معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 159

المقدمة
الحمد لله الذي أبى إلا أن يكون[فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ]( )، الحمد لله الذي ليس من إله غيره سبحانه ، الحمد لله من قبل ومن بعد وأمس واليوم وغداً.
الحمد لله الذي دلّنا على الحمد , وهدانا للشكر له سبحانه ليكون نتيجة لإختيار الإيمان ووسيلة مباركة لتثبيته في النفوس وزيادته كماً وكيفاً وموضوعاً , ومضامين كل آية من القرآن موضوع مستقل في المقام .
الحمد لله عدد نسمات الهواء وقطرات مياه البحار الظاهرة منها والمستورة، قال تعالى[قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا]( ).
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (لا يركبن رجل بحرا الا غازيا أو معتمرا أو حاجا فان تحت البحر نارا وتحت النار بحرا وتحت البحر نارا ولا يشترى مال امرئ مسلم في ضغطة ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا يركب البحر الا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله فان تحت البحر نارا)( ).
وقد اثبت العلم الحديث هذا الترتيب العجيب لتكون البراكين والحمم الذائبة والطبقة الملتهبة تحت البحر إنذاراً لأهل الأرض من نار الآخرة .
وهل فيه دعوة للناس للحفاظ على مياه البحار وعدم الإسراف في هدرها واستهلاكها مستقبلاً لأنها تفتح أبواب عذاب على أهل الأرض .
الجواب نعم ، إنما تأتي البركة والغنى عن هذا الإستهلاك والحفاظ على طبقة الأوزون والغلاف الجوي الذي يحيط بالأرض ويكون درعاً واقية لهم وحياة الإنسان ومطلق الكائنات الحية على سطح الأرض، والمنع من تآكل أو ثقب أو إستنزاف هذه الطبقة ولزوم المنع من الإحتباس الحراري وهو إزدياد درجة الحرارة السطحية وزيادة كمية ونسبة غاز الميثان ونحوه في الجو، بالحمد لله والثناء عليه سبحانه وتعاهد سنن التقوى، والتعاون لحفظ البيئة والمياه من ملوثات الهواء التي تأتي من إنبعاث المواد الضارة وتفشي الغازات السامة بسبب سوء الإستخدام وكثرته.
الحمد لله الذي رزقنا الحواس وجعل كل حاسة تدرك ما لا يحصل من آيات وبديع صنع الله عز وجل .
الحمد لله الذي هدانا لشكره والثناء عليه، وفي التنزيل[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللَّهُ]( ).
الحمد لله عدد ذرات الكون وملأ السموات والأرض ، الحمد لله الرحمن , الحمد لله الرحيم وتفضل وقرن بين الإسمين في ست مواضع من القرآن منها قوله تعالى[الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( )، ليتلو كل مسلم ومسلمة الآية أعلاه عدة مرات في اليوم وعلى نحو الوجوب العيني في الصلاة اليومية , وهل هذه التلاوة من مصاديق الحمد لله، الجواب نعم.
الحمد لله الذي جعل الحمد لله ملاذاً وأمناً وواقية وحرزاً وستراً وضياء، وكل فرد من أفراد الحمد لله التي يأتي بها العبد من الصراط في قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
ومن الإعجاز أن سورة الفاتحة التي تتضمن الآية أعلاه تبدأ بعد البسملة بقوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ).
الحمد لله بعدد تسبيح الملائكة له سبحانه ما دامت السموات والأرض رجاء أن يبقى حمدنا له سبحانه بعد مغادرة الحياة الدنيا ويتعلق موضوع آية البحث بحال شهداء معركة أحد بعد مفارقتهم الدنيا إذ صار الإسستبشار عرضا لازماً لهم، وفيه دعوة للمسلم للإجتهاد بالدعاء ونيل تلك المرتبة بالدعاء وإن مات على الفراش.
لقد أخبرت الآية التي يختص هذا الجزء بتفسيرها وهي قوله تعالى[يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) بالنعم العظيمة التي نالها شهداء أحد وغبطتهم وفرحهم من حين مفارقة أرواحهم الأجساد بفضل من عند الله .
لنقدم نحن حمدنا وشكرنا لله عز وجل ونسأله تعالى أن يبقى ويتجدد مع تسبيح الملائكة إذ أن الله عز وجل أطال أعمار الملائكة رحمة بهم وبالناس ، وليس من حصر لسبل إنتفاع المؤمن من الملائكة، وهذا الإنتفاع من مصاديق إحتجاج الله عليهم بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) حينما احتجوا على جعل الإنسان[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً].
ليخبر الله عز وجل عن قانون تعضيد الملائكة للإنسان في خلافته في الأرض ومن أفراد هذا القانون نزولهم لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم معركة بدر وأحد التي جاءت مضامين هذا الجزء بخصوص شهداء معركة أحد وقال تعالى فيها[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
ولقد أخبرت الآية قبل السابقة عن كون قتل الشهداء[فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ) ويحتمل هذا القتل بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : إنه من الصبر الذي تذكره الآية بقوله [إِنْ تَصْبِرُوا] .
الثاني : انه من التقوى لقوله تعالى[وَتَتَّقُوا] .
الثالث : المراد من الآية خصوص الأحياء من الصحابة الذين رجعوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من معركة أحد.
الرابع : أنه فرد جامع للصبر والشهادة .
والصحيح هو الأخير أعلاه، ليكون تقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : بلى إن تصبروا , ولم تصغوا لتحريض الذين نافقوا على القعود.
الثاني : بلى إن تصبروا بالتهيئ والإعداد لملاقاة الذين كفروا ، إبتداء وإستدامة، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى قبل بضع آيات[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
الثالث : ان تصبروا على لمعان السيوف وجريان الدماء .
الرابع : إن تصبروا على سقوط عدد منكم شهداء .
الخامس : إن تصبروا على جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة أحد.
السادس : إن تصبروا على كثرة الجراحات التي نزلت بكم.
السابع : إن تصبروا في طاعة الله وأداء الصلاة مع شدة إيذاء الذين كفروا بكم.
الثامن : إن تصبروا بعدم ترك مواضعكم، لتشمل الآية في دلالتها الرماة ويكون تقديرها: إن تصبروا ولا تتركوا مواضعكم .
التاسع : إن تصبروا في طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أوامره ونواهيه في المعركة، وهذا المعنى من مصاديق قوله تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ]( ).
وهل يحتسب الرماة في تركهم مواضعهم ممن لم يطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا ، من جهات :
الأولى : لم يترك كل الرماة مواضعهم إذ بقي أميرهم عبد الله بن جبير ومعه نحو ثمانية لم يغادروا من أصل خمسين من الرماة.
الثانية : لقد نال الرماة مرتبة الإيمان بالشهادة من عند الله عز وجل لهم بقوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( )، فإن قلت قد يكون الوصف بالإيمان للغالب خاصة مع وجود بعض المنافقين ممن لم ينخزل وينسحب مع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول، أو كما أخبر الله عز وجل بتوجه أمره إلى الملائكة بالسجود مع علمه بوجود إبليس معهم وهو من الجن قال تعالى[وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ]( ).
الجواب الأصل إنطباع وصف المؤمن على كل فرد ممن وقف في الصف ضد المشركين إلا ما خرج بالدليل سواء بذكر اسمه كمنافق أو أنه قتل حمية وعصبية وليس في سبيل الله كما في قزمان حليف بني ظفر، الذي قاتل مع المسلمين وذكر أنه(قتل يوم أحد سبعة نفر)( )، وهو أمر مستبعد من جهة كثرة الذين قتلهم، إذ أن مجموع قتلى المشركين يومئذ ثمانية وعشرون، قتل الإمام علي عليه السلام عدداً منهم حملة لواء المشركين، وقتل حمزة منهم عدداً، ورمى سعد بن أبي وقاص وطلحة وغيرهما بسهامهم مع دعاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقاتل يومئذ المهاجرون والأنصار, وهل تكون كثرة جراحاتهم , وقوله تعالى في الآية التالية[مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ]( )، أمارة على قتالهم , الجواب نعم , إذ أنها من آثار ضرب السيوف والمبارزة
وفي الجملة فإن قزمان قاتل يوم معركة أحد قتال الأبطال حتى كثرت جراحاته، ولما عاده المسلمون يهنئونه ويبشرونه قال(فَوَاَللّهِ مَا قَاتَلْت إلّا حَمِيّةً عَنْ قَوْمِي ؛ فَلَمّا اشْتَدّتْ بِهِ جِرَاحَاتُهُ وَآذَتْهُ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَقَطَعَ بِهِ رَوَاهِشَ يَدِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ)( ) أي أنه غادر الحياة الدنيا ظالماً لنفسه .
الثالثة : تحقق صدق طاعة الرماة لله ورسوله بإتخاذ مواضعهم على الجبل، ورشقهم بالسهام خيل المشركين كلما هموا للتقدم من خلف جيش المسلمين.
الرابعة : لم يفر الرماة، إنما إجتهدوا بخلاف النص ونزلوا ليشاركوا في جمع الغنائم خشية حرمانهم منها مع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وعدهم بحفظ سهامهم فيها، كما أنه قام بتوزيع غنائم معركة بدر على المهاجرين والأنصار الذين كانوا معه قبل أن يدخل المدينة، ويختلط البدريون مع غيرهم من الصحابة.
فقد جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن كعب من بني مازن بن النجار على الغنائم، وما أن(خرج من مضيق الصفراء فقسم النفل بين المسلمين على السواء)( )، ويبعد مضيق الصفراء عن المدينة المنورة نحو تسعين كيلو متراً.
ومن معاني الآية التي يختص هذا الجزء بتفسيرها أنها تتضمن الإخبار عن الصبر من جهات :
الأولى : أسمى مصاديق الصبر القتال تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإستجابة لأمره الذي هو فرع الوحي، قال تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، وسيأتي مزيد بيان في الجزء التالي وهو الستون بعد المائة بخصوص قوله تعالى[الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ]( ).
فقد خرج المهاجرون والأنصار ممن إشترك في معركة أحد مع النبي لمطاردة جيش الذين كفروا عندما بلغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنهم يرومون العودة لغزو المدينة بعدما إستفاقوا على حقيقة وهي عجزهم عن تحقيق أي غاية من الغايات الخبيثة التي جاءوا من أجلها، وأظهرها قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : تحقق الصبر بوجوب الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل، لقد كان دفاع المهاجرين والأنصار في معركة أحد على وجوه:
أولاً : مبادئ التوحيد وأحكام الإسلام.
ثانياً : النبوة والرسالة.
ثالثاً : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
رابعاً : التنزيل وآيات القرآن، وهذا الوجه من الدفاع على شعب:
الأولى : الآيات والسور التي نزلت قبل معركة أحد سواء المكية منها أو المدنية.
الثانية : الآيات التي نزلت بخصوص معركة أحد، ومنها آية البحث.
الثالثة : الآيات والسور التي ستنزل بعد معركة أحد بخروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سالماً من المعركة لقانون عدم نزول آيات القرآن على غيره سواء من الأولين أو الآخرين، وهل هو من عمومات قوله تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( )، الجواب نعم، بلحاظ تقييد ماهية الوحي وإرادة آيات القرآن.
ومن فضل الله عز وجل أنه جعل نزول القرآن على النجوم وبالتوالي والتعاقب، ليترشح عنه الفضل بحفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والبشارة للمسلمين بهذا الحفظ إلى أن يتم نزول القرآن وآياته.
وقد إبتدأت آية البحث بقوله تعالى(يستبشرون) فهل يستبشر شهداء معركة أحد بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ، وهل هذا الإستبشار متحد أم متعدد ومتجدد، الجواب هو الثاني، وهو إستبشار متعدد، ففي كل يوم تشرق فيه الشمس على الأرض يستبشر الشهداء بوجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني المسلمين، وينزل معه الوحي والتنزيل.
وهل إنقطع هذا الإستبشار بإنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى , الجواب لا، إنما يتجدد إستبشارهم بقدومه عليهم، وهو من مصاديق الآية السابقة[وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ]( )، وتقدير الآية أعلاه في المقام على وجوه:
أولاً : يستبشرون بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل يوم معركة أحد.
ثانياً : يستبشرون بنجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإغتيال كل يوم من أيام حياته الشريفة، خاصة مع تكرار هذه المحاولات وإزديادها بعد الهجرة.
ثالثاً : يستبشرون بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل يوم معركة أحد، والخندق، وحنين وغيرها من الغزوات.
رابعاً : يستبشرون بعدم قتل مثل عددهم في معارك الإسلام اللاحقة.
خامساً : يستبشرون بعدم موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الفراش أو إصابته بمرض يحول دون خروجه إلى الغزو، إذ أن سلامته وعدم وجود مانع من خروجه إماماً في الغزو معجزة حسية له في الصحة البدنية، مع عدم وجود أطباء وعلاجات آنذاك إلا على نحو الأمر الإبتدائي، وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالصيام بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( )، وورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: صوموا تصحوا) وعن الإمام علي عليه السلام قال: لكل شيء زكاة وزكاة البدن الصيام)( )، ليكون الصوم وقاية وعلاجاً.
لقد ورد قوله تعالى[وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ).
فتضمنت الآية أعلاه الترديد في خاتمة حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الموت أو القتل، ومن الإعجاز في المقام أنه مات من أثر السم من شاة في خيبر، ومات في الحال من أثر الأكل منها بشر بن البراء وكأن الموت بالسم برزخ بين الموت والقتل اللذين تذكرهما الآية أعلاه.
الجهة الثالثة : صيرورة الصبر طريقاً ومقدمة للإستبشار من حين مغادرة الدنيا، ليكون من معاني قوله تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( )، إتخاذ الصبر منهاجاً ووسيلة لبلوغ المرتبة السامية في الدنيا والآخرة.
الرابعة : الصبر على الأذى الذي يأتي من الذين نافقوا، ومن إعجاز نظم القرآن تقدم الآية التي تبين قبيح فعلهم وإختيارهم القعود عن الدفاع، والسعي في صدّ المسلمين عن الخروج إليه، لتبين آية البحث أن نتيجة قول المنافقين هو تسابق المهاجرين والأنصار إلى ميدان المعركة وتنافسهم على الشهادة والتضحية في سبيل الله ليفوزوا بالإستبشار المتصل والدائم، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وهذا الجزء هو التاسع والخمسون بعد المائة من تفسيري للقرآن تتجلى فيه شذرات ودرر من خزائن الآية الحادية والسبعين بعد المائة من سورة آل عمران التي تبين المنزلة الرفيعة لشهداء معركة أحد، والثواب الجزيل الذي فازوا به في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً.
ومن فضل الله عز وجل أني أقوم بكتابة التفسير ومراجعته وتصحيحه بمفردي بلطف وفيض منه تعالى[لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ]( ).

حرر في الرابع عشر من شهر ذي القعدة 1438
6/8/2017

قوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] الآية 171.
الإعراب واللغة
يستبشرون : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
الواو : فاعل .
بنعمة : جار ومجرور متعلق ب[يَسْتَبْشِرُونَ].
من الله : جار ومجرور متعلق بمحذوف نعت لنعمة .
وفضل : الواو حرف عطف .
فضل : اسم مجرور معطوف على نعمة .
وأن الله : الواو حرف عطف .
أن: حرف مشبه بالفعل .
اسم الجلالة اسم أن منصوب بالفتحة الظاهرة على آخره .
لا يضيع : لا : أداة نفي.
يضيع : فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره ، والفاعل ضمير مستتر تقديره هو .
أجر المؤمنين : أجر: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره .
المؤمنين : مضاف إليه مجرور , وعلامة جره الياء لأنه جمع مذكر سالم.
والإستبشار ظهور أمارات البهجة والسرور على الحال والهيئة والوجه وتهلله فرحاً وغبطة .
ومنه حديث فاطمة عليها السلام، (فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استبشر وتهلل وجهه)( ).
والأجر جزاء وعوض العمل ، يقال أجر يأجر أجراً وهو مأجور والأجر من عند الله أمر خاص لأن العمل وفعل الصالحات لا يعدل معشاره فمن فضل الله أنه يعطي أكثر من الكثير بأقل من القليل.
(عن يونس قال: وقف أعرابي في المسجد الجامع بالبصرة، فقال: قَلَّ النَّيْلُ، ونَقَص الكَيْل، وعَجِفت الخيل، واللّه ما أصبحنا نَنْفخُ في وضَح، وما لنا في الديوان من وَشْمَة، وإنا لَعيال جَرَبّة، فهل من معين أعانه اللّه يعين ابن سبيل، ونِضْو طريق وفَلَّ سنة؟ فلا قليل من الأجر، ولا غنَى عن اللّه، ولا عمل بعد الموت)( ).
والوضح اللبن لبيان حال الجفاف .
ومعنى الوشمة: الحظ أي ليس لنا في بيت المال عطاء شهري ، ولم تسجل أسماؤنا في الديوان، والجربة أي الجماعة لإرادة حاجتهم للنفقة والزاد ، والفلّ : المنهزمون.
في سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة , وهي على شعبتين :
الشعبة الأولى : صلة هذه الآية بالآيات المجاورة السابقة , وهي على وجوه :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : من الإعجاز في نظم هذه الآيات إتحاد الموضوع وإرادة خصوص طائفة معينة في أول كل من آية البحث والسياق ، وهم الصحابة الذين قتلوا في معركة بدر وأحد ، وتقدير الجمع بينهما (فرحين يستبشرون).
مع التعدد في كل من :
الأول : علة الفرح .
الثاني : أسباب الإستبشار .
الثالث : التعدد في الفرد الجامع للفرح والإستبشار.
وهو من مصاديق فضل الله على الشهداء، والتي لا تنقطع، وهل يمكن القول أن الشهداء مرة يفرحون وأخرى يستبشرون ، الجواب لا ، إنما يحل الفرح والإستبشار معاً عند الشهداء وبين ظهرانيهم .
ولو دار الأمر بين مجئ المتعدد من فضل الله أو المنفرد والمتحد ، فالجواب هو الأول.
ففي كل حين يكون الشهداء في حال فرح وسرور ويزيدهم الإستبشار فرحاً وغبطة ، ومن خصائص النعم التي تأتي من عند الله للمؤمنين في الآخرة التوالي والتعاقب .
قال تعالى[وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا]( )، لبيان قانون عدم فناء أو زوال النعم التي في الآخرة وأنها لا تنقص ولا تتوزع على ورثة، ويخشى الإنسان في الدنيا على ما يملك سواء كان قليلاً أو كثيراً، ولا تختص هذه الخشية بالسارق أو الفقير أو الذي يفتقر لما يملك إنما تكون خشية في جهتها وحذر الإنسان على ما يملك ممن يعرف وممن لا يعرف من الناس وقد يفقد الإنسان حياته بسبب ماله وما يملك قتلاً أو غيلة ومكراً، وفي الآية أعلاه ورد عن مجاهد قال: هو استئذان الملائكة لا تدخل عليهم إلى بإذن.
الخامس : منافع الإستبشار.
السادس : ما يدفع بالإستبشار.
ومن صفات الإنسان أنه ضعيف، قال تعالى[وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( )، وهذا الضعف رحمة بالإنسان، وبعث له للجوء إلى الله عز وجل بالدعاء والتسبيح وأداء الفرائض، وفي التنزيل[قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ]( )، ويحتمل قوله تعالى(يستبشرون) في المقام وجوهاً:
الأول : إنه من رحمة الله عز وجل بالناس في الدنيا.
الثاني : إنه من رحمة الله بالمؤمنين في الدنيا والآخرة.
الثالث : الآية خاصة بالشهداء في منطوقها وموضوعها وهو القدر المتيقن.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق آية البحث ومنافعها، وتقديرها على وجوه:
الأول : يستبشر الشهداء لنستبشر ، ويكون فرحنا وغبطتنا على وجوه:
أولاً : ما فاز به الشهداء من المقام الرفيع.
ثانياً : الوعد من عند الله عز وجل للمؤمنين والمؤمنات.
ثالثاً : صرف الحزن والأسى عن عوائل أهل المدينة بمصيبة قتلى أحد.
رابعاً : مصاحبة آية البحث للأخبار التي ذهبت إلى مكة بخصوص شهداء أحد فيكون نفعها على وجوه:
أولاً : إلهام المسلمين والمسلمات في مكة الصبر والتأسي.
ثانياً : إصابة الذين كفروا بالإحباط.
ثالثاً : كثرة التلاوم والخصومة بين الذين كفروا، وهو الذي ظهر جلياً بينهم من حين مغادرتهم أرض المعركة، وفي طريق عودتهم إلى مكة سمعهم معبد الخزاعي(وهم يقولون: لا محمداً أصبتم، ولا الكواعب أردفتم، فبئس ما صنعتم! فهم مجمعون على الرجوع، ويقول قائلهم فيما بينهم: ما صنعنا شيئاً، أصبنا أشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم، قبل أن يكون لهم وفرٌ , والمتكلم بهذا عِكرمة بن أبي جهل)( ).
رابعاً : تلاوة آية البحث دعوة للمسلمين للتفاني في مرضاة الله .
خامساً : تنمية ملكة الإحتجاج عند المسلمين ، فلما قال تعالى [وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ) تفضل سبحانه وأصلح المسلمين للجدال بالأحسن والأتم بالقرآن والسنة , ومن القرآن آية البحث التي تجعل المسلم يبتهج بحال الشهداء في الآخرة .
سادساً : آية البحث حرب على النفاق وزاجر للناس عن التلبس به، وعن محاكاة المنافقين .
المسألة الثانية :تقدير الجمع بين الآيتين : يستبشرون بنعمة من الله).
لقد أراد الله عز وجل بيان قانون وهو فوز الشهداء الذين قتلوا في سبيله في معركة بدر وأحد وشهداء ملل التوحيد في الأمم السابقة بنعم عظيمة يعجز الناس عن تصورها .
فان قلت ظاهر الآية قبل السابقة إرادة خصوص شهداء الإسلام لقوله تعالى في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ).
والجواب هذا صحيح ولكن معنى الآية أعم لإرادة وحدة الموضوع في تنقيح المناط ، وتحقق مصداق الشهادة على أصحاب الأنبياء الذين قتلوا في سبيل الله ، ومن الآيات ذكر القرآن والسنة لجهادهم .
وقد ورد قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ).
وذات تقدير الجمع بين آية السياق وآية البحث هو ذات بداية آية البحث [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ] ( ) لبيان التعدد في فضل الله , وتعدد مصاديق النعم على الشهداء بما يشمل وجوهاً :
الأول : حال الشهداء في عالم البرزخ ، وحياتهم والرزق الكريم الذي يأتيهم فيه وإلى حين قيام الساعة .
الثاني : النعم التي تأتي للشهداء في عرصات يوم القيامة ومواطن الحساب لذا تضمنت آية السياق قانوناً وهو سلامتهم من الخوف والحزن من حين مغادرتهم الحياة الدنيا .
الثالث : من النعم ما يتعلق بصرف الأذى والبلاء في الدنيا والآخرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ] ( ) ويحتمل حال الناس في محو البلاء وجوهاً :
الأول : الناس متساوون في محو البلاء والشدة .
الثاني : يفوز المؤمنون بمحو ضروب من البلاء أكثر مما يناله غيرهم .
الثالث : يكون النصيب الأوفر من المحو للذين آمنوا .
الرابع : ينال غير الذين آمنوا نصيباً أكبر من المؤمنين .
والصحيح هو الثاني بفضل الله ، قال تعالى[ُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا]( )، ويتخذ المؤمنين الدعاء سبيلاً وطريقاً لنزول رحمة الله .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم بنعمة من الله )لبيان تجلي النعمة من وجوه :
الأول : إستبشار الشهداء .
الثاني : لحوق الذين آمنوا بالشهداء.
الثالث: علة وسبب هذا اللحوق هو النعمة من عند الله .
وهل يستبشر الذين يلحقون بهم بغيرهم ممن سيغادر أو سوف يغادر إلى الآخرة فيما بعد ، الجواب نعم ، فتكون كثرة الذين يستبشرون سبباً إضافياً لإستبشار الشهداء .
صحيح أن الموت أمر وجودي إلا أنه من معاني السكون وإنعدام الحركة إلا أن يشاء الله عز وجل وهو الذي أراد أن يبين قانوناً في الدنيا والآخرة وهو [أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) ومن قدرته سبحانه التخصيص والإستثناء من القوانين ، ويحتمل هذا الإستثناء وجوهاً :
الأول :التفصيل مرة يكون هذا الإستثناء خيراً ونفعاً , وأخرى فيه أذى وضرر .
الثاني : فيه دفع للمفسدة عن الناس .
الثالث : فيه مصلحة العباد .
الرابع : الإستثناء من قوانين الإرادة التكوينية , وفيه مجلبة للنفع ودفع للضرر.
الخامس : نيل وفوز المؤمنين بتخصيص واستثناء ومحو نافع أكثر من غيرهم .
السادس : إرادة النفع للمؤمنين ، والضرر للذين كفروا .
والصحيح هو الثاني والثالث والخامس والتخصيص , والمحو فضل من الله عز وجل ينتفع منه البر والفاجر ، ليكون المائز في هذا المحو من مصاديق شكر الله عز وجل للعباد وفضله على أهل الإيمان .
وقد أنعم الله سبحانه على الشهداء بأن محى عنهم السكون في عالم الآخرة وزاد عليهم من فضله ، وهو الذي تدل عليه هذه الآيات من وجوه :
الأول : الشهادة من الله للشهداء بأنهم قتلوا في سبيله تعالى ، وأنهم اشتاقوا إلى لقائه مضرجين بدمائهم حباً له تعالى وإعلاء لكلمته .
الثاني : مع أن النبي محمداً مبّشر كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ) ، فقد جاءت هذه الآيات بالبشارة إليه بحياة شهداء أحد عند الله ، ليكون واقية من الظن بأنهم موتى ،ودعوة له لتبليغ المسلمين والمسلمات بحياتهم عند الله عز وجل ، ويدل توجه البشارة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحياة الشهداء على أهمية المسألة .
الثالث : ذات الفرح الذي يتصف به الشهداء دليل على الحركة وانعدام السكون ، إذ أنه تغيير في الملامح , وغبطة تتغشى الأركان , وأما في الآخرة فهو أعم وأكبر ويشمل فرح وسعادة الروح ، ويكون الفرح في المقام على وجوه:
الأول : فرح الشهداء لما يصيبهم جميعاً .
الثاني : فرح الشهداء لنيل أحدهم فضلاً من الله عز وجل .
الثالث : فرح الشهداء لما يأتي للمؤمنين في الحياة الدنيا .
لذا ورد في الآية السابقة [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ] ( ) .
الرابع :فرح وغبطة الشهداء بأن الله عز وجل أنجاهم من ضروب الإبتلاء في الدنيا ، ومن أذى الذين كفروا والمنافقين .
وهل من أجر مستحدث لأصحاب الأنبياء السابقين باختيار شهداء معركة أحد القتل في سبيل الله ، الجواب نعم ، للأسوة والإقتداء بهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بلحاظ انتفاع الأنبياء السابقين وأصحابهم وأنصارهم من بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتذكر آيات القرآن الأنبياء وصبرهم في جنب الله ودعوتهم الناس للإيمان ليتجدد ذكرهم بين الناس إلى يوم القيامة ببركة القرآن .
لقد ورد في آية البحث [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ] ( ) فهل من مصاديق هذه النعم ما يأتي للشهداء من الأمم السابقة من الفضل من عند الله أم أن القدر المتيقن هو ما يأتي لشهداء بدر وأحد .
الجواب الأصل هو إرادة عموم الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله من بداية عمارة الإنسان الأرض ، وأول قتل في الأرض هو قتل قابيل ابن آدم لأخيه هابيل فهل فاز هابيل بمرتبة القتل في سبيل الله بلحاظ علة القتل وتقريبه قرباناً لله أو لصبره وامتناعه عن مقابلة قصد أخيه بالقتل بمثله ، الجواب يلزم الدليل عليه ، إذ تدل آية البحث على إرادة الذين شهروا سيوفهم دفاعاً عن النبوة والإيمان .
ولو قام أخوة يوسف بقتله بدل القائه بالبئر ، أو أن هذا الإلقاء صار سبباً لموته إذ ورد في التنزيل [قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ] ( ) فهل ينال يوسف عليه السلام مرتبة القتل في سبيل الله ويكون من أهل هذه الآية ، الجواب لم يحدث هذا الأمر، وقد كانت رؤياه بشارة سلامته يومئذ , وفي التنزيل[إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ]( ).
لقد اختار شهداء أحد ملاقاة الحتوف دفاعاً عن النبوة الإسلام .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : يستبشرون ويستبشرون) مع أن لفظ يستبشرون لم يرد في القرآن إلا ست مرات ، فقد ورد في آية البحث والآية السابقة في خصوص شهداء أحد ، وفيه مسائل :
الأولى : تعدد موضوع الإستبشار الذي يأتي فضلاً من عند الله .
الثانية : بيان توالي النعم على الشهداء .
الثالثة : يتعلق موضوع الإستبشار في آية السياق بغبطة وسعادة الشهداء بالصحابة الذين سيلحقون بهم بايمانهم وصبرهم في سبيل الله ، أما الإستبشار في آية البحث فيتعلق بالنعم التي يتفضل الله سبحانه بها على الشهداء .
الرابعة : بين الإستبشارين عموم وخصوص مطلق ، فوجوه ومصاديق النعم التي يقع الإستبشار بها في آية البحث أعم وأكثر ، ليكون من إعجاز نظم القرآن أن النعم في الآية التالية أكثر منها في الآية السابقة .
ومن الإعجاز في آية البحث ذكرها للفضل الإلهي غير المقيد والمعين ، ويدل إخبار آية السياق عن إستبشار الشهداء بأمور تتعلق بالحياة الدنيا على عدم إنقطاعهم عنها .
ويحتمل إستبشار الشهداء بلحاظ أوانه ومدته وجوهاً
الأول : الإستبشار كلما جاء للشهداء خبر سار .
الثاني : إرادة التأبيد ودوام الإستبشار .
الثالث : الإستبشار عند مجئ فضل من عند الله ، سواء على الشهداء أو على المؤمنين في الدنيا.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، ولو دار الأمر في النعمة والفضل الإلهي بين التأبيد والدوام وبين المؤقت والإنقطاع , فالأصل هو الأول ، ففي كل حال للشهداء إستبشار والذي يدل بالدلالة التضمنية على الأمن والسلامة .
وكما يصاحب الفرح الشهداء من حين مغادرتهم الحياة الدنيا فان الأخبار السارة والأنباء ذات البهجة والسرور تترى عليهم في عالم الآخرة، وتحتمل هذه الأنباء في تواليها وجوهاً :
الأول : يأتي كل يوم للشهداء نبأ سار وسبب للحبور جديد .
الثاني : الإستبشار أعم من النبأ السار إنما يتضمن التطلع لتحقيق أمر مفرح وسار، وقال تعالى[ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]( ) .
وبما أن الآخرة دار جزاء من غير عمل فإن الشهداء لن يغيروا في نواياهم وأعمالهم فهم في نعمة الإستبشار الدائم .
وقد أخبرت هذه الآيات عن حالهم النفسية من جهات :
الأولى : قوله تعالى في الآية السابقة [فَرِحِينَ] .
الثانية : بيان علة الفرح وهو الرزق الكريم الذي يأتيهم من غير إنقطاع رحمة من عند الله عز وجل.
الثالثة : توالي أفراد الفضل الإلهي على الشهداء .
الرابعة : بيان قانون وهو الجزاء من عند الله للذين قتلوا في سبيله تعالى ، ليكون فضلاً آخر غير النعمة والفضل اللذين ذكرتهما آية البحث .
الثالث : التباين والتفصيل فمن الشهداء من يأتيه الخبر السار كل ساعة ومنهم يأتيه كل شهر وهكذا ، ويصدق على الجميع أنهم يستبشرون بلحاظ أن الإستبشار في المقام من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة .
الرابع : ليس من جدول ومنهاج ثابت في موضوع الإستبشار إنما هو فضل من الله سبحانه .
والمختار هو الثاني وفي كل يوم يكون الشهداء في حال إستبشار , وهل يتناجون بهذا الإستبشار أم أن كل واحد منهم يستبشر على نحو الإنفراد ، الجواب هو الأول ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فرحين] وقد تأتي البشارة لأحدهم فيهنئه الآخرون .
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : فرحين لأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ) وبين الذين هم فرحون كما في آية السياق ومن المؤمنين الذين تذكرهم آية البحث عموم وخصوص مطلق ، فمادة الإلتقاء من جهات :
الأولى : حال الغبطة والسعادة بفضل الله التي تتغشى الجميع .
الثانية : اختصاص مضامين الآيتين بالمؤمنين بالله والنبوة والتنزيل .
الثالثة : بلوغ مرتبة الإيمان والفرح بنعمة وفضل من عند الله عز وجل .
والمؤمنون أعم ، إذ تذكر آية السياق فرح الذين قتلوا في سبيل الله في معركة أحد ، أما لفظ المؤمنين في آية البحث فيشمل عموم المسلمين الأحياء والأموات .
لقد أخبرت آية السياق عن علة وسبب فرح الشهداء في الآخرة من جهات :
الأولى : توالي فضل الله على الشهداء .
الثانية : بلوغ فضل الله للشهداء وهم في عالم البرزخ .
الثالثة : إنتفاء الموانع دون وصول فضل الله للشهداء .
الرابعة : المائز والفضل الذي ناله الشهداء من بين الذين غادروا الدنيا من الناس مع التسليم بمنزلة الأنبياء الرفيعة في الدنيا والآخرة ، وقد ورد تقديم الأنبياء على الشهداء في قوله تعالى [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا] ( ).
الخامسة : فرح الشهداء بنيلهم مرتبة [فرحين] في الآخرة وتغشيها لهم من غير إستثناء إذ أنها تتقوم بأمور :
الأول : الإيمان ظاهراً وباطناً ، وهذا التقييد ليخرج المنافقون منه بالتخصيص لفقدهم شرط إبطان الإيمان .
الثاني : القتال تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : القتل .
الرابع : نية القتال لحين القتل في سبيل الله .
وبين موضوع فرح الشهداء وبين الفضل الذي يأتيهم خاصة عموم وخصوص مطلق ، إذ يترشح فرحهم عن وجوه :
الأول : فرح عموم الشهداء بفضل الله على الفرد الواحد منهم .
الثاني : سعادة الشهداء بفضل الله سبحانه على ذويهم أجزاء لقتلهم في سبيل الله .
الثالث :موضوعية كيفية مغادرة الشهداء بفضل الله في إنتشار الإسلام بسبب قتلهم .
الرابع : سرور وبهجة الشهداء بتوبة فريق من الناس .
الخامس : فرح الشهداء بقتل طائفة من الكفار بإذن من عند الله ، وفي ذات معركة أحد التي نزلت آية البحث بخصوصها , وفيهم ورد قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) .
وهل فرح الشهداء هذا من الشماتة بالذين كفروا ، الجواب لا ، إنما هو غبطة وفرح بفضل الله عز وجل على المؤمنين لتمادي كفار قريش بالبغي والغي ، ولأن في هلاك الفرد الواحد منهم أمور :
الأول : إصابة الذين كفروا بالضعف والوهن .
الثاني : تفشي الإرباك بين صفوف الذين كفروا ، وهو الذي تجلى بانسحابهم من معركة أحد في ذات اليوم الذي بدأت فيه ، مع أنهم أعدوا لها لأكثر من سنة وقطعوا نحو خمسمائة كيلو متراً .
الثالث : دخول الحزن والأسى إلى بيوت الذين كفروا عند قتل بعضهم فان قيل : لقد قتل منهم يوم معركة أحد ثمانية عشر بينما قتل من المسلمين سبعون مما يدل على أن الحزن الذي أصاب المسلمين وذويهم أكثر ، ويتجلى الجواب بآية البحث وآية السياق إذ أخبر الله عز وجل عن غبطة الشهداء بحضرة القدس .
وصحيح أن كلاً من آية البحث وآية السياق وردتا بصيغة الجملة الخبرية إلا أنهما يتضمنان معنى الإنشاء والخطاب الموجه إلى كل من :
الأول : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا ورد قبل آيتين قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ] ( ) ومن وجوه تقدير آية البحث :
أولاً : اعلم يا محمد بأن أصحابك الذين قتلوا في معركة أحد يستبشرون بنعمة من الله .
ثانياً : نبشرك يا محمد بالأجر والثواب للذين آمنوا برسالتك.
ثالثاً : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للشكر لله عز وجل على ما أعدّ الله من الثواب العظيم للمؤمنين والمؤمنات، وعن عطاء بن أبي رباح أنه دخل مع ابن عمر على عائشة فقال ابن عمر: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله؟
فبكت فأطالت ثم قالت : كل أمر رسول الله عجب،
أتاني في ليلتي فدخل معي في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي ثم قال : يا عائشة هل لك أن تأذني لي في عبادة ربّي عزّ وجلّ؟
فقلت : والله يا رسول الله إني لأحبّ قربك وأحبّ هواك قد أذنت لك، فقام عليه الصلاة والسلام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حجره، ثم رفع يده فجعل يبكي حتى رأيت الدموع قد بلت الأرض.
فأتاه بلال بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال : يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تآخر؟
فقال : يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً ثم قال : وما لي لا أبكي وقد أنزل الله تعالى في هذه الليلة عليَّ {إن في خلق السماوات والأرض}( ) الآية ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها)( ).
رابعاً : أعلم يا محمد أن نعمة الله تترى على المهاجرين والأنصار الذين قتلوا في سبيل الله يوم معركة بدر وأحد .
وتحتمل هذه النعمة مسائل :
الأولى: تؤدي هذه النعم إلى النقص في النعم التي تخص المؤمنين الأحياء .
الثانية : لا صلة أو ملازمة بين النعم الخاصة بالشهداء التي تذكرها آية البحث والنعم التي تأتي للمؤمنين في الدنيا .
الثالثة : النعم التي تأتي للشهداء سبب لزيادة النعم التي تأتي للمؤمنين الأحياء .
الرابعة : قطع النعم التي تأتي للشهداء من المكتوبة للذين كفروا .
والصحيح هو الثالثة أعلاه فكل نعمة تأتي للشهداء هي سبب ونوع طريق لزيادة النعم على المؤمنين الأحياء .
الثاني : المقصود الصحابة الذين خرجوا لمعركة أحد وقاتلوا تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد خرج ألف من الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد فانخزل منهم ثلاثمائة في الشوط وسط الطريق وعادوا إلى المدينة بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول ، الذي كان ينادي بينهم (ما ندرى علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس) ( ) فبقى سبعمائة من الصحابة وإزدادت صلات الوثاقة والمودة بينهم لأنهم خاصة أهل الإيمان , ومتوجهون إلى الموت برضا وشوق لدفع جيوش عظيمة جاءت لمحاربة الإسلام والنبوة , ولم يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ] ( ) ولم يطلبوا آية في دفع وقتل جيش الذين كفروا من غير عناد وتعب من المسلمين وإلا لاتكل المؤمنون في كل زمان على الآيات التي تدفع الكفار .
ولكن الله عز وجل جعل الحياة الدنيا دار امتحان واختبار للناس جميعاً وللذين آمنوا خاصة ليفوز الشهداء منهم بالحياة الأبدية عند الله عز وجل من حين مغادرتهم الدنيا .
وجاءت آية البحث لندبهم للصبر في رضوان الله والتأسي بالذين سبقوهم ، إذ أن قوله تعالى [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ]( ) دعوة للمؤمنين والمؤمنات إلى التأسي والإقتداء بهم والسعي الحثيث في فعل الصالحات وجني الحسنات ، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ] ( ).
الثالث :إرادة المسلمين والمسلمات من أهل المدينة يوم نزول القرآن ومواساتهم على قتل الشهداء ، ودعوتهم للصبر .
لقد كان المنافقون يبثون سمومهم في المدينة ، قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً] ( ) لتكون كل من آية البحث وآية السياق زاجراً للمنافقين ووسيلة مباركة لينتهوا من أراجيفهم التي تتضمن أموراً :
الأول : الشماتة بالشهداء .
الثاني : إيذاء المؤمنين .
الثالث : زيادة وطأة المصيبة على المسلمين والمسلمات لولا فضل الله عز وجل بنزول آيات القرآن التي تخفف عنهم وطأتها ومنها قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ) وآية البحث والسياق إذ تبين هذه الآيات مجتمعة ومتفرقة النعيم الذي ذهب إليه قتلى معركة أحد .
وفي معركة بدر وعندما دخل البشيران إلى المدينة بالنصر ، لجأ المنافقون إلى التشكيك ، فكان زيد بن حارثة أحد البشيرين , ويعلن للناس وهو يسير على ناقته نبأ النصر المبين على جيش الذين كفروا أو يعد أسماء كبار قتلى المشركين ، وهو من مكة وعاش بين أهلها صغيراً ويعرفهم وشأنهم .
وكان نداء وبشارة زيد وبيانه لأهل المدينة على وجوه :
الأول : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان أن هذه السلامة معجزة له في السنة الدفاعية ، وهي بشارة استدامة التنزيل وحضور السنة النبوية بين ظهراني الناس ، وكأن زيداً يقول لهم : اجتهدوا في الإنتفاع من حضور شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بينكم ، وتدبروا في الفيوضات والبركة التي تترشح عن وجوده وقوله وفعله .
لقد قدم زيد على ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القصواء (فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قُتِلَ صَاحِبُكُمْ وَمَنْ مَعَهُ. وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ لِأَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ قَدْ تَفَرّقَ أَصْحَابُكُمْ تَفَرّقًا لَا يَجْتَمِعُونَ مِنْهُ أَبَدًا، وَقَدْ قُتِلَ عِلْيَةُ أَصْحَابِهِ وَقُتِلَ مُحَمّدٌ ; هَذِهِ نَاقَتُهُ نَعْرِفُهَا، وَهَذَا زَيْدٌ لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ مِنْ الرّعْبِ وَجَاءَ فَلّا. قَالَ أَبُو لُبَابَةَ يُكَذّبُ اللّهُ قَوْلَك وَقَالَتْ يَهُودُ مَا جَاءَ زَيْدٌ إلّا فَلّا!) ( ).
فكان بيان زيد لسلامة النبي من القتل حاجة لبعث السكينة والغبطة في قلوب المسلمين .
الثاني : نعمة الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالفتح المبين في أول معارك الإسلام ، ليكون مجئ زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة إلى المدينة قبل دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشيرين من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) .
الثالث : بيان أثر معركة بدر في الأيام اللاحقة لها على الأحداث وصيرروتها سبباً لدخول الناس الإسلام لأنها معجزة من عند الله عز وجل بلحاظ قلة عدد وعدة المسلمين في مقابل كثرة ومنعة قريش ودولتهم .
الرابع : زجر المنافقين وإنذار الذين في قلوبهم مرض .
الخامس : دعوة المدينة لترقب دخول الأسرى والغنائم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وأيهما أكثر أهمية يومئذ ، الجواب الأسرى هم الأهم والبرهان الجلي على النصر واستدامته وتجدده بفكاكهم ودفع العوض عنهم ، أو باطلاقهم من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير عوض أو بقيام عدد منهم بتعليم صبيان الأنصار القراءة والكتابة بأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كبدل لعوضهم ، ليبقى هذا التعليم حجة من جهات :
الأولى : إنه من دعوة الإسلام للتعليم ونشره للعلوم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ).
الثانية : صدق نزول القرآن من عند الله ، لأن العلم وسيلة للتمييز وكشف البرهان .
الثالثة : إنه مقدمة وبيان لحاجة الإسلام إلى العلم والتدوين وإدارة الأمصار .
الرابعة : إرادة كتابة المسلمين لآيات القرآن ، وجمع آياته ، وجعلها بين الدفتين .
وهل يمكن القول أن تعليم الصبيان من قبل أسرى بدر ممن ليس عنده مال كبدل وعوض لفكاكه من الأسر من دلائل الصدق على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم، لما في التعليم من الفقاهة والفصل بين الحق والباطل والصدق والكذب فكان كل أسير يقوم بتعليم عشرة من صبيان المدينة القراءة والكتابة ليدونوا آيات وسور القرآن ويساهموا في تأسيس علم التفسير .
(قال أبوعبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل.
قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة. وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد في أعيننا) ( ).
السادس : مناداة زيد بن حارثة بأعلى صوته بأسماء قتلى المشركين خاصة أولئك الذين يعرفهم الأوس والخزرج وتجمعهم بهم معاملات تجارية، ويتصلون معهم عند الوفود إلى مكة لأداء الحج أو العمرة .
لقد ذكر زيد بعض أسماء قتلى المشركين ومنهم :
الأول : عتبة بن ربيعة .
الثاني : شيبة بن ربيعة .
الثالث : العاصي بن منبه بن الحجاج .
الرابع : الحارث بن منبه بن الحجاج ، وذكرهما زيد وهو على راحلته بقوله (وابنا الحجاج) ( ).
الخامس : أبو جهل وهو عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي الكناني ، وكان يسمى أبا الحكم ، ولكن النبي محمداً سمّاه أبا جهل لشدة عدائه ومحاربته للإسلام ولقتله سمية أم عمار بن ياسر لثباتها على الإسلام .
السادس : أبو البختري وهو العاصي بن هاشم ، وقد نهى النبي عن قتله لأنه كان يمنع المشركين من إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لا يرضى بشدة الحصار على بني هاشم في شعب أبي طالب .
وعن (ابن عَبّاسٍ : أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَئِذٍ إنّي قَدْ عَرَفْت أَنّ رِجَالًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ قَدْ أَخْرَجُوا كُرْهًا ، لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِقِتَالِنَا ، فَمَنْ لَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَلَا يَقْتُلْهُ وَمَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيّ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ ابن أَسَدٍ فَلَا يَقْتُلْهُ وَمَنْ لَقِيَ الْعَبّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، عَمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَلَا يَقْتُلْهُ فَإِنّهُ إنّمَا أُخْرِجَ مُسْتَكْرَهًا . قَالَ فَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ أَنَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَإِخْوَتَنَا وَعَشِيرَتَنَا وَنَتْرُكُ الْعَبّاسَ وَاَللّهِ لَئِنْ لَقِيتُهُ لَأُلْحِمَنّهُ السّيْفَ – قَالَ ابن هِشَامٍ : وَيُقَالُ لَأُلْجِمَنّهُ ( السّيْفَ))( ).
وأبو حذيفة هو ابن عتبة بن ربيعة ، إذ قتل أبوه وأخوه وعمه يوم بدر، وبقي نادماً على كلمته تلك خاصة بعدما وصلت إلى أسماع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان يقول (مَا أَنَا بِآمِنٍ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الّتِي قُلْتُ يَوْمَئِذٍ وَلَا أَزَالُ مِنْهَا خَائِفًا ، إلّا أَنْ تُكَفّرَهَا عَنّي الشّهَادَةُ . فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا)( ).
لقد استمر حصار قريش لبني هاشم نحو ثلاث سنين إبتداء من السنة السابعة للهجرة , لا يصلهم طعام إلا سراً وكانوا يحرمون مناكحتهم والبيع والشراء معهم ، ويوماً كان حكيم بن حزام معه غلام يحمل قمحاً يريد إعطاءه لعمته خديجة بنت خويلد أم المؤمنين التي كانت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الشعب بعد تلك الثروة والتجارة ، فرآه أبو جهل فتعلق به وقال : أتذهب بالطعام إلى بني هاشم ، وقد أجمعت قريش على حصارهم ومنعهم لا أدعك تذهب وسأفضحك عند أهل مكة .
لبيان أن أيصال الطعام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت جناية عند أهل مكة , فتدخل أبو البختري بالمعروف وقال : إنما هو جلب طعاماً قليلاً لعمته ، خل سبيل الرجل .
فصحيح أنها زوجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكنها ليس من بني هاشم أو بني عبد المطلب، ولم يأت لها بالطعام رجل غريب إنما هو ابن أخيها حكيم بن حزام، وكان عاملاً في تجارتها .
فأبى أبو جهل تخلية سبيله وصارت خصومة بينهما وذم أحدهما الآخر فأخذ أبو البحتري لحي بعير فضربه به فشجه ثم وطأه .
وكان أبو البختري يتجنب إيذاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ممن نقض صحيفة قريش ضد بني هاشم ولقي المجذر بن زياد البلوي حليف الأنصار أبا البختري يوم معركة أحد (فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن قتلك) ( ).
لبيان تقيد المسلمين بأوامر ونواهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة ومن أعراف ميدان المعركة عدم تقيد الجنود الحرفي بأوامر القادة والأمراء للحمية والعصبية وإستيلاء النفس الغضبية والشهوية , ولان الحاضر يرى ما لا يراه الغائب ، وللأمور الطارئة في الميدان ومع هذا فقد أظهر المسلمون التقيد التام بأوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا..]( ).
فان قلت لم يتقيد الرماة يوم معركة أحد بأوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأكيده عليهم (احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا فلما غنم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأباحوا عسكر المشركين أكب الرماة جميعا في العسكر ينتهبون وقد التقت صفوف أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهم هكذا وشبك أصابع يديه والتبسوا .
فلما أٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍخلت الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضرب بعضهم بعضا والتبسوا وقتل من المسلمين ناس كثير وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة وصاح الشيطان قتل محمد فلم يشك أنه حق حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين السعدين نعرفه بتكفيه إذا مشى ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا فرقى حولنا وهو يقول اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقول مرة أخرى اللهم ليس لهم أن يعلونا)( ).
والجواب نعم، لقد كان ترك الرماة لمواضعهم عبرة ودرساً بليغاً للمسلمين يبين الحكمة المتعاقبة والإعجاز في الآية أعلاه .
لقد كان إخبار المسلمين لابن البختري عن نهي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن قتله مدرسة عقائدية من جهات :
الأولى : تسليم وقطع المسلمين بأن النبي محمداَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتفرع عن هذا التسليم الصبر والتفاني في رضوان الله والتقيد بأداء الفرائض والعبادات في كل الأحوال ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ).
الثانية : سلامة الصحابة من الشك بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند التقاء الصفين ، إذ يدّب الجزع والفزع إلى الإنسان عند التقاء الصفين وسقوط القتلى وكثرة الجرحى ويتجه صوب السب والشتم والتبرأ إلا أهل الإيمان لذا تفضل الله عز وجل وأثنى على شهداء معركة أحد لدلالة قتلهم في سبيل الله على سلامتهم وعموم المهاجرين والأنصار من هذه الخصال المذمومة .
الثالثة : علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطاعة المسلمين له في ميدان القتال سواء بخصوص المهاجرين أو الأنصار مع أنه لم يمر على هجرته إلا أقل من سنتين .
الرابعة : أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باستثناء عدد من جيش المشركين من القتل شاهد على علمه بالنصر المبين الذي يتفضل به الله عليه وعلى المسلمين ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) ولم يتوجه الخطاب في الآية أعلاه بالنداء الشخصي إنما جاء عاماً للمسلمين .
الخامسة : بيان قانون وهو الجزاء الحسن من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الذين لم يؤذوه ويعضدوا الذين يؤذونه في مكة .
السادسة : ترغيب الناس بعدم إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ليكون من باب الأولوية القطعية النهي عن محاربته وقتاله وهل قبل ابن البختري هذه المكرمة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، الجواب لقد جعل شرطاً لقبولها إذ كان معه صاحب رافقه من مكة هو جنادة بن مليحة من بني ليث .
إذ قال ابن البختري : وزميلي ؟ أي أريد الأمان له مثلما أعطيتموني الأمان.
(فقال له المجذر: لا والله ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله إلا بك وحدك)( ).
عندها اختار ابن البختري القتال والموت مع صاحبه ، وقال : لا يتحدث عني نساء بمكة اني تركت زميلي حرصا على الحياة ولم يفكر بملاقاة الله عز وجل بالكفر والجحود وتوثيق المسلمين لإصراره على الضلالة.
ونازل ابن البختري المُجذر وهو يرتجز (لَنْ يُسْلِمَ ابن حُرّةَ زَمِيلَهُ … حَتّى يَمُوتَ أَوْ يَرَى سَبِيلَهُ
فَاقْتَتَلَا، فَقَتَلَهُ الْمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ . وَقَالَ الْمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ فِي قَتْلِهِ أَبَا الْبَخْتَرِيّ
إمّا جَهِلْتَ أَوْ نَسِيتَ نَسَبِي … فَأَثْبِتْ النّسْبَةَ أَنّي مَنْ بَلِيَ
الطّاعِنِينَ بِرِمَاحِ الْيَزْنِيّ … وَالضّارِبِينَ الْكَبْشَ حَتّى يَنْحَنِيَ
بَشّرْ بِيُتْمِ مَنْ أَبُوهُ الْبَخْتَرِيّ … أَوْ بَشّرْنَ بِمِثْلِهَا مِنّي بَنِي
أَنَا الّذِي يُقَالُ أَصْلِي مَنْ بَلِيَ … أَطْعَنُ بِالصّعْدَةِ حَتّى تَنْثَنِيَ
وَأَعْبِطْ الْقِرْنَ بِعَضْبِ مَشْرَفِيّ … أُرْزِمُ لِلْمَوْتِ كَإِرْزَامِ الْمَرِيّ( )
فَلَا تَرَى مُجَذّرًا يَفْرِي فَرِيّ) ( ).
وكان الأجدر قد سأل ابن البختري أن يمتنع عن القتال ويختار الأسر ثم أتى المجذر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبيّن له بما يشبه الإعتذار سبب قتله لابن البختري فقال: (وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَقَدْ جَهَدْت عَلَيْك أَنْ يَسْتَأْسِرَ فَآتِيك بِهِ ( فَأَبَى ) إلّا أَنْ يُقَاتِلَنِي ، فَقَاتَلْته فَقَتَلْته) ( ).
وهذا لم يمنع زيد بن حارثة من ذكره بين أهل المدينة ضمن قتلى المشركين يوم بدر للإفتخار باستئصال كبراء قريش ولتكون حجة على ابن البختري نفسه في النشأتين .
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين بدايتي الآيتين : فرحين يستبشرون.
من صفات الله الحسنى أن عطاءه أعظم مما يتصور الإنسان سواء كان على ذات الفرد أو الجماعة أو الأمة أو الناس جميعاً أو أي من الخلائق ، ومن خصائص الإنسان أنه يتنعم بكل نعمة سواء عليه أو على عامة الناس أو على الملائكة أو الخلائق الأخرى ، وهو من النعم المترشحة عن خلافته في الأرض وقول الله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
وتقدير الآية أعلاه [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) لينتفع مما خلقنا في الأرض، ومن مصاديقه دلالة تعدد التسخير في قوله تعالى[وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ *وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ]( ).
فمع فضل الله على الناس وما سخره لهم فانه أخبر عن وجود غير تلك النعم التي سخرها للناس جميعاً فانه تفضل ورزق المؤمنين الإستجابة فيما يسألونه لبيان قانون وهو جواز سؤال المؤمنين الله عز وجل المستحيل الحسن وفق قواعد الحياة الدنيا فان الله عز وجل لا تستعصي عليه مسألة ، ويهب ما يشاء [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( ) .
وبلحاظ الآيات أعلاه هل يُسئل الناس عما سخّر الله عز وجل لهم وإنتفاعهم منه ، وإتخاذه وسيلة وبرهاناً على وجوب الإيمان ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ] ( ) لتكون هذه النعم حجة على الناس في وجوب الإنتفاع الأمثل منها في النشأتين ، وكيف أن الذين كفروا حرموا أنفسهم من هذه النعم ورشحاتها وثوابها في الدار الآخرة.
لتبين آية البحث المعنى الأتم لهذا الإنتفاع والذي فاز به شهداء معركة بدر وأحد ، وصاروا في الآخرة في حال فرح وسرور وغبطة متصلة ودائمة، إذ إتخذوا من النعم والآيات الكونية نوع طريق للهدى والصلاح ، ومن أعظم النعم في الدنيا الكتاب السماوي الذي أبى الله عز وجل إلى أن يجعله مباركاً لينير دروب الرشاد للناس جميعاً .
ومن خصائص النعمة والفضل الإلهي اللذين تذكرهما آية البحث أن الشهداء وذويهم ينتفعون منهما ولا يسئلون عنهما، لأنهما في عالم الجزاء والهبة المطلقة من عند الله عز وجل.
المسألة السابعة : لقد أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] والتي إبتدأت بقوله تعالى [فَرِحِينَ] ليكون من معاني الفرح عدم إنحصاره والسلامة من الخوف ، إنما يتفضل الله عز وجل على الشهداء بما يملأ صدورهم بالفرح وتظهر أماراته عليهم فتراها الملائكة فيشكرون الله عز وجل على أمور :
الأول : خلق الإنسان .
الثاني : خلافة الإنسان في الأرض .
الثالث : توارث الناس الحياة في الأرض .
الرابع : عمارة الناس الأرض بعبادة الله عز وجل .
الخامس : بعث الأنبياء والرسل .
السادس : نزول الكتب السماوية .
السابع : جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله .
الثامن : كثرة صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنسبة للأنبياء السابقين في أصحابهم .
التاسع : قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في سبيل الله عز وجل.
العاشر : سقوط الشهداء من المؤمنين في سوح المعارك ، وهم يغادرون الدنيا إلى عالم المجهول الذي ظاهره العدم والفناء لأن الإنسان يصبح بالقتل أو الموت جثة هامدة ، ولكن جاءت آية البحث والسياق بالإخبار عن إختصاص الشهداء بالحياة الأبدية عند الله عز وجل .
لقد احتج الملائكة على جعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) لأن الإنسان قد يعمل الموبقات والفواحش ويقوم بقتل أخيه بغير حق ، وقتله ظلماً وتعدياً لإقراره بالتوحيد والرسالة ، كما في إقدام مشركي قريش على قتل أربعة عشر من الصحابة في معركة بدر، ثم سبعين منهم في معركة أحد ، وكان إحتجاج الله على الملائكة بعلمه تعالى، وهو أعظم أبواب الإحتجاج والبرهان الساطع والبينة القاطعة فاذعنت الملائكة حتى إذا رأوا فساد الإنسان في الأرض علموا أنه من علم الله، وتطلعوا إلى مصداق علم الله في أهلية الإنسان للخلافة في الأرض ، فكانت دماء الشهداء هي المصداق، وتتمنى وترجو الملائكة الثواب والجزاء من عند الله ، فجاء بحلة وكيفية أعظم مما يظنون ، إذ أخبرت هذه الآيات عن أمور :
الأول : سلامة إختيار المؤمنين القتال .
الثاني : الحاجة إلى قتال الذين كفروا .
الثالث : صيرورة دماء الشهداء واقية للمسلمين والمسلمات من جهات :
الأولى : الأشخاص والأبدان .
الثانية : الأموال والمواشي والأنعام .
الثالثة : الوطن .
الرابعة : العقيدة وديانة التوحيد .
الخامسة : أهل الكتاب الذين في المدينة .
ومن أسرار تسميتهم أهل الذمة آنذاك ذب المسلمين عنهم وحمايتهم .
الرابع : بعث السكينة في نفوس المسلمين والمسلمات كحال قتلى معركة بدر وأحد وحسن عاقبتهم .
وحينما أخبر الله عز وجل الملائكة بأنه [جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ضجت الملائكة بسبب فساد الإنسان في الأرض وسفكه الدماء ، ومن وجوه إنكار الملائكة هذا أمور :
الأول : الأسى والحزن الذي يلحق ذوي القتيل .
الثاني : نفرة النفوس من القتال والقتل ، والحرب أولها نجوى وأوسطها شكوى وآخرها بلوى .
