المقدمة
الحمد لله أهل الجود والإحسان الذي يعطي في معشار الثانية الواحدة ما تعجز عنه الخلائق كلها، مدة زمان الدنيا، الحمد لله الذي لا يرد فضله، ولا يستغنى عن لطفه.
الحمد لله الذي تطمع الخلائق كلها بكرمه، وترجو نواله ومنّه.
الحمد لله الذي جعل الدعاء حبلاً ممدوداً بينه وبين العباد، ووسيلة لجلب المنافع ودفع المفاسد، قال تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الحمد لله الذي هدانا للشكر له على النعم , وجعل هذا الشكر وسيلة لثباتها ودوامها ومضاعفتها.
الحمد لله الذي جعل الحمد له سبحانه طارداً للغفلة عن القلوب، والعبث عن الجوارح.
الحمد لله الذي لم يجعل ثمة مسافة وفترة بين الدعاء والإستجابة وإن لم تكن في ذات الموضوع، وعن رسول صلى الله عليه وآله وسلم قال(ادعوا الله وأنتم موقنون بالاجابة ، واعلموا أن الله لا يقبل دعاء من قلب غافل لاهٍ.
وأخرج عن أنس مرفوعاً: لا تعجزوا في الدعاء فإنه لا يهلك مع الدعاء أحد)( ).
الحمد لله الذي جعل الحمد له غذاءً للروح وزاداً للدنيا , وجلباباً في الآخرة، وسبيلاً للغلبة على النفس الشهوية والغضبية , وواقية من رفقاء السوء، ومواطن الهلكة، وحرزاً من البلاء والفتنة.
وعن الإمام جعفر الصادق عن أبيه عن جده الإمام علي عليهم السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض)( ).
الحمد لله الذي جعل الحمد له شاهداً على الإيمان، وزيادة فيه، وإتيان الحمد والإكثار منه وإستحضاره في السراء والضراء من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، ليكون من الإعجاز في بناء قوام صرح الإيمان وجوب تلاوة هذه الآية عدة مرات في اليوم في الصلاة اليومية، وتحتمل النسبة بين الدعاء والحمد وجوهاً:
الأول : إرادة نسبة التساوي بين الدعاء والحمد.
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين:
الأولى : الدعاء أعم من الحمد لله.
الثانية : الحمد لله أعم من الدعاء.
الثالث : إرادة نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما.
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه.
فسبحان الله الذي هدانا لقول الحمد لله لتتنزه الألسن عن القول القبيح، والجوارح والأركان عن الفعل المذموم.
الحمد لله الذي جعل الحمد له سبحانه عصمة من النفاق، وتنقية للنفوس، وإزاحة لدرن الشك والريب، الحمد لله الذي جعل الحمد لله سوراً جامعاً للمؤمنين به يعرفون في الدنيا والآخرة، وهو سيماء الصالحين يظهر على ألسنتهم ويدل كأمارة على جواهر نفوسهم.
الحمد لله الذي جعل تلاوة كل آية من القرآن حمداً وشكراً من جهات:
الأولى : نعمة الخلق والإيجاد.
الثانية : نعمة الهداية للإسلام والتسليم بصدق نزول القرآن من عند الله، وفي التنزيل[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ]( ).
الثالثة : نعمة تلاوة آيات القرآن.
ومنها آية البحث التي جاء هذا الجزء بتفسيرها وهو قوله تعالى[فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( )، في الثناء على شهداء بدر وأحد والثواب العظيم الذي يتنعمون فيه.
وقد تقدم الجزءان السابقان وهما (الجزء 156-157) في تفسير الآية السابقة لآية البحث في نظم القرآن، وهو قوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( )، في إطلالة بهية على الأرض تكون مرآة لشذرات من العلوم المدخرة في الآية القرآنية.
ومن الإعجاز في نظم آيات القرآن في المقام أمور :
الأول : مجئ الآية السابقة في ذم المنافقين وتأكيد قعودهم وتخلفهم عن الدفاع عن النفوس والأعراض والأموال ، وكان العرب في غزوهم يبادرون إلى سبي النساء والأطفال، وأصر المشركون على غزو المدينة ، فان قلت أن قعود المنافقين برزخ ومانع من قتلهم وسبي نسائهم ونهب أموالهم ، الجواب لا دليل عليه من جهات :
الأولى : قيام الغزاة بالقتل العشوائي والنهب العام .
الثانية : عجز رؤساء الكفر عن السيطرة على الأفراد خاصة وأن جيشهم من قبائل شتى وإن كان رؤساء قريش يعرفون أشخاص بعض المنافقين ولهم صلات معهم مثل عبد الله بن أبي بن أبي سلول فان عامة الجيش لا يعلمون بهذه الصلة ، قال تعالى [إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ] ( ) .
وذكرت الآية أعلاه الملوك , والمراد الأعم وشمول جيش الملك وقد لا يكون الملك نفسه في الجيش أو أن القرية والبلدة التي يهجمون عليها فيها ملك فيدخلون عليه ويقتلونه ويذلون أهل البلدة .
ترى هل كان عبد الله بن أبي رأس النفاق من أعزة أهل المدينة بلحاظ أنه كان كبير الخزرج، أم أن الأعزة فيها هم المؤمنون وإن كانوا فقراء، الجواب هو الثاني لقوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وعن زيد بن ثابت قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد رجع ناس خرجوا معه، قال : فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين : فرقة تقول: نقاتلهم، وفرقة تقول: لا نقاتلهم .
وفي رواية القطان : فرقة يقولون : نقتلهم ، وفرقة يقولون: لا نقتلهم فنزلت: فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة)( ).
لقد كانت المدينة تسمى يثرب فأبدل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إسمها إلى طَيْبَة وطابة، ومع أن الاسم غير المسمى كما هو المختار في علم الكلام إلا أن هذه التسمية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمدينة تدل بالدلالة التضمنية على حصانتها من غزو الذين كفروا بفضل وواقية من عند الله، بلحاظ أنها تسمية من الوحي , وقد ورد تفضل الله باختيار الاسم في قوله تعالى[يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا]( ).
لينزل الملائكة يوم أحد لحفظ أهل المدينة جميعاً , وهو من أسرار تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لها طيبة بأن تكون في حرز وأمن من تدنيس جيش الذين كفروا لها ، ويكون تقدير الآية السابقة على وجوه :
أولاً : الذين قالوا لإخوانهم الذين دافعوا عنهم , واستشهدوا في هذا الدفاع .
ثانياً : الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا عن الدفاع عن أنفسهم وأهليهم وأموالهم .
ثالثاً : الذين قالوا وقعدوا ليدخل جيش الذين كفروا المدينة المنورة ، ولكن الله عز وجل أخزاهم وفضحهم , وتحتمل آية البحث التي اختص هذا الجزء بتفسيرها وجوهاً:
الأول : في نزول آية البحث خزي للكفار والمنافقين.
الثاني : في آية البحث فضح للكفار والمنافقين.
الثالث : يختص موضوع آية البحث بحال النعيم التي يكون فيها الشهداء وليس فيما خزي للذين أصروا على الكفر، أو إختاروا النفاق.
والصحيح هو الأول والثاني أعلاه مجتمعين ومتفرقين لدلالة الآية التضمنية على ذم وتوبيخ وخزي الذين كفروا لقيامهم بقتل سبعين من الصحابة في معركة أحد، وذم وفضح للذين نافقوا لأنهم قعدوا عن الدفاع وإنسحبوا من وسط الطريق إلى ميدان المعركة الدفاعية المحضة .
رابعاً : الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا ،فكان قعودهم نفعاً للمسلمين ، وسبباً لصرف أذى الذين كفروا ، قال تعالى[لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ]( ) لبيان أن المنافقين يسعون لإفساد أمر المسلمين .
خامساً : الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا لو أطاعونا في عدم الدفاع عنا ما قتلوا ).
وهذا القول مغالطة من الذين نافقوا ، فلو لم يقاتل المؤمنون لدخل جيش الذين كفروا المدينة، ولأشار المنافقون والمنافقات والفاسقون على المؤمنين باسمائهم وقتلَهم الذين كفروا ذبحاً على الفراش ، ولكن شاء الله أن يكرمهم بأن يقاتلوا فيصيروا أحياء عنده تعالى .
سادساً : الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا فاستحقوا صفة الذين نافقوا .
سابعاً : الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا لأنهم يخفون الكفر ويصرون على الإقامة على الضلالة بالخفاء ، فجاءت معركة أحد لكشفهم وتحذير المسلمين منهم , وورد في ذم المنافقين في التنزيل[وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ]( ).
ومن الشواهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يقول ولا يفعل إلا ما يأمره الله عز وجل به , وقيامه بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، ولا تعني هذه المؤاخاة أن كل مهاجر له أخ أنصاري ، فقد تكون المؤاخاة بين اثنين من الأنصار أو المهاجرين.
وقد تجلت معاني الإيثار عند الأنصار في هذه الأخوة إذ عرضوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقسيم أراضيهم وزراعاتهم بينهم وبين إخوانهم من المهاجرين ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم أن يحتفظوا بأراضيهم وأن يشركوا إخوانهم المهاجرين معهم في الحصاد .
(عن يزيد بن الأصم : أن الأنصار قالوا : يا رسول الله أقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين الأرض نصفين ، قال : لا ولكن يكفونكم المؤنة وتقاسمونهم الثمرة ، والأرض أرضكم : قالوا : رضينا فأنزل الله { والذين تبوّءُو الدار والإِيمان من قبلهم }( ) إلى آخر الآية .
أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن قال : فضل المهاجرين على الأنصار فلم يجدوا في صدورهم حاجة قال : الحسد)( ).
ترى هل كان النبي يعلم بأن الدنيا ستقبل على الصحابة وأن المهاجرين سيصبحون أمراء وصاحبي أملاك وذهب وفضة , الجواب نعم ، وقد حذرهم والأمة من إقبال الدنيا عليهم .
عن (عمرو بن عوف و هو حليف بني عامر وكان شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث أبا عبيدة بن الجراح الى البحرين فأتى بجزيتها وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم هو صالح البحرين أمر عليهم العلاء بن الحضرمي فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين .
فسمعت الأنصار بقدومه فوافت صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما صلى انصرف فتعرضوا له فتبسم حين رآهم و قال : (أظنكم سمعتم بقدوم أبي عبيدة و أنه جاء بشيء ؟) قالوا أجل قال: (فابشروا و اثملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها ويلهيكم كما الهتهم))( ).
وقد آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخي بني الحارث بن الخزرج فبادر سعد بن الربيع بتقديم عرض إلى عبد الرحمن بن عوف ومنه :
الأول : دفع نصف ماله لعبد الرحمن بن عوف ليأخذه ملكاً له .
وقال له سعد (إني أكثر الأنصار مالاً فأقاسمك نصف مالي)( ).
الثاني : كان عند سعد بن الربيع زوجتان فخيّر عبد الرحمن بن عوف بينهما ليقوم بطلاق التي يختارها عبد الرحمن فيتزوجها.
فشكره عبد الرحمن ولم يرض بشئ مما عرض عليه ، وقال له هل من سوق فيه تجارة ؟ قال سعد سوق بني قينقاع فاصبح عبد الرحمن في السوق ثم صار يخرج إلى السوق كل يوم ، وما لبث أن جاء إلى النبي وعليه أثر العطر والطيب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : تزوجت ؟ قال نعم .
ثم سأله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : مم تزوجت .
قال : امرأة من الأنصار .
قال : فكم سقت ؟
قال : زنة نواة من ذهب .
أي مهر على نحو المسمى والمصداق القليل .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أولم ولو بشاة ) أي أصنع وليمة طعام , والوليمة : الطعام العام وما يصنع لدعوة , مأخوذة من الولم وهو القيد والجمع .
ويقال (أولم فلان : اجتمع خلقه وعقله ) عن أبى العباس ( والولمة تمام الشئ واجتماعه) ( ) .
وفي تعريف الوليمة وجوه :
الأول : دعوة الناس لطعام العرس خاصة .
الثاني : كل طعام يتخذ لمناسبة فرح وسرور حادث .
الثالث : اسم لكل طعام ، ويدخل فيه إكرام الضيف .
الرابع : ينصرف إطلاق لفظ الوليمة إلى طعام العرس .
وفي غيره لابد من البيان أو القرينة الصارفة كما في وليمة العقد والختان.
وهل يدل هذا الأمر على وجوب الوليمة عند العرس ، الجواب لا ، لتجلي مصاديق الوجوب ، ومجئ السنة بما يدل على عدم وجوبها ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يولم بعد الدخول على نسائه .
ومات عبد الرحمن بن عوف غنياً بعد أن كان فقيراً ، وفي قوله تعالى [الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ]( ).
لتكون دماء شهداء معركة بدر وأحد وسيوف أهل البيت والصحابة فيهما نوع طريق ومقدمة لغنى شطر منهم , عن الحسن قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً للناس فقال « يا أيها الناس تصدقوا أشهد لكم بها يوم القيامة ، ألا لعل أحدكم أن يبيت فصاله راو وابن عمه طاو ، ألا لعل أحدكم أن يثمر ماله وجاره مسكين لا يقدر على شيء ، الا رجل منح ناقة من ابله يغدو برفد ويروح برفد ، يغدو بصبوح أهل بيت ويروح بغبوقهم ، ألا إن أجرها لعظيم .
فقام رجل فقال : يا رسول الله عندي أربعة ذود . فقام آخر قصير القامة قبيح السنة يقود ناقة له حسناء جميلة , فقال رجل من المنافقين كلمة خفية لا يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمعها : ناقته خير منه . فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم
فقال : كذبت هو خير منك ومنها .
ثم قام عبد الرحمن بن عوف فقال : يا رسول الله عندي ثمانية آلاف ، تركت أربعة منها لعيالي وجئت بأربعة أقدمها لله ، فتكاثر المنافقون ما جاء به ، ثم قام عاصم بن عدي الأنصاري فقال : يا رسول الله عندي سبعون وسقاً جذاذ العام .
فتكاثر المنافقون ما جاء به وقالوا : جاء هذا بأربعة آلاف وجاء هذا بسبعين وسقاً للرياء والسمعة فهلا أخفياها فهلا فرقاها . ثم قام رجل من الأنصار اسمه الحجاب يكنى أبا عقيل فقال : يا رسول الله مالي من مال غير اني أجرت نفسي من بني فلان ، أجر الحرير في عنقي على صاعين من تمر ، فتركت صاعاً لعيالي وجئت بصاع أقربه إلى الله تعالى .
فلمزه المنافقون وقالوا : جاء أهل الابل بالابل، وجاء أهل الفضة بالفضة ، وجاء هذا بتمرات يحملها ، فأنزل الله {الذين يلمزون المطوّعين…})( ).
ويبين الحديث أعلاه حضور المنافقين عند الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحسدهم للمؤمنين، من غير أن يطردهم , وقيامهك بأثارة الشكوك، ومحاولتهم الصدّ عن الصدقات والإنفاق في سبيل الله والإنتفاع الأمثل منه إذ أنه يسخر في الدفاع والصبر على الأذى .
وذكرت الآية قبل السابقة قعود المنافقين عن الدفاع مع صيرورة جيش العدو على مشارف المدينة عند جبل أحد وتعريضهم ولومهم للشهداء في المعركة والقول بأنهم لو بقوا في المدينة وقعدوا مثلهم لما قتلوا، ويدل الحديث أعلاه على عدم إنحصار ضرر وفتنة المنافقين بمقدمات المعركة وسنخية القتال، إنما يبثون سمومهم في باب العبادات والواجبات مطلقاً والمستحبات، وجاءت آية البحث للثناء على الشهداء.
الحمد لله على كل نعمة أنعم بها علينا وعلى الناس من الأولين والآخرين ، للتداخل بين النعم ورشحات النعمة التي تأتي للإنسان على غيره من أهل طبقته ومن يلحق به .
وقد تجلى في آية البحث التي اختص هذا الجزء بتفسيرها بقوله تعالى [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ]( ) ليفوز المؤمنون بنعمة وهي وجود إخوان لهم أحياء في الآخرة في مقام كريم عند الله ينتظرون قدومهم مع البشارة لهم بالأمن والسلامة في الفزع والخوف ، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الحمد لله حمد الشاكرين التائبين إذ نبدأ بكتابة وتدوين مضامين هذا الجزء بالتوكل على الله عز وجل ورجاء رفده وفضله وإحسانه .
والإبتداء بكتابة الجزء من هذا التفسير سَفر في رياض الإعجاز وأنوار التنزيل ، وصحبة للسنة النبوية الشريفة ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد السفر يقول حينما ينهض: (اللّهُمّ إلَيْك تَوَجّهْت وَبِكَ اعْتَصَمْت اللّهُمّ اكْفِنِي مَا أَهَمّنِي وَمَا لَا أَهْتَمّ بِهِ اللّهُمّ زَوّدْنِي التّقْوَى وَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي وَوَجّهْنِي لِلْخَيْرِ أَيْنَمَا تَوَجّهْتُ) ( ).
وأسأل الله عز وجل الكفاية والوقاية والعصمة من الزلل خاصة وأن هذا التفسير يستلزم الغوص في بحور الحكمة وغابات التأريخ والسعي لإقتطاف الثمار والرياحين من ذخائر آيات القرآن.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قدمت إليه دابته ليركبها .
قال : بسم الله حين يضع رجله في الركاب لأحرص على القول بسم الله في كل مرة أمسك بها القلم لأكتب في هذا التفسير أو كتبي الفقهية والأصولية والكلامية أو عند الإجابة على المسائل العرضية التي أنشئها بنفسي .
وقد جاءت وسائل الإتصال السريعة بأسباب جديدة للفتوى والسؤال المتكرر والمتعدد وما يلزم البيان ، ففي السَفر ينكشف الإنسان , ويبتعد عن الأهل والأحبة ودار الألفة والسكينة ، ويواجه الأخطار والأمور المفاجئة التي لا يعلمها إلا الله عز وجل ، فتأتي التسمية للوقاية والإحتراز وإظهار حسن التوكل على الله عز وجل .
وما أن يستوي النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ظهر دابته حتى يقول (الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي سَخّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنّا إلَى رَبّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ثُمّ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلّهِ الْحَمْدُ لِلّهِ الْحَمْدُ لِلّهِ , ثُمّ يَقُولُ اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ ثُمّ يَقُولُ سُبْحَانَكَ إنّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي إنّهُ لَا يَغْفِرُ الذُنُوبَ إلّا أَنْتَ وَكَانَ يَقُولُ .
( اللّهُمّ إنّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرّ وَالتّقْوَى وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى اللّهُمّ هَوّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِعَنّا بُعْدَهُ
اللّهُمّ أَنْتَ الصّاحِبُ فِي السّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ
اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ) ( ).
والإقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر حسن ومبارك، فنكثر من الحمد لله عند الشروع في كتابة وتدوين كل جزء من هذا التفسير ونسأل الله عز وجل فيه البر والتقوى ، وأن لا نكتب إلا ما يحب ويرضى ، وأن يجعله ضياء في النشأتين ، وسبيلاً للهداية والنهل من خزائن آيات القرآن، والإكتساب من ذخائر علومها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ]( ).
ليكون في الآية أعلاه ثناء على كل من :
الأول : ثناء الله عز وجل على نفسه، بلحاظ أن تعليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين الكتاب والحكمة إنما هو منّ وفضل من عند الله عز وجل لأن تمام الآية أعلاه هو[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
الثاني : الثناء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يقوم بالتعليم الحسن والنافع في الدارين فهو المعلم الأول في تأريخ البشرية ، ومن الآيات أن مصاديق تعليمه حاضرة بين الناس إلى يوم القيامة .
وإذا كانت الأمور والمسائل التي علمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين في حياته وفي سنته القولية والفعلية موجودة بين ظهرانيهم ويعملون بها فهل تعليمه لأجيال التابعين وتابعي التابعين مستمر ومتصل أم أنه إنقطع بإنتقاله إلى الرفيق الأعلى .
الجواب هو الأول ليكون من الإعجاز الغيري للقرآن ومصاديق الحكمة في الآية أعلاه إستمرار كل من:
أولاً : تعليم النبي محمد صلى الله عليهم وآله وسلم للمسلمين والمسلمات في كل زمان ومكان.
ثانياً : تعلم المسلمين والمسلمات من سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل زمان ومكان.
ثالثاً : عمل المسلمين والمسلمات في كل زمان ومكان ما تعلموه من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو مصداق متجدد لقوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( )، وقوله تعالى[لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ) .
ونهل وتعلم كل جيل من المسلمين من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق توجه الخطاب من الله عز وجل لكل جيل من المسلمين[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، وشاهد على تعاهدهم للسنة النبوية وتوارثهم العمل بأحكام ومصاديق إستبشار الشهداء بهم كما ورد في آية البحث بقوله تعالى[وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ]( ).
الثالث : المدح والثناء على المسلمين والمسلمات لتلقيهم التعليم من خاتم النبيين وسيد المرسلين ، ومن القرآن وآياته ، ويمكن إنشاء كل من:
أولاً : قانون كل آية من القرآن معلم للخير .
ثانياً : الآية مدرسة للصلاح وتهذيب الأخلاق لبيان تعدد القائم بالتعليم مع إتحاد سنخية الهدى ، فالآية الكونية ضياء على الصراط المستقيم، وكلام الله هداية وتعليم وإرشاد وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم علم سماوي .
وآية البحث وهي السبعون بعد المائة من سورة آل عمران والتي جاء هذا الجزء وهو الثامن والخمسون بعد المائة في تفسيرها وبيان تأويلها والنكات العلمية فيها والتي تضئ سبل الهداية للمسلمين والمسلمات.
الرابع : الثناء على المسلمين والمسلمات في مضمون ذات الآية أعلاه بتسميتهم بالمؤمنين، ولتكون هذه التسمية ومصاديق المنّ في الآية أعلاه مقدمة لمبادرتهم للنفير والخروج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد، وإصلاحاً للمؤمنين للقتال والرضا بالقتل في سبيل الله، لبيان أن هذا القتل لم يأت لشهداء بدر وأحد فجأة وعلى نحو قهري، إنما كانوا عازمين على محاربة الشرك، ومبارزة الكفار الذين أصروا على الهجوم على المدينة.
وتكرار الثناء على المسلمين وفق دلالات الآية أعلاه فضل من عند الله عز وجل عليهم، وإصلاح لهم لوراثة الأرض بسنن التقوى، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامس : الثناء على الكتاب وهو القرآن لأنه موضوع تعليم سيد المرسلين لأمته.
وهل يدل ثناء الله على الكتاب على ثنائه على نفسه وعلى رسوله الجواب نعم، لأن القرآن كلامه الخالي من التعارض والسالم من المعارضة، والمعصوم من الزيادة والنقيصة، والجامع للبيان وتبيان كل شيء، وهو هدى وخير محض , وكل آية منه حكمة وتترشح عنها مصاديق الحكمة، وفي التنزيل[قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]( ).
الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره ، ومصداقاً للصراط المستقيم، وقد تفضل الله سبحانه، وجعل كل مسلم ومسلمة يقرآن قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) عدة مرات في اليوم ليكون من مصاديق الهداية والرشاد إلى الذكر والحمد لله والثناء عليه ، ويصير ذات الصراط المستقيم مطلوباً بذاته ، وهو نوع طريق للحمد والثناء وكذا فإن الحمد لله نوع طريق وهداية إلى الصراط المستقيم من غير أن يلزم الدور بينهما، ومن خصائص الحمد لله أنه يفتح خزائن رحمة الله في النشأتين .
وهل منها إخبار الآية السابقة عن حياة الشهداء عند الله عز وجل ، الجواب نعم ، بلحاظ أن هذا الإخبار من ذخائر علم الغيب التي لا يحيط بعلمها إلا الله عز وجل فتفضل على المسلمين ببركة النبوة الخاتمة والقرآن فأطلعهم عليها مع التفصيل من جهات :
الأولى : حياة الشهداء .
الثانية : الزجر والنهي عن الظن بأنهم أموات ، أي إذا اختلى المسلم مع نفسه , فلا يحق له أن يتصور ويظن أنهم أموات.
الثالثة : تغشي وغمر السعادة للشهداء من حين مغادرتهم الدنيا وقبل أن تجف دماؤهم، ولعله من أسرار قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص (شهداء أحد فَقَالَ ” زَمّلُوهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ بِكُلُومِهِمْ ، فَإِنّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اللّوْنُ لَوْنُ الدّمِ وَالرّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ)( ) .
فإن قلت قد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث الشهداء يوم القيامة بدمائهم وأريج عطرها، والجواب نعم , وهذا الأمر ليس برزخاً أو مانعاً دون إقتران فرحهم بمغادرتهم الدنيا يوم معركة أحد .
ويحتمل دفن الشهيد في ثيابه وجهين:
الأول : الوجوب، وبه قال أبو حنيفة.
الثاني : الإستحباب والأولوية، وبه قال أصحاب الشافعي وأحمد.
والمختار هو الثاني، وإرادة الإستحباب , وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفّن حمزة يثوب وكفن رجلاً آخر في ثوب، وقيل في الرد عليه أن الكفار قد سلبوا ثياب حمزة ، ومثلوا به، وقاموا ببقر بطنه، ولكنه شاهد على جواز التكفين نعم سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى بالعمل بها وإتباعها.
ومن خصائص هذا الجزء المبارك بعثه الفرح والسرور في نفس المسلم لأنه يتناول تفسير قوله تعالى(فرحين) فإن قيل سبب وموضوع نزول الآية التي يختص بتفسيرها هذا الجزء , وهي السبعون بعد المائة من سورة آل عمران هم شهداء أحد إذ تخبر عن فرح وغبطة تتغشاهم في عالم البرزخ والآخرة , والجواب من وجوه :
الأول : التبعية والمحاكاة، إذ يحاكي المسلمون عند تلاوتهم القرآن والغوص في ذخائر آية البحث أهلها الذين أخبرت عن فرحهم.
الثاني : بعث آية البحث السرور في نفوس المسلمين والمسلمات لما جاء إخوانهم الشهداء من فضل الله، وهذا البعث من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ) .
الثالث : الأمن والتأمين على المسلمين في عالم الآخرة لتغشيهم بفضل الله، وفوزهم بشفاعة الشهداء لهم، قال تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ) .
حرر في 25 شوال 1438
19/7/2017
قوله تعالى [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] الآية 170.
الإعراب واللغة
فرحين : حال منصوب بالياء من الضمير في [يُرْزَقُونَ]أو [أَحْيَاءٌ] في الآية السابقة لإتحاد الموضوع، وإرادة ذات الذين قتلوا في سبيل الله في معركة أحد , ولتجلي قانون بلحاظ صناعة الإعراب وهو تعدد الآيات التي تخص الشهداء، وتتضمن إكرامهم.
بما : الباء : حرف جر .
ما : اسم موصول مبني في محل جر متعلق بفرحين .
آتاهم الله : آتى : فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف .
هم : ضمير مفعول به .
الله : لفظ الجلالة فاعل مرفوع بالضمة، لبيان أن الأمر والنهي في الآخرة خاص بالله عز وجل وحده ، إلا أن يأذن سبحانه كما في قوله تعالى [يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا] ( ) .
من فضل : جار ومجرور متعلق بـ[آتَاهُمْ]وهو مضاف , والضمير الهاء مضاف إليه ، وهو عائد إلى الله عز وجل .
يستبشرون :الواو حالية لإفادة مسألة وهي أن الجملة الحالية والفعل الذي قبلها يقعان في آن واحد وزمان متحد، وتقديره في الجملة: فرحين يستبشرون .
ومن خصائص الجملة الحالية أنها تكون خبرية ولا تكون إنشائية ، لذا فانها تحتمل التصديق والتكذيب ، ولكن الجملة الخبرية في القرآن لا تحتمل إلا التصديق على نحو القطع والتعيين ،وتكون الجملة الحالية على قسمين :
الأول : المقيدة بحال مخصوص غير قابل للدوام وهو الأكثر ، كما في قوله تعالى[كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ]( ) .
الثاني : المطلقة وهي التي تفيد الدوام ، وهل الواو في قوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ] من القسم الأول أم الثاني , المختار أنها من الأول .
وقد أخبرت آية البحث عن علوم الغيب، وتختص القدرة فيها بالله عز وجل وحده من جهات :
الأولى : نزول آية البحث بمضامينها القدسية .
الثانية : قيام جبرئيل بالنزول بآية البحث ، فليس لجبرئيل قدرة على هذا النزول إلا أن يشاء الله .
الثالثة : أمانة جبرئيل وحفظه لحروف وكلمات آية البحث .
الرابعة : بيان حال شهداء معركة أحد بعد قتلهم في ميدان المعركة ، وكيف أنهم أحياء عند الله عز وجل .
الخامسة : من فضل الله عز وجل على الناس والخلائق التعدد في النعمة في الموضوع المتحد ، وإنشطار كل فرد منها إلى نعم متعددة .
وذكرت الآية السابقة المتعدد من النعم .
يستبشرون : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الأفعال الخمسة .
الواو : فاعل .
بالذين : جار ومجرور متعلق بيستبشرون .
لم يلحقوا : لم : حرف نفي وقلب وجزم .
يلحقوا : فعل مضارع مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون .
الواو : فاعل .
بهم : جار ومجرور متعلق بـ [يَلْحَقُوا].
من خلفهم : من حرف جر .
خلف : اسم مجرور , وعلامة جره الكسرة الظاهرة تحت آخره وهو مضاف .
والضمير هم : مضاف إليه .
ألا خوف : ألا : كلمة مركبة من أن المخففة من الثقيلة، والاسم ضمير الشأن محذوف.
ولا : نافية مهملة .
خوف : مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
عليهم : جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر .
ولا هم يحزنون : الواو : حرف عطف .
لا : زائدة لتأكيد النفي .
هم : ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ .
يحزنون : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون .
الواو : فاعل .
وجملة أن آتاهم الله لا محل لها صلة الموصول (ما) وجملة [يَسْتَبْشِرُونَ] في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هم) .
وجملة [لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ] لا محل لها صلة الاسم الموصول [الذين] .
وجملة [أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ] في محل رفع خبر (أن) المخففة .
في سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة , وهي على شعبتين :
الشعبة الأولى : صلة هذه الآية بالآيات المجاورة السابقة , وهي على وجوه :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إبتدأت الآية السابقة بحرف العطف الواو ، إذ أختتمت الآية قبل السابقة بالأمر من عند الله عز وجل للنبي محمد [قل] للإحتجاج على الذين نافقوا .
لقد كانت مصيبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد شديدة على نفسه لسقوط سبعين شهيداً مع كثرة الجراحات التي أصابته والجراحات والقروح التي أصابت المهاجرين والأنصار ، وعندما عاد إلى المدينة كانت هناك مصيبة أخرى تنتظره , وهي الإشاعات والأراجيف التي يبثها المنافقون بالتمسك بالقرآن وأحكامه والنهي عن الفرقة والخصومة والشقاق كما يدل عليه قوله تعالى[لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
ترى هل من صلة بينها وبين إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي أشاعها المشركون في معركة أحد ، الجواب نعم ، فمن وجوه الإلتقاء بينهما أمور :
الأول : إرادة إضعاف الإسلام .
الثاني : صد الناس عن دخول الإسلام .
الثالث : جلب الأذى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته والصحابة .
الرابع : محاولة بعث الهمة والعزيمة في نفوس الذين كفروا .
الخامس : السعي لتفريق المسلمين ، وقد جاء التحذير والتنبيه من الله عز وجل بالأمر بقوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ]( ).
وهل في خاتمة الآية قبل السابقة[قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ) مواساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المصائب التي لحقت بهم يوم أحد .
الجواب نعم ، وإذ تخف وطأة المصيبة مع تقادم الأيام فان هذه المواساة باقية إلى يوم القيامة .
وهو من أسرار الآية القرآنية واستدامة نفعها وتجدد فيوضاتها إلى جانب تعدد المقاصد السامية منها ، إذ أن أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإحتجاج على الذين نافقوا لا يختص بالمواساة إنما يكون على وجوه :
الأول : بيان قانون وهو أن إحتجاجات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الكفار والمنافقين وحي من عند الله .
الثاني : الإحتجاج على الذين نافقوا من مصاديق قوله تعالى [جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ]( ) إذ أن الجهاد أعم من أن ينحصر بالسيف والقتال .
الثالث : تفضل الله عز وجل بالإحتجاج على المنافقين بعظيم قدرته وسعة سلطانه ، وأنه لا يقدر على حضور الموت عند الإنسان في أوانه وكيفيته إلا الله عز وجل .
الرابع : الإتعاظ العام من الإحتجاج القرآني على الذين نافقوا ، وهذا الإتعاظ على وجوه :
الأول : اتعاظ عموم المؤمنين والمؤمنات.
الثاني : تلقي المسلمين والمسلمات الإحتجاج القرآني بالتدبر والإتعاظ .
قال عمر بن عبد العزيز قبل خلافته:
إنه الفؤاد عن الصبا … وعن انقيادٍ للهوى
فلعمر ربك إن في … شبي المفارق والجلى
لك واعظاً لو كنت تت ..عظ اتعاظ ذوي النهى
حتى متى لا ترعوي … والى متى وإلى متى
ما بعد أن سميت كه … لاً واستلبت اسم الفتى
بلى الشباب وأنت إن … عمّرت ؤهنٌ للبلى
وكفى بذلك زاجراً … للمرء عن غيًّ كفى)( ).
الثالث : من خصائص القرآن أنه موعظة للناس جميعاً ، فهو يخاطب العقول، ويكشف الحقائق، ويقرب المدركات العقلية بصيغة الأمور الحسية ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
المسألة الثانية : لقد ابتدأت الآية السابقة بالعطف بالواو ثم أداة النهي (لا) ليكون من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إكرامه من عند الله سواء بتوجه الأمر أو النهي إليه .
فقد يرد النهي للزجر ويتضمن اللوم ، ويدل على التوبيخ وتكون فيه اشارة إلى الإنذار ودنو العقاب ، قال تعالى [وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
أما النهي الوارد في أول آية السياق فانه ثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتأديب له فيما يخص الظن والإعتقاد، وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (أدبنى ربى فأحسن تأديبى)( ).
وفي قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ] دعوة للمسلمين والمسلمات للتنزه عن الظن الخاطئ .
فاذا كانت آية البحث تنهى عن الظن المخالف لعلم الغيب بخصوص عالم الآخرة ، فمن باب الأولوية أنها تنهى عن الظن الخاطئ فيما يخص الدنيا والآخرة ، وفيها تحذير للذين كفروا من سوء الظن والشك والوهم، لوجوب التسليم بإطلاق الربوبية لله عز وجل، قال تعالى[وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ]( ).
المسألة الثالثة : من خصائص الإنسان إتصافه بأمور تتعلق بالوجود الذهني وعالم التصور منها :
الأول : الاستصحاب والظن بالذات والموضوع والحكم في الزمن الحال وفق ما كان من الزمن الماضي ، فاذا كان يعرف أن الشخص الفلاني متقيد بدفع ما عليه من الحقوق الشرعية من الزكاة والخمس في كل سنة فانه يستصحب بقاءه على تلك الحال .
الثاني : التبادر ، وهو حضور معنى مخصوص في الذهن حال سماع لفظ معين ، وإن جاء مطلقاً من غير لحاظ قرينة حالية أو مقالية، ليدل اللفظ على معنى مخصوص بلا معونة من الخارج لأن المعنى المجازي لا يستبق إلى الذهن إلا مع القرينة الصارفة .
المسألة الرابعة : إبتدأت آية السياق بالنهي عن حالة قلبية وتصور ذهني يتعلق بشهداء معركة أحد من الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع عن الإسلام والتنزيل بقوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ]( )، وتوجه هذا النهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يظن بموت الذين قتلوا في معركة أحد إنما هم أحياء في نعيم , ويأتيهم رزقهم من عند الله عز وجل .
ويتعلق هذا التصور بعالم الحاسة وصيرورة الذي تفارق روحه الجسد جثة هامدة لا حراك فيها ، ثم يأتي دفنه من قبل الأهل والأقارب مع حرصهم على مواراته بالتراب واطمئنانهم لتحقق وتمام مسألة الدفن وشرائطه .
ولكن آية السياق أخبرت عن أمور :
الأول : قانون من علم الغيب ، وهو حياة الشهداء في عالم الآخرة ، وكأنهم لم يموتوا قط .
الثاني : حياة الشهداء في الآخرة عند الله عز وجل لقوله تعالى [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ] ولو اكتفت آية البحث بالقول بأنهم [أَحْيَاءٌ] لتبادر إلى الذهن أنهم أحياء في القبور ولجاء زمان توضع فيه أجهزة تنصت في القبر ملاصقة لبدن الميت ، ولا تبعث أي اشارة تدل على الحياة أو مجئ رزق للشهداء، ليكون من تقييد حياة الشهداء بأنها عند الله أي ليس في عالم القبور وأنه لا عبرة بسكون جثة الشهيد , وقد قال رسول الله (زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ) ( ).
الثالث : توالي الرزق الكريم على الشهداء من عند الله ، ولم تقل الآية أنهم ضيوف عند الله إنما حالهم وإقامتهم أكبر وأعظم من الضيافة، لذا ذكرت الآية الرزق ،ويدل قوله تعالى [وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ]( ) على أن الرزق من عند الله تعالى في الآخرة أعم من أن يختص بالشهداء ، فانه يشمل عموم المؤمنين .
وبين رزق الشهداء الذي تذكره آية البحث ورزق المؤمنين العام في الآية أعلاه عموم وخصوص مطلق فرزق الشهداء أعم وأكبر , قال تعالى[يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً]( )، وعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام قال: ما من قطرة أحب إلى الله عزوجل من قطرتين: قطرة دم في سبيل الله، وقطرة دمعة في سواد الليل لا يريد بها عبد إلا الله عز وجل)( ).
ومن فضل الله عز وجل على الشهداء عدم إختصاص آية البحث بذكر ما رزقهم الله عز وجل .
إذ جاءت آية البحث بما يدل على إتصافهم بالإدراك والإحساس والصلة مع أهل الدنيا، وتحتمل هذه الصلة وجهين :
الأول : الصلة من طرف واحد ، اذ أن الشهداء يستبشرون ويفرحون بالمؤمنين الذين سيلحقون بهم ، ولكن هؤلاء المؤمنين لا يعلمون حال الشهداء .
الثاني : الصلة من الطرفين ، وأن المؤمنين يعلمون بحياة الشهداء عند الله، ويستبشرون بقدومهم .
والصحيح هو الوجه الثاني أعلاه بلحاظ كل من آية البحث والسياق، وكل واحدة منهما لها لسان وشفتان وتنطق بالحق، وهو من أسرار وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة آيات القرآن في الصلاة على نحو الوجوب العيني عدة مرات في اليوم الواحد.
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله غير فرحين).
لقد ابتدأت آية البحث ببيان صفة للشهداء في دار الآخرة وهي الفرح والسرور .
لقد غادروا الدنيا بحرارة السيف وألم الجراح ، وفراق الأحبة من الولد والزوجة والأخ ، فتفضل الله عليهم بالفرح مع بيان الآية لموضوع وعلة هذا الفرح ، وهو ما آتاهم الله عز وجل من فضله .
ومن خصائص الحياة الدنيا طرو الفرح تارة والحزن مرة أخرى ، وليس من إنسان إلا ويحل عنده الفرح والحزن بالتعاقب والتوالي أو على نحو الدفعة المشتركة سواء في الموضوع المتحد أو المتعدد ، كما لو وردته بشأن وخبر محزن في آن واحد ، وهو من الشواهد على إمكان إجتماع النقيضين في المحل الواحد وإن كان الموضوع متحداً .
فيجتمع عند الإنسان الفرح بأمر ، والحزن بأمر آخر لبيان أن بديع صنع الله في خلق الإنسان أعظم وأبهى من أن تحيط به القواعد التي استقرأها العلماء ومنها عدم إجتماع الضدين ، قال تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ]( ).
وجاءت آية البحث بقانون وهو فرح وسعادة الشهداء في الآخرة لبيان التباين بين الدنيا والآخرة ، وأن المؤمن يطرأ عليه الحزن في الدنيا ، ولكنه لا يصل إليه في الآخرة ليكون في تلاوة آية البحث تخفيف عن الحزن الذي يطرأ على المؤمنين في الحياة الدنيا لأنها تنمي ملكة العلم عندهم بأن حبل الحزن مقطوع وهو من المتناهي والمحدود، وأقصى مدته أيام الحياة الدنيا وعند مغادرتها يكون المؤمنون في عالم [لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
ومن معاني الجمع بين الآيتين عدم كفاية إقرار المسلمين بحياة الشهداء عند الله فلابد من التسليم بأنهم يفرحون ولا يحزنون مع بيان موضوع الفرح ،وهو الفضل الإلهي الذي يأتيهم من عند الله عز وجل .
وقد ورد في القرآن ما يبين نزول فضل الله عز وجل كما في قوله تعالى [بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ) أما آية البحث فأنها ذكرت الفضل والإحسان الذي ينعم به الله عز وجل على الشهداء بصيغة الإتيان وليس النزول للدلالة على أنهم عند الله عز وجل وليس في عالم القبور .
مع إعجاز آخر في المقام وهو تضمن لفظ الإتيان إكراماً إضافياً للشهداء، وموافقاً لظرف (عند) في قوله تعالى [ عند الله ].
لقد حث الله عز وجل المسلمين على طلب فضل الله والسعي لنيله ، قال تعالى [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ] ( ) .
وأخبرت آية البحث عن قانون وهو أن فضل الله عز وجل يأتي للشهداء من غير طلب وسعي منهم فالآخرة دار الثواب والجزاء ، فان قلت قد سعوا لهذا الفضل بدمائهم .
الجواب هذا صحيح ، ولكن هذا السعي مقدمة لبلوغ مرتبة الحياة حال الموت ، ولم يتصف بالمقدمة في المقام إلا بفضل ولطف من عند الله ، وظاهر آية البحث أن شهداء أحد غادروا الدنيا ، ولم يعلموا أن الحياة ستدب في أوصالهم حال قتلهم .
ولم يعلموا من الأصل أنهم يقتلون , فالحرب سجال وكرّ وفر وإن أخبرت آيات القرآن على شوقهم للقاء العدو ، ويدل قوله تعالى [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ] ( ) على الترديد بين تحقيق النصر وبين الشهادة والذي يدل بالدلالة التضمنية على احتمال النجاة من القتل .
(عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :لكل شيء حقيقة ، وما بلغ عبد حقيقة الإِيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه) ( ).
ولا تعارض بين الحديث أعلاه وبين الحث على الدعاء والتوسل لقوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ).
ومن إعجاز آية البحث أنها ذكرت فضل الله عز وجل الذي يأتي في الآخرة على الشهادة والقتل في سبيل الله .
المسألة السادسة : لقد ذكرت الآية السابقة شهداء أحد ، وفيه مسائل :
الأولى : القتل في سبيل الله والذي يدل بالدلالة التضمنية على قتالهم قربة إلى الله عز وجل .
الثانية : نيل الفخر والعز بالقتل في سبيل الله .
الثالثة : إنتفاء اللوم لمن يقتل في سبيل الله .
الرابعة : عدم الملازمة بين السعادة وطول العمر وبين الإيمان والقتال في سبيل الله .
والدنيا كلها ملك لله عز وجل كما قال تعالى [وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالْأُولَى] ( ) وتفضل وأنزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلا أن سبعين منهم سقطوا شهداء يوم معركة أحد ، ليفوزوا برغد الحياة الهنيئة عند الله عز وجل بحيث لو خيّروا أي واحد منهم الرجوع إلى الدنيا وبين البقاء عند الله لأختار الثاني ، إلا أن يكون هذا الرجوع من أجل الشهادة والقتل في سبيل الله ، كما يدل عليه النص والخبر .
الخامسة : الزجر عن إحتساب شهداء أحد أمواتاً ، ويشمل هذا الزجر :
الأول : المؤمنون والمؤمنات .
الثاني : المسلمون والمسلمات .
الثالث : أهل الكتاب ومنهم يهود المدينة .
الرابع : المنافقون والمنافقات في المدينة .
الخامس : عموم الذين كفروا ، ومنهم الذين قتلوا الشهداء ، فما أن يعود جيش الذين كفروا إلى مكة ويدخلونها حتى يصل أسماعهم قانون حياة شهداء أحد من المسلمين عند الله بنزول آية البحث وتلقي مسلمي ومسلمات مكة الآية بالتصديق والقبول ، وهو من مصاديق خيبة الذين كفروا الواردة في قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) .
ومن خصائص كلام الله عز وجل ترتب الأثر عند كل من قرأه أو سمعه ولو على نحو الموجبة الجزئية ، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن , وهل هو من ذخائر نفخ الروح في آدم بقوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) الجواب نعم , لتستجيب الأرواح لكلام الله طوعاً وقهراً وانطباقاً .
(وقال عليه السلام: واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان:
زيادة في هدى، أو نقصان من عمى. واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لاحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم واستعينوا به على لاوائكم، فان فيه شفاء من أكبر الداء، وهو الكفر والنفاق والغي والضلال، فاسألوا الله به، وتوجهوا إليه بحبه ولا تسألوا به خلقه، إنه ما توجه العباد إلى الله بمثله.
واعلموا أنه شافع مشفع، وقائل مصدق، وإنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه، ومن محل به القرآن يوم القيامة صدق عليه، فانه ينادي مناد يوم القيامة : ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله، غير حرثة القرآن، فكونوا من حرثته وأتباعه، واستدلوه على
ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراء كم، واستعشوا فيه أهواءكم , وساق الخطبة إلى قوله: وإن الله سبحانه لم يعظ أحدا بمثل هذا القرآن فانه حبل الله المتين، وسببه الامين، وفيه ربيع القلب، وينابيع العلم، وما للقلب جلاء غيره، مع أنه قد ذهب المتذكرون، وبقي الناسون والمتناسون، إلى آخر الخطبة) ( ).
السادسة : يسمى عالم القبر مما بعد الموت وإلى يوم القيامة بعالم البرزخ أي الوسط ، ويكون الموتى في قبورهم إلى يوم يبعثون ،ولا يظن الناس بوجود استثناء في المقام إلا مع الدليل ، فجاءت آية البحث حجة ومصداقاً لقانون ( ما من عام إلا وقد خصّ ) إذ أن الصحابة الذين قتلوا في معركة أحد نجوا من حال الموت في عالم البرزخ ، فصاروا أحياء من حين قتلهم وكأنهم لم يدخلوا القبور .
فان قلت قد ثبت دفنهم (يقال انه قتل يومئذ عبدالله أبو الحكم بن الاخنس بن شريق الثقفى ودفن هو وحمزة بن عبد المطلب في قبر واحد.
قال ابن سعد : ودفن عبدالله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد ودفن خارجة بن زيد وسعد بن الربيع في قبر واحد.
ودفن النعمان بن ملك وعبدة بن الخشخاش في قبر واحد , وكان
الناس أو عامتهم قد حملوا قتلاهم إلى المدينة فدفنوهم في نواحيها فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ردوا القتلى إلى مضاجعهم , فأدرك المنادي رجلا واحدا لم يكن دفن فرد وهو شماس بن عثمان المخزومى) ( ) وهناك مسألتان :
الأولى : هل دفن كل اثنين أو ثلاثة من الشهداء في قبر واحد واجب أم مستحب .
الثانية : هل دفن الشهداء في ثيابهم أمر واجب أم مستحب.
أما الأولى فالجواب أنه حكم في واقعة أحد ويدل على الجواز.
وأما الثانية فان دفنهم في ثيابهم مستحب ، وقيل لا يكفن الشهيد في غير ثيابه إلا أن يسلبها كما في حمزة بن عبد المطلب والتأسي بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم معركة أحد أعم من الوجوب .
لقد كانت معركة أحد واقعة ترشحت عنها مسائل متعددة ، وفيها مواعظ وعبر ، ولكن هذه المواعظ أعم من أن تكون واجباً .
وتنطق آية البحث بحياة الشهداء عند الله عز وجل سواء بذات أبدانهم أو بابدان مثالية أو غيرها فان الله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة .
وتحتمل هيئة الشهداء في الآخرة وجوهاً :
الأول : التساوي بينها وبين حالهم في الدنيا من جهة الحسن .
الثاني : حال الشهداء في الآخرة أحسن منها في الدنيا .
الثالث : حال وهيئة الشهداء في الدنيا هي الأحسن لقوله تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ] ( ) .
والصحيح هو الثاني أعلاه لتقييد الحياة بأنها عند الله عز وجل ، وقد تقدم ان حياة الشهداء هذه لا تدل على أنهم أحسن من الملائكة ، فهل تدل على التساوي بينهم وبين الملائكة بلحاظ وحدة الموضوع في تنقيح المناط والملاك هو الحياة عند الله ، الجواب لا دليل على هذا التساوي .
السابعة : تحتمل حياة الشهداء في الآخرة وجوهاً :
الأول : الحياة من غير رزق بلحاظ أنها من عالم المجردات .
الثاني : الحياة مع الرزق المتقطع حيث يشاء الله .
الثالث : حياة الشهداء مع الرزق المتصل المتجدد .
والصحيح هو الثالث من وجوه :
الأول : أصالة الإطلاق ، إذ ورد لفظ [يُرْزَقُونَ]( ) من غير تقييد أو تخصيص .
الثاني : لا يعطي الله عز وجل إلا بالأتم الأوفى .
الثالث : ورود النصوص والأخبار في المقام .
الرابع : المتبادر إلى الذهن إستدامة الرزق وعدم إنقطاعه .
الخامس : رزق الشهداء في عالم البرزخ مقدمة لرزقهم يوم القيامة وعند دخولهم الجنة .
السادس : من عظيم قدرة الله عز وجل حال الناس في عالم البرزخ ، فبينما يعيش الشهداء برزق كريم , أخبر الله عز وجل عن عرض آل فرعون على النار بقوله [النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا] ( ) إذ تقرب إليهم وتحس بهم وتنتظر دخولهم لها فلم تقل الآية (تعرض عليهم) إنما هم الذين يعرضون على النار ، ويقربون إليها ، ويقال لهم هذه منازلكم .
ترى ما هي النسبة بين الآية أعلاه وقوله تعالى [وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ] ( ) .
الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، ليكون من معانيه :
الأول : يعرض الطواغيت مثل فرعون والنمرود في عالم البرزخ كل يوم على النار بكرة وعشياً .
الثاني : يعرض عموم الذين كفروا في المحشر وبعد البعث على النار .
الثالث : ذم الذين كفروا من الناس سواء التابعين أو المتبوعين منهم لبقائهم في مفاهيم الكفر والضلالة بعد إقامة الحجة عليهم .
الرابع : التباين الرتبي في شدة العذاب بين الطواغيت وبين الأتباع كما في قوله تعالى [وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ] ( ) .
المسألة السابعة : لقد إبتدأت آية البحث بالصفة [فَرِحِينَ] وهو جمع مذكر سالم لبيان حال الذين قتلوا في سبيل الله ليكون من معاني الجمع بين الآيتين وجوه :
الأول : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله غير فرحين فقد يظن بعضهم أن الحزن يطرأ على الشهداء من جهات :
الأولى : تعدي وظلم الذين كفروا .
الثانية : خروج الذين كفروا من معركة أحد أحياء , وعودة أكثر الذين قتلوهم إلى مكة أحياء يتفاخرون بقتلهم للشهداء .
الثالثة : ترك الشهداء لأولادهم أيتاماً في المدينة .
وهل كانت في الإسلام عدالة انتقالية بحيث يعوض أبناء الشهداء ، أم كان السائد قاعدة سد الذرائع ، الجواب هو الأول ، وليس من حدود لهذه العدالة إذ نزل القرآن بالأمر والتوصية الأكيدة بأبناء الشهداء وباليتامى مطلقاً ، والرأفة بهم وإصلاحهم و لتتولى الأمة تأديبهم المقرون باكرامهم, قال تعالى[وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ]( ).
وجاءت السنة النبوية بالبعث على العناية بالأيتام , وكأن الإسلام دين الأيتام ذكوراً وأناثاً ، ومن الآيات في المقام أن بعض أيتام شهداء أحد صاروا قادة وأمراء واتصفوا بالتقوى والصلاح ، وكانت لهم منزلة وشأن عند الخلفاء والأمراء .
الرابعة : لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله حزينين لحر السيف وشدة قبض الروح ، وجاء قوله تعالى [بَلْ أَحْيَاءٌ] شاهداً على قانون غبطتهم وكأنهم لم يموتوا ولم يقتلوا .
الثاني : من إعجاز آية البحث أنها لم تتضمن الإخبار عن شكر الشهداء لله عز وجل، فلم تقل: شاكرين ما آتاهم الله من فضله لتأكيد قانون وهو أن الآخرة دار جزاء من غير عمل وأن الشهداء قد شكروا الله عز وجل شكراً عملياً بالصبر في ميدان القتال، والجهاد في سبيل الله إنما ذكرت الآية فرحهم وغبطتهم وسعادتهم بفضل الله لبيان أنهم أدركوا نجاتهم من السعي والعمل.
وقيدت آية البحث فرح الشهداء بأن موضوعه وعلته هو ما آتاهم الله عز وجل من فضله وإحسانه لبيان إقرارهم بأن هذه النعم العظيمة لم تأت عن شهادتهم وقتلهم في سبيل الله وحده , إنما جاءت رحمة وفضلاً من عند الله عز وجل ، ليكون من معاني[وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ]( )، أي فضله سبحانه على الأحياء والأموات من المؤمنين وعلى الشهداء الأحياء منهم.
الثالث : من خصائص الحياة الدنيا أن فيها الفرح والحزن والسعادة والكآبة ، واليسر والعسر ، وأيضاً فيها قتل وإذاقة حرارة السيف ، وشدة سكرات الموت كما تدل عليه آية السياق .
نعم قد ورد الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتخفيف عن الذين يقتلون في سبيل الله عند مفارقتهم الدنيا .
وجاءت آية البحث بقانون يخص الشهداء وهو أنهم في حال أمن ووقاية من الكرب والحزن والكآبة والعسر ونحوه ، فهم فرحون في كل آن ووقت ، لا يفارقهم الفرح ،وهذا الفرح على وجوه :
الأول : إنه من فضل الله عز وجل على الشهداء , قال تعالى[وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
الثاني : ترشح فرح الشهداء من توالي النعم التي يتفضل الله عز وجل بها عليهم .
الثالث : فرح شهداء أحد لإختيارهم القتل في سبيل الله .
الرابع :غبطة وسعادة شهداء أحد بقانون حياة الشهداء عند الله سبحانه.
المسألة الثامنة : لقد إبتدأت آية البحث بقوله تعالى [فَرِحِينَ] ويتصل موضوع الفرح بالآية السابقة بلحاظ أنها صفة , ويمكن تأسيس قانون وهو عطف الآية القرآنية على الآية التي قبلها بالصفة ، ومنه قوله تعالى [إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ]( )، وعلى فرض صحة القول بالعطف بالاسم الموصول الذي ننشئه في المقام فإن آيات كثيرة بهذا المعنى في القرآن وتتجلى منه علوم إضافية، وهل في آية البحث كفاية للنبي محمد من المستهزئين بنبوته ومعجزاته، الجواب نعم.
ومن معاني فرح الشهداء بلحاظ الآية السابقة وجوه :
الأول : نهي الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عن الظن بموت الشهداء ، فقد كانت آيات القرآن تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتبين أحكام الحلال والحرام ، وتتوجه بالنداء إلى المسلمين والمسلمات بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا]أما الآية السابقة فانها تخاطب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الشهداء وتبلغه بحياتهم عند الله ، وتنهاه عن الظن بموتهم أو بقائهم في عالم القبر .
ولم تتضمن الآية السابقة الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالعناية بالشهداء إنما جاءت بالنهي عن الظن بأنهم أموات ، وهل تنهى الآية السابقة النبي محمداً عن الدعاء للشهداء ، أو أن آية البحث تتضمن غناهم عن دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لأنهم أحياء عند الله وفرحون بما أتاهم .
الجواب لا ، وهو من الإعجاز في آية البحث وكيف أنها أخبرت عن فرح الشهداء بفضل الله ، وذكرت الفضل على نحو التنكير من جهة السعة والكم والكيف ، ليكون دعاء النبي صلى لله عليه وآله وسلم والمؤمنين لهم على وجوه :
أولاً : هذا الدعاء من فضل الله على الشهداء، وهو من مصاديق قوله تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
ثانياً : تقدير آية البحث : فرحين بما آتاهم الله من فضله بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين لهم .
ثالثاً : مجئ الثواب الإضافي للشهداء بدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
رابعاً : تلاوة المسلمين لآية البحث والآية السابقة باب للثواب للشهداء.
الثاني : تضمن الآية السابقة تفضل الله عز وجل باخبار المسلمين وأهل الدنيا مطلقاً بحياة الشهداء عند الله عز وجل.
الثالث : من رشحات آية البحث إمتلاء صدور الذين كفروا بالغيظ والحنق من جهات :
الأولى : عند نزول آية البحث وإخبارها عن فرح وغبطة الشهداء.
الثانية : تسليم المسلمين بمضامين آية البحث .
الثالثة : رؤية الذين كفروا للمسلمين وهم سعداء بفرح وغبطة ورضا عن حال الشهداء .
