد قانون من الإرادة التكوينية ، وهو وجود عالم الجزاء في الآخرة ، وأن الذين قتلوا في سبيل الله يقيمون في النعيم .
السادس : لما أخبرت آية السياق عن تزكية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين بقوله تعالى[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ) تجلت التزكية في خروجهم للدفاع تحت لواء التوحيد والنبوة، وهم على إستعداد لبذل النفوس في سبيل الله .
المسألة التاسعة : لقد أخبرت آية السياق عن قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُعّلم المؤمنين[الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ) (وعن الحسن البصري وقتادة أن الحكمة هي السنة)( ) ولكن موضوعها أعم .
وفي حديث الإسراء الطويل ورد أن الأنبياء أثنوا على الله عز وجل ومنه (ثم إن عيسى عليه السلام أثنى على ربه فقال : الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعل مثلي مثل آدم خلقه من تراب ثم قال له : كن فيكون ، وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله، وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ، ورفعني وطهرني وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم ، فلم يكن للشيطان علينا سبيل .
ثم إن محمداً صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه عز وجل فقال : كلكم أثنى على ربه وإني مثن على ربي , أي أن الأنبياء أثنوا على الله وهم في عالم الآخرة عند الله , أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه لا يزال في الحياة الدنيا عرج به إلى السماء .
فقال : الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين ، وكافة للناس بشيراً ونذيراً ، وأنزل علي الفرقان فيه تبيان لكل شيء ، وجعل أمتي ( خير أمة أخرجت للناس)( ) وجعل أمتي أمة وسطاً ، وجعل أمتي هم الأولون والآخرون ، وشرح لي صدري ، ووضع عني وزري ، ورفع لي ذكري ، وجعلني فاتحاً وخاتماً ) ( ).
وقد علّم الله عز وجل الحكمة عيسى كما ورد في صفة عيسى في التنزيل [وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ] ( ) وقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأن صار هو الذي يعلّم المسلمين الحكمة التي علمه الله عز وجل , وأن تكون الحكمة في متناول المسلمين ، وليرتقوا بها في مراتب التقوى ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
والمختار أن المراد من لفظ [الْحِكْمَةَ]في آية السياق أعم من السنة النبوية، فيشمل أموراً :
الأول : السنة النبوية القولية والفعلية .
الثاني : حفظ المسلمين لآيات القرآن .
الثالث : تدبر المسلمين في آيات القرآن ، واستنباط المسائل منها , قال تعالى[كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
الرابع : تعلم أحكام الفرائض .
الخامس : أداء المسلمين للعبادات والتكاليف .
السادس : تقيد المسلمين بسنن الحلال والحرام الواردة في القرآن والسنة، قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
السابع : تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن .
الثامن : الأحاديث القدسية، وما يأتي به جبرئيل للنبي من غير ما هو محصور بين الدفتين، ومنه ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قال لي جبريل : قال الله يا عبادي أعطيتكم فضلا وسألتكم قرضا .
فمن أعطاني شيئا مما أعطيته طوعا عجلت له الخلف في العاجل ودخرت له في الأجل.
ومن أخذت منه ما أعطيته كرها وصبر واحتسب أوجبت له صلاتي ورحمتي , وكتبته من المهتدين , وأبحت له النظر إلى وجهي)( ).
ليكون تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين الكتاب والحكمة من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) لذا تفضل الله عز وجل وأوجب على المسلمين قراءة سورة الفاتحة , ومنها الآية أعلاه عدة مرات في الصلاة اليومية .
التاسع : ندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين للدفاع كما في معركة أحد فانه من مصاديق الحكمة من جهات :
الأولى : إرادة قصد القربة في الدفاع .
الثانية : زجر الذين كفروا عن التعدي على ثغور الإسلام .
الثالثة : لقد صار جيش الذين كفروا على مشارف المدينة وإن لم يندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين لقتالهم لدخولها غزاة عابثين بانتقام ، قال تعالى [قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ]( ).
وورد اسم الإشارة كذلك في الآية أعلاه لبيان صيغ التشابه بين الغزاة في القتل ، والقتل والتخريب ، فتفضل الله عز وجل ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان لا يقاتل إلا من قاتله ، والذي ينطق بالشهادتين يعصم في نفسه وماله وعرضه .
(عن جابر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم ، وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر)( ).
لبيان أن هذه العصمة وحقن الدماء من مصاديق الحكمة التي علمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين ، ولما احتج الملائكة على جعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) بأن من الناس من يفسد في الأرض ويسفك الدماء أجابهم الله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ومن علم الله عز وجل تعليم النبي المسلمين الكتاب والحكمة للتنزه عن الفساد وعن سفك الدماء.
وهل هذا التعليم في موضوعه وكيفيته وأوانه من الوحي , الجواب نعم، ليكون من وجوه تقدير الآية: ويعلمه الله كيف يعلمهم الكتاب والحكمة.
المسألة العاشرة : من معاني الجمع بين الآيتين بيان ترشح فيوضات آية السياق على المسلمين ، وتجليها باستشهاد وقتل سبعين من الصحابة في سبيل الله يوم معركة أحد .
لقد جهّز الذين كفروا جيشاً كبيراً لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وحرصوا على أن يكون جيوشهم أضعاف جيل المسلمين من جهة العدد والعدة ، وكثرة الفرسان والخيل والمؤون ، إذ كانوا يعلمون بأحوال المسلمين في المدينة ، وقد فاتهم معرفة قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم المسلمين الكتاب والحكمة وأن هذا التعليم من مصاديق غلبة ونصر العدد القليل من المؤمنين للجمع الكبير من الكافرين ، قال تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ) ومن أبهى مصاديق الحكمة التي علّمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين الصبر ، وهذا الصبر على أقسام :
الأول : الصبر في طاعة الله وأداء العبادات ، قال تعالى [وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ] ( ).
الثاني : حبس النفس عن المعصية وإرتكاب السيئة .
الثالث : الصبر على أذى المنافقين والذي تبينه الآيات السابقة .
الرابع : الصبر في المرابطة وفي ميدان القتال ، ومنه ما تدل عليه آية البحث ففي إخبارها عن قتل المؤمنين في سبيل الله شاهد على أن النسبة بين الذين قاتلوا وبين الشهداء منهم هي العموم والخصوص المطلق ، فان قلت قد يكون القتل في سبيل الله خارج المعركة ومن غير قتال .
والجواب هذا صحيح ، ولكن الآية تدل على القتلى من الصحابة في ميدان المعركة من جهات :
الأولى : نظم هذه الآيات , فقد تقدم قبل ثلاث آيات قوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) إذ يدل التقاء الجمعين على حدوث القتال بين المسلمين والذين كفروا .
الثانية : ذكر الآية السابقة قعود الذين نافقوا عن القتال وتحريضهم على الإمتناع عن القتال تحت لواء النبوة , والذي يدل بالدلالة الإلتزامية على حدوث قتال بين المسلمين والذين كفروا .
الثالثة : إظهار المنافقين ما يشبه الشماتة بالصحابة الذين قتلوا في معركة أحد خصوصاً الأنصار منهم ، كما في قوله تعالى [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا ] ( ).
الرابعة : ورود السنة النبوية بتفسير آية البحث بما يدل على أن المراد هم الصحابة الذين استشهدوا في معركة أحد .
المسألة الحادية عشرة : لقد ذكرت آية السياق أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم المسلمين [الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ) ويحتمل الدفاع والقتل في سبيل الله في معركة أحد وجوهاً :
أولاً : هذا الدفاع والقتل من الكتاب لما في آيات القرآن من الحث على الدفاع ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] ( ) أي فرض عليكم أيها المسلمون القتال دفاعاً ورجاء الأمن والسلامة من الذين كفروا .
ثانياً : إنه من الحكمة التي علمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين لبيان قانون وهو أن قعود الذين نافقوا خلاف الحكمة .
ثالثاً : الدفاع والشهادة ليس من الكتاب أو الحكمة الذين علمهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين .
والصحيح هو الأول والثاني .
ومن الكتاب تعليم المسلمين بأن الصحابة الذين قتلوا في معركة بدر وأحد أحياء عند الله عز وجل .
وهل تلاوة النبي محمد لآية السياق من هذا التعليم ، الجواب نعم ، فهناك خصوصية لتلاوته للآية القرآنية لأن تلك التلاوة بيان لحكم وتشريع, وبعث على العمل بمضامينها حالما يتلوها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وذات هذه التلاوة تبليغ ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( ).
وهل مسألة حياة الشهداء عند الله عز وجل من الكتاب الذي تذكره آية السياق , الجواب نعم ، بدليل آية البحث وذكرها لحياتهم ، وعلى القول بأن المراد من الحكمة في آية السياق أنها السنة النبوية فقد وردت النصوص المستفيضة التي تؤكد حياة شهداء أحد في الدار الآخرة ، وكان لآية البحث وأقوال النبي وإخباره عن حال الغبطة والسعادة التي صار إليها شهداء أحد أعظم النفع عند المؤمنين ، في بعث السكينة في نفوسهم وإلهامهم الصبر .
عن طلحة بن خراش ، قال : سمعت جابرا ، يقول : لقيني النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لي(يا جابر ، ما لي أراك منكسرا ؟ فقلت : يا رسول الله ، استشهد أبي ، وترك عيالا ودينا ، فقال : ألا أبشرك بما لقي الله به أباك ؟ قلت : بلى ، يا رسول الله .
قال : ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب ، وإن الله أحيا أباك فكلمه كفاحا ، فقال : يا عبدي ، تمن أعطك ، قال : تحييني فأقتل قتلة ثانية، قال الله : إني قضيت أنهم لا يرجعون ، ونزلت هذه الآية : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) ( ).
وهل يختص تعليم وإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حياة الشهداء عند الله بخصوص طبقة الصحابة وأهل البيت ، الجواب لا ، فان هذا التعليم يتغشى المسلمين والمسلمات في كل زمان ،وهو من الإعجاز في مجئ آية السياق بصيغة الجمع [وَيُعَلِّمُهُمْ].
فان قيل ورد قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ] معطوفاً على [يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ] والقدر المتيقن من التلاوة هو على أهل البيت والصحابة , والجواب المراد من التلاوة أعم في متلقيه ، فهي عامة تشمل المسلمين جميعاً ، للتسليم بـأن القرآن كلام الله عز وجل نزل به جبرئيل بذات الكلمات والحروف من غير تغيير أو نقيصة أو زيادة، وهو من مصاديق[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
المسألة الثانية عشرة : لقد أختتمت آية السياق بقوله تعالى [وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ) أي وأن كان الصحابة قبل البعثة في حال جهالة لبيان حاجتهم والناس إلى الهدى , ومن يأخذ بأيديهم في سبل الرشاد .
وصحيح أن لفظ (إن) ورد في الآية بصيغة التخفيف إلا أنه ما يمنع من دلالتها على بيان المن الإضافي من الله عز وجل على المسلمين والهبات منه على نحو الإبتداء .
لبيان قانون وهو أن حال الجهالة والضلالة التي كان عليها المسلمون لم تمنع من تفضل الله عز وجل بتعدد وتوالي المنّ والفضل على المؤمنين لبيان عدة قوانين منها :
الأول : قانون يأتي المنّ من عند الله إبتداء لتقريب الناس إلى منازل الإيمان .
الثاني : قانون منزلة الذي يأتيه المنّ والفضل من الله .
الثالث : قانون اتصال وتوالي المنّ من الله على الذي آمن .
الرابع : يأتي المنّ للمسلم من وجوه :
أولاً : المن ّ على نحو القضية الشخصية .
الثانية : ترشح المن على الفرد من المن واللطف الإلهي على الجماعة والأمة كما في قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( )إذ ينتفع المسلم من مرتبة وشأن أمة الإسلام وما تتصف به من الرفعة والعلو .
الثالثة : إنتفاع الجماعة والأمة من المنّ الإلهي الذي يأتي للفرد الواحد منهم .
الشعبة الثانية :صلة آية البحث بالآيات المجاورة التالية ، وفيها وجوه :
الأول : صلة هذه الآية بالآية التالية [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لقد تضمنت آية البحث نهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الظن بأن الذين قتلوا في سبيل الله في معركة أحد صاروا أمواتاً ، ليتوجه هذا النهي إلى كل من :
الأول : المسلمون والمسلمات .
الثاني : عوائل الشهداء .
الثالث : المؤمنون والمؤمنات .
الرابع : الذين شاركوا في القتال في معركة أحد وما بعدها .
الخامس : المنافقون والمنافقات، رحمة بهم وإنذاراً لهم.
السادس : أهل الكتاب .
السابع : المشركون والمشركات .
ويكون تقدير الجمع بين الآيتين : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء فرحين ) لبيان وجه مشرق من وجوه حياة الشهداء وهو الفرح وتغشي الغبطة لهم ، ولو دار الأمر بين إحتمال إنقطاع هذا الفرح أحياناً بالحزن أو بحال من اللافرح واللاحزن وبين إستمرار وإتصال الفرح، فالصحيح هو الأخير لوجوه :
الأول : أصالة الإطلاق .
الثاني : عدم إنقطاع الفضل الإلهي على الشهداء .
الثالث :خلو عالم الآخرة من العمل وضروب الإبتلاء .
الرابع : ورود الآيات بنفي الحزن عن أهل الجنان من المؤمنين مطلقاً وليس الشهداء وحدهم، قال تعالى[يَاعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلاَ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ]( ).
المسألة الثانية : من وجوه تقدير الجمع بين الآيتين : الذين قتلوا في سبيل الله يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم ) وفيه وجوه :
الأول : تأكيد حياة الشهداء في الآخرة وأنهم كهيئتهم في الدنيا من جهة العقل والتمييز بين الأشياء ، ودخول السرور أو الحزن إلى نفوسهم مع تحقق أسباب كل منهما، وبما أن أسباب الحزن معدومة بالنسبة لهم في الآخرة ، أخبرت الآية عن حال الغبطة والسعادة للشهداء، وموضوع هذه الغبطة وأسبابها ، وهو من إعجاز القرآن، إذ أنهم يتطلعون وينتظرون المؤمنين الذين سيلحقون بهم من بعدهم , ليكون من إعجاز الجمع بين الآيتين أمور :
أولاً : إمتلاء قلوب المؤمنين بالسعادة , وهذه السعادة من رشحات الرحمة في قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، فمن يتلقى الرسالة بالقبول والعمل بمضامينها تتغشاه الطمأنينة , وهو من عمومات قوله تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
ثانياً : بيان فضل الله عز وجل على المؤمنين بواسطة الشهداء .
ثالثاً : تأكيد حياة الشهداء .
رابعاً : طرد الغفلة عن المسلمين بخصوص حال الشهداء .
خامساً : حال فرح الشهداء عند ذكرهم من قبل كل من :
أولاً : ذكر المسلمين للشهداء لبكون مناسبة للثناء عليهم .
ثانياً : ذكر المنافقين للشهداء ومحاولتهم الشماتة بهم .
فتأتي آية البحث والسياق لزجرهم ومنع المسلمين من الإنصات لهم .
ثالثاً : إحتجاج المسلمين بحياة الذين قتلوا في معركة أحد ورجاء شفاعتهم يوم القيامة .
الثاني : رجاء كل مسلم ومسلمة أن يكونا من الذين يستبشر بهم الذين قتلوا في سبيل الله، وبينما يوجه الذين نافقوا اللوم إلى الشهداء كما في الآية السابقة تتضمن آية البحث الإخبار عن حياتهم، وتدعو الآية التالية المسلمين والمسلمات إلى إقتفاء أثرهم، ورجاء كونهم من الذين يستبشر بهم الشهداء.
ليكون من معاني آية السياق ترغيب المسلمين بعالم ما بعد الموت ، مع الشكر لله عز وجل بوجود سبق لهم يستبشر بقدومهم ، والذي يدل بالدلالة التضمنية على دخول المؤمنين الجنة وصحبتهم للشهداء ، فصحيح أن الشهداء فازوا بالحياة حال الموت إلا أن الإقامة في الجنة يلتقي فيها المؤمنون والشهداء معاً .
الثالث : تسليم المسلمين بأن الموت حق وأنهم يرجعون إلى الله عز وجل .
وصحيح أن آية البحث تتضمن الإخبار عن حياة الشهداء عند الله إلا أنها تدل بالدلالة التضمنية على أمور :
الأول : رجوع المؤمنين إلى الله .
الثاني : وجود ظهير وسابق كريم للمؤمنين في الجنان .
الثالث: نزول الموت بالذين نافقوا بدليل قوله تعالى في الآية السابقة [فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ] ( ).
الرابع : وقوف الناس بين يدي الله للحساب في الآخرة ، ومن معاني آية البحث اطلاعهم جميعاً على المنزلة الرفيعة للشهداء في الآخرة ، والتأكد من المصداق الفعلي لآية البحث بحياتهم حالما فارقت أرواحهم الأجساد وغادروا الدنيا .
(وعن ابن عباس قال : ان آخر آية انزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي[وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ) قال ابن عباس: مكث بعدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبع ليال)( ).
وعن البراء بن عازب(إن آخر آية نزلت من القرآن: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة)( ).
الرابع : بيان إتصال حياة الشهداء بعالم الدنيا وبيان ماهية هذا الإتصال وهي الإستبشار بإيمان المؤمنين والتطلع إلى مجيئهم إلى الجنة والذي يدل بالدلالة التضمنية على سلامتهم من الإرتداد والنفاق ، وفيه بعث للحسرة في نفوس المنافقين لأنهم من الذين يستبشر بمجيئهم إلى عالم الآخرة الشهداء.
نعم في الآية ترغيب لهم بالتوبة، وهو من فضل الله ومصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) وبيان لقانون من وجوه:
الأول : مجئ الوعد الكريم من عند الله في ثنايا الوعيد .
الثاني : عموم الوعد والبشارة مع خصوص الإنذار والوعيد .
فيأتي الوعيد للذين كفروا أو للمنافقين أو هم مجتمعين , أو الوعد للمؤمنين , فيكون الناس في تلقيه شرعاً سواء، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
الثالث : قانون محو التوبة لكل ذنب ، بحيث لا يكون العبد متردداً فيها، ومن الإعجاز في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يعاقب ولا يقتل من كان مسلماً، وإن كان قد أساء للإسلام وأضر بمصالح المسلمين، كما في إسلام وحشي قاتل حمزة .
إذ أنه يصف قتله لحمزة عليه السلام ويعتذر فيما بعد بأنه ما أراد إلا أن يُعتق لأنهم وعدوه بالعتق إن قتل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أو الإمام علي أو حمزة، ولما تم فتح مكة هرب وحشي منها وذهب إلى الطائف، ولما دخل أهل الطائف في الإسلام ارتبك وحشي وخاف خوفاً شديداً ونوى اللحوق بالشام أو اليمن أو أي بلد آخر .
وقال وحشي (فوالله إني لفي ذلك من همي إذ قال لي رجل: ويحك ! إنه والله لا يقتل أحدا من الناس دخل في دينه وشهد شهادة الحق.
فلما قال لي ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة فلم يرعه إلا بي قائما على رأسه أشهد شهادة الحق، فلما رأني قال لي: أوحشي أنت ؟ قلت: نعم يا رسول الله.
قال: اقعد فحدثني كيف قتلت حمزة ؟
قال: فحدثته كما حدثتكما، فلما فرغت من حديثي قال: ويحك غيب عني وجهك فلا أرينك ! قال: فكنت أتنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان لئلا يراني، حتى قبضه الله عز وجل.
فلما خرج المسلمون إلى مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة خرجت معهم وأخذت حربتي التي قتلت بها حمزة، فلما التقى الناس رأيت مسيلمة قائما وبيده السيف، وما أعرفه، فتهيأت له وتهيأ له رجل من الانصار من الناحية الاخرى، كلانا يريده، فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت فيه، وشد عليه الانصاري بالسيف، فربك أعلم أينا قتله، فإن كنت قتلته فقد قتلت خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقتلت شر الناس!)( ).
وكذا في قصته إسلام الشاعر كعب بن زهير صاحب القصيدة اللامية التي مطلعها:
(بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ … مُتَيّمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ)( ).
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله ليسوا بفرحين).
من معاني الجمع بين الآيتين إنتصار الله عز وجل للشهداء في الدنيا والآخرة، فقد أخبر الله عز وجل عن حياتهم في الآخرة ، وذكرت آية السياق أنهم فرحون، وهناك فرق بين حدوث الفرح أحياناً بتحقق اسبابه وبين إتصال الفرح على نحو الدوام الذي لا يكون إلا في الآخرة لمن يشاء الله عز وجل من عباده .
وتفضل الله عز وجل على الشهداء بهذه المرتبة والشأن العظيم وأنعم على المسلمين والمسلمات فيه من جهات :
الأولى : إخبار آية البحث والسياق عن حال الفرح الدائم للشهداء .
الثانية : بيان الآية لفرد ومصداق من علم الغيب يتصف بأمور :
الأول : لا يقدر على فرح الشهداء في الأرض إلا الله عز وجل .
الثاني : لا يمكن لأحد الإخبار عن فرح الشهداء في الآخرة غير الله عز وجل ، فصحيح أن هناك أموراً من الغيب يخبر عنها النبي والرسول والملك باذن من عند الله ، قال تعالى [عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا] ( ) إلا أن مسألة حياة الشهداء عند الله ورزقهم في الآخرة إختص الله عز وجل بالإخبار عنها .
الثالث : لا يقع ويتم فرح الذين قتلوا في سبيل الله إلا بإذن وأمر من عند الله عز وجل ليكون تقدير الجمع بين الآيتين : الذين قتلوا في سبيل الله جعلهم الله فرحين بما آتاهم من فضله .
الرابع : بيان علة فرح الذين قتلوا في سبيل الله وهو فضل الله عز وجل عليهم ، وفيه دعوة لإستقراء النعم الإلهية على الشهداء والواردة في القرآن والسنة .
الخامس : توبيخ كل من آية البحث والسياق للذين نافقوا بذكرهما لحال الشهداء , وعظيم منزلتهم عند الله عز وجل ، وصيرورتهم في فرح دائم .
السادس : إنذار الذين نافقوا والذين كفروا بالحرمان من حسن العاقبة التي فاز بها الشهداء .
السابع : تهذيب الأخلاق، والدعوة إلى عمل الصالحات، لينال الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر منزلة الشهداء، وعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يكون في آخر الزمان قوم يعملون المعاصي، ويقولون: إن الله قد قدّّرها عليهم، الراد عليهم كشاهر سيفه في سبيل الله)( ).
الثالثة : تلاوة المسلمين والمسلمات لآية البحث وتلقيهم مضامينها بالقبول والرضا والشكر لله عز وجل وتقدير صيغة الجمع للآية : ولا تحسبوا الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً …).
المسألة الرابعة : لقد تضمنت آية السياق قانوناً وهو إتيان الله عز وجل الشهداء من فضله، فهل مضامين آية البحث من مصاديق ووجوه هذا الفضل.
الجواب نعم، لأن قوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ] فضل من الله عز وجل على الذين قتلوا في سبيله تعالى، إذ خصهم الله عز وجل بتوجيه نهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يحسبهم أمواتاً في مغادرتهم الدنيا ، لأنهم لم يغادروها إلا قتلاً في سبيل الله وتحت لواء رسوله، قال تعال[وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ]( )، وعن الإمام موسى بن جعفر(عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم : أول من قاتل في سبيل الله إبراهيم الخليل عليه السلام حيث أسرت الروم لوطا عليه السلام فنفر إبراهيم عليه السلام واستنقذه من أيديهم .
وأول من اختتن إبراهيم عليه السلام اختتن بالقدوم على رأس ثمانين سنة)( ).
الوجه الثاني : صله آية البحث بقوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
وفيها مسائل :
المسألة الأولى : لقد تضمنت آية البحث أموراً :
الأول : النهي الخاص والعام عن الظن بأن الصحابة الذين قتلوا في معركة أحد أموات وجثت هامدة في القبور ، وهذا النهي لا يقدر عليه إلا الله عز وجل إذ أن المشاع بين الناس أن الذي تفارق جسده الروح يكون من الأموات ، وأن الناس في الأمر شرع سواء ، وحتى المؤمنين يسلمون بهذا الأمر بلحاظ أنه سنة الله في الخلق ،قال تعالى [ًً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ] ( ) فنزلت آية البحث لتبين قانوناً من الإرادة التكوينية وهو إمتياز الشهداء بخصوصية وإكرام لا يقدر عليه إلا الله عز وجل , ولا يهبه إلا لخاصة أوليائه .
وهو صيرورة شهداء أحد أحياء عند الله ، لتتجلى وتتفرع عنه قوانين متعددة منها :
أولاً : إنتفاء الخسارة عند المؤمنين .