الثالث : بعث إراقة الدم الكراهية بين القاتل وذوي المقتول .
الرابع : تنمية حال القتل والإقتتال بين الناس , فالقتل الفردي سبب للفتنة وتعدد القتل لذا قال تعالى[وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( ) وفي الآية أعلاه دعوة للناس لدفع القتل وآثاره والمنع من الثأر والإنتقام.
الخامس : لقد أرادت الملائكة منع الفساد والقتل بين الناس ، لتكون الحياة الدنيا مناسبة للتدبر بآيات الله، مع عبادة الناس لله عز وجل ليقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ الرسالة مع بيان معجزاته وإظهاره ذخائر آيات القرآن ، وكل آية من القرآن حجة وبرهان على نزولها من عند الله عز وجل الذي يترشح عنه قانون وهو وجوب العمل بأحكام هذه الآيات وعبادة الله حق عبادته، فقال الله عز وجل في الرد على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله تعالى نزول آيات البحث عندما يقوم الذين كفروا بقتل صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين بايعوه ونصروه في ذات الوقت الذي حاربه كبار وأكثر عشيرته وأرادوا قتله في فراشه فأمره الله عز وجل بمغادرة مكة في ذات ليلة الإغتيال لإقامة الحجة عليهم .
وتكون هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليلتئذ من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) من جهات :
الأولى : سلامة شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل.
الثانية : دعوة أهل مكة للإسلام بلحاظ تجلي المعجزة من وجوه :
أولاً : خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة بذات الساعة التي ارادوا قتله فيها ، وهل يمكن تسرب نبأ إرادة قتله من قبل ذات النفر الذين أرادوا قتله أو الذين خططوا لقتله في تلك الليلة ، الجواب لا دليل على هذا المعنى والأصل عدمه وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما علم به بالوحي من عند الله . ولو تنزلنا وقلنا بهذا الإخبار فانه لا يتعارض مع المعجزة والتي تتعدد في المقام منها مبيت الإمام علي عليه السلام في فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسلامته من القتل .
ثانياً : عجز المشركين عن اللحاق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإعادته إلى مكة , مع أنهم لم يبطئوا بالخروج خلفه , وجعل الجوائز لمن يأتي به.
ثالثاً : تطلع مسلمي مكة إلى بناء دولة الإسلام في مصر آخر لبلوغهم مرتبة اليقين بأن النبي محمداً رسول من عند الله ، لتكون مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مناسبة لتثبيت الإيمان في قلوب مسلمي مكة وصيرورتهم خلفاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نشر مبادئ الإسلام وتلاوة آيات القرآن على عموم أهل مكة والوفود التي تدخلها لأداء حج بيت الله وعمارته .
الثالثة : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس من غير أهل مكة إلى الإسلام ومنهم أهل مدينة يثرب .
الرابعة : صيرورة سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل ليلة الفراش من مصاديق رحمة الله بالناس جميعاً ، وهل تشمل هذه الرحمة الذين أرادوا قتل النبي أم أنهم خارجون بالتخصص أو التخصيص بقبح فعلهم وإرادتهم حجب رحمة الله عن الناس ، وسخط الله عز وجل عليهم .
الجواب هو الأول ، إذ جاءت آية الرحمة أعلاه مطلقة .
ولم تمر الأيام حتى تم فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ودخل أهلها الإسلام ، وحينما إنصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ومعه اثنا عشر ألفاً من المسلمين وقعت معركة حنين ، وهي معركة دفاعية محضة مما يدل على أنه حتى بعد الفتح ومع كثرة عدد المسلمين وإعجابهم بهذه الكثرة كما في الآية أدناه لم يقم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغزو والهجوم .
فجاء النصر سريعاً لما في فتح مكة من حجة على هوازن وثقيف للزوم تسليمهم بالنبوة والإقرار بالمعجزات أو لا أقل الإمتناع عن محاربة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا]( ).
وأصاب المسلمون غنائم كثيرة في هذه المعركة ، ثم حاصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الطائف لأن فلول هوازن دخلت فيها ، ثم انصرف عنها (قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ . يَوْمَ ظَعَنَ عَنْ ثَقِيفٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ اُدْعُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ اللّهُمّ اهْدِ ثَقِيفًا وَأْتِ بِهِمْ)( ).
فما لبث وفد هوازن أن جاءوا وقد اسلموا .( فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ ، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْك ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا ، مَنّ اللّهُ عَلَيْك) ( ).
الخامسة : فضل الله بتوالي نزول آيات القرآن ، وحفظ وتوثيق الآيات ، والمنع من ضياع بعض حروفها أو كلماتها ، وهذا الحفظ من أسرار تلاوة المسلمين للقرآن كل يوم ، ومن الإعجاز في المقام إبتداء المسلم يومه بقراءة القرآن بصلاة الفجر مع تأكيد القرآن على هذه التلاوة بقوله تعالى[وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
السادسة : إستدامة الحياة الدنيا بعبادة الناس لله عز وجل مع تعاقب الأجيال، وعدم انقطاع هذه العبادة في ليل أو نهار .
ومن مصاديق قوله تعالى[بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ) تعاقب ذات الآن والأذان والساعة من الزمان على الأرض ففي كل ساعة من مجموع ساعات الليل والنهار تجد في بقعة من الأرض فجراً وطلوع شمس وضحى وظهراً وعصراً وغروباً وعشاءً ومنتصف الليل ووقت سحر ، فيكون عندك أذان صلاة الصبح وفي مصر أو موضع آخر أذان صلاة الظهر وآخر أذان صلاة العصر وهكذا ، لتتلقى الملائكة الصلاة من كل بقعة من الأرض وهو من مصاديق إحتجاج الله عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
المسألة الثامنة : تقدير الجمع بين الآيتين : يستبشرون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
من خصائص القرآن تضمنه للوعد والوعيد , والوعد من عند الله لأهل الإيمان ، والوعيد للقوم الكافرين والظالمين ، قال تعالى [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
وجاءت آية البحث بالإخبار عن التضحية بالنفس حباً لله عز وجل ودفاعاً عن ملة التوحيد سواء بارادة تعاهد ذات المسلم لها وقتاله دون هذا التعاهد لأن الذين كفروا لن يرضوا إلا بارتداده أو قتاله وقتله فاختار الثاني فنال الفرح الدائم ، أو بارادة تثبيت معالم الإيمان في الأرض بمدد دمه فأثابه الله عز وجل الفرح والأمن الدائم .
سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أي الأعمال أفضل ؟
قال : إيمان لا شك فيه ، وجهاد لا غلول فيه ، وحج مبرور ، وسئل أي الصلاة أفضل ؟ فقال : طول القيام وسئل أي الصدقة أفضل ؟ قال : جهد المقل وقيل أي الهجرة أفضل ؟ قال : من هجر ما حرم الله عز وجل عليه قيل : فأي الجهاد أفضل ؟ .
قال : من جاهد المشركين بماله ونفسه قيل : فأي القتل أشرف ؟ قال : من أهريق دمه وعقر جواده) ( ).
بخلاف حال الإنسان مطلقاً في الحياة الدنيا التي هي محل لطرو الخوف من مكروه متوقع ، والحزن من فوات شئ محبوب , وأكبر ما يخشاه ويخاف منه الإنسان في الآخرة هو سخط الله وشدة مواطن الآخرة والعذاب بالنار، فجاءت آية السياق للبشارة بالأمن منه.
وذكرت آية البحث إستبشار الشهداء مع بيان موضوعية لحوق المؤمنين بهم في عالم السعادة والهناء في الآخرة ، وذكرت الآية التالية إستبشارهم بالنعم من عند الله من غير تقييد أو تخصيص لها ، وتلك آية في خزائن الثواب التي أعدها الله عز وجل للشهداء في الآخرة ، وبيان أنها من اللامتناهي خاصة وأن الآية ذكرت النعمة والفضل مجتمعين بقوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ] ليكون من مصاديق النعمة الإلهية أمور:
الأول : طرد الخوف عن الشهداء .
الثاني : دفع الحزن والكدورة عن الشهداء .
الثالث : محو أسباب الحزن عنهم .
الرابع : البشارة بالعفو والمغفرة من عند الله للمؤمنين الذين قتلوا في معركة أحد .
الخامس : تجدد موضوع البشارة .
لقد ورد لفظ [يَسْتَبْشِرُونَ] في آية البحث وآية السياق ، والمراد بيان تعدد موضوع وسنخية الإستبشار والتقدير في هذه المسألة : يستبشرون لا خوف عليه ولا هم يحزنون ) أي لفظ [يَسْتَبْشِرُونَ] من آية البحث .
المسألة التاسعة : تقدير الجمع بين الآيتين : يستبشرون أن الله لا يضيع أجر المؤمنين ).
لقد ورد لفظ [يَسْتَبْشِرُونَ] في آية البحث وفي الآية السابقة وتتضمن آية البحث البشارة للشهداء بأن جهد وسعي وجهاد جميع المؤمنين لن يذهب سدى .
ومن الإعجاز في الآية إخبارها بأن الله هو الذي لا يضيع أجرهم ، أي أنه تعالى لم يوكل حفظ ثوابهم وأجرهم إلى الملائكة أنما هو الذي يتولى هذا الأمر بنفسه .
وهل يمكن تأسيس قانون وهو : لا يحفظ ثواب وأجر المؤمنين إلا الله عز وجل ) .
الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ) .
وهل يمكن القول بأن الشهداء ممن يبسط الله لهم الرزق أم أن القدر المتيقن هو خصوص أهل الدنيا ، الجواب هو الأول ، مع التباين في الكم والكيف بخصوص بسط الرزق في الدنيا والآخرة ، إذ تبين آية البحث والآيتان اللتان قبلها أن رزق الشهداء أعم من أن تحيط به عقول البشر خاصة وأنه مستمر ومتصل وليس له إنقطاع إبتداء واستدامة إذ يبدأ من حين مغادرتهم الدنيا ، ويستمر إلى قيام الساعة ثم يأتي الفضل الأعظم في الآخرة .
ويترشح عن الجمع بين الآيتين قانون وهو تعدد وجوه إستبشار الشهداء من جهات :
الأولى : إستبشار الشهداء بنعم الله التي تتغشاهم .
الثاني : إستبشار الشهداء بفضل الله عليهم .
الثالث : غبطة وإستبشار الشهداء بما يأتي للمؤمنين في الدنيا من النعم والفضل الإلهي .
الرابع : إستبشار الشهداء بما يصرف عن المؤمنين من الأذى والضرر .
الخامس : إستبشار الشهداء بقدوم الشهداء عليهم .
السادس : إستبشار الشهداء بأن الأجر والثواب لا يختص بالشهادة فعند انتقالهم إلى عالم الآخرة يرون الثواب الذي كتب ويكتب للمؤمنين والمؤمنات ويستبشرون .
السابع : إستبشار الشهداء بتلاوة ذويهم لآية البحث.
الثامن : إستبشار الشهداء بقدوم ذويهم عليهم وشفاعتهم فيهم، وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أمتي من يشفع للرجل وأهل بيته فيدخلون الجنة بشفاعته)( ).
المسألة العاشرة : معاني الجمع بين الآيتين بيان حب الشهداء لإخوانهم الذين في الدنيا ، لبيان أنه ليس في نفوس الشهداء أسى أو حسرة على بقاء هؤلاء في الدنيا ومغادرة الشهداء إلى الآخرة ، فان قلت : لقد رجع الصحابة من معركة أحد ومعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحيطون به وينظرون إلى طلعته البهية ، وهو من النعم العظيمة في الدنيا .
وقد افتقدها الشهداء فهل يأسون ويتأسفون عليها، يتجلى الجواب بقوله تعالى في آية السياق بقوله تعالى بحق الشهداء بأنهم(عند ربهم) وهي أسمى المراتب ، وغاية الرفعة ، كما أنهم ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وينتظرونه ويستبشرون بقدومه .
وإذ خاطبت الآية المسلمين [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ]( ) فان الشهداء في مأمن وسلامة من الإرتداد ولو على نحو صرف الطبيعة والهّم بفرد منه وهو من أسرار قوله تعالى في الآية السابقة [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
ليكون من معاني فضل الله عز وجل في المقام وقوله تعالى [أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] أمور :
الأول : عدم الخوف من الإنصات للذين نافقوا ، فقد كان القتل قاطعاً للصلات معهم , وهو سبيل مبارك للنجاة من إغوائهم .
الثاني : العصمة التامة من وساوس الشيطان ، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا]( ).
الثالث : إنكشاف حيل ومكر المنافقين للشهداء في عالم الآخرة .
الرابع : عدم الخوف على المسلمين من المنافقين والذين كفروا .
الخامس : عدم الخوف من إنقطاع النعم التي تأتي من عند الله عز وجل.
السادس : إنتفاء الحزن عن الشهداء بخصوص ما فاتهم في الدنيا،ومنه ما فاتهم لو بقوا أحياء ، إذ كان قتلهم إنخراماً لأعمارهم ولو بقوا في الحياة لجاءهم رزقهم من المأكل والمشرب والغنائم والنكاح والأولاد .
فتضمنت الآية السابقة الإخبار عن عدم حزن الشهداء على ما فاتهم لأن الله عز وجل يخلفهم عنه خيراً كثيراً في الدنيا والآخرة .
ليكون قوله تعالى[أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] عوناً ومدداً متعدداً من عند الله عز وجل يتصف موضوع كل منهما أنه أعم من الحصر ، ولا يستطيع أهل الدنيا الإحاطة به.
وهل يستطيع الشهداء الإحاطة بالمواضيع والمسائل التي أخبرت عنها آية البحث بأنه لا خوف عليهم منها ، أو المواضيع والمسائل التي لا يحزنون بسببها .
الجواب لا ، وتلك آية من بديع صنع الله وعظيم سلطانه وسعة قدرته وإنفراده بالإحاطة بعلوم الغيب ، لذا ورد في آية البحث ذكر فضل الله وإستبشار الشهداء به بصيغة التنكير التي تدل على الإطلاق، ومن خصائص فضل الله أنه ممدود ومتسع وغير محدود .
السابع : عدم خوف الشهداء على أبنائهم الذين تركوهم من خلفهم، إذ يهديهم الله عز وجل إلى سواء السبيل، ليس فقط بما لو كان آبائهم أحياء، إنما يتغشاهم فضل الله، فيقربهم الله بلطفه إلى العمل الصالح، ويبعدهم عن إرتكاب المعاصي، ويدفع عنهم القبيح من الأفعال .
وفي يوسف عليه السلام ورد قوله تعالى [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] ( ) فلم تقل الآية كذلك لنصرفه عن السوء ، إنما أخبرت عن صرف ذات السوء عنه ، وكذا أبناء الشهداء بفضل من الله خاصة وأن الآية أعلاه لم تحصر صرف السوء بيوسف عليه السلام أو الأنبياء والرسل خاصة .
إنما شملت الآية رحمة الله عز وجل فيها عباد الله الذين يخلصون له العبادة، ولا يراءون أو يشركون في عبادته أحداً لتشمل الشهداء ويترشح الفضل من الله على أبنائهم، فقد أخلصوا لله عز وجل وتفانوا في سبيله وضحوا بأنفسهم ليبقى فضله ووعده بدفع السوء عنهم في الحياة الدنيا فيصرف في جانب منه إلى أبنائهم وذرياتهم .
وهو من عمومات قوله تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ]( ).
المسألة الحادية عشرة : لقد تكرر أمران في كل من آية البحث وآية السياق وهما:
الأول : فضل الله.
الثاني : إستبشار الشهداء.
وتلك نعمة عظمى عليهم وعلى المؤمنين والناس جميعاً، إذ تبين حال الرغد والهنأ الذي هم فيه، وتبعث السكينة في نفوس المسلمين، وتدعو الناس إلى الهدى والإيمان ونبذ مفاهيم الضلالة والشرك.
لقد جاءت آية السياق والبحث متعاقبتين فهل الفضل الإلهي في آية البحث هو نفسه ذات الفضل الوارد في آية السياق، الجواب لا، فمن خصائص فضل الله عز وجل التعدد في الموضوع والماهية والجنس والكم والكيف والزمان والمكان بما يفوق تصور الإنسان، وهو البلغة والغاية، والهبة المزجاة الحاضرة عند كل إنسان إنما تجري الأكوان وتسير الكواكب وتعيش الخلائق بفضل الله.
وبينت كل من آية البحث والسياق قانوناً: وهو توالي وتتابع وتعاقب فضل الله على الذين ضحوا بحياتهم، وغادروا الدنيا تسليماً بربوبيته وحباً له تعالى وشوقاً للقائه، وتصديقاً بنبوته وإقراراً بالمعاد، وفي التنزيل[مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
وكما تكرر لفظ فضل الله في آية البحث والسياق فقد تكرر لفظ إستبشار الشهداء وفيه موعظة للناس بوجوب الإستبشار بفضل الله الذي يأتيهم في الدنيا، ولقد اختصت صحائف ومصاديق من فضل الله بالشهداء في الآخرة، وفيه دعوة للناس من جهات:
الأولى : الشكر لله عز وجل على فضله، فمن خصائص الفضل الإلهي أنه عام وشامل للناس جميعاً، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ]( ).
الثانية : الإنزجار عن محاربة النبوة والتنزيل.
الثالثة : إدراك قانون وهو أن الفضل من الله أعم مما هو مكتوب للإنسان من الرزق.
الرابعة : التسليم بكل من:
الأول : قانون حاجة الإنسان إلى فضل الله في الآخرة أكثر منها في الحياة الدنيا.
الثاني : قانون إنتفاع الناس جميعاً في الحياة الدنيا من فضل الله.
الثالث : قانون إنحصار النفع من فضل الله في الآخرة بالمؤمنين.
الرابع : قانون فوز الشهداء بمراتب سامية خاصة من الفضل.
الخامس : كل آية قرآنية فضل من الله عز وجل.
السادس : قانون فضل الله توليدي ومتفرع، فكل فرد منه تتفرع منه مصاديق عديدة من الفضل.
السابع : قانون إستبشار الشهداء في الآخرة فضل من الله.
الثامن : قانون علة إستبشار الشهداء فضل الله عز وجل.
التاسع : قانون إستبشار المؤمنين بفضل الله.
العاشر : كل فضل من الله على الشهداء هو فضل على عموم المسلمين، وفي التنزيل[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
صلة خاتمة الآية السابقة بآية البحث
لقد أراد الله عز وجل أن تكون هذه الآيات رياضاً ناضرة من فضله وإحسانه على الشهداء وفيها مسائل:
الأولى : إخبار القرآن عن أمر واقع وحق وصدق.
الثانية : رفع ودفع الأسى والحزن عن عوائل الشهداء.
الثالثة : منع الكدورة والحزن الذي يأتي من أراجيف المنافقين.
الرابعة : إنذار وتبكيت المنافقين.
الخامسة : بعث الطمأنينة في نفوس المسلمين.
السادسة : منع دبيب الوهن واليأس إلى نفوس المسلمين، قال تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، وتحتمل آية البحث بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : تقدير آية البحث : يا أيها الذين آمنوا لقد أكرم الله شهداء أحد بان جعلهم عنده أحياء يرزقون، فلا تهنوا ولا تنهزموا عند ملاقاة الذين كفروا .
الثاني : يا أيها المهاجرون والأنصار لا تهنوا ولا تفتروا في الدفاع فان النبي محمداً حي يقاتل يوم معركة أحد في الميدان، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
(عن ابن جريج قال : انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الشعب يوم أحد ، فسألوا ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وما فعل فلان؟ فنعى بعضهم لبعض ، وتحدثوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتل ، فكانوا في همّ وحزن . فبينما هم كذلك علا خالد بن الوليد بخيل المشركين فوقهم على الجبل ، وكان على أحد مجنبتي المشركين وهم أسفل من الشعب .
فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم فرحوا , فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم لا قوّة لنا إلا بك ، وليس أحد يعبدك بهذا البلد غير هؤلاء النفر ، فلا تهلكهم , وثاب نفر من المسلمين رماة ، فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله، وعلا المسلمون الجبل ، فذلك قوله {وأنتم الأعْلَوْنَ إن كنتم مؤمنين})( ).
الثالث : يا أيها الذين آمنوا إن شهداء معركة أحد يستبشرون بنعمة من الله فلا تقصروا في الدفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل.
الرابع : يا أيها الذين آمنوا لقد أراد لكم الذين نافقوا القعود عن الدفاع، وهو أشد وأمر من الوهن ، وبينهما عموم وخصوص مطلق ، فكل قعود هو وهن وليس العكس ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا] أي لا تقعدوا من باب الأولوية القطعية .
الخامس : لقد أخبرت آية البحث عن تغشي فضل الله لشهداء معركة أحد بقوله تعالى [وَفَضْلٍ]والمختار أن الفضل الإلهي في المقام يشمل حال المؤمنين في الدنيا بما يجعل الشهداء في إستبشار وسرور دائم .
السادس : دعوة المسلمين إلى عدم الحزن على فقد الشهداء في معركة أحد ، لقد سقط يومئذ سبعون شهيداً وهو مصيبة عظمى لأجيال المسلمين ، فجاء القرآن بالتخفيف عن المسلمين بأخبارهم عن حال الشهداء إذ يتصفون بخصال وصفات , وهي :
الأولى : عدم مفارقة الحياة للشهداء إلا لحظة إنفصال الروح عن الجسد، إذ يدل قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ]( ) على أن شهداء بدر وأحد أحياء حال نزول الآية أعلاه ، ولو دار الأمر بين كونهم أحياء من حين قتلهم وبين صيرورتهم أحياء قبل أو حال نزول الآية أعلاه , فالصحيح هو الأول لبيان قانون وهو أن الآية أعلاه إخبار عن حال حسن ونعيم دائم .
الثانية : تقييد محل إقامة الشهداء بأنها [عِنْدَ رَبِّهِمْ] وإن قيل لماذا هذا التقييد والسموات والأرض كلها ملك لله عز وجل ، وأينما يكون العبد حياً او ميتاً فهو عند الله عز وجل.
والجواب إرادة إكرام الشهداء وأنهم ليسوا في عالم القبور ، ويتفضل الله عز وجل بجعل أجساد مثالية لهم تشبه أجسادهم في الدنيا ، وهي تلك التي يراها الإنسان في الرؤيا للأشخاص الذين ماتوا ، وهو لا يتعارض مع رسوخ صورهم في الوجود الذهني عند الإنسان .
وقد ورد لفظ [عِنْدَ اللَّهِ] خمساً وستين مرة في القرآن , وورد مرتين في قوله تعالى [لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ] ( ) لبيان سعة رحمة الله وفضله على المؤمنين وحسن مقامهم في الآخرة .
الثالثة : توالي الرزق من عند الله للشهداء ، وهل من هذا الرزق ما هو مادي ملموس أم أنه أمر روحاني كما في غذاء الملائكة من التسبيح ، والمختار هو الأول لشموله لما يشتهون.
نعم قد ورد (عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن طعام المؤمنين في زمن الدجال ، قال : طعام الملائكة قالوا : وما طعام الملائكة ؟ قال : طعامهم منطقهم بالتسبيح والتقديس ، فمن كان منطقه يومئذ التسبيح والتقديس أذهب الله عنه الجوع ، فلم يخش جوعا)( ).
ولا ملازمة بين غذاء الملائكة من التسبيح وبين رزق الشهداء إلا مع الدليل على قانون من الإرادة التكوينية وهو أن كل الذين عنده سبحانه طعامهم التسبيح ليكون من الإعجاز إخبار الآية قبل السابقة بأن الشهداء [عِنْدَ رَبِّهِمْ] ليكون بين الرزق الذي تذكره الآية قبل السابقة وبين الطعام عموم وخصوص مطلق ، فالرزق أعم من الطعام والغذاء .
ومن الرزق تأبيد الرزق وعدم إنقطاعه وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة الفعل المضارع[يُرْزَقُونَ].
الرابعة : مجئ الرزق للشهداء بلا شرط أو قيد أو تعليق أو تقدير ، قال تعالى [اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ…]( ) لبيان أن الرزق بيد الله عز وجل وحده ، ولا يقدر على بسط أو تقدير أو قلة الرزق إلا هو سبحانه ، مما يدل على تأويل قوله تعالى [وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ] ( ) وأن الرزق من غيره مجاز والخلائق وسائط للرزق الذي يأتي منه تعالى , بالإضافة إلى أسباب نزول الآية أعلاه وزجرها عن اللهو والإنشغال بأمور الدنيا أثناء صلاة الجمعة .
(عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخطب الناس يوم الجمعة ، فإذا كان نكاح لعبَ أهله وعزفوا ومروا باللهو على المسجد ، وإذا نزل بالبطحاء جلب قال : وكانت البطحاء مجلساً بفناء المسجد الذي يلي بقيع الغرقد.
وكانت الأعراب إذا جلبوا الخيل والإِبل والغنم وبضائع الأعراب نزلوا البطحاء ، فإذا سمع ذلك من يقعد للخطبة قاموا للهو والتجارة وتركوه قائماً ، فعاتب الله المؤمنين لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال : { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً })( ).
ومن أسماء الله [الْكَرِيمُ] ( ) فهو سبحانه لم يقيد سنخية أو ماهية الرزق الذين يتفضل به على الشهداء إذ أنه أعم وأعظم من أن تحيط به الكلمات المحدودة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي] ( ).
ويكون تقدير ( يرزقون ) الوارد في الآية قبل السابقة على وجوه :
الأول : يرزقون دوام الحياة .
الثاني : يرزقون السعادة والغبطة .
الثالث : يرزقون التنقل في ملك الله .
الرابع : يرزقون المعرفة والكشف .
الخامس : يرزقون ما يسألهم الله .
السادس : يرزقون البشارة المتعددة .
الثامن : ليس من قوة تحجب رزق الله عن الشهداء .
التاسع : ليس من إنقطاع لرزق الله عز وجل للشهداء .
العاشر : يرزقون ما يسألون .
الحادي عشر : يرزقون الرضا عن الله عز وجل .
الثاني عشر : يرزقون في أبنائهم وذراريهم .
الثالث عشر : يرزقون ما فاتهم من الحياة الدنيا بسبب القتل من المأكل والمشرب والملبس والغنائم .
الرابع عشر : يرزقون المرتبة الرفيعة عند الله .
الخامس عشر : يرزقون زيارة ودعاء الملائكة لهم .
السادس عشر : يرزقون حضور أنباء سارة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع عشر : يرزقون الإخبار عن نزول آيات وسور من القرآن ، ولو كانوا أحياء في الحياة الدنيا لاستمعوا إليها .
الثامن عشر : يرزقون العفو عن الذنوب .
التاسع عشر : يرزقون مضاعفة الأجر على فعلهم الصالحات في الدنيا ، فان قلت قد ورد قوله تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] ( ) ويدل العطف بين المغفرة والرزق على التباين والتعدد بينهما .
والجواب إنه من عطف العام على الخاص ، بلحاظ أن المغفرة من مصاديق الرزق الذي لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ]( ).
وهل يختص الرزق الكريم في الآية أعلاه من سورة الأنفال بالحياة الدنيا أم أنه يشمل عالم الآخرة ، الجواب هو الثاني من جهات :
الأولى : تقدم المغفرة في الآية .
الثانية :عطف الرزق على المغفرة لنيل الشهداء المغفرة مع أول قطرات سقطت من دمائهم .
الثالثة : وصف الرزق بأنه كريم إذ يأتي من غير حساب ولا تعب ولا كد.
الرابعة : من خصائص الوعد الإلهي انه يأتي بأبهى حلة وأسمى كيفية .
العشرون : يرزقون الوقاية والأمن من إغواء ووسوسة إبليس .
الحادي والعشرون : يرزقون الكشف عما حباهم الله من الثواب العظيم، قال تعالى[فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]( ) وصحيح أن الآية أعلاه جاءت بصيغة الوعيد والإنذار للذين كفروا إلا أنه لا يمنع من إرادة الوعد الكريم فيها للمؤمنين لأن المراد هو المعرفة ويقال هو : حديد النظر .
الثاني والعشرون : قد ورد قوله تعالى [قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ]( ) فهل تختص الآية أعلاه بأهل الدنيا أم تشمل الشهداء بلحاظ أنهم أحياء.
المختار أن الآية تشملهم بكيفية من الغيب ومصاديق من الفيض لا يقدر عليها إلا الله عز وجل .
الثالث والعشرون : ذات حياة الشهداء عند الله رزق كريم خصهم الله عز وجل به من حين مغادرتهم الأحبة ، وتقدير الآية : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل رزقوا ويرزقون الحياة .
الرابع والعشرون : لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالرزق في الدنيا لينفقوا منه في مرضاة الله ، قال تعالى[ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ]( ) ولم يأت لفظ[سِرًّا وَجَهْرًا] في القرآن إلا في الآية أعلاه.
وهل ينفق الشهداء مما يرزقهم الله في الآخرة أم لا ينفقون منه لأن الآخرة دار جزاء من غير عمل , ولأن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو أيام الحياة الدنيا وما فيها من الإمتحان وأسباب الإختبار .
المختار أن الشهداء ينفقون مما رزقهم الله عز وجل بما يشاء سبحانه وهو من فضله تعالى عليهم وعلى الناس ويتجلى انفاقهم بالدعاء للأحياء والأموات من المسلمين والإستغفار لمن يشاءون من ذراريهم وآبائهم المؤمنين وغيرهم .
فان قلت يدل قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ) قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه على انقطاع الإنفاق عند قيام الساعة ليدل بالدلالة التضمنية على حصر انفاق المسلم في أيام حياته فمن خصائص الدنيا وجود البيوع ولزوم الحلال والصحة فيها .
الخامس والعشرون : لقد أخبر الله عز وجل عن نفسه بأنه الرزاق الذي يرزق بغير حساب ، ولا تقدر الخلائق وان اجتمعت على منع رزقه، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ]( ).
ليكون من مصاديق الآية أعلاه تفضل الله عز وجل بالرزق الكريم للشهداء ورزق غيرهم بسببهم وإكراماً لهم ، فقد غاب الشهداء عن الدنيا طوعاً وانطباقاً وقهراً في ساحة المعركة ، ومن مصاديق القوة في المقام أن الله عز وجل بعث الحياة في الشهداء ليرزقهم ، فهو سبحانه الذي يأتي بالمقدمات للرزق ويقربه ويسهله للناس ، ويقربهم إليه ومنها أن الرزق لا ينقطع ، وهو الذي يفيض الرزق بما يفوق الجزاء والوعد به ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]( ).
وقد أنفق وبذل الشهداء أنفسهم، فيحتمل وجوهاً :
الأول : مضاعفة الأجر لهم أقل من السبعمائة المذكورة أعلاه لأنها نص قرآني ثابت، وما عداه فلابد من الدليل بخصوص الكم والكيف .
الثاني : يأتي للشهداء من الأجر بمثل الأضعاف التي رزقها الله الذين ينفقون أموالهم لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
الثالث : رزق الشهداء أكثر من السبعمائة التي ذكرتها الآية أعلاه .
والمختار هو الأخير أعلاه لأن التضحية بالنفس أعظم مرتبة من إنفاق المال.
والمال يعوض ويأتي غيره إبتداء من فضل الله ، والآية أعلاه شاهد بالعوض والبدل المضاعف من عند الله عز وجل ، أما الذي يبذل نفسه في سبيل الله فانه لا يعود إلى الدنيا لتكون النسبة بين بذل النفس وإنفاق المال عموم وخصوص مطلق ، وينقطع بالشهادة الكسب وحب المال والإنفاق منه، فتفضل الله عز وجل وأنعم على الشهداء بالحياة والرزق الكريم .
السادس والعشرون : يرزق الشهداء في الآخرة ما هو خير محض ونفع دائم ، من غير جهد أو تفكر أو تدبير أو حيلة ، وهل في قوله تعالى [وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى]( ) تذكير بحال شهداء أحد، وإخبار بأن الرزق الدائم من مصاديق أجر المؤمنين , الجواب نعم .
السابع والعشرون : قد نزل القرآن بالاخبار عن الرزق الكريم للمؤمنين في الجنة بقوله تعالى [إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ]( ).
ليكون بين العباد المخلصين وبين الشهداء عموم وخصوص مطلق، وكذا بالنسبة للثواب زماناً ومكاناً ، إذ يأتي الثواب للشهداء من حين مغادرتهم الدنيا، ويوم القيامة يكونون أول الذين يدخلون الجنة ويرزقون بغير حساب .
وهل يعرف الشهداء يوم المحشر بأنهم كان أحياء من حين مغادرتهم الدنيا ، الجواب نعم، لتغبطهم الخلائق , وهم من أهل الاستثناء في قوله تعالى [وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ]( ).
الوجه الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لقد إبتدأت آية السياق بالنهي اللطيف والزجر الكريم ، إذ ينهى الله عز وجل رسوله الكريم عن الظن بخلاف عظيم فضله على المؤمنين ، ويظن الناس أن الميت يفارق الحياة وتغادر روحه جسده ، ويبقى جثة هامدة إلى أن يبعثه الله للحساب ، وقال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ) .
فجاء الوحي ليخبر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأن الشهداء أحياء عند الله ، فانتفع المسلمون والمسلمات جميعاً وغيرهم من الوحي ، وبدأت إشراقة حياة وعلوم جديدة تتجلى على الناس بأن يحضر الوحي من جهات :
الأولى : عالم التصور .
الثانية : حال الناس بعد الموت .
الثالثة : المائز الذي يتصف به الشهداء .
وهل يعذر المسلم بأن لا يتصور حياة الشهداء عند الله لأن النهي الوارد في آية السياق خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا ، إذ يكون تقدير النهي الوارد فيها على وجوه :
الأول : توجه الخطاب والنهي للمسلم المنفرد : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون .
الثاني : توجه الخطاب للمسلمة المنفردة : ولا تحسبي الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون .
الثالث : إرادة المسلمات جميعاً، وتقدير الآية : ولا تحسبوا الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون .
الرابع : شمول الذي يصير شهيداً بمضامين الآية وتقديرها : ولا تحسب الذي قتل في سبيل الله ميتاً بل حي عند الله .
لذا فان قوله تعالى [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] ( ) في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المراد منه مغادرته الحياة الدنيا وعدم خلوده فيها ، وإلا فان الحياة في النعيم تنتظره حالما يغادر الحياة الدنيا، ولتهيئة أذهان المسلمين لمفارقته لهم وتوارثهم لبناء صرح دولة الإسلام بدليل قوله تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] ( ).
أي أن لفظ [مَيِّتٌ] في الآية أعلاه أخص في معناه من قوله تعالى [أَمْوَاتًا] ( ) في آية السياق .
والمتسالم بين المسلمين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حي عند الله يرزق ، وكان شهداء أحد سبقاً له ، ليكون من معاني [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ] ( ) يستبشرون برسول الله .
وهل يمكن تقدير آية السياق : ولا تحسبن يا محمد أنك تكون ميتاً بل حي عند الله ترزق ) الجواب نعم .
فمن خصائص الآية القرآنية أنها بشارة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهاج عمل له وللمسلمين .
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله لا يستبشرون بنعمة من الله ) .
لقد ذكرت آية السياق أموراً :
الأول : الشهادة من الله عز وجل بأن شهداء معركة أحد قتلوا في سبيله تعالى ، وأنه سبحانه قبل عملهم ورضي عنهم .
الثاني : حياة شهداء أحد من حين مغادرتهم الدنيا .
الثالث : بيان محل وموضع حياة الشهداء ، وهو أنهم ليسوا أحياء في القبور إنما تكون حياتهم عند الله عز وجل .
وفي قوله تعالى [عِنْدَ رَبِّهِمْ] زجر وتوبيخ للمنافقين ومنع من استخفافهم أو شماتتهم بالشهداء .
الرابع : تفضل الله عز وجل بالرزق الكريم على الشهداء ، ويحتمل هذا الرزق بلحاظ الكم والكيف والزمان وجوهاً :
الأول : إستدامة رزق الشهداء .
الثاني : إنقطاع الرزق .
الثالث : إتصال الرزق .
الرابع : مجئ الرزق على فترات متباعدة أو متقاربة .
الخامس : الإطلاق في الرزق وعدم تقييده .
السادس : تعليق رزق الشهداء على دعاء الصالحين وجهاد المؤمنين في سبيل الله وتلاوتهم لآيات البحث .
السابع : التقدير والقلة في الرزق .
الثامن: السعة في رزق الشهداء .
والصحيح هو الأول والثالث والخامس والثامن .
وهل كانت ذات معركة أحد من النعم التي استبشر بها الشهداء أم أن إستبشارهم يتعلق بما بعد قتلهم وانتقالهم إلى الرفيق الأعلى ، الجواب هو الأول ، وهو من مصاديق خيبة الذين كفروا بقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
لبيان التباين بين المؤمنين والذين كفروا في قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) إذ صار المهاجرون والأنصار على شعبتين :
الأولى : الذين قتلوا في سبيل الله فنالوا درجة الحياة عند الله وعلى نحو التأبيد والدوام الأزلي .
الثانية : الذين رجعوا إلى المدينة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثقلين بوطأة الجراحات وأعباء فقد سبعين شهيداً ، فخفف الله عز وجل عنهم بمواساتهم بآية البحث والسياق .
أما جمع الذين كفروا يوم معركة أحد فكانوا على أقسام :
الأول : الذين قتلوا من المشركين ، وكان عددهم يومئذ ثمانية وعشرين.
الثاني : الذين اصيبوا بالجراحات من المشركين .
الثالث : عامة جيش المشركين الذين رجعوا إلى مكة أو القبائل المحيطة بها .
إذ رجعوا مكسورين تتغشاهم الحسرة والأسى لكبرى كلية وهي عجزهم عن تحقيق أي غاية من الغايات الخبيثة التي كانوا يسعون إليها ، والتهديد والوعيد الذي يطلقونه من حين إنتهاء معركة بدر في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، أي التهديد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لأكثر من سنة حتى حان وقت معركة أحد ، فسرعان ما عادوا أدراجهم خائبين في ذات المعركة .
وإذ أسّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم يوم معركة بدر سبعين اسيراً فان المشركين لم يستطيعوا أسر أي أحد من المسلمين ولعل في إنخزال الذين نافقوا وسط الطريق رحمة للمسلمين في هذا الباب ، فلو تمادى بعضهم في عدم القتال واختار اللجوء إلى المشركين واسرهم له بالظاهر لصار المسلمون يسعون لفكه بالأموال الطائلة ، ولذكرت كتب التأريخ أسر المشركين له .
وتحتمل النعم التي يستبشر بها الشهداء وجوهاً :
الأول : خصوص ما يأتي للشهداء في عالم البرزخ .
الثاني : تجدد حال الإستبشار عند الشهداء في كل يوم من أيام عالم البرزخ .
الثالث : إرادة إستبشار وغبطة الشهداء ببشارات تأتيهم وهم في مواطن الحساب يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة [أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] .
الرابع : المقصود عالم الجزاء يوم القيامة وعند إقامة الشهداء في الجنة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث لبيان قانون وهو عدم إنقطاع إستبشار الشهداء أبدا .
وهو من مصاديق التقدير الذي ذكرناه في أول هذه المسألة , لنهي المسلمين عن الظن بانقطاع هذا الفرح والإستبشار الذي هو رشحة لخير في المستقبل وإعلام عن طرو نعم تستلزم إستبشار الشهداء علماً بأنهم في عالم الخلود و(عند ربهم) كما في الآية قبل السابقة أي أنهم يستبشرون بالنعم العظيمة التي يعجز الناس عن تصورها وإستحضارها في الوجود الذهني لأنها أكبر من حدود عالم التصور ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى[وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
الجواب نعم ،لبيان أن الله عز وجل ينعم على الشهيد بحياة الخلد في النعيم في الآخرة ، ويتلقى المسلمون آية البحث والسياق بالقبول والرضا .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : واحتسب الذين قتلوا في سبيل الله أحياء وبنعمة من الله).
توجه الخطاب ومضمون النهي في آية السياق [وَلاَ تَحْسَبَنَّ] إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليشمل الخطاب المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، ومن منافعه أمور :
الأول : تنمية ملكة الإيمان عند المسلمين .
الثاني : تصديق المسلمين بعلوم الغيب .
الثالث : تلقي المسلمين ما جاء به القرآن من علم الغيب بالتصديق .
الرابع : بيان قانون وهو أن عالم الآخرة خير محض للمسلمين والمسلمات .
الخامس : صيرورة المسلمين والمسلمات في منعة من فتنة النفاق وأراجيف المنافقين في المدينة .
السادس : بعث حال العز عند ذوي الشهداء خاصة والمؤمنين عموماً لتكون آية البحث من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا] ( ).
ترى لماذا لم تأت آية السياق بصيغة الإيجاب وتقول : احتسب الذين قتلوا في سبيل الله أحياءً .
والجواب من جهات :
الأولى : تحتمل صيغة الإيجاب وجوهاً متعددة ، وإرادة زمان المستقبل ، وكأنها تقول : احتسب الذين قتلوا في سبيل الله أحياء يوم القيامة ، بينما أفادت آية البحث إرادة أن شهداء أحد أحياء حال نزول آية البحث .
الثانية : من أسرار اللفظ القرآني تجدد معانيه على نحو دائم وإلى يوم القيامة .
الثالثة : المتبادر عند الناس أن الإنسان عندما يُقتل يصير ميتاً لا حراك له.
فجاءت آية بالإخبار عما هو خلاف المتبادر ولبيان أن الله عز وجل [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) ومنه الجزاء وعظيم الثواب للمؤمنين والصابرين .
الرابعة : لا يعلم أسرار اللفظ القرآني والذخائر والعلوم التي تترشح عنه إلا الله عز وجل .
الخامسة : إرادة بيان المائز الذي يتصف به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون ، وهو إن جاء القرآن بما يخالف ما هو متعارف بين الناس ، فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون يتبعون ما جاء به القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ] ( ).
السادسة : بيان قانون وهو نقض القرآن لما موجود في الأذهان إذا كان مخالفاً لعلم الغيب , والموت ضد الحياة ، والميت الذي فارق الحياة ويستوي فيه المذكر والمؤنث ، قال تعالى [لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا] ( ) ولم يقل الله عز وجل ميتة .
(عِدىُّ بنُ الرَّعْلاءِ فقال :
لَيْسَ من ماتَ فاسْتراحَ بِمَيْت … إِنّما المَيْتُ ميِّتُ الأَحْيَاءِ
إِنَّما المَيْتُ من يَعِيشُ شَقِيّاً … كاسِفاً بالُه قليلَ الرَّجاءِ
فأُنَاسٌ يُمَصَّصُون ثِماداً … وأُناسٌ حُلُوقُهم في الماءِ ) ( ).
وجعل الشاعر الميْت والميّت بمعنى واحد .
لقد أخبرت آية السياق عن حياة الشهداء عند الله , وتحتمل هذه الحياة من جهة السبب وجوهاً :
الأول : جهد الشهداء .
الثاني : صبر الشهداء .
الثالث : ما يستحقه الشهداء من الجزاء .
الرابع : فضل ونعمة الله عز وجل على الشهداء .
والصحيح هو الأخير ، فقد هدى الله عز وجل شهداء أحد للإيمان ثم القتال والقتل في سبيل الله تعالى ليفوزوا بالحياة الأبدية والحياة الخالية من الهم والحزن على ما فات والخوف من غم مستقبل وخشية من قلة الرزق أو طرو حاجات ورغائب تفوق الرزق المقدر ، لذا تفضل الله عز وجل وقال [أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ].
لتعدد وجوه النعمة على الشهداء ، ولا تختص بحياتهم مع أن هذه الحياة نعمة عظمى ، لا يقدر عليها إلا الله وهو الذي اختص الذين طلّقوا الحياة الدنيا وزينتها حباً لله ورسوله ولبيان مرتبة من أسمى مراتب الطاعة وثوابها الذي يتجلى في قوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( )، فجاءت شهادة سبعين من الصحابة في معركة أحد من أصدق وجوه طاعة الله ورسوله، ليكون فوزهم بالحياة الأبدية عند الله من أعظم مصاديق الرحمة في قوله تعالى في الآية أعلاه [لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ولتعم الرحمة بتضحية قتلى الإسلام في معركة أحد جميع المسلمين والمسلمات في أجيالهم المتعاقبة.
المسألة الرابعة : ولا تحسبن الذين يستبشرون بنعمة من الله أمواتاً بل أحياء، ترى لماذا لم تقف آية السياق عند قوله: أمواتاً، إنما أضافت قوله تعالى(بل أحياء) مع أن الحياة ضد الموت.
الجواب لنفي حال البرزخ بين الموت والحياة سواء مما موجود في الأذهان أو ما يصل إليه العلم في السنوات والأحقاب اللاحقة من وجود حال للإنسان ليس هو بالحي ولا بالميت وقد ينطبق الحال على إمكان تجميد الإنسان ليعمل جهازه التنفسي وعقله مع فقدانه الحركة لسنوات عديدة ثم يعادله الإنتباه ويقوم العقل بوظائفه وتتحرك الأعضاء ليكون في هيئته كأبنه أو حفيده.
لتتضمن آية البحث نفي هذه البرزخية بإخبارها عن إستبشار الشهداء بفضل الله مما يدل على تلقيهم البشارات والتي ليس معها إنذارات، ويدل على وجود وعمل الحواس عندهم بما في السرور والفرح الدائم لهم.
واذا أعطى الله عز وجل فانه يعطي بالأتم والأوفى ، فلم تقف هذه الآيات عند الإخبار عن حياة الشهداء أنما تضمنت البشارة بأنهم في حال إستبشار متصل ومتجدد في ذاته وموضوعه ، لإتصاف أفراد النعم الإلهية التي تأتيهم بأنها من اللامتناهي .
لقد جعل الله عز وجل الأنبياء [مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( ) .
ومن الإعجاز في آيات القرآن أن ذات الآية تكون بشارة وإنذاراً في ذات الوقت .
فأخبرت هذه الآيات عن قتل طائفة من المهاجرين والأنصار ، وفيه إنذار للذين قتلوهم ، ويشمل هذا الإنذار أيام الحياة الدنيا والآخرة ، ولم تمر بضع سنين حتى وصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة فاتحاً في السنة الثامنة للهجرة المباركة بمعجزة من عند الله .
ومن معاني الجمع بين الآيتين أن الإستبشار عنوان الحياة ، وهو نقيض الموت ، فلا يستطيع الميت الإستبشار والفرح وانتظار البشارة .
ومن الإعجاز في آية البحث أنها قيدت موضوع إستبشار الذين قتلوا في سبيل الله بأنه بنعمة من الله عز وجل لبيان قانون وهو لا يقدر على الإنعام على شهداء بدر وأحد إلا الله عز وجل .
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : أن الله لا يضيع أجر الذين قتلوا في سبيله ) لما أراد الله عز وجل خلق آدم أخبر الملائكة بأنه [جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ولم يقيد الأمر بشخص آدم وحده لبيان التناسل والتوارث بين بني آدم وحصول الفساد الذي احتجت بسببه الملائكة على هذه الخلافة من بعض ذرية آدم ، كما ورد في التنزيل .
ومن الآيات في خلق الإنسان أنه في كل يوم يطل على الناس خبر فيه فساد ، وبين الفينة والأخرى هناك قتل بغير حق ، وجاءت وسائل الإتصال الحديث والنقل السريع فصار واضحاً عند كل إنسان قبح وتكرار الفساد وكثرة القتل ظلماً سواء بالحروب والمعارك أو بالغدر والظلم .
ليأتي قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) لبيان وجود أمة تدعو إلى الله وتقيم الفرائض العبادية في كل يوم ومن علم الله عز وجل عدم ترك الناس بغير حجج وبراهين تدل على التوحيد وربوبية الله المطلقة للخلائق ، قال تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ]( ).
ومن فضل الله عز وجل إطلاق اسم آية على كل كلمة أو كلمات من القرآن محصورة بين فاصلين ، ليكون البرهان والآية فيه على وجوه :
الأول : كل سورة من القرآن برهان وآية.
الثاني : كل آية من القرآن آية وحجة وضياء .
الثالث : كل جمع بين آيتين من القرآن آية ودليل، وهل الإستدلال بهذا الجمع متحد أم متعدد، الجواب هو الثاني، وهو الذي تجلى في علم سياق الآيات في هذا السِفر.
الرابع : تلاوة القرآن آية وحجة بالنسبة للقارئ والسامع ، وهو من الإعجاز في تشريع تلاوة كل مسلم ومسلمة لآيات القرآن في الصلاة اليومية.
لقد رجع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون والأنصار من معركة أحد بعد أن قاموا بدفن الشهداء بدمائهم وثيابهم ، وصلى النبي بأصحابه صلاة المغرب والعشاء يوم المعركة وقد غاب عنها الشهداء ، ويحتمل ثوابهم في المقام وجوهاً :
الأول : لا يكتب للشهداء إلا ثواب الصلاة التي أدوها .
الثاني : كتابة ثواب الصلاة يومئذ للشهداء وان لم يحضروها .
الثالث : الشهداء في مرتبة سامية وأجر عظيم ، وهم عند الله فلا يحتاجون ثواب أداء فرض من الفرائض اليومية الخمس .
والمختار هو الثاني ، فما فات الشهيد الذي قتل في معركة أحد طيلة أيام حياته المقدرة عند الله لو لم يقتل يومئذ من الصلوات يكتب له أجرها ، ويحتمل هذا الأجر من جهة الكثرة والقلة وجوهاً :
الأول : الأجر بحسب كيفية الأداء وإنشغال القلب أو عدمه .
الثاني : استصحاب كيفية أداء الشهيد صلاته في أيام حياته .
الثالث : تفضل الله عز وجل بالثواب التام للشهيد على الصلاة ، وكأنه أداها تامة كاملة .
والمختار هو الأخير ، وهو من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ].
المسألة السادسة : لقد أختتمت آية البحث بقانون وهو يتضمن التنجز والوعد الكريم وهو [وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) ومنه ذات آية البحث لما فيها من الإخبار عن جزاء الشهداء بمصاديق وهبات لا يقدر عليها ولا يهبها إلا الله عز وجل فمن صفات الله عز وجل [َاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) وتجلي هذه القدرة باللطف والمنّ على الخلائق ويتصف هذا المن بأمور :
الأول : السعة والعظمة فلا يعطي الله القليل .
الثاني : منّ الله أكبر من أن تحيط به العقول .
الثالث : إتصال المنّ الإلهي ، وعدم إنقطاعه .
الرابع : عدم وجود مانع أو برزخ دون وصول منّ الله للعبد ، فان قلت هل يحجب فعل السيئات وارتكاب الذنوب منّ الله على صاحبها ، الجواب لا ، لرحمة الله بالناس والخلائق جمعاً ، ومن رحمته هذه الآيات من جهات :
الأولى : بيان الثواب العظيم الذي ناله شهداء أحد .
الثانية : إخبار آية البحث عدم ضياع أجر المؤمنين ، قال تعالى [وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] ( ) لتبين آية البحث قانوناً وهو عدم حصر الثواب بالشهداء .
الثالثة : عدم تضمن هذه الآيات الوعيد لجيش الكفار الذين زحفوا من مكة المكرمة إلى المدينة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار مع قيام الحجة من فعل البشر عليهم من جهات :
الأولى : دخول طائفة من أهل مكة الإسلام .
الثانية : صبر المسلمين على تعذيبهم من قبل رؤساء قريش .
الثالثة : تجلي الإعجاز في آيات القرآن تلاوة ومعنى وتدبراً ودلالة وأسباب نزول الآيات .
ومن إعجاز القرآن الذاتي والغيري تضمن الآيات والسور المكية إلى المدينة ، ومن الآيات في المقام أن الذين هاجروا من أوسط بيوتات قريش ، ومن شبابها وكهولها ، وهم من الرجال والنساء ليكون سبباً لبعث الرأفة والرحمة في قلوب عموم أهل مكة .
وهل يدل تجهيز كفار قريش الجيوش في معركة بدر وأحد والخندق شاهد على عدم بعث الرأفة في قلوب أهل مكة ، الجواب لا ، خاصة وأن قريشاً كانت تبذل الجهود الكبيرة وتنفق الأموال وتطوف على القبائل تحرض بهم .
ومع أن جيش الكفار في معركة أحد ثلاثة آلاف إلا أن الذين خرجوا من مكة معهم أقل من ثلث أفراد هذا الجيش .
الوجه الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إبتدأت آية البحث بالفعل المضارع [يستبشرون] وهو من الأفعال الخمسة ، وجاء بصيغة الجمع لبيان تغشي البشارات من عند الله جميع الشهداء , والملاك هو :
الأول : الإيمان ومفارقة الدنيا به .
الثاني : القتل .
الثالث : نبذ خوف القتال في سبيل الله .
وهل يشترط القتل في ميدان المعركة , الجواب لا ، إنما تتعلق أسباب النزول بالصحابة الذين قتلوا في معركة أحد .
والمدار على عموم اللفظ وليس أسباب النزول ، ومن أسرار آية البحث ذكر نعمة الله ليكون منها قدوم شهداء جدد كما في شهداء معركة الخندق على الصحابة الذين قتلوا يوم معركة أحد , وهم :
الأول : أَنَسُ بْنُ أَوْسٍ الأنصاري الأوسي وهو ابن أوس بْن عتيك بْن عمرو بْن عبد الأعلم من بني الأشهل، وقيل إنما يرجع نسبه إلى زعوراء وهو أخو عبد الأشهل، وهو أخو مالك وعمير والحارث ابني أوس (شهد أحدًا، ولم يشهد بدرا) ( ) .
وقتل يَوْم الخندق رماه خالد بن الوليد بسهم فقتله , وعن أنس بن مالك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كانوا يقولون وهم يحفرون الخندق : نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا، والنبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: اللهم إن الخير خير الآخرة ، فاغفر للأنصار والمهاجره)( ).
الثاني : ثَعْلَبة بن غَنَمَة – بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالنُّون وَالْمِيم متحركات – بن عَدِي بن نَابِي بن عَمْرو بن سَوَاد بن غَنْم بن كَعْب بن سَلِمَة الأنصاري الخزرجي السلمي شهد العقبة في البيعتين في السبعين، وشَهِدَ بَدْرًا، وهو أحد الذين كسروا آلهة بني سلمة .
وقال ابن إسحاق: وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، قتله هبيرة بن أبي وهب المخزومي. وقيل: إن ثعلبة بن غنمة قتل يوم خيبر شهيدا، قاله إبراهيم بن المنذر عن عبد الله، وذكر ابن الكلبيّ أنه ممن سأل عن الهلال كيف يبدو صغيرا ثم يكبر، فنزل قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ…)( ).
الثالث : سِنَانُ بن صَيْفيّ، بن صخر بن خنساء بن سنان بن عُبَيْد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة، أبو سنان، شهد بدرا والعقبة، وقتل يوم الخندق شهيدا، قاله جَعْفَر عن ابن إسحاق.
الرابع : الطُّفَيْلُ بْنُ مالك بن النُّعْمَانِ، وَقيل: الطُّفَيْل بن النُّعْمَان بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدٍالأنصاري السلمي، من بني سلمة، بَدْرِيٌّ عَقَبِيٌّ، شهد العقبة، وشهد بدرا، وأحدا، وجرح بأحد ثلاثة عشر جرحا، وعاش حتى شهد الخندق، واسْتُشْهِدَ فيها، قتله وحشي بن حرب.
الخامس : عَبْداللَّهِ بْن أَبِي خَالِد بْن قيس بْن مالك بْن كعب بْن عبدالأشهل بْن حارثة بْن دينار بْن النجار، الأنصاري الخزرجي، ثم من بني دينار، قتل يَوْم الخندق. قاله ابن الكلبي. وأورده ابن الأثير وابن حجر .
السادس : عَبْدالله بْن سهل بْن زَيْد بْن عامر بْن عَمْرو بْن جشم بْن الْحَارِث بْن الخزرج بْن عَمْرو بْن مالك بْن الأوس الأَنْصَارِيّ، وأمه الصعبة بِنْت التيهان بْن مالك أخت أبي الهيثم بْن التيهان، قَالَ مُحَمَّد بْن عُمَر: وهو أخو رافع بْن سهل. وهما اللذان خرجا إلى حمراء الأسد وهما جريحان فحمل أحدهما صاحبه ولم يكن لهما ظهر. شهد بدرا وأحدا وشهد معه أحدا أخوه رافع بْن سهل. وشهد الخندق. وقُتل فيها شهيدًا. رماه رَجُل من بني عويف فقتله. وليس لعبد الله بْن سهل عقب.
السابع : كعب بْن زَيْد بْن قَيْس بْن مَالِك بْن كَعْب بْن حارثة بْن دينار بْن النجار الأَنْصَارِيّ، شهد بدراً وقُتِل يومَ الخندق، قتله ضرار بْن الخطاب فِي قول الْوَاقِدِيّ، وقال ابن عساكر: قتله عامر بن الطفيل، وقال ابن إِسْحَاق: أصابه سهم فقتله. قال: ويذكرون أن الَّذِي أصابه سهم أُمَيَّة بْن رَبِيعَة بْن صَخْر الدؤلي، وَكَانَ قد نجا يَوْم بئر معونة وحده، تُرِكَ وَبِهِ رَمَقٌ فارتث من بين القتلى فَعَاشَ وقتل سائر أصحابه.
ولكن ابن إسحاق قال : (فَجَمِيعُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سِتّةُ نَفَرٍ)( ).
وذكر البزار عن مالك بن وهب الخزاعي قتيلين من المسلمين هما سليط وسفيان بن عوف الأسلمي وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثهما طليعة يوم الأحزاب فخرجا حتى إذا كان بالبيداء التفت عليهم خيل لأبي سفيان فقاتلا حتى قتلا ، فأتي بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدفنا في قبر واحد ، ومنهم من أطلق عليهم اسم هو (الشهيدان القرينان) فان قلت قد دفن عدد من الصحابة يوم معركة أحد كل اثنين في قبر واحد ، والجواب هذا صحيح .
ولكن هذه التسمية لقتالهما الذين كفروا وقتلهما معاً في ساعة واحدة من غير أن يسلما أنفسهما إلى الذين كفروا .
ليكون قتالهما تحذيراً وإنذاراً لجيش الذين كفروا بأن كل مسلم يقاتلكم وأن كان بمفرده أو كان معه فرد واحد ، وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ) .
ولبعث رسالة للذين كفروا بأن أهل المدينة رجالاً ونساءاً وصبياناً يقاتلونكم في الأزقة ومن على سطوح المنازل دفاعاً عن النبوة والتنزيل والعرض والوطن، وإبتدأت آية السياق بقوله تعالى[وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا]( ).
لبيان التباين بين الذين آمنوا والمنافقين في الدنيا والآخرة، وهل يدرك الطرفان هذا التباين، الجواب نعم، أما الشهداء فقد ذكرت آية البحث غبطتهم وسعادتهم وإستبشارهم، وهل علم الله عز وجل بالمنافقين في معركة أحد من مصاديق هذا الإستبشار، الجواب نعم، إذ تخبر آية البحث عن توالي أفراد النعم، ومصاديق فضل الله عز وجل على الشهداء، لتشمل وجوهاً:
الأول : كشف قبح النفاق.
الثاني : معرفة الشهداء لأشخاص المنافقين، وهذه المعرفة من جهات:
الأولى : قعود الذين نافقوا عن القتال في معركة أحد.
الثانية : رجوع طائفة من المنافقين من وسط الطريق إلى معركة أحد بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول.
