المقدمة
الحمد لله الذي خلق آدم من تراب وأهبطه وزوجه ليسكنا الأرض ويقوما وذريتهما بعمارتها بالعبادة وسنن التقوى , وفي التنزيل[هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ]( ).
الحمد لله الذي جعل الناس جميعاً وفي كل زمان يدركون أنهم أبناء رجل واحد، وفيه دعوة لهم للألفة والمودة ونبذ الفرقة والخلاف والشقاق والإقتتال فيما بينهم ، الحمد لله الذي جعل في الأرض خزائن تكفي لأرزاق الناس كلهم وما يصلح معايشهم من الأنهار والثمار مختلفة الطعم والمذاق واللون والصورة ، قال تعالى[وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا]( ).
وهل ما بقي في الأرض من الذخائر والخزائن أكثر أو أقل مما ظهر أستخرج منها واستهلكته الأجيال المتعاقبة من الناس , الجواب هو الأول، ولكن مع تقادم الزمان وإجتهاد الناس في إستخراج هذه الذخائر وإستعمالهم الوسائل التقنية الحديثة لمضاعفة هذا الإستخراج مئات الأضعاف عما كان في الأجيال السابقة , وفيه وجوه :
الأول : يبقى ذات القانون وهو أن المدخر في الأرض في كل زمان أكثر مما أخرج منها في جميع الأزمنة السالفة.
الثاني : لابد من فيصل زماني معين يكون ما إستخرج قبله أكثر مما بقي فيها، كي يعتمد الإنسان التدبير والإنتفاع من وسائل صناعية أخرى.
الثالث : إنقطاع أقوات وخزائن الأرض كلها عندما ينفخ في الصور للدلالة على عدم وجود أرزاق للناس في الأرض لتطوى الأرض بقوله تعالى[يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ]( )، فلا يعيش في الأرض إلا من يكون له فيها رزق .
والمختار هو الأول ، وهو أن المدخر والمكنون من الثروات في الأرض في كل زمان أكثر من مُسخر وأستهلك منها، وهو من مصاديق خطاب الله للناس جميعاً[وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ]( ).
الحمد لله الذي جعل البركة تتقوم في التوحيد وعبادة الله لتشمل تكاثر وإزياد أعداد البشر في الأرض , ودفع الأضرار عنهم بالبركة والرحمة من عند الله عز وجل .
فمن الإعجاز في سنخية الخلق أن هذه المليارات من الناس رجالاً ونساءً من أبوين هما آدم وحواء ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) أي رحمة على رحمة ، ولا يعلم عدد وجوه وضروب الرحمة التي توالت على الناس قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعدها وبها إلا الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الحمد لله الذي جعل العبادة ملازمة للإنسان في الأرض يعبد الناس الله عز وجل بالوحي والتنزيل والنبوة .
وهل عبادة الناس لله عز وجل من البركة التي تذكرها الآية أعلاه الجواب نعم ، وهي على وجوه :
الأول : العبادة مقدمة للبركة ونوع طريق إليها، وهو من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
الثاني : من مصاديق البركة في الأرض عبادة الناس لله عز وجل .
الثالث : العبادة رشحة من رشحات البركة .
الرابع : العبادة تعاهد للبركة وسبب لمضاعفتها أو تعليقها لأن العبادة واقية من سخط الله .
الحمد لله الذي يقبل القليل ويعفو عن الكثير , وليس من عبادة في الأرض إلا وهي من مصاديق الشكر القليل لله عز وجل على النعم التي تفضل بها .
ومن خصائص عبادة المسلمين لله عز وجل أنها جامعة لأمور :
الأول : الخضوع والخشوع لله عز وجل .
الثاني : التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين على نحو العموم المجموعي والإستغراقي .
الثالث : تلاوة كل مسلم ومسلمة كلام الله عز وجل عدة مرات من كل يوم من أيام التكليف .
ومن الآيات في المقام أن الصلاة واجب مطلق يؤدى على أي حال ، ليس مقيداً بالإقامة والعصمة من المرض كما في الصيام .
فمن لم يستطع أداء الصلاة عن قيام فانه يؤديها عن جلوس ، والذي يتعذر عليه أداؤها عن جلوس يؤديها مضطجعاً ومستلقياً على ظهره لأنها الصلة بين العبد وربه .
لقد جاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وقاتلوا في معركة بدر ثم في معركة أحد التي سقط فيها منهم سبعون شهيداً منهم حمزة بن عبد المطلب عم النبي ليثبتوا معالم الإيمان في الأرض ، ويهيئوا المقدمات لإقامة الصلاة من غير أذى وإضرار من الذين كفروا من قريش .
الرابع : تعدد وجوه عبادة المسلمين لله عز وجل ، فمنها اليومية المتعددة وهي الصلاة ، ومنها الزمانية وهو الصيام ومنها الزمانية المكانية وهو الحج ، ومنها المالية المحضة ،وهو الزكاة والخمس .
الخامس : إقتباس المسلمين المواعظ والعبر من ذات ضروب العبادة، قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).
السادس : تجلي الثواب العظيم لعبادات المسلمين في الدنيا والآخرة .
وهل من موضوعية لعبادات المسلمين في خروجهم لمعركة أحد واستبسالهم في الذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم.
ومن الآيات في المقام نزول فريضة الصلاة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل الهجرة وكان يؤديها في البيت الحرام بمرأى ومسمع من كفار قريش ، ويقف خلفه الإمام علي عليه السلام وأم المؤمنين خديجة ، فاذا كبّر كبرا، وإذا ركع ركعا مثله لتكون هذه الصلاة إنذاراً للكفار في حينه وبعد الهجرة ، وكأن هذا الأداء إخبار لهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيعود إلى البيت الحرام ليصلي فيه، ولكن مع الآلاف من أصحابه من المهاجرين والأنصار، إذ دخل مكة يوم الفتح عشرة آلاف رجل، وليحمل في يده قوساً يطعن به الأصنام التي نصبها المشركون حول الكعبة، وهو يتلو قوله تعالى[وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( ).
ويتلو قوله تعالى[قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ]( ) فتهوى الأصنام على وجهها إلى الأرض مستبشرة بيوم الفتح هذا وسلامة الناس من الشرك إلى يوم القيامة ، ولأن في عبادة المشركين لها النار، قال تعالى [إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ]( ).
إن توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإزاحة الأصنام وعدم اشاعته وأصحابه القتل في مكة شاهد على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف ، وكان السيف للدفاع ومقدمة لإقامة دين الحق , وزاجراً للذين كفروا عن مواصلة الهجوم على المدينة ،وهو من الإعجاز في قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
الحمد لله الذي جعل النبوة والتنزيل مصاحبين للإنسان في حياته في الأرض ، إذ بدأت عمارة الإنسان للأرض بالنبوة فقد كان آدم رسولاً نبياً ، وهو نبي لنفسه وزوجه وأبنائه الصلبيين وأحفاده ، فما أن يولد أحدهم حتى تستقبله النبوة والوحي ، وهو من إكرام الله عز وجل للإنسان في بداية عمارته الأرض ، ومن مصاديق [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
وإن قلت قد انقطعت النبوة برسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكيف تكون الملازمة بين الناس وإستدامة النبوة.
الجواب بالقرآن وأحكامه ومعجزات الأنبياء السابقين المذكورة فيه مثل معجزات عيسى وموسى عليهما السلام , والشهادة للذين يصدقون بنبوتهما، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
وقد تحمل الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأذى الكثير ، وخاضوا المعارك، وقُتل عدد منهم، كما يوثقه قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
وجاء هذا الجزء وهو السابع والخمسون بعد المائة من السِفر المبارك (معالم الإيمان في تفسير القرآن ) ليكون القسم الثاني من تفسير الآية أعلاه بمدد وفضل من عند الله والفيوضات التي تترشح من حياة الشهداء عند الله عز وجل.
فلما أخبر الله عز وجل بأنهم أحياء عنده سبحانه ، فان البركة تنزل من عنده لتتغشى علوم التفسير والتأويل.
ومن فضل الله في المقام أني أقوم بكتابة التفسير وتصحيحه ومراجعته بمفردي ليس معي إلا المنّ واللطف من عند الله.
وهل هو من رشحات قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ) .
الجواب نعم مع توالي الأجزاء بآية لم يشهدها التأريخ ، والحرص على التنزه عن ذم أي طائفة أو مذهب من مذاهب المسلمين ، إذ أن القرآن مائدة السماء إلى الأرض ولا يجوز إتخاذه لتعميق الفرقة والخلاف .
ومن إعجاز القرآن الغيري أنه برزخ ومانع من الخلاف والفرقة والشقاق، وهناك تفسير صدر لأحد لعلماء قبل أكثر من ثمانمائة سنة وهو الإمام فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي الرازي(544-606) هجرية نسبة إلى مدينة الري التي ولد فيها وهي من ضواحي طهران.
وبدأ بكتابة تفسيره بعد أن تجاوز عمره خمسين سنة، وكانت آخر مرة ذكر فيها أوان كتابة التفسير هو تفسيره لسورة الأحقاف وأنه في ذي الحجة سنة 603 هجرية .
وذهب كثير من العلماء إلى القول أن الرازي لم يكمل تفسيره ، وأن عدداً من طلبته أكملوه ، وقيل أنه أكمل تفسيره ، ولكن طلبته أضافوا له بعض التعليقات والهوامش التي دخلت في المعنى .
وهو (التيمي البكري الطبرستاني الأصل الرازي المولد، الملقب فخر الدين، المعروف بابن الخطيب، الفقيه الشافعي، فريد عصره ونسيج وحده، فاق أهل زمانه في علم الكلام والمعقولات وعلم الأوائل، له التصانيف المفيدة في فنون عديدة منها تفسير القرآن الكريم جمع فيه كل غريب وغريبة، وهو كبير جدا لكنه لم يكمله، وشرح سورة الفاتحة في مجلد، ومنها في علم الكلام المطالب العالية ونهاية العقول وكتاب الأربعين والمحصل وكتاب البيان والبرهان في الرد على أهل الزيغ والطغيان وكتاب المباحث العمادية في المطالب المعادية وكتاب تهذيب الدلائل وعيون المسائل وكتاب إرشاد النظار إلى لطائف الأسرار , وكتاب أجوبة المسائل التجارية , وكتاب تحصيل الحق , وكتاب الزبدة والمعالم، وغير ذلك .
وفي أصول الفقه المحصول والمعالم، وفي الحكمة الملخص وشرح الإشارات لابن سينا وشرح عيون الحكمة وغير ذلك، وفي الطلسمات السر المكتوم وشرح أسماء الله الحسنى ويقال: إن له شرح المفصل في النحو للزمخشري، وشرح الوجيز في الفقه للغزالي، وشرح سقط الزند للمعري، وله مختصر في الإعجاز، ومؤاخذات جيدة على النحاة، وله طريقة في الخلاف، وله في الطب شرح الكليات للقانون، وصنف في علم الفراسة، وله مصنف في مناقب الشافعي، وكل كتبه ممتعة، وانتشرت تصانيفه في البلاد ورزق فيها سعادة عظيمة فإن الناس اشتغلوا بها ورفضوا كتب المتقدمين، وهو أول من اخترع هذا الترتيب في كتبه، وأتى فيها بما لم يسبق إليه.
وكان له في الوعظ اليد البيضاء، ويعظ باللسانين العربي والعجمي، وكان يلحقه الوجد في حال الوعظ ويكثر البكاء، وكان يحضر مجلسه بمدينة هراة أرباب المذاهب والمقالات ويسألونه وهو يجيب كل سائل بأحسن إجابة، ورجع بسببه خلق كثير من الطائفة الكرامية وغيرهم إلى مذهب أهل السنة، وكان يلقب بهراة شيخ الإسلام.
وكان مبدأ اشتغاله على والده إلى أن مات، ثم قصد الكمال السماني واشتغل عليه مدة، ثم عاد إلى الري واشتغل على المجد الجيلي، وهو أحد أصحاب محمد ابن يحيى، ولما طلب المجد الجيلي إلى مراغة ليدرس بها صحبه فخر الدين المذكور إليها، وقرأ عليه مدة طويلة علم الكلام والحكمة، ويقال إنه كان يحفظ الشامل لإمام الحرمين في علم الكلام، ثم قصد خوارزم وقد تمهر في العلوم , فجرى بينه وبين أهلها كلام فيما يرجع إلى المذهب والاعتقاد، فأخرج من البلد، فقصد ما رواء النهر، فجرى له أيضا هناك ما جرى له في خوارزم .
فعاد إلى الري، وكان بها طبيب حاذق له ثروة ونعمة، وكان للطبيب ابنتان، ولفخر الدين ابنان، فمرض الطبيب وأيقن بالموت فزوج ابنتيه لولدي فخر الدين، ومات الطبيب فاستولى فخر الدين على جميع أمواله، فمن ثم كانت له النعمة، ولازم الأسفار، وعامل شهاب الدين الغوري صاحب غزنة في جملة من المال، ثم مضى إليه لاستيفاء حقه منه فبالغ في إكرامه والإنعام عليه وحصل له من جهته مال طائل، وعاد إلى خراسان، واتصل بالسلطان محمد بن تكش المعروف بخوارزم شاه، وحظي عنده، ونال أسنى المراتب، ولم يبلغ أحد منزلته عنده)( ).
وقيل أن الفخر الرازي مات مسموماً ، ومنهم من يجمع بين أسمي تفسير الرازي فيقول التفسير الكبير المسمى مفاتيح الغيب ، وكأن وصفه بالكبير دعوة لعدم التوسعة في التفسير وعدم الزيادة على الأجزاء الثلاثين لتفسير الرازي والوقوف عنده ، ولكن فضل الله ليس له حد أو منتهى ، ويأبى الله عز وجل أن يقف التفسير عند حد أو رسم مخصوص ، ومن بين أجزاء تفسيرنا هذا ما يتضمن الصلة بين شطرين من آية وشطر من آية أخرى .
كما في الجزء السادس والعشرين بعد المائة الذي جاء في الصلة بين القسم الأول من تفسير الآية (153) آل عمران وشطر من الآية 153 بشطر من الآية 151 .
والجزء التاسع والعشرين بعد المائة القسم الأول من تفسير شطر من الآية 154 بشطر من الآية 153.
والجزء الواحد والخمسين بعد المائة الذي جاء في الصلة بين شطر من الآية 161 وشطر من الآية 164.
ولو اتبع العلماء في الأجيال القادمة ذات المنهجية فان أجزاء هذا التفسير المبارك تصل إلى ملايين الأجزاء حتى وأن كان شطر من الآيات لا تكون صلة كل آية منه بالآية الأخرى جزءً كاملاً، كما أني أدعو إلى التفسير (الجامع للإختصاص) بـأن يشترك في تفسير كل آية في القرآن كل من علماء:
الأول : اللغة العربية .
الثاني : النحو وصناعته .
الثالث : علم الصرف .
الرابع : علوم البلاغة .
الخامس : استحداث علم دلائل الإعجاز الذاتي والغيري .
السادس: استحداث علم للمصاديق الواقعية لآيات القرآن .
السابع : علم السياسة .
الثامن : علم القانون بفروعه المتعارفة والمستحدثة .
التاسع : علم الإجتماع .
العاشر : علم الأخلاق .
الحادي عشر : علم النفس .
الثاني عشر : الطب النفسي، وقيل أن علم النفس ليس من العلوم الإنسانية لعدم وجود ما يؤيده من المعارف التجريبية ، وكذا بالنسبة للتأريخ والفلسفة لغياب شرط من شرائط العلم وهو الموضوعية ، وهذا القول ليس بتام إذ يبين القرآن موضوعيتها ومصاديق التجربة فيها.
وفي ابراهيم عليه السلام ورد في التنزيل [فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَفَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ] ( ). (عن ابن عباس في قوله { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} ( ) قال : يعني خلق السموات والأرض { وليكون من الموقنين }( ) فإنه جلا له الأمر سره وعلانيته ، فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق ، فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله : إنك لا تستطيع هذا ، فرده الله كما كان قبل ذلك . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : ذكر لنا أن إبراهيم عليه السلام فر به من جبار مترف ، فجعل في سرب وجعل رزقه في أطرافه ، فجعل لا يمص أصبعاً من أصابعه إلا جعل الله له فيها رزقاً . فلما خرج من ذلك السرب أراه الله ملكوت السموات والأرض ، وأراه شمساً وقمراً ونجوماً وسحاباً وخلقاً عظيماً ، وأراه ملكوت الأرض فرأى جبالاً وبحوراً وأنهاراً وشجراً ومن كل الدواب وخلقاً عظيماً { فلما جن عليه الليل رأى كوكباً }( ) ذكر لنا أن الكوكب الذي رأى الزهرة طلعت عشاء { قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين } علم أن ربه دائم لا يزول { فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي } رأى خلقاً أكبر من الخلق الأوّل { فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الظالمين ، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر }( ) أي أكبر خلقاً من الخلقين الأوّلين. وأبهى وأنور)( ) . لبيان موضوعية التجربة في الإستدلال على التوحيد وإقامة الحجة على الناس بوجوب طاعة وعبادة الله تعالى. الثالث عشر : علم الأرض وخزائنها . الرابع عشر : علم الفلك خاصة مع الإرتقاء في صعود الإنسان إلى الكواكب ، قال تعالى [يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ] ( ). والسلطان العلم والقوة وضبط الأمور ،وقيل منه الوقود المستقل الذي تكون له اضاءة شديدة كما في قواعد انطلاق المركبات الفضائية ، ولا دليل عليه إنما المراد من السلطان العلم , والمعنى الأعم من مصاديقه. وتدل الآية بالدلالة التضمنية على الإذن من عند الله عز وجل بصعود البشر إلى الكواكب على نحو محدود ، ويكون إشتراك العلماء من الإختصاصات المتعددة والمتنوعة مناسبة لبيان أمور : أولاً : إعجاز القرآن . ثانياً : ملائمة آيات القرآن لكل زمان . ثالثاً : تجلي الإعجاز الغيري لآيات القرآن بمصاديق العلوم . رابعاً : إنتفاع العلماء في العلوم المختلفة من آيات القرآن , والتدبر في معانيها . وهل من ملازمة بين الإنتماء للإسلام أو الإيمان وبين هذا الإنتفاع، الجواب لا، وعموم النفع هذا من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ). خامساً : تأسيس علم جديد وهو الجامع بين العلوم الطبيعية بملاحظة الإنسان للطبيعة من غير موضوعية للهوى والميل والإنتماء لعرق مخصوص أو لحزب أو لبلد ما ، وبين العلوم الإنسانية مثل علوم الدين والتأريخ والإقتصاد. الخامس عشر : علم الكون الفيزيائي وعلم المجرات وعلم الكواكب وبينها وبين علم الفلك عموم وخصوص مطلق، ولو دار الأمر في الإكتفاء بعالم واحد من تخصصات متعددة منشطرة من علم واحد ، وبين إشتراك عالم أو علماء متعددين من كل علم فرعي من هذه الفروع في تفسير الإختصاصات الذي نقترحه فالأرجح والأصح هو الثاني . السادس عشر : علوم التأريخ ، وهو ذو شأن ارتكازي في التفسير ، وتتفرع عن قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ) علوم كثيرة وفي الأبواب المختلفة من علم الكلام والإجتماع والإقتصاد والأدب والأخلاق والجغرافية والفلك . لقد ذكرت الآية أعلاه قصص الوحي بصيغة الجمع [أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ولم تقل الآية أحسن قصة ، ولم يرد في السنة أو الأخبار أو علم التفسير بأن القصة الفلانية الواردة في القرآن هي أحسن قصصه لأن لفظ أحسن يتغشى ويصدق على كل قصة في القرآن , وإن كانت من كلمة واحدة أو كلمتين ، وقد تتألف الآية القرآنية الواحدة من قصص متعددة. كما في قوله تعالى[وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ] ( ) منها : الأولى : ملك وسلطان فرعون . الثانية: أقوال فرعون وتوثيقها . الثالثة : توجه فرعون بخطاب مناشدة وإقناع إلى أهل الحل والعقد من قومه ، فمع إدعائه الربوبية فانه يسعى للإحتجاج على موسى بين الناس ، مما يدل على أثر وسلطان النبوة على النفوس . وكانت بلقيس امرأة تتولى الملك وحينما جاءها كتاب من النبي سليمان [قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ] ( ) فقدمت المشورة ووعدت بالأخذ بها وعدم الإعراض عنها ، أما فرعون فلم يأته كتاب من موسى إنما جاءه موسى عليه السلام بنفسه ومعه أخوه هارون نبي من الأنبياء , وموسى نبي رسول ، وأحد الرسل الخمسة أولي العزم فهو أعلى مرتبة من سليمان , وجاء معه إلى فرعون بالمعجزات المتعددة ، منها معجزة العصا . (عن ابن عباس قال: لقد دخل موسى على فرعون وعليه زرمانقة( ) من صوف ما تجاوز مرفقه ، فاستأذن على فرعون فقال : ادخلوه . فدخل فقال : إن إلهي أرسلني إليك . فقال للقوم حوله : ما علمت لكم من إله غيري خذوه، قال إني قد جئتك بآية {قال فائت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه} ( ) فصارت ثعباناً ما بين لحييه ما بين السقف إلى الأرض ، وأدخل يده في جيبه فأخرجها مثل البرق تلتمع الأبصار فخروا على وجوههم ، وأخذ موسى عصاه ثم خرج ليس أحد من الناس إلا يفر منه . فلما أفاق وذهب عن فرعون الروع قال للملأ حوله : ماذا تأمرون؟ قالوا : أرجئه وأخاه لا تأتنا به ولا يقربنا ، ( وأرسل في المدائن حاشرين) ( ) وكانت السحرة يخشون من فرعون ، فلما أسرع إليهم , قالوا : قد احتاج إليكم إلهكم قال : إن هذا فعل كذا وكذا . قالوا : إن هذا ساحر يسحر ، أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين؟ قال: ساحر يسحر الناس , ولا يسحر الساحر الساحر؟ قال : نعم وإنكم إذاً لمن المقربين)( ). ومن إعجاز القرآن وقصصه أن الحوار والإحتجاج بين موسى وفرعون لم ينحصر بآية أو سورة واحدة ، إنما ورد في آيات متعددة ، كما جاءت السنة النبوية ببيانه ليكون كل فرد منها مدرسة في القصة القرآنية ، وكذا بالنسبة للجمع بينهما ، وليكون هلاك فرعون مقدمة لتدبر بلقيس بكتاب سليمان، وكل منهما مقدمة لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتلقي الملوك رسائله التي بعثها إليهم بالعناية والإستفهام التقريري عن معجزاته باستثناء كسرى الذي لاقى موفد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن حُذافة السهمي ورسالته بالغضب وشدة الإنفعال إذ قام بتمزيق الكتاب الذي بعثه إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويدعوه فيه إلى التوحيد . (فقال النبي صلى الله عليه وآله و سلم: [اللهم مزق ملكه] فمزق الله ملكه وملك قومه)( ). واسم كسرى آنذاك هو أبرويز بن هرمز ابن أنوشروان فقتله ابنه بالليل سنة سبع للهجرة أي بعد أقل من سنة على تمزيقه لكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم باخبار رسل باذان إليه ، وباذان هو عامل كسرى على اليمن ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ رسائله إلى الملوك والأمراء بالبسملة ثم بقوله تعالى[وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى]( ) واستدل به على عدم جواز تحية الكافر بالسلام لأنه تحية الإسلام ولكنه غير كاف للإستدلال . لأن موضوعه أعم ، وفيه ترغيب للناس بالهدى والتقوى , ودعوة إلى الإسلام . الرابعة : إدّعاء فرعون الربوبية المطلقة على قومه بقوله[مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي]( ) ليدل بالدلالة التضمنية على إقراره بأنه عاجز عن فرض سلطانه على الأمم والشعوب التي هي خارج مملكته، وهو دليل على إنخرام ربوبيته وشاهد على صواب وصحة دعوة موسى له للتوحيد لإنحصار الربوبية المطلقة بالله عز وجل ، وقد قاتل وقتُل في سبيل الله شهداء بدر وأحد . وروي أن فرعون كان إذ جنّ عليه الليل لبس المسوح وتضرع إلى الله عز وجل ، وقال : يا رب أني كذاب فلا تفضحني ) فجاء موسى عليه السلام ليثبته في حكمه إن آمن وصدق برسالته ، ولكن تجبره وتكبره قاداه إلى الهلاك غرقاً في البحر . الخامس : أمر فرعون لوزيره هامان بأن يطبخ له الأجر والطابوق ليتخذوه صرحاً وقصراً عالياً ليصعد عليه ويوهم الناس بأن الله عز وجل في جهة ومكان مخصوص من السماء ، كما أن فرعون في مكان محدود وقيل أن فرعون أول من عمل الآجر، ولا دليل عليه، إنما أراد فرعون أن هذا العمل مشروع كبير ويستلزم الكثير من الآجر، ولابد للملك من نوعية خاصة غير التي يبني بها الناس بيوتهم، ولعله لقلة الآجر وأن الناس كانوا فقراء ويعتمدون البيوت الطينية ، ويختص فرعون والوزراء والملأ من قومه بالبناء بالآجر . السادسة : لقد أظهر فرعون حاجته إلى أمور : الأول : الحاجة إلى وزيره هامان مع أنه أدنى مرتبة منه وينظر له على أنه مربوب له. الثاني : لجوء فرعون إلى الملأ من قومه لإرهابهم وتخويفهم من الإصغاء إلى موسى عليه السلام , والتدبر في معجزاته وكأنه يريد منهم تجديد الربوبية له . الثالث : إيقاد النار لفخارة الطين وصناعة الآجر . الرابع : الحاجة إلى الصرح ، مع أن الله عز وجل موجود في كل مكان. الخامس : لا يقدر فرعون بنفسه يجعل ويبني الصرح إلا أن يستعين بغيره من البشر , ومن صفات الله عز وجل[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ). وتبين الآية حقيقة وهي أن فرعون لا يرضى بالربوبية وحدها إنما يمنع من القول بالشريك معه وبه استحق العقاب العاجل . ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم توجه المسلمين إلى الإستعانة بالله عز وجل عدة مرات في اليوم بتلاوة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) وفيه تنزه من الشرك والغلو والركون للظالمين. ولقد نسي فرعون حاجته إلى الله فجاء موسى عليه السلام يذّكره بها ، ويدعوه إلى التوبة والإنابة مع بقائه في ملكه وسلطانه، وقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى قريش بخير الدنيا والآخرة ، وهو يدعوهم إلى التوحيد ونبذ الشركاء فأبوا إلا الجحود ومحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ومن آمن برسالته والمعجزات العقلية والحسية التي جاء بها . وذكر في حادثة مغادرة النبي إلى مكة وهجرته إلى المدينة عندما أراد كبار مشركي قريش قتله ، وقوله لعلي عليه السلام (نم على فراشي وتسج ببردى هذا الحضرمي الاخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شئ تكرهه منهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينام في برده ذلك إذا نام)( ). ولما اجتمعوا على بابه قال أبو جهل مستهزاً ومحرضاً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على امره كنتم ملوك العرب والعجم ، وبعد موتكم تبعثون فتدخلون الجنة وهي تشبه جنان الأردن ، وضرب أبو جهل مثلاً بجنان الأردن لأنهارها وكثرة أشجارها ومعرفة رجالات قريش لها لقربها من مكة، ولتجارتهم مع الشام. ثم ذكّرهم أبو جهل بأن التخلف عن التصديق بدعوة النبي صلى الله عليه وآله يؤدي بكم إلى الذبح والقتل ، لتحريضهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشحذ هممهم في قتله قبل أن يزداد الإسلام قوة ويتحقق أمر الذبح عليهم . ثم أخبرهم أبو جهل عما يقوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم من البعثة بعد الموت وأن مصيرهم ككفار إلى النار، مع أن هذا القول من عند الله عز وجل وليس من عند النبي ، إنما يكون كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرآة وتفسيراً للقرآن ، قال تعالى [وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] ( ) . حينئذ خرج النبي صلى الله عليهم , وقال مخاطباً أبا جهل : نعم أنا أقول ذلك أنت أحدهم). وكان في يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حفنة من تراب القاه على رؤوسهم فصاروا لا يرونه ، وهو يتلو [يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ]( ) .
وغادر النبي مهاجراً إلى مكة وعلي نائم على فراشه وهم يظنون أنه النبي محمد صلى الله وآله وسلم ويريدون قتله ، وقد تحقق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أبي جهل إذ أنه قتل في معركة بدر كافراً .
ولم يتعظ المشركون من وقائع معركة بدر وتجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيها، إذ أعادوا الكرة والهجوم بعد ثلاثة عشر شهراً فزحفوا في ثلاثة آلاف رجل في معركة أحد، فأصابت المسلمين خسارة وفاجعة وسقط منهم سبعون شهيداً .
وهذا الجزء هو السابع والخمسون بعد المائة من تفسيرنا للقرآن وهو القسم الثاني من تفسير قوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( )، لبيان عظيم منزلتهم عند الله وإخبار الذين كفروا بصيرورة تلك الخسارة نصراً آخر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ]( ).
حرر في الثالث من شوال 1438
27/6/2017
قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] الآية 169.
صلة خاتمة الآية السابقة بآية البحث
لقد وردت الآية السابقة في بيان صفات مذمومة للذين نافقوا من جهات :
الأولى : بث الذين نافقوا الأراجيف في المدينة .
الثانية : سعي الذين نافقوا في أباطيلهم بين الناس ، لقوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ]( ) ليشمل لفظ الإخوان في الآية وجوهاً :
الأول : الأوس .
الثاني : الخزرج .
الثالث : توجيه الذين نافقوا كلامهم إلى الذين قتلوا في معركة أحد فيخاطبونهم وكأنهم أحياء ، والمراد من الخطاب الذين يسمعونه بلغة إياك أعني واسمعي يا جارة ، من أهل الدنيا ، ولا يضر بهذا المعنى مجئ قوله تعالى [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ) بصيغة الغائب ، وكأنه من الإلتفات في الإصطلاح البلاغي .
الرابع : إرادة المسلمين ، وتقدير الآية : الذين قالوا لإخوانهم المسلمين.
الخامس : المسلمات عامة .
إذ ورد لفظ اخوانهم بصيغة التذكير لإرادة العموم وتغليب المذكر ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : وقالوا لإخوانهم .
ثانياً : وقالوا لإخواتهم .
ثالثاً : وقلن لإخوانهن .
رابعاً : وقلن لإخواتهن .
السادس : عوائل الشهداء .
السابع : أهل الكتاب .
الثامن : ذات المنافقين كما لو كان رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول يقول لبعض المنافقين : لو أطاعنا الشهداء ورجعوا معنا من وسط الطريق إلى معركة أحد ما قتلوا .
التاسع : الذين كفروا والمشركون، قال تعالى[وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ]( ).
ترى هل للذين نافقوا غايات في قولهم لإخوانهم: لو أطاعونا ما قتلوا، الجواب نعم , لهم غايات ومقاصد خبيثة منها :
الأولى : الصد عن سبيل الله ، وفي التنزيل [لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا] ( ).
الثانية : تثبيط عزائم المؤمنين .
الثالثة : القاء الحسرة في قلوب المؤمنين على فقد الشهداء .
الرابعة : محاولة صرف الناس عما ينزل من القرآن بخصوص شهداء أحد .
الخامسة : إرادة الذين نافقوا عزوف الناس عن دخول الإسلام لأن فيه قتالاً وقتلاً .
السادسة : الترغيب بالقعود والسعي لمحاكاة المسلمين لهم في قعودهم ، لذا إقترن في الآية لوم المنافقين للشهداء بإصرارهم على القعود .
السابعة : لجوء الذين نافقوا للإكثار من ضروب العذر , ومحاولة جذب الناس إلى جانبهم .
الثامنة : سعي المنافقين لفصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أصحابه خصوصاً الأنصار.
التاسعة : إرادة بعث الحسرة والأسى في قلوب عوائل الذين قتلوا في سبيل الله، وهل في قوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ) رد على المنافقين , وواقية من أذاهم في المقام ، الجواب نعم.
العاشرة : إعانة المشركين في هجومهم على المدينة لذا جاء الوعيد في القرآن للذين نافقوا بقوله تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
لقد صار الذين نافقوا عضداً ومدداً داخل المدينة المنورة لجيش الذين كفروا، فلم ينفعوهم، إذ عاد الذين كفروا إلى مكة يجرون أذيال الذل والهوان لفشلهم في تحقيق أي مقصد وغاية خبيثة قدموا من أجلها ، وقد وثّق القرآن هذا الفشل بقوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
ولم يترك الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يلاقون الذين كفروا في معركة أحد من دون مدد أو عون ، فقد أنزل الملائكة ناصرين معضدين ليخيب سعي الذين نافقوا ،وفي التنزيل [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
ليكون من معاني قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) وجوهاً:
أولاً : يوم التقى الجمعان في معركة أحد .
ثانياً : يوم التقى الجمعان في معركة أحد بعد أن التقوا في معركة بدر .
ثالثاً : يوم التقى الجمعان بعد النصر العظيم للمسلمين في معركة بدر .
رابعاً : يوم التقى الجمعان ، جمع الإيمان وجمع الذين كفروا .
خامساً : يوم التقى الجمعان جمع المؤمنين بامامة وقيادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،وجمع المشركين بضلالتهم وعنادهم وإصرارهم على الكفر والجحود .
سادساً : يوم التقى الجمعان مع كثرة جيش المشركين، وقلة عدد جيش الإيمان .
سابعاً : يوم التقى الجمعان فسقط سبعون شهيداً من المسلمين .
تاسعاً : يوم التقى الجمعان فوثقه القرآن .
عاشراً : بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً فالتقى الجمعان .
الحادي عشر : يوم التقى الجمعان قطع الله طرفاً من الذين كفروا وأهلك طائفة منهم، ويدل قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) على أن واقعة أحد إستدراج للذين كفروا من غير أن يتعارض هذا الإستدراج مع قصدهم وعزمهم على محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار، ليكون[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) حجة عليهم في النشأتين .
الثاني عشر : ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان يوم التقى الجمعان .
الثالث عشر : انخزل المنافقون يوم التقى الجمعان .
الرابع عشر : يوم التقى الجمعان بإذن الله[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ]( ).
الخامس عشر : يوم التقى الجمعان موعظة وعبرة للمسلمين والمسلمات والناس جميعاً .
السادس عشر : يوم التقى الجمعان مناسبة للأجر والثواب للمؤمنين .
السابع عشر : صيرورة يوم التقى الجمعان مقدمة ونوع طريق لحياة الشهداء عند الله.
الثامن عشر : تخلف الذين نافقوا عن الدفاع ودفع الذين كفروا يوم التقى الجمعان .
التاسع عشر : تقدير آية البحث : لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله يوم التقى الجمعان أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون.
العشرون : يوم التقى الجمعان في الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
الحادي والعشرون : يوم التقى الجمعان عند جبل أحد .
(عن أَبي قلابة قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إِذا جاء من سفر فبدا له أُحُد قال: هذا جبل يحبنا ونحبه. ثم قال: آيبون تائبون، ساجدون لربنا حامدون)( ).
وهل يدل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا على أنه راض عن وقائع معركة أحد مع الخسارة التي لاقاها المسلمون من جهات :
الأولى : كثرة الذين قتلوا من المسلمين .
الثانية : إصابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجراحات البليغة المتعددة إذ كان نزف الدم من وجنته مستمر إلى أن عالجته فاطمة الزهراء عليها السلام .
(عن أبى حازم، أنه سمع سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أما والله إني لاعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن كان يسكب الماء وبما دووى،
قال: كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغسله وعلى يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم، وكسرت رباعيته يومئذ، وجرح وجهه
وكسرت البيضة على رأسه)( ).
الثالثة : تعدد الجراحات عند أغلب المهاجرين والأنصار، وقد عاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة من معركة أحد وأكثرهم تسيل دماؤهم والقروح بادية عليهم بحيث انشغل المسلمون والمسلمات في مداواتهم مع مصيبتهم في قتل سبعين شهيداً ، فتكفل الله عز وجل التخفيف عنهم في هذه المصيبة بأن أخبر عن حياة شهداء معركة أحد عنده في أعلى عليين .
الرابعة : إنخزال ثلث جيش المسلمين من وسط الطريق إلى المعركة وصحيح أن هذه المعركة كانت مناسبة لكشف المنافقين ، إلا أن إنكشاف أمرهم خسارة وسبب للأسى والأسف عليهم لإقامتهم على إبطان الكفر والضلالة .
الخامسة : رجوع المسلمين من غير غنائم أو أسرى ، ويدل على عدم تحقق المكاسب، ولكنه الخسارة من وجوه :
أولاً : أصل الإستصحاب ، فقد جلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الغنائم والأسرى معهم في معركة بدر , وتطلع المسلمون من باب الأولوية لتحقق ذات النعمة .
ثانياً : إبتداء معركة أحد بنصر مبين للمسلمين ، قال تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]( ).
ثالثاً : فوات النصر المبين على الذين كفروا .
رابعاً : كثرة عدد الشهداء من المسلمين .
خامساً : فقد أشخاص الشهداء ، وهو أمر يختلف عن الكثرة ، فكل واحد من شهداء كان له شأن ومنزلة منهم حمزة بن عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومصعب بن عمير وهو أول مهاجر دخل المدينة المنورة ثم قدم بعده ابن أم كلثوم، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد آخى بين مصعب وبين البراء بن عازب الذي نزل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم المدينة حتى تم بناء بيته ومسجده .
السادسة : حصول الفشل والخور والفرار من قبل شطر من الصحابة في معركة أحد، قال تعالى[حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ]( ).
الثاني والعشرون : نزلت أكثر آيات معارك الإسلام بخصوص معركة معينة [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) وتكرر هذا اللفظ في القرآن ثلاث مرات :
الأولى : قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ] ( ) وهو خاص بمعركة أحد.
الثانية : قوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) ويتعلق موضوع الآية بمعركة أحد أيضاً .
الثالثة : قوله تعالى[وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) وهو خاص بمعركة بدر.
الثالث والعشرون : يوم التقى الجمعان مناسبة إكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بلحاظ آية البحث من جهات :
الأولى : توجه الخطاب من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : تضمن الخطاب الإلهي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم النهي عن الظن المخالف لعلم الغيب ، وهل هذا النهي من مصاديق قوله تعالى [تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ]( ) الجواب نعم ، ليكون من إعجاز القرآن في باب علوم الغيب أمور متداخلة وهي :
الأول : المنع من الظن بخلاف علوم الغيب وأحوال الآخرة .
الثاني : تعدد علوم الغيب في القرآن , ويمكن إنشاء قانون وهو القرآن كاشف لعلوم من الغيب .
الثالث : لا يعلم بحياة الشهداء عند الله إلا هو سبحانه فتفضل وأخبر المسلمين بالأمر , وجعله بشارة تتوارثه أجيالهم .
الرابع : دلالة كشف علوم من الغيب في القرآن على حب الله عز وجل للمسلمين ، وإذ أختتمت الآية أعلاه بالإخبار عن كون العاقبة الحسنة والفوز العظيم للمتقين ، فقد ورد قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ] ( ) ومن أبهى مصاديق التقوى القتال وزهوق الروح في سبيل الله .
الحاجة لآية البحث
من خصائص الآية القرآنية انها مفتاح لخزائن من رحمة الله وصراط منير يهتدي بضيائه المسلمون، ونهج مبارك في الصالحات .
لقد تفضل الله عز وجل وجعل الإنسان كائناً محتاجاً ثم تفضل مرة أخرى ، وقضى له حاجاته، وادخر له من رحمته ما يفوق تلك الحاجات ، وهو من عمومات قوله تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ) .
فمن معاني الآية أعلاه الكفاية حتى في الأماني والرغائب ، وقد ينسى العبد أنه كان يتمنى أموراً يراها مستحيلة ومتعذرة ، ولكنها تأتيه مع تقادم الأيام ، وعلى نحو التدريج أو دفعة حتى ينسى أنه كان يعدها صعبة المنال أو دونها خرط القتاد .
لقد أراد الله عز وجل للإسلام الثبات في الأرض ولكن الذين كفروا ، شدوا العزائم على معاداته وبذلوا الأموال الطائلة لمحاربته وأججوا الحروب والمعارك، وقاتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وسألت الدماء فسقط سبعون شهيداً في معركة أحد ، ليؤازر الذين نافقوا الكفار باظهارهم الشماتة الخفية بالشهداء , ونوع حسرة على خروجهم للدفاع .
فجاءت آية البحث من مصاديق الآية أعلاه في كفاية الله لنبيه الكريم والمؤمنين الأحياء منهم والأموات.
ومن الإعجاز في آية البحث أنها لم تأت بصيغة الجملة الخبرية إنما بدأت بلغة النهي والإنشاء [وَلاَ تَحْسَبَنَّ] وتوجه الخطاب فيها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتدعو المسلمين إلى أمور:
الأول : الإنصات لآية البحث، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
الثاني : التقيد بأحكام آية البحث وإصلاح الواقع الذهني بصرف الظن بموت وسكون الشهداء .
الثالث : تحلي المسلمين بالصبر والزهد .
الرابع : شكر الله على نعمة حياة شهداء أحد عند الله .
الخامس : الإحتجاج على الذين نافقوا ، وهل يختص هذا الإحتجاج بخصوص ما ورد في الآية السابقة بخصوص قول الذين نافقوا[لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] أو أن الإحتجاج أعم في موضوعه ، الجواب هو الثاني .
وهو من إعجاز الآية القرآنية الغيري بأن تهدي إلى المعنى الأعم والأوسع .
لقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى ميدان معركة أحد بأمر من عند الله عز وجل ، وأبى الله عز وجل أن تبقى منتديات المدينة المنورة ساحة مفتوحة يبث فيها الذين نافقوا أراجيفهم ، أو أن ينحصر صدى الإسلام في باحة المسجد النبوي الصغير ة آنذاك والتي تقام فيها الصلوات الخمس على نحو يومي حتى مع سفر وغياب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت آية البحث لتتغشى مجالس ومنتديات المدينة وتنفذ إلى بيوتها وتصير ملازمة للناس في الأسواق , وتقترن بها أسماء شهداء أحد ، ويستحضر المسلمون شهداء بدر أيضاً مع قلتهم .
لقد أدرك المسلمون مع آية البحث أنه ليس من خسارة مع القتل في معركة أحد لأنه دفاع محض ، ولأن المشركين غزوهم في عقر دارهم من غير سبب ، فان قلت الثأر لقتلاهم في معركة بدر سبب وعلة لهجومهم في معركة أحد وفق أعراف وعادات زمانهم .
والجواب إنه ليس علة تامة للهجوم ، إنما هو زاجر لهم عن التعدي من جديد ، وباعث لهم على الإتعاظ لتجلي المعجزات في ميدان المعركة وبعدها، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
وهل تزجر آية البحث الذين كفروا عن الهجوم على المدينة , الجواب نعم، وهو من الإعجاز الغيري فيها ، إذ تضمنت توجيه الخطاب والنهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الظن بأن شهداء معركة أحد موتى بينما تتضمن في مفهومها زجر ونهي الذين كفروا عن قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة قتله .
وهل في توجه النهي الوارد في آية البحث إلى شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دلالة على سلامته من قتل الذين كفروا له في معركة أحد والخندق والحديبية مثلاً.
الجواب نعم لأنها تخبر عن حساب وظن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتصلحه وفق ضوابط الإرادة التكوينية ، مما يدل على بقائه حياً تلك الأيام.
فلم تقل الآية(ولا تحسبوا الذين قتلوا في سبيل الله ) وأن كانت آية البحث تفيد ذات المعنى والدلالة ، لقانون شمول المسلمين والمسلمات بالخطاب والأمر والنهي القرآني الموجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ما خرج بالدليل كما في قوله[أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ]( )، وقد وردت صيغة العموم في قوله تعالى[وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
وهل تختص الحاجة إلى آية البحث بأيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة أم أنها مستمرة إلى يوم القيامة ، الجواب هو الثاني .
وفيه واقية لأجيال المسلمين من فتنة النفاق ووسوسة الشيطان، وهو برزخ دون التفريط بهذه النعمة العظمى وهي الحياة في النعيم الدائم، وصحيح أنها خاصة بالشهداء، ولكن نفعها عام للمسلمين، وهو من إعجاز الآية القرآنية بأن تكون ضياء وحاجة وواقية وحرزاً وباباً للتفقه في المعارف الإلهية، وكنزاً للإيمان تنهل منه الأجيال من غير أن ينقص منه شيء، وهو من الشواهد على أمور:
الأول : كل آية قرآنية خزينة.
الثاني : إنتفاء الحاجب والبرزخ بين أي مسلم أو مسلمة وبين علوم القرآن.
الثالث : عدم نفاذ أي خزينة من خزائن الله عز وجل(عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : طوبى لمن أكثر في الجهاد في سبيل الله من ذكر الله ، فإن له بكل كلمة سبعين ألف حسنة ، كل حسنة منها عشرة أضعاف مع الذي له عند الله من المزيد.
قيل : يا رسول الله النفقة؟ قال : النفقة على قدر ذلك . قال عبد الرحمن : فقلت لمعاذ : إنما النفقة بسبعمائة ضعف؟ فقال معاذ : قل فهمك، إنما ذاك إذا أنفقوها وهم مقيمون في أهلهم غير غزاة ، فإذا غزا وأنفقوا خبأ الله لهم من خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد وصفتهم ، فأولئك حزب الله وحزب الله هم الغالبون)( ).
ثناء الله على نفسه في آية البحث
من مصاديق ودلالات آية البحث إجماع واتفاق المسلمين والمسلمات بأن القرآن كلام الله أنزله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويرث كل جيل منهم هذا القانون والقطع، ولا يختص الأمر بالوراثة إذ يؤدي تقادم الزمان على العادات والمفاهيم إلى ضعفها وتبدلها وطرو التغيير فيها إن لم تكن ذات أصل سماوي، قال تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ..]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه نسبة التداول وتبادل الناس للأيام لله عز وجل ومشيئته وإذنه.
أي أنه يداولها بينهم بالنصر والغلبة والظفر أو الفرح والسعادة والحزن.
وعن ابن عباس في الآية أعلاه قال : فانه أدال المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وبلغني أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد بضعة وسبعين رجلاً ، عدد الأسارى الذين أسروا يوم بدر من المشركين ، وكان عدد الأسارى ثلاثة وسبعين رجلاً)( ).
ولكن آية البحث تؤكد في مضامينها ودلالتها على عدم ثبوت أو استمرار دولة المشركين ، ويدل على عدم الثبوت هذا قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) فقد أبى الله عز وجل أن تكون دولة وظفر وغلبة للذين أشركوا .
لقد أثنى الله عز وجل على نفسه في آية البحث من جهات :
الأولى : تغيير الإعتقاد، وطرد الظن المخالف للواقع الذي هو من عالم الغيب ، إذ جعلت آية البحث المدركات العقلية محسوساً قريباً، فعند تلاوة المسلم لآية البحث يدرك أن كل فرد من شهداء أحد حي عند الله يتنعم برزق كريم من عنده تعالى .
الثاني : لا يقدر على بعث الشهداء والأموات مطلقاً في الآخرة إلا الله عز وجل .
والمتبادر إلى الأذهان أن حياة الموتى تكون من بعد النفخ في الصور والخروج من القبور، قال تعالى[وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ]( ).
والمراد من الأجداث القبور (عن أبي سعيد الخدري : سمعت رسول الله صلى عليه وآله وسلم يقول : يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس كما قال الله: {من كل حدب ينسلون }( ) فيغشون الناس وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم، ويضمون إليهم مواشيهم ويشربون مياه الأرض حتى يتركوه يبساً، حتى إن بعضهم ليمر بذلك النهر فيقول : قد كان ههنا مرة ماء . حتى إذا لم يبق من الناس أحد إلا أخذ في حصن أو مدينة ، قال قائلهم : هؤلاء أهل الأرض ، قد فرغنا منهم وبقي أهل السماء.
قال : يهز أحدهم حربته ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دماً للبلاء والفتنة ، فبينما هم على ذلك إذ بعث الله دوداً في أعناقهم كنغف الجراد يخرج في أعناقه ، فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس ( ).
فيقول المسلمون : ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هؤلاء العدو؟ فيتجرد رجل منهم محتسباً نفسه قد أوطنها على أنه مقتول ، فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض! فينادي معشر المسلمين ، أبشروا إن الله قد كفاكم عدوكم . فيخرجون من مدائنهم وحصونهم، ويسرحون مواشيهم، فما يكون لها مرعى إلا لحومهم ، فتشكر عنه أحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابته قط)( ).
وقد يكون الحديث إشارة إلى الإنسان الآلي , وصناعته بالجملة وزجهم في المعارك , ثم صناعة واقية تقنية منه لتعطيله وفك رموزه .
وجاءت آية البحث لتبين استثناء من قانون البعث عند النشور، وهذا الإستثناء بذاته قانون عظيم يبهر الملائكة والخلائق كلها ، وهو حياة شهداء أحد حال قتلهم بقدرة الله ، وهو من الجزاء العاجل لهم .
الثالث : مجئ الرزق الكريم إلى الشهداء حالما يغادرون الدنيا لبيان قانون وهو الملازمة بين الحياة والرزق ، فمن كان حياً لابد وان يأتيه رزق ، فأخبر الله عز وجل أنه تكفل رزق الشهداء إلى يوم القيامة ثم يتفضل الله بدخولهم الجنة .
ومن معاني ثناء الله عز وجل على نفسه في الآية القرآنية دعوة المسلمين والناس جميعاً لشكره تعالى على النعم الظاهرة والباقية وسؤال الفوز بالنعم التي تذكرها الآية القرآنية .
النعم التي تذكرها آية البحث
ابتدأت آية البحث بحرف العطف الواو لبيان نعمة عظمى وهي عطف وربط مضامين آية البحث على الآية السابقة والتي أختتمت بتبكيت وتوبيخ الذين نافقوا مع الإنتقال إلى موضوع نقيض لحال المنافقين ، ويتعلق بالمهاجرين والأنصار الذين غادروا الدنيا بسيوف مشركي مكة ، والأصل أن جوار قريش للبيت الحرام ، وصلة القربى التي تربطهم مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تجعلهم أول وأكثر الناس إيماناً ، وقد قال تعالى[وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( ).
ولكن أكثرهم خالفوا وامتنعوا عن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها .
ولم يختاروا السكوت والإمتناع عن محاربته والتخلية بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين عامة العرب ، إنما قاموا بتجهيز الجيوش لقتاله مع تجلي الآيات التي تدل على صدق نبوته .
وكانوا حريصين على كون جيشهم في كل مرة ثلاثة أضعاف أو أكثر لجيش المسلمين ، لتكون هذه الكثرة سبباً لرجحان كفتهم في المعركة وتحقيق النصر لهم ، ولم يعلموا أن الله عز وجل أنزل ملائكة بعددهم، وأكثر منهم لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أن الملك الواحد منهم يكفي للغلبة على الذين كفروا مجتمعين، ويقدر على عدم رجوع أي فرد منهم إلى مكة حياً، قال تعالى[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
وهل حرف العطف الذي ابتدأت به آية البحث من النعم التي تفضل الله عز وجل بها على المسلمين ، الجواب نعم جهات :
الأولى : إحتجاج ورد الله عز وجل على الذين نافقوا، فمع أنهم عباده وهو خالقهم واستحقوا العقاب منه لإقامتهم على الكفر الباطني فانه تعالى يمهلهم من غير ترك إنما يتفضل بالإحتجاج عليهم ويقول لهم : ادفعوا عن أنفسكم الموت الذي لابد أن يأتيكم ثم تبعثون لتشهد عليكم جوارحكم وألسنتكم بشواهد النفاق التي كنتم تتلبسون بها .
الثانية : دلالة الجمع والعطف بين آية البحث والآية السابقة على إتحاد الموضوع، من غير أن يتعارض مع إستقلال قانون حياة الشهداء بلحاظ إختصاص آية البحث به.
الثالثة : توبيخ وتبكيت الذين نافقوا , وإخبارهم عن قانون وهو عجز الذين نافقوا عن رد الموت عن أنفسهم ، وفيه دعوة للناس جميعاً للتسليم بقانون من الإرادة التكوينية , وهو عجزهم عن أمور :
الأول : عجز كل إنسان عن دفع الموت عن نفسه، وفي التنزيل[سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً]( ).
الثاني : إمتناع الموت والأجل عن تغيير أوانه ، قال تعالى [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ).
الثالث : عدم إستطاعة الناس مجتمعين عن دفع الموت عن أحدهم ، ولو شارك أهل الإمارة والقبيلة ونحوها في دفع الموت عن الرئيس والملك فأنهم لا يقدرون عن تأخيره .
وجاءت آية البحث لبيان أن شهداء أحد ذهبوا في أجلهم المحتوم لينزل سخط الله على الذين كفروا .
ومن إعجاز الآية القرآنية مجيؤها بالمتعدد من النعم الإلهية من جهات :
الأولى : نزول الآية القرآنية نعمة عظمى .
الثانية : ذات ألفاظ الآية القرآنية نعمة .
وهل هي نعمة متحدة أم متعددة.
الجواب هو الثاني، ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ) ان المراد من النعمة في الآية أعلاه اسم الجنس .