ثانياً : صيرورة الصحابة الذين قتلوا في معركة أحد فرطا سابقا للمسلمين .
ثالثاً :تفاني المسلمين في القتال دفاعاً عن النبوة والتنزيل .
رابعاً : إلقاء اليأس والقنوط في نفوس الذين كفروا .
خامساً : بعث الصبر والسكينة في نفوس عوائل الشهداء .
الثاني : قيدت آية البحث الذي ينال مرتبة الحياة عند الله بالقتل في سبيل الله ليخرج كل من :
أولاً : الذي يموت في فراشه .
ثانياً : الذي يقتل في طلب الدنيا .
ثالثاً : الذي يقتل ظلماً كقتل صاحب الدار نت قبل اللص .
رابعاً : الذي يقتل في ميدان المعركة ولكنه لم يمنع القتال في سبيل الله ، والدفاع عن النبوة والتنزيل .
الثالث : تقييد حياة الشهداء بأنها من الله أي أن الشهيد ليس في القبر ، وإن ورد الحديث بأن القبر قد يكون (روضة من رياض الجنة)( ).
بمعنى أن الشهداء نالوا درجة سامية أعلى من روضة القبر ، وإن كان الحديث يشملهم باجسادهم إذ تتغشاهم الرحمة .
الرابع : توالي الرزق الكريم من عند الله عز وجل على شهداء أحد ، فيرزق الأحياء ممن شارك في القتال ، من نعم الدنيا ويفوزون بصحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصلاة معه ، وسماع آيات القرآن التي تنزل عليه ، وتلك منزلة عظيمة [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ) وعاش الشهداء هذه النعمة ونهلوا من معين النبوة وكحلوا أعينهم بطلعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البهية قبل معركة أحد ، أما بعدها فقد فازوا بما هو أعظم وأكبر , وهم يستبشرون بقدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لمّا خلق الله سبحانه جنّة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر،
ثمَّ قال لها : تكلّمي،
قالت : قد أفلح المؤمنون ثلاثاً ثمَّ قالت : أنا حرام على كلّ بخيل ومرائي ) ( ).
ولم ينقطع الإخبار عن إكرام الشهداء عند الله بآية البحث ، فجاءت الآيتان التاليتان بخصوص رحمة الله بهم ، والإفاضات التي يتفضل بها عليهم ، وبمصاديق تجمع بينهم وبين بقية الصحابة كما في الآية التالية [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ..] ( ) .
ومع إنحصار ورود لفظ [يَسْتَبْشِرُونَ] في القرآن بست مرات ، فانه جاء في الآية التالية والتي بعدها ، ويتعلق بخصوص الشهداء مما يدل على غبطتهم ورضاهم لأن من معاني [عِنْدَ رَبِّهِمْ] أنهم لا يرون إلا ما يحبون ، وأن الله عز وجل يغدق عليهم بالنعم ، منها ما ورد في الآية التالية ، أما آية السياق فتضمنت أموراً:
أولاً : غبطة وسعادة الشهداء بنعمة الله عز وجل .
ثانياً : عدم تقييد أو حصر نعمة الله على الشهداء .
ثالثاً : سعادة الشهداء بفضل الله عز وجل عليهم ، ومن الإعجاز في آية السياق التعدد في النعم ، وأن ذات النعمة من فضل الله بالنسبة للشهداء ، وهو من نواميس الآخرة .
المسألة الثانية : إبتداء آية البحث بالنهي والمنع من الظن بأن شهداء أحد أموات ، وفيه شاهد بأن الله عز وجل يعلم [وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ) وأنه سبحانه يصلح بال المؤمنين ويمنعهم من الظن المخالف للواقع وإن كان هذا الواقع من عالم الغيب والآخرة ، إذ يكشفه الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين , ويجعلهم في عز ورفعة وسمو حتى فيما يخطر على بالهم من الظن والإعتقاد .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ) أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه عالم القول والفعل والسيرة الحسنة ، المختار هو الثاني ، نعم الظن الحسن مقدمة لهذا الخلق ومرآة له .
وإبتدأت آية السياق بالفعل المضارع [يَسْتَبْشِرُونَ]بصيغة الفعل المضارع ، والجمع الذي يتجلى بواو الجماعة ، وهل ينحصر الأمر بجمع المذكر وأن نعمة الحياة عند الله عز وجل خاصة بالرجال ، الجواب لا ، إنما جاءت واو الجماعة لبيان الفراد الغالب ورجحان صيغة التذكير في المخاطبة ، قال المتنبي :
(فما التأنيث لاسم الشمس عيب … ولا التذكير فخر للهلال) ( ).
فان قلت سلّمنا بأن المراد المذكر والمؤنث معاَ فهل هناك مصداق للتأنيث في المقام .
الجواب نعم ، ومنه أن أول شهيد في الإسلام امرأة ،وهي سمية بن خياط أم الصحابي عمار بن ياسر بن عمر بن مالك العنسي الذي كان حليفاً لأبي حذيفة ، ولما ولدت عماراً أعتقه أبو حذيفة ، وذكر أنها سابع سبعة في السبق إلى الإسلام من غير بني هاشم ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمر على آل ياسر وهم يعذبون بالأبطح في رمضاء مكة مع شدة حرارة الجو والأرض ، فيقول (صبرا آل ياسر موعدكم الجنة) ( ) لتنزل آية البحث بالإخبار عما هو أكثر من الإقامة في الجنة للشهيد والشهيدة بحياتهما عند الله من حين القتل في سبيل الله .
وليكون حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم على الصبر دعوة للثبات في منازل الإيمان ،وتحمل الأذى بقصد القربة إلى الله لبيان حالة في مكة وهي تهذيب كفار قريش لبعض المسلمين من المستضعفين ، وترك لذين أسلموا ممن لهم شأن وعشيرة ، لتمر الأيام وتكون مكة ورمضاء أرضها روضة خضراء وجنة تتصف بالعذوبة حتى في الصيف ويقطنها ويفد إليها أهل التوحيد الذين يأتون معهم بالتلبيات الأربعة ( لبيك اللهم لبيك , لا شريك لك لبيك ).
وإن قلت أن مناسبة وموضوع آية البحث هو شهداء معركة أحد ، ولابد من دليل عند إرادة التعميم والإستصحاب القهقري ،والجواب تحمل ذات آية البحث الدليل لورودها بصيغة الإطلاق ولغة الماضي بقوله تعالى [الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] وتقديرها على وجوه :
الأول : الذين قتلوا في مكة في سبيل الله .
الثاني : الذين قتلوا تحت التعذيب .
الثالث : شهداء الإسلام في معركة بدر ، وعددهم أربعة عشر ،ستة من المهاجرون وثمانية من الأنصار .
الرابع : الصحابة السبعون الذين قتلوا في معركة أحد .
الخامس : من يقتل في سبيل الله ، لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، وقيل (من حمل في سبيل الله بايع الله) ( ).
السادس : الذي قتل في سبيل الله ولا يعلم به إلا الله سبحانه .
السابع : الذي يرقى إلى منزلة القتل في سبيل الله بفضل ولطف من عند الله عز وجل .
المسألة الثالثة : لما ذكرت آية البحث أن الشهداء أحياء عند الله تعالى وأنهم يرزقون فلم تقل آية البحث أنهم أحياء عند ربهم قد رزقوا ) إنما أختتمت الآية بصيغة الفعل المضارع [يرزقون] لبيان أمور :
الأول : إستدامة الرزق من الله على الشهداء .
الثاني : تجدد رزق الله عز وجل على الشهداء .
الثالث : الإطلاق في سنخية الرزق الذي يأتي للشهداء.
وليس أصعب على الإنسان في الدنيا مثل الموت ومغادرة الأحبة ، وولوج عالم الأهوال ، ولكن الله عز وجل أبى إلا أن يبين للناس حال الغبطة والسعادة التي يكون عليها الذين قتلوا في سبيله سبحانه ، فذكرت آية البحث أنهم أحياء ليكون هذا الذكر عهد من عند الله ، ففي كل زمان يقرأ المسلمون آية البحث يكون فيه شهداء أحد أحياء إذ لا ينحصر موضوع حياتهم بخصوص أيام التنزيل إنما هو حال مرتحل ومتجدد بذاته وبتلاوة المسلمين للآية الكريمة , وهو من الإعجاز في وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة لآيات القرآن خمس مرات في اليوم ، وعلى نحو الوجوب العيني لما فيه من تجديد الإخبار عن حياة الشهداء .
فان قلت قد ينخرم هذا الأمر بأول آية البحث لتوجه الخطاب فيها من الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتقدير الآية : لا تحسبن يا محمد الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً الآن بل هم أحياء الآن عند ربهم يرزقون ).
والجواب هذا التقدير صحيح وهو أول الكلام إذ أنه لا يمنع من إستدامة حياتهم بلحاظ أمور :
الأول : حياة شهداء أحد عند الله عز وجل ، مما يدل على تغشيهم برحمته ورأفته .
الثاني : من خصائص الآية القرآنية تلاوتها في كل زمان , وكأنها نزلت تواً.
الثالث : تقدير آية البحث بخصوص أهل كل زمان: ولا تحسبوا الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون.
الرابع : دلالة صفة (أحياء) على إستدامة حياة الشهداء عند الله.
الخامس : شهداء أحد يسمعون ويرون ، ولو دار الأمر بأن سمعهم ورؤيتهم بالحواس أو عدمها ، فالصحيح هو الأول إلا مع وجود دليل على إنعدام الحواس وفق نواميس الآخرة ، وهو مفقود في المقام.
السادس : هل القتل في سبيل الله من الصراط الذي ألسنة المسلمين رطبة به ويذكرونه كل يوم في الصلاة بالقول [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
المسألة الرابعة : لقد أختتمت آية البحث بالفعل [يُرْزَقُونَ] ومن ضروب الإبتلاء في الحياة الدنيا إنشغال الإنسان بالرزق وطلبه ، ولو أجريت إحصائية للأمور التي يهم بها الناس في حياتهم اليومية لكان الرزق هو الفرد الأول في هذا الهم ، ويشترك فيه الناس على إختلاف مشاربهم ومذاهبهم وأديانهم ،فيعطي الإنسان الأولوية لأمور المأكل والملبس والمسكن والحاجات المستحدثة .
وحث الله ورسوله الناس على السعي والكسب ، مع الوعد من عند الله بالرزق الكريم , قال تعالى [وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ] ( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (إنْ قَامَتْ السّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَاسْتَطَاعَ أَنْ يَغْرِسَهَا قَبْلَ أَنْ تَقُومَ السّاعَةُ فَلْيَغْرِسْهَا) ( ).
وجاءت آية البحث بالتخفيف عن الشهداء بالإخبار عن مجئ الرزق العاجل لهم من غير تعب أو كد أو عناء خلافاً لقوانين الحياة الدنيا ، وهو أمر يختلف عن أحوال الناس في الدنيا .
وورد الفعل المضارع ( تحسبن ) في آية البحث , وكذا قوله تعالى [يُرْزَقُونَ] وجاء فيها فعل ماض [قُتِلُوا].
أما آية السياق فورد فيها فعلان وبصيغة المضارع , أحدهما إبتدأت به الآية وهو [يَسْتَبْشِرُونَ]وهو خاص بالذين قتلوا ،لبيان أنهم قتلوا في الزمن الماضي ، ولكن ثوابهم وأجرهم يأتيهم على نحو الدوام في الحاضر والمستقبل .
كما ورد لفظ [لاَ يُضِيعُ] لنفي ضياع أي عمل صالح للمؤمنين على نحو الإطلاق ، فان قالوا كيف لنا بثواب الشهداء ،وليس من معركة مع الذين كفروا أو اننا لا نقاتل ولا نخرج لقتال .
فجاءت آية السياق وأخبرت بأن الله عز وجل يكتب كل عمل صالح للمؤمن وأنه يثيبه عليه أعظم الثواب ، ليكون من معاني ذكر نبأ حياة الشهداء عند الله عز وجل بعث المسلمين والمسلمات على عمل الصالحات في سبل الخير والفلاح .
وورد في الحديث ما يدل على نزول آية البحث والآية التالية وآية السياق مرة واحدة إذ ورد عن (أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنه لما قتل حمزة وأصحابه بأحد قالوا يا ليت مخبرا يخبر إخواننا بالذي صرنا إليه من كرامة الله لنا فأوحى ربهم إليهم فأنا رسولكم إلى إخوانكم .
فأنزل الله على رسوله ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله إلى قوله لا يضيع أجر المؤمنين ) ( ).
المسألة الخامسة : ترى ما هي النسبة بين الفعل [يُرْزَقُونَ]في آية البحث والفعل [َيَسْتَبْشِرُونَ] في آية السياق .
المختار هو العموم والخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء أن كلاً منهما فضل ورزق من عند الله ، إذ تتضمن آية البحث الإخبار عن رزق كريم تفضل الله عز وجل به على الشهداء , وجاءت آية السياق برزق كريم آخر في طول الرزق الأول .
وتجمع آية البحث بين الرزق المعلوم في قوله تعالى [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ] والرزق المكنون الممدود بقوله تعالى [يُرْزَقُونَ]فأن آية السياق جاءت بنعم عظيمة من عند الله عز وجل من غير تقييد بجنسها وماهيتها ، ولو ذكرت آية السياق النعمة وحدها لكان أمراً عظيماً ، وكذا لو ذكرت الفضل وحده .
ولا يطرأ على بال أحد من الخلق أن الآية ستجمع بين النعمة والفضل من عند الله عز وجل .
ليغيب الحزن عن المسلمين في فقد الشهداء , ويبذلوا الوسع في قتال الذين كفروا ، وليكون من الإعجاز الغيري لآية البحث عجز الذين كفروا عن الهجوم على المدينة في معركة الخندق مع أن عددهم كان يومئذ عشرة آلاف رجل .
وأي الأمور التالية أكبر أثراً في ساحة المعركة .
الأول : المدد من الله بالآية القرآنية الواحدة .
الثاني : المدد بالملائكة ناصرين ومؤازرين ومعضدين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ]( ).
الثالث : المدد بالآيات المتعددة .
الجواب لا تعارض بين هذه الوجوه ، فصحيح أن المدد بالملائكة أكبر وأعظم في ساحة المعركة إلا أن المدد بالآية القرآنية أعم زماناً ومكاناً ، وهو باق إلى يوم القيامة .
وهل يمكن الإستدلال بأن المدد بالآية القرآنية هو الأكبر لأن الشهداء قتلوا في معركة أحد مع وجود الملائكة ناصرين ، بينما تبعث آية البحث السكينة في قلوب المسلمين ، والهمّة في نفوسهم , والمناجاة فيما بينهم لملاقاة العدو في سوح القتال .
الجواب كل له نفعه العظيم الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه ، والمدد بآيات القرآن موجود حتى قبل قتل الشهداء ، ولكن الله عز وجل أراد للشهداء العز لدائم والحياة الأبدية في النعيم .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين الإختلاف والتباين مع الذين نافقوا حتى في المناجاة في الخلوات والمنتديات بخصوص الشهداء ، لتكون مضامين آية البحث من مصاديق البر والتقوى في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] ( ).
لقد كان المنافقون يتناجون فيما بينهم ويتسارون , ويتكلمون باخفات بما يؤدي إلى الغيظ عند المؤمنين .
فتفضل الله عز وجل وجعل المسلمين والمسلمات يتلون آية البحث وهل يصدق عليها أنها من المناجاة ، الجواب نعم ، فمن خصائص التلاوة أنها متعددة المنافع ، ومنها أنها مناجاة بالتقوى والصلاح والذكرى الحسنة للمؤمنين الذين قتلوا في سبيل الله .
وقد ورد ذم الذين كفروا بقوله تعالى [وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ] ( ) والمراد من الذين من دونه الأوثان والأصنام التي اتخذها الكفار آلهة ووسائط تقربهم إلى الله مع أنها لا تضر ولا تنفع فيفرحون بذكرها لشدة افتتانهم بها , ولأنهم يتخذونها وسائل ومادة للجدال لإرادة منع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن مواصلة الدعوة إلى الله ، ولصد الناس عن الإسلام ، قال تعالى [وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ] ( ) .
الوجه الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ] ( ) وفيها مسائل :
المسألة الأولى : اختصت آية البحث بذكر شهداء أحد , وكيف أنهم قُتلوا في سبيل الله ، وفيه دعوة للناس جميعاً للتفقه في الدين ومعرفة قانون وهو من الناس من يرضى الله عز وجل عنه في كيفية قتله وما بعد قتله ، إذ يكون في غاية السعادة في الآخرة .
بينما تضمنت آية السياق حال الصحابة الذين عادوا إلى المدينة من معركة أحد، ثم خرجوا في اليوم التالي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمطاردة وملاحقة أبي سفيان وأصحابه .
وإن قلت أن هؤلاء الصحابة عادوا أحياء إلى المدينة فهل يتعارض مع مضامين آية البحث وإخبارها عن حياة شهداء معركة أحد عند الله ، الجواب لا ، للتباين في معنى الحياة في الحالتين ، إذ قيدنا حياة الأحياء من الصحابة بالعودة إلى المدينة ، أما الشهداء فأنهم انتقلوا إلى الرفيق الأعلى في أسمى وأحسن حياة تفوز بها طائفة من البشر .
المسألة الثانية : بين آية البحث وآية السياق عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من وجوه :
الأول : إرادة أهل البيت والصحابة .
الثاني : توجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته إلى افراد الأمة مجتمعين ومتفرقين .
الثالث : صيغة الجمع في الآيتين لبيان فضل الله عز وجل على المؤمنين وأنهم يفوزون بالنعم العامة والخاصة ، أي تلك التي تأتي لهم مجتمعين فينهل منها كل واحد منهم ، والتي تأتي لكل واحد منهم على نحو الخصوص .
الرابع : الإخبار عن علم من علوم الغيب ، إذ تخبر آية السياق عن الأجر العظيم للصحابة الذين استجابوا لله والرسول ومع كثرة القروح والجراحات التي أصابتهم فأنهم خرجوا في طلب جيش الذين كفروا مع كثرته إذ خرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مائتان من الصحابة الذين اشتركوا في معركة أحد ، وكان عدد جيش الذين كفروا يومئذ نحو ثلاثة آلاف رجل ، وهو من أسرار الثناء على المهاجرين والأنصار في آية البحث .
الخامس : كل من الآيتين مدح وثناء على المؤمنين , ومدرسة وموعظة لأجيالهم المتعاقبة .
السادس : ذكرت كل من الآيتين اسم الجلالة .
السابع : موضوع الآيتين الثواب في الآخرة , في المؤمنين الصابرين مع الأنبياء , قال تعالى [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
أما مادة الإفتراق فمن وجوه :
الأول: إبتدأت آية البحث بالنهي ،وهو من مفردات الجملة الإنشائية ، بينما إبتدأت آية السياق بالاسم الموصول (الذين).
الثاني : تبين آية البحث قتل طائفة من الصحابة في الدفاع عن الإسلام والنبوة ، بينما تذكر آية البحث إصابة طائفة أخرى بالجراحات والقروح .
الثالث : المقصود في آية السياق أكثر عدداً من المقصودين في آية البحث ، ولو أجريت إحصائية في كيفية موت ومغادرة المؤمنين الدنيا لتبين أن أكثرهم يموت موتاً وليس قتلاً في ميدان المعركة أو خارجها ، هذا بالنسبة للمقارنة , والإحصاء بخصوص الرجال ، أما لو جمعت معهم النساء المؤمنات لكانت درجة الكثرة هذه أظهر وأبين ، ليكون من معانيه التخفيف عن المسلمين , قال تعالى [وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ).
الرابع : تعلق موضوع آية البحث بالقتل في سبيل الله ، وبيان الإثم الكبير الذي ارتكبه الذين كفروا في قتلهم , أما آية السياق فأخبرت عن ثأر وشجاعة المؤمنين لإخوانهم الذين قتلوا في سبيل الله ، بأن خرجوا لمطاردة ذات الكفار الذين حضروا معركة أحد.
المسـألة الثالثة : لقد تضمنت الآيات السابقة تحذير المسلمين من اتباع نهج الكفار والمنافقين بما يظهرونه من الشماتة بفضل الصحابة المجاهدين في سبيل الله ، إذ قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( ) .
لتبين آية البحث أن المؤمنين على قسمين :
الأول : الذين قتلوا في سبيل الله ، ويدل قتلهم بالدلالة التضمنية على عدم استجابتهم أو محاكاتهم لأراجيف الذين كفروا .
الثاني : الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لملاحقة جيش المشركين الذين حضروا معركة أحد وانسحبوا منها .
ويحتمل أثر وموضوع كل من القسمين أعلاه ذم الله عز وجل لجيش المشركين بقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) من وجوه :
الأول : إصابة المشركين بالخيبة والندامة عندما استشهد عدد من أهل البيت والصحابة صابرين في معركة أحد , لدلالته على تفانيهم في رضوان الله عز وجل .
فان قلت قد سقط من المشركين سبعون في معركة بدر ، فهل يبعث قتلهم الفخر بين المشركين ، الجواب لا من جهات :
الأولى: بطلان الموضوع والقصد الذي يطلبه المشركون .
الثانية : نزول القتل الكثير بالذين كفروا يوم معركة بدر مع أن عددهم أكثر من ثلاثة أضعاف عدد جيش المسلمين .
الثالثة : إدراك المشركين بأنهم يقاتلون استكباراً وعناداً ، وأن الذي يقتل منهم يكون مصيره إلى العذاب ، قال تعالى [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ] ( ) .
الثاني : من معاني قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )بلوغ المشركين نبأ خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في طلبهم ، مما جعلهم يعجلون السير إلى مكة فدخلوها خائفين إلى جانب الإحباط الذي أصابهم من عودتهم من غير أن يحققوا أي غاية زحفوا بالآلاف للقتال من أجلها , وفي التنزيل [فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى] ( ).
الثالث : موضوع خيبة المشركين غير قتل الشهداء أو لحاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بهم ، والقدر المتيقن منه هو عجز الذين كفروا عن تحقيق أي غرض من أغراضهم .
والصحيح هو الأول والثاني ، وكل من مضامين آية البحث وآية السياق من معاني الخيبة التي لحقت الذين كفروا .
ليكون من معاني آية البحث أن الذين قتلوا في سبيل الله حرب على العدو الكافر حتى وهم في الآخرة عند الله عز وجل , وهو من معاني حياتهم عند الله , التي تذكرها آية البحث , تلك المعاني التي لا يعلمها ولا يحصيها إلا الله عز وجل .
وهو من الإعجاز في كون حياتهم عنده تعالى, بقوله[أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ]( ).
وهو من الإعجاز في بعثة الأنبياء ، وزاد الله عز وجل من فضله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن صار شهداء معركة أحد دعاة إلى الله بعد قتلهم وتلك معجزة , وشاهد تفضيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولتكون تلاوة المسلمين لآية البحث من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
المسألة الرابعة : لقد أخبرت آية البحث عن سقوط كوكبة من الصحابة مضرجين بدمائهم يوم معركة أحد ، ولم يكن عددهم قليلاً ، فاكرمهم الله عز وجل وخصهم بآيات متعددة منها آية البحث التي هي ضياءٌ يشع على قلوب المسلمين والمسلمات .
ليكون لهم ذكر حميد في أجيالهم المتعاقبة , فليس من مسلم ومسلمة في كل زمان إلا ويعلمان في الجملة بواقعة أحد وخسارة المسلمين فيها , وسقوط عدد من الشهداء يومئذ , وهو من بركات تلاوتهم آيات القرآن في الصلاة .
وأخبرت آية السياق عن حفظ الباقين من المسلمين للعهد والنهج الذي غادر عليه الشهداء بأن استجابوا لله ورسوله ، وتلك معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بسلامة المسلمين من التخاذل والضعف ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ) .
لقد توالت على النبي وأهل بيته وأصحابه دفع واحدة وجوه :
الأول : زحف ثلاثة آلاف رجل من المشركين في معركة أحد ، ووصولهم إلى أطراف المدينة .
الثاني : كثرة وشدة التهديد الذي يصل إلى المدينة من المشركين وتعدد أفراده فهم لا يرضون إلا بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإستئصال أصحابه .
الثالث : بث الذين نافقوا الأراجيف والإشاعات في المدينة للإضرار بالمسلمين .
الرابع : إنخزال المنافقين من وسط الطريق إلى معركة أحد ، والنسبة بين المنافقين المذكورين في الوجه الثالث والوجه الرابع أعلاه هو العموم والخصوص المطلق .
تفضل الله عز وجل بالمدد من عنده تعالى بنزول آيات القرآن وهي تنفذ إلى شغاف قلوب المسلمين ، وتبعثهم على الصبر , وتدعوهم إلى الثبات على الإيمان .