الثالثة : إظهار المنافقين الشماتة بالشهداء والتعريض بهم بالقول لو لم يخرجوا لقتال ومحاربة المشركين ما قتلوا، مع أنهم قتلوا ليفوزوا بالنعيم وحال الإستبشار، وقد يقال لو أن الشهداء علموا بشماتة وقول الذين نافقوا لحزنوا ودخلهم الأسى .
الجواب بالنفي , ومن معانيه بيان إنعدام الأذى والضرر على الإسلام والمسلمين من كيد المنافقين، فمن خصائص الفضل الإلهي الذي يأتي للشهداء تعلق موضوعه بحال الشهداء والإسلام في ذات اليوم وفي مستقبل الأيام , فحالما فارقت أرواح الشهداء أجسادهم أخبرهم الله عز وجل بأمور :
أولاً : سلامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من القتل خاصة وأن بعضهم قتل أثناء تغشي إشاعة قتله في الصفين.
ثانياً : عودة الذين كفروا خائبين .
ثالثاً : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بجراحاتهم في اليوم التالي خلف العدو.
الثالث : بيان كيفية صيرورة كشف المنافقين جزء علة لواقعة أحد، وما أصاب المسلمين فيها.
الرابع : البشارة بخزي الذين نافقوا، ومنه نزول كل من آية البحث والسياق.
وقال المنافقون كلمتهم التي وثّقها القرآن [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ) ليكون تقديرها على وجوه :
الأول : لو أطاعونا في القعود .
الثاني : لو أطاعونا في عدم نصرة النبوة والتنزيل .
الثالث : لو أطاعونا في عدم اتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : لو اطاعونا فيما نراه من الشك والجدال ما قتلوا .
الخامس : لو أطاعونا في الرجوع من وسط الطريق إلى معركة أحد ما قتلوا .
السادس : لو أطاعونا في ممالئة الكفار ما قتلوا .
السابع : لو أطاعونا مع علمهم بحال النفاق .
الثامن : لو أطاعونا في عدم القتال دون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
التاسع : لو أطاعونا وامتنعوا عن الإيمان في الظاهر والباطن .
العاشر : لو أطاعونا ما قتلوا في معركة أحد .
الحادي عشر : لو أطاعونا ما قتلوا في سبيل الله .
الثاني عشر : لو أطاعونا ما قتلوا وبعثوا الخوف في قلوب الذين كفروا بلحاظ كبرى كلية وهي أن صبر وجهاد المهاجرين والأنصار أفزع الذين كفروا ، وجعلهم يدركون قانوناً وهو أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حق وأن الإيمان لا يقهر .
كما يمكن تقدير رد الشهداء ولسان حالهم على الذين نافقوا بلحاظ آيات البحث من جهات :
الأولى : لم نطعكم ففزنا بالنعيم .
الثانية : الحمد لله الذي هدانا لعدم طاعتكم وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
الثالثة : من أطاعكم خسر الدنيا والآخرة .
الرابعة : لقد نهى الله عز وجل عن طاعة الذين نافقوا .
الخامسة : يا أيها الذين نافقوا ورد ذمكم في القرآن بأنكم تسعون في خلاف رضوان الله ، قال تعالى [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ] ( ).
السادسة : لم نطعكم فقتلنا في سبيل الله .
السابعة : إمتنعنا عن طاعتكم فصرنا في الآخرة أحياء .
الثامنة: لم نطعكم فخلّد الله ذكرنا والثناء علينا في القرآن .
التاسعة :الإمتناع عن طاعة الذين نافقوا نوع طريق للإستبشار الدائم .
العاشرة : لم نطعكم ففزنا بالنعيم الدائم .
الحادية عشرة : لقد أراد الله عز وجل لنا السعادة الأبدية فهدانا لطاعته وطاعة رسوله .
الثانية عشرة : لم نطعكم رحمة بكم فتوبوا إلى الله .
الثالثة عشرة : يا أيها الذين نافقوا ندعوكم لطاعة الله ، وفي التنزيل [قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ] ( ).
الرابعة عشرة : لقد قلتم عنا [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] فأخبرنا الله عز وجل عن قولكم هذا , ونحن عنده في حال إستبشار وغبطة .
الخامسة عشرة : قلتم [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ونحن شهداء معركة أحد نجيبكم لو أطعتم الله ورسوله ما قتلنا ) .
فمن معاني ودلالات توبة الذين نافقوا وصدق إيمانهم وجوه :
الأول : انه سبب لكثرة عدد المسلمين .
الثاني : توثيق الأخوة الإيمانية بين المسلمين .
الثالث : التخفيف عن المهاجرين والأنصار بالسلامة من بث الشكوك والأراجيف والإشاعات التي كان المنافقون يقومون بها .
الرابع : قطع طمع الذين كفروا بعامة أهل المدينة ، وإمتناع وصول أخبار المؤمنين لهم ، وفي التنزيل [فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ] ( ).
الخامس : نجاة الذين نافقوا من عذاب النار بالتوبة والإنابة .
السادس : إنقطاع دابر النفاق .
السابع : عدم انتفاع الذين كفروا من المنافقين والمنافقات .
المسألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين : يستبشرون لصيرورة معركة أحد سبباً لكشف الذين نافقوا .
وهل ينحصر هذا الكشف بذاته ، الجواب لا ، إنما هو مقدمة ونوع طريق لأمور :
الأول : إنحسار النفاق .
الثاني : علم المسلمين بمكر وخبث المنافقين .
الثالث : بيان فضل الله عز وجل على المسلمين والمسلمات بكشف المنافقين والمنافقات ، وتقدير آية السياق على وجوه :
أولاً : ليعلم الذين نافقوا .
ثانياً : ليعلم اللائي نافقن .
ثالثاً : ليعلم الذي نافق .
رابعاً : لتعلم التي نافقت .
الرابع : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة كشف المنافقين .
الخامس : صيرورة قتل الشهداء مناسبة لمعرفة المنافقين وإحتراز المسلمين والمسلمات منهم .
لقد بينت آيات القرآن قانوناً مصاحباً للمسلمين في الحياة الدنيا بقوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
وهذا القانون على أقسام متداخلة :
الأول : فرض القتال على المسلمين لبيان الملازمة بين الإيمان والدفاع .
الثاني : محاربة المشركين لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : كراهية المسلمين للقتال ، وهذه الكراهية من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) في إحتجاج الله عز وجل على الملائكة حيفا تساءلوا عن خلافة الإنسان في الأرض مع أنه يفسد فيها ويسفك الدماء، فبيّن الله عز وجل لهم ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن المسلمين يكرهون القتال وما يترشح عنه من القتل وسفك الدماء ، وإن كان هذا القتال للدفاع عن الحق والنبوة وذات الملائكة لوجوب الإيمان بهم، وعدم إكتفاء الذين كفروا بالجحود إنما قاموا بتجهيز الجيوش لمحاربة المؤمنين، قال تعالى[لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابن السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ] ( ).
الرابعة : عدم الملازمة بين الكره والضرر وبين الحب والنفع .
ومضامين آية البحث والسياق من الخير الذي ترشح عن معركة الدفاع في اليوم الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة إذ تبين آية البحث المراتب السامية التي فاز بها شهداء معركة أحد ، وانتفاع عموم المسلمين منها .
وتكشف آية السياق عن نعمة وهي فضح الذين نافقوا وأخذ المسلمين الحائطة منهم مع عدم الإصغاء لهم .
ويصح تقدير الآية أعلاه بلحاظ كل من معركة من معارك المسلمين مثلاً : كتبت عليكم معركة بدر وهي كره لكم ، وكتبت عليكم معركة أحد وهي كره لكم ، بلحاظ أن لفظ [الْقِتَالُ] الوارد في الآية أعلاه اسم جنس ، وجاءت آية البحث وآية السياق لتبينا مجتمعتين ومتفرقتين كره القتال في معركة أحد ، ومن مصاديق الكره سقوط سبعين شهيداً ، ولأن الله عز وجل هو الذي كتب وفرض القتال على المسلمين فقد تفضل ورزق الشهداء ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، وتفضل على عموم المسلمين بالأمن والسلامة من عدوان الذين كفروا ومكر الذين نافقوا .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : وليعلم الذين يستبشرون ويعلم الذين نافقوا ).
لقد جعل الله عز وجل معركة أحد مناسبة لبيان أحوال الناس والتمييز بين الذين آمنوا وغيرهم إذ كان الناس على أقسام :
الأول : الذين آمنوا من المهاجرين والأنصار .
الثاني : الذين نافقوا بأن أظهروا الإيمان وهم يخفون الكفر .
الثالث : الذين كفروا وجحدوا بالنبوة والتنزيل فذكرت آية البحث طائفة من الذين آمنوا وهم الشهداء الذين بذلوا أنفسهم فداء للنبوة والتنزيل ،وذكرت آية السياق الذين نافقوا لبيان التباين بينهم , وفيه مسائل :
الأول : دعوة الناس للإيمان .
الثاني : بعث النفرة في النفوس من النفاق .
الثالث : بث الرحمة في قلوب الناس للذين قاتلوا في سبيل الله ودفاعاً عن النبوة والتنزيل .
الرابع : بيان صفحة من الإبتلاء والإمتحان في الحياة الدنيا ، إذ يُبتلى المؤمن بالكافرين فيصبر على الأذى , ويذب عن الإيمان بنفسه ودمه ، ويبتلى الكافر والمنافق بأهل الإيمان فتقوم الحجة عليهما في الدنيا والآخرة .
ومن وجوه إستبشار الشهداء في عالم الآخرة أمور :
الأول : تلقي النداء للقتال في سبيل الله بالقبول والرضا والمبادرة إلى النفير ، وهو من مصاديق قوله تعالى [أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( ).
الثاني : علم الله عز وجل والمؤمنين والناس جميعاً بالمنافقين وصدودهم عن الدعوة للدفاع , وتوجيههم اللوم لهم لإخلاصهم وتفانيهم في طاعة الله ورسوله .
الثالث : ذم آية السياق الذين نافقوا وإخبارهم عن صيرورتهم أقرب للكفر والضلالة .
الرابع : إستبشار الشهداء بتلاوة آية البحث التي تتضمن الإخبار عن إستبشارهم وغبطتهم ، وكأن آية البحث تقول للشهداء ، لقد علم المسلمون بإستبشارهم وهم يتلون الآية التي تخبر عن فرحكم وسروركم في الدار الآخرة .
الخامس : إستبشار الشهداء بأن كلاً من آية البحث والسياق إنذار ووعيد للذين كفروا .
السادس : يستبشر الذين قتلوا في سبيل الله لصيرورة قتلهم زاجراً للناس عن النفاق ، ومانعاً من الإنصات للذين نافقوا .
السابع : يستبشرون ليغيظوا الذين نافقوا ، ويذكروهم بأن أجلهم قريب، وأنهم لا يستطيعون دفع الموت عن أنفسهم .
ومن إعجاز هذه الآيات أنها ذكرت إستبشار الشهداء بالذين لم يلحقوا بهم من المؤمنين ، ولم تذكر موت الذين نافقوا وانقطاع أيامهم في الدنيا وملاقاتهم العذاب الإبتدائي في عالم البرزخ وسوقهم إلى النار يوم القيامة ، وهل سوء العاقبة هذا من أسباب فرح وإستبشار الشهداء .
الجواب لقد ذكرت آية البحث أسباب الإستبشار وهي :
الأول : النعمة من الله .
الثاني : فضل الله .
الثالث : جزاء الله عز وجل المؤمنين جزاءً حسناً .
فليس في هذه الأسباب والوجوه ما يدل على إستبشارهم بحال العذاب للمنافقين ، فان قلت إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، والجواب هذا صحيح , ولكنه يلزم البرهان والدليل الخاص ، فالمختار أن تفاصيل ما ينتظر المنافقين من العذاب ليس من مواضيع إستبشار الشهداء .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله لتستبشروا بنعمة من الله ) .
لقد ذكرت آية السياق توجه النداء إلى الذين نافقوا بالخروج إلى الدفاع لصيرورة جيش الذين كفروا على مشارف المدينة المنورة ليهدد ويتوعد أهلها بقتل وبطش واستباحة ، قال تعالى [قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ] ( ).
ومن إعجاز آية السياق عدم مجيئها بصيغة الجملة الشرطية ، فلم تقل (إذا قيل لهم ) انما ذكرت توجه القول للمنافقين بقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ] ( ) لإقامة الحجة على الذين نافقوا والحيلولة دون إتجاههم للكذب وإنكار توجه الدعوة لهم بالخروج لقتال جيش الذين كفروا ، فلا يقول بعض المنافقين لم أكن أعلم بمجئ جيش المشركين ، ولم توجه لي الدعوة للخروج للقتال ، ويدل قوله تعالى [وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ) على النفير والحشد العام من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة أحد ومقدماتها للقاء العدو ، ولم يكن مثل هذا النفير في معركة بدر لبيان أخذ المسلمين الحائطة في معركة أحد خاصة مع كثرة جيش الذين كفروا واصرارهم على القتال وطلبهم قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وسيأتي بعد آيتين قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ) .
وتدل الآية أعلاه على قانون وهو لن يضر المسلمين تخلف الذين نافقوا عن النفير وملاقاة العدو الكافر .
وإذ فاز الشهداء بالحياة والرزق الكريم عند الله وحلّ عندهم الإستبشار المتجدد بالنعم المتوالية فان الذين نافقوا لم ينالوا إلا الوعيد مع الإنذار بدنو الموت منهم ، وعجزهم والخلائق عن دفع الموت عن أنفسهم ، حتى إذا ما توفاهم الله جاءهم العذاب ، ومع أن آية البحث تتضمن ذم الذين نافقوا فانها تدعو كل واحد وواحدة منهم إلى التوبة ، لذا فهي لم تذكرهم بالاسم أو الصفة ، وحتى عبد الله بن أبي بن أبي سلول رأس النفاق لم يرد اسمه في القرآن مع نسبة العلماء لسبب نزول آيات عديدة لذم نفاق وفعل عبد الله بن أبي سلول , منها قوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا] ( ) .
(عن الربيع { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا } قال : نزلت في عدوّ الله عبد الله بن أبي) ( ).
ومن أسباب النزول ما ورد في عبد الله بن أبي وأصحابه .
(عن مجاهد في قوله { وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض . . . } الآية . قال : هذا قول عبدالله بن أبي بن سلول والمنافقين .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله { لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم . . . }( ). قال : هؤلاء المنافقون أصحاب عبد الله بن أبي { إذا ضربوا في الأرض } وهي التجارة)( ).
وبلحاظ تقدير الجمع بين الآيتين حسب ما ورد في أول هذه المسألة فقد جاءت الدعوة للمنافقين للدفاع ليفوزوا بخير الدنيا والآخرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
فان قلت إنما نال الشهداء الإستبشار في الآخرة بقتلهم في سبيل الله ، وبين القتال والقتل عموم وخصوص مطلق ، فقد يدخل الإنسان المعركة ويخوض القتال ويبارز عدوه ولكنه لم يقتل , وهذا صحيح إلا أن مضامين هذه الآيات تدل على تغشي حال الإستبشار المؤمنين في الآخرة ، وقد أختتمت آية البحث بالبشارة بأن الله عز وجل يجزي المؤمنين خيراً وأنه سبحانه لا يضيع أعمالهم بل تدونها الملائكة وهي مدونة ومحفوظة عند الله عز وجل ، لتسلم لهم في أيمانهم وتثقل موازينهم ، قال تعالى [فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
المسألة الخامسة : ورد في آية السياق حكاية عن الذين نافقوا [قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ] ( ) لقد اختاروا الكذب والخداع لينسحبوا من وسط الطريق إلى المعركة بذريعة أنه سوف لا يكون قتال ، مع أن ثلاثة آلاف جندي على مشارف المدينة ، وهذا العدد قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة أي مع قلة عدد السكان والكثافة السكانية ، وإلى الآن ترى القرى في الحجاز متباعدة وصغيرة في الغالب مع العمران المستمر ووسائل النقل ، ووسائل الإتصال السريعة وخدمات الماء والكهرباء والبنى التحتية , وكانت قريش يعدون لهذه المعركة لأكثر من سنة فكيف لا يكون قتال .
لقد أقام الذين نافقوا الحجة على أنفسهم بامتناعهم عن إتباع المهاجرين والأنصار يوم معركة أحد .
ليكون هذا الإمتناع سبباً في حرمانهم من اتباعهم في أمور :
الأول : الحياة عند الله بعد مغادرة الدنيا .
الثاني : السلامة من عذاب البرزخ ، فقد حجب المنافقون عن أنفسهم هذه السلامة لإصرارهم على الإقامة على الكفر في السر والخفاء .
الثالث : الرزق الكريم من عند الله الذي يأتي للمؤمنين في الآخرة .
الرابع : ما آتى الله عز وجل المؤمنين من فضله .
الخامس : لقد حرم المنافقون أنفسهم من إستبشار الشهداء بهم .
لإنحصار هذا الإستبشار بالمؤمنين .
السادس: ليس أكبر على الناس من أهوال عالم الآخرة من حين الدخول إلى القبر وظلمته .
وأخبرت الآية السابقة عن بشارة وهي إنعدام الخوف والحزن بالنسبة للمؤمنين في الآخرة ، وقد امتنع المنافقون عن إتباعهم في هذا الإنعدام .
ليكون قول المنافقين [لاَتَّبَعْنَاكُمْ] حسرة عليهم في الدنيا والآخرة ، تلك الحسرة التي ذكرها الله عز وجل في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
ليكون من معاني الحياة والموت في الآية أعلاه حياة الشهداء عند الله عز وجل بعد مفارقتهم الدنيا ومن فيها من الأحبة ، ومعنى الموت ، موت المنافقين بقصورهم عن أداء واجباتهم .
ولقد ابتدأت آية البحث بقوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ] ( ) ومن معاني الجمع بين الآيتين حرمان الذين نافقوا أنفسهم من النعم الإلهية التي تأتي للمؤمنين عامة والشهداء خاصة في الآخرة ، والتي يكون الإنسان في أشد الحاجة لأي جزء أو فرد منها ، ومن صفاتها انعدام الصغر والقلة في أي فرد منها .
لم يعلم الذين نافقوا أن معركة أحد كانت نوع طريق للمؤمنين نحو السعادة الأبدية والخلود في النعيم ، وهو من أسرار قوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ]( ) أي أن وقوع القتلى والجرحى من المسلمين في معركة أحد سبب ووسيلة لفوزهم بالثواب العظيم ، ليكون تقدير خاتمة الآية أعلاه بلحاظ آيات البحث على وجوه :
الأول : ليعلم المؤمنين بأن السبعين من المهاجرين والأنصار الذين قتلوا في معركة أحد ليسوا بأموات .
الثاني : ليعلم المؤمنين بأن شهداء معركة احد أحياء عند الله .
الثالث :ليعلم المؤمنين بأن شهداء أحد يطلون عليهم ويرونهم ويفرحون بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل .
الرابع : ليعلم المؤمنين بأن الله يتفضل على الشهداء بالرزق ، فكونهم [عِنْدَ رَبِّهِمْ] لا يعني استغناءهم عن الرزق , والحاجة إلى فضل ورحمة الله سبحانه .
لبيان قانون وهو أن الملائكة وإن كان مسكنهم في السماء فأنهم محتاجون إلى الرزق من عند الله وأنه سبحانه يتفضل به عليهم إذ يتقوم وجودهم وحياتهم به .
الخامس : ليعلم المؤمنين الذين يفرحون لفرح الشهداء في الآخرة وهو من مصاديق المعنى الأعم قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) لتشمل الأخوة في المقام الصلة بين الأحياء والأموات من المؤمنين ، وإذا كان المؤمنون الأحياء يفرحون للنعمة التي يتمتع الشهداء ، فهل يفرح الشهداء للمؤمنين من أهل الدنيا .
الجواب نعم وهو من معاني قوله تعالى [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ].
وهل يكون هذا الفرح من معاني الآية أعلاه من سورة الحجرات أم أنه خارج بالتخصيص ، المختار هو الأول , فمثلاً تستصحب حياة الشهداء وتكون حاضرة بعض لوازمها .
السادس : ليعلم المؤمنين الذين يقرون بعدم إنقطاع فضل الله عن الشهداء وعنهم في عالم الآخرة ، وأن الرزق في الآخرة أعظم من الرزق في الدنيا [هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ] ( ) وفي قوله تعالى [لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ]( ) .
ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (إنه سئل من أين قالوا إن أهل الجنة يأتي الرجل منهم إلى ثمرة يتناولها فإذا أكلها عادت كهيئتها قال نعم ذلك على قياس السراج يأتي القابس فيقتبس منه فلا ينقص من ضوئه شيئا وقد امتلأت منه الدنيا سراجا ) ( ).
السابع : ليعلم المؤمنين بلزوم القتال في سبيل الله دفاعاً عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
الثامن : ليعلم المؤمنين الذين عُصموا من النفاق ووقوا أنفسهم من الإصغاء إلى رؤساء النفاق الذين تناجوا وسط الطريق إلى معركة أحد بالرجوع .
التاسع : ليعلم المؤمنين الذين سيسقطون قتلى في معركة أحد ، فتأتي آية البحث بالثناء عليهم والبشارة بصيرورتهم في بحبوبة من النعيم .
العاشر : ليعلم المؤمنين الذين صبروا في ميدان المعركة ونزل الملائكة لنصرتهم .
الحادي عشر : ليعلم المؤمنات اللائي قاتلن دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ ورد لفظ المؤمنين بالتذكير للفرد الغالب .
قال المتنبي
(ومَا التأنيثُ لاسم الشمسِ عَيْبٌ … ولا التذكيرُ فَخْرٌ للهلالِ) ( ).
الثاني عشر : ليعلم المؤمنين الذي يتلون آية البحث من جهات :
الأولى : تلاوة الآية في الصلاة.
الثانية : تلاوة الآية خارج الصلاة.
الثالثة : الإنصات لآية البحث في صلاة الجماعة عند تلاوة الإمام لها .
الرابعة : التدبر في آية البحث .
الخامسة : الإحتجاج بآية البحث .
الثالث عشر :ليعلم المؤمنين الذين يتحابون في الله ويشد بعضهم عضد بعض وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتحاببهم مثل الجسد إذا اشتكى شيء منه تداعى سائره بالسهر والحمى ، وفي الجسد مضغة إذا صلحت وسلمت سلم سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ، القلب) ( ).
الرابع عشر : ليعلم المؤمنين الذين يبنون مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صرح الإسلام .
الخامس عشر : ليعلم المؤمنين الذين يتقيدون بأحكام الحلال والحرام .
السادس عشر : ليعلم المؤمنين الذين يتقون الله ويخافونه بالغيب .
السابع عشر : ليعلم المؤمنين الذي لا يخشون إلا الله .
الثامن عشر : ليعلم المؤمنين الذين يعملون الصالحات ويتصفون بالإحسان للغير .
التاسع عشر : ليعلم المؤمنين الذين لا يفارقون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان معركة أحد .
العشرون : ليعلم المؤمنين الذين فروا من ميدان المعركة فيعفوا عنهم ، قال تعالى [ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ] ( ) .
الحادي والعشرون : ليعلم المؤمنين الذين يقيمون الصلاة في خشوع وحسن نية وسلامة من الرياء .
وعن (عمر بن الخطاب يقول كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه الوحي يسمع عنده دوي كدوي النحل فمكثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا ولا تحزنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وأرضنا وارض عنا ثم قال لقد أنزلت علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) ( ).
الثاني والعشرون : ليعلم المؤمنين الذين يخفف عنهم القتال في معركة الخندق مع أن جيش المشركين أكثر من ثلاثة أضعاف عددهم في معركة احد، فاذا كانوا قد قاتلوا في معركة أحد وعددهم ثلاثة آلاف رجل وسقط من المؤمنين يومئذ سبعون شهيداً , وكانت معركة أحد على بعد نحو ثمانية كيلو متر عن المدينة ، فمن باب الأولوية أنهم يقاتلون المسلمين في معركة الخندق لأن عددهم عشرة آلاف رجل ولأنهم أحاطوا بالمدينة مستصحبين غلبتهم في جولة من معركة أحد ، ولكن مقاليد الأمور بيد الله وهو سبحانه الذي أنزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر وأحد، وهو الذي خفف عنهم وكفاهم القتال في معركة الخندق، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
الثالث والعشرون : ليعلم المؤمنين الذين هاجروا في سبيله، والأنصار الذين إستقبلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة وعضدوه وذبوا عنه.
الرابع والعشرون : ليعلم المؤمنين الذين يقرون بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى بهم من أنفسهم سواء في حال السلم أو الحرب قال تعالى[النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( ).
الخامس والعشرون : ليعلم المؤمنين الصابرين الذين يجاهدون في الدفاع عن الإسلام ويعلم القاعدين منهم عن عذر .
وعن الفلتان بن عاصم (قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه ، وكان إذا أنزل عليه دام بصره ، وفتح عينيه ، وفرغ قلبه وسمعه لما يأتيه من الله عز وجل ، فكنا نعرف ذلك منه، فقال للكاتب: اكتب: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين) ، (والمجاهدون في سبيل الله)( ) حتى بلغ (وكلا وعد الله الحسنى)، قال : فقام الأعمى فقال : ما ذنبنا يا رسول الله؟.
قال: فأنزل الله عز وجل، فقلت للأعمى: إنه ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فخاف أن يكون ينزل فيه شيء من أمره، فقال: أعوذ بغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فبقي قائما وقال : أعوذ بغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للكاتب: اكتب: ( غير أولي الضرر ))( ).
السادس والعشرون : ليعلم المؤمنين الذين يرثون الإيمان من الصحابة.
السابع والعشرون : ليعلم الله المؤمنين الذين سوف يدخلون الجنة بفضله .
الثامن والعشرون : ليعلم المؤمنين الذين إشتركوا في معركة بدر , وهل يمكن تقديرها: ليعلم البدريين، الجواب نعم.
التاسع والعشرون : ليعلم المؤمنين الذين أصيبوا بالجراحات يوم معركة أحد.
الثلاثون : ليعلم المؤمنين الذين يصلحون أبناءهم لوراثة سنن الإيمان.
الحادي والثلاثون : ليعلم المؤمنين الذين يلجأون إلى الله، ويرجون رحمته، ويهتدون بهديه، وفي التنزيل[وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
الثاني والثلاثون : وليعلم المؤمنين الذين يصدّقون بكل آية نزلت من القرآن، إذ أن هذا الإيمان برزخ دون تحريف القرآن.
الثالث والثلاثون : ليعلم المؤمنين الذين ينالون الدرجات العالية عنده تعالى.
الرابع والثلاثون : ليعلم المؤمنين الذين سيفدون عليه بإيمانهم وسلامتهم من الإرتداد.
الخامس والثلاثون : ليعلم المؤمنين الذين هم أولياء وناصرون ومعضدون لغيرهم من المؤمنين، قال تعالى[وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]( ).
السادس والثلاثون : ليعلم الله المؤمنين الذين يبادرون إلى النفير إستجابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذا ذكرت الآية التالية هذه الإستجابة لبيان أن الله عز وجل يعلم بهم , وفيه ترغيب للمؤمنين بها.
السابع والثلاثون : ليعلم المؤمنين الذين يؤدون الصلاة بخشوع ويحرصون على إجتناب الغفلة والسهو في الصلاة.
الثامن والثلاثون : ليعلم المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله.
التاسع والثلاثون : ليعلم المؤمنين الذين يؤمنون بالله والملائكة والأنبياء على نحو العموم الإستغراقي والمجموعي.
الأربعون : ليعلم المؤمنين الذين يمدهم بالملائكة ناصرين كما في معركة بدر وأحد.
(وأخرج ابن سعد من طريق الواقدي عن شيوخه قالوا لما انهزم المشركون انطلق الرماة ينتهبون , فكر عليهم المشركون فقتلوهم وانتقضت صفوف المسلمين واستدارت رحاهم وحالت الريح فصارت دبورا وكانت قبل ذلك صبا ونادى إبليس أن محمدا قتل واختلط المسلمون فصاروا يقتتلون على غير شعار ويضرب بعضهم بعضا ما يشعرون به من العجلة والدهش , وقُتل مصعب بن عمير فأخذ اللواء ملك في صورة مصعب وحضرت الملائكة يومئذ ولم تقاتل)( ).
ولا دليل على القول بأن الملائكة لم تقاتل ، ولم يسند الواقدي الكلام إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو إلى أهل البيت أو الصحابة وذات الحديث أعلاه وكيفية نزول الملائكة على أنهم نزلوا ليقاتلوا وليدفعوا المشركين .
الحادي والأربعون : ليعلم المؤمنين الذين يبتلون بابدانهم وبظلم وتعدي الذين كفروا ولكنهم لا يغادرون منازل الإيمان ، قال تعالى[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ).
الثاني والأربعون : ليعلم المؤمنين الذين عينهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مواضعهم في معركة أحد .
ومن الإعجاز في ذكر القرآن للوقائع والمعارك التي تبين البيان التفصيلي لهذا التعيين بخصوص واقعة أحد ، قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ) بينما لم يذكر القرآن هذا التعيين في واقعة بدر أو في واقعة الخندق , وفيه دعوة لإقتباس الدروس من معركة أحد.
الثالث والأربعون : ليعلم المؤمنين القاعدين من أولي الضرر الذين لم يخرجوا إلى معركة أحد ليتعاهدوا إقامة الصلاة في أوقاتها ويتصدوا للذين نافقوا ، ويمنعوهم من بث الأراجيف في المدينة .
ومن بدائع السنة النبوية في معركة أحد ومقدماتها استعمال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وَاسْتَعْمَلَ ابن أُمّ مَكْتُومٍ عَلَى الصّلَاةِ بِالنّاسِ) ( ).
الرابع والأربعون : ليعلم المؤمنين الذين يستغفر لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ]( ) .
الخامس والأربعون : ليعلم الله المؤمنين الذين أعدّ لهم [جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ]( ) فان قلت إن الله عز وجل يعلم بهم وباسمائهم قبل أن يخلق آدم ، وهذا صحيح إلا أن المراد في الآية أداؤهم الفرائض وبذلهم الوسع في طاعة الله عز وجل .
السادس والأربعون: ليعلم المؤمنين الذين يبعثون الرعب والفزع عند العدو لأنهم لا يهنون ولا يحزنون .
السابع والأربعون : ليعلم الله المؤمنين الذين يعلمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكتاب والحكمة .
الثامن والأربعون : ليعلم الله المؤمنين الذين لا يُضيّع أجورهم كما ورد في آية البحث التي هي وعد منه سبحانه .
التاسع والأربعون : وليعلم المؤمنين الذين يكفيهم القتال يوم معركة الأحزاب وفيه إشارة إلى فضح المنافقين يومئذ الذين [يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا] ( ).
الخمسون : ليعلم المؤمنين الذين يعفو عنهم ويتوب عليهم .
الحادي والخمسون : ليعلم المؤمنين الذين ينزل عليهم مع رسول الله سكينته ويبعث في نفوسهم الطمأنينة .
الثاني والخمسون : ليعلم المؤمنين الذين يسعى نورهم بين أيديهم فضلاً منه تعالى .
الثالث والخمسون : ليعلم المؤمنين الذين يتلقون الأوامر والنواهي من الله بالقبول والرضا .
الرابع والخمسون : ليعلم المؤمنين الذين يستقبلون شهر رمضان بالصيام، قال تعالى[فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ).
الخامس والخمسون : ليعلم المؤمنين الذين يفيض عليهم بالعز لقوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
السادس والخمسون : ليعلم المؤمنات المحصنات أي ذوات الأزواج .
السابع والخمسون : ليعلم المؤمنات المهاجرات .
الثامن والخمسون : ليعلم الذين آمنوا ، وبين الذين آمنوا والمؤمنين عموم وخصوص مطلق ، ومن إعجاز القرآن تجلي هذه النسبة بلحاظ آية البحث وقوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] ( ).
التاسع والخمسون: ويمحص الله الذين آمنوا ليعلم المؤمنين .
الستون : ويمحق الله الكافرين ليعلم المؤمنين .
الحادي والستون : ليعلم المؤمنين الذين لا يطيعون الذين كفروا .
الثاني والستون : ليعلم المؤمنين الذين لا يحاكون الكفار , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الذين آمنوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( ).
الثالث والستون : ليعلم الله المؤمنين فيجعل ذلك حسرة في قلوب الذين كفروا .
الرابع والستون : ليعلم المؤمنين دعوة للناس للتوبة والإنابة .
الخامس والستون : ليعلم المؤمنين الصابرين المرابطين .
الشعبة الثانية : صلة آية البحث بالآيات المجاورة التالية , وهي على وجوه :
الوجه الأول : صلة آية البحث بالآية التالية [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ) وفيها مسائل :
المسألة الأولى : لقد ورد قوله تعالى [وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) خاتمة للآية السادسة والستين بعد المائة من سورة آل عمران وان هذا العلم جزء علة لوقوع عدد من الصحابة شهداء في معركة أحد وإصابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الآخرين بالجراحات الشديدة إذ اختلط دمه مع دمائهم ، وقام أحد الأنصار بمص دم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من على الجرح (وَمَصّ مَالِكُ بْنُ سِنَانٍ ، أَبُو أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ الدّمّ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ثُمّ ازْدَرَدَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مَنْ مَسّ دَمِي دَمَهُ لَمْ تُصِبْهُ النّارُ)( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه إختصاص الإذن الإلهي بما أصاب المسلمين لقوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) مع أن مقدمات هذه الإصابة من وجوه :
الأول : مناجاة الذين كفروا في مكة للثأر لقتلاهم في معركة بدر من حين وصولهم إليها في الأيام الأخيرة من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، وهي أول سنة فرض فيها الصيام بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ) ليكون فرض الصيام وأداء المسلمين له مقدمة ومناسبة لأعظم نصر والذي تم في معركة بدر ورجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة مستبشرين شاكرين لله عز وجل في أواخر أيام هذا الشهر الذي انفرد بذكره في القرآن باسمه من بين شهور السنة الأخرى ، ويعود فيه كفار قريش إلى مكة والحزن والرعب واليأس يستولي على نفوسهم .
الثاني : إصرار الذين كفروا على التزلف إلى الأوثان ، فنزل القرآن بقبح الكفر والضلالة .
الثالث : عزم كفار قريش على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبذلهم الوسع لإعادة المهاجرين إلى مكة على نحو الأسرى .
الرابع : إجتماع ثلاثة آلاف رجل على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
الخامس : وصول جيش المشركين إلى مشارف المدينة المنورة لقتال المسلمين .
السادس : تعطيل رؤساء الكفر من قريش تجارتهم وإنشغالهم بالتحريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإغواء أفراد القبائل معهم ، وبذل الأموال والإكثار من الوعود لهم ، وفيه أعباء إضافية على كفار قريش، فالإضافة إلى توقف تجارتهم إلى الشام واليمن فأنهم أخذوا ينفقون الأموال يميناً ويساراً.
فان قلت قد يسعى الإنسان والجماعة للحرب ولكن التجارة مستمرة , والجواب هذا صحيح ، ولكن تجارة قريش تتقوم بأمور :
الأول : كثرة الإبل .
الثاني : خروج جماعات مع القافلة فإلى جانب بعض أرباب الأموال التي فيها فلابد من حراس ورعاة وأدلاء على الطريق وخدام ، وعندما يكون هناك خطر في الطريق واحتمال مداهمة القافلة من عدو فان عدد هؤلاء الحراس ونحوهم يتضاعف ، قال تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ) .
ومن شباب مكة من دخل الإسلام فخرج منها ليجتمعوا وغيرهم من المؤمنين في جماعات صارت تهدد طرق تجارة كفار قريش.
وحينما وقعت معركة بدر قامت قريش بحجز جميع بضائع وإبل قافلة أبي سفيان بحجة الحداد والأسى على الشهداء ثم جعلوا وسخّروا أكثرها في معركة أحد .
الثالث : مصاحبة أرباب التجارات من قريش للقوافل ، والإشراف على البيع والشراء في الشام واليمن .
الرابع : متابعة أعيان التجارة وتعاهدها وإدارة الأعمال وتولي شؤون العمال والحمالين والعبيد والإماء .
مما يدل على عجز قريش عن الجمع بين الإعداد لمعركة الثأر في أحد وبين تولي شؤون التجارة، ومن الآيات في المقام أن هذا الإعداد مناسبة لغفلة كفار قريش عن المؤمنين في مكة رجالاً ونساءً والذين كانوا في غبطة وسعادة لنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام في معركة بدر ونزول القرآن بنسبة النصر إلى الله عز وجل بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) .
وهل تشمل صيغة الخطاب في الآية أعلاه المسلمين والمسلمات الذين في مكة يومئذ ، الجواب نعم ، وفيه مسائل :
الأولى :دعوة مسلمي مكة للثبات في مقامات الإيمان .
الثانية : شمول مسلمي مكة يومئذ بالخطاب في الآية أعلاه، وتقدير الآية: يا أيها المسلمين والمسلمات في مكة[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) .
ومن الآيات في المقام دفع الذلة عن مسلمي مكة بعد شدة تعذيب كفار قريش لهم.
الثالثة : بعث الغبطة والسرور في نفوس مسلمي مكة بالنصر العظيم، وفيه شكر لهم على صبرهم وتحمل الأذى في جنب الله، قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ).
الرابعة : ترغيب مسلمي مكة بالهجرة.
الخامسة : إعانة مسلمي مكة في الجدال والإحتجاج بلحاظ أن نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر معجزة حسية وعقلية.
السادسة : تفقه مسلمي مكة بالدين، ومعرفتهم لمصاديق من قانون حفظ الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل، قال تعالى[ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى]( ).
المسـألة الثانية : تقدير الجمع بين الآيتين: الذين إستجابوا لله والرسول يستبشرون)، لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار وإبتلاء ليختار الإنسان ما ينجيه في الدنيا والآخرة ويقربه إلى رضوان الله من فعل الصالحات، واجتناب فعل السيئات، وكانت معركة أحد فيصلاً، والناس في المدينة أقسام :
الأول : المؤمنون الذين يقاتلون في سبيل الله تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : الكفار الذين زحفوا من مكة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
الثالث : المنافقون الذين إنسحبوا من وسط الطريق، وهم يقولون(ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا)( ).
لتهيئ وتخبر هذه الآيات عن النعيم الدائم الذي فاز به الذين قتلوا في سبيل الله، ومن معاني الجمع بين الآيتين بيان التباين في أثر ونتيجة استجابة المؤمنين لله ولرسوله ، فمنهم من عاش حياته سالماً إلى أن مات على الفراش مع أنه لم يبخل في الخروج الى ميادين القتال .
ومنهم من أصابته الجراحات، ومنهم من قتل في ميدان القتال , قال تعالى[مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً]( ).
وقد إختصت آية البحث بالشهداء ، أما الآية التالية فتتضمن ذكر الصحابة الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الثاني لمعركة أحد لمطاردة المشركين بعد أن بلغ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عزمهم على العودة لغزو المدينة المنورة .
ويمكن تقسيم المسلمين يومئذ إلى أقسام :
الأول : الذين خرجوا إلى ميدان معركة أحد وأصطفوا لملاقاة العدو الكافر، وفازوا باسم الجمع المؤمن في قوله تعالى[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ].
الثاني : الذين رجعوا وسط الطريق إلى المعركة مع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول واستجابة لتحريضه، وهل هم منافقون أيضاً أم ينحصر النفاق في المقام بالرؤساء الذين حرضوا على الرجوع.
الجواب هو الأول، ليشملهم وينسب إليهم ما ورد قبل أربع آيات [قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ]( ).
الثالث : الذين برزوا للقتال أفراداً وجماعات ومنهم الذين امتنعوا عن الفرار من المعركة .
الرابع : الذين فروا من وسط الميدان , ولكنهم سرعان ما عادوا إلى المعركة وأحاطوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرحين بسلامته.
لقد ابتدأت آية البحث بالإخبار عن إستبشار شهداء معركة أحد بنعمة من الله، ليكون الإستبشار شاملاً للأحياء من المسلمين ، إذ علموا بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حي وأن إشاعة قتله كذب وبهتان ، لبيان قانون وهو أن الإستبشار ثواب عاجل وآجل للمؤمنين الذين استجابوا لله ولرسوله، ليكون من معاني آية البحث : يستبشر الشهداء لأن إخوانهم في ميدان المعركة يستبشرون.
فان قلت كيف يستبشر المهاجرون والأنصار يوم معركة أحد مع فقدهم لسبعين من الشهداء ، الجواب من وجوه:
الأول : التباين الموضوعي ، وأن الأمر الذي يستبشر به الصحابة هو غير المصيبة بفقد الشهداء .
الثاني : التعدد في الحال والزمان، فالأسى بفقد الشهداء في وقت غير وقت الإستبشار .
الثالث : تحلي الصحابة بالصبر عند البلاء ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ).
الرابع : إخبار آيات القرآن بأن الشهداء أحياء عند الله عز وجل , وفي نعيم متصل .
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : يستبشرون بالذين استجابوا لله والرسول ).
لقد ذكرت آية البحث موضوع وعلة إستبشار الشهداء ، وهي النعم والفضل من عند الله عز وجل , وليس من حصر لأفراد كل منهما ، وهل يستطيع الناس أو ذات الشهداء إحصاءه.
الجواب لا ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا..]( ) بلحاظ تجدد مصاديق الآية أعلاه في الدنيا والآخرة.
لقد غادر الشهداء ساحة المعركة إلى الرفيق الأعلى، وغالباً ما يكون القتل في المعركة أمارة ودليلاً على الخسارة، فتفضل الله عز وجل وبعث الحياة من جديد في الشهداء ليروا سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل وإنقلاب جيش الذين كفروا من غير أن يحققوا أي غاية جاءوا من أجلها وظنوها ممكنة وقريبة .
وإذ أخبر الله عز وجل عن خيبتهم بقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) فان الشهداء رأوا وهم عند الله كيف إنسحب المشركون خائبين .
ومن خيبتهم آية السياق وما تتضمنه من استجابة الصحابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج في مطاردة جيش الذين كفروا , وتدل هذه الإستجابة بلحاظ آية البحث على أمور :
الأول : صيرورة شهادة طائفة من الصحابة نبراساً وضياءً للمهاجرين والأنصار .
الثاني : من معاني وأسرار مؤاخاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار تفاني الأحياء منهم بعد قتل طائفة منهم ، والثبات على نهج الإيمان الذي غادروا الدنيا بالتحلي به ، وهو من مصاديق نعتهم قبل آيتين بأنهم قتلوا في سبيل الله ، وليكون من معاني ومفاهيم الآية أعلاه وجوه :
الأول : قاتلوا في سبيل الله كما قاتل شهداء بدر وأحد .
الثاني : اجعلوا نيتكم في الدفاع خالصة لوجه الله .
الثالث : من شرائط نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القتال في سبيل الله ، وهل هو شرط زائد على ما تم في بيعة العقبة بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنصار .
الجواب لا ، لأن هذا القتال للذب والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : عاقبة القتال في سبيل الله الإستبشار الدائم .
الخامس : لا تقاتلوا الذي يقاتل في سبيل الله، وبالمعنى الأعم حرمة القتال بين المؤمنين .
السادس :تعاونوا في مقدمات ومصاديق القتال في سبيل الله ، وهو من أبهى مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ).
السابع : صيرورة الإستبشار عاقبة للذي يقاتل في سبيل الله، وباعثاً للدفاع عن النبوة والتنزيل .
وهل يصدق على الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف جيش المشركين وذكرتهم آية السياق [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ] ( ) أنهم في حال إستبشار.
الجواب لو دار الأمر بين إتحاد موضوع إستبشار الشهداء وبين تعدده فالصحيح هو الثاني لذا إجتمع فضل الله مع نعمته في آية البحث ، وتقدير الآية على وجهين :
الأول : يستبشرون بنعمة من الله .
الثاني : يستبشرون بفضل من الله .
وكل فرد من نعم وفضل الله من اللامتناهي في موضوعه, ومن مصاديق إستبشار الشهداء بالذين استجابوا لله والرسول في اليوم الثاني لمعركة أحد إرادة لحوق هؤلاء الذين استجابوا لله والرسول بالشهداء، ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ]( ) وجوه :
الأول : إستبشار الشهداء بسلامة الصحابة الآخرين في معركة أحد.
الثاني : الإستبشار ببطلان سحر كفار قريش وإنكشاف ضعفهم، وقبح إختيارهم، وإصرارهم على عبادة الأوثان.
ليكون من دلالات المثل القرآني[وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ]( ) أن كفار قريش لهم سطوة في مكة وبين القبائل وشأن عند الدول العظمى آنذاك خاصة بلاد الروم للمعاملات التجارية بينهم ، وكذا بالنسبة لليمن فما أن وقعت معركة بدر حتى انكشف وهن وضعف الذين أشركوا ، وزيف إدعائهم بعدها أنها كانت مفاجئة لهم وأنهم لم يستعدوا لها ، ولم يخرج لها كثير من فرسانهم ، فتجهزوا لمعركة أحد لمدة سنة كاملة .
الثالث : إستبشار الشهداء بصلاة النبي بأصحابه جماعة وهي التي افتقدها الشهداء ، ولكن لا دليل على الحسرة بسبب حرمانهم منها، فمن معاني قوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ]فوزهم بثواب حضورها وأدائها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن خصائص الدار الآخرة أنها دار جزاء من غير عمل.
وهل يمكن القول أن الشهداء يحضرون الصلاة بأطيافهم وبأجسام مثالية، ولكن الناس لا يرونهم ، الجواب لا دليل عليه .
ويتجلى الإعجاز في المقام بقوله تعالى في الآية قبل السابقة [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ] نعم لو شاء الله لجعلهم يرون ويحضرون صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه وهم عنده سبحانه .
الرابع : إستبشار الشهداء بأنهم فازوا بالقتل في سبيل الله من بين الصحابة , وكل واحد منهم يفرح لعدم طرو الحزن والأسى عليه بفقد الشهداء الآخرين، ففي الوقت الذي يحزن فيه الناس لفقد الشهيد يدفع الله عز وجل الحزن والأسى عنه، لذا إبتدأت آية البحث بقوله تعالى[يَسْتَبْشِرُونَ] ليكون تقديره على وجوه :
أولاً : يستبشرون بوفودهم على الله جماعة .
ثانياً : كل واحد منهم يستبشر بما رزقه الله .
ثالثاً : يستبشر الشهيد بما أصاب إخوانه الشهداء من النعم ، وإذ آخى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار بأمر من عند الله عز وجل فانه سبحانه آخى بين الشهداء برابطة عظمى وهي القتل في سبيل الله، لتكون سبيل هداية ورشاد.
رابعاً : يستبشر الشهداء بالذين لم يلحقوا بهم من المؤمنين كما تقدم في الآية السابقة .
خامساً : يستبشر الشهداء بنزول آية البحث وبعثها الطمأنينة في نفوس أهليهم .
سادساً : يستبشر الشهداء لأنهم لم يتركوا الدنيا بالموت على السرير أو بالقتل في غير مرضاة الله .
ومن الآيات في المقام أن تجد مؤمناً في جمع المسلمين يقابله أخ له في جمع المشركين، أو ابن يقابله أبوه ، كما في أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة في معركة بدر .
إذ كان أبو حذيفة يوم بدر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورآى قتل أبيه عتبة وأخيه الوليد ، وعمه شيبة .
و(عن أبى سعيد، أن عتبة بن أبي وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكسر رباعيته اليمنى السفلى وجرح شفته السفلى) ( ).
وكان أخوه عامر بن أبي وقاص من مهاجري الحبشة ولم يهاجر إليها سعد ، واسم أبي وقاص هو مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة القرشي الزهري .
(عن عمه موسى بن طلحة قال : كان علي والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص ولدوا في عام واحد)( ).
سابعاً : يستبشرون لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم أحد بخصوص المشركين : ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الارض”)( ).
ثامناً : يستبشرون لأنهم يرون أكثر الذين اشتركوا في قتلهم من الكفار يدخلون الإسلام .
تاسعاً : يستبشرون لأن قتلهم حجة على الذين كفروا وسبب لإنتقام الله منهم، وهو من مصاديق [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) بأن تتعدد البراهين التي تبين للإنسان وجوب عبادته لله عز وجل حتى وإن مرّ عليها من دون تدبر وإتعاظ، كما في قوله تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ]( ).
المسألة الرابعة : الذين إستجابوا لله والرسول يستبشرون برحمة وكرم الله عز وجل، وعدم حصر النعمة التي يتفضل بها بطائفة مخصوصة وإن نزلت لهم على نحو التعيين، فما يكون للشهيد في معركة بدر وأحد يصير قريباً من كل مؤمن بالدعاء والعمل الصالح، من غير أن ينقص من نصيب الشهداء شيء.
فقد أخبرت آية البحث عن إستبشار الشهداء من حين رحيلهم القهري عن الدنيا وفي غير أوانه، وأكثرهم قُتل وهو في أول سني شبابه، ومنهم من لم يتزوج بعد لذا أظهر الذين نافقوا الملامة , وقالوا[لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( )، وتفاخروا بقعودهم عن الدفاع، فنزلت آية البحث لتخبر عن حرمانهم من الإستبشار، ويحتمل هذا الحرمان وجوهاً:
الأول : إنه خاص بعالم الآخرة.
الثاني : إستبشار الذين نافقوا بخصوص الدنيا.
الثالث : إرادة الفرد الجامع للدنيا والآخرة.
والمختار هو الأخير إذ رماهم الله عز وجل بالمرض في القلوب الذي يحول دون الإستبشار، قال تعالى[وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ]( ).
لقد جعل الله عز وجل الإستبشار شجرة تتدلى أغصانها في كل مكان وتدخل كل بيت، وتدعو الناس إلى الإيمان ليترشح عن الإستبشار والحبور والسرور، قال تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( )، وهل إستبشار المؤمنين بسبب إستبشار الشهداء، وأنه من الثواب للشهداء أو من رشحات هذا الثواب.
الجواب هو فضل مستقل من الله لعموم المؤمنين , ويكون في طوله ترشح أفراد من الإستبشار بسبب إستبشار الشهداء .
وهل يلزم المؤمن الدعاء لنيل مرتبة الإستبشار ولابد من أن يقول: الله إرزقني الإستبشار، أم أنه يأتي إنطباقاً ومصاحباً للإيمان بفضل الله، المختار أنه فضل من عند الله عز وجل وهو سبحانه الذي يجعل ذات الإيمان وأداء العبد للفرائض بلغة لتحقيق الأماني وجلب المصالح والمنافع، والدعاء حسن ذاتاً سواء المخصوص بمسألة أو المطلق منه، قال تعالى[وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ) .
وليس من إنسان إلا ويرغب بالإستبشار ويرجو أن يتلقى البشارة، ويعيش أياماً وهي تلامس عالم التصور، وتبعث الأمل في نفسه، وليس أعظم من الإستبشار بالنعمة من عند الله سواء كانت نعمة ظاهرة في موضوعها، قريبة المنال، أو نعمة غير منظورة ولا معلومة مما ليس له حد أو منتهى فما يجهله الإنسان من نعم الله عز وجل التي ستأتيه أكثر مما في يده وهو من مصاديق قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين: الذين إستجابوا لله والرسول يستبشرون من بعد ما أصابهم القرح.
والمراد من القرح أي الجراحات بصيغة اسم الجنس بلحاظ نظم الآية وتعدد الإصابات والمصابين إلى جانب الأخبار الواردة بخصوص عدد من أهل البيت والصحابة وكثرة جراحاتهم، ومنهم من كان يُعالج ويأن الليل كله من حين مجيئهم من معركة أحد ، وحينما سمع بنداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي خرج تلبية وإستجابة له.
وقد يقال بعدم تضمن ظاهر الآية جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والجواب إن الآية تتضمنها لصيغة الجمع فيها وتقديرها : الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصاب الرسول وأصابهم القرح .
ومن المتواتر كثرة جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة أحد ، وبقاء علامات في بدنه لمثل هذه الجراحات منها سقوط اسنانه الأمامية .
(عن سهل بن سعد الساعدي قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله يوم احد وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وكانت فاطمة بنته عليها السلام تغسل عنه الدم وعلي بن ابي طالب عليه السلام يسكب عليها بالمجن، فلما رأت فاطمة عليها السلام. أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى إذا صار رمادا ألزمته الجرح فاستمسك الدم) ( ).
ليكون من معاني الإستبشار في المقام خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع الصحابة خلف العدو ، ولو بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة وبعث سرية لكان العذر ظاهراً ولكنه قام بنفسه بالخروج ليغلق الباب بوجه الذين نافقوا فلا يبثون السموم ولا ينشرون الأقاويل بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إختار السلامة وبعث أصحابه , ومنع من مناجاتهم كيف يخرجون مع كثرة جراحاتهم.
والأصل أن المقاتل لابد وأن يستريح والجريح تندمل جراحاته ، فكان رسول صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام في الميدان لبيان أن الإستبشار والراحة في مطاردة الذين كفروا ودفع شبح غزوهم للمدينة , وفي التنزيل ( ان تنصروا الله ينصركم).
ويمكن تأسيس قوانين كل واحد منها يلزم البيان وضروب البرهان من وجوه :
الأول : قانون السنة الدفاعية حرب على النفاق .
الثاني : فضح السنة النبوية للنفاق .
الثالث : قانون السنة النبوية زاجر عن النفاق .
الرابع : قانون السنة النبوية حجة على الذين نافقوا .
الخامس : قانون السنة النبوية سبيل لتوبة المنافقين ، قال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا* إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
ويكثر في علم التفسير ومجالس الوعظ التأكيد على الآية أعلاه بلغة الإنذار والتوبيخ والتذكير بالوعيد ولم تذكر معها مضامين الآية التي بعدها والتي تتضمن البشارة للذين يتوبون من النفاق ، إذ تبين الآية أعلاه إمكان توبة المنافقين من جهات :
الأولى : كف الذين نافقوا عن إبطان الكفر ومفاهيم الضلالة .
الثانية : الصلاح بعد النفاق والفساد ، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) إذ احتج الملائكة على تفضل الله عز وجل بجعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فمن علم الله عز وجل إقلاع المنافقين عن النفاق.
ومن الصلاح دعوة التائب من النفاق إخوانه من أهل النفاق إلى التوبة والإنابة والصلاح ، فبعد أن كان المنافقون يعّرضون بالشهداء كما في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ) صارت توبة طائفة منهم مناسبة ووسيلة لحث الآخرين على التوبة وكأنهم يقولون لأخوانهم توبوا مثلما تبنا وأصلحنا .
الثالثة : الإعتصام بالله عز وجل بعد التوبة ، فقد جاء الأمر من عند الله للمسلمين بالتمسك بالقرآن وأحكام الإسلام والسنة ، كما في قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
أما الآية أعلاه من سورة النساء فجاءت بصيغة الإخبار والدلالة على وجود طائفة تابوا من النفاق ، ولجأوا إلى الله لبيان أنهم اعتصموا بالله من الإرتداد أو العودة إلى النفاق فعصمهم الله عز وجل .
وعن عبد الله بن مسعود (في القرآن آيتان ما قرأ بهما عبد مسلم عند ذنبه إلا غفر الله له، فسمع بذلك رجلان من أهل البصرة ، فأتياه ، فقال : ائتيا أبي بن كعب ، فإني لم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئا إلا سمعه أبي ، فأتيا أبيا فقال : اقرأا القرآن فإنكما ستجدانهما، فقرأا حتى بلغا آل عمران [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ]( )،[ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا]( )، فقالا قد وجدناهما قال أبي : أين؟ قالا : في النساء وآل عمران فقال أبي: ها هما)( ).
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : الذين استجابوا لله والرسول وان الله لا يضيع أجر المؤمنين .
ومن خصائص الآية القرآنية مجيؤها في موضوع مخصوص ولكن مضامينها ودلالاتها متجددة إلى يوم القيامة.
فقد ذكرت آية البحث حال الصحابة الذين هبّوا مستجيبين لنداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمطاردة الذين كفروا ومنعهم من الإغارة على المدينة المنورة ، وجاء النداء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال(لَا يَخْرُجْ مَعَنَا إلّا مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ)( ).
أي من شهد القتال يوم معركة أحد ، وفيه تعريض بالمنافقين وهم على قسمين :
الأول : الذين لم يخرجوا من المدينة صوب معركة أحد عن قصد وعمد.
الثاني : الذين إنسحبوا من وسط الطريق وعددهم ثلاثمائة .
وأيهما أشد ضرراً على الإسلام وأكثر إثماً من القسمين أعلاه ، الجواب هو الثاني ، لأن ثلث جيش المسلمين إنخزل وإنسحب مرة واحدة مع أن جيوش العدو على مشارف المدينة ، ولا تبعد عن الموضع الذي إنخزلوا فيه إلا نحو ثلاثة كيلومترات .
وتوقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريقه إلى معركة أحد عند مبنى صغير يعود لزوجين عجوزين يسمى (الشيخين) ومسجد صار يسمى مسجد الدرع أو مسجد البدائع لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى عنده صلاة المغرب والعشاء وبات فيه ليلة المعركة حتى أصبح صباح يوم المعركة ، ولا يبعد هذا المسجد عن جبل أحد إلا نحو كيلوي متر إذ كانت طلائع المشركين تراقب حركة وسير المسلمين.
وقيل أطلق اسم مسجد الدرع عليه لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبس هناك درعه ، وهو لا يتعارض مع كونه لبس لأمة الحرب في المدينة .
وبين المؤمنين الذين ذكروا في خاتمة الآية السابقة وبين الذين ذكرتهم آية البحث عموم وخصوص مطلق ، إذ أن لفظ المؤمنين سور جامع لأهل الإيمان بالله ورسله من الأولين والآخرين ، ليعلم المؤمن وتعلم المؤمنة بأن لهم إخواناً في كل زمان منهم من غادروا ومنهم من لم يأت زمانهم بعد وهو من عمومات قوله تعالى[فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً]( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام في الآية أعلاه[فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ] أي أجله وهو حمزة وجعفر بن أبي طالب ومنهم من ينتظر أجله يعني عليا عليه السلام، يقول الله: وما بدلوا تبديلا)( ).
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : أن الله لا يضيع أجر المؤمنين للذين أحسنوا منهم وأتقوا أجر عظيم).
من الإعجاز في نظم الآيات تكرار لفظ الأجر في آية البحث والآية التالية ، لبيان عظيم فضل الله عز وجل على المسلمين والمسلمات .
ويمكن تسمية الحياة الدنيا على وجوه :
الأول : الدنيا دار البشارة بالأجر .
الثاني : في الدنيا أجر .
الثالث : الدنيا دار الترغيب بالأجر .
ومن الإعجاز في المقام تقييد الأجر بأنه خاص بالمؤمنين ، ولبيان قانون وهو أن الإيمان طريق الأجر وسبب الفوز بالثواب العظيم ، ويحتمل تكرار لفظ الأجر في الآيتين وجوهاً :
الأول : إتحاد الموضوع والجنس ، والمراد ذات الثواب في الآيتين .
الثاني : إتحاد الموضوع مع تعدد جنس الأجر .
الثالث : التعدد في الموضوع والجنس .
وأن الأجر الذي تذكره آية السياق غير الأجر الذي ورد في آية البحث.
والمختار هو الثالث ، وأن النسبة بين مسألة الأجر في الآيتين هو العموم والخصوص المطلق ، لبيان قانون من جهات :
الأولى : مجئ الأجر لعموم المؤمنين والمؤمنات .
الثانية : فوز شهداء معركة أحد بالأجر العظيم إلى جانب الأجر الذي يأتيهم بايمانهم .