الثالثة : كل خبر في الآية القرآنية نعمة عظمى , وفيض كريم من العلم المكنون .
الرابعة : كل من الأمر والنهي الوارد في أي آية من القرآن نعمة من عند الله سبحانه.
الخامسة : من خصائص الآية القرآنية ترشح النعم الإلهية عنها .
لقد تفضل الله عز وجل بآية البحث لتكون حصانة وعصمة من جهات:
الأولى : حصانة الشهداء من المؤاخذة واللوم ، إذ تمنع الآية المسلم والمسلمة من محاكاة المنافقين في لومهم الشهداء على خروجهم لقتال العدو ، فأخبرت آية البحث أنهم كسبوا النعيم المقيم ، واشتروا السعادة الأبدية ، وأنهم لم يموتوا انما تغيرت حياتهم فبعد أن كانت في الدنيا وما فيها من المشقة والعناء صارت جنة بذاتها ، وفي التنزيل [وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ).
الثانية : سلامة وحصانة المهاجرين والأنصار من الإنصات للذين نافقوا, والصدود عن الدعوة إلى الدفاع ، أو الإمتناع عن النفير ، وهذه الحصانة معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم ولن تحدث في تأريخ البشر مثلها .
الثالثة : تطرد الآية عن المسلمين الشك بعدم حياة الشهداء عند الله , وآية البحث رحمة بالشهداء وبالأحياء من المسلمين في كل زمان، ليكون من لطائف وإفاضات القتل في سبيل الله تلقي المسلمين والمسلمات في كل زمان قانون إكرام الله عز وجل للشهداء بالتصديق والفخر، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابعة : عصمة المسلمين من محاكاة المنافقين سواء في قعودهم أو تعريضهم بالشهداء، ومن وجوه العصمة في المقام إختتام الآية السابقة بالإحتجاج على المنافقين بدفع الموت عن أنفسهم، ومجيء هذا الإحتجاج بسبب قعودهم ولومهم للشهداء.
ومن المصاديق في المقام أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رجعوا إلى المدينة يوم معركة أحد , وتتصف حالهم بأمور :
الأول : كثرة جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : قيام عدد من كبار الأنصار بحراسة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خشية مباغتة الذين كفروا ، خاصة وانه كانت عندهم مائتان من الخيل لم يركبوها في الطريق لإرادة القتال فيها ، ولا يضر استعمالها يوم معركة أحد ، ولو ارادوا العودة من الطريق إلى المدينة يومئذ لدخولها في الليل، لذا كان الخوف والرعب الذي ألقاه يومئذ الله في قلوبهم حاجة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات وأهل المدينة جميعاً ، قال تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
الثالث : مصيبة الصحابة وبيوت المسلمين بفقد سبعين قتيلاً في معركة أحد ، وكذا مصيبتهم بالجراحات التي أصابت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وان كانت الغبطة تملأ النفوس لسلامته يومئذ من القتل ، خاصة بعد اشاعة الذين كفروا أنهم قتلوه .
الرابع : كثرة الجراحات التي أصابت أهل البيت والصحابة من المهاجرين والأنصار في معركة أحد ، وقد بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن رؤساء جيش كفار قريش تلاوموا بعد إنسحابهم من معركة أحد حين استعرضوا نتائج المعركة ، لما تبين لهم عدم تحقق أي غاية من غاياته الخبيثة من وجوه :
الأول : عجز المشركين عن قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان قتله هو الهدف الأول من غزوة أحد حتى أنهم لم يرضوا بفكرة وقوعه في الأسر لعلمهم بأن المسلمين والمسلمات في المدينة وفي مكة وغيرها يثورون لخلاصه من الأسر , ولشدة غيظهم وتحاملهم عليه , وفي التنزيل [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ] ( ).
الثاني : عدم إصابة المسلمين بالضعف والوهن والنقص في الرجال أو العدة في معركة أحد .
فان قلت قد قُتل من المسلمين سبعون شهيداً ، والجواب من جهات :
الأولى : هؤلاء القتلى عُشر جيش المسلمين .
الثانية : هناك عدد كثير من المسلمين لم يخرجوا في معركة أحد .
الثالثة : بلوغ طبقة من الشباب سن القتال .
وقد تجلى في أفراد عديدين وقيل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نظر إلى طاقتهم للقتال ، ولا موضوعية فيه للبلوغ ، ولكن لا مانع من إجتماع الأمرين ، وقد استعرض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الشباب الذين خرجوا إلى معركة أحد ، منهم :
الأول : أسامة بن زيد .
الثاني : زيد بن ثابت .
الثالث : عبد الله بن عمر .
الرابع : غرابة بن أوس .
الخامس : النعمان بن بشير .
السادس : زيد بن أرقم .
السابع : البراء بن عازب .
الثامن : أسيد بن ظهير .
التاسع : أبو سعيد الخدري .
وقام النبي برد عدد منهم يوم معركة أحد .
(قال رافع بن خديج، فقال ظهير بن رافع: يا رسول الله إنه رامٍ! وجعلت أتطاول وعلي خفان لي، فأجازني رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلما أجازني قال سمرة بن جندب لربيبه مري بن سنان الحارثي، وهو زوج أمه: يا أبة، أجاز رسول الله رافع بن خديج وردني، وأنا أصرع رافع بن خديج.
فقال مري بن سنان الحارثي: يا رسول الله رددت ابني وأجزت رافع بن خديج وابني يصرعه. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: تصارعا! فصرع سمرة رافعاً فأجازه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وكانت أمه امرأة من بني أسد)( ).
وقد أجاز النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدداً منهم في معركة الخندق.
الثالث : بقاء الرؤساء من المهاجرين والأنصار، وإصابة كفار قريش منهم بالخوف لأنهم يستطيعون جمع الرجال وحشد الأتباع لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الرابع : تجلي حقيقة للفريقين والناس جميعاً وهي ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط ميدان معركة أحد .
وبعد أن تلاوم رؤساء جيش الذين كفروا بعد معركة أحد، وتدارسوا الأمر وأدركوا فشل حملتهم وخيبتهم، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقدر على جمع جيش المسلمين لغزو مكة بعد إقامة الحجة عليهم باصرارهم على التعدي والهجوم على المدينة وقتل سبعين شهيدا.
لقد كان همّ الذين نافقوا بث الأراجيف والقول بأنه لو أطاعهم الشهداء ما قتلوا في معركة أحد، ولم يعلموا أن دماءهم صارت سبباً للإغارة على المشركين في مكة، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
إن خوف المشركين حال انتهاء معركة أحد من جمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والهجوم عليهم شاهد على أنهم لم ينتصروا في المعركة.
وأتفق رؤساء الكفر على الرجوع والكرة مرة أخرى ولكن ليس إلى جبل أحد إنما إلى المدينة لإستئصال شأفة المؤمنين ، فبلغ الخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وكان يبث عيونه الذين يأخذون الأخبار من الركبان ومن الناس الذين على الماء في الطريق ، ومن ذات جيش المشركين بعد التعتيم والتورية عليهم ، حينئذ نادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسلمين بالتهيئ والخروج للقاء العدو ، ولم يمض على معركة أحد أكثر من يوم.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم(“لَا يَخْرُجْ مَعَنَا إلّا مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ)( ) لبيان الإستغناء عن المنافقين، وان الخسارة في معركة أحد لم تجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطلب كثرة السواد، أو يتغاضى عن ظلم المنافقين بانسحابهم من وسط الطريق إلى معركة أحد ، ولما جاء عبد الله بن أبي رأس النفاق في ذات اليوم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له : أركب معك.
قال صلى الله عليه وآله وسلم : لا.
أي أن النبي اكتفى بالإمتناع عن خروج رأس النفاق معه ، ولم يوبخه ولم يذكره بانخزاله بثلث جيش المسلمين ، وهو من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم يغضب ولم ينفعل ولم تنعكس عليه آثار جراحاته والقروح الشديدة التي ألمّت به وبأصحابه فعادة ما يصب القائد جمّ غضبه على الذي أساء وكانت اساءته وتفريطه سبباً للخسارة والضرر .
وحتى وصول رأس النفاق إلى النبي حينئذ فانه أمر يدل على عدم قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بطرده أو منعه من الكلام ، وهل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن أبي : لا ، جاء خشية من إنسحابه مرة أخرى بشطر من الصحابة أم للاستغناء عنه .
الجواب هو الثاني ، فقد امتحن الله عز وجل الصحابة في الخروج إلى معركة أحد وعدم إصغائهم إلى دعوة وتحريض رأس النفاق على الرجوع، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
ولم يرفض النبي خروج عبد الله بن أبي معه إلا عن الوحي والأمر من عند الله ، وهل فيه بشارة بعدم وقوع قتال مع الذين كفروا وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يحتاج إلى السواد .
أم من مصاديق قوله تعالى[لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ]( ) .
الجواب لا تعارض بين الوجهين , وهو من الإعجاز في السنة الدفاعية وتعدد الأسباب للقول أو الفعل النبوي المتحد .
ونهض مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ مائتان من الصحابة وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد وتبعد عن المدينة المنورة أثني عشر كيلو متراً وصارت في هذا الزمان من ضواحيها .
وأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حمراء الأسد ثلاثة أيام (قَالَ ابن إسْحَاقَ : فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ حَتّى انْتَهَى إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ ، وَهِيَ مِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابن أُمّ مَكْتُومٍ ، فَأَقَامَ بِهَا الِاثْنَيْنِ وَالثّلَاثَاءَ وَالْأَرْبِعَاءَ ثُمّ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ .) ( ).
ثم أنصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عائدين إلى المدينة , وأثنى الله عز وجل على المؤمنين الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ إذ أنزل [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ] ( ) وهي الآية التي جاءت بعد آية البحث بآيتين ، وفق نظم القرآن .
لبيان قانون وهو أن إخبار آية البحث عن الشهداء وحالهم والفيوضات التي تأتيهم في الآخرة لا يعني الوقوف عنده بل لابد من التحلي بالصبر في الدفاع وأداء الواجبات العبادية والمرابطة ، وفي طريق ذهاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد مرّ به مَعبَد بن أبي معبد الخزاعي ، وكانت خزاعة تتصف بالنصح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواء المسلم منهم أو المشرك ، لا يخفون عليه شيئاً كما كانوا يقومون بتحذيره وإخباره عن مقاصد ومكائد كفار قريش ، وكان معبد يومئذ مشركاً ،وقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم(يَا مُحَمّدُ ، أَمَا وَاَللّهِ لَقَدْ عَزّ عَلَيْنَا مَا أَصَابَك ، وَلَوَدِدْنَا أَنّ اللّهَ عَافَاك فِيهِمْ)( ).
مما يدل على إنتشار الخسارة والضرر الذي لحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة أحد بين القبائل، فأظهر مَعبد الحسرة والحزن والمواساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم لقي مَعبد في الروحاء جيش المشركين القادم من معركة أحد، وسمعهم يتناجون بالرجوع إلى المدينة لإستئصال أصحاب النبي، والإجهاز على من بقي منهم لإنهاء المعارك بين الطرفين بعزمهم على إبادة المؤمنين ، وهو الأمر الذي كان الذين نافقوا يخشونه ويتوقعون حدوثه ولم يعلموا أن[يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ]( ).
ولما رأى ابو سفيان معبداَ سأله , وكان من عادة أبي سفيان أن يسأل الركبان ، والحاضرين عند الماء والآبار بنفسه , يستقي ويجمع منهم الأخبار ثم يقرر ما يفعل , قال : ما وراءك يا مَعبد؟
عندها إنتصر معبد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسعى لبعث الخوف في قلوب أبي سفيان وأصحابه ، إذ قال : لقد خرج محمد بأصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثل كثرته ، وعزمهم على البطش بكم والإنتقام منكم ، وهم يتشوقون للقاء القوم.
قال أبو سفيان : قد رأيناهم يوم أحد ، ولم يكن جمعهم إلا أقل من جمعنا ، قال مَعبد : قد اجتمع مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كان تخلف عنه يوم معركة أحد ، وندموا على عدم بذل الوسع في القتال مع الحنق عليهم وهم يسرعون السير في طلبهم ، وكان أبو سفيان إذا سمع أمراً يكرهه يكثر من محاورة الطرف الآخر لإستقراء التفصيل وليسمع أصحابه فلا يلومونه عند إتخاذ قرار الإنسحاب والفرار.
وكانوا لا يشكون بمعبد لأنه مشرك مثلهم فهو ناصح لهم .
قال أبو سفيان بمسمع من أصحابه وعلية القوم: ويحك يا معَبدَ ما تقول؟
قال مَعبدَ: والله أني لأظن أن نواصي خيل محمد وأصحابه تحيط بكم، قبل أن ترتحلوا .
قال أبو سفيان :فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم .
قال مَعبَد : إني أنهاك عن الرجوع إلى المدينة وطلب أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال :
(وَاَللّهِ لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْت عَلَى أَنْ قُلْت فِيهِمْ أَبْيَاتًا مِنْ شِعْرٍ قَالَ وَمَا قُلْت ؟ قَالَ : قُلْت :
كَادَتْ تُهَدّ مِنْ الْأَصْوَاتِ رَاحِلَتِي … إذْ سَالَتْ الْأَرْضُ بِالْجُرْدِ الْأَبَابِيلِ
تَرْدِي بِأُسْدِ كِرَامٍ لَا تَنَابِلَةٍ … عِنْدَ اللّقَاءِ وَلَا مِيلٍ مَعَازِيلِ
فَظَلّتْ عَدْوًا أَظُنّ الْأَرْضَ مَائِلَةً … لَمّا سَمَوْا بِرَئِيسِ غَيْرِ مَخْذُولِ
فَقُلْت : وَيْلُ ابن حَرْبٍ مِنْ لِقَائِكُمْ … إذَا تَغَطْمَطَتْ الْبَطْحَاءُ بِالْخَيْلِ
إنّي نَذِيرٌ لِأَهْلِ الْبَسْلِ ضَاحِيَةً … لِكُلّ ذِي إرْبَةٍ مِنْهُمْ وَمَعْقُولِ
مِنْ جَيْشِ أَحْمَدَ لَا وَخْشِ تَنَابِلَةٍ … وَلَيْسَ يُوصَفُ مَا أَنْذَرْت بِالْقِيلِ
فَثَنَى ذَلِكَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ)( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت آية البحث بحرف العطف الواو ، ولم تعطف الآية السابقة به ، ولكن الآية التي قبلها عطفت بالواو أيضاً .
ثم جاء في أول آية البحث النهي الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَلاَ تَحْسَبَنَّ] ولم تبدأ آية من آيات سورة آل عمران بنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قول أو فعل , وهو من مصاديق إكرام الله عز وجل للنبي وقول النبي (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي)( ) إنما يتعلق موضوع توجه النهي بالظن والحسبان والقصد تعليم وهداية الأمة، وهو من مصاديق ما تقدم بقوله تعالى[وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ).
نعم ورد في أول بعض آيات القرآن النهي للمسلمين كما في قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) وقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ]( ) وقوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( ) .
وورد في هذه السورة نهي آخر موجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى[لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]( ) من غير حرف عطف في بداية الآية .
ومن الإعجاز أن الآية أعلاه تتعلق بالمنافقين والتعريض بهم وذمهم، فقد كان عدد منهم إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الغزو، قعدوا وتخلفوا عنه، وفرحوا بقعودهم وعدم تحملهم وعثاء السفر ، والإبتعاد عن الأهل ، وتحمل الأذى وإحتمال الجرح أو القتل .
كما ورد النهي بذات اللفظ الوارد في آية البحث [وَلاَ تَحْسَبَنَّ] ليكون من مصاديق مدرسة النهي القرآني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ [وَلاَ تَحْسَبَنَّ].
لقد وقع القتال في معركة أحد بين المؤمنين والذين كفروا ، وهو الذي تدل عليه هذه الآيات ومنها قوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) وسقوط قتلى من الطرفين ، ولكن قتلى المسلمين يومئذ هم الأكثر إذ استشهد منهم سبعون ، فأتخذ المنافقون قتلهم مناسبة لأمور :
الأول : الصد عن سبيل الله .
الثاني : العذر والإعتذار عن القعود عن القتال .
الثالث : بعث الحسرة في نفوس المسلمين خاصة عوائل الشهداء .
وقد سبقت معركة بدر وسقط فيها سبعون قتيلاً من المشركين مع أسر سبعين منهم ، ومع هذا لم يتلاوموا بينهم ويقعدوا ، بل بذلوا الوسع في التحريض على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وجهزوا جيشاً لمعركة أحد هو ثلاثة أضعاف جيشهم في معركة بدر ، وكانوا يمنون أنفسهم بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولأن هذا القتل حاضر في الوجود الذهني عندهم من قبل أن يغادروا مكة للغزو والقتال ، فقد قال أحدهم وهو ابن قمئة : قتلت محمداً ، وسرعان ما انتشرت هذه الإشاعة لعلم الذين كفروا بأن في قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهن وضعف للإسلام وبداية لهزيمة المسلمين .
إن عدم قعود المشركين بعد معركة بدر حجة على الذين نافقوا إذ أنهم نطقوا بالشهادتين وصار لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين ، وقد قعد المنافقون قبل معركة أحد ، وحينما سقط سبعون شهيداً أظهروا معاني الكفر والضلالة .
وذكرت آية البحث الذين قتلوا في سبيل الله على نحو التعيين لبيان وجوه :
الأول : من المسلمين من يموت على فراشه وعن سهل بن حنيف(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من سأل الله الشهادة صادقا من قلبه بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)( ).
الثاني : الذي يقتل في الثأر وطلب الدنيا أو حال الظلم ظالماً أو مظلوماً، فان قلت الذين قتلوا في سبيل الله مظلومون.
والجواب نعم ، ولكن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق , فكل قتيل في سبيل الله مظلوم وليس العكس ، بالإضافة إلى قانون وهو أن الشهداء أكثر الناس مظلومية لذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يفسدوا، (وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: زمّلوهم في كلومهم ودمائهم، اللون لون الدم والريح ريح المسك)( ).
الثالث : الذي يقتل وهو يقاتل الذين كفروا ، ويرد عدوانهم وظلمهم بقصد القربة إلى الله عز وجل.
وتخص آية البحث الوجه الأخير للمنع من دعوى ونعت الشهادة لمن لم يقتل في سبيل الله ، وهل يصدق القتل من قتل بالقصاص والقود وإقامة الحد , الجواب نعم .
ترى ما هي النسبة بين قوله تعالى [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ] ( ) الجواب أنه العموم والخصوص , وأخرج البيهقي وابن عسكر عن الأوزاعي قال (من قتل مظلوماً كفَّر الله كل ذنب عنه، وذلك في القرآن {إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك})( ).
ويلزم القائل بغفران كل ذنوب المظلوم الدليل ، كما أنه لا ملازمة بين هذا القول والآية أعلاه.
فيأتي الظلم من قتلهم من وجوه :
الأول : الظلم والتعدي على الإسلام والتنزيل .
الثاني : الظلم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : إرادة الظلم للمهاجرين والأنصار .
الرابع : ظلم الذين كفروا للذين نافقوا والتغرير بهم ، وهو لا يتعارض مع ظلم الذين نافقوا للذين كفروا وإستدراجهم ووعدهم بنصرتهم ، ولا يلزم الدور في المقام للتباين الموضوعي والجهتي .
الخامس : ظلم الذين كفروا لأنفسهم من جهات :
الأولى : إختيار الكفر , فان قلت قد ورثوه عن آبائهم فهل يصدق عليه إختيار منهم ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ]( )، فقولهم إنا على آثارهم شاهد على الإختيار، وحجة عليهم، ثم أن دعوة الرسل ناسخة لتركة آبائهم.
الثانية : إصرار الذين كفروا على حرب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : عناد الذين كفروا وجحودهم بالدعوة إلى عبادة الله ظلم منهم لأنفسهم ، قال تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ] ( ) أي ظلموا أنفسهم بالكفر والجحود والعناد ليكون الذين قاتلوا المسلمين في معركة أحد أشدهم ظلماً وأكثرهم تعنتاً .
وبين الذين يقتلون مطلقاً والذين يقتلون في سبيل الله عموم وخصوص مطلق ، لذا خصت الآية الذين قتلوا في سبيل الله دون غيرهم ونفذت مضامين آية البحث إلى أغوار الناس وشغاف القلوب وتتحدث عن الظن والحسبان والشك ، لبيان أن الله عز وجل[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ).
وتتضمن آية البحث إخبار أجيال المسلمين والناس جميعاً وإلى يوم القيامة عن حياة الذين قتلوا في سبيل الله، وهذا الإخبار وحده كرامة لم تنلها طائفة أو أمة .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه ما تجتمع فيه الأمة من مصاديق سور الموجبة الكلية ولو في الجملة ، الجواب هو الأول من جهات :
الأولى : إكرام الذين قتلوا في سبيل الله فخر وعز للمسلمين جميعاً ,
الثانية : تجلي بركات ورشحات آية البحث على المؤمنين في كل زمان .
الثالثة : آية البحث مادة وموضوع للصبر ، فلا تنحصر الدعوة إلى الصبر في القرآن بالآيات التي تأتي بلفظ الصبر وموضوعه ، بل كل آية تتضمن مصداقاً من مصاديق الصبر ، ويمكن تخصيص باب في تفسير كل آية اسمه دعوة الآية للصبر .
لقد ابتدأت آية البحث بنفي الموت عن الذين قتلوا في سبيل الله ، ولو وقفت عند هذا النفي لقيل بما هو برزخ بين الموت والحياة، أو أن القتل في سبيل الله غير الموت مع الإتحاد في الماهية وأن تباينت الحال والكيفية ، فتفضل الله عز وجل وقال[بَلْ أَحْيَاءٌ] لتقطع الآية بحياة الشهداء عند الله ساعة نزول آية البحث لدلالة الجملة الاسمية عليه المقدرة (هم أحياء).
ومع قلة كلمات آية البحث فأنها تضمنت وجوهاً عديدة من فضل الله على المؤمنين الذين قتلوا في معركة أحد منها:
الأول : توجه الخطاب إلى شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدفع الظن بموت الشهداء، وهذا الظن هو المتبادر والظاهر الجلي عند الناس بالنسبة لمن يغادر الدنيا، فأراد الله عز وجل كشف حقيقة غائبة عن أذهان الناس وهي حياة الشهداء في النعيم عنده.
الثاني : الشهادة من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة من الله، وتحمل مسؤولية هداية الناس إلى سبل الصلاح، ومنها إرشادهم إلى قانون حياة الشهداء بعد قتلهم.
وهل تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لآية البحث من مصاديق هذا الإرشاد، الجواب نعم، وكذا بالنسبة لتلاوة المسلمين لها.
الثالث : تثبيت حقيقة وهي إستشهاد وقتل عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وجاءت الأخبار بأن عددهم سبعون وقيل أقل، إذ(قال موسى بن عقبة: جميع من أستشهد يوم أحد من المهاجرين والانصار تسعة وأربعون رجلا)( ).
الرابع : بعث الآية الطمأنينة في قلوب المسلمين والمسلمات بالشهادة من الله سبحانه بأن المسلمين الذين قتلوا في معركة أحد هم شهداء لأنهم إختاروا القتال والبذل والفداء في سبيل الله.
لقد خرجوا من الدنيا لتبقى شهادة الله لهم وثناؤه عليهم بين الناس إلى يوم القيامة، وفي التنزيل[قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ]( ).
الخامس : بيان قانون مصاحب للحياة الدنيا، وهو القتل في سبيل الله، ليدل في مفهومه على إنذار الذين كفروا في قتلهم للمؤمنين سواء في ميدان المعركة أو غيرها، قال تعالى[وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا]( ) .
(وعن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس هل لمن قتل مؤمناً متعمداً من توبة؟ قال: لا. فقرأت عليه الآية التي في الفرقان {والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر} فقال هذه الآية مكية نسختها آية مدنية {ومن يقتل مؤمناً متعمداً} الآية)( ).
والمراد من الآية المنسوخة في الحديث أعلاه[وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا]( ).
ولا دليل على النسخ بين الآيتين، إذ تتضمن الآيات المكية أعلاه سعة رحمة الله، وفتح باب المغفرة والحث على التوبة وما النسخ في المقام إلا زيادة في الرحمة وسعة في المغفرة، والترغيب فيها والدعوة إليها.
فلا يمكن القول بأن آية تتضمن قبول التوبة نسختها آية بغلق ذات الباب، قال تعالى[مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( )، والله عز وجل إذا أنعم بنعمة فأنه أكرم من أن يرفعها.
السادس : إخبار الآية عن حياة الذين قتلوا في معركة أحد شهداء من غير تفريق أو تفاضل بينهم.
السابع : بيان قانون وهو الألفة المستمرة بين الشهداء لأنهم أحياء على نحو العموم المجموعي، وبعضهم يرى بعضاً ويتكلم معه ويناجيه، ويشتركون بالشكر لله عز وجل والإستبشار بمن يأتي إلى الآخرة بعدهم من المؤمنين سواء بالقتل أو الموت مطلقاً .
ولا يختص موضوع هذا الإستبشار بالصحابة الآخرين الذين حضروا معركة أحد، أو المهاجرين والأنصار من الرجال والنساء مطلقاً، إنما يشمل المؤمنين والمؤمنات في الأجيال المتعاقبة، نعم وردت بعض الأخبار من التابعين التي تفيد التقييد.
فأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله{ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم}( ) قال : لما دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من الكرامة للشهداء قالوا: يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما صرنا فيه من الكرامة ، فإذا شهدوا القتال باشروها بأنفسهم حتى يستشهدوا فيصيبون ما أصابنا من الخير ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمرهم، وما هم فيه من الكرامة، وأخبرهم( ) أني قد أنزلت على نبيكم، وأخبرته بأمركم وما أنتم فيه من الكرامة، فاستبشروا بذلك. فذلك قوله{ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } يعني إخوانهم من أهل الدنيا أنهم سيحرصون على الجهاد ويلحقون بهم .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله { ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم } قال : إن الشهيد يؤتى بكتاب فيه من يقدم عليه من إخوانه وأهله يقال : يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا ، يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا . فيستبشر حين يقدم عليه كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا)( ).
الثامن : بيان فضل الله عز وجل على الشهداء بأن حياتهم عند الله حال نزول آية البحث، وفي كل زمان تتلى فيه، وأنهم ليسوا في القبور أو في جنة مخصوصة فدخول الجنان يكون يوم القيامة بعد النشور والحساب، ولم تقل الآيات أن الملائكة أحياء عند الله.
وهل يدل الظرف(عند) في آية البحث على تفضيل الشهداء على الملائكة , الجواب لا، إذ لا دليل على التفضيل في المقام.
التاسع : إختتام آية البحث بأن الشهداء يرزقون في حياتهم لبيان فضل وإحسان الله عز وجل عليهم، وأنهم ليسوا نسمات وأجسام مجردة لا تقبل ولا تحتاج الرزق، إنما يحتاج الشهداء الرزق من عند الله وتفضل به عليهم.
لقد وردت ثلاثة أفعال في آية البحث مع قلة كلماتها، وهذه الأفعال تختلف في صيغتها وهي :
الأول : فعل الأمر [تَحْسَبَنَّ] وجاء بمعنى النهي والمنع لتقدم (لا ) عليه والمخاطب به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الفعل الماضي [قُتِلُوا]والمراد به الشهداء في معركة بد وأحد .
ومن إعجاز آية البحث أنها لم تذكر الذين قتلوا بالذم والإنذار والوعيد، وهو من الشواهد على نزول القرآن من عند الله بأن إختصت هذه الآية والآيتان اللتان بعدها بذكر الشهداء وما رزقهم الله عز وجل .
وبينت آية البحث حال الشهداء عند الله بما يغبطهم عليه الأولون والآخرون ، ويكون موعظة للمسلمين ويبعث الحسرة والندامة في قلوب الذين كفروا وجهزوا الجيوش لقتلهم، وهم تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبحضوره صلى الله عليه وآله وسلم وعلمه ، لذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما يذكر شهداء أحد , ويترحم عليهم .
الثالث: الفعل المضارع [يُرْزَقُونَ] والذي أختتمت به آية البحث ليكون تقديره على وجوه أوسع وأكثر من أن تحيط بها أذهان البشر ،ويأتي مزيد كلام في باب تفسير قوله تعالى[يُرْزَقُونَ].
ترى ماذا لو قالت آية البحث [أَحْيَاءٌ] ووقفت، الجواب لكان فيه فضل عظيم أي أن ذكر حياة الشهداء عند الله نعمة عظيمة , والإخبار عنها في آية البحث نعمة أخرى ، ولكن الله عز وجل أراد بيان سعة فضله وعظيم منّه على الشهداء فأخبر عما هو واقع فعلاً من تفضله برزقهم، قال تعالى[وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ]( ).
فمع وجود المقتضي وفقد المانع ونصرة الله عز وجل للشهداء وتفضله ببعث السكينة في نفوس المسلمين والمسلمات أخبر عن أمر هو حق وصدق، وهو رزق الشهداء عند الله عز وجل وعلى نحو الدوام والاستمرار ليكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : ولا تحسبن الذين قتلوا في معركة أحد من أصحابك لم يقتلوا في سبيل الله .
الثاني : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله ليسوا عند الله .
الثالث : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله لا يرزقون .
الرابع : ولا تحسبوا حال الشهداء إلا بمثل ما يحتسبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حياتهم عند الله .
الخامس : ولا تنسوا الشهداء الذين قتلوا في معركة أحد .
فمن إعجاز الآية الغيري أنها تذكير بشهداء أحد ، ومن منافع هذا التذكير وجوه :
الأول: بيان شدة وضراوة معركة أحد .
الثاني : إخلاص الصحابة في الدفاع عن النبوة والتنزيل ، وبذلهم النفوس في سبيل الله .
وصحيح أن القتل وقع على سبعين منهم ، إلا أنه كان قريباً من كل واحد منهم .
وان قلت هل القتل يومئذ قريب من الذين فروا من ميدان المعركة والرماة الذين تركوا مواضعهم ، الجواب نعم ، فقد زحف المشركون من مكة لإستئصال المهاجرين والأنصار ، ففازوا بالثواب العظيم الذي حرم المنافقون أنفسهم منه بالإنسحاب من وسط الطريق .
الثالث : إكرام شهداء أحد بحسن ذكراهم عند المسلمين .
الرابع : إقتباس المسلمين المواعظ من معركة أحد .
وإذا أعطى الله فانه يعطي بالأتم والأوفى سواء في الدنيا أو في الآخرة لذا تفضل وأخبر عن تعدد النعم التي رزقها لشهداء أحد .
الخامس : هذا التذكير من عمومات قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، لبيان الصلة بين الأحياء والأموات منهم بألطاف من عند الله.
ليكون يوم نزول آية البحث يوم مواساة ورفع الحزن ودفع الغم عن المؤمنين والمؤمنات ببركة بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
أسباب النزول
جاءت آية البحث بخصوص شهداء أحد , والرد على الذين نافقوا وكيف أنهم إجتهدوا في الصد عن الدفاع عن النبوة والتنزيل مع الحاجة الشديدة له، لأن جيش المشركين صار على أطراف المدينة المنورة ، وفيه وجوه :
الوجه الأول : (عن جابر بن عبد الله قال لقيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا جابر ما لي أراك منكسراً؟ قلت : يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالاً وديناً
فقال: ألا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قال : بلى.
قال: ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب ، وأحيا أباك فكلمه كفاحاً( ) وقال : يا عبدي تمن عليّ أعطك
قال : يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية قال الرب تعالى : قد سبق مني أنهم لا يرجعون . قال : أي رب فأبلغ من ورائي. فأنزل الله هذه الآية{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً…}الآية)( ).
وهذا البيان معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفيه شاهد بأن الشهداء أحياء عند الله ، وأنهم يتمنون على الله ويستجيب لهم سبحانه من جهات :
الأولى : نزول آية البحث بما يدل على سؤال الشهيد، لقد ورد لفظ [يَسْأَلُونَكَ] خمس عشرة مرة في القرآن ، ويبين الخبر أعلاه مصداقاً من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [بَلْ أَحْيَاءٌ] بأن الفرد الواحد من الشهداء يسأل الله عز وجل فيستجيب له ، وينزل آية قرآنية تتلوها أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة.
الثانية : تأكيد كلام الشهيد مع الله عز وجل فان كان موسى عليه السلام كليم الله كما في قوله تعالى [وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا] ( ) فان الشهداء يكلمون الله في الآخرة ، وهو من معاني ومصاديق الحياة في قوله تعالى [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ] .
الثالثة : إتصاف كلام الله عز وجل مع الشهداء بأنه قبل، وليس من وراء برزخ أو حجاب .
الرابعة : ورد في الحديث أعلاه أن الله عز وجل أمر عبد الله بن عمرو بن حرام أن يتمنى عليه سبحانه ووعده بالإستجابة فكان سؤال الشهيد الرجوع إلى الحياة الدنيا مرة أخرى ليس لطلبها بالذات أو طمعاً في زينتها ومباهجها إنما للقتل مرة أخرى في سبيل الله عز وجل لما رأى فيه من النعم والغبطة ، وفيه رد على الذين نافقوا ويلومون الشهداء على خروجهم للدفاع .
الرابعة : يمكن تقدير آية البحث بلحاظ الحديث أعلاه على وجوه :
الأول : يحيى الله الشهداء حال قتلهم ، فلم يكن ثمة مدة بين واقعة أحد وسؤال جابر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوارد في الحديث أعلاه.
الثاني : كلام الله للشهيد من غير حجاب ، ويدل كلام الله مع أبي جابر على كلامه مع كل شهيد من شهداء الإسلام في معركة أحد لوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
الثالث : عدم ترتب أثر الديون على الشهيد ، فان الله عز وجل هو الذي يخلف خيراً على الدائن .
الرابع : قد لا يلتفت الشهيد للسؤال والتمني والمسألة ، فيأتيه الأمر من عند الله عز وجل بأن يتمنى ، ومن الإعجاز في المقام أن الله عز وجل يأمر الشهيد بسؤال حاجته بل أمره بالتمني ، وهو أعم من الحاجة ليكون تقدير آية البحث بلحاظ الحديث أعلاه على وجوه:
أولاً : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء يأمرهم الله عز وجل بأن يتمنوا فيستجيب لهم .
ثانياً : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله لا يكلمهم الله .
ثالثاً : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله لا يتمنون على الله .
رابعاً : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله لا يستجيب لهم الله .
خامساً : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً , فهم أحياء يتمنون على الله الأماني الخاصة بالدنيا والآخرة .
سادساً : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءُ يسألهم عن أمانيهم وتمنياتهم مع الوعد الكريم بالإستجابة لهم .
سابعاً : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً لا ينتفع منهم ومن دعائهم وأمانيهم المسلمون.
ثامناً : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً لا يعلمون بما يتطاول عليهم الذين نافقوا .
(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش. فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ، وحسن مقبلهم . قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا – وفي لفظ – قالوا : إنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب.
فقال الله : أنا أبلغهم عنكم . فأنزل الله هؤلاء الآيات { ولا تحسبن الذين قتلوا…} الآية . وما بعدها) ( ).
وذكر الربيع مسألة وضع أرواح الشهداء في طيور خضر ولكنه نسبه إلى بعضهم وبصيغة الزعم .
(وأخرج ابن جرير عن الربيع قال : ذكر لنا عن بعضهم في قوله { ولا تحسبن الذين قتلوا . . . } الآية . قال : هم قتلى بدر وأحد ، زعموا أن الله تعالى لما قبض أرواحهم وأدخلهم الجنة ، جعلت أرواحهم في طيور خضر ترعى في الجنة ، وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش ، فلما رأوا ما أعطاهم الله من الكرامة قالوا : ليت إخواننا الذين بعدنا يعلمون ما نحن فيه، فإذا شهدوا قتالاً تعجلوا إلى ما نحن فيه , فقال الله : إني منزل على نبيكم ومخبر إخوانكم بالذي أنتم فيه . ففرحوا واستبشروا وقالوا : يخبر الله إخوانكم ونبيكم بالذي أنتم فيه . فإذا شهدوا قتالاً أتوكم . فذلك قوله { فرحين . . . } الآية .) ( ).
الوجه الثاني : (عن أبي الضحى في قوله { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً } قال : نزلت في قتلى أحد ، استشهد منهم سبعون رجلاً : أربعة من المهاجرين : حمزة بن عبد المطلب من بني هاشم ، ومصعب بن عمير من بني عبد الدار ، وعثمان بن شماس من بني مخزوم ، وعبد الله بن جحش من بني أسد . وسائرهم من الأنصار) ( ).
وأبو الضحى مسلم بن صبيح ، مولى آل سعيد بن العاص ، سمع ابن عباس وابن عمر ، وكان عطاراً وكثير الحديث ، مات نحو سنة مائة وحدّث عنه مغيرة ومنصور والأعمش .
أي أن الآية لم تنزل لسؤال الشهداء ، إنما نزلت لرجاء بعض الصحابة معرفة حال الشهداء الذين قتلوا يوم أحد وهل هذا الرجاء رد على الذين نافقوا [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ) والوارد في الآية السابقة.
الجواب نعم ، لبيان إرادة الذين نافقوا الفتنة في المدينة وأنهم كانوا يبثون الأراجيف التي تصد عن الدفاع ، فيبث المنافقون الأقاويل والسموم، فيتمنى المؤمنون ما يكشف الحقائق ويبين صفحة من علم الغيب فيأتي الجواب من عند الله عز وجل في آية البحث ليكون من مصاديق سمو مرتبة الصحابة عند الله أمور:
الأول : تمني معرفة ما يفعل الشهداء ، فلم يقل الخبر يا ليتنا نعلم حال إخواننا الذين قتلوا ) بل ورد بصيغة الفعل ما فعل اخواننا لبيان قانون وهو أن الصحابة واثقون من حقيقة وهي حياة الشهداء عند الله ، إنما تمنوا معرفة تفاصيل هذه الحياة ، وعلو الدرجة التي فازوا فيها .
وهناك مسألة وهي هل سبق الحديث النبوي نزول آية البحث في الإخبار عن حياة ومرتبة الشهداء عند الله ، أم أن آية البحث نزلت ثم توالى الحديث النبوي الذي يبين درجة ومرتبة الشهداء ويفسر مضامينها ، الجواب هو الأول .
الثاني : من صفات صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنهم من قبائل وأمصار شتى ، ومن الإعجاز القرآني تقسيمهم إلى :
الأول : المهاجرون .
الثاني : الأنصار .
ونزول الآيات القرآنية التي تثبت هذا التقسيم وتجعله أساساً ونوع بيان، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] ( ) ويأتي بعد المهاجرين والأنصار صنف وطبقة أخرى وهم التابعون .
وعن (ابن عباس: ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناسَ يوم تُوفي على أربع منازل: مؤمن مهاجر، والأنصار، وأعرابي مؤمن لم يهاجر; إن استنصره النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصره، وإن تركه فهو إذْنُه، وإن استنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدين كان حقًّا عليه أن ينصره، فذلك قوله: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) والرابعة: التابعون بإحسان)( ).
وفي معركة الأحزاب وعند مقدماتها وساعات حفر الخندق اختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي ، كل فريق منهم يقول أنه منهم إكراماً له ، وكل فريق يريد أن يشارك معهم في الحفر لإخلاصه وتفانيه وقوة بدنه.
فتدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وقال تلك الوثيقة المتوارثة عند أجيال المسلمين وجميع مذاهبهم ومشاربهم(سلمان منا أهل البيت ) وعن عمرو بن عون المزني قال: خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام ذكرت الأحزاب، من أحمر الشيخين طرف بني حارثة، حتى بلغ المذاد، ثم جعل أربعين ذراعا بين كلّ عشرة، فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي، وكان رجلا قويا، فقال الأنصار: سلمان منا، وقال المهاجرون: سلمان منا، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: “سَلْمانُ منَّا أهْلَ البَيْت”.
قال عمرو بن عوف: فكنت أنا وسلمان وحُذيفة بن اليمان والنعمان بن مقرن المزني، وستة من الأنصار، في أربعين ذراعا، فحفرنا تحت دوبار حتى بلغنا الصرى، أخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مروة فكسرت حديدنا، وشقّت علينا .
فقلنا: يا سلمان، ارق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره خبر هذه الصخرة، فإما أن نعدل عنها، فإن المعدل قريب، وإما أن يأمرنا فيها بأمره، فإنا لا نحبّ أن نجاوز خطه. فرقي سلمان حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية، فقال: يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا خرجت صخرة بيضاء من بطن الخندق مروة، فكسرت حديدنا، وشقَّت علينا حتى ما يجيء منها قليل ولا كثير، فمرنا فيها بأمرك، فإنا لا نحب أن نجاوز خطك، فهبط رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سلمان في الخندق، ورقينا نحن التسعة على شفة الخندق، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول من سلمان، فضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها -يعني لابتي المدينة- حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم .
فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، وكبر المسلمون ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية، فصدعها وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، وكبر المسلمون، ثم ضربها رسول الله صلى الله عليه وسلم الثالثة فكسرها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها، حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبير فتح، ثم أخذ بيد سلمان فرقي، فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد رأيت شيئا ما رأيته قطّ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القوم .
فقال: “هَلْ رأيْتُمْ ما يقُولُ سَلْمانُ؟” قَالُوا: نعم يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا، وقد رأيناك تضرب، فيخرج برق كالموج، فرأيناك تكبر فنكبر، ولا نرى شيئا غير ذلك، قال: “صَدَقْتُمْ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي الأولى، فَبَرقَ الَّذِي رأيتم أضَاءَ لي مِنْهُ قُصُورُ الحِيرَة وَمَدَائِنُ كِسْرَى، كأنَّها أنْيابُ الكِلاب، فأخْبَرَنِي جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّ أُمَّتِي ظاهِرَةٌ عَلَيْها، ثُمَّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتي الثَّانيَةَ، فَبَرقَ الَّذِي رأيْتُمْ، أضَاءَ لي مِنْهُ قُصُورُ الحُمْر مِنْ أرْضِ الرُّومِ، كأنَّها أنْيابُ الكِلاب، وأخْبَرَنِي جَبْرائِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّ أُمَّتِي ظاهِرَةٌ عَلَيْها، ثُمَّ ضَرَبْتُ ضَرْبَتِي الثَّالِثَةَ، وَبَرَقَ مِنْها الَّذِي رأيْتُمْ، أضَاءَتْ لِي مِنْها قُصُورُ صَنْعاءَ، كأنَّها أنْيابُ الكلاب، وأخْبَرَنِي جَبْرائِيلُ عَلَيْه السَّلامُ أنَّ أُمَّتِي ظاهِرَةٌ عَلَيْها، فأبْشِرُوا” يُبَلِّغُهُمُ النَّصْر، “وأبْشرُوا” يُبَلِّغُهُمُ النَّصْر، “وأبْشِرُوا” يُبَلِّغُهُمُ النَّصْر؛ فاستبشر المسلمون .
وقالوا: الحمد لله موعود صدق، بأن وعدنا النصر بعد الحصر، فطبقت الأحزاب، فقال المسلمون(هَذا ما وَعَدَنا اللَّهُ وَرَسولُهُ …) الآية، وقال المنافقون: ألا تعجبون يحدّثكم ويمنيكم ويعدكم الباطل، يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الفرق، ولا تستطيعون أن تبرزوا وأنزل القرآن( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا))( ).
وقال المهاجرون: سلمان منا، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “سَلْمانُ منَّا أهْلَ البَيْت”. قال عمرو بن عوف: فكنت أنا وسلمان وحُذيفة بن اليمان والنعمان بن مقرن المزني، وستة من الأنصار، في أربعين ذراعا، فحفرنا تحت دوبار حتى بلغنا الصرى، أخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مروة)( ).
وقول الصحابة يا ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين قتلوا يوم أحد) شاهد على عدم إصغاء المهاجرين والأنصار إلى قول الذين نافقوا [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ) ودليل على أن الصحابة مستعدون للخروج للجهاد حالما يدعوهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للنفير أو يأتي العدو إلى أطراف المدينة .
لقد أسس خروج النبي وأصحابه صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد وتلقي الخسارة الفادحة يومئذ لقانون وهو : وجوب الدفاع عن الثغور ومنع تطاول العدو إلى أطراف ومشارف المدينة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثالث : إقرار الصحابة ببقاء مصاديق ومعاني الأخوة بينهم وبين الشهداء وفيه مسائل :
الأولى : التسليم بحياة الشهداء في الآخرة .
الثانية : ذكر الصحابة للشهداء ذكراً حسناً .
الثالثة : إهداء الأعمال الصالحة للشهداء .
الرابعة : شفاعة الشهداء لإخوانهم .
الرابع : لقد جاءت الآية السابقة باتخاذ الذين نافقوا الأخوة النسبية بقوله تعالى[الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا]( ) كما أنهم يعتمدون الأخوة وأواصرها مع الكفار ، وقد ورد في قوله تعالى [أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ]( ).
الوجه الثالث : كان المشركون (يقولون: أصحاب محمد يقتلون نفوسهم في الحروب بغير سبب، ثم يموتون فيذهبون، فأعلمهم الله أنه ليس الامر على ما قالوه وأنهم سيحيون يوم القيامة ويثابون، عن البلخي)( )، لبيان حقيقة وهي نزول آية البحث رد على المشركين، وإحتجاج عليهم وهو من مصاديق ذمهم بقوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، إذ تشارك آية البحث في نزولها وتلاوتها في خيبة الذين كفروا .
ومن أمثال العرب في الخيبة: رجع بِخُفي حُنيْن، وكذا بالنسبة لجيش المشركين في معركة أحد، ورجوعهم إلى مكة خاسئين مقرين بعجزهم عن تحقيق أي غاية لتعديهم وظلمهم وقتالهم و(الْخَيبْةُ: حِرمان الْجِدِّ، يقال: خاب يَخيبُ خَيْبَةً، وخَيَّبهُ اللهُ تخْيِيباً)( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : إكرام آية البحث للذين قتلوا في معركة أحد بالشهادة لهم بأنهم قتلوا دفاعاً عن النبوة والتنزيل ، لقوله تعالى [قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ].
وقد تقدم قبل بضع آيات قوله تعالى[أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ) لبيان التضاد بين المسلمين والذين كفروا في معركة أحد وإتصال هذا التضاد في الدنيا والآخرة ، فأخبرت آية البحث عن الثواب العظيم للشهداء ، بينما أختتمت الآية أعلاه بالوعيد للذين كفروا .
الثانية : تفضل الله عز وجل باكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بجعل ظنه موافقاً لما هو في علم الغيب ، وكأن الآية تتضمن الإخبار عن قانون وهو لو تعارض الأمر السائد والمتعارف مع علوم الغيب التي جاء بها القرآن ، فالصحيح هو الثاني .
الثالثة : بيان آية البحث لقانون من الإرادة التكوينية وهو حياة الشهداء الذين يقتلون دفاعاً عن النبوة والتنزيل بعد أن زحف الذين كفروا لقتالهم.
وجاءت آية البحث بحرف الاضراب[بَلْ أَحْيَاءٌ] لتأكيد حب الله عز وجل لشهداء أحد , وأمره باخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عن حسن حالهم وسلامة اختيارهم .
الرابعة : دعوة المسلمين والمسلمات إلى جعل تصورهم وظنهم مرآة لآيات القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) إذ فاز المسلمون باصلاح ظنهم وإستحضارهم الحقائق وتأويل الوقائع بالصدور عن القرآن وآياته .
الخامسة : بعث النفرة في نفوس المسلمين والناس من الذين كفروا لهجومهم وتعديهم وإصرارهم على قتل المؤمنين بغير حق .
السادسة : دعوة المسلمين للصبر على فقد الأحبة في لقاء الذين كفروا في ميدان القتال .
السابعة : من خصائص آية البحث أنها تلاحق الذين كفروا وتقض مضاجعهم وتتضمن إبلاغهم بأن الشهداء الذين قتلوهم أحياء عند الله ينتظرون قدومهم للإقتصاص منهم.
وهل هذا الإقتصاص من مصاديق الرزق في قوله تعالى [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] خاصة وأن الآية أعلاه جاءت بصيغة الفعل المضارع ، الجواب لا دليل عليه .
الثامنة : إنذار الذين كفروا والناس جميعاً من قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وقتل أحدهم .
قال تعالى[وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا]( ) فكيف وقد قتل كفار قريش سبعين منهم في يوم أحد .
التاسعة : البشارة للمؤمنين السابق منهم واللاحق بأن في الآخرة رزقاً ويتصف هذا الرزق بالحسن والكمال ، وفيه ما تلذ الأعين وتشتهي النفوس، وقد فاز به الشهداء ليكونوا سابقين لأفراد الأمة.
وهل فاز بذات الرزق الشهداء من الأمم السابقة أم أنه خاص بشهداء أحد والمؤمنين من أمة محمد ، الجواب هو الأول بدليل آية البحث التي تتضمن علة هذا الرزق الكريم ، وهو القتل في سبيل الله لينبسط على أيام الإنسان في الحياة الدنيا، وعمارته الأرض، ومن الدلائل في المقام مجيء آية البحث بصيغة الماضي(قُتلوا) من غير تقييد بواقعة مخصوصة , وإنحصر التقييد بأن القتل(في سبيل الله).
العاشرة : طرد الجزع والفزع عن المسلمين وعصمتهم من الخشية والخوف مما بعد الموت , فمن خصائص القرآن أنه تنزل الآية القرآنية فتهذب النفوس وتصلح المجتمعات ، وتعصم من الظن والوهم الذي لا أصل له .
ترى لماذا لم تقل آية البحث: ولا تظن أو لا تتوهم.
الجواب إنما ذكرت آية البحث الحسبان بقوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ] لبيان أن مثل هذا الإحتساب متبادر للأذهان وأمر شائع وهو المعروف ، فجاءت آية البحث لنفيه ونقضه والإخبار عن قانون آخر يخص الشهداء وهو أنهم ليسوا مثل عامة الناس في عالم ما بعد الموت .
ولم تنظر الآية إلى غلبة ونصر المسلمين أو عدمه أو إلى شجاعة الشهيد وبسالته في الحرب وتفانيه في القتال إذ نظرت إلى مسألة واحدة وهي أنه قتل في سبيل الله ، وإن كان مدبراً , فنال الثواب العظيم وهو غاية الإكرام والثناء , قال تعالى[وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ]( ).
قانون كل آية قرآنية من مصاديق [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )
لقد أنزل الله عز وجل كلامه على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأبى إلا أن يتصف بالإعجاز اللامتناهي ، ومن البراهين عليه مضامين علم التفسير والبيان الإعجازي في هذا السِفر المبارك ، وما يبعث إليه من الغوص في بحار إعجاز القرآن ، ومنه :
الأول : تفسير الآية القرآنية لذاتها ومضامينها القدسية .
الثاني : التفسير الذاتي بأن تكون الآية القرآنية تفسيراً وبياناً للآية القرآنية الأخرى .
الثالث : الآية القرآنية مرآة للآية القرآنية الأخرى وشاهد على صدق نزولها من عند الله عز وجل , لقد نزل قوله تعالى في موسى [سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ] ( ) .
ليكون شدّ العضد بخصوص القرآن على وجوه :
الأول : كل آية قرآنية تشد عضد الآية الأخرى .
الثاني : تشد الآيات القرآنية عضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها ضياء وهدى .
الثالث : السنة النبوية تشد عضد الآية القرآنية بلحاظ أنها بيان للقرآن .
الرابع : بيان الآية القرآنية لعلوم من الغيب ، ومنه آية البحث إذ تتضمن الإخبار عن أمور :
أولاً : إختيار شهداء معركة أحد من المهاجرين والأنصار القتل في سبيل الله سبحانه.
ثانياً : توثيق قانون وهو أن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم طريق إلى شهادة بعض أصحابه .
ولما ذكرت آية البحث حياة الذين قتلوا في سبيل الله ، ترى ما هو حال وشأن الذين قتلوهم ، وفي آل فرعون ورد قوله تعالى [النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ] ( ).
وتدل الآية أعلاه على أن عرض فرعون وقومه على النار إنما هو في عالم البرزخ وما يسبق يوم القيامة ، إذ قال لهم : هذه النار التي تنتظركم لسوء أفعالكم وتكذيبكم بالأنبياء ، وقتل وسبي بني إسرائيل ، وفي التنزيل [وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ] ( ).
(وقال السدي وهذيل بن شرحبيل : هو أنهم لما هلكوا جُعلت أرواحهم في أجواف طير سود،
فهي تُعرض على النار كل يوم مرتين تغدوا وتروح إلى النار حتى تقوم الساعة.) ( ).
ويلزم القول بجعل أراحهم أجواف طير سود الدليل وهو مفقود في المقام ، أنما وردت الآية أعلاه بصيغة الجملة الخبرية وذكرهم على نحو الجمع [يُعْرَضُونَ]كما لو كانوا في الحياة الدنيا من جهة الإحساس والإدراك فهم ليسوا من المستضعفين والذين ورد ذكرهم في قوله تعالى [قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ] ( ).
ثالثاً : سبيل الله طريق إلى الشهادة والحياة الأبدية في عالم الآخرة ، فهو خير محض وباب فتحه الله عز وجل لخاصه أوليائه .