وتذكرهم بقانون من الدار الآخرة وهو عدم خسارة شهداء أحد ، وأنهم فازوا بما لم ينله أحد غيرهم من المؤمنين ، لقد تضمنت الآية السابقة تحدي الذين نافقوا بالموت ، وأنه لابد وأن يزورهم قهراً لتكون عاقبتهم إلى العذاب .
أما آية البحث فأخبرت عن إختيار المؤمنين الذين قتلوا في معركة أحد الموت وشدة حرارة السيف في سبيل الله ، فتلقاهم الله عز وجل بأن بعث فيهم الحياة ، وكأن الله عز وجل يقول لهم : لقد قتلتم في سبيلي ، وتركتم أيامكم في الدنيا دفاعاً عن الإسلام ، فأني أجازيكم بأن أجعلكم أحياء عندي ) .
وحتى على فرض أن موتهم وقتلهم من المنخرم فيكون من معاني قوله تعالى [فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى] ( ) أن الله عز وجل بعث الحياة في شهداء أحد حالما رحلوا إلى الآخرة .
المسألة الخامسة : لقد تضمنت آية السياق الثناء على الذين استجابوا لله عز وجل والرسول وخرجوا بجراحاتهم متعقبين جيش المشركين بعد معركة أحد .
فهل تشمل مضامين الآية الشهداء الذين قتلوا يوم أحد ، أم أنهم غادروا الدنيا ، وفازوا بالحياة عند الله قبل موضوع هذه الآية ، الجواب هو الأول .
والمدار في الآية القرآنية على عموم اللفظ وليس سبب النزول ، فان قلت قد يكون هذا من الإستصحاب القهقري الذي لم يقل به أحد من الأصوليين .
والجواب لا تصل النوبة إلى مسألة الإستصحاب ثم أن الذي يمتنع عند الأصوليين منه ما يتعلق بأمور الحياة الدنيا .
لقد استجاب شهداء أحد لله ورسوله من وجوه :
الأول : دخول الإسلام .
الثاني : صدق الإيمان .
الثالث : أداء الفرائض العبادية كالصلاة والصيام والزكاة .
الرابع : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الخامس : الإعراض عن أقاويل المنافقين .
السادس : السلامة من الرياء والنفاق والحسد .
السابع : المبادرة إلى النفير في معركة أحد .
الثامن : طاعة رسول الله في ميدان القتال .
لقد ترك أكثر الرماة مواضعهم في ميدان معركة أحد ، ولو أن أحدهم كان من بين شهداء أحد فهل يكون من الذين استجابوا لله والرسول ، أم أنه أدنى مرتبة منهم .
الجواب هو الأول : فليس بعد الشهادة من أمر أو فعل يكون مصداقاً أفضل للإستجابة، وتدل عليه آية البحث بنعتهم جميعاً بأمور ::
الأول : القتل في سبيل الله .
الثاني : الحياة الدائمة .
الثالث : الرزق الكريم من عند الله ،وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (يَقُولُ ابن آدَمَ مَالِي مَالِي وَإِنَّمَا مَالُكَ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ ) ( ).
المسألة السادسة : من معاني الجمع بين الآيتين علو مرتبة الشهداء عند الله عز وجل ، إذ نالوا بالقتل في سبيل الله أسمى المراتب ، ثم بينت آية السياق قانوناً آخر وهو أن الثواب العظيم لا يختص بالشهادة والقتل في سبيل الله ، فلابد من وجود أمة تجاهد في سبيل الله ، وتعمل في طاعته ،إذ كانت غاية جيش الذين كفروا استئصال الصحابة ، ولكن الله عز وجل أراد أن تبقى منهم أمة يقيمون الفرائض , ويدعون الناس إلى الإيمان ، لذا لم يقتل منهم يوم معركة أحد إلا نحو عُشر جيش المسلمين ليعود أكثر الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة , ويكون من معاني قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) الوعد من عند الله عز وجل بسلامة وحفظ أمة من المسلمين لتؤدي الفرائض وتدعو الله , وتجاهد في سبيله , ويكون وجودها وعملها علة لدوام الحياة الإنسانية في الأرض , قال تعالى [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ] ( ) .
وهل يمكن القول بهذه السلامة من الحرب النووية على فرض حدوثها، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
وأخبرت آية السياق عن نعم إضافية متعددة على الشهداء ، وتتضمن قوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ] ( ) ويدل التعدد ولغة التنكير على أن فضل الله من اللامتناهي .
لقد كان يوم معركة أحد عصيباً وشديداً على المسلمين لاقى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون المحن والأذى الشديد ، وتلقوا الجراحات البليغة ،وعادوا إلى المدينة بعد أن خلّفوا من ورائهم سبعين شهيداً ، فتفضل الله عز وجل بآية البحث ليطرد الحزن والأسى عن نفوسهم ، ويبعثهم على الجهاد في سبيله .
لقد أراد الذين كفروا ثني الذين آمنوا عن الدفاع والجهاد بهجومهم وشدة قتالهم في معركة أحد ، مع قلة عدد المسلمين وحال الفقر التي يتصفون بها ، وحداثة مبادئ الإسلام في المجتمع والمنتديات .
وكان يتعذر على المسلمين يومئذ تهيئة الأكفان للذين قتلوا في معركة أحد .
(عن أنس قال كفن حمزة في نمرة كانوا إذا مدوها على رأسه خرجت رجلاه ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يمدوها على رأسه ويجعلوا على رجليه من الإذخر( ) وقال : لولا أن تجزع صفية لتركنا حمزة فلم ندفنه حتى يحشر من بطون الطير والسباع) ( ).
وذكر أن رجلاً من الأنصار قال : بأبي وأمي يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندي لأبي شفتان من شعر فدعا بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمدها على وجهه فبرزت رجلاه ، ومدهما على رجليه فبرز وجهه فمدها على وجهه، وجعل على رجليه شيئاً من الإذخر .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لقد كان حمزة مكتوباً عند الله في السماء السابعة حمزة أسد الله وأسد رسوله .
وكذا بالنسبة لتكفين مصعب بن عمير إذ كفن ببرده ، إذا غُطي رأسه ظهرت رجلاه ،وإذا غطي به رجلاه بدا وجهه ، وكان قبل الهجرة إلى المدينة من أحسن شباب مكة لباساً وهنداماً وعطراً .
ولعل مسألة نقص الكفن هذه سبب آخر للحزن والألم عند المسلمين ، فتفضل الله عز وجل بآية البحث التي هي الفيصل والسلاح وسبب في غبطة وسعادة عموم المسلمين والمسلمات فيما رزق الله عز وجل الشهداء يوم أحد .
لقد ذكرت كل من الآيتين السابقتين استبشار الشهداء سواء بالذين لم يلحقوا بهم من المؤمنين أو الإستبشار بفضل ونعمة الله عز وجل، ليترشح الإستبشار بهما على المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة كما أن ذات آية البحث موضوع وسبب لإستبشارهم وهو من إعجاز القرآن .
فصحيح أن آية البحث لم تذكر لفظ [يَسْتَبْشِرُونَ] ولكن مضامينها تبعث على الاستبشار بالنسبة للشهداء والأموات والأحياء من المؤمنين ،
ومن مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى]( ) تفضل الله عز وجل بجعل الجامع بين المؤمنين في الدنيا والأموات منهم في الآخرة هو الإستبشار بفضل ونعمة الله .
المسألة السابعة : لقد أثنت آية السياق على الصحابة الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمطاردة جيش المشركين ، ومن وجوه الثناء أمور :
الأول : طاعة الله ورسوله ، قال تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ..]( ).
الثاني : خروج الصحابة مع كثرة جراحاتهم والقروح التي أصابتهم .
الثالث : عدم وجود فترة بين العودة من معركة أحد وبين الخروج خلف الذين كفروا ، فلم يمر يوم واحد على عودتهم من أحد حتى أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالتجهز خلف المشركين .
الرابع : قلة عدد الصحابة الذين خرجوا خلف المشركين ، لقد كان عدد المسلمين في معركة أحد نحو سبعمائة , ومع هذا أصيبوا بخسارة كبيرة، فكيف وقد خرج مائتان منهم خلفهم , وكلهم جراحات ولكنها طاعة الله ورسوله وحسن التوكل على الله ، وبلوغ الإيمان مرتبة سامية .
لقد تعددت مصاديق الثناء على الصحابة الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ في آية السياق من جهات :
الأولى : الوصف بالإستجابة لله والرسول بالخروج خلف جيش المشركين ، وقد وردت بعض الأخبار تفيد أن سبب وموضوع آية السياق أعم .
(عن ابن عباس قال إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعد الذي كان منه ، فرجع إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفاً ، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب ، وكانت وقعة أحد في شوّال ، وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة ، فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة ، وأنهم قدموا بعد وقعة أحد ، وكان أصاب المؤمنين القرح واشتكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، واشتد عليهم الذي أصابهم ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس لينطلقوا معه , وقال : إنما ترتحلون الآن فتأتون الحج ولا تقدرون على مثلها حتى عام مقبل) ( ).
الثانية : كثرة الجراحات والقروح بالصحابة في معركة أحد .
الثالثة : الخروج خلف العدو مع كثرة الجراحات والتي تضعف البدن في قطع المسافة وفي مبارزة العدو , وأنزل الله ما يبعث المسلمين على الصبر وقوة العزم, قال تعالى[إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ]( ).
ليكون عدم توجه جيش المشركين لقتال المؤمنين معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
الرابعة : نعت الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإحسان بقوله تعالى [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا]وفيه بشارة الثواب العظيم لهم ولإخوانهم وذراريهم ، قال تعالى [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ..] ( ).
الخامسة : الوصف بتقوى الله وبلوغ مراتب كمال الإيمان بتكرار بذل النفوس في موضوع واحد ,وخلال يومين متعاقبين .
السادسة : الوعد بالثواب من عند الله عز وجل على الإحسان والتقوى والصلاح، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا]( ).
السابعة : نعت ثواب الصلاح والصبر والتقوى بأنه عظيم، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: سأل موسى ربه عن ست خصال ، كان يظن أنها له خالصة ، والسابعة لم يكن موسى يحبها . قال : يا رب أي عبادك أتقى ؟ .
قال : الذي يذكر ولا ينسى . قال : فأي عبادك أهدى ؟ قال : الذي يتبع الهدى .
قال : فأي عبادك أحكم ؟ .
قال : الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه .
قال : فأي عبادك أعلم ؟ قال: عالم لا يشبع من العلم ، يجمع علم الناس إلى علمه .
قال : فأي عبادك أعز؟ قال: الذي إذا قدر غفر . قال : فأي عبادك أغنى ؟ قال : الذي يرضى بما يؤتى .
قال : فأي عبادك أفقر ؟ قال : صاحب منقوص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس الغنى عن ظهر ، إنما الغنى غنى النفس، وإذا أراد الله بعبد خيرا جعل غناه في نفسه وتقاه في قلبه، وإذا أراد الله بعبد شرا جعل فقره بين عينيه.) ( ).
والمراد من المنقوص أي لا ينظر إلا لما يفتقر إليه، ويستقل ما عنده من الخير، ويطلب الزيادة دائماً.
ترى ما هي النسبة بين الأجر العظيم الذي تذكره آية السياق وبين حياة الشهداء عند الله الذي تذكره آية البحث , الجواب فيه وجوه :
الأول : حياة الشهداء عند الله أكبر وأعظم من الأجر العظيم الذي تذكره آية السياق .
الثاني : إرادة التساوي بين ثواب شهداء أحد وثواب الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لملاحقة جيش المشركين بعد معركة أحد .
الثالث : الأجر العظيم الذي تذكره آية السياق أعظم وأكبر من ثواب الحياة الدنيا عند الله عز وجل .
والمختار هو الأول إذ ينال الشهداء الأجر العظيم إلى جانب فوزهم بالحياة عند الله .
المسألة الثامنة : لقد أخبرت آية السياق عن كون الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد في اليوم الثاني لمعركة أحد بانهم استجابوا لله والرسول ، وبين خروجهم هذا وبين معركة أحد عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من جهات :
الأولى : الإستجابة لله عز وجل فيما أمر به من أداء الفرائض , ومن طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عنه .
الثانية : الإستجابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما يأمر به ، وفي دعوته للخروج للقاء جيش الذين كفروا ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الثالثة : كل من الخروجين إحسان للذات والغير , ويحتمل هذا الإحسان في جهته وجوها :
الأول : الإحسان للأجيال المتعاقبة من المسلمين .
الثاني : القدر المتيقن هو أن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لمعركة أحد ولحمراء الأسد إحسان لأنفسهم .
الثالث : إرادة إحسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأجيال المسلمين وإحسان الصحابة لأنفسهم .
بلحاظ أن النسبة بين إحسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإحسانهم في الخروج هو العموم والخصوص المطلق فأحسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعم وأعظم .
الرابع : إحسان الصحابة لإنفسهم وذراريهم ولأهل المدينة عامة ، لأن المشركين جاءوا بجيش من ثلاثة آلاف رجل لغزو المدينة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه , والأصل هو الأول أعلاه .
الرابعة : كل من الخروجين من أبهى مصاديق التقوى والخشية من الله عز وجل .
الخامسة : الفوز بالأجر لعظيم في التوجه إلى معركة أحد ، وعند الخروج إلى حمراء الأسد طاعة لله والرسول ، ويكون الأجر العظيم الذي أختتمت آية السياق بذكره على وجوه :
الأول : الأجر للمؤمنين على الصبر في ملاقاة الأعداء والتهيئ له .
الثاني : الأجر على حضور معركة أحد ومسايفة الذين كفروا .
الثالث : الأجر على الأذى الذي لحق المسلمين بفقد سبعين شهيداً .
الرابع : بيان حرمان المنافقين أنفسهم من الثواب العظيم .
الخامس : الأجر والثواب على كل خطوة في الطريق إلى معركة أحد .
السادس : الأجر على كل خطوة وحركة يد وجارحة في ميدان المعركة عند ملاقاة جيش الذين كفروا .
ويمكن تسمية يوم معركة أحد بأنه (يوم الأجر العظيم )للمؤمنين وبداية العذاب الأليم للذين كفروا , وهو من أسرار قوله تعالى[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
السابع : الثواب والأجر على الإصابات التي لحقت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والصحابة ، ليكون من معاني [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) وجوه :
أولاً : ما أصابكم يوم التقى الجمعان ففيه أجر عظيم .
ثانياً : ما أصابكم يوم التقى الجمعان إحسان منكم .
ثالثاً : وما أصابكم يوم التقى الجمعان شاهد على التقوى ، وفي التنزيل [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا]( ).
السادسة : من وجوه الإلتقاء بين الخروجين أن كلاً من الخروج إلى معركة أحد والخروج في اليوم الثاني إلى حمراء الأسد من أسمى مراتب التقوى ، وهو شاهد على اليقين .
(عن ابن عمر ، أنه لم يكن يجلس مجلسا كان عنده أحد ، ولم يكن إلا قال : اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أنت أعلم به مني ، اللهم ارزقني من طاعتك ما تحول بيني وبين معصيتك، وارزقني من خشيتك ما تبلغني به رحمتك ، وارزقني من اليقين ما تهون به علي مصائب الدنيا ، وبارك لي في سمعي وبصري ، واجعلهما الوارث مني ، اللهم وخذ بثأري ممن ظلمني ، وانصرني على من عاداني ، ولا تجعل الدنيا أكبر همي ، ولا مبلغ علمي ، اللهم ولا تسلط علي من لا يرحمني) ( ).
السابعة : كان كل من الخروجين بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبامامته ، وهو الذي يتقدم أصحابه.
الثامنة : كل من الخروجين بالوحي والأمر من الله عز وجل إلى رسوله الكريم .
التاسعة : كل من الخروجين دفاع عن النبوة والتنزيل ، وليس بقصد الهجوم والغزو ، مما يدل على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف ، ففي معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية الكفاية في دعوة الناس إلى الإسلام .
العاشرة : عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة سالماً من القتل الذي أنفق مشركوا مكة لأموال وبذلوا الوسع لبلوغه ، قال تعالى [وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ] ( ).
الحادية عشرة : توثيق القرآن لكل من خروج النبي والصحابة إلى معركة أحد ومنه آية البحث وخروجهم إلى حمراء الأسد كما في آية السياق.
الثانية عشرة : وقوع كل منهما في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
الثالثة عشرة : إرادة ذات جيش المشركين الذين أرادوا غزو المدينة .
وأما مادة الإفتراق ، فمن جهات :
الأولى : وقوع القتال في خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة أحد ، ولم يقع قتال في خروجهم إلى حمراء الأسد .
الثانية : كثرة عدد الذين خرجوا إلى معركة أحد إذ كان عددهم ألفاً ، بينما خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد مائتان من الصحابة .
الثالثة : لقد كانت الدعوة إلى معركة أحد عامة ، أما عند الخروج إلى حمراء الأسد فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لَا يَخْرُجْ مَعَنَا إلّا مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ ” فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ : أَرْكَبُ مَعَك ؟ قَالَ ” لَا فَاسْتَجَابَ لَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَا بِهِمْ مِنْ الْقَرْحِ الشّدِيدِ وَالْخَوْفِ وَقَالُوا : سَمْعًا وَطَاعَةً( ).
الرابعة : إنخزال ثلث جيش المسلمين في الطريق إلى معركة أحد بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول .
أما في غزوة حمراء الأسد فلم ترجع طائفة من الجيش , ومن الإعجاز ما روي عن ابن إسحاق (وأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الناس طلب العدو وأذن مؤذنه أن لا يخرج معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالامس فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام .
فقال يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لى سبع وقال يا بنى إنه لا ينبغى لى ولا لك ان نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ؟ ؟ ولست بالذى أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتخلف على
أخواتك فتخلفت عليهن فأذن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج معه) ( ).
الخامسة :نزول آية قرآنية تتضمن الإخبار عن همّ طائفتين من المسلمين بالجبن والخور في معركة أحد بقوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ) .
ولم يقع همّ بالجبن والتراجع في غزوة حمراء الأسد ، مع كثرة جراحات وآلام المسلمين يومئذ.
السادسة : لقد وقع قتال شديد يوم معركة أحد بين المسلمين والذين كفروا ،فقال تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) ولم يقع قتال بينهم في حمراء الأسد ، وفي التنزيل [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
السابعة : خرج المسلمون إلى معركة أحد في سلامة من الجراحات والجهد إذ لم يخوضوا قتالا في الأسابيع القليلة التي قبلها ، بينما خرجوا خلف العدو إلى حمراء الأسد بجراحاتهم .
الثامنة : موضع معركة أحد أقرب إلى المدينة إذ يبعد نحو ثمانية كيلو متر عن المسجد النبوي , بينما تبعد حمراء الأسد عن المدينة المنورة اثني عشر كيلوا متراً .
وجاءت الآية قبل السابقة كلها بخصوص الذين نافقوا وذلهم، وقد ورد ذكرهم فيها وفق صناعة الإعراب من جهات :
الأولى : إبتداء الآية قبل السابقة بالإخبار عن صيرورة معركة أحد مناسبة لمعرفة الذين نافقوا، بقوله تعالى[وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا]( ).
الثانية : ورود الضمير (هم) في قوله تعالى[َقِيلَ لَهُم] وتقديره : وقيل للذين نافقوا تعالوا قاتلوا في سبيل الله .
وصحيح أن هذا القول دعوة وسؤال إلا أنه يتضمن بالدلالة التضمنية التبكيت والتوبيخ لهم وإقامة الحجة على الذين نافقوا، وتأكيد تخلفهم عن الدفاع، لأن المؤمنين خرجوا للنفير حالما سمعوا بمجئ جيش المشركين ودعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع .
أما الذين نافقوا فقد ذكرت الآية قبل السابقة دعوتهم بالقول العام [قِيلَ لَهُم] وإرادة الفعل الماضي المبني للمجهول ، وكأن المنافقين تخلفوا عن أصل الدعوة للنفير ، فتوجهت لهم دعوات متعددة من الصحابة وعوائلهم.
الثالثة : توجه الأمر من المؤمنين إلى الذين نافقوا [تَعَالَوْا].
وكأن هذه الكلمة ومتعلقها مركبة من فعل وفاعل ومفعول به ، وإن كانت هذه الكلمة وفق الصناعة النحوية تتألف من فعل وفاعل وتقديرها على وجوه :
الأول : تعالوا أيها المنافقون قاتلوا في سبيل الله .
الثاني : تعالين أيتها المنافقات لحث المسلمين على القتال في سبيل الله .
الثالث : تعالوا أيها المنافقون وادفعوا عن أنفسكم وأهليكم .
وصحيح أن الخطاب في الآية حكاية عن المؤمنين ولكنه بعد نزول آية البحث صار صادراً من عند الله عز وجل، وفي التنزيل[وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً]( ).
الأول : من وجوه وجهات صدور هذا القول القرآن إذ أن له لساناً ناطقاً .
الثاني : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآية السابقة عند نزولها، وفي الصلاة وعلى المنبر ، وفي الإحتجاج وغيره ، وفي كل مرة يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمنافقين : تعالوا قاتلوا في سبيل الله).
ليكون قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا دعوة للمسلمين والمسلمات لحث المنافقين على الخروج للجهاد، وفيه إشغال لهم عن بث الأراجيف, ولجوئهم للتواري عن الأنظار كيلا يتلقوا الدعوة إلى الجهاد .
الثالث : قيام المسلمين والمسلمات بتلاوة الآية السابقة على نحو الوجوب والندب , أما الوجوب ففي الصلاة الواجبة والمستحبة ، وأما الندب فليس له حد ولا يختص بزمان دون آخر .
وهل الإحتجاج على المنافقين بالآية السابقة من الواجب أو المندوب ، الجواب هو الثاني .
الرابع : تلاوة ذات المنافقين لآية البحث لتكون دعوة ذاتية لهم , وهو من إعجاز القرآن بأن يدعو المنافق نفسه للجهاد في سبيل الله وترتسم هذه الدعوة في الوجود الذهني لتكون زاجراً له من تجديد السخرية بالشهداء أو تكرار قول [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ).
وهو من عمومات قوله تعالى [بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ] ( ) .
الخامس : إحتجاج المؤمنين على المنافقين بالآية السابقة ومضامينها القدسية .
الرابعة : إرادة المنافقين بواو الجماعة في قوله تعالى [قَاتِلُوا] إذ وردت الآية بصدور القول للمنافقين بالقتال على نحو القطع بدليل قوله تعالى [وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا]فقد صدر هذا القول لتدل الآية بالدلالة التضمنية على سماع المنافقين له وأنه بلغهم على نحو العموم الإستغراقي .
وجاءت آية البحث ليبلغ هذا القول المنافقات والناس جميعاً ، وليتعذر على المنافقين إخفاؤه وستره أو إنكاره والجحود به.
فمن خصائص المنافقين الكذب والزيف والإتيان بالباطل , ليكون من إعجاز آية البحث الحيلولة دون إخفاء المنافقين للدعوة الموجهة إليهم من قبل المؤمنين، وصيرورتها وثيقة سماوية تتلوها أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، وهو من الخزي الذي لحق ويلحق بالمنافقين في الحياة الدنيا، حتى إذا ما قامت القيامة ورأى الناس شدة عذاب المنافقين وأنهم[فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( ) .
فلا يقول أو يحتج أحد لماذا هذا العذاب الأليم على المنافقين ، وقد أظهروا الإيمان ونطقوا بالشهادتين بل يرى الناس أنهم يستحقون العذاب من وجوه :
الأول : حث الذين نافقوا للأنصار على القعود .
الثاني : إظهار المنافقين الشفقة على المجاهدين لصلة الرحم والنسب القبلي لما ورد في آية البحث [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ]وهذا المعنى قد يجعل القلوب تميل إلى الدعوة وإن كانت للقعود.
فجاءت الآية السابقة وآية البحث حاجة للإسلام والمسلمين لمنع هذا الميل وبعث النفرة من القعود ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ] ( ).
الثالث : قعود المنافقين عن الجهاد ، وما في هذا القعود من الإيذاء للمؤمنين وكشفهم أمام العدو وطمعهم فيهم لولا فضل الله عز وجل .
وتفضل الله بالمدد من الملائكة الذي أنزله لنصرة رسوله والمؤمنين ، مما يدل على أن قعود المنافقين ضرر عليهم بالذات .
الرابع : شماتة المنافقين بالذين قتلوا من المؤمنين , وتقدير قوله تعالى[تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ) على وجوه :
الأول : تعالوا قاتلوا في سبيل الله لأنه حق وواجب .
الثاني : تعالوا قاتلوا في سبيل الله تحت لواء رسوله الكريم .