الثالثة : تفضل الله عز وجل بالأجر على كل عمل صالح يقوم به المؤمنون ، ليكون من مصاديقه نعت آية السياق أجر الذين استجابوا لله والرسول بانه عظيم وجوه :
الأول : الأجر على الإستجابة لله عز وجل ، ومن الإعجاز في آية السياق أنها لم تذكر خصوص الأوامر ، ليكون تقديرها على وجوه :
أولاً : الذين استجابوا لله فيما أمر به .
ثانياً : الذين استجابوا لله فيما نهى عنه .
ثالثاً : الذين استجابوا لله والرسول ولم يقصروا .
رابعاً : الذين استجابوا لله والرسول في ميادين القتال .
خامساً : الذين استجابوا لله والرسول وضحوا بأنفسهم شهداء في سبيل الله في معركة أحد .
سادساً : أسر وعوائل الشهداء التي إستجابت لله والرسول، ورضيت بما قسم الله لهم .
ليتغشى الجميع الثواب من عند الله بفضل الله .
الثاني : فوز المهاجرين والأنصار بالأجر العظيم للأذى الذي لاقوه من الذين كفروا .
الثالث: إرتقاء أجر المهاجرين والأنصار إلى مرتبة أجر عظيم فضل ولطف من عند الله عز وجل .
الرابع : إرادة بيان الأجر والثواب على المتعدد من فعل الصالحات ، وفيه بيان بأن الأجر العظيم قريب من المؤمنين .
الخامس : ترغيب المسلمين بالإجتهاد في طاعة الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ] بلحاظ أن هذا الإجتهاد إحسان للنفس والغير .
السادس : بيان فضل الله على الشهداء وعامة المسلمين بأن الشهداء قتلوا ولكن عملهم الصالحات باق بين المسلمين إلى يوم القيامة ، ليكون من إعجاز القرآن حفظه لسيرة الصلاح التي كان عليها الشهداء مثلما حفظ الله منهاج الأنبياء .
الوجه الثاني : صلة آية البحث بقوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ) وفيها مسائل :
المسألة الأولى : لقد نزلت آية البحث لتكون عوناً وتعضيداً للمؤمنين في صبرهم وقيامهم بالدفاع ، فمن خصائص الإنسان الجزع عند توالي المصائب ، كما أن الجنود يعانون من التعب والإرهاق عند توالي القتال ، وتظهر عليهم آثار الجراحات التي تقعد بعضهم حتى عن ركوب الخيل فلا يستطيع تكثير السواد إلى جانب المصيبة بفقد الأحبة بالقتل في سوح المعارك والخوف على النفس من اللحاق بهم لأصل الإستصحاب الذي هو أصل عقلي قبل أن يكون من أبواب علم الأصول .
لقد خرج المهاجرون والأنصار مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد .
وقتل الذين كفروا منهم سبعين وعاد الباقون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثقلين بجراحاتهم ، فنزلت آية البحث بخصوص الشهداء ، وجاءت آية السياق بخصوص الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الثاني لمعركة أحد وبينهم وبين عموم الذين رجعوا من معركة أحد من الصحابة عموم وخصوص مطلق ، فمنهم من لم يخرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ، فهل تشمله مضامين آية البحث والسياق .
الجواب نعم ، لإتصافهم بالإيمان ، وإظهارهم حسن التوكل على الله ، وعدم خشيتهم من الذين كفروا وجيوشهم ، ليجمع المؤمنون يومئذ بين طاعة الله ورسوله والخشية من الله والفوز بالنشأتين ، قال تعالى [وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ] ( ).
المسألة الثانية : لقد إبتدأت آية السياق بقوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ] ( ).
لبيان قانون في خلافة الإنسان في الأرض , وهو فضل الله عز وجل ببعث الأنبياء والرسل ووجود أمة تستجيب لله عز وجل ولهم ، لا يخشون إلا الله ولا يريدون إلا وجهه سبحانه .
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بتقريبهم إلى منازل الطاعة والإستجابة لتأتي آية السياق وتخلد استجابتهم ، لبيان أن فضل الله عز وجل توليدي إذ يرتقي المسلم إلى مرتبة في الصلاح بفضل من الله عز وجل ثم يأتي الثناء من عند الله عز وجل على ما أنعم عليه من التوفيق والمرتبة في التقوى، وفي التنزيل[وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ]( ).
لقد جاءت آية البحث بالثناء على الشهداء الذين غادروا الحياة الدنيا بينما جاءت آية البحث بالثناء على الذين رجعوا من معركة أحد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثقلين بالجراحات ثم استجابوا لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج خلف جيش الذين كفروا .
ومن الإعجاز الغيري في آية السياق التسليم بأن خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلف جيش المشركين حاجة لهم وللإسلام إذ أن الخروج مع الجراحات خير من البقاء في المدينة وعودة الذين كفروا لغزوها ومباغتة أهلها .
وكيلا يقال أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم كلّف أصحابه أكثر من طاقتهم .
ومن معاني الجمع بين الآيتين استبشار الشهداء باستجابة المهاجرين والأنصار والرسول وتعاهد نهج الدفاع عن الإسلام والنبوة ، وليكون من مصاديق الإستبشار في المقام أمور :
الأول : إصابة الذين كفروا بالخوف والفزع .
الثاني : إرتقاء المهاجرين والأنصار إلى مرتبة الخروج للقتال حتى مع الجراحات الشديدة .
الثالث : موضوعية تضحية الشهداء في مناجاة ومسارعة الصحابة للخروج خلف العدو الكافر .
وهو من الإعجاز في قوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ] ( ) للدلالة على النفع العظيم للإسلام بواقعة أحد ، مع أن أسبابها إصرار الذين كفروا على القتال لإقامة الحجة عليهم ، لذا لم تنسب الآية أعلاه واقعة أحد إلى أمر الله .
فلم تقل (وما اصابكم يوم التقى الجمعان فبأمر الله) إنما ذكرت خصوص إذن الله عز وجل لبيان أن إبتلاء المؤمنين في الحياة الدنيا هو خير ونفع في ذاته وعاقبته ، نعم قد سقط سبعون شهيداً في المعركة ، فجاءت آية البحث بالإخبار عن توالي نعم وفضل الله عليهم بما يجعلهم مستبشرين على نحو الدوام .
ويمكن تقدير الجمع بين الآيتين : الذين استجابوا لله والرسول [يَسْتَبْشِرُونَ] بلحاظ ان الهداية لهذه الإستجابة نعمة تملأ النفس بالغبطة والسعادة .
ثم جاءت آية السياق للشهادة للمهاجرين والأنصار بأمور :
الأول : التسليم بأن ما يأتي به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو وحي من عند الله عز وجل .
الثاني : تلقي الأوامر الإلهية بالإمتثال والإستجابة الحسنة .
الثالث : إصلاح النية والقصد والسلامة من النفاق والرياء .
الرابع : إرادة الإستعداد المطلق عند الصحابة للاستجابة لأمر الله ورسوله حتى في أشد وأحلك الأحوال , إن الأمة التي تخرج منها طائفة بجراحاتها خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحو عدو أكثر من عشرة أضعافها هي (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ( ).
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين : يستبشرون من بعد ما أصابهم القرح ).
لقد ذكرت آية البحث حال البهاء للشهداء بأنهم في استبشار لما سيأتيهم من النعم والنصر المتجدد للإسلام وموضوعية تقديمهم أنفسهم قرباناً في إقامة صرح الإيمان وزحزحت مفاهيم الكفر عن منازل الرياسة , مع سلامة الأنصار الذين نجوا من القتل يوم معركة أحد ، وكيف أن القرح والجراحات أصابتهم ، إذ انشغلت عوائلهم بمداواتهم ، وتوالت عليهم البشارات من المسلمين والمسلمات بالثواب العظيم .
وهناك مسألتان :
الأولى : هل أصابت القروح الشهداء .
الثانية : هل يستبشرون بأهل الجراحات من المؤمنين .
أما المسألة الأولى فالجواب نعم بلحاظ أن ضربهم بالسيف يؤدي إلى القروح لما قبل القتل والشهادة ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ]وجوه :
الأول :يستبشرون بقروحهم .
الثاني : يستبشرون بالثواب العظيم على ما أصابهم من القروح .
الثالث: يستبشرون بالمائز بينهم وبين الذين أصابتهم القروح بأن فارقت أرواحهم الأجساد بالقتل في سبيل الله .
وهو لا يتعارض مع تفاخر الذين بقوا من أهل البيت والصحابة باستجابتهم لله ورسوله في الخروج في اليوم الثاني لمعركة أحد خلف العدو ولإقامتهم الصلاة في أوقاتها لبيان قانون مستقرأ من قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ) .
لقد فرض الله عز وجل الصلاة ليتفاخر بأدائها المؤمنون والمؤمنات ويستبشرون بثوابها في النشأتين .
أما المسألة الثانية فالجواب نعم من وجوه :
الأولى : شهادة القرآن باصابة المهاجرين والأنصار بالقروح من الشواهد على صدق إيمانهم ، وقصدهم القربة إلى الله في القتال .
الثاني : بيان قانون وهو أن الذين نجوا من القتل من أهل البيت والصحابة يوم معركة أحد إنما بفضل ونعمة من الله والذي يتفضل عليهم بدرجة الشهادة وهم أحياء ، إن شاء ، وفي التنزيل [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاَء وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] ( ).
الثالثة : مجئ القرآن والسنة بالبشارة بالأجر والثواب على الأذى والجرح في سبيل الله ، وعلى بذل الجهد استجابة لله ولرسوله ، قال تعالى [وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
وقد يحزن الشهداء بسبب الجراحات التي لحقت بهم أو الجراحات التي أصابت النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وعامة المهاجرين والأنصار ، فجاءت آية البحث لنفي هذا الحزن وصيرورته من الممتنع لتغشي البشارة والإستبشار والحبور لهم ، ومنه علمهم بأن كل جرح وقرح حلّ بهم هو زيادة في الآجر والثواب وسبب لسخط الله على الذين كفروا .
وهل يتعلق الثواب بالقرح الشخصي أم يأتي الثواب لعامة المسلمين والمسلمات على كل جرح أصاب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم منها سقوط أسنانه الأمامية ، وجريان الدم من وجنته , الجواب هو الثاني .
ولا يختص هذا الثواب بأهل البيت والصحابة إنما هو عام ويشمل أجيال المسلمين ، نعم هل ينحصر ويختص بتلاوتهم للآيات التي تدل على نزول المصيبة بالمسلمين , الجواب لا , لبيان تعدد أسباب الفضل من عند الله عز وجل على المسلمين والمسلمات .
(عن أنس قال : لمّا كان يوم أُحد شجّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فوق حاجبه وكسرت رباعيته وجرح في وجهه،
فجعل يمسح الدم في وجهه؛ وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم،
ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيّهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربّهم،
فأنزل الله تعالى : {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَىْءٌ} ،
وقال سعيد بن المسيّب. والشعبي. ومحمد بن إسحاق بن يسار : لمّا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اشتدّ غضب الله على من دمى وجه نبيّه. علت عالية من قريش على الجبل،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (اللهم إنه) لا ينبغي لهم أن يعلونا) ( ).
لقد أصابت القروح يوم أحد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة الذين خرجوا من المعركة أحياء , والذين قتلوا وغادروا الحياة يومئذ ، مع التباين في مراتب الجراحات على أقسام :
الأول : الجروح والقروح التي لا تؤدي إلى القتل وهذه الجروح من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة شدة وضعفاً ، ومنها ما يتم شفاؤها بسرعة ، ومنها ما تقعد صاحبها اياماً أو أشهراً ومنها ما تؤدي إلى الإعاقة والزمانة ، ومع هذا خرج أهل القروح والجراحات مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الثاني لمطاردة جيش الذين كفروا الإستعداد للقتال مع تلك الجراحات المتعددة , وهو الذي تدل عليه الآية التالية , وسيأتي مزيد بيان .
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : الذين أحسنوا واتقوا يستبشرون ) من معاني الجمع بين هذه الآيات أن الإستبشار ورد في آية البحث والآية السابقة بخصوص شهداء معركة بدر وأحد ، وجاءهم هذا الإستبشار بعد قتلهم ، وصار ملازماً لهم في عالم البرزخ ، وينتقل معهم إلى عرصات يوم القيامة فتغبطهم الخلائق كلها .
ويمكن تسمية الشهداء (المستبشرون ) فان قلت قد ينقطع الإستبشار في عالم الآخرة ، والجواب لا دليل على انقطاعه بل هو مستمر ومتجدد ، قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] ( ) وهل يستبشر الشهداء بمسارعة الذين كفروا بالكفر .
الجواب إنما هم في مأمن من الحزن عليهم ، وشاء الله عز وجل لرسوله والمؤمنين أن يكونوا في ذات مرتبة الأمن والسلامة من الحزن والأسى على الذين كفروا لإنعدام ضررهم على سير الحياة الدنيا ولأن الله عز وجل أعدّ لهم عذاباً اليماً .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين المسارعة في الخيرات والإحسان للنفس والغير ، والخشية من الله عز وجل ، والشكر له سبحانه على نعمة الإيمان ، وحينما يرى الذي يسارع في الكفر حسن سمت المسلمين فانه قد يتوب إلى الله عز وجل وإن بقي على الكفر تقام عليه الحجة .
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين :يستبشرون فزادهم إيماناً ).
يتعلق موضوع الإستبشار في آية البحث بشهداء أحد , وموضوعه أعم من أن يختص بحالهم في عالم البرزخ ، كما يأتي بيانه في باب التفسير .
ومن خصائص الآية القرآنية أنها وسيلة سماوية مباركة لإصلاح النفوس وتثبيت الإيمان، لذا تفضل الله عز وجل وجعل تلاوة القرآن واجبة في الصلاة وجوباً عينياً على كل مسلم ومسلمة , ورغّب الله عز وجل بالتلاوة وجعل ثواباً عظيماً في قراءة القرآن .
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (من قرأ القرآن فأعربه كان له بكل حرف عشرون حسنة، ومن قرأه بغير إعراب كان له بكل حرف عشر حسنات) ( ).
والمراد بالإعراب التدبر فيه ، ومعرفة معاني اللفاظ ، وليس الإعراب وفق الصناعة النحوية ، وفيه دعوة للمأموم في صلاة الجماعة أن ينصت لقراءة الإمام ولعامة المسلمين بالإستماع للقرآن أثناء الصلاة وخارجها ، ومنه آية البحث التي تنقل الأذهان إلى وقائع في الدنيا وعواقب في الآخرة .
إذ تبين جهاد وصبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار في سبيل الله ، وكيف أن صبر ساعة من نهار في سبيل الله أدى إلى حال استبشار دائم ، وهو أمر خاص لا يفوز به إلا أهل التقوى ، قال تعالى [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى] ( ).
وكما جعل الله عز وجل الترابط والتداخل في عالم الأكوان وتأثير بعضها ببعض من غير أن يكون تأثير علة ومعلول ، بلحاظ أنه من مشيئة الله، ولا يحدث إلا باذنه سبحانه فان الله عز وجل جعل نوع صلة بين عالم الدنيا وعالم البرزخ بالإخبار عن استبشار شهداء أحد وهم عند الله ، وصيرورة هذا الإستبشار سبباً لزيادة إيمان أجيال المسلمين والمسلمات ، قال تعالى [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ] ( ).
ومن إعجاز القرآن النفع المتجدد لكل كلمة وآية منه ، ويمكن تشريع باب مستقل في علة التفسير وهو منافع الآية لبيان فضل الله عز وجل فيها من جهات :
الأولى : نزول أي آية من القرآن .
الثانية : تلاوة المسلمين للآية القرآنية .
الثالثة : إستدامة وجود الآية القرآنية .
الرابعة : سلامة الآية القرآنية من التحريف والتبديل والتغيير .
الخامسة : النفع العام من الآية القرآنية .
السادسة : النفع الخاص من الآية القرآنية ونزلت آية البحث بخصوص حال شهداء معركة أحد بعد قتلهم ومفارقتهم الدنيا ولكن منافعها حاضرة عند المسلمين في كل زمان لبيان قانون وهو إنتفاع المسلمين من المؤمنين الموتى الذين يكونون أحياء عند الله .
وقد ورد قبل آيتين[أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) ويستقرأ قانون وهو تجلي النفع الدائم للمسلمين من هذه الحياة , ويتصف هذا النفع بوجوه :
الأول : تعدد أسباب النفع من حياة الشهداء عند الله .
الثاني : كثرة ضروب النفع .
الثالث : إنتفاع المسلمين اليومي المتجدد من حياة الشهداء عند الله .
الرابع : بيان بركة الدفاع عن كلمة التوحيد وشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل ، ولو خلّى الأنصار بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين كفروا عند هجومهم في معركة أحد، فهل يتركهم الذين كفروا .
الجواب لا ، إذ أنهم يدخلون المدينة ويستبيحونها ليظهروا أسباب هيبتهم وشأنهم ، ويبعثوا الخوف في أوساط القبائل ، وبقصد تثبيت لمفاهيم الكفر والضلالة وعبادة الأوثان ،وقد أبى الله عز وجل إلا تنزيه مكة والأرض منها ، وهو من أسرار صيرورة مكة أم القرى ، قال تعالى [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ] ( ).
وقد تكرر لفظ [تُنْذِرَ] في الآية أعلاه مرتين :
الأولى : لحاظ المكان وإرادة أيام الحياة الدنيا من غير تقييد بزمان مخصوص ، لبيان تجدد إنذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للناس في كل زمان .
الثانية : الإنذار بيوم القيامة وتسميته بأنه يوم الجمع لتأكيد حشر الناس يومئذ ، فيجتمع كل من :
الأول : الذين يستبشرون بنعمة من الله , وهم أهل آية البحث .
الثاني : الذين اقتدوا بالمستبشرين , وهم الذين ذكرتهم آية السياق وأثنت عليهم بزيادة الإيمان .
الثالث : الذين جاء ذمهم في الآيات التالية بنعتهم بالولاية والنصرة للشيطان وفتنته لهم ، قال تعالى [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ] ( ).
وقد تلقي المسلمون الإنذارات في القرآن والسنة بالقبول والإستجابة .
المسألة السادسة :تقدير الجمع بين الآيتين : أن الله لا يضيع أجر المؤمنين فزادوهم إيماناً ) لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا تتصف بأمور :
الأول: الدنيا دار الثواب .
الثاني : في الدنيا بشارة بالثواب .
الثالث : تبعث الدنيا على الأمل والبشارة بالثواب ، قال تعالى [وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ] ( ).
الرابع : من صفات الأنبياء والمرسلين أنهم مُبشرون , وذات أشخاصهم وأفعالهم بشارة ورحمة ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( ) .
وهل يمكن إنشاء قانون وهو كل آية قرآنية بشارة , الجواب نعم .
وهل تختص بشارات القرآن أو بشارات الأنبياء بالمؤمنين أم أنها عامة وشاملة للناس جميعاً ، الجواب هو الثاني ، نعم المؤمنون هم الذين انتفعوا من هذه البشارات الإنتفاع الأمثل .
ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه تزيد المسلمين إيماناً , وتدعو الناس للهداية والإيمان .
وهو من مصاديق التحدي المتصل والمتجدد في الآية القرآنية ، وهل تنحصر الدعوة إلى الهداية في الآية القرآنية بتمامها وأنها دعوة متحدة ، الجواب لا ، فكل شطر منها يدعو الناس إلى الهداية ، وهو بذاته حصانة وعصمة من التغيير والتحريف من وجوه :
الأول : شطر الآية حصانة من تغييره وتبديله .
الثاني : في شطر الآية حصانة من التحريف في الآية القرآنية .
الثالث: كل شطر من آية قرآنية سلاح في سلامة القرآن وعصمته من التحريف، ومنه إخبار آية البحث عن فضل الله في فوز المؤمنين والمؤمنات بالثواب العظيم في الدنيا والآخرة .
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : أن الله لا يضيع أجر المؤمنين ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) .
لقد إبتدأت آيات البحث بالخطاب المقرون بالنهي الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) .
ثم ذكرت حال النعيم الذي يغرقون فيه للتخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات بمنع طرو الشك على نفوسهم .
وقد تقدم قبل آيات قوله تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ) لتهيئة أذهان المهاجرين والأنصار للقتال وملاقاة الذين كفروا في ميدان المعركة .
وإحتمال قتل بعضهم لتأتي آيات البحث فتبين حقيقة وهي أن ثواب المؤمنين في الآخرة من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة إذ يفوز الشهداء الذين تذكرهم الآية أعلاه باسمى مراتب العفو والمغفرة ، فلا يقعدهم منكر ونكير في القبر لمساءلتهم عن أفعالهم في الدنيا .
وعن القصور والتقصير في الفرائض وعن حقوق الناس ، إنما يبعثهم الله عز وجل أحياء من ساعة القتل فان قلت لا يتعارض هذا البعث مع الحساب الإبتدائي خاصة .
وقد ورد بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل على الذي عليه ديون للناس ، وتتضمن آية البحث ,
الجواب باخبارهم عن استدامة حال الإستبشار عند الشهداء ، ومما هو جلي وواضح أن الحساب وإن كان يسيراً سبب للخوف والحرج والإضطراب بالإضافة إلى بيان آية البحث لموضوع استبشار الشهداء وهو النعمة والفضل من الله عز وجل .
الوجه الثالث: صلة آية البحث بقوله تعالى [وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( ) وفيها مسائل :
المسألة الأولى : إبتدأت آية السياق بالنهي عن الحزن على نحو القضية الشخصية ، وإرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنص ، ولكن الآية موضوعاً ودلالة ، إذ تشمل المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، ففيها دعوة لهم على عدم الحزن والأسى على إصرار الذين كفروا من قريش على الجحود بالمعجزات النبوية العقلية منها الحسية ، وتقدير أول آية البحث على وجوه :
الأول : مخاطبة المسلم : ولا يحزنك .
الثاني : مخاطبة الاثنين من المسلمين : ولا يحزنكما .
الثالث : توجه النهي لجماعة المسلمين : ولا يحزنكم .
الرابع : إرادة المنفردة من المسلمات : ولا يحزنكِ .
الخامس : توجه النهي إلى عموم المسلمات , وتقدير الآية : ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ، كما تتعدد وجوه تقدير الآية بلحاظ اتحاد وتعدد الذين كفروا كما سيأتي في تفسير آية السياق إن شاء الله ، ومن وجوه تقديرها :
الأول : ولا يحزنك الذين يسارع في الكفر .
الثاني : ولا يحزنكم الذي يسارع في الكفر .
الثالث : ولا يحزنكن التي تسارع في الكفر .
الرابع : ولا يحزنكم اللائي يسارعن في الكفر .
ومن الإعجاز في الجمع بين الآيتين المتضادين الإستبشار وموضوعه وبين ما نهى الله عز وجل عنه وموضوعه .
إذ يتعلق الإستبشار بالشهادة وبذل النفس دفاعاً عن كلمة التوحيد والنبوة والتنزيل ، لتكون هذه الشهادة من مصاديق قوله تعالى [وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا] ( ) والمراد التوحيد وقول لا إله إلا الله .
(عن أبي موسى قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله ؟ قال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله تعالى) ( ) .
ويتعلق الحزن باصرار الذين كفروا إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرجو إسلامهم وتوبتهم حتى بعد قتلهم لسبعين من الصحابة في معركة أحد ، وهذا الرجاء من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
لبيان قانون وهو عدم التعارض بين الرجاء وعدم الحزن في ذات الموضوع والأشخاص .
وقد وردت آيات بذكر ما يحبه الله من العباد منها [فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ] ( ) [وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ) [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ] ( ).
وكلها في سورة آل عمران ، كما جاءت آيات في بيان ما لا يحبه الله ، ومنها في سورة آل عمران خاصة [فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ] ( ) [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] ( ) [وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ] ( ).
فهل الحزن على الذين كفروا مما لا يحبه الله لذا نهى عنه ، الجواب يفيد النهي في المقام الكراهية وإرادة عدم الإنشغال بالذين كفروا ، إنما المطلوب الثبات في مقامات الإيمان ، وأداء الفرائض والعبادات , والغبطة والفرح بالتائبين ، والإستبشار بما فاز به الذين استشهدوا في سبيل الله .
المسألة الثانية : لقد أخبرت آية البحث في مضمونها ودلالتها عن سقوط عدد المهاجرين والأنصار قتلى ، وجاء وسطها وخاتمتها بذات صيغة الجملة الخبرية مع التعدد البياني وان موضوع خاتمتها أعم واوسع من أولها .
أما آية السياق فأبتدأت بصيغة النهي والجملة الإنشائية وعند التدبر في النهي يتبين أنه في طول مضامين آية البحث أي لا يحزنك الذي يسارعون في الكفر ما دام الشهداء مستبشرين فرحين بفضل الله .
لقد رجع الذين كفروا إلى مكة من معركة أحد وهم يظهرون الفرح بأخذ ثأرهم في معركة بدر وأنهم هزموا المسلمين ، والصحيح أنهم لم يهزموهم ولم يتم أخذ ثأر قتلاهم في معركة بدر وإلى يوم القيامة ، وقد أخبر الله عز وجل عن نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يومئذ بقوله [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) .
ولم تصف آيات القرآن حال المسلمين يوم معركة أحد بأنهم إنهزموا أو خسروا المعركة ، أو أن الذين كفروا انتصروا انما تضمنت آيات القرآن الإخبار عن نصر المسلمين في بداية المعركة ثم خلافهم وترك الرماة مواضعهم ونزول البلاء والإبتلاء بهم .
فجاءت آية البحث لسلب هذا الفرح من الكفار ، ونهت آية السياق عن دبيب الحزن إلى نفوس المسلمين بسبب بقاء الكفار على كفرهم أو الذين ينصرونهم [يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ] ( ) .
المسألة الثالثة : من معاني الجمع بين الآيتين وجوه :
الأول : لا يحزن الشهداء على الذين يسارعون في الكفر لوجوه :
أولاً : إقامة الشهداء عند الله عز وجل .
ثانياً : يتفضل الله ويحجب عن الشهداء إصرار الذين قتلوهم على الكفر.
ثالثاً : رؤية الشهداء دخول الناس أفواجاً وجماعات فيستبشرون لموضوعية دمائهم بهذا الدخول .
رابعاً : دفع الله عز وجل الحزن عن الشهداء .
خامساً : تجلي قانون وهو أن إصرار الذين كفروا على الضلالة لن يضر الإسلام .
لقد احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) لأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء فتفضل الله وأخبرهم بأنه يعلم من الإنسان وعاقبته ما لا يعلمون ، ومن علمه تعالى فبح فعل الذين كفروا ونافقوا , قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : يستبشرون لأن الله لا يجعل للذين كفروا حظاً في الآخرة ) .
لقد أخبرت آية البحث عن حظ عظيم للشهداء في الآخرة واثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، فقد يكون هناك حظ لطوائف متعددة من الناس أو أن كل إنسان يكون له حظاً في الآخرة خاصة، (وروى الصادق عن النبي صلى الله عليه واله أنه قال: إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والانس والبهائم، وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده)( ).
فبينت آية السياق بالنص إنعدام الحظ والنصيب للذين كفروا في الآخرة من حين دخولهم القبور .
وفيه عز وفخر اضافي للشهداء لبيان التضاد بين النعيم الذي هم فيه ، والحرمان الذي يتغشى الذين كفروا حالما يغادرون الدنيا .
وقال الشاعر
ضدان لما استجمعا حسنا … والضد يظهر حسنه الضد( )
والمثال من البيت أعلاه عجزه فقط ، وليس كله ، إذ ليس من حسن في حال الذين كفروا ، إنما الحسن في حال الإستبشار التي عليها الشهداء , ليشكر المؤمنون الله عز وجل على عظيم منزلتهم .
ومن معاني الجمع بين الآيتين البيان القرآني لأحوال الناس في الآخرة ، وفيه حجة عليهم فيه فيضحي سبعون من المهاجرين والأنصار بأنفسهم في سبيل الله لتكون تضحيتهم ضياء ينير دورب الرشاد للناس ، وتأتي آية السياق بالإخبار عن قانون وهو إنعدام الحظ والنصيب للذين كفروا في الآخرة فلا ينالون في الآخرة إلا الأذى والضرر الفادح .
ولا يختص الإستبشار الذي أخبرت عنه آية البحث بشهداء معركة أحد، إنما يشمل شهداء معركة بدر والمسلمين والمسلمات الذين قتلوا تحت التعذيب في مكة في بدايات الدعوة الإسلامية ، ويشمل الشهداء من أهل التوحيد وأتباع الأنبياء من الأمم السابقة والذين ورد ذكرهم في القرآن والسنة .
وفي قوله تعالى [قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ] ( ).
ورد عن قتادة عن الإمام علي عليه السلام (هم أناس بمدارع اليمن اقتتل مؤمنوهم وكفارهم فظهر مؤمنوهم على كفارهم ، ثم أخذ بعضهم على بعض عهوداً ومواثيق لا يغدر بعضهم ببعض ، فغدرهم الكفار فأخذوهم ، ثم إن رجلاً من المؤمنين قال : هل لكم إلى خير ، توقدون ناراً ثم تعرضوننا عليه فمن بايعكم على دينكم ، فذلك الذي تشتهون ، ومن لا اقتحم فاسترحتم منه ، فأججوا لهم ناراً وعرضوهم عليها ، فجعلوا يقتحمونها حتى بقيت عجوز فكأنها تلكأت ، فقال طفل في حجرها : امضي ولا تقاعسي، فقص الله عليكم نبأهم وحديثهم فقال : { النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ }( ) قال: يعني بذلك المؤمنين { وهم على ما يفعلون بالمؤمنين } يعني بذلك الكفار)( ).
وقد خفّف الله عز وجل عن المسلمين والناس ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, ولقد إلتقى وأصحابه في ساحة المعركة مع الذين كفروا، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) ليمتنع الذين آمنوا عن التسليم أو الإنقياد لسلطان الذين كفروا وإن جهّزوا الجيوش العظيمة لقتالهم فسقط سبعون شهيداً في معركة أحد لينحسر سلطان الكفر ومفاهيم الشرك إلى يوم القيامة.
المسألة السادسة : يستبشرون بنعمة من الله وفضل لن ينال منها المشركون في الآخرة شيئاً ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار رحمة بالناس جميعاً ينتفع من خيراتها البر والفاجر , والمؤمن والكافر ، وقد تجد الكافر في نعيم وسعة في الرزق أكثر من المؤمن ، وهو من وجوه الإبتلاء والإمتحان فيها ، قال تعالى [اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ] ( )وقد يكون الفقر للمؤمن خيراً له من الغنى , وبرزخاً دون إرتكاب السيئات , ومن العصمة امتناع المعصية ، ومن مصاديق الرحمة في الدنيا نزول القرآن ، وكل آية منه رحمة مستقلة بذاتها وموضوعها وهي فرع من الرحمة بنزول القرآن ، وهذا النزول فرع من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
وهو من الإعجاز في الإطلاق في الآية أعلاه وشمول الرحمة بالرسالة الخاتمة للناس جميعاً ليكون أخذ واقتباس الناس منها على نحو الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة , وينتفع المسلمون منها الإنتفاع الأمثل بإيمانهم بالله وتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعالم الحساب في الآخرة .
ومن أسباب حرمان الذين كفروا من الحظ والنصيب في الآخرة أمور :
الأول : الجحود بالنبوة والتنزيل .
الثاني : الإصرار على الكفر والضلالة .
الثالث : محاربة الإسلام بالسيف .
الرابع : عدم الإتعاظ من الوقائع والأحداث بما فيها التي أصابت ذات الذين كفروا فقد وقعت معركة بدر في السنة الثانية للهجرة ، وكان نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين فيها معجزة جلية لأنه خلاف قواعد القتال وفنون الحرب ومقدماتها إذ جمع فيها جيش المشركين مستلزمات القتال من كثرة العدد والعدة والمؤون ، وليس مع المؤمنين إلا صدق الإيمان وحسن التوكل على الله سبحانه .
وقد كانت بعض الأصوات في جيش الذين كفروا يوم بدر تنهى عن البدء بالقتال ، وتدعو لإجتنابه خاصة مع سلامة قافلة أبي سفيان وإرساله رسولاً إليهم يخبرهم بسلامتها وقرب وصوله إلى مكة ويطلب منهم الرجوع والعودة .
ولكن أبا جهل أصر على القتال ، فكان من اوائل من قتل .
ولعله لم ترد الأخبار عن النهي عن خروجهم إلى معركة أحد وطلب الثأر ، وهذا لا يعني أنه لم تكن هناك دعوة لإجتناب الخروج ، فمن خصائص الآيات والبراهين من الله وجود السامع ، وتجلي نفعها وأثرها على الألسن وفي عالم الأفعال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وهل ينتفع الذين كفروا والمنافقون من بيان آية البحث لما فيه الشهداء من النعيم من حين مغادرتهم الدنيا ، الجواب نعم ، وهو سبيل هداية وإنابة لطائفة منهم .
وقد وردت الأخبار بتوبة فريق من الناس ودخولهم الإسلام لإنصاتهم لآيات القرآن ، وتدبرهم في معانيها ، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن ، والشواهد بعدم إنحصار إعجازه بالبلاغة وفنونها ، فيدرك الكافر ما ينتظره من العذاب إن أصر على الإقامة على الكفر ، وما يلقاه من حين الوفاة ومغادرة الدنيا من النعيم إذا اختار التوبة ودخول الإسلام ، فتطل كل من آية البحث وآية السياق على الناس ، فبشكر المؤمن الله عز وجل ، وهل هذا الشكر من مصاديق قوله تعالى بعد آيتين[فَزَادَهُمْ إِيمَانًا] ( ) الجواب نعم , سواء بذات الشكر , أو بما يترشح عنه .
إعجاز الآية الذاتي
بعد إختتام الآية السابقة بالإخبار عن تفضل الله عز وجل بدفع الخوف من غم في المستقبل والحزن عما سبق ومضى سواء من أمور الدنيا والآخرة تفضل الله عز وجل وبدأ آية البحث بقوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ] ، ومن الإعجاز في المقام أن الآية وعد من عند الله عز وجل للشهداء وعموم المسلمين والمسلمات ، وتلك آية من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) لبيان أن إستبشار الذين غادروا إلى الآخرة فرحة وسرور للذين هم أحياء في الدنيا .
ولابد من مادة وموضوع للإستبشار فهل يستطيع الناس الإحاطة به ، الجواب لا ، لذا ورد ذكر النعمة في آية البحث بصيغة المبني للمجهول [بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ].
ولا تختص النعمة التي تذكرها آية البحث بخصوص الشهداء ، إنما تشمل سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل يوم معركة أحد، إن المتدبر في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحياته اليومية بلحاظ الواقع آنذاك وكثرة الذين كفروا وإتخاذهم الغدر والمكر سبيلاً يدرك أن نجاته من القتل في كل يوم هو معجزة مستقلة بذاتها وحصانة من عند الله إلى جانب محاولات الإغتيال التي بدأت من حين ولادته في مكة ثم ارادة قريش قتله في فراشه ، ثم في طريق هجرته إلى المدينة ، كما أنهم بعثوا له بعد معركة بدر من يقتله ولكن الله عز وجل أخبره بالوحي وبعثت له امرأة يهودية بشاة مسمومة وأكل منها لقمة فأخبره العظم أنه مسموم .
وعن (كعب بن مالك، أن امرأة يهودية أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاة مصلية بخيبر، فقال: ” ما هذه ؟ ” قالت: هدية.
وحذرت أن تقول صدقة فلا يأكل.
قال: فأكل وأصحابه ثم قال: ” أمسكوا ” ثم قال للمرأة: ” هل سممت؟” قالت: من أخبرك هذا ؟ قال: ” هذا العظم ” لساقها وهو في يده، قالت: نعم.
قال: ” لم ” قالت: أردت إن كنت كاذبا أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك.
قال: فاحتجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الكاهل وأمر أصحابه فاحتجموا.
ومات بعضهم.
قال الزهري: فأسلمت فتركها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) ( ).
به بسلامته من القتل وهو لا يتعارض مع إستبشارهم بلحوقه بهم لقوله تعالى [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ] ( ).
ومن إعجاز آية البحث ذكرها للنعم والفضل من عند الله مجتمعين مع إتحاد الجهة التي تتوجه إليها لقوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ] وفيه مسائل :
الأولى : فيه قرة عين للمسلمين والمسلمات .
الثانية : إنه باب للحث على التقوى والصلاح .
الثالثة : تخفيف وطأة المصيبة يوم معركة أحد عن المسلمين والمسلمات ، خاصة وأن هذه المصيبة متعددة من وجوه :
الأول : فقد سبعين شهيداً في معركة أحد .
الثاني : كثرة وشدة جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : حرمان المسلمين من الغنائم , لتكون هذه النعم التي ترد على الشهداء وإخبار القرآن بها من مصاديق قوله تعالى [لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] ( ) .
الرابع : ترك الرماة المسلمين مواضعهم على الجبل ، إذ أن هذا الترك وحده مصيبة على المسلمين وأجيالهم المتعاقبة .
الخامس : تجرأ الذين نافقوا وتوجيههم اللوم إلى الشهداء .
السادس : إظهار الذين كفروا النصر والغلبة في معركة أحد مع خسارتهم فيها , وهزيمتهم من غير تحقيق أي نصر .
السابع : دخول الحزن إلى بيوتات المدينة وعوائل المهاجرين ومنهم من ليس له عائلة في المدينة .
قال ابن إسحاق (وَمَرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِدَارِ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَظَفَرٍ فَسَمِعَ الْبُكَاءَ وَالنّوَائِحَ عَلَى قَتْلَاهُمْ فَذَرَفَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَبَكَى ، ثُمّ قَالَ لَكِنّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ فَلَمّا رَجَعَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ إلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَمَرَا نِسَاءَهُمْ أَنْ يَتَحَزّمْنَ ثُمّ يَذْهَبْنَ فَيَبْكِينَ عَلَى عَمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ) ( ).
وفي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا وجوه :
الأول : التذكير بمصيبة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفقد عمه حمزة .
الثاني : دعوة المسلمين والمسلمات لمواساة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لذا أمر سادة بني الأشهل عموم نسائهم بالتحزم والذهاب إلى بيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمواساته ، وقال المقريزي وهو من رجال القرن الثامن الهجري وإلى الأن أول ما يبدأ برثاء الميت بذكر حمزة عم النبي.
وتلك آية في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن تواسي المسلمات في كل زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فقد عمه وأهل بيته .
الثالث : التخفيف عن الأنصار في مصيبتهم بقتل خمسة وستين من رجالهم يوم معركة أحد.
الرابع : بيان جهاد أهل البيت في سبيل الله إذ قاتل الإمام علي عليه السلام وحمزة , والزبير , وطلحة , ومصعب بن عمير وغيرهم من المهاجرين من قريش قتالاً شديداً يوم معركة أحد ، بالإضافة إلى مسألة ثبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وسط الميدان , مع وجود أسباب تدعوه للإنسحاب منها :
الأول : فرار أكثر أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إقامة الحجة بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة إلى الرجوع إلى المعركة وعدم سماع تلك الدعوة كما يدل عليه قوله تعالى[إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]( ).
الثالث : ترك الرماة المسلمين لمواضعهم خلافاً لأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في البقاء فيها على كل حال خصوصاً في حال النصر ودخول معسكر العدو ، وقد أخبرهم النبي صلى الله بأن سهامهم من الغنائم محفوظة لهم .
الرابع : صيرورة أفراد العدو قريبين من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس بينهم وبينه إلا بضعة أمتار فتصله حجارتهم ونبالهم وسهامهم ، وقد نالت سيوفهم من يقاتل دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومنهم أم عمارة التي أصيبت بالجراحات ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحثها على القتال .
الخامس : إنتشار إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين الصفين لتكون هذه الإشاعة مناسبة لإنسحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإخبار أصحابه بسلامته ، ولكنه بقي وسط الميدان يقاتل .
السادس : كثرة جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسيلان الدم من وجهه ، وعدم انقطاعه ، وسقوط أسنانه الرباعية .
السابع : توجه بعض المشركين لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص .
(عن سعيد بن جبير أنه كان يقول : ما سمعنا قط أن نبياً قتل في القتال)( ).
ولكن الوقائع أعم مما سمع الإنسان خاصة وأن الأنبياء تعاقبوا في مئات بل آلاف السنين ، وكان عددهم مائة وأربعة وعشرين ألف نبي ، وهل يدل قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) على هذا المعنى بلحاظ أن النبي يقاتل ولم يضعف مع القتال وقتل بعض أصحابه الجواب لا دليل على هذا المعنى .
وإذا ثبت أن الأنبياء في مأمن من القتل في القتال مع المشركين فتلك معجزة عامة لهم ، وآية من عند الله عز وجل ورحمة بالناس جميعاً .
ولما سئلت أم عمارة عن الجرح الغائر في عاتقها ومن أصابها قالت (ابن قمئة اقماه الله لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقبل يقول دلوني على محمد فلا نجوت ان نجا فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربني هذه الضربة , ولكن ضربته ضربا على ذلك , ولكن عدو الله كان عليه درعان)( ).
الثامن : قتل بعض الذين كانوا يذبون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل مصعب بن عمير ، ومن الآيات في المقام أن أبا دجانة ترس دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليتوالى سقوط النبال على ظهره وهو منحن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفديه بنفسه .
واسم أبي دجانة هو سماك بن خرشة من بني ساعدة وكان رجلاً شجاعاً أعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سيفاً يوم معركة احد ، وأخذ يتبختر في الميدان .
(عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ رَأَى أَبَا دُجَانَةَ يَتَبَخْتَرُ إنّهَا لَمِشْيَةٌ يَبْغُضُهَا اللّهُ إلّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ)( ).
وهذا القول مدرسة عقائدية إذ يبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنن الأخلاق الحميدة حتى وهو في ميدان المعركة إذ يدل هذا الحديث بالدلالة التضمنية على لزوم اجتناب الزهو في المشي ، قال تعالى [وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ]( ).
لقد تفضل الله عز وجل وأنزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة أحد ، ويمكن الإستدلال على نزول الملائكة يوم بدر بثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكذا العكس ، إذ يدل ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نزولهم لتحقق الصبر والتقوى يومئذ كشرط لنزولهم ، قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ) فان قلت إن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم شخص واحد وتفيد الآية أعلاه لغة الجمع [تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا] .
والجواب من جهات :
الأولى : يدل ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم على تحقق ثبات الجماعة من المسلمين .
الثانية : وجود طائفة من أهل البيت والصحابة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان .
الثالثة : تحقق تقوى المسلمين بخروجهم إلى معركة أحد .
الرابعة : وقوف المسلمين صفاً لملاقاة العدو من أبهى مصاديق الصبر ، ثم دخولهم المعركة ومسايفة العدو .
ويدل على صبر وتقوى المسلمين قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) ليفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ) أن الله عز وجل يشترط على المؤمنين أمراً حسناً وفعلاً صالحاً قد هداهم وأصلحهم له .
ليكون تقدير الآية : بلى ان تصبروا وتتقوا وقد صبرتم واتقيتم فاتوكم من فورهم ….).
ومن إعجاز آية البحث أنها جمعت بين النعمة والفضل من عند الله مع إتحاد الجهة التي يتوجهون لها ، فلا يحتاج المسلم لإدراك هذا القانون الجمع بين الآيات واستقرائه , ولا يلزم العلماء التحقيق والبرهان لتأكيد هذا القانون ، إنما جاءت آية البحث بذكر كل من النعمة والفضل مجتمعين ، وفيه شاهد على إكرام الله عز وجل لشهداء بدر وأحد، بلحاظ أن هذا الجمع نعمة عظيمة عليهم ، وتأكيد لحسن منزلتهم ومقامهم في الآخرة .
وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : يستبشر الشهداء بنعمة من الله.
الثاني : يستبشر الشهداء بفضل الله .
الثالث : يستبشر الشهداء بنعمة وفضل من الله .
الرابع :يستبشر عموم المسلمين والمسلمات لإستبشار الشهداء ، وتلك آية باتحاد وسنخية الفعل بين المؤمنين في الدنيا والشهداء في الآخرة .
الخامس : يتطلع المسلمون والمسلمات للفوز بحال الإستبشار بعد الموت.
وتتضمن آية البحث الإخبار عن كثرة جراحات الصحابة في معركة أحد وكيف أنها لكم تقف عائقاً دون خروجهم للغزو والدفاع ، ومن فضل الله عز وجل عدم وقوع قتال في خروجهم إلى حمراء الأسد بعد معركة أحد بيوم واحد .
ويمكن تسمية آية البحث بآية [يَسْتَبْشِرُونَ] وقد ورد هذا اللفظ ست مرات في القرآن ، ولم يرد في أول الآية إلا في آية البحث ، وفيه إكرام لشهداء معركة أحد , وتنبيه وبشارة للمسلمين والمسلمات لعظيم شأنهم في الإسلام .
إعجاز الآية الغيري
إبتدأت آية البحث بالفعل [يَسْتَبْشِرُونَ] للدلالة على إتصال موضوعها بالآية التي قبلها ، ومن الإعجاز في المقام إختتام الآية السابقة بالفعل المضارع [يَحْزَنُونَ] وبصيغة نفي الحزن ليتقيد إيجاب الإستبشار ، وكل منهما يتعلق في موضوعه بشهداء أحد وتضحيتهم في سبيل الله ، وما رزقهم الله من النعم .
وتكشف الآية علوماً من الغيب لا يرقى إليها العقل الإنساني ولا الأجهزة التقنية الحديثة ، وما سترتقي إليه في كشف المستور واختراق الحجب والجدران في الرؤية والكشف .
وتبين آية البحث قانوناً وهو تعقب الجزاء من عند الله للشهداء حالما غادروا الدنيا من غير فترة يكونون فيها في عالم الأموات .
وقد ورد الخبر بأن منكراً ونكيراً يأتيان لحساب الإنسان عند موته .
(عن البراء بن عازب ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار ، فانتهينا إلى القبر ولما يلحدوا ، فجلس وجلسنا حوله كأن على أكتافنا فلق الصخر ، وعلى رءوسنا الطير قال : فأرم قليلا قال : – والإرمام السكوت .
فلما رفع رأسه قال « إن المؤمن إذا كان في قبل من الآخرة ودبر من الدنيا ، وحضر الموت ، نزلت عليه ملائكة من السماء معهم كفن من الجنة ، وحنوط من الجنة ، فجلسوا منه مد بصره .
وجاء ملك الموت فجلس عند رأسه ، ثم قال: اخرجي (أيتها النفس المطمئنة)( )، أخرجي إلى رحمة الله ورضوانه . فتسيل نفسه كما تقطر القطرة من السقاء ، فإذا خرجت نفسه صلى عليه كل شيء بين السماء والأرض إلا الثقلين .
ثم يصعد به إلى السماء ، فيفتح له ، ويستغفر له مقربوها إلى السماء الثانية ، والثالثة ، والرابعة ، والخامسة ، والسادسة ، وإلى العرش مقربوا كل سماء . فإذا انتهى إلى العرش ، كتب كتابه في عليين .
فيقول الرب عز وجل : ردوا عبدي إلى مضجعه ، فإني وعدته أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ، ومنها أخرجهم تارة أخرى ، فيرد إلى مضجعه ، فيأتيه منكر ، ونكير يثيران الأرض بأنيابهما ، ويلحفان الأرض بأشعارهما ، فيجلسانه .
ثم يقال له : يا هذا ؟ من ربك ؟ فيقول : ربي الله .
قال : يقولان : صدقت ، ثم يقال له : ما دينك ؟ فيقول الإسلام ، فيقولان : صدقت ، ثم يقال له : من نبيك ؟ فيقول : محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : يقولان : صدقت .
قال : ثم يفسح له في قبره مد بصره ، ويأتيه حسن الوجه ، طيب الريح، حسن الثياب ، فيقول له : جزاك الله خيرا ، فوالله ما علمت إن كنت لسريعا في طاعة الله ، بطيئا عن معصية الله ، فيقول : وأنت فجزاك الله خيرا . وإن الكافر إذا كان في دبر من الدنيا ، وقبل من الآخرة ، وحضره الموت ، نزلت عليه ملائكة من السماء معهم كفن من نار ، فجلسوا منه مد بصره ، وجاء ملك الموت فجلس عند رأسه ، ثم قال : اخرجي أيتها النفس الخبيثة ، اخرجي إلى غضب الله وسخطه ، فتتفرق روحه في جسده كراهية أن تخرج، لما ترى وتعاين ، فيستخرجها كما يستخرج السفود من الصوف المبلول ، فإذا خرجت نفسه لعنه كل شيء بين السماء والأرض إلا الثقلين ، ثم يصعد به إلى السماء الدنيا .
قال : فتغلق دونه ، فيقول الرب تبارك وتعالى : ردوا عبدي إلى مضجعه، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم ، وفيها أعيدهم ، ومنها أخرجهم تارة أخرى قال : فيرد إلى مضجعه ، فيأتيه منكر ، ونكير يثيران الأرض بأنيابهما ، ويلحفان الأرض بأشعارهما ، وأصواتهما كالرعد القاصف ، وأبصارهما كالبرق الخاطف ، فيجلسانه .
ثم يقولان : يا هذا ، من ربك ؟ فيقول : لا أدري ، فينادي من جانب القبر مناد : لا دريت فيضربانه بمرزبة من حديد ، لو اجتمع عليها ما بين الخافقين لم يقلوها ، يشتعل منها قبره نارا ، ويضيق قبره حتى تختلف أضلاعه ، ويأتيه قبيح الوجه ، منتن الريح ، قبيح الثياب ، فيقول : جزاك الله شرا ، فوالله ما علمت إن كنت لبطيئا عن طاعة الله ، سريعا في معصية الله ، فيقول : وأنت ، فجزاك الله شرا ، من أنت ؟ .
قال : فيقول : أنا عملك الخبيث ، ثم يفتح له باب من النار فينظر إلى مقعده منها حتى تقوم الساعة) ( ).
وهل يأتي منكر ونكير إلى الشهيد كما لو أخر الله عز وجل بعثه حياً لحين مجيئهما وسؤالهما له من ربك ، ما دينك ، من نبيك .
المختار لا ، من جهات :
الأولى : القتل في سبيل الله سبيل نجاة وعفو من سؤال منكر ونكير .
الثانية : قد شهد الله عز وجل لشهداء بدر وأحد بأنهم قتلوا في سبيله ، فيسقط حساب منكر ونكير .
الثالثة : إخبار هذه الآيات عن حياة الشهداء وأنهم عند الله ، وهو من الإعجاز في بيان فضل الله بأن حياة الشهداء [عِنْدَ رَبِّهِمْ] فلا يصل منكر ونكير لمن يكون حياً عند الله عز وجل , وفي ظلال عرشه .
الرابعة : مصاحبة الإستبشار للذين قتلوا في سبيل الله من حين مغادرتهم الدنيا ، فلا يأتيهم ما يبعث الخوف في نفوسهم ولو آنا ما .
ومن الإعجاز الغيري لآية البحث جعلها المسلمين في حال إستبشار لما فاز به الشهداء ، أي انهم استبشروا فاستبشرنا ، لتكون آية البحث نعمة عظمى من عند الله عز وجل تتضمن الإخبار عن توالي النعم ومصاديق الفضل من عند الله عز وجل على الشهداء .
وأختتمت آية البحث بما يبعث المسلمين على عمل الصالحات والمسارعة في الخيرات لأن قوله تعالى [وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] وعد منه سبحانه ، وهو الذي هدانا للإيمان ثم تفضل وجعل أجراً عظيماً على ذات الإيمان ، وأن قيل هل يصح تقدير خاتمة الآية (وأن الله لا يضيع أجر عمل المؤمنين).
والجواب هذا صحيح ، ولكنه لا يتعارض مع المعنى الظاهر للآية ومن قبل أن تصل النوبة إلى تقدير مخصوص ، ومن أسرار اللفظ القرآني أن وجوه التقدير فيه متعددة ، وفيها ترغيب للعلماء للغوص في خزائن كل آية قرآنية واستخراج درر العلوم منها .
الآية سلاح
من خصائص الإنسان ملازمة الحاجة له، وهو وفق القياس الإقتراني:
الكبرى : ملازمة الحاجة للمكن.
الصغرى : الإنسان ممكن.
النتيجة : ملازمة الحاجة للإنسان.
ومن مصاديق حاجة الإنسان الحبور والغبطة والإستبشار، وتتجلى هذه الحاجة من وجوه:
الأول : الحاجة إلى ذات الإستبشار.
الثاني : أسباب الإستبشار.
الثالث : موضوع الإستبشار.
الرابع : الغايات الحميدة من الإستبشار.
لقد أخبرت آية البحث بأن الله رزق الشهداء النعمة والفضل ، ليكون هذا الرزق سلاحاً بيد المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، وهو من بركات الشهداء على الإسلام , وتوالي النفع منهم في كل زمان ومكان لبيانها لقانون من جهات :
الأولى : قانون تقّوم الحياة الدنيا وعالم الآخرة بالنعم التي تأتي من عند الله سبحانه .
الثانية : قانون إتصاف حياة شهداء بدر وأحد وحنين في الآخرة بأنها حياة نعيم وفضل من الله ليس معهما كدورة أو ضيق .
الثالثة : قانون التباين والتضاد في الآخرة بين الشهداء وبين الذين كفروا، الذين هم في أشد الأحوال في عالم البرزخ ، ويكون مصيرهم يوم القيامة إلى النار، قال تعالى[وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ).
الرابعة : لم تقل آية البحث : ويشكرون لله ) إنما قالت [يَسْتَبْشِرُونَ] لتأكيد قانون وهو أن الآخرة دار جزاء وليس دار عمل .
الخامسة : قانون ترشح ثواب خاص على المؤمنين من صيرورة شهداء أحد أحياء عند الله عز وجل .
مفهوم الآية
تبين الآية قانوناً وهو فوز طائفة من الناس بالحياة الرغيدة من حين مغادرة الدنيا ، مع بيان صفات تلك الطائفة بما يمنع الترديد والجهالة والغرر، إذ ينالون تلك الصفات بخصلة واحدة ليست من العرض اللازم والثابت ، ولا السنخية ، إنما هو أمر مكتسب في دقيقة واحدة أو دقائق معدودة وهو القتل في سبيل الله .
وفي القتل أطراف وهي :
الأول : القاتل .
الثاني : المقتول .
الثالث : القتل .
الرابع : سبب وموضوع القتل .
وليس من حصر لسبب القتل ، إذ أنه يجمع المتضاد والمتناقض مع تباين الموضوع ، ومن الآيات في قتل شهداء أحد أنهم إختاروا القتل في سبيل الله أما الذين أصروا على قتالهم وقتلهم فأنهم جلبوا على أنفسهم سخط الله عز وجل باتباعهم الطاغوت وعبادتهم الأوثان , ولله عز وجل ملك السموات والأرض وله الحياة الدنيا والدار الآخرة ، فانعم الله عز وجل على الشهداء بالنعيم الدائم في الآخرة, قال تعالى[لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى]( ).
وهل هذا النعيم الذي فاز به الشهداء هو النعيم التام في الآخرة الذي تفوز به طائفة من أهل الإيمان والتقوى ، الجواب لا ، إذ أن النعم الإلهية في الآخرة لا تعد ولا تحصى ، لقد أراد الله عز وجل بفضله بنزول هذه الآيات إكرام كل من :
الأول : إكرام رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنيل خاصة أصحابه بعظيم المنزلة .
الثاني : العز والفخر لشهداء معركة أحد السبعين وذويهم وذريتهم ، ومن الآيات في المقام أن معاشر المسلمين والأمراء أولوا عناية بأبناء هؤلاء الشهداء ، ونال أكثرهم المنزلة الرفيعة والمال الوفير .
الثالث : الثناء على المهاجرين والأنصار الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد ، وقاتلوا فيها .
وهل يصح أن تقدم الأنصار في المقام بلحاظ أنهم الأكثر عدداً وشهداء، الجواب نعم ، فيجوز أن تقول الثناء على الأنصار والمهاجرين إلا أن إتباع نهج ونظم القرآن حسن في كل الأحوال ، وقد ورد تقديم المهاجرين على الأنصار في القرآن في المواضع التي اجتمع ذكرهم فيها على نحو الاسم والتعيين كما في قوله تعالى[وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ]( ) [لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ]( ).
وقال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا]( ) ومن مفاهيم قوله تعالى[يَسْتَبْشِرُونَ]سلامة الشهداء في مدة عالم البرزخ من طرو الكدورة وأسبابها .
وعصمتهم من مجئ أخبار تؤدي إلى حزنهم وظهور الأسى والحسرة عليهم .
لقد ذاقوا بارقة السيف في سبيل الله فانعم عليهم بالسعادة الدائمة .
وهل هناك ملازمة بين قوله تعالى [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ]وبين السعادة الدائمة بمعنى لا تتحقق هذه السعادة إلا لمن يكون (عند الله) الجواب لا دليل عليه إنما السعادة الدائمة فضل من الله ، وكذا الظرف (عند) فهو نعمة أخرى غير السعادة الدائمة .
لقد أخبر الله عز وجل عن قرب مقام الشهداء من العرش وعلى لطفه بهم ، وتوجه الأوامر منه تعالى لمجئ النعم لهم سواء تلك التي تأتيهم مباشرة أو التي تأتيهم مباشرة أو التي تكون بواسطة الملائكة وغيرهم من جند الله ، ومجئ هذه النعم من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الآية لطف
من خصائص الحياة الدنيا أن الموت عاقبة كل إنسان ، وتفضل الله عز وجل وجعل النبي محمد أسوة للمسلمين والناس في هذا الباب إذ قال [إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ] ( ) لبيان حتمية طرو الموت على كل إنسان وبين الموت والقتل عموم وخصوص مطلق ، فكل مقتول هو ميت وليس العكس ، لذا يدخل الشهداء في مصاديق الآية أعلاه .
وهل في الموت لطف , الجواب نعم ، فهو خاتمة للإمتحان والعناء والتعب في الحياة الدنيا ، ونوع طريق لفوز المؤمنين بالنعيم الدائم ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا] ( )
وتجلى اللطف في آية البحث بتلقي الشهداء رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق ثم ندبوا إلى الدفاع عن الإسلام والذي ندبهم إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكفى به فخراً وعزاً .
وتولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعيين مواضعهم وترتيب صفوفهم ، وتوزيع واجبات الدفاع عليهم ، قال سبحانه [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ) وكان عددهم سبعمائة بعد إنخزال ثلث الجيش من وسط الطريق ليغادروا بعدها الدنيا فتتوالى عليهم النعم ، وينزل الفيض والبركة على المسلمين والمسلمات .
وهل يختص هذا الفيض بأيام النبوة ، الجواب لا ، فهو مستمر ومتجدد إلى يوم القيامة ، ومنه مضامين آية البحث وتلاوتها ، وهي خالية من اللوم أو الإنذار أو الوعيد ، إنما تتضمن حصول النعم وتوالي فضل الله .
ومن اللطف الإلهي في المقام عدم إنحصار الفضل فيها بالشهداء إذ تضمنت الوعد الكريم للمسلمين بالمقام الكريم وإخبارهم بأن الشهداء بانتظارهم ، ولا يريدون منهم القتل ومغادرة الدنيا بذوق حرارة السيف إنما يكفي الإيمان لإختتام الآية السابقة بقوله تعالى [وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
وإذ إبتدأت آية البحث بذكر الشهداء وغمر الفرح والسرور لهم فانها أختتمت بالبشارة العظمى للمؤمنين والمؤمنات من أهل الدنيا ، إذ تطل آية البحث على كل جيل منهم بالبشرى بأن إخوانكم من الشهداء في انتظركم لتنهلوا من ذات النعيم الذي تفضل الله عز وجل به عليهم .