رابعاً : في آية البحث وعد متعدد يتعلق بالدفاع عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
خامساً : حياة الشهداء بعد قتلهم ، ومن معاني التقييد بأنهم أحياء عند الله أي الأمن والسلامة من وسوسة وإغواء الشيطان .
سادساً : من خصائص الحياة عند الله السلامة والأمن من الإفتتان والابتلاء والإمتحان فاخلاص النية وصدق الإيمان والتفاني في طاعة وعرض النفس للقتل دفاعاً عن التوحيد والمناسك طريق الخلود في النعيم الحال من غير فترة أو مهلة أو إرجاء .
ولعل الملائكة لم يعلموا بهذا الأمر حينما أخبرهم الله عز وجل عن خلق آدم وصيرورته خليفة في الأرض يعمرها وذريته ، فجاءت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأراد المشركون إشاعة الفساد والذي خشاه وحذّر منه الملائكة بقوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) لتكون آية البحث من مصاديق علم الله الذي إنكشف إلى الملائكة فنزلوا لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة أحد ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ) .
من المعجزات في غزوة ذات الرقاع
وكانت غزوة ذات الرقاع تسمى غزوة الأعاجيب لتعدد المسائل والمخاطر والأمور المفاجئة فيها , منها :
الأولى : سعي غوث بن الحرث لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي رأى النبي مستظلاً تحت شجرة وقد علّق سيفه على الشجرة وهو قائل فجاء غوث هذا وإخترط سيف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأستيقظ , فرأى سيفه في يد غوث ، مصلتاً إياه، وقال: ما يمنعك يا محمد مني.
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الله، فأعاد غوث السؤال ثلاثاً، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول له في كل مرة : الله، فسقط السيف من يده وجلس على الأرض ولم يعاقبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما نادى على أصحابه وأخبرهم بقصته.
الثانية : رأى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحد المسلمين وعليه ثوب مخروق , فقال: ما له ثوب غيره يرتديه، قالوا: له ثوبان جديدان معه فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلبسهما ، فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هذا أحسن أي لباسه الثوب الجديد ثم قال : ما له ضرب الله عنقه ، فسمعه الرجل .
فقال : يا رسول الله في سبيل الله تعالى .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : في سبيل الله ، أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا له أن يقتل في سبيل الله شهيداً .
فقتل الرجل في معركة اليمامة التي وقعت في السنة الثانية عشرة من الهجرة.
الثالثة : في طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذات الرقاع عرضت امرأة بدوية له ومعها ابن لها ، وقالت : يا رسول الله هذا ابني قد غلبني عليه الشيطان أي أنها أخبرت عن اسلامها وتسليمها بمنزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الله مع رجاء شفاء ابنها من مسّ الشيطان ففتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم فم الصبي وبزق فيه .
وقال : اخس عدو الله أنا رسول الله ، قالها ثلاث مرات ثم خاطب المرأة قائلاً : شأنك بابنك لن يعود إليه شئ مما كان يصيبه .
قال جابر (فلما رجعنا جاءت المرأة فسألها عن ابنها فقالت : ما أصابه شيء مما كان يصيبه ) ( ).
وفيه مواعظ من وجوه :
الأول :إمكان وصول الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال الحضر والسفر .
الثاني : عدم حجز ومنع الصحابة الناس من الإقتراب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومحادثته .
الثالث : توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقتال لم يمنعه من الإنصات للناس في مسائلهم الخاصة .
الرابع : إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمرأة ورفقه بها .
الخامس : حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للناس كباراً وصغاراً وإصلاحه الصبيان للإيمان وأداء الفرائض ،وإعاذتهم من الشيطان ، وفي التنزيل بخصوص ولادة مريم [فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ] ( ) .
السادس : دعوة المسلمين لإعاذة أولادهم من الشيطان وشروره ، وبه ورد النص .
ولا تختص الإستعاذة بالشيطان بالصغار بل تشمل الجميع ، قال تعالى [فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ] ( ) و (عن سعد قال كنا نذكر بعض الامر وأنا حديث عهد بالجاهلية فحلفت باللات والعزى فقال لي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بئس ما قلت ائت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره فإنا لا نراك إلا قد كفرت فلقيته فأخبرته .
فقال قل لا إله إلا الله وحده ثلاث مرات وتعوذ من الشيطان ثلاث مرات واتفل عن شمالك ثلاث مرات ولا تعد له) ( ).
الرابعة : فقد جابر بن عبد الله جمله في ليلة مظلمة ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال مالك ؟
قال : يا رسول الله فقدت جملي .
فقال : ذاك جملك ، أذهب فخذه .
ولكن جابر ذهب إلى الجهة التي أشار اليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يجد الجمل .
فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره أنه لم يجد الجمل ، فأشار إليها مرة أخرى ، فذهب جابر ولم يجده ، ولكنه لم يشك أبداً بصدق قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم , فانطلق معه إلى ذات الجهة ،وقال له هذا جملك يقول جابر (فدفعه لي ).
الخامس : عند رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من معركة ذات الرقاع وعند مهبط الحرة أقبل جمل يرقل .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه أتدرون ما قال هذا الجمل ، هذا جمل يستعديني على سيده ، وأنه كان يحرث عليه منذ سنين ، وأراد أن ينحره ثم وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلامه إلى جابر الأنصاري : إذهب يا جابر وأئتني بصاحبه .
فقال : لا أعرفه يا رسول الله .
قال : إنه سيدلك عليه ، وكأن الجمل عرف معنى كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسار بين يدي جابر حتى وقف على صاحبه ، فجاء جابر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كلمه في شأن الجمل وأن يمتنع عن ذبحه .
وكانت قريش تحذر الوجهاء والناس عامة من الإنصات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما يتلوه من آيات القرآن لتجلي قانون دخول الناس الإسلام بالإنصات لتلاوته للقرآن ، فقدم الطفيل بن عمرو الدوس إلى مكة وكان سيداً مطاعاً في قومه ، فاجتمع به كبار رجالات قريش وحذروه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان هذا التحذير على وجوه:
الأول : التحذير من شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولزوم إعراضه وابتعاده عنه .
الثاني : اجتناب الإجتماع بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : عدم تلبية دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإجتماع به .
الرابع : نهي قريش للطفيل من الإستماع لآيات القرآن التي يتلوها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد لا يجتمع به ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسمعه آيات القرآن .
الخامس : الإستماع إلى حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته إلى الإسلام .
ولم ينحصر تحذير قريش للطفيل بالأمر المتحد ، إنما كان متعدداً وعلى نحو الإلحاح والتفصيل ، قال الطفيل (فو الله ما زالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئا ولا أكلمه، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني شئ من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه) ( ).
ويدل هذا الخبر وحرص قريش على منع الناس من اللقاء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإستماع له على سخطهم عليه ، وإرادتهم الكيد والبطش به بلحاظ أن هذا السخط يزداد ويشتد مع تقادم الأيام واجتهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى الله ليتحول وينتقل من القول إلى الإضرار الفعلي وإرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو الذي تجلى في قوله تعالى[وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على الحضور في المسجد الحرام وأداء الصلاة فيه ، قال الطفيل : فغدوت إلى المسجد فاذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يصلي عند الكعبة .
فقمت قريباً منه فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله ) أي أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلو آيات القرآن ، ولم يلتفت لما حوله .
فندم الطفيل على إنصاته لتحذير قريش من النبي وقال مع نفسه ، اني رجل شاعر أقدر على الفصل والتمييز بين القول الحسن والقبيح .
لقد قرر الثورة الذاتية على إملاءات قريش خاصة وأنه من أشراف قومه ومطاع فيهم فيأبى أن يطيع طرفاً على آخر من غير أن يعلم بحاله وشأنه وحجته ، فأنصت الطفيل للقرآن وأدرك أنه فوق كلام البشر ، وتتجلى فيه آيات , لن يبلغها الشعر والنثر والبديع ، فبقي جالساً في المسجد إلى أن غادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فأتبعه الطفيل فرأه وقد دخل بيته ، وهو في زمان كتابة هذا التفسير مكتبة مكة العامة ، فطرق الباب وأستأذن بالدخول فأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم له .
فقال : يا محمد أن قومك حذروني منك ومن الإجتماع بك والإستماع إليك حتى سددت اذني بالكرسف ( ) لئلا اسمع قولك ، وأستدرك قائلاً وقد أنعم الله عز وجل عليّ بأن استمعت لتلاوتك القرآن ، فسمعت قولاً لم اسمع مثله أي من جهة البلاغة والموضوع والحكم والدلالة ، فأعرض عليّ أمرك .
فعرض عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام وبيّن له أنه رسول من عند الله إلى الناس جميعاً ، وتلا عليه آيات من القرآن ، فبادر الطفيل إلى دخول الإسلام ونطق بالشهادتين ، ثم أخبر الطفيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلته وشأنه عند قومه وهم قبيلة دوس ، وأنه سيرجع إليهم ليدعوهم إلى الإسلإم ، وقال (فَادْعُ اللّهَ لِي أَنْ يَجْعَلَ لِي آيَةً تَكُونُ عَوْنًا لِي عَلَيْهِمْ فِيمَا أَدْعُوهُمْ إلَيْهِ فَقَالَ اللّهُمّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً) ( ).
وحينما توجه إلى قومه وقع نور بين عينيه ليكون على وجوه :
الأول : آية من عند الله .
الثاني : إنه شاهد على إستجابة الله عز وجل لدعاء نبيه الكريم .
الثالث : بيان مصداق لقانون وهو إستجابة الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أصحابه .
الرابع : بيان الحاجة إلى الآية للتخفيف عن الطفيل .
الخامس : هذه الآية مدد من عند الله لرسوله والمؤمنين ورواد وسابقي قومهم ، وهو من مصاديق الرحمة في قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
السادس : نزول الرحمة من عند الله عز وجل بدوس وهم قوم الطفيل لمبادرته لدخول الإسلام رغم ممانعة رؤساء قريش .
السابع : ترغيب قوم الطفيل بدخول الإسلام .
الثامن : إرادة الأمن والسلامة للطفيل ومن يتبعه بدخول الإسلام .
لقد لاقى المسلمون الأوائل في مكة أشد الأذى ، فاراد الله عز وجل التخفيف عن الذين يسلمون من القبائل والمدن الأخرى ، وفيه شاهد بخصوص الأنصار وأن كان أمرهم مختلف إذ دخلوا الإسلام العشرات منهم دفعة .
الحادية عشرة : كل آية قرآنية سلاح لتنمية ملكة التقوى من وجوه :
الأول : الذي يقرأ الآية القرآنية .
الثاني: الذي يستمع للآية القرآنية .
الثالث : الذي ينتفع من التالي والمستمع للآية القرآنية .
الرابع : إنتفاع الناس من الذي يعمل بمضامين الآية القرآنية لتكون سلاحاً للمسلم وغير المسلم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
الخامس : الآية القرآنية مدد وسلاح في سوح المعارك .
لقد ذكرت الآية أعلاه من سورة النساء اسلحة المسلمين ، لتكون الآية القرآنية الوعاء السماوي الحافظ للآية القرآنية ، ويحفظ الله عز وجل الآية القرآنية لقوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
السادس : تبعث الآية القرآنية على التمسك بالقرآن والسنة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ) .
السابع : الآية القرآنية حرب على الفرقة والخلاف , وواقية من الخصومة والشقاق .
الثامن : كل آية قرآنية مدد وعون لأداء الواجبات العبادية ، ومن الإعجاز ورود ذكر الفرائض العبادية في القرآن من جهات :
الأولى : ذكر وجوب العبادات والإخبار عن المستحبات .
الثانية : بيان تفاصيل العبادات كالصلاة والصوم والحج .
الثالثة : منع الترديد واللبس والخلط في أداء العبادات وكيفية الفعل ، فمثلاً ورد البيان في ذكر الأصناف الذين تدفع لهم الزكاة ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
ومن الإعجاز في المقام وجوب تلاوة آيات القرآن في الصلوات اليومية الخمسة , وفيه بلحاظ المقام تذكير المسلمين بالواجبات العبادية فاذا قرأ إمام الجماعة قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ).
يشكر الذي أدى فريضة الحج الله عز وجل على التوفيق لأدائه ، ويدعو الذي لم تتهيأ له الإستطاعة الله عز وجل اليسر والتمكين ، وينتبه الغافل عن وجوب الحج ، والملاك الجامع بين الكل هو الشوق إلى الشاخص المبارك الذي جعله الله [مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا] ( ).
التاسع : الآية القرآنية سلاح في الهداية إلى التوحيد ونبذ الشرك ومفاهيم الضلالة .
العاشر : في الآية القرآنية بيان لصفات الله ، وهو مناسبة لزيادة الإيمان، ودفع الجهالة والغرر .
الحادي عشر : بيان آيات القرآن لفضل الله عز وجل على النبي محمد والمسلمين والناس جميعاً ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ] ( ) لتكون الآية القرآنية مناسبة لشكر المسلمين لله عز وجل ، وهذا الشكر من أبهى مصاديق الأسلحة في الدنيا ، لبيان قانون وهو أن الآيات القرآنية سلاح ، ويترشح عنها اللامتناهي من الأسلحة .
الثامن : مفهوم الآية ، وهو علم مستحدث في هذا التفسير المبارك ، إذ أفردنا باباً في تفسير كل آية اسمه (مفهوم الآية ) وتـأتي الآية القرآنية بالنص الصريح والمنطوق وما يفيد المطابقة والدلالة التضمنية ، ويرد المنطوق على وجوه :
الأول : الأمر .
الثاني : النهي .
الثالث : العام .
الرابع : الخاص .
الخامس : المطلق .
السادس : المقيد .
السابع : المجمل .
الثامن : المبين .
التاسع : الظاهر .
وأطلق على دلالة الإشارة والإيماء والإقتضاء اسم المنطوق غير الصريح أما المفهوم فهو غير منطوق به إنما يترشح ملازمة عن معناه ، فاذا قلت فلان عالم فيدل في مفهومه على أنه غير جاهل .
ولكن هناك تباين رتبي بين المنطوق ، ودلالة الإشارة والإيماء ونحوه ، والمفهوم في الإصطلاح على قسمين كما في علم الأصول :
القسم الأول : مفهوم الموافقة كما لو كان مدلول اللفظ في محل السكوت موافقاً لمدلوله في مقام النطق وسمي بأسماء متعددة منها :
أولاً : مفهوم الخطاب .
ثانياً : دلالة النص .
ثالثاً : فحوى الخطاب ، وهو مشهور الأصوليين ، كما في قوله تعالى [فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا] ( ) لتدل الآية في منطوقها على تحريم قول الابن لأحد أبويه ، أف لكما وتدل بمفهوم الموافقة على تحريم إيذائهما أو زجرهما أو ضربهما .
ومن الآيات في خلق الإنسان وخلافته في الأرض إمتناع الأبناء عن إيذاء الآباء والأمهات بالفطرة وحكم العقل والعرف في كل زمان وعند أهل كل بلد ومصر .
وهو من الشواهد على تفضل الله عز وجل بقوله [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
فجاء إحتجاج الملائكة بعد تفضل الله عز وجل بالإخبار عن هذا القانون الذي هو نعمة عظمى على كل واحد من الناس من الأحياء والأموات ، وهو من مصاديق العظمة والسعة والمندوحة في الفرد الواحد من نعم الله عز وجل بقوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) .
فالى جانب معنى الجنس في المراد من كلمة [نِعْمَةَ] في الآية أعلاه فانها تدل على العجز عن إحصاء النعم والفوائد المتعددة من النعمة الواحدة التي يتفضل بها الله عز وجل .
رابعاً : القياس الجلي .
وأختلف في دلالة مفهوم الموافقة على وجوه :
أولاً : دلالة مفهوم الموافقة لفظية .
ثانياً : دلالة مفهوم الموافقة قياسّية .
ثالثاً : التفصيل في دلالة مفهوم الموافقة , وانكر الظاهرية حجية دليل مفهوم الموافقة .
والمختار ليس من قاعدة كلية تنطبق على هذا الباب على نحو العموم الإستغراقي ، ثم أن مفهوم الموافقة على أقسام منها : ما يكون على نحو التبادر والأولوية من غير حاجة إلى واسطة واستنباط , ومنها ما يحتاج إلى واسطة أسباب للإستقراء والإستنباط .
القسم الثاني : مفهوم المخالفة ، وهو الذي يتجلى في محل السكوت من المخالفة للمدلول في محل النطق .
ويسمى دليل الخطاب ومنه ما يستقرأ من قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] ( ).
الذي يدل على لزوم التثبت والتحقيق عندما يأتي فاسق خارج عن طاعة الله بخبر وذكر أنه يدل بمفهوم المخالفة على قبول خبر العدل.
ويمكن القول أنه يدل بمفهوم الموافقة على عدم ترك الخبر والنبأ وأن جاء من عند فاسق فلابد من العناية به وعدم تضييعه .
وقد تقدم في مباحث علم الأصول القيود التي تتعلق بمفهوم المخالفة منها :
الأول : مفهوم الوصف ، فمثلاً يدل قوله تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ] ( ) على عدم صحة الإحرام للحج في غير هذه الأشهر المعلومات ،وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة .
ترى هل في آية البحث مفهوم مخالفة للوصف ، الجواب نعم من جهات:
الأولى : دلالة قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ) على لزوم أن يكون حسبان وظن النبي صلى الله عليه وآله وسلم موافقاً لأمور :
أولاً : حقائق علم الغيب .
ثانياً : عدم الغفلة عن فضل الله على ذات شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : ذكر فضل الله عز وجل على المسلمين والمسلمات .
ومن خصائص آية البحث نفي الظن بغايات ومقاصد شخصية أو قبلية في قتل وشهادة سبعين من الصحابة في يوم معركة أحد .
الثانية : دلالة الآية في مفهومها على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
أولاً : تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأمر من عند الله عز وجل لتنزيه ظنه .
ثانياً : كفاية مخاطبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأوامر والنواهي ليقتدي به المسلمون والمسلمات ، قال تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
ثالثاً : إختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنزول آيات القرآن عليه دون غيره من البشر ، وتسليم المسلمين والمسلمات به وشكرهم لله عز وجل على هذه النعمة ، وكان الصحابة يسأل بعضهم بعضاً هل نزل اليوم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرآن , ليتدارسوا في الآيات النازلة ويحفظوها ويتلوها ويستقرأوا منها ومن الجمع بينها وبين غيرها من الآيات المسائل ومصاديق علم الغيب .
رابعاً : إختتام الآية السابقة بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يتحدى المنافقين بعجزهم عن دفع الموت عن أنفسهم .
خامساً : إرتقاء الذين قُتلوا تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مرتبة الشهادة والقتل في سبيل الله ، ليدل وفق مفهوم الموافقة على أن خروج المهاجرين والأنصار إلى معركة أحد في سبيل الله عز وجل .
سادساً : تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنباء الغيب من عند الله ، وقد يعلم الملائكة أحوال الشهداء من عند الله عز وجل ، وهذا العلم من مصاديق إحتجاجه سبحانه عليهم بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) بأن يروا وجود طائفة من المؤمنين يضحون بأنفسهم طاعة لله ومحاربة للفساد ، فيسألون المراتب السامية .
لقد احتج الملائكة على خلافة الإنسان في الأرض بأمرين :
الأول : الفساد في الأرض .
الثاني : سفك الدماء بغير حق .
فجاءت آية البحث لتخبرهم بأن الذي يُسفك دمه في سبيل الله يعيش حياة أبدية خالدة عند الله ، ويكون بمرتبة الملائكة ، لتكون آية البحث من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
إذ يقول الله عز وجل للملائكة : إني أعلم أن من الناس أنبياء وأولياء وصالحين , ومنهم من يقتل في سبيل الله .
و(عن سعيد بن جبير قال : لما ألقي إبراهيم خليل الرحمن في النار قال الملك خازن المطر : يا رب ، إن خليلك إبراهيم رجا أن يؤذن له فيرسل المطر ، فكان أمر الله أسرع من ذلك فقال : { يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم }( ) فلم يبق في الأرض نار إلا طفئت ) ( ).
وقد برز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع فأنزل الله الملائكة لنصرته ، وإذ بقي ابراهيم عليه السلام في النار أياماً متعددة لم يحرق إلا وثاقه فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجع في ذات يوم معركة أحد ليصلي بالناس صلاة المغرب والعشاء ،ويتلقى نزول آيات القرآن وما فيها من الأحكام .
الثالثة : بيان قانون وهو أن الموت ليس أمراً عدمياً ، إذ قد يعيش الإنسان حياً حال موته بأن يبعث الله فيه الحياة من جديد كما في حال الشهداء ، وتتصف آية البحث بالنص الصريح لبيان التضاد بين الحياة والموت وأن الله عز وجل يهب للشهداء نقيض الموت وهو الحياة الأبدية لأن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى .
الرابعة : الآية القرآنية واقية سماوية من تحريف أو تغيير كلمات من الآية القرآنية الأخرى .
الخامسة : تمنع الآية القرآنية من التأويل الخاطئ للآية القرآنية الأخرى .
السادسة : رسم وتلاوة الآية القرآنية حرز من الخطأ في تلاوة الآية الأخرى ، ومنه ضابطة تلاوته بالعربية في كل زمان ومكان ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ) .
السابعة : تلاوة الآية القرآنية ترغيب بتلاوة غيرها والتدبر في معانيها ، إذ تخبر الآية القرآنية التالي والسامع لمعرفة مضامين , ورياض آيات القرآن الأخرى .
ومن خصائص الآية القرآنية أنها خير محض في تلاوتها والإستماع لها ودلالتها والعمل بمضامينها ، ولا يعلم ما يأتي بالآية القرآنية من الخير وما يصرف بها من الشر إلا الله عز وجل ، هو من مصاديق قوله تعالى [وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ] ( ).
وتبين آية البحث قانوناً من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو أن النهي الذي يأتي إليه في القرآن مدح وثناء له ، فالمتبادر إلى الذهن أن النهي زجر وتوبيخ ، ولكن النهي الذي ابتدأت به آية البحث [وَلاَ تَحْسَبَنَّ] إكرام وتشريف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومواساة له في أصحابه ، وإخبار للناس بصدق نبوته ، وأنه لم يخرج إلى معركة أحد إلا بالوحي والتنزيل .
والآية في منطوقها إخبار عن حال الصحابة الذين قتلوا في معركة أحد ، وليس من حصر للأفراد الذين تتضمن الآية إكرامهم ، وهو من إعجاز القرآن بأن يتحد ويتعين الموضوع ، ولكن الناس يعجزون عن إحصاء مصاديق الإكرام فيه ، الذي هو على وجوه :
الأول : إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتزكية له في قتاله وأصحابه في معركة بدر وأحد ومعارك الإسلام الأخرى .
ومن إعجاز القرآن في المقام ذكر القرآن لمقدمات معركة أحد بكيفية وتفصيل أكثر من معركة بدر من جهات :
الأولى : إمضاء فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وتوجهه إلى معركة أحد من حين لبسه لأمة الحرب ، وخروجه من بيته ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) .
وهل في الآية أعلاه بشارة عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سالماً من معركة أحد لذكر الأهل فيها ودلالة الخروج عنهم على العودة إليهم ولإختتام الآية أعلاه بثلاثة من أسماء الله عز وجل الحسنى وأنه سبحانه هو السميع لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، العليم بحاجة المسلمين والناس جميعاً إلى عودته سالماً من معركة أحد ، كي يتوالى نزول آيات القرآن , وتتنزه الجزيرة من الشرك وعبادة الأوثان ومفاهيم الضلالة .
الثانية : صدق الوعد من عند الله عز وجل بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثالثة : إكرام وتشريف شهداء معركة أحد , وعددهم سبعون .
ترى لماذا لم تنزل آية الإخبار عن حياة الشهداء عند الله في معركة بدر مع أنه سقط أربعة عشر شهيداً من المسلمين .
الجواب من جهات :
الأولى : كثرة القتلى من المسلمين في معركة أحد .
الثانية : تعدد جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه .
الثالثة : قيام المنافقين والمنافقات بالحث على القعود والصدود عن سبيل الله بعد معركة أحد ، بينما لم يستطع المنافقون بعد معركة بدر القيام بهذا الحث لتجلي النصر المبين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر ، ولأن الخسارة كانت قليلة بالنسبة لحال المعركة وكون عدد أفراد جيش العدو المشرك ثلاثة أضعاف جيش المسلمين إلى جانب رجحان كفتهم في العدة والسلاح والرواحل والمؤون ، ولحاظ أن الإسلام أنتشر واتسع بعد أوان معركة أحد أكثر مما كان في زمان معركة بدر وأخذت وفود القبائل تفد إلى المدينة لدخول الإسلام والسماع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ليكون من معاني تغيير اسم يثرب إلى طيبة والمدينة من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تبدل الأحوال فيها نحو الأحسن وصيرورتها تعرف بين الناس بطيب النبوة وعطر الرسالة واشراقة وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولابد من مباحث خاصة حول تغيير هذا الاسم من جهات :
الأولى : الأسباب .
الثانية : النتائج .
الثالثة : الغايات والمصالح .
الرابعة : الإعجاز ودلائل الوحي في هذا التغيير .
ليكون من معاني ومصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ) البشارة بصيرورة المسلمين أكثر عدداً وعدة بفضل من الله .
الثاني : إكرام المسلمين الذين خرجوا إلى معركة أحد ، ولم يرجعوا مع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول من وسط الطريق إذ منحهم الله عز وجل مرتبة ووسام الإيمان بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) .
وهل يشمل هذا الوصف الرماة الذين تركوا مواضعهم ، الجواب نعم ، لقد توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالوصية من جهتين :
الأولى : الوصية الخاصة إلى عبد الله بن جبير أمير الرماة , إذ قال له (انضح عنا الخيل بالنبل , لا نؤتين من قبلك ).
الثانية : الوصية العامة إلى الرماة بلزوم الثبات في أماكنهم فوق الجبل وألا يتركوها بأي حال من الأحوال .
و(عن البراء بن عازب قال « جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة يوم أحد وكانوا خمسين رجلاً عبد الله بن جبير ووضعهم موضعاً , وقال : ان رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تَبْرَحُوا حتى أرسل إليكم ، فهزموهم .
قال : فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسوقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن . فقال أصحاب عبد الله : الغنيمة أي قوم الغنيمة . . . ظهر أصحابكم فما تنتظرون ؟ .
قال عبد الله بن جبير : أفنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : إنا والله لَنَاْتِيَنَّ الناس فَلْنصِيبَنَّ من الغنيمة . فلما أتوهم صرفت وجوههم فاقبلوا منهزمين ، فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم .
فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلاً . فأصابوا منا سبعين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة , سبعين أسيراً ، وسبعين قتيلاً) ( ).
ويدل الأذى والخسارة الفادحة التي لحقت بالمسلمين بسبب ترك الرماة مواضعهم على لزوم ترك الإجتهاد الذي هو خلاف النص والأمر في ميدان المعركة , لأن هذا الأمر شعبة من الوحي .
فان قيل تدل آية البحث على عدم الخسارة بفضل الشهداء لأنهم فازوا بأعظم النعم بالحياة الأبدية عند الله بالإضافة إلى نعمة خاصة في المقام وهي إبتداء هذه الحياة المقرونة بالرزق الكريم مع أول آنات مغادرتهم الدنيا ، ومفارقة الروح الجسد ، وأن كانت أجسادهم لا تزال في الميدان لم يصل عليهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد ، ولم يتم دفنهم , والجواب من جهات :
الأولى : إرادة فقدان الشهداء ووقوع ظلم الذين كفروا عليهم بقتلهم وما في هذا الظلم من التعدي على الحرمات , والحدود التي جعلها وبينها الله عز وجل .
الثانية : إصابة جيش المسلمين بالخسارة والنقص وفقدان طائفة من الفرسان وأهل الإيمان والتقوى .
الثالثة : حرمان المسلمين من الغنائم .
الرابعة : عدم إستدامة النصر للمسلمين الذي تحقق في بداية المعركة .
الخامسة : تعدد جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واصابة أهل البيت والصحابة بالقروح والجراحات الشديدة .
السادسة : محاولة الذين نافقوا الشماتة بالشهداء وإتخاذ قتلهم مادة وموضوعاً للتحريض على القعود .
الثالث : إكرام آية البحث للصحابة رجالاً ونساء سواء الذين خرجوا إلى المعركة أو الذين تخلفوا عن عذر ، إنما كان الشهداء طائفة من عموم المسلمين وتجمعهم أخوة الإيمان ، وهو من أسرار مؤاخاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار قبل معركة أحد ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
ترى ما هي النسبة بين الإكرام والمواساة بفقد الشهداء , الجواب هو العموم والخصوص المطلق فالإكرام أعم ، والمواساة من أفراده ومصاديقه ،ويأبى الله عز وجل إلا أن يرزق ويهب المؤمنين والمؤمنات المتعدد من صيغ الإكرام في الزمان والموضوع المتحد .
ومن مصاديق الإكرام في المقام تنزيههم من النفاق , وحثهم على عدم محاكاة المنافقين في قعودهم وما يبثون من الأراجيف .
إذ يتضمن قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ) مسائل :
الأولى : ابتداء الآية بتوجيه الخطاب إلى المسلمين والمسلمات جميعاً بصيغة الإيمان بالله ورسوله ، وهل يشمل هذا الخطاب المنافقين , الجواب نعم ، ولكنهم إختاروا الخروج عنه ، والإمتناع بالإختيار لا ينافي الإختيار ، ليكون من الإعجاز في الآية حث المنافقين والمنافقات على التنزه عن النفاق وإخبارهم بلزوم الإتصاف بخصال الإيمان [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ).
ومن أسرار هذا الحث في القرآن أنه يتجدد خمس مرات على نحو الوجوب العيني وأكثر منه بصيغة الإستحباب والندب ، إذ تتلى الآية أعلاه في الصلاة اليومية الواجبة ، وفيه دعوة للناس إلى التدبر في مضامينها القدسية ، وهي تبعث على إجتناب التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم .
الثانية : إكرام المسلمين بنداء الإيمان ودعوتهم لتعاهد هذا الإكرام بالفصل والإنفصال عن الذين كفروا باكرام الشهداء وعدم توجيه اللوم لهم على خروجهم للدفاع .
الثالثة : من خصائص الآية أعلاه نعت الشهداء بأنهم إخوان للذين كفروا لقوله تعالى [قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ] وهذه الأخوة من وجوه :
الأول : الأخوة النسبية .
الثاني : الأخوة في الوطن ، والجامع المشترك أنهم من أهل المدينة المنورة.
الثالث : الجوار والألفة وإتحاد أيام الصبا .
الرابع : دفاع المؤمنين مطلقاً والشهداء منهم خاصة عن أهل المدينة ومنهم الذين كفروا والمنافقين ليقر لهم الناس بالأخوة .
الرابعة : بيان قانون مصاحب للحياة الدنيا وهو أن الحياة والموت أمران بيد الله عز وجل من جهات :
الأولى : استدامة أيام الإنسان لحين الأجل .
الثانية : أوان الموت .
الثالثة : مكان وموضع موت الإنسان ، قال تعالى [وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ]( ).
إذ تبين الآية أعلاه موضوعية مكان الوفاة بالنسبة للإنسان , ليكون من معانيها دعوة المسلم والمسلمة إلى الدعاء بأن يكون موضع موتهما حيث يحب الله ويرضى ، وما فيه العز والوقاية من الذل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
وهل في القتل في سبيل الله في ميدان المعركة عز للشهيد ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق الآية أعلاه [لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أنها تنهى كل من نطق بالشهادتين عن محاكاة الكفار بقوله تعالى [لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) بينما أخبرت الآية السابقة عن قيام الذين نافقوا بما يشبه فعل الذين كفروا بقوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ) .
لتكون النسبة بين الآيتين أعلاه العموم والخصوص المطلق ، فالذين كفروا أعم من الذين نافقوا ، لبيان إعجاز للقرآن وهو التحذير المتعدد في جهته بخصوص الموضوع المتحد إذ تتضمن الآيات تحذير المسلمين من الذين كفروا ومن الذين نافقوا ، وما يجمع بينهما من الخصال المذمومة .
وقد جاءت آيات قرآنية بذمهم مجتمعين منها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ).
ولقد أختتمت الآية السابقة بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإحتجاج على الذين نافقوا بعجزهم عن دفع الموت عن أنفسهم .
فهل يصح الإحتجاج به على الذين كفروا ، الجواب نعم ، وتقديره : قل للذين كفروا فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ).
وتتجلى موضوعية هذا الإحتجاج بخصوص آية البحث من جهات :
الأولى : إنذار الذين كفروا .
الثانية : إحتجاج الشهداء ببذل دمائهم .
الثالثة : منع الذين كفروا من الشماتة بالشهداء يوم معركة أحد.
وإذ نال الشهداء مرتبة الحياة عند الله مع الرزق الكريم فان العذاب ينتظر الذين كفروا ، وهل يختص العذاب في المقام وتحمل أوزار قتل الشهداء بالذين باشروا قتلهم يوم معركة أحد ، الجواب لا ، إنما يشمل وجوهاً :
الأول : قادة جيش الذين كفروا الذين أمروا بالقتال .
الثاني : الذين أصدروا الأوامر الفرعية في الميدان .
الثالث : الذين باشروا القتال والمبارزة مع الشهداء ومع عموم المهاجرين والأنصار .
الرابع : الذين اعتدوا على شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنبال والسهام والحجارة من جهات :
الأولى : لقد رمى ابن قمئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحجارة وأصاب وجنتيه ، وهل يلحق الإثم في قتل الشهداء من قصد قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم .
و(عن نافع بن جبير قال: سمعتُ رجُلا من المهاجرين يقول: شهدت أحُدًا فنظرت إلى النَّبْل يأتي من كل ناحية، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها، كُلُّ ذلك يُصْرَف عنه، ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يقول يومئذ: دُلّوني على محمد، لا نَجَوتُ إن نجا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ليس معه أحد، ثم جاوره فعاتبه في ذلك صَفْوان .
فقال: والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منّا ممنوع. خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله، فلم نخلص إلى ذلك.) ( ) .
الثانية : كسر عتبة بن أبي وقاص رباعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتسقط اسنانه الأمامية , كما أدمى شفتيه .
وقيل (أن الذين كسروا رباعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يولد لهم صبية فنبتت لهم رباعية.) ( ).
الثالثة : تهشم البيضة التي على رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبيان دنو القتل منه يومئذ لولا فضل الله عز وجل .
الخامس : الذين أعانوا المشركين في عدوانهم .
ويتجلى بوضوح موضوع آية البحث من جهات :
الأولى : توجه الخطاب في الآية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : إبتداء الآية بالنهي بخصوص الإعتقاد القلبي , والوجود الذهني .
الثالثة : موضوع آية البحث من علوم الغيب التي لا يعلمها ولا يقدر عليها إلا الله عز وجل .
الرابعة : إختصاص الآية بالإخبار عن حياة وسعادة وغبطة الشهداء الذين قتلوا في معركة أحد .
الخامسة : بيان قانون من الإرادة التكوينية , وهو أن عالم الآخرة أحسن وأفضل للمؤمنين ، قال تعالى [وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى] ( ).
وتحتمل الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : إختصاص مضامين آية البحث بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : شمول أهل البيت والصحابة من المهاجرين والأنصار بمضامين الآية أعلاه .
الثالثة : تشمل الآية أعلاه المؤمنين والمؤمنات ، ويكون تقدير الآية : وللآخرة خير للمؤمنين والمؤمنات من الأولى .
الرابعة : إرادة عموم المسلمين والمسلمات ، وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا للآخرة خير لكم من الأولى .
والمختار هو الأخير أعلاه ، والآية ليست من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما يلحق به المسلمون والمسلمات .
(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عرض علي ما هو مفتوح لأمتي بعدي فسرني ، فأنزل الله { وللآخرة خير لك من الأولى })( ).
وآية البحث من مصاديق الآية أعلاه بلحاظ أمور :
الأول : الآخرة خير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يرى الصحابة الذين قتلوا تحت لوائه في عيش رغيد في عالم البرزخ , ثم يزفون يوم القيامة إلى الجنة .
الثاني : الآخرة خير للذين قتلوا في سبيل الله لأنهم أحياء عند الله في عالم البرزخ ، وفي المرسل (أَنَّ رَجُلاً قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِى قُبُورِهِمْ إِلاَّ الشَّهِيدَ قَالَ : كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً) ( ) أما يوم القيامة فان الشهيد يدخل الجنة بغير حساب ولا عقاب .
وفي حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدّين ) ( ).
الثالث: الآخرة خير للمؤمنين والمؤمنات عامة لأن الذين قتلوا في سبيل الله فرط سابق لهم وشفعاء لهم عند الله عز وجل .
الرابع : الآخرة خير للمسلمين والمسلمات لأن الذين قتلوا في سبيل الله يتطلعون إلى قدومهم عليهم بسلامة من الإرتداد بدليل الآية التالية في بيانها لصفات الشهداء في عالم البرزخ بقوله تعالى [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ] ( ).
قانون الجنة والنار مخلوقتان
إجماع المسلمين والمليين على حقيقة وجود الجنة والنار، وأختلف هل هما مخلوقتان الآن أم لم يخلقا بعد، ولابد أن أحد القولين هو الصائب، فهل القول المخالف لواقع علم الغيب إثم، الجواب لا، إنما هو مبحث علمي متجدد لابد أن يبتنى على الدليل من الكتاب والسنة، ومن خصائص القرآن والسنة أمور :
أولاً : البيان والوضوح .
ثالثاً : الخلو من التعارض .
ثالثاً : الإخبار عن الحق والصدق .
ومشهور علماء الإسلام شهرة عظيمة أن الجنة والنار مخلوقتان الآن ، وهو المختار ، وقد خالف عدد من المعتزلة والقدرية غير أبي علي الجبائي والذي خالف قال أن الله ينشئهما يوم القيامة ، ولكن المدار ليس على القول ينبغي على الله أو لا ينبغي ، ويجب على الله ولا يجب ، إنما الواجب أن تتنزه كتب المسلمين عن هذا الوجوب لقوله تعالى[لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).
كما قالوا بأن خلق الجنة قبل الجزاء عبث ، وهذا تجرأ وتعجل ، إذ المدار على الآيات والنصوص .
وقد وردت الآيات التي تدل على خلق الجنة والنار ، وكذا أخبار السنة البيانية ، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ) وقال تعالى[سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( ) وورد قوله تعالى[وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]( ).
وقد دلت أحاديث الإسراء عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على رؤيته ليلتئذ الجنة والنار , وفي حديث الإسراء ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم(على واد فوجد ريحا باردة طيبة ووجد ريح المسك وسمع صوتا ، فقال : يا جبريل ما هذه الريح الباردة الطيبة ، وريح المسك ؟ وما هذا الصوت ؟ .
قال : هذا صوت الجنة تقول : يا رب ائتني بأهلي وبما وعدتني فقد كثر عرفي ، وحريري ، وسندسي ، وإستبرقي ، وعبقري ، ولؤلؤي ، ومرجاني ، وفضتي ، وذهبي ، وأباريقي ، وفواكهي ، وعسلي ، وخمري ، ولبني ، فائتني بما وعدتني .
فقال الله : لك كل مسلم ومسلمة ، ومؤمن ومؤمنة ، ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحا ولم يشرك بي شيئا ، ولم يتخذ من دوني أندادا ، ومن خشيني آمنته ، ومن سألني أعطيته ، ومن أقرضني جزيته ، ومن توكل علي كفيته ، وأنا الله لا إله إلا أنا لا أخلف الميعاد [قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ *ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ]( ) قالت : قد رضيت)( ).
(عن ابن مسعود قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى ، فأعطي ثلاثاً : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لا يشرك بالله شيئاً من أمته المقحمات)( ).
ووردت نصوص مستفيضة من السنة النبوية تدل بالدلالة التضمنية والإلتزامية على خلق الجنة والنار، وكأنها سياحة في عالم الملكوت .
(عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جنازة رجل من الأنصار ، فانتهينا إلى القبر ، ولما يلحد ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجلسنا حوله – وكأن على رؤوسنا الطير – وفي يده عود ينكت به في الأرض،
فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً ، ثم قال : إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس ، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ البصر.
ثم يجيء ملك الموت، ثم يجلس عند رأسه , فيقول : أيتها النفس المطمئنة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان.
قال: فتخرج… تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء ، وإن كنتم ترون غير ذلك ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين ، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الطيب؟ . . .
فيقولون : فلان ابن فلان ، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا،
فيستفتحون له فيفتح لهم ، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها ، حتى تنتهي به إلى السماء السابعة،
فيقول الله : اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض ، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى . فتعاد روحه في جسده .
فيأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان له : من ربك ؟ .
فيقول : ربي الله .
فيقولان له : ما دينك؟ .
فيقول : ديني الإِسلام . فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول : هو رسول الله .
فيقولان له : وما علمك؟ .
فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدّقت.
فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي ، فافرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة , وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مدّ بصره ، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح،
فيقول : أبشر بالذي يسرك . . . هذا يومك الذي كنت توعد . فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير.
فيقول له : أنا عملك الصالح . فيقول : رب أقم الساعة . . . رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي .
قال : وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه ، معهم المسوح . فيجلسون منه مدّ البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه.
فيقول : أيتها النفس الخبيثة ، اخرجي إلى سخط من الله وغضب. فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها. فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح. ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض . فيصعدون بها … فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة . إلا قالوا : ما هذا الروح الخبيث؟!…
فيقولون : فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا . حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا ، فيستفتح فلا يفتح له .
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { لا تفتح لهم أبواب السماء }( ) فيقول الله عز وجل اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى . فتطرح روحه طرحاً .
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق }( ) .
فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان ، فيجلسانه فيقولان له : من ربك؟ فيقول : هاه . . . هاه؟! . . . لا أدري.
فيقولان له : ما دينك؟ فيقول : هاه… هاه؟! . . . لا أدري ، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول : هاه . . . هاه . . . لا أدري . فينادي مناد من السماء ، أن كذب عبدي ، فافرشوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار . فيأتيه من حرها وسمومها ، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه،
ويأتيه رجل قبيح الوجه ، قبيح الثياب ، منتن الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسوءك… هذا يومك الذي كنت توعد.
فيقول : من أنت؟! . . . فوجهك الوجه يجيء بالشر . فيقول : أنا عملك الخبيث . فيقول : رب لا تقم الساعة) ( ).
ومشهور علماء الإسلام أن الجنة والنار مخلوقتان الآن ، ولا يلحق الفناء والإبادة بأحدهما .
وذهب بعض المعتزلة مثل أبي هاشم والقاضي عبد الجبار إلى القول بعدم خلقهما وأنهما سوف يخلقان يوم الجزاء ، وقالوا :بأن خلق الجنة قبل الجزاء عبث لأنها تكون معطلة مدة مديدة ، وقاسوا على أفعال العباد وعلل أفعالهم بالقول ينبغي أن يفعل الله كذا ولا ينبغي أن يفعل كذا ، وأحياناً يقولون يجب على الله كذا ، وأن لم يقصدوا اللزوم وأعرضوا عن النصوص العديدة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل طرق المسلمين بأنهما مخلوقتان الآن .
(عن الهروي قال: قلت للرضا عليه السلام: يابن رسول الله أخبرني عن الجنة والنار أهما اليوم مخلوقتان ؟
فقال: نعم وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد دخل الجنة ورأى النار لما عرج به إلى السماء) ( ).
ولابد من إعداد دراسات خاصة في المقام منها :
أولاً : أدلة خلق الجنة والنار في القرآن .
ثانياً : إنتفاء الدليل على عدم خلق الجنة والنار إلى الآن , ولو تنزلنا وقلنا بوجود حديث في هذا الباب فانه لا ينهض لمعارضة الأدلة المتعددة والنصوص التفصيلية الصحيحة التي تتضمن الإخبار عن خلقهما الآن .
ثالثاً : دلالة أحاديث الإسراء على خلق الجنة والنار الآن .
رابعاً : بيان السنة النبوية القولية لقانون من الإرادة التكوينية بخلق الجنة والنار ،وبين هذا البيان وأحاديث الإسراء عموم وخصوص مطلق ، إذ وردت أحاديث نبوية عديدة غير أخبار ليلة الإسراء تدل على خلق الجنة والنار بالنص والظاهر والدلالة المطابقية والتضمنية والإلتزامية .
(وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده في الغداة والعشي . إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار . يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة) ( ).
خامساً : السنة النبوية العملية التي تدل على خلق الجنة والنار ، ومع التسليم بأنهما الآن مخلوقتان فهل كان خلقهما قبل خلق آدم أم بعده ، الجواب هو الأول .
سادساً : الغايات الحميدة والمقاصد السامية من سبق خلق الجنة والنار ووجودهما الآن مع أن كلاً من أهل الجنة وأهل النار لا يدخلونهما إلا يوم الجزاء .
ومباحث هذا الوجه نافعة , وفيها موعظة , وغوص في علوم الغيب وهي أولى من تتبع أقوال الشرذمة من الذين قالوا بعدم خلقهما لأن الغرض من مباحث علم الكلام الإرتقاء في المعارف الإلهية , وتنمية ملكة الإستعداد للموت عند المسلمين , وحثهم للسعي إلى الجنة والحيطة والحذر من المهلكات التي تقود إلى النار .
ومن هذه الغايات والمقاصد وجوه :
الأول : بيان عظيم قدرة وسلطان الله عز وجل في خلق الجنة والنار وحفظهما والمنع من النقص في الجنة أو التوسعة في النار في أي آن من آنات الزمان ، وفي التنزيل [يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ] ( ) وهل لسبق خلقهما من موضوعية في إحتجاج الملائكة كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) الجواب نعم من جهات :
الأولى : رؤية الملائكة لشدة عذاب النار .
الثانية : سؤال الملائكة اصلاح الناس لعمل الصالحات لإجتناب دخول النار .
الثالثة : توسل الملائكة بالله عز وجل لهداية الناس للإيمان والمسارعة في الخيرات ليفوزوا بدخول الجنة .
الرابعة : رجاء الملائكة أن تكون الحياة الدنيا نوع مزرعة وطريق للإقامة الدائمة في النعيم ، وكأن إحتجاج الملائكة على وجوه :
أولاً : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء فيحرم نفسه من دخول الجنة .
ثانياً : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء فيفتتن به ويتبعه غيره .
ثالثاًُ : أتجعل فيها من يكون مصيره إلى النار التي رأيناها لأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء , ويدل على علم الملائكة بالنار سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجبرئيل عن صفة النار .
(وعن الأوزاعي قال : المعنى إنّ جبرئيل أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له : يا جبرئيل صف ليّ النّار؟ فقال : إنّ الله أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتّى احمرّت ثمّ أوقد عليها ألف عام حتّى اصفرّت ثمّ أوقد عليها ألف عام حتّى اسودّت فهي سوداء مظلمة لا يضي لهيبها ولا جمرها،
والّذي بعثك بالحقّ لو أنّ ثوباً من ثياب أهل النّار أُظهر لأهل الأرض لماتوا جميعاً ولو أنّ ذَنوَباً من سرابها صبّت في الأرض جميعاً لقتل من ذاقه،
ولو أنّ ذراعاً من السلسة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعاً لذابت وما استقلّت , ولو إنّ رجلاً دخل النّار ثمّ أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه .
فبكى النبيّ صلى الله عليه وسلم وبكى جبرئيل لبكائه وقال : أتبكي يا محمّد وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر قال : ( أفلا أكون عبداً شكوراً).
ولم بكيت يا جبريل وأنت الروّح الأمين أمين الله على وحيه؟
قال : أخاف أن أبتلي بما أبتلي هاروت وماروت , فهو الّذي منعني عن اتكالي على منزلتي عند ربّي فأكون قد آمنت مكره , فلم يزالا يبكيان حتّى نوديا من السّماء : أنً يا جبرئيل , ويا محمّد إنّ الله قد أمنكما أن تعصياه فيعذبكما , ففضّل محمّد على الأنبياء كفضل جبرائيل على ملائكة السّماء) ( ).
رابعاً : اتجعل فيها من يتلقى الضرر ويقع عليه ظلم الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء .
خامساً : اتجعل فيها من يفسد في الأرض فيحجب عن نفسه وعمن يقتدي به ويتبعه دخول الجنة التي هي مخلوقة الآن ، وقد وردت مادة (جعل) في آيات كثيرة من القرآن وبصيغ متعددة منها :جعل ، جعلنا ، اجعلني ، اجعله ،لاجعلنك ، تجعلوا ، تجعلين ، يجعلكم كما في قوله [أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ] ( ).
ولم يرد لفظ [أَتَجْعَلُ] إلا في آية واحدة في خطاب الملائكة مع الله عز وجل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا] ( ) وكأنه إشارة إلى عمارة الأرض مرة واحدة من قبل الناس وأنه ليس بعد القيامة حياة دنيوية في الأرض .
ترى هل تدل آية البحث على خلق الجنة والنار .
الجواب إن موضوعها أعم , إذ تدل على حياة ورزق كريم في عالم البرزخ , ومدة ما بين موت الإنسان وقيام الساعة .
الثاني : قيام الملائكة القائمون على الجنة , والملائكة القائمون على النار بالوظائف الخاصة بهم ، استعداداً ليوم القيامة ، ومن الإعجاز عدم تقييد هذا الإستعداد بزمان مخصوص ، وهل يمكن الإستدلال بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ] ( ) بلحاظ أن الوقود لم يأت بعد , ولم يدخل الكفار كوقود النار إلا يوم الجزاء فهي لا تشتعل .
وهل هذا القول ينفع الذين قالوا بأن الجنة والنار لم تخلقا بعد وإن لم نر أنهم استدلوا به ، والجواب لا من جهات :
الأولى : إرادة الوقود فيهما بعد دخول الكافرين المنافقين لها .
الثانية : ذكر الآية أعلاه للحجارة ، وهو أعم من الأصنام التي يعبدون .
الثالثة : قد يكون من خصائص الآخرة أنها تشتعل بوقود لم يأتها بعد .
(عن محمد بن هاشم قال : لما نزلت هذه الآية { وقودها الناس والحجارة } ( ) قرأها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فسمعها شاب إلى جنبه ، فصعق ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه في حجره رحمة له .
فمكث ما شاء الله أن يمكث ، ثم فتح عينيه ، فإذا رأسه في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : بأبي أنت وأمي مثل أي شيء الحجر؟ فقال : أما يكفيك ما أصابك ، على أن الحجر منها لو وضع على جبال الدنيا لذابت منه ، وإن مع كل إنسان منهم حجراً أو شيطاناً والله أعلم) ( ).
الرابعة : إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه لغيره , فقد يكون وقود النار أعم من الناس والحجارة .
الخامسة : يمكن أن يكون تقدير الآية أعلاه هو : وقودها الناس والحجارة يوم القيامة .
الثالث : إرادة الإنذار للناس , والوعيد للذين كفروا بأمر وعقاب من عالم الوجود ، وليس العدم ليكون أبلغ الأثر ويجعل الناس أقرب للتوبة والإنابة (عن السدي قال : لما نزلت { عليها تسعة عشر } ( ) قال رجل من قريش يدعى أبا الأشدين : يا معشر قريش لا يهولنكم التسعة عشر ، أنا أدفع عنكم بمنكبي الأيمن عشرة وبمنكبي الأيسر التسعة ، فأنزل الله { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } ( ).
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : لما سمع أبو جهل { عليها تسعة عشر } قال لقريش : ثكلتكم أمهاتكم أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر , وأنتم الدهم .
أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم ، فأوحى الله إلى نبيه أن يأتي أبا جهل فيأخذ بيده في بطحاء مكة فيقول له : { أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى }( ))( ).
الثاني : التسليم بعلم الغيب وعجز الناس مجتمعين ومتفرقين عن الإحاطة به ، ولو قلنا وعجز الخلائق باضافة الملائكة والجن وغيرهم فهل يصح هذا القول .
الجواب نعم ، إذ لا يحيط علماً بالغيب إلا الله عز وجل .
وعن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ، لا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا يعلم متى تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ، ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله تبارك وتعالى)( ).
الثالث : الصدور عن القرآن والسنة في علوم الغيب وهي على أقسام :
الأول : ما اختص الله عز وجل بعلمه لنفسه .
الثاني : ما أخبر الله عز وجل به الأنبياء .
الثالث : ما ورد في القرآن ، فان قلت قد جاء قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) .
فهل منه كل علوم الغيب ، ولكن لا تدركه عقول الرجال ، الجواب لقد بيّن الله عز وجل في القرآن أموراً:
أولاً : وجود علوم للغيب غائبة عن حواس ومدارك الناس .
ثانياَ : لا يعلم الغيب إلا الله عز وجل ، وهو من التبيان الذي تذكره الآية أعلاه ، قال تعالى [قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ] ( ).
ثالثاً : تفضل الله بالإخبار عن شطر من علوم الغيب لقوله تعالى [ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ] ( ) وتفيد [مِنْ] في الآية أعلاه التبعيض .
ومن مصاديق علوم الغيب في آية البحث أمور :
الأول : ذات الآية القرآنية من علم الغيب .
الثاني :دلالة الآية على نبوة ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهذه النبوة من علم الغيب الذي أطلع الله عز وجل عليه الملائكة وكانوا يتطلعون إلى أمور :
أولاً : أوان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : نزول جبرئيل بالقرآن .
ثالثاً : عروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء واستئذان جبرئيل من خزنة كل سماء , وإخبار الملائكة أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم معه ، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] ( ).
رابعاً : نزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وبخصوص معركة بدر قال الله تعالى [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
خامساً : علامات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
سادساً : المعجزات التي تجري على يدّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عامة ، والمعجزات التي تكون فيها موضوعية للملائكة .
سابعاً : إصلاح الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثامناً : تحقق مصاديق من قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) عندما أجابهم الله على تساؤلهم واحتجاجهم بفساد الإنسان في الأرض وسفكه الدماء.
وكأن الآية أعلاه تقول للملائكة انزلوا وانتقموا من الذين يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء بغير حق وهم مشركوا قريش .
الثالث : بيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن ينهاه الله عز وجل عن ظن مخصوص، فيتقيد الملايين من المسلمين بهذا النهي .
قانون منهج هذا السِفر
يتضمن هذا الجزء الذي بين يديك إستقراء مسائل وقوانين من تجليات قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] إذ جاء الجزء السابق وهو السابع والخمسون بعد المائة في بيان وتفسير شذرات وفرائد من الذخائر التي تتضمنها الآية أعلاه بالإضافة إلى الأبواب الثابتة في كل آية من آيات القرآن والتي يتفضل علينا الله عز وجل بالمدد والنماء فيها كماً وكيفاً وهي :
الأول : المقدمة : ومن خصائص مقدمة هذه الأجزاء الإتصاف بالسعة والمندوحة وهو علم خاص قائم بذاته ، وتحكي هذه الصفحات إشراقة علمية من مقدمة هذا الجزء .
ولقد دأب المفسرون على تفسير الآية القرآنية بسطر أو سطرين أو بصفة سطور ثم الإنتقال إلى الآية التي تليها ، بينما تقرأ في هذا التفسير نحو عشرين صفحة أو أقل أو أكثر مقدمة لتفسير آية واحدة من القرآن قبل أن تدخل في علم التفسير والتأويل والقوانين التي تستنبط من كنوز وذخائر هذه الآية .
الثاني : الإعراب واللغة : لبيان إعراب كلمات الآية لموضوعيته في عالم التفسير والتأويل ، مع بيان معنى بعض مفردات وكلمات الآية القرآنية لغة ودلالة , وتسخير هذا المعنى في تعدد وجوه التفسير ، قال تعالى [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ) .
ومن تجليات علم الإعراب في هذا التفسير حصر تعدد صفة الكلمة بلحاظ تعدد المعنى ، فقد تأتي الواو حرف عطف واستئناف في آن واحد ، وتأتي الكلمة حالاً وتمييزاً وهكذا ، ومن خصائص كلمات القرآن أنها أعم من قواعد اللغة .
الثالث : في سياق الآيات : وتتجلى في هذا التفسير كنوز هذا العلم الذي ليس له حد أو منتهى ، وتستبشر بعض الشعوب والأمم باكتشاف ثروة في باطن أرضهم ووطنهم كما بالنسبة للذهب والنفط , ويغبطهم ويحسدهم الآخرون، وكذا فأنهم يفتخرون بالعلماء وبزوغ عالم فطحل منهم.
وقد أنعم الله عز وجل علينا بعلم سياق الآيات ، وهو أعظم من شخص عالم معين ، ومن خصائصه وفق المنهجية التي نبينها في أجزاء هذا السفر المتعددة أنه لا يستوفى في طبقة أو جيل من العلماء ، إذ يجب السعي والعمل فيه بجد ومثابرة وتحقيق علمي لمئات من السنين القادمة ، وفيه تأكيد لقانون أن علوم القرآن من اللامتناهي .
ليكون ثروة علمية ومادية وأخلاقية وكنزاً يفتح ذخائر من الأرض والسماء ، ويجعل النماء والبركة عند المسلمين بإقبالهم على القرآن تلاوة وتفسيراً .
ويتضمن هذا الباب لحاظ صلة الآية محل البحث وإبتداء من البسملة في سورة الفاتحة بالآيات المجاورة لها ، وليس من حد أو رسم لبحار هذا العلم واللآلئ التي تترشح عنه ، إذ أنه علم جديد في التفسير أعم من ذات تفسير الآية .
ومن فضل الله في المقام صدور عدة أجزاء من هذا السفر بالصلة بين شطر من آية مع شطر من أية أو بالصلة بين آية وآية مجاورة لها كما في الجزء الخامس والعشرين بعد المائة صلة الآية (152) من سورة آل عمران بالآية التي قبلها.
الرابع : إعجاز الآية الذاتي : لبيان الإعجاز والتحدي والأمور البلاغية والنحوية وعلوم البديع وبلوغها أسمى المراتب في القرآن، والمحسنات اللفظية مثل الجناس , وتشابه لفظين في أمور معينة منه قوله تعالى [وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ]( ) .
والمراد من الساعة الأولى في الآية أعلاه يوم القيامة ، أما الساعة الثانية فهي فرد من أفراد الزمان ، لأن المراد من الجناس في الإصطلاح هو تشابه اللفظين في النطق , وإختلافهما في المعنى ، ويقسم الجناس إلى قسمين :
أولاً : الجناس التام المركب .
ثانياً : جناس تام غير مركب.
كما يقسم إلى الجناس المماثل والجناس غير المماثل .
والمحسنات المعنوية مثل الطباق والمقابلة وحسن التعليل والمبالغة وغيرها.
ترى ما هي النسبة بين إعجاز الآية الذاتي وبين قواعد علوم البلاغة ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فأعجاز الآية الذاتي أعم وأوسع وأكبر من أن تحيط به قواعد وعلوم البلاغة ، وهو باب لتأسيس وإنشاء أبواب جديدة من علوم البلاغة والبديع ، مع التسليم بتخلفنا عن إدراك علم من علوم القرآن هو باب بلاغته , والذي يفوق عقول الناس في هذا الباب .
وقد صدرت في تأريخ الإسلام بخصوص علوم القرآن كتب معدودة في إعجاز القرآن ، فأنعم الله عز وجل علينا بأفراد بابين في إعجاز كل آية من القرآن، وتعاقب منهج تخصيص جزء كامل لتفسير آية واحدة والذي يتضمن في ثناياه موارد كثيرة لإعجاز الآية الذاتي والغيري، وإشراقات الإعجاز بصلة الآية مع الآيات الأخرى سواء في باب سياق الآيات المتقدم في الأول أعلاه أو مطلق آيات القرآن بلحاظ إتحاد الموضوع أو الحكم مع آية البحث.
وسيأتي مزيد كلام في باب البحث البلاغي , ويختتم هذا الباب بتعيين اسم للآية القرآنية محل البحث وإن كان لها اسم مذكور في النصوص والأخبار ذكرناه، وإلا ذكرنا اسما لها ، وغالباً ما يكون أول الآية للتخفيف والتيسير وإعانة المسلمين على حفظ الآية القرآنية لأن ذكر أولها يساعد في استحضارها وتلاوتها .
الخامس : إعجاز الآية الغيري وهو باب جديد من العلم ، وكنت أجمع هذا الباب والباب السابق باعجاز الآية ثم انعم الله علينا بشطره إلى قسمين، وقد تكون هناك أقسام أخرى في هذا الباب اليوم أو غداً بفضل من الله علينا وعلى الأمة بما يستنبطه علماؤها في هذا الجيل والأجيال اللاحقة من ذخائر آيات القرآن، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، ويتصف هذا الباب بالسعة والمندوحة وعدم الحصر أو التقييد في مصاديقه، ويمكن شطره وتقسيمه إلى وجوه :
الأول : إعجاز أول الآية .
الثاني : إعجاز وسط الآية .
الثالث : إعجاز آخر الآية .
وينطبق التقسيم أعلاه على إعجاز الآية الذاتي أيضاً كما يمكن تقسيمه تقسيمات أخرى بحسب اللحاظ منها :
أولاً : إعجاز الآية بخصوص المسلمين وأن جهادهم دفاع ، قال تعالى [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ] ( ) وفيه ثناء عليهم , وهذا الثناء لطف وفضل من الله سبحانه .
ثانياً : إعجاز الآية في ذم الذين كفروا والتعريض بالمنافقين كما في آية البحث وإرادة الوعيد للذين كفروا على تعديهم وظلمهم وقتالهم ضد النبوة والتنزيل، قال تعالى[سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ]( ).
ثالثاً : إعجاز الآية القرآنية في دعوة الناس إلى الإيمان , فان قلت هل تشمل هذه الدعوة الذين كفروا والمنافقين.
الجواب نعم ، فليس من تعارض بين الذم والتعريض على قبيح الفعل وبين الدعوة إلى التوبة والإنابة والصلاح , والمختار أن كل ذم في القرآن يتضمن في مفهومه ندب إلى التوبة والإنابة، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
رابعاً : إعجاز التلاوة ،وهو مدرسة مستحدثة من جهة إفرادها في علم مستقل وإرادة ترتب الأثر عليها , وإلا فان المسلمين متسالمون بأن تلاوة الآية القرآنية معجزة في ذاتها ، ويدرك الناس هذا الإعجاز طوعاً وقهراً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( )ويكون حال الناس بالنسبة لتلاوة القرآن على شعب:
الأولى : الذين يتلون آيات القرآن على نحو الوجوب العيني وهم المسلمون والمسلمات .
الثانية : الذين يتدبرون في آيات القرآن .
الثالثة : الذين يستمعون القرآن عن قصد، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) ولا يختص هذا الإستماع بالمسلمين (عن سعيد بن جبير في قوله { ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً }( ) قال : هم رسل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه ، كانوا سبعين رجلاً اختارهم من قومه الخيِّر الخيِّر ، فالخيّر في الفقه والسن ، وفي لفظ : بعث من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثين رجلاً .
فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخلوا عليه ، فقرأ عليهم سورة يس ، فبكوا حين سمعوا القرآن ، وعرفوا أنه الحق ، فأنزل الله فيهم { ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً . . } الآية . ونزلت هذه الآية فيهم أيضاً { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون }( ) إلى قوله { أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا }( )) ( ).
الرابع : الذين يسمعون آيات القرآن بالعرض .
ومن الإعجاز أن الصلاة عنوان جامع ومصداق شامل للوجوه أعلاه ، ففيها ملاك التلاوة والإستماع والسماع والتدبر .
وهل هناك ملازمة بين التلاوة والتدبر أو الإستماع والتدبر , الجواب لا ، فقد يقرأ الإنسان الآية أو يسمعها على نحو الإتفاق والصدفة فيتدبر في معانيها ويتعظ منها خصوصاً مع قانون كل آية موعظة .
(عن سعيد بن جبير قال : أول ما نزل من آل عمران { هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين}( ) ثم أنزل بقيتها يوم أحد)( ).
خامساً : إعجاز العمل بمضامين الآية القرآنية .
فمن خصائص القرآن أن الله عز وجل أنزله ليعمل الناس بأحكامه وسننه ومضامينه القدسية ، لذا تفضل الله عز وجل بهداية المهاجرين والأنصار إلى الإسلام ،ورزقهم الصبر في ميادين القتال في معركة بدر وأحد، قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ) لبيان قانون وهو من المقاصد السامية في صبر المسلمين في معركة أحد أمور :
أولاً : سلامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ، ولقد صار الذين أشركوا يوم أحد على بعد بضعة أمتار منه ، وصارت حجارتهم تصله فضلاً عن سهامهم حتى أشاعوا بأنهم قتلوا رسول صلى الله عليه وآله وسلم وبلغت الاشاعة أهل المدينة .
ثانياً : إرتقاء المسلمين إلى مراتب الصبر في طاعة الله شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وموضوعية القرآن في إصلاح النفوس، وفي التنزيل[قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لاَ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ]( ).
والذي يفيد قانوناً بأن النبي لم يزد أو ينقص من الوحي ، إنما يقوم بالتبليغ ، ولا يقدر على تلقي القرآن وتبليغه إلا رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ] ( ) .
وللآية القرآنية موضوعية في حفظ الفاظها ورسمها .
وهل تصل النوبة إلى الصرفة بأن الله عز وجل صرف الناس عن تحريف القرآن ، الجواب المعنى أعم ، إذ تتصف الآية بالعصمة الذاتية ، وعدم نفاذ الزيادة أو النقيصة لها ، للتباين الرتبي والموضوعي والحكمي بين كلام الله وكلام المخلوقين.
ثالثاً : ترغيب الناس في الإسلام ، وعدم الجزع أو الفزع من ظلم الذين كفروا وإصرارهم على التعدي .
السادس : الإعجاز في إتصاف أحكام القرآن بالتمام والكمال ، وملائمتها لكل الأزمنة والأمكنة، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ) .
وتجلت الرخصة في ثناياها بما ينفي الحرج ويدفع الأذى والضرر عن المسلمين والعاملين بأحكام وسنن القرآن ، قال تعالى[وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]( ).
و(عن طريق سعيد بن جبير أن ابن عباس سئل ، عن الحرج؟ فقال : ادعوا لي رجلاً من هذيل فجاءه فقال : ما الحرج فيكم؟ فقال : الحرجة من الشجر التي ليس لها مخرج)( ).
ومن وجوه هذا الإعجاز الإستدلال في كل زمان على ملائمة الحكم القرآني للواقع وثبوت الحجة إليه في ضبط وبناء المجتمعات ، وتنمية ملكة الأخلاق الحميدة عند الناس ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ) .
الجواب نعم ، إذ جعل الله عز وجل كلامه[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ) وجعله مصاحباً لوجود الإنسان في الأرض إلى يوم القيامة .
السابع : من الأبواب المستحدثة في هذا التفسير إنشاء علم مستقل في تفسير كل آية اسمه ( الآية سلاح) ويأتي في الترتيب ونظم هذا السِفر المبارك بعد باب (إعجاز الآية الغيري ) وليس من حصر لسنخية السلاح في ذات الآية القرآنية من جهات :
الأولى : موضوع الصلاح في الآية القرآنية .
الثانية : تعدد النفع من اللفظ القرآني .
الثالثة : حضور الآية القرآنية في الوجود الذهني في حال الشدة والرخاء.
الرابعة : الآية القرآنية سلاح ضد الفساد وواقية من التمادي في الظلم والجور ، وزاجر عن إشاعة المنكرات , ورادع عن القتل بغير حق ، ومنه قوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ) وتدل صيغة الخطاب في الآية أعلاه بأن حكم القصاص نافع للناس جميعاً وفيه سلامتهم .
وعندما تساءل الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) لأنه يفسد فيها ويسفك الدماء إحتج الله عز وجل عليهم بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ومن علم الله عز وجل في المقام أمور :
أولاً : كل آية قرآنية سلاح متعدد .
ثانياً : إصلاح الآية القرآنية للنفوس وتهذيبها للأخلاق .
ثالثاَ : موضوعية الآية القرآنية في القول والعمل الصالح .
الخامسة : بعث الآية القرآنية المسلمين على الشكر لله عز وجل ، فان قلت هل صيرورة الآية القرآنية سبباً للشكر لله عز وجل من مصاديق ( الآية سلاح) .
الجواب نعم ، وقد ثبت في علم الأصول أن شكر المنعم واجب ، وهذا الشكر سلاح لقهر النفس الشهوية والغضبية .
وقد وردت السنة القولية والفعلية باستحباب سجود الشكر عند حدوث نعمة ظاهرة في البدن أو الأهل أو المال وغيرها ، وتعدد مواضيع وضروب النعم في كل موضع من أمور الحياة الدنيا , وبشارات عالم الآخرة وما يترتب على فعل الصالحات فيها من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) .
ومما يختص به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه الإمام في سجود الشكر وسجود التلاوة والسجود مطلقاً .
وعن سعد بن أبي وقاص قال (خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم مِنْ مَكَّةَ نُرِيدُ الْمَدِينَةَ ، فَلَمَّا كَانَ قَرِيبًا مِنْ عَزْوَرَ نَزَلَ ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا اللَّهَ سَاعَةً ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا فَمَكَثَ طَوِيلاً.
ثُمَّ قَامَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ سَاعَةً ثُمَّ خَرَّ سَاجِدًا ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ ثَلاَثًا.
قَالَ : إِنِّى سَأَلْتُ رَبِّى وَشَفَعْتُ لأُمَّتِى ، فَأَعْطَانِى ثُلُثَ أُمَّتِى ، فَخَرَرْتُ لِرَبِّى سَاجِدًا شُكْرًا ، ثُمَّ رَفَعْتُ رَأْسِى ، فَسَأَلْتُ رَبِّى لأُمَّتِى فَأَعْطَانِى ثُلُثَ أُمَّتِى ، فَخَرَرْتُ سَاجِدًا لِرَبِّى شُكْرًا .
ثُمَّ قُمْتُ فَسَأَلْتُ رَبِّى لأُمَّتِى فَأَعْطَانِى الثُّلُثَ الآخِرَ فَخَرَرْتُ سَاجِدًا لِرَبِّى عَزَّ وَجَلَّ.)( ).
وقد أفردت في رسالتي العملية ( الحجة) باباً خاصاً لسجود التلاوة وسجود الشكر.
سجود التلاوة
(مسألة 444) يجب سجود التلاوة على من قرأ احدى آيات السجود الأربعة في سوّر العزائم وهي:
سورة السجدة عند قوله تعالى: [ ولا يستكبرون ].
سورة فصلت عند قوله تعالى: [ تعبدون ].
سورة النجم عند ختم السورة.
سورة القلم عند ختم السورة.
(مسألة 445) يجب سجود التلاوة ايضاً على المستمع للآيات في السوّر الأربعة وعليه الاجماع والنص، والأظهر وجوبه على السامع ايضاً، والسماع يكون بقصد وبدونه، اما الاستماع فهو مركب من السماع ومن القصد.
(مسألة 446) يستحب سجود التلاوة في أحد عشر موضعاً آخر من القرآن وذلك في:
1- سورة الأعراف عند قوله تعالى [ وله يسجدون ].
2- في سورة الرعد عند قوله تعالى [ ظلالهم بالغدو والآصال ].
3- في سورة النحل عند قوله تعالى [ ويفعلون ما يـــؤمـــرون ].
4- في ســورة الإســـراء عند قوله تعالى [ ويزيدهم خشــوعاً ].
5- في سورة مريم عند قوله تعالى [ وخروا سجداً وبكياً ].
6- في سورة الحج عند قوله تعالى [ يفعل الله ما يشاء ]، [ وافعلوا الخير ].
7- في سورة الفرقان عند قوله تعالى [ وزادهم نفوراً ].
8- في سورة النمل عند قوله تعالى [ رب العرش العظيم ].
9- في سورة ص عند قوله تعالى [ وخرّ راكعاً وأناب ].
10- في ســورة الإنشــقاق عند قوله تعالى [ واذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ].
(مسألة 447) لا يجب السجود على من كتب الآية او شاهدها مكتوبة من غير ان يخطرها في البال، أي عرضت له اتفاقاً او عن التفات وزالت، او تصورها والتصور أعم من الخطور.
(مسألة 448) سبب السجود مجموع الآية فلا يجب عند قراءة بعضها ولو تضمن لفظ السجدة منها، نعم لو قرأ بعضها واستمع الى بعضها الآخر او سمعه وجب السجود.
(مسألة 449) وجوب السجدة فوري فلا يجوز التأخير، ولو لم يأت بها فوراً نسياناً أتى بها اذا تذكر، بل وكذا ان لم يأت بها عن عمد وتقصير.
(مسألة 450) يتكرر السجود بتكرار القراءة او السماع.
(مسألة 451) لو قرأها او سمعها وهو في الصلاة الواجبة أومأ للسجود وسجد بعد الصلاة، ولا يجب إعادة الصلاة على الاقوى لحديث لا تعاد ولقاعدة نفي الحرج.
(مسألة 452) يعتبر في السماع تمييز الحروف والكلمات، فلو سمع همهمة من غير ان يميز الكلمات فلا يجب السجود.
(مسألة 453) لو سمع آية السجدة من المسجل ونحوه مما يحبس الصوت لا يجب السجود، ولو سمعها من الراديو او التلفزيون ونحوهما بالصوت البعيد المنقول مباشرة من غير تسجيل فهل يجب السجود او لا، الاقوى عدم الوجوب لاحتمال انصراف الأدلة عنه وان السماع ما تعلق بالاشخاص، والسجود هو الاحوط استحباباً.
(مسألة 454) لا يجب السجود عند قراءة ترجمة الآية او سماعها.
(مسألة 455) يستحب في السجود النية وتحقق مسماه واباحة المكان، ولا يجب مراعاة عدم العلو أربع أصابع بين المسجد والموقف على الاقوى، وكذا وضع سائر المساجد.
(مسألة 456) لا تعتبر الطهارة من الحدث ولا من الخبث فيه فيسجد الجنب والحائض، ولا يعتبر الاستقبال فيجوز سجود التلاوة لغير القبلة، ولا تعتبر طهارة موضع الجبهة ولا ستر العورة او كون اللباس من غير الحرير او الذهب او جلد الميتة لحصول سبب السجود وفوريته وعدم شموله بتمام أدلة السجود الصلاتي.
(مسألة 457) ليس في هذا السجود تكبيرة افتتاح او تشهد او تسليم ويكفي تحقق هيئة السجود من غير تلفظ بذكر او تسبيح، نعم يستحب الاتيان بالذكر كيف ما كان، والأولى ان يأتي بالمأثور ومنه: “سجدت لك يا رب تعبداً ورقاً، لا مستكبراً عن عبادتك ولا مستنكفاً ولا مستعظماً، بل انا عبد ذليل خائف مستجير”، كما يستحب التكبير عند رفع الرأس من السجود.
(مسألة 458) اذا سمع القراءة وشك بين الأقل والاكثر يجوز له الاكتفاء في التكرار بالأقل، ويكفي في وجوب التكرار وصدق التعدد رفع الجبهة عن الأرض ثم وضعها للسجدة الاخرى، أي لا يعتبر الجلوس او رفع باقي المساجد عن الارض للفصل بين السجدتين.
سجدة الشكر
(مسألة 459) يستحب السجود للشكر عند تجدد نعمة او رفع نقمة او تذكر احدهما او اداء فريضة او نافلة او فعل عمل صالح، ويكفي فيه مجرد وضع الجبهة مع النية، ولا يشترط فيه الذكر ولكن يستحب ان يقول: “شكراً لله” او “شكراً شكراً” مرة واحدة او مكررة.
(مسألة 460) تكفي في سجود الشكر واحدة ويستحب التثنية، ويتحقق التعدد والفصل بينهما بتعفير الخدين والجبينين مقدماً لليمين، ويستحب في سجدة الشكر افتراش الذراعين والصاق الصدر والبطن بالارض، ومسح موضع السجود باليد وامرارها على الوجه ومقاديم البدن والدعاء.
(مسألة 461) اذا حصل سبب لسجود الشكر ولكنه أي السجود كان شاقاً او فيه حرج او هناك مانع دون التطامن ووضع الجبهة على الارض ساعتها يجوز ان يكتفي بالإيماء برأسه ووضع خده على كفه.
(مسألة 462) يستحب اطالة السجود لأنه من أشرف العبادات ولما فيه من التقرب الى الله تعالى، وما من عمل أشد على ابليس من رؤيته لابن آدم ساجداً لأنه أمر بالسجود فعصى.
(مسألة 463) يحرم السجود لغير الله.
هذه المسألة أقل مسائل الرسالة في عدد الكلمات لكنها عمود الرسالة وركن العبادة وعنوان التوحيد.)( ).
ولا يختص الشكر لله بالوصف الحسن والثناء باللسان إذ يكون على وجوه :
أولاً : الإعتراف بالفضل والمنّ من عند الله .
ثانياً : تعاهد النعمة والحفاظ عليها بتسخيرها في مرضاة الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ) فمن مصاديق اتباع رضوان الله الإجتهاد بالشكر لله عز وجل .
ثالثاً : إتخاذ النعمة مناسبة ومادة للدعاء وسؤال المزيد .
رابعاً : الإنفاق من النعمة سواء كانت في البدن أو العلم أو المال أو الجاه وغيرها ، ومن الثوابت عدم حصر النعم الإلهية , فكذا ليس من حصر لما يترشح عنها من الإنفاق .
خامساً : إتخاذ الشكر لله دعوة لطاعته وترغيباً بالعبادات وأداء الفرائض ، قال تعالى [اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا] ( ) .لبيان لزوم مقابلة النعمة باتيان الصالحات والتقدير بالواجبات العبادية شكراً .
سادساً : من الشكر لله الإمتناع عن المعصية والتنزه عن فعل السيئات .
وقيل أن الحمد لا يكون إلا بالقول ، أما الشكر فيكون بالفعل والقول معاً أي أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، والمختار أنهما معاً إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا .
لقد جعلتُ عنوان (الآية سلاح) على نحو التنكير لبيان التعدد في المقام من جهات :
الأولى : سنخية السلاح في الآية القرآنية .
الثانية : الآية سلاح لتهذيب النفس وسلامتها من الأدران والكدورات.
الثالثة : الآية القرآنية سلاح في ميدان القول والعمل وصدور المسلم عن القرآن ، ومضامين الآية القرآنية .
الرابعة : الآية القرآنية سلاح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الخامسة : الآية القرآنية عصمة من الزلل والفسوق والمعصية .
السادسة : الآية القرآنية حرز وأمن من الآفات والهلكات .
السابعة : الآية القرآنية كالعين الباصرة وحاسة السمع .
الثامنة : الآية القرآنية سلاح من التحريف والتبديل في اسم أو لفظ القرآن .
التاسعة : الآية القرآنية سلاح في تلاوتها والإستماع لها ليكون من معاني قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا] ( ) أتخاذ القارئ والمستمع للآية القرآنية حرزاً وواقية ومادة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
العاشرة : الآية القرآنية واقية من الضرر والإضرار .
(عن أبى سعيد الخدرى ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لا ضرر ولا ضرار من ضار ضره الله ومن شاق شق الله عليه) ( ).
ولم يرد لفظ (سلاح) في القرآن إنما ورد بصيغة الجمع أربع مرات في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله والمسلمين اثنتين منها بصيغة الخطاب واثنتين بصيغة الغائب ، وكلها في آية واحدة في قوله تعالى [وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ] ( ).
ليكون من خصائص ورود لفظ الأسلحة في القرآن وجوه:
الأول : إنحصار ورود لفظ الأسلحة بصيغة الجمع، فلم يرد بصيغة المفرد أو المثنى.
الثاني : تعدد لفظ الأسلحة في آية واحدة من القرآن إذ ورد أربع مرات فيها.
الثالث : جاء لفظ الأسلحة بصيغة الإضافة مرتين للمخاطب ومرتين للغائب، مع إتحاد الموضوع وأن المراد هم المهاجرون والأنصار الذين مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : مع معاني تعدد لفظ الأسلحة في الآية أعلاه إرادة الحذر وتنبيه للمسلمين، وفضح الذين كفروا، وكيف أنهم يتمنون نيل غرة من المسلمين لقوله تعالى[فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً]( ).
لقد وقعت غزوة أنمار في السنة الثالثة للهجرة وقبل معركة أحد، بعد ما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن أنماراً وثعلبة يعدون العدة, ويجمعون الناس لغزو المدينة، فسار لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة السبت العاشر من المحرم في أربعمائة من أصحابه وأتى محالهم في نجد، وسميت غزوة ذات الرقاع لوجوه:
الأول : هناك شجرة في الموضع تسمى ذات الرقاع.
الثاني : يقع في الموضع جبل فيه بقع حمراء وسوداء وبيضاء , وكأنها رقاع.
الثالث : قيام المسلمين بلف أقدامهم بالخرق والرقاع لتشققها وثقبها من شدة الحر.
الرابع : قيام المسلمين بترقيع راياتهم، عن ابن هشام( ) .
وأيهما أكثر أهمية الإختلاف في اسم الغزوة أم الإختلاف في تأريخها الجواب هو الثاني، فالأولى التحقيق في تعيين أوانها وقد تتعدد أسباب التسمية، وتكون كلها صحيحة أما بالنسبة للتأريخ فهو واحد، ويتعلق به إستقراء حال وقوة المسلمين آنذاك.
وأختلف في أوانها وهل وقعت قبل معركة الخندق كما عن ابن إسحاق أم بعده أم في السنة الرابعة( ) أم بعد غزوة خيبر لحديث أبي موسى الأشعري.
وفي هذه الغزوة كان رجل من الأنصار ربيئة للمسلمين أي عيناً يرصد العدو خشية مداهمته ومباغتته المسلمين، فيكون على جبل أو مكان عال يطلع على ما حوله، وكان هذا الأنصاري قائماً يقرأ القرآن فرماه أحد المشركين بسهم فأصابه فتمادى في القراءة وإستمر بها ولم يقطعها حتى ركع وسجد ثم أهب ونبّه صاحبه المهاجر وهو عمار بن ياسر.
ووجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمعاً عظيماً من غطفان، فتقارب الجمعان ودبّ الخوف ولكن لم يقع بينهم قتال يومئذ مع التباين في علة وسبب الخوف، إذ خاف المسلمون إغارة المشركين عليهم على نحو المباغتة، وخاف المشركون أن يقيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى إستئصالهم وصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمسلمين صلاة الخوف وفي هذه الغزوة سأل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جابر بن عبد الله الأنصاري: يا جابر هل تزوجت؟ إذ كان أبوه من الشهداء في معركة أحد فسأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم البيان إستحباب النكاح مطلقاً، ولإنجاب الأولاد والذرية عوضاً عن الشهداء وببركتهمً.
أجاب جابر: نعم يا رسول الله، قال: أثيباً أم بكراً؟ قلت: لا، بل ثيباً.
وإبتداء جواب جابر بالنفي بـ لا، شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يريد له الزواج من بكر لم يدخل بها أحد قبله قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفلا جارية تلاعبها وتلاعبك، لبيان خصوصية للبكر بالنسبة للذي يتزوج للمرة الأولى خاصة، وإستحباب البكر مطلقاً.
قلت: يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعاً (فَنَكَحَتْ امرأة جَامِعَةً تَجْمَعُ رُءُوسَهُنّ وَتَقُومُ عَلَيْهِنّ ؟ قَالَ ” أَصَبْت إنْ شَاءَ اللّهُ أَمَا إنّا لَوْ قَدْ جِئْنَا صُرّارًا أَمَرْنَا بِجَزُورِ فَنُحِرَتْ وَأَقَمْنَا عَلَيْهَا يَوْمَنَا ذَاكَ وَسَمِعَتْ بِنَا ، فَنَفَضَتْ نَمَارِقَهَا ” قَالَ قُلْت : وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا لَنَا مِنْ نَمَارِقَ قَالَ ” إنّهَا سَتَكُونُ فَإِذَا أَنْتَ قَدِمْت فَاعْمَلْ عَمَلًا كَيْسًا ” قَالَ فَلَمّا جِئْنَا صُرّارًا أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِجَزُورِ فَنُحِرَتْ وَأَقَمْنَا عَلَيْهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ فَلَمّا أَمْسَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ وَدَخَلْنَا ، قَالَ ” فَحَدّثَتْ الْمَرْأَةُ الْحَدِيثَ ” ، وَمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ فَدُونَك ، فَسَمْعٌ وَطَاعَةٌ . قَالَ فَلَمّا أَصْبَحْت أَخَذْت بِرَأْسِ الْجَمَلِ فَأَقْبَلْت بِهِ حَتّى أَنَخْته عَلَى بَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ ثُمّ جَلَسْت فِي الْمَسْجِدِ قَرِيبًا مِنْهُ قَالَ وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَأَى الْجَمَلَ فَقَالَ مَا هَذَا؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا جَمَلٌ جَاءَ بِهِ جَابِرٌ قَالَ فَأَيْنَ جَابِرٌ ؟ قَالَ فَدُعِيت لَهُ قَالَ فَقَالَ يَا ابن أَخِي خُذْ بِرَأْسِ جَمَلِك ، فَهُوَ لَك ، وَدَعَا بِلَالًا ، فَقَالَ لَهُ اذْهَبْ بِجَابِرِ فَأَعْطِهِ أُوقِيّةً قَالَ فَذَهَبْت مَعَهُ فَأَعْطَانِي أُوقِيّةً وَزَادَنِي شَيْئًا يَسِيرًا)( ).
ولما رجع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أصابهم مطر، فنزلوا وادياً تحت الأشجار، فوضع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلامه، وذهب إلى الطرف الآخر من الوادي بمفرده، وقيل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إستظلوا عند الرجوع إلى المدينة بالشجر، وأقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحت الشجرة ونام نومة.
الثامن : الآية لطف : لما إحتجت الملائكة على جعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) وعلة هذا الإحتجاج إفساد الإنسان في الأرض وسفكه للدماء بغير حق ، تفضل الله عز وجل وأجابهم بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) فخّر الملائكة سجداً لله عز وجل لتسليمهم بأن الغيب لا يحيط به إلا هو سبحانه .
ومن مصاديق علم الله في المقام أنه جعل الحياة الدنيا دار لطف ورحمة ورأفة ، ترى ما هي النسبة بين قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) وبين قانون اللطف في الحياة الدنيا .
الجواب فيه وجوه :
الأول : نسبة التساوي وأن الرحمة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي ذات ومصداق اللطف الإلهي .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وفيه شعبتان :
الأولى : الرحمة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعم من اللطف .
الثانية : قانون اللطف هو الأعم ، وما بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا مصداق له .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه .
وهناك مادة للإلتقاء بين الرحمة في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين قانون اللطف ، وهناك مادة للإفتراق بينهما .
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثاني بلحاظ أن اللطف الإلهي تغشى النار والخلائق جميعاً ، وأنه سابق لخلق آدم عليه السلام ، وهل قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) الوارد في أعلاه من قانون اللطف أم لا، الجواب هو الأول ، فمن لطف الله عز وجل عمارة الإنسان للأرض بالذكر والعبادة ومنها بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فان قلت قد ثبت في علم الأصول أن الدنيا دار امتحان وابتلاء واختبار فهل يتعارض قانون اللطف مع هذا العلم ، الجواب لا ، إنما الإمتحان ونحوه في طول قانون اللطف وليس معارضاً له .
فتفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإعانة الناس في سبل الهداية والصلاح ، ولكن الذين كفروا أصروا على محاربته وقتاله فكانت معركة بدر والتي يبدأ بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتال ،وفيه شاهد على ان الإسلام لم ينتشر بالسيف ، وإن معاركه كانت دفاعية محضة ، فتفضل الله عز وجل بالنصر المبين للمسلمين ، وهل نسبة هذا النصر إليه سبحانه بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) من قانون اللطف الإلهي .
الجواب نعم ، ولا يختص هذا اللطف بالمسلمين دون غيرهم ، أنما يشمل حتى الذين كفروا وذراريهم ، وهو من الشواهد على أن بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم رحمة لهم ولغيرهم ، ولم يتعظ مشركوا مكة من واقعة بدر وهزيمتهم مع رجحان كفتهم بالعدد والعدة والمؤون والأسلحة ، حيث كان عددهم نحو ألف رجل ، بينما لم يكن عدد المهاجرين والأنصار الذين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، فقتل من المشركين سبعون وأسر منهم سبعون .
ومن الآيات أن عدداً من رؤساء الكفر ممن كان يؤذون النبي وأهل بيته وأصحابه في مكة كأبي جهل وأمية بن خلف سقطوا قتلى يومئذ ، وكانوا من أصحاب القليب .
وأقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موضع معركة بدر ثلاثة أيام ، وفي اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى وتبعه إصحابه ، وهم لا يعلمون إلى أين يمشي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وظنوا أنه يقصد بعض الحاجة ولكنه قام على شفا البئر الذي أُلقي فيه قتلى المشركين .
وأخذ يناديهم باسمائهم وأسماء آبائهم : يا أبا جهل بن هشام ، ويا أمية بن خلف ، ويا عتبة بن ربيعة ،ويا فلان بن فلان ، ويا فلان ثم قال : يا أهل القليب , ليشمل الخطاب الذين لم يذكرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسمائهم ،وقال (هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبّكُمْ حَقّا ؟ فَإِنّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبّي حَقّا ) ( ).
ليذكرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بآيات القرآن التي كان يتلوها في البيت الحرام وما فيها من الإنذار والتخويف والوعيد ، ومن خصائص السور المكية أنها تتضمن الوعيد ، كما يذكرهم بدعائه عليهم وتحذيره لهم عندما كان في مكة , ودعوتهم إلى الإسلام صبيحة يوم معركة بدر وحثهم على ترك القتال .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يا أهل القليب بئس العشيرة التي كنتم لنبيكم .
لبيان إيذائهم له ولأهل البيت والصحابة ، ولم يكتف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا اللوم ، إنما ذكر جانباً ومصاديق من إيذائهم له ولأصحابه لإقامة الحجة والبرهان على إستحقاقهم نزول القتل بهم , وليتعظ الناس من واقعة بدر ، وهذا الإتعاظ من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) .
وذكر النبي في ندائه لأهل القليب أموراً :
الأول : قال كذبتموني وصدقني الناس .
الثاني : إخراج أهل مكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقيام الأنصار بايوائه ، فأكرمهم الله بالثناء عليهم وتخليد حسن عملهم ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا] ( ).
الثالث : قتال المشركين من أهل مكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي تجلى في معركة بدر ،ونصرة المهاجرين والأنصار له , وأول من حارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم طائفة من عشيرته من قريش .
ولا يتعارض نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل القليب مع قوله تعالى [وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ]( ) إنما المراد ذم الذين كفروا وأنهم كالموتى ، ولبيان أن رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأحياء من الناس .
وورد عن ابن عباس (في قوله { فإنك لا تسمع الموتى }( ) { وما أنت بمسمع من في القبور } قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقف على القتلى يوم بدر ويقول : هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً يا فلان ابن فلان . ألم تكفر بربك؟ ألم تكذب نبيك؟ ألم تقطع رحمك؟ فقالوا : يا رسول الله أيسمعون ما نقول؟ قال : ما أنتم بأسمع منهم لما أقول . فأنزل الله {فإنك لا تسمع الموتى}( ) {وما أنت بمسمع من في القبور} ومثل ضربة الله للكفار أنهم لا يسمعون لقوله )( ).
الرابع : قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمخاطبة بعض أهل القليب: يا فلان يا فلان الم تكذب نبيك ؟ ألم تقطع رحمك ، قال تعالى [وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ]( ) أي المؤمنون والكفار .
وقال : يا أهل القليب ، وتلك تسمية جديدة لهم جرت على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وصاروا يعرفون بها , وفيها زيادة توبيخ لهم ، فلم يموتوا ويدفنوا مثل الناس سواء بين أهليهم أو في حال السفر ، إنما ألقوا جميعاً في بئر معطلة قتلى ، ولم يلقهم فيه أبناؤهم وأخوتهم وأصحابهم إنما ألقاهم المسلمون الذين قتلوهم ، وفيه ذل اضافي لهم ، وهل هو من مصاديق تذكير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم لقوله تعالى (فهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبّكُمْ حَقّا) أم أن القدر المتيقن من أفراد هذا الوعد هو القتل ، وتلقي ملائكة العذاب لهم ، وشدة حساب منكر ونكير لهم .
الجواب هو الأول ومنه أيضاً خطاب وتوبيخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم .
(فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَتُنَادِي قَوْمًا قَدْ جَيّفُوا ؟ قَالَ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أنُ يُجِيبُونِي) ( ).
التاسع : إفاضات الآية : وهو علم مستحدث يبين وجوه العرفان والرقائق التي تتضمنها كل آية قرآنية ، إن تخصيص عنوان خاص لموضوع معين باب ونوع طريق للتحقيق والتفصيل فيه ، فليس من آية قرآنية إلا وهي تنفذ إلى شغاف القلوب بما تفيض به من العطاء الإلهي .
وليس المراد من إفاضات الآية هو مقولة الفيض الإفلاطونية بأن الموجودات صدرت وفاضت عن الأول ، كما يفيض النور عن الشمس ، وعلى نحو الدفعات ، وأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد على زعمه ،وبه قال الفارابي ثم ابن سينا ، ولا أصل لهذه النظرية ، إذ يصدر الكثير والمتعدد من عند الله عز وجل في آن واحد لعظيم قدرته وسعة سلطانه ، ومن معاني قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ) هو تعدد الأوامر ومصاديق المشيئة والمخلوقات في آن واحد ، وكل الأشياء مستجيبة لله تعالى .
ويبين باب إفاضات الآية المنافع الروحية والحسية التي تترشح عن مضامين أي آية من القرآن ، وهذه الإفاضات على قسمين :
الأول : الإفاضات العامة التي تتجلى من كل آية من القرآن .
الثاني : الإفاضات الخاصة بكل آية من القرآن .
لقد جعل الله عز وجل كلامه مصدراً وواسطة للفيض , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
العاشر : الآية بشارة : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار البشارات، وتأتي البشارة للإنسان في معيشته ورزقه وعياله وما حوله من الأمور ، ويمكن تقسيمها إلى وجوه :
الأول : البشارة الذاتية في ذات البدن والعافية والسلامة .
الثاني : البشارة الشخصية التي تتعلق بالأمور الخاصة من المعيشة والرزق وصرف البلاء .
الثالث : البشارة في الأهل والأحبة ، وما تأتيهم من النعم والمغانم .
الرابع : البشارة العامة التي تخص الطائفة والأمة ، ومن معاني قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) فوز المسلمين بالبشارات بالقرآن والسنة النبوية ، والبشارة في الدنيا والآخرة ومنها آية البحث التي تتضمن بشارة الأحياء والأموات بعلو منزلة الشهداء وحياتهم عند الله عز وجل من حين مغادرتهم الحياة الدنيا .
لقد تقدم أن الدنيا (دار البشارة ) ففي كل أمر وموضوع وحكم هناك بشارة , وهل في أداء العبادات والفرائض بشارة , الجواب نعم , فيها بشارة وغبطة وسعادة ، وتتجلى عند النداء إلى الصلاة والسعي إليها والفراغ منها والتسليم بالثواب العظيم لأداء كل فرض منها ، وهذه البشارة من مصاديق قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ] ( ) لبيان أن المحافظة على الصلوات بشارة , وإصلاح للنفوس , وتهذيب للأخلاق .
عن أبي سعيد الخدري(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول الله تعالى : الصوم لي وأنا أجزي به ، وللصائم فرحتان . إذا أفطر فرح ، وإذا لقي ربه فجازاه فرح ، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك) ( ).
ومن خصائص كل من البشارة والإنذار والفرح والحزن في الدنيا التذكير بلزوم الدعاء وسؤال الله من فضله ، والتوجه إليه سبحانه بالشكر على النعم , أما عالم الآخرة فيتصف بعد إجتماع الضدين فلا يجتمع عند الإنسان الفرح والحزن فان الفرح والغبطة بالثواب العظيم .
وأما الحزن على العقاب لإرتكاب المعاصي والسيئات وإتخاذ الكفر جلباباً , وجاءت آية البحث بالإخبار عن حياة الشهداء عند الله ، وقد يتبادر إلى الذهن أنها مثل حياة الناس في الحياة الدنيا .
ومن إعجاز القرآن آيات البشارة فيه، ودلالتها على قانون من الإرادة التكوينية وهو مصاحبة البشارة للحياة الدنيا، قال تعالى[وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، لبيان الغايات العظيمة من البشارات في الحياة الدنيا، وأنها لهداية وإصلاح الناس، وفوزهم بالأمن والسلامة في النشأتين، والبشارة في الدنيا من الغنائم العام القريبة من كل إنسان إذ أن شجرة البشارة السماوية تدخل إلى كل بيت، وتنفذ إلى القلوب، وليس من نبي إلا وأخبر قومه عن أسرار السعادة الكامنة في الإيمان والتقيد بسنن التقوى، وقد أنعم الله عز وجل علينا بباب في تفسير كل آية من القرآن هو(الآية بشارة).
لقد أراد الله عز وجل أن تكون كل آية منبراً من نور يضئ دروب السالكين للناس جميعاً الغني والفقير ، والسيد والعبد , والرجل والمرأة فمن إعجاز القرآن توجهه بالنداء العام إلى الناس جميعاً المقرون ببيان البشارة بالخير والشر , والأكثر هو ورودها بالخير ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وتتجلى البشارة في الآية القرآنية من جهات :
الأولى : منطوق الآية .
الثانية : مفهوم الآية .
الثالثة : دلالة الآية .
الرابعة : الغايات الحميدة في الآية القرآنية .
الخامسة : ذات تلاوة الآية القرآنية بشارة ، وهو من الإعجاز الذاتي للقرآن ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا] ( ) .
فنسبت الآية أعلاه البشارة للقرآن وأنه الذي يتولى البشارة في الحياة الدنيا .
وتدل مادة البشر على الظهور الحسن ، ومن معانيه ظهوره على وجه وبشرة وأسارير الإنسان .
ومن معاني البشارة الجمال , وامرأة بشيرة أي جميلة والبشير هو الذي يأتي بالبشارة , والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بشير ، والقرآن بشير وبشارة , قال الأعشى :
(ورأت بأنّ الشيبَ جا … نَبَه البشاشَةَ والبَشارَة) ( ).
ووردت مادة (بشر)ثلاث وعشرين ومائة مرة في القرآن ، مما يدل على أنه لم ترد في أغلب آيات القرآن والتي تبلغ ستة آلاف ومائتين وست وثلاثين آية ، ولكن معاني وعطر البشارة يفوح مسكاً وعنبراً من كل آية قرآنية مما يدعو العلماء إلى استقرائها .
وهل البشارة في الآية القرآنية متحدة أم متعددة ، الجواب هو الثاني وهو من إعجاز الآية القرآنية ، وتتوجه البشارة في القرآن من جهات :
الأولى : إرادة بشارة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : بشارة المؤمنين والمؤمنات .
الثالثة : توجه البشارة إلى المسلمين والمسلمات ممن نطقوا بالشهادتين وأدوا الفرائض وتنزهوا عن النفاق .
الرابعة : بشارة المتقين الذين أخلصوا الطاعة لله عز وجل .
الخامسة : بشارة الذي يقتل في سبيل الله ، ومنه آية البحث .
السادسة : البشارة لذوي وأهل الذي يقتل في سبيل الله .
السابعة : البشارة للتائبين من الذنوب والمعاصي توبة نصوحاً .
الثامنة : البشارة للصابرين في رضوان الله , والعاصمين أنفسهم عن اتباع الشهوات ، قال تعالى [وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ] ( ).
وقد يرد لفظ البشارة على نحو الإنذار والوعيد كما في قوله تعالى [بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا] ( ).
ولا تختص البشارة القرآنية بلفظ البشارة إنما هي أعم فقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ] ( ) بشارة للمؤمنين والمؤمنات إلى يوم القيامة .
الحادي عشر : الآية إنذار
في تفسير كل آية من هذا السفر باب اسمه الآية إنذار , والإنذار لغة هو البلاغ والإعلام ذو صبغة التحذير والتخويف ، ويقال تناذر القوم أي خوّف بعضهم بعضاً .
وتولى القرآن مسؤولية إنذار الناس جميعاً وتخويفهم على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والبدلي .
والنذيرة من الجيش : الطليعة التي تتقدم أمامهم وتكشف لهم عدوهم وتحذرهم منه ، وهي غير الربيئة والعين ، وغير مقدمة الجيش ، قال الله تعالى [عُذْرًا أَوْ نُذْرًا] ( ) أي إقامة للحجة من عند الله على الناس , والإنذار لهم من أليم العذاب للكافرين والمنافقين .
ومن أسماء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم النذير ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ) .
(ومن أمثال العرب ، قد أعذر من أنذر) أي من حذرك وأنذرك بلزوم إجتناب فعل مكروه على نحو الخصوص والإجمال ، فانك إذا اتيته يكون معذوراً عندما يعاقبك .
ويأتي الإنذار من وجوه :
الأول : بعثة الأنبياء والمرسلين ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) وينحل موضوع الآية بعدد الأنبياء والمرسلين .
وتدل الآية أعلاه على حتمية إنتفاع شطر من الناس من بعثة الأنبياء ، وهل يمكن القول لابد من الإنتفاع من بعثة أي نبي من الأنبياء ، الجواب نعم ، فلابد من ترتب الأثر على بعثة كل نبي وإتباع عدد وفريق من الناس له وإن كانوا أهل بيته .
(وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ما من الأنبياء من نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) ( ).
الثاني : تفضل الله عز وجل بانذار الناس بالكتب السماوية ويتضمن كل كتاب سماوي إنذار الناس من جهات :
الأولى : الإنذار من الكفر والجحود .
الثانية : الإنذار من فعل المعاصي .
الثالثة : النهي والتخويف من الصدود عن دعوة الأنبياء , والمنع من محاربتهم ، وتدل عليه آية البحث في مفهومها على قيام المشركين بقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وسقوط الشهداء في دفاعهم عن النبوة والتنزيل ، وهل يدل قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) على أن معركة أحد دفاعية ، الجواب نعم ، لدلالة ذكر الأهل على أنهم كانوا يعيشون حياة يومية مستقرة وهادئة ، ولكن الذين كفروا حملوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه على الخروج للقائهم .
الرابعة : الإنذار من محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : التخويف من النفاق وبيان سوء عاقبته .
الثالث : الآيات الكونية العلوية والسفلية كالأمطار الغزيرة والرياح السوداء والعاتية والزلازل والسيول والأعاصير , وكسوف الشمس وخسوف القمر وعجز الإنسان عن دفع الكوارث الطبيعية ، وفي التنزيل [وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا] ( ) .
وتجلى بيان هذه الآيات في هذا الزمان بالتداخل الحضاري والإتصال الأعلامي بين الأمم والشعوب .
ومن إعجاز القرآن مجئ الإنذار فيه بين ثنايا البشارة وما يبعث السكينة كما في قوله تعالى [إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( )، فلقد أظهر الذين كفروا البأس، وتناجوا بالحمية القبلية وأرادوا بهذه الحجة دعوة إخوانهم من المسلمين للحاق بهم وترك نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فوصف الله عز وجل المسلمين بالمؤمنين وهي مرتبة وسمو ورفعة ثم رزقهم الله السكينة فلا يخشون خوفاً أو اضطراباً أو فتنة .
وفي معركة أحد التي جاءت آية البحث خاصة بالشهداء الذين قتلوا فيها تغشت المؤمنين السكينة .
وحينما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة مهاجراً كان أبو عامر الراهب أحد الوجهاء فيها ، إذ ترهب في الجاهلية ولبس المسوح ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسأله : ما الذي جئت به يا محمد .
قال : جئت بالحنيفية دين ابراهيم ، فقال أبو عامر : أنا على الحنيفية الإبراهيمية .
قال له النبي : أنت لست على حنيفية ابراهيم ، فقال بل أنك يا محمد أدخلت في الحنيفية ما ليس منها .
قال النبي : ما فعلت , إنما جئت بها بيضاء نقية ، ولم يصبر أبو عامر ويتدبر الآيات والمعجزات ، ولو مع الجدال والإحتجاج .
فأبى الإيمان والتصديق بنبوته ، ولما رآى دخول الأوس والخزرج جماعات في الإسلام وتعاهدهم للصلاة اليومية فارقهم وخرج إلى مكة ومعه خمسة عشر رجلاً من أصحابه وقيل أكثر , وسمّاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفاسق ، وتجلى مصداق هذه التسمية بتحريضه قريش على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومجيئه معهم للقتال يوم معركة أحد , وكان يعد أبا سفيان وأصحابه بأن قومه من الأوس إذا سمعوا به فسيميلون إليه ويتركون نصرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، كان يظن أنه لا يتخلف عنه أحد من قومه .
فحضر المعركة مع الأحابيش وعبدان أهل مكة ثم نادى (يا معشر الاوس أنا أبو عامر قالوا فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق وكان يسمى في الجاهلية الراهب) ( ) .
ولما سمع ردهم عليه قال : أصاب قومي من بعدب شر ، ثم قاتلهم قتالاً شديداً ، وقام برميهم بالحجارة كما حفر عدة حفر وأخفاها ليقع فيها المسلمون ، وقد وقع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في احداها .
ولما تم فتح مكة خرج أبو عامر منها إلى الطائف ، ولما أسلم أهل الطائف غادر إلى الشام ومات فيها غريباً وحيداً طريداً ، ولم يعمر كثيراً إذ أنه مات (سنة تسع وقيل في سنة عشرة من الهجرة ) ( ) .
وتنازع في ارثه عند هرقل كل من :
الأول : كنانة بن عبد ياليل .
الثاني : علقمة بن علاثة .
فدفع هرقل الميراث إلى كنانة بن عبد ياليل ، وقال لعلقمة هما من أهل المدر وأنت من أهل الوبر .
أي لما لم ير هرقل صلة قربى لأحدهما بأبي عامر لم يقسم الميراث بينهما وأنما التمس الأقرب في الصلات وجعل صلة الحضر أقرب من صلة البدو ، خاصة وأن أبا عامر كان قد سكن الطائف قبل سفره إلى الشام ، والمدر قطع الطين واليابس .
الواحدة مدرة كناية ودلالة على أهل المدن (والعرب تسمي القرية مَدَرَةً) ( ) .
والوبر صوف الإبل ، جاء هنا كناية عن سكن علقمة البادية , و(في تقسيم الشعَر : الشعر للإنسان وغيره , المرعزى والمرعزاء للمعز , الوبر للإبل والسباع , الصوف للغنم , العفاء للحمير , الريش للطير , الزغب للفرخ , الزف للنعام , الهلب للخنزير.
قال الليث: الهلب ما غلظ من الشعر كشعر ذنب الفرس.
وفي تفصيل شعر الإنسان : العقيقة الشعر الذي يولد به الإنسان , الفروة شعر معظم الرأس , الناصية شعر مقدم الرأس , الذؤابة شعر مؤخر الرأس الفرع شعر رأس المرأة , الغديرة شعر ذؤابتها , الغفر شعر ساقها , الدبب شعر وجهها ) ( ).
وقال ابن جني لغة أهل العرب أصح من لغة أهل المدر يريد التعريض بمدرسة الكوفة ) ( ).
وأستشهد حنظلة غسيل الملائكة ابن أبي عامر الفاسق في معركة أحد ليبقى ذكره بين الناس ، ويكون قبره مزاراً للمسلمين والمسلمات الذين يفدون إلى قبر ومسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لزيارته والتفاخر بجهاده وبذله نفسه في سبيل الله وفوزه بتغسيل الملائكة له يوم المعركة .
الثاني عشر : الآية موعظة ، وهو علم جديد يتجلى في هذا السِفر بتفسير كل آية من آيات القرآن .
والموعظة النصح والأرشاد والتذكير بالعواقب ، وهل تصدق الموعظة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الجواب نعم ، وفي التنزيل [وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] ( ) وقيل أن الموعظة هي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب ، ولكن المعنى أعم ولا يختص بالأمر والنهي ، ومن سنن الحياة الموعظة ليصدق على الحياة الدنيا أنها (دار الموعظة).
والإتعاظ : قبول الموعظة .
وبين الدعوة إلى الله والموعظة عموم وخصوص مطلق ، إنما الموعظة نوع طريق للصلاح والإصلاح ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ) .
ولما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) أخبرهم الله عز وجل أنه أحاط بكل شئ علماً وأنهم يقصرون عن معرفة كنه الخليفة , وأسرار منهاج عمل الإنسان في الأرض ، إذ قال تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علم الله عز وجل أنه جعل الدنيا محلاً للموعظة من جهات :
الأولى : بعثة الأنبياء والمرسلين , وكل نبي يأتي بالوحي والذي تترشح عنه الموعظة .
الثانية : نزول الكتب السماوية , وذات نزول أي كتاب سماوي موعظة من عند الله عز وجل , وفيه دعوة للناس للإعتبار منه ، والتدبر في دلالات نزوله ، وتلقي الأنبياء الوحي إذ جعلهم الله عز وجل وسائط رحمته .
الثالثة : نزول القرآن موعظة وعبرة , ويمكن تسمية القرآن بالموعظة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
إذ تدل الآية أعلاه على وصف الله عز وجل للقرآن بأنه موعظة وأنه هدى ، والنسبة بين الهدى والموعظة هي العموم والخصوص المطلق ، فالهدى أعم وأوسع .
الرابع : لقد رزق الله عز وجل الإنسان العقل ليميز بين الحق والباطل، ويقبل النصيحة والموعظة ، لذا ورد في القرآن عدة مرات قوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] وفي التنزيل [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] ( ).
وقد جاءت الآية السابقة في ذم الذين نافقوا ، وإقامة الحجة عليهم , وهل فيه موعظة للناس ، الجواب نعم من وجوه :
الأول : معرفة وجود أناس منافقين .
الثاني : نبذ النفاق ، والنفرة منه .
الثالث : سعي الفرد والجماعة للتنزه عن النفاق .
الرابع : دلالة نشوء طائفة من المنافقين على عز وقوة الإسلام ، وخشيتهم منه , فأظهروا الإسلام مع بقائهم على الكفر الباطني .
الخامس : القيام بالأمر باجتناب النفاق وأخلاقه , والنهي عنه وعما يدل عليه في القول والفعل .
ولو تعمد أحد المؤمنين القعود يوم النفير ، وعدم تلبية دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للخروج لقتال العدو في معركة أحد فهل يلحق بالذين نافقوا ، وذم الآية السابقة لهم , الجواب لا ، للتباين الموضوعي ، ولأنه قعد كمؤمن وإن قصّر وعصى لعدم وجود عذر عنده في قعوده .
السادس : إتعاظ الناس من ذم القرآن للمنافقين والمنافقات ومجيئه بالوعيد لهم بأشد العذاب .
الخامسة : إتعاظ المسلم وغيره من قصص القرآن ، وما فيها من المسائل المستقرأة ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ).
(عن عبد الله بن مسعود قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة أن يملنا) ( ).
وقيدت قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) الموعظة بلزوم كونها حسنة نافعة ظاهرة في الحجة والبرهان ، ولم تقيد الآية الحكمة لأنها كلها حسنة , أما الموعظة فهي على مراتب متفاوتة فأراد الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين الدعوة إلى الله بالأحسن منها .
وقيل من الموعظة ما هي سيئة فلذا قيدت الآية الموعظة بالحسنة أي بمواعظ القرآن وسنن الوحي وإقامة البرهان والدليل وصيغ الرفق واللين وترك الغضب والتوبيخ والذم أو الفظاظة أو التعيير ، قال تعالى [وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ]( ).
لقد أنعم الله عز وجل علينا بباب في هذا التفسير اسمه (الآية موعظة) ليكون التحقيق والإستقراء بخصوص الموعظة في كل آية من القرآن علماً مستقلاً، وسيأتي من بعدنا من يقوم بالتوسعة في هذا الباب وفي إنشاء وتأسيس أبواب جديدة في تفسير كل آية من القرآن .
ومن إعجاز القرآن عدم خلو أي آية منه من الموعظة ، وتتصف الموعظة القرآنية بأنها الأحسن والأتم والأكمل .
وجاءت الآية أعلاه بذكر الموعظة الحسنة لتشمل الأحسن والحسن ، وهل تلاوة الآية القرآنية من الموعظة .
الجواب نعم ، وهي موعظة للذات والغير ، وقد تفضل الله عز وجل وجعل قراءة القرآن واجباً عينياً في الصلاة اليومية ، ويبعث قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) المسلمين إلى التفقه في الدين ، والإرتقاء في المعارف الإلهية , وينمي ملكة إختيار الأحسن في الجدال والإحتجاج والدعوة إلى الله عز وجل .
وجاء القرآن ببيان الحاجة إلى الموعظة حتى في أمور الأسرة والعائلة ، قال تعالى [فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ]( ) إذ قدمت الآية الموعظة لإصلاح الأسرة ، ومنع الفتنة والخصومة فيها ، وحدوث الفراق والطلاق بين الزوجين الذي هو مكروه بذاته وأثره .
وآية البحث موعظة من جهات :
الأولى : كراهية القتال والقتل ، وورد في القرآن ما يدل على هذه الكراهية ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ).
الثانية : قبح التعدي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الثالثة : حث الناس على إجتناب قتال المسلمين .
الرابعة : علم الله عز وجل بالذين قتلوا وغادروا الدنيا في سبيله تعالى.
الخامس : إكرام الله عز وجل للشهداء .
السادس : تفقه المسلمين في الدين ومعرفة التضحية والفداء في الدفاع عن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
السابع : تبكيت وتوبيخ الذين كفروا وسلب الفرحة منهم بقتلهم للشهداء في معركة بدر وأحد ، ليتعظوا وغيرهم من الناس ، ويدركوا الخيبة بمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فلا غرابة من عدم وقوع قتال بين المسلمين والذين كفروا في معركة الخندق مع أن عدد جيش المشركين آنذاك عشرة آلاف ،ومن وقوع صلح الحديبية في السنة السادسة ، وقبول مشركي مكة على قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأداء عمرة القضاء في السنة التالية لها .
وهل فيه موضوعية لآية البحث ، الجواب نعم ، وهو من المنافع الغيرية للآية القرآنية ، إذ تشحذ آية البحث همم المسلمين , وتجعلهم يتحلون بالصبر ، وتسقط ما في أيدي المشركين ، وتجعل عموم الناس يدركون قانوناً وهو نيل الذين اشتروا الآخرة بأغلى الأثمان الحياة والرزق الكريم عند الله عز وجل .
و(حين انصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أحد مرّ على مصعب بن عمير وهو مقتول ، فوقف عليه ودعا له ، ثم قرأ { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه . . . . } ثم قال أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة ، فائتوهم وزوروهم ، فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه) ( ).
الثالث عشر : النعم التي تذكرها آية البحث : وهو علم مستقل مستحدث في هذا السفر والتفسير بفضل ولطف من عند الله لتأكيد قانون وهو : في كل آية قرآنية نعم من عند الله تستلزم الإستقراء والبيان والتوضيح والتفسير .
والنعم جمع نعمة , وهو الخير واللذة والسعادة ، وكل مطلوب ومرجو، وقيل أن ما يطلق على النعم في الدنيا إنما هو على سبيل المجاز وأن النعم الحقيقية في الآخرة ، وهذا القول ليس بتام ، قال تعالى [وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً] ( ) .
وتدل الآية أعلاه على أن كلاً من النعم الظاهرة والنعم الباطنة أمر حقيقي ووجودي .
ولو دار الأمر بين الحقيقة والمجاز , فالأصل هو الحقيقة ولا ينصرف إلى المجاز إلا مع القرينة ، إنما نعم الدنيا حقيقية أيضاً إلا أن التباين بينها وبين نعم الآخرة من جهات :
الأولى : نعم الدنيا مؤقتة ونعم الآخرة دائمة .
الثانية : تأتي النعم الدنيوية بالجد والعناء والتعب ، أما النعم الأخروية فهي ثواب وفضل من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ] ( ) .
الثالثة : قصر وزوال النعم في الدنيا ، أما نعم الآخرة فهي دائمة لا تتبدل ولا تفنى .
الرابعة : تتغشى نعم الله في الدنيا البر والفاجر ، أما في الآخرة فتختص بالمؤمنين .
الخامسة : الدنيا دار إمتحان وإبتلاء ، وقد يكون الإمتحان بذات النعم أو سلبها ، أما بالنسبة للنعم الأخروية فليس فيها إبتلاء أو إختبار، ولا تستلزم العمل .
السادسة : التباين في الكم والكيف والكثرة والسعة ، فليس من حد أو منتهى لنعم الآخرة ، والآية القرآنية من نعم الدنيا ، وهي نعمة على كل الناس تدعو للألفة والرحمة ونبذ الفرقة ، وتزجر عن القتل والإمتثال .
السابعة : الدنيا دار الأماني , والآخرة دار الجزاء .
ومن إعجاز القرآن أن أول آية وردت في نظمه تتعلق بالقتل وسفك الدماء خاصة باحتجاج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) إذ قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) للتحذير والإنذار من القتل وسفك الدماء .
ولو أجريت إحصائية أيهما أكثر كسبب في هلاك وموت الناس الآيات الكونية أم الحروب المدمرة والإقتتال بين الناس ، لتبين أن هذه الحروب هي الأكثر .
وفيه حجة على الناس ودعوة لهم لإتباع الأنبياء ، ومن الإعجاز في قوانين الشريعة الإسلامية عدم قتال أهل الكتاب واتباع الأنبياء وجاءت آيات القرآن بالترغيب للحوار بين المسلمين وبينهم ، وفي التنزيل [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] ( ) وفي الآية أعلاه زجر للمسلمين عن الإساءة والتعدي على أهل الكتاب أو التحريض على قتالهم .
وجاء البيان في آية المباهلة ، قال تعالى [فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ] ( ).
فلم يهجم أو يرسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سرية إلى نجران لفتحها أو دعوة أهلها للإسلام ، إنما أرسل لهم كتاباً قال فيه (بِاسم إلَهِ إِبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ، مِنْ مُحَمَّدٍ الَّنِبيِّ رَسُولِ اللهِ إلَى أسْقف) ( ).
وقدم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة إلى الله وعدم وصول النوبة إلى الجزية مع الإقرار بالتوحيد ، والأسقف هو المقدم عندهم ويقول القديس بولس لتلميذه تيطس اسقف كريت : (لانه يجب ان يكون الاسقف بلا لوم كوكيل الله غير معجب بنفسه و لا غضوب و لا مدمن الخمر و لا ضراب و لا طامع في الربح القبيح)( ).
وحينما وصل كتاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأسقف نجران فزع الأسقف، وبادر إلى الإستشارة مع التذكير بما وعد الله عز وجل ببعثة نبي من ذرية اسماعيل واحتمال أن يكون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو صاحب البشارة .
وبعث على رجل من أهل نجران من همدان كان مقدماً في المشورة واسمه شُرحبيل بن وَداعة وقرأ عليه كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاعتذر وقال : لو كان الأمر خاصاً بالدنيا لأجبتك .
فقال الأسقف : تنحّ واجلس .
ثم ارسل الأسقف على شخصين , كل واحد منهما معروف بالرأي والسداد فأجابا بمثل ما أجاب الأول فأدرك أن الأمر بالغ الشأن .
حينئذ أمر بالناقوس فضرب ، ورُفعت النيران في الصوامع على طول الوادي كدعوة للنصارى للحضور لأمر خطير ,وجلل أحاط بهم .
وكان في الوادي ثلاث وسبعون قرية , وكان عددهم عشرين ومائة ألف مقاتل ، فاجتمعوا وقام الأسقف بقراءة كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله عليهم لبيان امتناعه عن البت والقرار من دون مشورتهم وعلمهم ثم سألهم الرأي في الأمر.
وبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كتابه إلى نصارى نجران في السنة التاسعة للهجرة أي أنه ليس مع كتبه إلى الملوك والأمراء التي ارسلها بعد صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة ، فاجمع أصحاب الحل والعقد من أهل نجران على أن يبعثوا وفداً من ثلاثة أشخاص من كبرائهم ليأتوهم بنبأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحاله وأصحابه عن قرب, وأعضاء الوفد هم :
الأول : العاقب , وإلى رأيه يرجعون .
الثاني : السيد , وهو الذي يتولى شؤون الرحلة .
الثالث : الأسقف , وهو الحبر الذي يتولى الأمور الدينية في الرحلة . وذكرت بعض الأسماء منها شرحبيل بن وَداعه الهمداني و عبد الله بن شرحبيل الأصبحي .
وذكر أن أعضاء الوفد أربعة عشر , وقيل أنهم أربعون , وأوصلهم المكثر إلى ستين , مع إتصافهم بالضبط , والهيئة البهية المنمقة .
ولما أشرف الوفد على المدينة وصار على أطرافها ، خلعوا عنهم ثياب السفر ، ولبسوا حللاً من الحبرة تجر أذيالها في الأرض ، ولبسوا خواتيم الذهب ، ودخلوا المدينة .
وسألوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدلوهم على المسجد، ورأى الوفد معالم الإسلام جلية في المدينة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام والقائد ودخلوا عليه المسجد وليس عنده بواب ولم يلزم الأمر الإنتظار والإذن .
وقاموا بالسلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه لم يرد عليهم السلام وكأنه إستثناء من قوله تعالى [وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا] ( ).
وأرادوا محادثته وانتظروا أن يكلمهم ويسألهم كونهم جاءوا من خارج المدينة ولكنه لم يكلمهم ، وهم بتلك الحلل والذهب ، حينئذ سألوا عن عثمان بن عفان وعبد الرحمن عوف ، وكانت لهم صلة ومعرفة سابقة بهما، فوجدوهما في جمع من المهاجرين والأنصار فقلوا يا عثمان يا عبد الرحمن (إن نبيكم كتب إلينا بكتاب، فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا، وتصدينا لكلامه نهارا طويلا فأعيانا أن يكلمنا، فما الرأي منكما، أترون أن نرجع) ( ).
فأعتنى عثمان وعبد الرحمن بمسألتهم وأرادوا مساعدتهم فيما جاءوا فيه، ليسمع منهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويكلمهم .
فقالوا للإمام علي عليه السلام : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء لقوم ؟
وكيف السبيل إلى إعانتهم في حاجتهم ورجائهم بأن يكلمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فنظر الإمام علي عليه السلام لأعضاء الوفد، ورأى ما هم عليه من الحلل والحبرة وخواتيم الذهب .
فقال لعثمان وعبد الرحمن : أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ويدخلون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بثياب السفر التي جاءوا بها، ففعل أعضاء الوفد ، ودخلوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسلّموا عليه فرد عليهم السلام ، فانشرحت صدورهم ولانت قلوبهم ، وأدركوا علامة من سيماء النبوة .
(ثم قال النبي : والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وان إبليس معهم).
وهو معجزة أخرى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لم يترك عدم رد السلام عليهم من غير بيان سببه وعلته وموضوعه ، ليدركوا حقيقة وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يرى إبليس ، وورد في كتبهم بأن الأنبياء يرونه ، وقد كان ابليس يأتي إلى عيسى عليه السلام يريد فتنته إذ جاء ابليس مرة إليه .
( وقال له : إن كنت نبياً رسولاً فألقي نفسك من الجبل لأنه قد كتب الله وأوصى الملائكة بحملك على أيديهم لكي لا تصطدم قدمك بحجر ، فقال عيسى عليه السلام .
قال له يسوع: مكتوب ايضا لا تجرب الرب الهك( ).
ثم أخذ وفد نجران بسؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومساءلته وهو يجيبهم، ثم سألوه : ما تقول في عيسى فانا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى ويسرنا إن كنت نبيا أن نسمع ما تقول فيه ، فكان رد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم أنه لا جواب عنده اليوم وأنه يتطلع إلى الوحي بخصوص هذه المسألة ذات الأهمية العظمى في الصلة مع نصارى نجران , وفي التنزيل[أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ]( ).
لقد طلب منهم الإقامة حتى يخبرهم بالجواب ، ولم يمدد لهم المهلة والمدة وفيه شاهد بأن أمر وأوان الوحي بيد الله عز وجل .
ويحتمل طريق هذا الجواب وجوهاً :
الأول : نزول آية قرآنية خاصة بالمقام .
الثاني : مجئ جبرئيل بالجواب مشافهة .
الثالث : الوحي بالجواب بواسطة الملك أو النقر في أذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتحديث .
الرابع : رؤيا النبوة التي تفيد الصدق وأعظم وأسمى هذه الوجوه هو الوجه الأول ، وهو الذي جاء بواسطته الجواب .
فما أن جاء صباح اليوم التالي إلا وقد نزل قوله تعالى [إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنْ الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ] ( ) . لتكون هذه الآيات ومضامينها معجزة عقلية وحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسبيل لزيادة إيمان المسلمين ، وحجة على أعضاء الوفد ، فمع ما فيها من البيان فانها تضمنت القطع واليقين والتشبيه بين آدم وعيسى ، ليشمل هذا التشبيه في مفهومه وأصل الإستصحاب خلق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتضمنت الآية أعلاه الدعوة إلى المباهلة لتدل بالدلالة التضمنية على علم الله بأن أعضاء الوفد لا يرضون بهذا الجواب ، وأن الرد عليهم يكون بآية قرآنية وتحد ومباهلة .
وجاءت آية البحث مصداقاً لإحتجاج الملائكة وهل تدل آية البحث على الفساد في الأرض ، ومن هو المفسد ، الجواب نعم ، إذ تكشف فساد كفار قريش من جهات :
الأولى : إختيار الكفر والجحود .
الثانية : الصدود عن النبوة والتنزيل .
الثالثة : عبادة الأصنام .
الرابعة : إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته .
الخامسة : تعذيب أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة : تجهيز الجيوش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم , إذ يجمع عدوان كفار قريش بين الفساد وسفك الدماء .
ليكون من معاني الواو في [وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) الجمع كفار قريش بين أمور :
الأولى : جمع كفار قريش بين الفساد في الأرض والقتل بغير حق .
الثاني : الجمع بين عبادة الأوثان والصدود عن المعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الجمع بين إرادة القتال وقتل المؤمنين .
الرابع : الجمع بين القتال في معركة أحد والتهديد والوعيد بالرجوع إلى القتال .
الخامس : الجمع بين الإنفاق بالباطل ومحاربة الإسلام .
لقد سخّر الذين كفروا نعم الله عليهم في محاربة الإسلام وسنن الإيمان، فتفضل الله عز وجل وأثاب الذين قاتلوهم وقتلوا في سبيل الله بالحياة الدائمة عنده سبحانه ، وبالنعم الأخروية التي لا تخطر حتى على التصور الذهني .
وتذكر آيات القرآن بالنعم التي تفضل بها الله عز وجل على الناس ومنها :
الأولى :نعمة الخلق والإنشاء .
الثانية : تكاثر الناس من أبوين هما آدم وحواء ، ولا أحد يصدق أن هذه المليارات من البشر ترجع إلى أب واحد وأم واحدة ، وليس من تعدد في الزوجات حينئذ لإنتفاء هذا التعدد قهراً وانطباقاً ، ليكرم الله عز وجل حواء بعدم الغيرة والحسد لغيرها .
فلا يمكن أن تكون امرأة أخرى ضرة محتملة لها ، ومع هذا لم تنج وآدم من الإبتلاء إذ قتل ولدهما قابيل أخاه هابيل ، وليكون من وجوه إحتجاج الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وهم من أخوة من أبوين .
الثالثة : نعمة طول العمر ، وعدم قصر أيام الإنسان في الدنيا إذ يعيش أكثر الناس ستين أو سبعين سنة أو أكثر ، ويرى الإنسان أبناءه واحفاده ويكثر ماله ليتوجه إلى الله بالشكر على كل نعمة ، ويكون الإنسان في كل لحظة من حياته محتاجاً إلى رحمة الله وإلى النعم سواء المتصلة والراتبة أو المستحدثة والمتجددة .
فأبى الله عز وجل إلا أن يجعل الكائنات مجتمعة ومتفرقة محتاجة إليه في وجودها .
الرابعة : نعمة بعثة الأنبياء ونزول الوحي والكتب السماوية ، لقد تفضل الله عز وجل وجعل كلامه مصاحباً للناس وإلى يوم القيامة بنزول آيات القرآن ، ولم يجعل برزخاً أو حاجباً بينهم وبين تلاوتها والإستماع إليها والتدبر في معانيها .
وتفضل وجعل تلاوتها واجباً عينياً متكرراً في كل يوم على كل مسلم ومسلمة في الصلوات اليومية الخمسة ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى] ( ) تعاهد آيات القرآن وسلامتها من التحريف والتبديل والتغيير ، وفي هذا السلامة تشريف وإكرام لشهداء أحد لدلالة آية البحث على حياتهم وعصمتهم من الموت بفضل ولطف من عند الله عز وجل .
الرابع عشر : الصلة بين أول وآخر الآية : من الأبواب المستحدثة في علم التفسير والتي تضمنها هذا السِفر المبارك باب : الصلة بين أول وآخر الآية ، والذي تجلت فيه ذخائر من العلم لم تطرأ على التصور الذهني من جهات :
الأولى : دلالات الجمع بين أول ووسط الآية .
الثانية : معاني الجمع بين وسط وآخر الآية .
الثالثة : الكنوز في الجمع بين أول وآخر الآية القرآنية.
الرابعة : العلوم المستنبطة من الصلة بين وسطي الآية بلحاظ أن وسطها متعدد في كلماته .
الخامس : تجلي النعم في الجمع بين كل كلمتين من الآية القرآنية الواحدة.
السادسة : أسرار استقلال كلمات الآية بفاصلة تفصلها عن آيات القرآن الأخرى ، وتجعلها تنال اسم التشريف والإكرام بأنها إحدى آيات القرآن .
وقد تبدأ الآية القرآنية بالجملة الخبرية , وتنتهي بالإنشاء أو القانون الجامع لأمور الدنيا والآخرة ، أو تبدأ بالإنشاء والأمر لتنتهي بالخبر والوعيد سواء مع إتحاد الموضوع أو تعدده .
وقد إبتدأت آية البحث بالنهي الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأختتمت بالإخبار عن علم من علوم الغيب ينبسط على كل آنات الزمان ، ففي كل آن هناك رزق كريم لشهداء أحد عند الله عز وجل ، ويمكن أن يكون تقدير تلاوة آية البحث : أحياء عند ربهم يرزقون الآن )
ولفظ ( الآن ) في المقام معنى يصاحب تلاوة المسلمين لآية البحث في كل زمان وإلى يوم القيامة , كما يمكن تقديرها : أحياء عند ربهم رزقوا ويرزقون)
وهل تنخرم هذه القاعدة في أول آنات نزول الآية ، الجواب لا ، فما أن قتُل الشهداء يوم أحد حتى جاءهم رزقهم ، ويدل على سبق وتقدم قتلهم على نزول آية البحث زماناً صيغة الفعل الماضي بقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا] ( ) .
ولو دار الأمر بين مجئ الرزق للشهداء متأخراً مدة مديدة أو آنا ما عن قتلهم في معركة أحد وبين الملازمة بين قتلهم وتوالي الرزق لهم من عند الله فالجواب هو الثاني .
وتتجلى في هذا الباب من التفسير مسائل في إعجاز القرآن سواء في البلاغة أو الدلالة أو الأحكام أو الغايات ، ومن وجوه إعجاز القرآن الترتيب بيت آياته وسوره من جهة الموضوع والحكم ، أما هذا الباب فانه يبعث الإعجاز في ترتيب ذات كلمات كل آية من القرآن ، وفيه إعانة ومدد للعلماء لإستخراج الدرر واللآلى من كل آية من القرآن .
وقد تقدم هذا الباب من تفسير آية البحث( ) .
الخامس عشر : من غايات الآية : ليس من حصر للعلوم المستقرأ من غايات الآية القرآنية إذ تتجلى فيها اسنى المقاصد وأبهى معاني الربوبية المطلقة لله عز وجل ، وتبعث على اللجوء إليه تعالى والإستجارة به وحسن التوكل عليه ، وفي التنزيل [قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ] ( ).
وسيأتي في الجزء التالي مزيد بيان في تقدير النهي الوارد في آية البحث [لاَ تَحْسَبَنَّ] بلحاظ أمور :
الأول : مضامين آية البحث .
الثاني : مصاديق فضل الله عز وجل في الآية التالية ، مثلاً : لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله خوف أو هم يحزنون .
الثالث : معاني ومضامين الآية بعد التالية ومنه وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَفَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ.
ويكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله في القبور .
الثاني : ولا تحسبن يا محمد الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا لا تحسبوا الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً .
الرابع : يا أيها الذين نافقوا لا تحسبوا الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً .
الخامس : يا أيها الذين كفروا ل تحسبوا الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً.
السادس : يا أيها الذين قاتلوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد لا تحسبوا الذين قتلوا في سبيل الله يومئذ أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون .
وهل في آية البحث وعيد للذين كفروا بأنهم سيموتون ويرون عظيم منزلة الشهداء ، الجواب نعم .
السابع : يا أهل الكتاب لا تحسبوا الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء .
الثامن : يا أيها الناس لا تحسبوا الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً .
التاسع : يا أيها النبي لا تحسب أصحابك الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً .
العاشر : يا أيها النبي لا تحسب المؤمنين الذين قتلوا في معركة أحد لا يرزقون الآن , وفي كل زمان .
السادس عشر : علم التفسير : التفسير لغة البيان والكشف والتوضيح ، يقال فسَر الشئ إذا بينّه ووضحه ، وهل يصح أن يقال أن التفسير يزيح اللبس عن آيات القرآن ، الجواب لا ، لخلوها من اللبس والتعارض والترديد .
ومن إعجاز القرآن التحدي بالنص والدلالة والبرهان بذات القرآن ، قال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) لتدخل ذات آيات القرآن في البيان ، ومنها مضامين آية البحث وحياة شهداء معركة بدر وأحد عند الله عز وجل ، في بحبوحة من النعيم ، ويراد من علم التفسير في الإصطلاح فهم مضامين كتاب الله , ومعاني ودلالات كلماته , واستخراج تجليات أحكامه وسننه .
واجماع علماء المسلمين أن تعليم تفسير القرآن واجب كفائي وليس عينياً وأن كان من أسمى العلوم الشرعية والعقلية .
وهذا الإجماع من رشحات آيات القرآن نفسها ففي تلاوة آيات القرآن أو الإستماع لها بيان وتفسير سواء للعربي أو غيره ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ) .
وعن ابن مسعود: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن.
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعا)( ).
وأول من فسر القرآن هو ذات القرآن إذ يفسر نفسه بنفسه ، وقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأسمى تفسير للقرآن لأنه بيان وتأويل من الوحي سواء كان بالسنة القولية أو الفعلية .
والتفسير الذاتي للقرآن وتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، صرح علمي ثابت , وحرز وواقية في علوم التفسير , وتتجلى في هذا السِفر المبارك علوم مستفيضة من جهة التفصيل والبيان , ولكنها لا ترقى إلى سبر معشار من أغوار الآية القرآنية .
لقد أراد الله عز وجل لكل طبقة وجيل من أجيال المسلمين الغوص في بحار القرآن التي ليس فيها إلا الجواهر والدرر القريبة من الأذهان ، والخالية من الشوائب .
ولابد من إتقان تلاوة آيات القرآن ، ومعرفة قواعد النحو والصرف ومعاني اللغة العربية في الجملة لمن يختار الإختصاص بعلم التفسير .
ومن فضل الله عز وجل علينا في هذا السِفر المبارك أن كل باب من الأبواب الخمسة عشر التي تقدم ذكرها فيه تتعلق بتفسير الآية القرآنية ذات البحث من جهة اللغة والإعراب والمعاني المستقرأ من صلة الآية بالآيات المجاورة الأخرى ، وإعجاز الآية باقسامه التي تقدمت( ) ومفهوم الآية سواء الموافق أو المخالف وغيرها من الأبواب .
لقد أنار الله عز وجل السبيل للناس بآيات القرآن وجعله مائزاً بين الحلال والحرام والحق والباطل ، قال تعالى [وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا] ( ).
وتفتح عناية الأمة بعلم تفسير آيات القرآن أبواباً من العلم وأسباباً للرشاد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) ونوع طريق لنزول الرزق الكريم من عند لله ، وفتح خزائن من رحمته ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ]( ) .
وهل يدعو ذات القرآن إلا علم التفسير والتدبر والتفكر بآياته الجواب نعم ، قال تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ) .
ومن خصائص القرآن أنه يعصم الذي يتولى تفسير آياته من الزلل والضلالة ويفضح المنافق الذي يريد الإضرار بالتفسير وقد بنى المنافقون مسجداً فسماه الله ضراراً ، قال تعالى [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) .
السابع عشر :علم المناسبة :المناسبة (المُشَاكَلَةُ يقالُ : بين الشَّيْئَيْن مُنَاسَبَةٌ وتَنَاسُبٌ : أَي مُشَاكَلَةٌ وتَشَاكُلٌ) ( ).
وفي الإصطلاح هو العلم الذي يكشف وجوهاً من الترابط اللغوي والحكم بين آيات القرآن ، وجاء علم المناسبة في تفسيرنا لكل آية من القرآن بمعاني أوسع في هذا الباب ، وقد تجد عناوين متعددة في تفسير الآية القرآنية الواحدة يسمى كل واحد منها علم المناسبة من غير تعارض بينها ، فيتعلق أحدها بأول الآية وآخر بأوسطها وآخر بخاتمتها , وغالباً ما يكون بكلمة واحدة منها .
لتتجلى فيه وجوه من إعجاز وبلاغة القرآن ، فلا نكتفي بذكر آية أو آيتين يجمعهما مع آية البحث الإتحاد اللفظي ووحدة النسق ، بل تستقرأ الدلالة وتستنبط الأحكام من الجمع بين آيات القرآن .
وهذا العلم واقية من تحريف معاني ودلالات القرآن ، وبرزخ دون قطع الكلمة القرآنية ، وبين علم في سياق من الآيات ،وعلم المناسبة في تفسيرنا هذا عموم وخصوص من وجه فمادة الإلتقاء فهم معاني آيات القرآن والمقاصد السامية منها والإنتفاع الأمثل من تلاوتها والعمل بأحكامها .
أما مادة الإفتراق فيختص علم سياق الآيات في هذا السِفر (معالم الإيمان في تفسير القرآن) بالآيات المجاورة لآية البحث ، أما علم المناسبة فهو يشمل آيات من القرآن تتحد في اللفظ والدلالة مع الآية محل التفسير والبحث ، وإن كانت من سورة أخرى لبيان وحدة النسق في القرآن وخلوه من الإختلاف أو التعارض ، قال تعالى [وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا] ( ).
الثامن عشر : بحث بلاغي : وهو علم خاص بعلوم البلاغة في الآية القرآنية , وكانت كتب التفسير تتضمن الإشارة للنكات البلاغية في القرآن على نحو الإجمال ، فأنعم الله عز وجل علينا بافراد باب خاص للعلوم البلاغية في الآية القرآنية محل البحث ، وقد يكون في تفسيرها أكثر من بحث بلاغي كما تأتي في التفسير بحوث مشتركة من جهات :
الأولى : بحث بلاغي نحوي .
الثانية : بحث بلاغي كلامي .
الثالثة : بحث بلاغي أصولي .
التاسع : قوانين هذا التفسير: تتجلى في أجزاء هذا التفسير المتكثرة بفضل من عند الله عز وجل تعدد القوانين العلمية، والقانون مجموعة قواعد تضبط السلوك والصلات والحقوق بين الناس، وتحكم ماهية الصلة بين الفرد والجماعة، وبينهما وبين الدولة.
والقانون علم يتقدم بسلوك الإنسان ويحقق الأمن والسعادة للناس، وحينما أراد الله عز وجل خلق آدم أخبر الملائكة بإرادته بجعل[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فأحتج الملائكة على هذه الخلافة بفساد الإنسان وقيامه بالقتل بغيرها، فقال الله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ومن علم الله عز وجل نزول القرآن والكتب السماوية بالقوانين التي تضبط سلوك البشر وتزجرهم عن الإفساد في الأرض ونشر الرذائل .
ومن الإعجاز في ماهية الحياة الدنيا سعي الحكام والملوك إلى قوانين توفر الأمن للناس، وتكون سبباً للتعايش والألفة بينهم، وتبكيرهم بطلب الرزق الحلال من غير ظلم أو تعدي .
وجاء القرآن بالقوانين التي تنجي الإنسان في النشأتين بهدايته إلى الإيمان، والتقيد بالعمل بأحكام الشريعة، وهو من عمومات قوله تعالى[رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار]( )، ومصادر القانون الوضعي هي:
الأول : الدستور.
الثاني : قرار الحاكم والملك .
الثالث : التشريع الوضعي.
الرابع : العادة والعرف.
الخامس : القبيلة.
ولكن المصدر الأصل في القوانين هو التنزيل، وبعثة الأنبياء، وما القوانين إلا رشحة من قوله تعالى[وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ]( ).
لقد أراد الله عز وجل بالقوانين السماوية والإنضباط العام بين الناس المندوحة والسعة لهم في أداء الوظائف العبادية والإمتناع عن الفساد والإفساد، وهناك وجوه بالنسبة للآية القرآنية:
الأول : كل آية قرآنية قانون.
الثاني : في بعض آيات القرآن قانون أو قوانين، وبعضها الآخر ليس فيها قوانين.
الثالث : في كل آية قرآنية المتعدد من القانون.
والمختار هو الأخير، وتتجلى هذه القوانين من جهات :
الأولى : منطوق الآية .
الثانية : مفهوم الآية القرآنية .
الثالثة : دلالة الآية القرآنية .
الرابعة : الإستقراء والإستنباط من الآية القرآنية , قال تعالى[وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ]( ).
وهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ولا يعلم أو يحصي منافع آيات القرآن في منع الفساد في الأرض , وفي الإجابة على إستفهام الملائكة[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، إلا الله عز وجل.
وقد وردت في هذا التفسير المبارك ولأول مرة في تأريخ الإسلام المئات من القوانين ذات الصلة بالآيات القرآنية محل البحث لتكون مفتاحاً لكسب العلوم .
وقوانين آيات القرآن المستقرأة والتي لم تستنبط بعد من مصاديق قوله تعالى[قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( )، للزوم صدروهم عن سنن وأحكام القرآن.
وأيهما أكثر القوانين التي إستقرئت من القرآن أم التي لم تصل إليها عقود وتحقيق العلماء، الجواب هو الثاني وما تم إظهاره وبيانه من قوانين القرآن كالقطرة من ماء البحر بالنسبة للعلوم والذخائر المدخرة في ثنايا ومضامين آيات القرآن.
وعن ابن عباس قال: لما ركب موسى والخضر عليهما السلام السفينة جاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة ثم نقر في البحر فقال له الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر)( ).
والمراد من النقص في الحديث أعلاه الكشف والبيان والظهور , وليس النقص بمعنى التقليل .
وهل يصح تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه أول قاض في الإسلام، الجواب نعم , ولكن مع التقييد والإضافة وهو أنه أول قاض بالإسلام وفق التنزيل والوحي، وفيهما مبادئ أصول القوانين، قال تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا]( ) .
وجاءت آيات القرآن بترغيب الناس بالرجوع إلى شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الإختلاف وإرادة التقاضي والصدور عن سنته عند إنتقاله إلى الرفيق الأعلى، قال تعالى[فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( ).
ويتضمن هذا السِفر المبارك مباحث بلاغية نحوية , ونحوية محضة تحتوي على إشراقات جديدة في علم النحو لبيان وجوه:
الأول : قانون علوم القرآن اللغوية أعم من أن تحيط بها قواعد النحو.
الثاني : قانون إستحداث علوم جديدة في النحو.
الثالث : قانون المعنى المتعدد للفظ المتحد، مثلاً الواو يرد على وجهين:
الأول : العطف.
الثاني : الإستئناف.
وقد أضفت لهما قسيماً وهو:
الثالث: مجيء الواو للعطف والإستئناف في ذات الوقت أحياناً، إذ أن تقسيم النحويين أعلاه إستقرائي، ومعاني اللفظ القرآني أعم من أن يحيط بها التصور الذهني.
ومن أسرار قوانين آيات القرآن وجوه :
الأول : الدلالة على إعجاز القرآن .
الثاني : التكامل في التشريع الإسلامي، وإستيفاء وقضاء حاجات الناس في الأحكام إلى يوم القيامة , وهو من مصاديق قوله تعالى[الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا]( ).
الثالث : ترغيب الحكام والمشرعين بالصدور عن القرآن.
الرابع : الإنذار عن الحكم خلاف الشريعة السماوية، لما في هذه الكم من الأضرار العاجلة أو الآجلة، وفي الدنيا أو الآخرة ليدل قوله تعالى[وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ *وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ) على قانون وهو أن لله عز وجل حكماً في كل واقعة.
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بأسباب نزول لشطر من آيات القرآن لتكون عوناً في إستنباط الأحكام من آيات القرآن , وزاجراً عن التعدي والظلم في تشريع الأنظمة والقوانين، لأن هذا التعدي لا ينحصر بالقضية الشخصية، إنما هو عام وتتفرع عنه أفراد من الظلم والجور والتجرأ في الأحكام والقول والعمل، لذا جاءت آيات القرآن بالتخويف والوعيد من الظلم والجور .
وستبقى القوانين التي يتضمنها هذا التفسير رياض ناضرة تدعو المسلمين والباحثين عموماً إلى إستقراء الحجج والبراهين في باب التشريع من آيات القرآن ودلالتها.
التفسير
قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا]
إبتدأت آية البحث بحرف العطف الواو، وفيه دعوة للمسلمين والمسلمات من جهات :
الأولى : الرجوع إلى الآية السابقة ، وإستحضار مضامينها عند قراءة آية البحث ، بلحاظ كبرى كلية وهي لابد من معرفة الصلة الموضوعية بين المعطوف والمعطوف عليه ، والتي لا تستبين في الغالب إلا عند قراءة أو سماع المعطوف .
فاذا سمعت قوله تعالى لخصوص كفارة حنث اليمين [فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ]( ) ظننت أن الكفارة محصورة بهذا الحكم، ولكن يتعقبه العطف بقوله تعالى[أَوْ كِسْوَتُهُمْ]( ) فتعلم بالتخيير بين الإطعام والكسوة.
ولم يرد لفظ [فَكَفَّارَتُهُ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وقيدت الآية الإطعام بانه من متوسط طعام عيال المكفر عن يمينه، كالحنطة والشعير بمقدار مدّ ثلاثة أرباع الكيلو غرام أو مدان على قول .
ولكن الآية لم تشترط الكسوة أن تكون من وسط ما يُلبس عياله لبيان السعة في الكسوة من غير الإعراض عن التقييد الوارد في الإطعام وهو من إعجاز القرآن، لتعدد سنخية اللباس من بلد إلى آخر ومن زمان إلى ما يتعقبه من الأزمنة مع ثبات وبقاء ذات الحكم , ولأن الفقير يرضى بلباس ما هو أدنى من الوسط العام من اللباس وهو من أسرار ملائمة أحكام القرآن للأزمنة والأمصار المختلفة .
فتصح الكسوة على العباءة والإزار والرداء والثوب والقميص.
وهل تصح على البنطرون أم لا ، المختار هو الأول ، إذا كان هو اللباس المتعارف في البلد , لقاعدة نفي الحرج في الدين .
ثم جاءت الآية بتخيير ثالث وهو[أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ] بعدها انتقلت من العطف إلى التعيين والحصر[فَمَنْ لَمْ يَجِدْ] أي لا يفضل مما يطعم به أهله ما يدفعه كفارة لإطعام عشرة مساكين ، ولا يقدر على كسوتهم فعليه حينئذ صيام ثلاثة أيام.
ثم جاء العطف في الآية بموضوع غير الكفارة، وهو لزوم حفظ الأيمان والتقيد بمضامينها والعمل بها كعهد ووعد وإجتناب الحنث بها , بقوله تعالى [وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ].
لبيان أن مدرسة العطف في القرآن باب للرحمة المتصلة بالمسلمين وسبب لفوزهم بالثواب ، ونيل المراتب العالية في الآخرة .
وعطفت آية البحث على الآية السابقة وما ورد فيها من الأمر إلى النبي محمد[قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ] ليكون من معاني العطف في آية البحث تعدد وجوه جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ففي ذات الوقت الذي يحتج به على الذين نافقوا بعجزهم عن دفع الموت عن أنفسهم يمتنع عن الظن بأن الشهداء أموات .
الثانية : إرادة نسبة العموم والخصوص من وجه بين المعطوف والمعطوف عليه، فمادة الإلتقاء من وجوه منها :
الأول : توجه الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خاتمة الآية السابقة ، وفي أول آية البحث، لبيان التعدد والكثرة في مصاديق التبليغ بقوله تعالى[وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ]( ).
الثاني : تعلق موضوع الآيتين بخصوص معركة أحد .
الثالث : ذكر الموت والقتل ومغادرة الدنيا .
الرابع : إلحاق المسلمين والمسلمات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أول الخطاب والأمر والنهي الواردين في الآيتين .
الخامس : تبكيت الذين نافقوا , وبيان قانون وهو نشر وتثبيت أحكام الإسلام , ونصر المؤمنين حتى مع خبث وقعود ومكر الذين نافقوا، قال تعالى[وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلْ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ]( ).
أما مادة الإفتراق فمن وجوه :
الأول : يتعلق موضوع خاتمة الآية السابقة أي المعطوف عليه بالذين نافقوا ، أما المعطوف فيخص شهداء معركة أحد .
الثاني : مجئ المعطوف عليه بالأمر (قل) أما المعطوف فورد بالنهي [وَلاَ تَحْسَبَنَّ] .
الثالث : إرادة الفعل والأمر الوجودي من (قل) وصدور الخطاب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيان التخفيف عنه من الله عز وجل بأن يلقنه الحجة ومادة الإحتجاج على الذين نافقوا بقوله تعالى[قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ] ( ).
بينما جاء المعطوف بمنع الظن والرجحان وهو تصور ذهني قد يترتب عليه قول أو فعل , فمنعه الله عز وجل من الأصل .
الرابع : ورود المعطوف عليه في آية، والمعطوف في آية أخرى، مع إتحاد جهة الخطاب فيهما.
الخامس : إختتام الآية السابقة بالمعطوف عليه وإبتداء آية البحث بالمعطوف , لبيان التلازم في نظم القرآن , والنباهة التي يتصف بها المسلمون والمسلمات في الجمع بين مضامين آيات القرآن في الموضوع , والحكم, والدلالة .
السادس : تضمن المعطوف عليه توبيخ وتبكيت الذين نافقوا بينما جاء المعطوف بالثناء على الذين قتلوا في سبيل الله خاصة وعلى المؤمنين الذين خرجوا للدفاع في معركة أحد عامة .
(وقيل : سمّوا أحياءً لأنهم لا يغسّلون كما لا يغسل الأحياء.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: زمّلوهم في كلومهم ودمائهم)( ).
وصحيح أن نسبة الثعلبي هذا القول إلى القيل تدل على تضعيفه له إلا أنه غريب ومخالف للنص والظاهر , من وجوه :
الأول : لو تم تغسيل الذي قتل في سبيل الله كما يغسل الموتى فانه يفوز أيضاً بذات المرتبة التي تذكرها آية البحث من الحياة حال الموت وحينما رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتلى من الصحابة يوم أحد قال ( إن رسول الله يشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة)( )، أي سواء غسلوا أو لم يغسلوا، صليّ عليهم أم لم يصل عليهم.
الثاني : وردت آية البحث مطلقة بأن كل من يقتل في سبيل الله يكون حياً عند الله سواء غسل أو لم يغسل .
الثالث : من المؤمنين الذين قتلوا في سبيل الله من لا يعلمهم إلا الله عز وجل .
الرابع : من أسرار إبتداء آية البحث بالنهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَلاَ تَحْسَبَنَّ] عدم تقييد عظيم منزلة الشهداء بعدم الغسل غسل الميت .
وكـأن الآية تقول : أن الله عز وجل بقوله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(لا تحسبن) لقد أكرمت الذين قتلوا ممن صدّق بدعوتك ونصرك أمواتاً بل جعلتهم أحياء .
وموضوع وعلة هذا الإكرام على وجوه :
الأول : إرادة إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياة الشهداء .
الثاني : المراد إكرام الشهداء أنفسهم لأنهم بذلوا مهجهم في الدعوة إلى الحق والهدى .
الثالث : المقصود الثناء على المهاجرين والأنصار الذين حضروا معركة أحد وقاتلوا فيها .
الرابع : من معاني آية البحث إكرام أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
الخامس : إرادة مواساة عوائل الذين قتلوا في سبيل الله يوم معركة أحد ، فان قلت منهم من كانت عائلته وأهله خارج المدينة ، كما ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين رجوعه من معركة أحد وسماعه البكاء والنوائح في بني عبد الأشهل من الأنصار على قتلاهم , إذ قال :
(لَكِنّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ) ( ).
فجاءت آية البحث مواساة لكل عوائل وأخوة وأصحاب الذين قتلوا في سبيل الله وأن بعد مسكنهم، فمن خصائص الآية القرآنية سرعة الإنتشار وبلوغها إلى الأمصار المختلفة، وهي لقاح للقلب , ومادة للحياة ، وكاشف للكرب , وسلاح في الصبر والرضا بأمر الله , وحرب على الكفر ومفاهيم النفاق .
وقد تكون آية البحث قد دخلت إلى مكة قبل وصول جيش الذين كفروا عائدين إليها، فمن عادة الجيش في الإنسحاب الإبطاء والحرص على النظام والإحتراز بينما ينقل الركبان من المسلمين وغيرهم آيات القرآن فراداً وجماعات .
السادس : إغاظة المنافقين وإرجاع كيدهم إلى نحورهم .
السابع : بيان المائز والتضاد بين قتلى المسلمين وقتلى الذين كفروا في الميدان ، إذ يكون المسلمون أحياء في الآخرة بينما يساق الذين كفروا إلى جهنم ، قال تعالى [أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ]( ).
الثامن : إنذار الذين كفروا واسقاط ما في أيديهم ، وإخبارهم عن قانون وهو عدم إضرارهم ومكر ودهاء الذين نافقوا بالإسلام والمسلمين والذين قتلوا منهم خاصة .
وتبعث آية البحث اليأس في قلوب الذين كفروا من تسرب الشك أو الظن إلى قلوب المسلمين بخصوص حياة الشهداء، فلا يظن أحد منهم رجلاً أو امرأة بأن الذين قتلوا في سبيل الله صاروا من الأموات كمثل الذين غادروا الدنيا بالموت أو القتل .
لبيان الإرتقاء في المعارف الإلهية الذي بلغه المسلمون وفيه تزكية وتطهير لهم ، لتكون آية البحث من المنّ الإلهي في قوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ..] ( ).
المسألة الخامسة : لقد أختتمت آية البحث بقوله تعالى[يُرْزَقُونَ] وأبى الله عز وجل أن يقف إخباره عن كرامة شهداء أحد عنده بخصوص الرزق فتفضل بالآية التالية ليبين فيها نعماً عظيمة أخرى فازوا بها ، منها تغشي السعادة والسرور لهم بما آتاهم الله من فضله.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار لتكون طريق السعادة الأبدية والخلود في النعيم للذين آمنوا بالله ورسوله وكتبه وبعد أن جاءت آية البحث بمواساة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وعوائل الشهداء بقتلهم، تلك المواساة التي تختلف بما يجري بين أهل الأرض لأنها تتضمن بيان فضل الله على الشهداء ، وجاءت آية السياق لدعوتهم لشكر الله عز وجل على أمور :
الأول : حياة الشهداء عند الله عز وجل .
الثاني : عدم ذهاب جهاد المسلمين هدراً .
الثالث : التأمين على حياة الذين يقاتلون في سبيل الله ، وليس من تأمين أعظم وأطول من حياة الشهداء عند الله ، وليكون هذا التأمين على وجوه :
أولاً : إنه أول تأمين على الحياة في تأريخ الإنسانية ، بلحاظ شمول الآية للشهداء من أتباع الأنبياء السابقين ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
ثانياً : تقييد التأمين بأنه خاص بالذين قتلوا في سبيل الله ، ويجري في هذا الزمان التأمين على الحياة وفق قواعد بين طرفين :
الأول : شركة التأمين .
الثاني : الشخص المؤمّن .
إذ يتعهد الأخير بدفع قسط ثابت إلى الطرف الأول مقابل دفع مبلغ معين له عند نزول مصيبة وحادثة وضرر في بدنه وماله ، أو بدفع مبلغ مخصوص لورثته عند موته ، ولا يخلو هذا العقد من الجهالة والغرر ، وقيل بحرمته وأستدل على الحرمة بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ) .
ولا دليل على الحرمة كما أستدل بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا]( ).
وليس التأمين أكلاً بالباطل على نحو السالبة الكلية ، وعمدة الأدلة على حرمته القول بأنه عقد ربوي من جهات :
الأولى : إرادة المؤمّن التأمين على حياته للحصول على مال أكثر من الذي دفعه في الأقساط عند وقوع حادث له أو كارثة .
الثانية : إستثمار شركة التأمين أموال المسلمين بالربا باقراضها بأرباح ربوية .
الثالثة : قيام شركة التأمين بأخذ فوائد ربوية على المتعاقد معها على حياته وماله إذا تأخر في دفع الأقساط .
وكل هذه الأمور يمكن تداركها وتوجيهها بما يدفع عنها صبغة الربا المحض , قال تعالىيَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
والمختار أن التأمين عقد جائز بالأصل ، وطرو شبهة الربا أو الغرر عليه من بعض المعاملات لا يعني تحريمه .
وبالنسبة لآية البحث فهي على وجوه :
الأول : التأمين على حياة الشهيد بفضل محض من الله عليهم وعلى الناس.
الثاني : العوض والبدل للذين يخلفهم الشهداء من خلفهم من الذرية والأهل ، قال تعالى[وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا]( ) لبيان أن الذين قتلوا في سبيل الله[اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ]( ) وفوضوا أمر ذريتهم ومن خلفهم إلى الله عز وجل ، وهم أحياء عنده سبحانه.
دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( على سَعْد بن أبي وقاص يعوده قال: يا رسول الله، إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: “لا”.
قال: فالشَّطْر؟ قال: “لا”.
قال: فالثلث؟ .
قال: “الثلث، والثلث كثير”.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إنك إن تَذر وَرَثَتَك أغنياء خَيْر من أن تَذَرَهم عَالةً يتكَفَّفُون الناس) ( ).
وقد قال سعد عنده بنت واحدة , ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر الورثة بصيغة الجمع , فليت عمر بن سعد قنع ورضي بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما ترك الصحابي سعد بن أبي وقاص ولم يطمع من عبيد الله بن زياد بملك الري أي طهران لقتل الحسين عليه السلام , والذي لم يعطه له .
ترى لماذا لم تأت الآية بصيغة المضارع الجواب لبيان علو المرتبة التي فاز بها شهداء أحد ، ولمنع المؤمنين من السعي إلى القتال وطلبه والتعجل فيه ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر أصحابه بعدم الإبتداء بالقتال لموضوعية الموعظة وأثرها في النفوس.
ومن لا ينتفع من الموعظة بما يفيد توبته من المشركين ، فانه يتأثر بالموعظة والدعوة إلى التوحيد، وهو في صفوف المقاتلين مما يؤثر على العدو، ويصيب أفراده بالوهن والضعف ومع هذا قد جاءت آية بصيغة الجمع ، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ]( ) .
ومن معاني الآية أعلاه إرادة شهداء أحد ، وأن صفاتهم هذه مذكورة في التوراة والإنجيل .
وفي بيعة الأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة في موسم الحج في مكة قبل الهجرة , قالوا له : (اشترط لربك ولنفسك ما شئت! .
فقال: “أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم”.
قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟
قال: “الجنة”.
قالوا: رَبِح البيعُ، لا نُقِيل ولا نستقيل، فنزلت: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } الآية)( ).
ويحتمل الخطاب في آية البحث من حيث جهته وجوهاً :
الأول : إرادة قارئ الآية القرآنية بلحاظ أن القرآن كلام الله ، ومن يقرأه يتلقى الإخبار والأمر والنهي من عند الله ، وأن يكون كلام الله قريباً من كل إنسان ويستطيع تلاوته والتدبر فيه بأي ساعة من ساعات الليل والنهار، وعند الشدة والرخاء من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
الثاني : المراد سامع الآية القرآنية ، إذ تخاطبه وكأنها نزلت تواً وتتعلق بأمور من الحياة اليومية ، وتبين حضور ذكرى واقعة أحد ، وسقوط سبعين شهيداً فيها في كل زمان وهو من مصاديق قوله تعالى[بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ]( ) لتجلي قانون وهو إذا كان الشهداء أحياء عند الله فهم أحياء في كل زمان ومكان.
الثالث : المقصود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الخطاب وتقدير الآية : ولا تحسبن يا محمد .
الرابع : إرادة المسلمين والمسلمات وتقديره على وجوه :
أولاً : ولا تحسبن أيها المسلم .
ثانياً : ولا تحسبن أيتها المسلمات .
ثالثاً : ولا تحسبن أيتها المسلمتان .
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا لا تحسبوا .
خامساً : يا أيتها المؤمنات لا تحسبن .
الخامس : توجه الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبواسطته إلى المسلمين والمسلمات والناس جميعاً .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وإنطباق الخطاب على الجهات المتعددة من إعجاز القرآن ، نعم الأصل هو توجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد في الوجه الثالث أعلاه، ولابد من خصوصية لمقام النبوة، والذي يتجلى بتفضل الله عز وجل بمخاطبة وتعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقوم بتعليم الأمة، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ).
وفي قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ] أمور :
الأول : الوعد من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه وفي أصحابه الذين قتلوا في معركة بدر وأحد والذين خرجوا معه إلى الميدان وعموم المسلمين والمسلمات .
(وعن عبدالله بن عمرو أن النبي تلا قول إبراهيم (عليه السلام) {فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}( ).
وقول عيسى (عليه السلام) {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}( )، فرفع يداه ثم قال : اللهم أُمتي اللهم أُمتي وبكى، فقال الله : يا جبرئيل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسأله ما بك، فأتى جبرئيل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قال، فقال الله : يا جبرئيل اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أُمتك ولا يسؤك)( ).
الثاني : الشكر والثناء من الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله .
الثالث : تهذيب منطق المسلمين وتنزههم عن الغيبة والنميمة .
الرابع : بيان قانون وهو الدفاع عن النبوة والتنزيل وسقوط قتلى من المؤمنين في هذا الدفاع.
ومن الآيات في المقام بقاء أسماء وترجمة وسيرة وكيفية قتل شهداء أحد خالدة في أذهان المؤمنين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ] بلحاظ ترشح ذكراهم في أذهان المسلمين .
وهو من الدلائل على قوله تعالى[وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ) وقد صدر جزء مستقل من هذا السِفر في ترجمة شهداء أحد( ).
الخامس : من أسرار توجه الخطاب في الآية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وترجيح هذا المعنى حضور وحياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المسلمين والمسلمات في كل زمان ، وكأن الآية تخاطب المسلمين من جهات :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا إن الله عز وجل يخاطب نبيكم .
الثانية : أشكروا الله عز وجل على توجه الخطاب منه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : تفضل الله عز وجل بنهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الظن المخالف كما في علم الغيب عن الحقائق .
الرابعة : دعوة المسلمين للرجوع إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمعرفة حال الشهداء وأمور الغيب ، لذا تكرر قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ] خمس عشرة مرة في القرآن ، ومنه ما يتعلق بعلم الغيب منه قوله تعالى[يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) .
الخامسة : تأسي المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيجب ألا يحتسبوا الشهداء أمواتاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ولا تحسبن يا محمد .
الثاني : ولا تحسبن إلا الذي يوافق علم الغيب .
الثالث : ولا تحسبن إلا ما يحب الله عز وجل لكم من الإعتقاد والصحيح .
الرابع : ولا تحسبن الذين نافقوا يقدرون على الشماتة بالذين قتلوا في معركة أحد .
الخامس : ولا تحسبن الناس لا يعلمون بحياة الشهداء عند الله لأن آية البحث تصل إليهم جميعاً .
السادس : ولا تحسبن الذين نافقوا يثبطون عزائم المؤمنين .
السابع : قد ورد في التنزيل[وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ]( ).
الثامن : لا يحسبن المؤمنون والمؤمنات أن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً.
ومن أسرار الشريعة الإسلامية وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة لقوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ). عدة مرات في اليوم وعلى نحو الوجوب العيني ، ليكون النفع من الإمتناع عن الظن والإعتقاد بأن شهداء أحد أموات على وجوه :
الأول : انه من الصراط المستقيم .
الثاني : إنه مصداق للإقرار بعلم الغيب , وتجلي قانون من الإرادة التكوينية يخص الذين يقاتلون في سبيل الله عامة , والذين استشهدوا منهم خاصة.
الثالث : نفاذ أحكام القرآن إلى القلوب، وإرتقاء المسلمين في عالم التصور بأن يشمل عالم الغيب بما يميزهم عن غيرهم من الأمم ، وإذ يظن الناس أن الذين يموتون أو يقتلون يكونون في سبات وسكون في عالم البرزخ ، فتفضل الله عز وجل ونسخ وأمات هذا الظن وجعل المسلمين يجمعون على أن الشهداء أحياء عند الله ، ويدركون هذه الحقيقة كما يرون ضياء الشمس في رابعة النهار ، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابع : هذا الإمتناع واقية من الحزن واستحواذ الكدورات على نفس المسلم , وبرزخ دون محاكاة المنافقين في قعودهم .
لقد أبى الله عز وجل إلا أن يبنى صرح الإسلام بالأسباب والعلل الظاهرة ولو شاء الله لفرضه على الناس كرهاً .
وبتغيير قلوبهم وإصلاحهم دفعة واحدة للهدى والإيمان ، ولكنه جعل الدنيا دار امتحان وإختبار , وأقام الحجة على الذين كفروا بقتلهم شهداء بدر وأحد .
الخامس : إنه تصديق بمضامين آية البحث ، ومقدمة للتصديق بآيات القرآن الأخرى سواء التي تتعلق بعالم الغيب أو عالم الحياة الدنيا والمحسوسات , ومنه .
الأول : طاعة المسلمين لله عز وجل والتصديق بما أنزله بخصوص علم الغيب .
الثاني : منع الفرقة والخلاف بين المسلمين بخصوص حياة الذين قتلوا في سبيل الله .
الثالث : ترغيب الناس بدخول الإسلام بلحاظ كبرى كلية من جهات :
الأولى : شوق الإنسان لمعرفة علوم الغيب .
الثانية : كشف علوم وأسرار من عالم الآخرة في القرآن .
الثالثة : إدراك عظيم شأن ومنزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الله عز وجل .
الرابعة : تشريف المسلمين والمسلمات بالدرجة الرفيعة التي نالها الشهداء .
الخامسة : ترغيب المسلمين والمسلمات بتلاوة آيات القرآن ، والتدبر في مضامينها للتسليم بأنها خزائن من علوم الغيب .
السادسة : كبت الذين كفروا وجعل نفوسهم تمتلأ غيظاً ، لقد قتلوا سبعين من الصحابة يوم أحد فنزلت آية البحث لتمنعهم من الفرح في هذا القتل ، وليكون من معاني [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ] إخبار الشهداء بحجب الفرح والشماتة عن المشركين بقتل الشهداء ، وفيه شفاء لصدور المسلمين والمسلمات وتخفيف عن المصيبة , ووطأة مغادرة الشهداء ، قال تعالى [وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا]( ).
ومن إعجاز آية البحث أنها لم تبدأ بالإخبار عن حياة الشهداء إنما إبتدأت بتوجه النهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باحتسابهم أمواتاً ، إذ تقدم في سورة البقرة النهي العام إلى المسلمين بالقول أنهم أموات بقوله تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ] ( ) .
ليكون بين مضمون النهي في الآيتين عموم وخصوص مطلق ، إذ أن النهي عن القول أعم لأنه يشمل التصريح المقترن بالإعتقاد لذا توجهت الآية أعلاه لكل المسلمين والمسلمات ، أما آية البحث فتختص بالظن القلبي فاختصت بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليقتدي به المسلمون والمسلمات .
وهل الإمتناع عن الظن بموت الشهداء عن مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) الجواب نعم ، بلحاظ منطوق الآية ولزوم إصلاح المسلمين للسرائر وصيرورتها وفق ما يأمر به الله عز وجل للبشارة بفوزهم في الآخرة ، وهو من أسرار قوله تعالى [يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ]( ) إذ تنكشف للخلائق يوم القيامة بواطن المسلمين والمسلمات وكيف أنها موافقة لما أمر الله عز وجل به .
وقد أختتمت الآية أعلاه من سورة البقرة بذكر حياة الشهداء وخاطبت المسلمين بالقول [وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ] ( ) ليكون الحال بعد نزول آية البحث على وجوه :
الأول : بقاء المسلمين لا يشعرون بحياة الذين قتلوا في سبيل الله .
الثاني : صيرورة المسلمين يشعرون بحياة الذين قتلوا في سبيل الله بنزول الآية أعلاه قبل أن تصل النوبة إلى استحضار آية البحث ، وتقدير الآية أعلاه : بل أحياء وان كنتم لا تشعرون ).
وهل تكون صيغة المضارع في الآية [تَشْعُرُونَ] برزخاً دون هذا التقدير ، الجواب لا .
الثالث : نزول آية البحث ليشعر المسلمون بحياة الشهداء عند الله ، بلحاظ قانون تقريب القرآن للمدركات العقلية بصيغة الإحساس والمدركات الحسية العامة ، من غير لجوء إلى الظواهر والتجارب الحسية والإنشاء للتسليم بأن قول الله عز وجل هو الحق والصدق .
وقد يقال بأن نفي الشعور في قوله تعالى [لَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ] يدل على نفي الإدراك بالأولوية القطعية ، ولكن الحق بخلافه فمن خصائص الإخبار القرآني عن علوم الغيب إنشاء الشعور الحسي والإدراك العقلي في آن واحد .
(ورُوي أنَّ بعضَ أصحابِ النَّبيِّ عليه السَّلامُ قالوا : يا نبيَّ الله هؤلاءِ الذين قُتلوا في سبيلِ الله قد علمنا ما أعطاهُم الله تعالى من الخيرِ ونحنُ نجاهد معك كما جاهدُوا فما لنا إنْ مُتنا معك) ( ).
فنزل قوله تعالى [وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] ( ).
لتبين خاتمة الآية أعلاه أن رزق أي من المؤمنين هو من خير وأحسن الرزق والذي لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ، وأن انفراد الشهداء بالحياة عند الله من حين قتلهم هو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] لما في حياتهم الأبدية هذه من الثناء عليهم وجزائهم لتضحيتهم وتفانيهم وبذلهم النفوس في طاعة الله ورسوله ، وفي صدّ الذين كفروا من قريش في عدوانهم يوم معركة أحد في السنة الثالثة من الهجرة .
قوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ]
إبتدأت آية البحث بحرف العطف للدلالة على صلتها مع مضامين الآية السابقة ليكون من معاني العطف بينهما : قل للذين نافقوا فادرءوا عن أنفسكم الموت أن كنتم صادقين ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ، ليكون الإحتجاج على الذين نافقوا حاضراً عند الإعتقاد بحياة الشهداء .
و(عن عبد الله بن عباس قال : بعثني العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتيته ممسيا وهو في بيت خالتي ميمونة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي من الليل ، فلما صلى الركعتين قبل الفجر قال : اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي ، وتجمع بها شملي، وتلم بها شعثي ، وترد بها ألفتي ، وتصلح بها ديني ، وتحفظ بها غائبي ، وترفع بها شاهدي ، وتزكي بها عملي ، وتبيض بها وجهي ، وتلهمني بها رشدي ، وتعصمني بها من كل سوء .
اللهم أعطني إيمانا صادقا ويقينا ليس بعده كفر ، ورحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة .
اللهم إني أسألك الفوز عند اللقاء ، ونزل الشهداء وعيش السعداء ، ومرافقة الأنبياء ، والنصر على الأعداء .
اللهم أنزل بك حاجتي ، وإن قصر رأيي ، وضعف عملي ، وافتقرت إلى رحمتك فأسألك يا قاضي الأمور ، ويا شافي الصدور .
كما تجير بين البحور أن تجيرني من عذاب السعير ، ومن دعوة الثبور، ومن فتنة القبور .
اللهم ما قصر عنه رأيي وضعف عنه عملي ، ولم تبلغه نيتي ، أو أمنيتي من خير وعدته أحدا من عبادك أو خير أنت معطيه أحدا من خلقك، فإني أرغب إليك فيه ، وأسألك يا رب العالمين .
اللهم اجعلنا هادين مهديين ، غير ضالين ولا مضلين ، حربا لأعدائك، وسلما لأوليائك ، نحب بحبك الناس ، ونعادي بعداوتك من خالفك من خلقك ، اللهم هذا الدعاء وعليك الاستجابة .
اللهم وهذا الجهد وعليك التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، اللهم ذا الحبل الشديد ، والأمر الرشيد أسألك الأمن في يوم الوعيد ، والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود ، والركع السجود والموفين بالعهود ، إنك رحيم ودود .
وأنت تفعل ما تريد سبحان الذي تعطف العز ، وقال به وسبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلا له سبحان ذي العزة والبهاء ، سبحان ذي القدرة والكرم ، سبحان الذي أحصى كل شيء بعلمه.
اللهم اجعل لي نورا في قلبي ، ونورا في قبري ، ونورا في سمعي ونورا في بصري ، ونورا في شعري ، ونورا في بشري ، ونورا في لحمي ، ونورا في دمي ، ونورا في عظامي ، ونورا بين يدي ، ونورا من خلفي ، ونورا عن يميني ، ونورا عن شمالي ، ونورا من فوقي ، ونورا من تحتي ، اللهم زدني نورا ، وأعطني نورا ، واجعل لي نورا)( ).
علم المناسبة
ورد لفظ ( َلاَ تَحْسَبَنَّ) في القرآن خمس مرات ، وكل واحدة منها خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتضمن معنى النهي القلبي والتأديب والهدى ، وكل فرد منه من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أدّبني ربّي فأحسن تأديبي) ( ).
ولم يرد هذا اللفظ في سورة البقرة ، ولم يرد إلا بتقدم لفظ [لا] الناهية عليه ، فلم يرد بلفظ (قد تحسبن ) أو (لتحسبن ) بصيغة الإيجاب والتعليل ، وحصر تعدد وتكرار ذات اللفظ بصيغة النهي واختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم به معجزة وسر من أسرار اللفظ القرآني .
وورد ذات اللفظ مرة أخرى في هذه السورة وهي سورة آل عمران بقوله تعالى [لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] ( ) .
ومن الآيات في المقام أن اللفظ ذكر مرتين مرة في الآية أعلاه ، والثانية بقوله تعالى [فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ] لتأكيد قبح فعل الذين كفروا , ومن يترتب عليه من الحكم .
ومنهم من قرأ بالياء أي (فلا يحسبن) فيكون الفعل معرباً ويتوجه الخطاب في الآية بصيغة الإنذار إلى الذين كفروا , والتقدير : لا يحسبن أنفسهم في مأمن ونجاة من العذاب الأليم .
والصحيح هو ما مرسوم في المصاحف إذ يتوجه الخطاب في الآية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتداخل الموضوعي بين [لاَ تَحْسَبَنَّ]وبين [فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ] وإفادتهما مجتمعين إنذار الذين كفروا ، وبعث المسلمين على الإتعاظ منهم والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
واذا جاء لفظ [لاَ تَحْسَبَنَّ] في آية البحث بالثناء على الذين قتلوا في سبيل الله في معركة أحد ، وردت الآية أعلاه في ذم الذين كفروا ، وهل تشمل الآية المنافقين ، الجواب نعم ، إذ أنهم يفرحون بقعودهم ورجوعهم من وسط الطريق إلى معركة أحد ، ويحبون أن يثني الناس عليهم لبثهم الأراجيف في المدينة وإمتناعهم عن إظهار الحق ، وعن بيان الحاجة إلى الدفاع ضد جيش المشركين .
ليكون في الآية بعث للسكينة في نفوس المسلمين , وفضح للذين كفروا والمنافقين .
وجاء قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ] ( ) ليتوجه الخطاب من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الظالمين ،وهم يسمعون هذا الخطاب ويعلمون بالجهة التي يتوجه إليها الخطاب ودلالته على إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الآية والوعد الكريم من الله عز وجل له .
لقد وردت آية البحث بصيغة خطاب والنهي الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وقد ورد الخطاب له بصيغ متعددة منها بنداء الإكرام [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ] والذي ورد في القرآن اثنتي مرة ، منها ما له موضوعية وصلة بآية البحث :
الأولى : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) وشهداء بدر وأحد ممن اتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال السراء والضراء والرخاء والشدة ، والسلم والحرب ويتصف الشهداء بخصوصية وهي ليس من حد لإتباعهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ بذلوا مهجهم دونه ودون التنزيل ، وهل استشهاد سبعين من الصحابة في معركة أحد من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) الجواب نعم من وجوه :
الأول : خروج المهاجرين والأنصار إلى ميدان معركة أحد ، ومنهم الشهداء .
الثاني : صبر الشهداء في ميدان المعركة .
الثالث : بذل الشهداء أنفسهم رسالة إلى الذين كفروا للإمتناع عن التعدي على ثغور الإسلام .
الرابع : حياة شهداء أحد عند الله عز وجل من كفاية الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتقدير آية البحث بلحاظ الآية أعلاه على وجوه :
الأول : يا أيها النبي حسبك الله يبعث الإيمان في قلوب الصحابة واستشهاد طائفة منهم .
الثاني : يا أيها النبي حسبك الله بنزول الملائكة لنصرتك وأصحابك .
الثالث : يا أيها النبي حسبك الله في انتفاء الموت عن الشهداء .
الرابع : يا أيها النبي حسبك الله في أصحابك الذين قتلوا في معركة أحد بأن جعلهم أحياء عنده.
الخامس : يا أيها النبي حسبك الله في البطش بالذين كفروا من شارك في قتل شهداء أحد رب الشهداء بقوله تعالى في آية البحث [عِنْدَ رَبِّهِمْ] وهو من الإعجاز في تلاوة المسلمين لقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) عدة مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني على كل مسلم ومسلمة .
الوجه الثاني : قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ) وفيه بلحاظ آية البحث مسائل :
الأولى : إمتثال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمر الله عز وجل في تحريض المهاجرين والأنصار على القتال .
الثانية : بيان قانون وهو كفاية تحريض المؤمنين في تحقيق الدفاع عن الإسلام .
الثالثة : مبادرة الصحابة إلى الجهاد في سبيل الله .
الرابعة : دلالة الآية أعلاه على قانون وهو أن الشهداء دخلوا معركة أحد طوعاً من غير إكراه ، ويدل عليه قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) إذ أن نعت المسلمين بالمؤمنين شاهد على أمور :
أولاً : إيمان الصحابة بالله عز وجل رباً وإلهاً ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ] ( ) .
ثانياً : إيمان الصحابة بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العالمين .
ثالثاً : مجئ أخبار السنة النبوية بإلحاح طائفة من الصحابة على الخروج إلى لقاء جيش الذين كفروا ، وعدم الصبر حتى إلى حين وصولهم إلى المدينة وقتالهم فيها (عن ابن عباس أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر ونستشهد . أو ليت لنا يوماً كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ، ونبلى فيه خيراً ، ونلتمس الشهادة والجنة والحياة والرزق . فأشهدهم الله أحداً ، فلم يلبثوا إلا من شاء منهم فقال الله { ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون })( ).
رابعاً : دلالة الآية أعلاه في مفهومها على قبول ورضا المؤمنين في اختيار مواضعهم في القتال في المعركة , وتقدير الآية أعلاه بلحاظ آية البحث : يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال , وستقتل طائفة منهم فيصبحوا أحياء عند الله عز وجل .
ومن معاني الجمع بين الآيتين أن إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيه قتال ، ويحتمل في القتال القتل والشهادة وليس فيها إلا الأجر والثواب العظيم .
وجاءت الآية أعلاه بالبشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بقوله تعالى [إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ] ( ) ليغادر الشهداء الحياة الدنيا بسكينة وطمأنينة لتحقيق النصر على الذين كفروا ، إذ كان جيش المسلمين في كل من معركة بدر وأحد نحو ثلث جيش المشركين وليس عشرهم ، ليكون نصر المسلمين من باب الأولوية القطعية ، وهو من مصاديق قوله تعالى بعد آيتين [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الوجه الثالث : ورد نداء التشريف والإكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) وفي الآيات شاهد على وقوع الأسرى من المشركين في أيدي المسلمين مع معاملتهم معاملة حسنة ليس لها مثيل في تأريخ الحروب والإنسانية ، إذ خاطبت الآية النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بصفة النبوة ودعوة الأسرى لإصلاح سرائرهم وكفاية هذا الإصلاح في نزول الخير عليهم .
ويمكن إنشاء باب في إعجاز القرآن الغيري وهو تحقق مصداق البشارة والإنذار في الواقع العملي ، ومنه الآية أعلاه فقد رزق الله عز وجل بعض الأسرى ممن أسلم وأحسن إسلامه خيراً كثيراً أعم وأعظم من أن يحيط به التصور الذهني .
(عن عائشة قالت : لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم . بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلادة لها في فداء زوجها ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق رقة شديدة ، وقال : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها؟ وقال العباس رضي الله عنه : إني كنت مسلماً يا رسول الله .
قال : الله أعلم بإسلامك ، فإن تكن كما تقول فالله يجزيك فافد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث ، وعقيل بن أبي طالب ، وحليفك عتبة بن عمر ، وقال : ما ذاك عندي يا رسول الله . قال : فأين الذي دفنت أنت وأم الفضل؟ فقلت لها : إن أصبت فإن هذا المال لبني . فقال : والله يا رسول الله إن هذا لشيء ما علمه غيري وغيرها ، فاحسب لي ما أحببتم مني عشرين أوقية من مال كان معي فقال : افعل . ففدي نفسه وابني أخويه وحليفه ، ونزلت { قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم } فأعطاني مكان العشرين أوقية في الإِسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال نصرت به مع ما أرجو من مغفرة الله) ( ).
وتدل الآية أعلاه على أن الأسرى كانوا بأيدي المسلمين وليس بيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده ولكن الخطاب توجه إليه ، إذ ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل أسير بيد الذي أسره ، وأمرهم أن يحسنوا معاملة الأسرى ، كما ترك أخذ الفداء لهم .
وتبين الآية وصول صوت وكلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأسرى أنفسهم سواء بلحاظ آية البحث أو مطلقاً ليدل بالأولوية القطعية على وصول الآية القرآنية وكلام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى عموم المسلمين والمسلمات ، إذ أن قوله تعالى [قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى] ( ) يشمل المسلمات أيضاً .
وأختتمت الآية أعلاه بثلاثة أسماء من الأسماء الحسنى بقوله تعالى [وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) لبيان أن مغفرة ورحمة الله شاملة للذين قتلوا في سبيل الله , كما تشمل الآسرى عند توبتهم توبة نصوحا ، ومن رحمة الله بلحاظ آية البحث حياة وسعادة الذين قتلوا في سبيل الله عنده تعالى من حين مغادرتهم الحياة الدنيا .
بحث منطقي
من أهم علوم المنطق الكليات الخمسة ويسمونها (ايساغوجي) حسب واضعه وهو ارسطو ، وهي :
الأولى : النوع والمراد به تمام الذات وماهية الأفراد وسنخية الحقيقة المشتركة والمتعددة في الخارج في جواب ما هو ؟
فلو سألت عن زيد وقيل إنسان , فهذا الجواب لا يكفي إذ ينطبق ذات الجواب على حسن ، وسالم وزينب وغيرهم ، فلابد من البيان الإضافي من الكليات الخمسة كما سيأتي ، وينقسم النوع إلى :
أولاً : النوع الحقيقي .
ثانياً : النوع الإضافي الذي ينقسم إلى:
الأول : النوع العالي .
الثاني : النوع المتوسط .
الثالث : النوع السافل .
الثانية : الجنس ، وهو الأعم من الذات الشامل للأفراد المتعددة ، ويكون بينه وبين الفرد الواحد منها عموم وخصوص مطلق ، كالحيوان بالنسبة للفرس ، والقطار بالنسبة لوسائط النقل البرية ، وكذا وسائط النقل البرية بالنسبة لعموم الوسائط البرية والجوية والبحرية .
وتكون وسائط النقل البرية مطلقاً بالنسبة للقطار ، ولكنها أمر مقيد بالنسبة لعموم وسائط النقل عامة .
والمراد من الجنس تمام الحقيقة المشتركة بين الجزئيات المتكثرة بالحقيقة والسنخية في جواب ما هو .
وينقسم الجنس إلى :
أولاً : الجنس القريب .
ثانياً : الجنس البعيد .
ثالثاً : الجنس المتوسط .
الثالثة : الفصل وهو جزء الماهية الذي تختص به الذات ، في جواب أي شئ كالنطق بالنسبة للإنسان ، والكتابة بالنسبة لليد ، وقد يكون التعريف بالنوع أو بالنوع والجنس غير كاف .
ولابد من ذكر الفصل الذي يميز الذات ، فاذا سألت عن صرح وقيل لك أنه بناء أو بناء مسقف فانه لا يكون جواباً تاماً أو وافياً ، فلابد من البيان هل هو دار أو مستشفى أو مسجد أو مدرسة أو مسكن ونحوه ، وهذا هو الفصل الذي يكون معلماً , وصفة تميز البناء عن غيره .
فالمراد من الفصل هو جزء الماهية الذي يستبين به المعنى ، ويمنع من الترديد واللبس , وينقسم الفصل إلى حقيقي ومنطقي ، كما ينقسم الفصل إلى :
أولاً : الفصل القريب مثل الناطق .
ثانياً : الفصل البعيد مثل المتحرك والضاحك.
الرابعة : الذاتي : وهو الوصف الأصلي والأساسي الذي تتقوم به ماهية الموضوع الذي لا يستغنى عنه فيها .
الخامسة : العرضي : وهو الذي يحتاج إلى موضوع وعمل يتقوم به، وهو شيء خارج عن ذات الموضوع الوصف الثانوي الذي قد يتغير ويتبدل من غير أن تفقد معه الماهية ، مثل الضحك الذي اختص به الإنسان ، والمشي وهو العرض الذي يجمع بين الإنسان والحيوان .
وقد تبين وتوضح الكليات بالترتيب الآتي :
الكلي
الذاتي العرضي
نوع جنس فصل الخاصة العرض العام
وينقسم العرضي إلى :
أولاً : الخاصة ، وهي الكلي التي يختص بنوع واحد بالنسبة للإنسان ، قال تعالى [عَبَسَ وَتَوَلَّى] ( ) .
ثانياً : العرض العام : وهو الكلي العام الذي تتصف به أقسام متعددة من ذات الجنس كالمتحرك الذي يقوم ويقصد وينام من الحيوان .
وينقسم العرضي إلى قسمين :
الأول : العرضي اللازم : وهو المحمول الذي يمتنع إنفكاكه ، ومنه العارض بالذات كالبياض والسواد بالنسبة للون البشرة ، ومنه الكاتب بالقوة بالنسبة للإنسان عقلاً والحرارة بالنسبة للنار .
فان قيل قد ورد قوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ] ( ) فهل تنخرم هذه القاعدة هنا ، وإذا فقدت النار حرارتها صارت نوراً على هيئة نار .
والجواب ليس من إنخرام للقاعدة أنما هي المعجزة الخارقة للعادة ونواميس الطبيعة لبيان عظيم قدرة وسلطان الله ، وينقسم اللازم إلى قسمين :
أولاً : العرضي اللازم البين ، وينقسم إلى شعبتين :
الأولى : اللازم البين والواضح بالمعنى الأخص مثل الإثنين نصف الأربعة فحالما نستحضر اللازم في الوجود الذهني ينتقل إلا الملزوم من غير حاجة إلى برهان واستدلال مثل الأذن ووجوب الصلاة ورؤية هلال شهر رمضان وأداء فريضة الصيام ، قال تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
الثانية : اللازم البين بالمعنى الأعم .
ثانياً : العرضي غير البيّن وغير الواضح ، وهو الذي لا يكفي فيه تصور الطرفين والنسبة بينهما ، وليس بديهياً ، ويستدل في المقام بالمثلث وزواياه، والحاجة إلى البرهان الهندسي لإثبات تساوي زاويتيه .
ويمكن الإستدلال بموضوع واحد على قسمي العرضي اللازم , فالحساب الشمسي الميلادي من البين بالمعنى الأخص لأمكان تعيين اليوم الأول والأخير من الشهر التالي .
ومن السنة التالية , أما الحساب القمري فهو من العرضي اللازم بالمعنى لتوقف تحديد أول وآخر الشهر على رؤية الهلال وفق البينة الشرعية قال تعالى[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ]( ).
الثاني : العرضي المفارق ، وهو المحمول الذي يمكن إنفكاكه عقلاً عن موضوعه، مثل الكاتب والقائم بالنسبة للإنسان ، وهل قعود المنافقين عن الدفاع في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا] ( ) من العرض اللازم أو المفارق .
الجواب هو الثاني, لأنه خلاف الفطرة , وعمومات وجوب عبادة الله سبحانه .
نعم يكون هذا القعود عرضاً لازماً لمن يصر على النفاق وإبطان الكفر، ويكون عرضاً مفارقاً لمن تدركه التوبة والإنابة وبه جاءت آية البحث والآية السابقة, وكل منهما طريق مبارك للتوبة والصلاح .
ويمكن أن نقسم العرضي تقسيماً جديداً آخر , وهو :
أولاً : العرضي الدائم ، وهو الذي يصاحب الموضوع وإن كان مما لا يمتنع انفكاكه عنه مثل المرض المزمن ، والعادة الذاتية المصاحبة للإنسان التي يمتنع عن تركها أو قهرها سواء كانت نافعة أو ضارة , والفرق بين العرضي اللازم والمزمن أن المزمن أمر طارئ .
ثانياً : العرضي المؤقت وهو الذي يزول في فترة من الزمن سواء كان زواله بالذات وانه لا يتعدى أجله أو بالعلاج ومنه المرض الطارئ على الإنسان ورطوبة الجو في موسم مخصوص .
وخصلة النفاق من العرضي ، وهل هي من العرضي اللازم أو المفارق أو الدائم أو المؤقت .
الجواب إنه عرض مفارق وليس بلازم ، وقد يكون من الدائم أو المؤقت أعلاه وبذا يتجلى المائز بين تقسيم الناطقة العرضي إلى لازم ومفارق ، وتقسيمنا المستحدث له إلى دائم ومؤقت .
فقد يتوب المنافق فيكون النفاق له مؤقتاً ومفارقاً ، وقد يصر على النفاق في أيام حياته إلى أن يغادر الدنيا ، فيكون بالنسبة له دائماً ، ولكنه ليس ملازماً مثل لون بشرته مثلاً لإقامة الحجة على المنافق ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ) .
وهل يدل قوله تعالى [قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ) على أن النفاق عرضي لازم لهم لما تتضمنه الآية أعلاه من الإخبار عن موتهم على النفاق .
الجواب لا دليل عليه ، إذ أن الإنسان مطلقاً يعجز عن دفع الموت عن نفسه .
ومن الإعجاز أن آيات خلق الإنسان ومصاديق العرضي اللازم والعرضي المفارق تدعوه لنبذ النفاق والعادات المذمومة ، ليكون من عمومات قوله تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( ).
فمن خصائص الآيات الثلاثة السابقة وآية البحث دعوة المنافقين للتنزه عن النفاق وترك هذا العرضي المؤقت ، كما أن توالي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تبعث على مفارقة الإنسان له .
لذا ورد قبل آيتين ذكرهم بصيغة الماضي [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] ( ) لترغيبهم بالتوبة وحث المسلمين على تخليصهم من العرضي المؤقت .
وكل آية من القرآن باعث لزواله وسبب للتوبة منه ، لذا فلم يبق عدد المنافقين على ما هو عليه من جهة الكثرة بل كان في تناقص مستمر , وهل الإيمان عرض لازم أو مفارق .
الجواب هو أعلى وأسمى رتبة من اللازم لملائمته للفطرة ولأنه هو الأصل المصاحب لماهية الإنسان وعلة الخلق ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) .
ويمكن تقسيم العرض تقسيماً جديداً وهو :
الأول : العرض الواجب ، وهو الإيمان وأداء الفرائض .
الثاني : العرض اللازم .
الثالث : العرض المفارق .
وجاءت كل من آية البحث والآيات السابقة لتثبيت مفاهيم الإيمان في النفوس ، وجعل المسلمين يبذلون الوسع في ترسيخ سنن التقوى، قال تعالى [وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] ( ).
بحث أصولي
(عن خباب بن الأرت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ، فإن أدركت ذلك فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل) ( ).
فقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث أعلاه القاعدين في خصوص الفتنة , ومَدَحهم لأن الموضوع هو فتنة بين المسلمين تحدث في قادم الأيام ، أما قعود الذين نافقوا عن معركة أحد فهو مذموم لأنه قعود عن الواجب , وهو على وجهين :
الوجه الأول : الواجب العيني ،وهو الخطاب التكليفي الذي يتوجه إلى كل فرد من المكلفين على نحو التعيين ، فهو إنحلالي بعددهم ، كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ) .
ليكون تقديره بصيغة المفرد والمثنى وجمع المؤنث على وجوه :
الأول : وأقم الصلاة وآتي الزكاة .
الثاني : وأقيمي الصلاة وآتي الزكاة .
الثالث : وأقيما الصلاة وآتيا الزكاة .
الرابع : وأقمن الصلاة وآتين الزكاة .
وفيه مصداق لرحمة الله عز وجل بالناس بواسطة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من عمومات قوله [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بلحاظ تجليات الرحمة في كل فرد منها :
الأول : تكليف كل فرد بالصلاة , ليكون هذا النداء أعم وأوسع نداء في حياة الناس إلى يوم القيامة .
الثاني : أداء كل مسلم ومسلمة الصلوات اليومية الخمسة بشوق ورضا وأمل ، وهذا الأداء من مصاديق حب الله في قوله تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) .
ويعجز الناس عن إحصاء أفراد الصلاة التي يؤديها المسلمون والمدة التي تستغرقها من حياتهم ، وهو نعمة عظيمة عليهم وعلى الناس جميعاً ، ومن مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
الثالث : صيرورة الصلاة سبباً لإصلاح النفوس وتهذيب الأخلاق ، ليكون أداؤها من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (بعثت لاتمم مكارم الاخلاق) ( ).
الرابع : الثواب العظيم على أداء الصلاة والذي لا يقدر عليه ولا يعلمه الله إلا الله عز وجل .
وهل يمكن أن يرقى ثواب الصلاة إلى جعل المسلم الذي يؤديها ذكراً أو أنثى إلى مرتبة ثواب الذي قتل في معركة أحد أم أن ثواب الشهادة أمر خاص .
الجواب هو الثاني إلا أن يشاء الله برحمته ، وما ذكر آية البحث لحياة الشهداء إلا دعوة للمسلمين والمسلمات للإجتهاد بالدعاء وسنن التقوى لنيل تلك المرتبة لعمومات قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) فمع أن القتال في سبيل الله ساقط عن المسلمات فان باب الدعاء مفتوح لهن لنيل المراتب العالية في الآخرة .
وهل يبعث هذا الأمر الحسد والغيرة عند الشهداء وهم في عالم الآخرة, وهل يحتجون بالتباين بينهم وبين الذين ينالون ذات مرتبتهم بالدعاء من المؤمنين والمؤمنات .
الجواب لا ، من جهات :
الأولى : سلامة أهل الجنان من الغل والحسد والرذائل والأخلاق المذمومة ، قال تعالى [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ]( ).
الثانية : بيان خصوصية للذين قتلوا في سبيل الله وهي عدم وجود فترة موت بين قتلهم وحياتهم عند الله ، ويمكن تدارك هذا المائز بنيل المؤمنين والمؤمنات له بالدعاء .
وفي الصحيح أن فقراء المهاجرين قالوا (يا رسول الله، ذهب أهل الدُّثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم .
قال: “وما ذاك؟”.
قالوا: يُصلُّون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويُعتقون ولا نُعْتِق.
قال: “أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم: تسبحون وتكبرون وتحمدون دُبُر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين”. فرجعوا فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا، ففعلوا مثله! .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) ( ).
الثالثة : تجلي معنى مبارك من معاني التقييد في آية البحث بأن الشهداء(أحياء عند ربهم) فكون حياتهم عند الله وهو ربهم فأنهم يرضون بكل ما يأمر به الله عز وجل.
الرابعة : من معاني الحياة عند الله التي تذكرها آية البحث التنزه عن الحسد والجدال ونحوه.
الخامسة : إبتداء الآية التالية بقوله تعالى(فرحين) إذ تدل إستدامة فرحة الشهداء على سلامتهم من الحزن والكرب والغيرة وطرو الكدورات ، أو استقرارها , وفي التنزيل[وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ]( ).
الوجه الثاني : الواجب الكفائي ، وهو الواجب الذي أمر به الشارع على نحو الحتم والوجوب بحيث يثاب فاعله ويعاقب تاركه ، وإذا كان الواجب العيني يدل على لزوم إتيان كل مكلف الفعل العبادي، ولا يجزي قيام غيره به ، كأداء الصلاة والصوم والحج ، لما فيها من الشهادة الفعلية على الإيمان والدلالة على التقوى والخشوع والخضوع لله عز وجل، فهناك قسيم وهو الواجب الكفائي والذي تكون فيه الذمة العامة مشغولة حتى يؤديه فرد من الجماعة والذي يكون على وجوه :
الأول : أداء الفرد الواحد للواجب يسقط عن الجماعة ، كما في رد السلام لأن رد الواحد منهم كاف عنهم .
الثاني : أداء الطائفة الواجب العام بما يكفي عن الفرقة والأمة ، كما في قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وفي الآية أعلاه نكتة وهي أن الذين يتولون أداء الواجب الكفائي أكثر أجراً وثواباً من الذين لم يبادروا إليه، أو لم يفوزوا بأدائه.
ليكون بين مضامين الآية أعلاه وبين قوله تعالى[لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا] ( ) عموم وخصوص مطلق إذ أن الدعوة إلى الخير أعم .
وكذا فان من مصاديق الأمر بالمعروف الحث على الجهاد والصبر في ملاقاة كفار قريش ، ومن معاني النهي الذي تذكره الآية أعلاه في المقام مسائل :
الأولى : النهي عن القعود وهل يشمل هذا النهي الذين نافقوا ، الجواب نعم ، فهم مأمورون بالواجب العيني بلحاظ أمور :
الأول : النهي عن القعود ، بأن ينهى المنافق صاحبه عن النفاق، وتقوم المنافقة بمنع أي مسلم عن القعود بما فيهم الذين نافقوا.
الثاني : إجتناب القعود الذاتي .
الثالث : النهي عن الأمر بالقعود لأن هذا الأمر من المنكر والأمر به، قال تعالى[الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ]( ).
الرابع : الزجر عن النهي عن الخروج للقتال في سبيل الله .
الثانية : التحذير والإنذار من بث الأراجيف في المدينة والتحريض على القعود .
الثالثة : المنع من التعريض بخروج الصحابة للدفاع في معركة أحد .
الرابعة : النهي من القول بأن الشهداء [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ) إذ أخبرت آية البحث عن حياتهم حال القتل .
وهل ينطبق هذا التفاضل بين المجاهدين والقاعدين في الآية أعلاه على الذين قعدوا كما في الآية السابقة [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا]( ) الجواب لا إنما هؤلاء منافقون يخفون الكفر بين جنباتهم.
ليكون من الإعجاز في نظم الآيات تقييد القاعدين في الآية أعلاه بأنهم من المؤمنين أي الذين يتصفون بالإيمان في الظاهر والباطن .
الثالث : أداء الطائفة والفرقة يكفي عن الأمة في غير الواجب العيني .
وإذ يسقط الواجب العيني عن غير القادر وعن المعذور، قال تعالى[لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]( ) .
فهل يسقط الواجب الكفائي عن غير القادر، الجواب نعم، كما لو سلّم شخص على جماعة , وفيهم أحد لم يسمع السلام ولم يعلم به بالإشارة .
ومن خصائص الواجب الكفائي أن في أداء الفرد له اسقاط الإثم والحرج عن الجماعة ، لذا قيل بأن الواجب الكفائي أفضل من الواجب العيني لأنه إذا ترك المكلف الواجب العيني اختص هو بالإثم.
ولا دليل على هذا القول إذ أن شرف الواجب العيني أعظم وأسمى ، وكذا بالنسبة لموضوعه مثل أداء الصلاة التي هي عمود الدين ، وقال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ) .
وهل كان خروج المهاجرين والأنصار إلى معركة أحد واجباً عينياً أم واجباً كفائياً أم أنه من المندوب العيني أو المندوب الكفائي بلحاظ أنه كما ينطبق الواجب العيني على كل مكلف، فكذا فان المندوب ينطبق عليهم مثل الأذان والإقامة ، والصيام المستحب ، والحج المستحب ، والصدقة المندوبة .
الجواب هو الأول ، فهذا الخروج واجب عيني وتدل عليه آيات عديدة ، كما في الآية قبل السابقة [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ] ( ) .
مما يدل على توجه الأمر والتكليف العيني بالخروج لقتال الذين كفروا حتى على المنافقين لأنهم ممن نطق بالشهادتين، وما أن اعتذروا بحجة واهية وإدعاء عدم وقوع القتال بين الفريقين حتى نعتتهم ذات الآية أعلاه بأنهم[لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ]( ).
ومنه قوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) نعم يخرج بالتخصيص غير القادرين على القتال ، وأصحاب الأعذار، والذين يتولون وظائف جهادية داخل المدينة أو في الحراسة والمرابطة.
وفي غزوة تبوك استخلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام في المدينة (فَأَرْجَفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا : مَا خَلّفَهُ إلّا اسْتِثْقَالًا وَتَخَفّفًا مِنْهُ فَأَخَذَ عَلِيّ رَضِيَ اللّه عَنْهُ سِلَاحَهُ ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجُرُف ِ فَقَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ زَعَمَ الْمُنَافِقُونَ أَنّك إنّمَا خَلّفْتنِي لِأَنّك اسْتَثْقَلْتنِي وَتَخَفّفْتَ مِنّي
فَقَالَ كَذَبُوا وَلَكِنّي خَلّفْتُكَ لِمَا تَرَكْتُ وَرَائِي فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِك أَفَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى ؟ إلّا أَنّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي فَرَجَعَ عَلِيّ إلَى الْمَدِينَة)( ).
وهل كان في استخلاف علي عليه السلام في المدينة أمارة من الوحي، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبر المسلمين بالدلالة الإلتزامية بانه لا يكون من قتال في تلك الغزوة , لأنه فارس الميدان وقد حضر المشاهد كلها، وشجاعته وشدة بأسه وفتكه بالذين كفروا في معركة بدر وأحد وحنين وغيرها معروفة ، كما أن له مرتبة وخصوصية في معركة الخندق بقتله عمرو بن ود العامري ، ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( )، ولأن موسى عليه السلام قال لأخيه هارون النبي[اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ]( )، عندما ذهب إلى الميقات وموعد ربه، ولم يذهب إلى قتال.
وفعلاً لم يقع قتال في تلك الغزوة أي تبوك مع كثرة عدد جيش المسلمين , وجيش الطرف الآخر .
علم المناسبة
أحياء جمع حي، وهو الذي يتصف بالحركة والإختيار وتمتاز حركة الإنسان بصدورها عن العقل والتدبر والإرادة لتقوم عليه الحجة في الدنيا الآخرة ،إذ أن الإختيار وعدم الإكراه في القول والفعل هو ملاك التكليف .
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (عَبْدٌ خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ زَهْرَةَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ) ( ).
وهذا الإختيار ليس مطلقاً، إذ جعل الله عز وجل الإنسان لا يخرج عن قدرته ومشيئته، كما في قوله تعالى سبحانه [وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ]( ).
وعن جابر قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهلين بالحج ، ومعنا النساء والذراري ، فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت ، وبين الصفا والمروة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لم يكن معه هدي فليحل، فقلنا : أي الحل ؟ فقال : الحل كله،
فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج ، قال لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اشتركوا في الإبل والبقر ، كل سبعة في بدنة،
قال : فجاء سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال : يا رسول الله ، أرأيت عمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد ؟ ، فقال صلى الله عليه وسلم : لا بل للأبد، فقال : يا رسول الله ، بين لنا ديننا ، كأنما خلقنا الآن ، أرأيت العمل الذي نعمل به ، أفيما جفت به الأقلام ، وجرت به المقادير ، أم مما نستقبل؟،
فقال صلى الله عليه وآله وسلم : لا بل فيما جفت به الأقلام ، وجرت به المقادير .
قلت : ففيم العمل ؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اعملوا، فكل ميسر) ( ).
وورد لفظ [أَحْيَاءٌ] خمس مرات في القرآن اثنتين منها بخصوص الشهداء، أحداهما آية البحث والأخرى قوله تعالى[وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
ومن الإعجاز في نظم القرآن ورود هاتين الآيتين في أول نظم القرآن ، وتوجه الخطاب في آية البحث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمنع من الظن القلبي بأن الشهداء أموات.
أما الآية أعلاه فتوجهت للمسلمين بالمنع من القول أن الشهداء أموات لبيان التخفيف عن المسلمين والمسلمات باصلاح المنطق والكلام.
أما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فان كلامه وقوله من الوحي ، فمن المؤكد أنه لا يقول إلا ما يأمر به الله عز وجل ليكون من الإعجاز في الجمع بين الآيتين التأكيد على صدور قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الوحي والتنزيل .
وإن كان المسلمون ملحقين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلزوم إحتساب قتلى بدر وأحد شهداء والإمتناع عن الظن بموتهم.
وورد لفظ[أَحْيَاءٌ] بقوله تعالى[وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ]( ) في ذم الكفار وإختيارهم اللجوء إلى الأصنام وإتباع الطواغيت في ظلمهم وتعديهم وجورهم .
ويجمع الأمرين زحفهم على المدينة لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ خرج ثلاثة آلاف من المشركين نحو المدينة طاعة للطواغيت من كفار قريش بعد التوسل والتزلف إلى الأصنام رجاء العون والمدد مع عجزها عن فعل أي شيء، إنما الخلق والرزق والإحياء والإماتة والنصر والغلبة أمور بيد الله عز وجل.
وقيل المراد بالأموات في الآية أعلاه هم الكفار وما يشعرون متى يبعثون من القبور .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال (إن المؤمن إذا مات لم يكن ميتا، فإن الميت هو الكافر، إن الله عز وجل يقول: ” يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي” يعني المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن)( ).
وقال تعالى[وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ]( ).
والمراد من الآية أعلاه وجوه :
الأول : حمل الآية على الظاهر , والمراد التباين والتضاد بين الأحياء الذين في الدنيا والأموات الذين غادروها ، إذ يتوجه التكليف إلى الأحياء ويحصي الملائكة أعمالهم .
الثاني : إرادة الإختلاف والتباين بين المؤمنين والكفار وهو الذي ذهب اليه المفسرون ، والآية أعم منه موضوعاً ودلالة .
الثالث : لا يستوي الذين قتلوا في سبيل الله ، والكفار الذين ماتوا أو قتلوا ، وكأن الآية تقول :لا يستوي الشهداء والكفار الذين قتلوا يوم أحد، فالشهداء أحياء عند الله , أما الكفار فقد ماتوا في حياتهم وبعد الموت، وورد بخصوص آل فرعون في التنزيل[يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا]( ) أنهم يعرضون على منازلهم في النار والتي تنتظرهم يوم القيامة .
قوله تعالى[الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا]
تبين الآية قانوناً وهو من الناس من فارق الدنيا بالقتل , وأن قتله في سبيل الله، وسبب نزول آية البحث هو شهداء الإسلام في معركة أحد، ومن كرامتهم عند الله عز وجل أمور:
الأول : ذكر الشهداء في القرآن.
الثاني : الإخبار عن قتلهم في سبيل الله.
الثالث : النهي عن الظن بموتهم.
وتدل الآية في مفهومها على ذم الذين كفروا ممن إشترك في قتالهم وقتلهم والتحريض عليه، وإعانة كفار قريش بالمال والسلاح والنصرة، وهل يشمل هذا الذم الذين نافقوا .
الجواب نعم، لأنهم قعدوا عن نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشد عضد المؤمنين , وتتضمن الآية في مفهومها ذم الكفار الذين قتلوا في معركة بدر وأحد، والوعيد لهم بالعذاب الأليم، قال تعالى[الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ]( ) .
وفي الآية أعلاه ثناء على المؤمنين وشهادة لهم بأن قتالهم في معارك الإسلام الأولى دفاع عن النبوة والتنزيل وأنهم لم يقاتلوا طمعاً بالدنيا وزينتها .
وتمنع آية البحث من الغلو بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يصح القول أن أحد الشهداء قُتل في سبيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتدل في مفهومها على النهي عن القول أن فلاناً قتل في سبيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ) .
وتتضمن آية البحث دروساً وموعظة في الأخلاق وسنن الإيمان بأن القتال لا يكون إلا في سبيل الله وبقصد القربة إليه سبحانه ، وتدل آية البحث بالدلالة التضمنية على سلامة الشهداء من النفاق والرياء فهم لم يقصدوا في قتالهم إلا القربة إلى الله ورجاء رضاه عنهم .
(عن يعلى بن منبه قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعثني في سراياه ، فبعثني ذات يوم وكان رجل يركب فقلت له : إرحل . قال : ما أنا بخارج معك .
قلت : لم؟ قال : حتى تجعل لي ثلاثة دنانير .
قلت : الآن حين ودعت النبي صلى الله عليه وسلم ما أنا براجع إليه ، إرحل ولك ثلاثة دنانير . فلما رجعت من غزاتي ذكرت ذلك للنبي فقال : أعطها إياه فإنها حظه من غزاته .
وأخرج أبو داود والنسائي والطبراني بسند جيد ، عن أبي أمامة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا شيء له . فأعادها ثلاث مرات يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا شيء له . ثم قال : إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه ) ( ) .
أي أن طلب الأجر والثواب من عند الله والذكر الحسن عند الثأر بأنه شجاع من التعارض لشبهة الرياء في طلب هذا الذكر ، وتبين آية البحث أن شهداء أحد لم يطلبوا الذكر بين الناس فرزقهم الله الذكر الحسن في النشأتين .
قوله تعالى [بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ]
وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم أن الشهداء أحياء على الحقيقة، وهو المختار ولو دار الأمر في تفسير قوله تعالى(أحياء) على إرادة الحقيقة أو المجاز , فالأصل هو الأولـ لأصالة الحقيقة .
وعن الأصم(لا تقولوا: هم أموات في الدين بل هم أحياء بالطاعة والهدى، ومثله قوله سبحانه : أو من كان ميتا فأحييناه” فجعل الضلال موتا والهداية حياة)( ).
ولا مانع من هذا التأويل، ولكنه في طول التفسير الأصل وهو إرادة حياتهم عند الله في الآخرة، ومن معاني هذا التأويل تأكيد سلامة منهاج الشهداء، وأنهم كانوا في عصمة من الغفلة والجهالة.
و(عند) ظرف مكان , والله عز وجل منزه عن المكان والجهة ، وهو حاضر في كل مكان وزمان ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ]( ).
وذكرت الآية أعلاه ملكية الكون لله عز وجل ، بينما ذكرت آية البحث الظرف (عند) ، وهل يمكن القول أن المراد من (عند) أي في ملكه تعالى ، الجواب نعم ، هذا صحيح ولكن عند أعم من إرادة خصوص الملك ويشمل أموراً :
الأول : الإستقرار والأمن وعدم الخوف .
الثاني : مجئ الرزق من عند الله ، قال تعالى في منّه وفضله على أهل الجنة[لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلاَمًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا]( ).
وهل يكون الشهداء في عالم البرزخ كحال أهل الجنة التي ذكرتهم الآية أعلاه أم أنهم برزخ بين أهل الدنيا وأهل الآخرة، المختار هو الثاني وإن النعم التي يرزقهم الله في القيامة أعظم وأكبر.
ويتبادر إلى الأذهان من لفظ الحياة المعيشة في الحياة الدنيا فتفضل الله عز وجل وأخبر بأن حياتهم عند الله عز وجل ، ولو لم تقيد الآية حياة الذين قتلوا في سبيل الله بأنها (عند الله) لاستهزء المنافقون ولادعوا بأنهم رأوا بعض الشهداء في البيداء أو في الأزقة أو على أبواب دورهم ، ولا يعلم منافع قيد (عند الله) إلا هو سبحانه من جهات :
الأولى : معاني ودلالات لفظ (عند الله).
الثانية : الوعد الكريم في لفظ (عند الله ).
الثالثة : بيان سمو الحياة الآخرة , وأنها أرقى وأحسن من الحياة الدنيا .
الرابعة : آمن الذين قتلوا في سبيل الله من سلطان الهوى ووسوسة الشيطان الذي لا سلطان له خارج عالم الدنيا ، وحتى في الدنيا فان كيده ضعيف ، ويطرد بالذكر ، إذ ورد (عن الحرث الأشعري : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وأنه كاد أن يبطىء بها فقال عيسى: إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها ، فإما تأمرهم وإما أن آمرهم .
فقال يحيى : أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب ، فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ ، وقعد على الشرف فقال : إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن ، وأمركم أن تعملوا بهن.
أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وأن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق فقال : هذه داري وهذا عملي فاعمل وأد إلي ، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك؟
وأن الله أمركم بالصلاة ، فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت،
وأمركم بالصيام ، فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك فكلهم يعجبه ريحها ، وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك،
وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدوّ ولفوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه فقال : أفدي نفسي منكم بالقليل والكثير ففدى نفسه منهم،
وأمركم أن تذكروا الله ، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعاً حتى إذا أتى به على حصن حصين فاحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله)( ).
الخامسة : بيان قيد عند الله لأمور الحياة والتنقل والرزق وإرادة أن الله عز وجل هو الذي يستضيف الذين قتلوا في سبيله .
وهل تتضمن الآية دعوة المسلمين لسؤال شفاعة الذين قتلوا في سبيل الله، الجواب نعم، وفيه إغاظة للذين نافقوا وبعث للحسرة في نفوس الذين كفروا في الدنيا والآخرة، فان قيل لماذا هذه الشفاعة فالأولى أن يدعو المسلم الله عز وجل من غير واسطة وشفاعة.
الجواب هذا صحيح ، وهو لا يتعارض مع قانون الشفاعة الذي يتجلى في آية البحث بتفضل الله عز وجل بالإخبار عن حياة الشهداء عند تعالى وورد (بسند ضعيف عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله {فيوفِّيهم أجورهم ويزيدهم من فضله}( ) قال {أجورهم} يدخلهم الجنة { ويزيدهم من فضله} الشفاعة فيمن وجبت لهم النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا)( ).
وجاءت الآية بالإضافة إلى ذات الشهداء بقوله تعالى[عِنْدَ رَبِّهِمْ]وفيه نعمة أخرى وإكرام إضافي للذين قتلوا في سبيل الله بأن يرأف بهم الله عز وجل ويتغشاهم برحمته ، وفيه شاهد بأن الذين قتلوا في سبيل الله في معركة أحد كانوا يقاتلون بقصد القربة والطاعة إلى الله عز وجل ، وفيه زجر للمنافقين من بث الشكوك والأقاويل عن حياة الشهداء وسيرتهم في الدنيا , وعن الغاية من خروجهم للقتال يوم أحد ، وكيفية قتلهم .
ويحتمل أوان بعث الحياة في الشهداء وجوهاً:
الأول : عند إنتهاء معركة أحد، وحصر وتبين أشخاص الذين قتلوا في سبيل الله.
الثاني : بعد قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة على الشهداء.
الثالث : بعد الدفن ومواراة الشهداء في التراب.
الرابع : عند قتل آخر فرد من الشهداء، والله عز وجل يعلم بأنه لا يقتل بعده غيره من المؤمنين .
الخامس : حالما يقتل الصحابي يبعث الله عز وجل الحياة فيه، فكما توالى قتلهم فكذا توالى بعث الروح فيهم.
السادس : أوان بعث الحياة في أرواح الشهداء لا يعلمه إلا الله عز وجل، وهو من علم الغيب , والقدر المتيقن أنهم أحياء عند نزول آية البحث.
والمختار هو الخامس أعلاه فيجد الصحابي الذي يقتل لاحقاً الذي سبقه بالشهادة حياً أمامه، وهل هو من مصاديق قوله تعالى في الآية التالية[وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ]( )، أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هم الشهداء في المعارك اللاحقة كمعركة حنين.
الجواب هو الأول، وهو من الإعجاز في نظم الآيات وهذا الباب من العلم يستقرأ هنا على نحو مستحدث بفيض ولطف من عند الله، فحينما أستشهد أول قتيل من المؤمنين في معركة أحد بعث الله عز وجل الروح فيه وصار حياً عنده وجعله يستبشر بالشهيد الثاني الذي يلحق به , وهو من الشواهد على قانون إنعدام الفترة والمدة بين القتل في سبيل الله وبين الحياة عند الله عز وجل.
ويمكن تفكيك صيغة الجمع في آية البحث، ويكون تقدير صيغة المفرد فيها: ولا تحسبن الذي قتل في سبيل الله ميتاً بل حي عند الله يرزق) كما يمكن ذكر الشهداء بأسمائهم على نحو التقدير لمضامين آية البحث، ويكون تقديرها على وجوه:
الأول : ولا تحسبن حمزة بن عبد المطلب ميتاً بل حي عند الله يرزق.
الثاني : ولا تحسبن مصعب بن عمير ميتاً بل حي عند الله يرزق.
الثالث : ولا تحسبن حنظلة بن أبي عامر ميتاً بل هو حي عند الله يرزقه.
الرابع : ولا تحسبن عبد الله بن عمرو بن حرام ميتاً بل هو حي عند الله يرزقه.
الخامس : ولا تحسبن عمرو بن الجموح ميتاً بل هو حي عند الله يرزقه.
السادس : ولا تحسبن سعد بن الربيع ميتاً بل هو حي عند الله يرزقه.
السابع : ولا تحسبن خارجة بن زيد ميتاً بل هو حي عند الله يرزقه.
وهكذا التقدير بالنسبة لبقية الشهداء السبعين يوم أحد.
وذكر بعضهم أنه كانت بجوار مقبرة الشهداء عين ماء، وفيها سمك , وفيه كرامة لهم , ولكن تولى بعضهم ردمها خشية تبرك الناس بها وهذا المعنى ليس علة تامة للردم، ثم ظهرت قبل سنوات عيناً أخرى وتم ردمها أيضاً.
وقام معاوية بنقل قبور الشهداء من موضعهم الأصلي خشية أن يجرف السيل أجسادهم، وكانت أجسادهم طرية تفوح منها رائحة المسك، وقيل أصابت المسحاة قدم حمزة، فسال منها الدم، وكان مدفوناً في بطن جبل أحد.
ورأوا عمر بن الجموح واضعاً يده على جبهته بهيئته التي غادر الدنيا بها، فلما أزاحوها خرج من جبهته الدم فأعادوها إلى موضعها مع طول المدة بين أوان معركة أحد وبين هذا النقل.
ومن معاني الآية سلامة قلوب الشهداء من الحسد، فهم يرون إخوانهم الذين خلفوهم في الدنيا وقد صاروا أمراء وحكاماً وأقبلت عليهم الدنيا وغنموا الذهب والفضة , فلم يحسدهم الشهداء إنما هم يستبشرون بقدومهم عليهم لبيان قانون وهو أن المؤمنين في أمن وسلامة من إغواء الشيطان، وغلبة الهوى.
وقد تقدم في سورة البقرة قوله تعالى[وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ).
وبين الآية أعلاه وآية البحث عموم وخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء من جهات :
الأولى : صبغة القرآنية لكل من الآيتين .
الثانية : إختصاص كل من الآيتين بذكر حال الشهداء .
الثالثة : مجئ كل من آية البحث والآية أعلاه كاملة بخصوص الشهداء .
الرابع : نفي الموت والسكون والجمود عن الشهداء .
الخامس : موضوع كل من الآيتين هو شهداء بدر وأحد , .
السادس : تأكيد حياة الشهداء في عالم البرزخ .
السابع : تقييد حياة الشهداء بأنها عند الله ، وهو فضل ونعمة أخرى من عند الله عز وجل .
والأموات : جمع ميت ، كما يجمع على موتى ، وإذ ورد لفظ [أَمْوَاتًا] ثلاث مرات في القرآن فقد ورد فيه لفظ [الْمَوْتَى] سبع عشرة مرة ، قال تعالى [وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ] ( ) والميت من فارقت روحه بدنه فغادر الحياة مرة واحدة قهراً وضده الحي .
يقال ما يموت مت موتاً فهو مائت وميْت بسكون الياء ، وميّت بتشديد الياء ، ويقال ماتت النار أي خفت جمرها , وبرد رمادها .
وماتت الحمى : أي زالت وسكنت حرارتها , وماتت الريح أي هدأت وسكنت .
ويقال مات حتف أنفه أي على فراشه من غير قتل أو حرق أو سم ونحوه .
ومن المجاز مات من الجوع أي أصابه جوع شديد .
وبين لفظ الأموات والأحياء تضاد وجاء الحرف (بل) بينهما في آية البحث وهو حرف إضراب أي الإضراب عما قبلها واثبات ما بعدها ، ويأتي (بل) لإرادة الإستدراك بمعنى (لكن) إذا دخل على مفرد بعد النفي أو النهي كما في آية البحث ، ويكون تقدير الآية : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ولكن أحياء .
ويحتمل الحال والصورة الذهنية بخصوص شهداء معركة أحد قبل نزول آية البحث وجوهاً :
الأول : كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يظن بأن أصحابه الذين استشهدوا في معركة أحد صاروا من الأموات في عالم البرزخ .
الثاني : كان المسلمون يظنون بموت أصحابهم الذين قتلوا في معركة أحد لأصالة التبادر والإستصحاب وعموم سنة الموت بعد الحياة .
الثالث : التفصيل وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يظن بموت الشهداء بخلاف المسلمين .
والمختار هو الثالث ، لذا جاءت الآية بالنهي في القادم من الأيام ، فلم تقل الآية : لِمَ تحسب الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ، وهل تنحصر حياة الشهداء بحياة أرواحهم وعدم فنائها ، وللإخبار بأنها حياة غير جسمية أو مادية ، أو أن أي واحد منهم لا يحتل حيزاً من مكان ، الجواب لا ، والمختار أنها حياة مادية تشتمل على المدركات والتلذذ بنعم الجنة والرزق الكريم الذي يأتي من عند الله عز وجل .
وهل يدل هذا التنعم على ضرورة توسط الحواس والجسمية لإدراك اللذات والنعم ، الجواب لا ، إنما نواميس الآخرة تختلف عن الحياة الدنيا ، ولكنه الفضل الإلهي على المؤمنين عامة والشهداء خاصة ، وفي التنزيل [وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
لقد أخبر القرآن عن حدوث قتل الشهداء وتتصف مغادرتهم الحياة الدنيا بأمور :
الأول : التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الفوز بصحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الخروج إلى ميدان القتال تحت لواء النبوة .
الرابع : الحرق على أداء الصلاة والفرائض العبادية الأخرى .
الخامس : بذل الوسع في قتال المشركين الذين أصروا على الكفر والجحود وقطعوا أكثر من أربعمائة وخمسين كيلو متراً لغزو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في عقر دارهم .
السادس : الشهادة والقتل دفاعاً عن الإسلام والنبوة والتنزيل ، وهل يختص دفاعهم هذا بزمان قتلهم وبالذات أوان معركة أحد ، الجواب لا ، فقد كان قتلهم دفاعاً عن الإسلام والتنزيل في كل زمان .
ليكون من ذخائر الجزاء من عند الله استدامة حياتهم في كل زمان ، وإنطباق تلاوة المسلمين على مصداق متجدد لهذا القانون ، ففي كل زمان يدرك المسلمون حياة شهداء أحد ، ويزورون قبورهم وهم يعلمون أنهم أحياء عند الله , يعلمون بمن يزورهم , ومن أسرار هذه الزيارة أمور :
الأول : استحضار الزائر لواقعة أحد .
الثاني : إدراك جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه .
الثالث : إجماع المسلمين والمسلمات على حياة الشهداء عند الله عز وجل .
الرابع : زيارة المسلم لشهداء أحد واسطة الإنتقال بالذهن إلى النعيم الأخروي .
لقد تضمنت الآية السابقة الوعيد للذين نافقوا بطرو الموت عليهم بقوله تعالى [فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ] ( ) ليكون من معانيه وجوه :
الأول :فادرءوا عن أنفسكم الموت على النفاق .
الثاني : فادرءوا عن أنفسكم الموت قبل التوبة ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] ( ).
الثالث : فادرءوا عن أنفسكم الموت الذي تخافون منه بالإيمان وما يترشح عنه من السكينة .
الرابع : فادرءوا عن أنفسكم الموت في حال القعود عن الدفاع .
الخامس : فادرءوا عن أنفسكم الموت الذي يكون طريقاً إلى العذاب الأليم على الكفر والجحود .
السادس : فادرءوا عن أنفسكم الموت أو القتل بالباطل .
السابع :فادرءوا عن أنفسكم الموت الذي تفرون منه بالقعود عن الدفاع، وفي التنزيل [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ] ( ) .
وقد جاء القرآن بقانون وهو أن الفرار من الموت لا يؤدي إلا للبقاء في الدنيا أياماً قليلة خالية من النفع كما في قوله تعالى [قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ وَإِذًا لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ).
وتدل الآية أعلاه بالدلالة التضمنية على الثناء على شهداء أحد ، وتبين أنهم لم يفروا ولم يرضوا بالمتاع القليل ففازوا بالنعم الأخروية الدائمة .
الثامنة : فادرءوا عن أنفسكم الموت في ذات الوقت الذي إختار فيه الشهداء القتل في سبيل الله .
التاسع : قل يا محمد للذين نافقوا فادرءوا عن أنفسكم الموت الذي ليس وراءه إلا العذاب الأليم ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( ) بينما تضمنت الآية التالية الإخبار عن سعادة وغبطة الشهداء بما رزقهم الله عز وجل من فضله .
العاشر : يكون ذات الخطاب في خاتمة الآية السابقة من جهة المفرد والمتعدد على جهات :
الأولى : يا أيها النبي لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء، وهل آية البحث من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]( ) .
الجواب نعم , وفيها شاهد على نفع الإسلام من الشهداء بعد قتلهم لأنهم أحياء .
الثانية : يا أيها المسلم لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء.
الثالثة : يا أيتها المسلمة لا تحسبين الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء .
الرابعة : يا أيها الذين آمنوا لا تحسبوا الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء .
الخامسة : يا أيتها المؤمنات لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء .
ومن الإعجاز في قوله تعالى [عِنْدَ رَبِّهِمْ]المنع من بناء الأحكام الشرعية على حياتهم ، فلا يقول أحدهم أنهم أحياء فلا يصح زواج نسائهم اللائي صرن أرامل ، ولا يجوز الإمتناع عن توزيع تركتهم وأموالهم ، إنما حياتهم عند الله عز وجل , وهم في غنى عن زينة وحطام الدنيا .
ومن مباني علم الأصول أصل الإستصحاب ، فلو غاب شخص ولم نعلم بموته نستصحب حياته وبقاء الزوجية والملكية إلا مع الأمارة والدليل على موته أو مرور مدة من الزمان يتعذر معها بقاؤه حياً ، ولا يعمل أصل الإستصحاب في المقام لثبوت موت الشهداء ومغادرتهم الدنيا ، وجاء قيد [عِنْدَ رَبِّهِمْ] لتأكيد إنتقالهم إلى عالم الآخرة ، وأن حياتهم أمر آخر ، ثم جاءت الآية التالية لتبين صفات أخرى للشهداء تتنافس في صفات الحسن والكرامة ومنها :
الجهة الأولى : قوله تعالى [فَرِحِينَ]الذي إبتدأت به الآية التالية ليكون من معاني الجمع بينه وبين آية البحث وجوه :
الأول : صيرورة الذين قتلوا في سبيل الله يوم معركة أحد فرحين .
الثاني : الذين قتلوا في سبيل الله يوم معركة بدر فرحون ، وهل فرح الشهداء هذا من مصاديق وعمومات النصر الذي ورد في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الجواب نعم ، ليفتح هذا المعنى ذخائر في علم التفسير ولبيان قانون وهو إنعدام الخسارة عند المسلمين في معركة بدر وأحد، وليفرح الأحياء منهم لفرح الشهداء في الآخرة من وجوه :
أولاً : محاكاة فرح الشهداء .
ثانياً : الفرح لكون الشهداء فرحين .
ثالثاً : فرح الأحياء شكراً لله عز وجل لفرح الشهداء .
الثالث : الذين قتلوا في سبيل الله من الأمم السابقة فرحون بفضل الله، ليكون من معاني قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) ولتكون آية البحث بياناً وتفسيراً لقوله تعالى بخصوص شهداء الأمم السابقة [فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ] ( ) .
ومن معاني الثواب الحسن في الآخرة صيورتهم ذهب بما أتاهم الله من فضله .
واذا كان الشهداء من الأمم السالفة نالوا ما فاز به شهداء أحد من الفرح والغبطة بفضل الله بلحاظ عمومات آية البحث وذكرها للذين قتلوا في سبيل الله مطلقاً من غير تقييد بواقعة مخصوصة ، فهل تشمل مضامين الآية أعلاه شهداء معركة أحد ،الجواب نعم ، ليكون من معاني وتقدير آية البحث وجوه :
أولاً : صاروا فرحين بما آتاهم الله من فضله ثواب الدنيا من النصر للإسلام والعز والفخر وحسن الذكر .
ثانياً : الشهداء فرحون بنزول آية البحث وإخبارهم عن حياتهم عند الله عز وجل .
ثالثاً : محو السيئات والذنوب عن الشهداء وإختصاص ما كتب الله لهم بالحسنات وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : آتى الله شهداء أحد ثواب الدنيا من غير نقصان .
ثانياً : فآتاهم الله ثواب الدنيا مضاعفاً ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ).
وقد أنفق وبذل الشهداء أنفسهم وأراحهم في سبيل الله ليكون جزاؤهم مضاعفاً من باب الأولوية القطعية ، وهل يصدق على الشهيد أنه أنفق كل ماله في سبيل الله بلحاظ كبرى كلية وهي تركه الحياة الدنيا وما يملك فيها ، والمغادرة إلى الآخرة قربة إلى الله عز وجل .
الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية التالية [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] ولا يقدح بهذه الكبرى بقاء مال الشهيد تركة لعياله وورثته الذين يأتيهم رزقهم من عند الله .
وهل يمكن استقراء قانون من آية البحث والآية التالية ، وهو من بذل نفسه في سبيل الله كتب الله له إنفاق كل ماله في سبيله تعالى وقربة إليه ، الجواب نعم .
ثالثاً : فآتاهم الله ربهم ثواب الآخرة بالحياة عنده سبحانه .
رابعاً : آتى الله شهداء أحد الثواب الذي هو خير وأعظم ، قال تعالى [وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى] ( ).
الرابع : يفرح الشهداء كل ساعة من ساعات الآخرة بأنهم صاروا أحياء في أذهان المسلمين والمسلمات ، وهو من مصاديق فضل الله الذي تذكره الآية التالية .
الخامس : فرح الشهداء بقطع طريق الشماتة بهم على الذين نافقوا ، فقد ورد في الآية السابقة التوثيق السماوي لقول الذين نافقوا بأن الشهداء لو أطاعوهم وقعدوا عن الخروج إلى ميدان معركة أحد ما قتلوا بلحاظ أن القتل خسارة عظمى وزهوق للروح ، فأخبرت آية البحث بأنهم أحياء وأنهم اشتروا بقتلهم الحياة الأبدية عند الله عز وجل ، وأن الموت ينتظر الذين نافقوا , وليس لهم في الآخرة إلا العذاب الأليم .
السادس : فرح الشهداء بأنهم قتلوا في سبيل الله ، إذ أن مغادرة الدنيا على وجوه :
أولاً : الموت على الفراش.
ثانياً : القتل ظلماً وتعدياً من القاتل .
ثالثاً : نزول القتل بالإنسان وهو ظالم لنفسه ، كما في قتل كفار قريش معركة بدر ، وكما في السارق الذي ينحصر دفعه بالقتل .
رابعاً : القصاص من الجاني , قال تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
خامساً : القتل في سبيل الله وطاعة له سبحانه ، وهو أسمى مراتب مغادرة الدنيا ، وقد فاز به شهداء الإسلام في معركة أحد .
الجهة الثانية : توالي فضل الله عز وجل على الشهداء وإحساسهم به بدليل أنهم يفرحون به ، ترى ما هي النسبة بين الرزق الذي تذكره آية البحث وبين فضل الله الذي ورد في الآية التالية ، الجواب أنها نسبة العموم والخصوص المطلق ، إذ أن فضل الله أعم وأكثر وأعظم من الرزق الذي أختتمت بذكره آية البحث .
فمن فضل الله عز وجل على الشهداء عدم حصر نعم الله عليهم بآية البحث وإخبارها عن حياتهم عند الله ، وأنهم يرزقون في الآخرة ، بل تعقبتها الآية التي تبين توالي فضل الله عز وجل على الشهداء .
وهل يدل فرحهم هذا على أنهم لم يحتسبوا هذه النعم ، الجواب نعم ،وتدل عليه الآية التالية بذكرها لفضل الله ، والفضل هو النافلة و الزيادة .
الجهة الثالثة : غبطة واستبشار الشهداء بما أنعم الله عز وجل به عليهم وشوقهم للحوق أصحابهم لهم ليروا ما هم فيه من الخير والفضل الإلهي ، وهل يدل هذا الشوق على تمنيهم تقريب وقرب أجال أصحابهم ، الجواب لا ، فمن خصائص تقييد حياتهم بأنها عند الله إدراكهم وتسليمهم بقانون [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ).
وهل يستبشر الشهداء بقوله تعالى في آية البحث [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) الجواب نعم من جهات:
الأولى : نزول آية البحث .
الثانية : مخاطبة آية البحث للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : لحوق المسلمين والمسلمات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مضامين آية البحث .
الرابعة : معرفة الأجيال المتعاقبة وإلى يوم القيامة لقانون وهو قتل شهداء معركة أحد في سبيل الله لبقاء آية البحث سالمة من التحريف والتبديل والتغيير إلى يوم القيامة .
الخامسة : إرتقاء الشهداء إلى مرتبة عند الله يتوجه معها النهي من الله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيما يخص الإعتقاد القلبي والتصور الذهني بخصوص الشهداء .
السادسة : بيان عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله وبين الناس وإلى يوم القيامة .
فاذا جاء النهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تقيد الناس بمضامينه وامتنعوا عما نهى الله عز وجل عند رسوله .
وهل في الآية دعوة للمسلمين لسؤال شفاعة الشهداء لهم , الجواب نعم لأنهم عند الله عز وجل .
وذكر الآية حياة الشهداء بأنهم[أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ] وعند ظرف مكان والله عز وجل منزه عن المكان والجهة للزوم الحال في المحال الحد والتعيين ، ولكن الله عز وجل موجود في كل مكان ، وهناك مسائل :
الأولى : هل يكون الشهداء في مكان مخصوص في الآخرة .
الثانية : هل يتحرك ويتنقل الشهداء في الآخرة حتى على القول بأنهم أجسام روحانية .
الثالثة : هل يزور الشهداء الحياة الدنيا وأهلها .
أما الأولى فالجواب عليها بلا ، لأصالة الإطلاق المكاني في الظرف (عند) في آية البحث .
وأما الثانية فالجواب نعم ، والذي يكون عند الله عز وجل لا يبقيه ساكناً عديم الحركة [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
وأما الثالث فالجواب نعم ، فان الشهداء يزورون أهليهم ويطلون عليهم، ويستبشرون بما عندهم من الخير والبركة ، وهل يبين الله عز وجل للشهداء الفضل الإضافي الذي يأتي لعوائل الشهداء ببركة قتلهم في سبيله تعالى , وقربة إليه .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] ( ) أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو فضل الله عز وجل على ذات أشخاص الشهداء ، الجواب هو الأول.
وسيأتي مزيد بيان في الجزء التالي وهو الثامن والخمسون بعد المائة من التفسير ( )
ولو قالت الآية (أحياء يرزقون ) لتبادر إلى الذهن أنهم أحياء في القبور، ولجأ من يصنع أجهزة تنصت حديثة داخل قبور الشهداء ، لتبين أنهم في حال سكون مطبق ، وليس من حركة لا داخل القبر ولا في ذات جسد الشهيد ، لذا فمن إعجاز آية البحث البيان بتقييد حياة الشهداء بأنها عند الله عز وجل فاسقط ما في أيدي المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، وفي التنزيل [إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ] ( ).
ولم تقل الآية (أحياء عند الله ) إنما قالت [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ] لبيان أن حياتهم أبهى وأحسن حياة وان هذه الحياة جزاء لهم على إيمانهم واخلاصهم وتفانيهم في طاعة الله وبذلهم النفوس في سبيله تعالى .
ولو قالت الآية (احياء عند الله )ووقفت ولم تذكر الرزق لقيل بأنهم أحياء بالروح وحال تجريد إنما ذكرت الآية مجئ الرزق لهم .
بحث بلاغي
يرد في البلاغة إصطلاح (الإطراد ) بأن تأتي باسماء الممدوح وتذكر آباءه حسن ترتيب الولادة والأبوة والتعاقب .
كما ورد حكاية عن يوسف في التنزيل [وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ] ( ) لبيان إكرام آبائه والإقرار لهم بالنبوة ، وبيان عظيم منزلته وأن السجن والظلم لا ينقص من شأنه وأهليته لتأويل الرؤيا والدعوة إلى الله حتى وهو في السجن .
وكقول الشاعر :
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم … بعتيبة بن الحارث بن شهاب)( ).
فقد ذكر هدمه لملكهم .
ولابد من تعيين اصطلاح خاص بتوالي النعم في علم البلاغة ، ويمكن أن نسميه (التداخل) بأن تتبع النعمة من عند الله وتتداخل معها نعمة بل نعم أخرى , ومنه آية البحث إذ تتوالى فيها النعم على كل من :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : المسلمون والمسلمات .
الثالث : الصحابة الذين خرجوا لمعركة أحد ، فان قلت يشملهم الوجه الثاني أعلاه والجواب هذا صحيح ، ولكن النعم الإلهية التي تأتيهم تتصف بالتعدد بحسب اللحاظ من جهات :
الأولى : التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : هجرة المهاجرين إلى المدينة , ونصرة الأنصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها بلحاظ أن كل الذين خرجوا إلى معركة أحد من المسلمين إما أن يكون مهاجراً أو أنصارياً ، وتلك آية في إكرامهم ، وقد شرّفهم الله عز وجل إذ ذكرهم بهذه التسمية كما في قوله تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ] ( ).
الثالثة : صفة الإيمان وبين صفة الإسلام وبينها عموم وخصوص مطلق ، فكل مؤمن هو مسلم وليس العكس .
الرابعة : المبادرة إلى الخروج إلى القتال يوم معركة أحد تحت لواء النبوة ، ومن تخلف عن معركة بدر جاءه الفرج والمندوحة يومئذ للجهاد في سبيل الله ، قال تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ) .
فان قيل أي فرج وقد قتل منهم يومئذ سبعون , وتغشتهم الجراحات , ورد الجواب في آية البحث .
قانون (بل أحياء)
من خصائص الحياة الدنيا أمور :
الأول: دلالة ولادة الإنسان فيها باستثناء آدم وحواء في آية تشير إلى عظيم قدرة الله عز وجل وبيان لقانون تعدد كيفية خلق الإنسان والتباين في موضعه ومحله ، وليكون خلق آدم وحواء نوع بركة تتغشى ذريتهما في كل زمان ، وأمارة على عودة الناس إلى عالم الآخرة ، ودخول المؤمنين الجنة التي خلق الله عز وجل فيها آدم وحواء بلحاظ أن آدم كان نبياً رسولاً ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) عندما تساءلوا عن كيفية صيرورة الإنسان خليفة في الأرض مع أن شطراً من الناس [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) .
فقد جعل الله عز وجل ثواب المؤمنين الجنة , وأما الذين اشاعوا الفساد في الأرض من الكفار والمنافقين فمصيرهم العذاب [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
وهل يشمل إحتجاج الملائكة في الآية أعلاه من سورة البقرة الذين يفسدون في الأرض ثم يتوبون إلى الله كما لو خرج بعض الذين كفروا مع المشركين في معركة أحد ثم أسلم وأحسن إسلامه.
الجواب إنما يشملهم قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) أي أن الله عز وجل فتح باب التوبة للناس ، ومن أدركته يمحو الله عنه ما فعل من السيئات ويثيبه على فعل الصالحات ، ومن الآيات أن الشواهد في المقام وفي أي زمان أعم من أن تحصى.
الثاني : إتصاف الحياة الدنيا بالبهجة , كما تبعث الإنسان على طول الأمل.
الثالث : إمتناع الدنيا عن أخذ الإنسان معه شيئاً منها إلى دار الآخرة إلا العمل للميزان ، قال تعالى[وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ]( ).
الرابع : تعدد ضروب الزينة في الحياة الدنيا، قال تعالى[الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا]( ).
الخامس : مداهمة الإبتلاء للإنسان سواء على نحو دفعي ومفاجئ، أو مجيئه على نحو التدرج , فمن خصائص الدنيا إجتماع الفرح والحزن، والسراء والضراء.
السادس : الدنيا دار الآيات والبراهين في الدعوة إلى الإيمان والصلاح، وهو من أحلى وأبهى ما فيها قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
ومن إعجاز القرآن دعوة آية البحث للتوبة والإنابة ، وهل تشمل هذه الدعوة جيش المشركين الذي هجم على المدينة في معركة أحد ، وبالأخص الذين شاركوا في قتل الشهداء السبعين ، الجواب نعم .
وهو من أسرار نزول آية البحث بعد واقعة أحد من غير فترة ومدة ، فما أن عاد جيش المشركين إلى مكة من معركة أحد حتى توالت عليهم أخبار وأمور منها :
الأول : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلفهم ومتعقبين لهم لقتالهم.
الثاني : نزول آيات القرآن التي تتضمن بيان وقائع معركة بدر وأحد وحال المسلمين فيها ، والخزي الذي لحق الذين كفروا ، وعندما قال تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) لا تجد رداً أو نفياً من المشركين ، وهل تزيد الآية أعلاه في خيبة وحسرة وأسى الذين كفروا ، الجواب نعم .
الثالث : إنتفاء الحزن والمآتم في المدينة على الشهداء لتفضل الله بالإخبار عن حياتهم عنده ، وفي ظل عرشه .
وهل تصل إلى مكة الآيات والحوار الذي يجري بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، الجواب نعم، وهو من معجزاته بأن يقوم المسلمون وغيرهم بنقل كلام الله ، وأخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال لجابر: يا جابر، ألا أبشرك؟ قال، قلت: بلى بأبي وأمي؟ قال: فإن الله أحيا أباك. ثم كلمه كلاماً فقال: تمن على ربك ما شئت. فقال: أتمنى أن أرجع فأقتل مع نبيك، ثم أحيا فأقتل مع نبيك. قال: إني قد قضيت أنهم لا يرجعون)( ).
وفي معركة بدر وبينما كان حارثة بن سراقة أحد بني عدي بن النجار يشرب الماء من الحوض ، جاءه سهم غرب أي غير معروف من رماه أو أنه لا يقصد به حارثة ، فوقع في نحره ، فمات .
فبلغ الخبر أمه وأخته في المدينة قبل أن يعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إليها .
فقالت أمه: والله لا أبكي عليه حتى يقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسأله أين ابني الآن ، فان أخبرني أنه في الجنة لم أبك عليه ، أو أنه في النار فأني أبكيه وأرثيه ، ولعل قولها هذا بسبب أنه لم يقتل في المبارزة وملاقاة العدو ، إنما كان على الحوض.
وعن أنس: أن حارثة بن سراقة قتل يوم بدر وكان في النظارة، أصابه سهم غرب فقتله، فجاءت أمه فقالت: يا رسول الله أخبرني عن حارثة، فإن كان في الجنة صبرت وإلا فليرين الله ما أصنع، يعنى من النياح، وكانت لم تحرم بعد.
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ويحك أهبلت، إنها جنان ثمان، وإن ابنك أصاب الفردوس الاعلى)( ).
علم المناسبة
ورد لفظ [أَحْيَاءٌ]خمس مرات في القرآن ثنتين منها تتعلق بالشهداء ، قال تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ] ( ).
إذ تتوجه الآية أعلاه في الخطاب إلى المسلمين والمسلمات لعطفها على الآية السابقة لها والتي تتضمن نداء الإكرام والتشريف بصفة الإيمان بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] ( ) لبيان الصلة بين التحلي بالصبر وتلقي نبأ قتل طائفة من المؤمنين في سبيل الله والتسليم بأنهم أحياء عند الله ، فيترشح هذا التسليم من الجمع بين أمور:
الأول : صفة الإيمان .
الثاني : شكر الله عز وجل للمسلمين على إيمانهم ، إذ أن نداء الإيمان [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] لم يأت إلا ومعه نعم كثيرة وفضل عظيم من عند الله .
الثالث : التحلي بالصبر وإتخاذه واسطة ونوع طريق لتحمل ضروب الأذى والبلاء .
الرابع : أداء الصلاة والفرائض الأخرى .
الخامس : مجئ المدد والعون من عند الله للصابرين .
وقال تعالى [أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا] ( ) والكفات هو ما يجَمع ويضم كالوعاء ويقال كفت شعره إذا ضم بعضه إلى بعض وشده ، للدلالة على أن الأرض تضم الناس الأحياء على ظهرها ، وتضم الأموات في باطنها و(كانوا يسمّون بقيع الغرقد كفتة لأنه مقبرة تضمّ الموتى) ( ).
كما ورد قوله تعالى [وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ] ( ) لبيان التباين بين المؤمنين والذين كفروا بلحاظ أن الإيمان حياة للقلب ومناسبة للعمل الصالح , ويتخذ المؤمن الدنيا مزرعة للآخرة بخلاف الكفار الذين هم كالأموات .
ومن معاني الجمع بين الآية أعلاه وآية البحث أن الذين قتلوا في سبيل الله هم أحياء , وحياتهم هذه أفضل وأسمى من الذين كفروا من أهل الدنيا ولم يغادروها بعد .
قوله تعالى [يُرْزَقُونَ]
وفيه إكرام آخر لشهداء أحد بأن يأتيهم رزقهم وهم عند الله، ولم تقل الآية : يرزقهم الله، إنما ذكرت الرزق بصيغة المبني للمجهول لتسليم المسلمين بأنه لا يرزق الشهداء غير الله عز وجل.
وهل في الآية رزق للأحياء من المسلمين، الجواب نعم، لما فيها من البشرى والطمأنينة لهم، ودفع الحزن ومنع السخط عنهم بسبب مغادرة نفر من الصحابة الدنيا في معركة أحد، وفيه بعث لروح التضحية والفداء في نفوس المؤمنين لملاقاة الذين كفروا والدفاع عن الإسلام.
ومن منافع آية البحث عجز جيش الكفار عن إختراق الخندق ودخول المدينة في معركة الأحزاب مع أن عددهم كان عشرة آلاف رجل وهو عشرة أضعاف عددهم في معركة بدر، وأكثر من ثلاثة أضعاف عددهم في معركة أحد.
لقد غادر شهداء أحد في السنة الثالثة للهجرة , والمسلمون في حال عوز وضيق وأن ساعدت غنائم معركة بدر ونصرهم فيها على إصلاح إحوالهم على نحو الموجبة الجزئية، ولم تلبث الأيام أن تمر على الصحابة حتى صاروا في عز ظاهر، وتكاثرت ونمت أموالهم بسرعة، فكانت هذه النعم سبباً لغبطة وسعادة الشهداء، وهو من عمومات قوله تعالى[وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ]( ) .
ولا يتعارض هذا التأويل مع المعنى الحقيقي والظاهر لإرادة الفرح والغبطة بقرب قدوم المؤمنين عليهم إلى دار المقام.
لقد بينت آيات القرآن قانوناً وهو أن الناس يعجزون عن عدّ وإحصاء نعم الله عز وجل عليهم بقوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] .
ومن الإعجاز أن الآية أعلاه وردت مرتين في القرآن ( )، وكلاهما خطاب للناس جميعاً وبياناً للآيات الكونية ، وفضل الله عز وجل فيها على الناس .
وكذا فان الناس يعجزون عن إحصاء رزق الله عز وجل للذين قتلوا في سبيل الله في معركة أحد ، لذا جاءت آية البحث بصيغة التنكير [يُرْزَقُونَ] ويحتمل هذا الرزق في متعلقه والجهة التي تنتفع منه وجوهاً :
الأول : إرادة خصوص الشهداء .
الثاني : المقصود الصحابة الذين خرجوا إلى معركة أحد .
الثالث : إرادة المؤمنين والمؤمنات أيام معركة أحد .
الرابع : المراد عموم المسلمين والمسلمات .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث ، ليكون من إعجاز آية البحث أنها تتضمن البشارة للمسلمين ، والتخويف والإنذار للذين كفروا .
لقد أختتمت آية البحث بفعل من الأفعال الخمسة ، ولكنه مدرسة وشجرة يانعة من العلوم ينهل منها العلماء خاصة والمسلمون عامة المسائل والمواعظ والثمار ، من غير أن تنتهي ثمارها ومع أن موضوع الرزق في الآخرة , وليس خاصاً بالشهداء الذين قتلوا في معركة أحد فانه دعوة للتوبة من جهات :
الأولى : معاني خاتمة آية البحث .
الثانية : دلالات خاتمة البحث .
الثالثة : مصاديق الرزق الذي يتفضل به الله عز وجل على الشهداء (عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهَرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) ( ).
الرابعة : منافع قوله تعالى [يُرْزَقُونَ]على عوائل الشهداء .
الخامسة : المسائل المستنبطة من خاتمة آية البحث .
السادسة : الرزق الكريم الذي يأتي للمسلمين والمسلمات من قوله تعالى [يُرْزَقُونَ] .
السابعة : بعث آية البحث المسلمين على الدعاء والمسألة من وجوه :
الأول : سؤال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يرزقهم في الدنيا مثل الذي يرزق الشهداء في الآخرة .
الثاني : الدعاء بالفوز بذات الرزق الذي أنعم الله عز وجل به على الشهداء .
الثالث : سؤال الله إستمرار وتوالي ومضاعفة رزقه لشهداء أحد .
الرابع : سؤال الله أن يرزق الآباء والأموات والمؤمنين الذين فارقونا بالموت على الفراش بالرزق الكريم الذي تفضل به سبحانه على الشهداء .
ترى لماذا لم تقل الآية يرزقهم الله ، والجواب من جهات :
الأولى : ليس من رزاق في الآخرة إلإ الله عز وجل .
الثانية : إرادة تجدد الرزق .
الثالثة : مجئ الآية بصيغة المبني للمجهول [يُرْزَقُونَ]دليل على تولي الملائكة العناية بالشهداء وهم عند الله عز وجل ، وقد وردت مادة رزق في القرآن بصيغة متعددة بالفعل الماضي والمضارع والأمر ، ولكن لم يرد في القرآن لفظ [يرزقهم] بينما ورد لفظ [يرزق] أربع مرات ، ويرزقكم خمس مرات ، قال تعالى [هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]( ).
الرابعة : من معاني قوله [يُرْزَقُونَ] مجئ ذات الرزق إلى الشهداء بأمر ومشيئة من عند الله للرزق ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
بحث بلاغي
من وجوه البديع عطف البيان وهو تابع يوضح ويبين متبوعه ويكون مكملاً له من غير أن يكون صفة له ، وقد يأتي تابع ولكنه لا يكون توضيحاً للمتبوع فلا يصدق عليه أنه عطف بيان , وأختلف هل يجب ان يكون عطف البيان أخص من متبوعه أو لا .
والصحيح هو الثاني إذ عطف البيان في الجواب بمنزلة النعت في المشتق ، وقد يكون المنعوت أخص من النعت .
والعطف لغة الرجوع ، والإنصراف والعودة والميل والإنشقاق وسمي عطف البيان لأنه رجوع إلى الأول وتوضيح له .
وقد ذكر سيبويه ت (180) هـ عطف وبيان بوجوه :
الأول : الصفة .
الثاني : البدل .
الثالث : العطف .
الرابع : عطف البيان .
لقد وصفت آية البحث شهداء معركة أحد بأوصاف وهي :
الأولى : القتل في سبيل الله .
الثانية : شهداء أحد أمواتاً .
الثالثة : شهداء معركة أحد أحياء .
الرابعة : إنهم أحياء عند الله عز وجل .
وذكر الله عز وجل في آية البحث بأنه ربهم لكفايته لهم ، وتفضل باكرامهم ولبيان حبه لهم .
الخامسة : توالي الرزق للشهيد وهم عند الله عز وجل ، فهل يمكن أن ينزّل قوله تعالى [يُرْزَقُونَ] منزلة عطف البيان لأحياء ، الجواب بينهما عموم وخصوص مطلق ، فالحياة أعم .
ويحتمل الأمر من جهة المقارنة في النعمة وجوهاً:
الأول : حياة الشهداء عند الله أكبر من رزقهم .
الثاني : رزق الشهداء في الآخرة أكبر من حياتهم التي تذكرها الآية .
الثالث : إرادة التساوي بين النعمتين .
الرابع : وجود نعم أخرى للشهداء عند الله أكبر وأعظم من الحياة والرزق .
والمختار هو الأول والرابع أعلاه.
قانون [يُرْزَقُونَ]
ترى ما هي مصاديق الرزق من عند الله عز وجل ، وفيه وجوه كثيرة ومتجددة منها :
الأول : ذات الحياة عند الله رزق .
الثاني : إستدامة حياة الشهداء عند الله .
الثالث : الطيبات من الأكل والشرب .
الرابع : الحركة والإنتقال .
وهل يكون هذا الإنتقال في الجنة ، الجواب الشهداء أحياء في عالم البرزخ ، لذا فمن إعجاز الآية أنها قالت أنهم [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ].
الخامس : دعاء ومسألة الشهداء لإخوانهم وذراريهم ، وهو من الآيات في مؤاخاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار ، وهناك من آخى بينهما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقتلا معاً يوم معركة بدر فقد (آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين عاقل وبين مبشر بن عبد المنذر، فقتلا معا ببدر ) ( ) وكان اسم عاقل غافلاً فأبدله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمّاه عاقلاً .
السادس : بلوغ دعاء الصالحين في الدنيا للشهداء وترتب الأثر العاجل والآجل عليهم بفضل من عند الله ، إذ يزيد هذا الدعاء في رزق الشهداء .
السابع : معرفة الشهداء ببعض أحوال إخوانهم المؤمنين في الدنيا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
الثامن : رزق الشهداء في ذراريهم ونشأتهم وتربيتهم , فكأن الشهداء يكسبون لهم أسباب الرزق ويتعاهدون تربيتهم , ويحرصون على أدائهم الفرائض والمناسك .
فمن قتلى أحد حنظلة بن أبي عامر الغسيل إذ التقى مع أبي سفيان بالسيف في ميدان المعركة ، واستعلاه حنظلة وكاد يقتله ، ولكن مرآة شداد بن الأوس فادرك وأنجد أبا سفيان وقام بضرب حنظلة فقتله ، وكانت أول مفاخر حنظلة بعد القتل في سبيل الله مباشرة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (ان صاحبكم يعنى حنظلة لتغسله الملائكة فسئلت صاحبته فقالت خرج وهو جنب حين سمع الهاتفة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك غسلته الملائكة) ( ).
فولد لحنظلة ابنه عبد الله ، وتوفى رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم وعمر عبد الله سبع سنوات ، وقد رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يتصف بالورع والتقوى وروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أمر بالوضوء عند كل صلاة، فلما شق عليه أمر بالسواك وكان عبد الله بن حنظلة يتوضأ لكل صلاة ) ( ).
التاسعة: يرزق الله الشهداء بما يعجز الناس عن معرفة كنهه فضلاً عن العجز عن إحصائه ، ولسعة هذا الرزق جاءت الآية بصيغة التنكير [يُرْزَقُونَ] ، وهل يجوز دعاء المسلم بأن يرزقه الله عز وجل ما رزق ويرزق الشهداء عنده وفي حضرة القدس أم هناك تباين موضوعي وأن الدعاء يكون بالأمر الملائم للحياة الدنيا .
الجواب هو الأول ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) وكأن آية البحث دعوة للمسلمين للتوسل إلى الله عز وجل بأن يرزقهم ما رزق الشهداء وإذا كانت النساء غير مأمورات بالقتال ، وأن قتل الشهداء في وسط الميدان فهل يحق للمسلمات السؤال بأن يرزقهن الله ما رزق الشهداء من الثواب والمنزلة الرفيعة .
الجواب نعم ، وهو من عمومات الآية أعلاه لتوجه الخطاب فيها [ادْعُونِي] للمسلمين والمسلمات , ولا ملازمة بين سقوط القتال عن النساء وبين دعائهم بالأجر والثواب الذي فاز به الشهداء .
وهل يصح تقدير الآية على وجوه :
الأول : أحياء عند ربهم يرزقون ما تسألون لهم .
الثاني : يرزقون رؤية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم في عالم الآخرة .
الثالث : يرزقون معرفة آيات القرآن التي تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكأنهم في الحياة الدنيا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أَحْيَاءٌ].
الرابع : يرزقون من فضل الله .
الخامس : يرزقون في كل يوم غير الذي رزقوا في اليوم الذي سبقه .
السادس : يرزقون ما لا عين رأت ولا أذن سمعت .
السابع : يرزقون شفاء صدورهم من عدوهم وبطش الله بالمشركين .
الثامن : يرزقون بدائل عنهم من المؤمنين يقاتلون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،وفيه بعث للغيظ في قلوب الذين كفروا .
التاسع : يرزقون ما يكون سبباً لغزو الخوف والفزع والرعب إلى قلوب الذين كفروا .
العاشر : عهد من الله عز وجل للشهداء بأنهم يرزقون عنده.
الحادي عشر : يرى الملائكة الشهداء كيف أنهم عند الله يرزقون ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) في إحتجاجه سبحانه على الملائكة يوم خلق آدم .
الثاني عشر : يرزقون بما يبعث لسكينة في نفوس المؤمنين .
الثالث عشر : يرزقون بما يمنع الحسرة والأسى من الطرو على مجتمعات ومنتديات المسلمين بفراقهم .
الرابع عشر : يرزقون ثواب الصلاة والعبادات الأخرى كما لو كانوا أحياء في صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه وجوه محتملة :
أولاً : يكتب الله عز وجل لهم أجر الصلاة الأخرى عن كل يوم من أيام الحياة الدنيا ، وصيام كل شهر رمضان من سني الحياة في الدنيا .
ثانياً : يكتب لهم الله أجر الصلاة والعبادات الأخرى فيما لو كانوا أحياء بالأجل الذي يبقون له بعلم الله عز وجل لولا تعدي الكفار وقتلهم لهم ، كما قال تعالى [ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ] ( ).
ثالثاً : العبادات تكليف وأداء عملي يؤديه المؤمنون في الدنيا ، وإذا مات أو قتل المسلم انقطع عمله في الدنيا وانتقل إلى دار الثواب من غير عمل ، ومنهم الشهداء ، وقد يدل قوله تعالى [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] أن الله يفيض عليهم من فضله بما يكونون معه في غنى عن فعل الصالحات في الدنيا وثوابها لو لم يقتلوا.
والمختار هو الثاني ، وهو من فضل الله عز وجل ولكن يلزم الدليل عليه ، ولا ينهض تقديرنا في المقام للآية وحده لمرتبة الحجة وأن كان فضل الله عز وجل أعم من هذا التقدير .
الخامس عشر : يرزقون من فضل الله ، وفي التنزيل [زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
السادس عشر : يرزقون ما لم يرزق غيرهم من الناس .
السابع عشر : يرزقون الخير والنعم والتقوى في أبنائهم ، قال تعالى [ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
الثامن عشر : يرزقون من الطيب الذي لا يرد.
التاسع عشر : يرزقون لبيان حاجتهم وأهل الآخرة جميعاً للرزق والفضل من عند الله عز وجل.
العشرون : يرزقون بما يدل على [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]( ).
الحادي والعشرون : قد ورد في الثناء على المؤمنين قوله تعالى[وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]( ) فهل ينفق الشهداء مما رزقهم الله عز وجل في الآخرة، أم أن الأمر مختلف .
المختار هو الأول، نعم قد يكون هذا الإنفاق بالدعاء أو التوسل أو الشفاعة والعفو , وهل ينفق ويعطي الشهداء من حسناتهم لغيرهم في الآخرة، الجواب لا دليل عليه، لحاجة كل إنسان إلى حسناته، قال تعالى[يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ]( ).
وقال تعالى[وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ]( ) فهل يكون من رزق الله لهم، ما يتفضل الله به من النعم على أيتامهم , الجواب نعم.
وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : يرزقون في أولادهم .
ثانياً : يرزقون ما كان يأتيهم لو كانوا في الحياة الدنيا ولم يقتلوا .
ثالثاً : يرزقون دفع الفقر والفاقة عن أبنائهم ومَن خلفهم.
رابعاً : يرزقون الآيات القرآنية التي توصي باليتامى، قال تعالى[يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابن السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( ) .
وأعطى الله عز وجل اليتامى مرتبة الأخوة للمؤمنين مع أن منهم أبناء الشهداء لبيان أنهم نالوا درجة آبائهم في المنزلة وعند المجتمع ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [يُرْزَقُونَ]الجواب نعم .
وفي حديث الإسراء فمررت بأقوام لهم مشافر كمشافر الإبل قد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار ثم يخرج من أسافلهم فسمعتهم يضجون إلى الله
قلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء من أمتك الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) ( ).
(قَالَ ابن هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ قَالَ أُقْحِطَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَيْهِ فَصَعِدَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمِنْبَرَ فَاسْتَسْقَى،
فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ مِنْ الْمَطَرِ مَا أَتَاهُ أَهْلُ الضّوَاحِي يَشْكُونَ مِنْهُ الْغَرَقَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا ، فَانْجَابَ السّحَابُ عَنْ الْمَدِينَةِ ، فَصَارَ حَوَالَيْهَا كَالْإِكْلِيلِ
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ . لَوْ أَدْرَكَ أَبُو طَالِبٍ هَذَا الْيَوْمَ لَسَرّهُ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ كَأَنّك يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَدْت قَوْلَهُ
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ … ثِمَالَ الْيَتَامَى عِصْمَةً لِلْأَرَامِلِ
قَالَ أَجَلْ) ( ).
الثاني والعشرون : من خصائص أهل الدنيا أنهم يأتيهم الرزق من الله برهم وفاجرهم .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (يقول الله : كذبني ابن آدم ولم ينبغ له أن يكذبني ، وشتمني ولم ينبغ له أن يشتمني ، أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أوّل الخلق بأهون علي من إعادته ، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً , وأنا الله الأحد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ) ( ).
ويأتي رزق الله عز وجل حتى للذين كفروا الذين قاموا بقتل شهداء بدر وأحد ، ولأن الله هو العدل والحاكم بالحق والكريم ، فقد أبى أن ينفرد هؤلاء الكفار بالرزق في الدنيا ، وقد حرموا منه الشهداء من المهاجرين والأنصار ، فتفضل الله ورزق الشهداء ما هو أعظم من رزق الدنيا وحلاوته ، وقد انقضت أيام هؤلاء وانقطع رزقهم في الدنيا ، فيلجون إلى عالم الحساب والعقاب ، أما الذين قتلوا في سبيل الله فان رزقهم متصل في كل أيام الدنيا والآخرة .
الثالث والعشرون : لقد توجه إبراهيم عليه السلام بالدعاء للمؤمنين وأهل البيت الحرام كما ورد في التنزيل [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ) لبيان أن الرزق الذي تذكره آية البحث أعم وأعظم وأكبر مما ورد في دعاء إبراهيم ،وفيه بشارة للمسلمين .
(أنه لما دعا إبراهيم بمكة أن يرزق أهله من الثمرات نقل الله أرض الطائف من الشام فوضعها هنالك رزقاً للحرم .) ( ).
وقد تجلت في هذا الزمان أنواع من الرزق والنعم على أهل البيت الحرام وفتح الله عز وجل لمن حوله خزائن الأرض ، لتكون مناسبة لشكر الله عز وجل .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [يرزقون] في آية البحث أم أن القدر المتيقن منها ما يرد على الشهداء أنفسهم من الرزق ، المختار هو الثاني .
جهاز كشف الكذب polygrph
صُنع في هذه الأزمنة جهاز لكشف الكذب وأخترع عام 1921 م وليس في وظيفته وأثره ما يدل على موافقة الاسم للمسمى إلا على نحو الموجبة الجزئية والفرد القليل .
فلا يقدر هذا الجهاز على كشف الكذب ، إنما يقوم بتسجيل حال الشخص المستجوب والتغير الذي يطرأ عليه في التنفس وضغط الدم وبشرة الوجه وسرعة النبض لتكون أمارات على صدقه أو كذبه .وأستخدم رجال الشرطة والتحقيق هذا الجهاز وجعلوه دليلاً أو شبه دليل ولا زال هذا الجهاز محل خلاف في استعماله واللجوء إليه ووثاقته ، وأصدرت الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة عام 2001 م تقريراً تبين فيه زيف وعدم دقة وأثر هذا الجهاز ، ولكنه لم يمنع استعماله في أمور أخرى مثل اختيار المرشح للعمل في مؤسسات ذات شأن حساس ، كما يمكن التمرين للتغلب على هذا الجهاز باخفاء الجناية والجريمة من غير أن يطرأ على المُستنطق والمُستجوب أي تغيير في دمه وبشرته ونحوها .
ومن الطريف في الأمر أنه حكم على ضابط شرطة سابق بالسجن لمدة سنتين بسبب موافقته لمكيدة بعرض بعض موظفي المخابرات عليه تدريبهم لإخفاء جرائم موهومة لهم .
نعم تختلف حال صاحب الجناية أمام الجهاز عمن يكون بريئاً أو يأتي للجهاز للتجربة ، وقد يكون التغييرات الفسيولوجية التي تحدث للصادق عند الإجابة وتفاعله معها مؤشراً عند جهاز كشف الكذب بأنه كاذب .
وقد يعطى المستنطق عدة قصاصات وفي إحداها ذات الرقم والعدد المتعلق بالجريمة ، فمثلاً هناك سرقة مقدار معلوم من المال ، فتعطى له قصاصات فيها أرقام عشوائية ، ثم تعطى له قصاصة فيها رقم المبلغ الذي تم سرقته ، ليرى ما يحدث له ، ولكن قد يكون هذا الرقم معلوماً عنده أو يحتمل له حالة أخرى ، أو أنه يسرح ذهنه وقت السؤال للتفكير في أمور أخرى .
إن جهاز كشف الكذب ليس بحجة شرعية ولا قانونية ولو أخبر الإنسان عن خلاف ما توصل إليه جهاز كشف الكذب عنه ، فالأصل هو إخباره إى أن تقوم بينه على خلافه .
ومن الإعجاز في القرآن إخبار الله عز وجل على علمه بما في القلوب ، وفي التنزيل [يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ] ( ) فلم تكتف آية البحث بالإخبار عن علم الله عز وجل بما يقول ويفعل المنافقون بل ذكرت قانوناً وهو أن الله عز وجل يعلم ما يخفون في صدورهم من الغل والحسد ونوايا السوء والشر ، مما يدل على الوعيد والتخويف لعموم الذين نافقوا وينافقون .
وفيه بعث للسكينة في نفوس المؤمنين ، ودعوة لهم للصبر والحلم على أهل النفاق والمقرون بوعظهم وأمرهم بالتلبس بالتقوى والصلاح ، وزجرهم عن الخداع والمكر والعداوة الخفية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لتكون آية البحث من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
فمن مصاديق عزة المؤمنين السلامة من النفاق والوقاية من أهله وشرورهم ، وهل يكشف القرآن ما يكتم ويخفي المنافقون الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن إذ نزل قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة وليس من تصنيع وآلات للتسجيل ونحوه ، ولكن آيات القرآن بينت الخصال التي تدل على النفاق كما أن الله يبتلي المنافقين بما يفضحهم ومنه معركة أحد التي نزلت بها المصيبة والخسارة بالمسلمين لتكون موعظة وعبرة ومناسبة للثناء على المؤمنين ، وفضح المنافقين كما في الآيتين السابقتين [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] ( ).
وقوله تعالى [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] ( ) جملة حالية ، وقد ورد في التنزيل قوله تعالى [وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ] ( ) أي ما تخفون ما تغيبون وتسرون .
(عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو أن رجلاً عمل عملاً في صخرة صماء لا باب فيها ولا كوة خرج عمله إلى الناس كائنا ما كان) ( ).
والغاية من جهاز كشف الكذب إظهار الإنسان ما يحذر منه ، وما يمتنع عن البوح به ، وقد ذكر القرآن وعداً ووعيداً بكشف ما يخاف إظهاره المنافقون كما في قوله تعالى [يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ] ( ).
وجاءت الآية أعلاه بصيغة الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يحذرهم ويقول لهم ، وذات المعنى ورد في آية البحث بأن يقول لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أدرءوا عن أنفسكم الموت ) وهل فيه وعيد للمنافقين بخصوص كشف كذبهم .
الجواب نعم لقوله تعالى [الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ]( ).
في علم الفلك
يسبح كل كوكب أو نجم أو قمر من الأجرام السماوية بحمد الله ويَسبح في أفلاكها ، ليكون كل من التسبيح والسبح مقدمة للآخر , من غير أن يلزم الدور بينهما , قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] ( ) .
وليسبح الكوكب الأصغر بفلك الجرم السماوي الأكبر منه ، ثم يسبحان معاً في فلك الجرم الذي هو أكبر منهما وهكذا ، وقيل أن القمر يسبح في فلك الأرض وهي أكبر منه حجماً وسعة ليسبحا معاً في فلك الشمس التي هي أكبر منهما ، وتسمى المجموعة الشمسية أو النظام الشمسي، وتدخل فيها أيضاً النيازك والمذنبات وسحب من الغاز والغبار وتكون الشمس مركز هذا النظام وترتبط الكواكب بجاذبيتها وهي التي تبعث الضياء والحرارة لتصبح الحياة على الأرض ممكنة ، وقيل أن كتلة الشمس تبلغ أكثر من 99% من كتلة هذا النظام بأكمله ، والكواكب التي فيه حسب البعد عن الشمس :
الأول : كوكب عطارد , ويتصف بصفات :
الأولى : إنه أقرب كواكب المجموعة الشمسية إلى الشمس , ويبعد عنها نحو 58 مليون كم .
الثانية : إنه أصغر كواكب المجموعة الشمسية , ويبلغ قطره خمسي قطر الأرض , وهو أكبر من القمر .
الثالثة : ليس من أقمار تابعة إلى عطارد وليس له غلاف جوي .
الرابعة : خمول عطارد .
الخامسة : شدة حرارة عطارد بسبب قربه من الشمس ، ومع هذا قيل ببعض الأمارات التي تدل على وجود الجليد عليه .
السادسة : يمكن رؤية عطارد بعد غروب الشمس في أيام من السنة بساعة قريباً من كوكب الزهرة باتجاه الأفق الشمالي الغربي .
السابعة : أنه أسرع الكواكب دوراناً حول الشمس .
الثامنة : يبلغ قطر كوكب عطارد نحو 4880 كم ، وتشبه صفاته القمر لما فيه من الفوهات .
التاسعة : تصل درجة الحرارة على سطح عطارد 450 درجة مئوية ، وليس له غلاف جوي لكنه يمتلك غلافاً خارجياً وأطلق عليه الإغريق القدامى اسم رسول الآلهة لقربه من الشمس وقال تعالى[لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا]( ).
الثاني : الزهرة ، ويتصف بصفات :
الأولى : يعادل حجمه حجم الكرة الأرضية تقريباً .
الثانية : أنه أقرب الكواكب إلى الأرض ، ويمكن للناس رؤيته .
الثالثة : ليس من أقمار لكوكب الزهرة .
الرابعة : ينفرد كوكب الزهرة بالدوران حول نفسه من الغرب إلى الشرق ، فتشرق عليه الشمس من جهة الغرب .
الخامسة : إحاطة كوكب الزهرة من حوله بكمية كثيفة من السحب ليكون أسخن كواكب المجموعة الشمسية ، وقيل تبلغ درجة حرارته 400 درجة مئوية .
السادسة : الزهرة ثاني أقرب الكواكب إلى الشمس .
السابعة : يبدو الزهرة للناس أكثر لمعاناً من غيره من الكواكب .
الثامنة :تتصف الزهرة بتعدد أسماءها ، كل أمة تسميها في موروثها باسم خاص فأطلق الرومان على الزهرة اسم فينوس أي إلهة الجمال وفي بابل القديمة سميت إلهة النعيم عشتار .
وسماها الأغريق إلهة الحب والخصوبة ، وسمّاها الصينيون الكوكب الأبيض الجميل .
وقد وردت نصوص عديدة في أصل كوكب الزهرة وأن أصلها إنسانة وصارت منسوخة إلى كوكب ، وعن الإمام علي عليه السلام (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لعن الله الزهرة فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت) ( ).
(عن عبد الله بن عمر: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن آدم لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة : أي رب { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون }( ).
قالوا : ربنا نحن أطوع لك من بني آدم قال الله للملائكة : هلموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان؟ فقالوا : ربنا هاروت وماروت . . . قال فاهبطا إلى الأرض ، فتمثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر ، فجاءتهما فسألاها نفسها فقالت : لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك , قالا : والله لا نشرك بالله أبداً . فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله .
فسألاها نفسها فقالت : لا والله حتى تقتلا هذا الصبي.
قالا : لا والله لا نقتله أبداً .
فذهبت ثم رجعت بقدح من خمر ، فسألاها نفسها.
فقالت : لا والله حتى تشربا هذا الخمر ، فشربا فسكرا فوقعا عليها ، وقتلا الصبي .
فلما افاقا قالت المرأة : والله ما تركتما شيئاً ابيتماه علي إلا قد فعلتماه حين سكرتما . فخيرا عند ذلك بين عذاب الدنيا والآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ) ( ).
لبيان أن الإسلام بيّن أصل هذا الكوكب وأنه نوع إبتلاء شديد ، وفيه تحذير للمؤمنين من إتباع النفس الشهوية وإغواء الشيطان ، وسبحان الله فان كوكب الزهرة يشبه الأرض من جهة الحجم والكتلة والكثافة والجاذبية والسنخية ، لذا سمي توأم الأرض .
الثالث : الأرض : وهو الكوكب الذي أهبط الله عز وجل عليه آدم ليكون خليفة فيه ومعه حواء، وقد أحاط الله الملائكة علماً بخلافته ، قال تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) .
وهل تدل آية الخلافة على شرف خاص تتصف به الأرض , الجواب نعم وذات التنزيل وبعثة الأنبياء على الأرض أعظم الشرف لها من بين الكواكب الأخرى .
وهو أبعد من عطارد والزهرة إلى الشمس ، وتتصف الأرض بصفات :
الأولى : الأرض خامس أكبر الكواكب .
الثانية : يتبع الأرض قمر واحد .
الثالثة : للأرض غلاف جوي فيه رياح وبرق وسحاب .
الرابعة : للأرض غلاف من مغناطيس يقيها الرياح الشمسية الحارقة .
الخامسة : تغمر المياه أكثر سطح الأرض .
السادسة : نزل الملائكة إلى الأرض لنصرة المؤمنين .
السابعة : يبلغ قطر الأرض 13000 كم تقريباً ، ويبعد عن الشمس نحو 150 مليون كم .
الثامنة : تدب الحياة على الأرض لأنها تقع على مسافة مناسبة من الشمس ، وتستديم فيها الحياة بفضل الله ، قال تعالى [وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ] ( ).
الرابع : المريخ : ويتصف بصفات :
الأولى : هو الكوكب الرابع من جهة بعده عن الشمس .
الثانية : يشبه المريخ الأرض من وجوه عديدة .
الثالثة : يظن بعض العلماء بوجود حياة على المريخ .
الرابعة : للمريخ قمران ، ولكن ليس مثل قمر الأرض , إذ أنهما صغيران جداً واسمهما (فوبوس، وديموس)وهيئتهما غير منتظمة .
الخامسة : يبعد المريخ عن الشمس نحو مليون كم ، ويتصف بلونه الأحمر , ويرجح وجود معادن ثمينة فيه .
السادسة : للمريخ قطبان متجمدان كقطبي الأرض ، وتؤثر فيه الفصول الأربعة ، لذا احتمل العلماء وجود حياة على كوكب المريخ .
الخامس : المشتري : وهو ليس من الكواكب الصخرية ويتصف بما يأتي:
الأولى : أنه أكبر كواكب المجموعة الشمسية.
الثانية : خامس كواكب النظام الشمسي في بعده عن الأرض.
الثالثة : إمكان رؤية أهل الأرض للمشتري بعد غروب الشمس بقليل فوق الأفق الغربي للسماء، وفي أعلى يسار كوكب الزهرة.
وعن يسار المشتري هناك نجم يميل ضياؤه إلى اللون الأزرق، وهو نجم الشعرى، وقد ورد ذكره في القرآن بقوله تعالى[وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى]( )، وكان ناس في الجاهلية يعبدون هذا النجم ، فنزلت الآية أعلاه لبيان أنه مخلوق لله ومنقاد لأوامره ، وتسمى هذه الشعرى: العبور، لأن هناك شعرى أخرى خافتة تسمى (الغميضاء).
وعن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في خزاعة، وكانوا يعبدون الشعرى وهو الكوكب الذي يتبع الجوزاء)( ).
وقال العرب إن سهيلاً والشعرتين كانت مجتمعة فأنحدر سهيل فصار يمانياً فتبعته الشعرى العبور فعبرت المجرة، فسمّيت العبور، فأقامت الغميضاء فبكت لفقد سهيل حتى غمضت عينها؛ لأنه أخفى من الآخر)( ).
السادس : زحل ، وهو ثاني أكبر كواكب النظام الشمسي بعد المشتري وسادسها بعداً عن الشمس ويبلغ قطر زحل عشرة أضعاف قطر الأرض ،ووزنه نحو 95 مرة من وزن الأرض ويبعد عن الشمس 1427 كيلو متر تقريباً ، ويملك زحل 62 قمراً تتباين أحجامها , منها الصغيرة التي يكون قطرها أقل من كيلو متر واحد وهي تسبح في الفضاء إلى أكبر أقمار زحل ويسمى تايتان ويبلغ قطره نحو 5150 كم .
السابع : أورانوس ، وهو سابع الكواكب في بعده عن الشمس وسُمي باسم الذي اكتشفه في أواخر القرن الثامن ، ويتصف بان له مجالاً مغناطيسياً قوياً , ويحتمل وجود محيط من الماء السائل تحته .
ويعطي لوناً أزرق مخضر بسبب وجود غاز الميثان في غلافه الجوي ويملك أقماراً عديدة وحلقات باهتة .
الثامن : نبتون ، وهو من الكواكب الغازية العملاقة ، وأبعد كواكب المنظومة الشمسية عن الشمس ، ويبعد عنها نحو أربعة مليارات كيلو متر .
ويبلغ قطره أربعة أضعاف قطر الأرض تقريباً ويملك خمسة عشر قمراً ، ويكون ترايتون أكبر أقماره , ومجاله المغناطيسي مشابه لمجال كوكب أورانوس .
وقد أوجد علماء الفلك في عام 2006 تقسيما جديداً لأجرام المجموعة الشمسية من وجوه:
الأول : الكواكب: وهي التي تملك مدارات حول الشمس ولها كتلة وجاذبية تكفي للتوازن فيها، وتنظيف مدارها من الأجرام المجاورة ، ومفردها الكوكب.
الثاني : الكواكب القزمة: وبينها وبين الكواكب في الأول أعلاه عموم وخصوص مطلق إذ يجمع بينهما تملك مدارات حول الشمس ولها جاذبية ذاتية كافية للتوازن، ولكنها تفتقر لمرتبة من الجاذبية تنظف مداراتها من الأجرام المجاورة ، ولا يسيطر الكوكب القزم على ما يحيطه من الكويكبات، وهو ليس قمراً تابعاً لكوكب آخر .
الثالث : أجرام النظام الشمسي الصغير أي الأجرام التي تدور حول الشمس ، وتشمل المذنبات وكويكبات النظام الشمسي ولا تدخل الأقمار والتوابع في هذه التقسيمات للتباين في صفاتها الفيزيائية ولأنها لا تملك مدارات مستقلة ولا تزال هذه التعريفات وانطباقها على مصاديقها وفق هذا التقسيم في بدايتها وعليها بعض الملاحظات .
ومن هذه الأقمار سيريس ، هلوبيا ، ميكميك ، إريس ، وقد تصل الكواكب القزمة إلى 2000 أو أكثر من وجوه :
الأول : إكتشاف العلماء لأجرام وكواكب جديدة .
الثاني : تولد ونشوء كواكب جديدة .
الثالث : نمو وإتساع كواكب صغيرة .
وهذه الوجوه من مصاديق قوله تعالى [وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ] ( ).
قانون تقسيم الآية القرآنية
من خصائص الآية القرآنية أنها نعمة عظمى وسر من أسرار العرش حاضر في الأرض , يطل على أهل كل زمان مجتمعين ومتفرقين ، ويصاحب المسلم والمسلمة في الليل والنهار ، وهل تتصف هذه المصاحبة بقيد التكليف وأن الآية لا تصاحب المسلم إلى عندما يبلغ سن التكليف ، الجواب لا ، فينمو في جسمه وتنمو مداركه والقرآن معه يأخذ بيده إلى سبل الهداية والصلاح قبل وبعد التكليف ، ليدرك الإنسان حاجة له في كل يوم من أيام حياته ، فهو الإمام الذي ينير مسالك الإيمان ، وتضمن هذا السفر آية علمية في تقسيم إعجاز كل آية قرآنية إلى قسمين :
الأول : الإعجاز الذاتي ، وهو الذي يتناول التحدي والبديع والبلاغة في ألفاظ ومضامين الآية القرآنية ، وذخائر النداء والخطاب والأمر والنهي فيها.
الثاني : الإعجاز الغيري ، وهو الذي يتناول الإعجاز والتحدي بالآية القرآنية في ميادين الحياة المختلفة وآثر ونفع ذات الآية القرآنية على الفرد والجماعة والأمة ، قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا] ( ) لبيان قانون من وجوه :
الأول : هداية القرآن للفرد الواحد لنفاذ آياته إلى شغاف القلب ، وبعث الإنسان على التدبر في معانيها ودلالتها .
الثاني : إصلاح القرآن للجماعة وبعثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثالث : من خصائص القرآن الترغيب بفعل الصالحات والنفرة من فعل السيئات .
الرابع : تعاهد المسلمين لمبادئ الإسلام وثباتهم في مقامات الهداية والصلاح ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ويمكن تقسيم إعجاز الآية القرآنية تقسيمات أخرى غير التي نذكرها في أبواب مستقلة منها :
الأول : إعجاز الآية القرآنية في الحياة الدنيا , فهي شاهد على أفراد الزمان الطولية مجتمعة ومتفرقة وصيرورة قصص القرآن موعظة وطريق هداية ونوراً في سبل الصلاح ، قال تعالى [فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
لقد تفضل الله عز وجل على المسلمين والمسلمات وجعلهم يتلون عدة مرات في اليوم قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) ليكون من الصراط في المقام أمور :
أولاً : تلاوة الآية القرآنية .
ثانياً : التدبر في مضامين الآية القرآنية .
ثالثاً : إتخاذ الآية القرآنية منهاجاً , ويدعو القرآن إلى التمسك بآياته وأحكامه وسننه لتتجلى في هذا التمسك مسائل وضروب تؤكد نزوله من عند الله بما فيه من الأمور الخارقة التي يعجز عنها البشر ، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ) .
وإعجاز الآية القرآنية في الحياة الدنيا أعم وأوسع من أن يحصيه البشر فمنه الثابت والمتجدد والمستمر والمستحدث والمضاعف , ومنه أثر الآية القرآنية في إنحسار مفاهيم الضلالة ، كما في الآية السابقة التي تتضمن بيان قول وفعل الذين نافقوا لتوثيقه وصيرورة المسلمين في حيطة وحذر منه .
الثاني : إعجاز الآية القرآنية بخصوص الخلق والنشأة والتكوين بلحاظ الآيات التي تبين عظيم قدرة الله والإطلاق في مشيئة الله وشمولها للإيجاد والعدم والإحياء والإماتة .
ومن إعجاز القرآن أن الله عز وجل يثني على نفسه بلحاظ الخلق في آيات كثيرة من القرآن ويدعو الناس إلى التدبر في مخلوقاته وجعلها مادة ووسيلة للإيمان ، قال تعالى [أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ] ( ) .
ويندب الله عز وجل المسلمين إلى العمل بأحكام القرآن ، وجذب الناس لها ، والمنع من التفريط بها ، قال تعالى [وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ]( ).
(عن ابن جريج في قوله { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق }( ) قال : ذكر لنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : هذه أمتي بالحق يحكمون ويقضون ويأخذون ويعطون) ( ).
إن الله عز وجل أثنى على نفسه في كلامه الذي بين الناس ، ولكنه تفضل وجعل القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) ليكون من معاني هذا التبيان إقامة الحجة عليهم وتفقههم في أمور الخلق ، وهدايتهم بواسطتها إلى الإيمان ، فثناء الله على نفسه في خلقه للأشياء رحمة بالناس , وسبيل مبارك لهدايتهم .
الثالث : إعجاز الآية القرآنية في علوم الغيب وعالم الآخرة .
لقد اختص الله عز وجل بعلم الغيب وأحوال الآخرة فلا يعلمها أحد غيره سواء بذاتها أو التغيير والتبدل فيها لشمولها بعمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ) ولا يعني هذا التقسيم أن كل الآية تختص بواحد من هذه الأقسام ، إنما تتضمن الآية الإعجاز في كل فرد منها سواء بلحاظ منطوقها أو مفهومها .
قال تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ] وهل السنة النبوية من إعجاز القرآن الغيري أم أنها أمر مستقل بذاته ، الجواب لا تعارض بين الأمرين ، فهي من رشحات إعجاز القرآن ومرآة له وشاهد على صدق نزوله من عند الله عز وجل .
وبخصوص آية البحث جاءت السنة القولية والفعلية لتثبيت حقيقة حياة الشهداء عند الله وأنهم لم يموتوا ولم يعدموا ، لقد أراد الذين كفروا شفاء صدورهم بقتل سبعين من المؤمنين يوم معركة أحد ، ولكنهم ما أن رجعوا إلى مكة حتى تعقبتهم آية البحث فدخلت إلى بيوتات مكة وتليت في البيت الحرام لتكون من الشواهد الحاضرة والآنية على خيبة جيش الذين كفروا في قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
لبيان شاهد على الإعجاز الغيري لآية البحث بأن دماء وأرواح الشهداء تلاحق جيش الذين كفروا في الدنيا والآخرة .
وفي السيرة النبوية لابن هشام (مَسِيرُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بَعْدَ الْفَتْحِ إلَى بَنِي جَذِيمَةَ مِنْ كِنَانَةَ وَمَسِيرُ عَلِيّ لِتَلَافِي خَطَأِ خَالِد
قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَقَدْ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِيمَا حَوْلَ مَكّةَ السّرَايَا تَدْعُو إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِقِتَالِ وَكَانَ مِمّنْ بَعَثَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ بِأَسْفَلِ تِهَامَةَ دَاعِيًا ، وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا فَوَطِئَ بَنِي جَذِيمَةَ . فَأَصَابَ مِنْهُمْ . قَالَ ابن هِشَامٍ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ فِي ذَلِكَ
فَإِنْ تَكُ قَدْ أَمّرْت فِي الْقَوْمِ خَالِدًا … وَقَدّمْته فَإِنّهُ قَدْ تَقَدّمَا
بِجُنْدِ هَدَاهُ اللّهُ أَنْتَ أَمِيرُهُ … نُصِيبُ بِهِ فِي الْحَقّ مَنْ كَانَ أَظْلَمَا
قَالَ ابن هِشَامٍ : وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ فِي حَدِيثِ يَوْمِ حُنَيْنٍ سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللّهُ فِي مَوْضِعِهَا . قَالَ ابن إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ عَبّادِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ ، قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ حِينَ مَكّةَ دَاعِيًا ، وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا ، وَمَعَهُ قَبَائِلُ مِنْ الْعَرَبِ : سُلَيْمُ بْنُ مَنْصُورٍ وَمُدْلِجُ بْنُ مُرّةَ فَوَطِئُوا بَنِي جَذِيمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةِ بْنِ كِنَانَةَ فَلَمّا رَآهُ الْقَوْمُ أَخَذُوا السّلَاحَ فَقَالَ خَالِدٌ ضَعُوا السّلَاحَ فَإِنّ النّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا) ( ) .
ولما أمر خالد بني جَذيمة بوضع السلاح صاح رجل منهم اسمه جَحدم محذراً ونذيراَ : ويلكم يا بني جذيمة إنه خالد والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار ، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق والله لا أضع سلاحي أبداً ).
فما زال قومه يطمئنونه بوضع الحرب أوزارها وانه الإسلام والسلاح حتى وضع سلاحه .
لقد بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد إلى بني جُذيمة داعياً وليس مقاتلاً ، ويدل هذا المعنى على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يستمر بالقتال ، ولم يتخذ السيف وسيلة لدخول الناس في الإسلام ، فمع تجلي قوة ومنعة الإسلام بعد فتح مكة فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ يبعث السرايا والجيوش للدعوة إلى الله .
لقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة بدر ، ومعه ثلاثمائة وثلاث عشر من أصحابه في السنة الثانية للهجرة ، فقاتلوا ونالوا النصر المبين ، بينما ارسل بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة مع خالد بن الوليد ثلاثمائة وخمسين من المهاجرين والأنصار وبني سُلَيم دعاة وليسوا مقاتلين ، يدعون إلى الإسلام [بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) ويهدمون الأصنام ويبينون للناس سنخية الضلالة في عبادتها والتزلف إليها .
ووضع بنو جُذيمة السلاح استجابة لأمر خالد ، فقال لهم استأسروا ، فصاروا أسرى ، فقام بعضهم بتكليف بعضهم الآخر ، ولم يدخل الصحابة بينهم لأسرهم خشية أن يأخذ بعضهم سلاح الصحابي وينقض عليه ، وكتف بعضهم بعضاً ففرقهم بين أصحابه .
ولما كان من السحر نادى خالد بن الوليد (مَنْ كَانَ مَعَهُ أَسِيرٌ فَلْيَضْرِبْ عُنُقَهُ فَأَمّا بَنُو سُلَيْمٍ فَقَتَلُوا مَنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ , وَأَمّا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَأَرْسَلُوا أَسْرَاهُمْ فَبَلَغَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا صَنَعَ خَالِدٌ , فَقَالَ اللّهُمّ إنّي أَبْرَأُ إلَيْكَ مِمّا صَنَعَ خَالد ” وَبَعَثَ عَلِيّا يُودِي لَهُمْ قَتْلَاهُمْ وَمَا ذَهَبَ مِنْهُمْ) ( ).
وقالت أحدى نساء بني جذيمة وتسمى سلمى
وَلَوْلَا مَقَالُ الْقَوْمِ لِلْقَوْمِ أَسْلِمُوا … لَلَاقَتْ سُلَيْمٌ يَوْمَ ذَلِكَ نَاطِحَا
لَمَاصَعَهُمْ بُسْرٌ وَأَصْحَابُ جَحْدَمٍ … وَمُرّةُ حَتّى يَتْرُكُوا الْبَرْكَ ضَابِحَا
فَكَائِنٌ تَرَى يَوْمَ الْعَمِيصَاءِ مِنْ فَتًى . أُصِيبَ وَلَمْ يُجْرَحْ وَقَدْ كَانَ جَارِحَا
أَلَظّتْ بِخُطّابِ الْأَيَامَى وَطَلّقَتْ … غَدَاتَئِذٍ مِنْهُنّ مَنْ كَانَ نَاكِحَا
قَالَ ابن هِشَامٍ : قَوْلُهُ ” بُسْرٌ ” ” وَأَلَظّتْ بِخُطّابِ ” عَنْ غَيْرِ ابن إسْحَاقَ .
شِعْرُ ابن مِرْدَاسٍ فِي الرّدّ عَلَى سَلْمَى
قَالَ ابن إسْحَاقَ : فَأَجَابَها عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ وَيُقَالُ بَلْ الْجَحّافُ بْنُ حَكِيمٍ السّلَمِيّ :
دَعِي عَنْك تَقْوَالَ الضّلَالِ كَفَى بِنَا.لِكَبْشِ الْوَغَى فِي الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ نَاطِحَا
فَخَالِدُ أَوْلَى بِالتّعَذّرِ مِنْكُمْ … غَدَاةَ عَلَا نَهْجًا مِنْ الْأَمْرِ وَاضِحَا
مُعَانًا بِأَمْرِ اللّهِ يُزْجِي إلَيْكُمْ … سَوَانِحٌ لَا تَكْبُو لَهُ وَبَوَارِحَا
نَعَوْا مَالِكًا بِالسّهْلِ لَمّا هَبَطْنَهُ … عَوَابِسَ فِي كَابِي الْغُبَارِ كَوَالِحَا
فَإِنْ نَكُ أَثْكَلْنَاك سَلْمَى فَمَالِكٌ … تَرَكْتُمْ عَلَيْهِ نَائِحَاتٍ وَنَائِحَا) ( ).
وجرى بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف كلام وشر (فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : عَمِلْت بِأَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ فِي الْإِسْلَامِ . فَقَالَ إنّمَا ثَأَرْت بِأَبِيك .
فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ كَذَبْت ، قَدْ قَتَلْتُ قَاتِلَ أَبِي ، وَلَكِنّك ثَأَرْتَ بِعَمّك الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، حَتّى كَانَ بَيْنَهُمَا شَرّ . فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مَهْلًا يَا خَالِدُ دَعْ عَنْك أَصْحَابِي ، فَوَاَللّهِ لَوْ كَانَ لَك أُحُدٌ ذَهَبًا ثُمّ أَنْفَقْته فِي سَبِيلِ اللّهِ مَا أَدْرَكَتْ غَدْوَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي وَلَا رَوْحَتَهُ) ( ).
فقد نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم خالداً من التعرض لأصحابه وبيّن له لزوم الفصل والتمييز بين رئاسته للجيش وبين منزلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القدامى من المهاجرين والأنصار .
وقبل أن خطأ خالد مع بني جذيمة مثل خطأ أسامة بن زيد حين قتل رجلاً بعد نطقه واعتصامه بالشهادتين ، ولكنه قياس مع الفارق إذ ان الواقعة في بني جُذيمة عامة والقتل متعدد , وكان بالإمكان التدارك والتشاور مع الصحابة إذ بقي بنو جذّيمة أسرى إلى وقت السحر ، ثم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أدى ديتهم , للإحتراز بالدماء.
ويمكن تقسيم إعجاز الآية القرآنية تقسيماً آخر وهو :
الأول : إعجاز الآية الدنيوي لبيان لغة التحدي وعظيم النفع للآية القرآنية والذي لا يتم إلا بنزولها وفيوضاتها .
الثاني : إعجاز الآية القرآنية الأخروي لبيان ما تتضمنه الآية من أنباء الغيب وذكر عالم الآخرة , وهو من أسباب الهداية إلى الفلاح والخلود في النعيم في الآخرة ، ومنه آية البحث لأنها تفتح الباب للدراسات حول الشهداء وحياة المؤمنين في عالم البرزخ ويوم القيامة ، وفوزهم بالأمن من العذاب ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ] ( ).
كما يمكن تقسيم إعجاز الآية تقسيماً آخر بلحاظ الناس من جهات :
الأولى : إعجاز الآية القرآنية بالنسبة للمسلمين وإصلاحهم لمقامات الإيمان وأداء الفرائض والسنن .
الثانية : إعجاز الآية بخصوص أهل الكتاب , وبيان أخبار الأنبياء ومؤمني الأمم السابقة .
الثالثة : إعجاز الآية القرآنية بالنسبة لذمها للمنافقين , كما في الآية السابقة وكيف أنها توثق أقوال المنافقين وتتحداهم بقرب الموت ثم تتعقبها آية البحث لتخبر عن كون الشهداء درأوا عن أنفسهم الموت بالقتل في سبيل الله عز وجل .
الرابعة : إعجاز الآية القرآنية بخصوص الذين كفروا وكيف أنها تزجرهم عن الكفر والضلالة سواء في منطوقها أو مفهومها .
الخامسة : إعجاز الآية القرآنية بالنسبة للناس جميعاً في تقريبهم إلى الإيمان وتنحيتهم عن الكفر والضلالة ، قال تعالى [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور] ( ).
ويمكن تقسيم الصحابة تقسيماُ إستقرائياً إلى مراتب :
الأولى : الصحابة من أهل البيت .
الثانية : المهاجرون والأنصار .
الثالثة : الصحابي القريب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ] ( ) .
الرابعة : الذي يحرص على عدم مفارقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة : البدريون الذين حضروا معركة بدر .
السادسة : الأحديون الذين شاركوا في معركة أحد .
السابعة : الصحابة الذين شاركوا في معركة بدر وأحد .
الثامنة : الصحابة الذين اسلموا قبل الفتح ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ]( ) .
التاسعة : الشهداء الذين استشهدوا في معارك الإسلام الأولى ، فعندما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا قبل معركة أحد ومنها أنه رأى بقراً فأوله بأنهم ناس من أصحابه يُقتلون ) ( ).
العاشرة : الصحابة الذين سمعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخطب على المنبر .
الحادية عشرة : الصحابة الذين رأوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
كما يمكن تقسيم الصحابة تقسيماً إستقرائياً إلى أقسام :
الأول : الصحابة الذين يعرفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاسماء والنسب .
الثاني : الصحابة الذين يعرفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوجه والصفة والهيئة .
الثالث : الصحابي الذي لا يعرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم اسمه ورأى النبي مرة أو أكثر ، فمن وجوه تعريف ومعنى الصحابي هو الذي رأى النبي أو سمع منه .
قانون معنى الآية أعم من تفسير العلماء لها
يمكن تأسيس قانون وهو : لو دار الأمر بين المتسالم بين علماء التفسير وبين إرادة معنى أعم للآية منه .
فالصحيح هو الثاني ، وهو من إعجاز القرآن وبيان بقاء مضامين آياته حية طرية إلى يوم القيامة .
ثانياً : بيان مصداق لقانون وهو ثبات المسلمين في مقامات الهدى والإيمان حتى في سوح المعارك وتجلي مصداق هذا القانون في بداية الإسلام شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : بعث الخوف والفزع في قلوب المشركين .
رابعاً : تجلي قانون وهو تضحية المسلمين بأنفسهم من أجل توالي نزول آيات القرآن ، وتثبيت أحكام الشريعة في الأرض ، قال تعالى [ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى] ( ) وسبب نزول الآية أعلاه هو معاداة أبي جهل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واصراره على منعه من أداء الصلاة ، إذ ورد عن ابن عباس أن أبا جهل بن هشام رمى رسول الله بالسلا( ) على ظهره وهو ساجد لله عز وجل .
(من نار وهواء وأجنحة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً .
وروى الحسن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إنّ لكل أمة فرعون ، وفرعون هذه الأمة أبو جهل .
وكانت الصلاة التي قصد فيها أبو جهل رسول الله صلاة الظهر . وحكى جعفر بن محمد عليه السلام أن أول صلاة جماعة جمعت في الإسلام ، يوشك أن تكون التي أنكرها أبو جهل ، صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه عليّ عليه السلام فمرّ به أبو طالب ومعه ابنه جعفر فقال : صل جناح ابن عمك ، وانصرف مسروراً يقول :
إنَّ عليّاً وجعفرا ثقتي … عند مُلِمِّ الزمان والكُرَبِ
والله لا أخذل النبيّ ولا … يخذله من كان ذا حَسَبِ
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما … أخي لأمي من بنيهم وأبي
فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك .) ( ).
ولكم مضامين الآية أعلاه أعم ، وتصدق على واقعة أحد ويكون تقدير الآية على جهات :
الأولى : أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى .
الثانية : أرأيت الذي ينهاك إذا صليت .
الثالثة : أرأيت الذي ينهى رسول الله إذا إذا صلى .
الرابعة : أرأيت الذي ينهى المؤمنين إذا صلوا .
الخامسة : أرأيت الذين ينهون عبداً أذا صلى .
السادسة : أرأيت الذين ينهون المؤمنين إذا صلوا .
السابعة : أرأيت الذي ينهى المؤمنات اذا صلين ، ومن الآيات أن أول من صلى مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة الكبرى عليهما السلام ، لبيان محاربة الذين كفروا للمؤمنات في صلاتهن وليفزن بالأجر والثواب .
الثامنة : أرأيت الذي ينهى ابنه إذا صلى .
التاسعة : أرأيت الذي ينهى أباه إذا صلى .
الخامس : إعجاز الآية في سلامتها من التحريف والتبديل .
لقد أنزل الله عز وجل كلامه إلى الأرض بواسطة جبرئيل الملك الذي يتصف بالأمانة والضبط ودقة الإمتثال في العمل ، فينزل به على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يغادر حتى يطمئن لضبط النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآية وألفاظها ومعناها ، وهو من معاني قوله تعالى [قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لاَ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ]( ).
بحث أصولي
تتقوم الحياة الدنيا بالأوامر والنواهي، وهو من وجوه الإبتلاء والإمتحان فيها، قال تعالى[أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
ومن الآيات أن أول خطاب توجه إلى الإنسان هو من عند الله عز وجل إلى آدم وفي الجنة من قبل أن يهبط إلى الأرض ، قال تعالى [قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ] ( ) .
ليكون فيه مسائل :
الأولى : هداية وتـأديب آدم وذريته بأن الحياة الدنيا دار نزول الأوامر من عند الله سبحانه .
الثانية : وجوب تعاهد بني آدم الكتب السماوية لأنها الوعاء السماوي الذي يتضمن الأوامر من عند الله .
الثالثة : لزوم التقيد بما في القرآن من الأوامر والنواهي ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) لبيان تجلي العبادة بطاعة الأوامر والنواهي النازلة من عند الله .
الرابعة : إقامة الحجة على الملائكة بأهلية الإنسان للخلافة في الأرض لقدرته على فهم الأمر وتلقيه بالإستجابة المتكررة التي تتقوم بالحفظ والإستحضار له عند الإبتلاء بمسألة ومصاديقه ، فقد نزل قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] ( ) .
ليتعاهد كل مسلم ومسلمة أداء الصلاة خمس مرات في اليوم ، ويأتي الأمر بصيغ متعددة منها صيغة الأمر وهو الأصل والأظهر فيها ، ومنه الفعل المزيد (أفعل) .
قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) وقد يأتي الأمر بصيغة الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر كما في قوله تعالى [وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ..]( ) وقوله تعالى [وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ]( ) وقد يأتي بصيغة اسم فعل الأمر، كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ]( ) ومنه قول عمرو بن الإطنابة :
و قولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستر يحي( )
إذ يخاطب الشاعر نفسه ويدعوها لترك الإضطراب واسم فعل الأمر هو (مكانك) أي استقري .
ويفيد اسم فعل الأمر الطلب ، ولا يقبل العلامة كياء المخاطبة مثل اضربي , والتأكيد , وأختلف في علم الأصول هل تدل صيغة (افعل) على العلو , وان الإستعلاء شرط في توجه الأمر بصدوره من العالي إلى الداني أو لا ، ويدل ما ورد في التنزيل [فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ] ( ).
فالابن إسماعيل عليه السلام يقول لأبيه (افعل) وأن كان هذا الأمر مقيداً بارادة فعل ما يأمر به الله عز وجل , ولكنه يتضمن صيغة افعل والندب إليه ، لذا فان القول بشرط الإستعلاء , وصدور الأمر من العالي إلى الداني ليس بدائم .
وفيه دعوة لعلماء الأصول للرجوع إلى آيات القرآن عند بيان مسألة والإفتاء أو الحكم فيها .
(عن الحارث الأعور قال : دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث ، فأتيت عليّاً فأخبرته ، فقال : أوقد فعلوها؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنها ستكون فتنة ، قلت : فما المخرج منها يا رسول الله؟ .
قال : كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر من بعدكم وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، هو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا تلتبس منه الألسن ، ولا يخلق من الرد ، ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا : { إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد }( ) ، من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم) ( ) .
إن رجوع العلماء في العلوم والإختصاصات المتعددة إلى القرآن والوقوف عند آياته ومعانيها تنمية لملكة الصدور عن القرآن , والمبادرة إلى التدبر في آياته للإستدلال بها وبمضامينها القدسية .
قانون الثأر قبل الإسلام
الثأر هو الطلب بالدم (الثأرُ: الدخل المطلوب، وثأرت فلاناً وبه، إذا قتلت قاتله، وأستثار فلان: استغاث ليثأر بمقتوله، قال :
إذا جاءهم مستثئر كان نصرهُ
دعاء ألا طيروا بكل وأي نهدِ
واثأر فلان من فلان، أي: أدرك ثاره منه، وكان اثتأر ثم أدغم)( ).
وبين الثأر والقصاص بالقود عموم وخصوص من وجه فمادة الإلتقاء من جهات :
الأولى : كل من الثأر والقصاص بالنفس قتل، قال تعالى[وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
الثانية : إتحاد السبب وهو القتل .
الثالثة : ترك الثأر والقصاص هو الأحسن ، قال تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ).
أما مادة الإفتراق فمن جهات :
الأولى : في القصاص مساواة في الدم والجرح بخلاف الثأر الذي هو أعم ويأتي عن غضب وانتقام .
الثانية : القصاص حكم شرعي في الملل السماوية بخلاف الثأر الذي هو عادة جاهلية .
الثالثة : مجئ القرآن بالقصاص ، قال تعالى [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا]( ) .
وقال القرطبي (لا خلاف ان القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولوا الأمر فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك لأن الله سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص فأقاموا السلطان مقام أنفسهم)( ).
وصحيح أن السلطان وأولي الأمر يتولون القصاص إلا أنه لا يعني تعذر تهيأ جميع المؤمنين له , إنما وردت الآية بصيغة الجمع لتفيد الإنحلال والتعدد، كما أن قيام السلطان بالحكم بالقصاص لا يسقط عن المؤمنين وطوائفهم في المقام تعاهد هذا الحكم والعلم بأنه شامل لهم ، وهو سيف على كل قاتل منهم لغيره عمداً من دون حق، ومن معاني صيغ الجمع في الآية المنع من التفريط بحكم القصاص .
الرابعة : إنتفاء الظلم والغبن بالقصاص بخلاف الثأر، ومن الشواهد على هذا الإنتفاء تأكيد القرآن لفرض القصاص بقوله تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى]( ) وما كتبه وفرضه الله خال من الظلم , وسالم من المعارضة.
الخامسة : كان العرب يثأرون بقتل القاتل أو أحد إخوانه أو أفراد قبيلته، بينما جاء القصاص بالتعيين والحصر بالقاتل ، ليبعث السكينة في القلوب ويتعاهد إستقرار المجتمعات الإسلامية وغيرها ، ويمنع من إشاعة القتل ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) حينما تساءلت الملائكة باستفهام[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
لقد قُتل سبعون من المشركين في معركة بدر وليسوا من الذين قتلوا مظلومين، فلا سلطان لأوليائهم إذ ذهب دمهم هدراً لأنهم أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإجهاز على النبوة والتنزيل ، وأراد الله لمعركة بدر ونزول الملائكة فيها أن تكون زاجراً لكفار قريش عن معاودة القتال ، ونهياً لهم عن التجرأ على دماء المسلمين, وهو من مصاديق عموم الرحمة بقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ورد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : (لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِى دَمِ مُؤْمِنٍ لأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ)( ).
وكان العرب يظنون أنه إذا قُتل الرجل خرج من رأسه طائر اسمه الهامة وقيل هو الصدى ويصيح : أسقوني أسقوني من دم قاتلي ، فاذا أخذوا بثأره طار هذا الطائر وولى عن القتيل وقبره .
(قال ذو الأصبع العدواني :
لي ابن عم على ما كان من خلق … محاسد لي أقليه ويقليني
أزرى بنا أنّنا شالت نعامتنا … فخالني دونه أو خلته دوني
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي
أضربك حتى تقول الهامة اسقوني
ماذا عليّ وإن كنتم ذوي رحمي
ألّا أحبّكم إن لم تحبوني
لا أسأل الناس عما في ضمائرهم
ما في ضميري لهم من ذاك يكفيني)( ).
ومثل هذا الظن بطائر الهامة يوجج الثأر ويمنع أولياء المقتول من الرقاد ويكون سبباً لتعييرهم .
و(قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لا عدوى ولا طيرة ولا هامة فقام إليه رجل فقال يا رسول الله البعير يكون به الجرب فيجرب به الإبل قال ذلك القدر فمن أجرب الأول) ( ).
صلاة النبي على شهداء أحد
هل صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الشهداء , أختلف في هذا لصلاة على وجوه :
الأول : صلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على شهداء أحد في ميدان المعركة وقبل دفنهم , وهذه الصلاة على جهات :
الأولى : صلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على حمزة وكبر ثم جيئ بالشهداء واحدا بعد آخر يرصفون إلى جانب حمزة فيصلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه وعليهم إلى أن صلى بعددهم .
(قال ابن إسحق وحدثني من لا اتهم عن مقسم مولى عبدالله بن الحارث عن ابن عباس قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة فسجى ببرده ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ثم أتى بالقتلى يوضعون إلى جنب حمزة فصلى عليه وعليهم معهم حتى صلى عليهم ثنتين وسبعين صلاة.) ( ) .
وهو حديث مرسل لأن ابن إسحاق لم يذكر سلسلة السند وإن قال [من لا اتهم] والموضوع والإختلاف فيه أعم من الإتهام , وقال سهيل هذا حديث ضعيف لضعف الحسن بن عمارة الذي أبهمه ابن إسحاق.
وعبد الله بن عباس لم يكن حاضراً معركة أحد ، وكان طفلا صغيرا في مكة يومئذ مع أبيه العباس الذي أسره المسلمون يوم معركة أحد , هو وعقيل بن أبي طالب .
نعم يمكن أن يكون قد سمع أخبار صلاة النبي على شهداء أحد من الصحابة .
الثانية : صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على شهداء أحد يوم المعركة عشرة عشرة، وهو المروي عن ابن عباس أيضاً ( ).
الثالثة : عن أبي مالك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قتلى أحد يوم المعركة أي من غير ذكر كيفية الصلاة.
الرابعة : قال ابو مالك الغفاري : كان قتلى أحد يؤتى بتسعة وعاشرهم حمزة فيصلي عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم يحملون ثم يؤتى بتسعة فيصلي عليهم وحمزة مكانه حتى صلى عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم( ).
الثاني : لم يصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على شهداء أحد , نعم أمر بدفنهم بثيابهم ودمائهم، عن موسى بن عقبة، وبه قطع الشافعي و(عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد , ثم يقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن ؟ .
فإذا أشير له إلى أحدهما قدّمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم بدمائهم , ولم يصل عليهم ولم يغسلوا)( ) .
ولم يكن جابر حاضراً معركة أحد , نعم خرج في اليوم التالي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى حمراء الأسد , مع قتل أبيه قبل يوم في معركة أحد .
الثالث : عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات، ثم صعد المنبر فقال إني بين أيديكم فرط وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لانظر إليه من مقامي هذا، وإنى لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها .
قال عقبة : فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
تقسيم جديد للعطف
ويمكن تقسيم العطف إلى أقسام :
الأول : العطف التام أو الإنطباقي بحيث يتساوى المعطوف والمعطوف عليه في الرتبة كما في قوله تعالى [أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
الثاني : العطف على نحو الموجبة الجزئية ، ويمكن تسميته بالعطف الجهتي .
الثالث : العطف الحقيقي .
الرابع : العطف المجازي .
والعطف الحقيقي أكثر وأعم من المجازي .
الخامس : العطف في علوم الغيب ، والذي تدل عليه آية البحث بلحاظ حرف الإضراب (بل) ومضامين الآيتين التاليتين كما في قوله تعالى [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
ومن الإعجاز في نظم الآيات ورود ذات اللفظ ( يستبشرون ) في الآية بعد التالية , ومن غير حرف عطف ليكون من وجوه العطف إتحاد اللفظ .
السادس :العطف في لغة الخطاب , وهو على وجوه :
أولاً : إتحاد جهة الخطاب .
ثانياً : التعدد في جهة الخطاب ، وهو من أقسام الإلتفات وفق الإصطلاح البلاغي .
ثالثاً : الجمع بين الأمر والنهي في ذات الخطاب ، كما في قوله تعالى [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
رابعاً : الجمع بين النهي والأمر أي بتقديم النهي كما في قوله تعالى [وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ] ( ).
خامساً : تعدد جهة صدور الخطاب .
وجاء العطف في أول آية البحث من القسم الثالث والوجه الثاني من القسم السادس أعلاه .
وخصت آية البحث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب لبيان مقامه السامي عند الله ، وإمامته للمسلمين ، وموضوعية سنته القولية بين الناس جميعاً ، إذ تترجم سنته مضامين آية البحث , ويأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشواهد والأخبار التي تدل على حياة الشهداء عند الله عز وجل .
وفي الآية مسائل :
الأولى : حاجة الأمة لتوجه الأمر والنهي من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : علم الله عز وجل بما في قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واصلاحه بما يوافق حقائق علم الغيب .
الثالثة : بعث أبناء وذراري الصحابة الذين قتلوا في معركة أحد إلى الفخر بآبائهم , والحرص على إقتفاء آثارهم في التقوى .
الرابعة : تسليم المسلمين بالعالم الآخر ، وأن عالم البرزخ فيه حياة وغبطة وسعادة ، وهو مما فاز بها المؤمنون الذين قتلوا في معركة بدر وأحد .
الخامسة : إخبار الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجود الشهداء في عالم الآخرة يستبشرون بقدومه عليهم .
عدم نسخ القرآن بالسنة
من فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً أنه جعل السنة النبوية شعبة من الوحي لتكون بياناً وتفسيراً للقرآن , ومصدراً ثانياً للتشريع يدل على إعجاز القرآن بلحاظ إنتفاء التعارض بين القرآن وبينها ، وفيها التخصيص والتقييد والتوضيح .
وهل تنسخ السنة النبوية القرآن , الجواب لا ، سواء كانت السنة المتواترة أو خبر الآحاد , ونسب إلى مشهور المتكلمين القول بجواز نسخ القرآن بالسنة وبه قال مالك وأبو حنفية وأكثر اتباع الشافعي .
وقال الشافعي بعدم الجواز ، وبه قال أحمد في إحدى روايتين عنه وأكثر أهل الظاهر ، و قيل ( جواز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة وهي به ، وأنكره شذوذ وهو ضعيف جداً لا يلتفت إليه ) ( ) .
وأقر القائلون بالجواز بأن كلاً من القرآن والسنة له خصائص لكنهما صادران من أمر الله عز وجل بلحاظ أن السنة فرع الوحي ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) واستدل بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) ( ) أي السنة .
ولكن هذا الحديث لا يدل على نسخ السنة للقرآن إنما لافادة البيان والمدد والفضل الإلهي على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في شؤون الحكم وبناء صرح الإسلام وتثبيت أحكام الحلال والحرام وقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وحينما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن قال له : (“بم تحكم؟ “. قال: بكتاب الله.
قال: “فإن لم تجد؟”. قال: بسنة رسول الله.
قال: “فإن لم تجد؟ “. قال: أجتهد برأيى.
قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره، وقال: “الحمد لله الذي وفَّق رَسُولَ رسولِ الله لما يرضى رسول الله) ( ).
ويدل الحديث على تقديم القرآن في الحكم والإستدلال ، ولا يلجأ إلى السنة النبوية إلا بعد عدم وضوح الدليل عند شخص الحاكم إلا في القرآن والسنة .
ولا يصدر عن السنة النبوية من رأس , وقيل بأن الحديث أعلاه يدل على الإجتهاد وأن قوله تعالى [وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ] ( ) , وقيل الحديث ( صريح جداً في موضوع الاجتهاد) ( ).
ولكن المراد من الإجتهاد في المقام الرجوع إلى الكتاب والسنة والصدور عنهما واستنباط الحكم من غير الخروج عنهما ، وحتى هذا الإستنباط يكون القرآن فيه هو المقدم .
(وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن علي قال بعثني رسول الله {صلى الله عليه وآله وسلم} إلى اليمن يا رسول الله تبعثني وأنا شاب أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء فضرب بيده في صدري وقال :
( اللهم أهد قلبه وثبت لسانه ) فو الذي فلق الحبة ما شككت في قضاء بين اثنين)( ).
إن القول بعدم نسخ القرآن بالسنة حاجة في الأزمنة اللاحقة لمنع التجرأ بالقول أن المجتهد بنسخ ويحكم على نحو مستقل ، ويفسر الحديث النبوي من غير اللجوء إلى القرآن .
وأولئك الذين قالوا بنسخ السنة بالقرآن من المتقدمين لم يعلموا بما قد يحيط بالعلم من إرادة التشويه والتحريض .
ثم إذا كانت السنة النبوية تنسخ القرآن ليذكروا لنا مائة مثال أو حتى عشرة أمثلة على هذا النسخ غير قابلة للرد , بحيث يصلح أن يقال عنه أنه قاعدة لها مصاديق متعددة .
وورد في التنزيل خطاب لنساء النبي بقوله تعالى [وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ] ( ) .
وقال تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ) والمراد من الحكمة في الآية ما هو أعم من السنة النبوية ، إذ ورد قوله تعالى [وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ]( ) لتشمل الحكمة التنزيل والوحي , وليس السنة وحدها .
ويمكن أن يستدل على امتناع نسخ القرآن بالسنة النبوية بقوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) .
فلا يصح نسخ القرآن إلا بالقرآن , وقيل في الرد عليه بأن السنة النبوية من عند الله عز وجل , ولكن القرآن أرفع رتبة بلحاظ تقييد الآية أعلاه بالمثلية .