الثالث : تعالوا قاتلوا في سبيل الله، وفوزوا بنصرة الملائكة لكم في ميدان المعركة وشهادتهم لكم يوم القيامة.
الرابع : تعالوا قاتلوا في سبيل الله , والله يكفل لكم عودتكم سالمين , ومن يقتل يفوز بالحياة الأبدية عند الله سبحانه .
لقد خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ميدان معركة أحد ألف من المهاجرين والأنصار فرجع ثلاثمائة منهم في الطريق بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول .
الخامس : تعالوا قاتلوا في سبيل الله، ولا يفوتنكم الثواب العظيم بالدفاع ، وفي التنزيل[وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
وهل يختص هذا الثواب بذات الأشخاص الذين بادروا للخروج تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم يشمل عوائلهم وذراريهم ذكوراً وأناثاً.
الجواب هو الثاني ، فلم تمر الأيام والأشهر حتى أقبلت الدنيا على أهل المدينة وإلى يومنا هذا ، ليكون مجئ وفد الحاج وزوار مسجد وقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعمة وسبيلاً للرزق الكريم لأهل المدينة .
وعن ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني)( ) وذكره ابن الجوزي في الموضوعات( )، ولا يخلو من تعجل خاصة مع تعدد النصوص في المقام والتي يعضد بعضها بعضا مع إختلاف طريق الإسناد، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أتى مكة حاجا ولم يزرني إلى المدينة جفوته يوم القيامة، ومن جاءني زائرا وجبت له شفاعتي ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنة)( ).
إلى جانب النعم الأخرى المتجددة التي ترد على أهل المدينة وعموم أهل تلك البلاد .
السادس : تعالوا قاتلوا في سبيل الله في معركة أحد لتروا النصر والفتح وتنالوا الغنائم كما حصل في معركة بدر ، فان لم يقع فتح ولم تأت غنائم للمسلمين في معركة أحد .
والجواب المدار على النية وقصد المؤمنين القربة إلى الله في القتال، وكأن الغنائم التي فاتتهم في معركة أحد مدخرة لهم في معارك أخرى بل ومن غير قتال أو زحف أو غزو وهو الذي تجلت مصاديقه في أيام الإسلام اللاحقة، إنما كان تخلف المنافقين وقعودهم وإنسحاب ثلث جيش المسلمين من وسط الطريق بالإنصات لرأس النفاق عبد الله بن أبي من أظهر أسباب تأخر النصر والحرمان من الغنائم، قال تعالى[لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]( ).
السابع : تعالوا قاتلوا في سبيل الله وأقرضوا الله قرضاً حسناً .
الثامن : تعالوا قاتلوا في سبيل الله، وقد لا يكون قتال بحضوركم وظهور المسلمين في حال منعة وقوة، وفيه باعث للخوف في قلوب الذين كفروا وزاجر لهم عن التعدي على حرمات المسلمين .
التاسع : تعالوا قاتلوا في سبيل الله ولا تصدوا الناس عن الخروج للدفاع عن الإسلام والنبوة ، قال تعالى [الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ]( ).
العاشر : تعالوا قاتلوا في سبيل الله ليأتيكم الثواب من أبواب متعددة حتى وإن وقف الأمر عند المرابطة وتكثير السواد ، (عن النبي صلى الله عليه وآله قال: من ارتبط فرسا في سبيل الله كان علفه وروثه وشرابه في ميزانه يوم القيامة)( ).
الخامسة : عودة واو الجماعة في [ادْفَعُوا] إلى الذين نافقوا، ويحتمل تقدير الآية وجهين :
الأول : وقيل لهم تعالوا ، ادفعوا أي أحضروا معنا , وتلقوا الأوامر بكيفية دفع العدو والتعاون في طرده من أطراف المدينة .
الثاني : وقيل لهم ادفعوا أي حتى وإن كان دفعهم للعدو على نحو القضية الشخصية ومن غير حضور مع جيش المؤمنين ، فقد لا يخرج إنسان للقتال ، ولكن عندما يسمع بجراحات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستشهاد طائفة من الأوس والخزرج والمهاجرين , ومداهمة شرور العدو ومفاهيم الكفر المدينة المنورة فان الغيرة والحمية تدفعه للدفاع.
فجاءت الآية للترغيب به ، ومنع التردد والوهن والجبن ، وللحجة كيلا يقول الذين نافقوا لم نعلم بالحاجة إلى الدفاع , قال تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
ومن الإعجاز في الآية قبل السابقة إختصاص جواب المنافقين بالإعتذار عن إتباع المؤمنين بذريعة عدم وقوع قتال بين المسلمين والذين كفروا ، ويحتمل وجهين :
الأول : المراد من ادفعوا هو قتال العدو ودفعه .
الثاني : رضا الذين نافقوا بالدفع ويحمل على معنى ملائم لنظم الآية وحال المنافقين، مثل ادفعوا عن أنفسكم الشك وادفعوا عن زراعتنا مثلاً العطش والتلف.
والصحيح هو الأول ، إذ يدل جواب الذين نافقوا على إرادة الدفاع من الدعوة الموجهة إلى الذين نافقوا ، وفيه دعوة لأمراء المسلمين لتقسيم الجيش وعدم الزج به كاملاً في أتون الحرب والقتال ، فلابد من فريق يبقى للدفاع والمرابطة والإحتياط .
السادسة : واو الجماعة في [قَالُوا] فحينما توجه القول إلى الذين نافقوا بأن يقاتلوا في سبيل الله جاء ردهم سريعاً، وفيه مغالطة وتضليل وتورية أبى الله إلا أن يفضحها.
لقد ذكرت آية البحث مصدر القول للمنافقين للقتال أو الدفاع بصيغة المبني للمجهول (وقيل) ولكن إجابة المنافقين ذكرت بصيغة المبني للمعلوم (قالوا) مما يدل على أمور:
الأول : تعدد الذين دعوا المنافقين للخروج للدفاع.
الثاني : صدور هذه الدعوة حتى من داخل بيوت الذين نافقوا، لجهات:
الأولى : إدراك عوائل المدينة لزوم الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : تجلي الخطر الذي داهم المدينة وأطل عليها بقدوم جيوش المشركين، قال تعالى[إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا]( ).
الثالثة : دخول الإيمان إلى بيوتات الأوس والأنصار، إنما يكون النفاق حالة خاصة بأفراد منهم، لقد غزا الإسلام بيوت رؤساء الكفر في مكة في بدايات الدعوة فمن باب الأولوية أن يدخل بيوت الأنصار ويبلغ أهليهم ويحسن إيمانهم، فيرجع المنافق وسط الطريق إلى المعركة فيتلقى الذم والإعراض والتوبيخ من أهل بيته رجالاً ونساءً، قال تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الثالث : إرادة نزول آية البحث لتكون قولاً ودعوة موجهة للذين نافقوا للخروج للقتال.
الرابع : كل مرة يقرأ فيها المسلم آية البحث هي دعوة للذين نافقوا للقتال.
الخامس : من أسرار الفعل المبني للمجهول (قيل) أن ذات المنافق حينما يتلو آية البحث فأنه يدعو نفسه وأصحابه للجهاد في سبيل الله.
ومن منافع التلاوة ترديد عموم المؤمنين والمنافقين هذا القول، والدعوة للخروج للجهاد.
فإن قلت قد ورد في الآية قبل السابقة بصيغة الفعل الماضي(وقيل لهم) كما أن وقوع معركة أحد سابق زماناً لنزول آية السياق وآية البحث.
والجواب هذا صحيح إلا أن موضوع كل من الآيتين أعم، وهو متصل ومستمر زماناً بدليل بداية آية السياق ونظم الآية السابقة لها، قال تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ *وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ]( )، لإرادة بيان سنخية النفاق وإصرار المنافقين على الصدود عن الدعوة إلى الدفاع.
السابعة : الفاعل المقدر في قوله تعالى [لَوْ نَعْلَمُ] إذ يعود العلم ونفيه في المقام إلى الذين نافقوا ، فجاءوا ب ( لو ) وهو حرف إمتناع لإمتناع أي أنهم نفوا أي قتال يقع بين الفريقين، فيكون ذهابهم إلى أحد أمراً زائداً وجهداً ومشقة لا حاجة لها ، مما يبعث الأسى في نفوس المؤمنين على ما يجدون من أصحابهم من الخذلان والتخاذل والمكر في ساعة الضيق ، ليكون نكوصهم من أسباب الغم على المؤمنين الذي ورد في قوله تعالى بخصوص معركة أحد [فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ]( ) .
لبيان الرضا عند المسلمين والمسلمات بنتيجة معركة أحد بعد إنخزال ثلث الجيش الذي كان مقدمة لنكسة كبيرة لولا أن أنعم الله عز وجل على المسلمين في المعركة , ووقاهم من الهزيمة يوم أحد، وهو من مصاديق منّ الله في قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ…]( ).
وتقدير آية البحث : وقال الذين نافقوا لو نعلم نحن قتالاً يقع عند جبل أحد لأتبعناكم ) ولو حرف شرط غير جازم ، ويفيد إمتناع حصول الجواب لامتناع تحقق الشرط ، ويقال إختصاراً لو : حرف إمتناع لإمتناع أي امتناع الجواب لامتناع الشرط ، كما في قوله تعالى [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا…] ( ) .
إذ أن الشرط يتكون من جملتين :
الأولى : جملة فعل الشرط .
الثانية : جملة جواب الشرط .
ويأتي بعد [لو ] حرف مضارع دال على الإستقبال ، لبيان إستمرار قول الذين نافقوا بأنه ليس من قتال بين المسلمين والذين كفروا في معركة أحد ، وهل يستمر هذا العلم حتى بعد وقوع المعركة عناداً من الذين نافقوا، الجواب لا ، لأن الواقع والقطع ينفيه ويفضحه ، ولكن من خصائص الفعل المضارع في المقام بيان أمور:
الأول : إصرار الذين نافقوا على الكذب.
الثاني : مغالطة الذين نافقوا لذاتهم.
الثالث : عزم الذين نافقوا على الرجوع عن عذر كاذب كالسراب.
الثامنة : الفاعل : (نا) في [لاَتَّبَعْنَاكُمْ] الذي يعود إلى الذين نافقوا لإقامة الحجة عليهم في إتفاقهم على أمور :
الأول : الإنخزال من وسط الطريق .
الثاني : الكذب في الإعتذار، وورد في التنزيل[وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ]( ).
الثالث : الجبن والخور، والعجز عن الدفاع عن الذات والعيال والأموال لأن الذين كفروا جاءوا غزاة ووفق أعراف الغزو في الجزيرة من جهات:
الأول : إشاعة القتل.
الثاني : سبي النساء.
الثالث : أخذ الأموال غنائم.
فكانت المرأة متزلزلة في بيتها لا تعلم في أي ساعة تدخل خيل العدو القرية أو البلدة وتأمرها بالخروج إلى السبي مع أطفالها بعد أن ترى زوجها وأباها قد قتلا ، فجاء الإسلام حاجة للناس لأن النطق بالشهادتين عصمة للنفوس والأموال , ولصيرورة الصلوات اليومية الخمس شكراً لله عز وجل على نعمة الأمن والسكينة وإنقطاع الغزو والسبي ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( )، ومن معاني صلاة الجماعة إزالة الضغائن من النفوس والإمتناع عن همّ المسلم بغزو إخوانه وقراهم.
(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله، ونفسه ، إلا بحقه ، وحسابه على الله) ( ).
وفي الحديث أعلاه مسائل :
الأولى : الذي يقول لا إله إلا الله لا يقاتله النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون .
الثانية : أهل الكتاب لا يُقاتلون .
الثالثة : يدل هذا الحديث على أن أكثر الآيات التي قيل أن آية السيف نسختها إنما هي غير منسوخة .
ويحتمل قول الذين نافقوا [لاَتَّبَعْنَاكُمْ] وجوهاً:
الأول : لاتبعناكم في طاعة الله ورسوله .
الثاني : لاتبعناكم في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : لاتبعناكم إلى ميدان معركة أحد .
الرابع : لاتبعناكم في مناهج وسنن الإيمان .
الخامس : لاتبعناكم في رضوان الله ، وقد تقدم قبل ست آيات [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ] ( ).
السادس : لاتبعناكم في صدق إيمانكم وخلو نفوسكم من النفاق .
السابع : لاتبعناكم على الصراط المستقيم ، وفي التنزيل [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ..] ( ).
الثامن : فاتبعناكم في الإمتثال للأوامر والنواهي التي جاء بها القرآن والسنة، قال تعالى[وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
فان قلت جاءت هذه الآية بالأمر إلى المسلمين والناس باتباع الكتاب والصراط من غير واسطة في الإتباع ، بينما قيدت آية البحث الإتباع بانه خاص باتباع المنافقين للمؤمنين .
والجواب إنما يفيد الإتباع في المقام المعنى الأعم ومنه المحاكاة والتشبه بهم وإتيان ذات الأفعال التي يقوم بها المؤمنون .
التاسع : لاتبعناكم ولا نتبع الهوى , بلحاظ كبرى كلية وهي أن النفاق والقعود عن الدفاع ضد الغزاة المشركين من قريش فرع إتباع الهوى ومن رشحاته .
العاشر : لاتبعناكم في اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة وغيرها ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الحادي عشر : لاتبعناكم وتحملنا الأذى والمشقة وخضنا القتال الذي فُرض على المسلمين بسبب إصرار الذين كفروا على القتال من منازل الكفر والجحود ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ..] ( ).
الثاني عشر : مجئ الآية بصيغة الجمع وإرادة المفرد ، وتقدير الآية: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم في اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أنه الرسول والإمام والقائد ، وليس من متبوع في الطريق من المدينة إلى معركة أحد وفي ميدانها غيره، إذا آتاه الله عز وجل الوحي ، ويدل عليه قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ).
الثالث عشر : لاتبعناكم باتباعكم لأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه حجة على الذين نافقوا وشهادة للمهاجرين والأنصار على حسن سمتهم واتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حال الحرب والسلم .
التاسعة : الضمير هم، في قوله[هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ..]( ) إذ يدل الضمير على إرادة الذين نافقوا مجتمعين ومتفرقين .
وتقدير الآية قبل السابقة بصيغة المفرد : وليعلم الذي نافق وقيل له تعال قاتل في سبيل الله أو أدفع قال لو أعلم قتالاً لأتبعتكم هو للكفر يومئذ أقرب منه للإيمان .
وجاءت الآية بصيغة الجمع لبيان حال الذين نافقوا وأن إصرارهم على النفاق ضرر إضافي للمسلمين، ليكون من معاني ودلالات آية البحث وجوه:
الأول : التخفيف عن المؤمنين.
الثاني : تحذير المسلمين والمسلمات من شرور المنافقين.
الثالث : الشهادة للمؤمنين بأنهم اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسعوا إلى رضوان الله وأن قعود الذين نافقوا لم يمنعهم عن الدفاع والجهاد في سبيل الله .
ومن إعجاز الآية السابقة أنها لم تصف المنافقين بالكفر المحض والمكشوف ، إنما ذكرت صيرورتهم في يوم شدة مخصوص أقرب إلى الكفر والجحود .
وعن ابن عمر (قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين ، إذا أتت هذه نطحتها ، وإذا أتت هذه نطحتها) ( ).
أي إذا أتت مربض هذه الغنم قامت بنطحها ، وإذا ذهبت إلى المربض الآخر قامت غنمه بنطحها.
فحتى الذين كفروا لم يرضوا عن الذين نافقوا، وفيه إنذار لهم من عواقب قعودهم في معركة أحد، فلو دخلت جيوش المشركين أيام معركة أحد إلى المدينة المنورة فأنهم لا يفصلون أو يميزون بين المؤمن والمنافق، وعائلة كل منهما , وهو من معاني الإعجاز في قوله تعالى ( أو ادفعوا ).
لتدل الآية في مفهومها على أمور :
الأول : يكون الذين نافقوا في بعض الأيام والأحوال برزخاً ووسطاً بين الإيمان والكفر .
الثاني : قد يكون الذين نافقوا في بعض الأحوال أقرب إلى الإيمان منه إلى الكفر .
الثالث : إرادة التباين في أحوال المنافقين , فمنهم من يكون أقرب إلى الكفر على نحو الدوام ومنهم يصبح على هذه الحال عند الشدة والبأساء ، قال تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ] ( ) أي على جهة مخصوصة كما لو دخل الإسلام طمعاً في الغنائم أو الجاه , وإرادة منافع دنيوية .
وذكر في أسباب نزول الآية أعلاه أن طائفة من الأعراب كانوا يقدمون على رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مهاجرين من البادية فاذا رأى أحدهم أن جسمه سالماً من الأمراض وأن فرسه أنتجت مهراً، وامرأته ولدت غلاماً، وإزداد ماله وماشيته أطمأن إليه وبقي على حال الإسلام (وقال : ما أصبت مذ دخلت في ديني هذا إلا خيراً) ( ).
أما إذا أصابه في المدينة وجع خاص , إذ أن مناخ المدينة حار ورطب في الصيف ، وبارد ممطر في الشتاء ، بينما كان مناخ مكة والصحراء الخالية من الماء والزراعة جافاً وصافياً، فإنه يُظهر النفاق ويكثر من الشكوى، إلا المؤمنين الذين أخلصوا في دينهم.
وأصابت الحمى بعض المهاجرين في المدينة (وَكَانَ بِلَالٌ إذَا تَرَكَتْهُ الْحُمّى اضْطَجَعَ بِفِنَاءِ الْبَيْتِ ثُمّ رَفَعَ عَقِيرَتَهُ فَقَالَ
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَن لَيْلَةً … بِفَخّ وَحَوْلِي إذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجِنّةٍ … وَهَلْ يَبْدُونَ لِي شَامَةٌ( ) وَطُفَيْلُ)( ).
ثم يقول (اللهم العن عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة , وأمية بن خلف كما أخرجونا إلى أرض الوباء)( ).
ولما أخبرت عائشة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أخذ الحمى لأبي بكر وعامر بن فهيرة وبلال وكانوا يقيمون في بيت واحد , توجه بالدعاء إلى الله :
(اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد , اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا وصححها لنا وانقل حماها إلى الجحفة) ( ).
العاشرة : الضمير (هم) في (أقرب منهم للإيمان) فمرة جاء الضمير(هم) مبتدأً وتارة مجروراً بحرف الجر , وأخرى مضافا إليه , وكل منها يدل على ذات الذين نافقوا في معركة أحد، في مقدماتها، والطريق إليها وأثناء المعركة , وبعدها حيث توالت الأخبار إلى المدينة بسقوط سبعين شهيداً.
لقد أراد الذين نافقوا بيان مسألة ذات صبغة مغالطة وهي أنهم سلموا من القتل لأنهم رجعوا من وسط الطريق، بينما قُتل الشهداء بسبب حضورهم معركة أحد، فكانت آية البحث حاجة لفضحهم وخزيهم، وكشف خبثهم وبيان ضرر قعودهم وأنه من أسباب قتل الشهداء مع أن الشهداء لم يخسروا إنما إنتقلوا أحياءً إلى جوار الله عز وجل.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مَسِّ الْقَرْصَةِ)( ).
وإذ تبين الآية التالية حال النعيم والإكرام من الله عز وجل للشهداء، فإن الحديث أعلاه يبين حالهم أثناء القتل، وإصابتهم بآلة القتل، مما يدل على اللطف الإلهي بالشهيد حتى قبل أن تزهق روحه وتغادر جسده، ترى لماذا لم تقل الآية السابقة (أقرب للإيمان) أي من غير ذكر الجار والمجرور والضمير(هم) في (منهم).
الجواب من وجوه:
الأول : إرادة بيان كون الذين نافقوا على مراتب متفاوتة في القرب أو البعد من الإيمان ودنوهم من الكفر والجحود ، وأنهم يعيشون حالة من القلق والإرباك والشك والتردد، وحينما تأتيهم آية ومعجزة يندهشون وينشغلون عن إعلان الكفر ، وكذا عندما تصل الغنائم إلى المدينة، فيجتهدون في إخفاء ما يضمرون من الكفر، ولكن عندما يتعرضون للأذى ويداهمهم الخوف يميلون إلى الكفر، ويظهر على ألسنتهم على نحو أكثر وضوحاً.
الثاني : تنزيه الإيمان من إقتراب الذين نافقوا منه، ومنع اللبس عند المسلمين، فلا يظنون بأن المنافقين يكونون أحياناً مؤمنين، وفيه تحذير للمسلمين من الركون إليهم أو إتخاذهم وليجة .
وعن ابن عباس في قوله {لا تتخذوا بطانة من دونكم}( ) قال: هم المنافقون)( ).
الثالث : بيان قانون وهو أن المنافقين يظهرون أمارات الكفر، ويميلون إليه عندما يكون الإسلام والمسلمين في شدة وعند لقاء العدو، ولم يعلموا أن الله عز وجل يمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بجنود من عنده، وليس من حصر لجنود الله منهم الملائكة الذين نزلوا في معركة بدر وأحد والخندق وحنين ، ومنهم الريح والماء , ومنهم آيات القرآن .
(وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عطاء بن أبي ميسرة قال: نسجت العنكبوت مرتين. مرة على داود عليه السلام حين كان طالوت يطلبه، ومرة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الغار)( ).
الحادية عشرة : واو الجماعة في (يقولون بأفواههم) إذ توثق آية البحث قولاً للذين نافقوا، لقد وردت مادة (قال) ثلاث مرات في آية السياق مع قلة كلماتها، وهي:
الأولى : توجه القول للذين نافقوا بـ (قيل لهم) للحجة والإحتجاج عليهم.
الثانية : صيغة الفعل الماضي المبني للمعلوم(قالوا) وتعود للذين نافقوا وكيف أنهم أنكروا حصول قتال قريب بين المؤمنين والذين كفروا، ليسمي الله عز وجل هذا اليوم(يوم التقى الجمعان) كما ورد قبل آيتين، فسواء أنكر الذين نافقوا حصول القتال أو لا، فأنه وقع، وثبت في القرآن إلى يوم القيامة، وتوثق به : كذب ومكر وخبث الذين نافقوا ليعلم به الناس في الأجيال المتعاقبة ويكون زاجراً لمن يريد أن يذب أو يدافع عنهم، وهو خزي آخر متجدد.
الثالثة : ورود الفعل المضارع من الأفعال الخمسة (يقولون)، ويعود للذين نافقوا مما يدل على كثرة كلامهم وسعيهم لطمس الحقائق وتزييف الوقائع، وإثارة المغالطات فيأتيهم قول بصيغة المبني للمجهول، فتتعدد أقوالهم.
وتأتي الآية القرآنية لتذكرها من غير خشية من ترتب الأثر عليها، إنما هي حجة على الذين نافقوا والذين كفروا، ومانع لهم من الظلم والتعدي، قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
الثانية عشرة : الضمير (هم ) في [بِأَفْواهِهِمْ] ومن ضروب البلاغة في اللغة العربية الضمائر المنفصلة والمتصلة لدلالتها على الفاعل أو المفعول والمتكلم والمخاطب والغائب والعاقل وغير العاقل والمفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث .
وسميت الضمائر لأنها أضمرت وأخفت الذات المقصود مع دلالتها عليه، وكانت تسمى الكنايات ، أي يكُنى بها عن الأشياء وتدل عليها بما يمنع من اللبس والترديد، وضمائر الغائب هي :
الأول : هو للمفرد المذكر الغائب .
الثاني : هي للمفرد والمؤنث .
الثالث : هما للمثنى المذكر كما في قوله تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا] ( ) .
ولم يرد لفظ [هُمَا] منفصلاً في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وهل في الآية أعلاه تحذير للمنافقين من القعود وتعريض بهم وبيان لقانون نصرة الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وان قصد الذين نافقوا عدم نصرته أم أن الآية تتعلق بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي سابقة زماناً بثلاث سنوات لواقعة أحد التي نزلت آية البحث بخصوصها.
الجواب هو الأول ، وهو من فضل الله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيوضات القرآن، بأن تنزل سبل الهداية والرشاد وقبل الحوادث واسباب نزولها ، وفيه بيان ، كما يأتي (هما) للمثنى المؤنث .
الرابع : هم للجمع المذكر الغائب .
الخامس : هن : للجمع المؤنث الغائبات .
إذ يعود الضمير (هم) للذين نافقوا لتأكيد صدور كلام منهم ليس له محل في القلب ، ولم يخرج عن إيمان وصدق وإقرار إنما هو فقط لإرادة اللغو والكذب والباطل ، وهل فيه ذم وإنذار للذين نافقوا على ما يقولون ، الجواب نعم ، فقد ورد في التنزيل [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ) .