إفاضات الآية
الأولى : لقد فقد الإسلام سبعين من الشهداء يوم معركة أحد فابتدأت آية البحث بمادة الإستبشار لأمور :
الأول : التخفيف عن المسلمين والمسلمات .
الثاني : مواساة المسلمين والمسلمات في مصيبة معركة أحد .
الثالث : بيان لطف الله عز وجل بعوائل الشهداء لإخبارها عن حالهم في الآخرة وجاءت السنة النبوية مبينة لآيات البحث , وشاهد نبوي عليه , و( عن جابر بن عبد الله قال : نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ” ما لي أراك ” منكسراً ” مهتماً “؟ قلت: يا رسول الله، قتل أبي وترك ديناً وعيالاً. فقال: ألا أخبرك؟ ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحاً، فقال: يا عبدي، سلني أعطك. قال: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية! قال: إنه قد سبق مني أنهم لا يردون إليها ولا يرجعون. قال: يا رب، أبلغ من ورائي، فأنزل الله تعالى: “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياءٌ”)( ).
لقد إبتدأت آية البحث بالضد مما تتركه المصيبة فاذا كان الذي يحزن عليه المسلمون في نعمة وصبور وإستبشار فلماذا الحزن والأسى عليه ، إنما يستلزم الأمر محاكاة الشهيد بإستبشاره ، وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا استبشروا كما يستبشر الشهداء )وفيه مسائل :
الأولى : إعراض المؤمنين عما يبثه المنافقون من سموم وزجرهم .
الثانية : تحلي عوائل المؤمنين بالتقوى وتعاهد أداء الفرائض والعبادات، ولذا جاءت الآية التالية بتأكيد الإحسان والتقوى .
الثالثة : عصمة المؤمنين من الضعف والوهن.
وأبى الله عز وجل أن يكون سبب وموضوع إستبشار الشهداء فرد واحد من فضله واحسانه ، إذ ذكرت آية البحث أوان:
الأول : نعمة من الله .
الثاني : فضل من الله .
ويحتمل مجئ النعمة والفضل من الله وجوهاً :
الأول : التعاقب .
الثاني : الترتيب بأن تأتي النعمة ثم الفضل .
الثالث : التعاقب المتكرر بأن تأتي النعمة ثم الفضل ثم النعمة ثم الفضل وهكذا .
الرابع : مجئ النعمة والفضل من الله دفعة ومرة واحدة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث ، وفيها شاهد بأن عطاء ورحمة الله بالشهداء متصلة ومتعددة الوجوه .
الآية بشارة
لقد جعل الله عز وجل الآية القرآنية مرآة لرحمته وكرمه وجوده وعفوه وإحسانه ، إذ تتضمن البشارة في منطوقها أو مفهومها ، وهو من خصائص القرآن بأن يأتي بكل ما هو خير ونعمة .
وما أن يتلو المسلم الآية القرآنية حتى يدرك مصاديق البشارة فيها .
ومنها آية البحث التي إبتدأت بذات لفظ البشارة ، بقوله تعالى[يَسْتَبْشِرُونَ].
وفيه مسائل :
الأولى : الأخبار عن قانون وهو في عالم البرزخ بشارة وإستبشار، فقد يظن بعض الناس أن الإنسان في القبر في حال سكون وموت إلى أن يبعث يوم القيامة ، وقد ورد قوله تعالى [قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ] ( ).
إذ يُشغل العذاب الذين كفروا عن العد والحساب ، أو أن المستضعفين في ركود وفقدان للحياة ليكون السؤال لمن هم قادرون على العدّ والحساب ممن سلم وعوفي مما ابتليوا به ، مثل الملائكة ، وتبين آية البحث إمكان شمول الشهداء بلفظ [الْعَادِّينَ]في الآية أعلاه لتمكنهم من العد والحساب الذي هو نعمة وفضل من عند الله ، وتكون له موضوعية لما ورد في الآية السابقة[وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ]( ).
ويتعلق موضوع الإستبشار بالصحابة الذين استشهدوا في معركة أحد وسالت دماؤهم على جنبات الوادي وأبى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يدفنوا بثيابهم ودمائهم ليلقوا الله عز وجل بها وتراهم الملائكة فتسأل الله لهم ببقائهم مستبشرين فرحين بفضل منه تعالى ، ولينزل الملائكة لوقف نزيف الدم بين المؤمنين خاصة وأن عددهم في الأرض آنذاك ليس بكثير ويقابلهم جيش عرمرم مؤلف من ثلاثة آلاف رجل ، وعندهم الأسلحة والمؤون .
وليس للإسلام يومئذ من مصر غير المدينة المنورة التي لا تبعد عن معركة أحد بضع كيلو مترات , وتستطيع خيل المشركين قطعها بدقائق معدودة خاصة وأنهم جلبوا معهم مائتي فرس لم يركبوا ظهورها في الطريق للتهيئة للقتال والمبارزة .
فان قلت هل يجوز أن يقال في تفسير قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] ( ) أنه حتى لو أعدّ المسلمون هذه القوة فأنهم لا يستطيعون مجاراة قوة وعدة الذين كفروا ، الجواب لا ، إذ تخبر الآية أعلاه عن قانون وهو أن استيفاء المسلمين الوسع في تهيئة مقدمات القتال باعث للخوف والفزع في قلوب الذين كفروا وسبب من أسباب النصر .
وهل منه آية البحث أم أن القدر المتيقن منها الإخبار عن حال شهداء بدر وأحد في عالم البرزخ والقبر ، الجواب هو الأول ، إذ أنها من اسباب قوة المسلمين وتبعث في نفوسهم شدة العزيمة والأمل والإخلاص في طاعة الله ، وهي نوع طريق للتفاني والتضحية ، ومقدمة للنصر والغلبة .
ومن معاني البشارة في آية البحث ذكرها للتسلية والفضل الإلهي وبيانها لقانون وهو عدم إنقطاع النعم عن المؤمنين حتى وهو في عالم البرزخ ، وفاز الشهداء بنعمة مخصوصة .
الآية إنذار
في آية البحث توثيق لقتال وقتل، وقد تقدم قبل خمس آيات قوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) .
والمراد من اليوم الذي تذكره الآية أعلاه هو يوم السبت النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها ذكرت اليوم كله والذي يبدأ من طلوع الشمس إلى مغيبها ، بينما لم تستوعب المعركة نصف مدته لبيان فضل الله عز وجل بالثواب العظيم للمسلمين يومئذ بلحاظ احتساب ساعاته كلها جهاداً لهم .
وكان القتال يومئذ بوجوه :
الأول : المبارزة الفردية .
الثاني : رمي السهام والنبال .
الثالث : قذف الحجارة .
الرابع : التقاء الصفين والمبارزة العامة .
ودخلت في معركة أحد فنون وحيل أخرى من طرف المشركين , منها رمي وحشي بالحربة كما ترمي الحبشة ، وقيام أبو عامر الأوسي بحفر عدة حفر مكيدة بالمسلمين إذ كان مع جيش المشركين ، وكان يسمى الراهب فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الفاسق ، وقد وقع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إحدى هذه الحفر ، وفيه إنذار للمسلمين لأخذ الحائطة وبث العيون وتتبع أخبار العدو ومعرفة مكائده .
نعم قد كان الراجح يومئذ إلى جانب المسلمين بما لم تشهد الدنيا مثله من قبل أو من بعد من جهات :
الأولى : كان مع المسلمين رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : ثبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان ، وعدم فراره مع صيرورة العدو على مقربة منه .
الثالثة : نزول الملائكة لنصرة المسلمين ، ومن الإعجاز في هذه النصرة توجهها للمسلمين وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أخبر عنها كما في قوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ) .
لبيان قانون وهو عدم الملازمة بين وجود شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان وبين نزول الملائكة ، إنما يكون القيد في نزولهم من جهات :
الأولى :القتال بين المؤمنين والمشركين المعتدين .
الثانية : تحلي المؤمنين بالصبر .
الثالثة : إتصاف المؤمنين بالتقوى والخشية من الله عز وجل .
وجاءت آية البحث لبعث المسلمين على الصبر والتقوى , والعصمة من الشك والريب في وجوب الدفاع عن الإسلام والنبوة .
وتتضمن آية البحث في دلالتها إنذار الذين كفروا من قتال المسلمين ، وإخبارهم بحسن عاقبة الشهداء .
لقد تفاخر الذين كفروا بأنهم قتلوا سبعين من المؤمنين يوم معركة أحد ونظّموا القصائد الشعرية , وتباهى رجالهم ونساؤهم ، فنزل قوله تعالى[يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ]( ) فنسخت تفاخرهم وتباهيهم والجمتهم حجراً وأخزتهم إلى قيام الساعة .
فمن معاني [يَسْتَبْشِرُونَ] إنذار الذين كفروا وتحذيرهم من التعدي على الإسلام والمسلمين ، وبيان قانون وهو أن الشهداء في حال إستبشار وصبر دائم ، ومنه إستبشارهم بأمور :
الأول : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة ،والذي يدل بالدلالة التضمنية على هزيمة الذين كفروا في معركة أحد ، وكأن قوله تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ) إخبار للشهداء بأن الذين قتلوهم ما لبثوا بعدهم بساعة أو ساعات حتى انهزموا مخلفين وراءهم القتلى ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الثاني : إستبشار الشهداء بقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا)( ) لما فيها من الوعد للمسلمين الأحياء ، وهل هو وعد للشهداء أم أنهم خارجون بالتخصيص لأنهم من أهل الأخرة.
الجواب هو الأول وهو من مصاديق قوله تعالى قبل ثلاث آيات [يُرْزَقُونَ].
الآية موعظة
من خصائص الإيمان التسليم باليوم الآخر ، وعالم الحساب والإقرار بالحياة بعد الموت ، قال تعالى [وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ] ( ) أي أن الحياة في الآخرة أبدية دائمة ليس فيها إنقطاع وسطي أو دائم ، وإبتدأ شهداء أحد هذه الحياة من حين مفارقتهم الدنيا لم تمر عليهم أيام أو ساعات وهم موتى .
ليكون من معاني قوله تعالى بخصوص الملائكة يوم أحد [وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا]( ) أي يأتون في الحال لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أما الشهداء الذين قتلوا يومئذ فتأتي نصرتهم من عند الله ، وهو الذي ينصرهم من غير واسطة بأن يبعث فيهم الحياة من جديد ويجعل رزقهم بآيتين دفعة من غير كَد أو تعب أو خشية الحجب أو المنع أو القطع .
وفيه موعظة للمسلمين جميعاً ومواساة لهم ، وهو برزخ دون دبيب اليأس إلى نفوسهم ، وأسباب الفتنة إلى مجتمعاتهم .
لقد كان المنافقون يبثون سمومهم ، وينشطون عند حدوث القتال وسقوط الشهداء خاصة ، وهو الأمر الذي وثقته آيات البحث وأخبرت عن أمور :
الأول : إمتناع المنافقين عن القتال في سبيل الله والدفاع عن النبي والتنزيل وعن أنفسهم .
الثاني : إصرارالمنافقين على القعود وإعتذارهم بالمغالطة والحجج الواهية ، كما ورد في التنزيل [قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ] ( ) أي إدعى المنافقون بأنه لن يحدث قتال بين المسلمين وجيش الذين كفروا والذي هو في أطراف المدينة عند جبل أحد ، ومن الآيات أن موضع المعركة صار جزءاً من أحياء المدينة ، وفيه مسائل :
الأولى : صيرورة موضع معركة أحد جزء من أحياء المدينة المنورة ، إذ تجاوزته البيوت .
الثانية : إقامة الحجة على الذين نافقوا ، ولحوق الخزي بهم لموضوعية تضحية شهداء أحد في توسعة المدينة وبلوغها جبل أحد .
الثالثة : لقد قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قانوناً فحينما أقبل من خيبر بعد فتحه حصنها ودخوله على أم المؤمنين صفية بنت حبي بن اخطب وأولم عليها ، ثم توجهوا إلى المدينة ولما نظر إلى جبل أحد قال (هَذِهِ طَابَةُ وَهَذَا أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبّنَا وَنُحِبّهُ) ( ).
الرابعة : إتساع أحياء المدينة المنورة ودخول جبل أحد وما حوله فيها من مصاديق إستبشار الشهداء ، ليكون تقدير آية البحث على وجوه :
أولاً : يستبشرون لعمارة المسلمين للمدينة المنورة .
ثانياً : يستبشرون لعجز الذين كفروا عن الوصول إلى جبل أحد .
ثالثاً : يستبشرون لأن دماءهم لم تذهب سدى .
رابعاً : يستبشرون لأن المسلمين إتعظوا وإنتفعوا من تضحيتهم في سبيل الله.
خامساً : يستبشرون بتغشي سنن التقوى لأهل المدينة .
سادساً : يستبشرون لأن المدينة حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (المدينة حرم ما بين عير إلى ثور من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا)( ).
سابعاً : يستبشرون لتوبة أكثر الذين كفروا ودخولهم الإسلام .
ثامناً : يستبشرون لخروج أصحابهم في اليوم الثاني لمعركة أحد لمطاردة وملاحقة جيش الذين كفروا .
تاسعاً : يستبشر الشهداء لأن الذين يسكنون بجوار قبورهم يذكرونهم ، ويعلمون بجهادهم وفضيحتهم ويرحبون بزوارهم .
عاشراً : يستبشرون بنعمة الله عليهم بادراك المسلمين لحياتهم عند الله .
الحادي عشر : يستبشرون بوفود المسلمين من شتى بقاع الأرض لزيارتهم ، ويصعد بعض الزوار إلى جبل الرماة ويتذاكرون تركهم مواضعهم خلافاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل يحزن الرماة الشهداء هذا التذاكر .
الجواب لا ، بدلالة أولوية البحث [يَسْتَبْشِرُونَ] إنما يستبشر هؤلاء الشهداء بهذا التذاكر لأنه يدور بين المؤمنين ويتخذونه عبرة وموعظة مع الإقرار بالثواب العظيم لكل من قاتل يوم معركة أحد في سبيل الله ، ولبعث السكينة في نفوسهم , وأختتمت آية البحث بقوله تعالى [وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ].
ومن أسرار آية البحث أن كل كلمة منه موعظة تدعو إلى الشكر لله عز وجل صيرورة الشهداء في حال إستبشار دائم، ونعمة متصلة في عبرة للناس بأن قتل المؤمن لن يضره , قال تعالى[وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا]( ).
وفي الآية أعلاه إنذار للذين كفروا، وزجر لهم عن التعدي والظلم.
الآية رحمة
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا داراً لرحمته ، ودعاءً زمانياً ومكانياً لفضله وإحسانه ورأفته ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) وفيه رحمة من وجوه :
الأول : خلق الإنسان ، قال تعالى [وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ]( ).
الثاني : عمارة الأرض بالذكر والتسبيح والصلاة ، ومن الآيات في المقام أن أول إنسان هبط إلى الأرض وهو آدم كان نبياً وكلمه الله عز وجل من غير حجاب ، لتكون زوجه حواء من المؤمنين وأتباع الأنبياء ، وفيه حجة على الناس لبيان قانون وهو أن الأصل هو الإيمان , وجاء الكفر على نحو عرضي وخلافاً للعقل وأصل الخلق ، وقد ثبت في علم الأصول أن شكر النعم واجب .
الثالث : إستدامة عمارة ومعيشة الإنسان في الأرض وعجز الخلائق عن طرده منها ، وهل يدل قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) على عجز الحروب الكونية والأسلحة الجرثومية عن قطع الحياة البشرية على الأرض ، الجواب نعم ، إنما الحياة باقية إلى أن يشاء الله وينفخ في الصور ، وقد يقال قد تلتقي حرب كونية مع النفخ في الصور .
الجواب نعم ، هذا ممكن إن أراد الله عز وجل أن تكون نهاية العالم من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
الرابع : علو شأن الإنسان من بين الخلائق وإرتقاؤه في سلم المعادن ، وتوليه وظائف في الأرض تغبطة عليها الملائكة ، وهو من أسرار إحتجاجهم [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
الخامس : كل يوم يقضيه الإنسان في الحياة الدنيا رحمة عند الله عليهم وعلى غيره من الناس ، وهو من مصاديق تسميته بالإنسان لأنه يأنس بضروب الرحمة التي تتغشاه ، وتتغشى غيره من الناس ، وهل يأنس الإنسان برحمة الله بالشهداء .
وتفضل الله بجعلهم في حال إستبشار دائم ، الجواب نعم ، ويأتي هذا الأنس طوعاً وقهراً وإنطباقاً .
ولم تذكر آية البحث لفظ الرحمة ، ولكنها ذكرت المرادفات لها من جهات :
الأولى : إستبشار الشهداء عند الله ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : كل إستبشار من الله رحمة .
الصغرى : الشهداء في حال إستبشار .
النتيجة : إستبشار الشهداء رحمة .
الثانية : تتصف النعمة التي تذكرها الله بأنها متعددة من وجوه :
أولاً : النعمة على كل شهيد ، ويمكن أن نسميها (الرحمة الفردية) بلحاظ تعلقها بالفرد الواحد من الشهداء .
ثانياً : كثرة مصاديق النعمة الفردية .
ثالثاً : النعم العامة التي تأتي للشهداء على نحو العموم المجموعي بلحاظ القتل في سبيل الله .
رابعاً : تقييد النعمة التي تأتي للشهداء بأنها من عند الله أي أنها عظيمة تعجز الخلائق عن درك كنهها ، وكل ما تعطيه الخلائق ممدود ومتناه ، ولكن الذي يعطيه ويتفضل به الله عز وجل من اللامتناهي .
الثالثة : ذكر آية البحث لفضل الله على الشهداء مما يأتيهم على نحو مباشر أو بالواسطة أو يأتي لغيرهم ببركته سواء يأتي للأحياء أو الأموات .
الرابعة : صيغة التنكير في الفضل الإلهي لبيان أنه ممدود غير محدود ، وتأتي منه للشهداء مصاديق مستحدثة , كلما قام المسلمون بتلاوة آية البحث، وكل فرد من فضل الله هو خير محض ورحمة على الذين يأتي إليه وعلى غيره من الناس ، بلحاظ قانون وهو أن الفضل الإلهي توليدي تتفرع منه وجوه كثيرة .
الخامسة : بيان آية البحث لقانون من رحمة الله، وهو عدم تضييع الله الثواب وأجر المؤمنين الذين يعملون الصالحات, ويخلصون لطاعة الله عز وجل .
لقد ذكرت الآيات السابقة المنافقين وكيف أنهم يصرون على القعود ويصدون المسلمين عن الإنبعاث للدفاع ويثيرون الفتنة بين عوائل المسلمين لسقوط الشهداء منهم بينما ذكرت آية البحث رحمة الله في الآخرة ، ولم تذكر عقابه للمنافقين , وإن كانت تدل في مفهومها على خسارة الذين كفروا والمنافقين يومئذ .
وتتجلى الرحمة في ألفاظ آية البحث من جهات :
الأولى : إبتداء آية البحث بذكر الإستبشار ، وهو خير محض وباب لسعادة وحبور الذين آمنوا من أهل الدنيا بالمحاكاة والمماثلة وإرادة الشكر لله عز وجل .
الثانية : تغشي الإستبشار لعموم الشهداء في عالم البرزخ من غير استثناء، لإتحاد الموضوع في تنقيح المناط .
الثالثة : إخبار آية البحث عن نزول النعمة من عند الله على الشهداء .
الرابعة : صدور النعمة التي تأتي للشهداء من عند الله عز وجل, وهو وحده المنعم في الآخرة ، وفي التنزيل[لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ).
الخامسة : عدم إنقطاع النعم على المؤمنين إذ أنها متصلة تشمل الحياة الدنيا والآخرة .
ترى لماذا إبتدأت آية البحث بذكر النعم على الشهداء , وأختتمت بذكر النعم على عموم المؤمنين ، الجواب من جهات :
إرادة اختتام آية البحث بقانون عام ليكون من عطف النعم العامة على النعم الخاصة ، وبيان النعم الشاملة للدنيا والآخرة بعد ذكر النعم التي تخص عالم الآخرة بما يجعل المسلمين في حال طمأنينة لتنعكس على حياتهم الخاصة وصلاتهم الإجتماعية , وبناء قوام الأسرة بملاك الهدى والصلاح .
لقد أراد الله عز وجل لآية البحث أي تكون رحمة بالمسلمين في الدنيا والآخرة ورحمة بالناس لأنها تدعوهم إلى إدخار الصالحات وتدوينها وتوثيقها عند الله عز وجل .

الحاجة لآية البحث
لقد هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة وسط تهديد وتخويف من قبل كفار قريش، ومن ضروب هذا التهديد:
الأول : حبس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : أسر أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : البطش بالذين يؤمنون برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : الإغارة على الذين يؤون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
وقد جمع الأنصار بين إيواء ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإعانته وأصحابه، مما أغاظ قريشاً، وجعلهم يتفكرون في كيفية الإنتقام الجامع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنصاره، قال تعالى في الثناء على الأنصار[مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( )، ليكون من مصاديق الأجر الذي فاز به الأنصار هو إستبشار الشهيد منهم بالسعادة والنعيم والحبور الدائم في الآخرة .
وتحتمل آية البحث في دلالتها وجوهاً :
الأول : الآية رحمة بالذين قتلوا في سبيل الله لأنها تذكرهم على نحو الخصوص.
الثاني : من معاني الرحمة في آية البحث بعثها السكينة في قلوب المؤمنين والمؤمنات إلى يوم القيامة.
الثالث : بيان قانون متعقب لحال المؤمن في الدنيا بصيرورته سعيداً مستبشراً في عالم الآخرة.
الرابع : تنمية ملكة الأخوة بين المؤمنين بتأكيد آية البحث لسلامة إختيارهم وصحة نهج الإيمان، وقد أثبتت الدراسات الطبية الحديثة حاجة الإنسان للتواصل الإجتماعي , وكون هذا التواصل جزء علة في سلامة الصحة النفسية للإنسان، وسبباً في إطالة عمره بعيداً عن حال الإكتئاب والتشاؤم، وأن الذي هو أقل إختلاطاً يكون عرضة للإصابة بالجلطة القلبية وتصلب الشرايين وأمراض القلب والوفاة المبكرة.
كما أثبتت الدراسات بأن الذي يغلب عليه الأسف وحال الأسى والندم عرضة للأمراض أكثر من غيره، ويصاب بالتوتر والإكتئاب، بعكس الذي يشعر بالسكينة والأمن .
ليكون من الإعجاز في هذا الباب ما أثبته القرآن قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة بقوله تعالى[فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ]( )، وتزداد الأزمات النفسية عند الأفراد والجماعات في حال الحروب وتعدد المعارك.
وتفضل الله عز وجل بآية البحث لمنع مثل هذه الحال .
وقد يسأل المؤمن على نحو الرجاء والأمل أو يحتج المنافق لبث الأراجيف بأن موضوع الآية هو الشهداء خاصة والرحمة بهم، فما الذي تتضمنه لعموم المسلمين , فجاءت خاتمة آية البحث رحمة بهم جميعاً وتبكيتاً للذين نافقوا بأن الله عز وجل يجازي الذين آمنوا

ثناء الله على نفسه في آية البحث
من إعجاز القرآن ان كل آية منه تتضمن ثناء الله عز وجل على نفسه وبيانة عظيم قدرته وسعة سلطانه سواء في منطوقها أو مفهومها .
لقد أراد الله عز وجل للقرآن أن يكون مرآة لبديع صنع الله عز وجل في خلق السموات والأرض ، وتتجلى في آياته ذخائر العلم ، وكنوز المعرفة وبدأت آية البحث بالثناء على الله بتفضله بجعل الذين قتلوا في سبيله مستبشرين في حضرة القدس وهو جزاء لا يقدر عليه غيره سبحانه ، وهو ثواب إبتدائي للتضحية بالنفس في سبيل الله ، ومقدمة للثواب العظيم يوم القيامة كما في قوله تعالى [لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
ومن معاني آية البحث ترغيب الناس بالثواب الذي يأتي من عند الله عز وجل وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلا ينحصر الإستبشار في عالم البرزخ بالشهداء ، إنما جاءت آية البحث لذكر الفرد الأمثل .
وعن الإمام الجواد عليه السلام قال (تأخير التوبة اغترار، وطول التسويف حيرة، والاعتلال على الله هلكة، والاصرار
على الذنب أمن لمكر الله، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) ( ).
ومن ثناء الله عز وجل على نفسه في آية البحث كشفها لعلوم من الغيب تتعلق بالشهداء ما كان الناس ليعلموا بها لولا نزول آية البحث ، ليشكروا الله عز وجل على عظيم النعمة بذات الكشف الذي هو خير محض ونعمة دائمة .
وهل تصل مصاديق نعمة الله في آية البحث للمؤمنين والمؤمنات في الحياة الدنيا ، الجواب نعم ، ومنه تلاوة ذات الآية والتسليم بمضامينها القدسية والإقرار بأن الشهداء في معركة بدر وأحد وحنين أحياء عند الله في غبطة وسعادة .
وإذ إبتدأت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية فانها أختتمت بالوعد الكريم لكل مؤمن ومؤمنة بالغرق في النعيم وتوالي مصاديق الأجر والثواب عليهم .
النعم التي تذكرها آية البحث
إبتدأت آية البحث بنعمة الإستبشار والحبور والغبطة التي تتغشى المهاجرين والأنصار الذين قتلوا في معركة أحد، وإذ يتأس المسلمون في كل زمان على حمزة عم النبي وأصحابه ، ويتذاكرون كيفية قتل وحشي له ، فان آية البحث مواساة متجددة لهم جميعاً تدعوهم للإنتقال إلى التفكر والتدبر في كيفية بناء صرح الإيمان بتفاني وتضحية الرسول وأهل بيته ، وبدماء الشهداء وتحث على تعاهد هذا البناء بالتقوى والصلاح .
ويمكن تسمية استبشار الشهداء بأنها (نعمة الإستبشار الأخروي) لتنعكس هذه النعمة على أحوال المسلمين في الدنيا .
ومن الإعجاز في آية البحث ذكرها لفظ النعمة على نحو الخصوص بقوله [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ]( ).
وقيدت الآية النعم التي تأتي للشهداء بأنها من عند الله لوجوه :
الأول : إخبار الآية قبل السابقة بأن الشهداء [عِنْدَ رَبِّهِمْ] ( ) فالله عز وجل هو الذي ينعم على الذين عنده .
الثاني : إتصاف نعم الله على الذين عنده بالتوالي والتعدد في الكم والكيف .
الثالث : لا يقدر على الإنعام بمن عند الله إلا هو سبحانه .
الرابع : من خصائص نعم الله ترشح الإستبشار عنها .
الخامس : بيان تقّوم الدنيا والآخرة بنعم الله ، وحاجة الناس لها ، قال تعالى[وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ]( ).
لقد أمر الله عز وجل المسلمين بشكره تعالى على النعم , قال سبحانه [وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ] ( ) .
فهل يلزم المسلمين شكره تعالى على النعمة التي تذكرها آية البحث أم أنها خاصة بالشهداء ، إذ قيدت الآية أعلاه النعم التي يلزم الشكر عليها بأنها على ذات المسلمين الأحياء .
المختار هو الأول من جهات :
الأولى : إرادة عموم النعم التي يتفضل بها الله سبحانه .
الثانية : ورد الخطاب وحرف الإستعلاء في الآية مطلقاً (عَلَيْكُمْ).
الثالث: إرادة السابق واللاحق من المسلمين الأحياء والأموات .
الرابع : تضمن آية البحث توالي نعم الله على شهداء معركة أحد واستبشارهم بها نعمة على الأحياء من المسلمين في كل زمان .
الخامس : ذات نزول آية البحث وإخبارها عن النعم التي جاءت للشهداء نعمة عظمى على المسلمين والمسلمات.
وأخبرت آية البحث عن فضل الله عز وجل ولم تقيده بكم أو كيف أو نوع أو جنس ، ولم تخبر الآية عن إرادة الفضل الخاص الموجه للشهداء لتكون مضامين الآية أعم وتشمل فضل الله على الموتى من المسلمين من غير الشهداء ، وعلى الأحياء من عامة المسلمين .
وهل يستبشر الشهداء بفضل الله عز وجل على الناس عامة ، الجواب نعم ، لم يقتلوا إلا من أجل انقاذ الناس من عبادة الأوثان ، ومفاهيم الضلالة وسفك الدماء بغير حق ، وهذا الإستبشار من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ) بلحاظ كبرى كلية تتجلى باتصاف المؤمنين بالرحمة والرأفة فيما بينهم ومع الناس عامة وارادة الخير والهداية والصلاح لهم .
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت آية البحث بقوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ]بصيغة الفعل المضارع لتدل على ما قبلها سواء في كلام العرب أو غيرهم .
إذ أختتمت الآية السابقة بالقول [أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) لبيان إكرام آخر للشهداء , وهو إجتماع آيتين في الثناء عليهم بذات الموضوع ،
ونفت الآية السابقة الخوف والحزن عن الشهداء ، وقد يظن بعضهم أنهم في حال برزخ ليس فيها حزن ولا إستبشار ، وقد يقول بعضهم بإرادة موت وسكون الشهداء في عالم البرزخ ، ولم يأتهم منكر ونكير ، ورومان فتان القبور .
فجاءت آية البحث زاجراً عن مثل هذ القول ، وفيها تبكيت للذين نافقوا , ومانع من الإفتراء على الشهداء ، إذ تخبر الآية عن قانون وهو إستبشار وفرح الشهداء في كل زمان ، ومن إعجاز القرآن أن كلمة واحدة منه تبين مسائل متعددة وتستنبط منها الأحكام .
ومن صفات الله عز وجل أنه القادر والقهار , ولأنه [عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ]( ) تفضل وجعل كلمات القرآن المتناهية الممتنعة عن الزيادة أو النقصان أو التحريف محيطة باللامحدود من الوقائع والأحداث من غير أن يتعارض مع أسباب النزول .
والنسبة بين مطلق آيات القرآن والآيات التي لها أسباب نزول منها عموم وخصوص مطلق , وتحتمل وجوهاً :
الأول : أكثر آيات القرآن لها أسباب نزول .
الثاني : الآيات التي لها أسباب نزول أقل من الآيات التي ليس لها أسباب نزول .
الثالث : نسبة التساوي بين الآيات التي لها أسباب نزول والآيات التي ليس لها أسباب نزول .
والمختار هو الثاني أعلاه لبيان قانون من رحمة الله , وهو توجه آيات القرآن إلى الناس كافة من غير أن يتعارض مع مسألة أسباب النزول التي هي بيان وتفسير للآية , ودعوة لإستحضار آيات القرآن في الوقائع والأحداث ، سواء الآيات التي لها أسباب نزول مماثلة أو التي ليس لها أسباب , والمدار على عموم المعنى وليس أسباب النزول .
وتتضمن آية البحث الشهادة للصحابة برفع لواء الدفاع في أشق الأحوال ، لتكون هذه الشهادة وسيلة مباركة لبعث المؤمنين على الصبر والدفاع وزاجراً للذين كفروا عن محاربة الإسلام .
ليكون من إعجاز الآية القرآنية أنها تذكر واقعة مخصوصة لتبين منهاجاً وتكشف سراً , وتوثق برهاناً , وسبباً من أسباب انتصار الإسلام مع قلة عدد المسلمين ، والنقص في أسلحتهم ومؤونهم لينتصر الحق مع الفقر , على الكفر مع الغنى والجاه بمدد وعون من عند الله عز وجل , ومنه آية البحث .
لقد أنزل الله عز وجل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين وتفضل وجعل كل آية من القرآن مدداً وعوناً لكل من :
الأول : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله .
الثاني : المهاجرون , وكل آية بدل وعوض ومواساة لهم عن تركهم لبيوتهم وأموالهم .
الثالث : الأنصار , لتكون الآية القرآنية تخفيفاً عنهم ودعوة للصبر في مرضاة الله .
ومن الآيات في المقام أنه ليس من مدة أو فترة بين معركة أحد والخروج في مطاردة جيش الذين كفروا لبيان سنخية استجابة المهاجرين والأنصار وكيف أنها مطلقة غير مقيدة .
فان قلت عدد الذين خرجوا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي لمعركة أحد هو مائتان وسبعون , وقيل أقل بينما عدد الذين رجعوا من معركة أحد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحو ستمائة وسبعين .
والجواب هذا صحيح , وبعضهم كانت جراحاته بالغة وتعيق خروجه، ولم يلزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه جميعاً بالخروج إلا أنه وضع شرطاً وهو ألا يخرج معهم إلا من حضر معركة أحد التي جرت قبله بيوم واحد .
وهل يدل قوله تعالى[لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ] على الثناء الخاص على الذين خرجوا في اليوم الثاني لمعركة أحد الى غزوة حمراء الأسد ، الجواب لا ، إنما جاءت آية البحث بالثناء عليهم جميعاً ثم خصت ذكر المحسنين لهم بلحاظ عمل الصالحات والتفاني في طاعة الله قبل وبعد المعركة ، لبيان أن الدنيا دار امتحان وإختبار وهي مزرعة للآخرة وأن الطريق إلى الجنة لا ينحصر بفعل مخصوص إنما يلزم عمل الصالحات كل يوم إلا بالنسبة للشهداء الذين اختاروا الآخرة بصيرورة نفوسهم قرباناً .
ويمكن حمل الآية على التأويل الأعم لصيغة التبعيض في قوله تعالى[لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ].
لقد ذكرت آية البحث أموراً مجتمعة يتحلى بها المؤمنون من عموم صحابة رسول الله ، وهي :
الأول : الطاعة والإستجابة لله بالتقيد بأداء الفرائض والواجبات العبادية .
الثاني : الإستجابة لنداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ملاقاة الذين كفروا ، ومن الآيات في المقام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدعهم إلى الهجوم والغزو يوم معركة أحد ، إنما دعاهم إلى الدفاع ونصرة الإسلام في صدّ ورد المعتدين ، لذا ورد قبل خمس آيات في ذم المنافقين الطلب منهم أن يدفعوا ويكثّروا سواد المسلمين يوم معركة أحد ، فلا يرجعون من وسط الطريق إلى المعركة, بقوله تعالى[أَوْ ادْفَعُوا]( ).
الثالث : الإحسان والبر , والمبادرة إلى فعل الخيرات ، ودعوة الناس إلى الإسلام ، والإعراض عن المنافقين ، وفي التنزيل [وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا]( ).
الرابع : التعاون في فعل الصالحات ، وهو من مصاديق مجئ آية البحث بصيغة الجمع [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ] قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ] ( ).
الخامس : التحلي بلباس التقوى والخشية من عند الله عز وجل ، وهل الخروج خلف العدو من التقوى , الجواب نعم ، وهو من أبهى مصاديق وسنن التقوى من جهات :
الأولى : الإستجابة لله عز وجل ، إذ وردت الأوامر في القرآن بالنفير والدفاع ، قال تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ] ( ).
الثانية : نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتلبية ندائه بالخروج خلف العدو .
الثالثة : خروج الصحابة إلى حمراء الأسد رسالة إلى كل من :
الأول : المؤمنون والمؤمنات لما فيه من الدعوة إلى الثبات على الإيمان والصبر في طاعة الله .
الثاني: إرادة إنذار المنافقين بالكف عن بث الأراجيف في المدينة ، فمع سعيهم لصدّ الصحابة خاصة الأنصار عن الخروج للقتال فأنهم رجعوا من معركة أحد ليخرجوا في اليوم الثاني تحت ذات اللواء إلى حمراء الأسد متعقبين العدو ، مما يدل على أن كلام المنافقين ذهب سدى ولا أثر له إلا الإثم والوزر عليهم .
الثالث : بث الخوف والرعب في قلوب الذين كفروا وإخبارهم على نحو عملي بأمور :
أولاً : طاعة الصحابة لله ولرسوله .
ثانياً : نهوض الصحابة للدفاع ، ويدل عليه قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ).
ثالثاً : عدم صيرورة كثرة القتلى بين المسلمين وشدة جراحاتهم عائقاً ومانعاً من بذلهم الوسع في الجهاد في سبيل الله ، وهل يعلم الذين كفروا والمنافقون بهذا القانون .
الجواب نعم , بدلالة آية البحث [مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ] ( ).
وبين الذين استجابوا لله والرسول في حال السراء والضراء وبين الذين ذكرتهم آية البحث عموم وخصوص مطلق ، إذ ذكرت آية البحث خصوص الذين أصابتهم الجراحات الشديدة .
ولم تذكر الآية ما أصابهم من فقد سبعين من أحبتهم قبل خروجهم إلى حمراء الأسد بيوم واحد ، عندما وقعت معركة أحد ، وفيه مسائل :
الأولى : إرادة بيان ضعف الأبدان الذي عليه الصحابة يومئذ .
الثانية : دلالة ذكر القرح في آية البحث على فقد الشهداء .
الثالثة : مجئ الآيات الثلاثة السابقة في ذكر الشهداء ، وما يلاقون من الثواب العظيم .
الرابعة : نزول الآيات السابقة في ذكر حياة الشهداء عند الله باعث للطمأنينة في نفوس الصحابة .
الخامسة : بيان المائز بين أثر المصيبة التي تترشح عن تعدي الكفار وبين الجراحات في التوجه لقتال الذين كفروا ، فقد تكون مصيبة فقد الشهداء باعثاً على الإصرار على قتالهم ، أما الجراحات فانها عائق ذاتي عن السير الطويل في الصحراء .
وتضمنت آية البحث بياناً وصفة للمهاجرين والأنصار ، وهو تحليهم بلباس التقوى والخشية من عند الله لبيان أن خروجهم إلى معركة أحد وإلى حمراء الأسد كان بقصد القربة والطاعة إلى الله عز وجل ، وهو سبيل للفوز بالثواب العظيم في الآخرة بالإقامة في النعيم .
لقد ذكرت هذه الآية والآيتان السابقتان ما فاز به شهداء معركة أحد من الحياة الأبدية من حين مغادرتهم الدنيا في اليوم الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة .
وجاءت آية التالية لذكر الذين دخلوا معركة أحد , وبادروا إلى الخروج مع النبي لمطاردة الذين كفروا , ولبعث الخوف والفزع في نفوسهم
وكان عامة المسلمين في معركة أحد على وجوه :
الأول : المؤمنون الذين وقفوا في الميدان وقاتلوا وعددهم سبعمائة لإرادة ملاقاة الذين كفروا من قريش وحلفائهم .
الثاني : الذين رجعوا من وسط الطريق إلى المعركة , وهم المنافقون وعددهم ثلاثمائة .
الثالث : الذين لم يخرجوا إلى معركة أحد , وهم على شعب :
الأولى : المؤمنون من ذوي الضرر وأصحاب الأعذار .
الثانية : الذين نصّبهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للمرابطة في المدينة وحولها لمنع مباغتة سرية من الذين كفروا للإغارة على أهل المدينة .
الثالثة : المنافقون الذين أصروا على القعود وعدم الإستجابة لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج لبيان جزء علة لثناء آية البحث على الذين بذلوا الوسع في طاعة الله والرسول .
الرابعة : الذين خرجوا إلى معركة أحد وقاتلوا فيها ثم استجابوا لله ورسوله في دعوته للخروج خلف الذين كفروا في اليوم الثاني للمعركة ، وجاءت آية البحث في الثناء عليهم , والبشارة لهم بالثواب العظيم .
لقد أخبرت آية البحث عن توالي النعم والفضل من الله على الشهداء وهم في الآخرة ، وأختتمت آية البحث بقانون وهو عدم ضياع أو فوات أجر المؤمنين ، لبيان قانون وهو أن ذات الإيمان أجر عظيم ، وفيه ترغيب بالإسلام ومنع من نعت المسلم بالكفر والفسوق والنفاق ، إذ يدفع النطق بالشهادتين الكفر ، ويمنع إستباحة الدم والعرض والمال ، وكذا بالنسبة لأهل الكتاب ، وفي التنزيل [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] ( ) .
أما النفاق فلا يصدق على الإنسان إلا عند استبانة إبطانه للكفر والضلالة كما تدل عليه هذه الآيات ، إذ أخبرت عن حدوث معركة أحد باذن الله لكشف المنافقين حيث إتصفوا بخصال :
الأولى : القرب من الكفر .
الثانية : العزوف عن مفاهيم الإيمان والإعراض عن المعروف الذي يؤمرون به والمنكر وموضوع النهي الذي يحذرون منه [الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( ).
الثالثة : قعود الذين نافقوا عن الدفاع مع حاجتهم له ، وحاجة المسلمين لهم ، وحينما يتلو المسلمون آية البحث قد يسأل بعضهم هذا لشهداء أحد ، فما لنا نحن الذين لم نقاتل ، وقد تسأل المسلمات بأن القتال ساقط عنهن ، فهل يحرزن من المقامات الرفيعة بعد الموت .
فيأتي الجواب من عند الله بقانون تختتم به آية البحث بأن الله عز وجل لا يضيع أجر المؤمنين .
ليكون الجواب على مثل هذا التساؤل بما يبعث السكينة في نفوس المؤمنين .
الرابعة : إيذاء المهاجرين والأنصار بادّعاء عدم حدوث قتال ، كما ورد في قوله تعالى [قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ] ( ) .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه عدم نفي الذين نافقوا الظن بوقوع قتال فقد استثنوا العلم وحده بقولهم [لَوْ نَعْلَمُ] وكأنهم يقولون لا يعلم حدوث القتال إلا الله عز وجل ، أو أن المسلمين سينتصرون بسرعة كما في معركة بدر .
ومن إعجاز القرآن بيان المعطوف عليه لدلالات المعطوف ، وكذا العكس أي بيان المعطوف لدلالات وذخائر المعطوف عليه ، ثم يجتمعان ويشتركان في بيان المعاني المستقرأة منهما مجتمعين ، وجاء حرف العطف (الواو) في وسط آية البحث بقوله تعالى [وَأَنَّ] فاذا قيل لماذا يستبشر الذين قتلوا في سبيل الله بعد موتهم ، يأتي الجواب من المعطوف بأن الله عز وجل لا يضيع أجر المؤمنين الذين قتلوا في سبيله في معركة أحد.
وإذا قيل هل من مصداق يدل على قانون أن الله لا يضيع أجر المؤمنين ، يأتي الجواب من بداية آية البحث بأن الذين قتلوا في سبيل الله فرحون مستبشرون بالنعم التي تترى عليهم من عند الله عز وجل .
ومن معاني الحرف المشبه بالفعل [ان] الذي ورد في آية البحث التأكيد للقطع بأن الله عز وجل يجازي المؤمنين .
من غايات الآية
في الآية مسائل:
الأولى : بيان قانون وجود أوامر من الله عز وجل ومن رسوله الكريم، وبلوغ هذه الأوامر للمؤمنين.
الثانية : تجلي الإستجابة للأوامر من عند الله ومن رسوله، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، وفيه موعظة للناس جميعاً، وترغيب لهم بالإيمان.
الثالثة : بيان الحسن الذاتي للإيمان وترغيب الناس فيه , وإنذار الذين يصرون على الجحود والضلالة .
الرابعة : بيان قانون من الإرادة التكوينية وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله عز وجل، ليس من رسول غيره في زمانه لقوله تعالى[يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ] ( ).
ومن الآيات في المقام تسليم المسلمين بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو الرسول من رب العالمين، أرسله الله[عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ]( )، إذ كان بين عيسى عليه السلام وبينه نحو ستمائة سنة بينما كان فيما سبق يتفق أن يكون أكثر من نبي في زمان واحد إلى جانب التعاقب بين الأنبياء.
لقد أراد الله عز وجل للناس إدراك قانون وهو لزوم إستجابة الناس لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن إعجاز آية البحث أنها لم تقل الذين إستجابوا لله ورسوله .
الخامسة : دعوة المسلمين والمسلمات للإجتهاد في الدعاء والمسألة، فما ناله الشهداء في الآخرة قريب من المؤمنين في الدنيا إن شاء الله ، وهذا القرب من معاني ذكر آية البحث له إذ أنها تبعث المسلمين على المسألة والتضرع لتفضل الله بجعل النعم الأخروية حاضرة في الدنيا، وهو من أسرار جمع الآية بين النعمة والفضل من عند الله عز وجل، وهل هو من مصاديق خاتمة آية البحث .
الجواب نعم، ليكون تقديرها على وجوه:
الأول : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين فأدعوا الله الإستبشار الدائم في الدنيا .
الثاني : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين فأسألوا الله إستبشاركم من حين الدخول في القبر.
الثالث : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين فتأتيكم النعم والفضل الإلهي مجتمعين ومتعاقبين.
السادسة : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين بأن شهداء أحد أحياء عند الله وهم في حال إستبشار من حين غيابهم عن الدنيا.
وفي قوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( )، ورد عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في حديث: هل تعلمون كرامة أكرم من كرامة أكْرَمْتُكُموها؟ فيقولون : لا . إلا أنا وَدَدْنا أنك أعدت أرواحنا في أجسادنا حتى نقاتل فنقتل مرة أخرى في سبيلك)( ).
قانون أثر الشهادة في معركة أحد
تبعث آية البحث الشوق في نفس المسلم والمسلمة لقراءة القرآن ، إذ تبدأ آية البحث بقوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ] وكأنها تقول للمسلمين تستبشرون وتأمرهم بالإستبشار (استبشروا ).
فان قلت كيف يستبشر المسلمون , وقد فقدوا يومئذ سبعين شهيداً بعد أن استصحبوا النصر الذي نالوه في معركة بدر قبل أن تقع معركة أحد .
والجواب لأن الشهداء انتقلوا للإقامة عند الله , وهم في حال إستبشار وغبطة وحبور ، ليكون فرح المسلمين من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ) بلحاظ تغشي معاني الأخوة للمؤمنين الأحياء والأموات.
وتبين الآية قبل السابقة علة فوز الشهداء بمرتبة الإستبشار في الآخرة وهو قتلهم في سبيل الله يوم معركة أحد .
وتجلى هذا القتل وعلته بقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا]( ) لبيان أمور :
الأول : نية الشهداء الدفاع عن الإسلام .
الثاني : تضحية الشهداء بأنفسهم طاعة لله عز وجل .
الثالث : التزكية من عند الله عز وجل لشهداء معركة أحد .
الرابع : بيان موضوع قتل الشهداء وهو [فِي سَبِيلِ اللَّهِ].
وقد يقال بأن الآية ذكرت حال النعيم الذي عليه الشهداء , ولم تبين ما هو النفع والأثر في الدنيا ، لتقديم الشهداء أنفسهم فداء للإسلام ، الجواب من جهات :
الأولى : الثناء من الله عز وجل على الشهداء سبيل صلاح للمسلمين .
الثانية : زجر الذين كفروا عن قتال الإسلام ، وكل قطرة دم سالت من دماء الشهداء تبعث الخوف في قلوبهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ]( ).
الثالثة : دعوة المسلمين لإكرام الشهداء والتحلي بالأخلاق الحميدة التي ترقى بالمسلم إلى مراتب الفضل .
الرابعة : بيان الثواب العظيم للشهداء , وفيه دليل على أن الله عز وجل على كل شئ قدير .
الخامسة : الإخبار عن قانون وهو عدم خسارة المؤمن حتى وإن قُتل وفاضت روحه .
السادسة : حاجة الإنسان لأن يكون قتاله إذا قاتل في سبيل الله لأن فيه الأجر والثواب العظيم ، ولو كان كل إنسان لا يقاتل إلا في سبيل الله لما وقعت معركة بدر وأحد وسقط الشهداء .
السابعة : معركة بدر وأحد نوع سبب وطريق لدخول الناس في الإسلام جماعات جماعات لأنهم رؤوا الآيات التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً] ( ) .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه عدم حصرها الأمر والفتح بوقوع النصر إنما ذكرت مجيأه ، وبينه وبين الوقوع عموم وخصوص مطلق ليشمل مقدمات النصر ، ومصاديق تنجزه .
وقد أخبر الله عز وجل عن نصره للمسلمين في معركة بدر بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الثامنة : سلامة المسلمين من الخوف أو الفزع من الذين كفروا وجيوشهم وتخويفهم ووعيدهم ، ليكون من ثمرات معركة أحد ما ورد في الآية بعد التالية [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ).
التفسير
قوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ]
وهل تأتي النعم في الآخرة من غير واسطة , كقانون عام بالنسبة لعالم الخلود , أم هناك نعم أذن الله عز وجل للملائكة أداءها والقيام بها .
الجواب هو الأول ، فليس من نعمة في الآخرة إلا من عند الله وهو من مصاديق قوله تعالى[لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ]( ).
فان قلت وكذا النعم في الدنيا لا تكون إلا من عند الله عز وجل والجواب هذا صحيح, ولكن قد تكون النعم الإلهية في الدنيا بواسطة الناس والخلائق لقوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
بلحاظ أن الدنيا دار إمتحان وإختبار وجعلها الله عز وجل مزرعة للآخرة وطريقاً للخلود في النعيم للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ] ( ).
وبين المؤمنين الذين يعملون الصالحات وبين الذين تذكرهم آية البحث عموم وخصوص مطلق بلحاظ أن الذين آمنوا هم الأعم ، ومن الآيات أن الذين قتلوا في سبيل الله عدد قليل من عموم المؤمنين وصاروا واقية لهم ، فان قلت قد قتل في معركة بدر سبعون من الصحابة وهم معشار عدد الذين قاتلوا يومئذ تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا العدد ليس بالقليل .
والجواب هذا صحيح ولكن المقارنة والقياس لا يختص بمعركة واحدة من معارك المسلمين لعظيم فضل الله عز وجل عليهم وتفضله بالتخفيف عنهم .
ومن الإعجاز في المقام قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ والدم يسيل من وجنته : (لن ينالوا منا مثلها حتى تستلموا الركن) ( ).
وفي رواية (حتى نستلم) ليكون من مواضيع إستبشار الشهداء في عالم الآخرة التطلع لفتح مكة لإدراكهم وهم عند الله للمنافع العظيمة التي تترشح عنه .
وتحتمل النسبة بين ما يعلمه الشهداء وما يعلمه عامة أهل الدنيا من منافع فتح مكة وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي بين علم كل منهما .
الثاني : ما يعلمه الشهداء من هذه المنافع أكثر وأعظم مما يعلمه أهل الدنيا .
الثالث : الذي يعلمه أهل الدنيا من منافع فتح مكة أكثر مما يعلمه الشهداء منه .
الرابع : التفصيل فما يعلمه المسلمون ببركة نزول القرآن أكثر مما يعلمه الشهداء بخصوص فتح مكة ، بخلاف غير المسلمين الذين لا يتدبرون في آيات القرآن .
والصحيح هو الثاني أعلاه ، إذ يتفضل الله عز وجل على الشهداء بفتح خزائن من علوم الغيب ، وهو من مصاديق قوله تعالى[َيَسْتَبْشِرُونَ].
ويحتمل هذا الفتح وجوهاً :
الأول : فتح خزائن العلوم على نحو دفعي .
الثاني : فتحها على نحو التدريج .
الثالث : العنوان الجامع بفتحها على نحو الدفع والتدريج .
والمختار هو الثاني ، فما شاء الله عز وجل أن يطلع عليه الشهداء ويصيروا معه مستبشرون يأتيهم على دفعات في الليل والنهار ، وقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ نزل القرآن على نحو النجوم وتوالي نزول الآيات والسور .
وهل يسـتبشـر الشـهداء عند نزول آية من القرآن, وهـم عنـد الله
عـز وجل، الجواب نعم .
ويصح تقدير الآية على وجوه :
الأول : يستبشرون بك أيها المسلم .
الثاني : يستبشرون بك أيتها المسلمة .
الثالث : يستبشرون بكم يا أيها الذين آمنوا .
الرابع : يستبشرون بكن أيتها اللائي آمنّ .
الخامس : يستبشرون بكل فعل عبادي يأتي به المسلم .
السادس : يستبشرون بدحض حجج الذين نافقوا .
السابع : يستبشرون بصبر المسلم في طاعة الله .
الثامن : يستبشرون بصبر المسلم عن معصية الله .
التاسع : يستبشرون باقامة المسلمين لكل فرض من فروض الصلاة .
العاشر : يستبشرون بكل وقت تدخل فيه الصلاة من ليل أو نهار لأنه مقدمة كونية لأداء المسلمين الصلاة ، ويأتي الإستبشار لأنهم قاتلوا في سبيل الله وضحوا بأنفسهم .
ومن صفات الله الحسنى أنه المنان والمنعم على الخلائق كلها ، ويأتي هذا الإنعام متحداً ومتعدداً كما يتغشى الناس مجتمعين ومتفرقين .
وقد يجحد شطر من الناس بالنعم فتفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء [مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( ) يبشرون بأن الشكر لله على النعم طريق لإستدامتها في الآخرة ، وينذرون من صيرورة الجحود بها سبباً لدخول النار ، ولكن الذين كفروا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أصروا على محاربته وقتال الذين تلقوا ما جاء به من البشارات والإنذارات بالرضا والقبول ، فخرجوا للقائهم برغبة في الدفاع وشوق للقاء الله عز وجل ، كما ورد في قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ).
لقد جاءت هذه الآية والآيتان السابقتان في شهداء معركة بدر وأحد ، وبيان الكرامة , والمقام الذي صاروا إليه بفضل ولطف من عند الله عز وجل .
وليس فيها ما يدل على شكر الشهداء لله في عالم الآخرة أو قيامهم بالذكر والتسبيح ، وهو من إعجاز القرآن والشواهد على نزوله من عند الله عز وجل لما فيها من بيان لقانون وهو أن الدار الآخرة دار جزاء ليس فيها عمل أو كسب .
فمع كثرة أوصاف الشهداء ومصاديق النعمة التي هم فيها لم يرد في هذه الآيات ما يدل على إنشغالهم بعبادة أو شكر الله ، إذ أن الله عز وجل غني عنهم وعن الناس جميعاً ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] ( ) .
لقد بذل الشهداء أنفسهم في سبيل الله ليكونوا كالسراج في دعوة الناس للإسلام ، وفي إمتناع المسلمين عن الإصغاء للذين نافقوا .
لقد أبطل الشهداء سحر المنافقين خاصة , وأن بعضهم من رؤساء الأوس والخزرج كما في عبد الله بن أبي بن أبي سلول الذي يعدون له التاج ليكون ملكاً على أهل المدينة بعد كثرة الخصومات والمعارك بينهم ، فلما هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التفت حوله المؤمنون من الأوس والخزرج .
وصارت الدعوة إلى الله هي السائدة في المدينة مع إقرار أهلها بأن النبوة أعلى وأسمى مرتبة من الملك والذي يطلب الملك ، ليكون من معاني قوله تعالى[يَسْتَبْشِرُونَ] يستبشرون بأنهم ترجمان ومرأة للقرآن في دعوته لقتال الذين كفروا، قال تعالى [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ]( ).
ويلاحظ في الآيات الأربعة أعلاه ورود مادة [قَاتِلُوا] ست مرات وفيها الأمر بالقتال والشرط فيه , وتعيين الغاية منه والحد الذي يصل إليه ، والموضع الذي لا يصح إبتداء القتل فيه بكل الأحوال وهو المسجد الحرام .
وتعدد الشرط في القتال الإحتراز في الدماء , ومن مصاديق الشرط في الآيات أعلاه وجوه :
الأول : القيد في النية والعزيمة بأن يكون القتال في سبيل الله ، فلا يصح القتال لأمور :
أولاً : الدنيا وزينتها .
ثانياً : الطمع .
ثالثاً : الثأر .
رابعاً : الحمية .
خامساً : القتال إتباعاً للهوى .
سادساً : القتال للرئاسة والأمرة .
الثاني : القتال في سبيل الله جماعة لذا ورد قوله تعالى[الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ]( ).
الثالث : قتال الذين يقاتلون المسلمين ، ولم تقل الآية الذين يغوونكم أو يهجمون أو يعتدون عليكم إنما ذكرت الآية المعنى الأعم بأنهم يسعون لقتالهم ومستعدون له , وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يبدأ أحداً أو جيشاً بقتال .
الرابع : شرط عدم الإعتداء لقوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا] ( ).
ومن الإعجاز ورود النهي أعلاه على نحو الإطلاق في موضوعه من غير تقييد له ، وفيه شاهد على تفقه المسلمين في الدين وكفاية الكتاب والسنة لتعيين ضروب الإعتداء فيجتنبها المسلمون من غير خلاف أو خصومة بينهم، ومن مصاديق النهي عن الإعتداء في المقام وجوه :
أولاً : لا تعتدوا بقتال الذين لم يقاتلوكم ، وقال جمع من العلماء هذه الموادعة منسوخة بقوله تعالى[وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً]( ).
والمختار أنها غير منسوخة، ولا تتعارض معها الآية أعلاه إذ ذكرت قتال المشركين للمسلمين لأنها قيدت معنى العموم [كَافَّةً]لقتالهم المسلمين وارادة الجماعة والطائفة من المشركين التي تقاتل المسلمين مجتمعين ، كما في معركة أحد ، إذ يتخلف فيها تأليف وتركيب جيش المشركين عما هو في معركة بدر التي كان فيها جيش المشركين مؤلفاً من قريش وغلمانهم وعبيدهم من مكة.
بينما اجتمعت في الجيش الذي زحف على المدينة في معركة أحد قبائل من غطفان والأحابيش وغيرها ، فصدق عليهم أنهم كافة خاصة وأن القتال آنذاك يخلف آثار من العصبية وأسباب الثأر والإنتقام ، فأراد الله للمسلمين الحيطة والحذر من غير تعارض بينهما وبين الموادعة , قال تعالى[وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا]( ) وقد خصصنا عدة أجزاء لبيان عدم ثبوت النسخ في آيات عديدة من القرآن خصوصاً آيات الموادعة ( ).
ثانياً : لا تجعلوا أهل الكتاب مثل الكفار ، إذ زحف الكفار لقتال المسلمين ، وفي التنزيل [قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]( ).
ثالثاً : لا تقتلوا النساء والصبيان ولا تحرقوا المزروعات أو تقطعوا الشجر .
رابعاً : ورد أعلاه قوله تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( ) وصحيح أن معناها هو فتنة المؤمن في دينه إلا أنه لا يتعارض مع المعنى الأعم للآية ومنه لا تفتنوا الناس بالتعدي على أموالهم فيصرون على قتالكم .
وقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس جميعاً ، قال تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
خامساً : لا تعتدوا بقتل الشيخ الكبير والمرأة العجوز ومن كف يده عنكم والقى إليكم السلم .
(عن ابن عمر قال : وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل النساء والصبيان .
وأخرج ابن أبي شيبة عن أنس قال : كنا إذا استنفرنا نزلنا بظهر المدينة حتى يخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيقول انطلقوا بسم الله وفي سبيل الله تقاتلون أعداء الله ، لا تقتلوا شيخاً فانياً ، ولا طفلاً صغيراً ، ولا امرأة ، ولا تغلوا)( ).
سادساً : لا تعتدوا باللسان والقول .
سابعاً : لا تعتدوا على الأسير ، قال تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا] ( ) .
ثامناً : لا تعتدوا بالقعود في ذات الوقت الذي يلزم الدفاع .