الرابعة : تلاوة المسلمين لآية البحث عدة مرات في اليوم ، ليكون من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة القرآن في الصلوات اليومية تذكير الكفار بحياة الشهداء عند الله عز وجل ، ويكون من معاني قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ] ( ) المحافظة عليها لإغاظة الذين كفروا من جهات :
الأولى : أداء المسلمين الصلاة .
الثانية : تقيد المسلمين بالصلاة وأركانها وأجزائها .
الثالثة : تلاوة المسلمين للآيات التي تتضمن الثناء على الشهداء ، وفيه ذم وتبكيت للذين كفروا .
الرابع : شهادة الله عز وجل للمؤمنين بأنهم قتلوا في سبيل الله ، وفي التنزيل [وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( ) ويدل إخبار الله عز وجل عن فضل الشهداء في سبيله على سلامتهم من درن النفاق ، ومن الوهن والضجر والجزع عند ملاقاة الموت.
المسألة التاسعة : لقد إبتدأت الآية السابقة بالنفي والنهي عن ظن واعتقاد موت الشهداء مع أنهم قتلوا وفارقوا الدنيا، ومن ألف باء الفلسفة عدم إجتماع الضدين ، إذ أن الموت والحياة لا يجتمعان في موضوع متحد ، فكيف وأن هذا الموت وزهوق الروح حدث بالقتل بمرأى ومسمع من المئات من الفريقين ، وهو من مصاديق قوله تعالى قبل بضع آيات [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) ليكون سقوط سبعين شهيداً من هذه المصيبة ، وهل هي مصيبة متحدة أم متعددة .
الجواب هو الثاني ، ويكون تقدير الآية على وجوه متعددة بلحاظ كل فرد من الشهداء مثلاً :
الأول : وما أصابكم يوم التقى الجمعان بقتل حمزة بن عبد المطلب فبإذن الله عز وجل.
الثاني : وما أصابكم يوم التقى الجمعان بقتل عبد الله بن جحش فبإذن الله .
الثالث :وما أصابكم يوم التقى الجمعان بقتل عمرو بن الجموح فبإذن الله .
الرابع : وما أصابكم يوم التقى الجمعان بقتل عبد الله بن عمرو بن حرام فبإذن الله.
الخامس : وما أصابكم يوم التقى الجمعان بقتل حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة فبإذن الله .
السادس : وما أصابكم يوم التقى الجمعان بقتل خارجة بن زيد فبإذن الله.
السابع : وما أصابكم يوم التقى الجمعان بقتل سعد بن الربيع فبإذن الله.
الثامن : وما أصابكم يوم التقى الجمعان بقتل حسيل بن جابر فبإذن الله وهكذا بالنسبة لشهداء أحد الآخرين.
وهل يصح تقدير الآية بلحاظ شهداء بدر أيضاً، ويكون تقدير الآية مثلاً : وما أصابكم يوم التقى الجمعان بقتل عبيدة بن الحارث فبإذن الله .
أم أن القدر المتيقن هو إرادة شهداء معركة أحد ، الجواب هو الأول .
وأختلف في عدد قتلى المسلمين يوم أحد ، وقال محب الدين الطبري عن مالك أن شهداء أحد خمسة وسبعون من الأنصار .
وعن الشافعي أن عدد شهداء معركة أحد اثنان وسبعون ، وقيل أنهم ستة وتسعون ، المهاجرون منهم أحد عشر ، والأنصار خمسة وثمانون , من الخزرج سبعة وأربعون ومن الأوس ثمانية وثلاثون .
وعن ابن سعد أن عدد قتلى الأنصار وحدهم تسعون
والمشهور والمختار أن عدد شهداء معركة أحد هو سبعون .
المسألة العاشرة : لقد أفتتحت الآية السابقة بالنهي الصريح الذي يتعلق بأطراف :
الأول : التصور الذهني .
الثاني : توجه الخطاب في الآية إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : إرادة خصوص حياة شهداء أحد وأنهم ليسوا أمواتاً .
وجاءت آية البحث ببيان صفات كريمة أخرى للشهداء وهم في عالم البرزخ ليدل الجمع بين الآيتين على حقيقة وهي أن الجزاء في الآخرة لا ينحصر بيوم القيامة ودخول المؤمنين الجنة ثواباً لهم على عملهم الصالحات في الدنيا مع ثناء الملائكة القائمين على الجنة عليهم .
والقاء الذين كفروا في النار ، لسوء اختيارهم وإصرارهم على الكفر والجحود مع إحتجاج خزنة النار من الملائكة عليهم ، وقيامهم بذمهم والإخبار أنهم يستحقون العذاب، قال تعالى[وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ* قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ * وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ]( ) .
أما شهداء أحد فأنهم يعيشون في النعيم من حين قتلهم ، وهم فرحون بما آتاهم الله ومنه البشارة بمضامين الآية أعلاه بدخولهم الجنة خالدين فيها والفوز بها .
ويصح تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : فرحين بما آتاهم الله من الحياة من حين القتل .
الثاني : فرحين بعظيم فضل الله عليهم .
الثالث : فرحين بامتيازهم بالحياة من حين القتل .
الرابع : فرحين بفضل الله وهو مقدمة لسوقهم إلى الجنة يوم القيامة .
الخامس : فرحين بما آتاهم الله من فضله بصيرورتهم من الذين [وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
السادس : فرحين بما آتاهم الله من النجاة من حساب منكر ونكير ، وهل ينجو الشهداء من ضغطة القبر أم لابد أن تصيبهم ، المختار هو الأول .
وذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً ضغطة القبر فقالت فاطمة بنت أسد أم الإمام علي عليه السلام واضعفاه ، فضمن لها رسول الله أن يكفيها الله عز وجل ذلك.
السابع : فرحين لنزول آية السياق .
الثامن : فرحين لأن الله عز وجل نهى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الظن بموت وفناء الشهداء في القبور .
التاسع : فرحين بنزول آية البحث وإخبارها عن فرحهم .
وهل فيها وعد من عند الله عز وجل للشهداء، الجواب نعم من جهات:
الأولى : بيان قانون وهو صيرورة الشهداء فرحين بفضل ولطف من عند الله ، فلا تقدر الخلائق أن تجعلهم فرحين في الآخرة ، إذ أنها ملك طلق لله عز وجل، قال تعالى[لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ).
وقد يقوم سلطان أوملك بادخال الفرحة إلى قلوب رعيته وسكان بلده إلا أن هذه الفرحة محدودة بلحاظ الجهة والزمان والموضوع والحكم والأثر والدلالة وسرعان ما تنقطع ، وقد يصاحبها حزن في موضوع آخر .
الثانية : إستدامة فرح الشهداء في كل آنات الزمان، وحيثما حلوا في ملك الله عز وجل .
وتكون حال الإنسان على وجوه :
الأول : الفرح .
الثاني : الحزن .
الثالث : البرزخ بين الفرح والحزن .
والقسم الثالث أعلاه نعمة عظمى على الإنسان في الدنيا وان كان أدنى مرتبة من الفرح ، ولكن حياة الشهداء في الآخرة ليس فيها إلا الفرح الدائم بفضل الله .
الثالثة : وصف فرح الشهداء بأنه بفضل الله عز وجل مما يدل على اتصاله ودوامه وعدم انقطاعه عن الفضل الإلهي السابق ، ولا تدل الآية على إنحصار الفضل الإلهي بما أفاضه بالأمس، إنما جاءت الآية للقطع بدوام الفضل الإلهي .
ويكون من معانيها :
الأول : فرحين بالفضل السابق .
الثاني : فرحين بالفضل الحال .
الثالث : فرحين بالفضل الذي سيأتي وسوف يأتي .
الرابع : فرحين بمصاديق الفضل المستديم.
الخامس : فرحين لأنهم فرحون بفضل الله ، فذات الفرح يستحق الفرح والغبطة والسعادة .
وتبين الآية قانوناً وهو أن فضل الله لا يمكن حجبه عن العباد مطلقاً وعن الشهداء خاصة ، فلا يخشى الشهداء وسوسة الشيطان ، ولا نقصان الفضل الإلهي .
وهل يلزم فرح الذين قتلوا في سبيل الله الشكر من المسلمين لله عز وجل أم أن الأمر خاص بعالم الآخرة وحياة الشهداء فيها ، الجواب هو الأول من جهات :
الأولى : شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة نزول آية البحث ، وإخبارهم عن حال وحياة الشهداء عند الله عز وجل ، ولو لم تنزل آية البحث لم يعلم المسلمون والمسلمات بحياة شهداء معركة أحد من حين قتلهم .
الثانية : الشكر لله عز وجل لما في آية البحث من المواساة للمسلمين وعوائل الشهداء خاصة ، إذ تبعث الآية على الصبر وهو من مصاديق الإسترجاع في قوله تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ] ( )فيتطلع المسلمون للرجوع إلى الله بعد الموت لأن فيه فرحاً وغبطة وسعادة .
الثالثة : توجه المسلمين بالشكر لله عز وجل على حياة الشهداء عند الله والتي تدل بالدلالة التضمنية على أنهم لم يخسروا نعيم الدنيا .
وهل تدل حياة الشهداء عند الله على قانون وهو أن المسلمين لم يخسروا معركة أحد، الجواب نعم ،فصحيح أن المسلمين فقدوا سبعين شهيداً إلا أن كل واحد منهم فاز بالحياة الأبدية عند الله وصار في حال فرح وغبطة دائمة، ومن مصاديق فرح الشهداء إدراكهم لهذا القانون وهو أن المسلمين لم يخسروا معركة أحد .
المسألة الحادية عشرة :من وجوه تقدير الجمع بين الآيتين الذين قتلوا في سبيل الله فرحون بما أتاهم الله من فضله ) إذ تبين الآية السابقة حقيقة للأجيال المتعاقبة من الناس وهي أن طائفة من المسلمين قتلوا دفاعاً عن الإسلام ، وتكشف وقائع معركة أحد أن هؤلاء الشهداء لم يهجموا ولم يغيروا على الكفار ويطأوا أراضيهم وينهبوا أموالهم ويعبثوا في بلادهم ، إنما كان الصحابة في المدينة على قسمين :
الأول : المهاجرون الذين فروا بدينهم من الظالمين ، أقاموا في المدينة المنورة بحال جوع وفقر وفاقة حباً لله وتصديقاً برسوله الكريم ، ومنهم من استحوذت قريش على ملكه وأمواله , ومنهم من قام ذوو قرباه وغيرهم ببيع داره.
وفي يوم فتح مكة قام أبو رافع بضرب قبة من آدم وجلد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحجون ومعه زوجتاه أم سلمة وميمونة .
وقد قيل له(تَنْزِلُ غَدًا بِدَارِك بِمَكّةَ ؟ فَقَالَ وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ)( ).
فقيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنزل في بعض بيوت مكة غير منازلك ، ولكنه أبى وقال : لا أدخل البيوت )، مع استحباب فتح أهل مكة أبوابهم لوفد الحاج ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موسم الحج .
وكان عقيل قد ورث بيوت أبي طالب وقام ببيعها ، ولم يترك لعلي عليه السلام ولجعفر ميراثاً منها , وظاهر كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن عقيلاً استولى على دار تعود للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقام ببيعها أو أن هناك بيوتاً وأموالاً مشتركة لبني عبد المطلب.
الثاني : الأنصار من الأوس والخزرج من أهل المدينة المنورة الذين أسلموا واستقبلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفته كرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذبوا ودافعوا عنه .
وقد جاءت آيات عديدة تذكر المهاجرين والأنصار مجتمعين ومتفرقين في دعوة لأجيال المسلمين المتعاقبة للتفقه في الدين ومعرفة جهادهم في مرضاة الله ، وحبهم وذكرهم بالحسن ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]( ).
ثم جاء بعد هذه الآية بآيتين قوله تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ]( )، وقد آخى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينهم وذكر أن عدد الذين آخى بينهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسعون من الصحابة.
ومن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الشهداء الذين تذكرهم آية البحث والآية السابقة من المهاجرين والأنصار ، وليس من طائفة واحدة منهم .
وجاءت السنة النبوية وأخبار الصحابة بذكر أسمائهم ، وقد تفضل الله عز وجل علينا بتخصيص جزء مستقل من هذا السِفر لترجمتهم واحداً واحداً ( ).
لقد ذكرت آية السياق حال الشهداء من جهة تلقي الفضل الإلهي من جهات :
الأولى : حياة الشهداء .
الثانية : الشهداء أحياء عند الله عز وجل .
الثالثة : بعث الطمأنينة في قلوب المسلمين في آية البحث بأن الله عز وجل هو رب الشهداء ومولاهم بعد موتهم بقوله تعالى [عِنْدَ رَبِّهِمْ] فهو الذي يفيض عليهم الرزق الكريم ، ولن ينساهم أو يتركهم آناً ما , وفي التنزيل[ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى]( ).
وهل ينقطع حكم الظرفية هذا يوم القيامة ، أي إذا كان الشهداء يوم المحشر يلتحقون مع عموم الناس في مواطن يوم القيامة لوحدة الموضوع في تنقيح المناط ، الجواب لا ، إذ أن ظاهر الآية الإطلاق الزماني ، فالشهداء ضيوف عند الله في كل آن إلى أن يدخلهم الجنة .
وفي المرسل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بأربعمائة عام ، حتى يقول المؤمن الغني : يا ليتني كنت نحيلاً . قيل : يا رسول الله صفهم لنا قال : هم الذين إذا كان مكروه بعثوا له ، وإذا كان مغنم بعث إليه سواهم ، وهم الذين يحجبون عن الأبواب) ( ).
والذين قتلوا في سبيل الله في معركة بدر وأحد أسمى مرتبة وأقرب إلى الله من فقراء المسلمين ، إذ تبين آية البحث أنهم عند الله عز وجل , وفي ضيافته .
الثانية عشرة : لقد إبتدأت آية السياق بنهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الظن بموت وهلاك شهداء معركة أحد التي جرت في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة بقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ] .
ولا يختص هذا النهي بالظن أنهم أموات ،إنما يتعدد ويتسع بلحاظ مضامين آية البحث والآية السابقة , فيكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : ولتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله فرحين ) ويدل هذا الظن بالدلالة التضمنية على حياتهم لأن الفرح عرض مصاحب للمحمول والموضوع .
الثاني : ولتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله يأتيهم فضل الله عز وجل .
الثالث : ولا تحسبن حجب أو قطع فضل الله عن الذين قتلوا في سبيله تعالى .
الرابع : ولا تحسبن فضل الله خاصاً بالأحياء من الناس .
الخامس : ولا تحسبن فضل الله محجوباً عن أهل القبور، فان قلت ظاهر آية البحث أن شهداء أحد ليسوا من أهل القبور إنما هم بمنزلة رفيعة عند الله، وهذا صحيح إنما المقصود أهل القبور عامة المؤمنين والناطقين بالشهادتين الذين يغادرون الحياة الدنيا .
السادس : يا أيها الذين آمنوا لتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أحياء فرحين).
ومن إعجاز الخطاب القرآني الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شمول المسلمين والمسلمات به إلا ما ورد خاصاً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً] ( ) وقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ]( ) وحتى مثل هذه الخطابات الخاصة تشمل المسلمين والمسلمات بالمعنى والدلالة.
نعم ورد خطاب خاص بقوله تعالى[وَامرأة مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ]( ) إذ بينت السنة حصر الهبة في النكاح من غير صداق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
و(تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاث عشرة امرأة: ست من قريش خديجة . وعائشة . وحفصة . وأم حبيبة . وسودة . وأم سلمة ، وثلاث من بني عامر بن صعصعة ، وامرأتين من بني هلال . ميمونة بنت الحرث ، وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وزينب أم المساكين ، وهي التي اختارت الدنيا .
وامرأة من بني الحارث ، وهي التي استعاذت منه . وزينب بنت جحش الأسدية . والسبيتين صفية بنت حيي . وجويرية بنت الحارث الخزاعية)( ).
واستدل على حصر الخطاب المتوجه الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم به إلا مع الدليل بأن الخطاب الوارد نحو الواحد يكون في أصل اللغة محصوراً به، ولا يكون شاملاً لغيره، وكما في الأمر والنهي ،فاذا خص الأب ابنه او رب العمل أحد العمال بعمل مخصوص فانه لا يكون متناولاً لغيره وأن الأمر للواحد قد يكون مصلحة له ومفسدة لغيره لكنه قياس مع الفارق، إذ أن الخطاب القرآني مدرسة للأجيال المتعاقبة وكنز سماوي يشع ضياؤه على النفوس ، ويثبت في قرارة النفوس ، لذا جاء القرآن بالبعث على التدبر في آيات القرآن، قال تعالى[وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَاأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
ومن التقوى التأسي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتباع نهجه، والتقيد بالأوامر والنواهي العامة النازلة من عند الله عز وجل والمتوجهة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولم يثبت القول بأن الخطاب الخاص بالواحد لا يكون لغيره إذ أن أحكام التكاليف عامة ، ولا يلزم استحضار دليل من الخارج للدلالة على اشتراك الغير متحداً أو متعدداً فيه .
والأصل في الخطاب القرآني الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو شمول وتناول أفراد الأمة رجالاً وأناثاً معه إلا ما دل الدليل على خلافه .
وتتضمن آية البحث في دلالتها الخطاب لعموم المسلمين والمسلمات بأن لا يظنوا موت الشهداء أو أنهم في حزن وكآبة ، وهو من باب الأولوية القطعية إذ توجه النهي في أمور الظن والإخطار في القلب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي طهّر الله قلبه من كل ظن مخالف لعلوم الغيب .
ومن الإعجاز في المقام إدراك كل مسلم ومسلمة تناول الخطاب والأمر والنهي المتوجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم مجتمعين ومتفرقين كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ]( ).
المسألة الثالثة عشرة : لقد جاءت الآية السابقة بما يبهر العقول وإستدامة هذه النعم ، وتحتمل النعم التي ذكرتها آية السياق وجوهاً :
الأول : استدامة النعم الإلهية التي وردت في آية السياق .
الثاني : إصابة هذه النعم بالنقص مع تقادم الأيام والسنين إذ أن التي تأتي للشهيد في أول أيام مغادرته الدنيا أكثر من غيرها .
الثالث : حدوث النقص في بعض النعم التي تذكرها آية السياق .
الرابع : السعة والزيادة في النعم التي تذكرها آية السياق على نحو مطرد.
والصحيح هو الأخير ، وتدل آية البحث على تعدد وتوالي النعم على شهداء أحد .
وتحتمل هذه النعم بلحاظ الجهة التي تتوجه إليها وجوهاً :
الأول : إرادة توجه الخطاب والمواساة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على بيان حال الشهداء لذويهم وعوائلهم وأصحابهم .
الثالث : المراد أخوة الشهداء النسبيون .
الرابع : المقصود إخوة الشهداء بالإيمان الذين آخى بينهم وبين الشهداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : المقصود عموم المسلمين والمسلمات .
السادس : إرادة بيان فضل الله على المسلمين والناس .
السابع : تذكير الله عز وجل الملائكة باحتجاجه عليهم يوم أخبرهم بصيرورة آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) بأنه سبحانه يقابل فساد الكفار وقتلهم المؤمنين بأن يرزق المؤمنين الحياة الأبدية في النعيم ليصبحوا كالملائكة في معيشتهم تحت ظل العرش ، ثم يتفضل الله عز وجل عليهم بدخولهم الجنة، قال تعالى [لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ]( ).
الثامن : بيان عظيم قدرة الله وسعة سلطانه واللامحدود من هبات الله عز وجل للمؤمنين أحياءً وأمواتاً .
لقد ذكرت كل من آية البحث والسياق المتعدد من النعم على الصحابة الذين قتلوا في معركة أحد , والأصل هو إنصراف الأذهان إلى حقيقة وهي أن الثواب يأتي للمؤمنين يوم الحساب ، ولكن الله أبى إلا أن يلقي السكينة في قلوب المؤمنين والمؤمنات لمصاحبة الثواب للشهداء من حين مفارقتهم الدنيا.
لقد عاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من معركة أحد مثقلين بالجراح والكلوم مع الحزن والأسى على فراق سبعين شهيداً منهم ، فنزلت كل من آية البحث والسياق لأمور :
الأول : تخفيف ورفع الحزن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثاني : بعث الطمأنينة في نفوس المؤمنين لحسن عاقبة الشهداء .
الثالث : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمه على الشهداء .
الرابع : إخبار المسلمين والمسلمات بأن الذي يقتل دون شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل في ميدان المعركة يلقى الثواب العظيم.
الخامس : حث المسلمين والمسلمات على الإسترجاع ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ]( ).
المسألة الرابعة عشرة : لقد أخبرت آية البحث عن فرح وسرور الذين قتلوا في سبيل الله وبينت موضوع وعلة هذا الفرح ، وهو فضل الله عز وجل الذي أنعم به عليهم ، فهل قتلهم في سبيل الله من هذا الفضل، الجواب إنه فضل آخر غيره، إنما جاء الفضل الإلهي بسبب إختيارهم القتل في سبيله تعالى، نعم هذا القتل والهداية إليه وإلى مقدماته من فضل الله عليهم ولكنه غير الفضل الذي تذكره آية البحث .
ويمكن تسمية هذه الآيات آيات الفضل الإلهي على الذين قتلوا في سبيل الله .
ولا يختص هذا الفضل بهم إذ تترشح بركاته على كل المسلمين والمسلمات ، وهو من الإعجاز في خلق الإنسان وخلافته في الأرض بسنن الإيمان بأن يأتي الفضل إلى الشهداء في عالم البرزخ فينتفع منه المسلمون والمسلمات الأحياء منهم والأموات .
وكأن آية البحث تخاطب الصحابة بأمور :
الأول : اعلموا بحال العز التي عليها إخوانكم الذين قتلوا في سبيل الله.
الثاني : إياكم والجزع والفزع بسبب قتل طائفة منكم .
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ) بلحاظ أن ذات الحزن والفزع من مقدمات الوهن والضعف .
الثالث : إن كنتم تساءلون عن حال الشهداء ، فالله عز وجل هو الذي يتولى الإخبار عنهم ، ترى لماذا تفضل الله عز وجل بنعمة الإخبار عن هذه النعم، ولم يفوض أمر الإخبار عن حال الشهداء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع أن حديثه من الوحي .
الجواب من جهات :
الأولى : هذا الإخبار من فضل الله على الشهداء ليدخل الفرح إلى نفوسهم ، وهو من مصاديق أول آية البحث [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ]ليكون من فضل الله عز وجل الذين يفرحون به قيام الله عز وجل بالإخبار عن حياتهم عنده .
(عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش. فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ، وحسن مقبلهم . قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا – وفي لفظ – قالوا : إنا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله : أنا أبلغهم عنكم . فأنزل الله هؤلاء الآيات { ولا تحسبن الذين قتلوا…} وما بعدها)( )، ولا بأس بتأويل مسألة أجواف طير خضر لدلالة مضمون آية البحث والسياق على أنهم أحياء وأنهم يفرحون ويستبشرون بفضل من الله بما يتبادر إلى الذهن أنهم كحالهم في الدنيا والعلم عند الله.
الثانية : البشارة للأحياء من المسلمين بسلامة القرآن من التحريف لأن الله عز وجل يتعاهد الإخبار الذي تفضل به .
الثالثة : بيان قانون وهو أن الله عز وجل يجازي بنفسه الشهداء ومن هذا الجزاء نزول كلامه في بيان حالهم .
قد ورد عن أبي ذر أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان يخطب وحينما قعد توجه إلى أبي ذر فسأله : هل ركعت ) أي صليت ركعتي تحية المسجد .
قال أبو ذر : لا .
فلم يسكت النبي ويكتف بالسؤال والتنبيه ، خاصة وأن هاتين الركعتين أمر مستحب بل قال له :قم فاركع .
فقال أبو ذر فركع ركعتين ، وبعد أن أتم أبو ذر الركعتين ، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هل تعوذت فيهما من شر شياطين الجن والأنس، لبيان قانون وهو جواز الإستعاذة من الشيطان في الصلاة .
ويحتمل هذا الأمر والإستعاذة من الشياطين وجوهاً :
أولاً : إختصاص الإسعاذة بصلاة أبي ذر تلك بلحاظ أنها مسألة عين ، وقضية في واقعة .
ثانياً : المقصود الإستعاذة في كل صلاة مستحبة .
ثالثا : استحباب الإستعاذة في كل صلاة .
والمختار هو الثالث ، وهو من رشحات قوله تعالى [فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ] ( ).
ثم سأل أبو ذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أول الأنبياء فقال له: إنه آدم .
وأراد أبو ذر التأكد والبيان فقال قلت: نبي كان؟ قال: نعم مكلم( ).
أي فاز بخصوصية وهي تكليم الله عز وجل له , ثم سأل عن الأنبياء, والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يجيبه من غير ملل أو ضجر ، ثم قال أبو ذر : يا رسول أخبرني عن الصلاة .
ولم يطلب منه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التفصيل أو يسأله عما يريده من سؤاله عن الصلاة انما أجابه في الحال بالقول (خير مفروش ، من شاء استكثر منه .
قال أبو ذر قلت : ما الصدقة ؟ قال : أضعاف مضاعفة . قلت : ما الصيام ؟ قال : الصيام جنة ؛ قال الله : الصيام لي وأنا أجزي به . والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) ( )
ثم سأله عن الصدقة وإذا كان أداء الصيام أمر خالص لوجه الله وهو الذي يجزي عليه ، فان القتل في سبيل الله أعظم رتبة وأكثر تضحية من الصيام ، ولا يجزي عليه إلا الله عز وجل ، فجاءت آية البحث وآية السياق بالإخبار عن جزاء الله عز وجل لشهداء أحد ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : حصر جزاء الله للشهداء بمضامين هذه الآيات والإخبار عن حياتهم عند الله سبحانه.
الثاني : بين عموم جزاء الله للشهداء وما ذكر في هذه الآيات عموم وخصوص مطلق ، فالجزاء أعم .
الثالث : التفصيل والتباين في ذات فضل الله على الشهداء ، فمرة يكون واسعاً كثيراً وأخرى لا يتعلق بمضامين آية البحث والآية السابقة .
والصحيح هو الثاني ، فما ورد في هذه الآيات من فضل الله للبيان والبشارة والكشف عما هو حق وصدق من حال الشهداء وفيه رشحة من علم الغيب الخاص بالشهداء ، وبينهما عموم وخصوص مطلق .
فما يأتي للشهداء بفضل الله أعظم وأكثر مما ورد في هذه الآيات .
وهل يمكن تأسيس قانون وهو أن ما يتفضل به الله أعم مما يخبر عنه.
الجواب نعم ،وهو من ربوبيته المطلقة وسعة رحمته، وإستجابة السموات والأرض وما فيهن له سبحانه ، إنه أكرم من أن يجعل الناس يعلمون بكل فضله عليهم سواء، في الدنيا أو الآخرة لأن هذا الفضل أكبر وأعظم من أن تحيط به العقول, قال تعالى[وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
لتنكشف للناس مصاديق الفضل التي تأتي من غير علة أو سبب أو استحقاق وعلى نحو دفعي أو تدريجي ليتجهوا إلى شكر الله تعالى والإقرار بالعبودية والحاجة له سبحانه ، ويتخذوا الدعاء سلاحاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
لبيان أن السؤال في الآية أعلاه على وجوه :
الأول : سؤال المسلم لنفسه .
الثاني : سؤال المسلم لأبويه سواء كانا من الأحياء أو الأموات، وهذا السؤال من مصاديق البر بهما .
الثالث : سؤال الجماعة من المسلمين لأنفسهم ، وفي التنزيل [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ] ( ).
الرابع : سؤال المسلم لعموم المسلمين .
الخامس : سؤال المسلمين للفرد الواحد منهم .
السادس : سؤال المسلمين الأحياء لشهداء بدر وأحد .
السابع : تلاوة المسلمين لآية البحث والسياق في الصلاة وخارجها ، فان قلت هذه التلاوة ليست دعاء , والجواب هذا صحيح إلا أن الله عز وجل يتفضل بالثواب العظيم على هذه التلاوة ، ولا دليل على حصر الثواب بخصوص الدعاء ، فاداء كل فعل عبادي من قبل المسلمين مناسبة للأجر والثواب، قال تعالى[وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ]( ).
وإن كان أحد الشهداء قد ثكل به أبواه وحرما من دعائه لهما لو بقي حياً ، فهل ينتفعان منه بعد شهادته وهما لا يزالان في الحياة الدنيا ، الجواب نعم ، وهو الذي تدل عليه كل من آية السياق وآية البحث ، أما آية السياق فمن جهات :
الأولى : شهادة الله عز وجل للصحابة الذين قتلوا في معركة بدر وأحد بأنهم قتلوا في سبيله في نشر الإسلام وتثبيت مبادئه وبسبب تصديقهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته واقامتهم الصلاة وأدائهم الزكاة وصيامهم شهر رمضان وسعيهم لحج بيت الله الحرام خالياً من الأصنام والأوثان .
الثانية : دعوة آباء وأمهات الشهداء للتسليم بأن أبناءهم الذين قتلوا في معركة بدر وأحد إنما هم أحياء عند الله وهم في حال فرح دائم ، فكيف يحزن الإنسان على الذي يكون فرحاً على نحو الدوام .
وعن سهل بن حنيف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تزوجوا ، فإني مكاثر بكم الأمم، وإن السقط( ) ليرى محبنطئاً( ) بباب الجنة، فيقال له: ادخل، فيقول: حتى يدخل أبواي)( ).
الثالثة : تفضل الله عز وجل بالشهادة بالحياة للشهداء الذين قتلوا في سبيل الله لتكون هذه الشهادة مادة لإحتجاج الآباء على حسن تربيتهم وتأديبهم لأبنائهم , ليكون من معاني آية السياق وجوه:
الأول : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله لم يؤدَبوا، نعم التأديب في المقام أعم من أن يختص به الوالدان خاصة وإن من شهداء بدر وأحد من كان آباؤهم من الكافرين ولم يرضوا لهم بدخول الإسلام وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله من الغافلين) إذ أن إختيار القتال دفاعاً عن النبوة والتنزيل فطنة وحكمة، قال تعالى[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ]( ).
الثالث : ولا تحسبن الذين قتلوا قصّروا أو فرطوا).
الرابع : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله طلبوا الغنائم وزينة الدنيا، إنما كانوا ممن أخلص العبادة والطاعة لله عز وجل، قال سبحانه[إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ]( ).
الرابعة : معاني ودلالات آية السياق في إعانة الآباء والأمهات في اتباعهم ونصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعدم الجزع عند مصيبة القتل في سبيل الله .
الخامسة : لقد ورد قبل أربع آيات أن ما أصاب المسلمين في واقعة بدر إنما هو بإذن الله وجاءت آية السياق والبحث لبيان قانون وهو أن ما يقع للمسلمين بإذن الله هو خير ورحمة ونوع هداية ورشاد ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى يا رسول الله قال ذكر الله .
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل , قال : ذكر الله قيل الذكر أفضل أم الجهاد في سبيل الله فقال لو ضرب المجاهد بسيفه في الكفار حتى ينقطع سيفه ويختضب دما لكان الذاكر أفضل منه )( ).
المسألة الخامسة عشرة : لقد أراد الله عز وجل إكرام شهداء بدر وأحد في العالم الآخر بإخبار آية البحث والسياق المسلمين الأحياء والناس جميعاً إلى يوم القيامة عن حياتهم وفرحهم بما رزقهم الله.
وهل يدخل الذين كفروا في لفظ الناس أعلاه , الجواب نعم ، فما أن قتل أحد الكفار صحابياً في معركة أحد حتى نزلت آية السياق والبحث ليسمع بهما فيصيبه الفزع والأسى ، وتلحقه الكآبة والحسرة ، ومن فضل الله مخاطبة آية السياق للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتضمنها نهيه والمسلمين عن إحتساب شهداء أحد أمواتاً لا حراك لهم , وهذا الفضل من وجوه :
الأول : معرفة الناس بلغة الخطاب بين الله عز وجل ونبيه الكريم وما فيها من الإكرام الخاص له إذ يتفضل الله عز وجل ويصلح باله ويمنع عنه التصور والظن المخالف لعلم الغيب ،ومن مصاديق هذا العلم عظيم فضل الله على الشهداء.
ولقد أكرم الله عز وجل النبي يوسف عليه السلام بدفع وصد السوء والفاحشة عنه بقوله تعالى [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ]( ).
وتفضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونهاه عن الظن بما يخالف إكرام الله عز وجل للشهداء , وفيه شاهد على تصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما ينزل عليه من آيات القرآن ، وفي الثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ]( ).
ولقد نصره المهاجرون والأنصار فسقط عدد منهم شهداء في معركة بدر وأحد، فكان جزاء أمره تعالى في الآية أعلاه [لَتَنْصُرُنَّهُ] الحياة الكريمة للشهداء الذين نصروه بدمائهم ، ومغادرة الدنيا طاعة لله عز وجل
الثاني : بيان قانون وهو النهي عن إحتساب الشهداء أمواتاً فضل من الله وإكرام منه تعالى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإذا كان النهي في آية السياق يتناول المسلمين والمسلمات فهل الإكرام في المقام يشملهم أيضاً.
الجواب نعم، وهل يشملهم بالإلحاق، الجواب يشملهم بالذات وبالإلحاق مجتمعين ومتفرقين، وهو من فيوضات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإنتفاع المتعدد من الخطاب القرآني.
فإن قلت يدل هذا المعنى على تعدد الإكرام للمسلمين في النهي الوارد في آية البحث فهل إكرام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيها متحد ومخصوص نهيه بقوله تعالى(ولا تحسبن).
الجواب لا، إنما هو متعدد بعدد المسلمين والمسلمات بلحاظ كبرى كلية وهي كل إكرام لأي مسلم في المقام إكرام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : يعيش الشهداء أحلى وأبهى حياة لأنها عند الله، فإن قلت حياة المؤمنين في الدنيا عند الله، الجواب الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء فاز بها المؤمنون بالمعرفة والعرفان، وإخلاص العبادة لله عز وجل وقهروا فيها النفس الشهوية والغضبية وإختاروا الصدود عن إغواء إبليس رجاء الإنتقال إلى النعيم الدائم، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً]( ).
إن تقييد آية السياق لحياة الشهداء بأنها(عند الله) نعمة عظمى لم تخطر على الأذهان، ومدرسة في الجزاء لا يقدر عليها ولا يهبها إلا الله عز وجل.
المسالة السادسة عشرة : لقد ذكرت آية السياق القتل وسفك الدماء ولكنها قيدته بأنه في سبيل الله بقوله تعالى [الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ) ليكون من مصاديق إحتجاج الله على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) حينما أنكروا خلافة الإنسان في الأرض وهو الذي يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، إذ تضج الملائكة إلى الله عز وجل لقتل المؤمن لإيمانه ،وقتل الإنسان ظلماً ، وكذا في القتل العشوائي وما يصاحبه من بعث الفزع والخوف في قلوب عامة الناس رجالاً ونساء، وكباراً وصغاراً .
لقد تحقق مصداق جلي لما خشيت الملائكة منه في حياة وخلافة الإنسان في الأرض بهجوم الذين كفروا في معركة أحد ، وجمعهم بين الفساد والقتل اللذين حذر منهما الملائكة، كما ورد في التنزيل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ).
فتفضل الله عز وجل بمصاديق لإحتجاجه على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) من جهات :
الأولى : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل يوم أحد ليتوالى عليه نزول آيات القرآن .
الثانية : إمتلاء قلوب الذين كفروا بالرعب والفزع والخوف مع أن عددهم نحو أربعة أضعاف عدد جيش المسلمين وكانت عدتهم وأسلحتهم ومؤنهم أضعافاً مضاعفة لما عند المسلمين.
وبخصوص معركة أحد نزل قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
وإن كان موضوع الآية أعم ويشمل المعارك الأخرى ، وحال الحرب والسلم لأصالة الإطلاق ولإتصال علة الحكم والعقوبة باصرارهم على الكفر والإشراك بالله عز وجل .
الثالثة : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في كل من معركة بدر وأحد والخندق وحنين ، فهذا النزول من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
وهل كان الملائكة يعلمون من حين احتج الله عز وجل عليهم أوان خلق آدم بأنهم سينزلون لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
المختار نعم ، إذ أن قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) يصاحبه البيان والفضل من عند الله عز وجل .
الرابعة : حياة الشهداء عند الله عز وجل ، فيسفك الذين كفروا الدم بغير حق ، فيجازي الله عز وجل الشهداء بما هو أعظم من حياتهم في الأرض ، ولو قيل للملائكة أترضون بهذا الجزاء للشهداء لقالوا نعم ، وخروا ساجدين شاكرين لله عز وجل ومقرين بأن خلافة الإنسان في الأرض نعمة عظمى وآية منه تعالى .
وتشكر الملائكة الله عز وجل على علمه بما سيكون عليه حال الشهداء من النعيم الدائم، وهو بلحاظ آية البحث من جهات :
الأولى : غبطة وسعادة الشهداء في الآخرة والذي يدل بالدلالة التضمنية علة زوال ألم حر السيف وشدة سكرات الموت أو عدم وجودها أصلاً .
الثانية : تعدد مصاديق فضل الله التي تأتي للشهداء في كل آن ، ويتجلى هذا الإطلاق من وجوه :
الأول : سعة فضل الله , وفي التنزيل[وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( ).
الثاني : إخبار الآية السابقة بأن الشهداء [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ].
الثالث : توالي الرزق من عند الله عز وجل ، ومن خصائص الحي أنه يشتهي ويميل ويحب وهي أمور تكون في الآخرة بصفة الكمال والحسن المحض.
(وعن الحسين بن علي عليه السلام قال : بينما علي بن أبي طالب يخطب الناس ويحثهم على الجهاد إذ قام إليه شاب وقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله؟
قال : كنت رديف رسول الله{صلى الله عليه وآله وسلم} على ناقته العصباء ونحن منقلبون من غزوة،
فسألته عمّا سألتني عنه فقال {صلى الله عليه وآله وسلم} الغزاة إذا همّوا بالغزو كتب الله تعالى لهم براءة من النار،
فإذا تجهزوا لغزوهم باهى الله تعالى بهم الملائكة،
فإذا ودعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت،
ويخرجون من ذنوبهم كما تخرج الحية من سلخها،
يوكل عزّ وجلّ بكل رجل منهم أربعين ألف ملك يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله،
ولا يعمل حسنة إلاّ ضعفت له،
وكتب له كل يوم عبادة ألف رجل يعبدون الله عزّ وجلّ ألف سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً،
اليوم مثل عمر الدنيا،
فإذا صاروا بحضرة عدوّهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إياهم،
فإذا برزوا لعدوّهم وأشرعت الأسنّة وفوّقت السهام وتقدم الرجل إلى الرجل حفّتهم الملائكة بأجنحتها ويدعون الله لهم بالنصرة والتثبت،
ونادى مناد : الجنة تحت ظلال السيوف،
فتكون الضربة والطعنة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف،
وإذا زال الشهيد عن فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتى يبعث الله تعالى إليه زوجته من الحور العين فتبشره بما أعدّ الله له من الكرامة،
وإذا وصل إلى الأرض تقول له الأرض : مرحباً بالروح الطيب التي أُخرجت من البدن الطيب أبشر فإن لك ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. على رقابهم المناديل،
بأيديهم الأكواب والأباريق،
وإذا كان يوم القيامة يخرج من قبره شاهراً سيفه تشخب أوداجه دماً،
اللون لون الدم والرائحة رائحة المسك،
يخطو في عرصة القيامة. فوالذي نفسي بيده لو كان الأنبياء على طريقهم لترجّلوا لهم،
ممّا يرون من بهائهم،
حتى يأتوا إلى موائد من الجواهر فيقعدون عليها،
ويشفع الرجل منهم في سبعين ألف من أهل بيته وجيرته،
حتى أن الجارين يتخاصمان أيهما أقرب جواراً فيقعدون معي ومع إبراهيم على مائدة الخلد …… الحديث )( ).
الثالثة : استبشار وفرح الشهداء بأصحابهم الذين لم يلحقوا بهم بعد .
الرابعة : نصرة الملائكة للمسلمين مع وجود الشهداء بين ظهرانيهم قبل أن يقتلوا وبعد قتلهم ، وهل هذه النصرة من أسباب فرح الشهداء في الآخرة الجواب نعم .
الخامسة : سعادة الشهداء بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل يوم معركة أحد خاصة وقد غادر بعضهم الحياة الدنيا يومئذ ، وهو يسمع إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتلقته الملائكة بالبشرى بحياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويأذن له الله عز وجل أن يرى وهو عنده النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يحيط به أصحابه.
وهذه الرؤية من مصاديق قوله تعالى [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ]( ) فيشكر الملائكة الله عز وجل على إمتداد الخلافة وإتصالها بالحياة الهنيئة للشهداء عند الله عز وجل .
السادسة : لقد خاف وخشي الملائكة على المؤمنين من الإغواء في الدنيا، وتجلت خشيتهم هذه بأمرين :
الأول : بما ورد حكاية عنهم في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا]( ) لأن من معاني الفساد إغواء الناس وصدهم عن الإيمان والسعي لإرتداد المؤمن ، ويدل عليه قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( ) ودلت آية البحث والآية السابقة على عجز الذين كفروا على إغواء المؤمنين أو زللهم .
الثاني : خشية الملائكة من قتل المؤمن وسفك دمه ، وتحقق مصداق هذه الخشية في معركة أحد بقتل الذين كفروا السبعين من الصحابة .
فجاءت آية البحث بنفي الخوف عن الشهداء وهم عند ربهم في الآخرة، لبيان أن سلامة الملائكة من الخوف على المؤمنين أو إحتمال نزول العذاب بهم وعصمة الشهداء من طرو الحزن عليهم من باب الأولوية.
السابعة : شكر الملائكة لله عز وجل على سلامة الشهداء من الحزن والحسرة والندامة على ما فاتهم ، ومن تركوا خلفهم من الذرية والأزواج والأموال .
ليكون من معاني قوله تعالى [وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] تغشي فضل الله لعائلة الشهيد وحراستهم والعناية بهم بلطف منه تعالى.
الوجه الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى[الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ) وفيه مسائل :
الأولى : بين موضوعي الآيتين عموم وخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء من وجوه :
الأول : صبغة القرآنية ونزول كل من الآيتين من عند الله عز وجل .
الثاني : تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلمات الآيتين من عند الله بواسطة الملك جبرئيل .
الثالث : إرادة خصوص قتل الشهداء في معركة أحد.
الرابع : بديع المواساة للمسلمين والمسلمات على فقد الشهداء .
الخامس : كل من الآيتين حاجة للمسلمين والناس .
السادس : كل من الآيتين رحمة بشهداء أحد وثناء عليهم.
أما مادة الإفتراق فمن وجوه :
الأول : إبتدأت آية السياق بالاسم الموصول (الذين ) ويتعلق بالمنافقين وتضيق القلوب عندما يذكر المنافقون لخبثهم وسوء إختيارهم واضرارهم العام ، بينما إبتدأت آية البحث بما يبعث البهجة في النفوس ، ويقوي عزائم المسلمين بقوله تعالى بخصوص الشهداء [فرحين] فقد يظن الإنسان أنه ليس بعد الموت إلا السكون والعدم إلى يوم يبعثون ، وفي التنزيل [قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ]( ).
فجاءت آية البحث ببيان أمر خاص يتعلق بالشهداء وهو حياتهم وسعادتهم من حين قتلهم .
الثاني : ذكرت آية السياق قولاً للذين نافقوا يدل على إبطانهم الكفر ، ومحاولتهم نشر مفاهيم الضلالة وبعث الحسرة في النفوس وصد الناس عن دخول الإسلام بقولهم [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ) فكانت آية السياق زاجراً لهم.
وجاءت آية البحث واقية من شرور الذين نافقوا وابطالاً لقولهم .
الثالث : تتعلق مضامين آية السياق بأحوال الناس في الحياة الدنيا ، أما آية البحث فتخص حياة طائفة من الموتى وهم الذين قتلوا في سبيل الله ، وأنهم صاروا أحياء عند الله حالما قتلوا.
وهل حياتهم في الآخرة مثل حياتهم في الدنيا لوحدة موضوع الحياة في تنقيح المناط.
الجواب لا ، إذ قيدت آية السابقة حياتهم في الآخرة بأنها عند الله بقوله تعالى [بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) فجاءت آية البحث لبيان عظيم منزلتهم وتوالي فضل الله عز وجل عليهم.
الرابع : لم تتضمن آية البحث ذكراً أو ذماً للذين نافقوا ، ولكنها تدل في مفهومها على ذمهم وتبعث الحسرة في نفوسهم .
المسألة الثانية : تضمنت آية السياق الأمر إلى النبي محمد بلفظ (قل) للإحتجاج على الذين نافقوا .
ولم تترك إختيار مضمون الإحتجاج لشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه لا يقول إلا عن الوحي والإخبار والتحديث الملكوتي .
إنما ذكرت القول وموضوع الإحتجاج بأن يتحداهم بعجزهم عن دفع الموت عن أنفسهم .
وقد يقال هناك تباين بين القتل الحال في معركة أحد وبين الموت الذي يأتي للمنافقين في آجالهم إذ يعمر أكثرهم لسنوات عديدة بعد معركة أحد، ولم يكن احتجاجهم على الموت في أوان الأجل ، قال سبحانه[فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ) إنما احتجاجهم على أمور :
الأول : صيرورة القتل طريقاً وكيفية للموت .
الثاني : عدم الموت بين الأهل والأحبة على السرير .
الثالث : مغادرة الدنيا بحرارة السيف وجريان الدماء .
الرابع : إختيار الشهداء الإيمان والإستجابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الخروج لقتال العدو .
الخامس : إشارة المنافقين إلى قوة ومنعة وكثرة جيش الكفار .
السادس : إيجاد الذين نافقوا العذر لأنفسهم لقعودهم عن نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , والدفاع عن أنفسهم وأهليهم .
فأخبرت آية السياق بأن المعركة أمر حتم وعن كره من المسلمين وأن الخروج للقتال في سبيل الله طريق السعادة الأبدية ، قال تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ).
وقد خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألف من الرجال وإنخزل منهم ثلاثمائة من وسط الطريق بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول ، لينال السبعمائة الباقون الثواب العظيم في النشأتين، والذي إبتدأ بنيلهم مرتبة الإيمان بشهادة من عند الله عز وجل بقوله سبحانه[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ).
إذ تتضمن الآية أعلاه الثناء على المهاجرين والأنصار من وجوه:
الأول : إحاطة الصحابة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقربهم منه.
الثاني : مبادرتهم للدفاع من حين خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بيته ولبسه لأمة القتال .
الثالث : إنعدام الجدال أو الإحتجاج من قبل الصحابة في الخروج إلى ميدان القتال .
الرابع : إستجابة الصحابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تعيين مواضعهم , فلم تقل طائفة أو أفراد منهم لا نريد المسير مثلاً واجعلنا بالميمنة أو بالعكس سواء قبل وضعهم في مواقف وأمكان القتال أو بعده.
ويحتمل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد وجوهاً:
الأول : الخروج راكباً خاصة بعد الغنائم التي جاءت في معركة بدر ، وعوض وبدل فكاك أسرى المشركين .
الثاني : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ماشياً .
الثالث : المناوبة والتفصيل , فتارة يكون راكباً وأخرى ماشياً ، كما في السير إلى معركة بدر.
والصحيح هو أنه خرج إلى معركة أحد ماشياً، وبه قال الواقدي بينما كان إذا ذهب إلى مسجد قباء يأتيه مرة راكباً وأخرى ماشياً، وقباء أقرب من أحد ، نعم لم ينحصر مجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مسجد قباء بالسنين الأولى من الهجرة .
ترى لماذا خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد ماشياً ، فيه مسائل :
الأولى : بيان جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله وإخلاصه في طاعته وتفانيه في مرضاته .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ..]( ) أم أنه من مقدمات الجهاد المذكور في الآية أعلاه ؟
الجواب هو الأول .
الثانية : بعث الحماس للقتال في نفوس الصحابة حينما يرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخرج ماشياً إلى القتال .
الثالثة : مواساة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة الذين ليس عندهم ما يركبون من الخيل أو الإبل.
الرابعة : تجلي مصداق من مصاديق الأسوة الحسنة ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ) وفيه ترغيب للمسلمين بالخروج للقتال .
الخامسة : إقامة الحجة على الذين نافقوا ، فلا يعتذر بعضهم عن قعوده بعدم وجود ظهر يركبه .
وهل مشي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد على قدميه من الوحي أم هو إجتهاد وإختيار منه ، الجواب هو الأول وهو من السنة الفعلية.
السادسة : شحذ همم الصحابة ، وترغيبهم بالقتال ولو مع الفقر والفاقة وقلة المؤونة ونقص السلاح .
السابعة : بيان قانون وهو أن النصر الذي جاء للمسلمين في أول المعركة لم يكن عن كثرة خيل وسلاح المسلمين، إنما كان بفضل ولطف من عند الله عز وجل ، وهو الذي تجلى بقوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]( ).
فان قلت قد ورد عن ابن إسحاق بخصوص معركة بدر: قد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام (ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيرا، وكان حمزة وزيد بن حارثة وأبو كبشة وأنسة[موليا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتقبون بعيرا)( ) مع أن المسلمين كانوا في حال فقر وضعف وذلة ، فمن باب الأولوية أن يركب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريقه إلى المعركة ولو على نحو الموجبة الجزئية في بعض الطريق.
والجواب إنه قياس مع الفارق لبعد المسافة بين المدينة ومعركة بدر ، إذ يبعد موضع معركة بدر عن المدينة (150) كم , بينما لم يبعد موضع معركة أحد إلا نحو (8) كم عن المسجد النبوي الذي وردت الإشارة له بخصوص معركة أحد بقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ) .
بلحاظ أن بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغرف أزواجه مجاورة للمسجد النبوي ، وقد غلق الأبواب التي حوله إلا بابه وباب علي عليه السلام .
الثامنة : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ، إذ يدل مشي النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قدميه إلى ميدان المعركة العزم على القتال ، وطلب الشهادة ، وحث أصحابه على التحلي بالصبر .
التاسعة : كان في مشي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد ماشياً راجلاً دعوة للمسلمين لتلقي الأذى والجراحات بالرضا بما قسم الله.
ولما جاء خبر قدوم جيش المشركين وأنهم عسكروا بجوار جبل أحد استشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه ، وكان من الذين استشارهم عبد الله بن أبي بن أبي سلول ، وتحتمل استشارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له وجوهاً :
الأول : انه من الغلظة على المنافقين لقوله تعالى [وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ] ( ).
الثاني : انه من إكرام عبد الله بن أبي .
الثالث : في هذه الاستشارة حجة على عبد الله بن أبي بن أبي سلول .
الرابع : إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم للخزرج قوم عبد الله بن أبي بانه لم يتركه خلفه .
الخامس : كان عبد الله بن أبي رأس الخزرج وذا خبرة ومراس في القتال ، فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم سماع رأيه .
وذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدعه قبلها .
والمختار هو الثالث والرابع والخامس أعلاه .
ومن الإعجاز في السنة النبوية تعدد الأغراض والغايات الحميدة من قول وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ولا يختص هذا التعدد بأوان الحديث أو الفعل الصادر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء في حال السلم أو الحرب، والحضر أو السفر، وفي أمور العبادات أو المعاملات أو الأحكام إنما تتجدد المنافع منه وتشرق عنه مقاصد سامية في كل زمان ومكان من أقطار الأرض ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) وفيه دعوة للناس للنهل والإقتباس من السنة النبوية الشريفة.
وهل من السنة النبوية قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للذين نافقوا[فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ]( ) أم أنه قرآن وهو أسمى رتبة من السنة النبوية ، الجواب لا تعارض بين الأمرين ، إذ تدعو آية السياق النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإحتجاج على الذين نافقوا بحضور الموت في ناديهم قهراً.
وهناك مسائل :
الأولى : هل يختص الإحتجاج على المنافقين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : هل يشمل الأمر بالإحتجاج المسلمين .
الثالثة : هل تضمنت كل من آية السياق والبحث الدعوة للتوسعة في الإحتجاج وإقامة البرهان على الذين نافقوا .
أما المسألة الأولى فلا يختص الإحتجاج على المنافقين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن جاءت آية السياق خطاباً له لإلحاق الآية به ويكون تقدير الآية على وجوه:
الأول : يا أيها المسلم قل للذين نافقوا فادرءوا عن أنفسكم الموت.
الثاني : يا أيتها المسلمة قولي للذين نافقوا فادرئي عن نفسك الموت.
الثالث : يا أيها الذين آمنوا قولوا للذين نافقوا فادرءوا عن أنفسكم الموت.
الرابع : يا أيتها اللائي آمنّ قلن للذين نافقوا فادرءوا عن أنفسكم الموت.
الخامس : يا أهل الكتاب قولوا للذين نافقوا فأدرءوا عن أنفسكم الموت.
السادس : يا أيها الذي نافق ادرء عن نفسك الموت ان كنت صادقاً.
السابع : يا أيها الذي نافق قل للذي مثلك فادرء عن نفسك الموت.
الثامن : يا أيها الذين نافقوا قولوا لأنفسكم فادرءوا عن أنفسكم الموت.
التاسع : يا أيها الذين نافقوا فليقل بعضكم لبعض فأدرءوا عن أنفسكم الموت.
العاشر : يا أيتها اللائي نافقن فادرءن عن أنفسكن الموت إن كنتن صادقات.
فإن قلت إنما قيدت الآية قبل السابقة الذين قالوا (لو أطاعونا ما قتلوا) بالرجال من المنافقين والمنافقات، لذكرها لقعودهم، ولا يصدق على المرأة أنها تقعد عن القتال.
والجواب هذا صحيح , ولكن موضوع الآية أعم بدليل قوله تعالى[الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( )، لبيان إتحاد سنخية إخفاء الكفر وإبطال الجحود عند المنافقين والمنافقات ويلتقون في الأمر بالقبيح والنهي عن العمل الصالح، ليكون من عمل المنافقات في المقام وجوه:
الأول : ترديد ذات قول المنافقين وتقول إحداهن بخصوص شهداء أحد، لو أطاعونا ما قتلوا.
الثاني : إرادة قصد المنافقة لأحد الشهداء: لو أطاعني ما قُتل.
الثالث : قول مجموعة المنافقات بخصوص أحد الشهداء: لو أطاعنا ما قتل.
الرابع : قول المنافقات بخصوص الشهداء: لو أطاعونا ما قتلوا).
الخامس : تحريض المنافقة للمنافقين على القعود، ويكون تقدير الآية اللائي قلن لإخوانهن وحرضهن على القعود لو أطاعونا ما قتلوا…)، لقد ذكرت آية البحث والآية التي قبلها فرح الشهداء برجوعهم إلى الله عز وجل وفرح معهم المؤمنون لما نالوه من المرتبة العظيمة .
أما المنافقات فأنهن فرحن بقعود المنافقين عن القتال، فجاءت آية البحث لتطرد هذه الفرحة من قلوبهن، ولتجعلهن والمنافقين في حيرة وإندهاش، قال تعالى[أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ] ( ).
السادس : قول المنافقات: لو أطاع الشهداء المنافقين من أصحابنا ما قتلوا.
السابع : لو قعد الشهداء عن الخروج إلى معركة أحد ما قتلوا، إذ أن أمر المنافقين بالمنكر، وتوجيههم اللوم إلى الشهداء أعم من أن ينحصر بعدم إستماعهم إلى نهي المنافقين لهم عن الخروج إلى القتال، فمن خصال المنافقين والمنافقات النهي عن المعروف، مع أن الخروج إلى الدفاع عن بيضة الإسلام من أحسن وأعظم مصاديق المعروف والصلاح، فلم يكتف المنافقون بعدم الأمر عن المعروف، إنما إختاروا أموراً:
أولاً : النهي عن المعروف.
ثانياً : صدّ الناس عن فعل الصالحات.
ثالثاً : لوم الذي يأتي الخير ويصطنع الإحسان.
رابعاً : التشكيك بمعجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
خامساً : تخويف المسلمين بقوة المشركين، وإشاعة عزمهم إستئصال المسلمين.
وأما المسألة الثانية وهي هل يشمل الأمر بالإحتجاج (قل) في آية السياق المسلمين , الجواب نعم ، من وجوه :
الأول : يشمل الخطاب الصحابة من المهاجرين والأنصار فعليهم أن يحتجوا على المنافقين بقرب الموت منهم.
ويتوجه الخطاب إلى الأنصار على نحو الخصوص لأن المنافقين من قبائلهم وأبناء بلدتهم ، وهم الذين يتباكون على الشهداء بلغة الأخوة النسبية والقبلية والبلدية ، كما تشمل الآية كفار مكة الذين يوجهون اللوم للمسلمين الذين هاجروا وتركوا مكة ، وإلى الذين قتلوا منهم في معركة بدر وأحد ،ويتغاضون عن سبب الهجرة والشهادة وهو إضطهاد وظلم الذين كفروا لهم وإصرارهم على قتالهم وإرادة قتلى خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي التنزيل[وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وقد ورد قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا] ( ) .
إذ تنهى الآية أعلاه المسلمين والمسلمات عن محاكاة الذين كفروا في توجيه اللوم إلى شهداء بدر وأحد ، أما آية البحث فتضمن الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإحتجاج على المنافقين .