إذ يرى الكفار والمنافقون ما فاز به الموحدون من النعم وعلو الدرجة بفضل الله ، فيحتج المنافقون: كنا نقول كما يقول المؤمنون وكنا نتلو القرآن، ونحضر صلاة الجماعة عندئذ يختم الله على أفواههم لتشهد عليهم أعضاؤهم بالقعود عن القتال ،وتتكلم الجوارح بما يفضحهم في نفاقهم ، ثم يأذن الله للأفواه بالكلام والإحتجاج الذاتي لينشغل المنافق بنفسه فيتوجه باللوم إلى جوارحه وأعضائه التي فضحته وشهدت عليه ، كما ورد في التنزيل[وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]( ).
ولا تختص الآيتان أعلاه بالمنافقين , إذ يشمل موضوعهما الكفار والظالمين.
الثالثة عشرة : الضمير في [قُلُوبِهِمْ] إذ يعود إلى الذين نافقوا ، وليس ثمة مسافة بين اللسان والقلب ، كما أن القلب أمير الجوارح ، ولا يجري الكلام على اللسان إلا بعد أن يأذن القلب مع كبرى كلية في القرآن وهي إرادة الفعل أحياناً من لفظ القلب ، فليس المراد منه الجزء الصنوبري الذي في الصدر والذي يقوم بضخ الدم إنما المراد التدبر، ومع هذا تجد التضاد والتباين بين جهة الصدور وهو القلب ووسيلة الصدور وهو اللسان.
وهل هذا التضاد من مصاديق الفساد أو القتل اللذين احتج بهما الملائكة على جعل الإنسان خليفة في الأرض ، كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) الجواب نعم من جهات :
الأولى : التضاد بين ما يقوله الذين نافقوا وبين ما في قلوبهم من إرادة الفساد في الأرض .
الثانية : إنه من مقدمات القتل في الأرض والتحريض عليه ، فلو صدق الذين نافقوا القول وجعلوه مطابقاً للإيمان والحق، لتردد الذين كفروا في الهجوم على المدينة , وامتنعوا عن السعي في طلب قتل المهاجرون والأنصار .
الثالثة : إنه تهيئة لوجود طائفة من الناس تتصف بالمكر والخبث والبقاء على الكفر وأن أظهروا الإيمان .
وقد رد الله عز وجل على الملائكة في إحتجاجهم بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ومن علمه تعالى تفضله بنزول الآية قبل السابقة وما فيها من أمور:
الأول : فضح الذين نافقوا .
الثاني : نعت الذين نافقوا بالقرب من الكفر والضلالة .
ومن الإعجاز في قوله تعالى [هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ] ( ) عدم إنطباق الإرتداد وأحكامه عليهم .
الثالث : دعوة المنافقين للتوبة والإنابة وهو من معاني الإنذار في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ).
الرابع : تحذير الناس من النفاق , وبعث النفرة في نفوسهم من المنافقين، إذ أن الفطرة الإنسانية تأبى هذا التضاد بين التصريح بالإيمان ، وإخفاء الكفر، نعم قد يكون هناك تضاد مباين له في حال التقية بأن يخفي المؤمن إيمانه , ويظهر بعض الكلام تورية وتقية خوفاً وخشية من الذين كفروا ، وهو أمر حسن، قال تعالى [لاَ يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ]( ).
الرابعة عشرة : واو الجماعة في يكتمون وهي الكلمة التي أختتمت بها الآية قبل السابقة لإرادة الإنذار والوعيد للذين نافقوا ، وأن ما يخفونه في نفوسهم من الكفر يحاسبهم ويؤاخذهم الله عليه .
ومن الشواهد على أن الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء صيرورة معركة أحد مناسبة لإظهار ما يخفيه الذين نافقوا من النوايا إذ يجب عليهم المبادرة إلى الدفاع , ونصرة المسلمين بالقول والبذل والدعاء ، وتكثير العدد والسواد .
وعن (أنس بن مالك : رأيت يوم القادسية عبد الله بن أم مكتوم الأعمى وعليه درع يجر أطرافها وبيده راية سوداء فقيل له : أليس قد أنزل الله عذرك؟
قال: بلى! ولكني أكثر سواد المسلمين بنفسي وروي عنه أنه قال : فكيف بسوادي في سبيل الله)( ).
ومن الإعجاز في الآية قبل السابقة أن عدد كلماتها ثماني وعشرون كلمة منها أربع عشرة ورد فيها ضمير وتعيين مخصوص للذين نافقوا وتكرر فيها اسم الجلالة مرتين ، لتذكيرهم بلزوم عبادة الله والتوبة إليه سبحانه ، كما ورد فيها لفظ الإيمان ولفظ الكفر، وكيف أن المنافقين مذبذبون بينهما حتى إذا ما زحفت جيوش الذين كفروا على المدينة مال المنافقون إلى الكفر ، وظهرت مفاهيمه على ألسنتهم.
فان قلت لقد جاءت جيوش عظيمة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وسبق قدومهم تهديد ووعيد متصل ، فخشي المنافقون على أنفسهم .
والجواب عليه من جهات :
الأولى : لقد أنعم الله على المسلمين بالنصر في معركة بدر، يستصحبون في معركة أحد , وهذه المصاحبة هبة وفضل من الله، ومن الآيات أن المسلمين كانوا قلة يوم معركة بدر وسيوف أكثرهم قديمة وبالية ، وليس معهم عدد كاف من الخيل والرواحل ، وكانوا نحو ثلث عدد المشركين ولكن النصر جاءهم من عند الله عز وجل ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
الثانية : من خصائص المؤمنين يومئذ أن خشيتهم على رسول الله أكثر من خشيتهم على أنفسهم ، وهو الذي تدل عليه آية البحث وآية السياق.
أما آية البحث فمن مصاديق قتل الشهداء في سبيل الله قتالهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما آية السياق فقد أخبرت بأن الله عز وجل بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً ، ومن خصائص المؤمنين الدفاع عن الرسول .
الثالثة : يحتاج المسلمون والناس توالي نزول آيات القرآن لتبقى إلى يوم القيامة، إذ أنه يتصف بأمور :
الأول : تكامل أحكام الشريعة في القرآن .
الثاني : تفسير آيات القرآن بعضها لبعض .
الثالث : إختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول القرآن، وإذا غاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المدينة يستعمل أحد الصحابة على المدينة ويأمره بالصلاة بالمسلمين والمسلمات في المسجد النبوي نيابة عنه .
ولكن آيات القرآن لا تنزل إلا على رسول الله ، فيأتيه جبرئيل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال السفر والدفاع ، ولا يعلم الذي استخلفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما أنزل من القرآن في تلك الأيام إلا عند عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو يقوم الركبان بنقل الآيات التي نزلت على النبي في سفره قبل قدومه وعودته .
الرابع : حاجة الناس وإلى يوم القيامة لتوالي نزول القرآن ، ولابد أن يدافع المسلمون عن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يستمر نزول آيات القرآن من عند الله عز وجل.
الخامس : نزول الأمر من عند الله سبحانه إلى الذين نطقوا بالشهادتين للدفاع عن أنفسهم , وعن ملة التوحيد مع الوعد بالنصر من عنده تعالى ، وفي التنزيل [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ] ( ).
ترى لماذا جاءت آية البحث وما فيها من الإخبار عن حياة الشهداء عند الله بعد آية ذم الذين نافقوا في نظم القرآن .
الجواب فيه وجوه :
الأول : نصرة الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن خروجه وأصحابه إلى ميادين الدفاع خير محض .
الثاني : لقد أراد الذين نافقوا تثبيط الهمم فنزلت آية البحث لنسخ وإبطال ما يقصدون، قال تعالى[فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ]( ).
الثالث : بيان تقسيم الناس في المدينة إلى قسمين :
أولاً : المؤمنون .
ثانياً : المنافقون .
الرابع :تأكيد قانون وهو قلة عدد الذين نافقوا وضعفهم .
الخامس : آية البحث واقية وحرز من تأثير الذين نافقوا على النفوس .
السادس : آية البحث رد على أقوال الذين نافقوا .
إعجاز الآية الذاتي
إبتدأت آية البحث بأداء النهي (لا) المتوجهة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ] أي لا تظن ولا ترجح ، وهو من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي) ( ) إذ يتفضل الله عز وجل وينزل ما يمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الظن المرجوح ، ومن إعجاز القرآن أن هذا المنع ليس مجرداً إنما جاء مع البيان الموضوعي والعلة الخاصة به ، ليكون نهياً متجدداً يطل على المسلمين في كل يوم وليلة يدركون معه أنه موجه لهم من باب الأولوية القطعية ، فاذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا يقول ولا يفعل إلا ما يأمره ويأذن به الله عز وجل يتوجه إليه النهي [وَلاَ تَحْسَبَنَّ].
فمن باب الأولوية إجتناب المسلمين والمسلمات مجتمعين ومتفرقين الظن بأن شهداء أحد في عداد الموتى ، ولابد من التسليم بأنهم أحياء عند الله عز وجل .
لقد تضمنت الآية السابقة تحدي الذين نافقوا بدفع الموت عن أنفسهم ، وتأكيد عجزهم عن هذا الدفع من جهات :
الأولى : أوان حضور الموت .
الثانية : كيفية قبض ملك الموت لأرواح المنافقين وهل يقضون بكيفية وحالة واحدة ، الجواب لا .
الثالثة : مكان قبض روح المنافق .
الرابعة : الأذى والعذاب الإبتدائي الذي يقترن به الموت في قبض روح المنافق .
وهل يمكن القول بعدم إمهال المنافق في الموت وأنه يأتيه فجأة ، الجواب لا ، فهذا الإمهال رحمة من عند الله يصيب بها من يشاء .
وإذ تضمنت الآية السابقة الإحتجاج على المنافقين بعجزهم أو دفع أو إرجاء الموت عن أنفسهم فان آية البحث نفت موضوع الموت عن الشهداء ، فلا تصل النوبة إلى القول هل يستطيع الشهداء دفع الموت عن أنفسهم ، إنما هم أحياء عند الله عز وجل ، ويحتمل حال الشهداء بالنسبة للموت :
الأول : لا يصل الموت إلى الشهداء أصلاً ، وليس من فترة بين موتهم وبين صيروتهم أحياء عند الله سبحانه .
الثاني : لابد من طرو حال الموت على الإنسان وأن كان شهيداً فحينما يقتل الشهيد تفارق روحه الجسد ليصبح بعدها حيا عند الله عز وجل .
الثالث : لا يعلم كيفية مغادرة الشهيد الحياة الدنيا إلا الله عز وجل وعن خثيمة قال: قال سليمان بن داود عليه السلام لملك الموت : إذا أردت أن تقبض روحي ، فأعلمني ، قال : ما أنا بأعلم بذلك منك ، إنما هي كتب تلقى إلي ، فيها تسمية من يموت)( ).
الرابع : ليس من هيئة وحال ثابتة بالنسبة لمغادرة الشهداء الحياة الدنيا ، فقد يكون بعضهم مثل سائر الناس أو خصوص المسلمين في هذه المغادرة أو يكون بصفة خاصة ينفرد بها .
وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حال الشهيد عند الموت إذ قال (الشَّهِيدُ لاَ يَجِدُ أَلَمَ القَتْلِ إلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ أَلَمَ القَرْصَةِ) ( ).
وهل يدل التشبيه في الدنيا أعلاه بالإنسان الحي في تلقي القرصة على أنه ليس من حال موت يصاب بها الشهيد ، الجواب لا ، إنما جاء التشبيه بخصوص حرارة السيف وألم الجراحة وان الله عز وجل يخففه عن الشهيد، بينما لا يكون هناك تخفيف في الموت بالنسبة للمنافق .
ومن إعجاز الآية إذ جاءت بصيغة العموم والإطلاق في الذين قتلوا في سبيل الله من غير استثناء ، وفيه إكرام لهم ، ليكون من معاني [وَلاَ تَحْسَبَنَّ] في آية البحث وجوه :
الأول : لا تحسبن بعض شهداء أحد أنه قُتل في غير سبيل الله .
الثاني : لا تحسبن فضل ومنّ الله يتأخر عن شهداء أحد .
الثالث : لا تحسبن أن الله عز وجل يترك الذين قتلوا في سبيله ، ليكون من عمومات قوله تعالى[ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى]( ) أن الله عز وجل لن يودع أو يترك شهداء بدر وأحد ، ويكون من معاني الآية أعلاه وجوه :
أولاً : ما ودعك ربك يا محمد .
ثانياً : ما ودع ربك أمتك .
ثالثاً : ما ودعكم ربكم .
رابعاً : ما ودع ربك الذين قتلوا في سبيله .
الرابع : من الإعجاز الذاتي لآية البحث أنها كما أخبرت عن حياة الشهداء عند الله فأنها تضمنت الشهادة لهم بأن قتلهم في سبيل الله ، ليكون من وجوه تقدير الآية : لا تحسبن الذين قتلوا في معركة بدر وأحد لغير رضوان الله .
ويمكن تسمية آية البحث [بَلْ أَحْيَاءٌ]ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا مرتين وبخصوص ذات الشهداء ( ).
إعجاز الآية الغيري
لقد جاءت الآية التالية في بيان منزلة وشأن الشهداء عند الله وأنهم أحياء في رحاب عرشه لم يموتوا , وفيه توبيخ وزجر للذين نافقوا .
(عن سعيد بن جبير قال : لما أصيب حمزة وأصحابه بأحد قالوا : ليت من خلفنا علموا ما أعطانا الله من الثواب ليكون أحرى لهم فقال الله : أنا أعلمهم ، فأنزل الله { ولا تحسبن الذين قتلوا . . . } الآية .) ( ).
وهل في ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم معاقبة الذين نافقوا ونزول الآية القرآنية لتبكيتهم وزجرهم من الدلائل على أن معجزته عقلية , الجواب نعم ، وتلك آية بأن الإعجاز العقلي لآيات القرآن لا ينحصر بها بالذات بل يشمل أثرها ونفعها والتغيير الذي يطرأ على النفوس وفي المجتمعات بنزولها وتلاوتها والعمل بمضامينها .
ونبين هذه المسألة فريدة ، لتفتح الآفاق أمام العلماء لاستقراء المسائل والمصاديق التي تؤكد تعدد وجوه ومفاهيم الإعجاز العقلي لآيات القرآن ، وقد أنعم الله علينا بانشاء باب خاص في تفسير كل آية قرآنية اسمه (الإعجاز الغيري ) للآية ليكون تأسيساً للعلوم المترشحة عن الآية القرآنية .
وبلحاظ علم سياق الآيات الذي يمكن أن تؤلف فيه ملايين الأجزاء( ) يمكن إنشاء أبواب مستقلة تتعلق بالجمع بين كل آيتين من القرآن منها:
الأول : الإعجاز الذاتي للجمع بين الآيتين .
الثاني : الإعجاز الغيري للجمع بين الآيتين .
الثالث : مفهوم الجمع بين الآيتين .
الرابع : من الغايات الحميدة للجمع بين الآيتين .
الخامس : ثناء الله على نفسه المترشح عن الجمع بين الآيتين .
السادس : اللطف المتفرع عن الجمع بين الآيتين .
السابع : لغة العطف بين الآيتين من القرآن ودلالاته .
الثامن : وحدة الموضوع أو الحكم بين الآيتين .
التاسع : الجمع بين الآيتين شاهد على صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل .
العاشر : أثر مضامين كل من الآيتين على الأخرى ،والأولى إيجاد اسم مخصوص لموضع كل من الآيتين اثناء التفسير الجامع لهما ، وفي هذا السفر وفي باب (في سياق الآيات) نذكر اسمين :
الأول : آية البحث وهي التي تكون موضوع التفسير في ذات الجزء والمورد .
الثاني : آية السياق ، وهي التي يتم إختيارها وتعيينها لبيان صلتها بآية البحث .
ويتعلق موضوع آية البحث بالذين قتلوا في معركة أحد وخصوص ما رزقهم الله من الكرامة بعد قتلهم ، ولما أثنى الله عز وجل على نفسه وأخبر عن ملكه المطلق [فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى] ( ) فقد بيّن سبحانه حالة من أحوال الآخرة لأهل الدنيا وهي أن الشهداء أحياء عنده يتنعمون بظلال الجنان ، ويتمنون أن تصل أخبارهم إلى أصحابهم الذين عادوا من معركة أحد سالمين .
فجعل الله عز وجل آية البحث شاهداً سماوياً حاضراً ينطق في كل زمان بعلم الغيب .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) ( ) .
وفيه نكتة وهي أن المراد من الآخرة في الآية أعلاه أعم من يوم القيامة ، فيشمل أحوال الناس في عالم البرزخ وأن الآية أعلاه نعمة على المسلمين ، وسبيل للترغيب فيما أعدّ الله عز وجل لهم بعد الموت لتبعث الآية الحسرة في قلوب الذين نافقوا ، وهذه الحسرة من وجوه :
الأول : إختيار النفاق وإبطان الكفر الذي هو برزخ دون الفوز بالنعم في عالم الدنيا والآخرة .
الثاني : مجئ آية السياق بذم الذين نافقوا .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها لا تحصر ذم الذين نافقوا بما يقولون وأنه خلاف ما يبطنون ، بل تبين قبيح فعلهم من القعود عن ملاقاة جيش الذين كفروا مع الحاجة إلى مشاركتهم في القتال أو الدفاع حتى لو كان هذا الدفاع عن أنفسهم ، وإرادة تكثير السواد ، والكل يعلم بالضرر الناجم عن تخلف فريق من الجيش عن القتال في المدينة عن عمد وإصرار وإمتناع عن القتال خاصة إذا كان القتال للدفاع عن المبدأ ودين التوحيد .
لقد أراد الذين نافقوا إثارة الفتنة في المدينة قبل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المعركة وبعد عودته منها ، فنزلت آية البحث مدداً وسلاحاً لوأد الفتنة وفضح الذين نافقوا .
الثالث : إحصاء آية البحث لأقوال وأفعال الذين نافقوا وصدّهم عن سبيل الله ، وهل تكتفي آية السياق بهذا الإحصاء ، الجواب لا ، إنما تتضمن وجوهاً :
أولاً : قبح قول وفعل الذين نافقوا .
ثانياً : إنذار الذين نافقوا .
ثالثاً : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين نافقوا .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) أم أنه أمر مستقل عن الآية أعلاه للتباين بين الذين كفروا والذين نافقوا .
الجواب هو الأول ، وجاءت آية البحث بالسكينة والطمأنينة للمؤمنين ذكوراً وأناثاً في مسألة إبتلائية وهي سقوط عدد من المؤمنين شهداء في ميدان القتال ، وعلة قتلهم هو تعدي الذين كفروا وإصرارهم على القتال ، ليصبح الدفاع وملاقاتهم واجاً وأمراً يقره العقل والشرع والوجدان .
وإذ ذكرت آية البحث الشهداء وعظيم منزلتهم عند الله ، فقد جاءت السنة بما هو أعم ، والبشارة بنيل ذات درجة الشهداء لأهل التقوى .
و(عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا يجمع الله في جوف رجل غباراً في سبيل الله ودخان جهنم ،.
ومن اغبرت قدماه في سبيل الله حرم الله سائر جسده على النار ، ومن صام يوماً في سبيل الله ختم له بخاتم الشهداء ، تأتي يوم القيامة لونها مثل لون الزعفران ، وريحها مثل المسك ، يعرفه بها الأولون والآخرون يقولون: فلان عليه طابع الشهداء . ومن قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة) ( ).
ومن أسرار آية البحث أنها جمعت بين القتل في سبيل الله والرزق الكريم من عنده تعالى ، فليس ثمة فترة أو زمان أو إبطاء بين القتل وبين مجئ الرزق الكريم الذي يفوق عالم التصور الذهني .
تبين آية البحث قانوناً وهو عدم إتخاذ الظن وسيلة لمعرفة أحوال المؤمنين في الآخرة ، لقد نهت آية البحث عن الظن بخصوص حياة الشهداء لتتضمن الأمر بما يخالفه وبلوغ مرتبة اليقين بحياة الشهداء .
والظن هو التردد بين أمرين مع ترجيح أحدهما من غير قطع به ، فهو لا يصل إلى مرتبة اليقين الذي يفيد العلم والقطع والجزم ومطابقة الواقع لذا فان الظن ليس نقيضاً لليقين إنما هو في طوله ومرتبة أدنى منه .
ومن إعجاز الآية الغيري أن الشهداء غادروا الحياة الدنيا ولكن حجتهم بقت في الأرض إلى يوم القيامة إذ تظهر آية البحث الذين كفروا ممن قام بقتل الشهداء أو نصر أو أعان الكافرين على قتلهم أو مال بهواه إليهم في سوء فعلهم وجنايتهم هذه .
لقد جاءت آية البحث على مغالطة المنافقين الذين يوجهون اللوم للشهداء لأنهم خرجوا إلى معركة أحد ولم يطيعوا الذين نافقوا ، فأخبرت آية البحث عن حسن عاقبة الذين يطيعون الله ورسوله , وأنهم أحياء عند الله سبحانه .
وهل يدعو الذين قتلوا في سبيل الله على المنافقين , ويشكونهم إلى الله وهم في عالم البرزخ , ويكون من معاني [فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ] ( ) سؤال الشهداء التعجيل بالموت للذين نافقوا .
الجواب لا دليل عليه إلا عموم لفظ [أَحْيَاءٌ]، لأن الآخرة دار ثواب وأجر وجزاء , لذا أخبرت آية البحث عن توالي واتصال رزقهم فيها من عند الله عز وجل .
ومن إعجاز آية البحث الغيري أنها تنشأ أمة جديدة من عشاق الشهادة والقتل في سبيل الله لا يعلم عدد أفرادها وأعمارهم وأحوالهم إلا الله عز وجل كما تهيئ آية البحث مقدمات الشهادة من جهات :
الأولى : منع الإستهزاء بالشهداء .
الثانية : ما يتغشى عوائل الشهداء من الصبر والطمأنينة , والسلوان والرضا بأمر الله سبحانه.
الثالثة : إدراك كل مسلم ومسلمة لعظيم منزلة الشهداء عند الله عز وجل ، وهذا الإدراك من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) وفيه نكتة وهي أن المسلمين لم يرتقوا إلى هذه المنزلة إلا بفضل ومنّ ولطف من عند الله عز وجل .
الرابعة : آية البحث واقية للمسلمين وعوائلهم من الإصغاء لأقوال الذين نافقوا .
وهل يختص هذا التوقي بموضوعها أم أنه أعم ، الجواب هو الثاني ، وكأن آية البحث تقول أموراً :
الأول : يا أيها الذين آمنوا إن المنافقين يصدون عن سبيل الله ، قال تعالى [اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ( ) .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا إجتنبوا المنافقين ، وما يقولون من الباطل .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا يبث المنافقون الأراجيف فأحذروهم .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا اشكروا الله على فضحه للمنافقين .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا ادفعوا الفتنة التي يسعى إليها المنافقون ، قال تعالى في ذمهم [يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ] ( )وتتجلى معاني الفتنة التي يعمل على إيقاد نارها الذين نافقوا بلحاظ آية البحث من جهات :
الأولى : البقاء على النفاق وإخفاء الكفر والضلالة ، وهو الذي تؤكده أول كلمة من الآية ، وهو الاسم الموصول (الذين) بلحاظ عطفه على الآية السابقة وخاتمتها ، إذ أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] ( )
ويكون من معاني الجمع بينهما ، والله أعلم بما يكتم الذين نافقوا وقالوا لإخوانهم وقعدوا ) أي أنهم يخفون أموراً في قولهم لاخوانهم , وفي قعودهم منها :
الأول : إرادة الذين نافقوا بعث الفزع والخوف في نفوس المؤمنين .
الثاني : منع المسلمين من الشوق للقتال واختيار الشهادة .
ويدل قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ) على تجلي وظهور حب المؤمنين للقتال وطلبهم الشهادة ومناجاتهم بالصبر في ميدان القتال , وعدم الفرار أو القعود عن القتال ، فقابل الذين نافقوا هذا الطلب والمناجاة بالتحريض على القعود والإمتناع عن القتال ، وعدم بذل الوسع في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأداء الفرائض العبادية .
الثالث : لقد قال المنافقون لإخوانهم [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ) ويفيد الجمع بين آية البحث وخاتمة الآية السابقة أنهم يقولون أقوالاً أخرى غير هذا القول يريدون بها إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وإعانة الكفار .
وتبعث آية البحث والآية السابقة المسلمين على التدبر في المقاصد الخبيثة للذين نافقوا في تحريضهم على القعود ، وفي تعريضهم بالشهداء .