تاسعاً : لا تعتدوا بالتشديد على أنفسكم (عن السدي قال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جلس يوماً فذكر الناس ، ثم قام ولم يزدهم على التخويف ، فقال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا عشرة ، عثمان بن مظعون : ما حقنا أن لم نحدث عملاً ، فإن النصارى قد حرَّموا على أنفسهم فنحن نحرم ، فحرم بعضهم أكل اللحم والودك وأن يأكل منها ، وحرم بعضهم النوم ، وحرم بعضهم النساء ، فكان عثمان بن مظعون ممن حرم النساء ، وكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه ، فأتت امرأته عائشة – وكان يقال لها الحولاء – فقالت لها عائشة ومن حولها من نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما بالك يا حولاء متغيرة اللون لا تمتشطين ولا تتطيبين؟! .
فقالت : وكيف أتطيب وأمتشط وما وقع عليَّ زوجي ولا رفع عني ثوباً منذ كذا وكذا ، فجعلن يضحكن من كلامها ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهن يضحكن ، فقال : ما يضحككن؟ .
قالت : يا رسول الله ، الحولاء سألتها عن أمرها فقالت : ما رفع عني زوجي ثوباً منذ كذا وكذا ، فأرسل إليه فدعاه فقال : ما بالك يا عثمان؟ ، قال : إني تركته لله لكي أتخلى للعبادة ، وقصَّ عليه أمره ، وكان عثمان قد أراد أن يجب نفسه . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك .
فقال : يا رسول الله إني صائم! قال : أفطر . قال : فأفطر وأتى أهله ، فرجعت الحولاء إلى عائشة قد اكتحلت وامتشطت وتطيبت ، فضحكت عائشة فقالت : مالك يا حولاء؟ فقالت : أنه أتاها أمس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والنوم ، ألا اني أنام وأقوم ، وأفطر وأصوم ، وأنكح النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ، فنزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا}( ) يقول لعثمان: لا تجب نفسك، فإن هذا هو الاعتداء)( ).
عاشراً : اصبروا واتقوا الله ولا تعتدوا ، وإجتناب التعدي من مصاديق قوله تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ] ( ).
الحادي عشر : الإمتناع التام عن الوأد وقتل البنات ، لأن هذا الوأد تعد على الذات والأسرة وعامة المجتمع .
الثاني عشر : إجتناب الثأر العشوائي .
الثالث عشر : الإمتناع عن البطش والعقاب بالأكثر والأشد ، قال تعالى [وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ] ( ) .
لقد ورد النهي لبني اسرائيل بقوله تعالى [لاَ تَعْدُوا فِي السَّبْتِ..] ( ) ونزل القرآن بالنهي عن الإعتداء مطلقاً .
الرابع عشر : الربا حرام , وفيه اعتداء وسلب للأموال فلا تعتدوا بأكل الربا .
الخامس عشر : التنزه عن قذف المحصنات .
السادس عشر : لا تعتدوا بالسحر عملاً وطلباً .
السابع عشر : لا تعتدوا بالتفريط بالفرائض العبادية .
الثامن عشر : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب , وهو منهاج الأنبياء فلا تعتدوا بتركه .
التاسع عشر : لا تعتدوا بالفرار من الزحف .
العشرون : لا تعتدوا بالسرقة .
الحادي والعشرون : التلبس بالرياء اعتداء وسبيل لنقص الأجر والثواب .
الثاني والعشرون : لا تعتدوا بالنميمة والمشي ببرئ إلى السلطان .
الثالث والعشرون : لا تعتدوا بالمن والتعيير , لأن الله عز وجل هو الذي هداكم للإيمان وفعل الصالحات ، قال تعالى [يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
الرابع والعشرون : لا تعتدوا بالجدال والمغالطة .
الخامس والعشرون : لا تعتدوا بترك قانون [لاَ تَعْتَدُوا]لأن فيه النجاة والسلامة والأمن في دار الدنيا والآخرة .
السادس والعشرون : لا تعتدوا بجعل القتال لغير سبيل الله .
السابع والعشرون : لا تعتدوا بابتغاء غير الإسلام والإنقياد والأمر لله ديناً .
الثامن والعشرون : لا تعتدوا بالظن أن الشهداء غير أموات أو أنهم غير أحياء عند الله .
التاسع والعشرون : لا تعتدوا فيما حرم الله عليكم .
الثلاثون : الغلول محرم ، فلا تعتدوا بأخذ الغلول ، قال تعالى [وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] ( ) .
الحادي والثلاثون : لا تعتدوا بتحريم الطيبات على أنفسكم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ] ( ) وقد يكون تحريم الطيبات على العائلة سبباً لنفرة بعضهم ليس بسبب ميل إلى الدنيا أو غلبة النفس الشهوية ، إنما هو يرى حقه بالتمتع بنعم الله .
فجاءت الآية أعلاه لمداراة العائلة والناس ، وعدم بعث الكدورة في الأسرة أو النفوس من الدين بسبب التشديد ، وليس من تعارض بين التنعم بالطيبات وبين مواساة الفقراء لذا شرعت الزكاة والخمس في الإسلام ، ليكون اخراج الزكاة من المال نوع طريق إلى تزكيته وتطهيره .
الثاني والثلاثون : لا تعتدوا في الجدال والإحتجاج والغيبة ، قال تعالى [وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا] ( ).
الثالث والثلاثون : لا تعتدوا بارتكاب الآثام .
الرابع والثلاثون : لا تعتدوا بسفك الدماء والقتل بغير حق .
الخامس والثلاثون : لا تعتدوا بترك الصلح وترك الخصومة , لقوله تعالى [وَالصُّلْحُ خَيْرٌ] ( ).
السادس والثلاثون : لا تعتدوا بالجحود بالنعمة ، وقد أخبرت آية البحث بأن الله سبحانه أنعم على الشهداء ، وتحتمل بخصوص الأحياء وجوهاً :
الأول : أنها نعمة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لإكرام الله عز وجل لأصحابه الذين قاتلوا دونه وتحت لوائه .
الثاني : إنها نعمة على الصحابة من المهاجرين والأنصار .
الثالث : انها نعمة على الذين آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم وبين الشهداء .
الرابع : إنها نعمة على عوائل الشهداء أنفسهم .
الخامس : أنها نعمة على كل مسلم ومسلمة .
السادس : إنها نعمة خاصة بالشهداء , ويتعلق موضوعها بعالم الآخرة.
وباستثناء الوجه الأخير فان الوجوه الأخرى من مصاديق آية البحث ، وكل مرة يتلو فيها المسلم قوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ] يدخل السرور إلى قلبه .
وهناك موضوعية لهذا الإستبشار في سرعة استجابة الصحابة للخروج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي لمعركة أحد لملاحقة جيش الذين كفروا طالبين الإقامة عند الله ونيل مرتبة الإستبشار بنعمة الله , وهو من عمومات قوله تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ).
لقد رأى الصحابة كثرة جيش الذين كفروا ، وحتى على فرض أن نصفه تفرق وابتعد عن مجموع الجيش فان النسبة تكون نسبة الواحد إلى أكثر من سبعة فقد كان عدد الذين خرجوا مع النبي في إقتفاء جيش المشركين نحو مائتين .
السابع والثلاثون : لا تعتدوا بالسرقة وغصب الأموال .
الثامن والثلاثون : لا تعتدوا بتعطيل الحدود .
التاسع والثلاثون : لا تعتدوا بالإضرار بالمعاهد أو قتله .
الأربعون : تعاهدوا التقوى فانها واقية من الإعتداء في حال الحرب والسلم (عن بريدة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً .
ثم قال : اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تعتدوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً)( ).
الحادي والأربعون : لا تعتدوا بالظلم بلحاظ أن الظلم قبيح سواء كان للذات أو الغير ، ومن قبح الظلم أنه قد يكون سبيلاً مكروهاً إلى تكراره أو مضاعفته وإرتداده على ذات الظالم ، قال تعالى [فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ] ( ).
ومن الإعجاز في قوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا] مسائل :
الأولى : بيان قانون وهو أن الشهداء في معركة بدر واحد ليسوا معتدين بلحاظ المنزلة العظيمة التي فازوا بها عند الله عز وجل .
الثانية : لقد أخبر الله عز وجل عن معركة أحد بأنه [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) .
وتدل آيات القرآن والسنة النبوية وأخبار التأريخ على أن جيش المشركين هم المعتدون من وجوه :
الأول : التلبس بالكفر ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذين يحاربون النبي محمداً معتدون .
الصغرى : جيش الكفار يوم أحد حاربوا النبي محمداً .
النتيجة : جيش الكفار معتدون .
الثاني : عدم إتعاظ مشركي مكة من هزيمتهم في معركة بدر مع رجحان كفتهم عددا وعدة وتدريباً .
الثالث : إصرار الذين كفروا على القتال مع تعالي الأصوات بينهم باجتناب القتال .
الرابع : كل غاية من غايات الذين كفروا من القتال إعتداء وظلم .
الخامس : مناجاة الذين كفروا بالباطل إعتداء .
السادس : إشهار الذين كفروا السيوف وتقدمهم للمبارزة عدوان وتعد على النبوة والتنزيل ، قال تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ).
(قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِأَصْحَابِ اللّوَاءِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ يُحَرّضُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْقِتَالِ يَا بَنِي عَبْدِ الدّارِ إنّكُمْ قَدْ وُلّيتُمْ لِوَاءَنَا يَوْمَ بَدْرٍ فَأَصَابَنَا مَا قَدْ رَأَيْتُمْ وَإِنّمَا يُؤْتَى النّاسُ مِنْ قِبَلِ رَايَاتِهِمْ إذَا زَالَتْ زَالُوا ، فَإِمّا أَنْ تَكْفُونَا لِوَاءَنَا ، وَإِمّا أَنْ تُخَلّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَنَكْفِيكُمُوهُ فَهَمّوا بِهِ وَتُوَاعَدُوهُ وَقَالُوا : نَحْنُ نُسَلّمُ إلَيْك لِوَاءَنَا ، سَتَعْلَمُ غَدًا إذَا الْتَقَيْنَا كَيْفَ نَصْنَعُ وَذَلِكَ أَرَادَ أَبُو سُفْيَانَ)( ).
ويكون استبشار الإنسان في الحياة الدنيا وفق قاعدة السبب والمسبب ، والعلة والمعلول، وهو من الكلي المشكك ، فما يستبشر به إنسان قد لا يستبشر به غيره ، إذ يستبشر به , ولكن ليس بذات المرتبة والدرجة .
فهل يكون استبشار الشهداء من الكلي المشكك مثله ، الجواب لا ، إنما هو من الكلي المتواطئ الذين يكون على مرتبة واحدة وهي أسمى مراتب الإستبشار في ذاتها وسببها وموضوعها وأثرها .
وفي قوله تعالى[وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( ) الواردة في بني اسرائيل وإرادتهم التوبة من عبادة العجل والعكوف عليه ، أخذ الذين لم يعبدوا العجل الخناجر والشفار بأيديهم , وقتلوا طائفة ممن عبدوه بعد أن أصابتهم ظلمة شديدة حينئذ ، حتى أوصى الله إلى الرسول عليه السلام أن يرفعوا أيديهم ، وقد غفر الله سبحانه لمن قتل منهم ومن بقي حياً .
(عن الزهري قال : لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسها برزوا ومعهم موسى ، فاضطربوا بالسيوف وتطاعنوا بالخناجر وموسى رافع يديه ، حتى إذا أفنوا بعضهم قالوا : يا نبي الله ادع لنا ، وأخذوا بعضديه فلم يزل أمرهم على ذلك حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم بعضهم عن بعض ، فألقوا السلاح وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم ، فأوحى الله إلى موسى : ما يحزنك . . . ؟ أما من قتل منكم فحي عندي يرزق ، وأما من بقي فقد قبلت توبته . فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل .) ( ).
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين ولم يعد أي منهم الأوثان ونهاهم الله عن قتل بعضهم بعضاً ، ومنعهم عن مقدمات الخصومة والإقتتال بقوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا..] ( ) وجاء قتل طائفة منهم على يد الذين كفروا لينالوا الحياة عند الله ، ويكونوا أحياء عند الله ، وهل هم مع بني اسرائيل الذين ورد ذكرهم في الحديث أعلاه (أما من قتل منكم فهو عندي يرزق) أم ليس معهم .
المختار هو الثاني لسعة ملك الله عز وجل ، وتعدد معاني [عِنْدَ اللَّهِ] وإن لم يأت الخبر أعلاه عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة المسلمين .
كما يدل حديث الإسراء على وجود الأنبياء وبعض أصحابهم كلاً في سماء مخصوصة كما في حديث أنس ، فحينما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم السماء الدنيا رحب به الملائكة القائمون عليها ، قال (ووجد في السماء الدنيا آدم .
فقال له جبريل : هذا أبوك آدم فسلم عليه ، فسلم عليه ورد عليه آدم وقال : مرحباً وأهلاً بابني . . . نعم الابن أنت . فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان .
فقال : ما هذان النهرين يا جبريل؟ قال : هذا النيل والفرات عنصرهما . ثم مضى به في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد ، فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر . قال : ما هذا يا جبريل؟ قال : هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك .
ثم عرج به إلى السماء الثانية فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى : من هذا؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : وقد بعث إليه؟ قال : نعم . قالوا : مرحبا به وأهلاً .
ثم عرج به إلى السماء الثالثة فقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية .
ثم عرج به إلى السماء الرابعة فقالوا له مثل ذلك ، ثم عرج به إلى الخامسة فقالوا مثل ذلك ، ثم عرج به إلى السادسة فقالوا له مثل ذلك ، ثم عرج به إلى السابعة فقالوا له مثل ذلك ، كل سماء فيها أنبياء قد سماهم ، منهم إدريس في الثانية ، وهارون في الرابعة ، وآخر في الخامسة ولم أحفظ اسمه .
وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله) ( ). أي لأن موسى كليم الله فقد نال الإقامة في السماء السابعة .
وفي الأستبشار أطراف :
الأول : الذين يستبشرون .
الثاني : موضوع الإستبشار .
الثالث : المستبشر به .
الرابع : كيفية الإستبشار .
أما الأول أعلاه فالآية خاصة بالشهداء في عالم الآخرة لبيان قانون وهو حالما غادروا الدنيا أخبر الله عز وجل المسلمين والمسلمات عن حسن مقامهم عنده ، وأنهم يتصفون بالإستبشار ، وكأن الآية تقول للمسلمين : استبشروا كما يستبشر إخوانكم شهداء أحد .
وأما الثاني فان موضوع الإستبشار مطلق ومتعدد وغير مقيد ، وهو أوسع وأعظم من أن تحيط به عقول الناس .
وأما الثالث فان المستبشر به شامل لأمور :
أولاً :حال الشهداء إذ يصح الإستبشار على ما في الحال .
ثانياً : ما يخص النعم التي تأتي للشهداء وهم في عالم البرزخ ما قبل يوم القيامة.
ثالثاً : الإستبشار بالنصر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد والخندق والحديبية وحنين ، وفي فتح مكة , قال تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) .
رابعاً : الإستبشار بحال العز الذي فاز به المسلمون .
خامساً : استبشار الشهداء بما أعدّ الله عز وجل لهم يوم القيامة .
سادساً : يستبشرون بمرتبة الشفاعة والدرجة الرفيعة التي خصّ الله عز وجل بها النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة .
وفي حديث الشفاعة ورد عن أنس قال :
(حدثنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض فيؤتى آدم فيقال له يا آدم اشفع لذريتك فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم فهو
خليل الرحمن فيؤتى إبراهيم فيقول يعني لست لها ولكن عليكم بموسى فهو كليم الله فيؤتى موسى فيقول لست لها ولكن عليكم بعيسى فهو روح الله وكلمته فيؤتى عيسى صلى الله عليه وسلم فيقول لست لها ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأوتي فأوتى فأقول أنا لها فأستأذن على ربي فيؤذن لي عليه فأقوم بين يديه فيلهمني محامد لا أقدر عليها الآن فأحمده بتلك المحامد ثم أخر ساجدا فيقول يا محمد ارفع رأسك قل تسمع سل تعط واشفع تشفع .
فأقول أي رب أمتي أمتي فيقال انطلق فمن كان في قلبه إما قال مثقال برة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمد بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا .
فيقال يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجه منها فأنطلق فأفعل ثم أعود فأحمد بتلك المحامد ثم أخر ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة خردل فأخرجه من النار فأنطلق حديث أنس إلى منتهاه) ( ).
سابعاً : يستبشرون بما يطلعهم الله عز وجل عليه من علوم الغيب .
ثامناً : يستبشرون لدلالة عظيم الثواب الذي فازوا به على كونهم [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
أما الرابع فتحمل كيفية الاستبشار على المعنى الأعم من هيئة استبشار الإنسان في الدنيا ، وتهلل اساريره وامتلائه بالغبطة والحبور ، أي استبشارهم لا يختلف أو يتباين مع استبشارهم في الدنيا ولكنه أعم وأوسع للنواميس والفيوضات لأنهم [عند الله] لقوله تعالى [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ).
ومن معاني آية البحث أن الشهداء لم ينشغلوا بالإنتقام عمن قتلهم ، ولم يغادروا الدنيا وهم في حال حرقة وأسى ورغبة بالبطش بهم ، إنما تغشيتهم حال الإستبشار والحبور بما رزقهم الله .
لقد أدركوا أن شأن وعاقبة الذين قتلوهم أمر بيد الله عز وجل .
لقد شج وجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسالت الدماء منه، وكسرت أسنانه الأمامية يوم معركة أحد .
ورأى أهل بيته وأصحابه بين قتيل وجريح مع أنه لا يدعو إلا إلى الله وعبادته فهمّ أن يدعو على المشركين فنزل قوله تعالى [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ] ( )فاجتنب الدعاء عليهم .
وهل يمكن القول وكذا الشهداء فانهم لا يسألون الله الإنتقام من هؤلاء الذين قتلوهم ، الجواب نعم ، وهل يخبرهم الله عز وجل بأن فلاناً وفلاناً من حاربهم وقتلهم سيدخل الإسلام ، وسيموت شهيداً ويلحق بكم ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى في أول آية البحث[يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ] فمن الفضل هداية الكافر ودخوله الإسلام ، ومن مصاديق ما ورد في الآية السابقة [وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ] ( ) ليكون من الإعجاز وأسرار ورود لفظ الإستبشار في آية البحث والآية السابقة على نحو التوالي ، إتحاد الموضوع الذي يستبشر به الشهداء وإن تعدد السبب والعلة .
علم المناسبة
من خصائص الكتب السماوية تضمنها البشارة المتعددة الشاملة للحياة الدنيا والآخرة ، وهذه البشارة طريق للإيمان ، وسبيل للهداية ، وباعث على التوبة والصلاح، وفي التنزيل[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]( ).
وتضمنت آيات القرآن الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبشارة والتبشير العام والخاص ، قال تعالى [إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ).
كما أخبرت بأن ذات القرآن بشارة ومبٌشر به من قبل الأنبياءالسابقين ، والكتب السماوية التي نزلت قبله .
وورد لفظ [يَسْتَبْشِرُونَ]ست مرات في القرآن ، اثنتين منهما في الآية السابقة وآية البحث مع إتحاد جهة الإستبشار ، وتعدد الموضوع وسبب الإستبشار ، وورد لفظ يستبشرون في الثناء على المؤمنين وبيان إعجاز السورة القرآنية الغيري ، وذم وفضح الذين نافقوا بقوله تعالى [وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ]( ) .
ولا ينحصر استبشار المؤمنين والمؤمنات بنزول السورة من القرآن بل يشمل وجوهاً :
الأول : نزول عدة آيات من القرآن .
الثاني : نزول آيتين من القرآن دفعة واحدة .
الثالث : نزول آية من القرآن .
الرابع : نزول شطر من آية قرآنية .
الخامس : نزول الناسخ , والمبين والمحكم من الآيات والأحكام ليتغشى الإستبشار المسلمين في كل حال يأتي معه الوحي والتنزيل من عند الله .
فان قلت هل الآية أعلاه خاصة بأهل البيت والصحابة أيام النبوة لأنهم معاصرون لنزول آيات القرآن ويرون حال نزولها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أخذه العرق في اليوم شديد البرودة .
الجواب الآية أعم ، فيدرك المسلم عند تلاوته أو سماعه للآية القرآنية سنخية نزولها ، ومن الآيات في المقام وجود أسباب وموضوع لنزول آيات كثيرة من القرآن لبعث المسلمين على إستحضارها والتفقه في الدين ومعرفة سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكونوا من الذين يستبشرون في الآخرة .
قانون الإستبشار
من معاني ملكية الله للسموات والأرض والدنيا والآخرة كما في قوله تعالى [فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى] ( ) قانون وهو أن المؤمنين به وبرسوله وكتبه في حال بشارة وإستبشار ، والإستبشار هو اليمن ورجاء وتجلي الخير والتفاؤل به ، وضد الإستبشار التطير والتشاؤم .
ومن معاني الملك المطلق لله عز وجل تغشي رحمته للخلائق كلها .
وهل تأتي الرحمة للناس على نحو الكلي المتواطئ أم الكلي المشكك الجواب هو الثاني ، فهناك تباين رتبي إذ تتضاعف رحمة الله عز وجل على المؤمنين من غير أن ينقص من مصاديق ووجوه رحمته بغيرهم من الناس شيئاً ومنها إختصاص المؤمنين بالإستبشار بما أعدّ الله عز وجل لهم من النعيم في الدار الآخرة .
ليتجلى في المقام قانون وهو أن فضل الله على المؤمنين سبيل هداية وإصلاح لغيرهم من الناس .
وما دامت الحياة الدنيا وعالم الآخرة ملك لله عز وجل وحده فانه سبحانه جعل الإستبشار عرضاً لازماً لأهل الإيمان لا يفارقهم في الدنيا والآخرة ، وهل هم متساوون في هذا الإستبشار .
الجواب لقد انفرد الشهداء في معارك الدفاع ضد المشركين بحال الإستبشار من حين مفارقتهم الدنيا إذ بذلوا نفوسهم في سبيل الله ودفاعاً عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
لقد إنهزم مشركوا قريش في معركة بدر هزيمة تتجدد معانيها ودلالاتها عند كل طبقة وجيل من المسلمين وغيرهم ونقتبس الدروس والمواعظ من تلك المعركة ، وحينما رجع المشركون إلى مكة ، وشاع عند أهلها كثرة قتلاهم وأسراهم ، إلتفت الناس إلى معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصارت حديثهم في البيت الحرام والمنتديات والأسواق , وهو من الإعجاز الغيري لنصر الله لنبيه في معركة بدر .
ووقعت معركة بدر في اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، ليأتي بعد شهر رمضان شهر شوال ، ثم يدخل الناس في الأشهر الحرم ذي القعدة وذي الحجة ومحرم حيث تأتي وفود القبائل إلى مكة لأداء مناسك الحج ، ليكون موضوع معركة بدر ونتائجها ومعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها حديثهم في الموسم وأسواق العرب ومنها :
الأول : سوق عكاظ وهو من أقدم أسواق العرب إذ يبدأ الناس بالوفود إليه من أول شهر ذي القعدة حيث تحل الأيام الحرم فلا ثأر ولا قتل ولا غزو، وعكاظ من التكاعظ أي المنافسة والتفاخر ، المنافسة في البيع والشراء والتفاخر في القاء الشعر والأنساب والأفعال .
ومن خصائص الأيام الحرم المنع من الإنتقام والبطش بسبب التفاخر الذي يدل في مفهومه على ذم قوم آخرين ، كما لو ذكر أحد الشعراء أو الأدباء نصر قبيلته على إحدى القبائل الأخرى ، أو أنه بالغ في بيان نصرهم بخلاف الواقع , وتدوم عمارة هذا السوق نحو عشرين يوماً .
الثاني : سوق مجنة : ينتقل الناس إليه في العشرة الأواخر من ذي القعدة، إلى أن يشاهدوا هلال شهر ذي الحجة .
الثالث : سوق ذي المجاز ، يقضي فيه الناس ثمانية أيام من شهر ذي الحجة وإلى يوم التروية .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل هجرته إلى المدينة يطوف على القبائل في هذه الأسواق ويقصدهم إلى محلهم يدعوهم إلى الإسلام وإلى نصرته ويتلو عليهم آيات من القرآن ، ويحثهم على نبذ الشرك وعبادة الأوثان ، وكان رجال قريش يسعون خلفه يدعون إلى عدم الإصغاء له , وأنه مجنون .
ولم يرد في التأريخ أن مجنوناً ينصح الناس ويتبعه قوم يحذرون من الإستماع له أي أن هذا الإتباع يجعل القبائل تنصت إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم و وتدرك قبح إصرار كفار قريش على الجحود والضلالة .
وما أن جاءت السنة الثانية للهجرة حتى صار نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهزيمة المشركين في معركة بدر هو حديث الناس في تلك الأسواق ، وهل يستحضرون قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم في تلك الأسواق وزيارتهم في محالهم لدعوتهم إلى الإسلام ، قبل الهجرة ودلالاتها .
الجواب نعم ، ليكون في انتقام الله عز وجل من كفار قريش , وسيلة لخزيهم وتحذير القبائل من إعانتهم ونصرتهم في معركة أحد التي يدعو رؤساء قريش لها, وهو من عمومات قوله تعالى[وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( ).
وهل كانت تلك القبائل ووفود العرب في أسواقها تستبشر بنصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر ، الجواب نعم ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا] ( ).

قوله تعالى [بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ]
وإذ ذكرت آية البحث جهة صدور النعمة وأنها من عند الله ، فانها لم تذكر الجهة التي تتوجه إليها , وفيه وجوه :
الأول : يستبشرون بنعمة من الله عليهم .
الثاني : يستبشرون بنعمة من الله تحل بساحتهم .
الثالث : يستبشرون بنعمة من الله على أصحابهم الذين بقوا في الدنيا .
الرابع : يستبشرون بنعمة من الله على طائفة من الذين كفروا بالتوبة والإنابة .
الخامس : يستبشرون بنعمة من الله على الذين نافقوا بالصلاح والتنزه عن النفاق .
لقد ذم الله عز وجل الذين كفروا لجحودهم بالنعم وإتخاذهم لها نوع طريق ووسيلة لفعل السيئات ومحاربة أهل الإيمان فنزل بهم العذاب , قال تعالى[أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ]( ) .
(ولما سأل ابن الكواء الإمام علي عليه السلام عن الآية أعلاه قال: هم كفار قريش يوم بدر)( )، لتتجلى في معركة بدر وأحد مصاديق وشواهد على وجود أفراد أمة مؤمنة يبذلون أنفسهم في سبيل الله، شكراً لله على نعمه، ويحتمل هذا البذل وجوهاً :
الأول : إنه نعمة من عند الله.
الثاني : إنه من شكر لله عز وجل على النعم.
الثالث : إنه مقدمة لنزول النعم من الله.
الرابع : إنه رجاء نزول النعمة في الدنيا والآخرة.
ولا تعارض بين هذه الوجوه، وكلها من مصاديق آية البحث لتكون النعم التي تذكرها آية البحث لطفاً وشكراً من عند الله، وفي التنزيل[وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا]( ).
علم المناسبة
ورد لفظ نعمة في القرآن أربعاً وثلاثين مرة ، وكلها تتعلق بالنعم التي تأتي من عند الله عز وجل ، وورد لفظ [بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ] في آية البحث ، وفي قوله تعالى [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ] ( ) بعد ثلاث آيات وهو خاص بالمهاجرين والأنصار الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلف جيش المشركين لردعهم عن الرجوع إلى المدينة وغزوها .
لبيان قانون وهو شمول مصاديق من نعمة الله للشهداء في معركة أحد ، وأخرى تشمل الصحابة الأحياء منهم ، فصحيح أنهم افترقوا في معركة أحد، ولكن نعمة الله عز وجل تتغشاهم جميعاً .
ومن خصائص الآيات التي تذكر نعمة الله عز وجل أنها سياحة في عالم الملكوت ، وباعث للسكينة في النفوس والشوق لعمل الصالحات والتدبر والتفكر في النعم التي تفضل بها الله عز وجل ، وهل يزيد هذا التفكر من النعم أم لابد من تعيينها والشكر لله عز وجل عليها .
والمختار هو الأول لذا ندبت آيات القرآن إليه ، وفي التنزيل [الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
لقد ورد الأمر من الله عز وجل بوجوب ذكر نعمة من جهات :
الأولى : الأمر إلى الناس جميعاً بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ] ( ) .
وهل تدل الآية أعلاه على تكليف الكفار بالفروع كتكليفهم بالأصول ، الجواب نعم ، فلابد أن يذكر كل إنسان نعمة الله عز وجل عليه ، ووجوب أداء الفرائض العبادية والإمتثال له من نعم الله عز وجل على الناس .
الثانية : توجه الأمر إلى المسلمين بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ] ( ) لبيان دفع الله عز وجل عن المسلمين كيد الذين كفروا مع كثرتهم وإصرارهم على القتال .
فمن اعجاز في السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم قتال الأحزاب في معركة الخندق وإكتفائهم بشبه حصار للمدينة نحو عشرين ليلة ثم إنصرافهم ، ولم يتعظوا من قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) في معركة أحد .
إذ يدل قوله تعالى أعلاه على ثبوت قانون من وجوه :
الأول : انقلاب ورجوع الذين كفروا من القتال من غير أن يحققوا غاياتهم الخبيثة .
الثاني : تجدد قانون انقلاب الذين كفروا في كل مرة يأتون فيها للقتال ، ومن معاني قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا] ( ) زجر جيش الذين كفروا عن البقاء في المدينة وحولها ، وهل فيه بشارة عدم استيلاء أو احتلال الذين كفروا المدينة المنورة ، الجواب نعم , وهو من الإعجاز في قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) أي أن اللقاء في يوم مخصوص ثم الرجوع والإنصراف ، وإن كان لفظ اليوم أعم من أن يختص باليوم الشمسي وساعات النهار ، فقد يدل على المعركة التي تستمر لسنوات ولكن واقع حال وموضوع آية البحث هو انقضاء معركة أحد بيوم واحد .
وكأن الآية أعلاه تقول للمسلمين في كل مرة يأتي فيها جيش الذين كفروا فانهم ينقلبون وينصرفون عنكم).
ونزلت الآية أعلاه في السنة الثالثة بعد واقعة أحد إذ زحف فيها ثلاثة آلاف رجل من قريش وحلفائها وبعدها بأقل من سنتين توجه عشرة آلاف رجل منهم صوب المدينة للقتال والحرب ، وقد ينشط المنافقون والذين في قلوبهم مرض ويقولون إذا كان ثلاثة آلاف منهم أحدثوا انكساراً في جيش المسلمين ولاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون والأنصار الجراحات الشديدة ، وسقط سبعون شهيداً ، فكيف وقد جاء عشرة آلاف منهم ليكون بقياس الأولوية سقوط الكثير من الصحابة مع إظهار المنافقين بالقعود والإعتذار بالمغالطة بقولهم [لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ] ( ) فأخبرت آية السياق عن حسن توكل المسلمين على الله وعدم خشيتهم من جيوش الذين كفروا وأن كثروا وزادت مؤنهم وعدتهم ، وهل من موضوعية لآية البحث في المقام ، الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : دعوة آية البحث المهاجرين والأنصار للصبر في ميادين القتال .
الثانية : حث آية البحث على الدعاء والتوسل إلى الله بنزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار .
الثالثة : دلالة آية البحث على إنتفاء الخسارة بالنسبة للمؤمنين عند الخروج للقاء العدو ، فاما النصر وأما الحياة في النعيم وحال الإستبشار الدائم ، قال تعالى [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ] ( ) .
الرابعة : إخبار آية البحث بالثواب والأجر على كل عمل يقوم به المؤمنون مجتمعين ومتفرقين .
الثالث : إتصاف الذين كفروا بالخيبة والأسى عند رجوعهم من قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الرابع : تعدي الخيبة لتتغشى عموم الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم ، وتحتمل هذه الخيبة من جهة الكم والكيف وجوهاً :
الأول : إنها بمرتبة واحدة ومستقرة مع تعاقب الأيام .
الثاني : إزدياد خيبة الذين كفروا .
الثالث : النقص والتضاؤل في خيبة الذين كفروا ،
والصحيح هو الثاني فلا تنحصر أسباب خيبة الذين كفروا بمعارك الإسلام بل هي متعددة ومتجددة ، ليكون من وجوه تقدير قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) ولا يعلم جنود ربك في بث الخيبة في صفوف ونفوس الذين كفروا إلا هو سبحانه .
قوله تعالى [وَفَضْلٍ]
تبين الآية قانوناً وهو أن النعم تترى على المؤمنين في الآخرة من غير حساب أو تراخ أو انقطاع ، وأن الله عز وجل تفضل على الذين قتلوا في سبيله في معارك الإسلام الأولى بأمور :
الأول : الحياة وعدم الموت والسكون .
الثاني : صيرورة حياة الشهداء عند الله وبحضرة القدس .
الثالث : توالي الرزق من الله عز وجل .
الرابع : تعدد وتعاقب النعم من الله على الشهداء .
الخامس : اقتران النعم بالفضل والزيادة من الله عز وجل .
السادس : سلامة الشهداء من الحزن والكدورة والأذى .
السابع : حال الأمن والإستبشار .
والفضل النافلة ومنه ما لم يعلمه الناس أو الشهداء أنفسهم ، وهل يعلمه الملائكة قبل مجيئه للشهداء ، الجواب لا دليل عليه ، وهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) حينما احتجوا على جعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
ومن وجوه استبشار وغبطة الشهداء تفضل الله عز وجل عليهم بالفضل مع النعمة , ويمكن تقدير الآية على وجوه :
الأول : ويستبشرون بنعمة من الله وفضل على أنفسهم .
الثاني : يستبشرون بنعمة من الله وفضل يأتيهم كل ساعة .
الثالث : ويستبشرون بنعمة من الله وفضل على أهليهم وذراريهم ، وهل ينقطع هذا الفضل ببلوغ الأولاد الصلبيين أو موتهم , الجواب لا ، إنما هو متصل ومتجدد في الأحفاد ، وفي قوله تعالى [وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا]( ).
ورد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام (أنه كان بينهما وبين ذلك الاب الصالح سبعة آباء وقال عليه السلام: إن الله ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده وولد ولده وأهل دويرته ودويرات
حوله، فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله) ( ).
الرابع : يستبشرون بنعمة من الله وفضل لا ينقطع .
الخامس : يستبشرون بنعمة من الله وفضل عظيم يغبطهم عليه سكان السموات .
السادس : يستبشرون بنعمة وفضل لم يعلم به إلا الله عز وجل.
السابع : يستبشرون بنعمة وفضل وعد الله المؤمنين عليه في الدنيا ، قال سبحانه [وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا] ( ).
الثامن : يستبشرون بنعمة من الله وفضل جزاء لقتالهم وتضحيتهم بأنفسهم في سبيل الله .
التاسع : يستبشرون بنعمة من الله وفضل تقدم ذكره في الآية السابقة بقوله تعالى [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ] ( ).
بحث بلاغي
من وجوه البديع [النسق]وهو لغة التشابه على نظام واحد سواء في الأفعال أو الأقوال أو الأشياء (ونَسَقته نسقاً ونسقته تنسيقاً، ونقول: انتَسَقَتْ هذه الأشياء بعضها إلى بعض أي تَنَسَّقتْ ) ( ).
وتسمى حروف العطف بحروف النسق , وعلة تسمية النحويين هذه لها أن العطف يجعل المتعاطفين يجريان مجرى واحداً (والنّسَقُ من الثّغورِ : المُستَوِيَة) ( ).
ومنها (ثم) ولا تشترك ما بعدها بما قبلها إلا على نحو الموجبة الجزئية لبيان تفرع الثاني عن الأول .
وحسن النسق إصطلاح يراد منه الإتيان بكلمات متتاليات من النثر أو الشعر تتصف بالتلاحم والترتيب ويمتاز القرآن بخصوصية وهي أن حسن نسق كلماته وتلاحمها باب لإستقراء مسائل من الآية القرآنية ، وهو من الشواهد على إعجازها لتجتمع سنن البلاغة مع الإستنباط في كيفية نسق الآيات فبعد أن ذكرت الآية النعم من عند الله ذكرت فضله سبحانه وتقدير الآية (ويستبشرون بفضل من الله ) .
وتبين آية البحث أن الفضل غير النعمة , والنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق ، ويأتي الفضل زيادة ونافلة غير الأجر والثواب الذي كتبه الله عز وجل ، قال سبحانه [لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ]( ).
لقد ذكرت آية البحث إستبشار شهداء أحد بفضل الله، وهو أعم من أن يختص بهم، وهل الإستبشار بهذا الفضل العظيم خاص بهم بحسب منطوق الآية , أم أنه أعم موضوعاً وحكماً، المختار هو الثاني من جهات:
الأولى : يستبشر المسلمون بفضل الله على الشهداء.
الثانية : يستبشر ويفرح المسلمون لأن الشهداء أقاموا عند الله وفي حال إستبشار.
الثالثة : شمول المسلمين والمسلمات الأحياء بفضل الله الذي تذكره آية البحث بلحاظ عدم تعيين الجهة التي يتوجه إليها، فإن قيل وكذا لم تتعين جهة الصدور .
الجواب إنه فضل من عند الله عز وجل، وتقدير آية البحث يستبشرون بنعمة وفضل من الله، أو يستبشرون بنعمة وفضل من الله.
قوله تعالى [وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ]
الأجر : الجزاء الذي يعطى للعامل على عامله وهو على أقسام :
الأول : ما يدفع للعامل قبل العمل .
الثاني : ما يدفع للعامل أثناء العمل .
الثالث : ما يدفع للعامل بعد انجاز عمله , ويمكن تقسيمه إلى قسمين :
اولاً : ما يدفع للعامل حالما ينجز عمله .
ثانياً : الأجر الذي يأتي متأخراً .
(عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه) ( ).
ويمكن تقسيم الأجر تقسيماً استقرائياً آخر وهو :
الأول : الأجر المشروط .
الثاني : الأجر غير المشروط .
وهو نوع مفاعلة بين :
الأول : المؤجر بالكسر .
الثاني : الأجير أو المستأجر .
الثالث : العمل المؤجر عليه .
الرابع : الأجر والعوض .
وليس من حد أو منتهى للأجر الذي يأتي من عند الله ، ويتصف الأجر من عند الله بأمور :
الأول : الأجر من عند الله فضل ورحمة .
الثاني : إعانة الله عز وجل العبد وتقريبه للعمل لينال الأجر .
الثالث : مضاعفة الأجر أضعافاً كثيرة ، قال تعالى [مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ] ( ).
الرابع : صيرورة الأجر من عند الله عز وجل ضياء ينير دروب المؤمنين، وهو من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
الخامس : مجئ الأجر من عند الله عز وجل في الدنيا والآخرة ، فينقطع العمل وأجره بين الناس في الدنيا فلا يتبايعون وليس من عقد إجارة أو نحوه بينهم في الدنيا ، ولكن الأجر من الله متصل في الآخرة .
السادس : إنتفاع الغير من عمل العبد ، إذ يترشح الأجر والثواب على الوالدين وغيرهم والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر .
فات قلت يأتي الثواب للآمر بالخير والزاجر عن الشر بعمله وحسن فعله وسعيه لإصلاح الناس , والجواب هذا صحيح ، ولكن يأتيه ثواب آخر من عمل الناس بنصيحته وأمره بفعل العمل الصالح ونهيه عن السيئات .
أختتمت آية البحث بذكر المؤمنين , والمراد منه على وجوه :
الأول : أهل البيت الذين آمنوا صدّقوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : المؤمنون من أهل مكة في بداية الدعوة الإسلامية وشطر منهم مستضعفون لاقوا الأذى والتعذيب الشديد من رؤساء قريش وقد مات عدد منهم تحت التعذيب مثل ياسر وسمية والدي الصحابي عمار.
الثالث : الذين إختاروا الهجرة إلى الحبشة والمدينة سواء قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو بعدها ، هل المهاجرون من جهة أجر ذات الهجرة بعرض واحد ومتساوون فيه , وإن تقدم أو تأخر بعضهم لحين الفتح .
الجواب لا ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ]( ) والمهاجرون على أقسام :
الأول : الذين هاجروا بأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء الذين هاجروا إلى الحبشة أو المدينة .
ولما كثر تعذيب كفار قريش للمسلمين الذين كان عددهم بازدياد مع هذا التعذيب , وهو معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للتضاد الظاهري بين التعذيب على أمر وإقبال الناس عليه ، فليس في هذا الإقبال والإنتماء للإسلام رياءً ولا نفاق ولا إرادة مصلحة شخصية فقد كان التعذيب يؤدي إلى الموت أحياناً ، وقد يتم قتل المؤمن في مكة إبتداء وغيلة خاصة مع عدم وجود عشيرة تذب عنه ويخُشى جانبها .
لقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالتفرق في الأرض مع رجاء أن يجمعهم الله عز وجل (قالوا إلى أين نذهب قال إلى ها هنا واشار بيده إلى ارض الحبشة فهاجر إليها ناس ذوو عدد منهم من هاجر بأهله ومنهم من هاجر بنفسه حتى قدموا أرض الحبشة) ( ).
ولم يكن الذين هاجروا من المستضعفين في مكة بل كانوا من خاصة قريش ، ومنهم من خرجت معه زوجته ليكون شاهداً على جهاد المرأة في الإسلام ، وتضحيتها في سبيل الله .
وعن الزهري (فكان اول من خرج عثمان بن عفان معه امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قيل إن اول من هاجر إلى ارض الحبشة حاطب بن عمرو بن عبد شمس ابن عبد ود أخو سهيل بن عمرو وقيل هو سليط بن عمرو وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة هاربا عن ابيه بدينه ومعه امرأته سهلة بنت سهيل مسلمة مراغمة لابيها فارة عنه
بدينها فولدت له بأرض الحبشة محمد بن ابى حذيفة ومصعب بن عمير و عبدالرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الاسد ومعه امرأته أم سلمة بنت أبى أمية وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب ومعه امرأته ليلى بنت ابى خيثمة بن
غانم العدوية وابو سبرة بن أبي رهم العامري وامرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو) ( ).
كما خرج جعفر بن أبي طالب ومعه امرأته اسماء بنت عميس فولدت له في الحبشة محمداً وعبد الله وعوناً .
ومن معاني خاتمة آية البحث أن الشهداء لما وفدوا على الله سبحانه تلقاهم بالبشارة العظمى بقانون عدم تضييعه لعمل وسعي المؤمنين والمؤمنات في الدنيا والآخرة .
وهل ينحصر المراد من خاتمة آية البحث بالأجر في عالم الآخرة استصحابا لموضوع أجر الشهداء وإحيائهم في مقامات العز والرفعة عند الله أم المراد المعنى الأعم في النشأتين .
الجواب هو الثاني , فالمراد من الأجر هو الأجر في الدنيا والآخرة لبيان قانون وهو أن الجزاء من عند الله أعم من أن يختص بعالم الآخرة فيشمل الحياة الدنيا أيضاً , ومنه إصلاح المسلم للثواب الأخروي .
من وجوه تقدير آية البحث : ويستبشر الشهداء بقانون وهو أن الله لا يضيع أجر المؤمنين ، ليكون من فضل الله على الشهداء إطلاعهم على التدوين والتوثيق السماوي للصالحات التي يعملها المسلمون والمسلمات ،
ولم تذكر الآية ما قد يرتكب المسلم من الذنوب وفيه بشارة العفو والمغفرة من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ]( ).
لقد أختتمت آية البحث بقانون بينه وبين أولها من جهة الموضوع والحكم عموم وخصوص مطلق ، وخاتمة الآية أعم لأنها لا تختص بالشهداء الذين قتلوا في معركة أحد ، إنما تشمل وجوهاً :
الأول : المهاجرون والأنصار الذين خرجوا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد .
الثاني : أهل البيت والصحابة الذين لبوا نداء النبوة في اليوم التالي لمعركة أحد وتوجهوا إلى حمراء الأسد ، ليفوزوا بتوثيق فعلهم وخلوده في الدنيا والآخرة بما ورد في الآية التالية [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ] ( ) .
الثالث : عموم المؤمنين والمؤمنات من الملل السابقة [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
الرابع : إرادة أداء المسلمين والمسلمات الفرائض العبادية وعمل الصالحات .
الخامس : الذين هداهم الله للتوبة والإنابة ، ومنهم من قاتل المسلمين في معركة أحد ، وقتل عدداً من الشهداء الذين نزلت آية البحث بالثناء عليهم , والإخبار عن خلودهم في النعيم وإبتداء هذا النعيم من حين مفارقتهم الحياة الدنيا .
(عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منبره يقول يا ايها الناس توبوا إلى الله عز وجل قبل ان تموتوا وبادروا بالاعمال الصالحة وصلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له وكثرة الصدقة في السر والعلانية توجروا وتحمدوا وترزقوا .
واعلموا ان الله عز وجل قد فرض عليكم الجمعة فريضة مكتوبة في مقامي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة من وجد إليها سبيلا فمن تركها في حياتي أو بعدي جحودا بها واستخفافا بها وله امام عادل أو جائر فلا جمع الله له شمله الا ولا بارك الله له في أمره , ألا ولا صلاة له ألا ولا وضوء له , الا ولا زكاة له , الا ولا حج له , الا ولا وتر له حتى يتوب فان تاب تاب الله عليه , الا ولا تؤمن امرأة رجلا , الا ولا يؤمن أعرابي مهاجرا , الا ولا يؤمن فاجر مؤمنا , الا ان يقهره سلطان يخاف سيفه وسوطه) ( ).
مع ورود لفظ [أجر] في القرآن سبعا وستين مرة بصيغة المفرد المرفوع والمنصوب والمجرور فانه لم يرد في سورة البقرة وهي أكثر سور القرآن آيات وكلمات وفيها أحكام كثيرة في العبادات والمعاملات والحلال والحرام.
إنما ورد هذا اللفظ أربع مرات في سورة آل عمران ومنه آية البحث ، نعم ورد في سورة البقرة بلفظ [أَجْرُهُمْ] أربع مرات منها [لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
ولم يرد لفظ (أجر المؤمنين ) في القرآن إلا في آية البحث لبيان موضوعيتها والحاجة إليها على نحو التعيين ، ولا تختص هذه الحاجة بالمؤمنين من أهل الدنيا بالذات إنما تشمل غبطتهم وسعادتهم للفوز العظيم الذي ناله شهداء معركة أحد لأنهم أسسوا لمفاهيم في الدفاع وسنوا سنة في صّد الذين كفروا بما يبعث الخوف في نفوسهم من تكرار وتوالي الهجوم على المدينة ، وما هو أكبر من هذا عجزهم عن جمع وتحشيد القبائل لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من عمومات قوله تعالى[ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ]( ).
ليكون من الإعجاز في طواف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على القبائل قبل الهجرة النبوية زجرهم عن إتباع ونصرة كفار قريش في محاربتهم له وللتنزيل .
ويذكر بعض المؤلفين ورجال التفسير في المقام قريشاً فقط من غير تقييد بالكفار منهم ، ولا يخلو من إشكال لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وعدد كبير من أصحابه من قريش ووقفوا في الميدان يقاتلون الكفار, وإن كان الإنصراف في المقام قرينة.
نعم قد دعا رسول الله على قريش ولكنه خصّ رجالاً من الكفار بعد العموم .
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما آذاه كفار قريش في البيت وهو يصلي , ورد عن ابن مسعود أنه لما قضى صلاته قال : اللهم عليك بقريش ثلاثا ثم سمى اللهم عليك بعمرو بن هشام يعني أبا جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة ابن أبي معيط وعمارة بن الوليد قال ابن مسعود فلقد رأيتهم صرعى يوم بدر)( ).
ومن الصحابة من كان يقاتل إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبوه أو أخوه مع المشركين فلابد من التقييد ، فان قلت قد جاء أبو عامر الفاسق مع كفار قريش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من الأوس .
فهل تنخرم قاعدة خروج الأوس والخزرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد ، الجواب لا ، فلا عبرة بالقليل النادر بالإضافة إلى أن ابنه حنظلة خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد في أيام عرسه ولم يغتسل حين قام عن امرأته واستشهد يومئذ فغسلته الملائكة ، وإنفرد بصفة بين المسلمين وهو (غسيل الملائكة) وصارت ذريته تفتخر وتعتز بها ، وتتخذها سبيل هداية وأسوة حسنة .
وفي الآية وعيد للذين كفروا بأن الأذى الذي يصدر منكم نحو المؤمنين بالله ورسوله سبب لفوزهم بالثواب العظيم من عند الله ، وهل تتضمن الآية الإنذار للذين كفروا بأن الله عز وجل يرجع كيدهم إلى نحورهم ، الجواب نعم ، فمن معاني أجر المؤمنين في الدنيا النصر والغلبة وتفضل الله عز وجل وأنزل الملائكة مدداً وعضداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم بدر وأحد .
(قال ابن عباس : بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالصوت فوقه وصوت الفارس يقول : أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه ، فخر مستلقياً فنظر إليه فإذا هو قد خطم وشق وجهه كضربة السوط ، فاحضر ذلك أجمع .
فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : صدقت ، ذاك من مدد السماء الثالثة فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين .) ( ).
فاذا قال الأحياء من المؤمنين هذا جزاء الشهداء بصيرورتهم أحياء عند الله ، فما هو جزاؤنا العاجل من النعم والفضل الإلهي إبتداء الآية التالية بالثناء عليهم بقوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ]( ).
وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ولا يضيع الله أجر المؤمنات ، قال تعالى [لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ] ( ).
الثاني : ولا يضيع الله أجر المؤمن ، فمن فضل الله أن المؤمن قد يكون داعياً إلى الله آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر , لا تأخذه في الله لومة لائم ، وقد ورد القرآن في نعت إبراهيم عليه السلام بأنه أمة ، قال تعالى [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ] ( ).
الثالث : أن الله لا يضيع أجر المؤمنين والمؤمنات إذ جاء التذكير في الآية للغالب .
الرابع : أن الله لا يضيع أجر المؤمنة .
ومن مفاهيم هذا المعنى بعث المسلمة على التقوى , والإخبار بحضور الثواب على أقسام بلحاظ مناط التقسيم منها :
الأول : الثواب العاجل .
الثاني : الثواب الآجل .
ومنها:
الأول : الثواب الدنيوي .
الثاني : الثواب الأخروي .
وهل تختص الآية بالثواب الأخروي بلحاظ موضوع نزولها وهو حال السعادة التي تعم الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله وتحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب لا .
وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين بربوبيته المطلقة.
الثاني : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين والمؤمنات الذين يؤمنون بالأنبياء والكتاب .
الثالث: وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين يخشون الله بالغيب ، قال تعالى [الم*ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ *الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ] ( ).
الرابع : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين بأن النصر من عنده سبحانه وأنه أدخره إلى أنبيائه وعباده الصالحين .
الخامس : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين بعالم الآخرة والوقوف بين يديه للحساب .
السادس : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين [الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ]( ) .
السابع : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين منّ عليهم برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من لطف الله عز وجل أنه يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم رحمة ويقرب الناس إلى منازل الطاعة ويثيبهم عليها .
الثامن : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين قتلوا في سبيله في معركة بدر وأحد .
التاسع : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين أصيبوا بالجراحات يوم معركة أحد .
العاشر : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي لمعركة أحد لمطاردة العدو مع ما فيهم من القروح والجراحات التي هي أيضاَ في سبيل الله .
لقد أختتمت آية البحث بجمع المذكر السالم [الْمُؤْمِنِينَ] في سياق الأخبار عن جزائهم من عند الله جزاءً حسناً ، ثم إبتدأت الآية التالية بالاسم الموصول [الَّذِينَ] ويصح تقدير خاتمة الآية : وان الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم الثاني لمعركة أحد خلف العدو .
ولكن هل تفيد الآية الحصر في المراد من المؤمنين الذي أختتمت به آية البحث ، الجواب لا ، وهو من أسرار وجود فاصلة بين كل آيتين لما في الفاصلة بين الآيتين من الأمارة على استقلال الموضوع والدلالة .
ويكون تقدير خاتمة آية البحث على وجوه :
الأول : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين يستبشرون بفضله وبلحاظ أن هذا الإستبشار سبب للأجر والثواب ، وهل من عمومات قوله تعالى [لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ] ( ) الجواب المراد من الشكر قول الحمد لله والشكر لله والشكر الفعلي الذي يتجلى بوضوح على الجوارح والأركان بأداء الأفعال العبادية ، ولكن ذات الإستبشار بفضل الله إقرار بنعمته سبحانه وتسليم بحضور مشيئته وفضله .
بحث بلاغي
من ضروب البديع التعليل , ولا تنحصر الحاجة للتعليل بعلوم البلاغة إذ يتقوم علم الأصول بالتعليل ، فمن خصائص الإجتهاد التحقيق والتنقيب والبحث عن العلة لاستنباط الحكم الشرعي من أدلته التفصيلية .
والعلة لغة الداعي والسبب والأمر الطارئ ومنه علة المريض والباعث والمؤثر ، أما في إصطلاح الفقهاء فهي الوصف الباعث على الحكم , بالنص من الشارع كالاسكار علة لتحريم الخمر , وتفصل النص ذي الدلالة الظنية، ويشمل الربط بين العلة والمعلول .
ويثبت الحكم بالعلة ، أما لو انعدمت العلة فلا يلزم نفي الحكم .
ونسب إلى المعتزلة القول بأن العلة هي الوصف المؤثر بذاته في الحكم بناء على نفيهم للقدر ، ولكن القرآن يبين أن الوصف المؤثر في الحكم إنما هو بجعل من الله عز وجل سواء على القول باثبات الأسباب والإقرار بالقدر أو بلحاظ آيات القرآن.
فان قوله تعالى [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] ( )علة وسبب لوجوب الصوم ، وما رؤية الهلال إلا إيذاناً ببدء شهر الصيام ، مثلما يكون دخول وقت الصلاة ورفع الأذان إخباراً عن لزوم أدائها .
وكذا فان القتل العمد بغير حق علة للقصاص لقوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ).
وقالوا في حسن التعليل أنه يقوم على إدعاء علة غير حقيقة أو أنه يتقوم بالخيال وسياحة البال في السراب من غير تقيد بأحكام العقل وقواعد المنطق، ويستدل عليه بأقوال للشعراء كما في قول المتنبي يمدح هارون بن عبد العزيز :
(لم يَحْكِ نائلَكَ السَّحابُ وإَّنما … حُمَّتْ به فصبيبُها الرَُّحَضاءُ) ( ).
أي أن السحب تمتنع عن التشبه بجودك وكرمك بسبب الحمى التي دبت فيها لحسدها لك .
وهذا خلاف المتبادر من مفهوم الحسن للتعليل إذ أن أحسنه ما يكون عن صدق وملائم للعقل ، وليس من مانع من أن يكون حسن التعليل ما يوافق العقل والحكمة ، وهو الذي يتجلى بالقرآن ، ومن وجوه خاتمة آية البحث أنها علة للثواب العظيم الذي فاز به الشهداء .

بيعة العقبة
لقد كان عدد الذين بايعوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في بيعة العقبة الثانية ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين ، ويسمى بعض كتاب السير هذه البيعة : بيعة العقبة الثالثة ، ولابد من توحيد العناوين في المقام .
ومنهم (باب الهمزة: أبي – بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد التحتية – ابن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، وهو تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن عمرو بن حبيب – بفتح المهملة وكسر الموحدة – ابن حارثة بن غضب بفتح الغين وسكون الضاد المعجمتين.
أسعد بن زرارة – بضم الزاي – ابن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار الخزرجي النجاري أبو أمامة.
أسيد – بضم أوله وسكون التحتية – ابن حضير – بحاء مهملة مضمومة فضاد معجمة مفتوحة فراء – ابن سماك – بكسر السين المهملة وآخره كاف – ابن عتيك – ككريم – ابن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الاشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الاوس الاشهلي يكنى أبا يحيى وقيل كنيته أبو عتيك.
أوس بن ثابت – بالمثلثة – ابن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة – بفتح الميم – ابن عدي بن مالك بن النجار بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج أخو حسان بن ثابت رضي الله عنه.
أوس بن زيد بن أصرم، ذكره ابن عقبة فيهم.
الباء الموحدة: البراء – بفتح الموحدة فالراء ممدودا مخففا – ابن معرور – بميم مفتوحة
فعين مهملة ساكنة فراء مضمومة فواو فراء أخرى – ا بن صخر – بصاد مهملة مفتوحة فخاء معجمة – ابن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج، وهو أول من بايع ليلتئذ في قول ابن إسحاق، وأول من أوصى بثلث ماله.
بشر بن البراء بن معرور.
بشير – بفتح أوله وكسر المعجمة بعدها مثناة – ابن سعد بن ثعلبة بن جلاس – بضم الجيم مخففا وضبطه الدار قطني بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام – ابن زيد بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج.
بهيز – بضم أوله وفتح الهاء وسكون التحتية، قال في النور: وآخره زاي، وضبطه الحافظ في الاصابة بالراء: وقيل: أوله نون بدل الموحدة – ابن الهيثم بن عامر، وقيل ابن نابي بن مجدعة – بفتح الميم وسكون الجيم، وبالعين المهملة – ابن حارثة بن الحارث ابن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الاوس الاوسي الحارثي.
الثاء المثلثة: ثابت بن الجذع – واسم الجذع ثعلبة، والجذع بكسر الجيم وبالذال المعجمة كذا قال في النور، وفي نسخة صحيحة من العيون بضم الجيم وفتح الذال وفي نسخة صحيحة من سيرة ابن هشام بفتحها – ابن زيد بن الحارث بن حرام بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج الخزرجي السلمي.
ثعلبة بن عبيد بن عدي: قال الذهبي في التجريد: (ذكره ابن الجوزي في التلقيح).
قال الحافظ: (أخشى أن يكون وقع في اسم أبيه تصحيف وهو ثعلبة بن عنمة – بعين مهملة ونون فميم مفتوحات – ابن عدي بن نابي بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة السلمي الخزرجي).
الجيم: جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب ابن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج الخزرجي السلمي.
جبار – بجيم مفتوحة فباء موحدة مشددة فراء – ابن صخر بن أمية بن خنساء – ويقال خنيس

  • ابن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة الحزرجي ثم السلمي أبو عبد الله.
    الحاء المهملة: الحارث بن قيس بن خلدة – بفتح الخاء المعجمة واللام ويقال خالد – ابن مخلد – بضم الميم فخاء معجمة فلام مشددة مفتوحتين – ابن عامر بن زريق (بن عامر بن زريق) بن عبد حارثة بن مالك بن غضب – بغين مفتوحة فضاد ساكنة معجمتين – ابن جشم ابن الخزرج الخزرجي ثم الزرقي، أبو خالد.
    الخاء المعجمة: خارجة بن زيد بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك الاغر ابن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث الخزرجي.
    خالد بن زيد بن كليب – بضم الكاف – ابن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار (واسمه) تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج (الاكبر) أبو أيوب الخزرجي النجاري.
    خالد بن عمرو بن عدي بن نابي بن عمرو بن سواد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة (الخزرجي) اسلمي.
    خالد بن قيس بن مالك بن العجلان بن مالك بن عامر بن بياضة (ابن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج الاكبر الخزرجي البياضي.
    خديج بن سلامة – وقيل بن سالم بن أوس بن عمرو بن القراقر – بقافين وراءين مهملتين – ابن الضحيان البلوي نسبا الانصاري حلفا، حليف لبني حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة من الانصار.
    خلاد – بفتح أوله وتشديد اللام وآخره دال مهملة – ابن سويد بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرئ القيس بن مالك الاغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج الاكبر الانصاري الخزرجي الحارثي (من بلحارث بن الخزرج).