وبين أقوال الذين كفروا في الآية أعلاه وبين قول الذين نافقوا في الآية قبل السابقة عموم وخصوص مطلق ، إذ يذكر الذين كفروا قتل الصحابة في معركة بدر وأحد وغيرهما ، وموت عدد منهم عند السفر في الأرض للتبليغ أو للتجارة والكسب ، وقيام بعض الكفار بقتلهم في المفاوز لدخولهم الإسلام ، فمثلاً يعلم الكفار بأن هذا المسافر من الخزرج من أهل يثرب فلا يعتدون عليه، ولكن عندما يعلمون أنه مسلم ويؤدي الصلاة وينكر عليهم عبادة الأوثان والتزلف إليها يجهزون عليه ويقتلونه لذا قالت الآية أعلاه [لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ].
وكأن الكفار والمنافقين لهم فضل على الشهداء بأن سكتوا عنهم في إيمانهم ولم يؤاخذوهم ولم يقتلوهم لبيان أن الإسلام بدء ضعيفاً ، وهو من مصاديق الذلة في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) ويتوجه الخطاب والأمر في آية البحث إلى المسلمين من جهات :
الأولى : يا أيها المهاجر قل للذين نافقوا فأدرءوا عن أنفسكم الموت .
الثانية : يا أيها الأنصار قل للذين نافقوا فأدرءوا عن أنفسكم الموت .
الثالثة : يا أهل بيت الرسالة قولوا للذين نافقوا فأدرءوا عن أنفسكم الموت .
الرابعة : يا أيتها الصحابية قولي للذين نافقوا فأدرءوا عن أنفسكم الموت .
وتقدم في المسألة الأولى أعلاه وجوه أخرى في ذات الموضوع( ).
الخامسة : يا أيها التابعي قل للذين نافقوا فأدرءوا عن أنفسكم الموت .
السادسة : يا قارئ القرآن قل للذين نافقوا فأدرءوا عن أنفسكم الموت .
وهل يصح تقدير الآية : يا ملك الموت قل للذين نافقوا كل يوم فأدرءوا عن أنفسكم الموت ، ويا أيها الموت قل للذين نافقوا فأدرءوا عن أنفسكم الموت.
الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ *ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ]( ).
الثاني : توجه الأمر إلى الصحابيات بالإحتجاج على المنافقين والمنافقات ليتجلى الإعجاز القرآني بذكر الله عز وجل للفظ المنافقات على نحو الخصوص خمس مرات وهو عدد غير قليل ، قال تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ]( ) .
لبيان أن الإحتجاج في آية السياق رحمة بهم , وسبيل إلى التوبة والنجاة من درن النفاق وإخفاء الكفر وسوء عاقبته في الآخرة .
وقد تنشط المنافقات في المآتم التي تقام على أرواح الشهداء ويقمن بالنياحة وإظهار الأسى والحسرة ، فجاءت آية السياق لتحذير المؤمنات ودعوتهن لتحصين بيوتهن وذراريهن في حال وجود الأزواج والآباء أو عند خروجهم للنفير أو الضرب في الأرض .
وهذا التحصين من مصاديق الجهاد في سبيل الله ، وهو حرب على ما يسمى بالعاطفة عند المرأة ، وقهر للنفس الشهوية .
الثالث : توجه الخطاب والأمر بالإحتجاج على المنافقين إلى عموم المسلمين والمسلمات لقانون الإلحاق ، وأن الأمر الذي يتوجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يشمل أجيالهم المتعاقبة إلا مع القرينة على التعيين بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو خصوص الصحابة الذين معه كما في آيات قتال المشركين في معارك بدر وأحد والخندق وحنين.
وأما المسألة الثالثة فقد تضمنت كل من آية السياق والبحث في مفهومهما ودلالتهما التوسعة بالإحتجاج موضوعاً وبرهاناً ، وهو من أسرار إحاطة القرآن باللامحدود من الوقائع والأحداث ، وهذه التوسعة مقيدة بأمور :
الأول : الإحتجاج بالقرآن والسنة .
الثاني : الجمع بين الغلظة على الكفار والمنافقين في الإحتجاج وبين لغة الحكمة والبرهان التي يجب أن يتصف بها ، لعمومات قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) .
الثالث : تنزه المسلمين عن المغالطة ، وتدل على هذا التنزه آية السياق من جهات :
الأولى : تفضل الله عز وجل باصلاح الإعتقاد القلبي للمسلمين بقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ].
الثانية : الزجر عن ذكر الشهداء بسوء .
الثالثة : الإقرار بحياة الشهداء عند الله , وتصور حالهم وكـأنهم أحياء بيننا، وهل يشملهم قوله تعالى[مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ]( ).
الجواب القدر المتيقن من الآية أعلاه هو خصوص أهل الدنيا ، أما بالنسبة للشهداء فأنهم مكرمون عند الله عز وجل وهي مرتبة سامية ودرجة رفيعة .
المسألة الثالثة : إبتدأت آية السياق بالاسم الموصول (الذين) للدلالة على جمع مذكر سالم ، وهم الذين نافقوا بلحاظ الآية السابقة لتكون مضامين آية السياق متصلة بالآية التي قبلها ومعطوفة عليها في موضوعها ودلالتها ، وفي هذا العطف وإتحاد الموضوع مسائل :
الأولى : بيان آيات القرآن لخصال الذين نافقوا المذمومة .
الثانية : تعدد قبائح الذين نافقوا .
الثالثة : ظلم وتعد الذين نافقوا بالقول والفعل ، أما القول فمن وجوه :
الأول : إعتذار الذين نافقوا عن قتال الذين كفروا بالمغالطة والحجة التي لا أصل لها .
الثاني : إدّعاء الذين نافقوا بأنه لا يقع قتال بين المسلمين وبين الكفار في معركة أحد .
قال الواقدي (وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالاً لأتبعناكم” هذا ابن أبي، وقوله ” أو ادفعوا ” يقول: كثروا السواد ويقال الدعاء. قال ابن أبي يوم أحد: لو نعلم قتالاً لاتبعناكم يقول الله ” هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان ” نزلت في ابن ابي، وفي قوله ” الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا ” هذا ابن أبي، ” قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ” نزلت في ابن أبي)( ) .
أي ذكر مضامين آيتين متتاليتين من القرآن وجعل سبب نزولها شخصاً واحداً هو عبد الله بن أبي، ولكن الآية أعم , وصحيح أنه رأس النفاق وإنسحب بنحو ثلث جيش المسلمين من وسط الطريق إلى معركة أحد، ولكن مضامين ودلالات الآيتين أوسع إذ تكررت فيهما صيغة الجمع من جهات كلها بخصوص موضوع متحد يتعلق بالمنافقين والمنافقات والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة، قال تعالى[لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً]( ) .
وهذه الجهات بلحاظ الآية(167) من سورة آل عمران هي:
الأولى : الذين نافقوا.
الثانية : قيل لهم.
الثالثة : تعالوا.
الرابعة : قاتلوا في سبيل الله.
الخامسة : إدفعوا.
السادسة : قالوا.
السابعة : لو نعلم قتالاً.
الثامنة : لأتبعناكم.
التاسعة : هم للكفر أقرب.
العاشرة : أقرب منهم.
الحادية عشرة : يقولون.
الثانية عشرة : بأفواههم.
الثالثة عشرة : ما ليس في قلوبهم.
الرابعة عشرة : يكتمون.
كما وردت ذات صيغة جمع المذكر قبل آيتين في الآية(168) من جهات:
الأولى : الذين قالوا.
الثانية : لإخوانهم.
الثالثة : وقعدوا.
الرابعة : لو أطاعونا.
الخامسة : ما قتلوا.
السادسة : فادرءوا.
السابعة : عن أنفسكم.
الثامنة : إن كنتم صادقين.
الثالث : قيام الذين نافقوا بالغمز والتعريض بالمؤمنين، وبث الشك ومفاهيم الضلالة.
الرابع : تباين وتضاد أقوال الذين نافقوا مع ما في قلوبهم، ولا يتغشى هذا التباين كل أقوال الذين نافقوا، إذ يكون كلام الذين نافقوا على وجهين، وكل منهما ذكرته آية السياق وهما:
الأول : إظهار الإيمان وإخفاء الكفر في قرارة أنفسهم , ويدل عليه قوله تعالى[يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ]( ).
الثاني : إتخاذ الذين نافقوا المغالطة والجدال وبث الشكوك وأسباب الريب سبيلاً ومنهاجاً يومياً في الحرب على النبوة والتنزيل.
ومن خصائص الإنسان أنه يظهر ما يبطن في نفسه ولو على نحو جزئي وجهتي، ويبتليه الله عز وجل بأن يجري على لسانه ما يخفيه في نفسه، وهو من ضروب الإمتحان في الحياة الدنيا.
الرابعة : بيان ضرر النفاق وسعي المنافقين لإضعاف الإسلام، ولمنع تزايد قوته وإتساع حكمه، وإنتشار آيات القرآن، وصد الناس عن التدبر فيها.
الخامسة : يدل مجيء آيتين متعاقبتين بخصوص صفات الذين نافقوا على لزوم أخذ المسلمين الحيطة والحذر منهم.
السادسة : إصرار الذين نافقوا عن جهاد الذين كفروا مع أنهم أشرفوا على المدينة ويريدون البطش بأهلها.
وأخبرت آية البحث عن فرح وسعادة الشهداء في الآخرة وفي هذا الإخبار مسائل:
الأولى : بعث الحزن في قلوب الذين نافقوا.
الثانية : تذكير الذين نافقوا بالموت والإنتقال إلى الآخرة.
الثالثة : الإخبار عن قانون في المقام وهو التباين في الآخرة بين الذين قتلوا في سبيل الله وبين الذين نافقوا، قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
الرابعة : بعث المسلمين للإحتجاج على الذين نافقوا بأن إنبعاث الشهداء إلى معركة أحد وقتلهم فاتحة السعادة الأبدية والبهجة الدائمة .
الخامسة : حمل الذين نافقوا على تلاوة آية البحث أو الإستماع لها ، وهو من الإعجاز في وجوب تلاوة القرآن في الصلاة اليومية ، لتكون هذه التلاوة بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : تعاهد ملكة الإقرار بعالم الآخرة عند المسلمين والمسلمات ، فهذه الملكة واقية من النفاق والرياء وعصمة من الكفر والضلالة ، لذا جاءت الآيات بوجوب الإيمان بعالم الآخرة , وما فيه من الحساب والجزاء ، قال تعالى [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابن السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ] ( ) .
الثاني : ذم وتوبيخ الذين نافقوا وبيان قبح فعلهم .
الثالث : بيان قانون وهو أن المنافقين لن يضروا الإسلام سواء في قعودهم أو ما يبثونه من الريب والشكوك .
الرابع : فوز المسلمين والمسلمات بالثواب عند قراءة الآيات التي تتضمن فضح وتبكيت الذين نافقوا .
الخامس : توجه المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة إكرامه لشهداء بدر وأحد ،وتجلي معاني الشكر له سبحانه بالتحلي بالتقوى ، قال تعالى [فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
لقد اختار الذين نافقوا إدّعاء عدم حدوث قتال بين المسلمين والذين كفروا في معركة أحد ، مع أن جيش الكفار أصبح قريباً من المدينة المنورة ، وعسكرت جحافله على بعد نحو ثماني كيلو مترات من المسجد النبوي ليكون عندهم الخيار من جهات :
الأولى : القتال عند جبل أحد , والوقوف في الموضع والجهة التي يرون أنها أصلح وأنفع لهم ولم يعلموا أن الله عز وجل ينزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وفي التنزيل [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) .
فمن معاني الخير في الآية أعلاه بخصوص المقام أمور :
الاول : تفضل الله بنزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : نشر مفاهيم الصلاح ومناهج الإيمان .
الثالث : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا واستئصال طائفة منهم ، قال تعالى بخصوص معركة أحد [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الثانية : ظن الذين كفروا بأن إقامتهم عند جبل أحد سبب لبعث الفزع والخوف في قلوب المؤمنين ، كما أنهم يرجون إثارة الذين نافقوا الفتنة وبثهم الحزن وإعراض الناس عن النبوة والتنزيل لأنهما سبب لجلب المشركين جيوشهم إلى المدينة .
الثالثة : غزو المدينة ومباغتة أهلها ليلاً فان لم يخرج لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قاموا بغزو المدينة وقتال المسلمين في أزقتها [تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ] ( ) فقد وقعت معركة الخندق بعد أقل من سنتين من معركة أحد ولم يخرج النبي وأصحابه لقتال المشركين الذين عجزوا عن اختراق الخندق وأسوار المدينة .
الرابعة : الإغارة المتكررة على المدينة .
الخامسة : حصار المدينة ومنع أهلها من الخروج منها ، وصد الناس عن المجئ إلى المدينة لدخول الإسلام والإطلاع عن كثب على معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فبادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم للخروج إليهم ، وذكر أنه كان يرغب بالبقاء في المدينة وهو رأي عدد من كبار رجالاتها ، ولكن نفراً من المسلمين خاصة ممن فاتهم الإشتراك في معركة بدر أخذوا يلحون عليه بالخروج لملاقاة جيش الذين كفروا ، فلبس لأمة القتال وندموا لإلحاحهم عليه مع أنه لم يخرج بسبب هذا الإلحاح ، إنما كان خروجه بالوحي .
وقص عليهم رؤياه التي تتضمن الإشارة إلى مقتل أحد أهل البيت وإلى قتلى في صفوف المسلمين ، وكان كما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن بركات هذا الخروج وسقوط الشهداء تفضل الله بنزول آية البحث وآية السياق لتكونا مجتمعتين ومتفرقتين موعظة للأجيال .
إذ تتضمن آية السياق بياناً لخصال الذين نافقوا ، وتبين آية البحث حياة العز والرفعة التي فاز بها شهداء معركة أحد .
المسألة الرابعة : إبتدأت آية السياق بالاسم الموصول (الذين) وهو خاص بالذين نافقوا أيام معركة أحد ، وهذا التقييد لبيان أن شطراً منهم أدركته التوبة والإنابة ، ومن الناس من تلبس بالنفاق بعد معركة أحد ، ومن إعجاز آية السياق ورودها بصيغة الماضي لقوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ] ( ) .
ولم تقل الآية الذين يقولون ، ليكون من الإعجاز في صيغة الفعل الماضي في الآية وجوه :
أولاً : حصر الذم في الآية للمنافقين أيام معركة أحد .
ثانياً : البشارة بانحسار النفاق ووهن المنافقين بعد معركة أحد .
ثالثاً : تحذير الذين إختاروا النفاق بعد معركة أحد من القعود وتحريض المسلمين على القعود عن الدفاع .
ليكون من الإعجاز في كل من آية السياق وآية البحث أنها مقدمة للإستعداد لمعركة الخندق خاصة وأن عدد جيش الذين كفروا فيها كان عشرة آلاف رجل ، وتكون هذه المقدمات عوناً للمسلمين في العمل بمضامين قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] ( ).
رابعاً : إقامة الحجة على المنافقين والمنافقات ، وقد يرتكب الإنسان السوء ،وهو لا يعلم بقبحه وضرره الخاص والعام ، وفي الدنيا والآخرة ، فتفضل الله عز وجل وبيّن للناس جميعاً والمسلمين خاصة قبيح فعل الذين نافقوا ، ليأتي تذكير الذين نافقوا بقبيح فعلهم من جهات :
الأولى : نزول الآية القرآنية التي تصف المنافقين بالنفاق ، فيتضمن قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] ( ) ذمهم من وجوه :
الأول : إرادة سخط الله على المنافقين لسوء فعلهم واصرارهم إبطان الكفر ومفاهيم الضلالة والجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : يدل الإخبار عن علم الله بالذين نافقوا تدوين الملائكة لأقوالهم وأفعالهم القبيحة .
الثالث : التباين بين المؤمنين والمنافقين في القول والعمل ، ويتضمن قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] ( ) تأكيد احاطة الله عز وجل بافعال العباد ليحاسبهم عليها .
الثانية : إمتناع الذين نافقوا عن الإستجابة للدعوة إلى جهاد الذين كفروا.
الثالثة : تفويت الذين نافقوا الأجر والثواب عن أنفسهم الذي جعله الله لمن يعمل ويسعى في سبيل الله عز وجل.
الرابعة : دلالة لفظ(الذين نافقوا) على إخفائهم الكفر في ذات الوقت الذي يعلنون فيه الإيمان.
الخامسة : وقوع معركة أحد لكشف الذين نافقوا من بين عموم المسلمين.
السادسة : بيان قانون وهو علم الله عز وجل بما يكتم ويخفي المنافقون من النوايا والمقاصد الخبيثة، ليكون تقدير قوله تعالى[وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ]( )، على وجوه منها:
الأول : والله أعلم من أنفسهم بما يخفون من إرادة الإضرار بالإسلام, وقد يعزم المنافق على فعل قبيح ولكنه ينساه أو يحول دونه حائل يمنعه من إستحضاره في ذهنه وقلبه , ولكن الله عز وجل لا ينساه.
الثاني : والله أعلم بما يبيتون من الشر والأذى.
الثالث : والله أعلم بما يكتمون لصرف شرهم عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لبيان أن إحاطة الله علماً بكل شيء إنما هو رحمة ونعمة على الناس والخلائق كلها.
الرابع : والله أعلم بما يكتمون ليخرج ضغائنهم في النشأتين، وهل من موضوعية لآية البحث في هذا الإخراج والكشف , الجواب نعم، قال تعالى[وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ]( ).
الخامس : والله أعلم بما يكتمون ليحاسبهم عليه.
السادس : والله أعلم بما يكتمون لينزجروا عن الباطل ومفاهيم الضلالة.
السابع : والله أعلم بما يكتم المنافقون , وما يخفي غيرهم من الناس.
الثامن : والله أعلم بما يكتمون فيرجع كيدهم إلى نحورهم.
التاسع : والله أعلم بما يكتمون من التواطئ مع الذين كفروا.
العاشر : والله أعلم بما يكتمون اليوم وغداً لينحل مفهوم الآية بعدد أفراد المنافقين والمنافقات.
المٍسألة الخامسة : من خصائص الحياة الدنيا أنها دار إمتحان وإبتلاء وتدوين لأعمال البشر من قبل ملائكة رتبهم الله عز وجل لهذا العمل الذي لا يقدرون عليه إلا بفضل ومدد وعون من عند الله، قال تعالى[إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ]( ) .
وعن ابن عباس قال: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله أكلت شربت ذهبت جئت رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر وألقى سائره، فذلك قوله {يمحو الله ما يشاء ويثبت})( ).
ونزلت آية السياق لتخبر عن قوانين تتعلق بأفعال الذين نافقوا لتدل بالدلالة التضمنية على توثيق وجودهم في بدايات بناء صرح دولة النبوة والتنزيل في المدينة المنورة، والمنافقون طائفة من الناس إختاروا إظهار الإيمان كذباً عندما رأوا قوة الإسلام وظهور دولته مع بقائهم في قرارة أنفسهم على الكفر والجحود.
ولم يكونوا أمة منظمة إنما كانوا أفراداً تجمعهم سنخية مذمومة في باب الإعتقاد، وما يترشح عنها من مفاهيم الضلالة والصدود عن الإيمان.
وهل يشمل قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا]( )، المنافقين والمنافقات , الجواب نعم بلحاظ أنهم آمنوا بالظاهر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن الأصل في الخطاب العموم إلا مع ورود التخصيص، ليشمل النداء في الآية أعلاه كلاً من:
الأول : الذين آمنوا بالله ورسوله في الظاهر والباطن.
الثاني : الذين آمنوا بالله ورسوله في الظاهر فقط.
الثالث : الذين آمنوا بالله ورسوله بقرارة أنفسهم , ولم يجهروا بايمانهم, تقية من الظالمين ونحوها من الأسباب ، وممن تخاطبهم الآية أعلاه الذين نافقوا للتحلي بالتقوى والخشية من الله عز وجل , ويتجلى بلحاظ آية السياق والبحث من جهات:
الأولى : لزوم هجران الذين نافقوا النفاق وما يترشح عنه .
الثانية : بيان قانون وهو أن التقوى والخشية من الله منهاج الإسلام .
الثالثة : القعود عن جهاد الذين كفروا خلاف التقوى .
الرابعة : قول المنافقين [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ) عداوة مع المتقين وحرب على التقوى ، لذا جاء القرآن بالوعيد للمنافقين بقوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا] ( ).
الخامسة : من خصائص المتقين ذكر الموت والإستعداد له بالعمل الصالح.
السادسة : من وظائف التقوى الإحتجاج على الذين نافقوا .
ومن إعجاز القرآن أنه لم يترك الإنسان يواجه الإبتلاء ومصاديق الإمتحان في الدنيا بمفرده وإن كان الله قد تفضل عليه بالعقل كالرسول الباطني إذ جاء القرآن بسبل النجاح والرشاد في وجوه الإبتلاء في الدنيا ، وتتجلى بالتصديق بالنبوة , والعمل بأحكام التنزيل , والتنزه عن مفاهيم الكفر والضلالة والنفاق .
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : لو أطاعونا ما قتلوا وصاروا فرحين بما آتاهم الله من فضله .
عندما نشبت معركة أحد جاءت الأخبار إلى المدينة المنورة بانتصار المسلمين واختراق وقهر فرسانهم معسكر الذين كفروا ، وهم على وشك الإستيلاء على الغنائم ، ولا غرابة في الأمر لأصل الإستصحاب من نتائج معركة بدر ، وهذا الأصل أمر عقلاني قبل أن يكون مبحثاً أصولياً ، ولتسليم المسلمين والمسلمات بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن ما لبثوا حتى توالت الأخبار بانكسار جيش المسلمين وكثرة القتلى فيهم .
ثم جاءتهم اشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يوحى بانكشاف المدينة وأزقتها لجيش الذين كفروا خاصة وأنه ليس لها أسوار ولم يبن النبي صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه لها سور ولم يبن لها سور إلى يومنا هذا مثلها مثل مكة المكرمة ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد على حراسة المدينة من قبل الملائكة بفضل من عند الله , وعن الإمام علي عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: المدينة حرم ما بين عير إلى ثور من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل ومن ولى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل ثواب من صبر على جهد المدينة وشدتها)( ).
ولا يعلم ماذا حدث في المدينة يومئذ إلا الله عز وجل , وتبين هذه الآيات جانباً من مقدمات الفتنة التي أرادها الذين نافقوا في المدينة المنورة .
لقد كان في المدينة كل من :
الأول : الصحابة الذين تخلفوا عن الخروج إلى معركة أحد عن عذر مثل جابر بن عبد الله الأنصاري إذ أمره أبوه بالبقاء مع أخوانه ، ومثل ابن أم مكتوم وهو أعمى .
الثاني : الصحابيات وعموم المؤمنات .
الثالث : الصبيان من المسلمين ومنهم الذين حضروا للخروج إلى القتال فاستعرضهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وردهم ، ليكتب لهم أجر الخروج إلى المعركة وان بقوا في المدينة .
الرابع : يهود المدينة من بني النضير وقريظة وقينقاع ، وإن كانت مساكن بعضهم خارج المدينة .
الخامس : الكفار الذين بقوا على كفرهم , ولم يدخلوا الإسلام بعد ، فلو قام جيش الذين كفروا بغزو المدينة يومئذ لتضاعفت المصائب على المسلمين ولكن الله عز وجل عصم المسلمين من الهزيمة والإنكسار ، وحفظ أهل المدينة عموماً ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحضور الملائكة لنصرته ، ليكون من الغايات والمنافع العظيمة لنزولهم يومئذ وقف هجوم الذين كفروا ، وليكون من معاني قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ) وجوه :
الأول : بلى إن تصبروا في ميدان القتال .
الثاني : بلى إن تصبروا عن أهليكم وخشية هجوم العدو على المدينة .
الثالث : بلى إن تصبروا وتتقوا وتمتنعوا عن الإنصات للمنافقين .
الرابع : بلى إن تصبروا وتتقوا لتفوزوا بالحياة الأبدية عند الله سبحانه.
الخامس : بلى إن تصبروا على طاعة الله والرسول .
السادس : بلى إن تصبروا في ميدان القتال .
السابع : بلى إن تصبروا على لمعان السيوف .
الثامن : بلى إن تصبروا يوم التقى الجمعان .
التاسع : بلى إن تصبروا على إنخزال ثلث جيش المسلمين .
العاشر : بلى إن تصبروا وتتقوا الله بالتنزه عن الفشل والفرار ، قال تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا..]( ).
الحادي عشر : بلى إن تصبروا بالدعاء وأداء الصلاة .
الثاني عشر : بلى إن تصبروا رجاء الأجر والثواب من عند الله .
ومن معاني اتيان الملائكة يومئذ بلحاظ الآية أعلاه وقوله تعالى [وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا] ( ) وجوه :
الأول : ويأتوكم ليمنعوا جيش المشركين من مواصلة القتال .
الثاني : ويأتوكم من فورهم هذا لبعث الفزع والخوف في قلوب جيش المشركين .
الثالث : ويأتوكم من فورهم هذا لحمل رؤساء جيش المشركين على الأمر بالإنسحاب والرجوع إلى مكة .
الرابع : ويأتوكم من فورهم هذا لمنع أفراد جيش المشركين من الإحتجاج على الإنسحاب ، وكما جاء قوله تعالى [مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا] فان الإرباك والخوف والعزم على الرحيل أمور ظهرت عند جيش المشركين على الفور وفي الحال .
وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ) ومن معاني قوله تعالى [فرحين] الذي ابتدأت به آية البحث أمور :
الأول : ذم الذي نافقوا .
الثاني : بعث الندامة في نفوس الذين نافقوا لأنهم وجهوا اللوم للشهداء فتفضل الله وأخبر بأنهم بحال أحسن مما في الحياة الدنيا .
لقد جعل الله عز وجل الناس في الدنيا على مراتب متفاوتة في الغنى والفقر والسلطان والأمر والجاه وسنخية العمل وكثرة أو قلة أو إنعدام الأولاد ، وتكون حاجة الإنسان لله عز وجل على نحو الكلي المتؤاطي متصل إذ أنها مطلقة في كل آن من الزمان وكل حال من أحواله في الدنيا ، وعالم الآخرة قال تعالى [ يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]( ).
أما حاجة الإنسان لغيره من الناس فهي من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
فحاجة الغني إلى الفقير أقل من حاجة الفقير إليه وحاجة الملك لأحد أفراد الرعية أقل من حاجة هذا الفرد للملك وسلطانه .
وتبين آية البحث صيرورة الشهداء في حال الغنى عن الناس ، والأمن والسلامة من إغواء إبليس والكدورات التي تترشح عن الطمع والشك والإفراط في الأمل .
الثالث : إعراض عوائل الشهداء عن لوم وأذى الذين نافقوا سواء كان هذا اللوم والغمز متوجهاً لهم أو للمهاجرين أو المقاتلين عموماً أو للشهداء على نحو الخصوص .
وهل يستغني الشهداء عن دعاء الصالحين لهم , الجواب لا ، إذ يأتيهم الثواب بسببه ليكون من معاني فضل الله الذي تذكره آية البحث تلاوة المسلمين لهذه الآية والآيات التي تبين صبر وإخلاص وتفاني الشهداء في سبيل الله ، ومنها إقتداء المسلمين والمسلمات بالشهداء في صبرهم وطاعتهم لله عز وجل ليس في القتال وسوح المعارك وحدها، إذ أن أغلب أيام الإسلام وأفراد الزمان خالية من القتال والحروب خاصة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يبدأ العدو بالقتال ، إنما كان يدعوهم لشهادة التوحيد وقول لا إله إلا الله فيكون من معاني الإقتداء بصبرهم تعاهد أداء الفرائض والشكر لله عز وجل على نعمة حياة الشهداء عند الله عز وجل من حين مغادرتهم الدنيا .
ولو أخبرت هذه الآيات عن مجئ الجزاء والثواب للشهداء في عرصات يوم القيامة وحده لكان أعظم وأكبر من استحقاقهم ومن تصور المسلمين وأهل الدنيا ، وهو باعث للتسليم بأن الجزاء الحسن يوم القيامة للشهداء فضل وخير محض من عند الله ، فكيف وقد إختصت هذه الآيات ببيان ثوابهم من حين مفارقة أرواحهم الأجساد .
وهل فضل الله عز وجل الذي ذكرته آية البحث بقوله تعالى [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] من مصاديق [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) أم أن القدر المتيقن من النعم التي تذكرها الآية أعلاه هي التي تأتي للمسلمين والمسلمات في حياتهم الدنيا .
الجواب هو الأول من جهات :
الأولى : انتفاع المسلمين من النعم التي تأتي للشهداء وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : كل نعمة على الشهداء هي نعمة على عموم المسلمين .
الصغرى : ما يأتي للشهداء من فضل الله هو نعمة عليهم .
النتيجة : ما يأتي للشهداء من فضل الله نعمة على عموم المسلمين والمسلمات.
الثانية : آية البحث وما فيها من الإخبار عن حياة وفرح الشهداء نعمة عظمى على عموم المسلمين.
الثالثة : من خصائص علوم الغيب التي نزل بها القرآن أن كل فرد منها نعمة على المسلمين والمسلمات مجتمعين ومتفرقين ، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الرابعة : آية البحث نعمة من عند الله لصبغة القرآنية ولانها تذكر فضل الله على الشهداء .
ترى لماذا لم تبين آية البحث تفاصيل ومصاديق فضل الله ورزقه على الشهداء في آية البحث ، الجواب من وجوه :
الأول : فضل الله أكبر وأعظم من أن تتصوره العقول .
الثاني : بقاء فضل الله مجملا في آية البحث من خصائص الحياة الدنيا وما فيها من ضروب الإبتلاء .
الثالث: دعوة المسلمين للدعاء والمسألة لزيادة ومضاعفة فضل الله على الشهداء .
ليكون من معاني قوله تعالى[وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ]( ) على وجوه :
أولاً : من فضل الله عليكم في الدنيا .
ثانياً : من فضل الله عليكم في الآخرة .
ثالثاً : من فضل الله على الشهداء .
رابعاً : من فضل الله على المؤمنين .
خامساً : من فضل الله على الناس .
سادساً : واسألوا الله من فضل الله على أبنائكم .
ومن معاني الجمع بين الآيتين قانون وهو: عدم طاعة المسلم للذين نافقوا باب لجلب الخير في النشأتين.
وهو من مصاديق نزول المصيبة بالمسلمين في معركة أحد بإذن منه تعالى، وهل يختص علم الله عز وجل بالذين نافقوا الذي تذكره آية السياق بخصوص معركة أحد.
الجواب لا، إنما هو أمر متجدد في كل زمان , ففي وقائع معركة أحد وآيات البحث مناسبة لكشف الذين نافقوا للناس جميعاً ومنهم الذين نافقوا أنفسهم من جهات :
الأولى : يعلم المنافق بحقيقة نفسه، وأنه يخفي الكفر في ذات الوقت الذي يعلن فيه الإيمان ، وإن هذا الإخفاء ليس دائماً .
الثانية : يعلم المنافق برياء ونفاق غيره من أصحابه المنافقين .
الثالثة : علم المنافقين مجتمعين ومتفرقين بحال نفاقهم .
لتكون جهات هذا العلم مناسبة للتوبة والإنابة، وهو من الأسرار السماوية في آية السياق والبحث مجتمعتين ومتفرقتين، إذ تطل كل منهما خمس مرات في اليوم على المسلمين والمسلمات لتدعوهم وتأمرهم بالإيمان باطناً وظاهراً وتنهاهم عن الكفر ظاهراً وباطناً، قال تعالى[أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ] ( ).
ومن معاني الجمع بين الآيتين التضاد بين طاعة الله ورسوله وبين طاعة الذين نافقوا في الموضوع والأثر والعاقبة ، إذ تقود طاعة لله ورسوله إلى الخلود في النعيم .
كما تدل عليه آية البحث , وتقود طاعة الذين نافقوا إلى الضلال والغواية والقعود عن الواجب ،وهو من مصاديق قوله تعالى [وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ]( ).
وتبعث كل من آية البحث والسياق على أمور :
الأول : النفرة من طاعة الذين نافقوا .
الثاني : الإعراض عن الذين نافقوا .
الثالث : أخذ الحائطة والحذر من الذين نافقوا .
الرابع : بعث الشوق في النفوس لطاعة الله ورسوله .
الخامس : تنمية ملكة طاعة الله ورسوله حتى في الخروج إلى القتال وملاقاة الحتوف ، خاصة مع إخبار الله للمسلمين بأنه هو الذي نصرهم في معركة بدر خلافاً لقاعدة السبب والمسبب , والعلة والمعلول وفنون القتال ، ورجحان كفة العدو بالعدد والعدة .
ووعد الله بالنصر للمسلمين في معركة أحد كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]( ).
المسألة السابعة : من إعجاز القرآن , ورود المدح والذم فيه مع التباين في الموضوع والمحل ، فمع كثرة آيات القرآن والمضامين والمواضيع والأحكام فيه فلا تجد توجه المدح والذم مجتمعين ومتفرقين إلى جهة مخصوصة ، أنما يتوجه المدح والثناء للمؤمنين، والذم للكافرين والمنافقين .
وبين نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والنبوات السابقة في المقام عموم وخصوص مطلق ، ففي كل نبوة ورسالة هناك مؤمنون بها وكافرون بها ، وتجلى فرد زائد في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : وجود المهاجرين والأنصار ، قال تعالى[لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ]( ).
الثانية : تكرار قتال الذين كفروا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهجوم جيوشهم على المدينة .
الثالثة : وجود طائفة المنافقين .
الرابعة : كل آية قرآنية معجزة عقلية .
الخامسة : تكامل الشريعة الإسلامية ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ]( ).
السادسة : ثناء القرآن على المؤمنين .
السابعة : ذم القرآن للذين كفروا والذين نافقوا .
فحينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل الهجرة لم يكن هناك منافقون وكذا في بداية الهجرة النبوية الشريفة .
ولم يترك القرآن المنافقين وشأنهم ، ولم يخّل بينهم وبين المؤمنين .
ولم يسكت عنهم الله عز وجل إلى حين توبتهم أو هلاكهم بل جاءت الآيات بذمهم وتوبيخهم، وتنبيه أجيال المسلمين إلى وجود منافقات من النساء أيضاً ، فاذا حضرت النسوة مأتم أحد الشهداء فعلى المؤمنات الإلتفات إلى غمز وتعريض ودسّ المنافقات ، لبيان إرتقاء المرأة المسلمة إلى مراتب من الفقاهة وصيغ الإحتراز.
فمن إعجاز هذه الآية مجيؤها بصيغة الجملة الخبرية ولكن كل واحدة منها تتضمن الأمر والنهي والزجر ، وتدعو إلى العصمة من النفاق وما يتفرع عنه ، ومنه :
الأول : مع النفاق لا تستطيع النفس مغادرة مستنقع الضلالة , قال تعالى[فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا]( ).
الثاني : الإعراض عن المعجزات والإمتناع عن التدبر في دلالالتها .
الثالث : إختيار القعود عن الدفاع .
الرابع : تمني خسارة المسلمين حسداً لهم لرؤيتهم في حماس وبهجة بدخول الإسلام .
الخامس : الصدود عن الدعوة للدفاع عن النبوة والإسلام .
السادس : الإعتذار بالباطل عن الإستجابة لدعوة الحق .
السابع : الإكثار من الجدال والمغالطة .
الثامن : العزوف عن أداء العبادات أو إتيانها بتثاقل كما في ذمهم بقوله تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
إذ تذكر الآية أعلاه المتعدد من صفات المنافقين وهي :
الأول : نعت المنافقين ذم لهم .
الثانية : سعي المنافقين بمخادعة الله .
الثالثة : تفضل الله بخدعة المنافقين، قال تعالى[وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
الرابعة : أداء المنافقين الصلاة , ويقفون في صلاة الجماعة ولكن بكسل وتراخ .
الخامسة : حسد وغيرة الذين نافقوا للمسلمين عند سماع الأذان وكلماته .
السادسة : مراءاة المنافقين للناس وحبهم أن يراهم الناس على الهيئة المناسبة لهم .
السابعة : قلة ذكر المنافقين لله عز وجل ، لذا كان قوله تعالى [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]والوارد حكاية عن المنافقين شاهد على إنشغالهم بلوم المؤمنين من الشهداء .
الثامنة : إمتناع الذين نافقوا عن الإنفاق في سبيل الله كما في قصة ثعلبة بن حاطب .
التاسعة : التذبذب وميل المنافقين مرة للمسلمين وأخرى للكافرين .
الوجه الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إبتدأت آية السياق بصيغة الجملة الخبرية والخطاب الموجه إلى المسلمين بقوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ] بينما ابتدأت آية البحث بالإخبار عن صيرورة الفرح والسعادة عرضاً ملازماً للشهداء في زمان عالم البرزخ ، ليكون من إعجاز القرآن ونظم هذه الآيات وجوه :
الأول : الملازمة والاتصال بين أمور :
أولاً : ما أصاب المسلمين يوم معركة أحد .
ثانياً : سقوط الشهداء من المسلمين يوم معركة أحد .
ثالثاً : الجزاء الحسن للشهداء من حين قتلهم ومغادرتهم الدنيا ، قال تعالى [وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ] ( ).
الثاني : صحيح أن آية البحث ابتدأت بصيغة الجملة الخبرية إلى أنه لا يمنع من إرادة مخاطبة المسلمين بآية البحث وتقديره : يا أيها الذين آمنوا صار الذين قتلوا في سبيل الله فرحين بما آتاهم الله من فضله .
الثالث : تأكيد حقيقة تأريخية وعقائدية وهي أن الفرحين عند الله من القتلى هم الذين قتلوا يوم معركة أحد ، لتكون الإصابة في قوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] على وجوه :
الأول : سقوط سبعين شهيداً من المسلمين ، قال تعالى[أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ]( ).
الثاني : إصابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجراحات المتعددة في وجهه وبدنه وجريان الدماء منه وكسر أسنانه الأمامية، لتكون آية تدل على جهاده في سبيل الله وسط الميدان .
الثالث : كثرة جراحات الصحابة .
الرابع : حرمان المسلمين من الغنائم يوم أحد .
الخامس : عدم وقوع أسرى بين المسلمين ، قال تعالى [لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ] ( ) .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية بلحاظ معركة أحد وجوه :
الأول : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وأهل بيته وأصحابه إلى معركة أحد.
الثاني : الإعراض عن المنافقين الذين انخزلوا وسط الطريق إلى معركة أحد , وعدم سؤالهم البقاء مع المسلمين ونصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتفضحهم هذه الآيات، قال تعالى[أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ]( ).
بينما أخبرت آية البحث عن حياة الشهداء عند الله بعد موتهم وقتلهم في سبيل الله لبيان التضاد الحاد بين الشهداء وبين الذين قتلوهم وفيه سلب للفرح من الكفار .
وليكون من إعجاز آية البحث الإخبار عن فرح الشهداء في ذات الوقت الذي فيه يحزن الذين كفروا .
الثالث : تولي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه تعيين مواضع أصحابه إلى ميادين القتال وتوجيه التوصيات اللازمة لهم ، كما في وصيته للرماة .
ومن خصائص وصايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمقاتلين إتصافها بالدقة والصواب ولبيان واستعراض الإحتمالات الطارئة في القتال ولزوم الإستعداد لها .
وتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرماة , وقال (قوموا على مصافكم هذا، فاحموا ظهورنا)( ).
فبين للرماة وعددهم خمسون أن وظيفتهم في القتال حماية جيش المسلمين من الخلف ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ظهورنا) بصيغة المتكلم لتنبيه وتحذير الرماة بأن عدم حماية جيش المسلمين من خلفهم قد يعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه إلى القتل بسهم أو رمح أو سيف يأتي من خلفه ، كما أن إصابة أي صحابي أذى للنبي نفسه , ويكون من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( )، ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرماة (فإنا نخاف أن نؤتى من ورائنا)( ).
لتتجلى معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باخباره عن علة الخسارة في معركة أحد قبل وقوعها فهو لا يخشى العدو حين المقابلة والتقاء الصفوف , ولكنه يخشى مكر العدو ومجيئه من خلف المسلمين.
فان قلت قد ورد قبل خمس آيات قوله تعالى[ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) فهل مجئ خيل المشركين من خلف المسلمين من هذا اللقاء أم أنه خارج بالتخصيص .
الجواب إنه منه لإرادة عموم معركة أحد من اللقاء لذا ذكرت الآية أعلاه لفظ [يوم] .
ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرماة (والزموا مكانكم لا تبرحوا منه) ( ) لبيان أن تقيد الرماة بواجبهم برزخ دون خسارة المسلمين وسقوط الشهداء .
ومن خصائص أداء المسلمين الوظائف العبادية التقيد بالأوامر والنواهي في حال الحرب والسلم ، وفي أمور المعاملات والأحكام ، لقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرماة بأن لا يتركوا مواضعهم , وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
الجواب نعم ، إذ تخاطب الآية أعلاه المسلمين من جهات :
الأولى : توجه الخطاب في الآية أعلاه إلى المسلمين والمسلمات .
الثانية : إرادة الطائفة والجماعة من المسلمين .
الثالثة : توجه الخطاب إلى جماعة النساء , وتقدير الآية : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا .
الرابعة : إرادة المسلم المنفرد ، وتقدير الآية : وما أتاك الرسول فخذه وما نهاك عنه فانته .
الخامسة : يشمل الأمر الوارد في الآية أعلاه المسلمة المنفردة، وتقدير الآية : وما آتاكِ الرسول فخذيه وما نهاكِ عنه فانته .
السادسة : تقدير الخطاب بلحاظ الوقائع والحوادث وليس لها حصر ومنه إرادة الرماة يوم أحد، وتقدير الآية : وما آتاكم الرسول بلزوم مكانكم فخذوه وما نهاكم عنه من ترك مكانكم فاجتنبوه.
وهذه الجهة متجددة في كل زمان ومكان وتتعلق بحال المسلم ، ويدخل فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلحاظ أن النبي هو الإمام في الدعوة إلى الصلاح والإصلاح , وينهى عن الفساد ومفاهيم النفاق .
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرماة : وإن رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم.
وتلك آية في حضور الوحي ميدان المعركة.
وتفضل الله عز وجل بالمدد من الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجميع أصحابه الذين حضروا معركة أحد لبيان أن المنافقين الذين قعدوا والذين انخزلوا من وسط الطريق إلى المعركة حرموا أنفسهم من تلقي الوحي في ميدان المعركة والذي جاء للمؤمنين على نحو دفعي ومتعدد ليكون حائلاً دون خسارتهم يومئذ .
وهل كان الرماة الخمسون يدركون أن أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم من الوحي كي يتقيدوا بها تقيداً تاماً أم يظنون أنها إجتهاد ورأي من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيختارون ما يناسبهم ، الجواب من جهات :
الأولى : كانت أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد من الوحي .
الثانية : يلزم المسلمين الأخذ بأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً لقوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
الثالثة : إدراك المسلمين لقانون وهو الملازمة بين أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين النصر والفلاح .
ومن معاني نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرماة عن ترك مواضعهم حتى في حال دخول المؤمنين معسكر المشركين هو لزوم تنزه الرماة عن الطعن وإرادة الإستحواذ على الغنائم.
وقد تحقق هذا المعنى من أول المعركة إذ سقط حملة لواء المشركين واحداً بعد الآخر صرعى ، وتقهقر جيش المشركين وهمّوا بالفرار وتسابقت النساء اللائي جئن معهم إلى الإبل لركوبها والفرار بها لولا أن الرماة تركوا مواضعهم خلافاً لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن ابن عباس أنه قال : ما نصر الله نبيه في موطن كما نصر يوم أحد فانكروا , فقال ابن عباس : بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله ، إن الله يقول في يوم أحد {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه } يقول ابن عباس : والحس القتل .
{حتى إذا فشلتم} إلى قوله { ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين } وإنما عنى هذا الرماة ، وذلك : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقامهم في موضع ثم قال : أحموا ظهورنا ، فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا ، وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا . فلما غنم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأبا عسكر المشركين انكفأت الرماة جميعاً فدخلوا في العسكر ينتهبون، والتفت صفوف المسلمين فهم هكذا وشبك بين يديه والتبسوا ، فلما أخل الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخل الخيل من ذلك الموضع على الصحابة ، فضرب بعضهم بعضاً والتبسوا ، وقتل من المسلمين ناس كثير.
وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة ، وجال المسلمون جولة نحو الجبل ولم يبلغوا حيث يقول الناس : الغاب . إنما كانوا تحت المهراس ، وصاح الشيطان قتل محمد فلم يشك فيه أنه حق .
فما زلنا كذلك ما نشك أنه قتل حتى طلع بين السعدين نعرفه بتكفؤه إذا مشى ، ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصبنا فَرَقِيَ نحونا وهو يقول : اشتد غضب الله على قوم دموا وجه نبيهم ، ويقول مرة أخرى . اللهم إنه ليس لهم أن يعلونا حتى انتهى إلينا .
فمكث ساعة فإذا أبو سفيان يصيح في أسفل الجبل : أعل هبل أعل هبل .)( ).
وورد في الحديث أعلاه عن ابن عباس (فما زلنا كذلك ما نشك أنه قتل) ولكن ابن عباس كان يوم واقعة أحد في مكة وعمره سنتان ، ولابد أنه ينقل هذا الكلام عن أهل البيت والصحابة الذين حضروا المعركة .
لقد أولى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الرماة يوم أحد عناية خاصة وشدّد عليهم في الأمر والنهي ، ويمكن تقسيم الأمر تقسيماً إستقرائياً إلى قسمين :
الأول : الأمر الدائم .
الثاني : الأمر الموقت .
والأصل في الأمر هو الأول أعلاه إلا أن تدل قرينة على الخلاف فقوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ] ( ).
فانه دائم من جهات :
الأولى : تكرار أداء الصلاة كل يوم .
الثانية : أداء المسلم والمسلمة للصلاة على كل حال لأنها لا تترك فيصلي المكلف قائماً ومع عدم القدرة على القيام يصلي قاعداً وإلا فمضطجعاً تخفيفاً من عند الله عز وجل عن المسلمين كيلا تنقطع صلتهم اليومية معه كما أنها من مصاديق قوله تعالى [فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا]( ) وقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثالثة : إستمرار أداء أجيال المسلمين للصلاة وإلى يوم القيامة، ويتجلى فضل الله في الصلاة من وجوه:
الأول : فرض الصلاة، قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الثاني : وجوب الصلاة وجوباً عينياً على كل مكلف ومكلفة.
الثالثة : تعدد أفراد الصلاة وأداء المكلف لها خمس مرات في اليوم.
الرابع : التوقيف في كيفية أداء الصلاة فليس لأحد أن يجتهد في كيفية الصلاة زيادة أو نقيصة.
الخامس : تعدد الواجب في الصلاة ليشمل :
أولاً : النية.
ثانياً : تكبيرة الإحرام , وسميت بهذا الاسم لأنه يحرم على المصلي بعدها إتيان فعل خارج أفعال الصلاة.
ثالثاً : تلاوة القرآن عن قيام.
رابعاً : الركوع.
خامساً : القيام من الركوع.
سادساً : السجدة الأولى على الأرض .
سابعاً : الجلوس من السجدة الأولى .
السجدة الثانية على الأرض .
لتنتهي الركعة الأولى من الصلاة والتي تكون على جهات:
الأولى : صلاة الصبح ركعتان.
الثانية : صلاة الظهر أربع ركعات.
الثالثة : صلاة العصر أربع ركعات.
الرابعة : صلاة المغرب ثلاث ركعات.
الخامسة : صلاة العشاء أربع ركعات.
وفي خاتمة كل صلاة تشهد وتسليم، وعليه إجماع المسلمين في أدائهم للصلاة , وقد تتقاتل طائفتان من المسلمين، ولكنهم عندما يحين وقت الصلاة يؤدونها بذات الوقت والكيفية لتكون حجة عليهم، ودعوة لهم للوئام والصلح ونبذ القتال، وليكون من معاني قوله تعالى[وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا]( )، فأصلحوا بينهما بالصلاة وأدائها والتذكير بها وإتيانها جماعة، ولا أحد يعلم بمنافع تشريع صلاة الجماعة في النشأتين إلا الله عز وجل , ولها موضوعية في قوله تعالى ( فرحين ) بخصوص الشهداء , ولتضحيتهم موضوعية في إقامتها , من غير دور بينهما.
وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ خمسا وعشرين)( ).
وفي ذات الوقت الذي تذم فيه آية السياق المنافقين لقعودهم فأنها تحثهم على الصلاة والتقيد بأوقاتها وشرائطها وآدابها بلحاظ كبرى كلية تتجلى في قوله تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( )، ويحتمل النفاق بلحاظ مضامين الآية أعلاه وجوهاً:
الأول : النفاق من الفحشاء.
الثاني : النفاق من المنكر.
الثالث : النفاق أمر آخر غير الفحشاء والمنكر , فهو أمر قلبي بإخفاء الكفر لذا ذكر المنافقون والمنافقات في مواضع عدة من القرآن، وبصيغة الإنذار والوعيد.
والمختار أن النفاق من المنكر، لذا فإن الصلاة تنهى عنه، وتهذب النفوس، وتكون على وجوه:
الأول : تطرد الصلاة النفاق.
الثاني : الصلاة واقية من النفاق.
الثالث : تبعث الصلاة على النهي عن النفاق.
الرابع : في كل فرض من الصلاة دعوة للتنزه عن النفاق، ليكون كل فرض من الصلاة من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، في إصلاحه لحالات النفاق.
المسألة الثانية : من خصائص الآية القرآنية أنها تخفيف عن المسلمين في مضمونها ودلالاتها ومنها قوله تعالى [فرحين] الذي يتضمن وجوهاً :
الأول : مواساة المسلمين على ما أصابهم يوم معركة أحد .
الثاني : الإخبار عن العاقبة الحميدة التي فاز بها شهداء معركة بدر ومعركة أحد ، ليكون هذا الإعجاز تخفيفاً عن المسلمين والمسلمات من شدة وقع المصيبة .
الثالث : تنمي الآية القرآنية ملكة الصبر عند المسلمين , وتبين آية السياق الحاجة الخاصة والعامة للصبر , وتبين آية البحث منافع الصبر الدنيوية والأخروية، بما يجعل المسلمين فرحين لتحليهم بالصبر في لقاء العدو مع قلة عددهم وعدتهم ، ومع إنخزال وفشل الذين نافقوا في الطريق إلى المعركة .
فان قلت قد تقدم قبل آيتين نعت الذين نافقوا بأنهم [قعدوا] فيحتمل الإنخزال من وسط لطريق وجوهاً :
الأول : إنه جور وتعد أضافي آخر من قبل الذين نافقوا غير القعود بلحاظ أن القدر المتيقن من القعود هو عدم الخروج من رأس .
الثاني : إنخزال وعودة الذين نافقوا من وسط الطريق من القعود الذي ورد ذكره قبل آيتين .
الثالث : الإنخزال فرع القعود وتابع له .
والصحيح هو الثاني أعلاه ، ليكون القعود الذي تذكره الآية أعلاه على وجوه :
أولاً : الذين امتنعوا عن الخروج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقابلوا النفير العام للقاء جيش المشركين بالإعراض والصدود والإعتذار الزائف ، كما بخصوص معركة الخندق [يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا]( ).
ثانيا : الذين خرجوا إلى المعركة , وهم ينوون القتال مع القيام بالتحريض على القعود .
ثالثاً : المنافقون الذين خرجوا مع جيش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم انخزلوا وسط الطريق إلى معركة أحد، وعددهم ثلاثمائة .
وهل تكرر مثل هذا الإنخزال في معارك الإسلام اللاحقة.
الجواب لا ، فلم يتكرر الإنخزال في صفوف جيش المسلمين ولو بمعشار هذا العدد سواء في غزوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو السرايا التي بعثها حوالي المدينة ، وهو من الإعجاز في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا] ( ) لما فيها من أمور :
أولاً : صرف المسلمين عن القعود .
ثانياً : بعث المسلمين على المبادرة إلى النفير والجهاد.
ثالثاً : حث المسلمين إلى الدعوة إلى الجهاد والإعانة عليه .
رابعاً : تنزه المسلمين عن النفاق وبيان ضرره على الذات ، إذ تأتي آية قرآنية تذم المنافقين فتجعل المسلمين والمسلمات على حيطة وحذر من مفاهيم النفاق وسيرة المنافقين .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (إنما مثل الصلوات كمثل نهر غمر عذب بباب رجل يقتحم فيه كل يوم خمس مرات فماذا ترون ذلك يبقى من درنه إنكم لا تدرون ما بلغت به صلاته) ( ).
والتسالم بأن الإنسان ينقطع وأثره عن الحياة الدنيا عند مفارقة روحه الجسد ، ولكن آية البحث تدل على قانون وهو بقاء ذكر ونفع وأثر شهداء معركة أحد بين المسلمين، ولا أحد يعلم عظيم النفع على الأحياء من المسلمين وغيرهم بقوله تعالى[فرحين] إذ أنه يجمع بين البشارة للمؤمنين ، والإنذار للذين كفروا والمنافقين ، ليكون فرحهم سبباً لتغشي الفرح والرضا بفضل الله للمسلمين ، ويكون إنذاراً للذين كفروا، وتوبيخاً للذين نافقوا على تجرئهم ولومهم للشهداء .
لقد اجتهد الذين نافقوا في بث الأراجيف في المدينة المنورة باتخاذ قتل الشهداء ذريعة للتحريض على القعود عن الجهاد ، فجاء قوله تعالى [فرحين] ليبطل أراجيفهم ويدفع المغالطة والوهم وأسباب الحزن التي يبثون في الأسواق والمنتديات والبيوت.
فمن إعجاز القرآن أن كلمة واحدة منه تهدم وتبطل سعي طائفة من الكفار والمنافقين وترجع كيدهم إلى نحورهم، ليكون من معاني قوله تعالى[فرحين] بلحاظ آية السياق كونهم فرحين بيوم التقى الجمعان ، وهو يوم معركة أحد وفرح الشهداء به من وجوه :
الأول : إنه مناسبة للقاء بجيش الذين كفروا، وفي التنزيل[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ).
الثاني : فرحين بأن سبب معركة أحد تعدي وزحف وغزو جيش الذين كفروا للمصر الوحيد الذي كان للمسلمين وهو المدينة المنورة ، وكان في المدينة آنذاك :
أولاً : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : المهاجرون .
ثالثاً : الأنصار .
رابعاً : المنافقون .
خامساً : أهل الكتاب من يهود بني قريظة والنضير وقينقاع .
سادساً : الذين أصروا على البقاء على الكفر والجحود .
الثالث : فرحين بنزول قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] وصيرورة المسلمين جمعاً قادراً على لقاء ومواجهة جيش الذين كفروا ، فلم تمض ثلاث سنوات على هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة فاراً بنبوته وشخصه الكريم من جور ومكر الذين كفروا من قريش حتى استطاع أن يخرج بجيش لملاقاتهم في معركة أحد في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
الرابع : فرحين بأن الذين أصابهم يوم معركة أحد بإذن الله فلم تصب الجراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا بإذن الله عز وجل ، وفيه مسائل :
الأولى : التخفيف عن المسلمين ومواساتهم .
الثانية : بيان قانون وهو تعرض الأنبياء للأذى والإبتلاء ، قال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ]( ).
وجاء إبتلاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأذى الشديد من الذين كفروا .
الثالثة : دلالة آية السياق بالدلالة التضمنية على سلامة النبي من القتل في معركة أحد ، وإخبارها بأن جراحاته لن تكون سبباً في قتله لأن آيات القرآن لم يتم نزولها .
الخامس : فرحين بالثواب العظيم الذي يأتي للمسلمين بما أصابهم يوم معركة أحد ، وهذا الثواب على وجوه :
أولاً : الثواب العظيم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنه المقام المحمود كما في قوله تعالى[وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا]( ).
وعن (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تَلٍّ ، ويكسوني ربي حلة خضراء ثم يؤذن لي أن أقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود) ( ).
ثانياً : الثواب العظيم للشهداء بحياتهم عند الله عز وجل من حين مغادرتهم الدنيا .
ثالثاً : فوز المهاجرين والأنصار الذين خرجوا إلى معركة أحد بالثواب العظيم ، ليكون من معاني قوله تعالى[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] مسائل :
الأولى : يوم التقى الجمعان ليثاب المؤمنون، وتنزل عليهم الرحمة.
الثانية : يوم التقى الجمعان ليؤثم الكافرون .
الثالثة : يوم التقى الجمعان بإذن الله لفضح الذين نافقوا .
ويدل على هذا المعنى منطوق آية السياق والآية التي بعدها .
رابعاً : جلب عوائل المهاجرين والأنصار الثواب لأنفسهم بتعضيد المجاهدين .
خامساً : الثواب لعموم المسلمين والمسلمات بتلاوة هذه الآيات والتصديق بمضامينها مع الحب والمودة والإكرام لشهداء معركة أحد وعموم الصحابة الذين قاتلوا فيها .
وهل تفضل الله عز وجل وجعل قراءة القرآن واجبة في الصلاة اليومية ليأتي الثواب للمسلمين والمسلمات باستحضار معركة أحد في الوجود الذهني , وعلى الألسنة , وفي المنتديات , فيأتيهم الثواب على نحو دفعي ومتجدد.
السادس : فرحين بهدايتهم للإسلام فهو مفتاح الحياة الدائمة عند الله ، ولو قاتل شخص مع المسلمين حمية وعصبية لا ينال مرتبة الحياة عند الله ، لذا قيدت الآية السابقة القتل بأنه في سبيل الله لإرادة السعة في أسبابه وكيفيته مع إتحاد النية والعزيمة وتجليها بالهدى والرشاد .
السابع : فرحين بغفران الذنوب جزاءً من عند الله على القتل في سبيله تعالى و(عن المقدام بن معدي كرب : قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم يقول : ان للشهيد تسع خصال – أو قال عشر خصال – يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلية الايمان، ويجار من عذاب القبر، ويزوج من الحور العين، ويأمن يوم الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وتسعين زوجة من الحور العين ويشفع في سبعين انسانا من أقاربه ) ( ).
الثامن : فرحين بمقدمات الغبطة والسعادة والإقامة في النعيم يوم القيامة.
التاسع : فرحين بالجزاء الذي يأتي من عند الله لذريتهم بسبب قتلهم في سبيل الله .
العاشر : فرحين بالوجوه والضروب المستحدثة من فضل الله إذ يدل قوله تعالى [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] على تجدد الفرح والسعادة وتترشح هذا التجدد عن توالي واستحداث النعم .
الحادي عشر : فرحين بأن كلاً من معركة بدر وأحد سبب ومناسبة لمعرفة من هم المؤمنون.
الثاني عشر : فرحين لأنهم كانوا من المؤمنين الذي ورد ذكرهم في آية السياق بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] .
المسألة الثالثة : تجلي التباين بين حال المؤمنين في الدنيا وحالهم في الآخرة ، إذ ذكرت آية السياق ما لحق وأصاب المسلمين من الضرر والخسارة الجسيمة يوم معركة أحد .
بينما تضمنت آية البحث البشارة للمسلمين والمسلمات بحياة النعيم التي يعيشها شهداء معركة أحد عند الله عز وجل:
وقصر مدة إصابة المسلمين بالضرر، وهو من الإعجاز في قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]إذ يتجلى التقييد من وجوه :
الأولى : ذكر يوم وهو فرد من أفراد الزمان مقداره بين طلوع الفجر إلى مغيب الشمس ، وقول هو من طلوع الشمس إلى مغيبها .
الثانية : تعيين يوم الإصابة على نحو الخصوص وهو يوم معركة أحد في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
الثالثة : إتصاف يوم إصابة المسلمين بحدوث القتال فيه بين المسلمين والذين كفروا ليكون من معاني ومفاهيم آية السياق مسائل :
الأولى : ليس من إصابة شديدة يتعرض لها المسلمون في يوم غير يوم اللقاء مع الذين كفروا .
الثانية : قلة خسارة المسلمين في غير يوم المعركة , قال تعالى[يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
الثالثة : لزوم شكر المسلمين لله عز وجل على قلة المعارك بينهم وبين الذين كفروا مثل معركة بدر وأحد ، فمن فضل الله على المسلمين أمور :
الأول : لما علم كفار قريش بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الفراش التي أرادوا فيها قتله اتبعوا أثره وصاحبه وتجلت المعجزات في الطريق كما تقدم ذكرها منها بيت العنكبوت على غار ثور ، الذي لجأ إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر .
فلما إنتهوا إلى باب الغار رأوا بيت العنكبوت وعش الحمام فرجعوا خائبين وبقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيام في الغار، وعندما خرج سائراً نحو المدينة عرض لهم سراقة بن مالك ليأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسيراً ويفوز بجائزة كفار قريش ولكن قوائم فرسه غاصت في الرمل ولم تطلق إلا بمعجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو دعاؤه واستجابة الله سبحانه له , فصار سراقة هذا يرد المشركين الذين يطلبون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
ولم يقم كفار قريش بغزوه في المدينة المنورة لتكون هناك فسحة من الوقت لنشر مبادئ الإسلام ونزول عدد من آيات وسور القرآن .
الثاني : لم تقع معركة وقتال ومبارزة بين المسلمين والذين كفروا في السنة الأولى للهجرة النبوية الشريفة لتكون مناسبة لتثبيت الفرائض وبيان أحكامها وسننها ، ويتم التوافق والوئام بين المهاجرين والأنصار ، ومن الإعجاز قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة بينهم وصيرورة هذه الأخوة وثيقة نبوية ، ترتبت عليها أمور عديدة حتى التوارث إلى أن نزل قوله تعالى [وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ] ( ).
الثالث : انتفاع المسلمين من الأشهر الحرم والتي ليس فيها قتال ، ويتجنب الحرب حتى الثأر فيها ، فاذا رأى ولي المقتول قاتل أخيه في الشهر الحرام فانه لا يجهز عليه ، نعم له رصده ومراقبته لمعرفة مأواه .
المسألة الرابعة : لقد أخبرت آية السياق عن نزول مصيبة بالمسلمين يوم معركة أحد بقوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) ولم تكن هذه المصيبة متحدة في موضوعها وجنسها ، إنما كانت متعددة ومن هم أفرادها سقوط سبعين شهيداً ، ويمكن قراءة الآية بتقدير :
الأول : وما أصابكم يوم التقى الجمعان بقتل حمزة بن عبد المطلب .
الثاني : وما أصابكم يوم التقى الجمعان بقتل مصعب بن عمير .
الثالث : وما أصابكم يوم التقى الجمعان بقتل سعد بن ربيع بن أبي زهير الأنصاري .
الرابع : وما أصابكم يوم التقى الجمعان بقتل النعمان بن مالك .
الخامس : وما أصابكم يوم التقى الجمعان بقتل سلمة بن ثابت بن وقش الأنصاري الأشهلي .
وهكذا بعدد شهداء معركة أحد بلحاظ أن قتل كل واحد من المهاجرين والأنصار مصيبة قائمة بذاتها .
ومن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلقي أهل وذوي الشهداء وقع هذه المصائب بالصبر والثبات على الإيمان ، وهو من مصاديق السكينة التي أنزلها الله عز وجل على نفوسهم، ومنها نزول آية البحث التي لم تتأخر في زمان نزولها عن معركة أحد ، إذ أخبرت عن حياة هؤلاء الشهداء .
وإذ كانت شدة المصيبة في أول ساعاتها وأيامها فان الرضا والطمأنينة والسكينة المترشحة عن آية البحث مصاحبة لها ومتجددة ومتصلة وحاضرة عند كل جيل من أجيال المسلمين .
لقد إشترى المسلمون والمسلمات نزول آية البحث بدماء إيمان سالت يوم معركة أحد لتكون حرزاً له وزاجراً للذين كفروا عن تكرار التعدي عليهم ، ولا يعلم ما صرف من البلاء وهجوم الأعداء على المسلمين بسبب آية البحث إلا الله عز وجل .
لقد نزل قوله تعالى [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] لأمور :
الأول: منع دبيب اليأس والقنوط لنفوس المسلمين والمسلمات , قال تعالى[لاَ يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ]( ).
الثاني : تنزيه منتديات المسلمين من إظهار الجزع.
الثالث : عصمة المسلمين والمسلمات من الإنصات للمنافقين .
الرابع : كشف المنافقين والمنافقات .
الخامس : البعث على التدبر في الدعوة إلى الله، وكيف أن فيها عقبات ومحن ومشاق , تكون مناسبة للأجر والثواب وتثبيت معالم الإيمان .
السادس : إدراك المسلمين لقانون وهو وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، للفوز برضا الله , قال تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ]( ).
ومن الآيات أن القرآن لم ينزل بلوم المسلمين على ما أصابهم يوم أحد إنما أخبرت آية البحث بأن ما أصابهم[فَبِإِذْنِ اللَّهِ]( ) للمنع من التلاوم بين المسلمين .
ومن مصاديق كون السنة النبوية بياناً وتفسيراً للقرآن عدم توجيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم اللوم إلى بعض الشهداء الذين قتلوا أو إلى الرماة الذين تركوا مواضعهم التي عينهم فيها وأكد عليهم على لزوم عدم تركها في أي حال من الأحوال سواء النصر أو الهزيمة أو حتى قتل أصحابهم في وسط الميدان ، وهو من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتنزه عن لوم المقاتلين من أصحابه وإن أخطأوا وصارت أخطاؤهم سبباً بخسارة فادحة لحقت بالمسلمين وبالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شخصياً .
وجاءت آية البحث عوناً وتعضيداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وثناء عليه في صبره وإمتناعه عن لوم أصحابه ، فان قلت هذا الصبر والإمتناع من عمومات الوحي بلحاظ أن هذا الإمتناع أمر وجودي ، وليس عدمياً .
والجواب هذا صحيح ، ولكن لا تعارض بين مجئ الثناء للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على القول والفعل المترشح عن الوحي ، وقد اثنى الله عز وجل على رسوله الكريم بقوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) وما هذا الخلق إلى معجزة من معجزات الوحي , وشاهد عليه , ودعوة في كل زمان للإسلام .
لقد كان ذات إخبار آية السياق عن نزول المصيبة بالمسلمين مواساة دائمة لهم إذ قيدته بأنه بإذن الله , ليكون على وجوه :
الأول : تلقي المؤمنين ما يأذن به الله عز وجل بالقبول والرضا .
الثاني : بيان قانون وهو علم الله عز وجل بما سيقع للمسلمين يوم أحد ورضاه به .
الثالث : بيان آية السياق والآية التي بعدها لعلة نزول المصيبة بالمسلمين من جهتين :
الأولى : كشف صدق إيمان المؤمنين .
الثانية : فضح الذين نافقوا ، وليكون من مصاديق قوله تعالى[وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا]( ) عجزهم عن الإضرار بالإسلام والمسلمين، ويكون تقدير الآية أعلاه على وجوه :
أولاً : ليعلم الذين نافقوا ويعلم بهم المسلمون .
ثانياً : ليعلم الذين نافقوا فيحذرهم المسلمون .
ثالثاً : ليعلم الذين نافقوا لأن الإبتلاء بالمصيبة مناسبة لكشف البواطن وما يخفي الإنسان في قرارة نفسه.
رابعاً : ليعلم الذين نافقوا فيمتنعوا عن الإضرار بالإسلام .
خامساً : ليعلم الذين نافقوا رحمة الله بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً ، إذ يظهر المنافق الإيمان ، وعندما يأمن الأذى يكشف بالقول والعمل عما في نفسه من مفاهيم الكفر والضلالة ، فجاءت مصيبة المسلمين يوم أحد لمنع إفتتان الناس بالمنافقين والظن بأنهم يمثلون الإسلام .
سادساً : ليعلم الذين نافقوا أن شهداء معركة أحد أحياء عند الله .
سابعاً : ليعلم الذين نافقوا أن رزق الشهداء لم ينقطع .
ثامناً : ليعلم الذين نافقوا أن الله عز وجل يرزق الشهداء كل يوم وإلى يوم القيامة حيث يدخل الجنة .
تاسعاً : ليعلم الذين نافقوا أن الله عز وجل يعلم بمكرهم .
فان قلت أنما وردت الآية بنسبة العلم إلى الله عز وجل وتقديرها : ليعلم الله الذين نافقوا، والجواب هذا صحيح إلا أن وجوه التقدير في المقام أعم وأكثر وأوسع .
ويمكن أنشاء قانون من جهات :
الأولى : قانون كل آية قرآنية تفضح المنافقين .
الثانية : قانون كل آية قرآنية حجة على المنافقين .
الثالث : قانون كل واقعة جرت للمسلمين ليعلم الله بها الذين نافقوا .
الرابع : كل آية قرآنية حرب على النفاق , ودعوة للتوبة منه .
ويصح دمج هذه القوانين بافراد باب خاص لها في تفسير كل آية في القرآن في هذا السِفر المبارك ، فمع باب في سياق الآيات وباب إعجاز الآية الذاتي ، وباب إعجاز الآية الغيري وباب مفهوم الآية وباب الآية سلاح ونحوها من الأبواب المتعددة من هذا السِفر يشرع باب جديد وهو :
الآية حرب على النفاق , ويدون في هذا الجزء برجاء الفضل والمدد من عند الله عز وجل .
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : أصبح الذين قتلوا في سبيل الله يوم التقى الجمعان فرحين).
ورد ذكر[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ثلاث مرات في القرآن ثنتين بخصوص معركة أحد أحداهما آية السياق والأخرى قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ]( ).
والثالثة بخصوص معركة بدر بقوله تعالى[وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابن السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ).
ترى لماذا ورد هذا اللفظ مرة واحدة بخصوص معركة بدر ، ومرتين بخصوص معركة أحد ، الجواب من وجوه :
الأول : كثرة المسائل الإبتلائية في معركة أحد بالقياس إلى معركة بدر .
الثاني : مواساة المسلمين ودعوتهم للصبر لما لاقوه يوم أحد ، قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ) .
الثالث : دعوة المسلمين لإقتباس الدروس والمواعظ من معركة أحد .
الرابع : لقد ورد في الآية أعلاه من سورة الأنفال الخاصة بمعركة بدر الإخبار من عند الله عز وجل عن نزول القرآن ، وهو نعمة عظمى .
ولتكون خاتمة آية السياق، وليعلم المؤمنين على وجوه :
أولاً : ليعلم المؤمنين بما أنزلنا على عبدنا .
ثانياً : ليعلم المؤمنين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : ليعلم المؤمنين بنزول الملائكة يوم بدر ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) .
وهل نزول الملائكة هذا من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ] ( ).
قد يقال ظاهر الآيات يدل على إرادة نزول الآيات كما في قوله [وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ..] ( ولكن المعنى أعم، ويكون تقدير الآية أعلاه على وجوه :
أولاً : وما أنزلنا على عبدنا محمد من آيات القرآن سواء في مكة أو المدينة.
ثانياً : وما أنزلنا على عبدنا من القرآن بخصوص الهدى ووجوب الإيمان.
(عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدراً ، فالتقى الناس فهزم الله العدوّ ، فانطلقت طائفة في آثارهم منهزمون يقتلون ، وأكبت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدوّ منه غرة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض.
قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب.
وقال الذين خرجوا في طلب العدوّ : لستم بأحق بها منا ، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم .
وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : لستم بأحق بها منا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرة واشتغلنا به ، فنزلت {يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم}.
فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أغار في أرض العدوّ ونفل الربع ، وإذا أقبل راجعاً وكل الناس نفل الثلث ، وكان يكره الأنفال ويقول : ليرد قويُّ المسلمين على ضعيفهم)( ).
ثالثاً : وما أنزلنا على عبدنا من النصر والظفر بالمشركين فان قلت إنما وردت الآيات بتحقيق النصر للمسلمين عموماً بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( )
الجواب هذا صحيح .
ومن خصائص آيات القرآن أمور :
الأول :بيان قوانين تحكم الحياة الدنيا .
الثاني : ذكر القوانين التي تدل على الإرادة التكوينية والتشريعية .
الثالث : إنتفاء التعارض في القوانين والقواعد والضوابط التي تذكرها آيات القرآن .
الرابع : بيان القرآن لحاجات الناس إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) لتفيد آية البحث أموراً :
الأول : هناك طائفة من الناس يقتلون في سبيل الله، وبينهم وبين عامة الذين يجاهدون في سبيل الله عموم وخصوص مطلق ، إذ يشمل في سبيل الله وجوهاً:
أولاً : الإيمان بالوحدانية ونبذ الشريك .
ثانياً : التصديق بالنبوات والرسالات .
ثالثاً : أداء الفرائض والعبادات .
رابعاً : التحلي بالصبر ، وهو من مصاديق قوله تعالى[أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ) بلحاظ أن الله عز وجل أمر بالصبر في حال الحرب والسلم، وفي أداء الصالحات والإمتناع عن الفواحش والسيئات .
وعن عمير الليثي قال (بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا جاءه رجل فقال : يا رسول الله ما الإِيمان؟ قال : الصبر والسماحة . قال: فأي الإِسلام أفضل؟
قال : من سلم المسلمون من لسانه ويده . قال : فأي الهجرة أفضل؟
قال : من هجر السوء . قال : فأي الجهاد أفضل؟ قال : من أهرق دمه وعقر جواده . قال : فأي الصدقة أفضل؟
قال : جهد المقل قال : فأي الصلاة أفضل؟
قال : طول القنوت .
وأخرج أحمد والبيهقي عن عبادة بن الصامت قال : قال رجل يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال : الصبر والسماحة. قال : أريد أفضل من ذلك . قال : لا تتهم الله في شيء من قضائه) ( ).
وهل يمكن إنشاء قانون وهو أن صبر الشهداء أعلى مراتب الصبر، الجواب نعم، لذا تفضل عز وجل ورزقهم الحياة عنده من حين إختيارهم الرحيل عنها، لقد طلبوا مغادرتها طوعاً، حباً لله ولرسوله، فإن قلت قد نزل القتل ببعضهم قهراً أو غدراً أو غيلة.
والجواب لقد تجلى مصداق الإختيار عند الشهداء من جهات:
الأولى : الإيمان بالله ورسوله.
الثانية : نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذب عنه.
الثالثة : الصبر على أذى المشركين، وما يأتي من المنافقين من أسباب الشك والجدال.
الرابعة : الخروج إلى معركة أحد مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة : إتخاذ الشهداء وعموم الصحابة مواضعهم يوم إلتقى الجمعان وفق ما عيّنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة : إقبال المؤمنين على القتال، والمبارزة طواعية.
ويتفضل الله عز وجل ويلحق بالقتل الخروج طواعية والسعي لرضوان الله عز وجل , فضلاً منه تعالى .
إن قوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( )، تزكية للشهداء وإخبار بأن الله عز وجل أمضى لهم حقيقة قتلهم في سبيله تعالى وليس طمعاً بمغانم أو منافع دنيوية.
ويمكن إنشاء قانون وهو : لو دار الأمر بالنسبة للذي يقتل تحت لواء النبوة بين أنه قتل في سبيل الله أو لا، فالأصل أنه قتل في سبيل الله وطاعة له سبحانه ولرسوله إلا أن يدل دليل معتبر على الخلاف ، كما لو ورد نص عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسلم بخصوص شخص معين بأنه قتل طمعاً بالدنيا أو حمية وليس في سبيل الله
كما في قزمان وهو حليف لبني ظَفر من الأنصار، فكان إذا ذُكر عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول عنه(إنّهُ لَمِنْ أَهْلِ النّارِ)( )، ولما يعلم الصحابة السر في الأمر، وربما حمله بعضهم على ذنب إرتكبه قزمان لم تدركه التوبة فيه، فلما كان يوم أحد خرج قزمان مع جيش المسلمين، ولما إنخزل عبد الله بن أبي سلول بثلث الجيش لم يرجع قزمان معهم وعندما بدأ القتال قاتل قتالاً شديداً حتى قتل سبعة أو ثمانية من المشركين.
ولكن الجراحات نالت منه وأثبتته، فحمله المسلمون إلى دار بني ظفر، ثم جاء المسلمون له يعودونه ويثنون عليه، ويبشرونه بالثواب العظيم من عند وما ينتظره من الأجر الجزيل عند الله لقتاله في سبيله، ولكنه لم يتلق هذه البشارة بالقبول والرضا , ولم يكتف بالسكوت ولكنه قال(بِمَاذَا أَبْشِرُ فَوَاَللّهِ مَا قَاتَلْت إلّا حَمِيّةً عَنْ قَوْمِي ؛ فَلَمّا اشْتَدّتْ بِهِ جِرَاحَاتُهُ وَآذَتْهُ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَقَطَعَ بِهِ رَوَاهِشَ يَدِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ)( ).
فأستحق النار بقتله نفسه وما يسمى بالإنتحار بعد بيانه للنية التي يقاتل بها ومن أجلها، فخرج بالتخصص من أهل الآية السابقة بقوله تعالى[الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
وهل يضر الشهيد ما يقوله أبوه أو أمه إذا كانا منافقين أو كافرين ، الجواب لا.
كما في يزيد بن حاطب الذي كان من خيار المسلمين، وخرج إلى معركة أحد وقاتل فيها، وأثقلته الجراحات فحَمل إلى دار بني ظفر، وكان أبوه حاطب بن أمية شيخاً مسناً، قضى أغلب أيام حياته في الجاهلية والكفر، وإجتمع نفر من المسلمين والمسلمات على إبنه يزيد ورأوه يجود بنفسه من شدة الجراحات، فأخذوا يبشرونه بالجنة.
والقدوم على رب كريم يثيب المؤمنين عامة والذين قتلوا في سبيله خاصة، وصاروا يقولون: أبشر يا ابن حاطب , فنجم نفاق أبيه فجعل يقول: أجل ! جنة من حرمل، غررتم والله هذا المسكين من نفسه)( ).
الشعبة الثانية : صلة آية البحث بالآيات المجاورة التالية ، وفيها وجوه :
الوجه الأول : صلة آية البحث بالآية التالية [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) وفيها مسائل :
المسألة الأولى : يتحد موضوع الآيتين إذ تذكر كل منهما شهداء معركة بدر وأحد وما رزقهم الله عز وجل من فضله ، ليكون تعدد الآيات الخاصة بفضل الله على الشهداء نعمى عظمى على المسلمين الأموات منهم والأحياء.
لقد ابتدأت آية البحث بصفة وحال الذين قتلوا في سبيل الله بصيغة جمع المذكر السالم [فرحين] ولم ترد هذه الصيغة مرة أخرى في ذات آية البحث أو في الآية التالية ، وهو من إعجاز القرآن، وفيه دعوة للعلماء والمسلمين جميعاً بالتدبر في لفظ[فرحين] ودلالاته، ويكون تقديره مع مضامين الآية التالية على وجوه :
الأول : فرحين يستبشرون ليجمع الله عز وجل لهم أسمى مراتب الغبطة ، ولبيان أن الفرح مستقر عندهم، وتأتيهم مصاديق وأسباب الإستبشار والبشارة على نحو متتابع .
وتأكيد قانون وهو أن عطاء الله عز وجل لا يقف عند الثابت والمستقر إنما يأتي غيره مما يضاف له ، أو يحل في المحل ثم يغادر بحسبه، فمع أن حال الفرح التي بلغها شهداء بدر وأحد عند الله أكبر وأعظم مما كانوا يتصورون ويرجون فان الله عز وجل يبشرهم بشارات عظيمة , ويجعلهم يتطلعون إلى تحقق تلك البشارات ، ولو اجتمعت الخلائق على استحضار واحدة منها لعجزوا عنه ، وإدراك هذا العجز من أسباب غمر الفرح للشهداء والمسلمين جميعاً .
ومن معاني الجمع بين الآيتين صيرورة الشهداء في فرح دائم وحال استبشار بأمور مخصوصة في المستقبل .
الثاني : فرحين بنعم من الله بلحاظ أن حال الفرح أثر ورشحة لما للشهداء في عالم الآخرة ، وهل ذات فرح الشهداء نعمة من الله ، الجواب نعم ، وهو من النعم اللامتناهية بلحاظ أمور :
أولاً : فرح كل شهيد نعمة من الله .
ثانياً : غبطة وفرح الشهيد في كل آن ولحظة نعمة مستقلة قائمة بذاتها .
ثالثاً : الفوز بالواسطة والطريق إلى الفرح الدائم في الآخرة نعمة عظمى، باختيار الإيمان وبذل النفس في الدفاع عن الإسلام والنبوة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
ومن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلاوة كل مسلم ومسلمة هذه الآية عدة مرات في اليوم ، ومن قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة.
وبعد بيعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة الثانية بعث معهم مصعب بن عمير ليعلمهم الصلاة وتلاوة القرآن وأحكام الحلال والحرام لتكون الآية أعلاه وآيات سورة الفاتحة أول ما دخل إلى المدينة من جواهر الإيمان لتنمي ملكة حب التضحية في سبيل الله، وتكون تلاوة كل فرد من الأنصار لها عدة مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني مقدمة لفوز طائفة منهم بالشهادة في معركة بدر وأحد خاصة وأن أكثر الشهداء فيهما من الأنصار ، وعددهم في معركة بدر ثمانية من مجموع أربعة عشر ، وعددهم في معركة أحد خمسة وستون من مجموع سبعين .
وهل كان هؤلاء الأنصار مستعدين للشهادة من حين دخولهم الإسلام أم أن هذا الحب نمى وترسخ وتغذى على نحو تدريجي.
والمختار هو الثاني عند الأعم الأغلب منهم لتوالي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاً : تفضل الله بازاحة الموانع دون توجه الصحابي إلى ميدان المعركة ورضاه بالشهادة.
وهل يدل قوله تعالى[الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ) في الآية السابقة على حقيقة وهي أن الشهداء كانوا مستعدين للقتل من حين دخولهم المعركة، الجواب نعم ، وهو الأصل في المقام خاصة وأن العدو كان أكثر عدداً وعدة .
لقد جاء ثلاثة آلاف رجل من مكة وقطعوا نحو خمسمائة كيلو متراً بعدتهم ومؤنهم والنساء التي معهم ليجهزوا على الإسلام ويقتلوا النبي محمداً ويستأصلوا المسلمين، فخرج لهم الصحابة وكان الموت أمراً محتملاً وهو قريب منهم ولكنهم يدركون حضور المعجزة وفضل الله عز وجل عليهم .
فرحين لأن الذي يكون من عند الله في الآخرة لا يكون إلا فرِحاً سعيداً يملأه السرور والغبطة، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( ) فكل شئ ملك لله عز وجل , وهو الملك المتصرف في ملكه، وقد تفضل وأكرم الذين قتلوا في سبيله بأن جعلهم أحياء عنده من حين قتلهم .
وهل فرح الشهداء في الآخرة معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أن القدر المتيقن من معجزاته هو ما ينزل عليه وما يجري على يديه وما يتنجز منها في الحياة الدنيا ، المختار هو الأول .
إن آية البحث وحال الشهداء وفرحهم في الآخرة من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو لا يتعارض مع فرح الشهداء من أتباع الأنبياء السابقين كمعجزة لأنبيائهم .
ويمكن تأسيس قانون من جهات :
الأولى : المعجزات التي ينالها ويأتي بها كل نبي من الأنبياء .
الثانية : معجزات الرسل على نحو الخصوص وبين الأنبياء والرسل عموم وخصوص مطلق ، فعدد الأنبياء هو مائة وأربعة وعشرون الفاً ، وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر .
وهل يخص قوله تعالى[لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ]( )، الرسل على نحو التعيين أم يشمل الأنبياء على نحو العموم الإستغراقي، الصحيح هو الثاني، إنما يكون التقسيم الإستقرائي أعلاه في بعض الموارد، وقد يأتي لفظ الرسول ويراد منه النبي .
الثالثة : المعجزات الخاصة والتي يفوز بها نبي من بين الأنبياء مثل معجزة الناقة لصالح عليه السلام التي لم تولد في رحم إنما خرجت من بين الصخور استجابة لسؤال قومه له كشرط ليكون عدم تكونها في رحم أو ولادتها من أم لها بشارة استنساخ الحيوانات وبصفات حسنة من وفرة الحليب أو اللحم ونحوه بعد الإرتقاء في علم الوراثة والكيمياء , وهو من مصاديق قوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ).
ومن الإعجاز ورود لفظ [عَلَّمَ] في القرآن أربع مرات فيها بيان لقانون وهو أن الله عز وجل يعلّم ويهدي إلى العلم والبصيرة ، وجاءت واحدة خاصة بآدم ليلحق به الناس جميعاً بقوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( )، ليكون خلق وتعليم آدم رحمة للناس جميعاً.
وهي أول هذه الآيات الأربعة بالنسبة لنظم القرآن، لتكون فاتحة للعلوم المكتسبة وتبدأ حياة الإنسان بالتعليم والمعجزة من عند الله بلحاظ أن تفضل الله عز وجل بتعليم آدم الأسماء معجزة تتغشى كل إنسان لبيان قانون وهو انتفاع كل إنسان من معجزات الأنبياء ، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وهل فرح الشهداء الذي تذكره آية البحث من مصاديق قوله تعالى [عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ] ( ).
الجواب نعم ، بلحاظ أن كل آية من القرآن تتضمن ذخائر من العلم ليس بينها وبين أي انسان برزخ أو حاجب ، ويتضمن القرآن العلوم التي يدركها كل إنسان ، حتى مع تشتت البال وكثرة الهموم .
ومن إعجاز القرآن ذهاب هذه الهموم ، أو تضاؤلها عند قراءة آيات القرآن أو الإستماع إليها ، قال تعالى [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ) وقراءة الآية القرآنية من مصاديق ذكر الله الذي تذكره الآية أعلاه لتسليم المسلم بأنه يقرأ كلام الله وكذا بالنسبة للإستماع إليها ، بالإضافة إلى قانون من إعجاز القرآن الذاتي وهو أن أسماء الله عز وجل في آيات القرآن أكثر من عدد الآيات نفسها الذي يبلغ (6236) آية .
وقد ورد اسم الجلالة في القرآن نحو (2700) مرة بلحاظ احتساب اسم الجلالة المجرد والاسم مع الحروف المقارنة له مثل (والله)(فالله) (لله) مثل [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) إذ وردت ثلاثة أسماء لله في هذه الآية مع قلة كلماتها ، وورد اسم الجلالة في آية البحث مجرداً من غير حرف مقارن ومصاحب له .
وورد لفظ الرحيم في القرآن خمساً وتسعين مرة .
وورد (عن ابن عباس وابن عمر قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة غير واحد ، من أحصاها دخل الجنة) ( ).
وورد لفظ حكيم في القرآن سبعاً وتسعين مرة .
ولفظ غفور إحدى وسبعين مرة .
وقد تأتي ثلاثة أسماء حسنى متتالية في خاتمة آية قرآنية كما في قوله تعالى [وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) إذ تكرر اسم الجلالة في الآية أعلاه ثلاث مرات إلى جانب اسم السميع والعليم .
أما إذا تم إحتساب الضمائر الظاهرة والمستترة التي تعود لله عز وجل في القرآن فان المجموع يكون أضعاف عدد آيات القرآن .
لبيان قانون وهو : في كل آية قرآنية ذكر متعدد لله عز وجل لتكون تلاوة الآية القرآنية مادة لنزول الرزق الكريم للمسلمين والمسلمات وسبباً لتنمية ملكة الخشية منه تعالى في قلوبهم .
الثالث : فرحين بفضل الله)، من الإعجاز في نظم هذه الآيات توالي ذكرها لما تفضل الله به على الشهداء لبيان أن هذا الفضل حرز للمسلمين من جهات :
الأولى : فضل الله على الشهداء واقية من الشك والريب .
الثانية : إنه حرز من الإنصات للمنافقين .
لقد جاءت الآيات السابقة بذم المنافقين ، وبيان قبح فعلهم باختيارهم القعود عن الدفاع مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعنه وعن تشريع وأداء الصلاة التي يقومون لها وهم كسالى .
الثالثة : فضل الله على الشهداء نوع تأمين أخروي على حياة المسلمين ، وليس من تأمين مثله ، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) لتبعث الآية الطمأنينة في نفوس المسلمين على الذين لم يرجعوا من معركة أحد والذين قد لا يرجعون من المعارك اللاحقة .
ولما جاء النهي من عند الله عز وجل للمسلمين بقوله [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا]( ) تفضل الله عز وجل وأخبر المسلمين بحياة الشهداء لإعانة المسلمين في الإمتناع عن محاكاة الذين كفروا في لومهم للشهداء والذين ماتوا عند الضرب في الأرض للتجارة بلحاظ أن سفر وضرب المسلم في الأرض مرآة لأحكام الإسلام لحرصه على أداء الصلاة في أوقاتها ، والمعاملة بالصدق والإمتناع عن الحرام .
وليكون من مصاديق قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى]( ) أي في السفر وعند الضرب في الأرض ، ولا يعلم ثواب المسلم عند تعاهده الصلاة وتلاوة القرآن في السفر إلا الله عز وجل ، فحينما يصلي المسلم في بيته أو المسجد أو السوق أو المحلة يحضر مع أهله واخوانه الذين يلتقي معهم كل يوم , وفيه ثواب عظيم .
أما إذا سافر المسلم فانه يصلي بحضرة أناس آخرين , وفيه دعوة للإيمان وتثبيت له في النفوس ، وهو دعوة لتعاهد الصلاة وتنمية لملكة حب أداء الفرائض ، ومن خصائص الصلاة فرح المسلم عند أدائه لها ، وهذا الفرح متعدد في اليوم الواحد من جهات :
الأولى : عند سماع الأذان والإعلام لأداء الصلاة .
الثانية : مقدمات الصلاة كالوضوء أو غسل الجنابة كطهارة مائية أو الإنتقال للطهارة البدلية وهي الترابية، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
الثالثة : عند الشروع في الصلاة وإتيان تكبيرة الإحرام .
الرابعة : حال تلاوة المسلم للقرآن والتي تدخل الفرح إلى نفسه ونفوس السامعين ، وهو من أسرار الإحتراز في الصلاة بتلاوة الإمام لآيات وسور القرآن .
الخامسة : عند الخروج من الصلاة والفرح بأداء الواجب والغبطة بنيل الثواب عليه ورجاء بقاء واستدامة الحياة لأداء الصلاة في أوقاتها ، وهو من مصاديق ومعاني ما ورد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (حبب إليَّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة) ( ).
الرابع : لقد ورد النهي عن الفرح في قوله تعالى [لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ] ( ) بينما أخبرت آية البحث عن فرح الشهداء بما آتاهم الله عز وجل لإنعدام الفتنة والإفتتان فيه
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها نهت المسلمين عن الفرح فيما آتاهم الله عز وجل ، وليس فيما آتى الشهداء والذين قتلوا في سبيل الله لبيان قانون وهو يجوز بل يجب على المسلمين الفرح بما آتى الله عز وجل الشهداء من فضله
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين آية البحث والآية التالية على وجهين :
الأول : فرحين يستبشرون .
الثاني : يستبشرون فرحين .
وهل من فرق بينهما , الجواب نعم ، إذ يطرأ الإستبشار في الوجه الأول أعلاه على حال الفرح التي يتصفون بها ، بينما يكون من معاني الوجه الثاني ترشح حال الفرح عن الإستبشار .
ويصح وصف الشهداء بهما معاً ليكون فرحهم على أقسام :
الأول : الفرح الثابت لما أنعم الله عز وجل به عليهم .
الثاني : الفرح المتجدد والطارئ مع كل بشارة ، لتكون عاقبة الإستبشار عند تحقق المصداق , ويكون مصداق البشارة عاقبة للإستبشار ، فقد ذكرت آية البحث استبشار الشهداء بقرب قدوم أصحابهم من المؤمنين الجرحى والذين يقتلون في سبيل الله في المعارك اللاحقة والذين يموتون على الفراش على الإسلام والتقوى ، قال تعالى [إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا] ( ).
الثالث :استبشار وفرح الشهداء عند قدوم أحد أصحابهم إذ يفدون على عالم الآخرة تباعاً فرداً فرداً وهو الأصل , أو جماعات كما في بئر معونة .
ومن فضل الله عز وجل على الشهداء تعدد موضوع الغبطة من جهات :
الأولى : الفرح بحسن المثوى .
الثانية : الإستبشار بالإخبار عن قدوم الشهداء .
الثالثة : تحقق مصداق البشارة .
الرابعة : تعدد مصداق البشارة ، فبين الحين والآخر يفد عليهم بعض الصحابة .
الخامسة : رؤية الشهداء لحسن إقامة أصحابهم الذين التحقوا بهم قادمين من الدنيا .
السادسة : تلقي الشهداء أصحابهم بالبشرى من أسباب السكينة .
وهل الود بين الشهداء والذين يلحقون بهم من المؤمنين من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا] ( ) أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه ما يخص الحياة الدنيا .
المختار هو الأول ، وإذ أنعم الله عز وجل على العباد بنعمة فانه أكرم من أن يرفعها ، ويدل قوله تعالى [يستبشرون ] على سنخية الود التي تربط بين المؤمنين في الآخرة .
لقد تفضل الله عز وجل وبشر المؤمنين بالجنة ثم أخبر سبحانه عن تنزيههم عن الكدورات وأسباب الفرقة والحزن ، قال تعالى [وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ] ( ).
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : فرحين بنعمة من الله) من معاني آية البحث إنحصار الفرح في الآخرة بفضل الله ، وما ينعم به على المؤمنين عامة والشهداء منهم خاصة .
لتكون هناك نوع ملازمة بين الفرح وفضل الله في الآخرة ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : لا فرح في الآخرة إلا بفضل الله .
الصغرى : يفرح الشهداء في الآخرة .
النتيجة : يفرح الشهداء بفضل الله .
ترى ما هي النسبة بين فضل الله ونعمته ، فيه وجوه :
الأول : إرادة نسبة التساوي بينهما ، فالفضل هو النعمة .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وفيه شعبتان :
الأولى : فضل الله أعم من النعمة .
الثانية : نعمة الله أعم من الفضل .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين الفضل والنعمة .
أما نسبة التباين فهي متعذرة في المقام .
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثاني أعلاه كما يمكن القول أنهما مما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، قال تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
فان قلت هل يدل عدم ورود آية تقول(وأن تعدوا فضل الله لا تحصوه) على أن النعمة أعظم وأكبر، الجواب نعم .
إذ يصح أن يقال (وان تعدوا فضل الله لا تحصوه ).
وقد وردت الآية ببيان صفة فضل الله وأنه عظيم كما يمكن قراءة الآية أعلاه بذات المعنى (وأن تعدوا فضل الله لا تحصوه ) .
وذات الخلق نعمة من عند الله عز وجل ومنه خلق الإنسان وخلق ذات النعم إذ أن رشحات الرحمة نازلة من عند الله بغير إنقطاع ، وليس لعطائه حد أو منتهى ، وقد فاز الذين قتلوا في سبيله بأبهى النعم في الآخرة لتبعث السكينة في نفوس المسلمين كنعمة من الله عليهم وعلى الناس أجمعين، للإقتباس العام منها، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن نعم الله عز وجل على المؤمنين ببركة مضامين آية البحث التمكين في الأرض وحياة الأمن كمقدمة لأداء الفرائض وضروب العبادات .
وهناك تباين بين استقرار النعم في الآخرة وتزلزلها في الدنيا ، إذ أن إرتكاب المعاصي وعدم الشكر على النعم سبب لنقصها أو زوالها إلا مع التدارك والتوبة ، أما نعم الآخرة فتتصف بالثبات والدوام .
إذ أن الآخرة عالم الجزاء والثواب من غير أن يبتلى الإنسان فيها بعمل أو وسوسة من ابليس أو بعض جنوده، قال تعالى[تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
المسألة الرابعة : تبين القراءة لآية البحث والآية التالية عظيم منزلة الشهداء عند الله عز وجل ، فقد ذكرت آية البحث فرح الشهداء واستبشارهم والقطع بسلامتهم وأمنهم وعصمتهم من الخوف والحزن ، وتعقبتها آية السياق لتبدأ بقوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ] لتأكيد تغشي رحمة الله للشهداء وتوالي نعمة عليهم بما يجعل أهل السماء يغبطونهم .
وقيدت الآية موضوع وجهة الإستبشار بأنه بنعمة الله عز وجل لبيان قانون وهو لا أحد يقدر على الإنعام في الآخرة إلا الله عز وجل ، وفيه دعوة للمسلمين للإنقطاع إلى الدعاء ورجاء النعم والمنّ من عند الله في الدنيا والآخرة .
ومن معاني الجمع بين الآيتين تعدد النعم وأثرها , وبين الفرح والإستبشار في المقام عموم وخصوص مطلق فالفرح أعم في موضوعه ، فهم يفرحون بما عندهم وما رزقهم الله عز وجل ، ويستبشرون بما سيأتيهم من النعم وما يأتي المسلمين في أيامهم في الحياة الدنيا.
وهل تأتي نعمة إضافية للشهداء عند تلاوة المسلمين لآية البحث والسياق الجواب نعم ، وهو من فضل الله عز وجل على الأحياء والأموات من المسلمين ، وفيه دلالة على الإنتفاع العام من تضحية الشهداء وبذلهم النفوس في رضوان الله , والدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن سنن الإسلام.
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم ويستبشرون بنعمة من الله، لبيان قانون وهو أن الذين قتلوا في سبيل الله انتقلوا إلى عالم البشارة والاستبشار المتعدد والمتكرر وفي كل حين تأتيهم بشارة مستحدثة .
والنسبة بين النعمة والإستبشار هو العموم والخصوص المطلق فالنعمة أعم وذات الإستبشار هو نعمة أخرى .
ليكون من معاني الجمع بين الآيتين بلحاظ الإستبشار موضوعاً وحكماً وجوه :
الأول : يستبشر الصحابة الذين قتلوا في معركة أحد بقتلهم في سبيل الله، قال تعالى[وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ).
الثاني : يستبشرون بأنهم لم يفروا من ميدان المعركة .
الثالث : يستبشر الشهداء بأمر ونعمة من عند الله ، ثم يأتي أمر ونعمة أخرى فيستبشرون بها ، وهكذا تتكرر النعم التي يترشح عنها الفرح والإستبشار على نحو الإنطباق .
الرابع : يستبشر الذين قتلوا في سبيل الله بصيرورة قتلهم سبباً لدخول الناس الإسلام ، ليكون قتلهم سبباً لزيادة عدد المسلمين وعدم خشيتهم من القتل لأن عاقبته الحياة الدائمة عند الله عز وجل .
الخامس : يستبشر الذين قتلوا في سبيل الله للحتم والقهر بأن فضل الله يؤدي إلى الفرح والإستبشار وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
ليكون من معاني الرزق بلحاظ الآية السابقة الفرح بفضل الله والإستبشار بنعم وخير عظيم من جهات :
الأولى : ما يأتي الشهداء من فضل الله .
الثانية : النعم التي يتفضل بها الله على الأحياء من المسلمين ، ومنها سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل وتوالي نزول آيات القرآن
الثالثة : فضل الله في هداية المسلمين إلى سبل الهداية، وتعاهدهم لسنن الإيمان .
الرابعة : ما يتفضل به الله على المؤمنين بعد موتهم .
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : فرحين وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ) وفيه وجوه :
الأول : من خصائص القرآن أن بعضه بيان وتفسير وكاشف عن كنوز وذخائر بعضه الآخر، ولا يكون هذا البيان والكشف والعلوم الأخرى المستقرأة من جهة واحدة بأن تكون آية مبينة لآية أخرى ، إنما التي تكون بياناً لأختها ، تكون مبينة بها من غير أن يلزم الدور بينهما لتستنبط علوم إضافية أخرى من الجامع لهما والكاشف لخزائن كل منهما بلحاظ أن هذا الجامع خزينة علمية وكلامية وثروة سماوية أخرى .
فأخبرت آية البحث عن انتظار الفرح لشهداء معركة بدر وأحد وهو يحوم على ساحة المعركة ليفيض عليهم عند قتلهم وعلى عموم المهاجرين والأنصار.
وهل من أمر غيره يحوم على ساحة المعركة يومئذ ليغزو قتلى المشركين ، الجواب نعم ، إنه الحزن والعذاب الإبتدائي الذي يتربص بالكفار الذين قتلوا في المعركة ، وهذا التباين من مصاديق وصف يوم أحد بأنه [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
الثاني : لقد ذكرت الآية السابقة صفة الشهداء في معركة أحد بأنهم قتلوا في سبيل الله ، وهو أمر يتعلق بالنية والقصد والفعل ، أي أن صيغة الخروج إلى المعركة والقتال كان بقصد في سبيل الله من غير تغيير في النية وحسن العزيمة و(عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من غزا وهو لا يريد في غزاته إلا عقالا فله ما نوى) ( ).
وجاءت آية البحث ببيان غبطة وعظيم سعادة شهداء أحد بعد مغادرتهم الدنيا لعظيم ما فيه من النعيم ، ثم أختتمت آية السياق بقانون عام يتغشى حياة الناس من أيام أبينا آدم إلى يوم ينفخ في الصور وهو:[َأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) .
ومن خصائص هذا القانون السرمدية والأبدية الدوام وإنعدام الإنقطاع، ولا يختص الأجر بذات المؤمن وعمله الصالحات إنما يشمل فيوضاته وبركاته على غيره من ذريته وأصحابه ، وهو من أسرار مؤاخاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه فيما بينهم ليترشح الأجر من فعل الأخ ومسارعته في الخيرات .
الثالث : من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه آخى بين المهاجرين والأنصار، ومع أن السنة النبوية شعبة من الوحي إلا أنه لا يتعارض مع كونها مرآة للقرآن وبياناً وتفسيراً لأحكامه وما ورد فيه من السنن وهذه المؤاخاة بيان وتفسير عملي لقوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
ليكون قتل الشهداء في يوم معركة أحد على وجوه :
الأول : دفع الشهداء عن أخوتهم المؤمنين .
الثاني : تنمية ملكة الأخوة بين المسلمين .
الثالث : بيان قانون وهو أن الأخوة بين المسلمين أسمى مراتب الصلات والمودة والرأفة، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( ).
الرابع : من رشحات أخوة المؤمنين بذل النفس في سبيل الله .
الخامس : تفاني الصحابة من المهاجرين والأنصار في ملاقاة الذين كفروا بالسيف مصداقاً لقوله تعالى[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
إذ تتضمن الآية أعلاه إرتقاء المسلمين إلى مراتب ملاقاة جيوش الذين كفروا مع أنهم كانوا نحو أربعة أضعاف جيش المسلمين ، وفاتهم أن الملائكة نزلوا لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يومئذ ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
السادس : صيرورة الشهداء سبق وفرط متقدم للمؤمنين عند مغادرتهم الحياة الدنيا ، إذ يدخل الإنسان عالم القبر على نحو دفعي مفارقاً أهله وذويه وأحبائه ليس معه إلا عمله , نعم يتصف المؤمنون بان الشهداء سابقون لهم يتطلعون إلى مجيئهم ليزفوا لهم البشارة بالأمن والسلامة من الخوف والحزن ، وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ]( ).
السابع : تأسيس منهاج الإقتداء بالشهداء في الصبر والتضحية والفداء.
الثامن : تجلي مصداق الفداء في طاعة الله ورسوله.
المسالة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : فرحين بنعمة من الله ) والنعمة هي الخير واللذة والبركة والنفع المحض ، وهل يدخل في النعمة صرف البلاء، ودفع الأذى.
الجواب نعم وهو من أعظم النعم ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ]( ).
أي يمحو البلاء والحزن والكرب والضرر والشر والفاقة والقحط إذ أن المحو على أقسام :
الأول : ما يكون عاماً عن الناس .
الثاني : المحو لطائفة وأمة مخصوصة .
الثالث : المحو على نحو القضية الشخصية .
الرابع : المحو الرتبي من الأدنى إلى الأعلى ، أو بالعكس ، كما في قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ) وبين الضرر والأذى عموم وخصوص مطلق، إذ أن الضرر أعم وأشد.
وبلحاظ آية البحث يهجم ثلاثة آلاف محارب من المشركين على المدينة لأمور :
الأول : الثأر لقتل المشركين في معركة بدر .
الثاني : إرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : المكر للإجهاز على الإسلام .
الرابع : محاولة استئصال المسلمين خصوصاً المهاجرين بقتل بعضهم وإعادة بعضهم الآخر إلى مكة أسرى .
الخامس : السعي لبعث الفزع والخوف في قلوب مسلمي مكة من الرجال والنساء.
السادس : إظهار قوة وشدة شوكة كفار قريش بين القبائل بعد أن ثلمت هيبتهم، وتدنت سمعتهم بين القبائل ، ليكون نصر المسلمين في معركة بدر من مصاديق قوله تعالى [وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ) أي أن هزيمة المشركين في معركة بدر وخزيهم في معركة بدر وأحد والخندق دعوة لأهل مكة والقبائل في الجزيرة ولأهل الشام وفارس للإيمان .
لعموم لفظ (من حولها) بلحاظ قدسية البيت الحرام بالنسبة للناس جميعاً بدليل قوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ]( ).
وليكون من أسرار عمل قريش بالتجارة بين الشام ومكة واليمن وقوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( )صيرورة هذه التجارة وما يترشح عنها من تناقل الأخبار معرفة أهل القرى والبلدان والأمصار القريبة والبعيدة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والمعجزات التي جاء بها بفضل ولطف من الله سبحانه .
السابع : إثارة فتنة بتحريض قبائل اليهود الذين في المدينة وحواليها على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : السعي عند الدول العظمى آنذاك في بلاد فارس والروم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خاصة وأن القرآن نزل بعبودية عيسى لله عز وجل ودلالته على نفي البنوة عنه ، وفي التنزيل حكاية عنه [قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا]( ).
التاسع : بعث المنافقين على إظهار شكوكهم وخبثهم، ومحاولتهم حث المسلمين على القعود ، كما ورد قبل آيتين[الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ).
ومن الآيات في المقام أن المشركين أرادوا تحريض المنافقين على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، فتفضل الله سبحانه وأخبر بأن واقعة معركة أحد جرت أحداثها ليتبين للناس من هم المنافقون بقوله تعالى[وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا]( ).
ويكون من تقدير الآية أعلاه وجوه :
الأول : ليعلم الله اللائي نافقن .
الثاني : ليعلم الله الذي نافق.
الثالث : ليعلم الله التي نافقت .
الرابع : ليعلم الله الذين يخفون نفاقهم .
الخامس : ليعلم الله الذين يظهرون نفاقهم .
السادس : ليعلم الله الذين ينكشف نفاقهم في معركة أحد من جهات :
الأولى : عند سماع قدوم وزحف جيش المشركين إلى المدينة ، إذ أنه يلزمهم نحو شهر لقطع المسافة من مكة إلى المدينة .
الثانية : عند وصول تجحفل جيش المشركين بأطراف وسفح جبل أحد والذي يبعد عن المدينة نحو ثمانية كيلو مترات .
الثالثة : صدور النفاق من أهله عند دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للخروج للقاء العدو .
الرابعة : إنخزال ثلث جيش المسلمين وسط الطريق إلى معركة أحد مع حضور النبي بين ظهرانيهم ، وهو إمامهم في الطريق وفي ميدان المعركة ، ويجب عقلاً وشرعاً على من يكون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ألا يتخلى عنه أو أن ينخزل من الجماعة، لتكون متابعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ميدان المعركة من مصاديق قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
الخامسة : الإمتناع عن المبارزة والقتال عند التقاء الصفين ، لذا قد تقدم قبل أربع آيات أن التقاء الجمعين سبب لكشف وفضح الذين نافقوا .
وهل كشف المنافقين نعمة من الله على المؤمنين ، الجواب نعم .
فما أن يغادر الشهداء الحياة الدنيا حتى تنكشف لهم قوانين وقواعد تحكم سير الحياة الإنسانية وديمومة بقاء الجنس البشري بتقيد الناس بعبادة الله عز وجل , قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
المسالة الثامنة : يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ) .
من وجوه فضل الله عز وجل إتصافه بأمور :
الأول : الإتصال وعدم الإنقطاع .
الثاني : الكثرة في الكم والكيف .
الثالث : التعدد في المصاديق .
الرابع : الزيادة المطردة في فضل الله .
الخامس : صيرورة الدعاء طريقاً لنزول فضل الله ابتداء واستدامة .
لقد إبتدأت آية البحث بلفظ (فرحين) لإرادة حال الشهداء الذين قتلوا في معركة بدر وأحد ، وأخبرت عن كونهم يتصفون بعرض مبارك وهو الإستبشار والغبطة بالذين لم يلحقوا بهم من المؤمنين ، أما آية السياق فأختتمت بقوله تعالى[وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق .
فالمؤمنون الذين تذكرهم آية السياق أعم وأكثر من الشهداء .
ومن أسرار هذا البيان بعث المسلمين لحفظ أنفسهم وعدم التسابق في القتل والفناء، قال تعالى[وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ]( ).
وقد أثنى الله عز وجل على شهداء بدر وأحد من وجوه :
الأول : الجهاد دفاعاً عن الإسلام والنبوة والتنزيل والنفوس ، أي ذات أنفس الشهداء وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات .
الثاني : القتال تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبامامته وقيادته للمعركة ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ) ليكون من صفات خاتم الأنبياء الإحاطة بعلوم القيادة والأركان والخطط الحربية , وهو من مصاديق قوله تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
وإن قيل كانت نتيجة معركة أحد الخسارة الفادحة للمسلمين ، والجواب من جهات :
الأولى : كان النصر حليفاً للمسلمين في بداية المعركة ، بدليل قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ]( ).
الثانية : من أبهى سمات القيادة في المقام أمور تتعلق بالرماة وهي :
أولاً : إختيار جبل الرماة وصيرورة جيش المسلمين أمامه .
ثانياً : تعيين الأنصاري عبد الله بن جبير أميراً للرماة والذي ثبت في موضعه ليفوز بكونه من أهل آية البحث ، ويدل قوله تعالى [فرحين] على عدم سخطه على أصحابه الذين تركوا مواضعهم خلافاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتغشي الفرح لهم مجتمعين ومتفرقين.
ثالثاً: تأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة بعدم ترك مواضعهم .
ومن تجليات قيادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للجيش ومصاديق الحكمة والدقة، ما ورد (عن البراء بن عازب قال جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة يوم أحد وكانوا خمسين رجلاً عبد الله بن جبير ووضعهم موضعاً وقال : ان رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تَبْرَحُوا حتى أرسل إليكم ، فهزموهم .
قال : فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسوقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن . فقال أصحاب عبد الله : الغنيمة أي قوم الغنيمة . . . ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ .
قال عبد الله بن جبير : أفنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقالوا : إنا والله لَنَاْتِيَنَّ الناس فَلْنصِيبَنَّ من الغنيمة . فلما أتوهم صرفت وجوههم فاقبلوا منهزمين ، فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم ، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير اثني عشر رجلاً . فأصابوا منا سبعين .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أصاب من المشركين يوم بدر أربعين ومائة . سبعين أسيراً ، وسبعين قتيلاً .) ( ).
رابعاً : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه وسط الميدان ، وهو أعظم عمل يقوم به القائد عند إنهزام أكثر أصحابه مع كثرة جيش العدو واسلحته .
خامساً : النصر أو الهزيمة , والغنيمة أو الخسارة في المعركة أعم من تختص بالقائد .
لقد كانت قيادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للجيش من مصاديق الوحي وعمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثالث : شهادة الله عز وجل للصحابة الذين قتلوا في معركة أحد بأن قتلهم في سبيل الله ، من جهات :
الأولى :قصد الشهداء في قتال المشركين .
الثانية : بلوغ الشهداء مرتبة الفقاهة في الدين ومعرفة الغايات الحميدة التي يترتب عليها القتال , والتي تترشح عنه.
الثالثة : مفارقة شهداء بدر وأحد الدنيا برضا عن نبيهم وعن أنفسهم وهو من رشحات قوله تعالى[الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ].
وهل تلاوة آية البحث من أجر المؤمنين الذين تذكره آية السياق وهي الآية التالية ، الجواب نعم ، إذ جاءت الآية مطلقة .
لقد ورد فضل شهداء معركة بدر وأحد في كل من :
الأولى : الآية السابقة التي أخبرت عن القطع والجزم بأن قتلهم في سبيل الله عز وجل.
الثانية : آية البحث وأن شهداء أحد في حال فرح وطمأنينة في الآخرة .
الثالثة : ذكر الآية التالية لغبطة وسعادة الذين قتلوا في سبيل الله لأنهم أحياء عند الله .
الرابعة : استبشار الذين قتلوا في سبيل الله بالمؤمنين الذين لم يلحقوا بهم , قال الإمام علي عليه السلام: الشاخص في طلب العلم كالمجاهد في سبيل الله، إن طلب العلم فريضة على كل مسلم، وكم من مؤمن يخرج من منزله في طلب العلم فلا يرجع إلا مغفورا له)( ).
الخامسة : مجئ الآية بعد التالية بالمعنى الأعم وذكرها للصحابة الذين خرجوا للدفاع مع تحملهم الأذى وإصابتهم بالجراحات ، لتشمل الذين قتلوا في معركة أحد بفضل من الله عز وجل ، فيأتي الثواب للشهداء وهم عند الله بلحاظ صيرورتهم أسوة لأصحابهم في طاعة الله ورسوله , والمبادرة إلى اللحاق بجيش الذين كفروا بعد ورود الأنباء إلى المدينة بأنهم سيرجعون لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
المسألة التاسعة :من الإعجاز في نظم الآيات ذكر كل من آية البحث وآية السياق لفضل الله عز وجل على الشهداء ، ففي آية البحث ورد قوله تعالى [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] وفي آية السياق ورد قوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ] ( ) والنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه , فمادة الإلتقاء من جهات :
الأولى : تعدد الفضل الإلهي على الشهداء .
الثانية : مجئ فضل الله عز وجل للشهداء وهم عند الله عز وجل .
الثالثة : عدم تقييد فضل الله موضوعاً وكماً وكيفاً .
الرابعة : لا يقدر على فضل الله الذي آتاه الشهداء إلا هو سبحانه .
الخامسة : مجئ فضل الله للشهداء وهم عند الله وليسوا في القبور .
السادسة : ذكر كل من الآيتين لفضل الله على نحو التنكير ولغة التبعيض.
وأما مادة الإفتراق فمن جهات :
الأولى :ذكر فضل في كل من آية البحث وآية السياق .
الثانية : إخبار آية البحث عن فرح الشهداء بفضل الله .
أما آية السياق فأخبرت عن استبشار الشهداء بفضل الله .
الثالثة : ذكر آية البحث لفضل الله على نحو مستقل , أما آية السياق فأنها أخبرت عن فضل الله بعد ذكرها لنعمة الله .
المسألة العاشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : ويستبشرون بنعمة من الله وفضل بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم .
من خصائص الحياة الدنيا أنها (دار البشارة) إذ تأتي فيها البشارة للإنسان بعرض واحد مقترنة بالإنذار مع التباين بينهما من حيث :
الأول : السنخية، مع إتحاد أو تعدد الزمان.
الثاني : موضوع البشارة أو موضوع الإنذار .
الثالث : أثر البشارة أو الإنذار، قال تعالى[وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً]( ).
الرابع : جهة صدور البشارة أو الإنذار .
لقد أبى الله عز وجل حصر موضوع فضله وإحسانه على الشهداء فذكر أموراً :
الأول : فرح الشهداء .
الثاني : استبشار الشهداء .
الثالث : توالي فضل الله على الشهداء .
الرابع :مجئ نعم الله عز وجل للشهداء .
الخامس : إنتفاع الأحياء مما تفضل الله عز وجل به على الشهداء .
ولولا فضل الله لما استطاع الذين قتلوا في سبيله تعالى الفرح والإستبشار، إذ أن هذا الفرح نعمة من عند الله , وكذا استبشارهم بأصحابهم الذين يلحقون بهم بجراحاتهم وقروحهم .
الوجه الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : بين موضوع الآيتين عموم وخصوص مطلق ، إذ تتعلق آية البحث بالشهداء الذين قتلوا في معركة أحد ، بينما تشمل آية السياق الذين قاتلوا في تلك المعركة عموماً والذين خرجوا في اليوم التالي في أثر جيش المشركين .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية إنسحاب جيش المشركين في ذات يوم معركة أحد من غير علة ظاهرة ، فقد كانوا الأكثر عدة وعدداً ، ومع تعرضهم للهزيمة في أول المعركة إلا أن ترك الرماة المسلمين لمواضعهم جعلهم يهجمون على المسلمين ويكثرون القتل فيهم .
وشاء الله عز وجل أن يبقى رسوله الكريم وسط المعركة ، وأن ينصره بالملائكة مدداً وعوناً ولابد أن عموم أفراد الجيشين يرون الآيات والبراهين التي تنزل في نصرة الله عز وجل لرسوله الكريم، فازداد المسلمون إيماناً ، وضحّى الشهداء بأنفسهم ليكون مصداق رؤيتهم للملائكة ونصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن تلقاهم الله عز وجل بالحياة عنده ، وتغشي الفرح لهم .
أما جيش الذين كفروا فقد بادر بالإنسحاب والرجوع إلى مكة على عجالة وسرعة وأن كانت الكرة لهم ظاهراً، وهو من مصاديق قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
المسألة الثانية : لقد بينت آية البحث حال الشهداء عند الله بفرحهم بتوالي فضل الله عز وجل عليهم .
وهناك مسألتان :
الأولى : هل كان لتفاني وتضحية الشهداء يوم أحد موضوعية في عودة الصحابة إلى ميدان القتال وبذلهم الوسع في القتال .
الثانية : وهل لقتل الشهداء أثر وموضوعية في تعجل جيش الذين كفروا بالإنسحاب المرتبك وغير المنظم من ميدان المعركة ، والإستعجال بالتوجه والعودة إلى مكة .
أما المسألة الأولى أعلاه فالجواب نعم لصيرورتهم أسوة وقدوة في إخلاص الطاعة لله عز وجل وبذل النفوس من اجل اقامة حدود الله وإزاحة عبادة الأوثان عن الأرض والمجتمعات والأذهان، قال تعالى[التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين]( ).
ولا يضر بمصاديق الأسوة في المقام كون بعض الشهداء ممن عاد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقاتل بين يديه ،وليكون من معاني وأفراد الذين يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم هم :
الأول : الذين ثبتوا في ميدان المعركة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : المهاجرون والأنصار الذين تلقوا الجراحات البالغة ومنهم أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية التي قاتلت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد إذ أنها خرجت أول النهار تحمل السقاء وتتلقف أخبار المعركة وسلامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحال زوجها وأبنائها فيها ، ولكن حينما رأت الريح دارت وصارت الكرة على المسلمين باشرت القتال بنفسها ، وصارت تذب عن رسول الله صلى عليه وآله وسلم ولم يكن هذا الذب باليد او العمود ، إنما كانت تذب عنه بالسيف ، كما كانت ترمي عن القوس، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
قال الشاعر:
لَعَمْري لَئِنْ رِيحُ المَودَّةِ أَصبَحَتْ … شَمالاً لقد بُدِّلْتُ وهي جَنُوبُ)( ).
لقد سمعت أم عمارة ابن قمئة وهو من فرسان كفار قريش يقول : دلوني على محمد فلا نجوت أن نجا ، فلم تقف ساكنة ساكتة , ولم تتنح جانباً خاصة وان القتال ساقط عن المرأة ، ولم تختار الصراخ وتحريض المسلمين بالعودة حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما اعترضت بنفسها ابن قمئة فضربها على عاتقها فكان علامة وشاهد عز وفخر لأنه صار جرحاً أجوف له عمق .
وقامت هي بضربه عدة ضربات .
وكانت تقول (ولكن عدو الله كانت عليه درعان ) ( ).
ولم يكن جهاد أم عمارة ينحصر بمعركة أحد فقد كانت من أهل بيعة العقبة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة كما تقدم ذكره.
وفي المدينة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت (ما أرى كل شيء إلا للرجال ، وما أرى النساء يذكرن بشيء! فنزلت هذه الآية{إن المسلمين والمسلمات})( ).
كما خرجت لقتال مسيلمة الكذاب .
وكانت شهادة كل واحد من السبعين الذين قتلوا في معركة أحد على وجوه :
الأول : أنها موعظة وعبرة للباقين من أفراد جيش المسلمين في ساحة المعركة , وعددهم ستمائة وثلاثون .
الثاني : في شهادة قتلى أحد حث للمهاجرين والأنصار للعودة إلى ميدان المعركة ، فان قلت إن بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان حث لهم للعودة للقتال، وهذا صحيح إذ تتعدد الأسباب في عودتهم وهو من فضل الله عز وجل عليهم .
الثالث : في قتل شهداء أحد بعث لليأس في نفوس الذين كفروا.
الرابع : فيه درس للناس جميعاً، وشاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : إسالة دماء الشهداء في ميدان المعركة حجة على الذين كفروا وإنذار لهم .
وأما المسألة الثانية أعلاه وهي هل لقتل الشهداء موضوعية في تعجل جيش الذين كفروا بالإنسحاب غير المنتظم ، الجواب نعم، لتكون هذه الموضوعية على وجوه:
الأول : إنها من مصاديق فرح الشهداء.
الثاني : إنها من رشحات فرحهم.
الثالث : إنها سبب لفرحهم وهم عند الله.
الرابع : إنها من الشواهد والمصاديق على فضل الله على الشهداء.
فالأصل عند سقوط القتلى من الطرف الآخر وفرار طائفة أخرى منه هو العزم على مواصلة القتال ، ولكن آيات الله عز وجل تتجلى في المعارك التي خاضها النبي صلى الله عليها وآله وسلم في ملاقاة الذين كفروا وتبين آية البحث قانوناً وهو أن دماء الشهداء تدفع جيش الذين كفروا وشرهم ، ليكون من معاني قوله تعالى [فرحين] مسائل :
الأولى : فرحين بانسحاب وهروب جيش الذين كفروا .
الثانية : فرحين بأن دماءهم واقية وحرز من :
الأول : استمرار الذين كفروا بالقتال يوم أحد .
الثاني : رجوع الذين كفروا إلى الميدان .
الثالث : وصول الذين كفروا وحجارتهم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : فرحين بما آتاهم الله من فضله بسلامة اخوانهم من المهاجرين والأنصار ، ويدل عليه بالدلالة التضمنية قوله تعالى [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ] ( ).
المسألة الثالثة : وردت كل من آية البحث وآية السياق بصيغة الجملة ، الخبرية والمراد من آية البحث شهداء معركة أحد , والنعيم المقيم الذي فازوا به من حين مغادرتهم الحياة الدنيا .
أما آية السياق فهي أعم في موضوعها ودلالتها ، فقد أبى الله عز وجل أن يحصر فضله بالذين قتلوا في سبيل الله ، فذكر في آية السياق إخوانهم من المهاجرين والأنصار الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي لمعركة أحد في مطاردة وتخويف جيش الذين كفروا .
لقد كان عدد الصحابة الذين قتلوا في معركة أحد سبعين شهيداً ، أما الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي للمعركة خلف المشركين فعددهم نحو مائتين وذكرتهم آية السياق بصفات :
الأولى : الإستجابة لله عز وجل .
الثانية : الإمتثال لأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : النفير مع الجراحات الشديدة ، وهو أمر نادر في تأريخ المعارك ، إذ يمنح الجريح استراحة ويوفر له العلاج وأسباب الراحة .
ولكن المهاجرين والأنصار بادروا إلى الخروج خلف العدو عندما بلغهم نيته العودة للإغارة على المدينة مع كثرة جراحاتهم وقلة عددهم أزاء كثرة جيش العدو الذي يبلغ ثلاثة آلاف رجل ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) .
ولو علم الذين كفروا بقلة عدد الذين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم يريدون اللحاق بهم وقتالهم فهل يكرون عليهم خاصة وأن نسبة عددهم نسبة الواحد إلى الخمسة عشر .
الجواب لا ، وعدم رجوع جيش الذين كفروا من رشحات نزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , ومن مصاديق قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( ).
لقد ندب النبي أصحابه للخروج خلف جيش المشركين في اليوم التالي لمعركة أحد حالما بلغه أنهم ندموا على إنسحابهم من غير أن ينالوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو يكسروا شوكة المسلمين ،وقال (لَا يَخْرُجْ مَعَنَا إلّا مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ) ( ).
أي القتال في معركة أحد في اليوم السابق ، وهل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بأنهم لا يشتبكون مع جيش المشركين خاصة مع التباين الحاد في العدد .
الجواب نعم ، وهو من أسرار الوحي ومصاحبة جبرئيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتخفيف الذي يترشح عن هذه الصحبة وعلوم الغيب التي يأتي بها جبرئيل بإذن من عند الله عز وجل .
ولا يتعارض هذا التخفيف مع إتخاذ الوسائل والأسباب في الإستعداد للقاء العدو ولزوم اليقظة والحذر من كيده ، قال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] ( ).
المسألة الرابعة : لقد إبتدأت الآية قبل السابقة بالاسم الموصول (الذين) وإبتدأت به آية السياق مع التباين والتضاد بينهما ، فالمراد منه قبل آيتين لغة الذم للمنافقين بقوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ) .
أما آية البحث فجاءت بالثناء على المؤمنين الصابرين المطيعين لله ورسوله لبيان أن وجود طائفة من المنافقين لم يكن سبباً لصد الناس عن الإسلام ، ولم يبعث الشك في نفوس الصحابة .
لقد جاءت الآية (167) والآية (168) من سورة آل عمران في ذم الذين نافقوا وتحذير المسلمين منهم ، لتأتي الآية السابقة وآية البحث والآية التالية في الثناء على الذين قتلوا في سبيل الله ، ثم جاءت آية في مدح المهاجرين والأنصار الذين زادتهم تضحية الشهداء إيماناً ، لبيان قانون وهو أن مكر وكيد الذين نافقوا ذهب هباءً ، وأنهم لم يضروا إلا أنفسهم ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
ولتكون كل من آية البحث والسياق رحمة بهم وتذكيراً لهم بوجوب التوبة والإنابة والإخلاص في طاعة الله ورسوله ، وهل يشمل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) المنافقين والمنافقات .
الجواب نعم ، لأنهم آمنوا في الظاهر بالإضافة إلى قانون من الإرادة التكوينية وهو أن طاعة الله ورسوله عام ، وفيه البركة وأسباب الرزق الكريم ، لتكون كل من آية البحث والسياق زاجراً عن النفاق ودعوة للإيمان ، وهناك مسألتان :
الأولى : لو إمتنع المنافقون عن إختيار النفاق من الأصل ، أو أنهم تابوا عنه وأصلحوا أحوالهم ، وأخلصوا لله ورسوله فهل يُقتل سبعون من المسلمين يوم معركة أحد ، وهل تحل بهم تلك الخسارة الشديدة يومئذ ..
الثانية : هل من موضوعية لرجوع ثلث جيش المسلمين مع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول من وسط الطريق إلى معركة أحد في ترك الرماة لمواضعهم ، بلحاظ أن وجود ثلاثمائة آخرين مع جيش المسلمين يكون سبباً في زيادة عدد الرماة إلى نحو سبعين أو ثمانين.
أما المسألة الأولى فالجواب قد لا يقتل هذا العدد من المسلمين ، لتغير الموضوع والحال ، ولكثرة سواد المسلمين وقتالهم ومناجاتهم في ميدان المعركة بالدفاع عن النبي والتنزيل , إذ يخفف الله عز وجل عن المسلمين , قال تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( )، لبيان موضوعية كثرة أفراد الجيش.
وهل يؤثم المنافقون على كون تخاذلهم وإنخزالهم سبباً للحوق الضرر بالمسلمين يومئذ ، الجواب نعم .
وأما المسألة الثانية ، فالجواب لا دليل على هذه الموضوعية ، خاصة وأن الرماة ممن عصمهم الله من الإنصات لرأس النفاق في حثهم على الرجوع بقوله (مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ ) ( ) .
لقد ورد قوله تعالى [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا] ( ) للدلالة على أن الذي أصاب المسلمين قد كتبه الله عليهم ، وهو الذي يدل عليه ما تقدم قبل أربع آيات بقوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
(عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لكل شيء حقيقة ، وما بلغ عبد حقيقة الإِيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه) ( ).
ومن خصائص المؤمنين التحلي بالصبر ، واللجوء إلى الشكر لله عز وجل في كل حال ، وتبعث آيات البحث على الشكر لله عز وجل على قانون من الإرادة التكوينية وهو حسن خاتمة أهل الإيمان وعلو درجاتهم في الأولى والآخرة بحسب مراتب التقوى ، وقد فاز شهداء أحد بالحياة عند الله من حين طلاقهم الدنيا على نحو طوعي .
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : فرحين بما آتاهم الله من فضله بالذين استجابوا لله والرسول من الإعجاز في آية البحث الإطلاق وعدم التقييد في موضوع فضل الله عز وجل على الذين قتلوا في سبيله تعالى في معركة أحد ، ليشمل أمور الحياة الدنيا من جهات :
الأولى : سلامة شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من القتل يوم معركة أحد .
الثانية : عودة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة من المهاجرين والأنصار إلى المدينة ، فلقد رجع ستمائة وثلاثون منهم من أصل سبعمائة ، وليس فيهم من مات وفقد الحياة ، فالأكثر منهم رجعوا إلى المدينة بجراحاتهم وقروحهم ، أما الشهداء السبعون فصاروا في بحبوحة من العيش عند الله عز وجل في مأمن من الموت والهلاك .
ونجاة كل واحد من المهاجرين والأنصار يومئذ هو من فضل الله عز وجل على الشهداء أنفسهم لأنهم نجوا من القتل يومئذ .
ولا يتعارض هذا المعنى مع فوز الشهداء بالحياة عند الله عز وجل من حين قتلهم ، فكل نعمة وفضل من الله عز وجل ، ولأن المؤمنين إذا رجعوا إلى المدينة فانهم يتعاهدون طاعة الله ورسوله ، ويحرصون على أداء الفرائض العبادية ، وجاءت آية السياق لبيان عظيم نفعهم بالخروج خلف الذين أشركوا لمنعهم من العودة إلى القتال أو غزو المدينة .
الثالثة : يفرح الشهداء بفضل الله بنزول آية السياق التي تشهد للصحابة الذين رجعوا من معركة أحد بالإستجابة لأمر الله ورسوله بالخروج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمطاردة العدو مع شدة جراحاتهم وحاجتهم لمداواتها بين الأهل .
الرابعة : يفرح الشهداء بفضل الله عليهم بأن صار قتالهم سبباً لبعث أصحابهم لمطاردة العدو ومحاولة النيل منه والبطش به .
ومن فضل الله أن تفاني وتضحية شهداء أحد صارت باعثاً لإخوانهم على الجهاد ، وفي التنزيل [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا] ( ).
وهل من موضوعية لآية البحث في بعثهم على الصبر والجهاد ، الجواب نعم ، لأنها توّثق قانوناً وهو حسن عاقبة أهل التضحية والفداء في سبيل الله، وفيه ترغيب لهم باقتفاء أثرهم ومواصلة الدفاع عن النبوة وإزاحة الموانع التي تحول دون أداء المسلمين الواجبات العبادية من الصلاة والصيام والزكاة وحج بيت الله الحرام .
المسالة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : فرحين بما آتاهم الله من فضله بالإستجابة لله والرسول .
لقد أخبرت آية البحث عن حال الذين قتلوا في سبيل الله بأنهم فرحون وهم عند الله ، وجاء فيها البيان عن علة وسبب هذا الفرح وهو فضل الله الذي آتاهم ورزقهم .
وأما آية السياق فتضمنت الثناء على الصحابة الذين ندبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي لمعركة أحد للخروج خلف العدو ، وكأنهم خرجوا إقتفاء لنهج ذات شهداء أحد لبيان قانون وهو إنارة دماء الشهداء لطريق الفداء والتضحية ، وهو من لغة الإعجاز والعموم في قوله تعالى في الآية السابقة [قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ) لبيان أن قتلهم حافز وباعث للمؤمنين لأمور :
الأول : تحمل الأذى في جنب الله ، قال تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
الثاني :إتخاذ المسلمين الصبر منهاجاً , وعن الإمام علي عليه السلام ( الصبر من الإِيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، إذا قطع الرأس نتن باقي الجسد ، ولا إيمان لمن لا صبر له ) ( ).
الثالث :إدراك المسلمين لقانون وهو سلامة إختيار سبيل الدفاع ضد الذين كفروا .
الرابع : لزوم عدم الإصغاء للذين نافقوا .
الخامس : إجتناب القعود ومحاكاة الذين نافقوا فيه .
السادس : تنمية ملكة الأخوة الإيمانية بين المسلمين .
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : الذين استجابوا لله والرسول لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ).
لقد جاء القرآن بالبشارة والبيان بخصوص معركة بدر ، وكيف أنها نقلت المسلمين من حال الذل والخوف والخشية من الذين كفروا إلى حال العز والشجاعة بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) لتنزل الخسارة في معركة أحد بقوم مؤمنين لم يخشوا العدو أو يخافوا الضر والفقر والفاقة ، إنما كانت الأولوية عندهم لثباتهم في منازل الهدى والإيمان والسلامة من الإرتداد ، فقُتل سبعون منهم في معركة أحد .
وشهدت لهم الآية السابقة بأن قتلهم في سبيل الله وأنهم لم يبغوا الدنيا، ولم يطمعوا بجاه أو شأن أو منصب وولاية وأمرة على سرية فرزقهم الله الحياة السرمدية عنده ، ولا تكون هذه الحياة مجردة إنما يكون معها الرزق والفضل والرحمة من عند الله عز وجل ، قال تعالى [مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً] ( ).
ومن فضل الله أنه إذا أنعم على فرد أو طائفة أو أمة فانه أكرم من أن يحصرها بهم ، إنما تكون على وجوه :
الأول : ترشح بركات النعمة على الناس .
الثاني : إنتفاع الناس عامة من النعمة الخاصة بالواسطة .
الثالث : رشحات النعمة الخاصة على الآخرين ، وهل يكون هذا الترشح وفي الكم والكيف وفق قاعدة الأقرب فالأقرب .
الجواب لا ، فقد ينتفع منها البعيد والنائي ، وهل من مصاديق كون الدنيا عبرة وموعظة ، فتنزل الآية القرآنية ويتعظ منها الناس ، وتقع المصيبة وتكون أذى لأهلها ، وجاء القرآن بقانون وهو لزوم الشكر لله على النعم والإمتناع عن البطر فيها.
الرابع : بقاء النعمة الخاصة عند الذرية والمقربين , والله عز وجل أكرم من أن يرفع النعمة بمفارقة صاحبها الدنيا .
ومنها النعم التي تفضل بها الله تعالى على شهداء احد قبل مغادرتهم الدنيا.
الخامس : إقامة الحجة على المهاجرين والأنصار بلزوم بذل الوسع في الدفاع ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) لبيان أن حجة الله على الناس أعم من أن تختص بالذين كفروا .
بحث منطقي
من خصائص قوله تعالى(فرحين) تأكيد قانون (لا تحسبن) ليشمل المسلمين والمسلمات والناس جميعاً بلحاظ كبرى كلية وهي أن الذين في حال فرح ليسوا بأموات، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى: الذين يفرحون أحياء.
الصغرى: الشهداء يفرحون.
النتيجة : الشهداء أحياء.
ويقسم العرض إلى قسمين:
الأول : العرض اللازم ويسمى العرض غير المفارق ، ويقسم إلى شعبتين:
الأولى : العرض اللازم البين ،وهو الذي يكون ثبوته ظاهراً من غير إستعانة بواسطة , ويقسم إلى قسمين :
أولاً : العرض اللازم بالمعنى الأخص الذي تتبادر الملازمة بين طرفيه من تصور المحل والموضوع مثل الحرارة بالنسبة للنار فتكون ذات النار ملزوماً والحرارة لازماً ليكون فيه أطراف :
الأول : الملزوم وهو الموضوع والمحل .
الثاني : اللازم وهو الحال .
الثالث : استحضار النسبة بين اللازم الملزوم .
ثانياً : العرض اللازم البيّن بالمعنى الأعم ، وهو الذي يحتاج القطع بلزوم العرض للموضوع تصور الطرفين اللازم والملزوم واستحضار النسبة بينهما من غير أن يصل الأمر إلى الحاجة إلى البرهان والدليل ، مثل أن عدد شهور السنة فلابد من حسابها أو استحضار قوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا]( ).
الثانية : العرض اللازم غير البين , وهو الذي يحتاج توسط البرهان إلى جانب اللازم والملزوم والنسبة بينهما , ومنه المثلث المتساوي الزوايا , فلابد من توسط البرهان الهندسي .
الثاني : العرض المفارق , وهو الذي لا يمتنع انفكاكه عن الموضوع وذات الشئ الذي حلّ به , وهو على شعبتين :
الأول : ما يكون سريع الزوال مثل حمرة الوجه عند الخجل ، أو صفرته عند الوجل ، وقد أخبرت آية البحث عن حال المؤمنين في الآخرة بسلامتهم من الخوف .
الثانية : ما يكون بطئ الزوال مثل سواد شعر الإنسان إذ يغزوه الشيب ولكن عند الكبر .
وهل حال الفرح التي يتصف بها المؤمنون ممن قتل في معركة أحد من العرض اللازم أم المفارق، الجواب .
إسلام وحشي بن حرب
ويكنى أبا دسمة وهو مولى طعيمة بن عدي ، وقيل مولى جبير بن مطعم، وقد قتل حمزة طعيمة بن عدي في معركة بدر ، وهو عم جبير بن مطعم ، وعندما أراد جيش المشركين الخروج إلى معركة أحد قال له جبير : أن قتلت حمزة بعمي طعيمة فانت حر ، وقيل أنه مولى هند بنت عتبة وهي التي حرضته على قتل حمزة لأن أباها عتبة بن ربيعة وعمها شيبة وأخاها الوليد قتلوا يوم بدر من قبل الإمام علي عليه السلام وحمزة وقول آخر أنه ليس عبداً لها ولكنه كان من عبيد مكة الأشداء فاغرته بالمال والذهب إن قتل واحداً من :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الإمام علي عليه السلام .
الثالث : حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه .
وذكر الواقدي رواية أخرى وأن وحشيا هو عبد لابنة الحارث بن عامر بن نوفل .
ونسب إلى القيل أنه عبد لجبير بن مطعم ونسبته إلى القيل تضعيف له .
مع أنه خيار ابن إسحاق ( )ولما جاء وحشي بكبد حمزة إلى هند وطلب منها الجعالة والمال ، قال الواقدي (قالوا: وكان وحشيٌّ عبداً لابنة الحارث بن عامر بن نوفل ويقال كان لجبير بن مطعم فقالت ابنة الحارث: إن أبي قتل يوم بدر، فإن أنت قتلت أحد الثلاثة فأنت حر، إن قتلت محمداً، أو حمزة بن عبد المطلب، أو علي بن أبي طالب، فإني لا أرى في القوم كفؤاً لأبي غيرهم.
قال وحشي: أما رسول الله فقد علمت أني لا أقدر عليه، وأن أصحابه لن يسلموه. وأما حمزة فقلت: والله لو وجدته نائماً ما أيقظته من هيبته، وأما علي فقد كنت ألتمسه.
قال: فبينا أنا في الناس ألتمس علياً إلى أن طلع علي، فطلع رجلٌ حذرٌ مرسٌ، كثير الالتفات، فقلت: ما هذا صاحبي الذي ألتمس!
إذ رأيت حمزة يفرى الناس فرياً، فكمنت إلى صخرة، وهو مكبسٌ، له كثيب، فاعترض له سباع ابن أم أنمار وكانت أمه ختانة بمكة مولاة لشريف بن علاج بن عمرو بن وهب الثقفي .
وكان سباع يكنى أبا نيار فقال له حمزة: وأنت أيضاً يا ابن مقطعة البظور ممن يكثر علينا. هلم إلي! فاحتمله حتى إذا برقت قدماه رمى به، فبرك عليه فشحطه شحط الشاة. ثم أقبل إلى مكبسا حين رآني .
فلما بلغ المسيل وطىء على جرفٍ فزلت قدمه، فهززت حربتي حتى رضيت منها، فأضرب بها في خاصرته حتى خرجت من مثانته. وكر عليه طائفة من أصحابه فأسمعهم يقولون: أبا عمارة! فلا يجيب .
فقلت: قد والله مات الرجل! وذكرت هنداً وما لقيت على أبيها وعمها وأخيها، وانكشف عنه أصحابه حين أيقنوا موته ولا يروني، فأكر عليه فشققت بطنه فأخرجت كبده ، فجئت بها إلى هند بنت عتبة، فقلت : ماذا لي إن قتلت قاتل أبيك ؟.
قالت: سلبي ! فقلت: هذه كبد حمزة. فمضغتها ثم لفظتها، فلا أدري لم تسغها أو قذرتها. فنزعت ثيابها وحليها فأعطتنيه، ثم قالت: إذا جئت مكة فلك عشرة دنانير.
ثم قالت: أرني مصرعه! فأريتها مصرعه، فقطعت مذاكيره، وجدعت أنفه، وقطعت أذنيه، ثم جعلت مسكتين ومعضدين وخدمتين حتى قدمت بذلك مكة، وقدمت بكبده معها)( ).
وفي رواية ابن إسحاق أن هنداً هي التي بقرت عن كبد حمزة فلاكتها، وقامت هند بنت عتبة والنسوة اللائي معها ومجموعهن خمس عشرة امرأة التمثيل بالشهداء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجدعهن الآذان والأنوف وصنعت منهن هند قلائد ، وعند قتل حمزة ورؤية هند له شهيداً صريعاً على الأرض ، وقفت على صخرة عالية وصرخت بأعلى صوتها :
نَحْنُ جَزَيْنَاكُمْ بِيَوْمِ بَدْرٍ … وَالْحَرْبُ بَعْدَ الْحَرْبِ ذَاتِ سُعْرِ
مَا كَانَ عَنْ عُتْبَة لِي مِنْ صَبْرِ … وَلَا أَخِي وَعَمّهِ وَبَكْرِي
شَفَيْتُ نَفْسِي وَقَضَيْتُ نَذْرِي … شَفَيْتَ وَحْشِيّ غَلِيلَ صَدْرِي
فَشُكْرُ وَحْشِيّ عَلَيّ عُمْرِي … حَتّى تَرُمّ أَعْظُمِي فِي قَبْرِي
[ شِعْرُ هِنْدَ بِنْتِ أُثَاثَةَ فِي الرّدّ عَلَى هِنْدِ بِنْتِ عُتْبَة ]
فَأَجَابَتْهَا الأماكن” > هِنْدُ بِنْتُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبّادِ بْنِ الْمُطّلِبِ فَقَالَتْ
خَزِيت فِي بَدْرٍ وَبَعْدَ بَدْرٍ … يَا بِنْتَ وَقّاعٍ عَظِيمِ الْكُفْرِ
صَبّحَك اللّهُ غَدَاةَ الْفَجْرِ … بالْهَاشِمَيّيْنِ الطّوَالِ الزّهْرِ
بِكُلّ قَطّاعٍ حُسَامٍ يَفْرِي … حَمْزَةُ لَيْثِيّ وَعَلِيّ صَقْرِيّ
إذْ رَامَ شَيْبٌ وَأَبُوك غَدْرِي … فَخَضّبَا مِنْهُ ضَوَاحِي النّحْرِ) ( ).
ورجع وحشي بعد معركة مع مشركي مكة وأقام فيها إلى أن انتشر الإسلام وقويت شوكته وتم فتح مكة فخرج وحشي إلى الطائف لأن بها ثقيفاً ولم يسلموا أوان الفتح وبعد معركة حنين حاصرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يتم فتح المدينة ، وتركهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعاد إلى المدينة .
وأبتليت ثقيف بالوهن ، وصاروا عرضة للنهب في المسالك والبراري ، وأدركوا قبح إصرارهم على الكفر فارسلوا الرسل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يريدون دخول الإسلام ، وكان وحشي خائفاً من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأخبروه بأنه لا يقتل الذي ينطق بالشهادتين، مهما كان فعله ومعصيته وذنبه قبل الإسلام ، وهو من الشواهد على صدق نبوته , وأنه لا يقول ولا يفعل إلا ما يوحي له الله عز وجل من مصاديق الرحمة بأهل التوبة .
وعن وحشي أنه قال (فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسلا وقالوا إنه لا يهيج الرسل فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما رآني قال : أنت وحشى ، قلت :نعم .
قال : أنت قتلت حمزة .
قلت : قد كان من الامر الذى بلغك يا رسول الله .
قال : أما تستطيع أن تغيب وجهك عنى قال فرجعت فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخرج مسيلمة الكذاب قلت لاخرجن إلى مسيلمة لعلي أقتله وأكافئ به حمزة.
فخرجت مع الناس فكان من أمرهم ما كان قال وإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس قال فرميته بحربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه .
قال ودب إليه رجل من الانصار حتى ضربه السيف على هامته قال عبد الله بن الفضل أخبرني سليمان بن يسار أنه سمع عبد الله بن عمر يقول فقالت جارية على ظهر بيت وأمير المؤمنين قتله العبد الاسود)( ) أي شهادة حاضرة بأن وحشياً هو الذي قتله .
حرب البسوس
وتسمى أيضاً حرب الناب وحرب ابني وائل وهي من أشد وأطول وأقبح معارك العرب في سببها وموضوعها وجرت في الحجاز إذ استمرت أربعين سنة من سنة 494 ميلادية ، وقال المقل بأنها استمرت بضع وعشرين سنة ، فيهن خمس وقعات ملاقاة وزحفاً واكثرها الرجل يلاقي الرجل , والرجلان يلاقيان مثلهما أو أكثر أو أقل، لبيان مصداق تأريخي لإحتجاج الملائكة[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، ومن علم الله عز وجل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإصلاح المجتمعات وبعث النفرة في النفوس من القتال وسفك الدماء.
وكانت هناك فترات في القتال وحوادث فردية وثأر وغدر خلالها، مع تقيد العرب بلزوم إجتناب القتال والقتل في الأشهر الحرم وهي شهر رجب منفرداً، والأشهر ذو القعدة وذو الحجة، ومحرم سرد ومتصلة، قال تعالى[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ]( ).
ووقعت المعركة بين طرفين :
الأول : قبيلة تغلب بن وائل وحلفاؤها .
الثاني : بنو شيبان وحلفاؤهم من قبيلة بكر بن وائل .
وسبب هذه المعركة التي بقيت الأجيال المتعاقبة من عامة الناس يعلمون بها إجمالاً هو رمي ناقة البسوس بسهم من قبل الأمير كليب بن ربيعة بن الحارث التغلبي (440-494)م وهو من بني تغلب بن وائل ، وهو من القبائل العدنانية .
وكان كليب فارساً شجاعاً وخاض المعارك وقتل بعض الوزراء والشجعان واستطاع كليب وقبيلته التغلب على القبائل القحطانية التي جاءت من اليمن ، إذ أن كليباً هذا قتل التبع اليماني والملك حسان ، وقتل وزيره نبهان وقتل لبيد الغساني عامل الملك الكندي ، وفرق كليب جموعهم في منطقة خزار بالقصيم ولا زال هناك جبل هناك يعرف باسم جبل خزار وهو من أعلى الجبال في هضبة نجد ، ويرتفع عن مستوى سطح البحر (1059)متراً ويصطبغ باللون الأحمر وهو ملاصق لمدينة دخنة ، ومعركة خزار أو يوم خزار وقعت قريباً منه .
وإنقاد له قومه ، فأصابه الزهو ، وصار يحمي مواقع السحاب فلا يراعى حماه ولا توقد مع ناره نار ، ولا يمر أحد بين يديه ، ولا يحتبي أحد في مجلسه غيره ، ولا يجار إلا بإذنه ولا يرحل قومه أو يغيرّون منازلهم إلا بأمره.
وإذا قال صيد الناحية الفلانية في جواري فلا يجرأ أحد على الصيد منه، إذ كانت تغلب تتحكم بالآبار والماء والمراعي .
وأتفق أن نزل رجل اسمه سعد بن شميس الجرمي بالبسوس بنت منقذ خالة جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان وهو فارس شجاع أيضاً ، وكان للجرمي ناقة تسمى سراب صارت ترعى مع نوق جساس التي تختلط في المرعى مع إبل كليب ، فخرج كليب يتفقد الإبل في المرعى ومعه جساس ، فرآى كليب ناقة الجرمي سراب فانكرها وسأل الرعاة ، فأجابه جساس أنها ناقة جارنا الجرمي .
قال كليب ( لا تعد هذه الناقة إلى هذا الحمى. فقال جساس: لا ترعى إبلي مرعىً إلا وهذه معها، فقال كليب: لئن عادت لأضعن سهمي في ضرعها. فقال جساس: لئن وضعت سهمك في ضرعها لأضعن سنان رمحي في لبتك ! ثم تفرقا .
وقال كليب لأمرأته: أترين أن في العرب رجلاً مانعاً مني جاره ؟ قالت: لا أعلمه إلا جساساً، فحدثها الحديث. وكان بعد ذلك إذا أراد الخروج إلى الحمى منعته وناشدته الله أن لا يقطع رحمه، وكانت تنهى أخاها جساساً أن يسرح إبله)( ).
إذ أن جليلة زوجة كليب هي أخت جساس وكانت كثيراً ما تمدح شجاعة أخيها بحضرة كليب فصارت تبذل جهدها عند الطرفين لدرأ الفتنة ، ولم تستطع دفعها.
وقد تفضل الله عز وجل بالإسلام وأحكامه على العرب وغيرهم فجعل الناس يخشون القتل وسفك الدماء ، وتفضل الله وأنزل حكم القصاص ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ) وقال تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ) للترغيب بالعفو ورجاء الثواب فيه وعدم التشديد بلزوم القصاص .
فخرج كليب إلى المرعى يتصفح الإبل ، فرأى ناقة الجرمي ، وكان جساس أصغر أخوته ومجموع عددهم عشرون ترعى مع الإبل فرمى ضرعها فصار لها عجيج وهرولة حتى بركت بفناء صاحبها ، وكأنها تشكو إليه ، فأخذ بالصراخ وهو يقول واذلاه وسمعت البسوس صراخ جارها ، ففزعت إليه مستفهمة ناصرة ، فلما رأت ناقته ، وضعت يدها على رأسها ، وأخذت تولول وتقول : واذلاه .
وكان جساس جالساً يسمعها ويراها .
فطلب منها السكوت بصيغة تنم على إرادة الإنتقام، وقال لها ساقتل جملاً أعظم من هذه الناقة ساقتل غلالاً ، وهو فحل إبل كليب ليس مثله في زمانه ، وإنما أراد التورية وانه عزم على قتل كليب الذي كان له عليهم عين، يسمع ما يدور بينهم لأن كليباً كالملك في زمانه ، وله رجال كثيرون، وكان يخشى من جساس لأنه ليس من قومه فنقل العين ما قاله وتوعده جساس إلى كليب .
فقال : لقد اقتصر من يمينه على غلال وأخذ جساس يترصد كليباً ، ويطلب غرة منه ، وفي أحد الأيام خرج كليب آمناً وبعد قليلاً عن البيوت.
فركب جساس فرسه ، وأخذ رمحه فجاء إلى كليب من الخلف .
وقال له : يا كليب الرمح وراءك ، فلم يقطع كليب بأن جساساً يريد قتله أم أنه يمزح ، ولكنه رجح كلامه بأنه جاد غير مازح : فقال له إن كنت صادقاً فأقبل إلي من أمامي ، ولكن جساساً لم يسمع كلامه لعلمه بشجاعة كليب ، وغلبته في المبارزة ، كما أنه جاء يطلبه إنتقاماً فطعنه فسقط من فرسه.
فقال يا جساس اغثني بشربة من ماء فاجابه مستهزاً به (تجاوزت شبيثاً والأحص)( ).
أي ليس وقت طلب الماء، فقد تجاوزت شبيثاً وهو ماء لبني الأضبط في موضع يسمى دارة شبيث والأخص موضع فيه منزل جساس ، وذهب مثلاً لمن يطلب أمراً أو شيئاً في غير محله .
ومع ملك وطغيان كليب فانه لما حضرته المنية إحتاج إلى قطرات من الماء وأخذ يتوسل بقاتله ، ثم التفت إلى عمرو بن الحارث وهو ابن عم جساس، وقال له : يا عمرو أغثني بشربة ماء .
ولعله يريد وصول النبأ وحاجته لشرب الماء إلى قومه، وإمتناع جساس عن إعطائه الماء فيزدادون إصراراً على طلب قاتله فنزل إليه عمرو وأجهز عليه ، فقال الشاعر :
المستجير بعمرو حين كربته …كالمستجير من الرمضاء بالنار .
ثم نشبت الحرب، وقامت بين بني شيبان وتغلب ، وطالت مدتها وأتصلت ، حتى أفنتهم، وقتل بعضهم بعضاً حتى قام القاتل بصبغ قميصه من دم المقتول ولبسه باللون الأحمر، ولما قُتل كليب ودفن في موضع يسمى الذئاب وهو إلى الآن يحمل ذات الاسم أقامت نسوة الحي مجلس فاتحة مهيباً وشقت الجيوب وخدشت الوجوه ، وخرجت الأبكار وربات الحجول.
وقلن لأخت كليب : أخرجي جليلة من المأتم فان قيامها فيه شماتة ، وفيه عار علينا لأنهم من تغلب وهي من بني شيبان، فقالت لها أخرجي فانت أخت واترنا ، وشقيقة قاتل سيدنا .
وقالت عنها بعد خروجها : رحلة المعتدي وفراق الشامت ويل غداً لآل مرة ، من السكرة بعد السكرة .
فلما بلغ جليلة كلامها قالت : وكيف تشمت الحرة بهتك سترها، وترقب وترها ، أي ترقب مثل أخيها يطلب ثأراً ثم قالت :
أسعد الله أختي ، أفلا قالت :نفر الحياء وخوف الإعتداء ) أي أني لولا الحياء من بقائي عندكم بعد طردي ، وخشية أعتداء بعضكم عليّ وقتلي لما غادرت .
وحينما وصل جساس إلى أبيه وقومه كاشفاً ثوبه ، وهو على فرسه أوجس أبوه مرة بن ذهل بن شيبان خيفة وعندما أخبره بقتله كليباً غيلة، أراد تسليمه بجنايته درء للفتنة ، قال ليتك أنت وأخوتك التسعة عشر متم قبل هذا، ولكن قومه قالوا له، لا تحملن نيتك بتسليم ابنك فيطمع بك وابنك الناس , وهكذا الفتنة تبدأ قضية شخصية بسيطة ثم تتسع إلا مع الإيمان والخشية من الله , قال تعالى[الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنْ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ]( ).
ثم جاءت جليلة إلى أهلها وقومها فقال لها أبوها أبو مرة (ما وراءك يا جليلة ؟ فقالت: ثكل العدد، وحزن الأبد؛ وفقد خليل، وقتل أخ عن قليل؛ وبين هذين غرس الأحقاد، وتفتت الأكباد.
فقال لها: أو يكف ذلك كرم الصفح وإغلاء الديات ؟ فقالت أمنية مخدوع ورب الكعبة ! ألبدنٍ تدع لك تغلب دم ربّها)( ).
وأتصفت حرب البسوس بطول مدة الحرب وكثرة القتلى والأشعار الكثيرة التي ذكرت فيها ، وأكثرها للرؤساء من الفريقين خاصة وكذا كثرة أخبارها التي صارت أمثلة تتوارثها الأجيال إلى يومنا هذا ، وكان طرفا القتال في حرب البسوس ابني عم فاستمرت الحرب بينهم أربعين سنة على ناقة ومصيرهم إلى النار للقتال وسفك الدماء حمية وعصبية مع الإعراض عن وجوب الإقرار بالتوحيد وإتباع الحنفية .
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بأنه رزقهم الأخوة في الله بينهم ، قال سبحانه [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( )وأمر الله سبحانه المسلمين والمسلمات جميعاً بالمبادرة إلى الصلح بين أي طائفتين يقتتلون من المسلمين ، قال تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا] ( ).
وورد أن مرة أبا جساس لما قتل ابنه همام ولما علم بشدة الطلب على ابنه جساس أمره أن يلحق باخوانه بالشام فامتنع ، ولكن أباه ألح عليه وخرج سراً وأرسل معه خمسة عشر رجلاً ، فبلغ الخبر المهلهل أخي كليب فندب أبا نويرة وأرسل معه ثلاثين رجلاً من شجعان قومه فعجلوا السير فأدركوهم فتقاتلوا وأصيب جساس أصابة بليغة مات على أثرها ولم ينج من مجموع الفريقين إلا اثنان، إذ قتل جساس بيده أبا نويرة رئيس القوم وخمسة عشر من أصحابه.
وكانت جليلة حاملاً عند قتل كليب فولدت غلاماً سمته هجرساً ، وربّاه جساس.
وقال ابن الأثير (وكان لا يعرف أباً غيره، فزوجه ابنته)( ).
ولكن التناقض ظاهر بين كونه لا يعرف أباً له غير جساس وبين زواجه من ابنته .
ووقعت مشادة بين هجرس وبين رجل من بكر بن وائل فقال البكري : ما أنت بمنته حتى نلحقك بأبيك) فدخل هجرس على أمه وأخبرها الخبر وهو حزين كئيب، ثم نام إلى جانب امرأته التي هي بنت جساس ، فرأته مهموماً يطيل التفكير ، فأنكرت أمره وأخبرت أباها ، فقال ثائر ورب الكعبة ، وأراد جساس أن يدخله بالصلح الذي دخل فيه الناس أمام قومه فرضي هجرس ، ولكنه باغت خاله فقتله.
والرواية الأولى أصح أي أن جساساً قتل وهو في طريقه إلى الشام وذكر أن آخر قتيل من بكر هو جساس ، وسئمت الناس الحرب وكثرت الأرامل واليتامى فهجر المهلهل قومه إلى اليمن ، وهناك خطبوا ابنته سليمى فأبى عليهم ، فاكرهوه على زواجها وساقوا له أدما أي جلوداً في مهرها ، وقال شعراً في المناسبة وتصالحت تغلب وبكر بعد طول معركة البسوس وأكلها لأكثر رجالهم .
وقيل بلغ قبائل تغلب وبكر بكيفية زواج سليمى من مذحج , فغضبوا وأخذتهم الأنفة ، وقصدوا القوم وأخذوا المرأة وأرجعوها إلى أبيها وأسروا زوجها .
ويمكن القول لولا الأشهر الحرم ثم نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لفنى أكثر العرب بمثل حرب البسوس وحرب داحس والغبراء والتي وقعت بين عبس وذبيان والتي طالت مدتها أيضاً وذات الغلظة والقسوة إستقبلت بها قريش رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتسفيه أحلامهم، وخروج طائفة من الفتية عن طاعتهم، خاصة وأن قريشاً كانت تعرف وقائع وأيام العرب، ويستحضرون أشعارهم لأن تلك القبائل تفد إلى البيت الحرام ولإختلاط قريش معها بسبب التجارة.
حرب داحس والغبراء
وقعت هذه الحرب نحو سنة (583) ميلادية في اليمامة قريباً من المنطقة التي وقعت فيها حرب البسوس تقريباً مع التباين في القبائل ، إذ وقعت حرب البسوس بين قبيلة تغلب بن وائل وحلفائها من قبيلة بكر بن وائل ، أما حرب داحس والغبراء فوقعت بين :
الأول : قبيلة عبس .
الثانية : قبيلة ذبيان .
كل من داحس والغبراء اسم لفرس سريعة الجري ، وقيل استمرت هذه الحرب أربعين سنة ولا يخلو من مبالغة.
وكل من قبيلة عبس وذبيان من قبائل غطفان وهما ابنا بغيض بن ريث بن غطفان، وأشتركت بعض القبائل بها ، فنصرت قبيلة طي قبيلة ذبيان وعلى قول سبب المعركة الأولى هو تأمين طريق الحج إلى مكة وفي هذه الحرب ظهرت شجاعة عنترة بن شداد العبسي إذ كانت المنطقة تخضع لملوك عدة مقابل أموال تدفع إلى ذبيان ولكن تعرضت قافلة الحجاج من كندة للسلب وهم بحماية ذبيان فغضب فعرض أمير الحملة على قيس بن زهير العبسي حماية قوافلهم وضاعف الأجر مما سبّب سخط بني ذبيان فخرج حذيفة الذبياني وأخوه حمل بن بدر الذبياني ورجال من قومه للقاء قيس العبسي .
والأرجح أن السبب هو أن قيس بن زهير العبسي وهو من ملوك العرب جمع لقتال بني عامر أخذاً بثأر أبيه زهير بن جذيمة ، وكان لزهير أتاوة غنماً وسمناً واقطاً يأخذها على هوازن كل سنة في سوق عكاظ أيام موسم الحج مع غلظته وشدته عليهم ، فكان في قلوبهم ضغينة عليه ، وكانت هوازن تهاب زهير وهو من ملوك العرب قبل الإسلام وهو رأس غطفان وكان أبا عشرة ، وعم عشرة ، وأخا عشرة وخال عشرة .
وأكثر أولاده قتلوا إذ قتل الحارث بن زهير يوم عراعر ، وقتلت شاس وورقاء والحصين ابناء زهير رياح بن الأسل .
وقتلت فزارة مالك عوف بن زهير وتزوج النعمان بن إمرئ القيس ملك الحيرة جد النعمان بن المنذر من زهير بن جذيمة لشرفه وملكه ثم كتب النعمان إلى زهير ليزوره أحد أولاده ، فأرسل زهير ابنه شاسا ، وهو أصغر أولاده فاكرمه النعمان ، وعندما أراد الإنصراف والرجوع إلى أبيه وقومه كساه النعمان حللا وأعطاه مالاً وفيراً ، فلما بلغ شاس ماء من مياه غني بن اعصر (قتله رياح بن الأشل الغنوي وهو يعرفه ) ( ) ولكنه طمع فيما معه ، فبلغ زهيراً أن شاسا رجع من النعمان وأن آخر العهد به بماء من مياه غني ، فسار زهير إلى ديارهم ، وجمعهم وسألهم عن ابنه فأنكروا العلم به ، فقال أنا أعلمه وأنه قتل عندكم ، فقالوا له : وما يرضيك منا ؟ قال واحدة من ثلاث .
الأولى : إحياء ولدي .
الثانية : تسليم أولادكم لي لأقتلهم بوَلدي .
الثالثة : الحرب والقتال بيننا .
فقالوا له : لم تجعل لنا مخرجا أي أنك تطلب شروطاً تعجيزية ، وفيه شاهد على حاجة الناس إلى الإسلام وأحكامه ، إذ أنه يزجر عن القتل والتعدي ، ويتضمن الحكم بالقصاص والرضا به ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ) أي أن الذي يهم بالقتل يخشى من القصاص فينزجر عنه فتكون في القصاص حياة ونجاة للذي يهم بالقتل والذي يكون عرضة للقتل .
وعرضت غني على زهير أن يختار عن قتل ولده أموراً :
الأول : الدية .
الثاني : تطلب قاتل ابنك وتعرفه فنسلمه إليك فلا نريد سخطك والحرب معك .
الثالث : تهب دم ابنك ، فانه لا يضيع مع القرابة والجوار ، فأصر زهير على ما طلبه .
وأستعمل زهير المرأة في التجسس وارسلها عيناً ، إذ بعث امرأة وأعطاها لحم جزور سمينة وأمرها أن تكتم نسبها وذهبت إلى غني لتبيع اللحم ، وتسأل عن حال ولده بما لا يثير الشبهة ، وأنتهت إلى امرأة رياح بن الأثل ، وقالت لامرأة رياح : قد زوجت بنت لي .
وأبغي الطيب مقايضة بهذا اللحم ، فأعطتها امرأة رياح طيباً إذ استحوذ عليه حينما قتل شاسا ، لأن النعمان أهدى له طيباً ويتصف طيب الملوك بالرائحة الزكية الفواحة ، والقدم إذ يخزّن في أوعية كبيرة مدة طويلة ، ويجعلون عمالاً خاصين عليها .
ورجعت المرأة وأخبرت زهيراً ، فجمع رجاله وأخذ يغير على غني ، وقتل رجالاً كثيرين ، فوقعت الحرب بين عبس وبين بني عامر ابن صعصعة حلفاء غني .
وحلّت الأشهر الحرم ذو القعدة وذو الحجة ومحرم فخرج زهير مع أهل بيته وبعض رجاله إلى سوق عكاظ , خاصة وان له أتاوة على هوازن يتسلمها منهم في سوق عكاظ ، فدخل معه خالد بن جعفر بن كلاب في جدال وإحتجاج , أظهر فيه زهير تعاليه وأصراره على القتال ، وطلب ثأر ابنه وكان في بني عامر أخو زوجة زهير إذ لحق بهم بعد أن أصاب دماً فأرسله خالد عيناً ليرى أين هو زهير الذي امتنع عن سماع نصيحة ابنه قيس ويجد السير والخروج من أطراف بلاد هوازن وأظهر الإستخفاف بهم ونعت ابنه بالعاجز فلما جاءهم أخو زوجته تماضر بنت الشريد ارتابوا منه ، وأرادوا أن يوقفوه ويأخذوه معهم ، ولكن أخته منعته فأخذوا عليه المواثيق والعهود ألا يخبرهم فأطلقوه .
فسار إلى خالد ووقف قبال شجرة وأخذ يخبرها بموضع زهير وأهل بيته أي كأنه تقيد بالمواثيق التي أعطاها لزهير ولم يخبر القوم إنما أخبر الشجرة ولا ضير أنهم يسمعون وهو مكر وخداع باطل ، وجاء الإسلام بلزوم تعاهد المواثيق ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ…] ( ) ، ولم تكن ثمة مسافة طويلة بينهما ، فركب خالد ومن معه ، واقتتل هو وزهير طويلاً ثم تعانقا فسقطا إلى الأرض ، وقام ورقاء بن زهير بضرب خالد بالسيف ، فلم يضره لأنه ظاهر بين درعين ، وحمل ابن امرأة خالد على زهير فقتله فثار عنه خالد وعادت هوازن إلى منازلها .
وحمل بنو زهير أباهم إلى ديارهم ، وقال ورقاء بن زهير يرثي أباه بحرقة وأسى وكلمات رقيقة مع الوعيد لعدوهم لأنه لم يتصور قتل أبيه مع شجاعته وهيبته , ولكن الفتنة عمياء :
(رأيت زهيراً تحت كلكل خالد … فأقبلت أسعى كالعجول أبادر
إلى بطلين يعتران كلاهما … يريد رياش السيف والسيف نادر
فشلّت يميني يوم أضرب خالداً … ويمنعه منّي الحديد المظاهر
فيا ليت أنّي قبل أيّام خالدٍ … وقبل زهير لم تلدني تماضر
لعمري لقد بشّرت بي إذ ولدتني … فماذا الذي ردّت عليك البشائر ؟
فلا يدعني قومي صريحاً بحرّةٍ … لئن كنت مقتولاً ويسلم عامر
فطر خالدٌ إن كنت تستطيع طيرةً … ولا تقعن إلاّ وقلبك حاذر
أتتك المنايا إن بقيت بضربة … تفارق منها العيش والموت حاضر
وقال خالد يمن على هوازن بقتله زهيراً:
أبلغ هوازن كيف تكفر بعدما … أعتقتهم فتوالدوا أحرارا
وقتلت ربّهم زهيراً بعدما … جدع الأنوف وأكثر الأوتارا
وجعلت مهر نسائهم ودياتهم … عقل الملوك هجائناً وبكارا) ( ).
وعلم خالد أن غطفان ستطلبه ، فسار إلى النعمان بن إمرئ القيس ملك الحيرة فأستجاره فاجاره .
وقال الحارث بن ظالم المري : أكفوني حرب هوازن فانا أكفيكم خالد بن جعفر ، أي أنه يأخذ الثأر من خالد بقتله فسار إلى الحيرة ، وقدم على النعمان ، ودخل عليه وعنده خالد يأكلان التمر ، فأقبل النعمان على الحارث يسائله فحسده خالد ، فقال خالد للنعمان : أبيت اللعن هذا رجل لي عنده يد عظيمة ، فان قتلت زهيراً وهو سيد غطفان ، فصار الحارث سيدها ، فقال الحارث : سأجزيك على يدك عندي ، وعند الليل نام خالد ، وأخوه عروة عند رأسه ، فدخل عليهما الحارث القبة .
(وقال لعروة: لئن تكلمت قتلتك ! ثم أيقظ خالداً، فلما استيقظ قال: أتعرفني ؟
قال : أنت الحارث. قال: خذ جزاء يدك عندي ! وضربه بسيفه المعلوب فقتله، ثم خرج من القبة وركب راحلته وسار.
وخرج عروة من القبة يستغيث وأتى باب النعمان فدخل عليه وأخبره الخبر، فبث الرجال في طلب الحارث.
قال الحارث: فلما سرت قليلاً خفت أن أكون لم أقتله فعدت متنكراً واختلطت بالناس ودخلت عليه فضربته بالسيف حتى تيقنت أنه مقتول وعدت فلحقت بقومي) ( ).
وقوله عدت متنكراً وأختلطت بالناس بعيد.
وجعل النعمان يطلب الحارث لقتله جاره ، وهوازن تطلبه لتقتله بسيدها خالد ، فلحق بتميم فاستجار بضمرة بن ضمرة من بني دارم فأجاره على النعمان وهوازن .
وكان سبب حرب داحس والغبراء هو طلب قيس بن زهير بثأر أبيه واختلف في قصة داحس والغبراء كثيراً ، وفي هذه الحرب ظهرت شجاعة عنترة بن شداد ، ومات فيها عن عمر يقارب الثمانين عاماً أثر سهم مسموم ، وشجاعة ودهاء مالك بن زهير ، وحمل بن بدر وشجاعة عروة بن الورد وغيرهم .
وقيل في سبب حرب داحس والغبراء أن قسياً مرّ بالربيع بن زياد العبسي وسأله مسألته في أخذ ثأر أبيه ، فأجابه إلى ذلك ، ولما أراد مغادرته رأى عنده درعاً فاعجبت الربيع ، فلبسها فكانت في طوله ، فمنعها قيساً ، ولم يرجعها إليه .
فعارض قيس ضعائن الربيع وأخذ أم الربيع فاطمة بنت الخرشب الأنمارية فجعلت جملها رهناً عن الدرع ، وتعهدت له باعادتها فأطلقها وأخبرت ابنها الربيع فامتنع عن رد الدرع ، فأخبرت قيساً بالأمر .
وأطرد قيس إبل الربيع وذهب بها إلى مكة فباعها من عبد الله بن جدعان القرشي لأن قريشاً تحتاج الإبل في [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ) للتجارة بين مكة والشام وبين مكة واليمن .
ونزل قيس في مكة وكان فخوراً ، فأخذ يفاخر أهل مكة فيفاخرونه بالبيت الحرام وجواره وبالحرم ، فقال قيس (نحوا كعبتكم عنا وحرمكم وهاتوا ما شئتم. فقال له عبد الله بن جدعان: إذا لم نفاخرك بالبيت المعمور وبالحرم الآمن فيم نفاخرك ؟
فمل قيس مفاخرتهم وعزم على الرحلة عنهم، وسر ذلك قريشاً لأنهم قد كانوا كرهوا مفاخرته، فقال لإخوته: ارحلوا بنا من عندهم أولاً وإلا تفاقم الشر بيننا وبينهم، والحقوا ببني بدر فإنهم أكفاؤنا في الحسب، وبنو عمنا في النسب، وأشراف قومنا في الكرم، ومن لا يستطيع الربيع أن يتناولنا معهم. فلحق قيس وإخوته ببني بدر) ( ).
فاجاره حذيفة هو وأخوه حمل بن بدر , وأراد حذيفة الرهان والسباق في الخيل فأبى قيس ولكن حذيفة أصر ، وكان الرهان على عشرين من الإبل ، وقال ابن الأثير(فقال حذيفة: الغاية من أبلي إلى ذات الإصاد، وهو قدر مائة وعشرين غلوةً، والسبق مائة بعير) ( ).
وأجرى قيس داحساً والغبراء وأجرى حذيفة الخطّار والحنفاء ، وسبقت داحس والناس ينظرون وعندما هبط داحس في الوادي عارضه رجل من أسد جعله حذيفه ليمنعها من السبق فلطم وجه الفرس داحس والقاه في الماء وكاد يغرق هو وراكبه ، ولمّا خرج كانت الخيل سبقته ، فجاءت الغبراء أولاً ثم الخطار ثم الحنفاء ثم داحس .
ويسير بها الغلام على رسله ، وقال حذيفة أن له السبق لأن فرساه جاءا متتاليين .
وأخبر الغلام قيساً بالقائه والفرس داحس بالماء فذهب قيس إلى القوم الذين ضربوا داحساً وأعترف الذي ألقاها بالماء بما فعل استجابة إلى حذيفة وأصحابه وطلبوا السبق فأبوا ، ثم طلبوا منهم جزوراً واحدة لنحرها واطعام الناس ودفع القالة في العرب .
وقال رجل من فزارة مائة جزور وجزور ، واحدة وسواء فلا نقهر لكم بالسيف ولا نعطيكم واحدة أي أن هذا الإعطاء اقرار لكم بالسيف وقام رجل منهم وقال : قد كان قيس كارهاً لهذا الرهان من أوله ، وأن الظلم لا ينتهي إلا إلى شر فاعطوه جزوراً من نعمكم فأبوا ، فقام إلى جزور من ابله فعقلها وهمّ باعطائها لقيس لإرضائه ، ولكن ابنه منعه وقال له : إنك لكثير الخطأ أتريد أن تخالف قومك وتلحق بهم خزية ، وذكر أن داحساً فرس زهير وأن الغبراء فرس حذيفة ، وجرى السباق بخصوصهما ، وقيل أن قيساً أنزل داحساً على فرس له فجاءت بمهرة فسماها الغبراء .
فرحل قيس ومن معه من بني عبس عنهم ويتصف قيس بالنباهة والفطنة ، ويتوقع الأحداث فتأتي على ما يظن وألح حذيفة في طلب السبق مع أنه لا يستحقه فأرسل ابنه ندبة يطالبه بالسبق فلم يجده فوجد امرأته فقالت له : ما أحب أنك تجد قيساً وتطالبه بالسبق فرجع إلى أبيه وأخبره ما قالت ، وما يعنيه كلامها من التهديد ، ولكن حذيفة أصر على رجوعه إلى قيس ، فوجده فأخبره بأن أباه حذيفة يريد السبق وهو عشرون من الإبل ، فتناول قيس الرمح فطعنه فدق صلبه وترك فرسه تعود إلى أبيه .
ونادى قيس ببني عبس بالرحيل والتعجيل به ، فأستمرت المعارك بين القبيلتين ثم أتفقوا على الصلح ، وجاء بعض قوم حذيفة وقبحوا رأيه في الصلح ، وقال أعطهم ابلا عجافاً وأحبس أولادها فوافق حذيفة ولكن قيساً ابى ، واستمرت المعارك إلى أن أعتمد قيس دهاء وخدعة في القتال ، وأدرك حذيفة وأخاه حمل على الماء وأصحابه وقد نزعوا سروجهم وطرحوا سلاحهم وتمرغت دوابهم ووقعوا في الماء لشدة الحر ، ففاجأهم قيس وجنوده ، وقاتل حذيفة وأخوه حمل ، وأستبقوا حصن بن حذيفة لصباه , أي لم يقتلوه لصغره , وللتفاوض بخصوصه وفرض الشروط .
وكان قيس وأصحابه ينادون أثناء الهجوم والفتك (لبيكم لبيكم)( ).
أي أنهم يجيبون صبيانهم الذين جعلوهم رهان عند قوم حذيفة ، ولكن حذيفة احتال على أخذهم ، وصار كل يوم يخرج أحدهم ويأمره أن ينادي أباه ، فيرمونه بالنبال أثناء النداء ، وأحد الصبيان كان ينادي باسم عمه لكيلا يجزع أبوه عندما يسمع النبأ .
وقتل من فزارة وحلفائهم يومئذ أكثر من أربعمائة قتيل ، وقتل من عبس نحو عشرين قتيلاً وكانت فزارة تسمي هذه الواقعة البوار ، وغادر قيس بن زهير قومه ، وتنصر وساح في الأرض وأنتهى إلى عمان وترهب فيها حتى لقيه حوج بن مالك العبدلي فعرفه فقتله (لا رحمني الله إن رحمتك) ( ) .
وقال الأصمعي (قال جاور قيس بن زهير النمر بن قاسط ليقيم فيهم فأكرموه وآووه فقال إني رجل غريب حريب فانظروا لي امرأة قد أدبها الغنى وأذلها الفقر ولها حسب وجمال أتزوجها فزوجوه امرأة على هذا الشرط فأقام معها حتى ولدت له وقال لهم أول ما أقام عندهم إني لا أقيم عندكم حتى أعلمكم أخلاقي إني فخور غيور آنف ولكن لا أغار حتى أرى ولا أفخر حتى أُبدأ , ولا آنف حتى أظلم ثم ذكر وصيته لهم عندما فارقهم.) ( ).
ومات قيس قبل البعثة النبوية الشريفة , وولد لقيس ولد اسمه فضالة ، وقدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعلن اسلامه ، وعقد له على من معه من قومه ، وكانوا تسعة وهو عاشرهم .
ووفد (مساور بن قيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة ابن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث ابن غطفان بن سعد ابن قيس بن عيلان العبسي وفد على الوليد بن عبد الملك يستمنحه في أيام عبد الملك ويدل إليه بالخؤولة فإن أم الوليد عبسية فلم يصادف عنده ما أراد فهجاه) ( ).
انتهت حرب داحس بقيام رجلين من الأشراف هما الحارث بن عوف وهرم بن سنان المريان من بني ذبيان بتادية ديات القتلى الذين فضلوا بعد احصاء مجموع قتلى الطرفين من مالهما ، وذكرت قصة طويلة في زواج الحارث بن عوف من بهية بنت أوس بن حارثة بن لأم الطائي ، والتي أبت أن يدخل بها حتى يصلح بين عبس وذبيان .
وقد مدح زهير بن أبي سلمى في معلقته الحارث بن عوف وهرم بن سنان لما قاما به من الصلح ، وقد عاصر زهير هذه الحرب المدمرة وحال الفزع التي صاحبتها ، وكثرة القتلى واليتامى والأرامل خاصة وأن زهيراً عاش يتيماً من صغره , وكان غريباً في بني غطفان وهم أخوال أبيه ، وانتفع من زوج أمه الشاعر أوس بن حجر ، وقال زهير في مدح الحارث بن عوف وهرم :
(تداركتما عبساً وذبيان بعدما … تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
فأصبح يجري فيهم من تلادكم … مغانم شتىً من إفال المرنم
ينجمها قومٌ لقومٍ غرامةً … ولم يهريقوا بينهم ملء محجم) ( ).
وقيلت أشعار كثيرة في حرب داحس والغبراء توثق وقائعها ، وتبين حال وقبح الحمية التي تستحوذ على نفوس أفراد القبائل العربية ، وليس من فاصلة في المقام بين المدينة والقرية ، نعم كانت قريش تتجنب خوض معارك وحروب طويلة مع القبائل ، كما أن القبائل تكرم قريشاً لأنهم أهل الحرم وتفد القبائل إلى مكة للحج والعمرة والتسوق ، ولولا بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لاستمر وقوع المعارك بين القبائل العربية والتي تؤدي إلى ما يشبه الإبادة , وأنما ذكرنا حرب البسوس وحرب داحس والغبراء لبيان نشوب المعارك الكبرى بين العرب على مسألة بسيطة وقضية شخصية .
وقتل منهم الآف الرجال دون أثر وذكر ’ بينما قتل سبعون من المهاجرين والأنصار , فخّلد الله ذكرهم بهذه الآيات .
وكان العرب في منتدياتهم وأسفارهم يولون عناية بأخبار هذه المعارك والأشعار التي قيلت فيها ، والسؤال عن أبناء وذرية الرؤساء الذين شاركها فيها ، فجاءت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليعتني العرب بتلاوة آيات القرآن والتدبر في معانيها ودلالتها ، ويمكن تقدير قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) على وجوه :
الأول : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين بوقف الإقتتال بين القبائل .
الثاني : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين بمنع الظلم وغلبة النفس الشهوية والغضبية .
الثالث : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين لمنع استمرار استيلاء الخوف والفزع على النفوس بسبب كثرة القتال وتعدد القتل ، وطلب الثأر العشوائي ، فاذا قتل شخص من قبيلة غيره يكون جميع أفراد قبيلة القاتل عرضة للثأر والقتل من قبل جميع أفراد قبيلة المقتول ، فجاء القرآن بقوله تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى..] ( ) .
لمنع استحواذ الفزع والخوف على أفراد القبيلتين في حال وقوع القتل الذي بيّن القرآن حرمته .
وجاء الإسلام بتقييد وحصر ولاية المقتول والوعد الكريم من الله عز وجل بأخذ الحق من القاتل , قال تعالى [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا] ( ) .
فاما القود والقصاص أو العقل والدية وحتى العفو فانه من سلطان الولي ، ليكون من معاني عدم الإسراف في القتل إجتناب قتل غير القاتل وحرمة التمثيل .
وعن يعلي بن مرة قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : قال الله : لا تمثلوا بعبادي) ( ).
ولو كان هذا القانون السماوي سائداً في الجزيرة قبل الإسلام لما حدثت تلك المعارك والحروب الطاحنة بينهم ، ولو بقيت الجزيرة من غير قوانين الإسلام لفنيت أحياء أهلها , وقد أخبر القرآن عن مثل هذا الفناء بسبب الفتن ، قال تعالى [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً] ( ) ومن الآيات في المقام قلة وصغر المدن آنذاك ، وقلة أهلها واحاطتها بالأسوار وجاء الإسلام لتتسع هذه المدن وتستحدث مدن أخرى .
ومن معاني قوله تعالى [إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا…] ( ) بعث السكينة في نفوس كل من :
الأول :ولي المقتول .
الثاني : أبناء المقتول وزوجته .
الثالث : قبيلة المقتول ، وزجرهم عن البطش والإنتقام .
الرابع : عامة الناس ، فاذا قُتل شخص فلا يخشى جاره أو صاحبه أو غيرهما على نفسه .
وفيه بعث للصبر عند أولياء المقتول ولزوم التقيد بحكم الحاكم ونصرة السلطان له وفق أحكام الشريعة .
وعن مجاهد في قوله تعالى [إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا…] قال إن المقتول كان منصوراً ، وهو بعيد ، أنما أراد الله بالآية نصرة ولي المقتول وبعث الفزع والخوف في قلب كل من :
الأول : الذي يهم بالقتل .
الثاني : الذي يقوم بالقتل ظلماً .
الثالث : الذي ينصر القاتل ظلماً .
لقد احتجت الملائكة على خلافة آدم في الأرض وعمارة الإنسان لها لأنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )ومن هذا الفساد والقتل معارك العرب قبل الإسلام ، فقال الله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
ومن علم الله عز وجل تفضله ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيادة حكم الإسلام ووقف هدر الدماء ، وجعل تأريخ معارك الإسلام حجة ومعجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان الحاجة إلى علوم مستقلة تتعلق بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : ما يتعلق بالحياة العامة والخاصة قبل بعثته والتغيير النوعي فيها نحو الأصلح والأحسن .
الثانية : تجلي معاني الصلاح والإصلاح بعد البعثة النبوية.
الثالثة : حلول التقارب بين الأمم بصيغة الإيمان وإتحاد اتباع الأنبياء ،
الرابعة : صبغة الدفاع في معارك الإسلام .
الخامسة : تجلي قانون في الإسلام وهو : لا قتال إلا مع الضرورة , ليترشح عنه قانون وهو : دخول الناس الإسلام مع القتال أو بدونه .
وفي التنزيل [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ]( ).
إعجاز الآية الذاتي
إبتدأت آية البحث بصفة جمع بصيغة جمع المذكر السالم المنصوب ، وأصل الكلام العربي أن يبدأ بمرفوع كالمبتدأ ، ولكن آية البحث إبتدأت بقوله تعالى [فرحين] وهو جمع مذكر سالم منصوب بالياء لأنه حال .
مما يدل على اتصال مضامين آية البحث بالآية السابقة لها وأن الفاصلة بين الآيات ليست برزخاً دون إتحاد الموضوع بين آيتين متجاورة أو أكثر ويتعقب بعضها بعضاً .
ويمكن تقدير أول آية البحث على وجوه :
الأول : صار الذين قتلوا في سبيل الله فرحين .
الثاني : لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل فرحين .
الثالث : بل أحياء فرحين ، بلحاظ أن فرحين حال الأحياء .
الرابع : عند ربهم فرحين لبيان قانون وهو : أن الذي تصير عاقبته بأنه في ظل العرش عند الله لا يكون إلا فرحاً إذ يستحيل طرو الحزن عليه .
لتكون الآية مناسبة لدعاء المسلمين والمسلمات لله عز وجل بأن يجعلهم عنده من ساعة موتهم ، لينالوا مرتبة الشهداء بالدعاء وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) .
الخامس: يرزقون فرحين بلحاظ أن فرحين حال الضمير في يرزقون .
ويُلزم إبتداء آية البحث بالحال القارئ والسامع الرجوع الذهني إلى الآية السابقة ، لتكون التلاوة في المصحف أفضل من التلاوة عن ظهر قلب ومن الإستماع إلى القرآن .
لتكون آية البحث مرآة لعالم ما بعد الموت بالنسبة للشهداء وأنهم أحياء يغمرهم الفرح على نحو الدوام لتشير الآية في مفهومها إلى حال البؤس والحسرة التي يكون عليها الذين كفروا بعد موتهم خصوصاً أولئك الذين قتلوا الشهداء .
وذكرت الآية فضل الله الذي آتاه الشهداء , وبصيغة الماضي لبيان سبق إسباغ النعم عليهم علة وكيف أنها علة لنزول آية البحث ، لأن الله عز وجل يعطي بالأوفى والأتم ومنه قانون مجئ فضله وإحسانه اسرع من إخباره عنه .
فان قلت هل ينخرم هذا القانون بالنسبة للمؤمنين من التابعين وتابعي التابعين بخصوص نزول فضل الله عليهم أحياء وأمواتاً .
الجواب لا ، لسبق مشيئة الله وكتابة فضله لهم وللتبادر بحلول أوان هذا الفضل في حينه ، وكل في زمانه ويتجلى فضل الله عز وجل على الناس جميعاً بلحاظ آية البحث .
وفي التنزيل حكاية عن يوسف عليه السلام [وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ] ( ).
ويحتمل المقصود من لفظ [النَّاسِ] في الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : إرادة أهل مصر وفلسطين .
الثاني : المقصود أهل زمان يوسف عليه السلام .
الثالث : المراد أهل زمان إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف على التعاقب بلحاظ الأبوة والبنوة بينهم .
الرابع : المقصود بنو اسرائيل .
الخامس : إرادة الناس جميعاً في كل زمان ، ومنهم المسلمون والمسلمات .
والمختار هو الأخير ، وهو من الشواهد على فضل الله بالقرآن الذي جاء بالتوحيد ونفي الشرك ، وبالاخبار عن نبوة كل من إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف ، ولولا القرآن لما علم الناس بنبوتهم .
ومن فضل الله في الآية أعلاه إقتداء المسلمين بالأنبياء الذي ذكرتهم الآية أعلاه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ).
فان قلت وهل كان يوسف عليه السلام يعلم بأن تنزههم عن الشرك من فضل الله على المسلمين إلى يوم القيامة , الجواب نعم ، وهو من مصاديق بشارة الأنبياء برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإدراك الحاجة إليها كنعمة من عند الله عز وجل .
وليكون تقدير فضل الله في الآية أعلاه من سورة على وجوه كثيرة تأتي في محلها أن شاء الله .
وأبى الله أن تنحصر نعمه على الشهداء وأن كان فضله عليهم عظيماً وأكبر من أن تحيط به أوهام البشر فتفضل سبحانه وأخبر عن استبشار الشهداء بالمؤمنين الذين سيلحقون بهم ، وبنعم دائمة ومستحدثة تأتيهم من عند الله عز وجل حيث لا يقدر على الإنعام والإحسان عليهم إلا الله عز وجل والذي أبى إلا أن يشارك المسلمون والمسلمات الأحياء الشهداء فرحتهم مع التباين المكاني والفاصلة بين عالم الدنيا وعالم الآخرة .
وتتجلى هذه المشاركة بلحاظ آية البحث من جهات :
الأولى : إخبار آية البحث المسلمين عن فرح الشهداء في الآخرة فهذا الإخبار سبب لفرح المسلمين والمسلمات ، ليسارعوا في فعل الصالحات.
الثانية : بيان آية البحث لقانون حسن عاقبة الشهداء ، وفي التنزيل [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ] ( ) .
الثالثة : بعث السكينة في نفوس الصحابة على صحة وسلامة الخروج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدفع جيش الذين كفروا .
الرابعة : ذكر آية البحث الإستبشار الشهداء بلحوق أصحابهم بهم في ذات النعيم .
الخامسة : إختتام آية البحث بالوعد من الله عز وجل للشهداء بالأمن والسلامة للمؤمنين الذين سيلحقون بهم إلى عالم البرزخ .
لقد بيّنت آية البحث اكرام الله عز وجل للذين قتلوا في سبيله وعموم المؤمنين ، وهو من مصاديق فضل الله الذي تذكره ذات آية البحث ،إذ أبى الله عز وجل أن يخص الأحياء من المسلمين بالمواساة وحدها ، إنما تضمنت الآية البشارة لهم بأن يتطلع ذات الشهداء إلى قدومهم إلى عالم الآخرة بلباس التقوى ، والسلامة من الإرتداد الذي يسعى إليه كفار قريش ن ويبذلون فيه الأموال الطائلة
ويمكن تسمية آية البحث آية [فَرِحِينَ] ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في آية البحث .
نعم ورد معرفاً بالألف واللام بقوله تعالى [لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ] ( ) وسيأتي بيانه في علم المناسبة .
إعجاز الآية الغيري
تبين آية البحث عدة قوانين من عالم الآخرة ، وحياة أهل الإيمان في عالم البرزخ ، وتذكر فضل الله عز وجل على الذين قتلوا منهم يوم معركة بدر وأحد ، لبيان عظيم شأنهم في تثبيت معالم الدين في الأرض ، ولا أحد يعلم الضرر الذي يترشح عن هجوم ثلاثة آلاف رجل من الكفار على المدينة إلا الله عز وجل خاصة مع وجود المنافقين في داخلها ، وحداثة عهد الناس بالإسلام ، وسهولة الوصول إلى شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الجملة ، وإنقطاع التنزيل بموته أو قتله .
ومن الإعجاز في نبوته صلى الله عليه وآله وسلم نزول القرآن على نحو التوالي والتتابع بلحاظ الوقائع والأحداث ، ليكون بشارة سلامته من القتل في معركة أحد من جهات :
الأولى : فضل الله عز وجل على الناس في نزول جميع آيات وسور القرآن قبل أن يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى حتى نزل قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ) .
الثانية : عمل المسلمين بأحكام القرآن وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصيرورة هذا العمل منهاجاً لهم .
الثالثة : وقعت معركة أحد في السنة الثالثة من الهجرة النبوية الشريفة ، وانتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى في شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة بعد أن زار قبور الصحابة في البقيع ، وسأل الله لهم المغفرة والرحمة ، وعاد إلى بيت زوجته ميمونة وكان قد أحس بصداع فاشتد عليه ، واستأذن من أزواجه أن يبيت أثناء مرضه في غرفة عائشة لقربها من المسجد .
وخرج متكأ على الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام والعباس بن عبد المطلب .
واستمر نزول القرآن إلى آخر أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحينما نزل القرآن قوله تعالى [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] ( ) قال : ليتني أعلم متى يكون ذلك فأنزل الله تعالى سورة النصر .
(فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول هذه السورة يسكت من التكبير والقراءة فيقول فيها : سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه فقيل : إنّك لم تكن تقوله يا رسول الله قبل هذا،
قال : إنّها نفسي نعيت إلي ثمّ بكى بكاء شديداً فقيل : يا رسول الله أوتبكي من الموت وقد عفا الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر،
قال : فأين هول المطلع فأين ضيق القبر وظلمة اللحد فأين القيامة والأهوال فعاش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ستة أشهر ثم لما خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حجّة الوداع نزلت عليه في الطريق {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَةِ}( ) إلى آخرها فسمّى آية الصيف)( ).
ومن بديع خلق الإنسان صيرورة عالم التصور والأماني والرغائب أعم وأوسع كثيراً من عالم الإمكان وسعة وقدرة الإنسان ليكون هذا التباين مناسبة للدعاء وسؤال فضل الله عز وجل للذات والغير ، وفي التنزيل [قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ] ( ).
وتحتمل الأماني والرغائب عند الإنسان من جهة استقرارها في الذهن أو غيابها عنه وجوهاً :
الأول : ما يذكره الإنسان أكثر مما ينساه منها .
الثاني : التساوي بين ما يذكره الإنسان وما ينساه منها .
الثالث : ما ينساه الإنسان من رغائبه وأمانيه أكثر مما يحفظه .
والصحيح هو الثالث إلا من عصم الله عز وجل .
وجاءت آية البحث لتنقل كل مسلم ومسلمة إلى عالم صدق من علوم الغيب الذي يعجز تصور الإنسان عن بلوغه وإدراكه إلا بفضل وفيض من الله عز وجل ، ويتجلى هذا الفيض باخبار القرآن عن علوم الغيب ومنها فرح وسعادة الذين قتلوا في سبيل الله عز وجل .
لقد أخبرت آية البحث عن استبشار الشهداء بالذين لم يلحقوا بهم من المؤمنين ، ليترشح عنها قانون وهو استبشار أجيال المسلمين وهم في الحياة الدنيا بهذا الإستبشار لصيروتهم ممن يتطلع الشهداء للحوقهم بهم ، وفيه دلالة بأن هذا اللحوق لا يكون إلا إلى النعيم الدائم .
وكأن الآية تخاطبهم : لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون).
الآية سلاح
من خصائص الإنسان في سنخية خلقه أنه ضعيف تصاحبه الحاجة في كل آن ومكان ، وهي على قسمين :
الأول : حاجة الإنسان إلى رحمة الله عز وجل ، وهي متصلة وليس من حصر لمصاديق كليات هذا القسم كماً وكيفاً وجنساً ونوعاً وزماناً ومكاناً ، فضلاً عن أفرادها المتكثرة في كل آن والتي يعجز الناس عن إحصائها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) .
الثاني : حاجة الإنسان لغيره من الناس ، وهو من الكلي المشكك من جهات :
الأولى : ذات الشخص المحتاج ومقامه وشأنه وجاهه وغناه أو فقره .
الثانية : ماهية حاجة الإنسان إلى غيره وكيفيتها .
الثالثة : المحتاج إليه من الناس .
وهل يمكن أن يكون إنسان محتاجاً لغيره من الناس ولا يحتاج غيره إليه ، أو بالعكس بأن يكون الناس محتاجين إليه ، وهو لا يحتاج إليهم ، الجواب لا ، فمن الإعجاز في قوله تعالى [وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ) حاجة الإنسان إلى غيره وهو من ضروب الإبتلاء و الإختبار في الحياة الدنيا .
لقد خلق الله عز وجل الإنسان وجعله خليفة في الأرض من غير أن يفارق الضعف والحاجة ، قال تعالى [وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( )وليس من حصر لحاجة الإنسان كما أن أمله ورغائبه أضعاف هذه الحاجة ، فمن فضل الله أن حاجات الإنسان جلية وواضحة ، أما آماله ورغائبه فانها غير متناهية، فتفضل الله عز وجل على شهداء أحد ورزقهم ما هو أكبر وأعظم من الآمال والرغائب التي قد تخطر على أذهانهم .
وهل يشمل الرزق والنفع في قوله تعالى (فرحين) الأحياء من المسلمين ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : بعث الطمأنينة في نفوس المسلمين والمسلمات .
الثانية : الآية واقية للمسلمين من شماتة المنافقين والذين في قلوبهم مرض .
الثالثة : سعي المسلمين في الكسب والمعيشة وعدم الخشية من لقاء العدو، ولا يتعارض هذا السعي مع لزوم تهيئة لوازم اللقاء والمواجهة مع العدو.
الرابعة : سلامة بيوت المسلمين من الفتنة والخصومة بخصوص أمور :
الأول : الإيمان .
الثاني : التنزه عن مفاهيم الضلالة .
الثالث : التعاون في السعي في رضوان الله، قال تعالى[وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]( ).
الرابع : إجتهاد المسلمين في طاعة الله وتهذيب الأفعال وإصلاح المجتمعات والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعن ابن مالك الأشعري (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن لله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم النبيون والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله.
قال أعرابي، يا رسول الله أنعتهم لنا.
قال : هم أناس من أبناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة ، تحابوا في الله وتصافوا في الله ، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها ، يفزع الناس ولا هم يفزعون وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)( ).
الخامس : الفخر والإعتزاز بشهداء أحد .
السادس : استحضار أسماء شهداء أحد وبطولاتهم وتفانيهم في سبيل الله ، وقد أفردنا الجزء السابع بعد المائة من هذا السِفر لترجمتهم , وبيان خصالهم الحميدة , وفي التنزيل ( لمثل هذا فليعمل العاملون .
السابع : التآزر والتعاضد بين المسلمين لدفع جيوش الذين كفروا عن المدينة .
وتبعث آية البحث المسلمين على التفقه في علم الكلام والتسليم باتصاف فضل الله بلحاظ آية البحث بأمور :
الأول : توالي فضل الله على الشهداء من حين مغادرتهم الدنيا .
الثاني : إتصال فضل الله على الشهداء في الحياة الدنيا والآخرة .
الثالث : إدراك الشهداء لفضل الله وانتفاعهم منه وسرورهم .
الرابع : بيان الآية لقانون وهو قرب فضل الله عز وجل من الذي يغادر إلى الآخرة من المسلمين .
وأشق أحوال الفرد والجماعة حال الحرب والقتال ولمعان السيوف وجريان الدماء ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ) فمع مرتبة المسلمين في سلم الإيمان وفرض القتال عليهم بسبب إيمانهم وتصديقهم بالنبي محمد ومع ذكر هذه الآيات للثواب العظيم فان القتال مكروه وشديد عليهم ، فكيف بالذي يقاتل لمحاربة دين التوحيد .
وأختتمت آية البحث بحرز في النشأتين ، إذ أخبرت عن قانون وهو أن أهل الإيمان والتقوى في أمن من الخوف مما يأتي في قادم الأيام والأزمنة والعوالم وسلامتهم من الحزن عما فاتهم ، ليكون عوناً لهم ووسيلة لحسن التوكل على الله من غير همّ أو وهم ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) .
مفهوم الآية
ابتدأت الآية بالحال والصفة [فرحين] وهذا الإبتداء وحده إكرام عظيم للشهداء ودعوة لأهليهم للتحلي بالصبر والسلوان ، فان قلت من خصائص الآية القرآنية أن مضامينها باقية إلى يوم القيامة ، وحال ذوي الشهداء من الصبر أو الجزع ينقطع بموتهم .
والجواب تترشح معاني الصبر من آية البحث على المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة، وتبين للناس أن تضحية شهداء معركة بدر وأحد لم تذهب سدىً وفيه موعظة للناس جميعاً.
وفي قصة بني إسرائيل وأمر موسى عليه السلام بذبح بقرة لكشف القاتل ورد قوله تعالى[فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ]( ) لبيان أنها سبيل هداية للمؤمنين في كل زمان وإلى يوم القيامة، وليكون فداء الشهداء في معركة بدر وأحد موعظة للمسلمين والناس جميعاً من جهات :
الأولى : فوز الشهداء بالحياة الدائمة عند الله عز وجل .
الثانية : إقامة الحجة على الذين كفروا ونزول البلاء العاجل بهم واتعاظ الناس مما لحق بكفار قريش من الخزي والخسارة في المال والجاه والشأن إلا من أدركته رحمة الله بالتوبة والإنابة .
الثالثة : توالي فضل الله عز وجل على الشهداء وحرمان الذين كفروا في الآخرة منه .
الرابعة : دلالة آية البحث على حياة الذين قتلوا في سبيل الله عز وجل في عالم الآخرة حيث لا أذى ولا إبتلاء ظاهر أو خفي .
الخامسة : من معاني (فرحين) في آية البحث البشارة بما يلقى الذين كفروا من الأذى والضرر في الدنيا ، والعذاب في الآخرة ، ليكون من معاني قوله تعالى[أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ) أن شهداء بدر وأحد ممن إتبع رضوان الله، وأن الذين حاربوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وقتلوا طائفة من الصحابة في بدر وأحد من أئمة أهل النار .
وفي ذم آل فرعون قال تعالى[وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ]( ).
لقد أخبرت آية البحث عن إستبشار الشهداء بما رزقهم الله عز وجل من فضله وجوده وخزائن رحمته ليكون من مفاهيمها بعث الفرح في نفوس المسلمين والمسلمات وجعلهم في غاية السرور والبهجة ليس محاكاة لفرح الشهداء وحدها ،إنما يفرحون لأنفسهم وحسن عاقبتهم والثواب الذي ينتظرهم .
لقد تجلت بركة الشهداء على المسلمين في أيام حياتهم ، وفي عالم البرزخ والآخرة فكأنهم عبّدَوا طريق الأمن من الخوف للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، قال تعالى[وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ]( ).
لذا فان الآية قيدت صفة الذين يلحقون بهم بلحاظ وحدة سنخية الإيمان والغايات الحميدة التي قُتل من أجلها الشهداء ليكون من مفاهيمها : ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم من المؤمنين .
وتبين خاتمة الآية قانوناً وهو إمكان الأمن والسلامة من الحزن يوم القيامة والطريق للفوز به هو الإيمان والتقوى ، إذ لم ينحصر الأمن من الخوف والحزن بالشهداء الذين قتلوا في سبيل الله إنما يشمل المؤمنين عموماً من الأولين والآخرين ، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وإذا أنعم الله عز وجل بنعمة فانه يتفضل بالمعنى الأعم ، ولا يحصرها بخصوص طائفة أو قوم ، فلما جاءت آية البحث بخصوص شهداء بدر وأحد تفضل الله وبشّر المؤمنين عموماً.
الآية لطف
يتبادر إلى الذهن أن الذي يموت وتفارق روحه الجسد ينتقل إلى عالم العدم إلى أن يبعث الله عز وجل من في القبور ، ، ولكن الله الذي له ملك السموات والأرض أبى إلا الثناء على المؤمن ، وجزاؤه عاجلاً على خلافته في الأرض بالتقوى واستدامة عمومات قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]( ).
فأخبرت آية البحث عن طائفة من الناس يصيرون بحال فرح وغبطة حالما يفارقون الحياة الدنيا لبيان قانون وهو أن عالم الآخرة خير لهم من الحياة الدنيا التي يتناوب عليهم فيها الفرح والحزن , والسراء والضراء ، نعم لقد غادروا الدنيا بالقتل في سبيل الله وهو العنوان الذي يفتخر به أفراد وأجيال الأمة بكل طبقاتها إلى يوم القيامة ، فهم فرحون لوضع كل واحد منهم لبنة في صرح بناء دولة الإسلام .
لتكون مضامين آية البحث لطفاً من وجوه :
الأول : الآية لطف بالشهداء الذين قتلوا في معركة بدر يوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة والشهداء الذين قتلوا في معركة أحد يوم الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
ويتصف هذا الوجه من اللطف الإلهي بالتعدد في عالمه إذ يترشح على ذات الشهداء بعد مغادرتهم الدنيا ، ويأتيهم بالذكر الحسن في الحياة الدنيا .
لقد أكرم الله عز وجل الأنبياء في آيات القرآن وشهد لهم بالنبوة والمعجزة، وبيّن جهادهم في سبيل الله وإخلاصهم في طاعته، وحث المسلمين على الإقتداء بهم ، قال تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
وجاءت هذه الآيات لإكرام شهداء معركة بدر وأحد والإخبار عن فرحهم وسرورهم ، وإذ فارقوا الدنيا من غير عودة إليها فان الفرح والسرور لن يفارقهم أبداً .
إفاضات الآية
من وجوه الإختبار والإمتحان في الدنيا باب العبادات والمعاملات وتكون العبادات على وجوه :
الأول : العبادات البدنية كالصلاة والصيام .
الثاني :العبادات المالية : كالزكاة والخمس .
الثالث : العبادات البدنية المالية كحج بيت الله الحرام .
كما يمكن تقسيم العبادات تقيسماً استقرائياً آخر إلى عبادة زمانية ومكانية , وتقسيماً بلحاظ الإتحاد والتعدد في الصلة على وجوه :
الأول : العبادة التي بين العبد وبين الله عز وجل مثلا الصلاة أو الصيام، وفي الحديث القدسي عن النبي محمد صلى الله عاليه وآله وسلم (كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله عز وجل : إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ، للصائم فرحتان : فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه ، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ) ( ).
الثاني : العبادة التي تتصل وتتعلق بالآخرين كأداء الزكاة والخمس فلابد أن تعطى للمستحقين ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
وتتعلق بمضامين وضروب العبادة وصيرورتها طريقاً للسعادة والغبطة في عالم الآخرة بالإخلاص في طاعة الله .
لقد جاء القرآن بقانون بقوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ) لتتجلى مصاديق العزة هذه في الحياة الدنيا والآخرة بلحاظ أصالة الإطلاق في أحكام الآية القرآنية إلا مع الدليل الخاص على التخصيص أو التقييد.
وتتضمن آية البحث الإخبار عن حال الشهداء في الآخرة ليكون عزاً وفخراً من وجوه :
الأول : العز والفخر لذات أشخاص الشهداء .
الثاني : العز والفخر لذوي الشهداء .
الثالث : العز لعموم المؤمنين .
ومن فيوضات آية البحث عدم إنحصار موضوعها بذات الشهداء وحالهم في الآخرة إنما تضمنت الإخبار عن النعم التي تنتظر المؤمنين والمؤمنات في الآخرة ، لبيان قانون من الإرادة التكوينية وهو عدم إختصاص نعمة الفرح في الآخرة بالشهداء ، إنما هو فضل ولطف من عند الله عز وجل يشمل المؤمنين .
ويكون تقدير آية البحث : ويستبشرون بالذين يفرحون وسيفرحون ممن لم يلحقوا بهم .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار الفيوضات منه سبحانه ، وجاءت آية البحث بمعجزة في هذا الباب باخبارها عن الفيض والرحمة من الله على الشهداء لتفيض على المسلمين جميعاً .
وهل في آية البحث فيض على غير المسلمين ، الجواب نعم ، وهو من خصائص الآية القرآنية ، فكما ينزل المطر من السماء فيصيب البر والفاجر ، فان كلام الله ينزل منه تعالى لينتفع منه المسلم والكتابي وغيرهما والموجود والمعدوم ، قال تعالى[وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً]( ) .
فإن قلت قد ورد ما يدل على لحوق الضرر للظالمين بالقرآن كما في قوله تعالى[وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا]( ) .
والجواب هذا صحيح لإختيار الظالمين الجحود والعناد والإستكبار، وهو لا يتعارض مع إنتفاعهم مما يأتي للناس على نحو العموم المجموعي من بركات نزول القرآن وتلاوة المسلمين له كل يوم وليلة.
الآية بشارة
الحمد لله الذي جعل كل آية قرآنية بشارة من جهات :
الأولى : ذات الآية القرآنية ونزولها من عند الله سبحانه .
الثانية : إتصاف الآية القرآنية بأنها كلام الله عز وجل ، قال تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ]( ).
الثالثة : موضوع الآية القرآنية .
الرابعة : دلالة الآية القرآنية .
الخامسة : سلامة الآية القرآنية من التحريف والنقص أو الزيادة .
السادسة : استقراء واستنباط أسباب البشارة من الآية القرآنية .
السابعة : مجئ آيات القرآن بالبشارات الخاصة بالحياة الدنيا وعالم الآخرة .
الثامنة : منطوق آيات من القرآن بذكرها لبشارة مخصوصة ومنها آية البحث التي تتعدد فيها البشارات .
وصحيح أن هذه البشارات خاصة بالشهداء إلا أن رشحاتها عامة، ونفعها شامل للمسلمين الأحياء والأموات، فان قلت : وهل يلحق نفعها المؤمنين الذين ماتوا قيل معركة أحد ، الجواب نعم .
وفي الآية مسائل :
الأولى : إن الله عز وجل الذي له ملك السموات والأرض هو القادر على البشرى بخصوص عالم الآخرة لتتغشى المؤمنين جميعاً ، قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] ( ).
الثانية : لا يقدر على البشرى العامة إلا الله عز وجل .
الثالثة : إبتدأت بذكر فضل الله عز وجل على الشهداء بغمر الفرح والغبطة لهم، وهو شاهد على عظيم صنعه سبحانه ، وبديع قدرته وسلطانه، إذ جاء ذكر الله في آية البحث بلغة الفاعل .
الرابعة : من منافع البشارة في آية البحث حث المسلمين على الدعاء لأمور :
الأول : نزول ومجئ البشرى لهم .
الثاني : تحقيق مضامين البشرى .
الثالث : حدوث أمور تكون بشارة ومقدمات لخير محض ونصر وفتح يغيض المنافقين ، قال تعالى [الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الرابع : سؤال الإعانة لنيل البشرى والمراتب التي تؤهلهم المسلمين لها.
الخامسة : حث المسلمين على التدبر في آيات البشرى وإقتباس وإستخراج المواعظ منها، فكما أن الله عز وجل له ملك السموات والأرض فان كل بشرى هي كنز من كنوز السموات والأرض ، وهبة لا يقدر عليها غيره سبحانه ، وجعلها جلية واضحة في القرآن .
السادسة : من خصائص خلافة الإنسان في الأرض أن الله عز وجل سخّر ما في السموات وما في الأرض للناس عامة ، وللمؤمنين خاصة ، ومن الخصوص في المقام البشارة بالنصر .
السابعة : البشرى من الله حتم ولا تستطيع الخلائق ردها أو منعها أو الإنتقاص منها ، لأن ما في السموات وما في الأرض ملك لله عز وجل .
الثامنة : إبتدأت الآية بصيغة الجملة الخبرية (فرحين) لتكون شاهداً سماوياً حاضراً بين الناس إلى يوم القيامة .
التاسعة : إرادة استدامة الفرح وعدم إنحصاره في رشحات معركة أحد وهو بشارة متجددة من وجوه :
الأول : ذات البشارة بنصر المسلمين .
الثاني : الإطلاق الزماني وقرب البشارة من المسلمين في كل زمان .
الثالث : الإطلاق المكاني وحضور البشرى عند المسلمين في كل مصر من أمصار الأرض .
الرابع : يبعث الإخبار عن فرح الشهداء الفزع والخوف في قلوب الكفار لترشح البشرى من تجليات ملك الله لكل ما في السموات وما في الأرض .
الخامس : تعدد جهات مواضيع البشرى فمرة تأتي من عالم الدنيا بنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأخرى من عالم الآخرة بحياة وفرح الشهداء.
وحياة وفرح شهداء أحد بعد مفارقتهم الدنيا من مصاديق قوله تعالى [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
ويدل على هذا التعدد هذه الآية الكريمة إذ أنها تتضمن البشارة بنزول الملائكة من السماء لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
السادس : تجلي لغة القطع والحتم في آية البحث من وجوه :
الأول : لزوم تحقيق البشارة لأن الله عز وجل هو جعلها رزقاً كريماً للمؤمنين.
الثاني : بعث السكينة والطمأنينة في قلوب المسلمين .
الثالث : نزول النصر على المؤمنين من عند الله عز وجل وفي التنزيل[وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).
الرابع : الصلة والتقارب والتداخل بين السموات والأرض، وتسخير الصلة بين السماء والأرض لنفع المؤمنين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجذب الناس للإيمان .
الخامس : مجئ قوله تعالى [فرحين] بصيغة الماضي لإفادة القطع والحتم.
السادس : دعوة الناس جميعاً للإنتفاع من نعمة البشارة النازلة من السماء بدخول الإسلام .
السابع : موضوع الآية هو عروج أرواح الشهداء إلى السماء التي هي ملك طلق لله عز وجل لتكون بشارة للأجيال المتعاقبة من الناس لأن البشارة تتضمن تثبيت التوحيد في الأرض بمدد من السماء ، وهو من خصائص إلتقاء السماء والأرض بالملكية لله عز وجل .
الثامن : تنفي آية البحث وجود الشريك لله عز وجل في ملكه وسلطانه، فهو الذي ينزل الملائكة من السماء لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، ويبشرهم بنزول المدد بآيات قرآنية نازلة من عند الله، ويأذن لأرواح الشهداء بالعروج من السماء.
وقد عرج بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته كما في قوله تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] ( ).
الآية إنذار
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وإختبار، ومن رحمته وكرمه أنه أبى أن يترك الإنسان بمفرده أو الجماعات والأمم المتعددة يواجهون ضروب الإبتلاء ، إنما أنعم على الناس بالكتب السماوية المنزلة وبعث الأنبياء بالمعجزات الحسية الباهرات التي تجذب العقول والقلوب والجوارح مثل معجزة الناقة لنبي الله صالح عليه السلام ومعجزة السفينة لنوح ، ومعجزة العصا لموسى عليه السلام، ومعجزة إحياء الموتى، وشفاء الأمراض المزمنة لعيسى عليه السلام كما في التنزيل[وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
وكل معجزة تدل بالدلالة الإلتزامية على الإنذار والوعيد لمن يجحد بها، ثم تفضل وأنزل القرآن كل آية منه معجزة عقلية تتضمن في دلالتها الوعد والوعيد ، الوعد لأهل الإيمان، والوعيد للذين كفروا والمنافقين، ومنه آية البحث من جهات :
الأولى : دلالة آية البحث على وجود حياة بعد الموت .
الثانية : إتصاف الحياة في العالم الآخر بأنها جزاء من عند الله عز وجل، وفيه إنذار للذين كفروا وجحدوا بالنبوات .
الثالثة : زجر الناس عن محاربة النبوة والتنزيل ومنعهم من إعانة رؤساء الكفر على قتال المؤمنين ، فلو تخلى عامة الناس عنهم لما تجرأوا على التعدي والعدوان .
وفي معركة أحد زحف ثلاثة آلاف رجل من مكة إلى المدينة المنورة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يكن الآمر بالقتال منهم إلا نفراً قليلاً لا يتعدون عدد الأصابع ويعرفون باسمائهم إلى يومنا هذا ، وكانوا يحرضون أهل مكة والقبائل المحيطة، ويغرون الشعراء وغيرهم بالأموال والوعود من أجل بعث الهمم والخروج لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار .
ويتجلى الإنذار في آية البحث من وجوه :
الأول : إنذار الذين نافقوا من لوم شهداء معركة أحد على تضحيتهم بأنفسهم ، كما ورد حكاية عنهم في التنزيل[لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ).
الثاني : إنذار المنافقين والذين كفروا عن القول بأن الشهداء أموات، وقد ورد في الآية السابقة خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا]( ).
الثالث : إنذار الكافرين وزجرهم عن محاربة المسلمين لأن الذي يقتل من المسلمين يكون حياً في الآخرة .
الرابع : إنذار الناس من محاربة المؤمنين لأنهم مستعدون للتضحية في سبيل الله ، ومن خصائص الإنسان أنه يحب الحياة ويسعى لإطالة عمره ودفع الآفات والدرن عنه، وعن ذويه مع التسليم بأن بقاءه في الحياة الدنيا قصير .
وجاءت آية البحث بمعجزة وقانون من الإرادة التكوينية والتشريعية لا يقدر عليه إلا الله عز وجل وهو أن الذي يُقتل في سبيله من المؤمنين تعاد له الحياة من حين مفارقة روحه الجسد.
ولا يقدر على هذه الإعادة إلا الله عز وجل .
وفيه إنذار للذين كفروا والذين نافقوا بأن الدار الآخرة دار الفضل الإلهي والرزق الكريم من الله عز وجل .
الآية موعظة
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا موعظة سواء بذاتها أو بالوقائع والحوادث التي تقع فيها وأبى الله عز وجل إلا أن يجعل المسلمين في مائز ومرتبة أسمى في تعدد وزيادة وتكرار الموعظة عليهم ، فتفضل وجعل كل آية قرآنية موعظة وتحتمل وجوهاً :
الأول : الآية القرآنية موعظة متحدة .
الثاني : الآية القرآنية موعظة متعددة .
الثالث : من الآيات القرآنية ما هي موعظة متحدة ومنها موعظة متعددة.
والصحيح هو الأول أعلاه ، وكل آية مدرسة حاضرة في الموعظة ، كما يمكن تقسيم الآية القرآنية على وجوه :
الأول : الآية القرآنية موعظة في منطوقها .
الثاني : الآية القرآنية موعظة في مفهومها .
الثالث : الآية القرآنية موعظة في منطوقها ومفهومها .
والصحيح الوجه الأخير أعلاه .
ومن إعجاز الآية القرآنية الغيري تجدد اقتباس واستقراء الموعظة منها من قبل كل انسان سواء كان قارئاً أو مستحقاً ، وفي كل زمان ومكان ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) بتقدير : وما أرسلناك إلا بآيات القرآن موعظة للناس .
الآية رحمة
من خصائص كلام الله بعثه السكينة والطمأنينة في النفوس ودعوة الناس للتدبر في مضامينه والتفكر بماهية الحياة الدنيا ، ولزوم أخذ المواعظ والعبر منها ، ومنها موضوع آية البحث هو قتل نفر من المؤمنين ونالوا صفة القتل في سبيل الله ، كما في الآية السابقة، وفيه مسائل :
الأولى : بيان قانون وهو أن ذات القتال في سبيل الله مرتبة إيمانية رفيعة .
الثانية : بيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مسالك الإيمان وجذبه الناس إلى الإسلام ، وبعث فريق منهم للقتال في سبيل الله ، ولولا نبوته لما اسلم المهاجرون والأنصار وخرجوا لقتال المشركين .
الثالثة : إخبار الآية السابقة وآية البحث عن الجزاء العظيم الذي فاز به الشهداء ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن خصائص هذا الجزاء أنه متعدد .
الرابعة : دلالة آية البحث على قانون وهو أن القتل في سبيل الله رحمة من عند الله عز وجل [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ).
ولا يتعارض هذا المعنى مع إمكان فوز المسلم والمسلمين بذات المرتبة بالدعاء وعمل الصالحات والمسارعة إلى فعل الخيرات .
الخامسة : بذل نفر من المسلمين أرواحهم في سبيل الله رحمة بالمسلمين والمسلمات جميعاً لأمور :
الأول : سلامة النهج .
الثاني : حسن العاقبة .
الثالث : صيرورة الشهداء أسوة حسنة لعموم المسلمين .
الرابع : ترشح الرحمة والفضل الإلهي على عموم المسلمين والمسلمات بسبب قتل نفر منهم في سبيل الله في معركة بدر ومعركة أحد .
لقد ذكرت آية البحث فضل الله على الشهداء والذي هو جزء علة لفرحهم ، وبين رحمة وفضل الله عموم وخصوص مطلق، فالرحمة هي الأعم والأوسع ، لبيان قانون وهو أن فضل الله الذي يأتي للشهداء إنما هو رحمة من الله عليهم وعلى المؤمنين.
إن قوله تعالى[أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ) الذي أختتمت به آية البحث رحمة من عند الله عز وجل بكل من:
الأول : الذين قتلوا في سبيل الله .
الثاني : الذين ماتوا على الإسلام ، قال تعالى[وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
الثالث : الأحياء من المسلمين والمسلمات .
الرابع : المسلمون والمسلمات الذين لم يولدوا بعد إذ تنتظرهم البشارات بالأمن من الفزع والخوف في الآخرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) .
وإعجاز الآية القرآنية بأن تفيض بالرحمة على أولئك الذين غادروا الدنيا والذين يعيشون فيها والذين لم يولدوا بعد ، وفيه دعوة للناس لإصلاح أنفسهم وإختيار الهداية والرشاد .
الحاجة إلى آية البحث
من المسلمات أن الناس يحتاجون إلى التنزيل لأنه صلة بين الله وبين العباد ، وتتقوم به الخلافة في الأرض .
وتتعلق مضامين آية البحث بحال شهداء بدر وأحد بعد قتلهم إذ تبدأ الآية بقوله تعالى (فرحين) لتكون الحاجة إلى هذه الآية على وجوه :
الأول : حاجة المهاجرين والأنصار لبيان النعم الإلهية التي صار إليها الشهداء .
الثاني : أسرى وعوائل الشهداء بلحاظ أن آية البحث مواساة لهم ووسيلة سماوية لطرد الحزن والكآبة عن نفوسهم .
الثالث : آية البحث زاجر للذين نافقوا إذ قالوا [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( )
فأخبرت آية البحث بأت قتلهم نوع طريق للخلود في النعيم ، ومن خصائص الحياة الدنيا أنها دار امتحان وإبتلاء يأتي الفرح فيها للإنسان على نحو عرضي ويداهمه الحزن والأذى .
وقد ثبت في علم الفلسفة عدم إجتماع الضدين ، ولكنه قد يجتمع الفرح والحزن عند الإنسان في محل واحد ، وأن تباينت الجهة وعلة كل من الفرح والحزن .
أما الدار الآخرة فليس فيها برزخ بين الفرح والحزن أو فرد جامع لها ، فان قلت أن يكون الإنسان فرحاً بايمانه وعمله الصالح ، وأما أن يكون شقياً كئيباً باختياره الكفر والجحود ، قال تعالى [وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ]( ).
الآية حرب على النفاق
من خصائص الحياة الدنيا عموم الإبتلاء فيها ، وحتى الأنبياء لا يسلمون من الأذى والإبتلاء فيها ، وليس من حصر لوجوه الإبتلاء في الدنيا ، وهو على وجوه :
الأول : الإبتلاء العام .
الثاني : الإبتلاء الخاص .
الثالث : ما يكون بلاء مستديماً .
الرابع : ما يطرأ من ضروب الإبتلاء .
الخامس : الإبتلاء المتوقع .
السادس : الإبتلاء الذي ليس بالحسبان , وقد أبتلي المسلمون في المدينة بظهور فئة يظهرون الإيمان بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وما أنزل من القرآن ، ويخفون الكفر ومفاهيم الضلالة ، فهم يحضرون صلاة الجماعة ويجلسون تحت منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويخالطون المسلمين في المسجد والسوق ، ولكنهم يجادلون في القرآن [وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا] ( ) ويودون لحوق الضرر بالمسلمين ، وعندما يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للقاء العدو يود المنافقون أن يعودوا إلى المدينة منهزمين ، حتى المنافقين الذين يخرجون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يودون الهزيمة لهم .
عن (جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ
أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَمَعَهُ نَاضِحَانِ لَهُ وَقَدْ جَنَحَتْ الشَّمْسُ وَمُعَاذٌ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ فَدَخَلَ مَعَهُ الصَّلَاةَ فَاسْتَفْتَحَ مُعَاذٌ الْبَقَرَةَ أَوْ النِّسَاءَ مُحَارِبٌ الَّذِي يَشُكُّ فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلُ ذَلِكَ صَلَّى ثُمَّ خَرَجَ قَالَ فَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذًا نَالَ مِنْهُ قَالَ حَجَّاجٌ يَنَالُ مِنْهُ قَالَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَالَ : أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ يَا مُعَاذُ أَوْ فَاتِنٌ فَاتِنٌ فَاتِنٌ وَقَالَ حَجَّاجٌ أَفَاتِنٌ أَفَاتِنٌ أَفَاتِنٌ فَلَوْلَا قَرَأْتَ سَبِّحْ اسم رَبِّكَ الْأَعْلَى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا فَصَلَّى وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَذُو الْحَاجَةِ وَالضَّعِيفُ) ( ).
لقد نال معاذ من هذا الأنصاري مع حاجته للإنتفاع من الوقت ، وقاعدة لا ضرر ولا ضرار وقاعدة نفي الحرج في الدين حاكمة في المقام لتأتي السنة النبوية وتبين نوراً وصراطاً يهتدي بنوره المسلمون في كيفية صلاتهم سواء صلاة الجماعة أو صلاة المنفرد .
وقد نال بعضهم قبل معاذ من هذا الأنصاري بأن رماه بالنفاق , ولا دليل على هذا المعنى ، فقد كان النفاق داءّ بغيضاً يتمثل باخفاء الكفر وظهوره طوعاً وانطباقاً وقهراً في مناسبات خاصة عند إصابة المسلمين بحال الضراء والبأساء والشدة ، قال تعالى [لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابن السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ] ( ) .
ومن إعجاز القرآن أن كل ثناء على المؤمنين فيه هو ذم للذين نافقوا ، وكذا فان كل ذم للذين نافقوا أو الكافرين , هو مدح وثناء للمؤمنين والمؤمنات إلى جانب قانون وهو أن نظم آيات القرآن موعظة ومدرسة في إصلاح النفوس وتهذيب المجتمعات وإزاحة جاثوم النفاق عن الصدور ، ومنه سياق هذه الآيات إذ جاءت الآيتان قبل السابقة في بيان قبح فعل الذين نافقوا وسعيهم في الإضرار بالإسلام .
ليكون سياق ونظم آيات القرآن عوناً وتعضيداً لذات الآية التي تذم المنافقين .
ويمتاز الشهداء بخصوصية وهي أن فرحهم مترشح عن قتلهم مخلصي النوايا في رضوان الله , ومفارقة أرواحهم الأجساد وهم بحال التقوى فأبدلها الله بجزاء وهو وفق الصناعة النحوية حال وهو فرحين ، فلا ينتظرون يوم الحساب والجزاء ، إذ أن قوله تعالى (فرحين) أي من حين مغادرتهم الدنيا .
ثم بينت الآية علة هذا الفرح بقوله تعالى [بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] ( ) وهل يختص هذا الفضل بما يأتي للشهداء حينئذ أم أنه أعم , فيه وجوه :
الأول : فرحين باختيارهم الإيمان والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : فرحين بما رزقهم الله من القتل في سبيله .
الثالث : فرحين بعودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سالماً من معركة أحد وأن كان مثقلاً بالجراحات والقروح ، إذ كسرت رباعيته أي أسنانه الأمامية وسالت الدماء من وجنته , ولم ينقطع الدم إلا بعد أن قامت فاطمة الزهراء عليها السلام بحرق قطعة من حصير ثم جعلت الرماد في الجرح .
لتكون هذه الجراحات شاهداً على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كان الإمام في المعركة وأنه لم يغادر وسط الميدان ، وهل كان عدم مغادرته وسط الميدان مع فرار أكثر أصحابه سبباً لرجوعهم للميدان وعدم تحقيق هزيمة المسلمين ، الجواب نعم .
ومن الآيات أن ثباته في موضعه كان من الوحي لعمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) فان قلت قد ذكرت الآية أعلاه النطق ولم تذكر الفعل .
والجواب جاء النطق من باب المثال الأمثل ، وتأكيد قانون وهو أن السنة القولية شعبة من الوحي ، والنطق مرآة للعمل بلحاظ التوافق والإتحاد بين قول وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم , إلى جانب الأولوية بخصوص العمل , فاذا كان قول النبي من الوحي فكذا فعله , ولبيان موضوعية القرآن وتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له .
وتحتمل جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ عنوان هذا الباب وجوهاً :
الأول : هذه الجراحات دعوة للذين نافقوا للتوبة والإنابة .
الثاني : ليس من صلة وإتحاد في الموضوع بين جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين مسألة النفاق ومحاربته .
الثالث : ما أصاب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من الجراحات حرب على النفاق .
والصحيح هو الوجه الأخير أعلاه ، وتلك آية في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن صار الأذى الذي لحقه في بدنه جهاداً ضد الأخلاق المذمومة ومفاهيم الضلالة التي تجلب لصاحبها الضرر في النشأتين ، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) ( ) .
لقد أخبرت آية البحث عن حال الإستبشار التي عليها الشهداء في الآخرة ، مع بيانها لموضوعه وهو لحوق المؤمنين بهم ، وسيأتي في الآية التالية الإخبار عن استبشارهم بنعمة من الله عز وجل .
ومن مفاهيم هذا الإستبشار تبكيت الذين نافقوا من جهات :
الأولى : بيان الآية لعظيم منزلة المؤمنين .
الثانية : تعقب الإستبشار للقتل في سبيل الله .
الثالثة : تأكيد حرمان الذين نافقوا من استبشار الشهداء بهم , وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : ويستبشرون بالذين تنزهوا عن النفاق .
الثاني : ويستبشرون بالذين أمروا بالإيمان ونهوا عن إبطان الكفر .
الثالث : ويستبشرون بالذين حاربوا النفاق .
فمن الآيات في المقام مجئ مصاديق الحرب على النفاق من كل من :
أولاً : الآيات القرآنية النازلة من السماء .
ثانياً : السنة النبوية .
ثالثاً : تلاوة المسلمين لآيات القرآن .
رابعاً : جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار للمنافقين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
خامساً : البشارة للمؤمنين بالفرح والغبطة في الآخرة .
سادساً : وقاية المؤمنين في الآخرة من الخوف والوجل مما يأتي من أهوال الآخرة .
سابعاً : سلامة المؤمنين في الآخرة من الحزن عما فاتهم , وقد أنعم عليهم بالسلامة منه في الدنيا , كما في قوله تعالى[لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ]( ).
ثناء الله على نفسه في آية البحث
لقد نزلت آية البحث وهي تبدأ بقوله تعالى (فرحين ) وفيه ثناء على الله عز وجل من جهات :
الأولى : لا يقدر على جعل الذين غادروا الدنيا بحال من الفرح والغبطة إلا الله عز وجل .
الثانية : دلالة آية البحث على سلامة الشهداء من الندامة والغيظ .
الثالثة : لما آخى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار فان الله عز وجل أنعم عليهم بما هو أكبر وأعظم إذ جعلهم فرحين في دار الخلود .
الرابعة : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة ، ليفوز شهداء معركة أحد بأبهى وأحسن زراعة ، إذ أينع ما زرعوه من حين ما بذروه وغرسوه وسقوه بدمائهم الطاهرة بأن فازوا بالحياة الأبدية عند الله ، ونعمة الفرح والسرور بفضل ولطف من عند الله عز وجل .
ومن خصائص النعمة الإلهية وجوه :
الأول : السعة والإستدامة .
الثاني : تجلي قانون من ماهية النعمة الإلهية وهو عجز الخلائق عن تحقيق وتنجز معشارها .
الثالث : ترشح وتفرع النعم عن النعمة الإلهية ، وهل يمكن القول بقانون وهو أن كل نعمة فرعية هي أقل من النعمة الأصلية أو أن النعمة الأصلية هي أكبر من الفرعية ، الجواب لا دليل على هذا القانون ، وقد تكون النعمة الفرعية أكبر من الأصلية أو أن عدة نعم فرعية كل واحدة منها أكبر من النعمة الأصلية , وكل نعمة من عند الله كبيرة بذاتها ومقارنتها بغيرها , وفي التنزيل[وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً]( ).
الرابعة : كل نعمة من عند الله نوع طريق للهداية والإيمان وهي حجة على الذين كفروا والمنافقين .
ولم تقف النعم الإلهية في آية البحث بفرح الذين قتلوا في سبيل الله عنده سبحانه ، إذ أثنى الله عز وجل على نفسه وبيّن قانوناً وهو أن هذا الفرح معلول لعلة وهو فضل الله , وهو على وجوه :
الأول :صيرورة الشهداء في حال بهجة وغبطة .
الثاني : عدم وجود فترة بين قتل الشهداء وبين تغشي الفرح لهم .
الثالث : بعث السكينة في نفوس المسلمين والمسلمات بنزول آية البحث .
وتبين آية البحث استبشار وسرور الشهداء بأمر لم يحدث بعد وهو مجئ أصحابهم من بعدهم إلى دار النعيم في الآخرة , وهو نعمة عظمى على كل من :
الأول : إنه نعمة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا] ( ).
الثاني : إرادة الفضل على شهداء معركة أحد ، جزاء لهم على التضحية والفداء بأنفسهم .
الثالث : دعوة الناس لدخول الإسلام لبيان الآية لقوانين متعددة :
الأول : وجود حياة بعد الموت .
الثاني : عدم وجود فترة بين قتل شهداء أحد وبين حياتهم في الآخرة .
الثالث : من فضل الله عز وجل على الذين قتلوا في سبيله فوزهم بالفرح والسرور في الآخرة مع الحياة .
الرابع : إجتماع الفرح والإستبشار عند الشهداء في الآخرة .
الخامس : حرمان المنافقين أنفسهم من نعمة الفرح في الدنيا والآخرة .
أما في الدنيا فان الحسد يملأ صدورهم ، قال تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] ( ) وأما في الآخرة فان القرآن أخبر بأنهم في الدرك الأسفل من النار .
الصلة بين أول وآخر آية البحث
إبتدأت آية البحث بقوله تعالى (فرحين) والمراد تغشي الفرح والبهجة المؤمنين الذين قتلوا في معركة أحد ، وعددهم سبعون .
لقد كانت مصيبة عظمى ألمت بالمسلمين والمسلمات يومئذ خاصة مع كونه خلاف أصل الإستصحاب والتبادر، أما الإستصحاب فللنصر العظيم للمسلمين يوم معركة بدر وظفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأعدائه يومئذ ، ودخول سبعين أسيراً من المشركين بين يديه إلى المدينة المنورة مع الغنائم الكثيرة ، ثم توالت وفود قريش على المدينة لفكاك الأسرى ودفع الأموال الطائلة عوضاً عن بقائهم في الأسر ، ومنهم من أراد إغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بذريعة مجيئه لفكاك أسر ابنه، ولكن الله عز وجل أطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذا الكيد ، قال تعالى[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وهل هذا الإطلاع من مصاديق قوله تعالى [فرحين] أم أن القدر المتيقن من آية البحث هو فرح الشهداء بما يتنعمون به من فضل الله ، الجواب هو الأول، ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : فرحين بسلامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : فرحين بفضل الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : فرحين بإخبار الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمن يريد به كيداً .
الرابع : فرحين بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم سيلحق بهم وفي التنزيل[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ]( ).
لقد وردت آية البحث بصيغة الجمع ، وهي إنحلالية ، والتقدير بالنسبة لكل واحد من الشهداء على وجوه :
الأول : فرح الشهيد بما آتاه الله من فضله .
الثاني : فرح الشهيد بما آتاهم الله من فضله مجتمعين .
الثالث : فرح الشهيد بما آتى الله اخوانه الشهداء من فضله .
الرابع : فرح الشهيد بما آتى الله رسوله من فضله .
الخامس : فرح الشهيد بما يؤتي الله المؤمنين من فضله .
لقد إبتدأت آية البحث بما يبعث البهجة في النفوس ويزيح عن المؤمن أسباب الخشية من الله لما فيها من البشارة ، وكأن الآية تخاطب المسلمين والمسلمات من وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا لا تندمون إذا غادرتم الدنيا .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا اخوانكم الذين سبقوكم إلى عالم البرزخ ينتظرون قدومكم .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا اشكروا الله على حسن العاقبة وختم أحدكم أعماله في الدنيا بفعل الصالحات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن الأمر بالمعروف الحث على الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام وهو الذي يتجلى بقوله تعالى قبل ثلاث آيات في ذم المنافقين [وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ] ( ).
ومن النهي عن المنكر في المقام وجوه :
الأول : زجر الذين كفروا عن مواصلة قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
الثاني : إنذار الذين نافقوا من بث السموم والشكوك والسعي لصد الذين آمنوا عن القتال .
الثالث : منع المنافقين من إتخاذ كثرة قتلى المسلمين موضوعاً للشحن والتحريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام .
لقد أخبرت آية البحث عن إستبشار وغبطة الشهداء بإخوانهم المؤمنين الذين كتب الله لهم النجاة يوم معركة أحد، ولم تذكر الآية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص لإرادة أخوّته في الآخرة للمؤمنين , وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : ويستبشرون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم يلحق بهم من خلفهم.
الثاني : ويستبشرون بالبدريين والأحديين الذين لم يلحقوا بهم فأخلفهم.
الثالث : ويستبشرون بالمؤمنين مطلقاً , وكل ما هو آت فهو قريب .
الرابع : ويستبشرون بالمؤمنات اللائي لم يلحقن بهم، ثم أختتمت آية البحث بقانون وهو أن الشهداء في مأمن من الخوف والحزن من حين مفارقتهم الدنيا، وفي أوان وساعة نزول آية البحث وما بعدها على نحو التأبيد .
التفسير
قوله تعالى [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ]
إبتدأت آية البحث ببيان حال الشهداء في الآخرة ، وذكرت أنهم في غاية الفرح والسعادة لبيان أن الإنسان يحتاج السكينة والطمأنينة في الآخرة فرزق الله عز وجل الشهداء ما هو أسمى وأعظم منها وهو الفرح والغبطة لبيان قانون وهو أمن الشهداء من الفزع والحزن على ما فاتهم في الدنيا أو الخوف مما ينتظر الناس من شدة الحساب وإحتمال العذاب الأليم .
وقد ورد الفرح في القرآن بخصوص الدنيا بمعنى متباين ومتضاد من جهتين :
الأولى : الفرح المحمود الذي يترشح عن الشكر لله عز وجل على فضله وإحسانه قال سبحانه [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ) إذ يدرك المؤمن تعدد النعم من عند الله عز وجل عليه في شخصه وبدنه وعاقبته ورزقه وهدايته للإسلام وفعل الخيرات .
الثانية : الفرح المذموم الذي يدل على البطر ويؤدي إلى الغرور والغفلة عن أداء الواجبات العبادية.
ويقال في المثل : أيام السرور قصار وأيام الهموم طوال، أي سرعان ما ينقضي اليوم الذي يكون فيه صاحبه في سعادة وغبطة، بينما يكون يوم الهم والحزن على الإنسان طويلاً .
لبيان أن الزمان يمر سريعاً على الشهداء لأنهم في غبطة وسعادة دائمة .
وقد ذكرت آية البحث غبطة وسعادة الشهداء مع بيان علتها وسببها وهو فضل الله عز وجل عليهم ، فهل يشمل هذا الفضل ما ينعم به الله عز وجل على أهل وعوائل الشهداء وإخوانهم الذين آخاهم معهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل معركة بدر وأحد .
فمثلاً آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين مصعب بن عمير وأبي أيوب خالد بن زيد .
وآخى بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف , واستشهد الربيع يوم أحد .
وآخى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين خارجة بن زيد بن أبي زهير الخزرجي الأنصاري وبين أبي بكر الصديق , وشهد خارجة بيعة العقبة الثانية في مكة ، وحضر معركة بدر ، وفي معركة أحد أصابه رمح ، فمرّ به صفوان بن أمية بن خلف، فعرفه فاجهز عليه فقتله ، ثم مثّل به .
(وقال هذا ممن أغرى بأبي علي يوم بدر – يعني أباه أمية بن خلف وكان أمية بن خلف الجمحي والد صفوان يكنى أبا علي بإبنه علي وقتل معه يوم بدر)( ).
ولم يكن مع أمية وابنه علي اللذين قتلا يوم بدر أحد من المشركين فكيف علم ابنه صفوان أن خارجة أغرى بأبيه، إلا أن يكون بعض الأسرى حاضراً .
لقد كان الصحابة يفتخرون بتعاضدهم وجهادهم في يوم بدر وأحد.
وكان أمية بن خلف وهو في مكة وقبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يخرج بلالاً إذا حميت الظهيرة ويطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة توضع على صلبه ويأمره أن يكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأن يعبد اللات والعزى لأن بلالاً كان عبداً عنده فيجيبه بلال : أحد أحد ، وسلّموه إلى الصبيان (فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد)( ) .
ومرّ عبد الرحمن بن عوف يوم معركة بدر بأمية بن خلف ومعه ابنه، وكانت بينهما صحبة في مكة فناداه أمية بن خلف(قال عبد عمرو فلم يجبه عبد الرحمن قال يا عبد الاله فقال نعم فقال أنا خير لك من هذه الدرع التي معك فقال عبد الرحمن نعم والله هو الله إذا .
فطرح عبد الرحمن الدرع وأخذ بيده ويد ابنه فقال له أمية بن خلف يا عبد الاله من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره قال ذلك حمزة بن عبد المطلب فقال الذي فعل بنا الافاعيل فبينما عبد الرحمن يقودهما إذ رآهما بلال فقال رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا فقال عبد الرحمن أي بلال أسيرى .
فقال لا نجوت إن نجا , فقال عبد الرحمن أتسمع يا ابن السوداء قال لا نجوت إن نجا ثم صرخ بأعلى صوته يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجا .
فأحاط به المسلمون وعبد الرحمن يذب عنه فخالف رجل بالسيف فضرب رجل ابنه فوقع فقال عبد الرحمن أنج بنفسك فو الله ما أغنى عنك شيئا فعلاهم المسلمون بأسيافهم حتى فرغوا منهما فكان عبد الرحمن يقول بعد ذلك يرحم الله بلالا أذهب أدرعي وفجعني بأسيرى)( ).
وقد قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عم صفوان وهو أبي بن خلف في معركة أحد فخدشه خدشاً خفيفاً ومات من جرحه .
وهرب صفوان يوم الفتح من مكة ، وفيه يقول أحد مشركي مكة مخاطباً امرأة
(إنك لو شهدت يوم الخندمة … إذ فر صفوان وفر عكرمة .
واستقبلتنا بالسيوف المسلمة … يقطعن كل ساعد وجمجمة
ضرباً فلا تسمع إلا غمغمة … لهم نبيب خلفنا وهمهمه
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه)( ).
ترى هل تستمر أخوة الشهداء مع الذين عينهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخوة لهم أم أنها تنقطع بساحة الشهادة ، المختار هو الأول ليكون من معاني قوله تعالى [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ]وجوه :
الأول : من مصاديق فرح الشهداء تفضل الله سبحانه بالوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤاخاة التي هي من معاني الإيمان والرفق والرأفة .
الثاني : يفرح الشهداء لحسن منزلة إخوتهم في الدنيا .
الثالث : يتطلع الشهداء إلى لحوق إخوتهم بهم .
الرابع : يفرح الشهداء لأنهم غادروا إخوانهم بالقتل في سبيل الله .
وهل يجوز تقدير آية البحث : فرحين بما آتاهم الله في الدنيا والآخرة من فضله ، أم أن القدر المتيقن في الآية هو نعم وفضل الله عز وجل على الشهداء في الآخرة ، ومن حين مفارقة أرواحهم الأجساد .
المختار هو الأول ، وهو من الإعجاز في صيغة الفعل الماضي في قوله تعالى [بِمَا آتَاهُمْ]، ويمكن تقسيم فضل الله في المقام إلى أقسام :
الأول : فضل الله على الشهداء في الدنيا .
الثاني : فضل الله عز وجل على الشهداء في عالم البرزخ .
الثالث : فضل الله عز وجل على الشهداء يوم القيامة .
وليس من حد أو منتهى لمصاديق أي قسم من الأقسام أعلاه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) بلحاظ أن نعم الله عز وجل على الناس في الدنيا عامة تصيب المؤمن والكافر أما نعمه في الآخرة فهي خاصة بالمؤمنين .
ومن مصاديق القسم الأول أعلاه التي يفرح بها المؤمنون عند ربهم وجوه :
الأول : الخلق والنشأة لأنها نعمة عظمى على الإنسان .
الثاني : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمعجزات التي جاء بها فلم يتم هذا التصديق إلا بفضل من الله .
الرابع : صحبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لخامس : تلقي آيات القرآن من فيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : رؤية المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منها أنه سقى أهل الصفة ويبلغ عددهم نحو سبعين بقدح واحد من الحليب ومنها إنشقاق القمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد سؤال أهل مكة له آية حسية ليؤمنوا بنبوته ، قال تعالى [اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ] ( ) .
ومنها سلام الحجر على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة ، ليكون بشارة ومقدمة للنبوة.
(عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن) ( ).
السادس : الخروج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ميادين القتال لأن هذا الخروج نعمة عظمى وتوفيق وهداية خاصة مع وجود طائفة من الناس في المدينة تتعمد القعود وعدم النصرة ، كما ورد قبل آيتين بخصوص ذم المنافقين بقوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ) .
السابع : نيل مرتبة الإيمان بالخروج مع النبي إلى معركة أحد لقوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) لبيان قانون وهو أن الشهداء قتلوا وهم مؤمنون ، وغادروا الدنيا من عند رسول الله وأصحاب مؤمنين ، إذ يتغشى وصف الإيمان في الآية أعلاه جميع الذين خرجوا إلى معركة أحد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : خوض القتال في ملاقاة المشركين في معركة أحد .
لقد بدأت معركة أحد بنصر سريع للمسلمين ، ولكن ترك الرماة مواضعهم سبّب مجئ خيالة المشركين من وراء ظهور جيش المسلمين[لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً]( ).
وتبين آية البحث قوانين متعددة :
الأول : قانون فرح وسعادة الشهداء بعد مفارقتهم الدنيا .
الثاني : الفرح عرض لازم مصاحب للشهداء في الآخرة ، فكما في لون بشرة الإنسان في الدنيا وكيف أنه يصاحبه إلى أن يموت فكذا بالنسبة لفرح الشهداء في الآخرة فانه عرض مصاحب لهم ، وهو فضل من الله عز وجل إلا أن يظهر دواء وعلاج يتحكم بتبديل لون البشرة حسب الطلب سواء على نحو الموجبة الجزئية كبشرة الوجه أو الساق أو الموجبة الكلية ولعدة مرات في العمر , وليس من دأب المحصلين الجدال في الأمثال .
وفي علم المنطق يكون الفرح عرضاً مفارقاً , وليس ملازماً ومصاحباً فهو أثر ورشحة لما يطرأ على الإنسان من الخير وأسباب السعادة ، ويقابله الحزن .
أما الفرح في الآخرة فهو عرض ملازم وصفة دائمة للمؤمنين عامة والذين قتلوا في سبيل الله خاصة ، وبينهما عموم وخصوص مطلق ، ففرح الذين قتلوا في سبيل الله أعم موضوعاً وزماناً إذ أنه يبدأ من حين القتل ، ومن المؤمنين من تبدأ سعادته وفرحه من يوم الحشر أو ما بعده ، لذا أختتمت آية البحث بقوله تعالى [أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ].
الثالث: نجاة الشهداء من الفزع يوم النفخ في الصور (عن قتادة في قوله { ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون} قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول : تهيج الساعة الناس والرجل يسقي ماشيته، والرجل يصلح حوضه، والرجل يقيم سلعته في سوقه ، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه، فتهيج بهم وهم كذلك {فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون}( ) قال : اعجلوا عن ذلك)( ).
أما الشهداء فأنهم استعجلوا باختيارهم طواعية لقاء الله ففازوا بالحياة الأبدية عنده .
ومع مجي آية البحث والآية التالية في بيان حال الشهداء عند الله والنعم التي تتغشاهم في عالم البرزخ ومدة ما بين قتلهم وأوان النفخ في الصور وبعث الناس من القبور ، قال تعالى [وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ] ( ) .
ليكون الشهداء من الذين ينجون من الصعقة ، بدليل ذكر رسول الله لهم على نحو التعيين في خصوص الإستثناء في الآية أعلاه ، إذ قام بسؤال جبرئيل عن الآية أعلاه :
يا جبرئيل (من الذين لم يشإ الله أن يصعقهم؟ .
قال : هم الشهداء مقلدون باسيافهم حول عرشه ، تتلقاهم الملائكة عليهم السلام يوم القيامة إلى المحشر بنجائب من ياقوت ، أزمتها الدر برحائل السندس والإستبرق ، نمارها ألين من الحرير ، مدَّ خطاها مدَّ أبصار الرجل ، يسيرون في الجنة يقولون عند طول البرهة؛ انطلقوا بنا إلى ربنا ننظر كيف يقضي بين خلقه؟ يضحك اليهم إلهي ، وإذا ضحك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه) ( ).
ومن أسرار إنفراد لفظ [فرحين] بصيغة جمع المذكر السالم في آية البحث والآية التالية وبيانهما لحال النعيم التي عليها الشهداء يومئذ ، أن هيئة الفرح التام مستقرة عند الشهداء ، ولكن الله عز وجل لا يرضى أن تقف نعمه عليهم وعلى العباد بالحال المستقر إنما يتفضل الله عز وجل بنعم إضافية متجددة , ومنها الإستبشار المتعدد بالنعم المتوالية إذ ورد لفظ [يَسْتَبْشِرُونَ] في آية البحث والآية التالية .
لقد ذكرت آية البحث إتصاف شهداء معركة بدر وأحد بالفرح والسرور عند مغادرتهم الدنيا ، وفيه وجوه :
الأول : إرادة أوان القتل ، وزهوق الروح .
الثاني : انبساط حال الفرح لدى الشهداء مدة عالم البرزخ والقبر .
الثالث : اتصال واستمرار ذات حال الفرح في مواطن يوم القيامة حتى إذا سأل الناس عن سبب فرحهم في يوم الفزع يقال أنهم شهداء معركة بدر وأحد والخندق وحنين ونحوها .
الرابع : ازدياد فرح الشهداء يوم القيامة .
والصحيح هو الثالث والرابع أعلاه ، قال تعالى[لاَ يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ]( ).
ويكون من مصاديق قوله تعالى[فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ] أن الشهداء يفرحون بأنهم عبدوا الله أسمى عبادة باخلاصهم في طاعته وبذلهم النفوس في سبيله تعالى ، ويكون تقدير الآية على وجوه :
أولاً : فرحين بما آتاهم الله من الإيمان .
ثانياً : فرحين بما آتاهم الله من التصديق برسوله الكريم .
ثالثاً : فرحين بخروجهم إلى معركة أحد .
رابعاً : فرحين بالسلامة من طاعة رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول .
خامساً : فرحين بدخول معركة أحد .
سادساً : فرحين بقتالهم للمشركين .
سابعاً : فرحين بالقتال في سبيل الله .
ثامناً : فرحين بما آتاهم الله من فضله بعودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سالماً إلى المدينة .
تاسعاً : فرحين بنزول الآيات التي تتضمن الإخبار عن حسن إقامتهم في الآخرة ، ومنها آية البحث .
عاشراً : فرحين بنزول كل آية سبقت قتلهم في سبيل الله .
الحادي عشر : فرحين بنزول كل آية بعد قتلهم في سبيل الله .
الثاني عشر : فرحين بعلة وأسباب معركة أحد ، وكيف أن شهادتهم صارت نوع طريق وموضوع لكشف المنافقين وفضحهم بين الناس إلى يوم القيامة لقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] ( ) .
الثالث عشر : فرحين بكشف الله عز وجل لهم بمنافع شهادتهم في سبيل الله بكشف المنافقين , وبيان قبح النفاق وإنحساره في المجتمعات .
وهل هذا الكشف من مصاديق فضل الله الذي تذكره آية البحث بقوله تعالى [بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] الجواب نعم ، بلحاظ أن فضل الله في المقام أعم من الرزق المادي .
الرابع عشر : فرحين لتخفيف آية البحث وقع مصيبة فقدهم عن الأهل والأصحاب .
الخامس عشر : فرحين ببلوغ مرتبة التقوى التي صارت طريقاً لنيلهم مرتبة الشهادة .
السادس عشر : فرحين بعصمتهم من الفرار من الزحف ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ] ( ) .
السابع عشر : فرحين بخيبة الذين كفروا .
الثامن عشر : فرحين بقرب فتح مكة .
التاسع عشر : فرحين لما لحق جيش المشركين من الإنكسار في أول معركة أحد .
العشرون : فرحين لأن التقوى طريق الفرح في الآخرة .
الحادي والعشرون : فرحين لعدم زوال وذهاب الفرح عنهم .
الثاني والعشرون : فرحين بما رزقهم الله مجتمعين ومتفرقين من فضله واحسانه .
الثالث والعشرون : فرحين لأن فرحهم عرض لازم لا يفارقهم في مدة عالم البرزخ وحين البعث والنشور ومواطن يوم القيامة ، وعند الجزاء .
الرابع والعشرون : فرحين بتمكين المسلمين في الأرض بعد الذل والإستضعاف , أما الذل فقد غادره المسلمون قبل أن يفارق شهداء أحد الحياة الدنيا لقوله تعالى بخصوص معركة بدر [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
وأما الإستضعاف فيدل عليه قتل سبعين شهيداً في معركة أحد، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
والمتبادر إلى الذهن من مصاديق البيان للآية أعلاه أنها تتعلق بأمور الحياة الدنيا وحال المؤمنين فيها سواء من الأمم السالفة أو من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن معاني اضافية أخرى تتعلق بعالم الآخرة منها :
الأول : منّ الله عز وجل على الذين قتلوا في سبيله بالحياة الدائمة عنده بلحاظ أن قتل الإنسان شاهد على استضعافه ، ومن الآيات في المقام أن الذين كفروا هم الغزاة إذ قدموا من مكة المكرمة وقطعوا نحو خمسمائة كيلو متراً لقتال المسلمين وقتل ذات الشهداء ، وإن كان قتلهم كلياً في المعين أي لم يكونوا هم المطلوبون على نحو الحصر والتعيين باستثناء حمزة مثلاً في طلبهم قتله أو قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو قتل الإمام علي عليه السلام.
الثاني : قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ] ( ) وعد من الله عز وجل للمنّ وتوالي النعم على المسلمين في الدنيا والآخرة , وبين عموم الصحابة والشهداء منهم عموم وخصوص مطلق ، والجامع بينهم الإستضعاف من قبل الذين كفروا ليكون من مصاديق فرح الشهداء لطف , ومنّ الله عز وجل على المسلمين بالتمكين في الأرض والأمن والسلامة من كفار مكة ، فلم تمر خمس سنوات بعد واقعة أحد حتى تم فتح مكة وإزاحة جاثوم الكفر ومفاهيم الوثنية عن أرض البطائح .
ويكون الفرح على قسمين :
الأول : الفرح في الدنيا وهو عرض مفارق ومن الكلي المشكك عند الفرد والجماعة ، وقد يغشى الفرح أكثر ساعات بعض الناس , وتراه يفرح بالشئ الزهيد ويقنع بالقليل ويبتهج للوعد والبشارة والأمل ، وقد لا يزور الفرح بعض الناس إلا على نحو اليسير مع أنه في حال غنى وجاه .
عن زياد مولى ابن عباس: قال : دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وقد وعك، فوضعت يدي على رأسه ، فقلت : يا رسول الله ، إنك لتوعك وعكا شديدا، قال: أجل ، إن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل قال : فعجبنا من ذلك، فقال : أتعجبون من ذاك؟ فوالذي نفسي بيده إن كان النبي من الأنبياء ليقتله القمل قال: فقلنا: سبحان الله فقال : أتعجبون من ذلك ؟ فوالذي نفسي بيده إن كان الرجل منهم ليدرع العباء ما يجد غيرها فقلنا: سبحان الله فقال: أتعجبون من ذاك؟ فوالذي نفسي بيده لقد كانوا يفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء)( ).
ومن الإعجاز في الشريعة الإسلامية قراءة كل مسلم ومسلمة قوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )عدة مرات في اليوم والليلة على نحو الوجوب العيني , لتكون تنمية لملكة الشكر لله عز وجل على كل نعمة , وطرد للغفلة عن وجوب الشكر لله عز وجل ، وهل من موضوعية لقراءة الشهيد قبل موته[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) في فرحه في الآخرة أم أن القدر المتيقن في علته هو القتل في سبيل الله .
الجواب هو الأول لأن قراءته إصلاح للنية وتهذيب للقصد وإخلاص بالعزيمة على القتال لتعظيم شعائر الله ، وفي التنزيل [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] ( ).
ويمكن إجراء دراسات وإحصائيات حول فرح وغبطة الأفراد والجماعات والطوائف والأمم ، وهل يمكن القول أن المسلمين أكثر الأمم فرحاً لقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
الجواب لا دليل عليه ، إلا أن يراد الفرح بفضل الله فيصح القول : المسلمون أكثر الأمم فرحاً بفضل الله .
ومن خصائص الحياة الدنيا ورحمة الله بأهلها ليس من إنسان إلا ويتغشاه الفرح في بعض أيام حياته ، وقد يكون الفرح بالخير أو بما فيه دفع الأذى على الذات أو الغير .
الثاني : الفرح في الآخرة بأن يتغشى العبد بعد انتقاله من الدنيا ومفارقته لها ويتصف بأمور :
الأول : لا يأتي الفرح في الآخرة إلا لمن غادر الدنيا بلباس الإيمان والصلاح ، وهو من مصاديق قوله تعالى [خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ).
الثاني : الفرح في الآخرة عرض لازم ، لا يفارق أهله لأنه جزاء ووعد من عند الله للأولياء الذين قتلوا في سبيله .
الثالث : تباين معنى العرض بين الدنيا والآخرة ، إذ يكون الفرح في الدنيا أثراً ومعلولاً ، أما في الآخرة فيتصف بأمور :
أولاً : إنه جزاء .
ثانياً : هو اثر ومعلول لفضل الله لقوله تعالى [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ] ( ).
ثالثاً : فرح الشهداء فضل من الله عليهم .
فان قلت كيف يكون ذات الشئ علة ومعلولاً .
بمعنى أنهم فرحون بفضل الله وذات الفرح فضل آخر ، الجواب أن فضل الله عز وجل توليدي ليس له حد أو منتهى .
الخامس والعشرون : فرحين بالنجاة والسلامة من كدورات الدنيا .
السادس والعشرون : فرحين بانقطاع المصائب عنهم فالشهادة في سبيل الله خاتمة للحياة الدنيا وما فيها من الإبتلاء ، قال تعالى [خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ] ( ) .
السابع والعشرون : فرحين بالفخر والعز الذي نالوه بنزول آية البحث وإخبارهم عن حال الغبطة والزلفى عند الله التي فازوا بها .
الثامن والعشرون : فرحين بالسلامة والوقاية من الشماتة بهم أو توجيه المنافقين اللوم لهم ، إذ تطل آية البحث على المسلمين وتدخل إلى بيوتهم خمس مرات في اليوم تزف لهم البشرى بفرح وسعادة الشهداء .
الثلاثون : فرحين بما آتاهم الله من فضله ليصبر المسلمون على ما يلاقون من الذين كفروا من الشدة والأذى .
الحادي والثلاثون : فرحين لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يدخلوا المدينة منهزمين فارين من العدو .
فمن سياق المعارك أنه إذا اشتد وكثر القتل في أحد الطرفين فان الباقين منهم ينسحبون أو يفرون أو يطلبون الصلح في الغالب ، ولكن المسلمين ثبتوا في معركة أحد ، وسر هذا الثبات هو الوحي والسنة الدفاعية ، فلم يغادر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ميدان المعركة مع صيرورة العدو على بعد أمتار قليلة منه ، وصارت حجارتهم تصل إليه مما يدل على وصول سهام ورماح العدو من باب الأولوية القطعية ودنو المشركين وسيوفهم منه ، وتفضل الله عز وجل وأنزل الملائكة لصد الذين كفروا ومنعهم في التمادي في العدوان والظلم.
ونزلت آية البحث لتخفيف هول المصيبة على المسلمين وجعل الفرد منهم لا يخشى الموت لإدراكه قانون (فرحين)
الثاني والثلاثون : فرحين لأن الله عز وجل تفضل وأنزل قانوناً في الآية التالية وهو [وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
الثالث والثلاثون : فرحين لإرتقائهم إلى مرتبة المؤمنين ، إذ ورد في الآية التالية بأن الله عز وجل لا يضيع أعمالهم ، ويكون من الوعد الإلهي المذكور في الآية أعلاه فرح الشهداء في الآخرة ليفرح معهم المؤمنون والمؤمنات وهم في الدنيا وقبل أن يغادروها .
فما أن يتلو أحدهم آية البحث أو يستحضر ذكرى معركة أحد وحال الشهداء فيها حتى يغمره الفرح والسعادة ، وليكون هذا الفرح ذاته من عمل المؤمنين الذي يثيبهم الله عز وجل عليه .
الرابع والثلاثون : فرحين لأن الله عز وجل رضي عنهم ورزقهم الجزاء العاجل والثواب الحاضر ، وهل هذا الجزاء من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ) الجواب نعم .
وعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسل أربعين كما عن ابن اسحاق( ) وفي رواية أن عددهم سبعون إلى أهل بئر معونة يدعوهم إلى الإسلام وإقامة الفرائض العبادية ونبذ الشرك وعبادة الأوثان وسبب بعث هذا هو أن أبا براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأولاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عناية وعرض عليه مبادئ الإسلام , ودعاه إلى الإسلام ، ولكنه إختار حال البرزخ فلم يدخل الإسلام ولم يبتعد عنه وتلحق هذه الحال بالكفر .
ثم قال أبو براء : يا محمد لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى أمرك ونبوتك وما جئت به ، فأني أرجو أن يستجيبوا لك ، أي أن أبا البراء أدرك أن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظاهرة كافية لدخول الناس في الإسلام .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (انى اخشى اهل نجد عليهم)( ).
أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخش إصرار أهل نجد على الكفر وصدودهم عن الدعوة إلى الإسلام ، إنما خاف على أصحابه الذين يبعثهم من القتل أو الأسر والحبس .
فقال أبو براء : انا لهم جار ، أي سيكونون باجارتي وحمايتي لهم ، ولا يتعدى أهل نجد على ذمامي ، ثم قال ابو براء : فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك ) ولم يقل له إلى الإسلام أو إلى دينك لأنه لم يسلم بعد .
فبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المنذر بن عمرو ومعه عدد من القراء.
وكان رئيس تلك القرية التي على الماء عامر بن الطفيل الجعفري ، فلما وصل إلى الموضع قعدوا في غار يشرف على الماء الذي ترده ابل وغنم القوم.
فقال بعض الصحابة : أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى القوم ، فتطوع وقام حرام بن ملحان .
وهو خال انس بن مالك وأخذ كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليسلمه إلى عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر الكلابي العامري .
ولكن عامراً هذا لم يقرأ الكتاب ولم ينظر لما فيه بل بادر إلى قتل الرسول ، ثم استصرخ بني عامر على أصحاب رسول الله فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه ، لأن المسلمين جاء بذمة وعقد وجوار أبي براء وهو عم عامر بن الطفيل والكل يعرف شجاعته ، وقالوا : لن نخفر جوار أبي براء .
فاستصرخ عامر على المسلمين قبائل من سليم وهو عصية ورعل وذكوان واستبطان المسلمون حرام بن ملحان فأقبلوا في اثره فلقيهم القوم فأحاطوا بالمسلمين وكاثروهم فأخذ المسلمون سيوفهم وفقاتلوهم حتى قتلوا جميعاً إلا كعب بن زيد أخا بني دينار بن النجار فأنهم تركوه وبه رمق فحمل بجراحاته من بين القتلى .
وعاش حتى قتل شهيداً يوم معركة الخندق وكان اثنان من هذه السرية يعتنون بالماشية التي معهم وهما :
الأول : عمرو بن أمية الضمري .
الثاني : المنذر بن محمد بن عقبة من الأنصار كما عن ابن هشام .
فنظر إلى الطير تحوم حول معسكر اخوانهم المسلمين فقالا : أن لهذه الطير شأناً بلحاظ أنها تحوم على دم وفريسة فاقبلا ينظرون فاذا القوم في دمائهم ، والخيل والفرسان الذي قتلوهم لازالوا في موضع وميدان المعركة .
فقال المنذر لعمرو بن أمية : ماذا ترى ؟
قال : ترى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنخبره الخبر أي إذا قاتلت القوم فليس إلا القتل والإبادة .
ولكن نرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتخبره بالأمر ويكون على بينة منه .
فقال المنذر : لكني لا أرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو وأصحابه .
ثم قاتل القوم حتى قتل شهيداً ليفوزوا جميعاً بالحياة عند الله والرزق الكريم والفرح الدائم المتصل وليكون من فرحهم أن يرى عامر بن الطفيل وأصحابه أن المسلمين يضحون بأنفسهم من أجل الإسلام والهدى ، لتكون الشهادة أبلغ رسالة فلذا نال الشهداء تلك المنزلة العظيمة فلم يأتوا للقتال ولا للغزو ولا لنهب الأموال .
ولو اكتفى عامر بن الطفيل بما اكتفى به ملك الروم والملوك والأمراء الذين حمل لهم رسل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة إلى الإسلام لرجعوا عنه وكانت سرية بئر معونة من القراء وحفظه القرآن .
وأمسك عامر بن الطفيل بعمرو بن أمية الذي رآى أن يرجع هو وصاحبه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويخبراه بمقتل أصحابهم فسأله عامر عن نسبه ، فقال له : من مضر فجز ناصيته وأعتقه عن رقبة عن أمه .
فسار عمرو إلى المدينة المنورة ورآي في الطريق رجلين من بني عامر ، فقال لهما عمرو : من أنتما ؟
فقالا من بني عامر ؟
فعزم على أن يفتك بهما ثاراً لأصحابه ولم يعلم بأن عندهما عقداً وعهداً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ولما ناما ، قام عمرو بقتلهما ، ولما دخل المدينة واخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتله لهما ، قال له : لقد قتلت قتيلين لأدينّ ديتهما ، فمع مصيبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه في بئر معونة فانه لم يرض على قتل من كان عنده عهد منه .
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خبر أصحابه في بئر معونة وقتل عامر بن الطفيل والذين كفروا لهم حزن عليهم .
وقال هذا سببه عمل أبي براء إذ أخذهم في جواره ، قد كنت لهذا كارهاً متخوفاً.
ولما بلغ النبأ أبا براء مات أسفاً وكمداً لإخفار ابن أخيه عامر بن الطفيل لزمامه وجواره لتأتي آية البحث فتبشر النبي محمداً وأصحابه بما لقاه الشهداء من الفيض والكرامة والنعم العظيمة .
وقال حسان بن ثابت يرثيهم ومنهم المنذر بن عمرو .
(عَلَى قَتْلَى مَعُونَةَ فَاسْتَهِلّي … بِدَمْعِ الْعَيْنِ سَحّا غَيْرَ نَزْرِ
عَلَى خَيْلِ الرّسُولِ غَدَاةَ لَاقَوْا … مَنَايَاهُمْ وَلَاقَتْهُمْ بِقَدْرِ
أَصَابَهُمْ الْفَنَاءُ بِعَقْدِ قَوْمٍ … تُخُوّنَ عَقْدُ حَبْلِهِمْ بِغَدْرِ
فَيَا لَهْفِي لِمُنْذِرٍ إذْ تَوَلّى … وَأَعْنَقَ فِي مَنِيّتِهِ بِصَبْرِ
وَكَائِنْ قَدْ أُصِيبَ غَدَاةَ ذَاكُمْ … مِنْ أَبْيَضَ مَاجِدٍ مِنْ سِرّ عَمْرِو) ( ).
(قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَقَدْ حَدّثَنِي بَعْضُ بَنِي جَبّارِ بْنِ سَلْمَى بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ ، قَالَ – وَكَانَ جَبّارٌ فِيمَنْ حَضَرَهَا يَوْمئِذٍ مَعَ عَامِرٍ ثُمّ أَسْلَمَ – ( قَالَ ) فَكَانَ يَقُولُ إنّ مِمّا دَعَانِي إلَى الْإِسْلَامِ أَنّي طَعَنْت رَجُلًا مِنْهُمْ يَوْمئِذٍ بِالرّمْحِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَنَظَرْت إلَى سِنَانِ الرّمْحِ حِينَ خَرَجَ مِنْ صَدْرِهِ فَسَمِعْته يَقُولُ فُزْت وَاَللّهِ فَقُلْت فِي نَفْسِي : مَا فَازَ أَلَسْت قَدْ قَتَلْت الرّجُلَ قَالَ حَتّى سَأَلْت بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ قَوْلِهِ فَقَالُوا : لِلشّهَادَةِ فَقُلْت : فَازَ لَعَمْرو اللّهِ .
وَذَكَرَ ابن إسْحَاقَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنّ عَامِرَ بْنَ الطّفَيْلِ قَالَ يَوْمئِذٍ مَنْ رَجُلٌ لَمّا طَعَنْته رَفَعَ حَتّى رَأَيْت السّمَاءَ مِنْ دُونِهِ . هَذِهِ رِوَايَةُ الْبَكّائِيّ عَنْ ابن إسْحَاقَ ، وَرَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَنّ عَامِرَ بْنَ الطّفَيْلِ قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَالَ لِلنّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ مَنْ رَجُلٌ يَا مُحَمّدُ لَمّا طَعَنْته رُفَعَ إلَى السّمَاءِ ؟ .
فَقَالَ : هُوَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَرَوَى عَبْدُ الرّزّاقِ وَابن الْمُبَارَكِ أَنّ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ اُلْتُمِسَ فِي الْقَتْلَى يَوْمئِذٍ فَفُقِدَ فَيَرَوْنَ أَنّ الْمَلَائِكَةَ رَفَعَتْهُ أَوْ دَفَنَتْهُ ) ( ).
وقتل يومئذ حرام بن ملحان وهو خال أنس ، واسم ملحان مالك بن خالد بن زيد بن حرام من بني النجار من الأنصار , وقد شهد حرام معركة بدر ، ومعركة أحد وقتل يوم بئر معونة ، وفي قتله وجوه :
الأول : طعن حرام يومئذ في رأسه ، فتلقى دمه بكفه ثم نضحه ورشه على رأسه ووجهه ، وقال : فزت ورب الكعبة .
الثاني : اصابته الجراحات الشديدة يومئذ وأخذ من بين القتلى حيا ، وقال الضحاك بن سفيان الكلابي وكان مسلماً يكتم اسلامه لامرأة من نساء قومه : هل للساقي رجل أن صح وسلم كان نعم المراعي فضمته إليها وصارت تعالج جراحه ، فسمعته يتوعد قومها ويقول
(أتت عامر ترجو الهوادة بيننا … وهل عامر إلا عدو مداهن
إذا ما رجعنا ثم لم تك وقعة … بأسيافنا في عامر وتطاعن
فلا ترجونا أن تقاتل بعدنا … عشائرنا والمقربات الصوافن )( ).
الثالث : توجه حرام بمفرده للقيام بتبليغ القوم رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعدوا عليه وقتلوه ،ثم اتبعوا اثره وموضع قدميه والجهة التي جاء منها حتى وجدوا أصحابه فقتلوهم .
(أن أنس بن مالك حدثه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعين رجلاً إلى عامر الكلابي فلما دنوا منه قال رجل من الأنصار، يقال له حرام: مكانكم حتى آتيكم بالخبر، فانطلق حتى أشفي عليهم من شرف الوادي، فنادى: إني رسول رسول الله إليكم، فأمنوني حتى آتيكم فأكلمكم، فأمنوه، فبينما هو يكلمهم أتاه رجل من خلفه فطعنه، فلما أحس حرام حرارة السنان، قال: فزت ورب الكعبة، فقتلوه، ثم اقتصوا أثره حتى هجموا على أصحابه فقتلوهم .
قال: فكنا نقرأ فيما نسخ: بلغوا إخواننا أن قد لقينا ربنا، فرضي عنا ورضينا عنه.) ( ).
لقد ابتدأت آية البحث بقوله تعالى فرحين , وفرح الشهداء على وجوه :
الأول : الفرح عند القتل وحضور ملك الموت , للحسن الذاتي للكيفية التي يقبض فيها أرواح المؤمنين .
(سئل رسول الله صلى الله عليه واله: كيف يتوفى ملك الموت المؤمن ؟ فقال: إن ملك الموت ليقف من المؤمن عند موته موقف العبد الذليل من المولى فيقوم هو وأصحابه لا يدنو منه حتى يبدأ بالتسليم ويبشره بالجنة) ( ).
وهل تختص هذه بالكيفية بالذين آمنوا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب لا ، إنما تشمل الأنبياء والمؤمنين من الأمم وملل الموحدين السابقة .
الثاني : الفرح عند كل نعمة تأتي للشهداء من فضل الله التي تتصف بالأتصال والتعاقب والإستدامة .
الثالث : فرح الشهداء لقانون , وهو أن دماءهم لم تذهب سدىً وأنهم لا ينتظرون الثأر أو القصاص فجاءهم فضل الله بالإخبار عن سيادة أحكام الإسلام ، وهو من الشواهد والمصاديق على قتلهم في سبيل الله ، من جهات :
الأولى : لم يقاتل المهاجرين والأنصار حمية وعصبية .
الثانية : لم يطلب الشهداء العوض والبدل الدنيوي على قتلهم .
الثالثة : من أسباب فرح الشهداء في الآخرة أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يطالب بديتهم أو يبعث إلى الكفار رجاء العوض المالي عنهم ، إنما كان قتلهم شحذاً لهمم المؤمنين ولبذلهم الوسع للقتال لذات الغايات الحميدة التي استشهدوا من أجلها .
الرابعة : من معاني القتل في سبيل الله أن الشهداء قتلوا في معركة بدر وأحد كيلا يقتل إخوانهم في معركة الخندق .
الخامسة : لقد تجلت حقيقة وهي إحجام وإمتناع جيش الذين كفروا عن إقتحام المدينة في معركة الخندق ، ليكون من الخزي الإضافي الذي لحقهم كثرة أعداد جيوشهم وعجزهم عن القتال وإصابة فرسانهم الذين برزوا للقتال كما في بروز عمرو بن ود العامري وقتل الإمام علي عليه السلام له، ونزول قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) .
ليكون من معاني التفاني في مرضاة الله والقتال والقتل في سبيله بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا فلم تنفعهم كثرتهم والفائض في أسلحتهم وخيلهم ومؤونهم .
السادسة : لقد أخبرت الآية السابقة عن قتل طائفة من المسلمين بقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) ولا يأتي القتل في الغالب إلا بعد التقدم والبروز للقتال ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ]( ).
ومن الإعجاز في آية البحث أنها لم تقف عند قوله تعالى [فرحين] وإن كان وصفاً تاماً ، بل ذكرت هذا الفرح وهو فضل الله الذي يأتي الذين قتلوا في سبيله ، وفيه مسائل :
الأولى : ذكر مصداق لقانون إطلاق وشمول بيان القرآن للوقائع والأحداث ، إذ أن ذكر هذه العلة من مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ] ( ) .
الثانية : الإخبار عن حقيقة من علم الغيب , ويحب الله أن يبين للخلائق بديع صنعه وعظيم قدرته ليكون مناسبة لإيمانهم وتنزههم عن مفاهيم الشرك .
الثالثة : بيان عظيم نعمة الله على الشهداء .
وتكون حال الإنسان على وجوه :
الأول : الفرح والسرور .
الثاني : الحزن والكآبة .
الثالث : البرزخ والوسط فليس من سبب طارئ للفرح أو الحزن .
وجاءت آية البحث لتنفي الوجه الثاني والثالث عن الشهداء ، أما الثاني فيطرده قوله تعالى في خاتمة هذه الآية [أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ].
وأما الوجه الثالث أعلاه فينفيه أول الآية بقوله تعالى [فَرِحِينَ] .
ولابد من تسمية أخرى لفرح الشهداء غير العرض اللازم والمفارق لأنه أعظم وأظهر من ذات الوصف بالعرض وفق نواميس الحياة الدنيا .
وقد ورد ذم للذين كفروا بقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ] ( ) .
ولكن الشهداء لم ينقلبوا إلى أهليهم إنما اختاروا الرجوع إلى الله مضرجين بدمائهم .
ومن مفاهيم آية البحث أن نجاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وباقي جيش الإسلام يوم معركة أحد إنما كان بفضل من عند الله ، وهو من مصاديق فرح الشهداء بأن القتل لم يأت عليهم جميعاً إذ كان عدد القتلى من المسلمين معشار مجموع الجيش .
ومن معاني قوله تعالى [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ] ( ) فضل الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والشهداء بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأكثر جيش المسلمين يوم معركة أحد ، ليكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : فرحين بسلامة أكثر جيش المسلمين من القتل .
الثاني : فرحين بخروج المهاجرين والأنصار في اليوم الثاني لمعركة أحد خلف جيش الذين كفروا .
الثالث : فرحين لأن جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم تؤد إلى مفارقته الدنيا .
الرابع : فرحين لأن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم سالماً من معركة أحد نوع طريق وسبب لتوالي نزول آيات القرآن ، فان قلت كانت جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بليغة .
والجواب هذا صحيح إلا أنها لم تمنع من نزول الوحي عليه ، ليرى جبرئيل والملائكة كيف تسيل الدماء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإمكان تقسيم نزول القرآن غير التقسيم إلى مكي ومدني ، إنما تقسيمه بلحاظ حال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه :
الأول : الآيات التي نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في كامل صحته البدنية ، وهي الأعم الأغلب من آيات وسور القرآن .
الثاني : الآيات التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في حال السفر والدفاع .
الثالث : الآيات التي نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مريض ، وهذا الفرد النادر .
وهل نزل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ] ( ) والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في محل صحة أم أن هذا التدثر عنوان المرض ، الجواب هو الأول .
الرابع : الآيات الني نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو جريح.
الخامس : الآيات التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في المسجد الحرام سواء قبل الهجرة أم بعدها أي الآيات المكية أو المدنية، فالمختار والمشهور أن الآيات والسور التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة هي مدنية وإن كان محل نزولها مكة المكرمة.
ويتعدد فرح الشهداء بفضل الله بلحاظ أن ذات الآتيان الذي تذكره آية البحث هو فضل آخر من عند الله غير الفضل الذي تذكره آية البحث .
فقد يتفضل الله عز وجل على العبد في نفسه ومستقبله وغفران ذنوبه ورزقه ، وقد تفضل عليه من جهات :
الأولى : ذرية العبد وأولاده ، وكل نعمة على أحدهم ذكراً أو أنثى هي فضل ونعمة على الأب .
الثانية : إزاحة الموانع التي تحول دون فضل الله سواء الذاتية منها أو الغيرية والإختيارية أو القهرية .
الثالثة : إنتفاع الفرد والجماعة من فضل الله بالكيفية والكم الذي يحب ويأذن به الله .
لقد جاءت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية وإبتدأت ببيان حال الشهداء عند الله ساعة نزول الآية بقوله تعالى(فرحين) إلا أنها تتضمن إلى جانب الخبر معنى الإنشاء، فإن قلت تقسم الجملة إلى قسمين:
الأول : الجملة الخبرية.
الثاني : الجملة الإنشائية.
أي أن كلاً منهما قسيم للأخرى، فكيف تكون ذات الجملة خبرية وإنشائية في ذات الوقت، الجواب هذا التقسيم إستقرائي من علماء اللغة، وعلوم وذخائر القرآن ودلالات كلماته أعم وأعظم منه، فمع إخبار آية البحث عن حال الشهداء فأنها تتضمن البيان والأمر للمسلمين والمسلمات، ليكون تقدير الآية على وجوه:
الأول : فرحين فأشكروا الله.
الثاني : اعلموا بكون الشهداء فرحين.
الثالث : لا تحسبوا الشهداء أمواتاً.
الرابع : لا تظنوا أن الشهداء غير فرحين.
الخامس : من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قولوا صار الشهداء فرحين.
السادس : شهدوا بأن الله أتى الشهداء من فضله.
السابع : فرحين فازدادوا ايماناً أيها المسلمون .
الثامن : فرحين فاحتجوا على الذين كفروا .
التاسع : فرحين فلا تكونوا [كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا] ( ).
العاشر : فرحين [لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ] ( ) من جهات :
الأولى : تفضل الله عز وجل بجعل الشهداء في حال فرح دائم .
الثانية : عدم موت وقتال الذين قتلوا في سبيل الله .
الثالثة : حرمان الذين كفروا من حال الفرح بعد الموت .
الرابعة : قيام الذين كفروا بقتل المؤمن حسرة في قلوبهم .
الخامسة : عدم تحقيق الذين كفروا أي غاية من غاياتهم عند قتلهم سبعين من الصحابة في معركة أحد وهو الأمر الذي تجلى في ذات يوم معركة أحد بأن إنسحب الذين كفروا مسرعين من ميدان المعركة .
لبيان أن إنسحاب المنافقين من وسط الطريق إلى معركة أحد لم يضر المسلمين ، وأن صار عددهم أقل من ربع عدد جيش المشركين يومئذ فما أن بدأت المعركة حتى كان النصر حليف المسلمين .
ومن علامات النبوة أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يبدأ بالقتال إنما يقوم بدعوة الطرف الآخر إلى كلمة التوحيد وقول لا إله إلا الله لأنه سبيل النجاة في النشأتين ، ولكن الذين كفروا هم الذين أصروا على القتال إذ تقدم حامل لوائهم , وألح في طلب المبارزة كما تقدم بيانه في أجزاء سابقة.
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى : الإخبار عن مرتبة الفرح والسرور التي نالها الشهداء من حين قتلهم في سبيل الله.
الثانية : بعث الغبطة والسرور في نفوس أجيال المسلمين والمسلمات، لما أطلعهم الله عز وجل به من حال الشهداء.
الثالثة : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على حال الذين قتلوا في معركة بدر وأحد.
الرابعة : بيان عظيم فضل وإحسان الله على الصحابة الذين قتلوا في سبيل الله.
الخامسة : ذم المنافقين الذين يحرضون على القعود عن الدفاع عن ملة التوحيد، قال تعالى[وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
السادسة : ندب المسلمين لإستحضار فضل الله عليهم في الحياة الدنيا، والتسليم بأن فضله في الآخرة أعظم.
السابعة : بيان حاجة الناس في الدنيا والآخرة إلى فضل الله.
الثامنة : تمتع الشهداء بالإحساس والإدراك.
التاسعة : فرح وإستبشار المسلمين بالفوز بفضل ورحمة من عند الله، قال تعالى[وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
العاشرة : حث المسلمين على الدعاء , وسؤال الله من فضله للفرد والجماعة والأمن منهم وللأموات من المسلمين والشهداء خاصة، إذ أن آية البحث لا تمنع من السؤال لزيادة فضل الله على شهداء بدر وأحد لجهادهم في بناء قواعد صرح الإسلام، قال تعالى[فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
الحادية عشرة : بيان قبح فعل الذين كفروا وإصرارهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وقيامهم بقتل طائفة منهم.
الثانية عشرة : الإخبار عن ثبات مبادئ الإسلام وتوالي نزول القرآن وإقبال الناس على آياته تلاوة وإصغاءً وتدبراً، حتى مع قتل سبعين منهم في يوم واحد هو يوم معركة أحد.
الثالثة عشرة : لقد ذكرت آية البحث إستبشار الشهداء بالمؤمنين الذين سيلحقون بهم في كنف فضل الله لتكون آية البحث مناسبة لإستبشار المسلمين والمسلمات من جهات:
الأولى : ما يخص الشهداء.
الثانية : الإستبشار بفضل الله في الدنيا.
الثالثة : الإستبشار لصيرورتهم مُستبشراً بهم، قال تعالى[لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ]( ).
قانون فرحين
لقد خلق الله عز وجل الخلائق بفضله ورحمته ليتوالى عليها فضله في كل آن من آنات وأفراد الزمان ، ولقد خصّ الله عز وجل الإنسان بفيض وزيادة من فضله وإحسانه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ) .
ومن فضل الله عز وجل على الإنسان في الأرض صيرورة هذه الخلافة نوع طريق لبلوغ المراتب العالية في الآخرة لمن أحسن العمل بمنهاج الخلافة الذي يتقوم بسنن التقوى إن ذات النشأة والخلق والرزق للإنسان في الدنيا فضل عظيم ، لتأتي آية البحث وتخبر عن فضل آخر من علم الغيب ليس له حد أو نهاية ، ولا يمكن للناس وصفه لعجز العقول عن درك مصاديقه وعظمته ، فأخبرت آية البحث عن قانون (فرحين) من جهات :
الأولى : اختصاص قانون (فرحين) لحظة القتل بالشهداء الذين سقطوا في معركة بدر واحد ونحوها .
الثانية : الفوز بالفرح في الآخرة مرتبة عظيمة فاز بها الذين ضحوا بدمائهم تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ يفرحون لما هم فيه من الكرامة والنعيم المقيم .
الثالثة : بعث المسلمين والمسلمات لسؤال الله عز وجل الفوز بمصاديق هذا القانون ، فصحيح أن القتال ساقط عن النساء إلا أنه لا يمنع من نيلهن ثواب المجاهدين بالدعاء .
وقد تضمنت آية البحث الإخبار عن قانون وهو أن الذي يأتي للشهداء في الآخرة هو من فضل الله عز وجل بقوله تعالى [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ].
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون مقدمة ونوع طريق لمنّ أعظم في الآخرة ، تغبط الخلائق كلها المؤمنين عليه يوم القيامة ، وجاء قانون (فرحين) مرآة ومصداقاً بهياً لهذا المنّ والإحسان الآخروي إذ ناله الذين أخلصوا في إيمانهم وتفانوا في الدفاع عن النبوة والتنزيل فسالت دماؤهم في أرض المعركة .
وهل تغري هذه الدماء الذين كفروا في الإستمرار في قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أم أنها تبعث الفزع واليأس في نفوسهم الجواب هو الثاني ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
الرابعة : من معاني قانون (فرحين) استدامة فرح الشهداء في كل الأحوال والأوقات في عالم البرزخ لأنهم في زلفى وقرب من الله ، فهم في فرح محض لا يطرأ عليهم الحزن ولا تأتيهم أسبابه ، فان قلت قد يفعل أحد ذراريهم السوء وهو في الدنيا .
الجواب يحجب عنهم هذا الأمر ولا يطلعون عليه ، لأنهم في عالم الآخرة ، إنما يكون من فضل الله عليهم الذي تذكره آية البحث إدراك التوبة والإنابة لذراريهم .
لقد أصابت النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين مصيبة في معركة أحد ، والمصيبة نوع علة وسبب لشماتة الأعداء والمنافقين فجاءت آية البحث بقانون (فرحين) لمنع هذه الشماتة , وهو من الإعجاز الغيري للقرآن بأن تتضمن آية قرآنية علماً من علوم الغيب يخص حال المؤمنين في الآخرة ، فتنفذ سهام الفزع والقنوط إلى قلوب الذين كفروا ويصيرون بحال من الوهن والضعف يعجزون معه على التحدي ومؤاصلة القتال ، وتكون الآية والحقائق التي تكشف عنها حجة على الناس , وبرزخاً دون الشماتة بالمؤمنين وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
علم المناسبة
قد ورد لفظ (فرحين ) مرتين في القرآن إحدهما في آية البحث ، والآخرى في قوله تعالى في قصة قارون بقوله تعالى [إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ] ( ) في ذم البطر والزهو بالنعمة وتعمد الجحود وعدم شكر الله عز وجل على النعمة ، وقد ورد في علم الأصول شكر المنعم واجب .
وقال الراغب : ولم يرخص في الفرح إلا في قوله تعالى [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا] ( ) والأصل هو أن المنع من الفرح لا يكون إلا مع الجحود وعدم الشكر لله عز وجل على النعمة .
وليس من حصر لموارد جواز الفرح ، نعم ما من خير وباعث عل السرور يأتي للإنسان إلا بفضل من الله عز وجل ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]( ).
وهناك تباين في موضوع الفرح في الآيتين ، إذ يتعلق موضوع الفرح في الآية أعلاه من سورة القصص بمن كثر ماله , وسخّره في محاربة النبوة ، أما الفرح في آية البحث فمن وجوه :
الأول : الموضوع , وهو القتل في سبيل الله .
الثاني : زمان ومكان القتل وهو في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة .
الثالث : محل الفرح وهو عالم البرزخ وعوالم الآخرة مطلقاً .
الرابع : زمان الفرح : من حين مغادرة الشهداء الحياة الدنيا .
وورد اللفظ (فرحون) في القرآن بصيغة جمع المذكر السالم المرفوع بالواو ثلاث مرات منها ما ورد في ذم المنافقين بقوله تعالى [إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ]( ).
وفي سبب نزول الآية أعلاه ورد عن جابر بن عبد الله قال (جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة يخبرون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبار السوء يقولون : إن محمداً وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا ، فبلغهم تكذيب حديثهم وعافية النبي وأصحابه ، فساءهم ذلك ، فأنزل الله تعالى { إن تصبك حسنة تسؤهم } الآية .) ( ).
ولم يعلم المنافقون أن الخير كله من الله وبيده سبحانه ، قال تعالى [مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ] ( ) .
كما ورد قوله تعالى [مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ]( ) لبيان خصائص وأحوال الفتنة بأن يكون الفرد أو الجماعة مفتونين بما عندهم ، ويظنون أنهم أحسن من غيرهم ، ويجب على الآخرين إتباعهم في ظلالتهم , فجاء القرآن ليبين إنحصار الهداية والرشاد باتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كما في دعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر .
وعن ابن عباس: رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه -يعني يوم بدر -فقال: ” يا رب إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض أبدا”. فقال له جبريل: “خذ قبضة من التراب، فارم بها في وجوههم” فأخذ قبضة من التراب، فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولوا مدبرين)( ).
قوله تعالى [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ]
ويحتمل استبشار الشهداء بمن خلفهم وجوهاً :
الأول : الإستبشار بالشهداء على نحو العموم المجموعي ، إذ يخبرون بأن أصحابهم المؤمنين سيقدمون عليهم .
الثاني : إحاطة الشهداء بأسماء الذين يلحقون بهم من أصحابهم.
الثالث : التفصيل باخبار الشهداء عن أوان وكيفية قتل أو موت كل فرد من أصحابهم .
والمختار هو الثاني أعلاه بعلم الشهداء على نحو الإجمال بلحوق أصحابهم بهم كما لو أخبرهم الله والملائكة بأن فلاناً سيفد عليكم غداً .
وهل يتضمن إخبار الشهداء عن لحوق أصحابهم بأوان وكيفية قتل أو موت كل واحد من أصحابهم .
الجواب لا دليل عليه ، إذ أن هذه التفاصيل أمور من علم الله ومن عظيم سلطانه ، وهي من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) .
ترى كيف يكون استبشار الشهداء , فيه وجوه :
الأول :كل واحد من الشهداء يفرح ويستبشر بقدوم إخوانه عليه .
الثاني : يتباشر الشهداء بقرب قدوم أصحابهم عليهم , فيلتقي أحد الشهداء بالآخر ويقول له غداً يأتينا المهاجر فلان أو الأنصاري فلان .
الثالث : يعلم الشهداء بقانون وهو أن أصحابهم المؤمنين سيقدمون عليهم ، ويلحقون بهم بفضل ولطف من عند الله .
ويكون تقدير آية البحث على وجوه :
أولاً : ويستبشرون بفضل الله على اخوانهم الذين سيلحقون بهم.
ثانياً : ويستبشرون بفضل الله عليهم أن جعلهم سابقين لاخوانهم في النعيم بالإقامة تحت ظل عرش الله .
ثالثاً : ويستبشرون بسبقهم لإخوانهم بالشهادة والقتل في معركة بدر وأحد ، لتكون آية البحث من مصاديق قوله تعالى [وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ] ( ) .
ومن معاني الإعجاز في قوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ] مجئ ووفود الصحابة عليهم فرادى بين الحين والآخر .
لقد غادر سبعون شهيداً مرة واحدة في النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة ، ليكون من مصاديق استبشارهم باخوانهم الذين لم يلحقوا بهم أنهم يفدون عليهم فراداً مما يدل على عدم وقوع قتل ذريع في المسلمين بعد معركة أحد .
وهو من الإعجاز في قول النبي يوم أحد (قال لن ينالوا منا مثل هذا اليوم حتى نستلم الركن) ( ).
ليكون ما عند الشهداء وما عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الخصوص واحداً، فأبى الله عز وجل أن يعلم الشهداء أموراً ويستبشرون بها وتخفى على رسوله الكريم إلا أن يشاء هو سبحانه .
ولم ينل هؤلاء الشهداء هذه المرتبة العظيمة إلا ببركة نبوته ، وليكون من معاني وتقدير آية البحث : ويستبشرون بعلم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما يعلمون به من لحوق أصحابهم بهم ) .
وهل يكون من مصاديق استبشار الشهداء بمثل ما قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث أعلاه ، وأنه لم يقتل من أصحابهم بمثل ما قتل منهم يوم معركة أحد ، ومن لحوق المسلمين يومئذ من الخسارة الجسيمة وشدة الجراحات التي أصابت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وإشاعة قتله وقعودهم وقبح قولهم [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ) الجواب نعم .
وهل في آية البحث مدد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته الجواب نعم .
ومن الإعجاز الغيري للآية القرآنية أنها مدد وعون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأجيال المسلمين المتعاقبة إلى يوم القيامة ، وفيها دعوة للناس لدخول الإسلام ، وهو من أسباب فرح الذين قتلوا في سبيل الله ، بلحاظ كبرى كلية وهي أن فرحهم أعم من أن يختص بحالهم في الآخرة ، إنما يشمل حال المسلمين الذين من بعدهم وهو الذي يدل عليه قوله تعالى في ذات آية البحث [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ]( ) .
ولما أخبر الله عز وجل الملائكة بقوله [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) احتجت الملائكة وأنكروا أهلية الإنسان للخلافة في الأرض لأنه [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) فتفضل الله عز وجل وأجابهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ويتصف الإحتجاج من الله عز وجل بأن مصاديقه تكون على وجوه :
الأول : المصاديق الحاضرة .
الثاني : الحجج الثابتة والمستمرة .
الثالث : البراهين المتجددة .
ومن الأول أعلاه تعليم الله لآدم الأسماء كلها وتفضله سبحانه باقامة الحجة على الملائكة في هذه الأمر , ومن الثاني بعثة الأنبياء والرسل وتحليهم بأسمى مراتب التقوى والتنزه عن اتباع الشهوات .
ومن الثالث : ما ورد في آية البحث من البراهين المتعددة على أهلية الإنسان لخلافته في الأرض منها :
الأولى : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : المصداق لما بين يديه من الكتب السماوية , وتلقيه القرآن الذي يتصف بأمور إعجازية منها :
الأول : إنه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : تصديق القرآن للكتب السماوية السابقة ، وقد جاءت عدة آيات بخصوص هذه التصديق وهيمنة القرآن , وبيانه الجامع لأحكام الحلال والحرام ، قال تعالى [وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ) وقال تعالى [الم * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ] ( ).
الثالث: حفظ وتوثيق القرآن للنبوات السابقة .
ومن إعجاز القرآن بيانه لجهاد وصبر الأنبياء السابقين .
الرابع : مجئ القرآن ببشارات الأنبياء السابقين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : إخبار القرآن عن حياة الشهداء عند الله عز وجل .
الثالثة : تصديق أمم من الناس ببعثة الأنبياء وعددهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبي وكل نبي له أتباع وأنصار ، وتفضل الله عز وجل وجعل المسلمين يصدقون بنبوة الأنبياء جميعاً بها كمصداق لقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( )شهادة سبعين من الصحابة في معركة أحد وهم يقاتلون تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : صبر وجهاد المهاجرين والأنصار في سبيل الله عز وجل .
الخامسة : من مصاديق الحجة التي تفضل الله عز وجل .
وتحتمل الصلة بين النعم التي تفضل بها الله على الشهداء واستبشارهم وجوهاً :
الأول : إرادة نسبة التساوي بين النعمة والإستبشار .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : النعمة أعم من الاستبشار .
الثانية : الإستبشار أعم من النعمة .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، وهناك مادة للإلتقاء بين النعمة والإستبشار ، ومادة للإفتراق بينهما .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه ، بلحاظ أن لحوق المؤمنين بالشهداء نعمة عظمى عليهم ، وفيه طرد للوحشة عنهم لمفارقتهم الأحبة في الحياة الدنيا ومن معاني استبشارهم في المقام وجوه :
الأول : يستبشر الشهداء لأن المؤمنين يلحقون بهم في النعيم .
الثاني : يستبشرون على سلامة الصحابة من طاعة الذين كفروا، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ) .
الثالث : يفرح الشهداء بهداية ذريتهم لسبل اللحوق بهم ، ولا تختص هذه السبل بالشهادة إنما يكفي الإيمان والتقيد بأحكام الشريعة .
الرابع : يفرح الشهداء بأن فضل الله بالحياة عنده لم ينقطع ولم ينحصر بهم بل هو نعمة عظمى تنتفع منها أجيال المسلمين ، وهو من خصائص مجئ الفعل [َيَسْتَبْشِرُونَ] بصيغة المضارع ودلالته على تجدد أمور :
الأول : استبشار الشهداء .
الثاني : موضوع الإستبشار .
الثالث : كيفية الإستبشار .
الرابع : أوان الإستبشار .
الخامس : الكم والكيف في الإستبشار ، ففي كل يوم هناك مادة وموضوع جديد لإستبشار وفرح الشهداء .
السادس : تجدد أسباب الإستبشار والتباين الموضوعي بينها ولو على نحو جهتي ، فمرة يتكرر ذات موضوع الإستبشار وأخرى يأتي موضوع جديد للإستبشار .
لقد ورد لفظ [يَسْتَبْشِرُونَ] في آية البحث والآية التالية ، وكل منهما يتعلق بهيئة الشهداء مع التباين الموضوعي , إذ يخص الإستبشار في آية البحث أموراً تتعلق بالحياة الدنيا وسلامة المؤمنين فيها من الإرتداد , ومن القعود الذي يدعو إليه الذين نافقوا كما ورد قبل آيتين [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا] ( ).
وورد عن أبي سعيد الخدري: أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغزو وتخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم ، خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فنزل ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا))( ).
وتبين آية البحث عدم إنقطاع صلة شهداء بدر وأحد بالحياة الدنيا وأنهم يتطلعون إلى أوان مجئ اخوانهم المؤمنين إلى عالم البرزخ ليروا ما هم فيه من النعيم وما تنتظرهم من البشارات ، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ( ).
والشهادة في سبيل الله صدقة جارية ببذل النفس في سبيل الله .
ومن معاني قوله تعالى [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ] رضا وغبطة الشهداء عن تعاهد المؤمنين لذات النهج الذي غادروا الحياة من أجله وكثير من المذاهب والطوائف تقاتل من أجل منهاج مخصوص ويذهب عدد منهم قتلى ثم لا يلبث الذي بقي منهم أن يترك ما قتلوا هؤلاء من أجله ، ليس من باب الصلح إذ أن الصلح خير محض ، قال تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ).
ولكن من باب التخلي عما قتلوا من أجله أو تجلي أسباب هذا التخلي وبطلان ما كانوا يقاتلون من أجله .
فأخبرت آية البحث بأن الذي قتل من أجله الشهداء حق وصدق وان أحكام الشريعة الإسلامية باقية إلى يوم القيامة .
بحث بلاغي
من الإعجاز في خلق الإنسان ولغة التخاطب بين الناس صيغ العطف بين الكلمات والجمل ، ومن خصائص لغة القرآن عدم حصر العطف فيه بوجوه وضروب خاصة ، وهي أعم مما ورد في قواعد اللغة وإعراب الكلمات ومنها :
الأول : عطف الترادف بأن يعطف أحد المترادفين على الآخر كما في قوله تعالى [قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ] ( ) وإن كان التدبر في القرآن يبين حقيقة وهي وجود إختلاف موضوعي على نحو الموجبة الجزئية بين كل مترادفين في القرآن .
الثاني : عطف البيان كما في قوله تعالى [جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ] ( ) وان كان المعنى أعم وقد تكون النسبة بين الكعبة والبيت الحرام العموم والخصوص المطلق فالبيت أعم وأكبر .
الثالث : عطف الخاص على العام كما في قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى] ( ).
الرابع : عطف العام على الخاص ز
وتكرر العطف بالواو في آية البحث مرتين :
الأولى : قوله تعالى [وَيَسْتَبْشِرُونَ].
الثانية : قوله تعالى [وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] .
علم المناسبة
ورد لفظ [يَسْتَبْشِرُونَ] ست مرات في القرآن ، إذ ورد في آية البحث، كما جاء في الآية التالية لها بقوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) وبين الآيتين عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من جهات :
الأولى : إرادة ذات شهداء بدر وأحد في كلا الآيتين .
الثانية : موضوع الآيتين في عالم الآخرة .
الثالثة : إستدامة الإستبشار في كل موضوع مذكور في الآيتين .
الرابعة : مجي الإستبشار للشهداء مع الفرح الذي يتغشاهم .
الخامسة : تجاور كل من الآيتين الآية الآخرى ، وكلاهما في سورة آل عمران .
السادسة : ورد لفظ [يَسْتَبْشِرُونَ] في كل من الآيتين بصيغة المستقبل القريب الذي تدل عليه السين في الفعل أعلاه فلم تقل الآية : وسوف يستبشرون .
وهل في معنى المستقبل القريب قرب أوان لحوق بعض الشهداء في معارك الإسلام اللاحقة بشهداء أحد ، الجواب نعم ، ليكون من معاني تقدير الآية :
الأول : يستبشرون بجرحى معركة أحد الذين ماتوا خارج ميدان المعركة
الثاني : يستبشرون بالشهداء الذين قتلوا في معركة خيبر .
الرابع : يستبشرون بالشهداء الذين قتلوا في معركة بئر معونة .
الثالث : يستبشرون بالشهداء الذين قتلوا في معركة الخندق .
قوله تعالى [أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]
وتقدير الآية على وجوه :
الأول :ألا خوف عليهم من ضغطة القبر .
الثاني : ألا خوف على الشهداء من ضيق وظلمة القبر .
الثالث : ألا خوف عليهم من وحشة القبر لدلالة قوله تعالى [فرحين] بما آتاهم الله من فضله على السرور والبهجة وعدم الوحشة .
الرابع : ألا خوف عليهم من منكر ونكير والحساب الإبتدائي ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا أبا أمامة ألا أدلك على كلمات هن خير للميت من الدنيا وما فيها وما غابت عليه الشمس وطلعت إذا مات أخوكم المؤمن وفرغتم من دفنه فليقم أحدكم عند قبره ثم ليقل يا فلان ابن فلانة والذى نفسى بيده إنه ليستوى قاعدا ثم ليقول يا فلان بن فلانة أرشدنا إلى ما عندك يرحمك الله فليقل اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وقد كنت رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا .
فيقوم منكر فيأخذ بيد نكير فيقول قم بنا ما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته ويكون الله حجيجيهما دونه قيل إن كنت لا أحفظ اسم أمه قال فانسبه إلى حواء) ( ).
الخامس : ألا خوف عليهم من هموم الدنيا ، فقد غادروها بسلام .
السادس : ألا خوف عليهم من وسوسة وإغواء الشيطان , فمن خصائص الحياة الدنيا إحتمال الإفتتان بالنفس الشهوية والغضبية ورفقاء السوء ، فلما غادر الشهداء الدنيا برضوان من الله عز وجل فازوا بالأمن من مكر وحيل الشيطان إذ لا سلطان له عليهم حين وقوفهم لقتال القوم الكافرين، وهو من مصاديق ما تقدم قبل أربع آيات [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) وحين رجعوا إلى عالم الآخرة صاروا في مأمن من ذات الإغواء وآثاره .
السابع : ألا خوف عليهم من محو عملهم الصالحات ، والأخذ منها للذين ظلموهم أو اغتابوهم في الدنيا .
الثامن : ألا خوف عليهم لأنهم نالوا المراتب العالية ، إذ قال الله تعالى [أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) ليكون شهداء معركة بدر وأحد من أولياء وأحباء الله عز وجل .
التاسع : ألا خوف عليهم من لحوق مكروه بهم .
العاشر : ألا خوف عليهم من الإرتداد , الذي يريد الذين كفروا حملهم عليه .
الحادي عشر : ألا خوف عليهم من وهن أو ضعف المسلمين من بعدهم ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ) ولا تهنوا بعد أن قدم اخوانكم الشهداء أنفسهم في سبيل الله ، ولا تحزنوا على فقدهم فأنهم فرحون بفضل الله ،وأنتم الأعلون لأنه لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون .
الثاني عشر : لا خوف عليكم من مكر الله ، إذ قال تعالى [فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ] ( ).
الثالث عشر : ولا خوف عليهم من فعل الكبائر إذ أنهم في حرز وأمن منها .
الرابع عشر : لا خوف عليهم من شدة مواطن يوم القيامة .
الخامس عشر : لا خوف عليهم من الملائكة الغلاظ الذين جعلهم الله على النار .
السادس عشر : لا خوف عليهم يوم تتطاير الصحف .
السابع عشر : لا خوف عليهم من عذاب الله لأنهم لم يخافوا الذين كفروا وجيوشهم التي زحفت على المدينة المنورة يوم معركة أحد ، وكان عددهم ثلاثة آلاف رجل ، قال تعالى [فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي] ( ).
السابع عشر : لا خوف عليه في ذريتهم وأبنائهم .
الثامن عشر : لا خوف عليهم في ذكراهم بين الناس .
لقد أراد الذين نافقوا النيل من الشهداء ، وتوجيه اللوم لهم لخروجهم للقتال مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة أحد ، كما ورد قبل آيتين [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ) فجاءت آية البحث حجة على المنافقين , وإلجاماً لهم .
التاسع عشر : ألا خوف عليهم من الذنوب والصغائر التي ارتكبوها في حياتهم لأن الشهادة ماحية لها بفضل من عند الله ، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله (إن الاسلام يجبّ ما قبله ) ( ) وجاءت الشهادة بذات المعنى فانها باب للعفو والمغفرة من عند الله .
العشرون : لا خوف عليهم أنهم عند الله ، لقوله تعالى في الآية السابقة [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ] ( ) لبيان قانون وهو أن الذي عند الله يكون في مأمن من الخوف وأسبابه .
الحادي والعشرون : لا خوف عليهم من مقدمات وأسباب الخوف .
الثاني والعشرون : لا خوف عليهم من صيرورتهم سبباً في جناية أو ظلم ، بلحاظ أن الجناية يتحملها المباشر إلا مع القرينة الصارفة إلى المسُبب, ويكون الشهيد في مأمن من هذا ، فلا يقال له في الآخرة أنك عندما كنت في الدنيا حرضت فلاناً على الإثم الفلاني .
الثالث والعشرون : لا خوف عليهم من جمع المشركين الجيوش ، كما يأتي بعد ثلاث آيات [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا] ( ).
الرابع والعشرون : لا خوف عليهم من الموت على الفراش .
الخامس والعشرون : لا خوف عليهم من القتل مرة أخرى .
السادس والعشرون : لا خوف عليهم في أن يكون قتلهم في نية وقصد غير سبيل الله ،إذ شهدت لهم الآية السابقة بأن قتلهم كان في سبيل لله .
السابع والعشرون : ألا خوف عليهم من إنقطاع رزقهم فقد يستصحب الإنسان في الآخرة أحوال ونواميس الحياة الدنيا ، ويظن بالتقدير في الرزق أو النقص فيه أو الإنقطاع فتفضل الله عز وجل وبشرهم باستدامة الرزق ، وصرف عنهم الخوف من النقص أو القلة فيه .
والخوف هو الغم من حدوث أمر مستقبل وقيل قد يطلق الخوف على حال العلم والظن المعتبر بتنجز موضوعه، وأستدل بقوله تعالى[إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ]( )، وأن معناه إلا أن يعلما، وليس بتام، إذ تبين الآية أعلاه إمكان الهداية بفضل الله إلى العمل بأحكام الشريعة وأستدل على إفادة الخوف معنى العلم بقول الشاعر أبي محجن الثقفي:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمةٍ … تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفني بالفلاة فإنني … أخاف إذا متّ أن لا أذوقها)( ).
والكرمة شجرة العنب.
ولكنه لا يصلح للإستدلال موضوعاً ودلالة وحكماً، فقد كان أبو محجن في زمن الإسلام ومعروفاً بكثرة شربه للخمر مع أنه فارس , ووصف بيت الشعر أعلاه بأنه أحمق بيت قالته العرب( ).
وتفيد آية البحث القطع بأمن الشهداء من الخوف والغم والحزن إلى الأبد، وتبين عظيم الجزاء من عند الله على الصبر والجهاد في سبيله، قال تعالى[لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
سبق إصرار المشركين
من خصائص الإنسان أنه إذا عاد من معركة فيها خسارة وحزن فانه يميل إلى السكينة ويختار الإقامة فترة مع الأهل والعيال في الغالب ، ويسعى للتزين بالتروي , ويخشى المخاطرة وأسباب الهلكة .
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في اليوم التالي لمعركة أحد فعلوا ما لم يكن بالحسبان إذ بادروا إلى النهوض للحاق بالعدو مع كثرة جيشه وندمه على عدم رجوعه لأن هذا الرجوع خلاف سبق إصرارهم في إرادة الإجهاز على النبي صلى الله عليه وآصحابه , لتكون موضوعية لأمرين وفق القوانين الوضعية :
الأول: سبق الإصرار ، وهو العقد والعزم على إرتكاب جناية أو جنحة للإضرار بشخص معين أو لا على التعيين كما يقال سهم غرب ، أي يطلق من غير أن يقصد به شخصاً معيناً فيصيب أحدهم .
وإذا كان يكفي في سبق الإصرار يوم وليلة مثلاً وإعمال الفكر في الجريمة فان كفار قريش تهيئوا واستعدوا لمعركة أحد , وعملوا لها لمدة سنة كاملة مما يدل على إعمال الفكر والتروي في كيفية التنفيذ والشروع في الهجوم مع الإتفاق عليه بينهم لتقوم الحجة عليهم في النشأتين .
الثاني : الترصد : وهو قيام الجاني أو الجناة بالتربص بالمجني عليه ورصده والسعي في معرفة مواطن وجوده وحركته وحال الغفلة والضعف والإنفراد عنده لمباغتته والإجهاز عليه ، ويتقوم الترصد بأمور بحسب الحال منها :
الأول : الزمان ، وهو دور فترة من الزمان بين بداية الترصد وارتكاب الجناية .
الثاني : المكان ، للحاظ مكان وموضع ارتكاب الجريمة ، وعلة اختيار الجاني له.
الثالث : موضوعية الترصد في كيفية القيام بالجريمة والإمتناع عن إرجائها او تأخيرها أو صرف النظر عنها .
الرابع : وسيلة وآلة تنفيذ الجريمة ، وعدم اتاحة الفرصة للمجني عليه لأخذ الحائطة أو للدفاع عن نفسه .
الخامس : الشركاء في الجريمة والذين أعانوا عليها مدة الترصد أو حين الشروع فيها .
ويكون كل من سبق الإصرار والترصد سبباً لتشديد العقوبة في الجرائم والإعتداء العمدي ، وقد تلبس كفار قريش بكل من الإصرار والترصد في هجومهم على المدينة واستحقوا العقاب .
وجاء القرآن بلزوم أخذ الحذر ، قال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ).
وتدل الآية أعلاه على أن الإستعداد للقتال لا يعني خوض غماره والمبادرة إلى الهجوم على العدو ، إنما هو لبعث الخوف في نفوس المشركين، ومنعهم من التعدي والظلم .
وخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلف جيش المشركين من مصاديق الآية أعلاه ، لتكون منافعه باقية إلى يوم القيامة، ولبيان قانون وهو أن الجراحات والقروح , وفقد الأحبة في المعركة ليس مانعاً أو برزخاً دون مطاردة العدو .
وهذا الخروج شاهد على يقظة وعدم غفلة المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوْ انفِرُوا جَمِيعًا]( ).
وتبحث مسألة سبق الإصرار والترصد في المحاكم عند القيام بالتحقيق بالجريمة لتشديد الحكم على الجاني ، أما آية البحث فتدل على شدة عناد وإصرار كفار قريش على العدوان والغزو بالباطل .
فقد سعى الكفار في التدبير للهجوم لعام كامل قبل معركة أحد ، وترصدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ثم زحف جيش المشركين نحو المدينة , وفيه دليل قاطع بتحقق الجريمة منهم ، وثبوت سبق الإصرار والترصد وإرادة القتل والإبادة الجماعية ، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقلة من أصحابه في معركة أحد [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) فعجز الذين كفروا عن تحقيق غاياتهم الخبيثة ، وقال تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ) .
وأكرم الله المؤمنين الذي قتلوا يوم أحد بأن رزقهم الحياة عنده ، أي ليس فقط الحياة التي هي خلاف الموت والسكون ، إنما الحياة في ظل عرش الله عز وجل وبلطفه ومنّه ، وقد أكرم الله عز وجل الأنبياء والنبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاصة إذ خاطبه الله سبحانه [وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ *وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ] ( ) كما أكرم نوحاً بقوله تعالى [وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ] ( ).
وإذ آذى نوحاً قومُهُ واستهزءوا به فان قوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جهزوا الجيوش لقتاله وإرادة قتله وأهل بيته وأصحابه لذا تضمنت الآية أعلاه من سورة الطور أمره بالصبر , وحث المسلمين على التقيد بآدابه ، ودعوتهم إلى الرضا والقبول بصبر النبي وعدم التعجل في القتال والهجوم , وهذا الحث مقدمة للمدد والنصر , ومصداق له .
وهل من هذا الصبر الرضا بصلح الحديبية , الجواب نعم .
وكما أثنت آية السياق على المهاجرين والأنصار الذين خرجوا في اليوم الثاني لمعركة أحد خلف المشركين فإن آية البحث أثنت على الشهداء في معركة أحد .
ومن الإعجاز الذاتي والغيري فيها إختصاصها بذكر شهداء أحد على نحو التعيين وشهدت لهم بأنهم قتلوا في سبيل الله ، مما يدل بالدلالة الإلتزامية على أنهم لو كانوا أحياء لخرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف المشركين في اليوم التالي لمعركة أحد، وكان عدد الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ مائتين , وقيل مائتين وسبعين .
ومن الإعجاز تقدم قوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) ليكون مما أصاب المسلمين غياب الشهداء عن الرفقة في الخروج خلف المشركين ، وعن المشاركة في غزوة خالية من القتال ، كاملة الثواب .
(عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان : أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل كان شهد أحداً قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً . أنا وأخ لي فرجعنا جريحين ، فلما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي ، أو قال لي : تفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ما لنا من دابة نركبها ، وما منا إلا جريح ثقيل .
فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جرحاً منه ، فكنت إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة ، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد . وهي من المدينة على ثمانية أميال ، فأقام بها ثلاثاً . الإثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، ثم رجع إلى المدينة . فنزل { الذين استجابوا لله والرسول . . })( ).
وظفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه هذا بمعاوية بن المغيرة بن العاصي ، وقيل هو الذي مثّل بجسد حمزة بن عبد المطلب وجدع انفه وهو ابن عم مروان بن الحكم , ووالد عائشة أم عبد الملك بن مروان ، ولم يقتل سواه يومئذ ، (واستأمن عثمان بن عفان لمعاوية فشرط ألا يوجد بعد ثلاث فبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك زيد بن حارثة وعمار بن ياسر فقال لهما : ستجدانه بمكان كذا قتيلاً.) ( ).
وكان معاوية هذا قد انهزم يوم أحد عندما هجم المسلمون وقتلوا أصحاب لواء المشركين واحدا بعد آخر وازاحوا المشركين عن مواضعهم وقد يقال بالتعارض بين هزيمته عند بداية المعركة وجدعه لأنف حمزة ، ولكن ليس من تعارض لإشتداد المعركة وثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه وعودة طائفة من المسلمين للقتال دونه وحوله .
ولما أصبح معاوية في اليوم الثاني وجد نفسه قريباً من المدينة ، فدخلها متنكراً وأتى منزل عثمان بن عفان بن أبي العاص وهو ابن عمه فطرق الباب فأُخبر بعدم وجود عثمان في البيت ، فقال لهم عندي ثمن بعير ابتعته منه عام أول وقد جئته بالثمن فارسلوا في طلبه ، ولما جاء عثمان قال لمعاوية: أهلكتني وأهلكت نفسك ما الذي جاء بك؟
فقال له : يا ابن عم لم يكن أحد أقرب إلي وأمس رحماً بي منك فجئتك لتجيرني .
فقام عثمان بادخاله الدار ، وجعله في ناحية منها ، وذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطلب منه الأمان له ، وما أن وصل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى سمعه يقول :إن معاوية بن المغيرة في المدينة وقد أصبح فيها ، فأطلبوه ، وهو معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإخبار من الوحي , وشاهد على الحصانة السماوية للمدينة ، فقال المسلمون : انه لا يعدو منزل عثمان ، وهبوا يطلبونه وطرقوا الباب ثم دخلوا فاشارت أم كلثوم ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الموضع الذي جعله فيه عثمان فاخرجوه من تحت خمارة لهم .
فجاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم , فقال عثمان : يا رسول الله ما جئت إلا لأطلب له الأمان .
ومع كثرة قتلى المسلمين في معركة أحد وشدة جراحات النبي واصحابه فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهبه له ، وأمهله ثلاث ليال لمغادرة المدينة ،ولكن معاوية تخلف في المدينة ليطلع على أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وينقلها إلى قريش .
وفي اليوم الرابع قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :معاوية قريب منكم ، وهو لا ينفذ وبعث زيد بن حارثة وعمار بن ياسر فقتلاه , وقيل وجداه مقتولاً .
وأسر المسلمون الشاعر أبا عزة الجمحي ، وقيل وقع في الأسر يوم معركة أحد واسمه عمرو بن عبد الله بن عمير بن وهب بن حذافة بن جمح، وقد كان المسلمون أسروه يوم معركة بدر ، وسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يمنّ عليه وأنه صاحب بنات يخشى عليهن اليتم والضياع (فقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا أكثر عليك جمعا) ( ).
والذي يدل بالدلالة التضمنية على أنه لا يشترك في قتال الذين كفروا للمسلمين ولا يساهم في تجهيز الجيوش ، ولكنه خرج مع المشركين في معركة أحد ، وعندما إنسحبوا إلى مكة تركوا أبا عزة في الطريق عند حمراء الأسد فأدركه المسلمون وأخذه عاصم بن ثابت , وجيئ به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
(فقال: رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، لا ترجع إلى مكة تمسك عارضيك تقول: سخرت بمحمد مرتين، ثم أمر به عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح فضرب عنقه) ( ).
قانون سبق البشارة والإنذار القرآني للواقعة والحدث
من علوم القرآن علم أسباب النزول لبيان الوقائع والحوادث والقصص الخاصة بنزول آيات من القرآن ، ولا يدخل الإجتهاد والإستنباط في أصل هذا العلم إنما يعتمد المشاهدة والسماع ، ومن خصائص علم أسباب النزول أمور :
الأول : توثيق الوقائع والحوادث .
الثاني : تعيين زمان نزول الآية القرآنية ووقوع الحادثة .
الثالث : معرفة الاشخاص من جهة جهاد المؤمنين وتذبذب المنافقين وجحود الكافرين .
فان قلت هناك من الكافرين من أدركته التوبة , الجواب نعم ، فمنهم من كان يقود الجيوش ضد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ثم آمن وصار قائداً في الإسلام .
لتتضمن آية معاني تتعلق أسباب نزولها بكفره وجحوده ومحاربته الإسلام وآية تبين فداءه وتضحيته في سبيل الله ، وقد يكون من أهل قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ) وآية البحث.
الرابع : تدبر المسلمين والمسلمات بآيات القرآن وفهم معانيه وعلة نزول الآية القرآنية ومقاصدها السامية ، وقد تتعدد الأخبار عن سبب نزول الآية القرآنية الواحدة كما في قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ] ( ) فقد وردت فيه أقوال :
الأول : ما ورد عن جابر بن عبد الله قال (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها، فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة، فقالت طائفة منا: قد عرفنا القبلة هي ها هنا قِبل الشمال، فصلوا وخطوا خطوطاً، وقال بعضنا: القبلة ها هنا قبل الجنوب وخطوا خطوطاً فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة .
فلما وقفنا من سفرنا سألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فسكت فأنزل الله تعالى (وَللهِ المَشرِقُ وَالمَغرِبُ فَأَينَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجهُ اللهِ) ( ).
الثاني : ما ورد عن ابن عباس (خرج نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قبل تحويل القبلة إلى الكعبة فأصابهم الضباب وحضرت الصلاة ، فتحروا القبلة وصلوا فلما ذهب الضباب استبان لهم أنهم لم يصيبوا ، فلما قدموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فنزلت هذه الآية .
وعن عامر بن ربيعة عن أبيه ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلى على رجل منا على حياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت { فأينما تولوا فثم وجه الله })( ).
الثالث : ما ورد عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أنها (نزلت فيمن صلى إلى غير القبلة في ليلة مظلمة أخرجه الترمذي عنه عن ابيه قال :
[كنا مع النبي صلى الله عليه وآله و سلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلى كل رجل منا على حياله فلم أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وآله و سلم فنزلت : { فأينما تولوا فثم وجه الله}])( ) وعنه قال(كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلاً ، فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجداً فيصلي فيه، فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة .
فقلنا : يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة ، فأنزل الله { ولله المشرق والمغرب)( ).
الرابع : جاء عن (ابن عمر قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يومئ وكان ابن عمر يفعله وفي رواية مسلم : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي على دابته وهو مقبل من مكة إلى المدينة حيثما توجهت وفيه نزلت { فأينما تولوا فثم وجه الله })( ).
الخامس : (عن ابن عباس قال : أوّل ما نسخ لنا من القرآن فيما ذكر والله أعلم شأن القبلة . قال الله تعالى { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله}( ) فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق ، ثم صرفه الله تعالى إلى البيت العتيق ونسخها . فقال {ومن حيث خرجت فول وجهك}( ).
وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله}( ) قال : كان الناس يصلون قبل بيت المقدس ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة على رأس ثمانية عشر شهراً من مهاجره ، وكان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر به ، فنسختها قبل الكعبة) ( ).
السادس : عن الإمام الباقر عليه السلام (أن قوله تعالى ” فأينما تولوا فثم وجه الله ” أنها ليست بمنسوخة وأنها مخصوصة بالنوافل في حال السفر)( ).
الثامن : عن مجاهد قال (لما نزلت { ادعوني أستجب لكم }( ) قالوا : إلى أين؟ فأنزلت { فأينما تولوا فثم وجه الله } ) ( ) وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة يصلي إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه.
ولما وصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المدينة المنورة مهاجراً صلى سبعة عشر شهراً مستقبلاً بيت المقدس ، ثم نزلت آية تحويل القبلة وقد سبقتها البشارة بقوله تعالى [قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ] ( ) إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يود تحويل قبلته والمسلمين إلى الكعبة ، ولكنه ينتظر أمر الله .
ومن الإعجاز أن هذا الأمر لا يكون إلا قرآنياً لأنه منهاج عام لأجيال المسلمين المتعاقبة ، ولمنع الخصومة والخلاف .
إن قانون سبق البشارة والإنذار القرآني للواقعة والحدث أعم من أسباب النزول ، فقد يكون منها ، وقد يكون غيرها وسابقاً لها ، وهو باب جديد لإستنباط المسائل العلمية من الآية القرآنية ودلالتها .
وقد تنزل آية قرآنية لتحمل البشارة والإنذار لخصوص أسباب نزول آية قرآنية أخرى ، وتأتي البشارة والإقتران من جهات :
الأول : نزول آية قرآنية .
الثاني : مجئ حديث نبوي يكون بشارة أو إنذارا لخصوص آية قرآنية كما في مقدمات آية البحث إذ رآى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا فأخبر عنها وعن تأويلها ، ليكون من مختصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه هو الذي يقوم بتأويل رؤيا في حال رؤيته لها , ولا يسأل غيره عن تأويلها .
فلما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وأهل المدينة عامة أن جيش المشركين وصل إلى أطراف المدينة وأنهم نزلوا عند جبل عينين فطلعوا جميعاً المؤمن والمنافق واليهودي والكافر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ماذا سيفعل وهو لا يقول ولا يفعل إلا بالوحي ، ومنه هذا الوحي الرؤيا الصالحة التي يراها صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين (إنّي قَدْ رَأَيْت وَاَللّهِ خَيْرًا) ( ).
ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيد رؤياه بأنها خير محض ، وفيه مسائل :
الأولى : تفاؤل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرؤيا .
الثانية : رجاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فضل الله عز وجل في جعل الرؤيا بشارة ، وليس انذاراً وتخويفاً .
الثالثة : لقد كان المسلمون مهتمين في أمر قدوم جيش المشركين واخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يبعث السكينة في نفوسهم بأنه لم ير إلا خيراً بخصوص النتائج المترتبة على قدوم جيش المشركين ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ).
الرابعة : جذب المسلمين إلى رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأويلها وما يخبر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً , وفيه وجوه :
الأول : حجب الخوف عن الوصول إلى قلوب المسلمين والإستيلاء عليها .
الثاني : منع حصول الإرباك والخصومة في صفوف المسلمين .
الثالث : إزاحة الحواجز التي تحول دون توجه المسلمين للدفاع والصبر في ميدان القتال ، وفي التنزيل [رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ( ).
الرابع : تفضل الله عز وجل بارادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رؤيا مباركة بخصوص معركة أحد قبل وقوعها وقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتأويلها تهيئة لأذهان المسلمين للمعركة .
الخامس : انه من مصاديق قوله تعالى [يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا] ( ) فان قلت القدر المتيقن من الآية أعلاه هو موضوع أحكام الشريعة والأوامر والنواهي , وهو المتسالم عليه بين علماء التفسير ، والجواب الآية أعم .
قانون تعضيد القرآن للسنة
لما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة بألوية النصر والظفر والأسرى والغنائم بين يديه تلقاه أهل المدينة مهنئين ، واعتذر منه الذين لم يخرجوا إلى معركة بدر وقالوا لم نعلم بوقوع قتال لأن علة الخروج كانت إعتراض قافلة أبي سفيان فقبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عذرهم ، وهل هذا القبول من عنده أم من عند الله عز وجل.
الجواب هو الثاني لبيان الأجر والثواب بالعذر وقبوله ، ودخلت أم حارثة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فقالت: يا رسول الله، قد عرفت موقع حارثة من قلبي، فأردت أن أبكي عليه
فقلت: لا أفعل حتى أسأل رسول الله، فإن كان في الجنة لم أبك عليه، وإن كان في النار بكيته فأعولته.
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: هبلت، أجنةٌ واحدة؟ إنها جنان كثيرة، والذي نفسي بيده إنه لفي الفردوس الأعلى , قالت: فلا أبكي عليه أبداً .
ودعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم بإناءٍ من ماءٍ فغمس يده فيه ومضمض فاه، ثم ناول أم حارثة فشربت، ثم ناولت ابنتها فشربت، ثم أمرهما فنضحتا في جيوبهما، ففعلتا فرجعتا من عند النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، وما بالمدينة امرأتان أقر أعيناً منهما ولا أسر) ( ).
ويدل هذا الحديث على ورود أنباء حياة الشهداء بعد قتلهم , وأنهم في الجنان العالية ، فتفضل الله عز وجل وأنزل آية البحث ، لتكون تعضيداً للأحاديث النبوية ، والمعروف أن الحديث النبوي بيان وتفسير للآية القرآنية ،ولكن أخبار الشهداء تدل على أن القرآن يعضد أخبار السنة وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليفتح باباً من العلوم .
لقد نزلت آية البحث لتكون قانوناً في الأرض إلى يوم القيامة يتصف بأمور :
الأول : قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في سبيل الله.
الثاني : إتصاف هذا القتال بأنه دفاع عن الدين والنفوس .
الثالث : بذل المسلمين النفوس من أجل أدائهم الصلاة والصيام وحبهم لسماع آيات القرآن من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتلوها سواء حال نزول جبرئيل بها أو بعد نزوله بها ، إذ أن تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن على وجوه :
الأول : يقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة الآية أو الآيات القرآنية التي تنزل عليه حالما ينزل بها جبرئيل .
الثاني : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات القرآن بعد نزولها عليه بأيام أو سنوات .
الثالث : استشهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالآية القرآنية .
الرابع : تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية .
الخامس : أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتدوين وكتابة الآية القرآنية .
السادس : إجابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى على الأسئلة بخصوص مضامين آيات القرآن ، قال تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ] ( ).
السابع : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن في الصلاة .
الثامن : تدارس النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن مع جبرئيل (قال مسروق عن عائشة، عن فاطمة عليها السلام أسر إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة , وأنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي) ( ).
التاسع : قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن على المنبر ،ومن الإعجاز في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرتقي المنبر بمناسبة أو من غير مناسبة , والضابطة في المقام هو الوحي ، فاذا أوحى الله إليه بصعود المنبر بادر إلى صعوده ، وقد يقرأ وهو على المنبر آية السجدة فينزل ويسجد على الأرض .
العاشر : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن وهو في بيته مع أهله ، وكل قول وفعل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرآة لآيات القرآن ، وتعضيد له وتثبيت له في أذهان المسلمين ، وبرزخ دون نسيانه أو التفريط فيه او تضييع بعض كلماته.
إن تعدد وجوه تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الآيات من وجوه سلامته من التحريف والتبديل والنقيصة والزيادة وهو سنة حميدة تدعو المسلمين للإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
ومن معاني تعضيد القرآن للسنة وجوه :
الأول : نزول الآية القرآنية لتأكيد قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إخبار الآية القرآنية من علوم الغيب بما يكون دليلاً على صدق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : كل آية من القرآن شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنها نازلة من عند الله ، وفي ثناياها ذخائر وكنوز تتجلى في كل زمان .
الرابع : دعوة العلماء والباحثين لتصديق أخبار السنة النبوية بآيات القرآن ، فيعرض الحديث النبوي على آيات القرآن لبيان موافقته للقرآن ، ومع أن الحديث هو الذي يحتاج موافقة القرآن فان هذه الواقعة شاهد على صدق صدور الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا مع القرينة على الخلاف ، ليكون هذا العلم ضياءً ينير مباحث علم الرجال ، ويعضد رجال الحديث ضعيف السند ، وهل ينقطع قانون تعضيد القرآن للسنة في زمان مخصوص .
الجواب لا ، وهو مستمر إلى يوم القيامة ينهل منه العلماء ، ويكون سلاحاً بأيديهم لمنع الخلاف والخصومة بينهم ، وهو معجزة في الوقاية من تعدد وإنشطار المذاهب في الإسلام ، وأيهما أكثر :
الأول : ما ظهر من قانون تعضيد القرآن للسنة .
الثاني : الذي لم يظهر بعد من قانون تعضيد القرآن للسنة .
الجواب هو الثاني ، ومع مرور أكثر من ألف وأربعمائة سنة على نزول القرآن لا زلنا في بداية الطريق في هذا العلم ومصاديقه ، وهو يحث العلماء لتأليف المجلدات والرسائل الجامعية فيه وأيها أوسع وأكثر أهمية :
الأول : التساوي في الأهمية والموضوعية بين تعضيد السنة للقرآن ، وتعضيد القرآن للسنة .
الثاني : قانون تعضيد السنة للقرآن هو الأعم .
الثالث : قانون تعضيد القرآن للسنة النبوية هو الأهم والأكثر موضوعية.
والصحيح هو الثاني ، وهو لا يتعارض مع لزوم العناية بالقانون الآخر ،وهو تعضيد القرآن للسنة لتنشأ مدارس جديدة في علوم التعضيد المتبادل بين القرآن والسنة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا] ( ).
قانون الفرائد
لقد ذكرت الآية قبل السابقة أموراً تتعلق بالمنافقين بقوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ] ( ) منها إبطان المنافقين الكفر في ذات الوقت الذي يظهرون فيه الإيمان ، وجاءت الآيات بذمهم وبيان قبيح أفعالهم وسوء سرائرهم ، وفي التنزيل [هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ).
ووردت فيها كلمات لم ترد في غيرها من آيات القرآن وهي :
الأولى : تحبونهم .
الثانية : يحبونكم .
الثالثة : لقوكم .
الرابعة : عضوا .
الخامسة : الأنامل .
السادسة : غيظكم .
وفيه مسائل :
الأولى : ذم الذين نافقوا .
الثانية : بيان إتصاف الذين نافقوا بخصال قبيحة .
الثالثة : التخفيف عن المسلمين في معرفة حال المنافقين ، قال تعالى [وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ] ( ) .
الرابعة : إعانة المسلمين في الإحتجاج على الذين نافقوا ، هذا الإحتجاج الذي دعت إليه الآية قبل السابقة بقوله تعالى [قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ].
الخامسة : بيان إعجاز القرآن العام , وإعجاز آيات القرآن الخاص بأن تأتي في آية واحدة ثلاث أو أربع كلمات لم تأت في غيرها من آيات القرآن , مع قلة كلمات الآية .
السادسة : دعوة العلماء لإستقراء المسائل من إنفراد آية قرآنية بكلمات لم ترد في غيرها ، وهذا الإستقراء من وجوه متعددة منها :
أولاً : الموضوع .
ثانياً : الدلالة .
ثالثاً : الغايات الحميدة .
رابعاً : أسرار رسم القرآن .
خامساً : علوم النحو والصرف في القرآن .
سادساً : بلاغة الآية القرآنية من جهة إستقلالها بكلمات معينة .
سابعاً : الحكم المستنبط من هذه الفرائد .
ثامناً : أسرار الكلمة المفردة في القرآن .
تاسعاً : الإفراد علم مستقل للكلمات المفردة في آيات القرآن بأن يتم إحصاؤها من جهات :
الأولى : إحصاء الكلمات التي لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة لتسهيل التحقيق فيها ، ومعرفة أسرار إتحادها ومجيئها مرة واحدة , ولا تجدها في آية قرآنية أخرى .
الثانية : الكلمات التي تتعلق بالدنيا والتي تتعلق بالآخرة .
الثالثة : كلمات الوعد والبشارة وكلمات التخويف والإنذار والوعيد .
الرابعة : الآية التي ورد فيها أكثر عدد من الكلمات الفرائد التي لم ترد في غيرها كما في الآية أعلاه من سورة آل عمران .
والفرائد جمع فريدة وهي الدر والشذر من الفضة .
(وفَرائِدُ الدرِّ كِبارُها , ابن الأَعرابي : وفَرَّدَ الرجلُ إِذا تَفَقَّه واعتزل الناس وخلا بمراعاة الأَمر والنهي وقد جاء في الخبر طوبى للمفرِّدين وقال القتيبي في هذا الحديث المُفَرِّدون الذين قد هلَك لِداتُهُم من الناس وذهَب القَرْنُ الذي كانوا فيه وبَقُواهم يذكرون الله , قال أَبو منصور وقول ابن الأَعرابي في التفريد عندي أَصوب من قول القتيبي .
وفي الحديث عن أَبي هريرة أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في طريق مكة على جبل يقال له بُجْدانُ فقال سيروا هذا بُجْدانُ سَبَقَ المُفَرِّدون وفي رواية طوبى للمُفَرِّدين , قالوا : يا رسول الله ومن المُفَرِّدون ؟ قال الذاكرون الله كثيراً والذاكراتُ) ( ).
والأصل هو كل كلمة من القرآن فريدة سماوية وإن تكرر لفظها في القرآن فتكون فرائد القرآن بعدد حروفه وكلماته ، ولكن هذا القانون لبيان علم خاص في القرآن وهو إرادة الكلمات المنفردة التي وردت في القرآن مرة واحدة , ودلالات هذا الإنفراد .
ومن علوم هذا القانون مسائل :
الأولى : الجمع بين الكلمات المنفردة في الآية القرآنية ودلالات هذا الجمع .
الثانية : إحصاء الكلمات المنفردة في كل سورة من القرآن .
الثالثة : الناسخ والمنسوخ والمجمل والمبين في الكلمات المنفردة في القرآن.
الرابعة : مشتقات الكلمات المنفردة التي وردت في آيات وسور القرآن الآخرى .
فمثلاً وردت كلمة [مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] ( ) في الآية أعلاه من سورة آل عمران في ذم الذين كفروا ، وجاء قوله تعالى [وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ]( ) وقال تعالى[وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا]( ) .
الخامسة : إحصاء ودراسة الكلمات التي وردت كل واحدة منها مرتين فقط في القرآن كما في كلمة [أُولاَءِ ]في الآية أعلاه من سورة آل عمران ، وفي قصة موسى عليه السلام قال تعالى [قَالَ هُمْ أُولاَءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى] ( ).
ومن خصائص علوم القرآن أن ذات الإحصاء في كلماته وآياته ومضامينه علم مستقل ، وتتفرع عنه علوم متكثرة لبيان إحاطة كلمات القرآن باللامحدود من الوقائع والأحداث ، قال تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا]( ).
ولفظ (قل) كلمة من كلمات القرآن التي مجموع عددها هو (77473)
وعدد حروف القرآن المدونة والمرسومة في القرآن هو (323071) وقيل أن عدد حروف القرآن حسب اللفظ هو (332588) أي بزيادة (9517)حرفاً بلحاظ إحتساب المشدّد حرفين ، ولكن المدار على الأول ، وهو الحروف المرسومة والمكتوبة في القرآن ، وترك التأكيد على الشدة لما فيه من التشديد على النفس في حسابها ، وأن كانت كثرة الحروف تدل على كثرى المعنى .
(عن ابن عباس قال: جميع آي القرآن ستة آلاف آية وستمائة آية وست عشرة آية، وجميع حروف القرآن ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون ألف حرف وستمائة حرف وأحد وسبعون حرفاً) ( ).
(وأخرج الطبراني عن عمر بن الخطاب مرفوعاً القرآن ألف ألف حرف وسبعة وعشرون ألف حرف، فمن قرأه صابراً محتسباً كان له بكل حرف زوجة من الحور العين)( ) أي (1027000).
وعن عطاء أن عددها هو (3230151).
وعن مجاهد (321180) وذكرت أقوال أخرى .
وقال السيوطي (وعد قوم كلمات القرآن سبعة وسبعين ألف كلمة وتسعمائة وأربعاً وثلاثين كلمة، وقيل وأربعمائة وسبعاً وثلاثين، وقيل ومائتان وسبع وسبعون، وقيل غير ذلك .
وقيل وسبب الاختلاف في عد الكلمات أن الكلمة لها حقيقة ومجاز ولفظ ورسم واعتبار، كل منها جائز، وكل من العلماء اعتبر أحد الجوائز.
(وتقدم عن ابن عباس عدد حروفه، وفيه أقوال أخر، والاشتغال باستيعاب ذلك مما لا طائل تحته) ( ).
والأولى إجتماع علماء التفسير انتفاعاً من علم الحساب والرياضيات والتقنية الحديثة واعتماد عدد واحد في كل من :
الأول : عدد سور القرآن .
الثاني : عدد آيات القرآن .
الثالث : عدد كلمات القرآن .
الرابع : عدد حروف القرآن بالجمع بين القراءات والأخبار والمرسوم في المصاحف والانتفاع من الآلات الحديثة ، وللتخفيف عن الباحثين والمسلمين جميعاً ، ومن شاء التفصيل والأقوال الأخرى في أعداد كلمات وحروف القرآن يرجع إلى المطولات .
فان قلت ماذا يعني ضجيج الملائكة على قتل المؤمن وقد إحتجوا بالأصل على خلافة الإنسان في الأرض ، وقد ورد لفظ(قل) في القرآن ثلاثمائة واثنتين وثلاثين مرة , الجواب حباً له ودعاء وتوسلاً إلى الله بجزائه الجزاء الحسن , وفي التنزيل[إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا]( ).
قانون لغة العيون
ومع شدة ما أصاب المسلمين يوم معركة أحد ، فان آية السياق إختصت ببيان حال المنافقين من جهات :
الأولى : من أسباب اذن الله عز وجل بمعركة أحد الكشف عن الذين نافقوا ، وأظهروا الإيمان كذباً وزوراً.
الثانية : اتصاف طائفة المنافقين بالتلبس بالنفاق ليعرفوا بهذا الاسم والصفة عند أهل الأرض والسماء .
الثالثة : صيرورة نظرات المنافق واغماضه لعينه أو إرخاء جفونه ونحوه من علامات النفاق بلحاظ المناسبة والحال .
الرابعة : يمكن تقدير آية السياق (هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ) بعيونهم ونظراتهم الخبيثة من وجوه :
الأول : عند حدوث المعجزة العقلية أو الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : نظر المنافقين للمؤمنين بسخط وحسد .
الثالث : عناية المنافقين بالغنائم والمكاسب على نحو الخصوص .
الرابع : نظرت الفرح واتساع حدقة عين المنافق عند طرو أذى للمسلمين، أو في حال سماع الوعيد من عند المشركين .
الخامسة : يدل الجمع بين أول آية السياق وخاتمة الآية السابقة لها على التضاد بين المؤمنين والمنافقين بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا]( )وبيان حاجة المسلمين والناس لمعرفة أشخاص المنافقين إذ أن الله عز وجل يعلم بما في نفوسهم وورد في التنزيل في ثناء الله على نفسه وبيانه لعظيم سلطانه [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ( ) .
وورد في الآية أعلاه (عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله { يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } قال : الرجل يكون في القوم ، فتمر بهم المرأة فيريهم أنه يغض بصره عنها ، وإذا غفلوا لحظ إليها ، وإذا نظروا غض بصره عنها ، وقد اطلع الله من قلبه أنه ودَّ أنه ينظر إلى عورتها ) ( ).
والآية أعم في الموضوع والدلالة إذ تشمل حال المنافقين وتنذرهم من النظر بطرف خفي مقرون بخبث ودهاء للوقائع , وبركات التنزيل , ورجاءهم الطعن بالإسلام .
وتحذر الآية المسلمين والمسلمات من همز الذين نافقوا واشاراتهم فيما بينهم أو إظهارهم الحقد والبغضاء للمسلمين أو الإستخفاف بهم أو خوفهم واضطرابهم عند دنو ساعة القتال مع المشركين ، قال تعالى [قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ]( ).
إذ كان المنافقون يصدون عن القتال والدفاع عن بيضة الإسلام بألسنتهم وأفعالهم ويقولون (ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ، ولو كانوا لحماً لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه ، دعوا هذا الرجل فإنه هالك) ( ).
وهل تدخل لغة العيون بمصاديق الإعاقة , الجواب لا ، بدليل قوله تعالى أعلاه [يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ].
ولغة العيون علم مستقل توجهت له الدراسات في هذا الزمان ، ولا زالت محدودة وأدنى من أن تسبر أغواره ويتم بواسطة استقراء الحالة النفسية للفرد وما ينتابه من الفرح أو الخوف أو الحزن ، وقد يطيل الإنسان التحديق بغيره للتحدي أو الغضب وإرادة الإنتقام ، والعين مرآة لما يفكر به الإنسان ويتدبره من الأمور والأحاسيس والمشاعر التي تجول في خاطره .
وقال أحد الباحثين من الغرب بامكان تواصل البشر عن طريق العيون ، ومن دون حروف ولا حركات , واستدل بتواصل المواليد باعينهم مع أمهاتهم ، وهذا القول ساذج ، إذ بيّن القرآن أن أول إتصال بين آدم والملائكة هو بالكلام لبيان نعمة اللسان واللغة على الإنسان وقد امتاز بها على سائر الحيوانات .
ويرد في علم النطق مصطلح ( الإنسان حيوان ناطق ) وهو أسمى من هذا الوصف ومن النعت بأنه حيوان ، وقال تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ).
لذا من الإعجاز في نفخ الله من روحه في آدم نفرة الإنسان من وصفه بالحيوان ، وما أكثر الإصطلاحات والمعاني التي يمكن الفصل فيها بين الإنسان وعالم الحيوانات .
وقد ورد لفظ [أَعْيُنٍ] ثمان مرات في القرآن .
وورد مرتين بلفظ [أَعْيُنِكُمْ] واحدة منها في قوله تعالى [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً] ( ).
لبيان منافع وأثر لغة العين وأن عيون الناس جميعاً مستجيبة لأمر الله عز وجل ويتفضل ويجعلها سبباً لنصر الإسلام .