نعم جاءت آية البحث لإبطال هذه المقاصد ، وهو لا يمنع من التحري والتحقيق عنها لبيان الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفضل الله عز وجل في نصره مع شدة الأذى والهجوم من الذين كفروا والمنافقين مجتمعين ومتفرقين ، لتكون دماء الشهداء يوم أحد سبباً لتثوير الإيمان في نفوس المسلمين .
وتبين آية البحث إختصاص الشهداء ببعث الحياة فيهم من حين مغادرة الحياة الدنيا ، ولا يكون أحد أو طائفة مثلهم إلا الذين وردت فيهم آية قرآنية أو نص من السنة النبوية .
وهل يدل ما ورد من صيغة العموم في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (خمس من قبض في شئ منهن فهو شهيد المقتول في سبيل الله شهيد، والغرق في سبيل الله شهيد، والمبطون في سبيل الله شهيد، والمطعون في سبيل الله شهيد، والنفساء في سبيل الله شهيد) ( ) على التساوي في المرتبة والحياة لكل الذين ذكروا أعلاه عند الله حال الموت.
الجواب لا دليل عليه , إنما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيان علو المرتبة وفضل الله على هؤلاء بنيل ذات مرتبة الشهيد في الآخرة بفضل ولطف من عند الله، وليس الحياة من حين الوفاة، التي اختص بها الذين قتلوا في سبيل الله دفاعاً عن التنزيل وشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية فتح أبواب الخير في الدنيا والآخرة أمام المسلم، وقد ورد (عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من قال حين يصبح عشر مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، وإن مات ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة)( ).
لإرادة الترغيب بتلاوة القرآن والتسبيح وذكر الله على كل حال، وبقاء اللسان رطباً بذكره إلى حين مغادرة الدنيا .
وهل يصح إجتهاد المسلم في الدعاء بأن يرزقه الله عز وجل مرتبة الشهداء وإن مات على فراشه ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) ليكون من أسرار آية البحث دعوة المسلمين للدعاء لنيل مرتبة الشهداء والفوز بالحياة في عالم البرزخ ومن حين الوفاة، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: دعا موسى عليه السلام وأمن هارون وأمنت الملائكة، فقال الله تعالى: قد اجيبت دعوتكما فاستقيما، ومن غزا في سبيل الله أستجيب له كما استجبت لكما إلى يوم القيامة)( ) .
وهناك تباين بين أمور :
الأول : توبة الشهداء عند القتل في سبيل الله .
الثاني : حياة الشهداء من حين القتل في ميدان المعركة ، فيرجع إخوانهم الأحياء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مثقلين بجراحاتهم بلحاظ كبرى كلية وهي شدة وطأة الجراحات التي أصابت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على جميع الصحابة من المهاجرين والأنصار الرجال والنساء.
أما الشهداء فأنهم يرجعون إلى الله عز وجل من غير جراحات وكلهم شوق بأن يعلم إخوانهم بحالهم ، قال تعالى[كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ]( ).
لقد أصابت النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم الجراحات المتعددة.
وهل حزن الشهداء وهم عند الله على ما أصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جراحات، الجواب فيه وجوه :
الأول : لم يحزن الشهداء على جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لعمومات قوله تعالى [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ) .
الثاني : نعم قد حزن الشهداء ، والقدر المتيقن من نفي الحزن في الآية أعلاه هو ما يخصهم شخصياً إذ غفر الله عز وجل لهم، وصرف عنهم أهوال الآخرة.
الثالث : لم يعلم الشهداء بجراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
والمختار هو الأخير ، إذ يحجب الله عز وجل عنهم هذه الجراحات ، لذا أخبرت الآية عن نيل الشهداء ما رزقهم الله من فضله واستبشارهم بالمؤمنين الذين سيلحقون بهم وإن ماتوا على الفراش .
الرابع : النعيم الذي يصيب الشهداء عند الله عز وجل في عالم البرزخ وأوان الحساب واللبث الدائم في جنان الخلد .
وعن (عَبْدُ اللهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ ، أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : زَمِّلُوهُمْ بِجِرَاحِهِمْ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ يُكْلَمُ كَلْمٌ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوْنُهُ لَوْنَ الدَّمِ وَرِيحُهُ رِيحَ الْمِسْكِ،
ثُمَّ قَاَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم : أَنَا الشَّهِيدُ عَلَى هَؤُلاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، ثُمَّ قَامَ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ ، وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ كَمَا يُصَلِّي عَلَى الأَمْوَاتِ ، وَلَمْ يُكَفِّنْهُمْ فِي غَيْرِ ثِيَابِهِمْ ، وَكَانَ يَأْمُرُ بِدَفْنِ الرِّجْلَيْنِ فِي حُفْرَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَيَقُولُ : أَيُّ هَؤُلاءِ كَانَ أَكْثَرَ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ ؟ فَإِذَا أَشَارُوا إِلَى الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ قَبْلَ صَاحِبِهِ) ( ).
ومع أن عدد آيات القرآن هو ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية فان هناك طائفة من الآيات وقصار السور حاضرة في الوجود الذهني للمسلمين، وتتلى في منتدياتهم ومجالسهم العامة في كل طبقة وجيل وفي عموم أمصار الإسلام ، ومنها آية البحث التي تحضر عند مصيبة القتل والموت مطلقاً .
فصحيح أن نص آية البحث لا يشمل الذين يموتون على فراشهم إلا أنها تحضر في الأذهان , وتتلى في المجالس في المصيبة ، وهو من عمومات قوله تعالى [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] بأن تتجدد ذكرى شهداء أحد في كل زمان .
ومن إعجاز الآية دلالتها بالدلالة التضمنية على سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأيام التي تلي معركة أحد وفي معركة الخندق ، فلم تقل الآية (يا أيها الذين آمنوا لا تحسبوا الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ) .
وصحيح أن الخطاب الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يشمل المسلمين بالتبعية والإلحاق وإتحاد الموضوع والحكم إلا ما خرج بالدليل ، إلا أن الأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا تحسبن ) يدل على سلامته من القتل والإغتيال آنذاك ولو كان أجله في تلك الأيام لتوجه الخطاب إلى المسلمين لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيلقى أصحابه أحياءً .
ليكون من إعجاز القرآن مجيء البشارة الخاصة والعامة في ثنايا الرثاء وبيان المصيبة , وهو من عمومات قوله تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
الآية سلاح
من إعجاز القرآن أن يأتي الأمر أو النهي فيه فيكون سلاحاً , وتبدأ به الآية للبيان والبعث على الفعل أو الزجر عنه ، وجاءت آية البحث بالنهي عن الظن والإعتقاد المرجوح والفاقد للإحاطة بفضل من الله ، وهذا النهي غاية في الإكرام لذا خص به النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمراد الأمة بأجيالها المتعاقبة .
لقد جعل الله عز وجل آية البحث موعظة وعبرة وواقية من أمور :
الأولى : النفاق .
الثاني : الميل إلى المنافقين .
الثالث : الإستماع إلى أراجيف المنافقين , قال تعالى[وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ]( ).
الرابع : أقاويل وشماتة الذين كفروا بالشهداء .
لقد قال الشعراء من الفريقين قصائد بخصوص معركة أحد ، وكان للشعر عند العرب أثر وتأثير وسرعان ما ينتشر بينهم ، فجاءت آية البحث على وجوه :
أولاً : الإمتناع عن الإصغاء لقصائد وأشعار الذين كفروا .
ثانياً : ميل النفوس إلى آيات القرآن، وإتخاذ الناس لها وثائق تبين الوقائع والأحداث، وهو من أسرار وجود أسباب نزول لشطر من آيات القرآن , وصيرورتها سبباً لكثرة تلاوة وحفظ المسلمين والناس لألفاظ ومعاني آيات القرآن.
ثالثاً : تجلي وجه من وجوه الإعجاز الغيري بأن تأتي آية قرآنية لتكون بديلاً للشعر، وبرزخاً دون نظم المشركين لخلاف مضامينها، فقد أدّعى الذين كفروا النصر في معركة أحد فنزل قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، الذي فضحهم وأخزاهم، وتباهوا بقتل سبعين شهيداً في معركة أحد , فنزلت آية البحث لتكون على وجوه:
الأول : إنها حصن منيع للمؤمنين في جهادهم.
الثاني : في الآية دليل على عدم خسارة المسلمين المعركة.
الثالث : في الآية زجر للمنافقين من بث أراجيفهم.
فلا لوم على الشهداء بعد فوزهم بالحياة عند الله، إذ تدل آية البحث على حسن إختيارهم، وعظيم جزائهم، ونجاتهم في النشأتين لنصرتهم لله ورسوله ببذل نفوسهم وهو أسمى مراتب التقوى، قال تعالى[وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
فجاءت آية البحث بالرزق من غير إحتساب من جهات:
الأولى : حياة الشهداء عند الله.
الثانية : الرزق الكريم للشهداء لقوله تعالى[عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ].
الثالثة : تفضل الله على المسلمين بالبشارة بنيل إخوانهم الذين قتلوا في سبيل الله الدرجات العالية في الآخرة من الرزق الكريم.
مفهوم الآية
ويدل النهي الوارد في أول الآية في مفهومه على عدم جواز الظن بموت الذين لم يقتلوا في سبيل الله ، قال تعالى[اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
ليكون من الإعجاز في تخصيص الذين قتلوا في سبيل الله بالحياة عند مغادرة الدنيا ثبوت قانون الموت وعالم البرزخ .
والحياة وجود ، وهو أشرف من العدم , وصحيح أن الموت أمر وجودي كما في قوله تعالى[حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ]( ) إلا أن الحياة أسمى وأحسن إذ يتنعم الإنسان بحواسه وعقله، ويخالط الناس ويأكل الطيبات ، ويتخذ من الدنيا مزرعة لفعل الصالحات وإقتناء الحسنات .
وجاءت الآية السابقة في ذم الذين نافقوا على قعودهم ليكون من معاني هذه الآية الزجر عن التفاخر بهم في حياتهم أو بعد موتهم ، لذا أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ] ( ) وكأنهم أموات في الدنيا مثلما هم أموات في الآخرة .
يدل النهي الوارد في أول آية البحث على الإذن والجواز في ضده ، سواء على القول بأن النهي عن الشئ أمر بضده أو عدم القول به ، ويتجلى الثاني في المقام بأن الله عز وجل حينما ينهى عن إحتساب الشهيد ميتاً فانه لا يفيد تقدير معناه: احتسب الذين قتلوا في سبيل الله أحياء ، أنما يكون معناه أقطع وسلّم بأن الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم ، مما يدل على أن النهي عن الشئ يفيد الأمر بما هو أكثر وأهم من الضد الخاص ، وقد يقال لا تصل النوبة لهذا المعنى لإخبار آية البحث عن كونهم أحياء عند الله.
والجواب هذا صحيح، ولكن الآية تفيد التأكيد والتأديب وهو من عمومات قوله تعالى [قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلْ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ] ( ).
وقد ورد لفظ[يَهْدِي] في الآية أعلاه أربع مرات، كما ورد [يَهِدِّي] مرة واحدة فيكون المجموع خمسة لتساوي الرسم فيها لبيان أن حياة الذين قتلوا في سبيل الله عند الله حق ، ليكونوا أسوة للمسلمين في عمل الصالحات ومجانبة النفاق والفواحش .
وتؤسس آية البحث لقوانين منها :
الأول : قانون إمتناع المسلمين عن إحتساب الشهداء موتى .
الثاني : قانون القتل في سبيل الله طريق الحياة الأبدية .
الثالث : قانون طرد الشك بخصوص حياة الشهداء عند الله .
الرابع : قانون إتصال ودوام رزق الشهداء عند الله .
الخامس : قانون حتمية الحياة الأبدية في الآخرة , قال تعالى [وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] ( ).
السادس :قانون الموعظة بذكر أحوال الأموات ،وهذا الذكر أمر آخر غير ذكر الموت (قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : أكثروا ذكر هادم اللذات قالوا وما هادم اللذات قال الموت) ( ).
كما ذكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث إذ ورد (عن جابر بن عبد الله و عبد الله بن عباس في قول الله عز و جل {إذا جاء نصر الله والفتح}( ) {ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا}( ) {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا}( ).
قال : لما نزلت قال محمد صلى الله عليه وآله و سلم : يا جبريل نفسي قد نعيت قال جبريل عليه السلام: الآخرة خير لك من الأولى[وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى]( ).
فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم بلالا أن ينادي بالصلاة جامعة فاجتمع المهاجرون والأنصار إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم ثم صعد المنبر :
فحمد الله عز و جل وأثنى عليه ثم خطب خطبة وجلت منها القلوب وبكت العيون ثم قال : أيها الناس أي نبي كنت لكم ؟ فقالوا : جزاك الله من نبي خيرا فلقد كنت بنا كالأب الرحيم وكالأخ الناصح المشفق أديت رسالات الله عز و جل وأبلغتنا وحيه ودعوت[إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
فجزاك الله عنا أفضل ما جازى نبيا عن أمته فقال لهم : معاشر المسلمين أنا أنشدكم بالله وبحقي عليكم من كانت له قبلي مظلمة فليقم فليقتص مني فلم يقم إليه أحد فناشدهم الثانية) ( ).
إلى أن قام شيخ كبير يسمى عكاشة وتأتي قصته إن شاء الله إلى أن قالا (وأوحى الله عز و جل إلى ملك الموت صلى الله عليه وآله و سلم أن اهبط إلى حبيبي وصفيي محمد صلى الله عليه و سلم في أحسن صورة وارفق به في قبض روحه فهبط ملك الموت صلى الله عليه و سلم فوقف بالباب شبه أعرابي) ( ).
أي تواضعاً وإكراماً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت ولعمومات قوله [خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
وهل مجئ ملك الموت بهيئة الأعرابي واستئذانه للدخول من مصاديق آية البحث .
الجواب نعم من جهات :
الأولى : توجه الخطاب في آية البحث إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتدل بالدلالة التضمنية على إخبار ووعد من عند الله عز وجل بأنه سيلتقي مع شهداء أحد , وسيجمع الله عز وجل بينهم .
وتحتمل الدرجة والمنزلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبينهم في الآخرة وجوهاً :
الأول : التساوي في المنزلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين الشهداء الذين ذكرتهم آية البحث.
الثاني : للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منزلة خاصة ودرجة أعلى من درجة الشهداء في الآخرة.
الثالث : نالوا الشهداء مرتبة لم ينلها الأنبياء وهي أنهم أحياء عند الله من حين استشهادهم.
والصحيح هو الثاني، إذ خصّ الله عز وجل خاتم النبيين محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالمنزلة الرفيعة في الدنيا والآخرة , قال تعالى[عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا]( ).
و(عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تَلٍّ، ويكسوني ربي حلة خضراء ثم يؤذن لي أن أقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود)( ).
وقد تواترت الأخبار بأن كل واحد من الناس ينادي يوم القيامة لنجاة نفسه إلا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلا النبي محمداً صلى فأنه ينادي ويسأل الله عز وجل لأمته.
وعن أبي سعيد قال: لمّا نزلت هذه الآية {وَجِاىءَ يومئذ بِجَهَنَّمَ} تغيّر لون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعرق في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه ما رأوا من حاله فانطلق بعضهم إلى عليّ ح فقالوا : يا علي لقد حدث أمر قد رأيناه في نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاء عليّ فاحتضنه من خلفه ثمّ قبَّل بين عاتقيه ثمّ قال : يا نبي الله بأبي أنت وأُمّي ما الذي حدث اليوم وما الذي غيّرك؟
قال : «جاء جبريل (عليه السلام) فأقرأني هذه الآية [ كَلاَّ إِذَا دُكَّتْ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى]( ) قلت : فكيف يجاء بها؟
قال : «يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع،
ثمّ تعرض لي جهنّم فتقول : ما لي وما لك يا محمّد فقد حرّم الله لحمك ودمك عليّ،
فلا يبقى أحد إلاّ قال : نفسي نفسي وأنّ محمّداً يقول : أُمّتي أُمّتي،
فيقول الله سبحانه إلى الملائكة : ألا ترون الناس يقولون : ربِّ نفسي نفسي وأنّ محمّد يقول : أُمّتي أُمّتي)( ).
ثم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الشهداء إذ قتل مسموماً كما ورد في قصة الشاة المسمومة وموت بشر بن البراء بن مرور الخزرجي.
وعن أنس بن مالك أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها، فجئ بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك .
قالت: أردت لاقتلك.
فقال: ” ما كان الله ليسلطك علي ” أو قال: ” على ذلك “.
قالوا: ألا تقتلها ؟ قال: ” لا “.
قال أنس: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال أبو داود: حدثنا سليمان بن داود المهري، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: كان جابر بن عبدالله يحدث أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ارفعوا أيديكم “.
وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فدعاها فقال لها ” أسممت هذه الشاة ؟ ” .
قالت اليهودية: من أخبرك ؟ قال: ” أخبرتني هذه التي في يدي ” وهي الذراع، قالت: [ نعم ].
قال: ” فما أردت بذلك ؟ ” قالت: قلت: إن كنت نبيا فلن تضرك، وإن لم تكن نبيا استرحنا منك.
فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبها، وتوفى بعض أصحابه الذين أكلوا من الشاة، واحتجم النبي صلى الله عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة وهو مولى لبني بياضة من الانصار)( ).
الثانية : بيان إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يستأذن ملك الموت عليه للدخول لقبض روحه، وهل هذا الأمر مختص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنه فضل من الله على الرسل والأنبياء .
الجواب هو الثاني وكان ملك الموت يزور الأنبياء السابقين ومنهم من يسأله: جئت زائراً أم قابضاً؟ لبيان تسليم الأنبياء بأمر الله عز وجل ورضاهم بلقائه وعدم جزعهم من الموت.
الثالثة : مجيء ملك الموت بهيئة الأعرابي من الرزق الكريم الذي تفضل الله عز وجل به على النبي وأهل البيت.
الرابعة : إرادة إمهال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مغادرته الدنيا وجعل أهل البيت يستعدون للفراق.
الخامسة : سلام ملك الموت على أهل بيت النبوة.
السادسة : صيرورة ساعة مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا شاهداً إضافياً على صدق نبوته، وتلك آية في قوانين النبوة، وبيان لمنزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرفيعة عند الله , وفي التنزيل[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( ).
السابعة : مواساة أهل البيت بفقد النبي بحضور ملك الموت بصفة شخص من أهل الدنيا، ومجيئه بهيئة أعرابي لبيان حقيقة وهي أنه جاء يسأل النبي محمداً أن يقبض روحه لا أن ينتزعها عنوة وقهراً.
الثامنة : إتخاذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زيارة ملك الموت بهيئة الأعرابي موعظة لأهل البيت.
التاسعة : بيان مصداق على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو حال الطمأنينة والسكينة التي تلقى بها مجيء ملك الموت لقبض روحه من غير أن يصيبه فزع أو جزع، قال تعالى[يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ *ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً]( ).
وفي حديث جابر بن عبد الله أعلاه أن ملك الموت وقف على باب بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة أدخل ؟ .
فقالت عائشة لفاطمة : أجيبي الرجل فقالت فاطمة : آجرك الله في ممشاك يا عبد الله إن رسول الله صلى الله عليه و سلم مشغول بنفسه فدعا الثانية , فقالت عائشة : يا فاطمة أجيبي الرجل فقالت فاطمة : آجرك الله في ممشاك يا عبد الله إن رسول الله مشغول بنفسه .
ثم دعا الثالثة : السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة أأدخل ؟ فلا بد من الدخول فسمع رسول الله صلى الله عليه و سلم صوت ملك الموت صلى الله عليه و سلم فقال : يا فاطمة من بالباب ؟ .
فقالت : يا رسول الله إن رجلا بالباب يستأذن في الدخول فأجبناه مرة بعد أخرى فنادى في الثالثة صوتا اقشعر منه جلدي وارتعدت فرائصي فقال لها النبي صلى الله عليه و سلم : يا فاطمة أتدرين من بالباب ؟ هذا هادم اللذات مفرق الجماعات هذا مرمل الأزواج وموتم الأولاد هذا مخرب الدور وعامر القبور هذا ملك الموت صلى الله عليه و سلم .
ادخل رحمك الله يا ملك الموت فدخل ملك الموت على رسول الله صلى الله عليه و سلم .
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا ملك الموت جئتني زائرا أم قابضا ؟ .
قال : جئتك زائرا وقابضا وأمرني الله عز و جل أن لا أدخل عليك إلا بإذنك ولا أقبض روحك إلا بإذنك , فإن أذنت وإلا رجعت إلى ربي عز وجل .
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا ملك الموت أين خلفت حبيبي جبريل ؟ قال : خلفته في السماء الدنيا والملائكة يعزونه فيك فما كان بأسرع أن أتاه جبريل عليه السلام فقعد عند رأسه .
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا جبريل هذا الرحيل من الدنيا فبشرني ما لي عند الله ؟ قال : أبشرك يا حبيب الله أني قد تركت أبواب السماء قد فتحت والملائكة قد قاموا صفوفا صفوفا بالتحية والريحان يحيون روحك يا محمد .
فقال : لوجه ربي الحمد وبشرني يا جبريل .
قال : أبشرك أن أبواب الجنان قد فتحت , وأنهارها قد اطردت, وأشجارها قد تدلت وحورها قد تزينت لقدوم روحك يا محمد .
قال : لوجه ربي الحمد فبشرني يا جبريل .
قال : أنت أول شافع وأول مشفع في القيامة قال : لوجه ربي الحمد قال جبريل : يا حبيبي عم تسألني ؟ قال : أسألك عن غمي وهمي من لقراء القرآن من بعدي ؟ .
من لصوم شهر رمضان من بعدي ؟ .
من لحاج بيت الله الحرام من بعدي ؟ من لأمتي المصفاة من بعدي ؟ قال : ابشر يا حبيب الله فإن الله عز و جل يقول : قد حرمت الجنة على جميع الأنبياء والأمم حتى تدخلها أنت وأمتك يا محمد .
قال : الآن طابت نفسي إذن يا ملك الموت فانته إلى ما أمرت فقال علي رضي الله عنه : يا رسول الله إذا أنت قبضت فمن يغسلك ؟ وفيم نكفنك ؟ ومن يصلي عليك ؟ ومن يدخل القبر ؟ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : يا علي أما الغسل فاغسلني أنت و الفضل بن عباس يصب عليك الماء وجبريل عليه السلام ثالثكما فإذا أنتم فرغتم من غسلي فكفنوني في ثلاثة أثواب جدد وجبريل عليه السلام يأتيني بحنوط من الجنة فإذا أنتم وضعتموني على السرير فضعوني في المسجد واخرجوا عني فإن أول من يصلي علي الرب عز و جل من فوق عرشه ثم جبريل عليه السلام ثم ميكائيل ثم إسرافيل عليهما السلام ثم الملائكة زمرا زمرا ثم ادخلوا فقوموا صفوفا لا يتقدم علي أحد .
فقالت فاطمة رضي الله تعالى عنها : اليوم الفراق فمتى ألقاك ؟ فقال لها : يا بنية تلقيني يوم القيامة عند الحوض وأنا أسقي من يرد علي الحوض من أمتي .
قالت : فإن لم ألقك يا رسول الله ؟ قال : تلقيني عند الميزان وأنا أشفع لأمتي , قالت : فإن لم ألقك يا رسول الله ؟ .
قال : تلقيني عند الصراط وأنا أنادي ربي سلم أمتي من النار , فدنا ملك الموت صلى الله عليه و سلم يعالج قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلما بلغ الروح الركبتين قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أوه فلما بلغ الروح السرة نادى النبي صلى الله عليه و سلم : واكرباه فقالت فاطمة عليها السلام : كربي يا أبتاه فلما بلغ الروح إلى الثندؤة نادى النبي صلى الله عليه و سلم : يا جبريل ما أشد مرارة الموت فولى جبريل عليه السلام وجهه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا جبريل كرهت النظر إلي ؟ فقال جبريل صلى الله عليه و سلم : يا حبيبي ومن تطبيق نفسه أن ينظر إليك وأنت تعالج سكرات الموت فقبض رسول الله صلى الله عليه و سلم فغسله علي بن أبي طالب وابن عباس يصب عليه الماء وجبريل عليه السلام معهما وكفن بثلاثة أثواب جدد وحمل على سرير ثم أدخلوه المسجد ووضعوه في المسجد وخرج الناس عنه فأول من صلى عليه الرب تعالى من فوق عرشه ثم جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم الملائكة زمرا زمرا .
قال علي رضي الله عنه : لقد سمعنا في المسجد همهمة ولم نر لهم شخصا فسمعنا هاتفا يهتف ويقول : ادخلوا رحمكم الله فصلوا على نبيكم صلى الله عليه وسلم فدخلنا وقمنا صفوفا صفوفا كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فكبرنا بتكبير جبريل عليه السلام وصلينا على رسول الله صلى الله عليه و سلم بصلاة جبريل عليه السلام ما تقدم منا أحد على رسول الله صلى الله عليه و سلم .
ودفن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انصرف الناس قالت فاطمة لعلي رضي الله عنه : يا أبا الحسن دفنتم رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قال : نعم قالت فاطمة رضي الله عنها : كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ أما كان في صدوركم لرسول الله صلى الله عليه و سلم الرحمة ؟ .
أما كان معلم الخير ؟ قال : بلى يا فاطمة ولكن أمر الله الذي لا مرد له فجعلت تبكي وتندب وهي تقول : يا أبتاه الآن انقطع جبريل عليه السلام وكان جبريل يأتينا بالوحي من السماء)( ).
ومن مفاهيم آية البحث التخفيف عن المسلمين والمسلمات بغلق باب الجدال على المنافقين والمنافقات فلا يستطيعون نسبة الموت إلى الشهداء وصارت آية البحث حجة للشهداء في الدنيا والآخرة ، ومن مفاهيمها إكرامهم بتوجه النهي عن القول والإعتقاد بموت الذين قتلوا في سبيل الله ، ليتولى النبي والمؤمنون القيام بالتبليغ عن حياة الشهداء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ).
ومن إعجاز القرآن أن آية البحث والإخبار عن حياة الشهداء عند الله من مصاديق التبليغ التي يجب أن يبينها الله عز وجل للمسلمين والناس ، وهل يغيض هذا الأمر المنافقين والمنافقات .
الجواب نعم ، وقد يؤدي إلى صدور الأذى منهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا غرابة أنهم يقومون بمحاولة إغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة عند عودته من معركة تبوك ، وقد تقدم ذكرهم باسمائهم .
وفي قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ] تعريض بالذين نافقوا من جهات :
الأولى : التذكير بأن الشهداء أحياء .
الثانية : التأكيد العملي لإعراض المسلمين عن أقاويل المنافقين .
الثالثة : لقد حسب الذين نافقوا بأن الشهداء قتلوا وماتوا ، فجاءت آية البحث للإخبار عن حياتهم .
الرابعة : لما نزل قوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ] أقر استبشر المسلمون والمسلمات بحياة الشهداء عند الله وانتفى عنهم أي ظن بموتهم ، لينالوا هذه المرتبة السامية التي هي من أعظم النعم ، ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ولكن المنافقين تخلفوا عن الإتعاظ بآية البحث وأصروا على أمور :
الأول : إحتساب الصحابة الذين قتلوا في معركة أحد موتى .
الثاني : إجهار المنافقين بأن علة قتل الشهداء عدم طاعتهم لهم في تحريضهم على القعود والذي يدل بالدلالة التضمنية على عدم توجيه المنافقين اللوم إلى الذين كفروا من قريش في تجهيزهم جيشاً عرمرماً لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الثالث : قعود المنافقين وعدم نصرة إخوانهم من الأوس والخزرج حتى في حال فقد الشهداء وقتلهم في ساحة المعركة ، فلم تظهر عندهم حمية الأخوة والدفاع عن النبوة، وعن المدينة وأهلها .
ومن مفاهيم آية البحث وتوجه الخطاب فيها إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بناء صرح الإسلام العقائدي .
الآية لطف
لقد نادى القرآن بين الناس بسنن الهداية والإيمان، وخلع رداء الإستكبار والعناد، ومنع الهوى من بلوغ مرتبة الإستحواذ على النفس، فلانت القلوب بعد قسوتها، وأشرقت بضياء التقوى والصلاح، ولكن الذين كفروا أصروا على القتال، فذكره الله عز وجل بقوله[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، بنور سريرة هدى المؤمنين، وجحود وصدود الذين كفروا، فنزلت الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، فإن قلت لمَ لم تمنع هذه النصرة والمدد الذي لم يشهد له التأريخ مثيلاً خسارة المسلمين يوم معركة أحد .
الجواب هو نزول آية البحث لطفاً من الله لتبين نزول القضاء المقرون باللطف وصيرورة القتل على المسلمين أمراً خفيفاً وسهلاً، فالعناية من الله بالمسلمين سابقة ولاحقة لمعركة أحد.
ومن معاني آية البحث أنها شاهد على قبول عمل المسلمين الذين خرجوا للجهاد، وفيه ذم وتبكيت للذين نافقوا الذين قالوا(لو أطاعونا ما قتلوا) فإن طاعة الله عز وجل ورسوله بالخروج سبب لنزول آية البحث لتخليد ذكرى شهداء أحد، ولإتخاذ المسلمين لها نبراساً وضياء، بينما جاءت آيات القرآن بالوعيد للذين كفروا في حربهم على الإسلام وسعيهم لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ]( ).
لقد أحسن الشهداء الإختيار , بالخروج مع رسول الله، وسلموا أنفسهم لوقائع ومجاري اللقاء مع الذين كفروا، وجعلوا القتل نصب أعينهم، وعشقوا الرحيل إلى عالم الآخرة، ففازوا بلقاء الله عز وجل لهم ببعث الحياة فيهم وتوالي رزقهم حال مفارقتهم الدنيا , وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
ومن منافع آية البحث أنها طهارة وتنقية للقلوب ليأتي المسلم بالعمل الصالح عن إيمان ورضا، ويتحلى بالصبر والزهد ويتصف بحسن التوكل على الله سبحانه .
وستبقى آية البحث مدرسة تنمي ملكة الصبر عند المسلمين، وتذكرهم به وبمنافعه وثوابه , و( عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا غلام ، أو غليم ، أعلمك كلمات ، لعل الله عز وجل أن ينفعك بهن : احفظ الله يكرم ما بك ، تقرب إلى الله عز وجل في الرخاء يعرفك في الشدة .
إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، جف القلم بما هو كائن .
فلو اجتمع الخلائق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك ، أو قال : لم يقدره الله لك ، ما استطاعوا ذلك ، أو قال : ما قدروا على ذلك، ولو اجتمع الخلائق على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك أو قال : لم يقدره عليك ما استطاعوا ذلك ، أو قال : ما قدروا على ذلك ، اعمل لله مع اليقين .
واعلم أن الصبر فيما تكره فيه خير كثير ، واعلم أن النصر عند الصبر، وأن الفرج عند الشدة ، وأن مع العسر يسرا ، وأن مع العسر يسرا)( ).
إفاضات الآية
من خصائص القرآن أن كل حرف منه يفيض بنور الهدى ، وكل كلمة منه صراط رشاد ، ليكون من الإعجاز في الشريعة الإسلامية ، ومنزلة الصلاة فيها وموضوعية التلاوة في الصلاة ، تلاوة كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) وكل كلمة وجملة وآية من القرآن صراط وسبيل هداية ورشاد .
فان قلت جاءت آية البحث بخصوص شهداء معركة أحد فهل فيها هدى وفيض على الأحياء من المسلمين ، الجواب نعم ، وليس من حد أو منتهى لهذا الفيض من جهة الكم والكيف .
لقد رزق الله عز وجل الإنسان الحواس وجعله يفرح ويحزن ويبتهج ويتألم وهو مصداق من مصاديق صيغة الإبتلاء والإمتحان في الحياة الدنيا ، وكل فرد من الفرح والحزن والعافية والمرض ، والألم دعوة للهداية والإيمان ومناسبة للدعاء ،وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ) .
وجاءت آية البحث بأمر مستحدث وهو القتل في سبيله تعالى ، وغزو الحزن والأسى لقلوب المؤمنين والمؤمنات على فقد الأحبة ، وعلى تجرأ وتعدي الذين كفروا ، فتفضل الله عز وجل وخفف عن المؤمنين والمؤمنات بنزول آية البحث وإخبارها عن حياة شهداء معركة أحد عند الله في بحبوحة من العيش .
وتبين آية البحث موعظة للناس وهو أن الرزق لا يختص بالمال والكسب، وأنه لا يترتب في مقداره وماهيته على الجهد والسعي المبذول فحسب إنما هو فضل من عند الله فليس في الآخرة مال وليس في الجنة تعب أو لغب أو مشقة ، ومن أراد الرزق الكريم فهو عند الله ، سواء الرزق المادي أو المعنوي أو الوحي .
وهل رزق الشهداء الذي تذكره آية البحث من عمومات قوله تعالى [وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ] ( ) الجواب نعم ، فذات الشهادة يوم أحد رزق كريم ، وما تفضل الله عز وجل به عليهم من النعم رزق اضافي آخر .
ومن خصائص الإنسان إذا انتقل من دار سكناه إلى دار وبيت آخر أنه لا يبقى في تلك الدار شيئاً تعود ملكيته له ، يأخذ معه كل شئ ، أما عند الإنتقال إلى دار الآخرة فانه لا يستطيع أخذ شئ معه إلا عمله في الدنيا ، فجاءت آية البحث لتخبر بأن الذين قتلوا في سبيل الله إنما أخذوا معهم الشهادة والقتل في سبيل الله عز وجل فكان أعظم عمل بارك الله عز وجل فيه ، قال تعالى [وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ).
والإستبشار أمر جامع من جهات :
الأولى : إمتلاء القلب بالغبطة .
الثانية : تلقي نبأ وأمر مفرح ، فمن الإعجاز في خلق الإنسان أن الفرح والحزن مصاحبان له في أيام حياته من صغره إلى مماته ، ولكنهما من الكلي المشكك في المقدار والحجم والموضوع ، فيفرح الصبي باللعبة الطينية أو المعدنية ويحزن الرضيع عند حجب الحليب عنه ، أما الكبار فيتباين الأمر فيما بينهم ، وجاءت آية السياق لبيان قانون وهو استبشار الشهداء في الآخرة .
الثالثة :انبساط بشرة الوجه وظهور علامات الرضا والغبطة على اساريره .
وخلاف الإستبشار الإشمئزاز ، وإمتلاء القلب بالغيظ والغم والأسى .
الآية بشارة
لقد ذكرت الآية السابقة ما يبثه الذين نافقوا من الشك والريب وصيغ اللوم على الصحابة الذين قتلوا في معركة أحد ، وهو مصيبة أخرى إضافة إلى فقدهم، والأسى الذي لحق عموم المسلمين والمسلمات بالخسارة في المعركة والحرمان من الغنائم كتلك التي جاء بها المسلمون يوم معركة بدر.
وهل ما يبثه المنافقون يومئذ من عمومات الغم الذي ورد في قوله تعالى[فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ…]( ).
الجواب لا ، لأن آية البحث قطعت أراجيف الذين نافقوا ومنعت من ترتب الأثر عليها ، وهذا القطع من الإعجاز الغيري لآية البحث ، وهو مقدمة لتجلي ما فيها من البشارات المتعددة لبيان قانون في القرآن من شعبتين :
الأولى : تهيئة القرآن لمقدمات البشارة الواردة فيه .
الثانية : إزاحة القرآن للحواجز والموانع التي تحول دون النفع التام من الآية القرآنية والبشارات الواردة فيها .
لقد تفضل الله عز وجل وأخبر بأنه يمد وينصر المؤمنين ، قال سبحانه [إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ] ( ) ومصداق عنوان التقوى في معركة أحد شامل لكل من :
الأول : الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ميدان المعركة واصطفوا للقاء العدو ، ليخرج بالتخصيص المنافقون الذين انخزلوا من وسط الطريق .
الثاني : المؤمنون الذين أقعدهم العذر عن الخروج للقتال، قال تعالى[غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
الثالث : المؤمنات في المدينة المنورة ومنهن اللائي خرجن مع الجيش لمداواة الجرحى .
الرابع : المؤمنون من خارج المدينة المنورة .
الخامس : الشهداء الذين استشهدوا يوم معركة بدر .
فجاءت آية البحث لبيان أن الله عز وجل مع المؤمنين جميعاً وذات الإيمان إحسان للنفس والغير ، وهو نصرة لهم ، وهل فيه نصرة للبدريين والشهداء منهم خاصة.
الجواب نعم لتكون ذات البشارة في الآية الكريمة بحياة الشهداء عند الله نصرة من وجوه :
الأول : البشارة بحياة الشهداء نصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : فيها نصرة للمهاجرين والأنصار .
الثالث: في الآية نصرة للشهداء في معركة بدر، والذين قتلوا في مكة تحت التعذيب، ومنهم ياسر وسمية وهما أبوا الصحابي عمار بن ياسر ليكون من معاني قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صبراً آل ياسر) أن آيات القرآن ستنزل بالثناء عليكم وإخبار المسلمين بعظيم المنزلة التي تفوزون بها.
الرابع : في الآية نصرة لشهداء معركة أحد ، لقد كان عددهم كبيراً وهم سبعون فأجتهد الذين نافقوا في لومهم وتوجيه العتاب إليهم لأنهم خرجوا مع النبي لمعركة الإيمان والدفاع ، وكأنهم يقولون أنهم قتلوا أنفسهم بأيديهم.
فجاءت آية البحث بالإخبار بأنهم قتلوا في سبيل الله وأن أقسى الظلم وقع عليهم، قال تعالى[فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ]( ).
فتفضل الله سبحانه بآية البحث لبيان قانون وهو أن الله عز وجل أنزل القرآن ليمنع المنافقين من إضلال الناس .
لقد أخبرت آية البحث عن سلامة إختيار الشهداء وحسن فعلهم وفوزهم بما لم تنله طائفة أو أمة من الأمم بالحياة عند الله عز وجل مما يجعل الذين آمنوا يستحضرون في الوجود الذهني رياض الجنة لأن أصحابهم يرتعون فيها ويتفيأون بضلالها .
لقد اشتاق الشهداء لإخبار المسلمين الأحياء بمنزلتهم وكرامتهم عند الله سبحانه .
وفي مرسلة (محمد بن قيس بن مخرمة قال: قالوا: يا رب، ألا رسول لنا يخبر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عنا بما أعطيتنا؟ فقال الله تبارك وتعالى: أنا رسولكم، فأمر جبريل عليه السلام أن يأتي بهذه الآية :”ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله”، الآيتين)( ).
(عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين قتلوا يوم أحد ، فأنزل الله { ولا تحسبن الذين قتلوا .) ( ).
ومحمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب ( ذكره بن أبي داود والباوردي في الصحابة وجزم البغوي وابن منده وغيرهما بأن حديثه مرسل)( ).
والمختار أنه تابعي لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحديثه مرسل .
ومن خصائص الإنسان رغبته بمعرفة ذويه ومحبيه ما طرأت عليه من النعمة والجاه، قال تعالى[وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ]( ).
وهل كان تمني الشهداء لمعرفة أصحابهم بحياتهم عند الله رغبة محضة، الجواب لا ، إنما أرادوا وجوهاً :
الأول : لزوم تعاهد المهاجرين والأنصار نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : زيادة إيمان المسلمين .
الثالث : عدم إصغاء المسلمين للذين نافقوا .
الرابع : بيان علم مستحدث وهو الرد من أهل الآخرة على الذين نافقوا بحيث يصل الرد إليهم، ويعلم به الناس من بين ثنايا آيات القرآن .
الخامس : بذل الصحابة الوسع في الجهاد ، وعدم الخشية من القتل في سبيل الله أوان الموت وما ورائه .
السادس : البشارة لسبق الأصحاب الشهداء إلى الآخرة ، وإنتفاء الوحشة عمن يلحق بهم، لذا ورد في الآية التالية قوله تعالى [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ]( ).
السابع : دعوة المنافقين للتوبة والإنابة والكف عن بث الأراجيف في المدينة .
الثامن : معرفة الناس جميعاً بحال الشهداء بواسطة أصحابهم ، وتنمية ملكة الإيمان عندهم ، وصيرورة قتل شهداء أحد مناسبة لدخول الناس الإسلام .
وكما اشتاق شهداء أحد لمعرفة إخوانهم وأصحابهم بحال العز والكرامة التي يتنعمون بها فان أصحابهم من المهاجرين والأنصار ودوا معرفة حالهم بعد قتلهم .
(عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا : يا ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين قتلوا يوم أحد ، فأنزل الله { ولا تحسبن الذين قتلوا .) ( ).
لبيان فضل الله عز وجل على المهاجرين والأنصار بنزول آية البحث سواء من خرج منهم لمعركة أحد أو الذين تخلفوا في المدينة من غير المنافقين، وليكون من معاني الخبر أعلاه أن الناس في المدينة كانوا بعد معركة أحد أقسام :
الأول : المهاجرون والأنصار الذين اشتاقوا لمعرفة مقام الشهداء عند الله ، وفيه شاهد على إيمانهم وتسليمهم باكرام الله للشهداء .
الثاني : المنافقون الذين قعدوا عن المعركة وصاروا يبثون الأراجيف في المدينة
الثالث : الذين يسمعون ما يقال عن سير معركة أحد وحال الشهداء .
وجاء القرآن ليكون هو الفيصل الذي ينصت له الناس ، فتفضل الله عز وجل بآية البحث ، ومن الإعجاز فيها صيغة البيان والوضوح وعدم الترديد كما أنها تغلق الباب أمام المنافقين في سوء تأويلهم وتمنع من التأويل خلاف النص ، والذي يصدر عن إجتهاد وإبتعاد عن الظاهر .
ومن خصائص الحقيقة أنها بسيطة غير مركبة ، فجاءت آية البحث لتحقيق أماني المهاجرين والأنصار والمؤمنين إلى يوم القيامة , وزجر وتوبيخ المنافقين وإخبار الناس جميعاً عن النعمة العظمى التي فاز بها الشهداء .
الآية إنذار
ورد النص والإخبار في آية البحث عن القتل في سبيل الله ، والقتل بذاته أمر مكروه وتنفر منه النفوس ، حتى الذي يقتل عصبية أو ثأراً أو ظلماً وعدواناً تراه يندم على فعله إن لم يكن في ساعة الحادثة ففيما بعد ، ويكره طرو الأمر على ذهنه ، ولكن صورة المقتول وكيفية القتل لا تغادره أبداً على نحو القهر والإنطباق ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا..]( ).
المختار أنه مقدمة لمضامين الآية أعلاه وسلطان ولي المقتول ، ونفرة الناس من القتل من وجوه التشابه والإرتقاء بينهم وبين الملائكة ليكون مما احتجت الملائكة على خلافة آدم في الأرض حدوث القتل بين الناس بقوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ) لبيان قانون وهو مما قصده الملائكة باحتجاجهم قتل مشركي قريش لطائفة من المهاجرين والأنصار يوم أحد .
ومن الآيات في ذات الإنطباق بين قول الملائكة ومصداقه يوم أحد جمع مشركي قريش بين الفساد في الأرض وبين قتلهم الصحابة وما لهم من المنزلة عند الله بلحاظ أنهم أول طبقة من الناس آمنت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليأتي بعدهم التابعون وقد صار العمل بأحكام الشريعة في بحبوبة من العيش ، وأمن من الذين كفروا بعد فتح مكة ومعركة حنين والطائف وغزوة تبوك ، وهذا الإيجاد من الشواهد على إحتجاج الله على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
فمن علم الله عز وجل تلقي التابعين الأحكام بأمن من الذين كفروا ، وهل يصح تأويل قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ) أن الأمن والسلامة التي فاز بها الصحابة بعد الفتح والتابعون إنما هي منّ من الله عز وجل عليهم وعلى شهداء معركة بدر وأحد بلحاظ أن هؤلاء الشهداء مستضعفون.
الجواب نعم، وتلك آية في فضل الله عز وجل على اللاحق بسبب ما لاقاه السابق من المؤمنين .
ليكون من معاني قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) إنذار الذين كفروا من قريش وغيرهم من حين خلق آدم وتحذيرهم من قتل الشهداء يوم أحد ووعيد الله عز وجل لهم، وهل تختص مصاديق الوعيد وتنجزه بعالم الآخرة كما في دخول قتلة الصحابة يومئذ النار.
الجواب لا، إنما يشمل الحياة الدنيا ، ومنها آية البحث التي تدل في مفهومها على الوعد الكريم للمؤمنين والوعيد للذين كفروا ، وهناك مسألتان :
المسألة الأولى : ما هي وجوه الفساد بالنسبة للذين كفروا في معركة أحد والتي ذكرها الملائكة إجمالاً بقوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] ( ) .
المسألة الثانية : ما هي مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) بخصوص معركة أحد .
أما المسألة الأولى فيتبين فساد الذين كفروا بخصوص معركة أحد من وجوه :
الأول : عبادة الذين كفروا من قريش للأوثان، والتقرب بها إلى الله زلفى .
الثاني : إصرار الذين كفروا على الجحود برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصدود عن المعجزات التي جاء بها .
الثالث : إيذاء الكفار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت في مكة والحاحهم عليه بالترغيب والترهيب بترك الدعوة إلى الله ، وقبل أن يتفق كبار رجالات قريش على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه يوم كان في مكة جاءوا إلى أبي طالب وسألوه أن يطلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يترك الدعوة ، وغاب عنهم أن هذه الدعوة فرع النبوة والرسالة التي هي عهد خاص من عند الله عز وجل إنفرد به النبي من بين أجيال الناس المتعاقبة من أيام أبينا آدم وإلى يوم القيامة قال تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ) .
فإن قلت هذه الآية مدينة والحادثة أعلاه مكية (و حكى أبو محمد مكي و أبو الليث السمر قندي و غيرهما أن آدم عند معصيته قال : [ اللهم بحق محمد اغفر لي خطيئتي ]
و يروى : تقبل توبتي فقال له الله : [ من أين عرفت محمدا ؟ فقال : رأيت في كل موضع من الجنة مكتوبا : لا إله إلا الله محمد رسول الله ]
و يروى : محمد عبدي و رسولي فعلمت أنه اكرم خلقك عليك فتاب الله عليه و غفر له
و هذا عند قائله تأويل قوله تعالى : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه }
و في رواية الأجري قال : فقال آدم لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب : لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدرا عندك ممن جعلت اسمه مع اسمك فأوحى الله إليه : وعزتي وجلالي إنه لآخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك
قال : و كان آدم يكنى بأبي محمد و قيل بأبي البشر
وروي عن سريج بن يونس أنه قال : إن لله ملائكة سياحين عيادتها كل دار فيها أحمد أو محمد إكراما منهم لمحمد صلى الله عليه وسلم
وروى ابن قانع القاضي عن أبي الحمراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لما أسري بي إلى السماء إذا على العرش مكتوب : لا إله إلا الله محمد رسول الله أيدته بعلي])( ).
الرابع : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار موعظة ولا تنحصر الموعظة فيها بالمؤمنين من الناس ، وليس من ملازمة بين الإيمان والموعظة ، إنما تكون الموعظة بتسخير الإنسان عقله للتدبر في الأمور وإتخاذ ما يجري عليه وعلى غيره درساً وضياء.
لذا ورد قوله تعالى[فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ]( ) نعم ينتفع المؤمن أكثر من غيره من الحوادث والوقائع، وهو من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) وعلة تلاوة كل مسلم ومسلمة له عدة مرات في اليوم الواحد لما فيه من رشحات حاضرة تتجلى بالإتعاظ من الوقائع ، فجاءت آية البحث للوعد الكريم للمؤمنين والإنذار للذين كفروا .
ومع عموم الموعظة في الحياة الدنيا فان الذين كفروا لم يتعظوا من قصص الماضي وهلاك الذين كذبوا بالتنزيل خصوصاً وأن رجال قريش يجتمعون في دار الندوة المجاورة للكعبة والتي بناها قصي بن كلاب جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيتدارسون فيها الأخبار ، ويدركوا الأشعار والتي تحكي أكثرها الوقائع والمعارك بين القبائل والطوائف ويعاني الفخر والهجاء .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكر جده قصي في بعض خطبه، وعن أنس قال: خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار .
وما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرهما ، فأخرجت من بين أبوي فلم يصبني شيء من عهد الجاهلية ، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم ، حتى انتهيت إلى أبي وأمي ، فأنا خيركم نفساً وخيركم أباً .
وأخرج ابن سعد والبخاري والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرنا ، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه)( ).
ومن وجوه فساد كفار قريش عدم إنتفاعهم من دروس البلاء الذين نزل بالذين كذبوا الرسل ، قال تعالى [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] ( ) .
الخامس : من فساد كفار قريش إصرارهم على القتال يوم بدر ، وعدم إتعاظهم من خسارتهم الجسيمة يومئذ والتي كانت من وجوه :
أولاً : كثرة قتلى المشركين ، إذ فقدوا سبعين منهم ، وفي معركة أحد قتل منهم اثنان وعشرون وقيل أقل من هذا العدد ، ومع هذا نزل قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) مما يدل من باب الأولوية القطعية على أن خسارة قريش يومئذ كانت قطع طرف لهم ، وما هو أشد من قطع الطرف .
ثانياً : سرعة إنتهاء معركة بدر بهزيمة الذين كفروا ، وهذه السرعة من مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) فالأذلة والضعفاء وقليلوا العدد والعدة لا ينتصرون على عدوهم الذي هو أكثر منهم عدداً وعدة إلا بمشيئة وإذن من الله.
وحتى لو انتصروا فإنما يكون إنتصارهم ودحرهم لعدوهم بمشقة مواجهة وكثرة مسايفة ، ولكن الله عز وجل نصر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم بدر بالمعجزة، قال تعالى[كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
ثالثاً : وقوع سبعين رجلاً من قريش في الأسر بأيدي المسلمين ، ودخولهم المدينة المنورة كأسرى وشاهد على بلوغ الإسلام مرتبة المنعة والعز .
رابعاً : ترك قريش مؤنهم خلفهم في ميدان معركة بدر، لأن المنهزم لا يفكر إلا بنفسه ، ويحتاج إلى خفة الحمل على فرسه أو ناقته كيلا يدركه الخصم ، ترى هل حملوا معهم أوزاراً ومؤناً ضرؤرية لهم في الطريق بين ميدان معركة بدر ومكة المكرمة والتي تبلغ نحو ( 310 ) كم .
الأقرب نعم , نعم من عادة المنهزم تخفيف الأثقال والأزواد التي عنده ليسهل عليه الفرار, وهو من مصاديق ذم الذين كفروا في قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
السادس : من فساد قريش في معركة أحد حشد الجيوش وجمع المقاتلين لمدة سنة كاملة قبل معركة أحد وإنفاق الأموال عليهم ، وترغيبهم ووعدهم ببذل المزيد والموافقة على شروط القبائل والأشخاص في خروجهم لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما حمّل قريشاً أعباء مالية كبيرة ، وقاموا بتسخير الأموال التي كسبوها لسنوات متعاقبة في تجارتهم إلى الشام واليمن كما في قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) بلحاظ أن الفساد في المعركة أعم من أن ينحصر بها فيشمل المقدمات التي لجأ إليها الذين كفروا .
وأما المسألة الثانية فمن مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة يوم معركة أحد وجوه :
الأول : يعلم الله عز وجل سوء عاقبة إفساد المشركين .
الثاني : معركة أحد استدراج من الله عز وجل للذين كفروا من قريش، قال تعالى[وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الثالث : لقد أصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمغادرة ومفارقة طائفة من خيرة أصحابه ذات الصحبة والحياة الدنيا , وهم سبعون شهيداً يوم معركة أحد ، وهو أمر يحزن المسلمين والملائكة، ولكن الله عز وجل أنعم على الشهداء بالحياة الأبدية عنده من حين قتلهم في سبيل الله ، ليكون من معاني ووجوه تقدير الآية أعلاه من سورة البقرة : أني أعلم ما لا تعلمون من إدخال البهجة إلى نفوسكم بحسن ثواب الذين قتلوا في سبيلي .
الرابع : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم معركة أحد وإنتقامهم وبطشهم بقتلة الشهداء من المسلمين في معركة أحد، وبعضهم جاءه الأجل في الطريق إلى مكة وعند العودة إلى أهله وماله.
وفي معركة أحد قام ابن قمئة الليثي واسمه عبد الله بشج وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكسر رباعيته برميه المتعدد له بالحجارة وكان يقول : خذها وأنا ابن قمئة .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أقماك الله .
ورجع ابن قمئة إلى جيش المشركين وهو يقول (قتلت محمداً)( ).
ولما انسحب جيش المشركين من معركة أحد ذهب ابن قمئة إلى أهله فخرج إلى غنمه فرآها على ذروة جبل فقام يعترض فيها فشد عليه تيسها لأنه استوحش منه بسبب عدم رؤيته مدة الذهاب إلى معركة أحد والرجوع منها والذي استغرق أكثر من شهر فنطحه فارداه قتيلاً من شاهد فتقطع .
الخامس : معركة أحد حرب على الفساد ، وباب للثواب للمؤمنين .
السادس : تخليد معركة أحد بآيات من القرآن .
السابع : إتعاظ المسلمين من معركة أحد ، وإقتباس الدروس منها ، وليس من حصر لهذا الدروس ، وهو من مصاديق [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثامن : عجز المشركين بعد معركة أحد على مبارزة وقتال المسلمين.
التاسع : بعث الخوف والفزع في قلوب المشركين.
العاشر : زيادة إيمان المسلمين.
الحادي عشر : دخول طائفة من الناس الإسلام لما في معركة أحد وسلامة المسلمين من الهزيمة فيها من الدلائل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي المقام إعجاز وهو أن عدم إحصاء النعم بخصوص معركة أحد على جهات مجتمعة ومتفرقة منها :
الأولى : مجئ معركة أحد بعد النصر المبين للمسلمين في معركة بدر .
الثانية : تأخر معركة أحد على معركة بدر نحو ثلاثة عشر شهراً ليتوالى فيها نزول آيات القرآن , ويتفقه المسلمون في أحكام الشريعة , ويتقنون أداء الصلاة والفرائض الأخرى .
ومن الإعجاز في المقام أن فريضة الصلاة نزلت في مكة ، ولكن فريضة الصيام والزكاة نزلت في السنة الثانية من الهجرة أي قبل واقعة أحد لبيان مصداق لقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) بلحاظ أن المسلمين يجمعون بين أداء الفرائض العبادية وقتال العدو، وتحمل أذى المنافقين، وخصومة الفاسقين في آن واحد ، وعلى نحو مستحدث ، ومن غير ملل أو كلل .
الثالثة : حياة الشهداء يومئذ عند الله عز وجل فما أن رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة من معركة أحد إلا وقد كان الشهداء في أبهى وأحسن حال عند الله عز وجل.
لبيان قانون وهو أن نعم الله توليدية وأن الناس لا يستطيعون إحصاء ما يترشح من النعمة الإلهية الواحدة من النعم الفرعية وذات النعم الفرعية هذه أصل لنعم كثيرة متجددة.
الرابعة : فضح الذين نافقوا مع بيان قبيح فعلهم.
لقد تفضل الله عز وجل وذكر في القرآن ما يقولونه بخصوص الشهداء ليكون حجة عليهم إلى يوم القيامة، ولتعلم أجيال المسلمين ما لاقاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه من الأذى من الذين يدّعون الإيمان في الظاهر مع إصرارهم على الكفر والجحود في الباطن، ومع هذا لم يعاقبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يأمر بعزلهم ومقاطعتهم وحصارهم .
فقد كانت تأتي الآية القرآنية لتتضمن توبيخهم من السماء ولتكون إنذاراً يومياً متجدداً لهم ولغيرهم من الناس، بتلاوة المسلمين لآيات القرآن في صلاتهم اليومية، وإنصات أو تلاوة ذات المنافق لها .
وهل للإنذار القرآني منافع آنية عاجلة الجواب نعم، وهو من إعجاز القرآن بأن تترشح المنافع عن الآية القرآنية حال نزولها ثم تستمر وتتوالى إلى يوم القيامة، ولتكون في الآخرة أعظم وأكبر.
وكأن آية البحث تخاطب الذين نافقوا من جهات:
الأولى : لا تشمتوا بالشهداء.
الثانية : لقد فاز الشهداء في الآخرة بينما يلقى المنافق والمنافقة العذاب الأليم، قال تعالى[لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( ).
وهل في خاتمة الآية أعلاه دعوة للمنافقين للتوبة والإنابة , الجواب نعم، فمن خصائص الإنذار القرآني أنه يتضمن في ثناياه الندب إلى التوبة والدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
و( عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن إبليس لما رأى آدم أجوف قال: وعزتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح. فقال الله تبارك وتعالى: وعزتي لا أحول بينه وبين التوبة ما دام الروح فيه)( ).
الثالثة : شهادة الله للمهاجرين والأنصار الذين قتلوا في معركة بدر وأحد بأنهم قتلوا في سبيله ومن أجل دين التوحيد.
الرابعة : صيرورة آية البحث واقية للمسلمين والمسلمات من الإنصات للذين نافقوا، وهذه الواقية على وجوه:
الأول : إنها إنذار إضافي آخر للذين نافقوا يترشح بالتلاوة.
الثاني : آية البحث مناسبة للموعظة.
الثالث : آية البحث زاجر للناس من الإنصات لهم.
الآية موعظة
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا (دار الموعظة) تأتي فيها المواعظ على أقسام :
الأول : الموعظة المتحدة .
الثاني : الموعظة المتعددة مع إتحاد المحل والموضوع .
الثالث : المواعظ المتعددة في الموضوع والحكم مع إتحاد فرد الزمان ، ويمكن تقسيم الموعظة بلحاظ الناس إلى أقسام :
الأول : الموعظة التي تأتي للفرد الواحد من الناس .
الثاني : الموعظة التي تأتي للجماعة .
الثالث : ما يأتي للأمة من المواعظ .
الرابع : الموعظة القرآنية الجامعة التي تأتي للناس جميعاً ، وليس من موعظة في حياة الناس مثل القرآن ، وهو من أسرار سلامته من التحريض والزيادة والنقصان، قال تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه جمع القرآن لصفات إعجازية متعددة منها:
الأول : البيان ، ولو دار الأمر في بيان القرآن بين الإطلاق وبين تقييده، فالأصل هو الإطلاق مما يدل على إحاطة كلماته المحدودة اللامتناهي من الوقائع والأحداث.
ورد تفسير هذا البيان بقوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الثاني : الهداية إلى الإيمان وسبل الصلاح، وهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مصاديق الهدى في الآية أعلاه، الجواب نعم، ويكون على وجوه:
أولاً : الهدى إلى الأمر بالمعروف.
ثانياً : الهدى للإعانة والدعوة إلى الأمر بالمعروف.
ثالثاً : الإيمان بأن الأمر بالمعروف واجب، فهو منهاج الأنبياء.
رابعاً : الإهتداء إلى معرفة سبل ومصاديق الأمر بالمعروف، والتمييز بينها وبين غيرها، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
خامساً : الهداية إلى تلقي الأمر بالمعروف بالقبول والرضا , وتلك مرتبة سامية بأن لا تأخذ الإنسان العزة في الإثم ولا يستكبر عن قبول النصيحة وأسباب الهداية ولو من الأدنى .
وقد أختلف في شرط العلو في الأمر , وعرّف الأمر بأنه طلب الفعل على سبيل الإستعلاء أو العلو، ولا دليل على إطلاق هذ المعنى في باب الأمر بالمعروف , فقد يأتي من الأدنى والابن , ويتقبله الأعلى والأب , وهو من أسمى مصاديق الأمر، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
إذ يتوجه الخطاب في الآية أعلاه إلى كل المسلمين رجالاً ونساءً لتتصدى طائفة منهم للقيام بواجب الأمر والنهي من غير تقييد بأن هذه الطائفة من علية القوم، ومن السادات وذوي الشأن والسلطان، وقد يقوم الابن بأمر أبيه أو أمه بالمعروف ونهيهما عن المنكر مع التقييد بآداب البنوة وبر الوالدين، ومنه الآيات الخاصة بإبراهيم وأبيه آزر، ومنه قوله تعالى[وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا]( ).
ومع صيغة الإطلاق في البيان فان الآية تتضمن صيغة العموم لقوله تعالى[بَيَانٌ لِلنَّاسِ] وبين الناس والمسلمين عموم وخصوص مطلق ، إذ تشمل لفظ الناس كل من :
أولاً : المسلمون والمسلمات .
ثانياً : أهل الكتاب من اليهود والنصارى .
ثالثاً : الكفار الذين إتخذوا الأوثان[أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ]( ).
فان قلت أين المنافقون الذين جاءت الآيتان السابقتان بذمهم وفضح قبيح فعلهم , الجواب نعم يدخلون في عموم المسلمين لنطقهم ظاهراً بالشهادتين ، وبينما جرت المعارك بين المسلمين والذين كفروا، فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتل المنافقين، كما أنهم لم يكونوا طائفة تجتمع على أمر ظاهر ، وحتى على فرض صيرورتهم طائفة فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يقاتلهم لنطقهم بالشهادتين، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ، ونفسه ، إلا بحقه ، وحسابه على الله) ( ).
وهل آية البحث من البيان , الجواب نعم ، إذ تتضمن كشفاً لعلوم من الغيب لا يعلمها إلا لله عز وجل .
وبلحاظ قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ) يكون من معاني آية البحث دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لبيان حال الشهداء عند الله للناس جميعاً ، ومن الإعجاز أن القرآن يتضمن البيان العام للناس ، ومنهم من يعتبر ويهتدي ويؤمن بالحق ، ومنهم من يصر على الكفر والنفاق فيأتيه البلاء أو العذاب من عند الله ، قال تعالى [فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( )، وفي تفسير قوله تعالى[هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ]( ) (قال الشعبي : المعنى ، هذا بيان للناس من العمى)( ) .
وهذا صحيح ولكن المعنى أعم ، والمقدم في المقام هو أن ذات القرآن بيان من غير تقييد أوتعليق على موضوع مخصوص كالعمى .
الآية رحمة
تتجلى رحمة الله في كل آية قرآنية للناس جميعاً من غير وسائط للتدبر فهي من الأوليات والبديهيات التي يتلقاها المسلم بالتصديق بها لذاتها من غير سبب خارج عنها.
وتفيد القضية اليقينية الإعتقاد الموافق للواقع من غير لبس أو وجود ترديد أو نقض كما أن الطريق إليه سالم من الجهل والظن والتقليد، وفي التنزيل[قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي]( ).
وتنقسم القضية اليقينية إلى قسمين :
الأول : القضية البديهية .
الثاني : القضية النظرية الكسبية ، وتتقوم البديهيات باليقينيات وهي الأصل ، وتكون على أقسام تتصف بالإستقراء وهي :
الأول : الأوليات .
الثاني : المشاهدات .
الثالث : التجريبات .
الرابع : المتواترات .
الخامس : الحسيات.
السادس : الفطريات .
وإذا قلنا النهار والليل متناقضان لا يجتمعان فانه أمر جلي وواضح عند الناس جميعاً , ومحفور في الوجود الذهني عند كل واحد منهم، ليكون هذا القول تصديقاً للواقع وعليه شاهد من ذات الإنسان ، وكذا بالنسبة للرحمة في الآية القرآنية ، فان من دلالاتها وغاياتها الحميدة ما هو موجود في الفطرة الإنسانية ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ..] ( ) ونزلت آية البحث لتكون رحمة من جهات :
الأولى : الرحمة بالذين قتلوا في سبيل الله بالإخبار عن عظيم منزلتهم عند الله سبحانه.
الثانية : بعث السكينة في قلوب عوائل الشهداء للثواب العاجل والدائم الذي فازوا به .
الثالثة : الرحمة بذات المنافقين لكشف زيف إدعائهم ولحثهم على التوبة والإنابة .
الرابعة : إخبار آية البحث عن حياة شهداء أحد في النعيم المقيم والبهجة السرمدية ، وتتصف رحمة الله في الآية القرآنية بأمور :
الأول : انها جامعة لكل ضروب الخير وأسباب صرف البلاء .
الثاني : أنها مانعة من الشرور والأذى .
الثالث : ذات الآية القرآنية رحمة في نزولها وتلاوتها ومضامينها .
الرابع : رحمة الله في الآية القرآنية طريق إلى الإقامة في النعيم .
لقد هاجر المسلمون الأوائل من مكة إلى المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وأظهر الأنصار الإيمان الصادق والتأييد والنصرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رجاء رحمة الله عز وجل لقوله تعالى [ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) فخرت طائفة منهم قتلى في معركة أحد.
ويحتمل وجوهاً :
الأول : هذا القتل من رحمة الله التي يرجوها الشهداء .
الثاني : إنه مقدمة لرحمة الله لأنها الطريق الآمن والسريع للخلد في النعيم .
الثالث : القتل أمر مبغوض بذاته ، وسقوط الشهداء في معركة أحد أمر سعى إليه الذين كفروا فهو خارج عن مقاصد الرحمة التي أرادها الصحابة.
والصحيح هو الأول والثاني من غير أن يتعارض معها الوجه الثالث أعلاه بلحاظ أن هذا القتل رحمة بالمؤمنين , وسبيل لنزول العذاب بالذين كفروا.
ومن الآيات في المقام تفضل الله بتعجيل النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يسّر لهم فتح مكة ، مع طي السنين.
وهل من الرحمة بالمسلمين بسبب شهداء أحد وقوع صلح الحديبية ، الجواب نعم ، ومنه خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وألف وأربعمائة من أصحابه يومئذ إلى مكة بقصد العمرة وليس معهم أسلحة إلا سلاح الراكب .
ولقد كان كفار قريش يغزون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة لقاعدة متعارفة وهي أن غزو العدو في عقر داره تحد له وطريق لنيل ما يريد منه ولو على نحو جزئي .
ولم يعلم كفار قريش أن هذه القاعدة إنخرمت برسالة الإسلام، وعند بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن الله أراد نصره وأذن للملائكة بالنزول للقتال معه، والذب عن أصحابه، قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ) وأتخذ المؤمنون سقوط الشهداء في معركة أحد سبيلاً للدفاع والعزم على الجهاد ، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة لأداء العمرة بعد أن اشتاقت نفوسهم للبيت الحرام .
واستنفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأعراب حول المدينة فتخاذل أكثرهم عنه وخافوا من سخط وبطش قريش ، وخشوا شأنهم ، وقالوا : كيف نذهب إلى قوم جاءوا لغزوه في المدينة , وقتلوا سبعين من أصحابه.
لتتجلى بعض مقاصد كفار قريش من هجومهم في معركة بدر وأحد بصد الناس عن دخول الإسلام , وعن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي التنزيل[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
م/ اسم الأنبار عربي
الحمد لله الذي أنعم علينا بصدور الجزء الحادي والخمسين بعد المائة من تفسيرنا للقرآن في آية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً , وجميع أجزائه معروضة على موقعنا WWW.MARJAIAA.COM
ويتسالم أهل اللغة ورجال التأريخ على حقيقة وهي أن اسم الأنبار عربي، قال ابن دريد (النبر: ارتفاع الشيء عن الأرض؛ يقال: نَبَرْتُه أنبره نَبْراً، أي رفعته. ومنه اشتقاق المِنْبر. وسُمِّي الهمز في الكلام نَبْراً لعلوّه على سائر الكلام.
فأما الأنبار من الطعام ففارسي معرب، وإن كان لفظه دانياً من لفظ النبر)( )، أي أنه يميل لكون أصل تسمية هذا النوع من الطعام عربية أيضاً.
واللفظ الفارسي المعرب هو خاص بنوع من أنواع الطعام والفدية من الحنطة أو الشعير والتمر والجمع: أنابير أي الأهراء، جمع هري وهو المخزن والمستودع الضخم لطعام السلطان، وكأنه مأخوذ من العربية.
وجاء اسمه موافقاً لاسم الموضع والبلدة المعروفة الأنبار.
وكما يرد الأنبار بمعنى العلو، فأنه يرد اسماً ل (ضرب من الذّباب يلسع الإبل فينتبر موضعُ لسعه، والجمع الأنبار. قال الراجز:
كأنَّها من بدن واستِيفار … جَرَّتْ عليها دارجاتُ الأنبارْ)( ).
ولعل تسميته من وجوده في الأنبار، وعندما فتحت القادسية (نزل المسلمون الأنبارَ فآذاهم البَقُّ فخرج سعد فارتاد لهم موضع الكوفة وقال: تكوّفوا في هذا الموضع، أي اجتمِعوا فيه)( ) .
والأنبار بيت التاجر الذي يجمع فيه المتاع والغلال، قال الفيروز آبادي: والأَنْبارُ بَيْتُ التاجِرِ يُنَضِّدُ فيه المتَاعَ، الواحِدُ نِبْرٌ، بالكسر، ود بالعِراق قَديمٌ، وأكْداسُ الطَّعامِ، ومواضِعُ بَيْنَ البَرِّ والرِّيف، وأنبار بِبَلْخَ، منها محمدُ بنُ عليٍّ الأَنْبارِيُّ المحدِّثُ. وسِكَّةُ الأَنْبارِ بِمَرْوَ، منها محمدُ بنُ الحُسْينِ بنِ عَبْدَوَيْهِ الأَنْبارِيُّ، ووَهِمَ جَماعَةٌ، فَنَسَبوهُ إلى البَلَدِ القَديمِ.
وانْتَبَرَ تَنَفَّطَ، الخَطيبُ ارْتَقَى. وأنْبَرَ الأَنْبارَ بَناهُ. وقَصائدُ مَنْبورةٌ ومُنَبَّرَةٌ، كمُعَظَّمَةٍ مَهْموزَةٌ) ( ).
أي أن علماء اللغة متسالمون على أن لفظ الأنبار عربي ومدينة الأنبار القديمة تقع ضمن أراضي الصقلاوية ولم يكن اسمها بالفارسية الأنبار إنما كانت تسمى(فيروز شابور) ومعناه شابور المنتصر.
أما مدينة الأنبار مركز محافظة الأنبار فقد نزل بها أبو العباس السفاح أول الخلفاء العباسيين وبناها وبقي بها إلى أن توفى واستخلف المنصور فيها واستتم بناءها ثم تحول عنها بعد أن بنى مدينة بغداد وسمّاها مدينة السلام وكلام ابن منظور حجة لغوية في المقام إذ قال: ليس في الكلام اسم مُفْردٌ على مثال الجمعِ غيرُ الأَنبارِ والأَبْواءِ والأَبْلاءِ وإِن جاء فإِنما يجيءُ في اسماءِ المواضع لأَن شَوَاذَّها كثيرةٌ وما سوى هذه فإِنما يأْتي جمعاً أَو صفةً كقولهم قِدْرٌ أَعْشارٌ وثوبٌ أَخلاقٌ واسمالٌ وسراويلُ اسماطٌ ونحو ذلك، والأَنبارُ مواضِعُ معروفةٌ بين الرِّيفِ والبَرِّ وفي الصحاح وأَنْبار اسم بَلَدٍ) ( ) وورد قريباً منه في تاج العروس .
وفي علم الكلام أختلف هل الاسم هو عين المسمى أم أن الاسم غير المسمى، والمختار هو الثاني
ومدينة الأنبار عربية في بنائها، واسمها وأن توافق هذا الاسم مع اسم للطعام بالفارسية، فالتوافق بين الألسنة في الألفاظ كثير.
ومن المفاخر التأريخية والشواهد على عربية الأنبار اسماً ومسمى أن أهل مكة أخذوا الخط والكتابة العربية من أهل الأنبار أثناء أسفار بعض من رجالات قريش إلى العراق، لتكون لأهل الأنبار موضوعية في مقدمات تدوين وكتابة آيات القرآن في بدايات التنزيل .
واختلف في الجهة التي أخذ منها أهل الأنبار الكتابة مع إتحاد المصدر :
الأول : تعلم أهل الأنبار الخط من جماعة من عرب قبيلة طي، وهؤلاء أخذوا الخط من كاتب الوحي لنبي الله هود عليه السلام.
الثاني : أخذ أهل مكة الخط والكتابة من أهل الأنبار، وأخذه أهل الأنبار من أهل الحيرة .
الثالث : أول من وضع الخط العربي ثلاثة رجال من قبيلة طي كانوا يسكنون الأنبار وهو مرامر بن مرة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة، وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية، كما أِشير إلى موضوعية أن الخط المصري في وضع الخط العربي.
الرابع : عن زياد بن أنعم قال: قلت لعبد الله بن عباس: يا معشر قريش أخبروني عن هذا الكتاب العربي، هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟.
قال: نعم. قلت: وممن أخذتموه؟ قال: من حرب بن أمية، قلت: وممن أخذه حرب بن أمية؟ قال: من عبد الله بن جدعان، قلت: وممن أخذه عبد الله بن جدعان؟
قال: من أهل الأنبار؟ قلت: وممن أخذه أهل الأنبار؟ قال: من طارئ طرأ عليهم من أهل اليمن، من كندة، قلت: وممن أخذه ذلك الطارئ؟ قال: من الخلجان بن الوهم كاتب الوحي لهود النبي عليه السلام، وهو الذي يقول:
أفي كل عام سنة تحدثونها … ورأي على غير الطريق يغير
وللموت خير من حياة تسبنا … بها جرهم فيمن تسب وحمير) ( ).
الخامس : روي عن سهل أن أول من كتب بالعربية مرامر بن مرة من أهل الأنبار، ومن الأنبار إنتشرت بين الناس.
لقد ورد اسم الأنبار على لسان الصحابة, وفي أخبار نهج البلاغة من غير حرج أو رغبة لتبديله.