    الذال المعجمة: ذكوان بن عبد قيس بن خلدة – أخو الحارث السابق – ابن مخلد بن عامر بن زريق أبو السبع – بسين مهملة فباء موحدة، كان خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فهو مهاجري أنصاري.
    الراء: رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق بن عامر بن عبد
    حارثة بن مالك بن بن غضب بن جشم بن الخزرج الخزرجي الزرقي.
    رفاعة – بكسر الراء وتخفيف الفاء وفتح العين المهملة – ابن رافع بن مالك بن العجلان الخزرجي الزرقي.
    رفاعة بن عبد المنذر بن زنبر – بزاي مفتوحة فنون ساكنة فموحدة مفتوحد – ابن زيد بن أمية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الاوس أبو لبابة الاوسي.
    رفاعة بن عمرو بن زيد – وقيل ابن نوفل وقيل ابن عمرو وقيل ابن قيس – ابن ثعلبة بن جشم بن مالك بن سالم بن غ نم بن عوف بن الخزرج الخزرجي أبو الوليد.
    الزاي: زياد بن لبيد – بفتح اللام وكسر الموحدة وسكون التحتية وآخره دال مهملة – ابن ثعلبة بن سنان بن عامر بن عدي بن أمية بن بياضة – بالمعجمة – ابن عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج الخزرجي البياضي.
    زيد بن سهل بن الاسود بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار الخزرجي النجاري أبو طلحة (وهو مشهور بكنيته وهو زوج أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك.
    السين المهملة: سعد بن خيثمة – بخاء مفتوحة فمثناة تحتية فمثلثة فميم فهاء تأنيث – ابن الحارث بن مالك بن كعب بن النحاط – بنون فحاء وطاء مهملتين بينهما ألف – ابن كعب بن حارثة بن غنم بن السلم – بسين مهملة مشددة فلام ساكنة – ابن امرئ القيس بن مالك بن الاوس الاوسي أبو خيثمة.
    سعد بن الربيع – بفتح الراء – ابن عمرو بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك الاغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج.
    سعد بن زيد بن مالك بن عبد بن كعب بن عبد الاشهل الاوسي الاشهلي.
    مضمومة فباء موحدة مخففة – ابن دليم – بدال مهملة مضمومة فلام مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة – ابن حارثة بن أبي حزيمة – بحاء مهملة مفتوحة فزاي مكسورة فمثناة تحتية، قال في الاملاء: هذا هو الصواب وكذا قيده الدار قطني ويروى بخاء مضمومة وزاي مفتوحة – ابن ثعلبة بن طريق – بالطاء المهملة المفتوحة وبالفاء – ابن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن
    الخزرج، يكنى أبا ثابت (وقيل) أبا قيس، سيد الخزرج.
    سلمة – بفتح أوله وثانيه – ابن سلامة بن وقش – بفتح الواو وإسكان القاف وتفتح – ابن زغبة – بزاي مضمومة فغين معجمة ساكنة، فموحدة مفتوحة فتاء تأنيث – ابن زعوراء بن عبد الاشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن مالك بن الاوس الاوسي الاشهلي، سليم بن عمرو – أو عامر – ابن حديدة – بفتح الحاء المهملة – ابن عمرو بن غنم بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة، السلمي.
    سنان بن صيفي بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة الخزرجي السلمي.
    سهل بن عتيك – ككريم – ابن النعمان بن عمرو بن عتيك بن عمرو بن مبذول – بالذال المعجمة اسم مفعول – وهو عامر بن مالك بن النجار الخزرجي.
    الشين المعجمة: شمر بن سعد بن ثعلبة، كذا في التلقيح ولم أره في غيره.
    الصاد المهملة: صيفي بن سواد بن عباد بن عمرو بن غنم بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة السلمي.
    الضاد المعجمة: الضحاك بن زيد بن الطفيل، كذا في التلقيح ولم أره في غيره.
    الضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة الخزرجي ثم السلمي.
    الطاء المهملة: الطفيل بن مالك بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب السلمي.
    الظاء المعجمة: ظهير – بالتصغير – ابن رافع بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو – وهو النبيت – ابن مالك بن الاوس الاوسي.
    العين المهملة: عامر بن نابي – بالنون وبالموحدة – ابن زيد بن حرام.
    عبادة – بضم أوله وتخفيف الموحدة – ابن الصامت – بكسر الميم – ابن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج الخزرجي أبو الوليد.
    عباد – بفتح أوله وتشديد الموحدة – ابن قيس – بالمثناة التحتية – ابن عامر بن خالد بن مخلد – كمحمد – ابن عامر بن
    زريق الزرقي.
    العباس بن عبادة بن نضلة – بنون مفتوحة فضاد معجمة ساكنة – ابن مالك بن العجلان الخزرجي – عبد الله بن أنيس – بضم أوله مصغرا – ابن أسعد بن حرام بن حبيب بن
    مالك بن غنم بن كعب بن ناشز – بالنون والشين المعجمة والزاي – ابن يربوع – بمثناة مفتوحة فراء ساكنة فموحدة مضمومة فعين مهملة – ابن البرك – بموحدة مضمومة فراء ساكنة فكاف – ابن وبرة – بفتح الواو فالموحدة والراء، وعند ابن عمر: تيم بن نفاثة – بنون مضمومة ففاء ومثلثة – ابن إياس بن يربوع، دخل البرك في جهينة حليفا لهم.
    عبد الله بن جبير – بضم الجيم وفتح الموحدة – ابن النعمان بن أمية بن امرئ القيس – وهو البرك – بضم الموحدة وفتح الراء وبالكاف – ابن ثعلبة بن عمرو (بن عوف بن مالك بن الاوس الاوسي (ثم من بني ثعلبة بن عمرو.
    عبد الله بن الربيع بن قيس بن عمرو بن عباد بن الابجر – بفتح الهمزة فموحدة ساكنة فجيم مفتوحة فراء، والابحر هو خدرة – بضم الخاء المعجمة وإسكان الدال المهملة – ابن عوف بن الحارث بن الخزرج الخزرجي.
    عبد الله بن رواحة – بالفتح ومهملة مخففا – ابن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الاكبر بن مالك الاغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج الخزرجي.
    عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه بن زيد من بني جشم بن الحارث بن الخزرج، الخزرجي الحارثي ويكنى أبا محمد وهو الذي أري الاذان في النوم.
    عبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج الخزرجي السلمي، يكنى أبا جابر والد جابر بن عبد الله.
    عبس – بفتح أوله وسكون الباء وبالسين المهملة – ابن عامر بن عدي بن نابي بن عمرو بن سواد بن تميم بن كعب بن سلمة السلمي.
    عبيد – بضم أوله بغير إضافة – ابن التيهان، أخو أبي الهيثم.
    عقبة – بضم أوله – ابن عمرو بن ثعلبة بن أسيرة – بضم الهمزة وفتح المهملة – ابن عسيرة، واختلفوا في تقييد عسيرة فمنهم من يفتح العين ويكسر السين المهملتين ومنهم من يضم العين ويفتح السين – ابن
    عطية بن خدارة – بالخاء المعجمة المضمومة، وبعضهم يقول بجيم مضمومة ومكسورة – ابن عوف بن الحارث بن الخزرج أبو مسعود البدري.
    عقبة بن وهب بن كلدة – بفتح الكاف واللام والدال المهملة – ابن الجعد – بفتح الجيم وسكون العين وبالدال المهملتين – ابن هلال بن الحارث بن عمرو بن عدي بن جشم بن عوف – بالفاء – ابن بهثة بن عبد الله بن غطفان – بفتح الغين المعجمة والطاء المهملة والفاء – ابن قيس بن عيلان الغطفاني، حليف لبني سالم بن غنم بن عوف بن الخزرج.
    قال ابن اسحاق: (كان أول من أسلم من الانصار ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فلم يزل معه حتى هاجر فكان يقال له مهاجري أنصاري).
    عمارة – بضم أوله والتخفيف – ابن حزم بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار، الخزرجي النجاري.
    عمرو بن الجموح – بفتح الجيم وضم الميم وبالحاء المهملة – ابن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة السلمي من بني جشم بن الخزرج.
    عمرو بن الحارث بن كندة بن عمرو بن ثعلبة من القواقل شهد العقبة الثانية قاله ابن إسحاق.
    عمرو بن عنمة – بمهملة فنون فميم مفتوحات – ابن عدي بن نابي بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة السلمي.
    عمرو بن غزية – بغين معجمة مفتوحة فزاي مكسورة فمثناة تحتية مشددة – ابن عمرو بن ثعلبة بن خنساء بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن – بالزاي – ابن النجار الخزرجي ثم المازني، يقال إنه شهد العقبة، وقال ابن هشام: عمرو بن غزية بن عمرو بن ثعلبة وهو عطية بن خنساء.
    عمير – وقيل عمرو – ابن الحارث بن ثعلبة بن الحارث بن حرام بن كعب ابن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد ا لخزرجي كذا نسبه ابن إسحاق وزاد موسى بن عقبة بين الحارث وثعلبة: لبدة – بكسر اللام وإسكان الموحدة وبالمهملة.
    عمير بن عامر بن نابي بن يزيد بن حرام الخزرجي، قال ابن الكلبي: شهد المشاهد كلها، وأقره الشاطي والحافظ، وقال الحافظ الدمياطي: لم أمر من ذكره في الصحابة غيره.
    عوف بن الحارث بن رفاعة – بكسر الراء – ابن الحارث بن سواد (بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار الخزرجي) النجاري
    يعرف بأمه عفراء، ويقال بحذف الحارث الثاني.
    عويم – بضم أوله وفتح الواو وسكون التحتية بعدها ميم وليس بعدها راء – ابن ساعدة بن عايش – بمثناة تحتية فشين معجمة – ابن قيس بن النعمان بن زيد بن أمية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الاوس الاوسي.
    الفاء: فروة – بفتح الفاء وسكون الراء – ابن عمرو بن ودفة – بفتح الواو وإسكان الدال، قال ابن إسحاق: وهي معجمة وقال ابن هشام: مهملة ورجحه السهيلي وفسره بالروضة – ابن عبيد بن عامر بن بياضة البياضي.
    القاف: قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر بن سواد بن ظفر بن الخزرج (بن عمرو بن مالك بن الاوس) الاوسي ثم الظفري، ذكروه فيهم إلا ابن اسحاق.
    قطبة – بضم أوله وسكون الطاء المهملة – ابن عامر بن حديدة بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة الخزرجي السلمي يكنى أبا زيد.
    قيس بن أبي صعصعة – واسم أبي صعصعة عمرو – ابن زيد بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار الخزرجي المازني.
    الكاف: كعب بن عمرو بن عباد – بفتح العين المهملة وتشديد الباء الموحدة – ابن عمرو بن سواد بن غنم (بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج) الخزرجي السلمي أبو اليسر – بفتح المثناة التحتية والمهملة – كعب بن مالك بن أبي كعب عمرو بن القين – بفتح القاف وسكون المثناة التحتية – ابن كعب بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي – بضم العين المهملة وفتح اللام – ابن أسد بن ساردة أبو عبد الله الخزرجي السلمي – بفتحتين ويقال أبو بشير، ويقال أبو عبد الرحمن.
    الميم: مالك بن التيهان – بمثناة فوقية مفتوحة فمثناة تحتية مكسورة مشددة ويجوز تخفيفها فألف فنون – ابن مالك بن عبيد بن عمرو بن عبد الاعلم بن عامر بن زعوراء بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو وهو النبيت – بفتح النون وكسر الباء الموحدة فمثناة تحتية ساكنة فمثناة فوقية – ابن مالك بن الاوس، أبو الهيثم الاوسي.
    مالك بن الدخشم – بدال
    مهملة مضمومة فخاء ساكنة فشين مضمومة معجمتين فميم ويقال بالنون بدل الميم ويقال كذلك بالتصغير.
  • ابن مالك بن غ نم بن عوف بن عمرو بن عوف، وقيل في نسبه غير هذا.
    قال أبو عمر: لا يصح منه النفاق فقد ظهر من حسن إسلامه ما يمنع من اتهامه بذلك.
    مالك بن رفاعة بن عمرو بن زيد، ذكره الاموي، كذا في العيون ولم أره في التلقيح لابن الجوزي ولا في العجالة للبرهان النووي ولا في الاصابة للحافظ.
    مسعود بن يزيد بن سبيع بن خنساء – ويقال سنان – ابن عبيد بن عدي بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة السلمي..معاذ – بضم أوله وبالذال المعجمة – ابن جبل – بفتح الجيم والموحدة – ابن عمرو بن أوس بن عايذ – بالمثناة التحتية والذال المعجمة – ابن عدي بن كعب بن عمرو بن أدي – بضم الهمزة وفتح الدال المهملة وتشديد المثناة التحتية – ابن سعد بن علي – بضم العين المهملة وفتح اللام – ابن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج، أبو عبد الرحمن الخزرجي الجشمي، الامام المقدم في علم الحلال والحرام رضي الله تعالى عنه.
    معاذ بن الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار الخزرجي، يعرف بأمه عفراء معاذ بن عمرو بن الجموح – بجيم مفتوحة فميم فواو – ابن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة الخزرجي السلمي.
    معقل – بميم مفتوحة فعين ساكنة مهملة فقاف مكسورة فلام – ابن المنذر بن سرح – بسين فراء فحاء مهملات – ابن خناس بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم السلمي، معن بن عدي بن الجد – بفتح الجيم وتشديد الدال المهملة – ابن العجلان بن ضبيعة – بضم الضاد وفتح الموحدة وسكون التحتية وبالعين – ابن حارثة بن ضبيعة بن حرام بن جعل – بضم الجيم وسكون العين المهملة – ابن عمرو بن جشم بن درم بن ذبيان بن هميم – بضم الهاء مصغرا – ابن ذهل – بضم الذال المعجمة – ابن هني بن بلي البلوي، حليف بني عمرو بن عوف.
    معوذ – بالذال المعجمة بلفظ اسم الفاعل – اسم الحارث بن رفاعة، ويعرف بأمه عفراء.
    المنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الخزرجي الساعدي.
    النون: النعمان بن عمرو بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار.
    نهير بن بهير – بالموحدة، وهو نهير بن الهيثم – من بني نابي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الاوس الاوسي.
    الهاء: هانئ – بهمزة آخره – ابن نيار – بكسر النون وتخفيف المثناة التحتية وآخره راء – ابن عمرو بن عبيد بن كلاب بن دهمان – بدال مهملة مضمومة فهاء ساكنة – بن غنم بن ذبيان – بذال معجمة مكسورة ويجوز ضمها فموحدة ساكنة فمثناة تحتية وآخره نون – ابن هميم – بهاء مضمومة فميم مفتوحة فمثناة تحتية فميم أخرى – ابن كاهل – بكسر الهاء – ابن ذهل – بضم الذال المعجمة وسكون الهاء – ابن هني – بفتح الهاء وكسر النون وتشديد التحتية – ابن بلي – بالموحدة واللام وزان علي – ابن عمرو بن الحاف – بالحاء ا لمهملة والفاء ومنهم من يكسر همزته ويقطعها ومنهم من يجعل الالف واللام فيه للتعريف منزلة اسم الفاعل من حفي يحفى – ابن قضاعة – بضم القاف وبالضاد المعجمة حليف لبني حارثة من الانصار.
    المثناة التحتية: يزيد بن ثعلبة بن خزمة – بفتح المعجمتين قاله الدار قطني، وقال ابن إسحاق وابن الكلبي بسكون الزاي – ابن أصرم بن عمرو بن عمارة – بفتح أوله والتشديد – ابن مالك البلوي أبو عبد الرحمن حليف بني سالم بن عوف بن الخزرج.
    يزيد بن خذام – بخاء مكسورة وذال معجمتين، ويقال حرام بالحاء والراء المهملتين – ابن سبيع – بموحدة مصغرا – ابن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة الخزرجي السلمي.
    يزيد بن عامر بن حديدة – بالحاء المهملة – ابن غنم بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة أبو المنذر الخزرجي السلمي.
    يزيد بن المنذر بن سرح – بمهملات – ابن خنان بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة الخزرجي السلمي.
    الكنى: أبو سنان بن صيفي بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة.
    النساء: أسماء بنت عمرو بن عدي بن نابي بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة، أم منيع السلمية.
    نسيبة بفتح النون وكسر السين المهملة – بنت كعب بن عمرو بن عوف بن عمرو بن مبذول بن عمرو بن مازن، أم عمارة)( ).
    ومشهور علماء الإسلام أنها بيعة العقبة الثانية والضابطة فيها من جهات:
    الأولى : مجئ مصعب بن عمير مع الأنصار إلى مكة قادماً من المدينة , فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثه إليه ليعلمهم أحكام الإسلام , ويؤمهم في الصلاة .
    ويدعو الناس للإسلام ومن الآيات استشهاده في معركة أحد ، وشموله بمضامين البحث وأنه من الأحياء عند الله في رزق كريم وحال إستبشار دائم بفيض الله .
    الثانية : ورود الأخبار عن الأنصار بأنهم قدموا إلى مكة مع حجاج قومهم من أهل الشرك .
    فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند العقبة من أواسط أيام التشريق ، والأولى تعيين موضع بيعة العقبة , وبناء مسجد عليه اسمه مسجد العقبة مع بيان لزواره بخصوص بيعة العقبة الأولى والثانية وطبع الكتب والنشرات والسيديات الخاصة به .
    الثالثة : تعيين عدد الأنصار الذين حضروا بيعة العقبة (قال ابن إسحاق: إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الانصار من المسلمين مع حجاج قومهم من أهل الشرك، حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أواسط أيام التشريق، حين أراد الله بهم من كرامته والنصر لنبيه وإعزاز الاسلام وأهله , وإذلال الشرك وأهله .
    فحدثني معبد بن كعب بن مالك، أن أخاه عبد الله بن كعب، وكان من أعلم الانصار، حدثه أن أباه كعبا حدثه، وكان ممن شهد العقبة وبايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بها، قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفقهنا.
    ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا، فلما وجهنا لسفرنا وخرجنا من المدينة قال البراء: يا هؤلاء إنى قد رأيت رأيا، والله ما أدرى أتوافقونني عليه أم لا ؟ قلنا: وما ذاك ؟ قال: قد رأيت أن لا أدع هذه البنية منى يظهر، يعنى الكعبة، وأن أصلى إليها.
    قال: فقلنا والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلى إلا إلى الشام، وما نريد أن نخالفه.
    فقال: إنى لمصل إليها.
    قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل.
    قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام , وصلى هو إلى الكعبة، حتى قدمنا مكة [ قال: وقد كنا عبنا عليه ما صنع وأبى إلا الاقامة على ذلك.
    فلما قدمنا مكة ] قال لى: يا ابن أخى انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنه قد وقع في نفسي منه شئ، لما رأيت من خلافكم إياي فيه.
    قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكنا لا نعرفه ولم نره قبل ذلك، فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: هل تعرفانه ؟ فقلنا: لا.
    فقال: هل تعرفان العباس بن عبدالمطلب عمه ؟ قال: قلنا: نعم.
    وقد كنا نعرف العباس، كان لا يزال يقدم علينا تاجرا، قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس.
    قال: فدخلنا المسجد، وإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس معه
    فسلمنا ثم جلسنا إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للعباس: هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل ؟ قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه، وهذا كعب بن مالك.
    قال: فو الله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الشاعر؟ قال: نعم ؟ فقال له البراء بن معرور: يا نبي الله، إنى خرجت في سفري هذا قد هداني الله تعالى للاسلام، فرأيت ألا أجعل هذه البنية منى بظهر، فصليت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك، حتى وقع في نفسي من ذلك شئ، فماذا ترى ؟ قال: ” قد كنت على قبلة لو صبرت عليها “.
    قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فصلى معنا إلى الشام.
    قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات، وليس ذلك كما قالوا، نحن أعلم به منهم.) ( ).
    الرابعة : حضور امرأتين مع وفد الأنصار في بيعة العقبة هذه وهما :
    أولاً : نسيبة بنت كعب أم عمارة من بني مازن بن النجار وهي التي دافعت وذبت بالسيف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة أحد , وأصيبت بجراحات بالغة .
    ثانياً : أسماء بنت عمرو بن عدي أم منيع من بني سلمة .
    الخامسة : حضور بعض وجهاء الأوس والخزرج , مثل البراء بن معرور وهو رئيسهم عبد الله بن عمرو بن حرام وهو من سادات أهل يثرب وابو جابر بن عبد الله الأنصاري .
    السادسة : زمان بيعة العقبة هذه هو السنة الثالثة عشرة من النبوة وتوافق سنة 622 هجرية .
    السابعة: حضور العباس بن عبد المطلب بيعة العقبة مع أنه على دين قومه وأراد أن يستوثق لابن أخيه خاصة وان كثيراً من الأنصار يعرفونه ولهم معه معاملات في التجارة والبيع والشراء ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ*إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ *فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( ).
    والخلاف هل هذه هي بيعة العقبة الثانية أو الثالثة صغروي وأن الذي يقول الثالثة يطلق اسم البيعة على أول لقاء بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجماعة من الأوس والخزرج فيكون كالآتي :
    بيعة العقبة الأولى : كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بدايات الدعوة يحضر في بعض أسواق العرب مثل سوق عكاظ وسوق ذي المجاز وسوق المجنة يدعو الناس إلى كلمة التوحيد ، ويزور القبائل في رحالهم ويحضر منتدياتهم , كما تقدم ذكره , ويسألهم ان يمنعوه ويذبوا عنه ليقوم بتبليغ رسالته متخذاً من الأشهر الحرم وحرمة القتل فيها غطاء وواقية، وهي شهر ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ، وشهر رجب ، قال تعالى[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ] ( ) وكان النبي يغشى القبائل في شهر ذي القعدة وذي الحجة ولا تستطيع قريش إيذاءه ، ولكن كانوا يقومون بتنبيه وتحذير القبائل منه ومن الإستماع إليه .
    وفي السنة الحادية عشرة من البعثة النبوية الشريفة وقبل الهجرة إلى المدينة لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ستة نفر من الأوس عند العقبة وهو :
    الأول : أسعد بن زرارة .
    الثاني : قطبة بن عامر بن حديدة , وهو من الخزرج .
    الثالث : جابر بن عبد الله بن رئاب.
    الرابع : معاذ بن عفراء .
    الخامس : عوف بن عفراء .
    السادس : عقبة بن عامر .
    فعرض عليهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام ودعاهم إلى التوحيد ونبذ عبادة الأوثان ، وبيّن لهم أن حج بيت الله الحرام ذاته دعوة إلى التوحيد ، وسألهم كما كان يسأل وفود القبائل الأخرى بأن يمنعوه ، وكان هؤلاء النفر من الأوس يسمعون من اليهود الذين في المدينة علامات نبي آخر الزمان ، ويتوعدونهم به ، وأنه ينتقم لهم من المشركين الذين يؤذونهم كما أنهم سكنوا مدينة يثرب وحواليها بانتظار الطلعة البهية ، وعرفوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفاته .
    فأظهر هؤلاء النفر من الأوس التصديق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدّقوه في نبوته واختلف في أول من أسلم منهم على أقوال :
    الأول : أسعد بن زراعة.
    الثاني : قطبة بن عامر ، وكان يقول في أيام الجاهلية لا إله إلا الله .
    الثالث : أبو هيثم بن التيهان، وكان في أيام الجاهلية لا يقرب الأوثان ، ولم يذكر اسمه في النفر أعلاه ، ولابد أنه اسلم قبل أن يلتقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهؤلاء الستة من الأوس .
    ولكن لم تقع في هذا اللقاء بيعة وعهود ومواثيق ، وهو من أسباب عدم تسميتها بالبيعة .
    بيعة العقبة الأولى : وتسمى هذه البيعة الأولى عند المشهور إذ رجع هؤلاء النفر الستة إلى مدينة يثرب بأعظم هدية يرجع بها وفد الحاج إلى قومهم حيث أخذوا يذيعون نبأ بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكيف أنه عرض عليهم الإسلام ، ودعاهم إلى الإيمان وعقيدة التوحيد ،
    وصار الناس يتدبرون في خصاله وصفاته وعلاماته التي أخبر عنها يهود المدينة ، واستجابت طائفة من الناس للدعوة إلى الإسلام ، وأصبح حديث المدينة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وصارت آيات وسور القرآن المكية تتلى في نواديهم ، وفي الأسواق ويهود بني النضير وقينقاع وقريظة ينصتون لها , قال تعالى[لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( ).
    حتى اذا جاء موسم الحج في السنة الثانية عشرة للهجرة النبوية الشريفة، جاء من المدينة اثنا عشر رجلاً , هؤلاء الستة الذين التقوا بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة السابقة وستة آخرون معهم وهم :
    الأول : أبو الهيثم بن التيهان .
    الثاني : عبادة بن الصامت .
    الثالث : عويم بن ساعدة .
    الرابع : رافع بن مالك .
    الخامس : ذكوان بن عبد القيس .
    السادس :أبو عبد الرحمن بن ثعلبة .
    والتقى بهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم آيات من القرآن وسألوه عن أمور ومسائل تتعلق بالنبوة والشواهد والدلائل عليها ، فأعلنوا اسلامهم وآمنوا برسالته وتعاهدوا على التباحث والتداول في مسألة منعه والذب والدفاع عنه .
    ثم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث معهم من يصلي بهم ويعلمهم القرآن وتلاوته ، فبعث معهم فتى قريش مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف ، وكان يسمى في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمهدي ومعه ابن أم مكتوم , ولما بلغ عددهم أربعين صلى بهم الجمعة وأسلم كثيرون بدعوته لهم وحثه لهم وتغشيه لمجالسهم ، ومن أسلم على يديه سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدي الأوس والخزرج فدخل الإسلام جميع بني عبد الأشهل إلا ( أصيرم ) الذي لم يسلم إلا يوم معركة أحد ، وقاتل حتى قتل ، ولم يسجد لله بعد سجدة واحدة .
    فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فَقَالَ عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا) ( )
    واسم أصيرم هو عمرو بن ثابت بن وقش ليفوز بالكنوز والذخائر التي أعدّها الله عز وجل لشهداء معركة أحد حاله حال حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وغيرها من الشهداء إذ أنه حي يرزق عند الله ، وفرح واستبشر من جهات :
    الأولى : ما آتاه الله من فضله .
    الثانية : ما أنعم الله به على إخوانه الشهداء .
    الثالثة : حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسلامته .
    الرابعة : صيرورة معركة أحد مناسبة لتثبيت قواعد الإسلام ، فلقد بنى إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت الحرام بقوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( )فان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار وضعوا قواعد الإسلام في معركة أحد وكان للشهداء فيها النصيب الأوفر لأن دماءهم مادة تسقي وتقّوم صرح هذا البناء ، لذا تفضل الله عز وجل عليهم بالنعم العظيمة التي تبينها هذه الآيات .
    وهذا التساوي في الأجر والثواب من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
    لقد ذكرت هذه الآية علة حياة الشهداء من حين مغادرتهم الدنيا بقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) .
    فجعلت الآية أعلاه القتل في سبيل الله علة تامة للفوز بالحياة والرزق الكريم في عالم البرزخ ، ولم تقيد هذه الآيات النعم التي ذكرتها بخصوص معركة أحد ، أو هي ومعركة بدر إنما جاءت الآية مطلقة لتشمل وجوهاً :
    الأول : الذين قتلوا من المسلمين في مكة تحت وطأة التعذيب مثل ياسر وسمية والدي عمار بن ياسر .
    وعمار بن ياسر أبو اليقظان العنسي، وهم بطن من مراد، وقد أسلم عمار في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وكان أبوه ياسر حليفاً لبني مخزوم، فكانوا يخرجون عماراً وأباه وأمه إلى الأبطح عندما تشتد حرارة الشمس وتحمى رمضاء مكة , ويمر عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم بهذه الحال فيقول (صبراً آل ياسر موعدكم الجنة)( ) .
    فأما ياسر فقد مات تحت التعذيب، وأما سمية فأنها أغلظت لأبي جهل القول أثناء تعذيبها فطعنها في فرجها بحربة فماتت، وهي أول شهيدة في الإسلام .
    وهل يشملها مضمون آية البحث والآيتين السابقتين، وهل هي ممن يستبشر بنعمة من الله وفضله اللذين تذكرهما آية البحث , أم أن القدر المتيقن من آية البحث أنها خاصة بشهداء بدر وأحد , لأنهم قاتلوا العدو الكافر في ساحة المعركة.
    الجواب هو الأول، فهي من أهل آية البحث وهي فرط سابق لشهداء بدر وأحد، ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدق نبوته أن يكون الفرط في الشهادة امرأة ماتت تحت التعذيب وأن يكون الذي قام بقتلها هو أبو جهل من أوائل وأشهر الذين قتلوا في معركة بدر , وهي أولى معارك الإسلام، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
    الثاني : الذي أجهز عليه المشركون وقتلوه غدراً .
    الثالث : المهاجرون والأنصار الذين قتلوا في معركة أحد في السنة الثانية للهجرة ، وهم الأصل في سبب نزول آيات البحث , ليكون تقدير الآية أعلاه بحسب اللحاظ على وجوه :
    أولا : ولا تحسبن المسلمين الذين قتلوا في مكة أمواتاً بل أحياء .
    ثانيا : ولا تحسبن المسلم الذي قتل غدراً وغيلة ميتاً , بل هو حي عند الله يرزق .
    ثالثا : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله يوم بدر أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون .
    رابعا : ولا تحسبن الصحابة الذين قتلوا في سبيل الله يوم معركة أحد أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون .
    خامسا : ولا تحسبن الذين يقتلون في سبيل الله في السرايا التي تبعثها في أطراف المدينة أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ، وفي هذا التقدير نكتة تتجلى من جهات :
    الأولى : حث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على إرسال البعوث إلى القرى والمدن حول المدينة ، قال تعالى [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ] ( ).
    الثانية : منع الصحابة من دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى التريث في البعوث .
    الثالثة : مسارعة وتسابق أهل البيت والصحابة في الخروج للجهاد والدفاع لما فيه من عذوبة الحياة من حين الموت , وحلاوة الرزق الكريم الذي عند الله عز وجل .
    الرابعة : زجر ومنع الذين نافقوا من صد المسلمين عن الدفاع وفضحهم في دعوتهم الباطلة للقعود لأنه قعود عن الحظ والرزق وفضل الله في النشأتين.
    الرابع : من خرج مهاجراً إلى الله ورسوله فقتله المشركون ، وهل يلحق به الذي مات في طريق الهجرة أم أن القدر المتيقن من هذه الآيات هم الذين قتلوا بالسيف ونحوه بدلالة النص في الآية أعلاه(الذين قتلوا).
    والمختار هو الأول وأنهم يلحقون بالذين قتلوا في سبيل الله .
    وكان ضمرة بن جندب من المستضعفين في مكة , وكان مريضاً لا يقوى على تحمل تعذيب قريش ولا يقدر على الهجرة، ولكن ما أن أنزل الله عز وجل[وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا]( )، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر طائفة من أصحابه بالهجرة إلى أرض الحبشة حتى قال: أخرجوني، وجهّز له فراش خاص، فمات في الطريق.
    وجاءت الآية أعم وتفيد الندب لنصرة نبي الله ولمنع الإصغاء للذين نافقوا وتوبيخهم وإسقاط ما في أيديهم .
    لقد ندب الله عز وجل المسلمين والمسلمات إلى التحلي بالصبر ، قال تعالى [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] ( ) لتكون آية البحث من مصاديق التخفيف عن المسلمين لأنهم اسلموا أمرهم عند مصيبة فقد سبعين شهيداً في معركة أحد إلى الله عز وجل واقروا بحتمية الرجوع إليه سبحانه ليكون من مصاديق وتقدير الآية وجوه :
    الأول : الذين إذا اصابتهم مصيبة في يوم معركة أحد قالوا أن الشهداء رجعوا إلى الله وهم أحياء عنده يرزقون.
    الثاني : الذين إذا أصابتهم مصيبة فقد أحد المؤمنين بالموت على فراش قالوا إنه يرجع إلى ربه وقد أدى الفرائض العبادية.
    الثالث : الذين إذا إستحضروا مصيبة في زمن متقدم على نزول آية راجعون أعلاه ذكروا الله وسكنت نفوسهم لأن الله عز وجل وعد المؤمنين بالأمن والسلامة في الآخرة، وهو من عمومات قوله تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ) .
    وتبين آية البحث تجلي معاني الكفاية والفضل من عند الله في الآخرة بما هو أكثر وأعظم من أسباب وصيغ الكفاية في الحياة الدنيا.
    لقد كان إرسال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصعب بن عمير إلى المدينة معجزة في السنة التبليغية من جهات:
    الأولى : عدم ترك الأنصار يرجعون بمفردهم إلى المدينة، وقد يعجزون عن الإحتجاج والجدال مع اليهود كأهل كتاب سماوي وأشراف وأهل المدينة.
    الثانية : سلامة مصعب وابن أم مكتوم في الطريق وأثناء وجودهما في المدينة للتبليغ , وإذ إستشهد مصعب في معركة أحد ، فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجعل ابن أم مكتوم محله في إقامة الصلاة في المسجد النبوي عند غيابه في الغزو , وكانت الصلاة يومئذ تقام في عدة مساجد .
    الثالثة : تهيئة وأصحابه مصعب بن عمير مقدمات ونواة دولة الإسلام في المدينة.
    الرابعة : دخول أناس كثيرين في الإسلام بدعوة مصعب .
    الخامسة : إقامة مصعب بن عمير صلاة الجماعة والجمعة في المدينة .
    السادسة : تفقه الأنصار في الدين , والتدارس معهم بآيات القرآن ودلالاتها .
    السابعة : تلقي مصعب ما ينزل من القرآن في مكة على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وقيامه بتبليغه للأنصار ومتابعة أحوال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    وقد يقوم بعض الأنصار بنقل الآيات التي نزلت حديثاً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مصعب وأهل المدينة كما لو كان مسافراً إلى مكة لأداء العمرة أو لأغراض التجارة أو أنه سمع الآيات من الركبان ،
    ومن الإعجاز الغيري للقرآن ميل النفوس إلى الإصغاء له والرغبة في نقله وتناقله ولا يجد الذي ينقله إلى غيره صدوداً وإعراضاً ولا عبرة بالقليل النادر، كما لم يكن يومئذ منافقون.
    الثامنة : قيام رجل من عشيرة وأقارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل مكة بالتبليغ في المدينة المنورة أكثر أثراً وتأثيراً بين الناس .
    وبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سورة براءة بيد أبي بكر ثم بعث الإمام علي عليه السلام ليقوم بالتبليغ .
    (عن سعد بن أبي وقاص : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا بكر ببراءة إلى أهل مكة ، ثم بعث علياً عليه السلام على أثره فأخذها منه ، فكأن أبا بكر وجد في نفسه؟
    فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا بكر أنه لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني .
    وأخرج ابن أبي حاتم عن سعد بن أبي وقاص : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث علياً عليه السلام بأربع : لا يطوفن بالبيت عريان ، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد فهو إلى عهده ، وإن الله ورسوله بريء من المشركين) ( ).
    التاسعة : تجلت في هذا الزمان مسألة السفارات بين الدول , ووجود سفراء للدولة في الأمصار والدول الأخرى ، مع أنه قياس مع الفارق إذ كان مصعب بن عمير سفير النبوة والتنزيل .
    العاشرة : لقد كان مصعب بن عمير سابقاً في إسلامه من الأنصار ، كما أنه كان كثير الحضور عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    بيعة العقبة الثانية : لقد انتشر الإسلام في المدينة وصارت الصلاة تؤدي في البيوت ويعلم بها أهل البلدة من غير إنكار أو احتجاج منهم ، بينما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في البيت الحرام فيلقى الأذى الشديد من قريش .
    وفي عقبة بن معيط قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أتدرون ما صنع هذا بى ؟ جاء وأنا ساجد خلف المقام، فوضع رجله على عنقي وغمزها فما رفعها حتى ظننت أن عيني ستندران، وجاء مرة أخرى بسلا شاة فألقاه على رأسي وأنا ساجد، فجاءت فاطمة فغسلته عن رأسي.) ( ).
    قانون الصحابي
    أبى الله عز وجل إلا أن يجعل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صحابة يشهدون على صدق نبوته ، ويعلمون بالسنن التي جاء بها ، ويقومون بنشر مبادئ الإسلام ، ويجعلونها تركة لمن بعدهم من التابعين وتابعي التابعين ، وأختلف في الصحابي على وجوه :
    الأول : من لقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مؤمناً به ، ومات مسلماً , ولم يرتد عن الإسلام ، فقد ارتد عبيد الله بن جحش في الحبشة وكان زوج أم حبيبة بنت أبي سفيان ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكرمها الله عز وجل بقوله تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] ( ).
    أما الكافر الذي لقي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , فهو ليس بصحابي وإن اسلم بعد موت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    الثاني : الذي طالت مجالسته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المهاجرين أو الأنصار .
    الثالث : الذي خرج مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بدر أو أحد أو غيرهما من كتائب النبي ، والتي تبلغ ثمان وعشرين كتيبة ، وقيل ست وعشرين .
    كتيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
    الأولى : كتيبة الأبواء (ودان) .
    الثانية : كتيبة بواط .
    الثالثة : كتيبة العشيرة .
    الرابعة : كتيبة بدر الأولى .
    الخامسة : كتيبة بدر الكبرى .
    السادسة : كتيبة بني سليم .
    السابعة : كتيبة بني قينقاع .
    الثامنة : كتيبة السويق .
    التاسعة : كتيبة ذي أمر .
    العاشرة : كتيبة بحران .
    الحادية عشرة : كتيبة معركة أحد .
    الثانية عشرة : كتيبة حمراء الأسد .
    الثالثة عشرة : كتيبة بني النضير .
    الرابعة عشرة : كتيبة ذات الرقاع .
    الخامسة عشرة : كتيبة بدر الآخرة .
    السادسة عشرة : كتيبة دومة الجندل .
    السابعة عشرة : كتيبة بني المصطلق .
    الثامنة عشرة : كتيبة الخندق .
    التاسعة عشرة : كتيبة بني قريظة .
    العشرون : كتيبة بني لحيان .
    الحادية والعشرون : كتيبة ذي قرد .
    الثانية والعشرون : كتيبة الحديبية وتسمى صلح الحديبية .
    الثالثة والعشرون : كتيبة خيبر .
    الرابعة والعشرون : كتيبة عمرة القضاء .
    الخامسة والعشرون : كتيبة فتح مكة .
    السادسة والعشرون : كتيبة حنين .
    السابعة والعشرون : كتيبة الطائف .
    الثامنة والعشرون : كتيبة تبوك .
    ووقع القتال في تسع كتائب فقط ، ولم يقع قتال في الكتائب الأخرى، ومن الكتائب أعلاه ما كان المشركون هم الذين يهجمون وهي أكبرها وأكثر التي وقع فيها القتال مثل :
    الأولى : معركة بدر .
    الثانية : معركة أحد .
    الثالثة : معركة الخندق .
    الرابعة : معركة حنين , قال تعالى[لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ]( ).
    وتسمى كتائب وسرايا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للبيان والعموم والأصل أنها كانت معارك للدفاع .
    وإبتدأت سرايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم من السنة الثانية للهجرة وانتهت في السنة التاسعة للهجرة ، وكانت السنة الثانية للهجرة أكثر السنوات التي وقعت فيها غزوات إذ كان عددها ثمان غزوات .
    ولكن آية البحث والآيات المجاورة لها جاءت بخصوص معركة أحد ، والتي وقعت في السنة الثالثة للهجرة , وفي الشهر العاشر منها وهو شهر شوال .
    لقد شاء الله عز وجل أن تكون كثرة عدد قتلى المسلمين في معركة دفاع محض ، وليس لوقوعها سبب يعتد به عقلاً وهي معركة أحد ، لتكون على وجوه :
    الأول : فيه حجة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يدعو إلى الله بالمعجزة والبرهان .
    الثاني : تجلي مصداق واضح لظلم وعدوان الذين كفروا .
    الثالث : بيان قانون وهو أن سفك الدماء الذين ذكره الملائكة بقولهم [وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) إنما يكون هذا السفك والقتل لمنع القتل ، ولإصلاح النفوس لعبادة الله عز وجل .
    ليكون من مصاديق علم الله رده على إنكار الملائكة خلافة الإنسان في الأرض [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) أن سفك الدماء الذي تحتج به الملائكة على عدم أهلية الإنسان للخلافة يكون نوع طريق لتثبيت الخلافة باستئصال الذين يسفكون الدماء , ويشيعون القتل بغير حق بين الناس ، وفيه اغراء الكثير من الناس لإقتفاء أثرهم خاصة وأن الإنسان إذا قتل شخصا مرة , فكأنه إجتاز عقبة الإحتراز في الدماء .
    فجاء الإسلام بالقصاص ، وقود القاتل بسبب قتله لغيره ، قال تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ).
    ويمكن تقسيم القتل إلى وجوه :
    الأول : القتل بالخطأ ، وشبه العمد , وهو الذي فيه دفع الدية دون القصاص , والدية على وجوه منها الف دينار ذهب أو مائة ناقة أو عشرة آلاف درهم فضة , وقيل اثنا عشر ألف درهم .
    والثاني : القتل العمد بأن يقدم الإنسان عن قتل غيره عن قصد وعمد ، قال تعالى [وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا] ( ).
    الثالث : القتل ظلماً للمؤمنين المجاهدين تحت لواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
    الرابع : القتل قصاصاً وقوداً إلا أن يعفو ولي الدم .
    الخامس : قتل الكافر الجاحد المعتدي كما في قتل المشركين في معركة بدر وأحد والخندق وحنين ، ويدل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) على أن قتل بعض الفرسان سبب لعزوف الذين كفروا عن قتال المسلمين وتجدد المعارك بينهم ، إذ أصاب الذين كفروا الخوف والرعب بعد أن قتل الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام عمرو بن ود العامري وهو أحد أشجع فرسان قريش ، لتكون الوقائع الشخصية من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) بلحاظ كبرى كلية وهي [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
    وجاءت آية البحث بخصوص القتل من الصحابة وحياتهم في عالم الآخرة ، لأن قتالهم كان خالصاً لوجه الله عز وجل ، فهل يكون الإخبار في آية البحث عن غبطتهم وإستبشارهم بنعمة الله عز وجل مما يلقي الخوف والرعب في قلوب الذين كفروا ، الجواب نعم .
    ويمكن تأسيس قانون وإفراد باب خاص في تفسير كل آية قرآنية وهو :القاء الرعب في قلوب الذين كفروا .
    فان قلت يتداخل هذا المبحث مع باب (الآية سلاح) الذي ورد في هذا السِفر في تفسير كل آية من آيات سورة الفاتحة وسورة البقرة والشطر من آل عمران الذي تقدم .
    والجواب هذا صحيح إلا أن إفراد باب خاص لكل موضوع وغاية سامية في الآية القرآنية بلغة ووسيلة لإستنباط المسائل واستقراء العلوم من ذات الآية القرآنية .
    وجاء ذكر النعمة على نحو الإطلاق ليذهب الذهن إلى ما هو أعم من عالم الوجود ، وتلك آية في بديع صنع الله عز وجل , وتتجلي دقائق أسرار وآثار من عالم الماديات والمجردات , والصلة والتداخل بينهما في ذات خلق الإنسان والأمارات الواضحة على النفع العام منها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ]( ).
    ترى لماذا جعل الله عز وجل عالم التصور الذهني أعم من الواقع ، الجواب من جهات :
    الأولى : إنه من الإمتحان والإختبار في الحياة الدنيا .
    الثانية : إقامة الحجة على الإنسان في بديع خلقه , ونسب إلى الإمام علي عليه السلام:
    دواؤك فيك وما تبصر … وداؤك منك وما تشعر
    وتزعم أنك جرم صغير … وفيك انطوى العالم الأكبر)( ).
    الثالثة : إنه مقدمة لعالم الآخرة ، إذ يرى الإنسان فيه ما كان يطرأ على ذهنه من التصور فما يظنه مستحيلاً في الدنيا يراه في الآخرة .
    ترى أيهما أعظم عالم التصور أم عالم الموجودات في الآخرة ، الجواب هو الثاني .
    الرابعة : بعث المسلمين على الإنقطاع إلى ذكر الله عز وجل , ورجاء رفده وإحسانه ، وفي التنزيل [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ] ( ) .
    ومن الإعجاز في آية البحث أنها ذكرت كلاً من :
    الأول : الإستبشار والفرح الذي لا يكون إلا بالخير والأمر الحسن .
    الثاني : عموم الإستبشار وعدم حصره بفرد واحد من الشهداء ، فلم تقل الآية , منهم يستبشر بنعمة من الله ، ومنهم بفضله ، وتقدير الآية على وجوه :
    الأول : يستبشر كل شهيد بنعمة من الله .
    الثاني : يستبشر كل شهيد بفضل من الله .
    الثالث : يستبشر الشهداء بنعمة من الله .
    الرابع : يستبشر الشهداء بفضل الله .
    حروب العرب قبل الإسلام
    كثيرة هي المعارك والحروب التي خاضها العرب قبل الإسلام , وهذه الكثرة حجة ودليل على الحاجة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وشاهد على عدم إنحصار هذه الحاجة بالعرب إنما تشمل الناس جميعاً.
    وهي على قسمين:
    الأول : معارك العرب ضد غيرهم قبل الإسلام , ومنها غزوة أفريقيا قبل الميلاد بقيادة افريقيس الحميدي .
    ومعركة سلون في القرن الأول الميلادي بين العرب والفرس .
    ومعركة في وادي المحفف بين الغساسنة والروم، ودارت بينهم معركة بالعة , ومعركة مرج الظباء .
    والغساسنة سلالة عربية وأصلهم من اليمن من الأزد , هاجروا بعد إنهيار سد مأرب في القرن الثالث الميلادي، ونزلوا ماء اسمه غسان فنسبوا إليه، ومن أكبر شعرائهم أمرئ القيس، ومن أشهر مدنهم الجابية في هضبة الجولان، ونصروا الدولة البيزنطية، وذهب سلطانهم بعد فتح المسلمين الشام، مثلما ذهب ملك (آل لخم) في العراق والذين كانوا نداً لهم.
    ومعركة مارد بين العرب والنصارى في شمال الجزيرة.
    وغزوة ابرهة الحبشي سنة 570 ميلادية حيث جرت عدة معارك بين العرب والأحباش .
    ومعركة ذي قار بين العرب والفرس، وقد تقدم ذكرها وأسبابها.
    الثاني : المعارك التي جرت بين أحياء وقبائل من العرب أنفسهم ، وهل هذه المعارك من إحتجاج الملائكة عندما أخبرهم الله بأنه سبحانه[جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، إذ قالوا[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ) .
    الجواب نعم ومنها:
    الأول : يوم البسوس – وهو من أعظم حروب العرب , وكان بين بكر بن وائل ، وتغلب بن وائل وكان للبسوس خالة جساس ناقة فرآها كليب بن ربيعة وهو كالملك بين قومه قد كسرت بيض حمام في حماه كان قد أجاره فرمى ضرعها بسهم فوثب جساس على كليب فقتله فهاجت الحروب بسبب ذلك ودامت بين الفريقين اربعين سنة‏.‏
    الثاني : يوم داحس: وكان لعبد القيس على فزارة ‏.‏
    الثالث : يوم النسار : وكان بين ضبة وبني تميم‏ .‏
    الرابع : أيام الفجار: بكسر الفاء والجيم ، وهي من حروب العرب قبل الإسلام، ووقعت بين قبيلة كنانة ومنها قريش وبين قبائل قيس عيلان ومنها هوازن وغطفان , وسميت بالفجار لما إستحله الطرفان من المحارم في الأشهر الحرم ولقطع الأرحام بينهم.
    الخامس : يوم ذي قار: كان من أعظم أيام العرب كان سنة أربعين مولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقيل في عام بدر , وكان لبني شيبان إذ غزاهم كسرى ابرويز بجيشه فظفر به بنو شيبان وهو أول يوم انتصرت فيه العرب على العجم‏.
    السادس : يوم ذي قار – كان بين بني عبس وذبيان ابني بغيض‏ , وهي غير معركة ذي قار المشهورة بين بكر بن وائل وكسرى.‏
    السابع: يوم الرحران: كان بين بني دارم وعامر بن صعصعة ، وسبب الواقعة أن الحارث بن ظالم المري قتل خالد بن جعفر الكلابي سيد هوازن غدراً عند النعمان بن المنذر ملك الحيرة ، فأنكر قوم الحارث فعله ، وعلموا أنه سيؤدي إلى الإضرار بهم ، فقد يغزوهم النعمان ، فكره الحارث بقاءه بين قومه وتشاؤمهم منه ، فهرب في الأرض ، ونأت به البلاد ، وطلب إجارته فكرهت العرب إجارته خشية وخوفاً من النعمان ، ثم ذهب إلى ديار بني تميم فأجاره معبد بن زرارة ، فلم يرض قومه بنو تميم بهذه الإجارة إلا شطراً منهم هم بنو مأويه وبنو دارم .
    ولما علم بنو عامر وهم قوم المقتول غدراً خالد بن جعفر ساروا ومعهم جيش النعمان إلى ديار بني تميم ، ووجدوا امرأة من بني دارم تجمع الكمأة عند مياه لهم في البيداء ومعها جمل لها ، فأخذها رجل منهم وسألها عن الخبر ، فلم تخف عليه سراً ، إنما أخبرته بأن الحارث بن ظالم عند حاجب بن زرارة وأنه وعده بمنعه والذب عنه لتبعث الطمأنينة في نفسه بتظاهرها بعدم إنحيازها لقومها.
    ولما صار منتصف الليل ركبت المرأة جملها وسارت حتى الصباح فوصلت إلى ديار بني دارم ودخلت على زرارة بن عدس وهو سيدهم فأخبرته بقدوم القوم وأنهم يطلبونه ، قال لها ،صفيهم لي ليتأكد ويثبت من كلامها ويصير على حذر وحيطة .
    قالت : رأيت رجلاً قد سقط حاجباه يرفعها بخرقة صغير العينين ، وهم يصدرون عن أمره .
    قال زرارة : ذاك الأحوص بن جعفر وهو سيدهم ، والأحوص هذا هو أخو خالد بن جعفر الكلابي المقتول الذي جاءوا لطلب قاتله الحارث بن ظالم (قالت: ورأيت رجلاً لا يقول كلمة إلا وهي أحد من شفرة. قال: ذاك عبد الله بن جعدة بن كعب.
    وأمرها زرارة فدخلت بيتها) ( ).
    لقد أرادوا مباغتة تميم ، ولكن هروب هذه المرأة أسقط ما في أيديهم وصار سبباً لتغيير نتيجة المعركة إذ أخذت تميم الحائطة ، وتصرف زرارة بحنكة ودهاء ، وكان معروفاً بالرأي السديد ، ويقوم بفض الخصومات ، ومن سجاياه أنه يجير من استجار به ،وهو زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم ويكنى أبا خزيمة .
    ويرجح أنه عاش إلى ما قبل البعثة النبوية بسبعين عاماً ، وله عشرة أولاد منهم لقيط وحاجب ، فتعبأ زرارة للحرب والقتال من وجوه :
    الأول : أرسل على الرعاء باحضار الإبل كلها .
    الثاني : أمر بحمل الأهل والأثقال والمتاع النفيس والمؤون الضرورية وأمرهم أن يسيروا إلى بلاد بغيض، وبغيض بن ريث بن غطفان ، ومنه ثلاث قبائل هي :
    الأولى : عبس .
    الثانية : ذُبيان .
    الثالثة : أنمار .
    وهم من قبائل مضر بن عدنان إذ أن العرب من جذعين :
    أولاً : عدنان ، ويتفرع إلى مضر وربيعة كما مبين في الجدول أدناء .
    ثانياً : قحطان .
    الثالث : أرسل زرارة الرسل إلى بني مالك بن حنظلة يدعوهم للحضور الفوري من غير أن يبين لهم التفاصيل أو يكشف عن خططه ولما أتوه أخبرهم بقدوم جمع بنو عامر وجيش النعمان لقتالهم وهم يعلمون السبب لأنه وضمرة بن ضمرة أجارا الحارث بن ظالم المري على جميع الناس ، وهو قاتل خالد بن جعفر وهو أخو الأحوص ، وكان الحارث قتله وهو جاره .
    وجعل النعمان على جيشه ابن الخمس التغلبي لأنه الحارث قتل أباه ، وهو يطلبه بدمه .
    فلم يقولوا لزرارة سلّم لهم الحارث وأنه لا طاقة لنا بقتال القوم .
    الرابع : أمرهم زرارة أن يوجهوا عوائلهم وأثقالهم إلى بلاد بغيض فاستجابوا لأمره وباتوا ليلتهم مستعدين للقتال .
    وفي الصباح وحينما علم بنو عامر بهروب المرأة الدارمية بجملها أصابتهم الحيرة والدهشة وشعروا أنهم فقدوا عنصر المباغتة وأخذوا يتدبرون الأمر ، ويأتون بالرأي والخطط المستحدثة .
    فقال بعضهم : كأني بالضعينة قد وصلت إلى قومها وأخبرتهم بقدومكم، فقاموا بارسال أهليهم وأموالهم إلى بلاد بغيض لحفظها واستعدوا لكم بالسلاح .
    فلنذهب إلى أهليهم وأموالهم ونقطع عليهم الطريق ونأخذها سبايا وغنائم ، وبنو دارم أي زرارة وقومه لا يشعرون وهم يتربصون قدومكم .
    فراق هذا الرأي لبني عامر وركبوا يسعون مجدين في طلب عوائل وأموال بني دارم، فاذا جلبوها جاءتهم بنو دارم صاغرين ومن غير قتال .
    وأنتظر زرارة قدوم العدو عليه فأبطأ بما يفوق قطع المسافة بين المحل الذي أخبرتهم المرأة أنهم وصلوا إليه وبين ديارهم عندها وأرسل العيون فلم يروا أثر قدوم جيش .
    قال زرارة لقومه: لقد توجه القوم إلى ظعنكم وأموالكم فسيروا إليهم، ولم يخش شيئاً في قريتهم إن دخلها العدو لأن النساء والأثقال والأموال قد سيرّت بعيداً عنها .
    وأمرهم زرارة أن يجدوا السير ليدركوهم قبل أن يصلوا الظعنَ والإبل والشياء ، فلحقوا بهم قبل أن يصلوها وأقتتلوا قتالاً شديداً ، وقتّل ابن الخمس التغلبي رئيس جيش النعمان وأسرت بنو عامر معبد بن زرارة، وقاتل بنو دارم حتى منتصف النهار فجاءهم مدد من ناحية أخرى ، حينئذ انهزمت بنو عامر وجيش النعمان .
    لقد كانت المعارك بين القبائل العربية تنذر بفنائها واستئصالها ، وكانت تأتي حتى على الصبية والنساء كما في قتل الحارث هذا شرحبيل بن الأسود بن المنذر وهو رضيع عند سنان بن أبي حارثة المري ، إذ استعار الحارث سرج سنان من غير أن يعلم سنان ، ثم ذهب إلى امرأة سنان وقال لها بأن بعلك سنان يطلب منك أن تبعثي شرحبيل بن الملك مع الحارث بن ظالم فدفعته له فقتله ، وله شعر في المقام مذكور في المطولات التأريخية .
    إلى جانب وأد العرب للبنات ودفنهن بعد الولادة مباشرة ، أو عندما تبلغ البنت خمس أو ست سنوات وأحياناً تبرز مسألة الوأد عند رجحان مداهمة وغزو قبيلة أخرى .
    لقد كان غزو العرب فيما بينهم من مصاديق إحتجاج الملائكة بقوله تعالى [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) ليكون من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) وجوه :
    الأول : وجود البيت الحرام في مكة وسط الجزيرة وتجدده واستدامة دعوة إبراهيم عليه السلام للناس لحجه وعمارته، قال تعالى[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
    وتقيد العرب بحج البيت في موسم الحج وزيارته طوال أيام السنة مكرمة لهم ، ومن الثواب والفضل من عند الله عز وجل عليهم بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
    الثاني : سأم الناس وأفراد القبائل من الإقتتال فيما بينهم، وتجلي حقيقة إنتفاء الأسباب لهذا الإقتتال، وغالباً ما يكون على نحو القضية الشخصية بل أن حرب البسوس التي إستمرت أربعين سنة كانت بسبب قتل ناقة.
    الثالث : فضل الله عز وجل في بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمنع سفك الدماء بين القبائل، لبيان قانون في إحتجاج الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، أي أعلم بأن سفك الدماء لن يستمر طويلاً بين الناس فيتفضل الله ببعثة الأنبياء وإحقاق الحق.
    الرابع : سُنة الأشهر الأربعة الحرم قبل الإسلام وبعده ، إذ يحرم فيها القتال والقتل إلا في الدفاع وصد العدوان ، ومن المقاصد السامية في حرمة هذه الأشهر قصد وصول وفد الحاج إلى البيت الحرام , وجلب التجار والمزارعين تجارتهم بأمان إلى الأسواق.
    والأسواق جمع سوق ، وسميت سوقاً لأن البضائع والأنعام تساق إليها، وتجلب إليها وتجتمع فيها وتساق منها عند الشراء ، وهي موضع البيع والشراء .
    وأكثرها شدة وحضوراً ومعاملة :
    الأول : سوق عكاظ ويقع في واد بين مكة والطائف .
    الثاني : سوق مجنّة .
    الرابع : سوق مكة .
    الخامس : سوق دومة الجندل .
    السادس : سوق عدن .
    السابع : سوق حضرموت .
    الثامن : سوق صنعاء .
    ولم تنحصر وظائف هذه الأسواق بالبيع والشراء والرهن ونحوه ، إنما كانت محافل أدبية يعرض فيها الشعراء قصائدهم وتُضرب القباب للحكام ويحصل النقد والإشكال ثم يتم اختيار القصائد الأحسن ، إنه ربيع يبعث على الطمأنينة ويدعو إلى الألفة ونبذ القتال في أشهر السنة الأخرى ، ومن خصائص هذه الأسواق أنها مناسبة للبشارة ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
    وعندما أنعم الله عز وجل عليه بالرسالة أخذ يطوف على هذه الأسواق بأمن في الأشهر الحرم ، ويدعو الناس فيها إلى الإسلام ويتلو عليهم آيات وسور من القرآن لتتراجع صناعة الشعر فيها ويتناقل الناس في أغوار ونجاد الجزيرة آيات القرآن وتلهج بها الألسنة في البوادي والحواضر ، ولابد من دراسات مخصوصة في كل من :
    الأول : قانون منافع البيت الحرام في نشر الإسلام .
    الثاني : قانون منافع الأشهر الحرم في دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام ، ومن إعجاز القرآن إخباره بأن الأشهر الحرم من الإرادة التكوينية قال تعالى[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ]( ).
    الثالث : قانون أثر اسواق العرب في نقل وتدبر الناس بآيات القرآن .
    وقد وقع يوم رحرحان الثاني قبل الهجرة النبوية باربع وخمسين عاماً تقريباً امتنع لقيط بن زرارة عن فك أخيه معبد الذي أسره بنو عامر خشية أن تطمع بهم العرب وتقتسم أموالهم إلى أن مات معبد في الطائف سيراً ، فكان الشعراء يهجون لقيطاً على هذه الفعل مع ما يتصف به من الكرم والشجاعة والنبل، وقتلت بنو عامر لقيطاً وأسروا حاجباً الذي فك نفسه بألف ومائة من الإبل في سوق عكاظ .
    وقصة حاجب في الوفاء مشهورة إذ أصاب قومه قحط وعام جدب ، وتفرقوا ، فذهب حاجب إلى كسرى الذي منع بني تميم من الرعي في ريف العراق خشية أن يغيروا على بلاده .
    وبيّن حاجب ما أصاب قومه من العوز والفاقة والتفرق وسأله الرعي قرب حدود بلاده ، فأبى كسرى ، ولكن حاجباً بادر إلى رهن قوسه عند الملك كضمان عدم تعدي تميم فرضي حينئذ كسرى ، وأذن لهم بالرعي في ريف العراق .
    ودعا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لرفع القحط فرفعه الله وبعد موت حاجب ارتحل ابنه عُطارد بن حاجب إلى كسرى يطلب قوس أبيه بعد الوفاء لكسرى فسلمه له كسرى وكساه حلة ، وكان عطارد يغش الملوك وينال منهم العطايا سنة تسع للهجرة ووفد مع وفد تميم إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأرادوا التفاخر .
    (عن سعد بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله : {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} قال: هم الجفاة من بني تميم لولا أنهم من أشد الناس قتالاً للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم .
    وأخرج ابن إسحق وابن مردويه عن ابن عباس قال: قدم وفد بني تميم وهم سبعون رجلاً أو ثمانون رجلاً منهم الزبرقان بن بدر وعطارد بن معبد وقيس بن عاصم وقيس بن الحارث وعمرو بن أهتم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق معهم عيينة بن حصن بن بدر الفزاري وكان يكون في كل سدة حتى أتوا منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    فنادوه من وراء الحجرات بصوت جافٍ يا محمد أخرج إلينا يا محمد أخرج إلينا يا محمد أخرج إلينا.
    فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالوا : يا محمد إن مدحنا زين وإن شتمنا شين ، نحن أكرم العرب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كذبتم بل مدحة الله الزين وشتمه الشين وأكرم منكم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم فقالوا: إنا أتيناك لنفاخرك ، فذكره بطوله , وقال في آخره : فقام التميميون ، فقالوا : والله إن هذا الرجل لمصنوع له،
    لقد قام خطيبه فكان أخطب من خطيبنا ، وقال شاعره فكان أشعر من شاعرنا قال : ففيهم أنزل الله{إن الذين ينادونك من وراء الحجرات}( ) من بني تميم{أكثرهم لا يعقلون} قال : هذا كان في القراءة الأولى{ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم})( ).
    (قام الزبرقان من الوفد المذكور وقال : من البسيط
    نحن الملوك فلا حيٌّ يقاربنا … منا الملوك وفينا يوجد الربع
    كم قد قسرنا من الأحياء كلِّهم … عند النِّهاب وفضل العزِّ يتَّبع
    وننحر الكوم عبطاً في منازلنا … للنازلين إذا ما استطعموا شبعوا
    ونحن نطعم عند القحط ما أكلوا … من العبيط إذا لم يظهر القزع
    ونبصر الناس تأتينا سراتهم … من كل أوبٍ فنمضي ثم نتَّبع
    فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حسان فجاء فأمره أن يجيبه فقال : من البسيط
    إن الذوائب من فهرٍ وإخوتهم … قد بيَّنوا سنَّةً للناس تتَّبع
    يرضى بهم كلُّ من دانت سريرته … تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
    قومٌ إذا حاربوا ضرّوا عدوَّهم … أو حاولوا النَّفع في أشياعهم نفعوا
    إن كان في النّاس سبّاقون بعدهم … فكلُّ سبقٍ لأدنى سبقهم تبع
    سجيَّة تلك منهم غير محدثةٍ … إن الخلائق يوماً شرُّها البدع
    لا يرقع النَّاس ما أوهت ألفَّهم … عند الدِّفاع ولا يوهون ما رتعوا
    أعفَّةٌ ذكرت في الوحي عفَّتهم … لا يطمعون ولا يزرى لهم طمع
    ولا يضنّون عن جارٍ بفضلهم … ولا يمسُّهم من مطمع طبع
    يسمون للحرب تبدو وهي كالحةٌ … إذا الزَّعانف في أظفارها خشعوا
    لا يفرحون إذا نالوا عدوَّهم … وإن أصيبوا فلا خورٌ ولا جزع
    كأنهم في الوغى والموت مكتنعٌ … أسود بيشة في أرساغها قدع
    خذ منهم ما أتوا عفواً وإن غضبوا … فلا يكن همُّك الأمرالذي منعوا
    فإنّ في حربهم فاترك عداوتهم … سمّاً يخاض عليه الصّاب والسَّلع
    أكرم بقومٍ رسول الله قائدهم … إذا تفرّقت الأهواء والشِّيع
    أهدى لهم مدحي قلبٌ يؤازره … فيما أراد لسانٌ حائكٌ صنع
    إنهم أفضل الأحياء كلِّهم … إن جدَّ بالبأس جدّ القول أو سمعوا
    أتيناك كيما يعلم النسا فضلنا … إذا اجتمعوا وقت احتضار المواسم
    بأنّا فروع الناس في كلِّ موطنٍ … وأن ليس في ارض الحجاز كدارم
    وقال حسّان : من الطويل
    منعنا رسول الله من غضب له … على أنف راضٍ من معدٍّ وراغم
    هل المجد إلاّ السؤدد الفرد والندى . وجار الملوك واحتمال العظائم)( ).
    وبعد أن انتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى أرتد عطارد بن حاجب مع طائفة من قومه , وتبعوا سجاحاً ثم رجع إلى الإسلام، وقال في ذمها :
    أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها … وأضحت أنبياء الناس ذكرانا
    فلعنة الله رب الناس كلهم … على سجاح ومن بالكفر أغوانا)( ).
    الثامن : يوم الفلج: كانت فيه وقعتان‏.‏
    الاولى: لبني عامر على بني حنيفة , والأخرى: لبني حنيفة على بني عامر وأهل اليمامة‏.‏
    التاسع : يوم اللهابة: كان بين بني كعب وعبد شمس‏.‏
    العاشر : يوم طخفة: كان لبني يربوع على قابوس بن المنذر بن ماء السماء، وقال ابن الأثير(وهو لبني يربوع على عساكر النعمان بن المنذر. قال أبو عبيدة: وكان سبب هذه الحرب أن الرادفة، وهي بمنزلة الوزارة، وكان الرديف يجلس عن يمين الملك، كانت لبني يربوع من تميم يتوارثونها صغيراً عن كبير. فلما كان أيام النعمان، وقيل أيام ابنه المنذر، سألها حاجب ابن زرارة الدرامي التميمي النعمان أن يجعلها للحارث بن بيبة بن قرط ابن سفيان بن مجاشع الدارمي التميمي .
    فقال النعمان لبني يربوع في هذا وطلب منهم أن يجيبوا إلى ذلك، فامتنعوا، وكان منزلهم أسفل طخفة، فحيث امتنعوا من ذلك بعث إليهم النعمان قابوس ابنه وحساناً أخاه ابني المنذر، قابوس على الناس، وحسان على المقدمة، وضم إليهما جيشاً كثيفاً، منهم الصنائع والوضائع وناس من تميم وغيرهم، فساروا حتى أتوا طخفة فالتقوا هم ويربوع واقتتلوا، وصبرت يربوع وانهزم قابسو ومن معه، وضرب طارق أبو عميرة فرس قابوس فعقره وأسره، وأراد أن يجز ناصيته .
    فقال: إن الملوك لا تجز نواصيها، فأرسله. وأما حسان فأسره بشر بن عمرو بن جوين فمن عليه وأرسله. فعاد المنهزمون إلى النعمان، وكان شهاب بن قيس بن كياس اليربوعي عند الملك، فقال له: يا شهاب أدرك ابني وأخي، فإن أدركتهما حيين فلبني يربوع حكمهم وأرد عليهم ردافتهم وأترك لهم من قتلوا وما غنموا وأعطيهم ألفي بعير. فسار شهاب فوجدهما حيين فأطلقهما، ووفى الملك لبني يربوع بما قال ولم يعرض لهم في ردافتهم؛ وقال مالك ابن نويرة:
    ونحن عقرنا مهر قابوس بعدما … رأى القوم منه الموت والخيل تلحب
    عليه دلاصٌ ذات نسجٍ وسيفه … جرازٌ من الهنديّ أبيض مقضب
    طلبنا بها، إنّا مداريك نيلها … إذا طلب الشّأو البعيد المغرّب)( ).
    الحادي عشر : يوم تومرت – كان بين غنم وبني قشير‏.‏
    الثاني عشر : يوم ارام: كان لتغلب على بني يربوع وقيل أرب‏.‏
    الثالث عشر :يوم اراطة: بين بني حنيفة وبني جعدة‏.
    الرابع عشر : يوم عاقل – كان بين بني جشم وحنظلة‏.‏
    الخامس عشر :يوم درني – كان لبني طهية على تيم اللات‏.‏
    السادس عشر : يوم العضالى – كان لبني بكر بن وائل وتميم وهو آخر أيامهم وقيل يوم الفضال‏.‏
    السابع عشر : يوم الغبيط – كان لبني يربوع دون مجاشع‏.‏
    الثامن عشر : يوم الكفافة – كان بين فزارة وبني عمرو وبني تميم‏.‏
    التاسع عشر : يوم القرين – بين خثعم وكنانة‏.‏
    العشرون : يوم بسيان – كان لبني فزارة على تميم , ويوم قرار – كان لمجاشع على بكر بن وائل‏.‏
    الحادي والعشرون : يوم الحسي – كان لبكر على تغلب وقيل‏:‏ يوم الحنو‏.‏
    الثاني والعشرون : يوم السربات – كان بين عبس وبني حنظلة وقيل‏:‏ يوم السربان‏.‏
    الثالث والعشرون : يوم الستار – كان بين الغوث وجديلة وقيل‏:‏ يوف الفساد‏.‏
    الرابع والعشرون : يوم فيف الريح – كان بين خثعم وبني عامر‏.‏
    الخامس والعشرون : يوم البيداء – من أقدم أيام العرب كان بين حمير وكلب‏.‏
    السادس والعشرون : يوم غول – كان لضبة على كلاب‏.‏
    السابع والعشرون : يوم السلان – كان لربيعة على مذحج‏ إذ أقبلت مذحج تريد غزو أهل تهامة ومن بها من أولاد معد، فاجتمع ولد معد لحرب مذحج وكان أكثرهم ربيعة، فرأّسوا عليهم ربيعة بن الحارث بن مرة بن زهير بن جشم بن بكر، فالتقوا ومذحج بالسلان، فهزموا مذحجاً، وكان لهم الظفر.
    وأما يوم خزاز، فإن اليمن أقبلت، وعليهم سلمة بن الحارث بن عمرو الكندي، فرأست ولد معد كليب بن ربيعة بن الحارث بن مرة، فلما رأى سلمة كثرة القوم استجار ببعض الملوك، فأمده، فالتقوا بخزاز، وعلى ولد معد كليب، ففضت جموع اليمن.
    وأما يوم الكلاب، فإن سلمة وشرحبيل ابني الحارث بن عمرو الكندي تحاربا، فكان مع سلمة ربيعة ومع شرحبيل قيس، فكثرت ربيعة قيساً، فقتلت شرحبيل بن الحارث بن عمرو، وكان لهم العلو)( ).‏
    الثامن والعشرون : يوم درحرح – كان بين سعد وغسان‏.‏
    التاسع والعشرون : يوم الستار – كان بين بكر وتغلب حلق فيه أحد الفريقين رؤوسهم لتكون علامة لهم‏.‏
    الثلاثون : يوم الصليب – كان بين بكر بن وائل وبين عمرو بن تميم‏.‏
    الحادي الثلاثون : يوم ظهر – كان بين بني عمرو بن تميم وبني ضبة حنيفة‏.‏
    الثاني والثلاثون : يوم الدثينة – كان لبني مازن على سليم‏.‏
    الثالث والثلاثون : يوم ذات الحرمل – كان لني عامر على بني عبس‏.‏
    الرابع والثلاثون : يوم القرعاء – كان بين بني مالك وبني يربوع‏.‏
    الخامس والثلاثون : يوم ملهم – كان بين بني تميم وبني حنيفة‏.‏
    السادس والثلاثون : يوم داب – كان لبني يربوع على بني كلاب قيل‏:‏ يوم منفح‏.‏
    السابع والثلاثون : يوم زرود – كان بين بني تغلب وبني يربوع‏.‏
    الثامن والثلاثون : يوم الرقم – كان بين بني فزارة وبني عامر‏.‏
    التاسع والثلاثون : يوم بعاث – كان بين بني الاوس والخزرج.‏
    الأربعون : يوم النباج – إذ قامت بطون من تميم على بكر بن وائل، وكانت تميم برئاسة قيس بن عاصم المنقري الذي أغار على النباج، وكان معه سلامة بن ظرب رئيس الأجارب الذي أغار على ثيتل، ولما بلغ قيس إلى النباج سقى الخيل، وشرب قومه الماء، ثم أراق ما بقي عندهم من الماء، وقال لأصحابه قاتلوا(فالموت بين أيديكم والفلاة من ورائكم، فأغار على من به من بكر صبحاً فقاتلوهم قتالاً شديداً وانهزمت بكر وأصيب من غنائمهم ما لا يحد كثرة .
    فلما فرغ قيس من النهب عاد مسرعاً إلى سلامة ومن معه نحو ثيتل فأدركهم، ولم يغز سلامة على من به، فأغار عليهم قيس أيضاً، فقاتلوه وانهزموا، وأصاب من الغنائم نحو ما أصاب بالنباج، وجاء سلامة فقال: أغرتم على من كان لي، فتنازعوا حتى كاد الشر يقع بينهم، ثم اتفقوا على تسليم الغنائم إليه؛ ففي ذلك يقول ربيعة بن طريف:
    فلا يبعدنك الله قيس بن عاصم … فأنت لنا عزٌّ عزيزٌ ومعقل
    وأنت الذي حرّبت بكر بن وائل … وقد عضّلت منها النباج وثيتل
    وقال قرة بن زيد بن عاصم:
    أنا ابن الذي شقّ المرار وقد رأى … بثيتل أحياء اللهازم حضّرا
    فصبّحهم بالجيش قيس بن عاصم … فلم يجدوا إلاّ الأسنّة مصدرا
    سقاهم بها الذيفان قيس بن عاصم … وكان إذا ما أورد الأمر أصدرا
    على الجرد يعلكن الشكيم عوابساً … إذا الماء من أعطافهنّ تحدرّا
    فلم يرها الراؤون إلاّ فجاءةً … يثرن عجاجاً كالدواخن أكدرا
    وحمران أدّته إلينا رماحنا … فنازع غلاًّ في ذراعيه أسمرا)( ).‏
    الحادي الأربعون : يوم الدرك – كان بين الأوس والخزرج‏.‏
    الثاني والأربعون : يوم الوقد – كان لبني تميم على بني عامر بن صعصعة‏.‏
    الثالث والأربعون : يوم الهرير – كان بين بني بكر وبني تميم‏.‏
    الرابع والأربعون : يوم الهبات – كان لعبس على فزارة‏.‏
    الخامس والأربعون : يوم نجران – كان لبني تميم على بني الحارث بن كعب‏.‏
    السادس والأربعون : يوم واردات – كان بين بكر وتغلب‏ وكانت أيام القتال الشديد بينهم خمسة أيام وهي:
    الأول : يوم عنيزة، وليس فيه غالب أو مغلوب.
    الثاني : يوم واردات، وكان لتغلب على بكر.
    الثالث : يوم الحنو: كان لبكر على تغلب.
    الرابع : يوم القيبان، وفيه نزلت خسارة فادحة في بكر.
    الخامس : يوم قضة(وهو يوم التحالق، وشهده الحارث بن عباد؛ ثم كان بعد ذلك أيام دون هذه، منها: يوم النقية، ويوم الفصيل لبكر على تغلب، ثم لم يكن بينهما مزاحفة إنما كان مغاورات، ودامت الحرب بينهما أربعين سنة.
    ثم إن مهلهلاً قال لقومه: قد رأيت أن تبقوا على قومكم فإنهم يحبون صلاحكم، وقد أتت على حربكم أربعون سنة وما لمتكم على ما كان من طلبكم بوتركم، فلو مرت هذه السنون في رفاهية عيش لكانت تمل من طولها، فكيف وقد فني الحيان وثكلت الأمهات ويتم الأولاد ونائحة لا تزال تصرخ في النواحي، ودموع لا ترفأ، وأجسادٌ لا تدفن، وسيوف مشهورة، ورماح مشرعة؟! وإن القوم سيرجعون إليكم غداً بمودتهم ومواصلتهم وتتعطف الأرحام حتى تتواسوا في قبال النعل، فكان كما قال)( ). ‏
    السابع والأربعون : يوم ذي الابل – كان لتغلب على لخم وعمرو بن هند‏.‏
    الثامن والأربعون : يوم الذنائب – كان لغسان على لخم ونجران‏.‏
    التاسع والأربعون : يوم سفوان – كان لجعدة وقتير على النعمان بن المنذر ولخم‏.‏
    الخمسون : يوم قبا – كان بين الأوس والخزرج‏.‏
    الحادي الخمسون : يوم الغصيبة – ويقال القصيبة كان لعمرو بن هند على تميم‏.‏
    الثاني والخمسون : يوم النصيح – كان لقيس على أهل اليمن وقيل‏:‏ يوم المضيح‏.‏
    الثالث والخمسون : يوم سنجار – كان لتغلب على قيس‏.‏
    الرابع والخمسون : يوم دارة مأسل – كان لضبة على كلاب‏.‏
    الخامس والخمسون : يوم مزلق – كان لسعد على عامر بن صعصعة وقيل‏:‏ يوم مرفق‏.‏
    السادس والخمسون : يوم قادم – كان لضبة على كلاب‏.‏
    السابع والخمسون : يوم الفروق – كان لعبس على سعد تميم‏ قيل لعنترة العبسي (كم كنتم يوم الفروق؟ قال: كنا مائة لم نكثر فنفشل ولم نقلّ فنذلّ”.
    وكان يقال: النصر مع الصبر.) ( ).
    الثامن والخمسون : يوم الزخيخ – كان لقيس على أهل اليمن وقيل‏:‏ يوم الرخيخ‏.‏
    التاسع والخمسون : يوم الصفقة‏:‏ وهو من أيام العرب والفرس وسمي الصفقة لأن كسرى اصفق الباب على بني تميم في حصن المشقر ويسمى أيضًا يوم المشقر , والمشقر حصن بالبحرين‏.‏
    وسبب يوم الصفقة إرسال باذن نائب كسرى في اليمن (حملاً من اليمن. فلما بلغ الحمل إلى نطاع من أرض نجد أغارت تميم عليه وانتهبوه وسلبوا رسل كسرى وأساورته. فقدموا على هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة مسلوبين، فأحسن إليهم وكساهم. وقد كان قبل هذا إذا أرسل كسرى لطيمة تباع باليمن يجهز رسله ويخفرهم ويحسن جوارهم، وكان كسرى يشتهي أن يراه ليجازيه على فعله. فلما أحسن أخيراً إلى هؤلاء الرسل الذين أخذتهم تميم قالوا له: إن الملك لا يزال يذكرك ويؤثر أن تقدم عليه، فسار معهم إليه. فلما قدم عليه أكرمه وأحسن إليه وجعل يحادثه لينظر عقله، فرأى ما سره، فأمر له بمال كثير، وتوجه بتاج من تيجانه وأقطعه أموالاً بهجر.
    وكان هوذة نصرانياً، وأمره كسرى أن يغزوه هو والمكعبر مع عساكر كسرى بني تميم، فساروا إلى هجر ونزلوا بالمشقر. وخاف المكعبر وهوذة أن يدخلا بلاد تميم لأنها لا تحتملها العجم وأهلها بها ممتنعون، فبعثا رجالاً من بني تميم يدعونهم إلى الميرة، وكانت شديدة، فأقبلوا على كل صعب وذلول، فجعل المكعبر يدخلهم الحصن خمسة خمسة وعشرة عشرة وأقل وأكثر، يدخلهم من باب على أنه يخرجهم من آخر، فكل من دخل ضرب عنقه. فلما طال ذلك عليهم ورأوا أن الناس يدخلون ولا يخرجون بعثوا رجالاً يستعلمون الخبر، فشد رجل من عبس فضرب السلسلة فقطعها وخرج من كان بالباب.
    فأمر المكعبر بغلق الباب وقتل كل من كان بالمدينة، وكان يوم الفصح، فاستوهب هوذة منه مائة رجل فكساهم وأطلقهم يوم الفصح. فقال الأعشى من قصيدة يمدح هوذة:
    بهم يقرّب يوم الفصح ضاحيةً … يرجو الإله بما أسدى وما صنعا
    فصار يوم المشقر مثلاً، وهو يوم الصفقة لإصفاق الباب، وهو إغلاقه. وكان يوم الصفقة وقد بعث النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة بعد لم يهاجر ) ( ).
    الستون : يوم البردان‏:‏ وهو من أيام القحطانيين فيما بينهم وقع لحجر آكل المرار من كندة على زيد بن الهبولة من قضاعة ، وذكر ابن الأثير التفاوت الزماني ‏ بين زياد بن هبولة ملك أطراف الشام وبين حجر بن عمرو بن معاوية الكندي ملك العرب بنجد ونواحي العراق .
    ويمكن تقسيم أيام القتال بين العرب إلى أقسام:
    الأول : المعارك التي وقعت بين العدنانيين والقحطانيين بلحاظ أن للعرب جدّين هما عدنان وقحطان، ويعود نسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عدنان، ومن هذه المعارك : يوم البيضاء ويوم طخفة ويوم أوارة الأول، ويوم اسلان، ويوم خزار ويوم حجر ومنهم من جعل معركة مرج راهط من المعارك بين القحطانية والعدنانية، ولكنها حدثت في سنة(65) للهجرة النبوية وأيام الدولة الأموية بين القيسية واليمانية بعد إنتقال قبائل عربية عديدة إلى الشام، وكان سببها التنافس الشخصي على الحكم.
    وقال الواقدي: بويع مروان بن الحكم في المحرم سنة خمس وستين، وكان مروان بالشأم لا يحدث نفسه بهذا الأمر حتى أطمعه فيه عبيد الله بن زياد حين قدم عليه من العراق .
    فقال له: أنت كبير قريش ورئيسها، يلي عليك الضحاك بن قيس! فذلك حين كان ما كان، فخرج إلى الضحاك في جيش، فقاتلهم مروان والضحاك يومئذ في طاعة ابن الزبير، وقتلت قيس بمرج راهط مقتلةً لم يقتل مثلها في موطن قط.
    قال محمد بن عمر: حدثني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، قال: قتل الضحاك يوم مرج راهط على أنه يدعو إلى عبد الله بن الزبير، وكتب به إلى عبد الله لما ذكر عنه من طاعته وحسن رأيه.
    وقال غير واحد: كانت الوقعة بمرج راهط بين الضحاك ومروان في سنة أربع وستين.
    وقد حدثت عن ابن سعد، عن محمد بن عمر، قال: حدثني موسى ابن يعقوب، عن أبي الحويرث، قال: قال أهل الأردن وغيرهم لمروان: أنت شيخٌ كبير، وابن يزيد غلام وابن الزبير كهل، وإنما يقرع الحديد بعضه ببعض، فلا تباره بهذا الغلام، وارم بنحرك في نحره، ونحن نبايعك، ابسط يدك، فبسطها، فبايعوه بالجابية يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع وستين.
    قال محمد بن عمر: وحدثني مصعب بن ثابت، عن عامر بن عبد الله أن الضحاك لما بلغه أن مروان قد بايعه من بايعه على الخلافة، بايع من معه لابن الزبير، ثم سار كل واحد منهما إلى صاحبه، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل الضحاك وأصحابه)( ).
    الثاني : المعارك التي وقعت بين القبائل العدنانية فيما بينها مثل لما وقع بين تميم وربيعة، ربيعة هم بنو ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وبين قيس وتميم .
    وبين قيس وكنانة، وبين قبائل ربيعة فيما بينهم ثم بين قبائل تميم ذاتها.
    الثالث : المعارك التي وقعت بين القبائل القحطانية مثل: يوم البردان، ويوم الكُلاب الأول، وأيام الأوس والخزرج.‏
    والبردان‏:‏ علم على مواضع كثيرة ذكرها ياقوت في معجم البلدان ولم يعين الموضع الذي وقع فيه ذلك اليوم‏.‏
    الحادي الستون : يوم الكلاب الأول‏:‏ والكلاب اسم ماء بين الكوفة والبصرة‏.‏
    وقع لسلمة بن الحارث بن عمرو – عين اباغ – وعين اباغ وارد الانبار على طريق الفرات الى الشام وقع للحارث الاعرج بن جبلة ملك العرب بالشام على المنذر بن ماء السماء ملك العرب بالحيرة‏.‏
    الثاني والستون : يوم حليمة‏:‏ هي بنت الحارث , وفي هذا اليوم ضرب المثل‏:‏ ما يوم حليمة بسر‏.‏
    وقع أيضًا للحارث على المنذر‏.‏
    الثالث والستون : يوم اليحاميم‏:‏ واليحاميم ماء على طريق مكة‏.‏
    وقع لغوث على جديلة وكلاهما من قبائل طي (ويعرف بقارات حوق‏)( ) ، وسبب المعركة أن جديلة والغوث إلتقيا بموضع يقال له غرثان ، فقُتل قائد بني جديلة واسمه أسبع بن عمرو بن لام ، وقام رجل من سنبس يسمى مصعب بقطع أذنيه وخصف بهما نعليه ، وفيه يقول أبو سروة السنبسي :
    نخصف بالآذان منكم نعالنا … ونشرب كرهاً منكم في الجماجم)( ).
    وأصر أوس بنّ حارثه بن لأم على قتال الغوث الذين لما علموا بجمع أوس لقتالهم أوقدوا النار على مناع وهو ذروة أجأ (فأقبلت قبائل الغوث، كل قبيلة وعليها رئيسها، منهم زيد الخيل وحاتم، وأقبلت جديلة مجتمعة على أوس بن حارثة بن لأم، وحلف أوس أن لا يرجع عن طيء حتى ينزل معها جبليها أجأ وسلمى وتجبي له أهلها، وتزاحفوا والتقوا بقارات حوق على راياتهم فاقتتلوا قتالاً شديداً، ودارت الحرب على بني كباد بن جندب فأبيروا.
    قال عدي بن حاتم: إني لواقفٌ يوم اليحاميم والناس يقتتلون إذ نظرت إلى زيد الخيل قد حضر ابنيه مكنفاً وحريثاً في شعب لا منفذ له وهو يقول: أي ابني أبقيا على قومكما فإن اليوم يوم التفاني فإن يكن هؤلاء أعماماً فهؤلاء أخوال. فقلت: كأنك قد كرهت قتال أخوالك !
    قال: فاحمرت عيناه غضباً وتطاول إلي حتى نظرت إلى ما تحته من سرجه فخفته، فضربت فرسي وتنحيت عنه. واشتغل بنظره إلي عن ابنيه، فخرجا كالصقرين.
    وحمل قيس بن عازب على بحير بن زيد الخيل بن حارثة بن لأم فضربه على رأسه ضربة عنق لها بحير فرسه وولى، فانهزمت جديلة عند ذلك وقتل فيها قتلٌ ذريعٌ، فقال زيد الخيل:
    تجيء بني لأم جيادٌ كأنّها … عصائب طير يوم طلٍّ وحاصب
    فإن تنج منها لا يزل بك شامة … أناء حياً بين الشّجا والترائب
    وفرّ ابن لأم واتّقانا بظهره … يردّعه بالرمح قيس بن عازب
    وجاءت بنو معنٍ كأنّ سيوفهم … مصابيح من سقف فليس بآيب
    وما فرّ حتّى أسلم ابن حمارسٍ … لوقعة مصقول من البيض قاضب
    فلم تبق لجديلة بقية للحرب بعد يوم اليحاميم، فدخلوا بلاد كلب وحالفوهم وأقاموا معهم.) ( ) .
    وتبين هذه الوقائع كيف أن القضية الشخصية تصير سبباً لنشوب المعارك والحروب وتؤدي إلى هلاك آلاف من الناس وسبي النساء والصبيان مع الأضرار بالأموال وتعطيل الأعمال والزراعات .
    فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لإستئصال هذه العادة المذمومة ، وجعل القتال خالصاً لوجه الله وفي سبيله حيث الثواب العظيم الذي تبينه آية البحث .
    فجاء الإسلام بالأمن والأخوة والعز ونبذ الفرقة وطرد الثأر وآثاره ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
    الرابع والستون : حرب سمير‏:‏ وقع بين الأوس والخزرج ابنا حارثة بن عمرو ومزيقيا بن عامر ابن ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الازد وقد تقدم بيانه ( ).
    ونشبت بينهم تلك الحروب في الجاهلية وهذا من أشهرها‏.‏
    ومنها‏:‏ حرب كعب بن عمرو وحرب حاطب‏.‏
    الخامس والستون : يوم سحب‏:‏ وسحب موضع في ديار بني الحارث بن كعب‏.‏
    وهذا وان اتصل بالاسلام‏ الا أنه جاهلي في مقدماته وأسبابه .‏
    السادس والستون : يوم خزاز‏:‏ وهو لمعد على مذحج وخزاز جبل ما بين البصرة إلى مكة‏, وقريب من جبل سالع .‏
    وهو من أعظم أيام العرب في الجاهلية وكانت معد لا تستنصف من اليمن ولم تزل اليمن قاهرة لها حتى هذا اليوم الى أن كان هذا اليوم فانهزمت مذحج , وصارت المنعة لمعد حتى جاء الاسلام‏.
    وكان أحد ملوك اليمن في يديه أسرى من مضر وربيعة وقضاعة فدخل عليه وفد من وجوه بني معد ، وسألوه فك الأسرى فأجابهم ، (فلقيهم رجل من بهراء يقال له عبيد بن قراد، وكان في الأسرى، وكان شاعراً، فسألهم أن يدخلوه في عدة من يسألون فيه، فكلموا الملك فيه وفي الأسرى، فوهبهم لهم، فقال عبيد بن قراد البهراوي:
    نفسي الفداء لعوف الفعال … وعوف ولابن هلالٍ جشم
    تداركني بعدما قد هوي … ت مستمسكاً بعراقي الوذم
    ولولا سدوسٌ وقد شمّرت … بي الحرب زلّت بنعلي القدم
    وناديت بهراء كي يسمعوا … وليس بآذانهم من صمم
    ومن قبلا عصمت قاسطٌ … معدّاً إذا ما عزيزٌ أزم
    فاحتبس الملك عنده بعض الوفد رهينةً وقال للباقين: ايتوني برؤساء قومكم لآخذ عليهم المواثيق بالطاعة لي وإلا قتلت أصحابكم. فرجعوا إلى قومهم فأخروهم الخبر، فبعث كليب إلى ربيعة فجمعهم، واجتمعت عليه معد، وهو أحد النفر الذين اجتمعت عليهم معد، على ما نذكره في مقتل كليب .
    فلما اجتمعوا عليه سار بهم وجعل على مقدمته السفاح التغلبي، وهو سلمة بن خالد بن كعب بن زهير بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر ابن حبيب بن تغلب، وأمرهم أن يوقدوا على خزاز ناراً ليهتدوا بها، وخزاز جبل بطخفة ما بين البصرة إلى مكة، وهو قريب من سالع، وهو جبل أيضاً؛ وقال له: إن غشيك العدو فأوقد نارين. فبلغ مذحجاً اجتماع ربيعة ومسيرها فأقبلوا بجموعهم واستنفروا من يليهم من قبائل اليمن وساروا إليهم، فلما سمع أهل تهامة بمسير مذحج انضموا إلى ربيعة، ووصلت مذحج إلى خزام ليلاً، فرفع السفاح نارين.
    فلما رأى كليب النارين اقبل إليهم بالجموع فصبحهم، فالتقوا بخراز فاقتتلوا قتالاً شديداً أكثروا فيه القتل، فانهزمت مذحج وانفضت جموعها، فقال السفاح في ذلك:
    وليلة بتّ أقود في خزاز … هديت كتائباً متحيّرات
    ضللن من السّهاد وكنّ لولا … سهاد القوم أحسب هاديات
    وقال الفرزدق يخاطب جريراً ويهجوه:
    لولا فوارس تغلب ابنة وائل … دخل العدوّ عليك كلّ مكانٍ
    ضربوا الصنائع والملوك وأوقدوا … نارين أشرفتا على النيران
    وقيل: إنه لم يعلم أحد من كان الرئيس يوم خزاز لأن عمرو بن كلثوم، وهو ابن ابنة كليب، يقول:
    ونحن غداة أوقد في خزاز … رفدنا فوق رفد الرافدينا
    فلو كان جده الرئيس لذكره ولم يفتخر بأنه رفد، ثم جعل من شهد خزازاً متساندين فقال:
    فكنّا الأيمنين إذا التقينا … وكان الأيسرين بنو أبينا
    فصالوا صولةً فيمن يليهم … وصلنا صولةً فيمن يلينا
    فقالوا له: استأثرت على إخوتك، يعني مضر، ولما ذكر جده في القصيدة قال:
    ومنّا قبله الساعي كليبٌ … فأيّ المجد إلاّ وقد ولينا
    فلم يدع له الرياسة يوم خزاز، وهي أشرف ما كان يفتخر له به.
    ) ( ) .
    السابع والستون : يوم الكلاب‏ الأول , ويوم الكلاب الثاني ‏.‏
    والكلاب اسم ماء بين الكوفة والبصرة‏.‏
    ووقع يوم كلاب الأول بين الأخوين :
    الأول :شرحبيل بن الحارث بن عمرو الكندي ، وهو الأخ الأكبر ومعه بكر بن وائل وغيرهم .
    الثاني : سلمة بن الحارث بن عمرو الكندي ومعه تغلب وائل وغيرهم .
    وأشتد القتال بين الفريقين ، حتى نادى منادي شراحيل من أتاه برأس أخيه سلمة فله مائة من الإبل ، فنادى منادي سلمة من أتاه برأس أخيه شراحيل فلة مائة من الإبل ، وانهزم شراحيل وبكر بن وائل ، ولحقته خيل أخيه فقتلوه وحملوا رأسه إلى أخيه سلمة .
    لبيان حاجة الناس إلى بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلاوة القرآن وإقامة الصلاة خمس مرات في اليوم , لطمس النفس الشهوية وقهرالنفس الغضبية .
    ويتلو كل مسلم ومسلمة على نحو الوجوب العيني خمس مرات في اليوم [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) لبعث النفرة في النفوس من القتال مطلقاً .
    وإذ يبين يوم الكلاب إقتتال الأخوة بالنسب وقيام كل واحد منهما بتخصيص جعل لرأس أخيه مع أنهما في مقام الرياسة .
    فان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار لزيادة الإيمان والدفاع ضد الذين كفروا حتى إذا قتل سبعون منهم في معركة أحد صاروا أحياء عند الله عز وجل يستبشرون بالنعم التي تأتيهم من عند الله عز وجل .
    وعندما أشرفت معركة أحد على الإنتهاء ، وصعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الجبل وَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَلا تَخْرُجُ ؟ الْحَرْبُ سِجَالٌ يَوْمٌ لَنَا وَيَوْمٌ لَكُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَجِيبُوا”، لأَصْحَابِهِ، وَقُولُوا: “لا سَوَاءٌ قَتْلانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلاكُمْ فِي النَّارِ”. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: عُزَّى لَنَا وَلا عُزَّى لَكُمْ.
    فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “قُولُوا: اللَّهُ مَوْلانَا وَلا مَوْلَى لَكُمْ”. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أُعْلُ هُبَلَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ”.
    فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَوْعِدُنَا وَمَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ الصُّغْرَى، وَنَامَ الْمُسْلِمُونَ وَبِهِمُ الْكُلُومُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: فَفِيهِمْ نَزَلَتْ: ” إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ “)( ).
    الثامن والستون : يوم النهى‏:‏ وهو من أيام حرب البسوس‏.‏
    والنهى ماء لبني شيبان وقع لتغلب على بكر‏.‏
    التاسع والستون : يوم عنيزة‏:‏ لتغلب على بكر وقد تكافآ فيه‏.‏
    وعنيزة موضع في اليمامة.‏
    السبعون : يوم القصيبات‏:‏ وهو أيضًا لتغلب على بكر، والقصيبات‏:‏ موضع في ديار بكر وتغلب‏.‏
    الحادي والسبعون : يوم الوقيط‏:‏ اللهازم من ربيعة على تميم، وقيلت فيه قصائد كثيرة من الفريقين , والوقيط‏:‏ المكان الصلب الذي يستنقع فيه الماء‏.‏
    واطلق على موضع‏.‏
    الثاني والسبعون : يوم ثيتل – ويسمى أيضا يوم نبتل , وهو لتميم على بكر وثيتل‏:‏ ماء على عشر مراحل من البصرة وهو متقارب مع يوم النباج مكاناً وزماناً .
    الثالث والسبعون : يوم جدود‏:‏ لبني منقر من تميم على بكر من وائل, وجدود‏:‏ اسم موضع في بلاد بني تميم قريب من حزن بني يربوع على سمت اليمامة فيه الماء الذي يقال له الكلاب‏.‏
    ووقع يوم جدود لأن الحارث بن شريك أراد الإغارة على بني يربوع ومباغتتهم فجمع بني شيبان وذهلاً واللهازم ، ولكن بني يربوع علموا به حين دخل بلادهم فربطوا ودافعوا فعزف عن غزوهم فأغار على بني ربيع بن الحارث بجدود وسبى منهم وأخذ أنعاماً .
    واستغاثوا ببني منفر بن عبيد فقاموا باللحاق ببكر بن وائل وانتصروا عليهم .
    وقد يسمي بعضهم يوم الكلاب الاول يوم جدود ‏.‏
    الرابع والسبعون : يوم ذي طلوح – لبني يربوع من تميم على بكر من ربيعة وذو طلوح‏:‏ موضع في حزن بني يربوع بين الكوفة وفيد وهو يوم الصمد ويوم أود – وأد‏.
    وتقع في منتصف الطريق بين مكة والكوفة ، وتبعد عن حائل اثنين وتسعين كيلو متراً ، وكانت فيما بعدضمن ولايات الدولة العباسية وفيها آثار وآبار عديدة وقنوات للماء منها ما قامت بحفره زبيدة زوجة هارون الرشيد لأنها تقع في طريق الحج من العراق وفارس وكان يسمى درب زبيدة ، وكانت منطقة رعي لقبيلة طيء .
    وقال الفرزدق :
    هَلْ تَعْلَمُونَ غَدَاةَ نَطْردُ سَبْيَكُمْ … بِالصَّمْدِ بَيْنَ روية وطحال) ( )
    والخمسون والسبعون : يوم الاياد – أيضًا لبني يربوع على بكر وإياد موضع بالحزن لبني يربوع بين الكوفة وفيد ويسمى أيضًا – يوم العظالى – ويوم الافاقة – ويوم مليحة – ويوم اعشاش –
    وسمي يوم الغطالى لأن بسطام بن قيس ، وهانئ بن قبيصة ، ومفروق بن عمرو تعاظلوا على الرئاسة ، وقد اقترح عليهم بسطام الإغارة على قوم منفردين من بني زبيد ويرجعون بالغنيمة القليلة والسلامة، وذات السلامة غنيمة , ولكن استخفا به وحسداه , فلم يسمعا كلامه فكانت هزيمتهم جميعاً .
    السادس والسبعون : يوم قشاوة – لشيبان على يربوع وقشاوة‏:‏ موضع قال عنه ياقوت‏:‏ كانت به وقعة لبني شيبان على يربوع وهو يوم نعف قشاوة‏.‏
    (وهو يوم لشيبان على تميم: قال أبو عبيدة: أغار بسطام بن قيس على بني يربوع من تميم وهم بنعف قشاوة، فاهم ضحىً، وهو يوم ريح ومطر، فوافق النعم حين سرح، فأخذه كله ثم كر راجعاً، وتداعت عيله بنو يربوع فلحقوه .
    وفيهم عمارة بن عتيبة بن الحارث بن شهاب، فكر عليه بسطام فقتله، ولحقهم مالك بن حطان اليربوعي فقتله، وأتاهم أيضاً بجير بن أبي مليل فقتله بسطام، وقتلوا من يربوع جمعاً وأسروا آخرين، منهم: مليل بن أبي مليل، وسلموا وعادوا غانمين.
    فقال بعض الأسرى لبسطام: أيسرك أن أبا مليل مكاني ؟ قال: نعم. قال: فإن دللتك عليه أتطلقني الآن ؟ قال: نعم. قال: فإن ابنه بجيراً كان أحب خلق الله إليه , وستجده الآن مكباً عليه يقبله فخذه أسيراً. فعاد بسطام فرآه كما قال، فأخذه أسيراً وأطلق اليربوعي.
    فقال له أبو مليل: قتلت بجيراً وأسرتني وابني مليلاً ! والله لا أطعم الطعام أبداً وأنا موثق. فخشي بسطام أن يموت فأطلقه بغير فداء على أن يفادي مليلاً وعلى أن لا يتبعه بدم ابنه بجير ولا يبغيه غائلة ولا يدل له على عورة ولا يغير عليه ولا على قومه أبداً، وعاهده على ذلك، فأطلقه وجز ناصيته، فرجع إلى قومه وأراد الغدر ببسطام والنكث به، فأرسل بعض بني يربوع إلى بسطام بخبره، فحذره؛ وقال متمم بن نويرة:
    أبلغ شهاب بني بكرٍ وسيّدها … عنيّ بذاك الصّهباء بسطاما
    أروي الأسنّة من قومي فأنهلها … فأصبحوا في بقيع الأرض نوّاما
    لا يطبقون إذا هبّ النيام ولا … في مرقدٍ يحلمون الدهر أحلاما
    أشجي تميم بن مرّ لا مكايدةً … حتّى استعادوا له أسرى وأنعاما
    هلاّ أسيراً فدتك النفس تطعمه … ممّا أراد وقدماً كنت مطعاما
    وهي أبيات عدة ) ( ).
    أي أن أبا مليل أضرب عن الطعام وامتنع عن الأكل ما دام أسيراً ، فبادر بسطام إلى اطلاق سراحه ومن غير فداء ولكن بشروط ، فقد خشي أن يموت في الأسر ويعيبه عليه العرب ، وقد جاء الإسلام باطعام الأسير والعناية به ، قال تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا]( ) .
    السابع والسبعون : يوم زُبالة – وهو لشيبان على تميم , وزبالة منزل بطريق مكة الى الكوفة‏. زبالة أو زبالا وهي إحدى منازل درب زبيدة وتقع جنوب مدينة رفحاء بنحو خمسة وعشرين كيلو متراً .
    وذكرها ياقوت الحموي وقال (زبالَةُ: بضم أوله. منزل معروف بطريق مكة من الكوفة وهي قرية عامرة بها أسواق بين واقصة وابعلبية، وقال أبوعبيد الشَكُوني زُبالة بعد القاع من الكوفة وقبل الشقوق فيها حصن وجامع لبني غاضرة من بني أسد، ويوم زبالة من أيام العرب. قالوا: سميت زبالة بزبلها الماءَ أي بضبطها له وأخذها منه .
    يقال إن فلاناً شديد الزبل للقرب والزمل إذا احتملها ويقال ما في الإناء زُبالة أي شي: والزِبال ما تحمله النملة بفيها، وقال ابن الكلبي: سميت زُبالة باسم زبالة بنت مسعر امرأة من العمالقة نزلَتها، وإليها ينسب أبو بكر محمد بن الحسن بن عياش الزبالي يروي عن عياض بن أشرَس روى عنه أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة، وقال بعض الأعراب:
    ألا هل إلى نجد وماءٍ بقاعها … سبيل وأرواحٍ بها عَطِرَاتِ
    وهل لي إلى تلك المنازل عودة … على مثل تلك الحال قبل مماتي
    فأشرب من ماءِ الزلال وأرتوي … وأرعى مع الغزلان في الفَلَوات
    وألصِقَ أحشائي برمل زُبالة … وآنس بالظلمان والظَبَيَاتِ) ( )
    ‏ الثامن والسبعون : يوم مبايض – وهو لشيبان على تميم , ومبايض ماء من مياه بني تميم‏.
    ‏وسببه أن فارساً شجاعاً من تميم يسمى طريق بن تميم العنبري جاء إلى الحج، وحضر سوق عكاظ، ولقيه شاب من بني أبي ربيعة يتصف بالشجاعة وهو حصيصة بن جندل الشيباني , وهو يطوف بالبيت فأخذ يطيل النظر إلى طريف .
    فسأله طريف عن السبب، قال أريد أن أثبتك لأقتلك إذا لقيتك، ومن الإعجاز في الإسلام المنع من الجدال والخصومة في الحج، قال تعالى[الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ]( )، اللهم لا تحول الحول حتى ألقاه ! ودعا حمصيصة مثله، فقال طريف:
    لا تنكروني إنّني أنا ذاكم … شاكي السلاح وفي الحوادث معلم
    حولي فوارس من أسيد جمّةٌ … ومن الهجيم وحول بيتي خصّم
    تحتي الأغرّ وفوق جلدي نثرةٌ … زغفٌ تردّ السيف وهو مثلّم
    في أبيات)( ).
    وجدت قتال بين بطون من بني شيبان، ولم تسيل الدماء فيه، فأمر هانئ بن مسعود رئيس بني أبي ربيعة من بني شيبان قومه بالرحيل لمنع تفاقم الخصومة وكان العرب ينزلون على الماء والكلأ، فنزلوا على ماء اسمه مائض قريب من مياه بني تميم، فأقاموا عليه أشهراً .
    وبلغ نبأهم بني تميم فقالوا هؤلاء منفردون نغزوهم وفيه وهن لبكر بن وائل أي أن القوم اعتزلوا أبناء عمهم، ليفاجئوا بعزم بني تميم على قتالهم لأنهم إنفردوا عن عمومتهم، فسار بنو تميم، وكان طريف بن تميم أحد ثلاثة قواد لهم.
    ولما صاروا قريبين من بني ربيعة علموا بهم وبعزمهم على غزوهم وقتالهم، فتهيئوا للقتال، وخطبهم هانئ بن مسعود ودعاهم للإستبسال في القتال، ثم أمرهم بأن يقاتلوا فترة قصيرة ثم ينحازوا عنهم، ويتركوا الأنعام والأموال لإغراء تميم بأخذها والإستيلاء عليها، وفعلوا ما أمرهم فأتجهت تميم إلى النهب، فرجعت إليهم ربيعة وقتلوا وسبوا أكثرهم، ولم ينجو منهم إلا القليل وأنهزم طريف فأتبعه حمصيصة فقتله .
    وأستردت شيبان الأهل والمال إلا صبياً لهانئ بن عروة كان أحدهم أخذه وإنصرف مكتفياً به كغنيمة قبل عودة شيبان لهم، وفاداه هانئ بن مسعود بمائة بعير (وقال بعض شيبان في هذا اليوم:
    ولقد دعوت طرف دعوة جاهلٍ … غرٍّ وأنت بمنظر لا تعلم
    وأتيت حيّاً في الحروب محلّهم … والجيش باسم أبيهم يستهزم
    فوجدتهم يرعون حول ديارهم … بسلاً إذا حام الفوارس أقدموا
    وإذا اعتزوا بأبي ربيعة أقبلوا … بكتيبة مثل النجوم تلملم
    ساموك درعك والأغرّ كليهما … وبنو أسيدٍ أسلموك وخصّم
    وقال عمرو بن سواد يرثي طريفاً:
    لا تبعدن يا خير عمرو بن جندب … لعمري لمن زار القبور ليبعدا
    عظيم رماد النار لا متعبّساً … ولا مؤيساً منها إذا هو أوقدا
    وما كان وقّافاً إذا الخيل أحجمت … وما كان مبطاناً إذا ما تجرّدا)( ).
    التاسع والسبعون : يوم الشيطين – لبكر على تميم والشيطان‏:‏ واديان‏.‏
    الثمانون : يوم الوقبي – لتميم على بكر والوقبي‏:‏ ماء لمازن على طريق المدينة من البصرة وهو من الايام التي تعد في الجاهلية‏.‏
    الحادي والثمانون : يوم الشباك – لبني القصاف من تميم على بني تيم الله بن ثعلبة من بكر والشباك‏:‏ طريق حاج البصرة وهذا أيضًا يعد من أيام الجاهلية‏.‏
    الثاني والثمانون : يوم منعج – من أيام قيس فيما بينها‏.‏
    وهو لعبس على غني ويسمى يوم منعج وقال أبو عبيد‏ة( ):‏ ويقال له يوم الردهة .
    الثالث والثمانون : يوم النفراوات – لعامر على عبس والنفراوات هكذا ذكره أبو الفرج في الاغاني‏.‏
    أما ابن عبد ربه فسماه النقراوات وقال البكري في كتابه معجم ما استعجم‏:‏ نفري بفتح أوله واسكان ثانيه بعده راء مهملة مقصور على وزن فعلى ويمد‏:‏ موضع في بلاد غطفان‏.‏
    قال السكري‏:‏ هي حرة قال مالك بن خالد الحفاعي‏:‏ ولما رأوا نفرى تسيل اكامها بأرعن جرار وحاميةٍ غلب ورواه السكوتي‏:‏ نقري بالقاف‏.‏
    قال أبو الفتح‏:‏ أراد نقري فخفف للضرورة‏.‏
    قال أبو صخر فجمعها على نقريات‏:‏ فلما تغشى نقريات سحيلة ودافعه من شامه بالواجب يريد بالاصابع يصف سحابا‏.‏
    الرابع والثمانون : يوم النتاءة – لغطفان على عامر والنتاءة نخيلات لبني عطارد وهو النتأة كهمزة في القاموس وفي ابن الاثير هو يوم النبأة .
    الخامس والثمانون : يوم حوزة الاول – لسليم على ذبيان وحوزة‏:‏ واد بالحجاز‏.‏
    السادس والثمانون : يوم حوزة الثاني – لسليم على بني مرة من ذبيان‏.‏
    السابع والثمانون : يوم اللوى – لغطفان على هوزان واللوى واد من أودية بني سليم وسببه ان خروج عبد الله بن الصمة ومعه بنو جشم وبنو نصر أبناء معاوية بن بكر ابن هوزان – غطفان – فظفر بهم وساق اموالهم في يوم يقال له يوم اللوى ومضى بها‏.
    الثامن والثمانون : يوم ابن ضبا – لبني ابي بكر بن كلاب على بني جعفر بن كلاب وكلاهما من عامر وابن ضبا رجل من بني أسد‏.‏
    التاسع والثمانون : يوم هراميت – للضباب على بني جعفر وكلاهما من بني عامر والهراميت‏:‏ آبار مجتمعة بناحية الدهناء‏.‏
    التسعون : يوم الكديد – وهو من أيام قيس وكنانة وهو لبني سليم على كنانة والكديد‏:‏ ماء قريب من عسفان , وموضع على اثنين واربعين ميلا من مكة‏.‏
    وقد ورد ذكر الكديد في عدة أخبار في السنة النبوية وقد بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم (سرية غالب بن عبدالله الليثى إلى بني الملوح بالكديد في صفر سنة ثمان .
    وعن يعقوب بن عتبة بن مسلم بن عبدالله الجهنى عن جندب بن مكيث الجهنى .
    قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبدالله الليثي ثم أحد بني كلاب بن عوف في سرية كنت فيهم وأمرهم أن يشنوا الغارة
    على بنى الملوح بالكديد وهم من بنى ليث.
    قال فخرجنا حتى إذا كنا بالكديد لقينا الحرث بن البرصاء الليثي فأخذناه فقال إنما جئت أريد الاسلام وإنما خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا إن كنت مسلما لم يضرك رباطنا يوما وليلة وان كنت على غير ذلك نستوثق منك.
    قال فشددناه وثاقا وخلفنا عليه رويجلا منا أسود فقلنا إن نازعك فاحتز رأسه فسرنا حتى أتينا الكديد عند غروب الشمس فكمنا في ناحية الوادي.
    وبعثنى أصحابي ربيئة لهم فخرجت حتى أتيت تلا مشرفا على الحاضر يطلعني عليهم حتى إذا اسندت فيه علوت على رأسه ثم اضطجعت عليه.
    قال فاني لا نظر إذ خرج منهم من خباء له فقال لامرأته إنى لانظر على هذا الجبل سوادا ما رأيته أول من يومى هذا فانظري إلى أوعيتك لا تكون الكلاب جرت منها شيئا .
    قال فنظرت فقالت والله ما أفقد من أوعيتي شيئا قال فناوليني قوسي ونبلي فناولته قوسه وسهمين معها فأرسل سهما فوالله ما اخطأ بين عينى، قال فانتزعته فوضعته وثبت مكاني ثم أرسل آخر فوضعه في منكبي فانتزعه فوضعته وثبت مكاني .
    قال فقال لامرأته والله لو كانت ربيئة لقد تحركت بعد والله لقد خالطها سهمان لا أبا لك فإذا أصبحت فانظريهما لا تمضغهما الكلاب.
    قال ثم دخل وراحت الماشية من إبلهم وأغنامهم فلما احتلبوا واطمأنوا فناموا شننا عليهم الغارة واستقنا النعم قال فخرج صريخ القوم في قومهم فجاء ما لا قبل لنا به فخرجنا به نحدرها مررنا بابن البرصاء فاحتملناه واحتملنا صاحبنا .
    فأدركنا القوم حتى نظروا الينا ما بيننا وبينهم الا الوادي ونحن موجهون في ناحية الوادي إذ جاء الله بالوادي من حيث شاء يملا جنبيه ماء والله ما رأينا يومئذ سحابا ولا مطرا فجاء بما لا يستطيع أحد أن يجوزه فلقد رأيتهم وقوفا ينظرون الينا وقد أسندناها في المسيل)( ).
    وفي عام الفتح ورد عن أبي سعيد الخدري قال: آذننا رسول الله بالرحيل عام الفتح لليلتين خلتا من رمضان، فخرجنا صواما حتى بلغنا الكديد، فأمرنا رسول الله بالفطر، فأصبح الناس منهم الصائم ومنهم المفطر، حتى إذا بلغ أدنى منزل يلقى العدو أمرنا بالفطر فأفطرنا أجمعون)( ).
    مشروع إتفاق على التنقيح
    تتعدد الأخبار والأرقام في الموضوع المتحد، ويحتاج المحقق إلى سبر الروايات ومراجعة السنة وجهة الصدور والمصدر ، ويقتضي الأمر أحياناً ذكر الأقوال المتعددة في الموضوع المتحد بما قد يلبس على القارئ أو يحول دون خروجه برأي محدد على نحو التعيين أو التخيير ، وفي أسباب نزول الآية القرآنية مثلاً تتعدد الأقوال ، وقد يكون العكس أن ذات الحادثة تذكر كسبب لنزول أكثر من آية قرآنية وقد لا يكون بينهما إتحاد في الموضوع ، ويأتي بعض الباحثين ليغوص ويفّصل في ذكر الأقوال في ذات الآية.
    فيذكر قول الصحابي والتابعي وتابع التابعي وغيرهم بمرتبة واحدة كسبب للنزول مع التباين في هذه الأقوال بما يصعب على القارئ إستقراء معنى مخصوص للآية الكريمة.
    فلا بد من عقد علماء التفسير والفقهاء مؤتمرات وحلقات خاصة لإختيار القول المناسب سواء كان متحداً أو متعدداً بلحاظ مضامين الآية ومناسبة التفسير لمعاني ودلالات الآية القرآنية ، ليسهل على القارئ والباحث التحقيق ولينتفع الناس الإنتفاع الأمثل من علم التفسير بجهد ووقت أقل، من غير أن يتعارض هذا التنقيح والحصر مع بقاء ذات الأقوال المتعددة في الآية القرآنية ، لمن أراد التحقيق في المطولات واستكشاف أراء العلماء مع الدليل أو القرينة على ذات التأويل .
    وقد يرد قولان متعارضان منسوبان لجهة صدور واحدة كما لو ورد عن ابن عباس ، ومن غير أن يذكر رجال السند فيهما أو في أحدهما .
    لقد أنعم الله عز وجل على الشهداء بالحياة والرزق الدائم والمستقرأ من قوله تعالى في الآية قبل السابقة [بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) تعدد الرزق كماً وكيفاً ونوعاً وجنساً ، وهو من بديع صنع الله عز وجل ، ثم تفضل بالتعدد في الإستبشار من جهات :
    الأولى : ذات الإستبشار بدلالة تكراره .
    الثانية : جنس الإستبشار .
    الثالثة : أثر الإستبشار .
    الرابعة : أفراد الإستبشار اللامتناهية .
    الخامسة :أثر إستبشار الشهداء وهو على وجوه :
    أولاً : أثر الإستبشار على ذات الشهداء .
    ثانياً : الأثر على نحو القضية الشخصية لكل شهيد .
    ثالثاً : أثر إستبشارهم على الملائكة .
    رابعاً : أثر إستبشار الشهداء على المؤمنين الأحياء .
    خامساً : أثر الإستبشار على المنافقين ، وهو على شعبتين :
    الأولى : توبة طائفة من المنافقين .
    الثانية : إنه حجة على الذين يصرون على إبطان الكفر في ذات الوقت الذي يتظاهرون فيه بالإيمان.
    ويكون من معاني الآية توجه الخطاب للمؤمنين وجوه :
    أولاً : وأن الله لا يضيع أجركم .
    ثانياً : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنات .
    ثالثاً :وأن الله لا يضيع أجر المؤمن .
    رابعاً : وأن الله لا يضيع أجر المؤمنة , ليفرح الشهداء بحفظ الله عز وجل لكل فعل صالح للمؤمنين والمؤمنات من الأولين والآخرين .
    لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين ببركات وفيوضات من تضحية الصحابة في معركة أحد ، ومنها قانون حفظ ثواب المؤمنين ، وعدم ضياعه لبيان قانون من الإرادة التكوينية من جهات :
    الأولى : عدم استطاعة الخلائق تغيير أو نقص أو تبديل ثواب المؤمنين ، وهل من صلة بين حفظ تمام هذا الثواب وحفظ القرآن من التحريف والتبديل والتغيير ، الجواب نعم، وكل من فضل الله ، وهو طريق للفوز بالنعم من عند الله , قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
    الثانية : ترشح الثواب عن ذات الإيمان لأن آية السياق لم تعمل [وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) إنما ذكرت ذات الإيمان وهو لا يتعارض مع إرادة ثواب عملهم .
    فان قلت أنما وردت الآية في باب حذف المضاف ، كما في قوله تعالى في قصة أبناء يعقوب عليه السلام [وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ] ( ) أي وأسال أهل القرية ، الجواب هذا صحيح وهو لا يتعارض مع معنى ودلالة ظاهر الآية .
    الثالثة : إخبار القرآن عن حافظ ثواب المؤمنين ترغيب للناس بالإيمان ، وإزاحة للموانع التي قد تحول دونه من نفوسهم .
    الرابعة : تأكيد سخط الله على الذين كفروا لجحودهم ولقتلهم المؤمنين ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] ( ).
    الخامسة : التعريف بالمنافقين وحرمانهم من الثواب فهم وإن تظاهروا بالإيمان وقاموا بأداء الصلاة مع جماعة المسلمين إلا أنهم ليسوا من المؤمنين لإبطانهم الكفر .

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn