المقدمة
الحمد لله زنة عرشه ومداد كلماته، وسعة كرسيه وعدد ملائكته والناس والخلق أجمعين، وكل فرد من الخلائق لم يأت إلى الوجود من العدم إلا بفضل ورحمة من عند الله تستلزم الشكر له سبحانه , ويحتمل خلق أي فرد من أفراد الخلائق بلحاظ النعمة في قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ) وجوهاً:
الأول : كل فرد من الخلائق نعمة قائمة بذاتها.
الثاني : في كل فرد من الخلائق نعم كثيرة ومتعددة.
الثالث : خلق الموجودات نعمة واحدة .
والصحيح هو الثاني أعلاه ولفظ [نِعْمَةَ] في الآية أعلاه اسم جنس إذ تعجز الخلائق عن عدّ النعم الإلهية في كل مخلوق جاء بمشيئته سبحانه، ويتجلى بقوله تعالى[بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الحمد لله على كل كلمة وكل حرف وآية إدّخرها الله عز وجل في اللوح المحفوظ لتطل بإشراقتها على أهل الأرض ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويستشير بها الملائكة، ولئن كذبه وآذاه وحاربه وأهل بيته وأصحابه من المهاجرين والأنصار كفار قريش فإن يوم بعثته كان عيداً عند أهل السموات، وهو من عمومات قوله تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
وتحتمل النسبة بين الشهيد والذي قتل في سبيل الله وجوهاً:
الأول : التساوي، فكل شهيد هو قتيل في سبيل الله، وكذا العكس.
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق، وهو على شعبتين:
الأولى : الشهيد أعم من القتيل في سبيل الله.
الثانية : الذين يقتلون في سبيل الله أعم وأكثر من الشهداء.
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بينهما.
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه، وهو الذي يدل عليه ما ورد عن سلمان الفارسي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزكاة ثلاث مرار وقال: ما تعدون الشهيد فيكم؟ .
قالوا: الذي يقتل في سبيل الله. قال: إن شهداء أمتي إذا لقليل، القتل في سبيل الله شهادة، والطاعون شهادة ، والنفساء( ) شهادة، والحرق شهادة، والغرق شهادة، والسل شهادة، والبطن شهادة)( ).
وتتجلى هذه النسبة بالقيد الذي تذكره هذه الآيات بقوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا]( )، بالإضافة إلى التباين في كيفية مغادرة الحياة الدنيا في الحالات أعلاه إذ أن الطاعون مرض معد قاتل، وينتشر في الهواء أو الإتصال المباشر أو عن طريق الطعام ويدّب في الدم أو الرئتين، ولا يزال مستوطناً في بعض المناطق، ويمكن علاجه إذا تم إكتشافه في بداية الإصابة به، وقد لاقت الأمم السالفة منه، ليشكر الناس في هذه الأزمنة الله عز وجل على إنحساره، وسهولة علاجه .
وورد (عن سعد بن مالك وخزيمة بن ثابت وأسامة بن زيد قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ان هذا الطاعون رجز وبقية عذاب عذّب به قوم فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تدخلوها)( ) .
لبيان معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في التوقي من الأمراض المعدية، وكيفية حصرها، ومنع إنتشارها أو إلحاق الأذى بالناس مطلقاً سواء كانوا من المسلمين أو غير المسلمين، ليكون من مصاديق قول الله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وهل في استجابة المهاجرين والأنصار لله ورسوله واقية من الطاعون ونحوه من الآفات , الجواب نعم وهو من مصاديق بشارة خاتمة آية البحث بالأجر العظيم .
ومن الإعجاز في الآية محل البحث انها تتضمن الثناء على المجاهدين من غير الذين قتلوا في سبيل الله , ووردت الآيات الثلاثة السابقة في مدحهم والثناء عليهم والبشارة بما فازوا به من الثواب العظيم ، نعم لم يأت هذا الثناء من غير علة وسبب , إنما جاء بجهاد وصبر إختاروا معه ملاقاة الحتوف وبذل النفوس ولكن الله عز وجل رحمهم وكتب لهم العودة سالمين من القتل يوم أحد .
الحمد لله الذي بعث النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم[رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ومن مصاديق هذه الرحمة إستجابة طائفة نقية من الناس للأوامر التي يأتي بها من عند الله وإن كانوا في أشقى الأحوال.
وجاء هذا الجزء من معالم الإيمان في تفسير القرآن في تفسير الآية الثانية والسبعين بعد المائة من سورة آل عمران وهو قوله تعالى[الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
ولقد جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة كواجب عيني على كل مكلف ذكراً أو أنثى، قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( )، وتؤدى الصلاة على كل حال، فمن يعجز عن أدائها قياماً يؤديها جلوساً، ومن لا يقدر حتى على أدائها عن جلوس يؤديها مضطجعاً ليصدق عليه أنه إستجاب لله ولرسوله.
ولكن إستجابة المهاجرين والأنصار التي تذكرها آية البحث تختلف في موضوعها، فمع أنهم يؤدون الصلاة في أوقاتها بإمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكفى به فخراً ، فأنهم دخلوا معركة أحد التي وقعت يوم السبت النصف من شهر شوال , وقيل السابع منه , في السنة الثالثة للهجرة وقاتلوا تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جيش كفار قريش ومن حالفهم كقبيلة غطفان والأحابيش والذين كان عددهم أربعة أضعاف عدد جيش المسلمين .
وسخرت قريش أموال القافلة التي جاء بها أبو سفيان أثناء معركة بدر في التجهيز لمعركة أحد وعددها ألف بعير محملة بالبضائع ، وسخرت أرباح تلك القافلة لمعركة أحد ، وكانت خمسين ألف دينار ، وكل دينار مثقال ذهب عيار ثمان عشرة حبة .
وبعثت قريش إلى القبائل تدعوهم لنصرتها وتحرضهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار فارسلت إلى الأحباش ، فخرج صفوان أمية إلى تهامة واصطحب معه أبا عزة الشاعر الذي منّ عليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأطلق سراحه من غير فداء في معركة بدر ، وخرج مسافع بن عبد مناف إلى كنانة لإثارة النخوة في محاربة الإسلام والإتفاق على أمور :
الأول : السير بالجيوش نحو المدينة بقصد قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : مقدار الأموال التي تدفع للقبائل , وكأنهم من المرتزقة .
الثالث : الضمانات التي تقدمها قريش للقبائل وللذي يقتل منهم من الدية والعوض .
وقامت قريش بترغيب العبيد بالقتال ، ووعدهم بالعتق إن قتلوا بعض فرسان المسلمين كما في وحشي مثلاً.
واستطاعت قريش حشد ثلاثة آلاف رجل وهو عدد كبير آنذاك وكان معهم :
أولاً : سبعمائة درع .
ثانياً : ثلاثة آلاف بعير .
ثالثاً : مائتا فرس لم تركب ظهورها استعداداً للمعركة .
رابعاً : خمس عشرة ناقة لتركب عليها النساء ، ليقمن بأمور:
الأول : الضرب على الدفوف .
الثاني : القاء قصائد الحماسة .
الثالث : مداواة الجرحى وتقديم الطعام .
الرابع : التذكير بواقعة بدر وأخذ الثأر .
الخامس : بكاء قتلى بدر والنوح عليهم .
السادس : تعيير الذي ينهزم من قريش .
وقيل لأم عمارة وهي أنصارية من أهل بيعة العقبة وشاركت في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (هل كن نساء قريش يومئذٍ يقاتلن مع أزواجهن؟.
فقالت: أعوذ بالله، ما رأيت امرأة منهن رمت بسهمٍ ولا بحجر، ولكن رأيت معهن الدفاف والأكبار، يضربن ويذكرن القوم قتلى بدر، ومعهن مكاحل ومراود، فكلما ولى رجلٌ أو تكعكع ناولته إحداهن مروداً ومكحلةً ويقلن: إنما أنت امرأة! ولقد رأيتهن ولين منهزماتٍ مشمراتٍ ولها عنهن الرجال أصحاب الخيل، ونجوا على متون الخيل يتبعن الرجال على الأقدام، فجعلن يسقطن في الطريق.
ولقد رأيت هند بنت عتبة، وكانت امرأة ثقيلة ولها خلقٌ، قاعدةً خاشيةً من الخيل ما بها مشيٌ، ومعها امرأة أخرى، حتى كر القوم علينا فأصابوا منا ما أصابوا، فعند الله نحتسب ما أصابنا يومئذٍ من قبل الرماة ومعصيتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم)( ).
السابع : القتال عند الحاجة .
الثامن : قيام بعض النسوة بالتمثيل بقتلى المسلمين .
ونساء المشركين اللائي حضرن المعركة مع أزواجهن أو مع أبنائهن :
الأولى : هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان .
الثانية : أميمة بنت سعيد بن وهب الكنانية زوجة أبي سفيان .
الثالثة : أم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة زوجة عكرمة بن أبي جهل .
الرابعة : فاطمة بنت الوليد بن المغيرة زوجة الحارث بن هشام .
الخامسة : برزة بنت مسعود بن عمرو زوجة صفوان بن أمية .
السادسة : البغوم بنت المعذل الكنانية أم عبد الله بن صفوان الأصغر .
السابعة : عمرة ،خرجت مع زوجها وهي التي رفعت لواء المشركين يوم أحد حين قتلى حملته من بني عبد الدار .
الثامنة :بريطة بنت منبه بن الحجاج زوجة عمرو بن العاص ، وهي أم عبد الله بن عمرو وقيل اسمها هند .
التاسعة : البغوم بنت المعذل الكنانية .
العاشرة : خناس ببت مالك بن المضرب أم مصعب بن عمير ، خرجت مع ولدها أبي عزيز بن عمير والذي وقع في الأسر في معركة بدر .
الحادية عشرة : عمرة بنت علقمة من بني الحارث ، وكانت هند كلما مرت بوحشي أو رأته يمر عليها ، قالت : إيد أبا دسمة اشف واشتف .
الثانية عشرة : رملة بنت علقمة من كنانة زوجة الحارث بن سفيان بن عبد الأسد .
الثالثة عشرة : أم حكيم بنت طارق زوجة كنانة بن عدي بن ربيعة بن عبد العزى .
الرابعة عشرة : قتيلة بنت عمرو بن هلال زوجة سفيان بن عوف .
الخامسة عشرة : الدغينة ، خرجت مع ولديها النعمان وجابر ابني عمرو مسك الذنب الكناني .
السادسة عشرة : سلافة بنت سعد زوجة طلحة بن أبي طلحة .
و ( عن عبد الله بن الزبير، قال: لما كان يوم الفتح، أسلمت هند بنت عتبة، وأسلمت أم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة بن أبي جهل، وأسلمت امرأة صفوان بن أمية، البغوم بنت المعذل، من كنانة، وأسلمت فاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وأسلمت هند بنت منبه بن الحجاج، وهي أم عبد الله بن عمرو بن العاص، في عشر نسوةٍ من قريش، فأتين رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح، فبايعنه فدخلن عليه، وعنده زوجته , وابنته فاطمة، ونساءٌ من نساء بني عبد المطلب، فتكلمت هند بنت عتبة .
فقالت: يا رسول الله، الحمد لله الذي أظهر الدين الذي اختاره لنفسه، لتمسني رحمتك يا محمد، إني امرأة مؤمنةٌ بالله مصدقة. ثم كشفت عن نقابها .
فقالت: هند بنت عتبة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرحباً بك. فقالت: والله يا رسول الله، ما على الأرض من أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وزيادة أيضاً! ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهن القرآن وبايعهن، فقالت هند من بينهن: يا رسول الله، نماسحك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أصافح النساء، إن قولي لمائة امرأة مثل قولي لامرأة واحدة. ويقال: وضع على يده ثوباً ثم مسحن على يده يومئذٍ .
ويقال: كان يؤتى بقدحٍ من ماءٍ، فيدخل يده فيه ثم يدفعه إليهن فيدخلن أيديهن فيه. والقول الأول أثبت عندنا: ” إني لا أصافح النساء ” . ثم قالت أم حكيم امرأة عكرمة بن أبي جهل: يا رسول الله، قد هرب عكرمة منك إلى اليمن، وخاف أن تقتله فأمنه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو آمن .
فخرجت أم حكيم في طلبه ومعها غلام لها رومي، فراودها عن نفسها، فجعلت تمنيه حتى قدمت على حيٍّ من عك ، فاستغاثتهم عليه فأوثقوه رباطاً، وأدركت عكرمة وقد انتهى إلى ساحلٍ من سواحل تهامة فركب البحر، فجعل نوتي السفينة يقول له: أخلص! فقال: أي شيءٍ أقول؟ قال: قل لا إله إلا الله.
قال عكرمة: ما هربت إلا من هذا. فجاءت أم حكيم على هذا الكلام، فجعلت تلح إليه وتقول: يا ابن عم، جئتك من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس، لا تهلك نفسك .
فوقف لها حتى أدركته , فقالت: إني قد استأمنت لك محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: أنت فعلت؟ قالت: نعم، أنا كلمته فأمنك. فرجع معها وقال: ما لقيت من غلامك الرومي؟ فخبرته خبره فقتله عكرمة، وهو يومئذٍ لم يسلم( ).
وكانت سلافة حين قَتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح ولديها مسافع والجلال ، يوم معركة أحد قالت لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر .
(وجعلت لمن جاءت برأسه مائة ناقة)( ).
وكان عاصم قد أعطى الله عهداً إلا يمس مشركاً ، فبر الله عز وجل قسمه ، فلم يستطيعوا الوصول إليه ، إذ منعته الدبر ، ثم بعث الله تعالى بالوادي فاحتمله ، وأسلمت سلاقة فيما بعد واستشهد عاصم في سرية الرجيع في شهر صفر سنة ثلاث ، إذ أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العلم بخبر قريش ، فبعثه ومعه عدد من الصحابة هم :
الأول :مرثد بن أبي مرثد.
الثاني : كناز بن (حصين بن يربوع بن طريف الغنوي).
الثالث : عبد الله بن طارق (حليف بني ظفر).
الرابع : خبيب بن عدي .
الخامس : زيد بن الدثنة (بن معاوية اخو بني بياضة بن عمرو بن زريق).
السادس : خالد بن البكير (الليثي).
السابع : معتب بن عبيد ويقال ابن عوف.
وذكرهم محمد بن عمر ثم قال: (ويقال كانوا عشرة).
وقد مع قريش أبو عامر عبد عمرو بن صيفي الراهب من الأوس ، وكان قد غادر المدينة مع ثلة من أصحابه حينما هاجر إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ولكنه لم يخرج مع قريش إلى معركة أحد ، إنما خرج معهم إلى معركة أحد ، وكان يمني قريشاً بأن الأوسى قومه وحينما يعلمون بمكانه ويسمعون نداءه فأنهم يستجيبون له ويتركون معسكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ولكنهم حين سمعوه في ميدان المعركة قاموا بشتمه ونعتوه بالفاسق ، وقتل يومئذ ابنه حنظلة وهو من الصحابة وغسلته الملائكة ، قتال الشرف والفخر في النشأتين ، وصار ابناؤه وذريته يعرفون بهذا الاسم ، ويكرمهم الأمراء والناس بسببه .
لقد جعلت الإستجابة لله والرسول وحسن التوكل على الله كفة المسلمين هي الأرجح ، فما ان بدأ القتال حتى سقط حملة لواء المشركين تباعاً واحداً بعد الآخر ، وفيه بعث للخوف والفزع في نفوس أفراد جيش الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( )، وعندما أخلّ الرماة بواجبهم وتركوا مواضعهم خلافاً لما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال لهم: لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا)( ).
لقد جاءت خيالة الذين كفروا من خلف المسلمين وكانت برئاسة خالد بن الوليد وعِكرمة بن أبي جهل ، فحصل الإرباك في جيش المسلمين وتفشى القتل بينهم ، وسقط سبعون منهم ، وتدل كثرة عدد القتلى في صفوف جيش المسلمين بالدلالة الإلتزامية على كثرة الجراحات بين الذين بقوا أحياء منهم ، ومن الشواهد عليه كثرة جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ كانت اصابته على وجوه :
منها كسر أسنانه الأمامية وشق شفته وجريان الدم من وجنته .
ونزلت الآية التي جاء هذا الجزء خاصاً بتفسيرها لتوثق حقيقة تأريخية وهي أن الجراحات والقروح تغشت أكثر أهل البيت والصحابة ، ليأتي ذكرها وتوثيقها في آية البحث بقوله تعالى[مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ ..]( ).
ومن الإعجاز في آية البحث ذكرها للقرح كاسم جنس ، ولم تقل الآية (من بعد ما أصابتهم القروح) لدلالة هذه المعنى على إصابة كل واحد منهم بالجراحات بلحاظ أن لفظ القروح جمع تكسير ، وهو في المقام إنحلالي ينبسط على كل فرد من الصحابة الذين خرجوا لمطاردة جيش الذين كفروا في معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة الدفاعية ، من جهات :
الأولى : نزول الأمر من عند الله عز وجل بمطاردة جيش الذين كفروا .
الثانية : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة إلى النفير من غير تردد أو تأخير ، فلم يعتذر بكثرة الجراحات التي تتغشى أصحابه إلى جانب مصيبة فقد سبعين من إخوانهم .
وتفضل الله وصرف أثرها على النفوس وأذهب الحزن عنهم بسببها لإخباره تعالى عن حياة الشهداء عنده في روضة القدس من حين مفارقتهم الحياة الدنيا .
الثالثة : إنعدام الإحتجاج أو السؤال والإستفهام الإنكاري من قبل المهاجرين والأنصار عن علة هذا الخروج والغاية منه ، وإجتنابهم التذرع بكثرة الجراحات من أجل القعود أو تأجيل الخروج خلف العدو أو القول بأنهم قد إنصرفوا إلى مكة ، وليس من أمارة أو قرينة تدل على إعادتهم الكرة والهجوم على المدينة خاصة مع نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة يوم أحد ، ويدل عليه قوله تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
وهل من موضوعية لقتل حملة لواء المشركين واحداً بعد آخر بداية المعركة في إمتناع جيش المشركين عن العودة إلى القتال ، المختار نعم ، وتلك معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
ومع ذكر الآية أعلاه للتنازع بين المؤمنين، وصدور المعصية منهم بترك الرماة مواضعهم فقد أختتمت ببيان عظيم فضل الله عليهم وعلى عموم المسلمين والمسلمات والبشارة بتوالي وتجدد هذا الفضل واللطف والفيض منه تعالى، وآية البحث ومضامينها القدسية من مصاديق هذا الفضل الذي أختتمت به الآية أعلاه من وجوه:
الأول : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل يوم معركة أحد، ومن الإعجاز في الآية أعلاه صيغة العموم في المؤمنين من غير حصر أو تعيين بالصحابة ليشمل المؤمنين بالله ورسلّه وكتبه إلى يوم القيامة، ويحق لكل مسلم ومسلمة في كل زمان أن يشكر الله عز وجل على نعمة حفظ الله عز وجل للنبي محمد ودفع القتل عنه يوم معركة أحد مع صيرورة فرسان المشركين على بعد بضعة أمتار منه حتى صارت حجارتهم تصله مع التهديد والوعيد بقتله على نحو القضية الشخصية .
و من معجزات النبوة تهيئة مقدمات وأسباب النصر في ذات أوان المعركة وقبل وقوعها وبعد إنقضائها ، وترتب على النصر في معركة بدر أثر ونفع عظيم في معركة أحد، وفي عزوف جيش الذين كفروا عن الرجوع للقتال بعد إنقضاء معركة أحد ، وهو من مصاديق إزالة صبغة الذلة عن الذين آمنوا في عيون الذين كفروا لقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) ليكون من معاني وتقدير الآية أعلاه : وأنتم أذلة في عيون الذين كفروا ) ومن مصاديق هذا المعنى تجرأ وإصرار الذين كفروا يوم بدر على قتال المسلمين .
الرابعة : تبليغ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لا يخرج معهم إلا من حضر معركة أحد , وقاتل فيها تحت لواء النبوة لبيان عدم الحاجة للذين نافقوا ولإظهار حسن التوكل على الله عز وجل.
وهل يكون الذين فروا من ساحة معركة أحد ولم يرجعوا إلى ميدان المعركة ممن حضر المعركة فيحق لهم الخروج والإنبعاث مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم لا .
الجواب هو الأول ، إنما أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجب المنافقين الذين قعدوا أو إنسحبوا وسط الطريق من الجيش عن الخروج معه ، ليكون من مصاديق التوقي والحذر المستقرأ من قوله تعالى[لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً]( ).
لقد جاءت استجابة الصحابة للخروج بعد يوم واحد في معركة أحد وما لاقاه فيها من الجراحات وشدة الأذى لبيان مرتبة الصبر والتصديق التي كانوا عليها .
وسيأتي في باب التفسير والصلة بين آية البحث والآية السابقة لها دلالة إبتداء آية البحث بالاسم الموصول (الذين) على إتصال موضوعها بالآية السابقة ، وتقدير الجمع بين آخر الآية السابقة وأول آية البحث (وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين استجابوا لله والرسول) .
لبيان قانون وهو أن الفاصلة بين الآيتين ليست برزخاً بين وحدة المعنى وإتحاد المضمون والحاجة إلى الدمج والجمع بين الآيتين ، وكذا بالنسبة للفصل بين سور القرآن من جهات :
الأولى : إستحضار أول السورة التالية لإستقراء معاني قدسية من خاتمة الآية .
الثانية : الرجوع إلى آخر السورة السابقة عند تفسير وتأويل أول السورة.
الثالثة : الجمع بين خاتمة السورة وأول السورة التي تليها ، فمثلاً قوله تعالى في خاتمة سورة الفيل [فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ] ( ) لبيان بطش الله عز وجل بابرهة الحبشي , وأفراد جيشه الذين زحفوا من اليمن إذ عبأهم وهيأهم وقدم الفيل واسمه محمود لدخول مكة, وهدم البيت الحرام، لتبدأ السورة التي بعدها وهي سورة قريش بقوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
فيكون هلاك إبرهة وأصحابه نوع طريق وعلة لتآلف قريش وتعاهدهم عبادة الله وحفظ سدانة الكعبة , ولكنهم جحدوا بالنعمة باتخاذ الأصنام آلهة ، ثم تمادوا في الغي والضلالة وأصروا على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع توالي المعجزات على يديه .
لقد كانت معجزات الأنبياء السابقين حسية ، أما معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكانت عقلية حسية ، وكل آية من القرآن معجزة من جهات :
الأولى : رسم ونظم الآية القرآنية .
الثانية : عذوبة تلاوة الآية القرآنية والتباين بينها وبين كلام البشر.
الثالثة : المضامين القدسية للآية القرآنية .
الرابعة : الدلالة غير المتناهية للآية القرآنية ، وكل آية خزينة من العلوم لا تنفد .
الخامسة : صبغة القرآنية للآية القرآنية.
السادسة : تحدي الآية القرآنية لفصحاء العرب في بلاغتها وسبكها .
السابعة : تجلي الفيض الإلهي بنزول الآية القرآنية بتلقي المؤمنين لها بالتصديق ودخول طائفة من الناس الإسلام مع توالي نزول آيات القرآن .
وهل من موضوعية لهذا التوالي في استجابة المهاجرين والأنصار لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج خلف العدو مع عدم مضي أكثر من يوم على معركة أحد ، الجواب نعم .
ولم ينزل القرآن دفعة واحدة ، ولكنه نزل على النجوم والتعاقب لأن كل آية معجزة وعلم مستقل لتستحق أن ينزل بها الملائكة بمفردها وهي ضياء يملأ ما بين الخافقين ، وهو من أسرار إنفراد القرآن من بين الكتب السماوية بنزول آياته متعاقبة مع نزول كل كتاب من الكتب السماوية دفعة واحدة .
ليكون نزول آيات القرآن بالتوالي من مصاديق قوله تعالى [كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ]( ) ومن معاني الآية أعلاه تفضل الله عز وجل بالأجر والثواب للذين استجابوا لله والرسول في اليوم التالي لمعركة أحد ، وهو من الشواهد على عظمة الأجر الذي ذكرته خاتمة آية البحث بقوله تعالى [أَجْرٌ عَظِيمٌ].
لقد قيدت آية البحث مجئ الأجر العظيم للذين استجابوا لله والرسول بالإحسان والتقوى , وفيه مسائل ووجوه محتملة :
الأول : ليس للذين استجابوا لله والرسول ولم يحسنوا ولم يتقوا أجر قليل أو عظيم .
الثاني : ذات الإستجابة لله والرسول إحسان وتقوى .
الثالث: الذين استجابوا لله والرسول ولم يحسنوا ويتقوا لهم أجر ولكنه ليس عظيماً .
الرابع : الإستجابة لله عز وجل ولرسوله مع كثرة القروح والجراحات لها أجر عظيم ، وكذا فان كلاً من الإحسان والتقوى له أجر عظيم .
والمختار هو الوجه الأخير أعلاه فاثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، وتدل عليه الصلة بين خاتمة الآية السابقة وأول آية البحث .
ومن إعجاز القرآن بلحاظ الإستجابة أمور :
الأول : مجئ القرآن بالأوامر والنواهي من عند الله عز وجل .
الثاني : مجئ الجملة الخبرية التي تتضمن البعث الأكيد على الفعل كما في قوله تعالى [وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ] ( ).
والجملة الخبرية التي تتضمن الزجر والنهي كما في حرمة الرياء ، إذ ورد قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) .
الثالث : الثناء على المسلمين والمسلمات بالإخبار عن إستجابتهم لله عز وجل.
وجاءت الآية التي إختص هذا الجزء بتفسيرها وهي الثانية والسبعون بعد المائة بخصوص استجابة الصحابة من المهاجرين والأنصار لأمر الله ورسوله بالخروج خلف العدو الكافر مع كثرة جراحاتهم ، فهل يشمل الثناء في آية البحث المسلمات , أم أن الآية تفيد الحصر بالثناء لتعلقه بالموضوع على نحو التعيين .
الجواب هو الأول لموضوعية إنتفاء الإحتجاج أو السؤال الإنكاري على خروج الرجال خلف العدو مع كثرة جراحاتهم .
لقد أدرك الصحابة والصحابيات أن أمر الله ورسوله حق ، وأن الإستجابة لهما واجب وفيه خير الدنيا والآخرة ، لذا أختتمت آية البحث بالبشارة بالثواب العظيم على الإستجابة للترغيب بها في قادم الأيام ، لذا تفضل الله عز وجل وبدأ آية البحث بالاسم الموصول [الذين] وأخبر عن استجابتهم لله ورسوله ليكون من معاني الآية :
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول وأحسنوا واتقوا ولكم أجر عظيم).
لبعث أجيال المسلمين المتعاقبة على العمل في طاعة الله وأداء الفرائض والطاعات فبعد إنتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ليس من أمر نبوي مباشر بملاحقة العدو ، ولم يقع هجوم وغزو على المدينة أو مكة والحمد لله لتتجلى مصاديق الإستجابة لله والرسول بأداء الفرائض والعبادات ، ففي الصلاة نزل قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ]( ) وآيات أخرى تبين وجوبها العيني، وقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي)( ) لينال المسلمون الأجر العظيم بأدائها وتعاهدها اليومي .
وهل يكون أجر المسلم الذي يؤدي الفرائض مثل ذات الأجر في استجابة الصحابة لأمر الله باللحوق بالعدو يوم معركة أحد .
الجواب لقد جمع الصحابة بين أداء الصلاة وبين الإستجابة لله والرسول في النهوض خلف العدو بجراحاتهم ، وهل يصح القول أن العظمة في الأجر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ، الجواب نعم ، ولكن الأولى أن خزائن الأجر الذي يأتي من عند الله لا تنفد، وكل أجر منه سبحانه هو عظيم.
وإذ إبتدأت آية البحث بمسألة الإستجابة لله والرسول وإشراك الرسول في استجابة المسلمين له مع إستجابتهم لله ، فانها أختتمت بالأجر وهو أمر لا يقدر عليه إلا الله عز وجل ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان عظيم منزلة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الله عز وجل .
الثانية : حث المسلمين على الإمتثال لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الواردة في السنة النبوية ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) ليكون من معاني الآية أعلاه وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الإستجابة للوحي واجب .
الصغرى : قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحي .
النتيجة : الإستجابة لقول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واجب.
الثالثة : منع الغلو بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فصحيح أن الإستجابة له واجب إلا أن الأجر والثواب على هذه الإستجابة بيد الله ، ومن فضله فان قلت قد يقوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجزاء والأجر على الإستجابة له ، كما لو وهب وأعطى من الغنائم والخمس منها لقوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابن السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) ولابأس بسؤال في المقام , وهو هل هذا العطاء من الأجر أم ليس من الأجر، الجواب هو الأول ولكنه بالأصل من عند الله بلحاظ أمور :
الأول : انه من رشحات الوحي .
الثاني : يأتي العطاء والأجر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من عند الله عز وجل.
الثالث : هذا العطاء والأجر مقدمة للأجر العظيم وتذكير وترغيب به .
الرابع : إنه من الثواب العاجل لمضامين قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
لقد كانت استجابة أهل البيت والصحابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم متعددة من جهات :
الأولى : أمور الدين وأحكام الشريعة .
الثانية : شؤون الدنيا والحياة العامة .
الثالثة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابعة : في المسائل الشخصية وتبين أخبار السنة صفحات مشرقة من الإستجابة الفورية والمطلقة لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن عبد الله بن عباس قال (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِى يَدِ رَجُلٍ فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وَقَالَ : يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِى يَدِهِ .
فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم : خُذْ خَاتَمَكَ انْتَفِعْ بِهِ. فَقَالَ : لاَ وَاللَّهِ لاَ آخُذُهُ أَبَدًا ، وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
وورد عن صفية بنت شيبة قالت : بينا نحن عند عائشة فذكرن نساء قريش وفضلهن فقالت عائشة : ان نساء قريش لفضلى ، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار ، أشد تصديقاً لكتاب الله ، ولا إيماناً بالتنزيل ، لقد أنزلت سورة النور { وليضربن بخمرهن على جيوبهن }( ) انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل إليهن فيها ، ويتلو الرجل على امرأته وبنته وأخته ، وعلى ذي قرابته ، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها فاعتجرت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله في كتابه ، فاصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للصبح معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان)( ).
وفيه مسائل :
الأولى : قيام الأنصار بتلاوة آيات آيات القرآن على نسائهم وعوائلهم حال نزولها .
الثانية : عدم إنحصار تلاوة الأنصار ما ينزل من آيات القرآن على أسرهم وعوائلهم إنما يشمل الرجال والنساء من أقاربه وفيه أمور :
الأول : إنه شاهد على سلامة القرآن من التحريف لتعاهد المسلمين والمسلمات الآية القرآنية في رسمها وألفاظها وكلماتها ومعانيها ودلالاتها.
الثاني : شوق المسلمين والمسلمات لنزول آيات القرآن .
الثالث : تلقي الصحابة رجالاً ونساء آيات القرآن النازلة من عند الله بالتصديق والقبول .
الرابع : حرص الصحابة على الرصد والمتابعة لنزول آيات القرآن ، وكان بعضهم يسأل بعضاً نزل اليوم قرآن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : دخول نساء وبنات وأخوات الصحابة الإسلام وصيرورة بيوتهم منتديات إيمانية ملحقة بالمسجد النبوي ، وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد على صدقها .
الثالثة : الثناء على نساء الأنصار لحسن الإصغاء لآيات القرآن إذ تدل تلاوة الرجل عليهن ما ينزل من القرآن على إنصاتهن للآيات السابقة لهذه التلاوة .
الرابعة : لم تنظر نساء الأنصار من يشتري لهن الخُمر وحجاب الرأس إنما قمن باتخاذ المروط و(مِرْطُ، بالكسر كساءٌ من صُوفٍ أو خَزٍّ)( ) أو غيره يؤتزر به أما المرط بفتح الميم فهو (نَتْفُ الشَعَرِ)( ).
والمراد من قوله تعالى[وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ]( ) أي لتقم كل واحدة منهن بتغطية النحر والصدر.
وهل في آية البحث ثناء على النساء أم أن القدر المتيقن من منطوق الآية هو المهاجرون والأنصار الذين خرجوا إلى حمراء الأسد مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب هو الأول، من جهات :
الأولى : استجابة نساء المؤمنين باعانة الصحابة على الخروج إلى حمراء الأسد .
الثانية : تلقي المؤمنات نداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقبول والرضا وتهيئة مقدمات خروج المهاجرين والأنصار معه ، وهو من الشواهد على التباين بينهن وبين المنافقات .
الثالثة : من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الوثوق بنصر الله عز وجل له , وسقوط الجهاد عن النساء ، لبيان أن الإسلام ونصره غير محتاج لقتالهن ، وأن وظائفهن تتعلق بأمور :
الأول : أداء الفرائض العبادية .
الثاني : تعاهد شؤون المنزل .
الثالث: تربية وإصلاح الأولاد وهدايتهم لسبل الرشاد .
الرابع : حفظ الزوج في غيبته ، وحينما يكون غازياً أو مرابطاً .
الخامس : القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن مصاديق الأمة في قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) إرادة الرجال والنساء من المسلمين لتقوم الصحابيات بالأمر بالإستجابة لنداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تعقب العدو وعلاج الجرحى والتخفيف من وطأة الجروح والنهي عن القعود .
السادس : لقد ذكرت آية البحث الإحسان وأنه طريق للثواب العظيم لقوله تعالى [وَأَحْسِنُوا]وإذا كان المؤمنون الذين قاتلوا يوم أحد وركبوا الإبل والجياد في اليوم التالي بجراحاتهم طاعة لله والرسول يلزمهم الإحسان والتقوى لنيل الثواب العظيم ، فمن باب الأولوية أن تتحلى النساء بالإحسان والتقوى .
وتتصف الإستجابة من الصحابة بالأمر لله وأمر رسوله بالفورية وعدم التراخي لتصبح هذه الفورية سنخية ثابتة عند أجيال المسلمين في باب العبادات ، فما أن يبلغ المسلم والمسلمة سن البلوغ حتى يتقيد بالأوامر والنواهي الواردة في القرآن والسنة ، وأغلب المسلمين يتقيدون بها بشوق قبل سن البلوغ لذا يستحب تعليم الصبيان الصلاة في سن السابعة ، وفيه نصوص عديدة منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم (علموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين , واضربوه عليها ابن عشر) ( ).
لقد تم فتح مكة في العشرين من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة ويوافق العاشر من شهر كانون الثاني من سنة 630 للميلاد ، وسبب الكتيبة إنتهاك كفار قريش للهدنة التي كانت معقودة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في صلح الحديبية .
إذ قامت قريش بمساعدة أعداء المسلمين من بني الدئل بن بكر بن كنانة على قبيلة خزاعة الذين هم حلفاء المسلمين وحرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مدة تجهيز وإعداد الجيش للغزو على كتمان الأمر وعدم معرفة جيوش المسلمين للجهة التي يتوجهون إليها مع أن عددهم كان عشرة آلاف من المسلمين ، ولابد لهذا الكتمان من أسباب وغايات حميدة , منها:
الأول : مفاجئة ومباغتة قريش بالهجوم .
الثاني : فتح مكة حق ولابد أن يتم .
الثالث: إكرام البيت الحرام بمنع سفك الدماء فيه قدر الإستطاعة .
الرابع : رأفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقريش , فهم أهله وعشيرته .
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ] ( ) فصحيح أن هذه الآية مكية ونزلت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجمع وإنذار عشيرته .
وورد الخبر على قسمين :
الأول : الجمع خاص ببني هاشم إذ ورد عن البراء ، قال ( لمّا نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين}( ) جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلاً،
الرجل منهم يأكل المسنّة ويشرب العس،
فأمر عليّاً برِجْل شاة فأدمها ثم قال : ادنُوا باسم الله فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا، ثم دعا بقعب من لبن فجرع منه جرعة ثم قال لهم : اشربوا باسم الله،
فشرب القوم حتى رووا فبدرهم أبو لهب فقال : هذا ما يسحركم به الرجل، فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ فلم يتكلّم.
ثمَّ دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب ثم أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا بني عبد المطلب إنّي أنا النذير إليكم من الله سبحانه والبشير لما يجيء به أحد منكم،
جئتكم بالدنيا والآخرة فأسلموا وأطيعوني تهتدوا،
ومَن يواخيني ويؤازرني ويكون وليّي ووصيي بعدي،
وخليفتي في أهلي ويقضي ديني؟
فسكت القوم،
وأعاد ذلك ثلاثاً كلّ ذلك يسكت القوم،
ويقول علي : أنا فقال : أنت فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب : أطع ابنك فقد أُمِّر عليك.) ( ).
الثاني : عموم الجمع ، بأن توجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته وإنذاره إلى عموم قريش ، (عن ابن عباس قال : لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين }( ) جعل يدعوهم قبائل قبائل .
وأخرج سعيد بن منصور والبخاري وابن مردويه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لما نزلت { وأنذر عشيرتك الأقربين }( ) ورهطك منهم المخلصين خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى صعد على الصفا فنادى يا صباحاه . . فقالوا من هذا الذي يهتف؟ قالوا : محمد . فاجتمعوا إليه ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو .
فجاء أبو لهب وقريش فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيَّ قالوا : نعم . ما جربنا عليك إلا صدقاً قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا! فنزلت { تبت يدا أبي لهب وتب }( ) .
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة { وأنذر عشيرتك الأقربين }( ) قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم نادى على الصفا بأفخاذ عشيرته . فخذا فخذاً يدعوهم إلى الله . فقال في ذلك المشركون : لقد بات هذا الرجل يهوّت منذ الليلة) ( ).
وهل من تعارض بينهما ، الجواب لا ، لتكون النسبة بين إنذار عامة قريش وإنذار خصوص بني هاشم عموم وخصوص مطلق ، إذ ينفردون بوعظ من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع وتحذيرهم وإنذارهم ، ويشتركون مع عامة قريش بالإنذارات العامة .
كما يمكن تقسيم إنذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعشيرته تقسيماً آخر :
الأول : الإنذار أوان نزول آية إنذار العشيرة .
الثاني : إنذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقومه مدة بقائه في مكة .
الثالث: قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بانذار عشيرته وقومه بعد الهجرة .
(وقال الحسن البصري : جمع نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل بيته قبل موته , فقال : ألا إن لي عملي ولكم عملكم ، ألا إني لا أغني عنكم من الله شيئاً ، ألا إن أوليائي منكم المتقون ، ألا لا أعرفنكم يوم القيامة تأتون بالدنيا تحملونها على قرابكم ، ويأتي الناس يحملون الآخرة)( ).
لقد كان إنذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعشيرته صلى الله عليه وآله وسلم رأفة بهم ، وهو من مصاديق إنذاره للناس جميعاً ، قال تعالى [لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
وجاءت آية البحث بالبشارة فهل تتضمن الإنذار في منطوقها أو مفهومها ، الجواب نعم ، وهو الذي نبينه في باب الآية إنذار( ).
الخامس : موضوعية صلح الحديبية في فتح مكة من غير كثير قتال .
السادس : بيان الحكمة والضبط عند المسلمين بأن يتوجهوا في القتال إلى جهة وبلدة لا يعلمونها ، إنما يكفي في المقام طاعة الله ورسوله ، ليكون فتح مكة من مصاديق قوله تعالى في آية البحث [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ].
السابع : دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة مسالماً وليس محارباً .
الثامن : دعوة الصحابة وأجيال المسلمين لإكرام مكة والحرم .
التاسع : منع قريش من ندب القبائل المحيطة بها وتسخير أموالهم لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
العاشر : سعي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لدخول رجال ونساء قريش الإسلام بدل أن يُقتلوا في الدفاع عن الأوثان وعبادتها أو يموتوا على الكفر ، قال تعالى [لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ]( ) وتتعلق مضامين آية البحث بأمور :
الأول : واقعة أحد .
الثاني : اليوم التالي لواقعة أحد .
الثالث: الأيام والأشهر والسنين التي تلت واقعة أحد .
الرابع : أفراد الزمان الطولية اللاحقة لواقعة أحد بلحاظ تقييد الأجر العظيم في آية البحث باحسان وتقوى الصحابة الذين شاركوا في معركة أحد ، لبيان قانون وهو لزوم عدم وقوف الصحابي مهاجراً أو أنصارياً عند القتال تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل لابد أن يجتهد في طاعة الله ورسوله ، إذ يتقوم الإيمان بالعبادة وهي علة خلق الإنسان ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
وحينما دخل المسلمون معركة أحد كانت الصلاة والصيام والزكاة مفروضة عليهم ، وأداء كل فرد لها من الإحسان والتقوى اللذين تذكرهما آية البحث لتصاحب الفرائض أشخاص الصحابة قبل معركة أحد وبعدها ، ولتبين آية البحث قانوناً من وجوه :
الأول : لزوم تقيد المسلمين بسنن التقوى .
الثاني : بيان الملازمة بين الإيمان والإحسان .
الثالث : إنبعاث المسلمين للإحسان للذات والغير .
ومن الإعجاز في آية البحث عدم حصر الإحسان بالمؤمنين ، فلم تقل الآية : للذين أحسنوا منهم للمؤمنين أو للمسلمين ، إنما ورد الإحسان مطلقاً ، لتعم مفاهيم الصلاح ، ويكون كل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حاضرين في المنتديات والأسواق والبيوت ، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
لقد انقضت معركة أحد في ذات اليوم الذي إبتدأت به ، وسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه متعقبين العدو في اليوم التالي مع جراحاتهم الشديدة ليعودوا من دون قتال ، وفيه رأفة وتخفيف بهم من عند الله عز وجل ليباشروا الإحسان ويسارعوا في مسالك البر وعمل الصالحات، وفيه موعظة لأجيال المسلمين , فقد فاز الذين بادروا إلى دخول الإسلام من بين عموم الناس وهجروا الأهل ، وتركوا المساكن والديار وانفقوا الأموال في سبيل الله ، وفازوا بمكرمة لم ينلها غيرهم من الأولين والآخرين من جهات :
الأولى : النطق بالشهادتين على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : مبايعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة أو استقباله فيها ونصرته .
الرابعة : تلقي القرآن من فيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : شرف حضور نزول الآية القرآنية .
السادسة: صيرورة الصحابة أطرافاً في أسباب نزول آيات من القرآن وخلود أسمائهم في هذا الباب من العلم بما فيه الفخر والعز لهم ولذراريهم.
ومنها آية البحث التي تتضمن الشهادة من عند الله عز وجل لهم بالإستجابة له سبحانه ولرسوله .
وفي خطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال الله تعالى [وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا] ( ).
السابعة : الخروج إلى ميادين المعارك دفاعاً عن النبوة والتنزيل ، وهذا الخروج على وجوه :
الأول : الدفاع مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحت لوائه .
الثاني : الدفاع والغزو في السرايا التي يبعثها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث: محاربة وقتال المرتدين بعد مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، تلك المحاربة التي تدل على صدق الإيمان والتسليم واليقين بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويحتمل قتال الصحابة لأهل الردة وجوهاً :
الأول : إنه من مصاديق آية البحث ومضامينها القدسية .
الثاني : انه من خصوص الإستجابة لله عز وجل لأن الرسول انتقل إلى الرفيق الأعلى .
الثالث : إنه ليس من مصاديق آية البحث لأنها خاصة بمعركة أحد وكتيبة حمراء الأسد التي لم يقع فيها قتال .
والصحيح هو الأول ، إذ أنه استجابة لله والرسول ودعوة إلى التوحيد وكثر مدعوا النبوة والتنبؤ خاصة من قبل بعض رؤساء القبائل وتسخير العصبية القبلية خاصة مع ما كان من تنافس بين ربيعة ومضر , وفروعهما والتحاسد والطمع والجهالة .
ومن الإعجاز في آية البحث تأكيدها على الإحسان والتقوى والخشية من عند الله عز وجل ، ليكون من مصاديقهما مجتمعين ومتفرقين التنزه عن الردة والإرتداد ، وقد قال تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ] ( ).
لقد تنجز نصر المسلمين في معركة بدر مع قلتهم والنقص في مؤونهم بفضل من الله واستجابة منه لإلحاح نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء وسؤال النصر ، قال تعالى بخصوص معركة بدر [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
وبينت آية البحث شكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار لله عز وجل على استجابته للدعاء ونصره لهم في معركة بدر بأن استجابوا للنداء بالخروج من المدينة المنورة خلف العدو لمطاردته ودفع شره عنها ، ولتثبيت معالم الإيمان في النفوس ، وبيان مرتبة الصبر التي بلغها المسلمون مما يدل على أن الله عز وجل لا يهب النصر وحده ، بل يهب ما يترتب على النصر من أسباب اللطف والفيض الإلهي ، ومنها مضامين آية البحث .
وهل يصح الجمع بين الآيتين : لقد نصركم الله ببدر لتستجيبوا له ولرسوله من بعد ما أصابكم القرح ) الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في تفضل الله عز وجل باصلاح المؤمنين للقيام بوظائف الخلافة في الأرض وتعاهد مقامات الإيمان وسنن التقوى .
لتكون هذه الإستجابة وفي ساعة الضراء وشدة أذى الجراحات وتهديد كفار قريش ومن والاهم ، وما يبثه المنافقون من الأراجيف من الآيات ، قال تعالى [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] ( ).
لقد ذكرت آية البحث الإستجابة من جهات :
الأولى : الإستجابة لله .
الثانية : الإستجابة للرسول .
الثالثة : الإستجابة لله والرسول .
وفي الآية ثناء على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان للمرتبة السامية التي رزقه الله عز وجل من جهات :
الأولى : صيرورة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مستجاباً له .
الثانية : تقييد الإستجابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأنها من الإستجابة والطاعة لله عز وجل .
وهل الإستجابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعرض واحد مع الإستجابة لله ، أم أنها ملحقة وتابعة لها ، الجواب هو الثاني ، فالأصل هو الإستجابة لله عز وجل.
وتقدير آية البحث : الذين استجابوا لله واستجابوا للرسول فيما أتي به من عند الله ، لبيان أن كلاً من استجابة الصحابة لله واستجابتهم للرسول شاهد على الإيمان ، ودليل على الهدى وهو من مصاديق الإحسان والتقوى اللذين تذكرهما آية البحث , ومناسبة للأجر العظيم .
الثالثة : الثناء من عند الله على الذين استجابوا وامتثلوا لنداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج خلف العدو بعد معركة أحد.
الرابعة : مجئ الأجر العظيم عن استجابة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وهل يجوز للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يقول استجيبوا للرسول لتفوزوا بالثواب العظيم .
الجواب نعم ، ويجوز أن يتلو آية البحث بقصد الأمر والدعوة للإستجابة لله ورسوله , فمن خصائص آية البحث الترغيب بسبل الهدى والأحكام التي جاء بها القرآن والسنة النبوية ، وتتجلى الإستجابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوجوه :
الأول : تلقي آيات القرآن .
الثاني : تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن( ) .
الثالث : تجلي ترجمة القرآن بالسنة النبوية ، إذ أنها مرآة للقرآن .
الرابع : الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله وعمله، إذ أن هذا الإقتداء من الإستجابة لله عز وجل لقوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ).
كما دعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين والمسلمات إلى العمل بسنته وعدم العزوف أو الإعراض عنها .
(عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته ، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري . . . ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) ( ).
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإختبار وتفضل وأعان المسلمين بأن أنزل في القرآن قوله تعالى[ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ] ( )وجعل كل مسلم ومسلمة يتلوان هذه الآية عدة مرات في كل يوم , لتكون هذه التلاوة عوناً ونوع طريق للإستجابة لله والرسول وللتوفيق في إمتحانات الدنيا التي تداهم الإنسان في الغدو والعشي .
ولكن الذين كفروا امتنعوا عن سؤال الصراط المستقيم وأضلوا السبيل وغفلوا عن أسباب الهداية والصلاح ، وأصروا على محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والذين آمنوا برسالته ، فتفضل الله عز وجل بآية البحث لتتضمن أموراً :
الأول : عصمة الذين آمنوا من مفاهيم الشرك والضلالة .
الثاني : بيان سبل الإستجابة والأمتثال لأمره تعالى .
الثالث : الترغيب بالإستجابة له سبحانه .
الرابع : بيان قانون وهو : ليس في الإستجابة لله والرسول إلا الخير والفلاح .
الخامس : لزوم الإمتثال لأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعدم كفاية التصديق بنبوته ، أو قل ترشح الإستجابة له من الإيمان بنبوته .
ليمتاز المؤمن عن غيره من المنافقين ، لذا جاءت الآيات السابقة بالإخبار عن صيرورة معركة أحد , ومصيبة المسلمين فيها مناسبة للفصل والتمييز بينهم لقوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ *وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا] ( ).
السادس : إصابة المهاجرين والأنصار بالجراحات الشديدة يوم معركة أحد ، وهي شاهد على أمور :
أولاً : الإستجابة لأوامر الله .
ثانياً : صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بانقطاع أصحابه إلى طاعة الله وطاعته وبذلهم الوسع في الذب والدفاع عنه .
ثالثاً : بلوغ الصحابة أسمى مراتب الإيمان لتحملهم الأذى والجراحات، وتعرضهم للقتل في سبيل الله .
السابع : البشارة بالجنة ، وهو من مصاديق خاتمة الآية بالأجر العظيم ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ] ( ).
وقد أختلف في موضوع آية البحث على وجوه :
الأول : إرادة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد، يوم الأحد السادس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة أي بعد يوم واحد من واقعة أحد (أخرجه الطبراني عن ابن عباس)( ).
الثاني : : أراد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى بدر الصغرى في العام التالي لواقعة أحد ، في شهر شعبان من السنة الرابعة للهجرة بعد موعدة ووعيد أبي سفيان في آخر ساعة من معركة أحد وعندما همّ جيش المشركين بالعودة إلى مكة وتسمى معركة بدر الصغرى .
والمختار هو الأول , وسيأتي مزيد تفصيل في أسباب النزول( ).
ليفوز المسلمون بالصبر ويتقيدوا بسنن التقوى ويحرصوا على الوفاء بالعهد، قال تعالى[وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً]( ).
حرر في 14 ذي الحجة 1438
7/9/2017
قوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ] الآية 172.
الإعراب واللغة
الذين : يجوز إعرابه على وجوه :
الأول : خبر لمبتدأ مضمر تقديره (هم) .
الثاني : يصح إعرابه اسماً موصولاً مبنياً على الفتح في محل جر نعت للمؤمنين ، بلحاظ الصلة بين الآية السابقة وآية البحث , كما في اعراب[الذين] في قوله تعالى [ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ]( ) لبيان قاعدة وهي أن الفاصلة بين الآيتين لا تمنع من التداخل والإتصال في الإعراب بلحاظ إتحاد المعنى ، وهو لا يتعارض مع إعراب الكلمة في أول الآية على نحو مستقل ، إذ أن قواعد الإعراب من صناعة النحو ، ومعنى اللفظ القرآني أعم منها ، وهو من أسرار إحاطة اللفظ القرآني بالامحدود من الوقائع والأحداث .
الثالث : بدل من المؤمنين .
الرابع : مفعول به منصوب بفعل مقدر (أعني) .
الخامس : بدل من[الَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ]( ) قاله مكي، ولكن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، فالذين لم يلحقوا بهم أعم من الذين خرجوا إلى حمراء الأسد أو إلى بدر الصغرى، ومن خصائص البدل التساوي في الجملة.
السادس : انه مبتدأ، وخبره [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ]( ).
السابع : مبتدأ وخبره[مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ]( ).
استجابوا : فعل ماض مبني على الضم ، الواو : فاعل .
لله: جار ومجرور متعلق باستجابوا .
والرسول : الواو : حرف عطف : الرسول معطوف على لفظ الجلالة ، وهو مجرور مثله .
من بعد : جار ومجرور متعلق بـ [اسْتَجَابُوا].
ما : حرف مصدري .
أصاب : فعل ماض .
هم : ضمير مفعول به .
القرح : فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
والمصدر المؤول [مَا أَصَابَهُمْ ] في محل جر مضاف إليه .
للذين : اللام : حرف جر ، الذين : اسم موصول مبني في محل جر متعلق بمحذوف خبر مقدم .
أحسنوا : فعل ماض مبني على الضم .
الواو : فاعل .
منهم : من : حرف جر .
هم : ضمير في محل جر متعلق بمحذوف حال من الضمير في [أَحْسَنُوا].
وأتقوا : الواو : حرف عطف .
أتقوا : فعل ماض مبني على الضم المقدر على الألف المحذوفة لإلتقاء الساكنين .
الواو : فاعل .
أجر : مبتدأ مؤخر مرفوع ، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
عظيم : صفة لأجر , مرفوع مثله.
والإستجابة : الإجابة بالفعل والقول، والإمتثال، والإجابة مع القبول، والإستجابة: الطاعة وتنفيذ الأمر.
يقال إستجاب لأمره أي أطاعه فيما دعاه إليه وقيل زمن الإستجابة هو الفاصل الزمني بين حدوث المحفز والإستجابة له .
والإجابة الرد على السؤال ورجع الكلام .
وينفرد الله عز وجل بالإستجابة للدعاء، ومن أسمائه تعالى المُجيب، وهو اسم فاعل من أجاب يجيب وفي التنزيل[َإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي]( ).
والقَرح بالفتح: الجرح بعينه، وهو المرسوم في آية البحث.
والقُرح – بالضم- : ألم الجراح، قال تعالى[إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ]( )، ليكون من إعجاز آية البحث ذكر الجراح ولم تذكر ألمها لأن الله عز وجل يدفع هذا الألم، ويدل على قانون الدفع هذا خروج الصحابة في اليوم التالي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد، وقيل معنى القَرح والقُرح واحد .
والجمع : القُرّح، والقوارح، والقُرُح.
وقال ابن منظور (وكأَنَّ القُرْحَ أَلَمُ الجِراحِ وكأَنَّ القَرْحَ الجِراحُ بأَعيانها قال وهو مثلُ الوَجْدِ والوُجْد ولا يجدونَ إِلاَّ جُهْدَهم وجَهْدَهم)( ).
في سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة , وهي على شعبتين :
الشعبة الأولى : صلة هذه الآية بالآيات المجاورة السابقة , وهي على وجوه :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تقدير الجمع بين الآيتين : الذين استجابوا لله والرسول يستبشرون ) .
لقد جعل الله عز وجل الأكوان وعالم السموات والأرض وعاء لعبادته فهي بذاتها تعبد الله ، كما أن الخلائق الموجودة فيها تسبح وتعبد الله ، وفي التنزيل [يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( ) ويأتي لفظ[مَا] في اللغة العربية لغير العاقل ويشمل العاقل أيضاً .
ومن خصائص الحياة الدنيا أنها دار البشارة والحبور بقيد أنه في رضوان الله عز وجل ، فقد يستبشر الإنسان بزينة الدنيا وبما يكون في خاتمته سبباً للحسرة والندامة وعلة لطول وقوفه بين يدي الله للحساب ، ولكن الإستبشار بفضل الله نعمة في النشأتين ، وهو مما لا يترتب عليه الندم والحسرة .
وهل استبشار الشهداء من التسبيح لله أم أنه أمر آخر ، الجواب لقد جعل الله عز وجل الآخرة دار جزاء ليس فيها عمل ، وهو لا يتعارض مع الثناء على الله عز وجل ، لذا ورد بخصوص أهل الجنان قوله تعالى [وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ] ( ).
ومن خصائص آية السياق بعث المسلمين والمسلمات على أمور :
الأول : الإستبشار بنعمة الله على الشهداء، وتقدير الآية : يستبشر الذين قتلوا في سبيل الله بنعمة من الله وفضل فاستبشروا .
الثاني : توجه المسلمين بالشكر والثناء لله عز وجل , وتقدير الآية : يستبشر الذين قتلوا في سبيل الله بنعمة من الله وفضل فاشكروا الله .
الثالث : يا أيها الذين آمنوا احتجوا على الذين نافقوا بأن شهداء أحد أحياء عند الله يستبشرون بنعمته وفضله .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول لأن الشهداء يستبشرون بنعمة من الله .
ويحتمل استبشار المهاجرين والأنصار الذين تذكرهم آية البحث وجوهاً:
الأول : الإستبشار بفضل الله بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل يوم معركة أحد ، فقد كانت هذه السلامة معجزة وآية حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ونوع طريق ومناسبة لنزول تمام آيات القرآن ، وبيان أحكام الإسلام ، قال تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ) .
الثاني : الإستبشار بالدفاع في معركة أحد تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصدّ الذين كفروا وعودتهم إلى ديارهم خائبين خاسرين ، وهل تلاحقهم آية البحث .
الجواب نعم ، كما أنها تصدهم عن الهّم بقتال النبي وأصحابه , وهو من الإعجاز الغيري لها .
الثالث : الإستبشار باخبار آية السياق عما يغمر الشهداء من حال الإستبشار والحبور .
لقد رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون والأنصار من معركة أحد بعد أن خلفوا سبعين شهيداً أشرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على دفنهم وجعل كل اثنين منهم في قبر ، والأصل أنه يدب الحزن إلى النفوس وتكثر النائحة في بيوت الأنصار .
فتفضل الله عز وجل من فوق سبع سماوات ليرفع هذا الحزن بالخبر والبشارة والوعد ، فمن الإعجاز في هذه الآيات أنها لم تكتف بالوعد إنما أخبرت عن أحوال السعادة التي تغمر شهداء أحد لبيان قانون وهو أن مقاليد الأمور كلها بيد الله عز وجل .
ولما أخبرت الآيات السابقة عن تقييد وقوع معركة أحد بأنه حدث يومئذ باذن الله ومنه إنكسار المسلمين خلاف النصر المبين في معركة بدر التي وقعت قبلها بثلاثة عشر شهراً ليكون هذا الإنكسار مناسبة لإستبشار المؤمنين لأنه لطف من عند الله ، وفيه من المواعظ والعبر ما يعجز الإنسان عن إدراكه .
وتجلت في عودة الصحابة الذين انهزموا إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو وسط المعركة لم يغادره ، ليكون من معاني قوله تعالى بخصوص واقعة أحد ذاتها [إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] ( ) إتعاظ الصحابة وإجتنابهم الفرار يوم الخندق أو يوم معركة حنين ، وصيرورة هذه الموعظة مناسبة للنصر والوقاية من الهزيمة والخسران .
كما تجلت في اليوم الثاني لمعركة أحد إذ بادروا للإستجابة لنداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالركوب للحوق بالعدو عندما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن جيوش الكفار يريدون العودة للإغارة على المدينة , فخلّد الله عز وجل الصحابة واثنى عليهم بآية البحث والآية التالية .
وهل تنقطع هذه المواعظ بأيام النبوة أو أيام الصحابة خاصة ، الجواب لا ، فهي مستمرة ومتجددة إلى يوم القيامة .
الرابع : الإستبشار بالسلامة في معركة حمراء الأسد التي وقعت في اليوم التالي لمعركة أحد ، فقد عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة من غير أن يقع قتال .
المسألة الثانية : لقد ذكرت آية السياق صفة كريمة للشهداء بعد موتهم وهي استبشارهم الدائم بالنعم من عند الله ، إذ يأبى الله عز وجل إلا إكرام الشهداء بالوصف الحسن ، وإخبار المسلمين والناس عن إرتقائهم إلى مرتبة غير موجودة في الحياة الدنيا ، التي شاء الله أن تكون دار إبتلاء فقد ينال فيها الإنسان الضراء والشدة ثم يبسط الله له الرزق ويقيض له أسباب الجاه والشأن حتى ينسى حال فقره وعوزه ، وكيف أنه كان يرجو نوال بعض الناس ممن حوله من أصحاب الأموال والتجارات ،وقد يستغرب عدم إصغائهم إليه ، وعدم قضاء حوائجه أو تلبية رغائبه ، حتى إذا صار هو ذا شأن يحتاجون إلى نواله ، ولكنه مشغول عنهم ، غير ملتفت إلى مناجاتهم وما يطلبون .
وجاءت آية البحث لتبين قانوناً وهو أن الشهداء في حرز من الحاجة إلى الناس ولن يدب إليهم الحزن لوقايتهم منه , لأنهم عند الله عز وجل في عالم الخلود ، وفي التنزيل[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
ولا يتعارض عدم الحاجة هذا مع مجئ الثواب لهم من عمل الأحياء فعل الخير , وإستغفارهم لهم , وبصيغة العموم الشاملة للشهداء , وورد في الحديث عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)( ).
وتتقوم منزلة شهداء أحد عند الله بأمور :
الأول : السبب.
الثاني : الشرط.
الثالث : الغاية.
الرابع : النتيجة.
أما الأول أعلاه فهو على أقسام :
أولاً : إختيار الشهداء الإيمان بالله ورسوله.
ثانياً : القتل في سبيل الله أبهى مصداق الثبات على الإيمان.
ثالثاً : الدلالة على تنزه الشهداء عن النفاق والرياء (عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يؤتى يوم القيامة بصحف مختمة ، فتنصب بين يدي الله تبارك وتعالى ، فيقول تبارك وتعالى : ألقوا هذه، واقبلوا هذه .
فتقول الملائكة : وعزتك ما رأينا إلا خيرا ، فيقول عز وجل: إن هذا كان لغير وجهي ، وإني لا أقبل اليوم من العمل إلا ما ابتغي به وجهي)( ).
رابعاً : التأكيد ببذل النفس على السلامة من الركون للظالمين.
خامساً : تحمل الأذى في جنب الله، وكأن هناك ملازمة بين الإيمان والأذى، والأصل عدمها، ولكن الذين كفروا يصرون على الإعتداء والظلم .
وقام الشهداء بالدفاع عن النبوة والتنزيل، وهو الذي تدل عليه عمومات قوله تعالى[فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ]( ).
سادساً : تلبية الشهداء لنداء النبوة بالخروج للدفاع في معركة أحد.
وهو الذي يدل عليه قوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ).
سابعاً : إصرار الذين كفروا على محاربة النبوة والتنزيل، وتجاهرهم بالعزم على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأبى الله عز وجل إلا أن يتم نزول القرآن على صدره.
ثامناً : تجهيز الذين كفروا الجيوش العظيمة لقتال المهاجرين والأنصار.
وبين القسمين أعلاه عموم وخصوص مطلق , والإصرار على القتال أعم من وقوعه، وكم من جماعة وطائفة يصرون على قتال غيرهم، ويتناجون بالبطش والثأر، وقد جمع بينهما كفار قريش، وزحفوا نحو المدينة للقتال.
ومن الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يبدأ القتال سواء في معارك الإسلام الأولى حيث قلة جيش الإسلام بالمقارنة مع جيش الذين كفروا، أو عند كثرة عدد المسلمين، والصحابة الذين معه.
فقد كان عدد المسلمين في معركة بدر التي جرت في السنة الثانية للهجرة النبوية الشريفة ثلاثمائة وثلاثة عشر ليلاقوا نحو ألف من المشركين، فلم يبدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتال، وكان يتطلع وينظر إلى دعوات بعض رؤسائهم وهم يمشون بين صفوف جيش المشركين، ويرجو أن يستجيبوا لتلك الدعوات مع أن القتال في معركة بدر أختتم بالنصر للإسلام ونزول آيات تمجده وتخلده وهذه المعركة من أعظم معارك الإسلام كما يأتي في باب الآيات التي نزلت بخصوص معركة بدر.
وهل يصح تقدير الآية على وجوه:
الأول : وإذ غدوت من أهلك تبوء للذين قتلوا في سبيل الله مقاعد للقتال والله سميع عليم.
الجواب نعم، لأن الله عز وجل يعلم بالذين سيقتلون من الصحابة، وكان الملائكة في إنتظارهم فرحين بقدومهم، ليكون هذا الإنتظار من مصاديق قوله تعالى في الآية السابقة[يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ]( ).
ويعلم الله عز وجل بقتل شهداء أحد قبل أن يخلق آدم، وجاء الإمتحان في معركة أحد لإرادة عمومات فضل الله عز وجل بقوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
الثاني : تبوء للذين سيقتلون في سبيل الله.
الثالث : تبوء للذين قد يقتلون في سبيل الله.
الرابع : إذ غدوت من أهلك تبوء للمؤمنين الذين يستجيبون لأمر الله ورسوله في اليوم التالي لمعركة أحد فيخرجون في طلب العدو الكافر.
المسألة الثالثة : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار معاملة ومفاعلة وبيع وشراء وحيازة وامتلاك يسعى فيها الإنسان لجلب الخير والنفع إلى النفس ، ويتمتع بطيباتها كل إنسان بقدر مخصوص فيه سعة ومندوحة ، والملاك أنه لا يأتي رزق للإنسان إلا بمشيئة الله ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ]( ) ولا موضوعية للخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة هل أكل الحرام من الرزق كما ذهب إليه الأشاعرة , بأن الرزق ما صح الإنتفاع منه حلالاً أو حراماً , أو أنه ليس منه لعدم صحة تملكه , والنزاع لفظي .
ولم يترك الله الإنسان ينقطع إلى الجلب والسعي في جمع الأموال وكثرتها إنما بعث الأنبياء وانزل الكتب السماوية لإصلاح عمله في الدنيا بما يجعلها مزرعة للأخرة بأن تتقوم بالإنفاق والبذل في سبيل الله فيسعى ويجد في الكسب ليدفع الزكاة الواجبة عليه ، وقد أثنى الله عز وجل على الذين يتقيدون بالواجبات العبادية البدنية والمالية ، قال سبحانه [إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ]( ) أي لهم الجنة التي تتصف النعم التي فيها بأنها ممتنعة عن الزوال والإنقطاع والهلاك والتلف .
وإذ تضمنت الآية أعلاه البشارة العظمى للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ،فقد جاءت آية السياق بما هو أوسع وأعظم بأن يرزق الله الشهيد الحياة المقرونة بالإستبشار من حين مفارقة الدنيا.
المسألة الرابعة : لقد ذكرت آية السياق فوز الشهداء بالنعم من عند الله عز وجل ، لتشمل بلحاظ آية البحث وجوهاً :
الأول : النعم التي تأتي للشهداء وهم في عالم البرزخ .
الثاني : ما ينزل للمسلمين من النعم لتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن من عند الله عز وجل .
الثالث : تأكيد قانون وهو إستجابة الشهداء لله ورسوله خير استجابة ،
لقد تضمنت آية البحث الثناء على الصحابة الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد لقتال المشركين والدفاع عن المدينة ، وخرجوا معه في اليوم التالي لها لمطاردة ذات جيش الذين كفروا ، أما الشهداء فقد قاموا بما هو أسمى وأعظم ، إذ قدّموا أنفسهم فداء وتضحية في سبيل الله .
وهل من موضوعية لإستشهادهم في منع جيش المشركين من العودة وقتال جيش المسلمين ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق آية السياق وقوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ]( )من جهات :
الأولى : بيان النفع العظيم للشهداء مع مغادرتهم الدنيا , فمن منافع الشهادة إتصال النفع من الشهيد في سيرته وفعله إلى يوم القيامة ببركة القرآن وتوثيقه للشهادة .
الثانية : مجئ الثواب للشهداء لصيرورة تضحيتهم بأنفسهم واقية للمسلمين من القتل والأسر ، والمسلمات من السبي والذل .
الثالثة : دفاع الشهداء عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أحياءّ وفي عالم البرزخ .
أما بالنسبة لدفاعهم وهم أحياء فهو أمر جلي ومتواتر في الأخبار .
وأما بعد مغادرتهم الدنيا فمن جهات :
الأولى : موضوعية الحياة الكريمة في الآخرة بالأثر والتأثير في الوقائع والأحداث بمشيئة الله سبحانه .
الثانية : علم المسلمين والناس باقامة الشهداء عند الله عز وجل في سؤدد ونعيم ، أما المسلمون فيحرصون على الإستجابة لأمر الله ورسوله ليكون من مصاديق وتقدير آية البحث وجوه :
الأول : الذين استجابوا لله والرسول لعلمهم بحياة شهداء معركة أحد عند الله , فان قلت قد ورد ذكر الأسوة بخصوص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) والجواب إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، ولم تذكر الأسوة بالشهيد , إنما الإنتفاع من سيرته وإقتباس الدروس من صبره في رضوان الله ويتأسى الشهيد في حياته وعامة المسلمين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الذين استجابوا لله والرسول لإخبار الله لهم بأن أخوانهم الذين قتلوا في معركة أحد مستبشرون بما رزقهم سبحانه .
الثالث : الذين استجابوا لله والرسول لنزول آية السياق بالإخبار عن توالي نعم الله على شهداء أحد , وهم في حال استبشار دائم .
الرابع : الذين استجابوا لله والرسول لما تبعثه آية السياق من الطمأنينة في نفوسهم وعدم الخشية من الموت وما بعده لأنهم يفدون على الله عز وجل , وفي التنزيل[يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً]( ).
الثالثة : إخبار آية السياق عن سعادة وحبور المؤمنين الذين قتلوا في معركة أحد باعث لليأس والقنوط في نفوس الذين كفروا ، فحتى لو قاموا بقتل المؤمن فانه لا يتضرر منهم لأنه ينتقل إلى حياة كريمة خالية من الهمّ والغمّ .
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : الذي استجابوا لله ورسوله يستبشرون بفضل من الله ) .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا والآخرة ملكاً طلقاً له ، وتفضل بخلافة الإنسان كما في قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ليكون خلق الإنسان وعمارته الأرض وخلافته فيها تأكيداً لملك الله تعالى للأرض وتحدياً للخلائق وقهراً لها في لزوم تسليمها بالعبودية لله عز وجل ، وفي التنزيل [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ] ( ).
ومن مصاديق هذا التأكيد أمور:
الأول : إنعدام المنافس والشريك للإنسان في الإنتفاع من الأرض وخزائنها ، وهو من اسرار الخلافة ، فحتى الشيطان الذي هبط للأرض مع آدم وحواء عاجز عن مشاركة الأرض في خيراتها ، قال تعالى [قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا] ( ).
الثاني : حصر وتقييد خلافة الإنسان في الأرض مكاناً وزماناً .
الثالث : انقطاع خلافة الإنسان في الأرض من جهات :
الأولى : مغادرة آدم الحياة الدنيا ، وهو الذي نفخ الله فيه من روحه ، وكلمه قُبلاً , واحتج بخلقه وتعلمه على الملائكة ، إذ قال تعالى [يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ] ( ) ولم يغادر آدم الدنيا إلا بعد أن كثر نسله .
وقال ابن كثير (وقد ذكر أهل التاريخ أن آدم عليه السلام لم يمت حتى رأى من ذريته من أولاده وأولاد أولاده أربعمائة ألف نسمة والله أعلم ) ( ) ولا يخلو هذا الرقم من المبالغة لذا إحتاط الكاتب فنسبه إلى أهل التأريخ وختم الموضوع بالقول الله أعلم ، وقيل أن آدم (لم يمت آدم عليه السلام حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفاً) ( ) ( ).
الثانية : إنقطاع النبوة بخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومغادرته إلى الرفيق الأعلى .
الثالثة : النفخ بالصور وانتهاء الحياة البشرية في الدنيا على نحو مفاجئ سواء بالحروب والأسلحة الفتاكة التي تمنع من بقاء الإنسان حياً في الأرض أو بآية كونية خارقة , أو بمشيئة إلهية لا تتعلق بقاعدة السبب والمسبب والعلة والمعلول .
وجاءت آية السياق لتخبر عن قانون وهو إنقطاع الحياة الخاصة , ليس إنقطاع فناء وزوال كما قد يبدو من هيئة الميت الفاقد للحركة مطلقاً إنما هو إنتقال إلى عالم آخر يتصف بأمور :
الأول : إعادة الأجساد إلى بارئها .
الثاني : بعث ذات الأرواح في الأجساد .
الثالث : الوقوف بين يدي الله للحساب .
الرابع : الجزاء والثواب بالجنة والنعيم الدائم للمؤمنين والعذاب الأليم للذين كفروا .
وكل من هذه الأمور آية من الإرادة التكوينية وتترشح عنها آيات متصلة ومتجددة في كل آن وساعة.
الخامس : إختصاص الذين قتلوا في سبيل الله بنعمة عظمى من حين وقوع القتل في سبيل الله ، وتحقق زهوق الروح .
(وعن الحسين بن علي عليه السلام قال : بينما علي بن أبي طالب يخطب الناس ويحثهم على الجهاد إذ قام إليه شاب وقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله؟
قال : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ناقته العصباء ونحن منقلبون من غزوة،
فسألته عمّا سألتني عنه فقال صلى الله عليه وآله وسلم الغزاة إذا همّوا بالغزو كتب الله تعالى لهم براءة من النار،
فإذا تجهزوا لغزوهم باهى الله تعالى بهم الملائكة،
فإذا ودعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت،
ويخرجون من ذنوبهم كما تخرج الحية من سلخها،
يوكل عزّ وجلّ بكل رجل منهم أربعين ألف ملك يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله،
ولا يعمل حسنة إلاّ ضعفت له،
وكتب له كل يوم عبادة ألف رجل يعبدون الله عزّ وجلّ ألف سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً،
اليوم مثل عمر الدنيا،
فإذا صاروا بحضرة عدوّهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إياهم،
فإذا برزوا لعدوّهم وأشرعت الأسنّة وفوّقت السهام وتقدم الرجل إلى الرجل حفّتهم الملائكة بأجنحتها ويدعون الله لهم بالنصرة والتثبت،
ونادى مناد : الجنة تحت ظلال السيوف،
فتكون الضربة والطعنة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف،
وإذا زال الشهيد عن فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتى يبعث الله تعالى إليه زوجته من الحور العين فتبشره بما أعد الله له من الكرامة،
وإذا وصل إلى الأرض تقول له الأرض : مرحباً بالروح الطيب التي أُخرجت من البدن الطيب أبشر فإن لك ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ويقول الله تعالى : أنا خليفته في أهله،
من أرضاهم فقد أرضاني ومن أسخطهم فقد أسخطني،
ويجعل الله روحه في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث تشاء تأكل من ثمارها،
وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بالعرش،
ويعطى الرجل منهم سبعين غرفة من غرف الفردوس،
سلوك كل غرفة ما بين صنعاء والشام يملأ نورها ما بين الخافقين،
في كل غرفة سبعون باباً،
على كل باب سبعون مصراعاً من ذهب،
وعلى كل باب سبعون غرفة مسبلة،
وفي كل غرفة سبعون خيمة،
في كل خيمة سبعون سريراً من ذهب قوائمها الدر والزبرجد،
مزمولة بقضبان الزمرد،
على كل سرير أربعون فراشاً،
غلظ كل فراش أربعون ذراعاً،
على كل فراش زوجة من الحور العين {عُرُبًا أَتْرَابًا}( ).
فقال الشاب : يا أمير المؤمنين أخبرني عن العروبة؟
قال : هي الغنجة الرضية المرضية الشهية،
لها ألف وصيف وسبعون ألف وصيفة،
صفر الحلي بيض الوجوه،
عليهن تيجان اللؤلؤ،
على رقابهم المناديل،
بأيديهم الأكواب والأباريق،
وإذا كان يوم القيامة يخرج من قبره شاهراً سيفه تشخب أوداجه دماً،
اللون لون الدم والرائحة رائحة المسك،
يخطو في عرصة القيامة. فوالذي نفسي بيده لو كان الأنبياء على طريقهم لترجّلوا لهم،
ممّا يرون من بهائهم،
حتى يأتوا إلى موائد من الجواهر فيقعدون عليها،
ويشفع الرجل منهم في سبعين ألف من أهل بيته وجيرته،
حتى أن الجارين يتخاصمان أيهما أقرب جواراً فيقعدون معي ومع إبراهيم على مائدة الخلد،
فينظرون إلى الله في كل يوم بكرة وعشية ) ( ).
ويتضمن تقدير الجمع بين آية البحث والآية السابقة حسب التقدير في هذه المسألة وهي الرابعة معنى أعم من سبب النزول ، إذ يشمل الذين آمنوا بالله عز وجل ورسوله ، وامتثلوا للأوامر الواردة في القرآن والسنة.
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا محلاً ووعاءً لفضله والذي لا يختص بالمؤمنين إنما يشمل الناس جميعاً باستدامة الحياة في اليوم والساعة ، وتوالي الرزق الكريم وأسبابه ، وصرف البلاء والآفات عن الفرد والجماعة .
وتعجز الخلائق عن إحصاء أفراد فضل الله على الناس في الثانية والدقيقة الواحدة ، بينما ورد الإخبار عنه في القرآن على نحو الإطلاق في الكم والكيف , يهب الله منه لمن يشاء وكيف ومتى يشاء ، قال تعالى [وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ( ).
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : الذين أحسنوا منهم يستبشرون).
لقد جعل الله سبحانه الدار الآخرة دار الجزاء , ومنه الجزاء الحسن للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ،وليس من حصر لوجوه هذا الجزاء ، ومنه الإستبشار , وهو على أقسام كثيرة منها :
الأول : الإستبشار من حين مغادرة الدنيا ومفارقة الروح الجسد .
الثاني : الإستبشار في عالم البرزخ بعد الحساب الإبتدائي لمنكر ونكير .
الثالث : استبشار المؤمن عند صيرورة قبره روضة من رياض الجنة .
الرابع : الإستبشار عند البعث من القبور .
الخامس : إستبشار المؤمن عند أخذه الكتاب باليمين ، قال تعالى [يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً] ( ) .
السادس : الإستبشار عند الحوض , ورؤية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (عن أنس قال : سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يشفع لي يوم القيامة .
فقال : أنا فاعل .
قلت : يا رسول الله أين أطلبك؟ .
قال : أطلبني أول ما تطلبني على الصراط . قلت : فإن لم ألقك على الصراط؟ قال : فاطلبني عند الميزان .
قلت : فإن لم ألقك عند الميزان؟ .
قال : فاطلبني عند الحوض ، فإني لا أخطىء هذه الثلاثة مواطن) ( ).
السابع : استبشار المؤمن عند تخفيف الحساب ، وبيان عظيم فضل الله وسعة رحمته .
الثامن : الإستبشار بالفوز بالشفاعة , إذ يكون المؤمن ومشفوعاً له , وشافعاً .
التاسع : دخول الجنة والإقامة الدائمة فيها ، ويمكن أن نسميه (الإستبشار الأعظم ).
وهل من إستبشار في الدنيا ، الجواب نعم ، إذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا حلوة ذات بهجة ، وتتعدد أسباب ومقدمات وضروب الفرح والإستبشار فيها ، قال تعالى [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( ) فما جعله الله عز وجل زينة في الدنيا يكون باباً للحساب ، وبلغة للثواب , أما الإستبشار بالعمل الصالح فهو مناسبة لمضاعفة الثواب .
ومن خصائص الجمع بين الآيتين بعث المسلمين والمسلمات إلى الإحسان لأنفسهم وللغير ، لقد إنقضت واقعة معركة أحد بشطر من نهار وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلف العدو في اليوم التالي وعاد بعد ثلاثة أيام ليبقى عملهم هذا نبراساً وضياء للمسلمين في كل زمان .
وتقدير آية البحث بصيغة الخطاب (للذين أحسنوا منكم ).
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : ان الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين استجابوا لله والرسول ) .
تحتمل النسبة بين المؤمنين وبين الذين استجابوا لله والرسول وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي ، فلا يرقى الإنسان إلى مرتبة الإيمان إلا عند الإستجابة والإمتثال لأوامر الله والرسول .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق , وهو على شعبتين :
الأولى : المؤمنون أعم من الذين ذكرت آية البحث استجابتهم لله والرسول .
الثانية : الذين استجابوا لأمر الله والنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء ، وأخرى للإفتراق بينهما .
والمختار الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه بلحاظ أسباب النزول وخروج شطر من الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة حمراء الأسد ، ليكون تقسيم المؤمنين بلحاظ الآية أعلاه على وجوه :
الأول : المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله والملائكة والكتاب واليوم الآخر .
الثاني : المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله والملائكة والكتاب واليوم الآخر واستجابوا لله عز وجل.
الثالث : المؤمنون الذين آمنوا واستجابوا لله ورسوله .
الرابع : المؤمنون الذين آمنوا واستجابوا لله ورسوله في معركة أحد .
الخامس : المؤمنون الذين استجابوا لله ورسوله من بعد ما أصابهم القرح والجراحات الشديدة.
وهل يختص الثناء في الآية أعلاه بالذين ورد ذكرهم في الوجه الأخير أعلاه ، الجواب لا ، إذ يتغشى الأجر والثواب كل المؤمنين ، وهو من أسرار وجود فاصلة بين الآيتين والوقوف عندها وانتهاء آية السياق عند لفظ المؤمنين .
وحينما يقرأ أو يسمع الإنسان قوله تعالى [وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) يدرك ويشتاق للثواب العظيم الذي يأتي على الإيمان بالذات.
المسألة الثامنة : من معاني الصلة بين آية البحث والآية السابقة بيان التباين بين حال المؤمن والمشقة التي يلاقيها في الدنيا وبين السعادة والغبطة التي يفوز بها في الآخرة .
لقد جعل الله عز وجل الدار الآخرة دار الجزاء والسعادة والغبطة للذين تلقوا التنزيل بالتصديق ، ومن الآيات في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن وجود أمة تذب عنهما ، وتدافع بالسيف دون شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وتدفع الذين كفروا والأسباب التي قد تحول دون نزول القرآن .
ليكون من معاني الثناء على المهاجرين والأنصار والإخبار عن بلوغهم المراتب السامية في الآخرة ، أنهم كانوا درعاً حصيناً للنبوة والتنزيل ، وأنهم جاهدوا بأنفسهم لينعم الناس بتمام نزول آيات القرآن ، وتبقى بين أيديهم سالمة من التحريف والنقص والزيادة ، وليعملوا بها وتكون وسيلة للألفة والأخوة بينهم .
ويكون من معاني آية البحث : الذين استجابوا لله والرسول فلم يتفرقوا ولم يتقاتلوا ) .
فان قلت قد وقع قتال بين المسلمين ، الجواب نعم ، وهو قليل نادر ولا يضر بالمعنى الأعم للأخوة الإيمانية ، وقوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) وقد جعل الله عز وجل آيات القرآن وأداء الصلاة والفرائض العبادية الأخرى وسيلة لوقف القتال بينهم ، ومن الآيات ما جاء بهذا الخصوص ، قال تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ] ( ).
وهل يمكن القول بقانون وهو أن ثواب المؤمن في الآخرة بقدر أذاه في الدنيا مطلقاً أو أذاه في سبيل الله خاصة، الجواب لا دليل عليه ، فإن قلت إنما نال الشهداء عظيم المنزلة في الآخرة لأن القتل أشد الأذى، والجواب هذا صحيح، ولكنه لا ينطبق على ضروب الأذى الأخرى.
لقد فقد شهداء أحد في ساعة واحدة كل شيء في الدنيا، وغادروها بظلم من الذين كفروا مع أنها ملك لله عز وجل ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى] ( ) .
والأصل أن يتنعم بها المؤمنون، ولكنه الإمتحان والإختبار في الحياة الدنيا، وإقترانه بعالم الثواب إذ فاز الشهداء بأمور:
الأول : الحياة الدائمة، فبعد أن كانوا في الدنيا بأيام وسنوات معدودة وأعمار قصيرة تفضل الله عليهم بالحياة الأبدية.
الثاني : الأصل في الإنسان بعد الموت السكون وفقد الحياة إلا أن يأذن الله عز وجل بالبعث وعودة الروح إلى الجسد، وقد أنعم الله عز وجل على الشهداء بأن جاءتهم الحياة من حين هجرانهم الدنيا وهجرانها لهم على نحو قهري .
الثالث : إخبار هذه الآيات عن قانون من الإرادة التكوينية وهو أن حياة الشهداء لا تكون إلا عند الله عز وجل لقوله تعالى قبل ثلاث آيات[أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ]( )، وهناك مسائل:
الأولى : ما هي صلة هذه الحياة الكريمة بخلافة الإنسان في الأرض.
الثانية : هل تستمر حياة الشهداء عند الله أم تنقطع أثناء مدة البرزخ أو يوم القيامة.
الثالثة : هل الحياة عند الله من الكلي المتواطئ الذي يكون على مراتب متساوية في الشأن ومصاديق النعمة، أم أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
الرابعة : هل حياة الشهداء عند الله عز وجل مثل حياة الملائكة .
أما المسألة الأولى فالصلة بين حياة الشهداء في الآخرة وبين خلافة الإنسان في الأرض على وجوه:
أولاً : بيان إتصال وإستدامة وتجدد إكرام الله عز وجل للإنسان.
ثانياً : الجزاء الحسن من عند الله للذين أحسنوا الإقامة في الأرض , ولم يغادروها إلا على مرتبة من أسمى مراتب العبودية لله عز وجل.
ثالثاً : منزلة الشهداء السامية عند الله من مصاديق إحتجاج الله على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
رابعاً : ترغيب الناس بالإيمان، وعدم الخوف والخشية من الذين كفروا وإن هددوا وتوعدوا بالقتال، وهذا الترغيب من مصاديق الآية التالية[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
خامساً : بيان قانون وهو الجزاء العظيم من عند الله للإنسان على خلافته في الأرض، وقيامه بوظائف الخلافة خير قيام.
أما المسألة الثانية فأن حياة الشهداء تستمر عند الله عز وجل من غير إنقطاع، من وجوه:
الأول : إذا أعطى الله عز وجل فأنه يعطي بالأتم والأحسن والأكمل.
الثاني : من خصائص النعمة الإلهية الإستدامة والدوام إلا أن يجحد بها الإنسان ولم يتعاهدها بالشكر والتقوى، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]( )، وليس من عمل أو إختبار للشهداء والناس جميعاً في الآخرة.
الثالث : أصل إستصحاب النعمة، فلو دار الأمر بين إستصحابها وبين زوالها , فالأصل هو الأول.
الرابع : قيام المسلمين بتلاوة آية البحث في كل زمان، ومن مفاهيمها حياة الشهداء عند الله حال التلاوة، إذ يقرأ المسلم في هذا الزمان[بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( )، فيكون المتبادر بأنهم أحياء زمان التلاوة، وقولنا أعلاه(في هذا الزمان) نقصد به أوان كتابة هذه الحروف، ويكون بالنسبة لقارئه وقت وزمان القراءة وإن كان بعد مئات السنين , مع التباين بين زمان التنزيل وغيره , إذ أنه يلحق بالقياس مع الفارق، فسنن ومفاهيم النزول غير التأليف والتدوين، والمدار في مضامين التنزيل على عموم المعنى وليس على سبب النزول.
أما المسألة الرابعة أعلاه فلا دليل على التشابه التام بين حياة الملائكة وحياة الشهداء عند الله، والأصل هو إختصاص كل منهما بشأن ونعم متعددة مع الإلتقاء بنعم أخرى، إذ أن حياة الشهداء في الآخرة جزاء وثواب عاجل، أما الملائكة فأنهم خلقوا للإنقطاع للعبادة والإمتثال التام لأمر الله عز وجل، وفي التنزيل في الثناء عليهم[وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ).
المسألة التاسعة : لقد إبتدأت آية السياق بقوله تعالى(يستبشرون) وفيه أطراف :
الأول : جهة صدور علة الإستبشار، وهو من مشيئة وفضل الله.
الثاني : موضوع الإستبشار، وهل هو متحد أم متعدد ، الجواب هو الثاني.
الثالث : المستبشر بالكسر .
الرابع : سبب الإستبشار، وهو تقديم الشهداء أنفسهم في سبيل الله.
الخامس : الغايات الحميدة من الإستبشار وهي على أقسام:
الأول : حسن الجزاء للشهداء.
الثاني : تنجز الوعد الكريم من الله عز وجل.
الثالث : المدد والعون للأحياء من المسلمين، وبعث السكينة في نفوسهم.
الرابع : الترغيب والحث على الإيمان.
الخامس : بيان الثواب العظيم على الإيمان لذا ورد في آية السياق[وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
السادس : دعوة المسلمين للتحلي بالصبر في كل الأحوال، وخاصة في ميدان الدفاع، إذ أنه نوع طريق لمجيء المدد من عند الله عز وجل، وفي ذات معركة أحد , قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
الوجه الثاني : صلة هذه الآية بقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لقد ذكرت آية السياق القتل المقيد بأنه في سبيل الله في النية والعزيمة والقصد وعن الامام موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله أغزى عليا في سرية وأمر المسلمين أن ينتدبوا معه في سريته .
فقال رجل من الانصار لاخ له: اغز بنا في سرية علي لعلنا نصيب خادما أو دابة أو شيئا نتبلغ به، فبلغ النبي صلى الله عليه وآله قوله: فقال: إنما الاعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، فمن غزا ابتغاء ما عند الله عز وجل فقد وقع أجره على الله عز وجل، ومن غزا يريد عرض الدنيا أو نوى عقالا لم يكن له إلا ما نوى)( ).
وتضمنت آية البحث الثناء على الصحابة في خروجهم خلف العدو إذ يتصف بأنه استجابة وطاعة لله والرسول , وفيه مسائل :
الاولى : إنه تنزيه للمهاجرين والأنصار في حسن قصدهم .
الثانية : فيه ثناء على المهاجرين والأنصار .
الثالثة : إنه من مصاديق قوله تعالى [إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا]( ).
وتبعث آية البحث على السكينة لما فيها من الإخبار عن حسن سمت المهاجرين والأنصار واستجابتهم لله ورسوله وفي أمور تتعلق بالقتال وملاحقة جيوش العدو مع شدة جراحاتهم.
المسألة الثانية : من معاني الجمع بين الآيتين أن الصحابة الذين خرجوا الى معركة أحد صاروا على أقسام :
الاول : الذين قتلوا في معركة أحد وعددهم سبعون .
الثاني : الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف العدو في اليوم التالي لمعركة أحد .
الثالث : الذين أقعدتهم الجراحات الشديدة.
لقد صارت أعداد الناس بالمليارات , وهو من مصاديق فضل الله بخلافة الإنسان في الأرض , والمختار أن كلام الملائكة (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)(2).
ليس إحتجاجا إنما سألوا الله أن ينزه الناس من الفساد إذ المشيئة المطلقة لله عز وجل وأن الخليفة تابع ومنقاد لله عز وجل الذي أورثه الأرض , لقد أراد الملائكة الرحمة بأهل الارض والرأفة بهم , وهدايتهم ومنعهم من الخصومة فيما بينهم , وقتل بعضهم بعضاً .
لقد ذكر القرآن كتباً سماوية سابقة وقصة ولدي آدم وكيف أن قابيل أراد قتل هابيل فقتله أي مع العمد وسبق الإصرار , كما في التنزيل (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ)(2)
أي زينت له وصار يهم بقتله فصار هابيل يختار رؤوس الجبال ,فأتاه يوما وكان يرعى غنمه فرفع صخرة وألقاها بقوة على رأسه فشدخه فمات.
ولم تكن آنذاك منافسة وخصومة على أراض وأملاك وحدود ,وليس في الأرض غير الأخوة والأبناء من ذرية آدم , وفيه مسائل :
الأولى : قد يأتي الفساد على نحو القضية الشخصية .
الثانية : يقع الفساد من غير إكتساب وتعلم من الغير ، إلا أنه ليس من الفطرة بل مباين ومضاد لها .
الثالثة : وقوع الفساد والقتل في أيام آدم عليه السلام ، ولم يغادر الدنيا إلا وقد فجع بقتل ولده هابيل ، وهو أحسن من قابيل لورعه وتقواه وصلاحه كما يدل عليه القرآن.
وعن أنس قال : قال رسول الله : لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت على ثلاثون من بين يوم وليلة وما لى ولبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يوارى إبط بلال)( ).
وكل فرد من الأذى الذي توجه الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والى المهاجرين والأنصار هو من الفساد الذي سأل الملائكة الله سبحانه تنزيه الناس منه , ولم يحيطوا علما بأسباب نصرة الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين والثواب العظيم الذي أعده لهم , ومنه نزول ذات الملائكة لنصرتهم ليشفوا صدورهم من الذين كفروا ويروا مصارعهم مع رجحان كفتهم في العدد والعدة والمؤونة.
ويحتمل الثناء الوارد في آية البحث وجوهاً :
الأول : الذين خرجوا في اليوم التالي لمعركة أحد خلف العدو.
الثاني : شمول الذين تخلفوا عن الخروج لعذر ولشدة الجراحات.
الثالث : إرادة عموم الذين خرجوا الى معركة أحد وقاتلوا فيها , والذين خرجوا إلى حمراء الأسد , ليأتي لهم الثواب مضاعفاً.
والمختار هو الثالث والوارد لايخصص المورد.
نعم ورد الثناء الخاص على الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد لأنهم بنوا صرحاً في ميزان الجهاد والصلاح ثم جاء خصوص الخصوص بقوله تعالى[الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين :الشهداء الذين استجابوا لله والرسول أحياء عند ربهم ) والنسبة بين الذين استجابوا لله والرسول وبين الشهداء عموم وخصوص مطلق ,فمن المسلمات سقوط قتلى من المسلمين في معركة بدر وأحد ولكن أكثر الذين خرجوا للدفاع في معركة بدر ومعركة أحد عادوا الى المدينة سالمين .
لقد جاءت الآيات الثلاثة السابقة في الثناء على شهداء معركتي بدر وأحد ثم انتقلت آية البحث إلى موضوع آخر متصل به وهو بيان استجابة طائفة من الصحابة لنداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتعقب جيش الذين كفروا ، ولم يأت هذا النداء عن عصبية أو اصرار على القتال ، ولكنه ترشح عن أمور :
الأول : الوحي من عند الله ، وهو الأصل في المقام لعمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الثاني : مجئ الأخبار بقيام رؤساء جيش المشركين بالمناجاة للرجوع للقتال ، إذ أدركوا وهم وسط الطريق إلى مكة فشلهم وعجزهم عن تحقيق أي غاية من غاياتهم الخبيثة التي جاءوا من أجلها ، لتكون هذه المناجاة والوقوف عندها وعدم الرجوع إلى ميدان المعركة أو إلى غزو المدينة من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) .
الثالث : عمومات قوله تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ] ( ).
(وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله: { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ }( ) نزلت بمكة حيث لا شوكة ولا جهَاد، ثم نسخ بآية الجهاد بالمدينة. وقد رَدّ هذا القول ابن جرير، وقال: بل [هذه] الآية مدنية بعد عُمْرة القَضيَّة، وعزا ذلك إلى مجاهد) ( ).
ويدل قوله أعلاه (وقد رد هذا القول ) على عدم أخذه ما نسب إلى ابن عباس في المقام بالتسليم .
والمختار أن موضوع الآية أعلاه أعم من أن يختص بالأشهر الحرم ، وأنها غير منسوخة ، ويتجلى بالتقييد في الآية بتقوى الله سواء عند تلقي الإعتداء أو عند الرد والجزاء .
لذا تضمنت آية البحث أموراً :
الأول : الأمر بالتقوى ، وإن ورد بصيغة الجملة الخبرية .
الثاني : إستحضار المسلمين التقوى عند معركة أحد وحال الخروج خلف العدو إلى حمراء الأسد .
الثالث : تنزه المسلمين عن الظلم والتعدي .
ويكون تقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : فينقلبوا من ميدان المعركة خائبين .
الثاني : فينقلبوا يسيرون في الطريق خائبين .
الثالث : فينقلبوا مع المناجاة بالرجوع خائبين, قال تعالى[لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ]( ).
الرابع : فينقلبوا إلى مكة خائبين .
الخامس : فينقلبوا إلى أهليهم خائبين .
وبين الإنقلاب الذي تشير إليه الآية أعلاه وبين قطع المسافة من معركة أحد إلى مكة عموم وخصوص مطلق ، فقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا]أعم من قطع المسافة ، فيشمل حال الذين كفروا بعد وصولهم إلى مكة وجلوسهم في المسجد الحرام أو دار الندوة , وقد ألقت الحرب والفتنة التي أشعلوها أوزارها .
السادس : فينقلبوا خائبين ما داموا على الكفر والجحود والضلالة ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] ( ).
المسألة الرابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : ولا تحسبن الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح أمواتاً ).
تتصف آية البحث والسياق باتحاد الموضوع , والصلة والنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء أن كلاً منهما تتعلق بواقعة أحد .
أما مادة الإفتراق فان آية السياق تخص شهداء أحد ، أما آية البحث فيتعلق موضوعها بالذين بقوا أحياء من المهاجرين والأنصار بعد معركة أحد ، وفيه شاهد على منزلة الصحابة عند الله ، وبيان فضل الله عز وجل عليهم بتوثيق حال كل طائفة منهم بما يفيد العز والشأن والإكرام .
ومن خصائص ملوك الأرض أن الذي يقتل من الجنود ينسى أمره بتقادم الأيام أو تكون هناك نوع هبة وعطاء لعائلته ، وقد يوجه له اللوم ، ويرمى بالقصور والتقصير .
أما بالنسبة للذين يقتلون في سبيل الله فان الله عز وجل كتب لهم الخلود في الحياة الدنيا والآخرة ، بما فيهم الرماة الذين خالفوا أمر رسول الله بتركهم مواضعهم التي نصبهم فيها , أما في الدنيا فجاءت آية البحث والآيتان السابقتان في الثناء على الشهداء وجعل المسلمين يستحضرون ذكرهم كل يوم طواعية وعلى نحو الإنطباق بتلاوة هذه الآيات .
وهل هناك تباين في تلاوتها في الصلاة وتلاوتها خارج الصلاة من جهة التدبر والتفكر في مضامينها .
الجواب تقترن التلاوة في الصلاة بحال الخشوع والخضوع لله عز وجل ، والوقوف بين يدي الله عز وجل في أسمى فعل عبادي يترشح عنه التدبر في مضامين الآية القرآنية بعيداً عن السهو وشرود الذهن ومداهمة هموم الدنيا للذهن ، ويمكن للمسلم أن يتلو القرآن خارج الصلاة بذات حال الخشوع الذي في الصلاة ، قال تعالى [وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ]( ).
ويتعلق موضوع آية البحث بالمهاجرين والأنصار الذين عادوا من معركة أحد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصلوا معه صلاة المغرب والعشاء في ذات اليوم فهم ليسوا أمواتاً ساعة نزول الآية فهل يصح التقدير الوارد في هذه المسألة وهي الرابعة ، ولزوم عدم احتسابهم أمواتاً ، أم أنه من تحصيل ما هو حاصل .
الجواب هو الأول ، فمن معاني هذا الجمع البشارة بحياة المهاجرين والأنصار الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد في عالم الآخرة ، لتكون آية البحث بشارة لهم وباعثا للطمأنينة في نفوسهم .
فمن الإعجاز في هذه الآيات مواساة المهاجرين والأنصار وأهليهم بشهداء أحد ، والإخبار عن كونهم في حال بشارة متصلة كما ورد في الآية السابقة [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ] ( ).
ومن مصاديق الرحمة والرأفة من عند الله عز وجل بالمؤمنين مجئ آيات القرآن بالبشارة لهم في النشأتين ، ومنها إمكان الجمع بين آية البحث والسياق ، إذ أخبرت آية السياق عن حياة شهداء معركة أحد، ثم جاءت الآية السابقة باستبشارهم بنعمة وفضل الله عز وجل ليستبشر المسلمون الأحياء بهذه النعمة، ويتطلعون إلى الفوز بها، وإن لم يقتلوا في ميدان المعركة .
ليكون من معاني ومصاديق أول آية البحث : الذين استجابوا لله والرسول يستبشرون بنعمة من الله وفضل .
ويجوز تقدير آية البحث : الذين استجابوا لله والرسول أحياء ، وذكرت آية البحث إصابتهم بالجراحات والقروح في معركة أحد لبيان قانون وهو تنزههم عن النفاق والرياء .
المسألة الخامسة : تقدير الجمع بين الآيتين : الذين استجابوا لله والرسول في سبيل الله ).
لقد أخبرت آية السياق عن علة قتال وقتل شهداء معركة أحد ، وهو سبيل الله وصحيح أنه عنوان شامل وسور جامع للصالحات إلا إنه يأخذ صبغة خاصة حينما يتعلق بالقتل والتضحية بالنفس لإرادة الثبات على الإيمان، وإقامة دولة الحق والهدى وصلاح الناس .
ولما احتجت الملائكة على صيرورة الإنسان[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) لأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء أخبرهم الله بعلمه بالأمور وعواقبها، وقال سبحانه في الرد والإحتجاج عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علمه تعالى بلحاظ آية البحث والسياق أمور :
الأول : صيرورة القتال والقتل طريقاً للقضاء على الفساد ، قال تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) ليكون من معاني رد الله عز وجل عليهم يسفك الدماء فيكون قضاء على الفساد، وتكون كل قطرة من دماء الشهداء في أثرها على وجوه :
أولاً : إنها سلاح لإزاحة الفساد.
ثانياً : فيها هدم لمفاهيم الوثنية.
ثالثاً : مقدمة لزوال الفعل الحرام من الزنا وشرب المسكر وأكل الربا ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثاني : ليس في سفك دماء المؤمنين خسارة لأنهم يفوزون بالحياة الأبدية من حين مفارقة الدنيا ، ولو خيّروا بين العودة إليها وبين البقاء عند الله فأنهم يختارون هذا البقاء ، نعم إنهم يودون العودة لإطلاع أهليهم والناس على ما فازوا به لإرادة القتل في سبيل الله مرة أخرى.
ولو أعادهم الله عز وجل إلى الحياة الدنيا مرة أخرى بعد قتلهم ، فهل يوجد من يقدم على قتلهم لإيمانهم وتقواهم أم يكف الناس عنهم لعظيم آية عودتهم .
الجواب هو الأول ، نعم مع قلة عدد الذين كفروا ونبذ الناس لهم .
وعن جابر بن عبد الله قال : لما أصيب أبي يوم أحد، أسفت عليه أسفا شديدا، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: يا جابر، ألا أخبرك عن أبيك؟ إنه عرض على ربه ليس بينه وبينه ستر .
فقال : سل تعطه .
فقال: يا رب أرد إلى الدنيا ، فأقتل فيك وفي رسولك مرة أخرى، فقال: سبق القضاء مني أنهم إليها لا يرجعون)( ) .
فلم يحتج الله عز وجل بأنه لو أعاده فليس في الأرض أحد يقدم على قتله .
الثالث : التضحية بالنفس في سبيل الله على نحو الإختبار شاهد على أهلية الإنسان للخلافة في الأرض .
الرابع : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإخبار الناس عن حياة قتلى أحد عند الله، سواء كان هذا الإخبار بياناً وتفسيراً لآية السياق أو جاء بالأحاديث البيانية التي تتضمن ذكر حال ونعمة فاز بها الشهداء عند الله سبحانه .
الخامس : رؤية الملائكة للصحابة وهم يشتاقون لقتال العدو الكافر حتى مع قلة عددهم، وسقوط سبعين شهيداً منهم في معركة أحد، وهو الذي تدل عليه آية البحث[الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ….] .
فمن خصائص الإستجابة التي تذكرها آية البحث أنها مقدمة للقتال والقتل لإرادة اللحاق بجيش الذي كفروا بعد بلوغ أنباء عن نيتهم الرجوع إلى المدينة وغزوها.
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : الذين استجابوا لله والرسول أحياء.
ولقد ذكرت آية السياق الذين قتلوا في سبيل الله، وأخبرت عن حياتهم وسعادتهم وتوالي نعمة عن الله عز وجل عليهم، ويتحمل وجوهاً:
الأول : الحياة في عالم البرزخ للذين قتلوا في سبيل الله في ميدان المعركة.
الثاني : يختص موضوع حياة الشهداء كونها عند الله بالذين قتلوا في سبيل الله , ويتفضل الله عز وجل على من يشاء بالحياة والحركة في عالم البرزخ بلحاظ أعمال صالحة مخصوصة أو بفضل ولطف من عند الله.
الثالث : الحياة في عالم البرزخ أعم من أن تختص بالذين قتلوا في سبيل الله.
والمختار هو الثالث، فقد ذكرت آية السياق الشهداء من باب المثال الأمثل، وتحتمل الحياة والسعادة والنعيم في تعلقه وجوهاً:
الاول : مجيء النعيم للجسد والروح , إذ تعود الروح للجسد.
الثاني : تغشي النعيم الروح وحدها.
الثالث : صيرورة الروح في جسم مثالي ليأتيها النعيم .
الرابع : نزول العذاب أو النعيم بخصوص جسد الميت, فلا ترد الروح لجسد الميت الذي يتلقى العذاب والنعيم وهو في القبر كما لو كان يحس كما لو كان في الدنيا من غير أن ترد اليه الروح.
والمشهور هو الأول أعلاه وهو المختار , وإذا أعطى الله عز وجل سبحانه فأنه يعطي بالإتم الأوفى, وهو قادر على كل شئ قدير, وفي التنزيل[وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالْأُولَى]( ).
ولابد من تعدد الدراسات والبيان في السنة النبوية مثل جمع الاحاديث الخاصة بحياة الإنسان في عالم البرزخ واستتنباط المسائل منها بما لا يتعارض مع آيات القرآن .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة أو من أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله منه)( ) .
وعن أنس قال: سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم(صوتا من قبر فقال متى مات هذا قالوا مات في الجاهلية فسر بذلك وقال لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر)( ) .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما يتعوذ من عذاب القبر لتنبيه وتحذير المسلمين منه ، وبعثهم على الإستعداد له، ومحاكاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإستعاذة منه، والإنذار للذين كفروا، ولو إستعاذ منه الكافر فهل تنفعه هذه الإستعاذة .
الجواب لا، لعمومات قوله تعالى[قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( ).
المسألة السابعة : تقدير الجمع بين الآيتين : الذين استجابوا لله والرسول يرزقون.
من خصائص الآية القرآنية أنها تتضمن الوعد الكريم من عند الله عزوجل للذين يواظبون على فعل الصالحات ويتجنبون السيئات, ويستقرأ هذا الوعد من وجوه :
الأول : نص ومنطوق الآية القرآنية .
الثاني : مفهوم الآية القرآنية.
الثالث : دلالة الآية القرآنية.
الرابع : الغاية الحميدة في الآية الكريمة.
الخامس : الأثر والنفع المترشح عن الآية القرآنية.
وتتجلى في الآية القرآنية مصاديق الاستجابة لله والرسول, منه قوله تعالى[عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
ومن بديع صنع الله حاجة الملائكة كلها إليه سبحانه، وليس من حصر أو تقييد لهذه الحاجات, ومنها الرزق الذي يتفضل به سبحانه, وشاء الله عز وجل أن يجعل حياة الإنسان اليومية تتقوم بالرزق فلا يقدر على العيش من دونه, ويأتي الرزق للإنسان راتبا ورغدا وقد يغفل عن كونه نعمة من الله عز وجل.
فيأتي الإمتحان والإبتلاء الذي يجذبه اليه ويجعله يلتفت إلى إستحضار فضل الله عز وجل عليه , ولا تختص الحاجة الى الرزق في الحياة الدنيا ,إنما تشمل عالم الآخرة أيضاًٌَُ, وأيها أكثر مقداراً وكماً وكيفاً ونوعاً الرزق في الدنيا أم الآخرة.
الجواب هو الثاني ليكون الوعد الكريم في خاتمة آية السياق نعمة متجددة على كل مسلم ومسلمة, وقد بشّر الله عز وجل المؤمنين بالرزق الكريم بقوله تعالى[لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ]( ).
ويدل في ظاهره على إرادة الرزق الكريم في الدنيا والآخرة لذكر الآية للجزاء العظيم للقتل في سبيل الله , وكيف أنه منهاج مبارك وطريق للرزق الوافر الكريم في الآخرة.
المسألة الثامنة : ترى ماذا لو إلتقى الجيشان، وإتفق أن رجع جيش المشركين وإلتقوا مع جيش المسلمين ووقع القتال، فهل يستطيع مائتان وسبعون من المهاجرين والأنصار مثقلين بالجراحات والقروح قتال نحو ثلاثة آلاف من المشركين، الجواب نعم، من وجوه:
الأول : لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتقدم الصحابة مع كثرة جراحاته، لمنع كرة العدو الكافر، ومن الآيات في المقام أن كثرة نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم تمنعه من الخروج في اليوم الثاني لمعركة أحد خلف العدو، وتعريض النفس والصحابة للقتل والأسر ومضاعفة الجراحات، ولم تقم أزواجه أو فاطمة الزهراء عليها السلام بالطلب منه للبقاء بين ظهرانيهن وبغية علاج جراحاته، وهو من وجوه البيان في زيادة نسائه على الأربع وأنها كانت عوناً ونوع طريق لجذب القبائل للإسلام، خاصة وأن أغلبهن كبيرات بالسن وثيبات، وليس فيهن باكر إلا عائشة.
وهل خروج الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسر وعدم قيام أزواج النبي بمنعه من مصاديق قوله تعالى[النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( )، الجواب نعم، لبيان صفحات جهادية مشرقة للآية القرآنية، وإن وردت للبيان وحال المجتمع.
الثاني : قرب الملائكة وحضورهم مدداً وعوناً من عند الله.
الثالث : تتضمن الآية التالية الإخبار عن زيادة إيمان المسلمين عند علمهم بنية وعزيمة الذين أشركوا على العودة للقتال، فأن قلت هل من موضوعية لزيادة الإيمان في القتال وكيفيته أم أنه طريق للتسليم بالشهادة، الجواب هو الأول، وهو نوع مقدمة وتنجز شرط لنزل الملائكة للنصرة خاصة وأن قوله تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ) ورد بصيغة الفعل المضارع والحال المستقبل ليكون من معاني الآية أعلاه الوعد من عند الله للذين إستجابوا الله والرسول، فهم يخرجون لمطاردة العدو.
الرابع : تقيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالنهي الوارد في آية السياق اذ نهى الله عن الظن بموت الشهداء بقوله تعالىوَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
وتدل الآية على النهي عن القطع بأن شهداء أحد أموات وجاءت آية السياق تدعو المسلمين لتكون أحاديثهم ومناجاتهم بحياة الشهداء وأنه فضل ونعمة من الله.
وقد تأتي الجملة الخبرية في القرآن وتفيد الأمر أو النهي أما آية السياق فقد وردت بصيغة النهي لتتضمن أموراً :
الأول : الاخبار عن علم من علوم الغيب .
الثاني : تجلي برهان بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصيرورة أمور عالم البرزخ حاضرة في أذهان المسلمين
الثالث : بيان الفضل الإلهي على الشهداء والذين يقاتلون في سبيل الله
الرابع : تنجز الوعد من الله عز وجل باكرام المؤمنين .
المسألة التاسعة : تقدير الجمع بين الآيتين : الذين أصابهم القرح في سبيل الله يرزقون).
تتضمن آية البحث الشهادة للذين آمنوا برسالة النبي باصابتهم بالجروح والقروح، وهذه القروح لم تكن عرضية، إنما جاءت من وجوه مجتمعة:
الأول : هجوم وتعدي الذين كفروا.
الثاني : بلوغ جيش الذين كفروا مشارف المدينة المنورة , وإصرارهم على القتال.
الثالث : خروج الصحابة تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للقاء العدو , قال تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ).
الرابع : شوق الصحابة لقتال الذين كفروا، وهذا الشوق ليس إبتداء، إذ أنهم يكرهون القتال لقوله تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( )، إنما تنامى هذا الشوق عند المهاجرين والأنصار عند بلوغ نبأ وصول جيش المشركين إلى أطراف المدينة، وهو الذي يتجلى في بيان السنة النبوية وأخبارها لقوله تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( )، إذ فات قوم من الصحابة القتال في معركة بدر، وأحسوا بأنهم حرموا من الأجر والثواب فيها، فجاء جيش المشركين في معركة أحد إلى أطراف المدينة وصار قريباً منها عندئذ تناجى الصحابة لقتالهم، ومن معاني تمني الموت في الآية أعلاه جهات:
الأولى : قتال الذين كفروا بلحاظ أن المقاتل عرضة للقتل، قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ]( ).
الثانية : بيان حب الصحابة للشهادة، فصحيح أنهم على قسمين:
الأول : المهاجرون.
الثاني : الأنصار.
ولكنهم يلتقون في صحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتضحية في سبيل الله، وحب الشهادة، وفي مضامين آية البحث من الإستجابة لله سبحانه والرسول , والإحسان والخشية من الله عز وجل .
ليكون تقسيم الصحابة إلى مهاجرين وأنصار نوع قوة وعز لهم , ومنعة للإسلام .
وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ] ( ) إذ بينت الآية أعلاه إجتماعهم في الهداية إلى الإسلام ، والمبادرة إلى مقامات الإيمان ، كما تدل آية البحث على الإتحاد بينهم في مناهج الدفاع والجهاد في سبيل الله ، والتكافل والتعاضد في الإستجابة لأمر الله عز وجل ، وما يأتي به الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان في ميدان القتال ، إذ تدل الإستجابة في النفير والدفاع بالأولية القطعية على الإستجابة في العبادات وأمور الحلال والحرام .
قال مسلم بن الوليد الأنصاري من البسيط :
(تلقى المنية في أمثال عدتها … كالسيل يقذف جلموداً بجلمود
يجود بالنفس إذ ظن الجواد بها … والجود بالنفس أقصى غاية الجود) ( ).
الثالثة : بعث رسالة إلى الذين كفروا عن صدق إيمان المهاجرين والأنصار .
الرابعة : لقد أدرك المسلمون أن الموت على الإسلام خير من الأسر عند المشركين .
الخامسة : تلقي المسلمين قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( )بالرضا والشكر لله , وهو من التقوى التي تذكرها آية البحث.
فالحياة في النعيم عند الله عز وجل خير من حالة الذل والهوان في الأسر.
السادسة : غبطة المسلمين بالآية السابقة , وما فيها من الإستبشار .
السابعة : بلوغ الأخبار للمسلمين بأن الذين كفروا يريدون قتلهم أو تعذيبهم وذلهم وهوانهم في الأسر , وقد قال تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
ومن الإعجاز أن موت وشهادة المؤمن لا تتوقف على تمني الموت، وليس من ملازمة بين هذا التمني وبين الشهادة.
الثامنة : حمل الكلام على ظاهره , والمراد أن طائفة من الصحابة تمنوا القتل في سبيل الله عز وجل, لما ورد في آيات القرآن والأحاديث النبوية من الثواب العظيم للذي يقتل في سبيل الله عز وجل .
التاسعة : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين تمنوا الموت من الثبات على الإيمان والعزم على الجهاد .
العاشرة : لقد فات طائفة من الصحابة القتال في معركة بدر , فتمنوا تجدد القتال في معركة أخرى كي يجاهدوا في سبيل الله عز وجل , ويدافعوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام .
وتقدير الآية : ولقد كنتم تمنون الدفاع , بلحاظ أنه سبب الموت ، ونوع طريق للشهادة , وفي التنزيل [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ] ( ).
لقد كان من غايات كفار قريش في معركة أحد أمور :
الأول : قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وعندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل الهجرة كان رؤساء الكفر من قريش يديرون الأمر الذي يعقدونه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويأتمرون قوله تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
ومما أشاروا به في المقام وجوه :
أولاً : قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثانياً : سجن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ثالثاً : شد وثاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحجزه , كما يفعلون مع بعض الشعراء .
وعن ابن عباس (ليثبتوك) يعني ليوثقوك( ).
رابعاً : إخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة .
ومن معاني المكر في الآية أعلاه التدبير والفعل ذي الغاية وتقدير [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ] ويصنعون ويصنع الله عز وجل.
وهل كانت الوجوه الأربعة أعلاه بعرض واحد من جهة الأهمية عند كفار قريش, أم كان بعضها أظهر من بعض.
الجواب هو الثاني, وكلما تقادمت الأيام مالوا إلى الأول منها وهو قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمع إزدياد عدد المسلمين يتجلى للمشركين عدم النفع من سجن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم يهجمون عليه , ويفكون وثاقه , وإذا أخرج من مكة يخرجون معه , ويسعون للإستيلاء على زمام الأمور في مكة .
الثاني : سعي قريش لوقف نزول آيات القرآن التي تتوالي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والناس جميعاً, وتنزل آيات القرآن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن معانيها تشمل المسلمين وغيرهم، قال تعالى[وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا]( ).
لقد كان رجالات قريش أصحاب خبرة بأحوال الناس ومعرفة بالأسباب والأمور التي تنفذ الى المجتمعات, ويدركون أن إلقاء شاعر قصيدة في المفاخرة أو الهجاء يبعث في النفوس الغبطة أو الحزن وهم يحفظون أشعار العرب , والوقائع التي ذكرت فيها, وأسباب المعارك وأطرافها , فأستقرأوا حقيقة وهي أن أثر الآية القرآنية أعظم وأكبر من أمهات القصائد والنظم , وأن كل آية قرآنية سلاح سماوي لإزاحة سلطان كفار قريش كأفراد وعبدة للأوثان وإلا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قريش وأخبرهم أنهم لو أسلموا اجتمع عليهم العرب والعجم، وعن معد بن كعب القرظي:
(اجتمع قريش؛ وفيهم أبو جهل على باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا على بابه : ان محمداً يزعم أنكم ان بايعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ، وبعثتم من بعد موتكم ، فجعلت لكم نار تحرقون فيها ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأخذ حفنة من تراب في يده قال : نعم ، أقول ذلك ، وأنت أحدهم ، وأخذ الله على أبصارهم فلا يرونه ، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم ، وهو يتلو هذه الآيات{يس * والقرآن الحكيم}( ) إلى قوله {فأغشيناهم فهم لا يبصرون}( ) حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هؤلاء الآيات ، فلم يبق رجل إلا وضع على رأسه تراباً ، فوضع كل رجل منهم يده على رأسه ، وإذا عليه تراب فقالوا : لقد كان صدقنا الذي حدثنا)( ).
لقد كان نزول آيات القرآن سبباً لدخول الناس في الإسلام , وهو برهان جلي لا يخفى على أحد إذ أن كل آية معجزة وحجة ويعلم الناس أن القرآن لاينزل إلا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه يقوم بتلاوة أي آية تنزل عليه, بما فيها الآيات التي تذم عمه أبا لهب قال تعالىٍٍٍ[تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبٍَّ] ( ).
فأراد كفار قريش بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم منع نزول القرآن , وبإخراجه من مكة نزول الآيات في موضع آخر , مع سرعة إنتشارها في مكة , وظنهم حدوث خلافه وتباطئ إنتشارها لو نزلت في مكان وبلدة أخرى , ثم أدركوا عجزهم عن منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تلاوة آيات القرآن وميل النفوس له فكانت ليلة الفراش. التي بات فيها الأمام علي عليه السلام في فراشه , وخروجه وأبي بكر الى المدينة خفية .
الثالث : أخذُ المهاجرين أسرى، وإدخالهم مكة بمثل الحال التي دخل فيها أسرى المشركين في معركة بدر , ولهم فيه مقاصد عديدة منها:
أولاً : الشماتة بالصحابة.
ثانياً : رد الإعتبار، وتدارك ما لحق كفار قريش من الخزي.
ثالثاً : التشفي بالمؤمنين.
رابعاً : منع إنتشار الإسلام، وتسارع الناس في الدخول فيه.
خامساً : إيذاء عوائل الصحابة.
سادساً : بعث رسالة إلى القبائل والقرى المحيطة بمكة.
سابعاً : مواساة عوائل قتلى المشركين في معركة بدر , إذ أنهم منعوهم من النياحة بعدها.
ثامناً : إيذاء المهاجرين وإعادة تعذيب بعضهم , والإنتقام منهم كما في شدة تعذيبهم لبلال , والذي حرّض المسلمين يوم بدر على أمية بن خلف وإبنه علي فقتلوهما.
تاسعاً : وقف الهجرة الى المدينة أو الى الحبشة .
عاشراً : طلب فدية على المهاجرين لإسترداد مبالغ الفدية التي دفعتها قريش عن أسراهم في معركة بدر .
الرابع : قتل المهاجر أو الأنصاري الذي يثبت في ميدان المعركة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن غاية قريش إستئصال الإسلام.
قال تعالى (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) ( )
الخامس : وقف هجرة المسلمين والمسلمات خصوصاً الشباب من مكة، فقد أدركت قريش أن مكة تخلو منهم فيصيروا عاجزين عن وقع العدو إذا داهمهم، ومتخلفين عن إدارة أعمالهم وتجارتهم التي ذكرها الله عز وجل بقوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ *إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
السادس : سبي الانصار وعدم تخلية إلا بعد التعهد بترك الإسلام ولكن الله جعل الأنصار يصرون على قتال العدو , وهو من أسباب ومصاديق قوله تعالى
(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ( )
أي يكون من معاني الآية أعلاه : ولقد كنتم تمنون الموت حتى مع إرادة كفار قريش حملكم عليه .
المسألة العاشرة : لقد غادر سبعون من الصحابة في معركة أحد إلى الرفيق الأعلى , وهو الذي تخبر عنه آية السياق , لتأتي آية البحث بالإخبار عن تقوى وخشية الذين بقوا منهم , لبيان النفع العظيم على الناس في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وترشح الأصلاح العام عنها في الدول والمؤسسات والأموال , وتسخر العقول والأسباب لإصلاح بعض الأفراد ، وتنزل الآية القرآنية بالإخبار عن إحسان وتقوى طائفة من الصحابة لتكون نبراساً وضياءً تصلح معه النفوس .
ويبادر المسلمون في أجيالهم المتعاقبة الى الإحسان , ويسارعون في فعل الخيرات , ويتناجون بفعل الخير والصلاح .
قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ] ( )
وهناك مسألتان :
الأولى : هل من موضوعية لمعركة أحد في إحسان وصلاح الصحابة وخشيتهم من الله سبحانه .
الثانية : هل من أثر لشهداء أحد في تقوى الذين بقوا أحياء من المهاجرين والأنصار.
أما المسألة الأولى , فالجواب نعم من وجوه :
الأول : معركة أحد إمتحان وإختبار للمؤمنين , وهي شاهد على التقوى والصلاح .
الثاني : بيان سوء فعل الذين كفروا وإصرارهم على القتال .
الثالث : تجلي منافع قانون وجوب القتال على المسلمين مع كرههم له في قوله تعالى [ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
وقد تدل الآية أعلاه على لزوم عدم سعي المسلمين للقتال والحرب .
لأنه أمر مكروه إنما جاء قتالهم في معركة أحد بقصد الدفاع .
أما المسألة الثانية , فالجواب نعم .
فمن رشحات القتل في سبيل الله عز وجل تفقه المؤمنين بعلة هذا القتل.
وأسباب القتل وإصرار الذين كفروا على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
ومن الإعجاز الغيبي لآية البحث أنها تحث على التقوى ، وتبين قانوناً بأنه بعد الدفاع في سبيل الله عز وجل لابد من الإحسان والصلاح .
وهو الأصل في العمل , فأيام القتال معدودة , ومن الإعجاز في المقام تسمية معركة أحد بيوم التقاء الجمعين ، كما في قوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( )
ومن آيات التخفيف قصر مدة القتال, وحصر وقلة أيام القتال , أما الإحسان والتقوى الذين ذكرتهما آية البحث فهما حاجة لهم وللناس في كل ساعة من الليل والنهار .
ويحتاج المؤمن الإحسان والتقوى في ميدان المعركة ولا يحتاج القتال في العبادات والفرائض .
وليس من قتال في أغلب أيام حياة الصحابة . ومن المسلمين من لم يقاتلوا ولم يقع قتال في ناحيتهم أو في زمانهم بين المسلمين والذين كفروا وفيه وجوه :
الأول : بيان مصداق لقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الثاني : تأكيد قوله تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ) لبيان أن هذه الكتابة والفرض سبب ووسيلة للتخفيف عن المسلمين, ويكون تقدير الآية أعلاه على جهات :
الأولى : القتال كره لكم فكتب عليكم ليرفع ويدفع عنكم.
الثانية : كتب عليكم القتال وهو كره لكم ليزداد ثوابكم وأجركم . وهو من مصاديق الآية[وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ]( ).
الثالثة : كتب عليكم القتال بينكم وبين الذين كفروا وهو كره لكم مما يدل على قانون وهو حرمة الإقتتال بينكم .
الرابعة : النسبة بين كتابة الفعل وبين إتيانه عموم وخصوص مطلق , فقد يكتب ويفرض ولكنه لا يأتي في الحال وقد يمحوه الله .
الثالث : تأكيد قانون وهو إنتشار الإسلام بالحجة والبرهان والمعجزة الحسية والعقلية .
الوجه الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ). وفيه مسائل :
المسألة الأولى : جاءت كل من الآيتين بصيغة الجملة الخبرية , وتتغشى هذه اللغة مضامين الآيتين كلها , وابتدأت كل من الآيتين بالاسم الموصول (الذين) مع التباين الموضوعي بينهما , إذ جاءت آية السياق بخصوص المنافقين , أما آية البحث فتخص الصحابة الذين حاربوا الكفار وأعرضوا عن المنافقين , لبيان قانون وهو أن الجمع بين آيتين من القرآن مدرسة عقائدية تبعث النفوس على الصلاح وتهذب المجتمعات .
ولما إحتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) فإن الله عز وجل أجابهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومنه فضل الله عز وجل في الدروس المستقرأة من الجمع بين كل آيتين من القرآن , ومن خصائص هذه الدروس الإطلاق والعموم .
الإطلاق في الموضوع والحكم وتغشيها لأمور الحياة والمسائل الإبتلائية , والعموم بملائمة هذه الدروس والمواعظ للناس جميعاً .
ومن أسرار صيغة الجملة الخبرية في المقام إنتفاء الحاجز والبرزخ بين الله عز وجل وبين الناس وأنه سبحانه يخبرهم بالوقائع والأحداث لتميل النفوس الى الإيمان , وتنفر من الكفر والنفاق , قال تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ] ( ).
وبلحاظ الآية أعلاه يكون النفاق أمراً مكروهاً، تنفر النفوس منه، وهو جامع مشترك بغيض لكل من :
الأول : الكفر .
الثاني : الفسوق .
الثالث : العصيان .
فالنفاق كفر , لأن المنافق يخفي الكفر ويتستر عليه ، فإن قلت إنما ذكرت آية البحث صيرورة الذين نافقوا قريبين من الكفر وليسوا كفاراً .
الجواب هذا صحيح ولكن المراد هو الظاهر والمؤقت المقرون بحال مخصوص , إلى جانب الثابت من كونهم كفاراً في الباطن والسر .
وأما الفسوق فذات إخفاء الكفر خروج من الطاعة , كما أن الذين نافقوا يقومون بالأفعال التي تتعارض مع الإيمان , وهو الذي تؤكده آية السياق , ومنها القعود عن الدفاع عن النفوس والملة والأموال.
المسألة الثانية : ذكرت آية السياق قولاً مكروهاً يجلب لأهله وهم الذين نافقوا الخزي والإثم, من جهات:
الأولى : صبغة المكر والكيد في قول المنافقين ودعوتهم للقعود .
الثانية : دعوة المنافقين لما فيه الضرر العام , والحرمان من الأجر الذي أختتمت به آية البحث .
الثالثة : إنكشاف حقيقة النفاق , فمن خصائص الحياة الدنيا إنها دار إبتلاء , وما يضمره الإنسان في نفسه يخرجه الله عز وجل إلا أن يشاء ستره وإخفائه , فكانت واقعة أحد في النصف من شوال من السنة الثالثة للهجرة إمتحاناً وإختباراً من وجوه :
الأول : إنه إمتحان للمسلمين في لزوم الثبات على الإيمان , ومناسبة لبيان صدق الإيمان ، قال تعالى[أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ]( ).
الثاني : إنه إمتحان وإختبار لأهل المدينة رجالاً ونساءً.
الثالث : في معركة أحد كشف وفضح للذين نافقوا, وهل هي إختبار وإمتحان لهم , الجواب نعم , وهي مناسبة للتوبة والإنابة لذا فمن وجوه تقدير آية السياق :
أولاً : ليتوب الى الله عز وجل الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا(لو أطاعونا ما قتلوا).
ثانياً : أن الله عز وجل يمهل الذين قعدوا وعابوا على إخوانهم الدفاع .
ثالثاً : لقد أنزل الله عز وجل آية البحث والسياق على النبي محمد ص للثناء على الذين إنبعثوا للجهاد .
ومن إعجاز آية البحث ذكر الأخوة النسبية للأنصار من الأوس والخزرج, ومنهم الذين أستشهدوا في معركة أحد , وعددهم خمسة وستون.
وجاءت آية البحث لتبعث اليأس والقنوط في نفوس الذين نافقوا من إخوانهم الذين بقوا أحياء في معركة أحد إذ تدل بالدلالة التضمنية, على إستجابتهم لله ورسوله في سنن التقوى , وملاحقة الذين كفروا، مع الصدود والإعراض عن المنافقين وأراجيفهم.
المسألة الثالثة : تقدير الجمع بين الآيتين: الذين قالوا لإخوانهم الذين إستجابوا لله ورسوله[لَوْ أَطَاعُونَا]( ) .
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة في مكة المكرمة وبقي عشر سنوات , يدعو الناس الى التوحيد, وتعضده آيات القرآن , ويحتمل تعضيد الآية القرآنية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وجوهاً :
الأول : كل سورة من القرآن مدد وتعضيد مستقل .
الثاني : القرآن كله مدد قائم بذاته .
الثالث : كل آية قرآنية مدد مستقل .
الرابع : كل شطر آية من القرآن مدد مستقل .
الخامس : كل شطر من آية قرآنية مدد متعدد ومتصل ومتجدد.
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وكلها من وجوه فضل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المسلمين والناس جميعاً , وفيه شاهد على أن الآية القرآنية معجزة عقلية لا تنقطع منافعها الخاصة والعامة إلى يوم القيامة, وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
ولو حرف إمتناع لإمتناع لبيان أن المهاجرين والأنصار لم يطيعوا الذين نافقوا , ويدل عليه أول آية البحث بقوله تعالى[الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
بلحاظ التعارض والتباين بين طاعة الله عز وجل وطاعة الذين نافقوا وهل يختص هذا التباين بالحياة الدنيا , الجواب لا , إنما يترتب عليه الثواب في طاعة الله عز وجل والعقاب الشديد للذين نافقوا ومن يتبعهم في قعودهم.
ومن إعجاز كل من آية البحث والسياق الزجر عن النفاق , ومنع الناس من الإنصات للمنافقين.
لقد كان النفاق آفة ومادة للإضرار بالمسلمين، وقد تفضل الله عز وجل وبيّن في آية السياق ما يقوله ويفعله المنافقون لوجوه:
الأول : توثيق القرآن للوقائع والأحداث .
الثاني : تأكيد قبح فعل الذين نافقوا .
الثالث : إقامة البرهان على إستحقاق الذين نافقوا العذاب الأليم في الآخرة , قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
الرابع : دعوة الذين نافقوا للتوبة والإنابة وإذا علم العبد بإحاطة سيده علماً بما يفعله من المكروه والمذموم فإنه يجتنبه ويمتنع عنه , وهو من الإعجاز في السنة النبوية في إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل الذين نافقوا وترك رؤوسهم، مع أنهم كانوا يحرضون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين.
وهل في قعود الذين نافقوا عن معركة أحد , وانسحابهم من وسط الطريق إليها تحريض على الإسلام، الجواب نعم , وهذا التحريض من جهات:
الأولى : دعوة الصحابة والأنصار منهم خاصة إلى النكوص والرجوع معهم من وسط الطريق, إذ قال رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول : (مَا نَدْرِي عَلَامَ نَقْتُل أَنْفُسَنَا هَاهُنَا أَيّهَا النّاسُ فَرَجَعَ بِمَنْ اتّبَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ النّفَاقِ وَالرّيْبِ وَاتّبَعَهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ يَقُولُ يَا قَوْمِ أُذَكّرُكُمْ اللّهَ أَلّا تَخْذُلُوا قَوْمَكُمْ وَنَبِيّكُمْ عِنْدَمَا حَضَرَ مِنْ عَدُوّهِمْ.
فَقَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَمَا أَسْلَمْنَاكُمْ وَلَكِنّا لَا نَرَى أَنّهُ يَكُونُ قِتَالٌ قَالَ فَلَمّا اسْتَعْصَوْا عَلَيْهِ وَأَبَوْا إلّا الِانْصِرَافَ عَنْهُمْ قَالَ أَبْعَدَكُمْ اللّهُ أَعْدَاءَ اللّهِ فَسَيُغْنِي اللّهُ عَنْكُمْ نَبِيّهُ)( ).
ويتجلى في آية البحث صدق الإيمان من وجوه :
أولاً : الإمتناع عن الإستجابة لدعوة المنافقين في المدينة بالقعود . لعمومات قوله تعالى [وَقَعَدُوا]، ومن معاني ( وقعدوا ) ليرغبوا غيرهم بالقعود.
ثانياً : الإعراض عن دعوة رأس النفاق بالرجوع , وإنكار إستجابة نحو ثلاثمائة من أفراد الجيش له , وكأنهم خرجوا لطلب المنافع والغنائم في معركة أحد . وأدركوا بلحاظ الأخبار التي تفيد كثرة جيش المشركين , وعزمهم على القتال والقتل تعذر جلب المغانم والأسرى.
ولم يعلموا أن الصبر في ميدان المعركة مغنم في الدنيا والآخرة , وعمل وثّقه القرآن ليتعلموا في كل زمان ما يفيد الثناء على الأنصار والبشارة لهم بالثواب العظيم من وجوه:
الأول : الشهداء الذين قتلوا في المعركة.
الثاني : الذين قاتلوا يوم معركة أحد وأصابتهم الجراحات.
الثالث : الذين قاتلوا ولم يتعرضوا للجرح.
الرابع : الذين كثّروا سواد المسلمين يومئذ.
الخامس : المؤمنات اللائي قاتلن دون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة أحد مثل أم عمارة.
السادس : المؤمنات اللائي خرجن مع الجيش للعناية بالجرحى وسقاية الجيش، وكانت النساء اللائي حضرن معركة أحد مع المشركين يضربن بالدفوف، ويأتين بالأشعار، أما المؤمنات فكن مشغولات بالدعاء والتسبيح وسؤال النصر من عند الله عز وجل , وهو من عمومات قوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
وجاء قبل ثلاث آيات ما يدل على بعث الحياة فيهم من حين مغادرتهم الدنيا ونزول الرزق الكريم إليهم بكرة وعشية , أو الذين بقوا أحياء فخلدت آية البحث صبرهم وتقواهم وجهادهم .
ثالثاً : شهادة وقتل طائفة من الأنصار في سبيل الله مع إلحاح المنافقين عليهم بالرحيل والتعريض بمن قتل من قبلهم في سبيل الله كشهداء بدر وعددهم ثمانية . إذ كان المنافقون يقولون [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ).
رابعاً : تفشي الجراحات برأس وبدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعموم الصحابة في المهاجرين والأنصار , لتبقى هذه الجراحات شاهداً عملياً وبرهاناً قاطعاً على عدم إنصاف الصحابة من المهاجرين والأنصار للمنافقين في تحريضهم على الإسلام والمسلمين .
خامساً : خروج المهاجرين والأنصار خلف العدو مستجيبين لله عز وجل والرسول مع كثرة جراحاتهم , كون شهداء معركة أحد أقاربهم وأخوتهم .
فإذا كان المنافقون يخاطبون المؤمنين من الأنصار بلغة الأخوة النسبية كما في قوله تعالى : [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( ).
الثانية : إنكار المنافقين وقوع قتال بين الفريقين، مع صيرورة جيش المشركين على مشارف المدينة , وقد سبق قدومهم توالي التهديد والوعيد بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتل أو أسر المهاجرين والأنصار.
الثالثة : تباكي المنافقين على الشهداء، وإدعاؤهم بأنهم لو لم يخرجوا إلى المعركة لما قتلوا، فأمر الله عز وجل النبي محمداً والمسلمين بالإحتجاج عليهم[قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ).
وهل يصح القول بأن من معاني الآية أعلاه وجود حذف , الجواب نعم , وتقديره على وجوه منها :
الأول : قل فأدرءوا عن أنفسكم الموت , فقد درءه عنكم الله ببركة وجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيكم، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ومن الشواهد على تسمية المدينة(طيبة) بعد أن كان اسمها (يثرب).
الثاني : قل فأدرءوا عن أنفسكم الموت , فقد خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة أحد ليدرءوا عنكم الموت.
الثالث : قل فأدرءوا عن أنفسكم الموت فقد أصيب المسلمون يوم أحد ليدرءوا عن أنفسكم الموت.
الرابع : قل فأدرءوا عن أنفسكم الموت , فقد درءه عنكم الشهداء بدمائهم.
الخامس : قل فأدرءوا عن أنفسكم الموت فقد درءه عنكم المهاجرون والأنصار بإستجابتهم لله ورسوله .
السادس : قل فأدرءوا عن أنفسكم الموت وأنى لكم درءه.
السابع : قل فأدرءوا عن أي واحد منكم الموت إن كنتم صادقين.
الثامن : لقد عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأكثر أصحابه سالمين من القتل من معركة أحد فأدرءوا عن أنفسكم الموت.
التاسع : لقد أعادك الله يا محمد سالماً من القتل في معركة أحد فقل للذين نافقوا فأدرءوا عن أنفسكم الموت.
العاشر : يا أيها الذين آمنوا قولوا للذين نافقوا فأدرءوا عن أنفسكم الموت.
الحادي عشر : يا أيها الناس قولوا للذين نافقوا فادرءوا عن أنفسكم الموت.
الثاني عشر : قل فأدرءوا عن أنفسكم الموت وأهوال عالم البرزخ.
الثالث عشر : قل فأدرءوا عن أنفسكم ما بعد الموت.
الرابع عشر : قل يا أيها اللائي نافقن إدرءن عن أنفسكن الموت.
الخامس عشر : قل يا أيها الذين نافقوا[أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ]( ).
ولم يرد لفظ(إدرءوا) في القرآن إلا في آية السياق .
المسألة الرابعة : من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه جاء بالأخوة الإيمانية , إذ آخى بين المهاجرين والأنصار على نحو التعيين وذكر الاسم في تفسير عملي وشاهد ومصداق من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
وهو كان للتآخي الذي جعله النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين نحو تسعين من الصحابة هو وحده التفسير للآية أعلاه , الجواب لا . وفيه مسائل :
الأول : إنه مصداق حاضر للأخوة بين المسلمين.
الثاني : دعوة المسلمين للعمل بالأخوة الإيمانية في كل زمان .
الثالث : حث كل مؤمنين اثنين على إختيار التآخي بينهما, وهل يختص الامر بالرجال إذ يشمل النساء فيما بينهن , الجواب هو الثاني ، فمن معاني الآية أعلاه ( إنما المؤمنات أخوات ) .
الرابع : لزوم تقييد الأخوة بين المسلمين بالإحسان والتقوى والخشية من الله , وهو الذي تدل عليه آية البحث بقوله(وأحسنوا منهم وإتقوا) وهل لمصاديق الأخوة الإيمانية أجر , وهل هو عظيم .
الجواب نعم، ليكون قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( )، بعثاً للمسلمين للفوز بالثواب العظيم، ومن مصاديق الأخوة الإيمانية في المقام الإستجابة لله عز وجل ولرسوله.
الخامس : كانت مؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار حرباً على النفاق, وبرزخاً دون إيذاء المنافقين للمؤمنين .
السادس : زيف أخوة المنافقين , وظنهم أن الأنصار إخوتهم , كما ورد قبل أربع آيات [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ) .
وقد حجب الله عز وجل مفاهيم الأخوة عن المنافقين من جهات :
الأولى : تسمية الله عز وجل المؤمنين بالأخوة , وبيان قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] قانوناً , وهو الملازمة بين الإيمان والأخوة بين أهله.
الثانية : توجه خطابات القرآن إلى المسلمين بصبغة الإيمان , إذ ورد لفظ [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] تسعاً وثمانين مرة في القرآن .
الثالثة : يمكن إنشاء قانون هو كل آية قرآنية تدعو للأخوة الإيمانية بين المسلمين .
الرابعة : من خصائص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنه باعث للأخوة بين المسلمين , فمن يهدي غيره الى الرشد والهدى ومفاهيم التقوى هو أخ , وفيه دليل على حرصه وحبه للطرف الآخر , إذ يتقوم الأمر بالمعروف بأطراف .
الأول : الآمر هو الذي يقوم بالدعوة إلى المعروف , ولا يشترط فيه العلو والإستعلاء , فقد يأتي الأمر بالمعروف من الأدنى إلى الأعلى ومن المساوي وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال : الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَمَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ مَثَلُ الْعَطَّارِ إِنْ لَمْ يُحْذِكَ مِنْ عِطْرِهِ عَلَقَكَ مِنْ رِيحِهِ وَمَثَلُ الْجَلِيسِ السُّوءِ مَثَلُ الْكِيرِ إِنْ لَمْ يُحْرِقْكَ نَالَكَ مِنْ شَرَرِهِ وَالْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُؤَدِّي مَا أُمِرَ بِهِ مُؤْتَجِرًا أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ)( ).
الثاني : موضوع الأمر بالمعروف .
الثالث : المأمور بالمعروف الذي يتلقى الأمر من الآمر به , وإن كان هذا الآمر أدنى منه , أو ابنه أو بنته , قال تعالى [وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا]( ).
وقد ذكرت الآية أعلاه المعروف بالاسم والتعيين , فهل ذات المعروف بالمعنى الإصطلاحي هو الخير والإحسان , الجواب نعم , وفيه دعوة للإيمان والصلاح , ومن الآيات في المقام أن المصاحبة بالمعروف تكون بالقول والفعل , وليس بأحدهما دون الآخر .
وبين البر بالوالدين وبين مصاحبتهما بالمعروف عموم وخصوص مطلق, وهذه المصاحبة من عمومات الإحسان , وتحتمل الطاعة في قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ] بخصوص طاعة الوالدين وجوهاً :
الأول : إختصاص هذه الطاعة بالمؤمنين من الآباء والأمهات .
الثاني : أصالة الإطلاق وعموم إطاعة الوالدين سواء كانا مسلمين أم من أهل الكتاب أم من الكفار .
الثالث : التفصيل إرادة طاعة الوالدين في مسالك الإيمان , وطاعة عموم الوالدين في الأمور المباحة كالأكل والشرب , والصلات الأجتماعية . والمختار هو الأول , والمراد طاعة الله عز وجل فيما يرضيه سبحانه , ويدل عليه التقييد في الآية ذم الوالدين الكافرين , والنهي عن طاعتهما بقوله تعالى [فَلاَ تُطِعْهُمَا].
وتتجلى الإخوة الإيمانية في آية البحث بالإستجابة لله والرسول في النفير مع الجراحات خلف العدو الكافر .
الشعبة الثانية : صلة هذه الآية بالآيات المجاورة التالية، وفيه وجوه:
الوجه الأول : صلة هذه الآية بقوله تعالى[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ….]( ).
من خصائص الآية القرآنية أنها خزينة تتدفق منها ينابيع العلوم كما يتدفق الماء والعيون من بين الصخور في الجبال، قال تعالى[وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ]( ).
فتستخرج الأحكام وتستنبط المسائل من آيات القرآن من غير واسطة وإستحضار طرف ثالث, فمع إلتفات الإنسان إلى مضامين الآية القرآنية , والتدبر في مضامينها, تتبين له مسائل متعددة, وكلما إزداد التحقيق في الآية القرآنية فاضت منها علوم, ومفاهيم قدسية لم تكن بالحسبان , ويشعر معها العلماء والمسلمين عامة بالفخر والعز والصفاء .
وعن عبد الله بن مسعود : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع وعصمة من تمسك به ونجاة من تبعه ، لا يعوج فيقوّم ولا يزيغ فيستعتب , ولا تقضى عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ، فاقرأوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات، أما أني لا أقول ألم حرف ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة)( ).
وتتجلى في الآية القرآنية الدعوة للأخوة الإيمانية وهذه الدعوة باعث لإتحاد وإلتقاء المسلمين في تلاوة الآية القرآنية.
ومن الإعجاز في المقام وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة لآيات القرآن عدة مرات في اليوم في الصلاة اليومية وبهيئة الخشوع والخضوع, لتكون هذه التلاوة تنمية لملكة الأخوة الإيمانية بين المسلمين من وجوه :
الأول : ذات تلاوة القرآن عنوان ودعوة للأخوة بين المسلمين , ليكون من مصاديق هذه الدعوة قوله تعالى[فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ]( ) وتتجلى في قوله تعالى [أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]( ).
الثاني : إفتتاح كل يوم من أيام الحياة الدنيا بالأخوة بين المسلمين , وتثبيت دعائم هذه الأخوة بالقرآن , وقد نزل قوله تعالى[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
وقد رفع المسلمون الذكر في الأرض وعمروا البيت الحرام بأداء المناسك وتلاوة القرآن, وهو شاهد على الأخوة بينهم من وجوه :
أولاً : التعاون والتآزر في عمارة البيت الحرام .
ثانياً : إلتقاء المسلمين في تعاهد أداء مناسك الحج .
ثالثاً : صيرورة مناسك الحج وأداؤها مناسبة للأخوة بين المسلمين , وهي من مصاديق قوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
رابعاً : من بديع صنع الله عز وجل, وثبات أحكامه في الأرض تعيين أشهر حرم أربعة من بين أشهر السنة التي تبلغ أثني عشر شهراً, قال تعالى[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ]( ).
ومن الآيات دخول أيام الحج في الأشهر الحرم , وهي أربعة شوال وذو القعدة وذو الحجة متصلة , وشهر منفصل وهي شهر رجب ليتوجه الناس إلى البيت الحرام من شهر شوال لقطع المسافة من أطراف العراق أو الشام أو اليمن ليكونوا في أمان وسلامة طول مسافة الطريق في شهر ذي القعدة وذي الحجة لأنهما من الأشهر الحرم وهي مناسبة للتآخي بين المسلمين ونبذ الفرقة بينهم .
وحث لهم على أداء الصلاة جماعة.
ومن خصائص كيفية أداء الصلاة إنها تنزع الضغائن من النفوس, وهذا النزع مقدمة لتدبر المسلمين والمسلمات في القرآن ومضامينه القدسية , وإستخراج العلوم من آياته على نحو الإستقلال, بالصلة والجمع بين كل آيتين من القرآن , كما تجلى في أجزاء متعددة من هذا السفر المبارك( ).
الثالث : صيغة القرآنية في التلاوة دعوة للأخوة بين المسلمين في مرضاة الله عز وجل, وهو من مصاديق قوله تعالى[أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
إذ يلتقي عامة المسلمين بجامع يومي مشترك بينهم، وهو تلاوة كل واحد منهم ذكراً أو أنثى كلامَ الله عز وجل النازل من السماء لتتجلى الأخوة الإيمانية بأبهى معانيها عليهم مقرونة بالتدبر بمضامين آيات القرآن ومترشحة عنها, ومنها آية البحث, إذ وردت بخصوص الصحابة الذين لبوا النداء وخرجوا بقروحهم للنفير في اليوم التالي لمعركة أحد الإ أن موضوعها أعم وفيه دعوة للمسلمين والمسلمات بالإستجابة لأمر الله عز وجل ورسوله وثناء عليهم .
الرابع : التلاوة جزء واجب من الصلاة , وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب)( ) وهو الحديث أعلاه خاص بسورة الفاتحة أم المراد المعنى الأعم , ويشمل ذات التلاوة مطلق ولزوم قراءة القرآن في الصلاة , الجواب هو الثاني .
الخامس : تلاوة المسلمين للقرآن خارج الصلاة مناسبة ووسيلة للتآخي ونشر الأخوة بينهم .
السادس : تلاوة المسلمين للقرآن مانع من الفرقة والخصومة بينهم, وكل آية تدعو المسلمين إلى الإمتناع عن الشقاق والنفاق وإن وقع إقتتال بين طائفتين منهم فإن القرآن وتلاوته يبعث المسلمين جميعاً إلى بذل الوسع والجهود الكريمة.
ترى ما هي الدلالات التي تتضمنها آية البحث وتتضمن مصاديق الأخوة الإسلامية والدعوة إليها , الجواب من وجوه :
الأول : إبتداء آية البحث بذكر الإستجابة لله عز وجل ورسوله شاهد على الأخوة بين المسلمين بالجامع المشترك بينهم , وهو الإمتثال لأمر الله عز وجل .
الثاني : بيان صبغة إيمانية للمسلمين تتجلى بالإستجابة لله عز وجل ورسوله .
الثالث : دلالة آية البحث على إتخاذ المسلمين لسنن الإستجابة لله عز وجل بقوله تعالى : ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ….)
وتدل آية البحث على قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلحاظ وجوه:
الأول : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقدمة للإمتثال والإستجابة لله عز وجل ورسوله .
الثاني : منع الأختلاف بين المسلمين في صيغ وسنن الإستجابة .
الثالث : إتخاذ المسلمين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع طريق وسبيل رشاد للإستجابة لله ورسوله .
الرابع : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تفقه في الدين .
الخامس : ذات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإستجابة لله ورسوله , قال تعالى: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وهل تدل إستجابة المهاجرين والأنصار لنداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الإنبعاث خلف العدو في اليوم التالي لمعركة أحد مع كثرة جراحاتهم على دعوة المسلمين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى مع كثرة قروحهم وضروب الإبتلاء عندهم.
الجواب نعم , ومن باب الأولوية القطعية من جهتين :
الأولى : موضوع الإستجابة في آية البحث هو القتال بالسيف بينما تكون أغلب مواضيع الأمر بالمعروف بأداء الفرائض ومواضيع النهي عن المنكر بالتنزه عن فعل السيئات والمنافرات .
الثانية : قيام الصحابة بالإستجابة لله والرسول مع ما أصابهم من الجراحات يوم معركة أحد , بينما يأتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , والمسلمون في أمن وسلامة من الحروب والإقتتال.
لتكون آية البحث من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) فهذه الحجة أعم من أن تختص بالذين كفروا إنما تكون على الناس والخلائق أجمعين سواء الحجة في الخلق والنشأة أو الرزق وصرف البلاء .
وهل إستجابة المؤمنين لله والرسول من مصاديق الحجة البالغة لله عز وجل الجواب نعم , وتلك آية في بديع صنع الله بأن يجعل طائفة من الناس عددهم نحو مائتين وسبعين على وجوه :
الأول : إنهم أسوة للمسلمين والمسلمات .
الثاني : بإستجابة الصحابة لله ورسوله ترغيب بالتفقه في الدين ومعرفة مواطن الإستجابة لله ورسوله .
الثالث : إستقراء مسائل مستحدثة من إستجابة الصحابة لله ورسوله في علم أسباب النزول ، وفيه دعوة للتوسعة فيه , فلا يختص بالواقعة والحادثة التي صارت سبباً لنزول الآية إنما يشمل مقدمات وأثر هذه الأسباب .
الرابع : صيرورة أيام النبوة مدرسة في الإستجابة والإمتثال لأوامر الله ورسوله .
لقد تلقى الصحابة أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نحو شخصي مباشر إذ يسمعونها من لسانه, أو تكون واسطة بالنقل من ذات الصحابة , ويدل على إمكان رجوع الذي ينقل له قول وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه مباشرةً ويسمع منه ذات الأمر .
المسألة الخامسة : لقد كان العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعبدون الأوثان , ومما يألم له كل إنسان أن عبادة الأوثان وصلت إلى مجاوري وسدنة [أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] ( ).
ونعت القرآن للبيت بأنه مبارك إنذار للذين كفروا , ودليل على حتمية إزاحة عبادة الأوثان عنه للتضاد بين البركة والنفع الدائم على عبادة الأوثان التي هي جهالة وضلالة , وهل يستقرأ التهديد والوعيد للذين كفروا من تسمية الآية أعلاه مكة ببكة , الجواب نعم , فمن معاني تسمية بكة أمران :
الأول : إرادة التزاحم والتدافع في مكة في طاعة الله عز وجل ولا يجتمع هذا التزاحم مع عبادة الأوثان لأنها خلاف العقل , ومما تنفر النفوس منه وتأباه الفطرة إن الله عز وجل لا يرضى أن يكون الموضع والمكان الذي يتزاحم الناس فيه طاعة له محلاً لبيان الاوثان وتكون منصوبة فيه .
الثاني : البكاء والتباكي , وهذا البكاء أمارة على الخشوع والخضوع والخيفة من الله عز وجل فمع أن وفد الحاج يتحملون أعباء السفر , وينفقون الأموال الطائلة لحج بيت الله فإنهم يبكون حين الوصول إليه وهو من الشواهد على أن هذا البيت هو بيت الله عز وجل ومع إقامة كفار قريش على عبادة الأوثان فإن نعم الله عز وجل عليه لم تنقطع , ومنها الأمن جوار البيت الحرام , فلم يأتهم بلاء يحملهم على ترك جواره , ولم يغزهم عدو فيأسرهم أو ينقلهم في السكن إلى موضع وبلد آخر .
وقد لاقى بني إسرائيل الظلم والأذى إذ غزاهم نبوخذ نصر وقتل منهم, وسبى رجالهم .
لتكون الوقائع في مكة والمدينة شاهداً على عدم أو أسر النبي , وأن نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من السبي والأسر معجزة له بلحاظ أمور :
الأول : إرادة كفار قريش أسر أو قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفي معركة أحد صار بعض المشركين على بعد خطوات منه, ونادى (ابن قمئة أقمأه الله لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وأقبل يقول : ( دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا ) ( ).
وقَتل مصعب بن عمير وهو يظن أنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان مصعب يذب ويدافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من التشابه في حياة الأنبياء , كما ورد بخصوص عيسى عليه السلام في قوله تعالى [وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ]( ).
الثاني : قيام كسرى ملك فارس ببعث رسالة إلى واليه في اليمن باذان يأمره بأسر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإرساله إليه بعد أن وصل
كتاب له من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيد الصحابي عبد الله بن حذافة السهمي يدعوه إلى الإسلام، (وفي حديث الشفاء بنت عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبدالله بن حذافة السهمى منصرفه من الحديبية إلى كسرى وبعث معه كتابا مختوما فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أدعوك بداعية الله فانى أنا رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين أسلم تسلم فان أبيت فعليك إثم المجوس.
قال عبدالله بن حذافة فانتهيت به إلى بابه فطلبت الاذن عليه حتى وصلت إليه فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرئ عليه فأخذه ومزقه فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مزق ملكه)( ).
وحال وصل كتاب كسرى إلى باذان قام الأخير بإرسال رجلين إلى المدينة لإحضار النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قصة تكاد تكون غريبة , إذ يحيط المهاجرون والأنصار به ويفدونه بأنفسهم حتى في ميدان المعركة , وإذا برجلين حضرا من اليمن لأسره لإرادة كسرى وواليه بعث الفزع والخوف في نفوس أصحابه, وإعطاء رسالة بأن الوفد الصغير منهم يؤدي الرسالة وينجز العمل الكبير من غير قتال ولا حرب , وأن الناس يمتثلون لأمره خوفاً وفزعاً, خشية غضب كسرى, وتجهيزه الجيوش , وبعثه الخراب في المدينة, ليكون من معاني قوله تعالى[قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ]( )، لبيان نعمة عظمى على المسلمين وهي صرف الله عز وجل الملوك عن دخول المدينة وعن إذلال أهلها . وحجبهم عن قتل أو أسر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه . ومع أن الصحابة قاتلوا في السنة الثانية للهجرة في معركة بدر وقاتلوا في السنة الثالثة في معركة أحد وكانت بعد معركة بدر , وما بين المعركتين غزوات وسرايا متعددة . إلا أنهم لم يمنعوا وفد باذان من الوصول إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يتوعدونهما كما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بقتلهما أو حبسهما مع أنهما لم يأتيا بصفة الرسول وحامل الكتاب والجواب من كسرى , بلحاظ قانون وهو عدم قتل الرسل , ولكن قريشاً يريدون قتل رسول الله .
إنما جعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وصول هذا الوفد ولقائه به ورؤيته والتفات الصحابة لها مناسبة لبيان معجزة له صلى الله عليه وآله وسلم.
إذ أخبر عن قرب أجل كسرى فأنبهر الرجلان ورجعا إلى باذان مع الخوف والفزع , ومن مختصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الذي يراه ويجالسه ويسمع منه يدرك وجود أمر مبارك وفيض خفي يجذبه إليه , ويحمله على الرضا عنه . ويدعوه إلى تحري أسباب هذا الإنجذاب ليتبين له أنه أمر بسيط غير مركب وهو ذخائر النبوة معضدة بتوالي نزول آيات القرآن .
الثالث : ذهاب بعض الذين كفروا إلى قيصر الروم للتحريض على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما ذهب أبو عامر الراهب وغيره , فمن الحكمة إجتناب قيصر الروم إرسال جيش لغزو المدينة , والتعرض للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولم يتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك إلا في السنة التاسعة للهجرة بعد أن بلغه تجهز قيصر بجيش عرمرم لمحاربة المسلمين , ولم يقع قتال في هذه الكتيبة والحمد لله .
الرابع : قيام كفار قريش ببعث رجال بقصد إغتيال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتجلى هذا البعث بعد معركة بدر وكثرة قتلى المشركين فيها , ووقوع سبعين آخرين منهم في الأسر .
الخامس : سعي بعض الكفار على نحو القضية الشخصية لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجوه :
أولاً : الثأر لقتل بعض المشركين في معارك الإسلام .
ثانياً : نقض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعبادة الأوثان وهدم الأصنام .
ثالثاً : قيام المسلمين بسبي بعض نساء وصبيان المشركين والإستيلاء على الغنائم .
رابعاً : الإصرار على الكفر والبغض للإسلام , والحمية للجاهلية والوثنية , قال تعالى [إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ]( ).
الخامس : سعي المنافقين للإيقاع بالمسلمين والإضرار بهم , وقيام بعض كبراء المنافقين بالتحريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن البرهان القرآني في المقام قوله تعالى[ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وهل تدل الآية أعلاه على الوعد والبشارة من عند الله عز وجل بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب نعم للملازمة بين سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ومعاني العزة له وللمؤمنين , إذ يتوالي نزول آيات القرآن عليه , ويقوم ببيان آيات الأحكام بسنته القولية والفعلية .
وفي الصحيحين عن جابر بن عبدالله قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزوة قبل نجد، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها.
قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن رجلا أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف، فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتا في يده، فقال لي: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله، فشام السيف فها هو ذا جالس لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الذين أرادوا إغتياله وسعوا في قتله دخلوا الإسلام طواعية , وكان دخولهم للإسلام على وجوه :
الأول : عند فشل محاولة الإغتيال وإسقاط ما في أيديهم إذ يدركون قانوناً وهو أن كشف محاولة اغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم تم بمعجزة من عند الله عز وجل .
الثاني : رؤية توالي الآيات والمعجزات التي يأتي بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن الإعجاز في المقام أن كل آية من القرآن معجزة قائمة بذاتها تدعو المسلمين والناس جميعاً إلى التوبة والإنابة والتحلي بالأخلاق الفاضلة .
الثالث : تدبر الناس من أهل مكة والمدينة والمدن والقرى القريبة منهما بإستجابة الصحابة للأوامر التي تنزل من عند الله عز وجل والأوامر التي تصدر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ليكون من معاني آية البحث وجوه :
الأول : الذين إستجابوا لله فكانت إستجابتهم حجة على الناس .
الثاني : الذين إستجابوا لله فصارت إستجابتهم هذه ترغيباً للناس بدخول الإسلام .
الثالث : الذين إستجابوا لله ليملأ قلوب الذين كفروا الخوف والفزع, قال تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
الرابع : الذين إستجابوا لله من بعد ما أصابهم القرح يدعون الناس لحب الله سبحانه .
الخامس : الذين إستجابوا لله في النداء لملاحقة العدو يدافعون عن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويمنعون الذي يريد إغتياله من الوصول إليه .
السادس : إخلاص وإيمان الذين إستجابوا لله برزخ دون قيام الذين كفروا بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع : كثرة الذين إستجابوا لله والرسول زاجر للكافر عن التعدي على شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم
الثامن : قيام الذين إستجابوا لله والرسول بالكشف عن الذين يريدون إغتيال النبي , ومنعهم من الوصول إليه.
وكان الصحابة إذا رأوا بعض الأشرار يأتي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقفون حائلاً دونه , وينزعون سلاحه , ويقفون على رأسه ومع هذا فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر في كثير من الأحيان بتركه وسلاحه ليقترب منه ويجلس معه .
التاسع : الذين إستجابوا لله والرسول يمنعون الناس من النفاق , ومن الإنصات للمنافقين .
وكأن آية البحث تخاطب المسلمين بأمور :
أولاً : إستجيبوا لله ورسوله ليندحر النفاق .
ثانياً : الإستجابة لله والرسول واقية وسلامة من النفاق .
ثالثاً : الذين إستجابوا لله والرسول لم يقعدوا كما قعد الذين نافقوا .
رابعاً : الذين إستجابوا لله والرسول يقولون للذين نافقوا فأدرءوا عن أنفسكم الموت .
المسألة السادسة : لقد تضمنت آية السياق الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( قل ) وفي الأمر أطراف .
الأول : الآمر .
الثاني : موضوع الأمر .
الثالث : المأمور .
أما آية البحث فقد أخبرت عن أمور :
الأول : إقتران الإستجابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإستجابة لله عز وجل .
الثاني : وجود أمة مؤمنة بوجوب الإستجابة للرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى[ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ]( ).
الثالث : الثناء على الذين إستجابوا لله والرسول .
الرابع : بيان تحلي الصحابة بصفة الإحسان للذات والغير .
الخامس : إتصاف الصحابة الذين إستجابوا لله والرسول في الخروج إلى حمراء الأسد بالتقوى والخشية من الله عز وجل، وفيه توبيخ وذم للذين نافقوا من جهات:
الأولى : تخلف الذين نافقوا عن مسالك التقوى .
الثانية : وجود المقتضي للإستجابة لله والرسول وفقد المانع لها .
الثالثة : خيبة الذين نافقوا وإحباط سعيهم لقعود الصحابة .
وبينما تضمنت آية السياق أمر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أخبرت آية البحث عن كون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مستجاباً له , ليكون من خصائص الرسول قانون على وجوه :
الأول : تلقي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأوامر من عند الله عز وجل .
الثاني : ما يأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو من عند الله.
الثالث : يأتي الأمر من الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيستجيب له ليعمل به المسلمون إلى يوم القيامة , وهل يشمل الأمر المسلمات , الجواب نعم إلا ما خرج بالدليل , كما في قوله تعالى [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ]( ).
إذ أن القتال ساقط عن النساء حتى في هذا الحال فإن شمول المرأة على نحو السالبة الجزئية للتخفيف عنها , وإلا فإنها تقوم بأمور :
أولاً : مداواة الجرحى وسقاية الجيش , وبعث الحماسة في نفوسهم .
ثانيا : حث الأب والزوج والابن على الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
ثالثاً : الإنفاق والبذل في سبيل الله , ولإنفاق المرأة في سبيل الله خصوصية وشأن كبير لصيرورتها أسوة لغيرها من الرجال والنساء وكما أن أول شهيد في الإسلام هي امرأة وهي سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر فإن أول شخص أنفق أمواله في سبيل الله هي خديجة بنت خويلد زوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهي أول من آمن بنبوته , والتحقت بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حصار بني هاشم وبني عبد المطلب في شعب أبي طالب وتحملت الجوع والأذى وأصيبت بالمرض , وبعد مضي ثلاث سنوات على الحصار قامت قريش بفكه , وما لبثت ان ماتت بعد وفاة أبي طالب بأيام معدودة .
رابعاً : قيام المرأة بالدفاع والقتال عند الضرورة , كما في قتال أم عمارة نسيبة بنت كعب إحدى نساء بني مازن بن النجار
فإن قلت قد دافعت نسيبة عن شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما صار العدو على بعد أمتار قليلة منه , فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يناولها السهام ويحثها على القتال , و(عن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد يقول : (ما التفت يميناً ولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني ) ( ).
الجواب هذا صحيح إلا أنها صارت تخرج مع جيش المسلمين للغزو , وأشتركت في معركة اليمامة أو عقرباء في السنة الحادية عشرة للهجرة بعد أن قام مسيلمة الكذاب بقتل ابنها .
كما قاتلت أم سليم بنت ملحان يوم حنين مع زوجها أبي طلحة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما رأت فرار الطلائع الأولى للمسلمين , وثبتت معه وكانت حينئذ حاملاً بإبنها عبد الله بن أبي طلحة . نعم أكثر عمل النساء في المعارك هو مداواة الجرحى والعناية بالمرضى وتقديم الطعام والشراب .
وحين أمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإحتجاج على الذين نافقوا بعجزهم عن دفع الموت عن أنفسهم حينما يحل بساحتهم بقوله تعالى [قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ] ( ).
فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بادر إلى الإستجابة لأمر الله عزوجل بأحسن صيغ الإستجابة وبه يمتاز عن أمته , فذات كيفية إستجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفضل صيغ الإستجابة , ليمتثل المسلمون والمسلمات لأمر الله عز وجل بالإحتجاج على الذين نافقوا , وينفرد بالجمع بين كونه مُستجيباً ومستجاباً له .
ومن الإعجاز في المقام أن ذات الذين نافقوا قد يقومون بالإحتجاج بمثل الذي أمر الله عز وجل نبيه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : يقوم المنافق بالإحتجاج على المنافق الآخر , ويكون تقدير آية السياق :
فأدرء عن نفسك الموت إن كنت صادقاً.
الثانية : يحتج الذي نافق على إخوانه المنافقين فيقول لهم : فأدرءوا عن أنفسكم الموت .
الثالثة : إحتجاج المنافق على جماعة المنافقين بخصوص نفسه , فادرءوا عن نفسي الموت إن كنتم صادقين .
الرابعة : توجيه المنافق بالسؤال الإنكاري إلى عموم الذين نافقوا فيقول: فادرءوا عن صاحبكم هذا الموت إن كنتم صادقين .
الخامسة : إحتجاج الذين نافقوا على الفرد الواحد منهم .بتقدير من وجوه:
أولاً : قولوا فادرء عن نفسك الموت إن كنت صادقاً .
ثانياً : قولوا فادرء عن نفسك الموت إن كنا صادقين .
ثالثاً : قولوا فادرء عن أنفسنا الموت إن كنت صادقاً .
المسألة السابعة : لقد تضمنت آية السياق بيان قول الذين نافقوا, وما فيه من القبح الذاتي والغيري, الأمر الذي يبعث الأسى في نفوس المؤمنين والمؤمنات لوجود جماعة تصر على القعود وتدعو إليه , فجاءت آية البحث لمواساتهم , ودفع الأسى عن نفوسهم ولبيان وجود أمة على النقيض من هؤلاء المنافقين , أمة تستجيب لله والرسول, وهو من مصاديق قوله تعالى[وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وتتضمن كل من آية السياق وآية البحث التعدي المقرون بالتوبيخ للذين نافقوا , وتتصف آية السياق بمجيء فعل الأمر ( قل ) فيها , والمقصود : قل يا محمد للذين نافقوا , وفي الآية دفاع عن الذين إستشهدوا في معركة أحد , وعن الذين إستجابوا لله ورسوله في اليوم الثاني للمعركة والذين خرجوا إلى بدر الصغرى في السنة التالية , وهي السنة الرابعة للهجرة, وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَاد]( ).
وتقدير صيغة الأمر والحجة على الذين نافقوا على وجوه :
الأول : قل فادرءوا عن أنفسكم بالنفاق وإخفاء الكفر الموت إن كنتم صادقين .
الثاني : قل فادرءوا عن أنفسكم بالقعود عن القتال الموت .
لقد فرح المنافقون بقعودهم عن معركة أحد عندما بلغ أهل المدينة كثرة قتلى المسلمين يومئذ .
الثالث : قل فادرءوا عن أنفسكم بالإستهزاء بالذين قتلوا في سبيل الله الموت .
الرابع : قل فادرءوا عن أنفسكم الموت بالتحريض على القعود .
الخامس : قل فادرءوا عن أنفسكم الموت الذي يتوعدكم وملكه , ويدنو منكم في كل ساعة.
السادس : قل فادرءوا عن أنفسكم زيارة ملك الموت التي تقطع وإلى الأبد وجودكم في الحياة الدنيا وتريح المسلمين من أقوالكم وصدودكم عن سبيل الله .
وورد (عن خيثمة ، قال : كان ملك الموت صديقا لسليمان بن داود عليهما السلام ، فأتاه ذات يوم فقال : يا ملك الموت تأتي الدار تأخذ أهلها كلهم وتذر الدويرة إلى جنبهم لا تأخذ منهم أحدا قال : ما أنا بأعلم بذلك منك ، إنما أكون تحت العرش فتلقى إلي صكاك فيها أسماء ، قال : فجاء ذات يوم وعنده صديق له ، فنظر إليه ملك الموت فتبسم ثم ذهب ، قال : فقال الرجل: من هذا يا نبي الله.
قال : هذا ملك الموت، قال: لقد رأيته يتبسم حين نظر إلي ، فمر الريح فلتلقني بالهند ، فأمرها، فألقته بالهند، قال: فعاد ملك الموت إلى سليمان فقال : أمرت أن أقبضه بالهند فرأيته عندك) ( ).
السابع : قل فادرءوا عن أنفسكم الموت الذي يأتيكم من غير محو وتأخير في الأجل , إذ ليس من عمل صالح يشفع للذين نافقوا, قال تعالى[إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( ).
الثامن : قل فادرءوا عن أنفسكم الموت وما بعده من العذاب الآليم الذي يترتب على النفاق، قال تعالى[إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ]( ).
التاسع : قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم تقدرون .
ترى ما هي الصلة بين التحدي بالعجز عن دفع الموت وبين النفاق . الجواب بلحاظ شماتة الذين نافقوا بشهداء أحد , وتجاهرهم بالنفاق الذي يتبين في آية السياق بقولهم لو أطاعنا واستمع الشهداء لنا وأمتنعوا عن القتال ونصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قتلوا , ومصاديق تمني هذه الطاعة التي لا تجلب إلا الضرر على وجوه :
أولاً : لو أطاعنا الشهداء سلموا سلاماً ظاهرياً .
ثانياً : لو أطاعنا الشهداء وبقوا قاعدين في المدينة
ثالثاً : لو أطاعنا الشهداء واعتذروا عن الخروج لمعركة أحد بأعذار واهية .
وقد نزل القرآن ببيان إعتذار الذين نافقوا عن البقاء في المرابطة في معركة الخندق كما في قوله تعالى[يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا]( ).
رابعاً : لو أطاعونا ورجعوا معنا من وسط الطريق إلى معركة أحد , لقد كان عدد الذين إنخزلوا من وسط الطريق إلى معركة أحد كبيراَ , إذ كانوا ثلاثمائة وهم نحو ثلث جيش المسلمين , فلو رجع منهم السبعون الذين قتلوا لكان في هذا الرجوع سلامتهم من القتل ، فتفضل الله وأخبر بما يدل على حكمة هؤلاء السبعين إذ اختاروا الشهادة ففازوا بالحياة الخالدة عند الله إلى يوم القيامة .
خامساً : لو أطاعونا ولم يواظبوا على الصلاة والصيام والفرائض العبادية الأخرى , ولم تقل الآية : قل فادرءوا عن الذين قتلوا في سبيل الله الموت لو عادوا ورجعوا معكم من وسط الطريق , والجواب من جهات :
الأولى : لا يرضى الذين نافقوا إلا بالقعود عن نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : بيان الغيظ الذي يملأ قلوب الذين نافقوا بسبب خروج الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد وخاصة الانصار وهو الذي يتجلى بقوله تعالى [قالوا لإخوانهم] ( ).
الثالثة : من مصاديق إخفاء الكفر والضلالة تمنى صيرورة الأخوان على ذات النهج البغيض , فجاءت تضحية شهداء أحد دفعاً ونفعاً لهذا التمني .
الرابعة : إمتلاء نفوس الذين نافقوا بالأسى والحزن لخروج الأنصار مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة بدر وقتالهم فيها , ويكون تقدير آية السياق على وجوه :
الأول : لو أطاعونا ولم يخرجوا لمعركة بدر لما قتلوا في معركة أحد , وكأن معركة بدر مقدمة لمسارعة الصحابة للخروج إلى معركة أحد , ولم يعلم الذين نافقوا بأن مبادرة الصحابة بالخروج لكل من معركة بدر وأحد من مصاديق قوله تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الثاني : لو أطاعونا ولم يقاتلوا في معركة بدر ) بلحاظ أن الذين كفروا من قريش وحلفاءهم زحفوا مختارين إلى معركة أحد وأصروا على القتال فيها بسبب نوع معركة بدر , ومالحقهم من الضرر والخسارة من وجوه :
أولاً : كثرة قتلى المشركين .
ثانياً : أسر المسلمين لسبعين من المشركين .
ثالثاً : بين قتلى وأسرى المشركين طائفة من كبار رجالات قريش .
رابعاً : كسر هيبة الذين كفروا بين القبائل .
خامساً : تجلي معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر المبين في معركة بدر والذي جاء بخلاف الأسباب وقواعد وفنون القتال , إذ كان جيش المشركين أكثر من ثلاثة أضعاف جيش المسلمين , وأما من جهة العدة والأسلحة والرواحل فالفارق أكبر بكثير .
لقد أمر الله عز وجل المسلمين بالإعداد والتهييء لمحاربة الذين كفروا بقوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]( ).
وقد بذل الذين كفروا الوسع وأنفقوا الأموال في إعداد الجيوش والأسلحة والخيل لمعركة أحد ولكنهم لم يحرزوا النصر ولم يرجعوا إلا بالخيبة والحسرة وهو الذي يدل عليه قوله تعالى[ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
إذ نزلت الآية أعلاه بخصوص معركة أحد .
ليكون من الإعجاز والمدد من عند الله عز وجل في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من إعداد وتهييء المسلمين للقتال والعمل بمضامين الآية أعلاه يؤدي إلى نصرهم وقهر الذين كفروا . أما إذا قام الذين كفروا بالتجهز للقتال فإنهم لايلاقون إلا الخزي والذل والعار ، وهو من مصاديق قوله تعالى[ أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
الثالث : لو أطاعونا وقعدوا بعد معركة بدر وإلى حين معركة أحد ).
لقد كان بين معركة بدر ومعركة أحد ثلاثة عشر شهراً , ولم يكن الصحابة قعوداً في هذه المدة بل كانوا يستجيبون لله والرسول بالخروج في الغزو , وفي السرايا , ليكون مضمون ومعاني آية البحث ( الذين إستجابوا لله والرسول)، أعم من أن يختص بمعركة أحد .
الرابع : لو أطاعونا وقعدوا عن الإستعداد لمعركة أحد وتمني لقاء العدو، ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن المهاجرين والأنصار كانوا يتمنون لقاء الذين كفروا حينما بلغهم زحفهم للقتال في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة .
وليس من حصر لدلالات هذا التمني إذ إنه تحد وثبات في منازل الإيمان بمقابل تهديد ووعيد الذين كفروا بالهجوم على المدينة المنورة ، وإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقتل الذين يقاتلون معه من الصحابة وسبي الآخرين منهم .
لقد تمنى الذين نافقوا قعود الأنصار عن نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وحرص الأنصار على لقاء العدو لقوله تعالى : [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ).
ولقد إقترن تمني الصحابة بالإجتماع في طاعة الله عز وجل , وهو الذي تدل عليه آية البحث بقوله تعالى[الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
الخامسة : ظهور آفة الحسد على ألسنة الذين نافقوا , فقد ظهر نصر المسلمين في معركة بدر مع كثرة الغنائم التي أصابوها, وجاء العز التي صاروا عليها بعد معركة بدر وهو الذي تجلى بقوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
المسألة الثامنة : أفتتحت آية السياق بالتحدي والتوبيخ للذين نافقوا وبصيغة الشرط بقوله تعالى : (إن كنتم صادقين ) لبيان أنه لو أطاع المؤمنون المنافقين فلا يصرف عنهم الموت فالأجل محتوم , ولأنهم لم يطيعوهم , فقد فازوا بخاتمة آية البحث وما فيها من البشارة بالأجر العظيم , ولما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام إحتج الملائكة على نيل الإنسان مرتبة الخلافة كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ).
فلم يترك الله عز وجل كلامهم يذهب سُدى , ولم يهمله وهو من مصاديق قوله تعالى [أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ] ( ).
فمن لطف الله عز وجل تفضله بإخبار الملائكة وإذنه لهم بالإحتجاج ورده عليهم بالبرهان . [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ). لينتظر ويتطلع الملائكة إلى كنوز وذخائر من بديع صنع الله عز وجل من جهات :
الأولى : خلق الإنسان .
الثانية : نفخ الله من روحه في آدم .
الثالثة : تكاثر وتوالد الإنسان .
الرابعة : سنخية الإختيار في أفعال الإنسان .
الخامسة : التباين في أفعال الناس من وجوه :
الأول : في كل زمان هناك شطر من الناس يعملون الصالحات .
الثاني : هناك فريق من الناس يرتكبون المعاصي والسيئات .
الثالث : من الناس من يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً .
السادس : كثرة وتوالي مصاديق اللطف الإلهي على الناس .
ويحتمل إطلاع الملائكة على هذه المصاديق وجوهاً :
الأول : إطلاع الملائكة على كل مصاديق الفضل واللطف الإلهي بالناس , خاصة وان الملائكة تدون أفعال العباد .
الثاني : لا يطلع الملائكة على مصاديق فضل الله عز وجل على الناس إلا حيث يشاء .
الثالث : يطلع الملائكة على الأعمال الصالحة للناس دون القبيحة .
الرابع : يعلم الملائكة بشطر وجزء من أعمال بني آدم .
والصحيح هو الثاني والرابع أعلاه , ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
أن هناك أفعالاً للإنسان لايعلمها إلا الله عز وجل وكذا بالنسبة للثواب والرغائب والأماني التي تخطر على الذهن , وقد ينساها الإنسان ولكن الله عز وجل هو وحده الذي يعلمها ولا ينساها بل هي حاضرةً عنده قبل أن يخلق الإنسان وباقية إلى الأبد , وهل هذا المعنى دعوة للإنسان أن تكون نواياه ورغائبه وما تحدثه به نفسه في رضوان الله عز وجل ومحبته وطاعته الجواب نعم , وهل هو من مصاديق الاتباع في قوله تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه هو القول وترجل الفعل في الخارج, المختار هو الأول , وأن النوايا الحميدة حسنة .
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل قال:
إن الله كتب الحسنات و السيئات ثم بين ذلك فمن هم بالحسنة فلم يعملها كتب الله له حسنة ومن عملها كتب الله له بها عشرا إلى سبعمائة ضعف و أضعاف كثيرة و من هم بسيئة و لم يعملها كتب الله له بها حسنة كاملة و من هم بها فعملها كتب الله عليه سيئة واحدة)( ).
لقد تضمنت آية السياق الذم والتبكيت للذين نافقوا , أما آية البحث فتفيد وجوهاً :
الأول : خزي الذين نافقوا .
الثاني : دعوة الذين نافقوا للتوبة والإنابة .
الثالث : بعث الصبر وتثبيت التقوى في نفوس الذين آمنوا , فمع قعود المنافقين ودعوتهم الأنصار بالامتناع عن القتال فإن الأنصار يسارعون إلى طاعة الله عز وجل ورسوله , ويتدافعون ويتزاحمون في تلبية نداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ملاقاة الذين كفروا حتى صاروا يتساءلون أين الذين نافقوا وأثرهم .
فيأتيهم الرد بتفاني الأنصار في ميادين القتال , وفدائهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنفسهم وقيام المؤمنات بالحث على الدفاع عن النبوة والتنزيل لتكون خيبة الذين كفروا مركبة ومقترنة بالخيبة من المنافقين والمنافقات .
وهل كانت آيات القرآن عوناً للمسلمين والمسلمات في دفع شر المنافقين والمنافقات , الجواب نعم , وهو من الإعجاز في تكرار ذكر المنافقات قال تعالى[الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ]( ).
المسألة التاسعة : من خصائص آيات البحث ذكرها لاسم الجلالة , وورد ذكره في الآية السابقة مرتين مع قلة كلماتها كما بينت النعمة العظيمة التي تفضل بها على المؤمنين ، وورد في آية البحث لبيان إستجابة المؤمنين له سبحانه ولم يرد اسم الجلالة في آية السياق , ولكن دلالات الآية تدعو إلى الإيمان والتسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل .
الأول : تقدير الآية : الذين قالوا لإخوانهم الذين آمنوا بالله ورسوله .
الثاني : ذم المنافقين لقعودهم عن الدفاع والجهاد في سبيل الله .
الثالث : دلالة الآية على قتل شهداء أحد في سبيل الله، ولولا بلوغهم مرتبة الإيمان لما قوتلوا وقاتلوا .
الرابع : إرادة الذين نافقوا حمل المؤمنين بالله ورسوله على طاعتهم والإستجابة لأهوائهم .
الخامس : القعود عن الدفاع عن النبوة والتنزيل حرب على الله ورسوله , وإعانة للذين كفروا , لذا جاء القرآن بالعقاب الأليم للذين نافقوا إذ جعلهم الله عز وجل أهل الدرك والطابق الأسفل من النار .
السادس : تحدي الآية للمنافقين بطرد الموت عليهم كأمر حتم , والحياة والموت بيد الله عز وجل , فإن قلت الذي يقبض الأرواح هو ملك الموت والجواب هذا صحيح ولكنه لا يقبضها إلا بأمر وإذن من عند الله , وفي التنزيل [اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا] ( ).
السابع : رجوع الناس إلى الله بعد الموت , والوقوف بين يديه , ومن أسماء يوم القيامة يوم الجزاء قال تعالى :[ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ] ( ).
فيكون الحساب على ما يفعله وينوي فعله الإنسان , ويأتي الجزاء على النفوس مما يدل على تمتع الروح والجسد بالثواب الأخروي , وعذاب الروح والجسد بالعقاب في النار .
ويمكن تأسيس قانون وهو : كل آية تتضمن ذكر الله بالنص والمنطوق او المفهوم والدلالة .
إعجاز الآية الذاتي
إبتدأت آية البحث بالاسم الموصول [الذين] لبيان إتصال موضوعها بالآية السابقة ، وهو من معاني رحمة الله عز وجل بالمسلمين في آية البحث، ولا يختص هذا الاسم الموصول بالجماعة من الذكور , وهو من عمومات قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) , ويشمل أيضاً وجوهاً :
الأول : إرادة المسلمات من حين البعثة النبوية وإلى يوم القيامة ، وتقدير الآية : اللائي استجبن لله والرسول .
الثاني : المراد المسلم المنفرد ، وتقدير الآية : الذي استجاب لله ورسوله.
الثالث : إرادة المرأة المسلمة ، وتقدير الآية : التي استجابت لله والرسول .
وهل يصح تقدير الجمع بين خاتمة الآية السابقة وأول آية البحث : أن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ).
الجواب نعم إلا أنه لا يفيد الحصر والتعيين إنما يكون تقدير الآية على وجوه منها :
الأول : إن الله لا يضيع أجر المؤمنين من الأولين والآخرين .
الثاني : إن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين استجابوا لله ورسله وأنبيائه.
الثالث : إن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين استجابوا لله ورسله وبشّروا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوا الناس للتصديق بها .
الرابع : إن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين استجابوا لله من أيام أبينا آدم وإلى يوم القيامة ، وهل فيه تعريض بقابيل ابن آدم الذي قتل أخاه هابيل ، الجواب نعم .
الخامس : إن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين استجابوا لله في أداء الوظائف العبادية .
السادس : إن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين لم يغادروا الدنيا إلا بعد أن أورثوا الإيمان وأداء الفرائض لأولادهم ومن حولهم من الناس.
ووصف [من حولهم] أعلاه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة سعة وضيقاً ، إذ يتسع في هذا الزمان بواسطة وسائل الإتصال السريعة ، وأجهزة الإعلام ونحوها ، لتكون باباً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وللأجر والثواب .
السابع : إن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذي كتبه لهم على إيمانهم .
الثامن : إن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين أيد وعضّد الله عز وجل بهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
كما ورد الثناء عليهم في ثلاث آيات متتاليات بقوله تعالى [وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ).
وقد ذكرت الآية أعلاه فضلاً من الله عز وجل على المسلمين بأن يغلب العشرون منهم المائتين من الذين كفروا أي بمقدار الضعف ، ثم إنتقلت الآية إلى بيان فضل أكبر وأعظم وهو أن مائة من المؤمنين ينتصرون على ألف من الكفار أي بمقدار عشرة أضعاف المؤمنين ، ولكن المسلمين الذين خرجوا خلف المشركين كانوا أقل من عشرهم لأنهم كانوا مائتين وسبعين ، بينما كان المشركون أكثر من عشرة أضعافهم ، فهل يجب أو يجوز الفرار من جيش الذين كفروا الجواب لا , إلا للتحيز إلى فئة ونحوه ، ، بالإضافة إلى آية في السنة الدفاعية وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه هم الذين اختاروا الخروج خلف العدو .
(عن ابن عباس قال : افترض عليهم أن يقاتل كل رجل عشرة ، فثقل ذلك عليهم وشق عليهم ، فوضع عنهم ورد عنهم إلى أن يقاتل الرجل الرجلين ، فأنزل الله في ذلك {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين}( ) إلى آخر الآيات)( ).
ولكن المسلمين خرجوا طواعية لمطاردة الذين كفروا مع أنهم أقل من عشرهم ، قال تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
ويمكن تسمية آية البحث آية[الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ] ولم يرد لفظ[الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ ] إلا في آية البحث ولم يرد لفظ(استجابوا للرسول) في القرآن, ويمكن تسمية آية البحث بآية (الذين استجابوا لله ورسوله)كما يمكن تسميتها آية(القرح) ولم يرد هذا اللفظ في القرآن إلا في هذه الآية .
ويكثر موضوع الإستجابة من عند الله عز وجل لدعاء الصالحين وعموم المؤمنين ، قال تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
أما آية البحث فتبين الإستجابة من عند الناس لله عز وجل لبيان ضرورة هذه الإستجابة والنفع العظيم المترشح عنها ، لبيان قانون وهو أن الدنيا دار الإستجابة , كما يمكن تسمية هذه الآية آية ( الإستجابة لله والرسول ).
إعجاز الآية الغيري
تبين الآية قانوناً وهو وجود أمة تستجيب لأوامر الله عز وجل , وأوامر الرسول في أيام نزول القرآن ، ووجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا ، فمن إكرام الله عز وجل له أنه لم يغادر الدنيا حتى كانت هناك أمة تدرك قانوناً وهو أنه لا يأمر ولا ينهى إلا من عند الله عز وجل .
لقد لاقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأذى مثلما لاقاه الأنبياء السابقون ، حتى قال (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)( ) ولكنه فاز بمرتبة سامية وهي تفاني الصحابة بالقتال بين يديه ، وسقوط سبعين منهم في يوم واحد شهداء لينعم عليه الله عز وجل بهذه الآيات التي تتضمن الإخبار عن سعادتهم وحبورهم من حين زهوق أرواحهم .
وهل يكون الشهداء سعداء بعلم المسلمين والمسلمات والناس بحال الغبطة التي هم فيها , الجواب نعم ، وهو من فضل الله الذي تذكره آية السياق ، ومن رشحات آية البحث التي تشهد لهم بالإستجابة لله عز وجل ولرسوله الكريم ، وإتخاذ باقي الصحابة لهم أسوة .
وتبين الآية للناس قانوناً من جهات :
الأولى : نيل الذين يستجيبون لله والرسول صفة المؤمنين .
الثانية : ترشح الثواب العظيم على الإيمان.
الثالثة : بيان الملازمة بين الإستجابة لله والإستجابة للرسول ، وفي التنزيل [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ] ( ).
الرابعة : لا يستجيب لله والرسول إلا المؤمنون .
الخامسة : الإستجابة لأوامر الله والرسول في حال القتال والمعارك والجروح أكثر أجراً وثواباً .
الآية سلاح
يتجلى في آية البحث قانون وهو أن الحياة الدنيا دار الإستجابة ، وهذه الإستجابة مطلقة في موضوعها مقيدة في المستجاب له ، فلا تصح الإستجابة المطلقة إلا لله عز وجل ورسوله ، لذا ورد الثناء على المهاجرين والأنصار الذين سارعوا إلى تلبية نداء ملاحقة العدو الكافر مع شدة جراحاتهم .
لقد كانت استجابتهم من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) .
وتدل الآية أعلاه على وجود أمة مؤمنة في كل زمان تتعاهد عبادة الله عز وجل وتخلص له في العبادة حتى وإن حاربها الكفار بالسيف والسلاح والخيل ونحوها .
وتبين آية البحث قانوناً آخر وهو أن نتيجة وثمرة الطاعة لله ورسوله نفع لهم ولذراريهم وغيرهم من الناس ، إذ لم يتعظ رؤساء الكفر من قريش بوقائع معركة بدر مع أنهم يعلمون باكثر أيام العرب وأسباب ومقدمات المعارك التي جرت فيما بينهم , والمعارك التي جرت لهم مع غيرهم ، والأشعار التي قيلت فيها ومعاني الفخر والذم فيها ، وليس في تلك المعارك مثل معركة بدر من جهة :
الأولى : الأسباب ، فقد بلغ قريشاً أن النبي وأصحابه عازمون على الإستيلاء على قافلة تجارتهم إذ بعث لهم أبو سفيان وهو رئيس تلك القافلة رسولاً اسمه ضمضم لندبهم للدفاع عن القافلة ، ثم غيّر ابو سفيان طريق سير القافلة إذ سار باتجاه جدة , حتى أطمئن وتجاوز إحتمال الضرر فكتب إلى قريش أن أرجعوا لإنتفاء المقتضي ووجود المانع ، ولكنهم أصروا على الإستمرار في السير نحو المعركة من أجل بيان سطوتهم للقبائل ، وصدّ الناس عن دخول الإسلام ، وإخافة المسلمين ، لتتجلى حقيقة وهي ليس من سبب لنشوب معركة بدر .
الثانية : تعدد النداء من بعض رجالات قريش صبيحة معركة بدر بلزوم إجتناب القتال .
الثالثة : التباين بين معركة بدر ومعارك العرب لوجود النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة ، فالذين قاتلوه حاربوا الله عز وجل ونصروا الطاغوت ، قال تعالى [الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا] ( ).
الرابعة : لقد كانت معارك العرب تنشب على أسباب شخصية بسيطة مثل قتل شخص أو تعدي أو ظلم , وذات المعركة ظلم إبتدائي من غير سبب ، وقد استمرت معركة البسوس بسبب رمي جساس لناقة , فلعظيم شأنه عند قومه أبى أن تشترك ناقة غيره في مرعى إبله ، أما معركة بدر فهي بين الحق والباطل , ورجال الحق في حال دفاع عن كل من :
أولاً : الإسلام .
ثانياً : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : آيات وسور القرآن التي نزلت قبل معركة بدر .
رابعاً : آيات وسور القرآن التي لم تنزل بعد ، وفيها بيان الأحكام والسنن .
خامساً : الدفاع عن النفوس والأرواح .
سادساً : الدفاع عن اليهود الذين يسكنون المدينة وعوائلهم وأموالهم ، والغازي الكافر لا يميز بين أهل البلدة من جهة النسب أو الإنتساب والإنتماء ، قال تعالى [قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ]( ).
سابعاً : الدفاع عن الشأن والبلد ، وفي معركة الخندق أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقد إتفاق مع غطفان , ولكنه صبر متوكلاً على الله .
الخامسة : نزول المدد من السماء لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ومن الآيات في المقام توجه الخطاب في النصر إلى المسلمين بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) ولم تقل الآية (ولقد نصرك الله ببدر )لبيان الجزاء العاجل من عند الله للذين آمنوا في أشد أحوال الحاجة إلى النصرة والمدد والعون ولو ببعض الأفراد من البشر أو السيوف والأسلحة أو الرواحل ، ولا يعطي الله عز وجل إلا بالأتم والأوفى ، فانزل ألفاً من الملائكة ، قال تعالى [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) .
ولفظ أذلة الوارد في الآية أعلاه جمع تكسير مفرده ذليل ، والمراد من الذلة في الآية الضعف وقلة المؤن والسلاح والرواحل ، ويحتمل وجهين :
الأول : الآية إنحلالية فقد يصدق على كل واحد منهم : ولقد نصرك الله ببدر وأنت ذليل ) وهناك مسائل :
الأولى : هل يصدق ذات اللفظ على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : النبي صلى الله عليه وآله وسلم خارج بالتخصص أو التخصيص من حال الذل.
الثالثة : المراد من الذلة حال جيش المسلمين .
الجواب هو الأول والثالث , وفي التنزيل[أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى* وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى]( ).
الثاني : يختص الإنحلال بأول الآية ولا يشمل آخرها ، فيكون تقدير الآية الكريمة في مخاطبة كل واحد من المهاجرين والأنصار [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) فجاء النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكل واحد من المهاجرين والأنصار الذين اشتركوا ، أما الذلة فالمراد منها المعنى الأعم، وإلا فان كل فرد منهم كان في حال عزة بفضل الله .
المختار هو الثاني .
لقد كانت دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للخروج خلف العدو سلاحاً من جهات :
الأولى : بيان منعة وعز المؤمنين .
الثانية : إعطاء رسالة للذين كفروا بأن المسلمين لم ينهزموا في معركة أحد ، فمطاردة العدو في اليوم الثاني للمعركة شاهد على عدم الخسارة أو الهزيمة في المعركة .
الثالثة : الإستجابة لله ورسوله سلاح ضد النفس الشهوية ودفع للشك والوسوسة عن النفوس أو ظهور أثرهما في عالم الأفعال .
الرابعة : لقد أظهر المنافقون الشماتة بالمؤمنين في معركة أحد وكثرة قتلاهم فيها ، وحاولوا تصدير المعركة بأنها هزيمة للمسلمين ، فتفضل الله عز وجل وأمر رسوله بأن يخرج باصحابه لملاحقة العدو مع أنه عائد إلى مكة لتبقى كتيبة حمراء الأسد شاهداً على التأريخ ، ودليلاً على أن الذي يهجم على حاضرة الإسلام لا يحصد إلا الندامة .
ومن الإعجاز في السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم وقوع قتال في هذه المعركة ، وعدم إصرار الذين كفروا على البقاء في المنزل الذي كانوا فيه حينما بلغهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يطلبونهم .
وقد ورد في قصة موسى قوله تعالى [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ]( ) إذ أوحى الله عز وجل إلى أم موسى بأن تلقيه في النهر عند الخوف عليه ، وضمن لها إعادته إليها في آية في العالمين ، فكيف يعود الصبي الذي يلقى في النهر الذي يبلغ طوله أكثر من ستة آلاف كيلو متر وهو نهر النيل أطول نهر في العالم ، الجواب يعود بالمعجزة , وفضل الله , وتنجز وعده في كل الأحوال .
وعندما ظن الناس أن المسلمين صاروا في حال خوف وحزن بسبب الخسارة التي لحقتهم في معركة أحد أمرهم الله في اليوم الثاني أن يخرجوا خلف جيش المسلمين الذي غزاهم وقتل سبعين منهم ، فكانت النتيجة إنهزام العدو وعزوفه عن لقاء جيش المسلمين الذين عادوا بالنصر المبين ،
ومن خصائص رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم النصر على الأعداء الكافرين من جهات :
الأولى : النصر مع قلة العدد والعدة كما في معركة بدر .
الثانية : النصر في حال الدفاع .
الثالثة : إنكسار العدو في كل معركة له مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار .
الرابعة : تفضل الله عز وجل بصرف أكثر المعارك التي تهيئت اسبابها ومقدماتها وهو من مصاديق قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ] ( ) وقوله تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا] ( ) ويتوجه الخطاب في الآية أعلاه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكن المعنى أعم ومن مصاديقه وجوه :
الأول : وكان فضل الله عليك عظيماً في نفسك وسلامتك من القتل .
الثاني : وكان فضل الله عليك عظيماً بنزول آية البحث , واستجابة المؤمنين لله سبحانه ولك .
الثالث : وكان فضل الله عظيماً في نزول القرآن عليك ، وتحتمل صفة العظمة في المقام وجوهاً :
أولاً : نزول كل آية قرآنية فضل عظيم عند الله عز وجل .
ثانياً : نزول السورة القرآنية فضل عظيم من عند الله سبحانه ، وهو من أسرار تقسيم القرآن إلى سور متعددة .
ثالثاً : نزول مجموع آيات وسور القرآن فضل عظيم من عند الله عز وجل .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق فضل الله العظيم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : دخول المهاجرين والأنصار الإسلام .
الخامس : النصر العظيم في معارك الإسلام وبخصوص آية [ببدر] يمكن تقديرها : وكان فضل الله عليك عظيماً إذ نصركم ببدر وأنتم أذلة فأتقوا الله ) .
لبيان وجوب شكر الله على فضله بالتقوى والصبر والشكر لله عز وجل .
السادس : وكان فضل الله عليك باستجابة المهاجرين والأنصار التي تذكرها آية البحث عظيماً .
السابع : وكان فضل الله عليك في خروج الصحابة بجراحتهم إلى حمراء الأسد عظيماً .
الثامن : وكان فضل الله عليك عظيماً إذ أصاب أصحابك أجر عظيم ، لقد تحمل المهاجرون والأنصار شدة الجراح والقروح في معركة أحد ، وخرجوا إلى حمراء الأسد لينعم عليهم الله عز وجل بأن يصيبهم فضله المتوالي ، ولا يختص فضله تعالى بأشخاصهم إنما يشمل العوائل والذراري.
ويحتمل خروج الصحابة بجراحاتهم تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة كسلاح وجوهاً :
الأول : إنه سلاح لصدّ ومنع الذين كفروا من الرجوع إلى المدينة .
الثاني : إنه منعة وسلاح للمسلمين والمسلمات في المدينة .
الثالث : في هذا الخروج المبارك دعوة للذين نافقوا للتوبة والإنابة .
الرابع : في الخروج خلف جيش الذين كفروا من قريش إخافة لعموم الذين كفروا وزجر لهم عن العدوان على المدينة , والتواطئ مع المعتدين .
الخامس : هذا الخروج سلاح في دعوة الناس إلى الإسلام لما فيه من عز للمسلمين وشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإخلاص المهاجرين والأنصار في إيمانهم .
السادس : بيان مصداق ودليل عملي على ماهية الإستجابة لله والرسول بالتضحية والفداء وبذل الوسع في طاعة الله ورسوله في أشد الأحوال .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الآية الكريمة وعظيم النفع المترشح عنها ، وهل آية البحث من مصاديق الرحمة في قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : الإستجابة لأمر الله ورسوله رحمة من عند الله ، فان قلت إنما قيدت الآية أعلاه الرحمة بطاعة الله ورسوله , والجواب هذا صحيح ، ولا تنحصر الطاعة بذات الإستجابة ، فمن مصاديق الطاعة الإيمان بالله ورسوله ,وأداء الفرائض العبادية ، والنفير لملاقاة العدو الكافر في معركة بدر وأحد ، فرزق الله عز وجل المهاجرين والأنصار الإستجابة لدعوة الرسول للخروج إلى العدو .
الثانية : من الرحمة في المقام عدم وقوع قتال في خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلف العدو ، لا مع كفار قريش الذين إشتركوا في معركة أحد ، ولا مع غيرهم من أفراد القبائل التي في الطريق إلى حمراء الأسد أو الذين علموا بخروج المسلمين إلى حمراء الأسد بجراحاتهم وقروحهم وآثار المصيبة بفقد سبعين منهم .
الثالثة : نزول القرآن بالثناء على المؤمنين .
الرابعة : البشارة بالثواب بالأجر للذين جاهدوا في سبيل الله .
مفهوم الآية
تبدأ الآية بما يبعث الطمأنينة في النفوس باخبارهم عن استجابة المهاجرين والأنصار لله والرسول ومن مفاهيم الآية الإخبار عن صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوجود أمة تتلقى الأوامر التي تأتي في القرآن والسنة بالقبول والإمتثال من غير أن يكون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم سلطان قوة أو قهر وليس عنده مال يغريهم به , فان قلت قد جاءت الغنائم في معركة بدر ، والجواب على وجوه :
الأول : لم تأت هذه الغنائم إلا بعد أن صار المسلمون أمة تستطيع القتال والصبر في الميدان .
الثاني : جاءت غنائم معركة بدر في السنة الثانية للهجرة أي بعد مرور عشر سنوات على البعثة قضاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل الهجرة وسنتين بعد الهجرة الشريفة .
الثالث : لقد تلقى المسلمون الأذى من الذين كفروا ، فجاء النصر في معركة بدر رحمة ونعمة وفضلاً من عند الله عز وجل بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) والغنائم التي أصابها المسلمون في معركة بدر رشحة وفرع من النصر الذي تفضل الله عز وجل به .
الرابع : لم تأت الغنائم وعوض فك أسرى المشركين لكل المسلمين في المدينة ، إنما كانت الغنائم خاصة بالبدريين ، أما عوض الأسرى فكان للذين أسروهم، وصحيح أن عدد أسرى المشركين كان سبعين أسيراً إلا أن فكاكهم كان على وجوه :
أولاً : الذي دفع عوضاً أو جاء أهله من مكة فدفعوا عنه العوض والبدل .
ثانياً : الذين قاموا بتعليم صبيان المسلمين القراءة والكتابة ثم أطلقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : الذين أطلقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير عوض أو بدل .
رابعاً : من المسلمين من عفا عن الأسير الذي عندهم ، وتركوه وشأنه .
خامساً : من الأسرى من تعهد بارسال العوض والبدل عنه , فاطلق سراحه .
ثم جاءت معركة أحد وليس فيها غنائم ، إنما كانت الخسارة في صفوف المسلمين فادحة بكثرة القتل بين صفوفهم ، واصابتهم بالجراحات البليغة ولكنهم لم ينهزموا أو يخسروا المعركة , واستجابوا في اليوم الثاني لمعركة أحد لله والرسول ، وليس من معارض أو محتج منهم أو من أسرهم وعوائلهم على استجابتهم بالخروج خلف العدو ، فلم يرد خبر بأن بعض الأسر منعت أبناءها عن الخروج ، إنما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لَا يَخْرُجْ مَعَنَا إلّا مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ)( ).
أي حضر معنا معركة أحد .
لقد وردت الآيات الثلاثة السابقة في الثناء على شهداء أحد , وبيان فضل الله عز وجل عليهم وصيرورتهم أحياء عنده سبحانه ، لتأكيد قانون وهو أن الله لا يضيع عمل الصالحين ، ومن الإعجاز في خاتمة الآية السابقة مجئ الوعد بالثواب وتحققه بالمصداق الواقعي لعموم المؤمنين ، وعدم إنحصاره بالذين قتلوا في المعركة ، إنما يأتي الثواب على ذات الإيمان لقوله تعالى [وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) وفيه وجوه :
الأول : دعوة المسلمين والمسلمات للتحلي بالإيمان .
الثاني : زيادة إيمان المسلمين ، لذا ذكرت آية البحث التقوى ورغبت فيها بقوله تعالى [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ] ( ).
الثالث : تبكيت المنافقين وحثهم على التوبة والإنابة .
الرابع : دعوة المسلمين والمسلمات بأجيالهم المتعاقبة لإكرام المهاجرين والأنصار الذين أسسوا صرح الإستجابة لله والرسول ، فمن مفاهيم آية البحث ندب وحث عموم المسلمين والمسلمات على الإستجابة لله والرسول في الفرائض العبادية من باب الأولوية القطعية من جهات :
الأولى : مبادرة المهاجرين والأنصار للإستجابة لله عز وجل من غير قتال وجيل سابق لهم على ذات النهج الإيماني .
الثانية : لقد كانت استجابة الصحابة في حال الضراء والشدة والقتال بالخروج بعد يوم قتال شديد إلى ملاحقة ذات العدو الذي قتل منهم سبعين في يوم واحد .
الثالثة : سعي المهاجرين والأنصار إلى الثواب العظيم الذي يترتب على الإستجابة لأمر الله وأمر رسوله .
الرابعة : تجلي قانون وهو مجئ المدد والتخفيف من عند الله للذين واللائي يستجيبون له .
ومن مفاهيم آية البحث دعوة المسلمين إلى عدم الوقوف عند الإستجابة في القضية والواقعة الواحدة فلابد من تعاهد القيام بالواجبات العبادية ، وبين معركة بدر وأحد ثلاثة عشر شهراً ليس فيها قتال يذكر وملاقاة مع الذين كفروا بالسيوف والنبال والرماح ، ولكن فيها فرائض وواجبات ومستحبات ما لا يحصي عددها إلا الله عز وجل ، وكل فرد منها من مصاديق الإحسان والتقوى للذين تذكرهم آية البحث .
لقد نشأ الإسلام غريباً بين الناس وتتجلى في التدبر في نشأته , وانتشاره معجزة واضحة لكل إنسان , وفيه دلالة على حاجة الناس للمعجزة كوسيلة سماوية لجذبهم إلى منازل الهدى والإيمان ، وهل يختص الأجر العظيم بالذين استجابوا لله والرسول في معركة أحد واليوم الذي بعدها ، الجواب لا ، فإثبات شىء لشىء لا يدل على نفيه عن غيره ، ويأتي مزيد كلام في علم المناسبة.
إفاضات الآية
لقد أختتمت الآية السابقة بالجامع بين الثواب والبشارة وهو من فضل الله عز وجل بأن تختم الآية القرآنية بفيض متعدد ,ومن خصائصه ترغيب الناس بالإسلام ,وحثهم على تعاهد الايمان أما الثواب في خاتمة الآية السابقة فيتجلى بنعت بالمؤمنين والاخبار عن إستبشار الشهداء بالحياة في حضرة القدس , كما في الآية قبل السابقة [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ]( ).
ومن لطف الله عز وجل بالمؤمنين أنه قد يعفو عن التقصير في العبادات والغفلة احيانا عن الواجبات وعن الذكر والتسبيح , ويجازي بالنعم العظيمة، إنما ذكرت آية البحث إستجابتهم لله ورسوله, وكانت من عمومات قوله تعالى (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) ( )
لقد أكرم الله الملائكة والناس بالتنزيل , ودعا المسلمين الى الثناء عليه بتلاوة آية البحث وهل يأتي ثواب مستحدث عن تلاوة آية البحث , الجواب نعم ،وهو من مصاديق الآية السابقة [فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
وكأن شهداء معركة بدر وأحد وحمراء الاسد والخندق وحنين والذين أوذوا في سبيل الله من الصحابة الاوائل يستبشرون كل يوم بأمور :
الأول : نزول هذه الآيات .
الثاني : ذات تلاوة هذه الآيات .
الثالث : قراءة هذه الآية في الصلاة.
الرابع : تدبر المسلمين وغيرهم بهذه الآيات .
المراد مجيء الثواب للمهاجرين والأنصار على هذه القراءة.
ويتجلى الثواب من وجوه :
الأول : ثواب الشهداء أكثر من غيرهم ممن رجع مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معركة أحد.
الثاني : نسبة التساوي بين ثواب الشهداء وغيرهم من المهاجرين والأنصار.
الثالث : ثواب الذين رجعوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معركة أحد أكثر من ثواب الذين قتلوا في سبيل الله فيها لأنهم خرجوا بعدها إلى حمراء الأسد .
وذكرتهم آية البحث بالثناء الصلاة والصيام والفرائض الاخرى والمختار هو الأول مع فضل الله عز وجل بمضاعفة كل فرد منها.
وذكرت آية البحث الجراحات التي أصابت الصحابة في معركة أحد وكيف أنها لم تمنعهم عن الاستمرار في الجهاد والدفاع.
وتذكر آية البحث قانون إتصاف المجاهدين الصابرين بالإحسان, وقيدته بالتبعيض [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
مع ذكر قيد التقوى , وعن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، واعدد نفسك من الموتى، وإياك ودعوة المظلوم فانها تستجاب، ومن استطاع منكم أن يشهد الصلاتين العشاء والصبح ولو حبواً فليفعل)( ).
ليكون من إفاضات الآية بعث المسلمين على التقوى والخشية من الله عزوجل , ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه تحث على التقوى وتدعو اليها وترغب فيها .
الآية لطف
لقد جعل الله عز وجل الإنسان[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، ليفوز بمصاديق لا تعد ولا تحصى من لطف الله، ومنه وجوه:
الأول : اللطف البين الظاهر.
الثاني : اللطف الخفي، وهو على أقسام منها ما يدرك بالتدبر ومنها ما يعجز الإنسان عن دركه لأن فضل الله أعظم من أن تحيط به أوهام البشر ولأنه تعالى غني عن علم الناس بفضله عليهم , وهو من مصاديق[وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ]( ).
وفي خطبة للإمام علي عليه السلام في الثناء على الله عز وجل (قرب فبعد و بعد فقرب يجيب دعوة من يدعوه و يرزقه و يحبوه ذو لطف خفي وبطش قوي ورحمة موسعة و عقوبة موجعة , رحمته جنة عريضة مونقة وعقوبته جحيم ممدودة موبقة و شهدت ببعث محمد رسوله و عبده و صفيه ونبيه و نجيه و حبيبه و خليله .
بعثه في خير عصر و حين فترة و كفر رحمة لعبيده و منة لمزيده ختم به نبوته وشيد به حجته فوعظ و نصح و بلغ و كدح رءوف بكل مؤمن رحيم سخي رضي ولي زكي عليه رحمة و تسليم و بركة و تكريم من رب غفور رحيم قريب مجيب)( ).
الثالث : اللطف بالنعمة وإتصالها ودوامها.
الرابع : محو وصرف الضرر عن العباد مجتمعين ومتفرقين ، ومنه قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
الخامس : اللطف من الله بكشف الغم ودفع النقم.
السادس : اللطف من الله بفتح باب الدعاء والأمر به.
السابع : اللطف بالإستجابة لأمر الله ورسوله.
الثامن : محو العسر وإبداله باليسر، قال تعالى[إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا]( ).
التاسع : اللطف بالعافية وكشف المرض.
العاشر : اللطف بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الحادي عشر : اللطف بنزول كل آية من القرآن , ومنه آية البحث التي تدل بالدلالة التضمنية على المدد والعون من عند الله عز وجل بالمسلمين لجذبهم وإرتقائهم إلى منازل الإستجابة، فلا تنال تلك المرتبة العظيمة إلا بفضل ولطف من عند الله عز وجل.
ومن لطف الله عز وجل في آية البحث جعل الإستجابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في عرض واحد مع الإستجابة له سبحانه، وهو من معاني ومصاديق قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ومنه بعث الصحابة على الخروج إلى قتال العدو مع شدة جراحاتهم، فلا يستطيع جيش مثقل بالجراحات مطاردة العدو الأكثر في العدد والعدة لولا اللطف من الله الذي يأتي للمؤمنين خاصة ليكون هذا الخروج من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا]( )، فتجلى العسر بمعركة أحد، واليسر بالأمن والنفير والخروج خلف العدو.
ومن اللطف في آية البحث تقريب المسلمين إلى مسالك الإحسان، وجذبهم إلى منازل التقوى وبشارتهم بالثواب والأجر العظيم الذي لا يأتي عن إستحقاق، إنما هو لطف وفصل من عند الله عز وجل وفي التنزيل[اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ]( ).
الآية بشارة
جاءت الآية بصيغة الجملة الخبرية لتوثيق فوز الصحابة بمرتبة ورفعة وسمو من جهات :
الأولى : الإمتثال لأمر الله .
الثانية : الإستجابة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : الإمتثال والإستجابة لأمر الله ورسوله .
ويتجلى الأمر من الله عز وجل يأتي من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والي يأتي للمسلمين .
وهل تتقوم وتستمر الحياة الدنيا من غير وجود أمة مستجيبة لله ورسوله، الجواب لا، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) وفيه شاهد على قانون وهو عدم إنقطاع عبادة الله في الأرض في أي زمان وجيل وطبقة من الناس، وهو من مصاديق قوله تعالى[ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
لتترشح وتبقى الإستجابة لأمر الله ورسوله في الدنيا إلى يوم القيامة بمضامين آية البحث.
ومن وجوه تقدير آية البحث: الذين استجابوا لله والرسول والذين يستجيبون له في كل زمان وإلى يوم القيامة.
لقد أعان الله عز وجل المهاجرين والأنصار على الإستجابة له سبحانه فضلاً منه ، وفيه مسائل :
الأولى : فوز المهاجرين والأنصار بالأجر والثواب الذي أختتمت به الآية السابقة .
الثانية : تفضل الله بالشهادة للصحابة بالإستجابة لله والرسول في أشد وأشق الأحوال ، قال تعالى[أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ]( ).
الثالثة : بيان قانون وهو أن الله عز وجل يأمر المسلمين وأن الرسول يأمرهم فلم يكن عندهم إلا الإستجابة الحميدة , ولو دار الأمر بين أمرين :
الأول : الإستجابة الفورية .
الثاني : التواني والإبطاء في الإستجابة .
فالأصل هو الأول إلا مع القرينة الصارفة وهي معدومة في المقام وقد وردت الأخبار بعدم إبطاء الصحابة في الإستجابة لله والرسول سواء في معركة أحد أو في اليوم التالي لها أو في العبادات كما في تحويل القبلة , وورد في قوله تعالى[وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ]( )، أن الآية نزلت في مسجد بني سلمة، وقد صلى النبي محمد بأصحابه ركعتين من صلاة الظهر، فتحول في الصلاة من بيت المقدس إلى الكعبة، وتحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال فسمي المسجد مسجد القبلتين.
وفيه بشارة ثبوت الإيمان في قلوبهم ، وعجز الذين نافقوا عن صدهم عن الدفاع والذب عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن الإسلام .
الرابعة : يستقرأ من آية البحث قانون وهو ترتب الثواب العظيم للعبد على طاعته لله ورسوله، وهو من أسرار ورود الخبر في آيات القرآن وعمومات قوله تعالى[لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ]( ).
وقد جاء القرآن ببيان استجابة الأنبياء والصالحين لأمر الله عز وجل وإمتثال المؤمنين لأوامر الله ورسله .
ويستبشر كل مسلم ويتغشاه الفرح والغبطة عندما يعلم بأن المهاجرين والأنصار سارعوا إلى الإمتثال لأمر الله ونداء الرسول بطلب العدو الكافر، ولا يختص هذا الإستبشار بتلك المسارعة إنما يشمل أموراً لابد من الإلتفات إليها، وجعل موضوعية لها في المقام وهي:
الأول : إستجابة الصحابة لنداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج خلف العدو مع المشقة والعناء في الخروج إلى معركة أحد في اليوم السابق ومنهم من قطع المسافة إلى جبل أحد ذهاباً وإياباً مشياً على الأقدام.
الثاني : الإستجابة والخروج لمطاردة العدو مع شدة الحزن لمصيبة فقد سبعين شهيداً في معركة أحد ، وكأن خروجهم هذا للثأر لأصحابهم الذين قتلوا، ومن أبهى معاني الصبر النهوض والنفير مع شدة الجراحات في اليوم السابق.
الثالث : الإستجابة لأمر الله عز وجل في أداء الفرائض والعبادات من باب الأولوية القطعية فالذين يبادرون للخروج للقتال بقروحهم وآثار المصيبة يوم أحد مع كثرة أفراد وعدة عدوهم.
الرابع : تأديب المسلمين بلزوم الإستجابة لأمر الله ورسوله .
الخامس : بيان قانون وهو وجوب الإمتثال لأمر الله وأمر رسوله في حال السراء والضراء ، وبعد ذكر آية البحث لقيام الصحابة بملاحقة الذين كفروا في صحراء العرب تفضل الله بالبشارة بالأجر العظيم للذين أحسنوا وعملوا الصالحات وإتصفوا بالخشية من عند الله عز وجل .
وفيه دلالة على قانون وهو عموم البشارة في الآية القرآنية فالموضوع الوارد فيها لا يخصص المورد تتوجه البشارة بالأجر للمسلمين والمسلمات على الإستجابة لله عز وجل، وفيه دعوة لهم وللناس للرجوع إلى القرآن والصدور عنه.
لقد جاءت البشارة في آية البحث على وجوه :
الأول : الإستجابة لله عز وجل .
الثاني : الإستجابة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الإحسان، قال تعالى[وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
الرابع : التقوى والخشية من الله .
الخامس : الإيمان وإتيان الصالحات بقصد القربة إلى الله عز وجل .
وجاءت آيات قرآنية أخرى بالبشارة لعموم المسلمين والمسلمات، قال تعالى[وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ] ( ).
ليفيد الجمع بين البشارة في الآية أعلاه وبين مضامين آية البحث البعث على الإحسان والتحلي بالتقوى وإتخاذ كل من الإحسان والتقوى مجتمعين ومتفرقين طريقاً للفوز بالأجر العظيم الذي وعدت به آية البحث ، وهو من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
ليكون من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة الآية أعلاه في الصلاة اليومية سبع عشرة مرة الهداية إلى الإستجابة لله والرسول، لتكون كل ركعة من الصلاة وسيلة تقريب إلى الفوز بالبشارة , وإصلاحاً لنيلها وتركها أرثاً مباركاً للذرية والأبناء.
ومن خصائص البشارة القرآنية أنها باعث للعمل والسعي الحثيث في سبيل الله بحال السكينة والطمأنينة .
الآية إنذار
من خصائص الحياة الدنيا أنها إنذار وتحذير وتخويف ووعد ووعيد, ويصاحب الإنذار الإنسان في أيام حياته كلها، وإذا ما طرأ أمر لله يلزم فيه الإختيار والفعل فإن الإنذار يكون حاضراً في الوجود الذهني, وهو من بديع صنع الله في خلق الإنسان, وتفضله عليه بالفعل والتفكر والتدبر في عواقب الامور، ثم تفضل الله ببيان أحكام الحلال والحرام, والثواب العظيم على فعل الصالحات, والعقاب الأليم على إرتكاب السيئات وأنزل الله أحكام العدل والقصاص, ومنه قوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
إذ يخشى الإنسان إرتكاب الإثم والتعدي خوفاً من القصاص وقوده وقتله بغيره وتعديه عليه، وجاءت آيات القرآن لإصلاح النفوس والمجتمعات وتنزيهها من الفساد والفجور والظلم.
وتبين آية البحث في مضمونها قيام المؤمنين بالدفاع , والسعي لصرف أذى الذين كفروا, بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الى حمراء الأسد بقصد ملاحقة ومطاردة جيش الذين كفروا .
ليكون ثوابهم من عند الله عز وجل فنزلت آية البحث لتوثق صبرهم وجهادهم، ولجعل المسلمين في كل زمان يذكرون حسن صنيعهم وكيف أنهم ضحوا بأنفسهم , ودافعوا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
وجاءت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية، ولكنها تتضمن البشارة والوعد الكريم الخاص والعام , أما الخاص فهو المتعلق بموضوع النزول وإستجابة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدفاع والمرابطة والصبر في ميادين القتال، وأما العام فيشمل إستجابة المسلمين والمسلمات للأوامر الإلهية بالصلاح والتقوى وأداء الواجبات العبادية.
وتتضمن آية البحث الإنذار من جهات:
الأولى : إنذار ووعيد الذين يحاربون النبوة والتنزيل.
الثانية : بيان قانون وهو خسارة وخيبة الذي يحارب الإسلام.
الثالث : لقد كانت إستجابة الصحابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي تذكرها آية البحث دفاعية إذ بلغه أن جيوش قريش تنوي الكرة والعودة للقتال بغزو المدينة ذاتها هذه المرة، لتكون آية البحث في مفهومها إنذاراً ووعيداً للذين كفروا على إصرارهم على القتال بعد الهجوم والغزو في معركة أحد.
وعند تسميتها غزوة أحد يتبادر إلى الأذهان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه هم الذين غزوا، ويقول الذي[فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ]( ) أن الإسلام انتشر بالسيف، إنما كان الغزاة هم الذين كفروا، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع، وعددهم أقل من عدد ربع جيش المشركين، ويزداد التفاوت بينهما في العدة والرواحل.
الرابع : تدل آية البحث بالدلالة الإلتزامية على إنذار الذين نافقوا وزجرهم عن السعي لقعود الصحابة عن الدفاع، كما ورد في قوله تعالى[الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ).
الخامس : إنذار الذين أصابوا الصحابة بالجراحات يوم معركة أحد، فقد تقدم في الآيات السابقة أن قتال المسلمين في سبيل الله وبقصد القربة إليه تعالى من جهات متعددة:
الأولى : ما ورد قبل عشرة آيات بقوله تعالى[أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( )، لبيان التضاد بين المسلمين والذين كفروا.
الثانية : الدفاع عن النبوة والتنزيل اتباع لرضوان الله، وقربة إلى الله تعالى.
الثالثة : قوله تعالى قبل ثمان آيات[لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ]( ).
فمجيء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم منّ ولطف من عند الله بالمسلمين مما يدل بالدلالة التضمنية على أن دفاعهم عنه شكر لله عز وجل.
ولم تذكر الآية أعلاه القتال أو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمرهم به مما يدل على قانون وهو أن قتالهم دفاع محض، إنما أخبرت الآية عن تلاوته آيات القرآن وتزكيته للمسلمين وتعليمه لهم الكتاب وسنن التقوى.
الرابعة : إخبار آية البحث عن إتصاف المسلمين بالإستجابة لله والرسول، وهذه الإستجابة من أبهى مصاديق القربة إلى الله تعالى.
الآية موعظة
يقال وعظه يعظه وعظاً وموعظة، والوعظ: النصح والتذكير بالعواقب، ويقال: إتعظ: أي قبل الموعظة وبين الأمر بالمعروف والموعظة عموم وخصوص مطلق، وكذا ذات النسبة بين النهي عن المنكر وبين الموعظة، و(السعيدُ من وُعِظَ بغيره، والشقيُّ من اتَّعَظَ به غيره)( ).
ومن خصائص الحياة الدنيا أنها دار الموعظة ، إذ يتعظ فيها الإنسان من نفسه ومن غيره ومما حوله من الآيات والبراهين ، والموعظة جزء ومصداق من عمومات قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( ) ولابد من غايات حميدة تفضل الله باراءة وسمع الناس لآياته منها الإتعاظ والإعتبار.
وهل الآية القرآنية من مصاديق وأفراد الآيات التي تذكرها الآية أعلاه أم أن القدر المتيقن الآيات الكونية التي يدركها الناس بحاسة الصبر لقوله تعالى [سَنُرِيهِمْ]ولموضوع الآيات وهو في الآفاق وعالم الأكوان والأفلاك وفي النفوس .
الجواب هو الأول لبيان القرآن للآيات الكونية وتجلي مضامينها القدسية في هداية الناس سبل الصلاح وفعل الخيرات ولأن كل آية قرآنية معجزة بذاتها، وجاءت مسألة الرؤية في(سنريهم) للغالب وبيان موضوعية حاسة البصر، ومن الإعجاز أن الآية القرآنية حسية في سماعها ورؤية رسمها ورؤية كلماتها، وصيرورة هذه الرؤية وسيلة للتدبر فيها، وهو لا يتعارض مع الأصل , وكون الآية القرآنية معجزة عقلية.
ومنها آية البحث التي تبين حاجة الناس للإمتثال لأوامر الله عز وجل ، ومنافع هذه الإستجابة ، مع كثرة وشدة بأس جيش الذين كفروا وإصرارهم على القتال وإرادتهم البطش بالمسلمين والإنتقام منهم.
فما أن سمعوا بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يقتفون أثرهم حتى عجلوا السير نحو مكة ، لتكون آية البحث حجة وموعظة للمسلمين بلزوم صدق الإيمان وحسن التوكل على الله عز وجل وموعظة للناس وحثاً لهم لإجتناب محاربة النبوة والتنزيل ، وهذا الإجتناب حاجة للمسلمين وموعظة لهم لأنه من الشواهد على الربوبية المطلقة لله سبحانه بصرف الناس عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا برسالته.
فان قلت قد كانت هذه المحاربة موجودة وهي موضوع آية البحث.
والجواب أن وجود هذه المحاربة وإرادة قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانت قائمة ولكنها لم تعم الناس ، ولم يستطع الذين كفروا من قريش تحريض الدول الكبرى آنذاك كالدولة الرومانية والفارسية وملك الحبشة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام ، وعدم الإستطاعة هذا قائم في كل زمان وفيه موعظة وحجة متجددة ، وشاهد على صدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم .
وأما أن آية البحث موضوع لمحاربة الناس الإسلام ، فالعكس هو الصحيح ، إذ أنها تبين عجز الذين كفروا عن الإستمرار في محاربته ، وعن الصبر في ميدان القتال لملاقاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار .
الآية رحمة
من إعجاز القرآن أن كل آية منه رحمة بالناس وللناس وعلى الناس ، ولا تختص مصاديق الرحمة فيها بأيام أو أسباب أو موضوع النزول ، ومن خصائص رحمة الله العموم وعدم الحصر أو التقييد ، ويدل عليه قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) لتبقى مصاديق رحمة الله بالآية القرآنية مستمرة ومتجددة، وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : وما أرسلناك بالقرآن إلا رحمة للعالمين .
الثاني : وما أرسلناك بالآية القرآنية إلا رحمة للعالمين .
الثالث : وما أرسلناك بتلاوة آيات القرآن إلا رحمة للعالمين .
الرابع : وما أرسلناك إلا ليستجيب لك المؤمنون رحمة بالعالمين .
الخامس : وما أرسلناك إلا ليقوم المؤمنون بالإحسان والتراحم، ويتحلوا بتقوى الله.
السادس : وما أرسلناك إلا ليكون المؤمنون[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
ومن مصاديق خروجهم للناس بلحاظ آية البحث:
حسن الإستجابة لله ورسوله على نحو المصداق العملي لقانون وجوب الإستجابة لله عز وجل ولبيان قانون وهو أن هذه الإستجابة ضياء ينير دروب الهداية ، ووقاية من تمادي الذين كفروا بالظلم والغي والتعدي .
ومن الإعجاز في المقام سنخية هذه الإستجابة وأنها في موضوع القتال ، وتحتمل هذه الإستجابة وجوهاً :
الأول : إنها من دفاع المسلمين عن النبوة والتنزيل .
الثاني : إرادة التفقه في الدين بلحاظ إنقطاع الدفاع بانتهاء معركة أحد ، وإنصراف جيش الذين كفروا ، وإطمئنان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على إنسحاب جيش الذين كفروا إلى مكة ، فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام(اخرج في آثار القوم وانظر ماذا يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الابل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الابل)( ).
بلحاظ مناسبة الخيل للإغارة على المدينة خاصة وأن جيش المشركين جاءوا بمائتي فرس لم تركب ظهورها في الطريق من مكة إلى ميدان معركة أحد لتكون جاهزة للكر والفر ، وللإغارة والإنقضاض على الطرف الآخر، ولم يعلموا أن الله عز وجل أنزل الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
ومن منافع الملائكة والخيل التي يركبونها صيرورة خيل المشركين في جفول وتردد أذهل الذين كفروا وصار سبباً لدبيب الخوف والفزع في نفوسهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
الثالث : كانت استجابة المهاجرين والأنصار لأمر الله عز وجل وأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بمطاردة العدو الكافر فرداً جامعاً للدفاع والغزو.
الرابع : كانت استجابة الصحابة في اليوم التالي لمعركة أحد من لواحق تلك المعركة وعمومات قوله تعالى[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
الخامس : إنها مقدمة للدفاع .
ولا تعارض بين هذه الوجوه , وإستجابة الصحابة في المقام أعم من أن تنحصر بالدفاع والهجوم إذ تشمل أموراً :
أولاً : بيان صدق إيمان المهاجرين والأنصار .
ثانياً : تبكيت المنافقين والمنافقات وقطع شماتتهم .
ثالثاً : تأديب الصحابة بعدم الوقوف عند المصيبة والحزن والأسى على الشهداء فلابد من الدفاع وعدم الفتور فيه أو القعود، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ]( ).
رابعاً : بيان صبر المهاجرين والأنصار وعوائلهم وعموم الصحابيات في مرضاة الله، ولم يرد خبر يفيد حث عائلة أحد الصحابة له على القعود خاصة مع شدة الجراحات التي تكون عذراً في المقام ، وفيه شاهد على عدم إصغاء أو إنصات المؤمنين وعوائلهم للمنافقين وما يبثون من السموم ، وهذه الإستجابة رحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فمن وجوه :
الأول : تنمية ملكة الأخوة الإيمانية بين المسلمين لصبغة التقوى التي تتصف بها استجابتهم لله والرسول، ليكون من مصاديق قوله تعالى في خاتمة آية البحث[وَاتَّقَوْا] أي استمروا على نهج التقوى في حال السلم مثلما تحلوا بلباس التقوى في ذات الإستجابة في يوم معركة أحد، وفي يوم التالي لها من أبهى سنن التقوى ليأتي بعدها التخفيف عنهم، فيكون التقيد بمفاهيم التقوى من باب الأولوية القطعية.
الثاني : صيرورة المهاجرين والأنصار أسوة لعموم المؤمنين والمؤمنات في التلبس بالإحسان للذات والغير .
الثالث : هذه الإستجابة واقية من المناجاة بين الكفار للهجوم على المدينة والإجهاز على الإسلام .
الرابع : نزول الثواب العاجل من عند الله على المؤمنين لصبرهم في الدفاع والذب عن حدود الله.
الخامس : درء ضرر الذين نافقوا.
السادس : زيادة إيمان المسلمين والمسلمات، وحثهم على اللجوء إلى التوكل على الله في دفع شرور العدو، وهو الذي تدل عليه الآية التالية والتي تتعلق بذات موضوع آية البحث بقوله تعالى[وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
السابع : مجئ البشارة في ذات آية البحث على الإستجابة لله ورسوله بالوعد الكريم من عند الله بالثواب العظيم على الإحسان والتقوى .
وأما في الآخرة فان الإستجابة لله ورسوله باب للفوز بالثواب العظيم وهو الذي تدل عليه آية البحث ، ولا ينحصر هذا الثواب بالذين يستجيب لله ورسوله بل يشمل غيره من وجوه:
الأول : الذين يؤازرون الذي يستجيب لله ورسوله .
الثاني : الذين لم ينصتوا للمنافقين ويحاكوهم في الصدّ عن سبيل الله .
الثالث : تقريب أبناء وذرية الذي يستجيب لله ورسوله من الهدى والصلاح، قال تعالى[وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا]( ).
الحاجة لآية البحث
لقد جعل الله عز وجل الناس محتاجين إليه في نشأتهم وأرزاقهم وأسباب استدامة حياة كل واحد منهم، ولا تختص هذه الحاجة بأمور الدنيا بل تشمل عالم الآخرة ولأن الدنيا مزرعة الآخرة تفضل الله عز وجل فملأها بالحجج والبراهين التي تدل على ربوبيته المطلقة، وبعث الأنبياء وأنزل الكتب السماوية لهداية الناس إلى الإيمان والصلاح في الحياة الدنيا، ونجاتهم وفوزهم في عالم الآخرة ونجاتهم من الأهوال فيها، ليكون من مصاديق رحمة الله بالناس هو هدايتهم في الدنيا للأمن والسلامة في الآخرة.
وهل هداية الفرد لنجاته بالذات أم لإرادة المعنى الأعم ، الجواب هو الثاني ، وهو من مصاديق رحمة الله عز وجل ومن وجوه الشفاعة في الآخرة التي تتجلى في قوله تعالى[مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ]( ) .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: إذا كان يوم القيامة نشر الله تبارك وتعالى رحمته حتى يطمع إبليس في رحمته)( ).
وتحتمل الحاجة بلحاظ آيات القرآن وجوهاً :
الأول : يحتاج الناس القرآن جملة .
الثاني : حاجة الناس لكل آية وسورة من القرآن على نحو مستقل( ).
الثالث : يحتاج الناس كل آية من آيات القرآن .
الرابع : حاجة الناس للجمع بين الآيتين من القرآن .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من الذخائر والكنوز التي جعلها الله عز وجل في القرآن لأنه كلامه والصلة بينه وبين العباد .
ومن الآيات في المقام نزول آيات القرآن نجوماً وعلى نحو التوالي والتعاقب مع إقتران شطر منها بأسباب نزول جعلها الله عز وجل ثروة باقية بين أيدي المسلمين وفيه وجوه :
الأول : حفظ المسلمين لآيات القرآن .
الثاني : تقريب معنى الآية القرآنية لأذهان المسلمين وهو من وجوه التخفيف عنهم .
وهل يختص التخفيف الوارد في قوله تعالى[الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ) بميدان القتال وحال الحرب، الجواب لا، ليكون من معاني الفاء[فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ]( ) صبر المسلمين في طاعة الله، وصبرهم عن معصية الله.
ومن التخفيف توالي نزول آيات القرآن وبيانها للأحكام والسنن ومنها آية البحث إذ تبين لزوم الإستجابة لأمر الله ورسوله وفعل الصالحات ، وهناك مسألتان:
الأولى : ماذا لو لم يأمر الله عز وجل بالخروج لملاحقة جيش الذين كفروا .
الثانية : ماذا لو امتنع المهاجرون والأنصار عن تلبية أمر ونداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج خلف العدو.
أما المسألة الأولى فان الله عز وجل هو أعلم بالمصلحة ، وعندما قال تعالى للملائكة[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) إحتجوا على شخص الخليفة ولم يحتجوا على موضوعها لإقرارهم بأن[لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) وهذا الإحتجاج ليس من الإستفهام الإنكاري كما يذهب له عامة المفسرين، إنما هو من باب الرحمة والشفقة بالناس والتوسل والتضرع إلى الله عز وجل بأن يجعل الناس كلهم من أهل الإيمان والتقوى فسمع الله عز وجل كلامهم وأجابهم بقوله[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن علم الله عز وجل في المقام التخفيف عن المسلمين بأن أمرهم بالخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف العدو ، ليكون هذا الخروج من أبهى مصاديق التخفيف من وجوه :
أولاً : مجئ الدعوة والنداء للخروج من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوحي من عند الله ، وفيه نوع وعد بالأجر والثواب .
ثانياً : إشتراط النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لا يخرج معه إلا من حضر معركة أحد .
ثالثاً : عدم إعطاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإذن إلى المنافقين بالخروج إلى معركة أحد ، وحينما جاء له عبد الله بن أبي بن أبي سلول وسأله الخروج .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا .
رابعاً : عدم وقوع قتال في هذا الخروج .
خامساً : رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سالمين، ومع شدة جراحاتهم لم يسقط أو يتخلف أو يموت واحد منهم في طريق الذهاب أو العودة إلى المدينة ، وفيه تبكيت للذين نافقوا ومنع لشماتتهم ، وليكون خروج المهاجرين والأنصار إلى حمراء الأسد المتعقب لواقعة أحد ، ورجوعهم سالمين من أسباب ومصاديق قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ]( ).
الثالث : منع الإختلاف بين المسلمين بخصوص أسباب نزول آيات القرآن لما في الإتفاق والإجماع على هذه الأسباب من الشواهد على وحدة المسلمين ، وإستقرائهم الدروس والمواعظ من الآية القرآنية .
الرابع : موضوعية أسباب نزول الآية القرآنية في تعيين أوان نزولها ، والوقائع والحوادث التي نزلت بخصوصها .
الخامس : أسباب النزول من الشواهد على صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل، ومنه آية البحث التي تتضمن أموراً :
الأول : الإخبار عن إنقياد المهاجرين والأنصار لأمر الله ورسوله .
الثاني : الوصف وبيان حال المسلمين وإصابتهم بالجروح والقروح .
الثالث : الوعد الكريم من عند الله عز وجل بالأجر والثواب العظيم .
الرابع : تعيين موضوع الأجر والثواب والعلة والفعل الذي يترتب عليه ذات الأجر .
وكل فرد منها حاجة للمسلمين وسبيل صلاح ورشاد .
النعم التي تذكرها آية البحث
لقد جعل الله عز وجل القرآن تبياناً لكل شي وفيه ما يحتاج الناس إليه، وأنباء من علم الغيب بما يكفي للكشف والبيان، وقد أخبر الله عز وجل عن علة خلق الناس بقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، فأشرك الله عز وجل الجن مع الناس في الآية أعلاه، وقدمهم في الترتيب ليس لعلو المنزلة ولكن لسبق خلقهم على خلق آدم بدليل أن إبليس من الجن وكان حاضراً خلق آدم، قال تعالى[فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ]( ).
وتفضل الله عز وجل وبيّن في القرآن تحقق مصاديق هذه الغاية السامية، ومنه آية البحث التي أخبرت عن شاهد حاضر إلى يوم القيامة على عبادة الناس لله عز وجل بالإستجابة له سبحانه بتحمل الجراحات والتضحية بالنفوس من أجل تعاهد الناس عبادة الله، وتثبيت أفرادها التي يريدها الله عز وجل في الأرض إلى يوم القيامة، وليكون من مصاديق الآية أعلاه من سورة الذاريات[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) العبادة بالكيفية التي أمر بها وأريدها لهم، والتي ينالون معها الأجر العظيم الذي تذكره آية البحث.
وأخبرت آية البحث عن إستجابة المهاجرين والأنصار لأمر الله ورسوله، وهذه الإستجابة نعمة من عند الله بذاتها ونفعها وثوابها، ولا يقدر العبد على الإستجابة لأمر الله إلا بتوفيق منه سبحانه، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ]( ).
ومن النعم في آية البحث الشهادة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة، ووجود أمة تستجيب له في حياته، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
لقد أصيب المسلمون بالجراحات الشديدة وجاءت آية البحث للبشارة بالأجر العظيم على هذه الإصابة وذات الأجر نعمة عظمى، ولكن الله عز وجل يعطي بالأتم والأوفى فأخبر بأن أجر المؤمنين عظيم , وكل خير ولذة وغبطة حسنة هي نعمة، وكذا كل مطلوب وغاية حميدة.
وقيل بأمرين :
الأول : ما يطلق على النعم في الحياة الدنيا هو من باب المجاز .
الثاني : النعم الحقيقية في عالم الآخرة.
أما الثاني أعلاه فهو صحيح، ولكن النعم في الدنيا حقيقية أيضاً، قال تعالى[وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً]( )، ومن فضل الله عز وجل أنه أنعم على الناس جميعاً بالحواس والمال والرزق والمطر والنبات وأسباب النقل في البر والبحر ثم في الجو، وربما غدا بالسكن بالكواكب .
وتفضل على المؤمنين بنعم خاصة تتعلق بالهداية والصلاح ومنها مضامين آية البحث .
ولو دار الأمر بين الحقيقة فالأصل هو الأول، إلا مع القرينة الصارفة للمجاز، ويجوز تقدير الآية: وأن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، أي وأن تعدوا نعمة الله في الحياة الدنيا لا تحصوها، وكذا يصح وأن تعدوا نعمة الله في كل ساعة من الحياة الدنيا لا تحصوها، وأن تعدوا نعمة الله على أي واحد من الناس لا تحصوها.
الصلة بين أول وآخر الآية
إبتدأت آية البحث بالثناء على الصحابة الذين اتصفوا بصفات كريمة متعددة في مدة يوم وليلته ، وقد وثقت الآية هذه الصفات وهي :
الأولى : الإيمان بالله ورسوله لإختتام الآية السابقة بذكر صفتهم .
الثانية : البشارة بالأجر على ذات الإيمان، قال تعالى[وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا]( ).
الثالثة : الإمتثال والإستجابة لأمر الله في زمان تشيع فيه عبادة الأوثان ويؤذي ويحارب الذين كفروا المؤمنين ، ويجهزوا الجيوش لقتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن تابعه من أهل بيته وأصحابه، قال تعالى[وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ]( ).
وهل ينحصر الإيمان حقاً وصدقاً بالمهاجرين والأنصار الذين تذكرهم الآية أعلاه أو خصوص الذين ورد الثناء عليهم في آية البحث ، إذ أن النسبة بين الذين ذكرتهم الآية أعلاه وآية البحث عموم وخصوص مطلق , الجواب الإيمان أعم .
الرابعة : الإستجابة لأمر ونداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودلالة هذه الإستجابة على التسليم بنبوته والإقرار بأن يأمرهم بما أمره الله عز وجل، وفي التنزيل[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا]( ).
ومن الإعجاز في المقام ورود لفظ [قُلْ] في القرآن مائتين وثلاثاً وتسعين مرة ، وفيه تعدد الخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون القرآن إماماً للسنة النبوية لعمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
فيبادر المؤمنون والمؤمنات إلى الإستجابة لما يقوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما يتضمنه قوله من مصاديق الأمر والنهي , وفيه خزي للذين نافقوا ، وبيان لإنعدام الأثر المترتب على فتنتهم.
ولم ينحصر أمر القرآن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقول بل جاءت له الأوامر بالفعل منها قوله تعالى [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
لتكون في ذات الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالفعل دعوة للمسلمين للإستجابة لأمر الله عز وجل باتيان ذات الفعل .
والأصل في الأمر الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو إلحاق المسلمين به وشمولهم بعموم الخطاب والأمر إلا أن يدل دليل على إرادة التخصيص والحصر بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم
وجاءت آية قرآنية بلفظ [قل] كما في قوله تعالى [قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لاَ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ]( ) الذي ورد فيه لفظ[قل] أربع مرات , وفيه وجوه :
الأول : إلحاق المسلمين والمسلمات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويجب أن يقولوا هذه الأقوال الأربعة .
الثاني : بعض هذه الأقوال خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : هذه الأقوال الأربعة خاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : ورود شطر خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الآية أعلاه غير الأقوال الأربعة المأمور بها، وهو[وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ]( ).
والمختار هو الأول والرابع أعلاه ، إذ يختص الوحي بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , أما العمل بمضمون الآية القرآنية فباق إلى يوم القيامة فان قلت وقوله تعالى[لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ]( ) هل يختص الإنذار والتبليغ في الآية أعلاه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الجواب لا، إذ يقوم المسلمون بالإنذار بالقرآن، وإتخاذ آياته حجة وبرهاناً على صدق اختيار الإسلام وترغيب الناس بالإيمان ، وبعث النفرة في نفوسهم من الشرك والضلالة .
وتدل الإستجابة لله عز وجل بالدلالة التضمنية على التنزه عن الجحود، وعلى عدم الإستكبار عن عبادة الله عز وجل ، فالذي يستجيب لدعوة الرسول ويسعى بجراحاته خلف جيش العدو يحرص على أداء الصلاة وإتيان الزكاة وصيام شهر رمضان ، وعلى أداء الحج الذي هو عبادة بدنية مالية .
ومن الإعجاز في صدق نبوة محمد وإخلاص أصحابه في إيمانهم مجئ الفرائض عليهم على نحو شبه دفعي إلى جانب الدفاع عن النبوة والتنزيل في ذات الوقت الذي تنزل فيه آيات القرآن وما فيها من الأوامر والواجبات والنواهي، إذ صاحبت الصلاة البعثة النبوية في مكة في سنيها الأولى .
وقدم إلى المدينة مع وفد الأوس والخزرج مصعب بن عمير ليعلمهم آداب وكيفية أداء الصلاة ، ويقيمها لهم , وأين أقيمت أول صلاة جمعة في الإسلام.
نبينه في الجزء التالي إن شاء الله .
وفي السنة الثانية لهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فرض كل من :
الأول : فريضة الصيام , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]( ).
الثاني : نزول فريضة الزكاة .
الثالث : وقوع معركة بدر في اليوم السابع عشر من شهر رمضان ، ويحتمل حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر وجوهاً :
أولاً : كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون صائمين عند وقوع المعركة .
ثانياً : إبتداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون شهر رمضان بالصيام ولكنهم أفطروا في يوم المعركة لقاعدة نفي الحرج في الدين ، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام ولإعانة المسلمين في القتال.
وفي الفقه يكره صيام يوم عرفه لمن يضعفه الصيام عن الدعاء، فمن باب الأولوية القطعية الإفطار وعدم الصيام في يوم القتال مطلقاً ومقدماته وإن لم يكن على نحو المبارزة والمسايفة لوحدة الموضوع في تنقيح المناط.
وهل يستقرأ هذا الأمر من قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ]( ) وعدم إجتماع كتابة وفرض أمرين فيهما مشقة على المسلم في آن واحد.
الجواب نعم ، لذا ورد في ذات قوله تعالى[ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ]( ) وأما المرابطة بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
ثالثاً : صيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع إفطار المسلمين بلحاظ خصوصية له صلى الله عليه وآله وسلم في العبادة منها صيام الوصال وقيام الليل.
رابعاً : لم يصم المسلمون شهر رمضان من السنة الثانية , وقيل فرض الصيام في شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة , ولم يرد في الأخبار ما يدل على صيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة شهر رمضان عند خروجهم إلى معركة بدر.
والأصل في الإمتثال هو الفورية أي لو كانت آيات الصيام نزلت في شهر شعبان لصام النبي والمسلمون شهر رمضان لقوله تعالى[فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ]( ) , إلا مع الدليل أو القرينة على الخلاف .
الخامسة : الإتصاف بالإصابة بالجراحات الشديدة في معركة أحد لقوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ] ( ) وتقدير الآية على وجوه :
الأول : من بعد ما أصابهم القرح في سبيل الله ، ولقد تقدم قبل ثلاث آيات الثناء من عند الله عز وجل على الصحابة الذين قتلوا في معركة أحد وهم يقاتلون جيش الذين كفروا إذ شهد الله عز وجل لهم بأن قتلهم كان [فِي سَبِيلِ اللَّهِ ]( ) وكذا فان قتال الذين تحملوا الجراحات الشديدة كان في سبيل الله وإذ تفضل الله عز وجل وجعل الشهداء أحياء عنده يتنعمون برزق كريم بحضرة القدس فهل رزق الجرحى في معركة أحد من فضله، أم أن الرزق الكريم والفضل في المقام أمران خاصان بالشهداء، الجواب هو الأول، ومن رزق الله عز وجل أمور:
الأول : نزول آية البحث وتوثيقها لجراحات الصحابة يوم معركة أحد .
الثاني : ثناء آية البحث على المهاجرين والأنصار بنعتهم بالإستجابة ، وهل يصدق تسميتهم(المستجيبون) الجواب نعم لجمعهم بين أمور :
أولاً : الإستجابة والإمتثال لأوامر الله .
ثانياً : الإستجابة لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مطاردة العدو الكافر .
ثالثاً : الإستجابة لأمر الله في أداء العبادات .
رابعاً : القيام بالإحسان، وهذا الإحسان فرع الإستجابة لأمر الله ورسوله , وفي التنزيل[إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ]( ).
خامساً : التزين بالتقوى والخشية من الله لورود الأوامر من عند الله بلزوم التقيد بسنن التقوى، وقد ورد الأمر من الله عز وجل للمسلمين والمسلمات بتقوى الله في مواضع متعددة من القرآن، ومنها قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ]( ).
سادساً : البشارة بالثواب العظيم ، ومن معاني العظمة في ثواب المهاجرين والأنصار الذين ساروا نحو حمراء الأسد الإقامة في الجنة ، وهل منها إلحاقهم بالشهداء بالحياة عند الله عز وجل من حيث موتهم ، الجواب نعم ، إذ تكون خاتمة حياتهم في الدنيا على أقسام :
الأول : الذي يموت من أثر الجراحات والقروح التي ذكرتها آية البحث ممن يلحق بالشهداء .
الثالث: الذي يموت على فراشه بعد مشاركته في معارك الدفاع ، فأختتمت آية البحث بالبشارة لهم بالثواب العظيم ، ولم تذكر آية البحث موضوعية كيفية الموت ولن تعلق الثواب العظيم على القتل في سبيل الله ، إنما قيدته بالإحسان والتقوى، وفي التنزيل[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( ).
وفيه رحمة من عند الله ودعوة للمؤمنين للعناية بالفرائض العبادية والصلاح والتفقه في الدين واتخاذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منهاجاً في أيام حياتهم ، قال تعالى[وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
السادسة : من خصائص الخليفة في الأرض الإحسان ونشر مفاهيمه لأنه من أسباب تنزيه المجتمعات وطرد الفساد من الأرض، وهو من علم الله عز وجل في قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) عندما احتج على الملائكة التي أنكرت خلافة الإنسان في الأرض لإفساده فيها ، وقتله النفس المحرمة بغير حق ، إذ أن الإحسان برزخ دون الفساد ، لأن الإحسان ينشر المودة والرأفة بين الناس.
ومن إعجاز آية البحث عدم حصر إحسان المؤمنين بأهليهم وأخوتهم المؤمنين ، إنما ورد الثناء في آية البحث على الإحسان مطلقاً والبشارة بالأجر والثواب على فعله بقيد الإيمان الذي تترشح عنه إرادة القربة إلى الله عز وجل.
لقد جعل الله عز وجل الإنسان محتاجاً ، ومن مصاديق الحاجة الإحسان من جهات :
الأولى : فعل الإحسان ، أي يحتاج الإنسان قيامه بالإحسان ، وفيه بعث للطمأنينة في نفسه ، وهو مصداق للخلافة في الأرض بالمبادرة إلى فعل الخير.
الثانية : موضوعية ملكة حب الإيمان عند الناس جميعاً ، فليس من إنسان إلا وهو يحب الإحسان ويميل إلى المحسنين ، وهذا الميل من معاني النفخ من روحه في الإنسان ورشحات قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ) بتقريب وهو حب عامة الناس لما يحبه الله عز وجل فتجد إنساناً بخيلاً ولكنه يحب الكرم، ويقصر في دفع الزكاة الصدقات ولكنه يغبط ويكرم الذي يقبل على دفعها ويتعاهدها .
وعن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وخير ما أعطى الإنسان حُسْنُ الْخُلُقِ ألا وإن حُسْنَ الْخُلُقِ من أخلاق الله)( )، والمراد الأخلاق التي يأمر بها الله ويحبها ويرضاها لعباده.
الثالثة : إدراك الناس لنعمة الإحسان وتهيئة أسبابه ووسائله بفضل من عند الله.
ومن لطفه تعالى تقريب الناس إلى منازل الإحسان ، وهو سبحانه المحسن الذي يحب إشاعة الإحسان بين الناس ليكون وسيلة للإيمان وطريق هداية , وقد تكرر لفظ ( الذين ) مرتين في آية البحث, وسيأتي مزيد كلام .
وهل الإحسان من مصاديق الصراط في قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، الجواب نعم، وتدل عليه آية البحث التي ترغّب بالإحسان وتخبر عن الأجر والثواب العظيم عليه، وعطفت عليه التقوى والخشية من الله عز وجل ليخرج الرياء وإرادة ارضاء الغير.
السابعة : إتصاف المؤمنين بالتقوى والخشية من الله عز وجل ، لقد جعل الله عز وجل عبادة الناس له علة لخلقهم، قال تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، وبين العبادة والتقوى عموم وخصوص مطلق ، فالعبادة أعم في موضوعها ومصاديقها، والتقوى زينة العبادة ويتحلى بها الزهاد والصالحون والمؤمنون، وجاءت آية البحث لتبين الملازمة بين الإيمان والتقوى، وقد يقال العكس وأن التقوى هي الأعم لإرادة الخشية من الله عز وجل منها.
ومن معاني وعلة عظمة الأجر والثواب في المقام وجوه :
الأول : التقيد بأحكام الإيمان .
الثاني : الدفاع جهاداً في سبيل الله .
الثالث : تعريض النفس للقتل في الدفاع عن النبوة والتنزيل .
الرابع : خوض معارك القتال ، وتحمل الجراحات الشديدة في سبيل الله ورجاء رضاه.
الخامس : فعل الحسنات وعمل الصالحات .
السادس : فضل الله عز وجل في مضاعفة الثواب، ومجئ مراتب من الأجر على الإيمان وعمل الصالحات أكثر بكثير مما يستحقه العبد ولا تختص هذه المضاعفة بأوان الفعل أو خصوص الحياة الدنيا أو عالم الآخرة إنما هو أمر مستمر ومتجدد.
اسباب النزول
وفي أسباب وموضوع نزول آية البحث وجوه :
الأول : ورد عن مجاهد وعكرمة ما يدل على نزول هذه الآيات بخصوص معركة بدر الصغرى والتي كانت في شهر شعبان من السنة الرابعة للهجرة الموافق سنة 626 وتسمى :
الأولى : بدر الصغرى .
الثانية : بدر الثانية .
الثالثة : بدر الأخرى .
الرابعة : بدر الموعد .
الثاني : منهم من فرق بين بدر الصغرى وبدر الموعد ، ويقصد ببدر الصغرى التي وقعت على رأس ثلاثة عشر شهراً من الهجرة ، وتسمى أيضاً بدر الأولى وهو الأنسب وسببها إغارة كُرز – بضم الكاف وسكون الراء – بن جابر الفهري على سرح المدينة ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه في طلبه ، حتى بلغ وادياً يقال له سفوان ناحية بدر ولكن كرزاً إنهزم ولم يدركه النبي وأصحابه .
ثم أسلم كرز بن جابر وحسن إسلامه، وبعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتعقب العريين الذين قتلوا راعيه في شهر شوال سنة ست للهجرة وقد تقدم بيانه واستشهد كرز يوم فتح مكة , وكان يرتجز عند القتال .
(قد علمت صفراء من بني فهر …. نقية الوجه نقية الصدر
لأضربن اليوم عن أبي صخر
وكان حبيش يكنى أبا صخر)( ).
نعم إذا ورد لفظ (معركة بدر) مطلقاً فيراد منه معركة بدر الكبرى التي نزل فيها قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) وهو الذي أسماه الله يوم الفرقان .
الثالث : (عن عمرو بن دينار، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استنفر الناس بعد أحد حين انصرف المشركون، فاستجاب له سبعون رجلا، فطلبهم فلقى أبو سفيان عيرا من خزاعة، فقال لهم: إن لقيتم محمدا يطلبني فأخبروه أني في جمع كثير، فلقيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسألهم عن أبي سفيان .
فقالوا: لقيناه في جمع كثير ونراك في قلة ولا نأمنه عليك، فأبى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يطلبه، فسبقه أبو سفيان، فدخل مكة، فأنزل الله تعالى فيهم – الذين استجابوا لله والرسول – حتى بلغ – فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين)( ).
الرابع : (عن ابن عباس ان المشركين يوم أحد لما انصرفوا فبلغوا الى الروحاء حرّض بعضهم بعضا على الرجوع لمقاتلة المسلمين فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فندب أصحابه للخروج فانتدبوا حتى وفوا يعني حمراء الاسد وهي على ثمانية اميال من المدينة فأنزل الله عز وجل الذين استجابوا لله ورسوله من بعد ما اصابهم القرح)( ) .
أي أن ابن عباس لم يذكر اليوم التالي لمعركة أحد كأوان لخروج الصحابة.
الخامس : عن ابن اسحاق في اليوم التالي لمعركة أحد وهو (يَوْمِ الْأَحَدِ لِسِتّ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَوّالٍ أَذّنَ مُؤَذّنُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي النّاسِ بِطَلَبِ الْعَدُوّ فَأَذّنَ مُؤَذّنُهُ أَنْ لَا يَخْرُجَنّ مَعَنَا أَحَدٌ إلّا أَحَدٌ حَضَرَ يَوْمَنَا بِالْأَمْسِ . فَكَلّمَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَبِي كَانَ خَلّفَنِي عَلَى أَخَوَاتٍ لِي سَبْعٍ وَقَالَ يَا بُنَيّ إنّهُ لَا يَنْبَغِي لِي وَلَا لَك أَنْ نَتْرُكَ هَؤُلَاءِ النّسْوَةَ لَا رَجُلَ فِيهِنّ وَلَسْت بِاَلّذِي أُوثِرُكَ بِالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى نَفْسِي ، فَتَخَلّفْ عَلَى أَخَوَاتِك ، فَتَخَلّفْتُ عَلَيْهِنّ .
فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَخَرَجَ مَعَهُ وَإِنّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُرْهِبًا لِلْعَدُوّ وَلِيُبَلّغَهُمْ أَنّهُ خَرَجَ فِي طَلَبِهِمْ لِيَظُنّوا بِهِ قُوّةً وَأَنّ الّذِي أَصَابَهُمْ لَمْ يُوهِنْهُمْ عَنْ عَدُوّهِمْ)( ).
وفي حمراء الأسد جاء معَبد بن أبي معبد الخزاعي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان على الشرك ولكنه ناصح لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للحلف الذي كان بين بني هاشم وبين خزاعة، وهو السبب في إنحياز خزاعة إلى أمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صلح الحديبية .
قال مَعبد : يا محمد ، أما والله لقد عزّ علينا ما أصابك في أصحابك أي سقوط سبعين شهيد في معركة أحد، ثم قال ولوددنا أن الله عافاك ، عندئذ أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يلحق أبا سفيان فيخذّله ويوهنه واصحابه .
ومن مصاديق بعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا أن صفوان بن أمية قال لرؤساء جيش المشركين قبل أن يصل إليهم مَعبد: يا قوم لا ترجعوا وتكروا على المدينة مرة أخرى .
(فإن القوم قد حزنوا وأخشى أن يجمعوا عليكم من تخلف من الخزرج، فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: أرشدهم صفوان وما كان برشيدٍ، والذي نفسي بيده، لقد سومت لهم الحجارة، ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب! فانصرف القوم سراعاً خائفين من الطلب لهم.
ومرّ بأبي سفيان نفرٌ من عبد القيس يريدون المدينة. فقال: هل مبلغوا محمداً وأصحابه ما أرسلكم به، على أن أوقر لكم أباعركم زبيباً( ) غداً بعكاظ إن أنتم جئتموني؟ قالوا: نعم. قال: حيثما لقيتم محمداً وأصحابه فأخبروهم أنا قد أجمعنا الرجعة إليهم، وأنا آثاركم. فانطلق أبو سفيان، وقدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه بالحمراء، فأخبروهم الذي أمرهم أبو سفيان، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل! وفي ذلك أنزل الله عز وجل: ” الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح..الآية. وقوله: ” الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم..”
وكان معبد قد أرسل رجلاً من خزاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يعلمه أن قد انصرف أبو سفيان وأصحابه خائفين وجلين. ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة ) ( ).
السادس : كان عدد الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد سبعين منهم الإمام علي عليه السلام ، وأبو بكر وعمر بن الخطاب ،وعثمان بن عفان والزبير وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبد الله وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان، وأبو عبيدة بن الجراح ، عن ابن عباس( ).
السابع : أخرج ابن مردوية عن أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم(وجه علياً في نفر معه في طلب أبي سفيان، فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال: إن القوم قد جمعوا لكم{قالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} فنزلت فيهم هذه الآية)( ).
والمختار هو الوجه الخامس أعلاه، والمروي عن ابن إسحاق من غير تعارض مع الوجوه الأخرى التي تتداخل معه، أو تتعلق بوقائع في تلك الأيام ذاتها.
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : بيان قانون وهو وجود أمة من المؤمنين بنبوة كل رسول ونبي من عند الله عز وجل .
الثانية : إتصاف المؤمنين الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيام رسالته بأمور:
الأول : تحمل الأذى في جنب الله.
الثاني : الثبات على الإيمان.
الثالث : التصديق بالتنزيل.
الرابع : كثرة عدد صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما من الأنبياء نبي إلا أعطى ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة)( ) .
ويحتمل هذا الحديث وجوهاً:
أولاً : إرادة المهاجرين والأنصار .
ثانياً : المقصود الصحابة والتابعون .
ثالثاً : إرادة عموم أجيال المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة .
رابعاً : المقصود الذين يدخلون الجنة من مؤمني الأمم ، ويكون تقدير الحديث أكثرهم تابعاً في الجنة.
خامساً : صيرورة المسلمين أكثر الأمم في المحشر.
والصحيح هو الثالث والرابع والخامس أعلاه.
الخامس : كان المؤمنون برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيام الهجرة المباركة على قسمين :
أولاً : المهاجرون الذين تركوا أوطانهم ليهاجروا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة.
ثانياً : الأنصار من الأوس والخزرج من أهل يثرب التي صارت تسمى بعد قدومه المبارك لها (طيبة) ( ) لأسباب منها :
أولاً : صيرورة المدينة طيبة مباركة بقدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإقامته فيها .
ثانياً : تحسن طقس ومناخ المدينة المنورة وصيرورة هواءها عذباً .
فإن قلت قد مرض أبو بكر وبلال وعامر بن فهيرة، والجواب من جهات:
الأولى : لقد تكررت حال المرض بالنسبة للصحابة، وصار بعضهم لا يستطيه الصلاة إلا عن قعود، وعن عائشة قالت: لَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، قَدِمَهَا وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللّهِ مِنْ الْحُمّى ، فَأَصَابَ أَصْحَابَهُ مِنْهَا بَلَاءٌ وَسَقَمٌ فَصَرَفَ اللّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ نَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ ، وَبِلَالٌ مَوْلَيَا أَبِي بَكْرٍ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فَأَصَابَتْهُمْ الْحُمّى ، فَدَخَلْت عَلَيْهِمْ أَعُودُهُمْ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ وَبِهِمْ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلّا اللّهُ مِنْ شِدّةِ الْوَعْكِ فَدَنَوْت مِنْ أَبِي بَكْرٍ فَقُلْت لَهُ كَيْفَ تَجِدُك يَا أَبَتْ ؟ فَقَالَ:
كُلّ امْرِئِ مُصَبّحٌ فِي أَهْلِهِ … وَالْمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلَيْهِ
قَالَتْ فَقُلْت : وَاَللّهِ مَا يَدْرِي أَبِي مَا يَقُولُ . قَالَتْ ثُمّ دَنَوْت إلَى عَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ فَقُلْت لَهُ كَيْفَ تَجِدُك يَا عَامِرُ ؟ فَقَالَ
لَقَدْ وَجَدْت الْمَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ … إنّ الْجَبَانَ حَتْفُهُ مِنْ فَوْقِهِ
كُلّ امْرِئِ مُجَاهَدٌ بِطَوْقِهِ … كَالثّوْرِ يَحْمِي جِلْدَهُ بِرَوْقِهِ
بِطَاقَتِهِ فِيمَا قَالَ ابن هِشَامٍ : قَالَتْ فَقُلْت : وَاَللّهِ مَا يَدْرِي عَامِرٌ مَا يَقُولُ قَالَتْ وَكَانَ بِلَالٌ إذَا تَرَكَتْهُ الْحُمّى اضْطَجَعَ بِفِنَاءِ الْبَيْتِ . ثُمّ رَفَعَ عَقِيرَتَهُ فَقَالَ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَن لَيْلَةً … بِفَجّ وَحَوْلِي إذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَن يَوْمًا مِيَاهَ مِجَنّةٍ … وَهَلْ يَبْدُونَ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلٌ
قَالَ ابن هِشَامٍ : شَامَةٌ وَطَفِيلٌ جَبَلَانِ بِمَكّةَ)( ).
الثانية : حصول التحسن والطيب في مناخ المدينة على نحو التدريج .
الثالثة : دعوة المهاجرين والأنصار للدعاء لتطيب ريح المدينة وإصلاح الزراعات فيها .
الرابعة : توجه الصحابة بالشكر لله عز وجل على نعمة طيب المدينة ، وسؤال الله عز وجل إستدامة ودوام هذه النعمة .
السادس : دخول صحابة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ميدان المعارك للقتال ضد الذين كفروا برسالته .
السابع : سقوط الشهداء من الصحابة في كل معركة من معارك الإسلام، وحتى معركة بدر التي إنتصر فيها المسلمون إنتصاراً ساحقاً فقد خلفوا وراءهم ثمانية من الشهداء.
لتأتي هذه الآيات وهي تتضمن الإخبار عن حياتهم عند الله ، فمع أن أسباب نزول قوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ) هم شهداء أحد فالآية أعم في موضوعها ودلالتها ، والمدار على عموم المعنى وليس سبب النزول .
الثامن : إتصاف المهاجرين والأنصار بالخروج للقتال في اليوم الثاني لمعركة أحد مع كثرة جراحاتهم فأكرمهم الله عز وجل بالثناء عليهم في آية البحث.
ثالثاً : طيب تربة المدينة.
رابعاً : صيرورة المدينة محبوبة عند المهاجرين والأنصار وعموم المسلمين بتوالي نزول القرآن فيها، ودعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها إذ قال: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقل حماها فاجعلها بالجحفة)( ).
خامساً : حلول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، وإتخاذه لها مسكناً ووطناً، ومن الآيات تحقق فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، وهي بلد المسجد الحرام، ومحل ولادة وأيام صبا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وموطن آبائه , وبدايات نبوته ونزول الوحي، ولكنه غادرها إلى المدينة.
سادساً : صيرورة المدينة حرم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : من غايات آية البحث شهادتها للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة من عند الله عز وجل ، وفيه دعوة للناس للإستجابة والإمتثال لما يأتي به من عند الله عز وجل وحث لهم على محبته والميل للإنصات له .
ولم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحياة الدنيا إلا وكانت هناك أمة من المؤمنين تستجيب لأوامره سنخية الرسالة ، وتكون شاهداً عليها ، ودعوة للناس للتصديق بها ، فذكرت آية البحث الإستجابة لأمر الله ورسوله بالخروج خلف العدو , وفيه بعث للتحقيق في ماهية الأمر بهذا الخروج ودلالتها وغاياته ، وما فيه من الإعجاز الجلي موضوعاً وحكماً .
وهل هو من مصاديق [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ) الجواب نعم ، فصحيح أنه لم يقع قتال وحرب في مطاردة النبي صلى لله عليه وآله وسلم وأصحابه للذين كفروا إلا أنها كانت غلبة وتحدياً للذين كفروا ، ومن معانيها زجر الذين كفروا عن معاودة الكرة في الهجوم وصد الناس عن نصرة كفار قريش .
الرابعة : من معاني استجابة الصحابة لله ورسوله منع الناس من الإستجابة لرؤساء الكفر والضلالة ، وهو من الإعجاز في السنة النبوية الدفاعية ، وتقدير الآية على وجوه :
أولاً : يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول ليمتنع الناس عن الإستجابة لرؤساء الكفر .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول , ليكف المنافقون عن بث سمومهم .
ثالثاً : يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول , لتفوزوا بالأجر العظيم .
وهل خطر على بال المنافقين أن نزول آية من القرآن تهدم وتدفع ضررهم وأذاهم ، الجواب نعم وإن بعد حين ، وهو من أسباب توبة طائفة منهم ، ومن الأمور التي حالت دون إيذاء أو قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم ، ليكون من إعجاز القرآن ان آية واحدة منهم تغير ما في القلوب وتصلح النفوس ، وتبعث الناس على التوبة والإنابة من النفاق لأنها تجعل الناس يدركون قبحه ولزوم التنزه عنه والإمتناع عن إخفاء الكفر في ذات الوقت الذي يظهرون فيه الإيمان .
الخامسة : الشهادة من عند الله عز وجل للمهاجرين والأنصار بأمور :
بدخول معركة أحد بإيمان صادق ، وذكرت آية البحث استجابة الصحابة لله والرسول في خروجهم خلف العدو لمطاردته وملاحقته وإبلاغه رسالة عملية بأن الإسلام والمسلمين لم ينهزموا في معركة أحد، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام في حال الحرب والسلم ، وهو الذي أمرهم بهذا الخروج .
لقد شاع بين الصفين يوم معركة أحد خبر قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة ، ولو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قتل يومئذ فهل يخرج الصحابة خلف العدو ويطاردونه وهم مثقلون بالجراحات ، الجواب لا ، ليكون من فيوضات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي لواقعة أحد أمور :
أولاً : نزول الوحي من عند الله عز وجل ومجئ جبرئيل وهو يحمل الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج خلف العدو .
ثانياً : صدور الأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة بالنفير .
ثالثاً : قيام منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باعلان العزم على الخروج خلف العدو ليسمع المؤمنون والمؤمنات فيزداد إيمانهم ، ويسمع المنافقون فتمتلأ قلوبهم غيظاً وحقداً ، إذ نادى بلال بالتهيئ للخروج والمبادرة إليه .
وبلال هو مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي قيامه بالدعوى للخروج خلف العدو مسائل :
الأولى : بيان موضوعية وأهمية الخروج خلف العدو .
الثانية : تأكيد صدق الدعوة إلى النفير ، ومنع الشك فيها خاصة وأن حال المهاجرين والأنصار يومئذ صعبة لكثرة جراحاتهم .
الثالثة : إغاظة الذين نافقوا بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا زال حياً وهو يتولى الأمر ، والصحابي الذي يرفع الأذان في المدينة هو الذي يقوم بالنداء والدعوة .
الرابعة : بعث السكينة في نفوس الصحابة وترغيبهم بالنفير ،والإستجابة لله والرسول .
ومن اللطف الإلهي بالناس أن الله عز وجل ينزل الأمر ليقترن بمسائل :
الأولى : الترغيب بالأمر .
الثانية : الندب إلى العمل بمضمون الأمر .
الثالثة : بعث النفرة في النفوس من الإمتناع عن الإستجابة للأمر .
الرابعة : حث العوائل والأهل على تهيئة مقدمات ومستلزمات العمل والإمتثال للأمر .
الخامسة : بعث المؤمنين على الإستجابة والإمتثال .
السادسة : قيام أمة من المؤمنين بالحث على الإمتثال للأمر الإلهي ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
السابعة : وجود أمة في كل زمان تستجيب للأمر الإلهي ، وليس من إنقطاع في هذه الإستجابة ، فحينما قال الله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) فانه تفضل بحضور أوامره بين الناس , وعمل شطر منهم بها ، وهذا العمل حجة على غيرهم ، وترغيب لهم بالعمل .
رابعاً : تأكيد سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإتصال الوحي ونزول جبرئيل عليه وهو نعمة عظمى .
خامساً : بعث الطمأنينة في نفوس الصحابة وأسرهم وذويهم ، فما دام الأمر من الله عز وجل ورسوله فلابد أنه خير محض وأنه أمان ورحمة .
سادساً : تتحقق بحضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإمامته وتقدمه أمام الصحابة في ملاحقة العدو الكافر أبهى مصاديق الإستجابة .
التفسير
قوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ]
لقد إبتدأت آية البحث بالثناء على طائفة من المسلمين استجابوا لله والرسول ، وجاءت الآية بصيغة الماضي [اسْتَجَابُوا]للدلالة على تنجز وتحقق الإستجابة ونزول آية البحث للثناء عليهم وتوثيق سعيهم في رضوان الله، والإمتثال لأوامره وبما يصاحب الأجيال إلى يوم القيامة .
ومن معاني ودلالات آية البحث بعث الشوق في النفوس لأمور :
الأول : معرفة ما يأمر به الله عز وجل وما ينهى عنه .
الثاني : التدبر في قراءة القرآن والتفكر في معانيه ودلالاته .
الثالث : التفقه في أحكام الحلال والحرام .
الرابع : الإحاطة الإجمالية بالسنة النبوية وما أمر به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وما نهى ، عنه قال تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الخامس : السعي للإستجابة لأمر الله عز وجل وأمر رسوله .
السادس : القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ولم تذكر آية البحث النهي وإجتناب المؤمنين لما نهى الله عز وجل عنه .
ومن إعجاز القرآن الذاتي والغيري أنه مدرسة للأجيال ، وفيه إصلاح للنفس الإنسانية ، فيتعاضد تهذيب القول مع إصلاح الأمة معاً ليؤثر كل فرد منهما في الآخر ، وكان منه تقديم سبعين شهيداً في معركة أحد أنفسهم في سبيل الله لم تمنعهم أقاويل المنافقين وما يبثون من الأراجيف لتكون شهادتهم نوع تأديب وإصلاح للأخوة والذراري ، ومن فاته القتل في سبيل الله فيما يأمر به والإمتناع عما ينهى عنه .
ومن الآيات في المقام تعاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لصلاة الجماعة ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ).
تتضمن آية البحث الثناء على المهاجرين والأنصار من جهة خروجهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمطاردة جيش الذين كفروا في اليوم التالي لمعركة أحد .
وهناك مسألتان :
الأولى : هل تلاحق وتطارد آية البحث الذين كفروا في طريق عودتهم إلى مكة.
الثانية : هل نزول وأثر آية البحث من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
أما المسألة الأولى فالجواب نعم ، إذ تخبر آية البحث عن حسن سمت المسلمين ومبادرتهم للدفاع عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واستدامة التنزيل .
وأما المسألة الثانية فقد ساهمت آية البحث وموضوعها في خيبة الذين كفروا وعودتهم نادمين خاسئين ، يجرون أذيال الخزي لم ينالوا من غزوتهم ، وما انفقوا من الأموال إلا الأسى والندامة وأسباب الوهن ، ومن خصائص قريش العمل بالتجارة وجمع الأموال ، ولم يجمعوها إلا عن تعب وشقاء ورحلات إلى الشام وإلى اليمن مع مخاطر الطريق ، ويدل عليه قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) ولأنهم اختاروا الكفر واصروا عليه فلم تلبث هذه الأموال أن ذهبت هباءً منثوراً مع ترتب الإثم على إنفاقها في الحرب على الله ورسوله ، وقد توعد الله عز وجل الذين يكنزون أموالهم من غير أن يخرجوا الحقوق الشرعية بالعذاب ، قال تعالى[وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ]( ) فكيف وقد سخرت قريش أموالها في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجاءت الآيات بذم الذين كفروا في إنفاقهم كما في قوله تعالى[مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
وقد ذم الله عز وجل الذين ينفقون أموالهم للصد والمنع عن سبيل الله، قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ]( ) .
وكان إنفاق كفار قريش في معركة أحد على وجوه منها :
الأول : شراء الأسلحة من السيوف والرماح والدروع , وبيضة الرأس ونحوها .
الثاني : تجهيزات ملابس الجنود .
الثالث : شراء الإبل والخيل ، فقد جاء ثلاثة آلاف رجل من الكفار لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وكان معهم مائتا فرس لم تركب ظهورها طيلة مدة الطريق لتكون جاهزة وقت القتال .
وإلى الآن تقوم بعض القوات بحمل ونقل بعض الأسلحة الثقيلة إلى ساحة المعركة .
الرابع : الإنفاق على ذات الجنود ، وإعطاء مبالغ إلى عوائلهم بلحاظ تعطل أعمالهم مدة الذهاب والإياب من المعركة .
الخامس : كثرة الوعد من كفار قريش للناس ، وكان بعضهم ينتقم ويبطش حالما يرى انقطاعاً مباشراً في رزقه وماله سواء كان المال الذي يملكه، أو الذي يرجو أنه يصل إليه .
السادس : تعطيل قريش لتجارتها بين مكة والشام وبين مكة والمدينة .
ليكون قوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ] ( ) قانوناً يشمل المسلمين والمسلمات الذين يحرصون على أداء الوظائف العبادية في كل الأحوال الذين لا تمنعهم الضراء والبأساء عن تعظيم شعائر الله ، فان قلت إنما ورد قيد الإستطاعة وتحقق الزاد والراحلة في حج بيت الله الحرام ، كما في قوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ) والجواب من جهات :
الأولى : قد تتهئ الإستطاعة مع حال مصيبة وضراء فجاءت الآية أعلاه للندب لأداء الحج مع المصيبة .
الثانية : إذا كان الحج مقيداً بالإستطاعة فان الصلاة تؤدى على كل حال ، ولا يجوز ترك فرض يومي منها لأنها واجب مطلق ومنجز .
الثالثة : أداء الفرائض العبادية سبيل لدفع الأذى والضرر وتخفيف من وطأة المصيبة ، وهو ضياء وأمل ، ومن مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول (يَا بِلَالُ أَرِحْنَا بِالصّلَاةِ) ( ).
أي أذن وناد للصلاة فان فيها قرة العين .
وتدل الآية بالأولوية القطعية على إستجابة المؤمنين لله عز وجل ولرسوله في حال السراء والرخاء من باب الأولوية القطعية ، وقد استجابوا لدعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للخروج من المدينة للقاء العدو الكافر في معركة أحد ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
لتبعث الآية الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا ، فالجروح والقروح تلتئم ويعود الصحابة أكثر قوة وإصراراً على الدفاع ، وتقدير أول آية البحث على وجوه :
الأول : الذين استجابوا لله .
الثاني : الذين استجابوا للرسول .
الثالث : الذين استجابوا لله والرسول .
إبتدأت آية البحث بالاسم الموصول [الذين] وفيه دلالة على إتصال موضوع الآية بالآية السابقة لها .
إذ أختتمت الآية السابقة بالعهد والوعد من عند الله عز وجل بأنه لا يضيع أجر المؤمنين وتحتمل الصلة بين لفظ المؤمنين في خاتمة الآية السابقة ، والاسم الموصول [الذين] وجوهاً :
الأول : نسبة التساوي فبعد أن إبتدأت الآية السابقة بذكر شهداء معركة أحد واستبشارهم بالنعمة والفضل والثواب من عند الله ذكرت آية البحث اخوانهم الذين سلموا من الموت يومئذ ، وبيان قانون وهو أنهم لم يقعدوا إذ خرجوا في اليوم التالي بجراحاتهم خلف العدو ، وهو من مصاديق وأسباب استبشار الشهداء الذي تذكره الاية السابقة .
فقد يسأل الصحابة الذين بقوا أحياء عند أو بعد إنقضاء المعركة ماذا لهم من الأجر والثواب ، خصوصاً وانهم كانوا في معرض القتل والشهادة بما فيهم الذين إنهزموا من المعركة ورجعوا إليها ، وحتى الثلاثة الذين لم يرجعوا إلى المعركة للغة التهديد والبطش التي جاء بها جيش العدو من الكافرين .
وقد يقوم الذين نافقوا رجالاً ونساءً بتعيير الصحابة بأن الله عز وجل فضّل الشهداء بالذكر والحياة عنده والثواب العظيم ، ولم يذكرهم ، أو يقولون إن الله ورسوله لا يرضيان عنكم حتى تقتلون في سبيل الله ، فكان أول الآية السابقة لخصوص الشهداء أما خاتمتها فتشمل عموم المؤمنين ولا تختص بالصحابة الذين قاتلوا في معركة أحد ، لتكون رداً وتبكيتاً للذين نافقوا إلا على القول بحصر المراد من خاتمة الآية السابقة هو أول آية البحث أي خصوص الذين استجابوا لله والرسول في اليوم التالي لمعركة أحد ، حينئذ يبقى الذين خرجوا لمعركة أحد ، وقاتلوا تحت لواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ولكنهم لم يخرجوا إلى حمراء الأسد فتشملهم عمومات ثواب الإيمان والدفاع والقتال في سبيل الله .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وأن لفظ المؤمنين في خاتمة الآية السابقة أعم من الذين استجابوا لله والرسول في حمراء الأسد ، وتقدير الجمع بين الآيتين ( وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ومنهم الذين استجابوا لله والرسول ) بعد الجراحات التي أصابتهم في معركة أحد ، وإذا كان بعض الصحابة لم تصبه جراحة وقرح في معركة أحد فهل تشمله آية البحث ، الجواب نعم من وجوه :
أولاً : المراد كل أفراد جيش المسلمين الذين قاتلوا في معركة أحد ثم خرجوا في اليوم الثاني إمتثالاً وطاعة لأمر الله ورسوله ، ولو كان بعض الصحابة أصابتهم الجروح في غير معركة أحد ، كما لو كانت أصابتهم في معركة بدر أو بعض السرايا فهل تشمله الآية .
الجواب نعم ، وإن كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد حصر الخروج إلى حمراء الأسد بمن حضر معركة أحد .
ثانياً : لقد كانت جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصيبة عند كل مسلم ، وتقدير الآية الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصاب الرسول القرح .
ثالثاً : تجلي معاني الرحمة في آية البحث بصيغة العموم وكفاية الإستجابة لأمر الله ورسوله .
الثالث : إرادة المعنى الأعم للفظ المؤمنين الشامل لكل من :
الأول : المهاجرون والأنصار .
الثاني : المسلمات أيام النبوة .
الثالث : التابعون .
الرابع : تابعوا التابعين إلى يوم القيامة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الجمع بين الآيتين ، وإن كانت النسبة بين هذه المصاديق ذاتها هي العموم والخصوص المطلق .
لقد كانت استجابة الصحابة لله والرسول في ملاحقة ومطاردة جيش الذين كفروا معجزة من جهات :
الأولى : التباين في العدد والعدة , ورجحان الكفة فيها إلى جانب المطارَدين بالفتح وهم الذين كفروا ، وليس المطاردِين بالكسر .
الثانية : كثرة جراحات الصحابة وشدتها مع قلة جراحات جيش الذين كفروا في الجملة ولكنهم إنهزموا وفرّوا أمام جيش المسلمين .
الثالثة : إخبار أهل مكة والقبائل بثبات إيمان المهاجرين والأنصار ، وملاحقتهم الذين كفروا مع كثرة الجراحات التي ألمت بهم .
الرابعة : توبيخ وتبكيت الذين نافقوا وإلقاء الحسرة في نفوسهم لأن السموم التي بثوها لم تضر النبوة والمؤمنين .
الخامسة : بعث الندامة في نفوس أفراد جيش الذين كفروا على استجابتهم لرؤساء الكفر ، وخروجهم معهم إلى معركة أحد لأنهم أحسوا بالعناء في العناد والتعب من هذا السفر من جهات :
الأولى : كثرة عدد جيش الذين كفروا وما يترتب عليها من الصخب والإرباك ، وقلة المؤن وصعوبة التنظيم.
الثانية : طول المسافات ، إذ تبلغ المسافة بين مكة والمدينة نحو ألف كيلو متر ذهاباً وإياباً وكثير من أفراد الجيش إلى مكة من القرى التي حولها ومنهم من خرج من مسكنه والتحق بالجيش في أول الطريق إلى المدينة .
الثالثة : حرمان جيش الذين كفروا من الأسرى والغنائم والسبي ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
الرابعة : إدراك أفراد الجيش في الجملة بأنهم يحاربون النبوة والتنزيل ، ومن أفراد الجيش من كانت معه آية أو آيات قرآنية ، ومنهم من يستمع لها في الطريق من مكة إلى المدينة ، وقد يذكرها بعض رؤساء الكفر على نحو الإستهزاء والإستخفاف ولكن أفراد الجيش يتدبرون في معانيها وهو من إعجاز القرآن ونفاذ المعاني القدسية لكلماته وجمله إلى شغاف القلوب ، لذا فالمختار أن أكثر جيش الذين كفروا لم يقاتلوا في معركة أحد ، وأعرضوا عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهو من أسباب مسارعة رؤساء جيش الذين كفروا بالرجوع إلى مكة ، وإمتناعهم عن الصبر والثبات في حمراء الأسد مثلاً لحين قدوم جيش المسلمين .
الخامسة : تخلف رؤساء الكفر من قريش عن الإيفاء بعهودهم إلى أفراد الجيش بدفع مؤنتهم ومؤونة ونفقة عوائلهم , لأولوية مستلزمات إشتراكهم في القتال لتعطيل تجارتهم بين مكة وقريش ، ومكة واليمن ، ولسنخية الكفار الذين يحاربون النبوة والتنزيل في التقصير بالوفاء بالعهود وإبتلائهم بالموانع دون الوفاء ، وتدبير التاجر , وهو من مصاديق مكر الله بهم ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) ومن مصاديق اسم التفضيل [خَيْرُ] في الآية أعلاه أن تلك الموانع رحمة بالمسلمين لسلامتهم من كيد الذين كفروا وصرف مكرهم عنهم ، وتخفيف من أوزار الذين كفروا ودعوتهم للتدبر والتوبة والإنابة .
لقد وصلت قافلة أبي سفيان إلى مكة سالمة قبل معركة بدر ، وتتألف من ألف بعير محملة بالبضائع ومنها الذهب والفضة ، وأجمعت قريش على توظيفها في معركة أحد ، مما يدل على ظهور العجز والنقص في رؤوس أموال قريش في التجارة وتراكم الديون عليهم في الشام واليمن .
ولا يختص هذا النقص بأموال رؤساء الكفر والضلالة إنما يشمل أموال عموم قريش رجالاً ونساءً ، فمثلاً كانت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد تعمل بالتجارة وتضارب بأموالها ، وكان عمل النبي في تجارتها سبباً في زواجه منها ، ثم ما لبثت أن ذهبت أموالها في سبيل الله ولاقت الشدة والضراء في حصار قريش لأهل البيت في شعب أبي طالب .
ولم تمر الأيام والسنون حتى أبتلي عموم أهل مكة بالنقص في الأموال لمحاربتهم النبوة مع التباين في الموضوع والأثر ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] ( ).
السادسة : نزول آيات قرآنية بخصوص معركة أحد يتجلى فيها الإعجاز، وتتصف بمخاطبة الذين اشتركوا بالقتال من وجوه :
الأول : بعث الغبطة والسعادة في قلوب المهاجرين والأنصار .
الثاني : البشارة للمؤمنين بالتوبة والمغفرة والأجر العظيم .
الثالث: ذم وتوبيخ الذين كفروا وتكذيبهم فيما يدّعون من النصر في معركة أحد ، ويدل عليه قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) للتباين بين العودة من النصر وبين الخيبة .
الرابع : تفضل الله عز وجل بنزول آية البحث التي اختصت بالمدح والثناء على الصحابة الذين استجابوا لله والرسول وركبوا الجياد والإبل لملاحقة جيش الذين كفروا مع أنهم رأوا كثرته والأسلحة التي معهم وشدة بأسهم في القتال فلم يترددوا في مطاردتهم التي تتضمن رجحان ملاقاتهم وقتالهم من جديد خاصة وأنهم ندموا على الإنسحاب المبكر من معركة أحد ،وعدم تحقق أي غاية جاءوا من أجلها .
ومن الإعجاز حدوث التلاوم بين رؤساء جيش الذين كفروا على هذا الإنسحاب مع أن الأصل هو إتفاقهم على الإنسحاب يوم معركة أحد ، والتعجيل بهذا الإنسحاب فلا عبرة لهذا التلاوم اللاحق على الإتفاق بالتقهقر والإنسحاب .
ثم جاءت مطاردة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لجيش الذين كفروا لتؤكد بقاء جيش الذين كفروا على العزم على الرجوع إلى مكة والرضا بهذا الرجوع لولا الخوف الذي بعثه الله في نفوسهم والذي يأتي من وجوه :
الأول : الخوف الإبتدائي بأن يقذفه الله في قلوب الذين كفروا .
الثاني : بلوغ نبأ خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلف العدو .
الثالث : استحضار جيش المشركين للشواهد التي تدل على حضور وقتال الملائكة في معركة بدر وأحد ، وبخصوص معركة بدر ورد عن ابن عباس قال : بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ إذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتُ الْفَارِسِ فَوْقَهُ يَقُولُ أَقْدِمْ حَيْزُومَ إذْ نَظَرَ إلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ مُسْتَلْقِيًا ، فَنَظَرَ إلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ وَشُقّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السّوْطِ فَاخْضَرّ ذَلِكَ أَجْمَعُ فَجَاءَ الْأَنْصَارِيّ فَحَدّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ صَدَقْتَ ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السّمَاءِ الثّالِثَةِ) ( ).
الرابع : حال الخوف والفزع عند المشركين توليدية ليكون خوف احدهم في إزدياد حتى يستولي على قلبه وجوارحه ، ويبثه إلى غيره ليكون كالمرض المعدي .
الخامس : مناجاة جيش المشركين بأسباب الخوف لترجله طوعاً وقهراً من القلب إلى حاسة النطق وحاسة السمع ، إذ يميل أحدهم إلى سماع ما يبث الخوف في نفوسهم ، وفي التنزيل [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
لقد أخبرت آية البحث عن استجابة المهاجرين والأنصار لله ورسوله بالخروج إلى حمراء الأسد في اليوم الثاني لواقعة أحد ، وفي هذا الإخبار وموضوعه ثناء عليهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو إمامهم في هذا الخروج ، ليكون هو أول مستجيب لله عز وجل في المقام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ] ( ) وبلحاظ آية البحث يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استجاب لأمر الله بالخروج ، فيكون النبي في المقام مُستجيباً ومستجاباً له .
وفي آية البحث اشارة إلى تأسيس نظام السرايا في الإسلام ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقوم ببعث السرايا للدفاع ، ليصدق على أفرادها أنهم استجابوا لله والرسول ، إذ أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدها بثلاثة شهور سرية إلى بني أسد وجعل أميرها ابا سلمة بن عبد الأسد وهو الذي أرضعته ثويبة جارية أبي لهب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحمزة بن عبد المطلب ، وكان قد جرح يوم أحد جرحاً بليغاً ثم اندمل ثم انتفض فمات منه (لثلاث مضين لجمادى الآخرة سنة ثلاث من الهجرة وتزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم امرأته أم سلمة رضي الله عنهما) ( ).
وتبين آية البحث قانوناً وهو أن أمر الغزوات وبعث السرايا من عند الله عز وجل ، وليس من عند النبي محمد صلى الله عليه وآله .
وفي طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد ظفر بأبي عزة وهو شاعر وكان قد خرج مع قريش إلى معركة بدر ، ووقع في الأسر ، فقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : أني رجل فقير وذو عيال وحاجة ، فامنن عليّ صلى الله عليك .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بفقره وفاقته وكثرة عياله وأنه لا طاقة له على دفع البدل لفكاكه من الأسر .
فمنّ عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأطلق سراحه من غير بدل على أن لا يعود مع قريش ولا يؤلب الناس ضد الإسلام والنبوة (قال أبو عزة: أعطيك موثقاً لا أقاتلك ولا أكثر عليك أبداً) ( ) ، ويدل هذا الحديث بالدلالة التضمنية على الظن النوعي العام بأن قريشاً تسعى لقتال النبي وأصحابه وتحريض القبائل عليهم .
وهل قام أبو عزة يومئذ بمدح الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجواب نعم ، وبيّن فضله على قومه والشهادة له بالرسالة إذ قال :
(مَنْ مُبَلّغٌ عَنّي الرّسُولَ مُحَمّدًا … بِأَنّك حَقّ وَالْمَلِيكُ حَمِيدُ
وَأَنْتَ امْرِئِ وَتَدْعُو إلَى الْحَقّ وَالْهُدَى … عَلَيْك مِنْ اللّهِ الْعَظِيمِ شَهِيدُ
وَأَنْتَ امْرِئِ بُوّئْت فِينَا مَبَاءَةً … لَهَا دَرَجَاتٌ سَهْلَةٌ وَصُعُودُ
فَإِنّك مَنْ حَارَبْته لَمُحَارَبٌ … شَقِيّ وَمَنْ سَالَمَتْهُ لَسَعِيدُ
وَلَكِنْ إذَا ذُكّرْت بَدْرًا وَأَهْلَهُ … تَأَوّبَ مَا بِي : حَسْرَةٌ وَقُعُودُ) ( ).
فلما أخذ كبار رجالات قريش بالإستعداد لمعركة أحد(قال له صفوان بن أمية يا ابا عزة انك رجل شاعر فأعنا بلسانك فاخرج معنا فقال ان محمداً قد من على فلا اريد ان اظاهر عليه قال بلى فأعنا بلسانك) ( ).
فتمنع أبوعزة في بادئ الأمر ، وأعتذر بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم منّ عليه واشترط عليه عدم المظاهرة عليه وأنه يخشى تكرار الهزيمة وقتله أو وقوعه بالأسر مرة أخرى .
فالح عليه صفوان بن أمية ووعده بأنه اذا قتل أن يضم بناته إلى عياله ويشاركنهم حال اليسر والعسر ، ووعده بأنه إذا بقي حياً فانه يعطيه مالاً كثيراً ، فأبى أبو عزة ، وفي اليوم الثاني جاءه صفوان بن أمية ومعه جبير بن مطعم ، فاعاد صفوان عليه الكلام ، فاعتذر منه بالعهد الذي قطعه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال له جبير : ما كنت أظن أني أعيش حتى يمشي اليك أبو وهب في أمر وتأبى عليه أي أن مقام صفوان أكبر من أن ترده وتعتذر منه .
ولم يعلم أن المدار على الإيمان وأن صفوان خسر شأنه ومنزلته بالإصرار على الكفر ومحاربة الإسلام ، حينئذ أجاب ابو عزة بالموافقة : (فخرج في العرب يجمعها، وهو يقول:
يا بني عبد مناة الرزام … أنتم حماةٌ وأبوكم حام
لا تسلموني لا يحل إسلام … لا تعدوني نصركم بعد العام
قال: وخرج معه النفر فألبوا العرب وجمعوها، وبلغوا ثقيفاً فأوعبوا فلما أجمعوا المسير وتألب من كان معهم من العرب وحضروا وقد تقدم ذكر نساء المشركين اللائي حضرن معركة أحد في مقدمة هذا الجزء، اختلفت قريش في إخراج الظعن معهم
( قال صفوان بن أمية: اخرجوا بالظعن، فأنا أول من فعل، فإنه أقمن أن يحفظنكم ويذكرنكم قتلى بدر، فإن العهد حديث ونحن قوم مستميتون لا نريد أن نرجع إلى دارنا حتى ندرك ثأرنا أو نموت دونه .
فقال عكرمة بن أبي جهل: أنا أول من أجاب إلى ما دعوت إليه. وقال عمرو بن العاص مثل ذلك، فمشى في ذلك نوفل بن معاوية الديلي .
فقال: يا معشر قريش هذا ليس برأي، أن تعرضوا حرمكم عدوكم، ولا آمن أن تكون الدائرة لهم، فتفتضحوا في نسائكم، فقال صفوان بن أمية: لا كان غير هذا أبداً! فجاء نوفل إلى أبي سفيان فقال له تلك المقالة، فصاحت هند بنت عتبة: إنك والله سلمت يوم بدر فرجعت إلى نسائك، نعم، نخرج فنشهد القتال، فقد ردت القيان من الجحفة في سفرهم إلى بدر فقتلت الأحبة يومئذٍ .
قال أبو سفيان: لست أخالف قريشاً، أنا رجلٌ منها، ما فعلت فعلت، فخرجوا بالظعن)( ).
(فَخَرَجَ أَبُو عَزّةَ فِي تِهَامَةَ ، وَيَدْعُو بَنِي كِنَانَةَ وَيَقُولُ .
إيهًا بَنِي عَبْدِ مَنَاةَ الرّزّام … أَنْتُمْ حُمَاةٌ وَأَبُوكُمْ حَامْ
لَا تَعْدُونِي نَصّرَكُمْ بَعْدَ الْعَامِ … لَا تُسْلِمُونِي لَا يَحِلّ إسْلَامْ) ( ).
وظفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأبي عزة بحمراء الأسد ،
فقال : يا محمد أقلني .
فقال النبي : لا والله لا تمسح عارضيك بمكة وتقول : خدعت محمداً مرتين .
ثم أمر عاصم بن ثابت فضرب عنقه .
وقال سعيد بن المسيب فيه ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ، وصحيح أن هذا القول لم يسمع من قبل من غير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن بعضهم ضعف ورود الحديث في هذه المناسبة ، ولا مانع من تكراره لوحدة الموضوع في تنقيح المناط وعمومات المثل .
وتعدد الشواهد الموافقة له ، وفي التنزيل [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]( ).
لقد استجاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأمر الله عز وجل بالخروج إلى معركة أحد ، ثم استجاب لأمره تعالى بالخروج بجراحاته في اليوم التالي إلى حمراء الأسد ومعه الصحابة طائعين لأمر الله عز وجل ، فخلّدهم وأثنى عليهم الله عز وجل بآية البحث .
وهل كان موضع حمراء الأسد مقصوداً بالذات والتعيين من أول المسير ، الجواب لا دليل عليه ، وتلك آية في جهاد وصبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الذين لا يعلمون هل سيستمر مسيرهم وزحفهم أم أنه يتوقف .
وجاءت الآية التالية بعبئ وثقل آخر مستحدث وهو إخبار الناس للنبي وأصحابه بأن الجيوش التي قاتلتهم في معركة أحد يتهيأون للكرة على المدينة من قبل أن يرجعوا إلى مكة وقبائلهم ، إذ أن هذا الرجوع سبب لتفرقهم ويلزم القادة والرؤساء منهم الوقت والمال والجهد الشاق لجمعهم (عن ابن عباس قال : استقبل أبو سفيان في منصرفه من أحد عيراً واردة المدينة ببضاعة لهم ، وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبال فقال : إن لكم عليّ رضاكم إن أنتم رددتم عني محمداً ومن معه ، إن أنتم وجدتموه في طلبي أخبرتموه أني قد جمعت له جموعاً كثيرة ، فاستقبلت العير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له : يا محمد إنا نخبرك أن أبا سفيان قد جمع لك جموعاً كثيرة ، وأنه مقبل إلى المدينة ، وإن شئت أن ترجع فافعل . فلم يزده ذلك ومن معه إلا يقيناً { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } فأنزل الله { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا . . . } الآية .) ( ) .
أي أن خاتمة الآية التالية توثيق سماوي للقول الحسن للصحابة الذين استجابوا لله والرسول ، وهذا من مصاديق الشكر العاجل من الله لهم على استجابتهم لله والرسول .
وفي تفسير آية البحث قال قتادة (ذاك يوم أحد بعد القتل والجراحة وبعد ما انصرف المشركون أبو سفيان وأصحابه قال نبي الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه: ألا عصابة تشدد لامر الله فتطلب عدوها فإنه أنكى للعدو وأبعد للسمع، فانطلق عصابة على ما يعلم الله من الجهد حتى إذا كانوا بذي الحليفة جعل الاعراب والناس يأتون عليهم، فيقولون هذا أبو سفيان مائل عليكم بالناس، فقالوا: حسبنا الله ) ( ).
وورد عن عائشة في الآية أنها قالت لعروة (يا ابن أختي كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد ما أصاب وانصرف عنه المشركون، خاف أن يرجعوا، فقال: من يذهب في أثرهم، فانتدب منهم سبعون رجلا كان فيهم أبو بكر والزبير.)( ).
والمختار خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي للمعركة مع أصحابه خلف العدو , ووردت فيه أخبار مستفيضة .
لقد جعلت آية البحث الإستجابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعرض واحد مع الإستجابة لله عز وجل مع التباين الموضوعي بلحاظ أن الرسالة والنبوة لطف خاص وعام من عند الله ، فهو خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعام بالناس جميعاً ، انتفع منه المسلمون الإنتفاع الأمثل .
وعن الإمام علي بن الحسين عليه السلام (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ترفعوني فوق حقي فإن الله اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا)( ).
تبين آية البحث خصلة كريمة يتصف بها الصحابة الذين خرجوا إلى حمراء الأسد وهي استجابتهم وامتثالهم لأوامر الله ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : الذين استجابوا لأوامر الله .
الثاني : الذين استجابوا لأمر الله في طاعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث: الذين استجابوا لأمر الله في إقامة الصلاة واتيان الزكاة ، قال تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ).
الرابع : الذين استجابوا لأمر الله في أداء فريضة الحج ، ومن الإعجاز في المقام أن وجوبه لم ينحصر بالمسلمين إنما هو عام ويتوجه فيه الخطاب التكليفي إلى الناس جميعاً ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً]( ).
ليكون من معاني الإستجابة في المقام : الذين استجابوا لله من بين الناس ) .
الخامس : الذين استجابوا لله فورثت منهم أجيال المسلمين سنن الإستجابة ، وهل يأتيهم ثواب بسبب محاكاة وتقليد أجيال المسلمين لهم في وجوب الإستجابة للأمر من الله ومن رسوله ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق خاتمة الآية السابقة [وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
ويحتمل أوان نعت الصحابة بصفة الإستجابة وجوهاً :
الأول : إرادة استجابة المهاجرين والأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الفرائض والعبادات .
الثاني : المقصود خروج الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد.
الثالث : صبر المهاجرين والأنصار وإعراضهم عن دعوة الذين نافقوا بالإنسحاب ، إذ إنخزل ثلاثمائة منهم وسط الطريق إلى معركة أحد .
إذ قال عبد الله بن أبي سلول رأس النفاق (والله ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس ! فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه من أهل النفاق وأهل الريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، أخو بني سلمة، يقول: يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند ما حضر من عدوهم ! قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم؛ ولكنا لا نرى أن يكون قتال، فلما استعصوا عليه، وأبوا إلا الانصراف عنه ، قال: أبعدكم الله أعداء الله ! فسيغني الله عنكم) ( ).
لقد قام المنافقون بأمور تؤدي إلى التخاذل في ذات الموضع وسط الطريق إلى معركة أحد وهي :
الأول : المناجاة بالرجوع من وسط الطريق .
الثاني : بيان علة الرجوع وهو الظن بعدم وقوع قتال وأن الذهاب إلى محيط جبل أحد أمر زائد ، وفيه تعب ومشقة .
الثالث : الرجوع من وسط الطريق بثلث جيش المسلمين .
الرابع : الإصرار على خذلان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ويحتمل انتساب الثلاثمائة الذين رجعوا من وسط الطريق وجوهاً :
الأول : أنهم من المهاجرين والأنصار على نحو التساوي .
الثاني : أنهم من المهاجرين والأنصار ، ولكن عدد الأنصار هو الأكثر .
الثالث : أنهم من المنافقين وليسوا من المهاجرين أو الأنصار .
والمختار هو الأخير أعلاه ، وهل يحتمل وجود مهاجرين معهم الأقوى لا، لذا ورد قوله تعالى في ذم المنافقين قبل أربع آيات[الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( )ويلحق الذين رجعوا من وسط الطريق بالذين قعدوا ويصدق عليهم هذا العنوان لأنهم امتنعوا عن حضور معركة احد مع انها دفاعية محضة ، وفيها دفاع عنهم وعن عوائلهم وأموالهم .
ليكون من معاني الإحسان في آية البحث [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ] ( ) أي أحسنوا للذين نافقوا وعوائلهم بالدفاع عنهم ، والخروج خلف جيش المشركين لدرء ودفع الضرر عن أشخاص المنافقين وأهليهم ، لأن الكافر الغازي إذا دخل المدينة لا يميز بين المؤمن والمنافق ، كما يشهد الذين في قلوبهم مرض على ذات المنافق بأنه كان يحضر الصلوات الخمسة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
بحث بلاغي
من ضروب البلاغة التفريق والتقسيم ، وجمع المؤتلف والمختلف ، كما لو ورد مدح لطرفين ثم اقتضى الأمر ترجيح أحدهما فيأتي المتكلم بمعان أخرى يستقل بها تخالف ما تقدم من التسوية .
والتقسيم هو جعل الشيء أقساماً ، كل فرد منها قسيم للأخُر ، وقد تكون من الكلي المتواطئ الذي تكون أفراده متساوية كتقسيم قطعة أرض تركة بين أخوة من الذكور بالتساوي ، أو من الكلي المشكك الذي تكون افراده مختلفة ومتباينة مثل الكلمة : اسم وفعل وحرف .
وقد يكون من الكلي المتواطئ والمشكك بذات الوقت بحسب اللحاظ ، كما في تقسيم السورة القرآنية إلى آيات متعددة فهي من جهة القرآنية والصفة كل واحدة آية مستقلة بين فاصلتين من الكلي المتواطئ.
وأما من جهة عدد الكلمات فهي من الكلي المشكك لأن كلمات كل آية من السورة تختلف في عددها وحروفها ولفظها عن الآية الأخرى ، وهو من إعجاز القرآن، وحتى الآيات التي تتشابه فيها الكلمات مثل[فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ]( ) والتي وردت إحدى وثلاثين مرة في سورة الرحمن فانها تتشابه في اللفظ ولكنها تختلف على نحو الجهة والموضوع في المعنى بلحاظ نظم الآيات ولغة الإحتجاج فيها .
وأما التفريق فهو الفصل والقطع بين شيئين أو أكثر ، وفي الطلاق ، قال تعالى[وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ]( ).
وقد جاءت آية البحث بالثناء على المهاجرين والأنصار مع بيان علة وموضوع هذا الثناء ، ليكون هذا البيان من مصاديق قوله تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) .
وليكون من إعجاز الآية أعلاه وما فيها من الإطلاق عدم إنحصار البيان والتوضيح بالأيام السابقة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إنما تشمل أيام النبوة وما لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه من الأذى وكيف واجهوا عدوان وظلم الكفار والمنافقين ، إذ يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة لملاقاة جيش الذين كفروا الذي أطل على المدينة المنورة وإن لم يخرجوا لملاقاته فانه يقتحم المدينة مع وجود المنافقين وبعض من أهل الكتاب الذين فيها .
فجاءت الآيات السابقة لتبين أحداث واقعة أحد ، وتتضمن الإخبار عن علوم الغيب فيما يخص حياة الشهداء عند الله عز وجل .
علم المناسبة
ورد لفظ [اسْتَجَابُوا] بصيغة المفرد ثلاث مرات تبين مجتمعة ومتفرقة فضل الله عز وجل في الإستجابة للدعاء والمسألة ، إذ وردت واحدة بخصوص النبي يوسف عليه السلام بقوله تعالى [فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ] ( ).
وجاءت اثنتان في استجابة الله عز وجل للمسلمين والمسلمات (عن أم سلمة قالت : آخر آية نزلت هذه الآية { فاستجاب لهم ربهم } إلى آخرها)( ).
وفي معركة بدر حيث كانت القلة في عدد وعدة جيش المسلمين ظاهرة تضرعَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله وإجتهد بالدعاء حتى سقط رداؤه فنزل قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
وورد لفظ [اسْتَجَابُوا] أربع مرات في القرآن وأولها في نظم القرآن الذي ورد في آية البحث .
ووردت ثلاثة منها في الثناء على المسلمين لإستجابتهم لله عز وجل منها قوله [وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ] ( ) لبيان إصرار الذين كفروا على الجحود والضلالة لبيان الإستجابة للحق وبراهين الهدى والرشاد منزلة عظيمة فاز بها المسلمون ، وأراد الله عز وجل التخفيف عنهم وعدم الإنشغال بدعوى الذين كفروا ، ولكن استجابة المسلمين لله عز وجل دعوة للناس للتوبة والإنابة .
قانون الإجابة النبوية
من الإعجاز في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنه لم يمتنع عن تكرار الأمر , والإجابة عن السؤال المتكرر في ذات الموضوع , مع وقوع معجزة أخرى في المقام وهي عدم وجود تعارض أو تضاد بين أجوبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من معاني ومصاديق ورود قوله تعالى [وَيَسْأَلُونَكَ] خمس عشرة مرة في القرآن هو تأكيد نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الأسئلة من جهات :
الأولى : تعدد مواضيع أسئلة المسلمين وأهل الكتاب وغيرهم .
الثانية : من الأسئلة ما كانت للتحدي , وإرادة كشف صدق النبوة .
الثالثة : نزول الوحي من عند الله عز وجل ليتضمن الإجابة التي تتصف بالتمام والكمال .
الرابعة : تسليم السائل بصدق الإجابة .
الخامسة :تفضل الله بتوثيق الأسئلة في القرآن , وقد يأتي السؤال والإستفهام بصيغة القول ، وفي التنزيل [وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا] ( ) نعم النسبة بين [يَقُولُونَ] و [يُسْأَلُونَ] في المقام هي العموم والخصوص المطلق .
السادسة : إنتفاع أجيال المسلمين والناس من ذات الأسئلة من وجوه :
الأول : موضوع ذات السؤال , ولابد من تأليف كتاب خاص من جهتين :
الأولى : كتاب يجمع الأسئلة التي وجهت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وتكون على وجوه :
أولاً : الأسئلة التي وردت في القرآن ، سواء بلفظ [ َيَسْأَلُونَكَ] أو غيره كما في قوله تعالى [وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ] ( ).
ومن السؤال ما يكون بصيغة المناجاة ، وفي قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدّموا بين يدي نجواكم صدقة}( ) قال ابن عباس: وذلك أنّ الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأكثروا،
حتى شقّوا عليه وأحفوه بالمسألة فأدبّهم الله سبحانه وفطّنهم عن ذلك بهذه الآية،
وأمرهم أن لا يناجوه حتى يقدّموا صدقة ( ).
ثانياً : الأسئلة التي وردت في أخبار السنة النبوية وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ذكر ذات الأسئلة .
ثالثاً : تفضل الله عز وجل بالإجابة على السؤال الذي يوجه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله تعالى [قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا * تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا]( ).
الثاني : الإنتفاع من إجابات النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الأسئلة لأنها من سنخ الوحي , ومن الأسئلة ما لا يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإجابة عليها إلا بعد أن ينزل جبرئيل بها , ليكون من خصائص صفات نبوته صلى الله عليه وآله وسلم كثرة الأسئلة التي وجهت له ، ونزول جبرئيل بالوحي الخاص , وهو غير ما كان ينزل عليه من القرآن .
الثالث : من الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد يشير على السائل بالرجوع إلى آيات القرآن, إذ يأتي الجواب الخاص على السؤال من عند الله سبحانه , ويستشهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه بآية من القرآن وهذا الإستشهاد علم مستقل, وفيه ترغيب للمسلمين باللجوء إلى القرآن والصدور عنه في أمور الدين والدنيا، وفيه تنمية لملكة الرجوع إلى القرآن وإستحضار الآيات المناسبة للسؤال والجواب عليه، وسيأتي في الجزء التالي وهو الجزء الواحد والستون بعد المائة (قانون إستشهاد النبي بالقرآن)( ).
ومن الآيات في المقام أن الإجابة بالقرآن حجة دامغة وبرزخ دون الخلاف والفرقة بين المسلمين .
لقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن الله عز وجل آتاه من الوحي ضعف ما ورد في القرآن من جهة عدد الكلمات ليكون أضعافاً بخصوص الدلالة والحكمة .
(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : هل في الآيات القرآنية ترغيب بالتوجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسؤال .
الثانية : هل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحث على التوجه إليه بالسؤال .
أما المسألة الأولى فان الآية القرآنية تفيد التفكر وتدعو إلى التدبر والتحقيق , وترغب بالسؤال وتحصيل التفصيل ، فمن خصائص الآية القرآنية أنها نور ونوع حكمة يقذفها الله في القلوب , وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) فكل آية قرآنية تهدي إلى الصراط , وتمنع من الضلالة والغواية .
وهناك علم مستقل اسمه ( مختصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) لبيان ما ينفرد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأفعال والأحكام منها تعدد أزواجه بما زاد على الأربعة , ومنها أنه يرى من خلفه مثلما يرى من أمامه.
ومنها أن أجوبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي ,وأن جبرئيل عليه السلام ينزل عليه بالوحي عند توجيه المسلمين وغيرهم السؤال له وفيه حث للمسلمين والناس على جعل موضوعية لأجوبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإتخاذها منهاجاً في العمل .
وأما المسألة الثانية فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحث المسلمين على سؤاله , وإستقراء المسائل من السنة النبوية ، ويجيبهم إبتداءاً بما يدور في نفوسهم من الأسئلة ، وهو من الإعجاز في نبوته ونزول الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيان المسائل , ومن مصاديق ومقدمات حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين على سؤاله حسن سمته وتواضعه وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
ومن معانيه إنك على خلق عظيم ليسألك المسلمون والناس جميعاً بخصوص التوحيد والنبوة والتنزيل وكيفية أداء الفرائض , وعن اليوم الآخر .
ومن مختصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ آية البحث مسائل:
الأولى : إقتران الإستجابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإستجابة لله عز وجل ، قال تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ] ( ).
الثانية : دلالة الآية على الثناء والمدح للذين يستجيبون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم , فلم يرد في القرآن ما يدل على الأمر بالإستجابة لغير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمطاردة العدو مع كثرة جنوده , وقلة عدد أصحابه وكثرة جراحاتهم ، وكثرة جنود العدو ، ورجوعه بالزهو ودعوى إدعاء النصر في المعركة .
الرابعة : عدم ملاحقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للعدو الكافر إلا بالوحي , والأمر من الله عز وجل ولولاه لقال بعضهم الأولى أن يمتنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخروج بأصحابه خلف العدو , لكثرة جراحاتهم , وظهور القروح على أبدانهم ، لتكون مكرمة خاصة للصحابة بأنهم يعملون بالوحي ، وأن الوحي كان يقصدهم بالذات.
الخامسة : من مختصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدد بنزول الملائكة وقيامه بالوعد للمسلمين بنزولهم , وهذا الوعد من الوحي ، وفي التنزيل [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
ولا يختص المدد من الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص الملائكة ، إذ يبعث الله عز وجل الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا ، قال تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
السادسة : من مختصات النبي إستجابة المهاجرين والأنصار له مع شدة الآلام التي يحسون لأن هذه الإستجابة فرع الوحي .
السابعة : توثيق القرآن لإصابة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجروح والقروح , وليس في القرآن ذكر لصحابة أحد الأنبياء بندبهم مع الإصابة , نعم ورد بخصوص جهاد أصحاب الأنبياء قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ).
الثامنة : إختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة أصحابه إلى القتال في اليوم الثاني لمعركة أحد مع كثرة جراحاتهم وهو شاهد على أمور :
الأول : كثرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأنبياء .
الثاني : تحلي أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر مع كثرة جراحاتهم .
الثالث : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأغلب أصحابه من القتل مع كثرة أفراد العدو , وتهديدهم ووعيدهم , وإصرارهم على إستئصال المسلمين .
الرابع : نجاة ووقاية وعصمة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأسر ، فمع قلة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر فإنهم قتلوا سبعين وأسروا سبعين من جيش المشركين الذي هو أكثر من ثلاثة أضعاف جيش المسلمين ، ولم يقع أي واحد منهم في الأسر.
وفي الإستجابة أطراف :
الأول : المستجاب له .
الثاني : المستجيب وهو الذي يقوم بالإستجابة .
الثالث : موضوع الإستجابة .
وتكون الإستجابة على وجوه :
الأول : التفاوت في مصاديق الإستجابة لتكون من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متعددة قوة وضعفاً , سواء بخصوص الأفراد أو موضوع ومقدار الإستجابة .
الثاني : الإستجابة التامة , وتكون من الكلي المتواطىء الذي يكون على مرتبة واحدة .
الثالث: الإستجابة بحسب الحال والشأن والقدرة ، قال تعالى [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا]( ).
الرابع : الإستجابة الناقصة والمبتورة .
ولو دار الأمر في إستجابة المسلمين لله والرسول وبين الوجوه أعلاه , فالوجه الثاني هو الصحيح , لأمور :
الأول : أصالة الإطلاق والتمام , وعدم الرجوع إلى الناقص إلا مع الدليل وهو مفقود في المقام .
الثاني : إخبار آية البحث عن إستجابة المؤمنين لله والرسول من غير تقييد في كيفية هذه الإستجابة ، وفي التنزيل [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
الثالث : بيان آية للأجيال والتأريخ وهي إستجابة وإمتثال المهاجرين والأنصار لله والرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع كثرة جراحاتهم وأسباب الفزع والخوف , لتدل الآية بالدلالة التضمنية على إستجابتهم لله والرسول في حال الصحة والأمن .
الرابع : دلالة أسباب نزول وموضوع آية البحث على الإستجابة التامة من قبل الصحابة لله والرسول , فليس بين معركة بدر وبين الإستجابة لنداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا يوم واحد .
ولم يرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يخرج معه غير الذين إشتركوا بمعركة أحد , الأمر الذي يبعث على التحقيق والإستقراء .
فقد يسأل سائل لماذا حصر وقيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخروج معه إلى حمراء الأسد بالذين حضروا معركة أحد تحت لوائه , الجواب من وجوه :
الأول : هذا الحصر والتقييد فرع الوحي , فلم يمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير الذين حضروا أحداً من الخروج معه إلا بالوحي من الله عز وجل.
الثاني : إرادة حصر الثناء الوارد في آية البحث بالمجاهدين المدافعين عن بيضة الإسلام في معركة أحد .
الثالث : إفادة المعنى الأعم للإستجابة لله عز وجل وشمول تلبية الصحابة نداء الخروج إلى معركة أحد بالإستجابة الواردة في آية البحث ، وتقديرها على وجوه :
أولا : الذين إستجابوا لله والرسول في الخروج إلى معركة أحد .
ثانياً : الذين إستجابوا لله والرسول يوم أحد فتلقوا الجراحات وأصابتهم القروح .
ثالثاً : الذين إستجابوا لله والرسول يوم أحد وهم مستعدون للخروج للنفير والقتال في اليوم التالي .
رابعاً : الذين إستجابوا لله والرسول بفضل ولطف من الله عز وجل الذي يقرب العباد لسبل الطاعة ، وفي التنزيل [وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ] ( ) .
خامساً : الذين إستجابوا لله والرسول للخروج خلف العدو بعد إستجابتهم لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للنفير إلى معركة أحد .
سادساً : الذين إستجابوا لله والرسول في معركة أحد ، وفي الخروج في اليوم الثاني إلى حمراء الأسد مع أن ثلث جيش المسلمين إنخزل وسط الطريق إلى معركة أحد بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول .
الرابع : إستنباط قانون من آية البحث وهو أن تكرار الإستجابة لله والرسول وفي أشد الأحوال سبب لنزول الثناء والمدح من الله عز وجل ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ]( ).
الخامس : إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إرسال رسالة إلى الذين أشركوا بأن المهاجرين والأنصار يدافعون كل يوم عن النبوة والتنزيل مع الجراحات الشديدة التي ألمت بهم .
السادس : إقامة الحجة على الذين نافقوا , وقد تقدم قبل أربع آيات بأن الذين نافقوا يوجهون اللوم لشهداء معركة أحد بأنهم قتلوا لعدم طاعتهم لهم , لقوله تعالى: [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ).
فأخبرت آية البحث عن إستجابة الأحياء من الصحابة للنفير في اليوم الثاني لمعركة أحد الذي يدل بالدلالة التضمنية على إستعدادهم للقتل في سبيل الله , وهذا الإستعداد إحتجاج عملي على الذين نافقوا , وأيهما أشد وأكثر أثراً في المقام , الجواب هو الثاني .
السابع : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإشتراط مزاولة القتال في معركة أحد للخروج في اليوم الثاني لحمراء الأسد شاهد للتأريخ ووثيقة للأجيال عن صبر وتقوى الصحابة , وإخلاص المهاجرين والأنصار في طاعة الله ورسوله , وتجلي نزول مصاديق الرحمة لهم وللمسلمين لقوله تعالى : [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) .
وهل من الرحمة في الآية أعلاه التراحم بين المسلمين , الجواب نعم . ترى ما هي النسبة بين الطاعة التي تذكرها الآية أعلاه وبين الإستجابة التي تذكرها آية البحث .
الجواب هو العموم والخصوص المطلق , فالطاعة أعم موضوعها ودلالة لما فيها من معاني الإنقياد العام .
وتشمل الطاعة الوجوب والندب ، وهناك مسألتان :
الأولى : هل يصح تقدير الآية أعلاه واستجيبوا لله والرسول لعلكم ترحمون .
الثانية : هل تصح قراءة آية البحث : وأطيعوا الله والرسول من بعد ما أصابكم القرح .
أما المسألة الأولى فالجواب نعم مع التباين في الموضوع والمعنى ، فمن خصائص اللفظ القرآني عدم إمكان استيفاء غيره لذات المعنى والدلالة والغاية المقصودة منه , لتأتي مع الإستجابة نعم ومصاديق متعددة من رحمة وفضل الله عز وجل على المؤمنين جميعاً .
فإن قلت يفيد الجمع بين خاتمة الآية السابقة وأول آية البحث والإخبار عن الثواب العظيم والأجر الذي أعدّه الله لهم , الجواب نعم , ولكن مراتب الأجر متعددة , وأفراده توليدية ومتكثرة لذا أختتمت الآية السابقة بما يدل على الثواب للمؤمنين من الذين إستجابوا لله والرسول , وأختتمت بالبشارة والوعد الكريم بالأجر العظيم للذين أحسنوا واتقوا منهم , وظاهر الآية على وجهين :
الأول : الأجر والثواب العام للذين إستجابوا لله يوم معركة أحد , وفي اليوم التالي بالنفير إلى حمراء الأسد .
وتقدير الجمع بين أول آية البحث وخاتمة الآية السابقة وهو : إن الله عز وجل لا يضيع أجر المؤمنين الذين إستجابوا لله والرسول .
الثاني : إرادة الأجر الخاص للذين إستجابوا لله والرسول في حمراء الأسد وتعاهدوا بعدها لإحسان وسنن التقوى ، وتقدير الآية : لا يضيع الله أجر الذين إستجابوا له ولرسوله وأحسنوا وأتقوا ولهم أجر عظيم .
وتكرر لفظ الأجر في آية البحث والآية السابقة وبينهما عموم وخصوص مطلق .إذ يشمل الأجر في خاتمة الآية السابقة عموم المؤمنين والمؤمنات بينما يخص الأجر في خاتمة آية البحث الذين أحسنوا وأتقوا فلهم أجر عظيم .
ليكون من مفاهيم الأجر في المقام التعدد فيه وبيان مصداقه الجلي وأسبابه وعلته وكيفية إحرازه والفوز به , وفي التنزيل : [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ] ( ).
ويحتمل الأجر في المقام وجوهاً :
الأول : الإتحاد وإن ذات الأجر الذي تذكره الآية السابقة في خاتمتها هو الذي ورد ذكره في خاتمة آية البحث وبينهما نسبة التساوي .
الثاني : التعدد وأن الأجر الذي تذكره آية البحث هو غير الأجر الذي تذكره الآية السابقة .
الثالث : النسبة بين الأجرين هي العموم والخصوص المطلق , وهو على شعبتين :
الأولى : الأجر الذي تذكره الآية السابقة أعم وأكثر .
الثانية : الأجر الذي تذكره آية البحث هو الأعم والأكثر .
الرابع : النسبة بين الأجرين هي العموم والخصوص من وجه , فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
والمختار هو الثاني , والشعبة الأولى من الوجه الثالث , ليكون الأجر من عند الله عز وجل للمؤمنين كالنهر الجاري المتعدد فيما يجري فيه من الفضل ، وفي وصف الجنة قال تعالى : [مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ] ( ).
وعندما إحتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )قال الله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ليكون من علم الله عز وجل تعدد الفضل والأجر الذي يأتي من عنده سبحانه للمؤمنين بما يبعث الرضا في نفوس الملائكة وهم عقول بلا شهوة , وقد يظنون أن هذه الخلقة هي السخية الثابتة في العقلاء للتنافي والتضاد بين العقل والشهوة .
فجاء خلق الإنسان آية أخرى بأن صار جامعاً لهما في تحد لذات الإنسان إذ يقول الفلاسفة أن المتضادين لا يجتمعان , وقد إجتمعا في الإنسان نفسه , ليتصارع ويتسابق الخير والشر في غزو قلب الإنسان والإستحواذ على جوارحه , فأبى الله عز وجل إلا ترجيح جانب الخير بالحجة والبرهان , والآيات الكونية , والنبوة والتنزيل , فكانت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة وخيراً محضاً, وقاصمة للشر , ومانعة له من العدوى بين الناس وإن كان الشياطين جنوداً له .
وتجلي قانون الرحمة هذه بإستجابة الصحابة لنداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لملاحقة العدو الغازي , وصحيح أنه لم تقع مواجهة وقتال بين المسلمين والذين كفروا في هذه الملاحقة ، إلا أنها كانت نصراً عظيماً للمسلمين , من جهات :
الأولى : تأكيد حقيقة وهي أن المسلمين لم ينكسروا ولم يهنوا أو يضعفوا في معركة أحد وما بعدها وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
الثانية : إبطال سحر وإدعاء كفار قريش بأنهم إنتصروا في معركة أحد , وبخصوص معركة أحد إختار كفار قريش أموراً تتعلق بها وهي :
الأول : موضع ومحل المعركة إذ تجحفلوا في سفح جبل أحد .
الثاني : أوان إبتداء المعركة .
الثالث : كيفية إبتداء المعركة بأن تقدم حامل لواء المشركين طلحة بن أبي طلحة وسأل المبارزة .
الرابع : إنتهاء المعركة ووقف القتال وهل اختيارهم أوان إنتهائها بالإختيار أم بالإضطرار والقهر , الجواب هو الثاني لوجوه :
الأول :جهاد وبلاء المهاجرين والأنصار بلاءً حسناً في معركة أحد .
الثاني : قتال الصحابة قتال تضحية وفداء , وهذا الإصطلاح مستحدث منا , ويدل عليه قتل سبعين منهم في بضع ساعات منها يوم معركة أحد .
الثالث : رجوع الصحابة إلى ميدان أحد , بعد تفرقهم أثر ترك الرماة لمواضعهم من الجبل ومجئ خيل المشركين من الخلف.
الرابع : ثبوت كذب وزيف إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة , وكان لتجلي سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القتل أثر عظيم على الجمعين , أما المؤمنون فقد إزدادوا إيماناً , وسعوا في بذل النفوس في سبيل الله . وأما الذين كفروا فقد إمتلأت نفوسهم باليأس والقنوط.
وهل من موضوعية لسطوع سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتكذيب مضامين آية البحث لإشاعة قتله في قوله تعالى ( الذين إستجابوا لله والرسول ) الجواب نعم , من جهات :
الأولى : إستمرار نزول آيات القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : توجيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأوامر في معركة أحد وبعدها .
الثالثة : إدراك المسلمين بأن نجاة وسلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة أحد آية ومعجزة .
الرابعة : مبادرة المهاجرين والأنصار إلى الإستجابة لنداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج إلى حمراء الأسد .
الخامسة : بعث الطمأنينة في نفوس الصحابة وهو من مصاديق قوله تعالى[ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ]( ).
السادسة : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد مواساة من عند الله للمسلمين والمسلمات على الشهداء الذين سقطوا يومئذ.
السابعة : عجز الذين كفروا عن ملاقاة المهاجرين والأنصار , وإضطرارهم للتعجيل بالرجوع إلى مكة بخيبة وإنكسار، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الخامس : نزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , وليس من حصر لوجوه وكيفية هذه النصرة ، قال تعالى :[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه مجيء المدد للصحابة , وفيه مسائل :
الأولى : منزلة المهاجرين والأنصار عند الله عز وجل وإكرامه لهم .
الثانية : حضور الشكر من الله عز وجل للصحابة على مبادرتهم للإيمان من بين أهل مكة والمدينة ومن بلغته الدعوة .
الثالثة : ترغيب الناس بالإسلام وأحكامه وسننه ، قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ] ( ) .
الرابعة : لما عزم المشركون على إرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقتل أو أسر أصحابه أخبرت الآية أعلاه عن نزول الملائكة لنصرته ونصرتهم لتكون رسالة إنذار سماوية إلى الذين كفروا .
الخامسة : حث الصحابة على سؤال نصرة الملائكة لهم بحضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وحتى بعد مغادرته إلى الرفيق الأعلى .
لقد وردت آية البحث بصيغة الفعل الماضي ( الذين إستجابوا ) ويتعلق موضوعها بقضية في واقعة , وتحتمل وجوهاً :
الأول : الوقوف عند هذه الواقعة .
الثاني : إرادة الأفراد المتعددة لإستجابة المهاجرين والأنصار لله ورسوله في ميادين القتال فتشمل الآية معركة بدر وغيرها .
الثالث : إفادة معنى العموم , والمقصود الصحابة الذين إستجابوا لله والرسول , والذين يمتثلون لأوامر الله ورسوله في أجيال المسلمين المتعاقبة . وتقدير الآية على وجوه منها :
الأول : الذين إستجابوا لله والرسول .
الثاني : الذين يستجيبون لله والرسول .
الثالث : الذين سوف يستجيبون لله والرسول .
ليكون الصحابة أسوة حسنة ً للمسلمين والمسلمات للإقتداء بهم في لزوم الإمتثال لأوامر الله عز وجل , وإجتناب ما نهى عنه في القرآن .
لقد أراد الله طاعة المسلمين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ أن ما يأمر أو يدعو إليه أو ينهى عنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو من الوحي, لعمومات قوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الرابع : يا أيها الذين آمنوا إستجيبوا لله والرسول , وفي هذه الإستجابة خير الدنيا والآخرة , لقد جعل الله عز وجل القرآن مدرسة وموعظة , وكل آية منه ضياء ينير دروب الهداية للمسلمين .
ومن الآيات في المقام قيام كل مسلم ومسلمة بتلاوة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
فمن مصاديق إستجابة المسلمين والمسلمات لله والرسول أداء الصلاة اليومية وصيام شهر رمضان , وحج بيت الله الحرام , إذ تبين الوقائع التخفيف عن المسلمين والمسلمات بفتح مكة وعدم القتال والمعارك مع الذين كفروا , بعدسقوط شهداء منهم , وإصابتهم بالقروح والجراحات , وليس من موضوع ومادة يشمت بواسطتها المنافقون بالمسلمين والشهداء منهم خاصة , فلا يقولون في هذه الأزمنة [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ).
إذ أن المسلمين أطاعوا الله عز وجل والرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأداء الفرائض ولم يقتلوا في ميادين القتال , إذ لا قتال و لا غزو , وهو من مقدمات قوله تعالى[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ).
الخامس : يا أيها الناس استجيبوا لله والرسول ، ومن الإعجاز في آية البحث أنها لم تذكر النبي محمداً صلى لله عليه وآله وسلم إلا بصفة الرسالة لتذكير الناس بلزوم إتباع الشريعة التي جاء بها والعمل بأحكامها .
وبين الرسول والنبي عموم وخصوص مطلق , فكل رسول هو نبي وليس العكس .
ومع ورود آية البحث بخصوص جهاد المهاجرين والأنصار وملاقاتهم الحتوف وتلقيهم الجراحات فأنها تبعث في النفوس الرغبة بالإيمان وتحبب إلى الناس الهدى والصبر في مرضاة الله عز وجل .
ويمكن تأسيس قانون وهو أن كل آية قرآنية تزين الإيمان في القلوب , وتبعث النفرة والكراهية من الكفر والضلالة , وهو من عمومات قوله تعالى [وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ] ( )
ويمكن تفسير وتأويل كل آية من القرآن بلحاظ الآية أعلاه لتؤلف مجلدات كثيرة خاصة بهذا اللحاظ كما يمكن تأسيس قانون آخر وهو كل آية كونية تزين الإيمان في النفوس وتبعث النفرة من الكفر والضلالة ، لتتعاضد آيات القرآن والآيات الكونية في دعوة الناس للهدى والإيمان ، فان قلت الآيات الكونية موجودة قبل خلق آدم , ولكن القرآن لم ينزل إلا بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهل فيه فضل على أهل زمانه والأزمنة اللاحقة .
الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) وقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) بلحاظ مصاديق متجددة من الرحمة ببركة بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه حجة وسبب للهداية ، ومع آيات الرحمة التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد حاربه كفار قريش ، ورجالات عشيرته ويتبادر إلى الذهن أن الذي يحاربه شيوخ قبيلته وزعماء بلده فانه لا يلقى إلا الأذى والضرر من غيرهم من باب الأولوية ليكون ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم ووجود أنصار له من أهل بيته وعشيرته والأنصار معجزة لهم وليكونوا نواة لعالمية الإسلام .
وتلقي الناس مبادئ وأحكام الإسلام بالقبول والرضا وقاموا بأداء الفرائض والعبادات بالسعادة المقرونة بالشكر لله عز وجل ، ويقرأ كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم قوله تعالى [الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) لتكون هذه القراءة هي الثروة والتراث والأرث الذي يخلفه السابق للاحق، والسلف للخلف من المسلمين مع الغبطة بهذا الميراث لأنه مفتاح للخير والبركة ، وكل ميراث يوزع على ورثة مخصوصين ، وينفذ وينفق ولا يبقى منه شئ إلا ميراث الآية القرآنية والعلوم الربانية فانها باقية ولا تنقص مع كثرة النهل منها ، قال تعالى [هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
ومن الميراث في آية البحث قانون الإستجابة في كل الأحوال والبشارة بالأجر والثواب من عند الله على الإحسان ، إذ تختتم الآية بالبشارة بالثواب والأجر العظيم على اتباع مناهج التقوى، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ]( ).
قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ]
تبين آية البحث حقيقة مركبة من جهات :
الأولى : قتال المهاجرين والأنصار في معركة أحد .
الثانية : إصابة المهاجرين والأنصار بالجراحات البالغة في معركة أحد .
الثالثة : سلامة الصحابة من الوهن والضعف أثناء القتال وبعده ، أما أثناء القتال فيدل عليه قوله تعالى [إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ) إذ تدل الآية أعلاه بالدلالة التضمنية على عدم تحقق الفشل والجبن والخور من قبل المسلمين من وجوه :
الأول : الهم في المقام هو النية والعزم ، ويدل إنقطاع الأمر بالهم على تحقق ذات الفشل في الواقع .
الثاني : سلامة باقي الصحابة من غير الطائفتين من الهم بالفشل والخور والجبن .
الثالث : ولاية الله للمسلمين واقية من الضعف والجبن .
الثالث : ولاية الله للمسلمين واقية من الضعف والجبن.
الرابع : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان دعوة سماوية للصحابة لبذل الوسع في الدفاع، فإن قلت كيف يكون ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان دعوة سماوية الجواب لأن هذا الثبات من الوحي، وهذا الثبات على وجوه:
الأول : إنه مقدمة للنصر.
الثاني : ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان نصر بذاته.
الثالث : في ثبات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الميدان يوم المعركة نوع طريق وتهيئة لخروج الصحابة تحت لوائه في اليوم التالي خلف العدو.
الرابع : إتصال الوحي والأمر من عند الله يوم معركة أحد, قال تعالى[ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى]( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : هل الوحي وصبغته السماوية في ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة حاجة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثانية : هل هذا الثبات نوع طريق وسبب لنزول آية البحث.
أما المسألة الأولى ، فالجواب نعم، وهذه الحاجة أعم من أن تختص بواقعة أحد ومطاردة العدو في اليوم التالي لها، إنها مدرسة للأجيال المتعاقبة، وحرز من الخصومة بين المسلمين، وأسباب الفرقة، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ) .
وأما المسألة الثانية ، فالجواب نعم ليستنبط قانون وهو أن السنة النبوية طريق ومقدمة لنزول الآية القرآنية والعمل بمضامينها , وهي تفسير وبيان للآية القرآنية.
لقد كان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلف العدو في اليوم التالي لمعركة أحد معجزة له ، وشاهد على حسن التوكل والثقة بعونه ومدده ونصره .
ومن الآيات أنه لم يقع قتال يومئذ لبيان قانون وهو أن السلامة من القتال والرجوع بعافية من الغزو نصر بذاته ، وهل هو قانون دائم أم أنه قضية عين ومسألة شخصية بخصوص معركة حمراء الأسد.
الجواب هو الأول لمصاحبة المعجزة والبرهان الجلي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعدد وتوالي الشواهد على صدق نبوته ، ولو أجريت إحصائية ومقارنة بين عدد الذين اسلموا أيام النبوة والرسالة المحمدية وسبب وكيفية إسلامهم من وجوه :
الأول : الذين اسلموا بالسيف وقوة السلاح وبقوا على حال الكراهية.
الثاني : الصحابة الذين أسلموا طواعية وتسليماً بالمعجزات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الصحابة الذين أسلموا بواسطة السيف وقوة السلاح ، ثم سلّموا بصدق النبوة والرسالة والآيات التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لتبين أن الوجه الثاني هو الصحيح ، وللتأكيد عليه في أحقاب التأريخ وإلى يوم القيامة وقعت معركة أحد التي قاتل فيها المسلمون وسقط منهم سبعون شهيداً ، إلى جانب الجراحات الشديدة التي أصابت الذين بقوا أحياء منهم ليخرجوا في اليوم الثاني للمعركة خلف العدو بجراحاتهم وآلامهم .
مما يدل على صدق إيمانهم ، وأن السلاح ليس هو السبب والآلة ويكون الطرفان من مصاديق وعمومات قوله تعالى [فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] ( ) والواسطة في انتشار الإسلام ، وصيرورة أمة تدافع عنه ، إنما جاء الإيمان لملائمة المعجزة للعقول وأرباب الإدراك والمعرفة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
لقد جاءت آية البحث لتبين صدق إيمان المسلمين وأنهم إختاروا الإسلام بالإقرار بأنه حق وصدق والتسليم بأن الإستجابة لأوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم واجب ، وسيأتي مزيد كلام في البحث الأصولي( ).
ومن الآيات أن إصابة الصحابة بالقروح والجراحات ليست نهاية الإبتلاء في جنب الله، فمنهم من مات من جراحته يوم أحد ,ومنهم من أستشهد في معارك الإسلام التالية، ومنهم من قتل في المحراب أو إستشهد غيلة وغدراً، وهو من عمومات قوله تعالى[فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً]( ).
وهل تدل الآية على المدد من عند الله لشفاء المسلمين من جراحاتهم، الجواب نعم، وذات الخروج خلف العدو نوع شفاء ومقدمة له .
قوله تعالى [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ]
تبين آية البحث قانوناً وهو لابد من الإحسان وفعل الصالحات وأن الجهاد والدفاع في سبيل الله عز وجل ليس برزخاً أو بديلاً لفعل الصالحات.
كأن الآية تخاطب الذين قاتلوا في معركة أحد وخرجوا خلف العدو الى حمراء الأسد بأن الجهاد متصل ومستمر وأنه يتجلى في فعل الصالحات والبر والإحسان للناس ، وفيه نفع للمسلمين أنفسهم للأجر العظيم على الاحسان [ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
وهل من أثر للإحسان بخصوص القتال وموضوعه في آية البحث، الجواب نعم , ويحتمل وجوهاً :
الأول : الإحسان برزخ دون تجدد القتال .
الثاني : قيام المسلمين بالإحسان وتحليهم بالتقوى سبب للنصر .
الثالث : القتال ليس مانعاً للمسلمين من تعاهد الإحسان والتنزيل بلباس التقوى .
الرابع : مسارعة المسلمين في الخيرات وسيلة لتنمية ملكة الأفق الإيمانية بينهم .
الخامسة : الإحسان والتقوى طريق لتحقيق النصر والغلبة في المعارك ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا]( ).
وبإستثناء الوجه الثالث , فإن الوجوه الأخرى أعلاه كلها من مصاديق آية البحث وذخائر مضامينها القدسية .
وتبعث الآية المسلمين والمسلمات على الإحسان، والإقتداء بالسابقين من المسلمين، ومن معاني آية البحث البشارة بتولي المسلمين شؤون الحكم بين الناس وإدارة الأمصار , ووجوب الإحسان معها .
وقد يفرض الأمر على المسلمين , ولكن في مصداقه مشقة , فلا يكون سالبة بإنتفاء الموضوع , وعن الإمام علي عليه السلام قال: لمّا نزلت{يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة}( ) دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما ترى بذي دينار؟ قلت : لا يطيقونه. قال: كم؟
قلت: حبّة أو شعيرة. قال: إنك لزهيد، فنزلت {أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَىْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ}( ).
قال عليّ: فِيّ خفَّف الله سبحانه عن هذه الأمّة، ولم تنزل في أحد قبلي ولن تنزل في أحد بعدي.
قال ابن عمر : كان لعليّ بن أبي طالب ثلاث لو كان لي واحدة منهن كانت أحبّ إليّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة، وإعطاؤه الراية يوم خيبر، وآية النجوى)( ).
الثالث : دعوة المسلمين للنفوس والإجتهاد في طاعة الله عز وجل شكراً لله عز وجل لأنه خفف عنهم الأذى في الحياة الدنيا .
الرابع : بيان قانون وهو أن الإسلام إنتشر بالمعجزة والحكمة والبرهان.
الخامس : دعوة الناس للتدبر في الكون وآيات الله عز وجل.
وأسرار البعثة النبوية والعالم الآخر ولزوم مغادرة الدنيا بالتوبة والإنابة.
لما أخبرت الآية في بدايتها عن إستجابة المهاجرين والأنصار لله عز وجل ورسوله مع ما أصابهم من الجروح والقروح بصفة الإيمان تضمنت البشارة، لقوله تعالى في خاتمة آية السياق [وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) أختتمت آية البحث بالوعد الكريم بالآجر العظيم ، وتحتمل النسبة بينه وبين الأجر في خاتمة الآية السابقة وجوهاً :
الأول : العموم والخصوص المطلق وهو على شعبتين :
الأولى : الأجر المذكور في الآية السابقة جزء من الأجر العظيم المذكور في خاتمة الآية السابقة .
الثانية :الأجر الذي تذكره آية البحث أخص من الأجر الذي ورد ذكره في الآية السابقة .
الثاني : التعدد والغيرية ، وأن الأجر المذكور في آية البحث غير الثواب والجزاء الذي أختتمت به الآية السابقة .
الثالث : التباين في الموضوع ، إذ تذكر الآية السابقة الأجر على الإيمان والإستجابة لله ورسوله ، أما آية البحث فان موضوع الأجر فيها هو الإحسان والتقوى .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من سعة رحمة الله وعظيم الثواب الذي يغدقه على المؤمنين ، فلا يختص ذات الأجر بأنه من غير حساب ، إنما مصاديق وأفراد الأجر من اللامتناهي .
لقد نال المهاجرون والأنصار الأجر والثواب من عند الله عز وجل بالإيمان بالله ورسوله والتصديق بنزول القرآن من عند الله عز وجل ، ولم يقفوا عند النطق بالشهادتين ويقعدوا عن الدفاع ، إنما خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للقاء جيش المشركين في معركة أحد ، ولم يعد سبعون منهم إلى المدينة .
لقد ذكرت آية البحث صفتين للمؤمنين هما :
الأولى : الإحسان .
الثانية : التقوى .
وقد نزل القرآن بالإخبار عن قانون [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ) وقانون [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( ).
وهل يتحد كل من القانونين في الموضوع الواحد ، كما في حال المؤمنين الذين تذكرهم آية البحث ،أم أنهما يجتمعان مع إستقلال كل واحد منهما ، الجواب هو الثاني ليترتب على كل منهما ثواب عظيم يفوز به المؤمنون ويحتمل الإحسان والتقوى اللذان ذكرتهما آية البحث وجوهاً :
الأول : إرادة العموم الزماني بالإحسان في الزمن السابق لنزول آية البحث وأوان نزولها وما بعده ، وتقدير الآية : للذين أحسنوا ويحسنون منهم اليوم وغداً أجر عظيم .
الثاني : إرادة الزمن اللاحق لما بعد الخروج لحمراء الأسد ، وتقدير الآية للذين يحسنون منهم .
الثالث : التفصيل لتشمل الذين أحسنوا في الزمن الماضي والحاضر ، وان لم يحسنوا في الزمن اللاحق .
الرابع : الإخبار عن استجابة الصحابة لله ورسوله إحسان محض للذات والغير ، فجاء موضوع الآية فيما يخص الإحسان في المستقبل ، وتقدير الآية : للذين يحسنون منهم ويتقون أجر عظيم .
والمختار هو الأول مع الترغيب في الإحسان في المستقبل فمن العلل الغائية في آية البحث ترغيب المهاجرين والأنصار بفعل الإحسان والنفير بلباس التقوى ، ومنه إتيان الفعل الحسن والإحسان قربة إلى الله تعالى ، لتبين الآية للناس قانوناً وهو الملازمة بين الإيمان وبين كل من الإحسان والتقوى ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : المؤمنون محسنون .
الصغرى : المهاجرون والأنصار مؤمنون .
النتيجة : المهاجرون والأنصار محسنون متقون .
فان قلت قد وردت الآية بصيغة الفعل الماضي [أحسنوا] [أتقوا] فكيف تستغرق أفراد الزمان الطولية التي قضوها في الحياة الدنيا ، والجواب قد يأتي الفعل الماضي ويراد منه المعنى الزماني الأعم ، كما في قوله تعالى [وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا] ( ) .
فمن صفات الله عز وجل أنه شاكر وعليم بلحاظ أفراد الزمان الطولية كلها ، وما يسبق الزمان وما يتأخر عليه ، وكما في قوله تعالى [فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا] ( ) ففي كل زمان يعفو ويمحو الله عز وجل ما يشاء من الآثام عن البشر.
ويتجلى عفوه في الآخرة بما يجعل الخلائق كلها تجدد الشكر له سبحانه، وترجو رحمته, وهو القادر على كل شئ منذ الأزل وإلى الأبد.
لقد تفضل الله عز وجل بالوعد والعهد للمؤمنين بقوله [إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ]( ).
ويحتمل هذا اللطف ومصاحبة فضل ورحمة الله وجوهاً :
الأول : إنه من الأجر العظيم الذي تذكره آية البحث .
الثاني : هو أمر إضافي للأجر والثواب .
الثالث : إنه من مصاديق العظمة في الأجر.
الرابع : هذه الصحبة نوع طريق ومقدمة للأجر العظيم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق آية البحث ، ولا يعلم خزائن الأجر العظيم الذي وعد به الله عز وجل في آية البحث إلا هو سبحانه .
ومن معاني الإحسان في آية البحث وجوه :
الأول : الإستجابة لأوامر الله عز وجل إذ تدل آية البحث بالدلالة التضمنية على استجابة الصحابة لأوامر الله في الفرائض والعبادات من باب الأولوية القطعية ، وتقدير آية البحث : الذين أحسنوا بالإستجابة لأوامر الله .
الثاني : من مصاديق إحسان الصحابة في آية البحث استجابتهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتسليمهم بأن الذي يأمر به إنما هو وحي من عند الله عز وجل ، ليكون إحسانهم في المقام على وجوه :
أولاً : إحسان الصحابة لأنفسهم وفوزهم ببلوغ مرتبة التقوى بلحاظ كبرى كلية وهي أن الإستجابة لله ولرسوله من أبهى مصاديق التقوى وتكون وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذين استجابوا لله ورسوله متقون .
الصغرى : الصحابة استجابوا لله ورسوله .
النتيجة : الصحابة متقون .
وهل المراد في المقام خصوص الصحابة الذين خرجوا إلى حمراء الأسد إمتثالاً لأمر الله ورسوله أم أن الآية أعم ، الجواب هو الثاني .
ثانياً : الإحسان للأهل والذراري بدفع القتل أو السبي عنهم .
ثالثاً : الإحسان .
الثالث : تحمل الجراحات وآثارها في سبيل الله.
الرابع : تلقي الجراحات بالقبول وعدم الضجر أو إظهار الندامة على الجهاد في سبيل الله .
الخامس : الصبر على أذى وشماتة المنافقين .
السادس : دلالة جراحات المؤمنين يوم معركة أحد على صدق الإيمان، وهو من أسمى مصاديق الإحسان.
قوله تعالى [وَاتَّقَوْا]
التقوى لغة من الوقاية والإتقاء والحرص على السلامة من الأذى والضرر، وبما أن الدنيا دار إمتحان وإختبار وإبتلاء ومزرعة للآخرة، فإن هذه الوقاية تتقوم بطاعة الله، وإجتناب المعصية، وفي التنزيل[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ]( )، وقال الإمام علي عليه السلام: كنا إذا حمى أو اشتد اليأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما يكون أحذ أقرب إلى العدو منه ولقد رأيتنى يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأسا)( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في دعائه (اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفة، والغنى)( ).
ومن منافع وثواب التقوى بلوغ العبد لمرتبة حب الله له وإعانته له، ولطفه به، وهو المستقرأ من قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ]( )[ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
وتبعث آية البحث المؤمنين على محاسبة النفس والتوقي من الوقوع في الزلات التي تؤدي إلى المهالك.
لقد جاء شرط التقوى في نزول الملائكة مدداً وعوناً للمسلمين، قال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( )، لتحث آية البحث المسلمين على تهيئة مقدمات نزول المدد من السماء .
ولا تختص وظائف الملائكة في ميدان المعركة بنصرة المؤمنين بالقتال معهم ودونهم ، إنما يقومون بإعانة المؤمنين للثبات في ميدان المعركة وبعث الخوف في قلوب الذين كفروا، وفي التنزيل[إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا]( ).
بحث بلاغي
من ضروب البلاغة (الجمع ) وهو أن يجمع المتكلم بين أمرين أو أمور متعددة في بيان أو موضوع أو حكم ، كما في قوله تعالى [وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ] ( ) ومن الإعجاز في آية البحث أنها تجمع بين الإستجابة لله والرسول .
والمراد من الرسول في المقام هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الآية شاهد بأنه ليس من نبي أو رسول بعده وإلى يوم القيامة.
ومع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله عز وجل ، فقد تفضل الله سبحانه بأمور :
الأول : الجمع بين الإستجابة لله والإستجابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الثناء على الذين يستجيبون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الترغيب بالإمتثال والإستجابة لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : بيان عظيم منزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السماء والأرض .
وجاء الجمع مرة أخرى في آية البحث بلحاظ العمل الصالح والجهاد في سبيل الله ومتعلق الثواب والأجر العظيم ، من وجوه :
الأول : الإستجابة لله .
الثاني : الإستجابة لرسول الله .
الثالث: الإحسان وفعل الخير ، وقد أثنى الله عز وجل على المؤمنين بقوله [أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ] ( ) .
الرابع : التقوى والخشية من الله عز وجل ، لبيان الجمع بين سنن الدفاع ومحاربة الذين كفروا مع قهر النفس الشهوية .
ومن خصائص الجمع في آية البحث أمور :
الأول : الأمر لأجيال المسلمين بالإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بسنته ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
الثاني : بيان صدق إيمان الصحابة وتفانيهم في مرضاة الله ، وحسن توكلهم عليه سبحانه .
وفي خطبة للإمام علي عليه السلام في الثناء على الله عز وجل (هو الذي اشتدت نقمته على أعدائه في سعة رحمته ، واتسعت رحمته لاوليائه في شدة نقمته، قاهر من عازه ، ومدمر من شاقه، ومذل من ناواه ، وغالب من عاداه ، من توكل عليه كفاه ، ومن سأله أعطاه ، ومن أقرضه قضاه، ومن شكره جزاه. عباد الله زنوا أنفسكم من قبل أن توزنوا ، وحاسبوها من قبل أن تحاسبوا) ( ).
الثالث : الجمع بين التقوى والإحسان , لبيان ثبوت ملكة قصد القربة في نفوس المسلمين , وحضورها في القول والعمل .
وتثبت آية البحث حقيقة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خرجوا في اليوم التالي لمعركة أحد خلف جيش العدو لبيان سلامتهم من الإنكسار والهزيمة يومئذ ، ولمنع العدو من العودة والكرة إلى المدينة .
ومن معاني آية البحث دعوة أجيال المسلمين إلى الإستجابة لله ورسوله ونزل القرآن بلغة إياك أعني واسمعي يا جارة ، وليكون من المقاصد السامية في الجملة الخبرية في القرآن على آية البحث أنها باعث لذات الصحابة الذين تذكرهم وتثني عليهم بتكرار الإستجابة لله والرسول .
فمن معاني ودلالات آية البحث أن الذين كفروا سيواصلون تعديهم وتجهيزهم الجيوش ضد النبوة والتنزيل ، ولابد من الحيطة والحذر والتوقي بالعمل ومنه حسن الإستجابة ولم تمر الأيام والأشهر حتى زحف المشركون بجيش لم تشهد له الجزيرة مثيلاً منذ زحف إبرهة لهدم الكعبة ، إذ جاءوا بعشرة آلاف رجل لمقاتلة النبي وأصحابه مع التباين في المقام ، إذ جاء إبرهة من اليمن والحبشة .
وتركت قريش مكة ليصعدوا إلى رؤوس الجبال فرقاً منه ومن جيشه ، (لما دام ملك أبرهة باليمن وتمكن به بنى القليس بصنعاء، وهي كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، ثم كتب إلى النجاشي: إني قد بنيت لك كنيسة لم ير مثلها ولست بمنتهٍ حتى أصرف إليها حاج العرب.
فلما تحدثت العرب بذلك غضب رجل من النسأة من بني فقيم، فخرج حتى أتاها فقعد فيها وتغوط، ثم لحق بأهله، فأخبر بذلك أبرهة، وقيل له: إنه فعل رجل من أهل البيت الذي تحجه العرب بمكة غضب لما سمع أنك تريد صرف الحجاج عنه ففعل هذا.
فغضب أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت فيهدمه، وأمر الحبشة فتجهزت، وخرج معه بالفيل واسمه محمود،كان معه ثلاثة عشر فيلاً وهي تتبع محموداً، وإنما وحد الله سبحانه الفيل لأنه أراد اسم الجنس , وإتخاذهم الفيل سلاحاً تهابه العرب . وكبيرها محمود ، وقيل في عددهم غير ذلك.
فلما سار سمعت العرب به استحضروا عظمة البيت , ورأوا جهادهم لأبرهة حقاً عليهم، فخرج عليه رجل من أشراف اليمن يقال له ذو نفر وقاتله، فهزم أبرهة ذا نفر وأخذه أسيراً فأراد قتله ثم تركه محبوساً عنده، ثم مضى على وجهه، فخرج عليه نفيل بن حبيب الجثعمي فقاتله، فانهزم نفيل وأخذه أسيراً، فضمن لأبرهة أن يدله على الطريق، فتركه وسار حتى إذا مر على الطائف بعثت معه ثقيف أبا رغالٍ يدله على الطريق حتى أنزله بالمغمس، فلما نزله مات أبو رغالٍ، فرجمت العرب قبره، فهو القبر الذي يرجم.
وبعث أبرهة الأسود بن مقصود إلى مكة، فساق أموال أهلها وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، ثم أرسل أبرهة حناطة الحميري إلى مكة فقال: سل عن سيد قريش وقل له إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تمنعوا عنه فلا حاجة لي بقتالكم.
فلما بلغ عبد المطلب ما أمره قال له: والله ما نريد حربه، هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم، فإن يمنعه فهو يمنع بيته وحرمه وإن يخل بيته وبينه فوالله ما عندنا من دفع) ( ) .
وعرض بعض وجهاء العرب على ابرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ويمتنع عن هدم البيت الحرام فامتنع وأصر على هدمه ، وفي اليوم التالي عبأ أبرهة جيشه وقدم الفيل وقصد دخول مكة وهدم البيت الحرام ثم العودة إلى اليمن .
لقد كان أبرهة وجيشه ملتفتين إلى حقيقة وهي أن أهل مكة لم يروا زحف وتقدم الفيل ، وتقدم الجيش وزحف الرجال في ظله وعلى جانبيه وجانب الفيلة الأخرى إذ كان معهم أربعة عشر فيلاً اسم كبيرهم محمود وهي تتبعه ، وظنوا أن قلوبهم تمتلأ منه رعباً ، فحرصوا على تقديمه، ولم يلتفتوا إلى حفظ الله عز وجل لبيته إذ امتنع الفيل عن السير ، والقى نفسه إلى الأرض ، فضربوه ، فأصر على القعود ، فوجهوه إلى اليمن فقام يهرول ثم وجهوه نحو مكة والبيت الحرام فقعد عن المسير فضربوه فأبى عليهم ، فوجهوه نحو الشام فقام يهرول .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ] ( ) الجواب نعم ، لأن موضوع الآية أعلاه أعم من أن يختص بالآفاق والنفوس إذ يشمل تجلي الآيات والبراهين الدالة على الوحدانية والتي تهدي إلى سواء السبيل في كل شئ .
ثم قاموا بتوجه الفيل إلى جهة المشرق فسار مهرولاً، وكأنه يقول لهم امتنعوا عن مهاجمة مكة ، وانصرفوا عنها واحفظوا أنفسكم باجتناب العزم على هدم البيت الحرام ، ولكنهم لم يتعظوا .
وأثناء مشيه خطوات إلى المشرق قاموا بادارة وجهته (ووجهوه إلى مكة فسقط إلى الأرض) ( ).
وأصروا على الهجوم وقاموا بالزحف نحو مكة وبلوغ البيت , عندئذ أرسل الله عز وجل عليهم طيراً أبابيل من البحر ، ومعنى أبابيل أي كثيرة مجتمعة , وكانت تخرج من البحر , ومع كل طير ثلاثة أحجار صغيرة وهي :
الأولى : حجر في منقار الطير .
الثانية : حجر في رجل الطير اليمنى .
الثالثة : حجر في رجل الطير اليسرى .
وفيه مسائل :
الأولى : كل حجر بقدر الحمص .
الثانية : هلاك الذي تصيبه الحجر .
الثالثة : عدم إصابة كل جيش أبرهة .
الرابعة : ما أن تصيب الحجر جسم أحدهم حتى يتبعها دم وقيح ، ليكون الذي يفر منهم شاهداً ومبلغاً لقومه وللناس لما وقع من الآيات وسبباً في زجر الملوك من التعدي على البيت الحرام .
ولما رآى أبرهة الطير تفتك بجيشه ، وتعرض هو للاصابة ، جمع من بقي معه ، وفروا يريدون الطريق التي تؤدي بهم إلى اليمن , وصاروا يتساقطون في الطريق .
فسألوا عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق مثلما دلهم على مكة , وكان نفيل قد هرب مسرعاً إلى رؤوس الجبال ساعة ابتداء الهجوم على مكة ، فلما رآى ما حلّ بجيش أبرهة من العذاب الإلهي قال :
(أين المفر والإله الطالب … والأشرم المغلوب غير الغالب !
وقال نفيل أيضاً:
ألاحييت عنا يا ردينا … نعمناكم مع الإصباح عينا
أتانا قابسٌ منكم عشاءً … فلم يقدر لقابسكم لدينا
ردينة لو رأيت ولكم تريه … لدى جنب المحصب ما رأينا
إذاً لعذرتني وحمدت رأيي … ولم تأسى على ما فات بينا
حمدت الله إذ عاينت طيراً … وخفت حجارةً تلقى علينا
فكل القوم يسأل عن نفيلٍ … كأن عليّ للحبشان دينا !
فخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون على كل منهل، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم تسقط أنامله أنملةً أنملةً، كلما سقطت منه أنملة اتبعتها منه مدة تمث قيحاً ودماً حتى قدموا به صنعاء؛ وهو مثل فرخ الطير، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه – فيما يزعمون.
وعن محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثنا عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان، عن أبيه. قال: وحدثنا محمد بن عبد الرحمن بن السلماني، عن أبيه. قال: وحدثنا عبد الله ابن عمرو بن زهير الكعبي، عن أبي مالك الحميري عن عطاء بن يسار. قال: وحدثنا محمد بن أبي سعد الثقفي عن يعلي بن عطاء، عن وكيع بن عدس، عن عمه أبي رزين العقيلي. قال: وحدثنا سعيد بن مسلم، عن عبد الله ابن كثير، عن مجاهد، عن ابن عباس؛ دخل حديث بعضهم في حديث بعض؛ قالوا: كان النجاشي قد وجه أرياط أبا صحم في أربعة آلاف إلى اليمن، فأداخها وغلب عليها، فأعطى الملوك، واستذل الفقراء، فقام رجل من الحبشة يقال له أبرهة الأشرم أبو يكسوم، فدعا إلي طاعته، فأجابوه فقتل أرياط، وغلب على اليمن، ورأى الناس يتجهزون أيام الموسم للحج إلى البيت الحرام، فسأل: أين يذهب الناس ؟ .
فقالوا: يحجون إلى بيت الله بمكة، قال: مم هو ؟ قالوا: من حجارة، قال : فما كسوته ؟ .
قالوا: ما يأتي ها هنا من الوصائل، قال والمسيح لأبنين لكم خيراً منه ! فبنى لهم بيتاً، عمله بالرخام الأبيض والأحمر والأصفر والأسود، وحلاه بالذهب والفضة، وحفه بالجوهر، وجعل له أبواباً عليها صفائح الذهب ومسامير الذهب، وفصل بينهما بالجوهر، وجعل فيها ياقوتة حمراء عظيمة، وجعل لها حجاباً، وكان يوقد بالمندل، ويلطخ جدره بالمسك، فيسوده حتى يغيب الجوهر. وأمر الناس فحجوه، فحجه كثير من قبائل العرب سنين، ومكث فيه رجال يتعبدون ويتألهون، ونسكوا له، وكان نفيل الخثعمي يؤرض له ما يكره، فلما كان ليلة من الليالي لم ير أحداً يتحرك، فقام فجاء بعذرة فلطخ بها قبلته، وجمع جيفاً فألقاها فيه. فأخبر أبرهة بذلك، فغضب غضباً شديداً .
وقال: إنما فعلت هذا العرب غضباً لبيتهم، لأنقضنه حجراً حجراً. وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، ويسأله أن يبعث إليه بفيله ” محمود ” – وكان فيلاً لم ير مثله في الأرض عظماً وجسماً وقوة – فبعث به إليه، فلما قدم عليه الفيل سار أبرهة بالناس ومعه ملك حمير، ونفيل بن حبيب الخثعمي، فلما دنا من الحرم أمر أصحابه بالغارة على نعم الناس فأصابوا إبلا لعبد المطلب، وكان نفيل صديقاً لعبد المطلب، فكلمه في إبله، فكلم نفيل أبرهة، فقال: أيها الملك، قد أتاك سيد العرب وأفضلهم قدراً، وأقدمهم شرفاً، يحمل على الجياد، ويعطى الأموال، ويطعم ما هبت الريح. فأدخله على أبرهة، فقال: حاجتك ! قال: ترد على إبلي، فقال: ما أرى ما بلغني عنك إلا الغرور، وقد ظننت أنك تكلمني في بيتكم الذي هو شرفكم، فقال عبد المطلب: اردد على إبلي، ودونك البيت؛ فإن له رباً سيمنعه. فأمر برد إبله عليه، فلما قبضها قلدها النعال، وأشعرها، وجعلها هدياً، وبثها في الحرم لكي يصاب منها شيء فيغضب رب الحرم، وأوفى عبد المطلب على حراء ومعه عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ومطعم بن عدي وأبو مسعود الثقفي، فقال عبد المطلب :
لا هم إن المرء يمن … ع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم … ومحالهم غدواً محالك
إن كنت تاركهم وقب … لتنا فأمرٌ ما بدا لك
قال: فأقبلت الطير من البحر أبابيل، مع كل طير منها ثلاثة أحجار: حجران في رجله وحجر في منقاره، فقذفت الحجارة عليهم، لا تصيب شيئاً إلا هشمته، وإلا نفط ذلك الموضع، فكان ذلك أول ما كان الجدرى والحصبة والأشجار المرة، فأهمدتهم الحجارة، وبعث الله سيلاً أتياً، فذهب بهم فألقاهم في البحر.
قال: وولى أبرهة ومن بقى معه هراباً، فجعل أبرهة يسقط عضواً عضواً. وأما محمود فيل النجاشي فربض ولم يشجع على الحرم فنجا، وأما الفيل الآخر فشجع فحصب. ويقال: كانت كانت ثلاثة عشر فيلا، ونزل عبد المطلب من حراء، فأقبل رجلان من الحبشة فقبلا رأسه وقالا: أنت كنت أعلم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يعقوب ابن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن أول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رئى بها مرار الشجر: الحرمل والحنضل والعشر، ذلك العام. قال ابن إسحاق: ولما هلك أبرهة ملك اليمن ابنه في الحبشة يكسوم بن أبرهة – وبه كان يكنى – فذلت حمير وقبائل اليمن ووطئتهم الحبشة؛ فنكحوا نساءهم، وقتلوا رجالهم، واتخذوا أبنائهم تراجمة بينهم وبين العرب)( ).
وصارت تلك الواقعة نصراً من الله للبيت الحرام , وصار العرب يعظمون قريشاً، وقالوا هؤلاء أهل الله ، قاتل الله عنهم ، ودفع عنهم عدوهم وأخزاه.
وانتفعت قريش من الأموال والمؤن التي في معسكر أبرهة والتي تركها وعجز من بقي منهم عن حملها ، ففي صباح اليوم التالي نزل عبد المطلب ومعه أبو مسعود الثقفي من الجبل لرؤية ما فعل جيش أبرهة بمكة والبيت ، فلم يسمعا حساً ، فدخلا معسكرهم وإذا بالقوم هلكى ، فقام كل من عبد المطلب وابو مسعود الثقفي بحفر حفرتين ملآهما ذهباً وجواهر لكل واحد منهما حفرة مخصوصة ثم ساويا عليهما التراب .
ثم نادى عبد المطلب في الناس يزف لهم البشرى بهلاك جيش أبرهة ، أي أنه لم يخبر الناس إلا بعد أن أدخر لنفسه نوع كنز ليكون هذا الكنز مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بيت غنى لبيان أن نبوته ليس من حاجة أو عن فقر وفاقة , ولبيان منافع سورة الفيل .
ونزل أهل مكة من رؤوس الجبال التي تحيط بها وبعضها باق إلى يومنا هذا ، فأصابوا الغنائم من هذا المعسكر ، وكأنها مقدمة للغنائم التي ستأتي للمسلمين من أموال المشركين .
ومن خصائص المؤمنين التقيد بآداب وسنن التقوى في حال الغنى والفقر والسعة والضيق , وهو الذي تدل عليه آية البحث .
قال تعالى في الثناء عليهم وترغيبهم بتعاهد الصلاح وفعل الخيرات[وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ]( ).
بينما جمعت قريش عشرة آلاف رجل من ذات مكة وما حولها ليهجموا على المدينة فكانت معركة الخندق .
قوله تعالى [أَجْرٌ عَظِيمٌ]
لقد أختتمت آية البحث بالبشارة من عند الله عز وجل بالأجر العظيم لبيان أمور من عظيم قدرة الله تعجز الخلائق عن أي فرد منها وهي :
الأول : الأجر للمؤمنين .
الثاني : نعت الأجر بأنه عظيم .
الثالث : الوعد بالأجر .
ومن مصاديق العظمة في الأجر الذي تذكره آية البحث وجوه :
الأول : مجئ الأجر والثواب من عند الله .
الثاني : إتصاف مصاديق الأجر والثواب بأنها ظاهرة وباطنة .
الثالث : كتابة الملائكة الإستجابة المؤمنين وتوثيقها لتكون مقدمة لذات الأجره من غير تعارض مع كون هذا التوثيق أجر أيضاً لتعدد فضل الله عز وجل في الموضوع المتحد .
الرابع : تجدد الثواب والأجر الذي يأتي من عند الله وتعدد ضروبه ومصاديقه ، وهو من مصاديق وصفه بالعظيم في آية البحث .
الخامس : عجز الخلائق عن إدراك هذا الأجر من جهات :
الأولى : الكم .
الثانية : الكيف .
الثالثة : عدد أفراد الأجر .
الرابعة : سنخية ذات الأجر .
الخامسة : عذوبة وحلاوة الأجر العظيم .
السادسة : صبغة الأجر .
السابعة : توالي وتتابع مصاديق الأجر ومجيؤها دفعة واحدة ، وفي التنزيل [بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ]( ).
السادس : من مصاديق كون الأجر الذي ينعم به الله عز وجل على المؤمنين الصابرين في معركة أحد ونفيرهم خلف العدو إستدامة هذا الأجر وعدم إنقطاعه أبداً .
السابع : من مصاديق الأجر العظيم المدد والعون في الدنيا ، والشفاعة في الآخرة .
وهل المغفرة من الأجر العظيم أم أنها أمر آخر لأن الأجر عطاء وثواب على الفعل الحسن والعمل الصالح ، وللتعدد ولغة العطف بين المغفرة والأجر في قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
المختار هو الأول ، وبين الأجر العظيم والمغفرة عموم وخصوص مطلق، فالأجر العظيم أعم، وكأن مجيؤهما معاً في الآية أعلاه من عطف العام على الخاص .
الثامن : عدم نفاذ أو نقص خزائن الأجر التي عند الله عز وجل ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ] ( ) .
التاسع : يتصف الثواب من عند الله بأنه عظيم وكبير ، فليس فيه قليل ، ومن خصائصه أن كل فرد منه لا يقدر عليه إلا الله ، ويبعث في النفس الغبطة والسعادة .
العاشر : إنعدام الحاجز والبرزخ بين الثواب والأجر من عند الله عز وجل وبين المؤمنين .
الحادي عشر : عجز الشيطان وجنوده من الإنس والجن عن صد أو منع أو تأخير الأجر الإلهي أو الإنتفاع الأمثل منه .
الثاني عشر : الأجر من الله للمؤمنين ترغيب للناس بدخول الإسلام والإستجابة لأمر الله ورسوله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنْ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ] ( ) .
ويحتمل الأجر الذي يأتي للمؤمنين على الإستجابة لله ورسوله بلحاظ أفراد الزمان التي تتعلق بذات الأمر وإتيانه وجوهاً :
الأول : مجئ الأجر والثواب في عالم الآخرة لأنها دار الأجر والثواب قال تعالى [وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى] ( ) .
ومن إعجاز اللفظ القرآني ورود لفظ جزاء في القرآن اثنتين وثلاثين مرة لم يرد بالتعريف بالألف واللام إلا في الآية أعلاه خلافاً للظن بتكراره .
الثاني : مجئ الأجر والثواب في حين اتيان الفعل المأمور به .
الثالث: توالي الأجر والثواب في الحياة الدنيا على ذات الذي يستجيب لأمر الله مدة وأيام حياته في الدنيا .
الرابع : ترشح الأجر على ذوي وأبناء الذي يستجيب لله ورسوله في الدنيا بتقريبهم إلى ذات الإستجابة ونحوها ، ودفع البلاء عنهم .
الخامس : مجئ الأجر للمؤمن الذي يستجيب لأمر الله عند تلاوة المسلمين والمسلمات ذات الأمر الإلهي لأنه تعاهد هذا الأمر وجعل العمل بمضمونه تركة للأهل والأبناء .
السادس : تفضل الله عز وجل بالأجر والثواب للصبر على العمل الصالح والإمتثال لأمر الله ، وهو من فضل الله ، والشواهد على علمه سبحانه بأفعال العباد .
ومن مصاديق الإخراج في قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) أن الله عز وجل أخرج المسلمين للناس ، ومن مصاديق هذا الإخراج تهيئة مقدماته وصرف البلاء والأذى عن المؤمن حتى يمتثل لله عز وجل ورسوله، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ]( ) .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من فضل الله عز وجل ومصاديق قوله تعالى [وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ]( )، ومن مصاديق ومفاهيم عظمة الأجر عجز الخلائق الإحاطة بالأجرالذي يأتي من عند الله ، وهو من الشواهد على قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( ).
وقد ورد لفظ [أَجْرٌ عَظِيمٌ]خمس عشرة مرة في القرآن بصيغة الرفع والنصب ،قال تعالى [وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا]( ) ويتعلق الجهاد في مضامين آية البحث بلحاظ جهات :
الأولى : طاعة الله إيمان وجهاد , وتقوى , وحرب على الكفر ومفاهيمه .
الثانية : الإمتثال لأمر الله ورسوله جهاد ضد كل من :
الأول : الذين كفروا .
الثاني : المنافقون والمنافقات .
الثالث: مفاهيم الشرك والضلالة وعبادة الأوثان .
الرابع : إنه جهاد ضد النفس الشهوية والغضبية .
الثالثة : ركوب الرواحل ، والتوجه لملاقاة العدو مع شدة الجراحات جهاد .
وهل يصح تقدير آية البحث الذين استجابوا لله والرسول فخرجوا إلى معركة أحد ، وقاتلوا فيها ، ثم استجابوا لله والرسول فخرجوا خلف العدو مطاردين له .
الجواب نعم ، ويمكن تسمية آية البحث آية الثواب العظيم على الإستجابة لله ورسوله وفعل الصالحات .
ومع كثرة ورود لفظ [أجر] في القرآن فانه لم يرد بصيغة التعريف بالألف واللام فليس في القرآن لفظ [الأجر ]أو الأجر العظيم ، إنما جاء بصيغة التنكير في ذات الأجر وعظمته لبيان قانون وهو عدم تقييد أو ركود مصاديق الكثرة والعظمة في افراد هذا الأجر، كما وردت الآيات بعجز الناس عن إحصاء النعم الإلهية كما في قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) فان أفراد وكثرة وعظمة الأجر من النعم التي لا يعلمها ويحصيها إلا الله عز وجل .
وهل تدل على هذا المعنى صناعة الكومبيوتر الجواب نعم , فمع انه يحصي اموراً يعجز عنها الإنسان , وفيه علوم متنوعة تبين إنجاز العقل البشري إلا أنه حتى لو أضيفت أجهزته إلى جهود وحساب الخلائق فانها متخلفة عن الإحاطة بمعشار النعم الإلهية .
وهل هذا الأجر من الكلي المتواطئ في الموارد الخمس عشرة التي ورد فيها في القرآن أم أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة.
الجواب انه أعظم وأكبر منها مجتمعة لأن ذات عظمته وأفراده في إزدياد مطرد .
من أيام العرب( )
الحادي والتسعون : يوم برزة – لبني فراس على بني سليم وبرزة: موضع وقد اتصل به يوم الفيفاء وهو لبني سليم على بني فراس وأصل الفيفاء: المفازة لا ماء فيها واطلقت على موضع.
الثاني والتسعون : حروب الفجار – بين كنانة وقيس وسميت الفجار لانها كانت في الاشهر الحرم وهي الأشهر الحرم ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ) ففجروا فيها وهما فجاران :
الفجار الاول : ثلاثة أيام .
الفجار الثاني :خمسة أيام في أربع سنين .
وقد حضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم عكاظ مع أعمامه وكان يناولهم النبل وانتهت سنة 589 م وتعرف أيام الفجار الثاني
1- يوم نخلة .
2- يوم شمطة .
3- يوم الصلاة وهو عكاظ الأول .
4- يوم الشرب .
5- يوم مدار قيس .
6- يوم الحريرة ، وهي قرب نخلة إلى جانب عكاظ .
وكما بدأت الحرب بعد قيام البراض بن قيس الضمري بقتل أكثر من شخص إذ كان فتّاكاً ، وألتقت في السنة التالية كنانة وهوازن في عكاظ بجموع كثيرة ، فركب بينهم عتبة بن ربيعة وكان يتيماً صغير (صاح في الناس يا معشر مضر على ما تفانون بينكم هلم إلى الصلح قالت هوازن وماذا تعرض قال أعرض على أن أعطي دية من أصيب منكم ونعفو عن من أصيب منا قالوا وكيف لنا بذلك قال نعطيكم بها رهنا منا وفينا وإلا أخذتم قودكم قالوا لما لنا بذلك قال أنا .
قالوا : ومن أنت .
قال :أنا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس .
فقالوا قد فعلنا فاصطلح الناس , ورضوا بما قال عتبة , وأعطوهم أربعين رجلا من فتيان قريش .
قال حكيم : كنت في الرهن فلما رأت بنو عامر أن الرهن قد صار في أيديهم , رغبوا في العفو فأطلقوهم)( ).
ليأتي الإسلام ويجمعهم فيلتقون خمس مرات في اليوم بالوقوف بين يدي الله عز وجل في صلاة جماعة وحتى الذي لا يحضر الجماعة يؤديها منفرداً وهو يدرك أنها نوع صلة مباركة واخوة إيمانية بينه وبين عموم المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) , أي أخوة تجمعهم المودة , ونبذ الفرقة والإقتتال ومفاهيم الجاهلية والوثنية .
الثالث والتسعون : يوم شعب جبلة – لعامر من قيس وحلفائهم من عبس على تميم وحلفائهم من ذبيان وأسد وغيرهما وجبلة: جبل طويل له شعب عظيم واسع لا يرقى الجبل الا من قبله.
ويوم جبلة من أعظم أيام العرب وأشدها وكان قبل الإسلام بسبع وخمسين سنة.
الرابع والتسعون : يوم ذي نجب – لبني تميم على بني عامر من قيس وذو نجب ذكره ياقوت فقال: موضع كانت وقعة لبني تميم على بني عامر نب صعصعة.
وكان هذا اليوم بعد مرور عام على يوم جبلة.
الخامس والتسعون : يوم الصرائم – بين عبس ويربوع ويسمى يوم بني جذيمة وذات الجرف أيضًا والصرائم: اسم موضع كما في معجم البلدان.
والجرف موضع في نواحي اليمامة.
السادس والتسعون : يوم الرغام – لبني يربوع من تميم على كلاب من قيس.
والرغام اسم رملة بعينها من نواحي اليمامة.
السابع والتسعون : يوم جزع ظلال – لفزارة من قيس على تميم وجزع ظلال: موضع وسببه ان قيام بني فزارة , ورئيسهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ومعه مالك بن حمار الشمخي متساندين هذا من بني عدي بن فزارة وذلك من بني شمخ بن فزارة بالإغارة على التيم وعدي وثور أطحل من بني عبد مناة فملأوا أيديهم غنائم وابلا ونساءً وأخذ يومئذ شريك بن مالك بن حذيفة أربعين امرأة.
الثامن والتسعون : يوم المروت – لتميم على عامر من قيس، والمروت: موضع في ديار بني تميم.
التاسع والتسعون : يوم بزاخة – لضبة على أياد، وبزاخة: ماء وسببه ان أغار محرق الغساني وأخوه اياد وطوائف من العرب من تغلب وغيرهم على بني ضبة بن أد ببزاخة فاستاقوا النعم فأتى الصريخ بني ضبة فركبوا فأدركوه واقتتلوا قتالا شديدا ثم ان زيد الفوارس حمل على محرق فاعتنقه وأسره وأسروا أخاه حبيش بن دلف السيدي فقتلهما بنو ضبة وهزم القوم وأصيب منهم ناس كثير فقال في ذلك ابن القائف أخو بني ثعلبة:
نعم الفوارس يوم جيش محرق … لحقوا وهم يدعون بال ضرار
4 – يوم النقيعة – لضبة على عبس والنقيعة : أرض تنبت الشجر بين بلاط سليط وبني ضبة.
ويسمى هذا اليوم يوم أعيار ، (كان المثلم بن المشجر العائذي ثم الضبي مجاوراً لبني عبس؛ فتقامر هو وعمارة بن زياد، وهو أحد الكملة، فقمره عمارة حتى اجتمع عليه عشرة أبكر، فطلب منه المثلم أ، يخلي عنه حتى يأتي أهله فيرسل إليه بالذي له، فأبى ذلك، فرهنه ابنه شرحاف بن المثلم، وخرج المثلم فأتى قومه فأخذ البكارة فأتى بها عمارة وافتكّ ابنه.
فلما انطلق بابنه قال له في الطريق: يا أبتاه من معضالٌ ؟ قال: ذلك رجل من بني عمك ذهب فلم يوجد إلى الساعة.
قال شرحاف: فإني قد عرفت قاتله.
قال أبوه: ومن هو ؟ .
قال : عمارة بن زياد سمعته يقول للقوم يوماً وقد أخذ فيه الشراب إنه قتله ولم يلق له طالباً .
ولبثوا بعد ذلك حيناً وشب شرحاف. ثم إن عمارة جمع جمعاً عظيماً من عبس فأغار بهم على بني ضبة فأخذوا إبلهم، وركبت بنو ضبة فأدركوهم في المرعى .
فلما نظر شرحاف إلى عمارة قال: يا عمارة أتعرفني ؟ قال: من أنت ؟ قال: أنا شرحاف، أد إلي ابن عمي معضالاً، لا مثله يوم قتلته ! وحمل عليه فقتله، وقاتلت ضبة وعبس قتالاً شديداً واستنقذت ضبة الإبل، وقال شرحاف:
ألا أبلغ سراة بني بغيض … بما لاقت سراة بني زياد
وما لاقت جذيمة إذ تحامي … وما لاقى الفوارس من بجاد
تركنا بالنقيعة آل عبسٍ … شعاعاً يقتلون بكلّ واد
وما إن فاتنا إلاّ شريد … يؤمّ القفر في تيه البلاد
فسل عنّا عمارة آل عبسٍ … وسل ورداً وما كلٌّ بداد
تركتهم بوادي البطن رهناً … لسيدان القرارة والجلاد) ( ).
المائة : يوم جديس – لجديس على طسم وهما من العرب البائدة.
الواحد بعد المائة : يوم ذات الاثل – لأسد على سليم وذات الأثل: موضع في بلاد تيم الله بن ثعلبة.
الثاني بعد المائة : يوم حوزة الأول ، وقد وقعت بين سُليم وغطفان حرب بسبب مقتل معاوية بن عمرو بن الشريد السلمي وسمي يوم حوزة الأول ، إذ أنه اعجب بامرأة من بني مرة رآها في سوق عكاظ ، وكانت جميلة ، فدعاها لنفسه ، فامتنعت عليه فغزا بني مرة ، وعندما علموا بقدومه تجهزوا له ، وعادة ما يكون المدافع في حال وموضع أحسن من المهاجم، فقتلوا معاوية، فعزم أخوه صخر بن عمرو الشريد السلمي الثأر والإنتقام لأخيه معاوية، فأغار على بني مرة وسمي هذا اليوم يوم حوزة الثاني.
وفيه قُتل رئيس بني مرة هاشم بن حرملة، وأخوه دريد، ورضيت بنو سُليم، وقالت الخنساء شعراً كثيراً في رثاء أخويها معاوية وقتاله لبني أسد بن خزيمة، فطعنه أبو ثور الأسدي فمرض نحو سنة كاملة ثم مات، واسم الخنساء تماضر بنت عمرو بن الشريد وكان معاوية أخاها لأبيها وأمها، وضحى أخاها لأبيها، وهو أحبهما إليها لأنه حليم جواد كما بذل وسعه في الثأر لأخيه معاوية وكانت تقول البيتين والثلاثة حتى قتل أخوها وقالت في صخر(أعيني جودا ولا تجمدا … ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجريء الجميل … ألا تبكيان الفتى السيدا
طويل العماد عظيم الرما … د ساد عشيرته أمردا
ومن قولها أيضاً في صخر أخيها:
أشم أبلج يأتم الهداة به … كأنه علم في رأسه نار)( ).
وزوج الخنساء هو الضحاك بن عقيل و(حضرت الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية حرب القادسية ومعها بنوها أربعة رجال، فقالت لهم من أول الليل: يا بني إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنوا رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم ولا هجنت حسبكم ولا غبرت نسبكم وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين. واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية يقول الله تعالى: ” يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون “( ).
فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين وبالله على أعدائه مستنصرين , فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وجللت ناراً على أوراقها فتيمموا وطيسها وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة فخرج بنوها قابلين لنصحها , عازمين على قولها فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم وأنشأ أولهم يقول:
يا إخوتي إن العجوز الناصحة … قد نصحتنا إذ دعتنا البارحه
مقالة ذات بيان واضحة … فباكروا الحرب الضروس الكالحه
وإنما تلقون عند الصائحة … من آل ساسان الكلاب النابحه
قد أيقنوا منكم بوقع الجائحة … وأنتم بين حياة صالحه
أو ميتة تورث غنماً رابحه
وتقدم فقاتل حتى قتل رحمه الله ثم حمل الثاني وهو يقول:
إن العجوز ذات حزم وجلد … والنظر الأوفق والرأي السدد
وقد أمرتنا بالسداد والرشد … نصيحة منها وبرا بالولد
فباكروا الحرب حماة في العدد … إما لفوز بارد على الكبد
أو ميتة تورثكم عز الأبد … في جنة الفردوس والعيش الرغد
فقاتل حتى استشهد رحمه الله ثم حمل الثالث وهو يقول: والله لا
نعصي العجوز حرفاً … قد أمرتنا حدباً وعطفا
نصحاً وبراً صادقاً ولطفاً … فبادروا الحرب الضروس زحفا
حتى تلفوا آل كسرى لفاً … أو تكشفوهم عن حماكم كشفا
إنا نرى التقصير منكم ضعفاً … والقتل فيكم نجدة وزلفى
فقاتل حتى استشهد رحمه الله. ثم حمل الرابع وهو يقول:
لست لخنساء ولا للأخرم … ولا لعمر وذي السناء الأقدم
إن لم أرد في الجيش جيش الأعجم . ماض على الهول خضم خضرم
إما لفوز عاجل ومغنم … أو لوفاة في السبيل الأكرم
فقاتل حتى قتل رضي الله عنه وعن إخوته.
فبلغها الخبر فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته)( ).
وكان عمر بن الخطاب يعطي الخنساء أرزاق أولادها الأربعة لكل واحد مائتي درهم حتى قبض .
قانون دعوة القبائل
من الإعجاز في السنة النبوية تعدد المنافع من طواف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على العرب أيام موسم الحج منها :
الأول : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوظائف الرسالة وعرض نفسه على القبائل في أشد الأحوال وعنه صلى الله عليه وآله وسلم (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت)( ) .
فالذين يأتي لدعوتهم يظهرون الإعراض في الأعم الأغلب عنه ويجري خلفه رجال قريش يحذرون منه، ولكن هذا الأعراض لا يعني الصدود التام على نحو السالبة الجزئية، إنما يكون هناك تفكر وتدبر من القوم أو شطر منهم , وإستحضار لآيات القران , فلا يستحوذ الرؤساء على العقول, وإن كان القبول أو الجفاء ساعتئذ بيدهم .
الثاني : اتصال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقبائل ورجالاتها أيام الموسم من السنة الرابعة للبعثة النبوية وإلى حين هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ومنها :
الأولى : بنو عامر بن صعصعة .
الثانية : محارب بن خصفة .
الثالثة : فزارة .
الرابعة : غسان .
الخامسة : بنو مرة .
السادسة : بنو حنيفة الذين ردوا عليه بزجر واستخفاف .
(ذكر الواقدي بإسناد له عن عامر بن سلمة الحنفي وكان قد أسلم في آخر عمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال نسأل الله عز وجل أن لا يحرمنا الجنة لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءنا ثلاثة أعوام بعكاظ وبمجنة وبذي المجاز يدعونا إلى الله عز وجل وأن نمنع له ظهره حتى يبلغ رسالات ربه ، ويشرط لنا الجنة فما استجبنا له ولا رددنا جميلا لقد أفحشنا عليه وحلم عنا .
قال عامر : فرجعت إلى حجر في أول عام فقال لي هوذة بن علي هل كان في موسمكم هذا خبر فقلت رجل من قريش يطوف على القبائل يدعوهم إلى الله وحده وإلى أن يمنعوا ظهره حتى يبلغ رسالة ربه ولهم الجنة، فقال هوذة من أي قريش قلت هو من أوسطهم نسبا من بني عبد المطلب قال هوذة أهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قلت هو هو قال أما إن أمره سيظهر على ما ها هنا فقلت : ها هنا قط من بين البلدان قال وغير ما ها هنا .
ثم وافيت السنة الثانية فقدمت حجرا فقال ما فعل الرجل فقلت : رأيته على حاله في العام الماضي .
قال ثم وافيت في السنة الثالثة وهي آخر ما رأيته وإذا بأمره قد أمر وإذا ذكره كثير من الناس وأسمع أن الخزرج تبعته فقدمت حجرا .
فقال لي هوذة : ما فعل الرجل فقلت رأيت أمره قد أمر ورأيت قومه عليه أشداء .
فقال هوذة : هو الذي قلت لك ولو أنا تبعناه كان خيرا لنا ولكنا نضن بملكنا وكان قومه قد توجوه وملكوه
قال عامر فمر بي سليط بن عمرو العامري حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوذة فضيفته وأكرمته وأخبرني من خبر هوذة أنه لم يسلم وقد رد ردا دون رد .
قال فأخبرت سليطا خبري لهوذة فأخبره سليط رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم عامر ابن سلمة ومات هوذة بن علي سنة ثمان من الهجرة على نصرانيته) ( ).
السابعة : سُليم .
الثامنة : عبس وعن أبي وابصة العبسي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم بمنزلهم بمنى في أيام التشريق فدعاهم إلى الله أي انه لم يدعهم إلى نفسه ونصرته فلم يستجيبوا له .
وكان معهم رجل اسمه ميسرة بن مسروق العبسي فقال : أحلف بالقرآن لو صدقنا هذا الرجل وحملناه حتى نحل به وسط رحالنا لكان الرأي يرغبهم بنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يوحى إليه وفي سكنه معهم عز وفخر لهم .
فقال له الملأ من أصحابه : نقوم من بين العرب بأخذه معنا ، وقومه يضمرون له العداء ، وقد يقاتلون من يأخذه .
بلحاظ كبرى كلية وهي أن الذين يأخذون النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكون في جوارهم وذمهم , ولابد ان يمتنعوا عن تسيلمه إلى كفار قريش وأن طلبوه تحت قوة السيف .
فقال ميسرة : نعم نأخذه من بين العرب لأن الله يظهر أمره ، وهو الذي تجلى بقوله تعالى [لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] ( ) .
فقال : دعنا منك لا تعرضنا لما لا قبل لنا به .
عندها توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ميسرة ودعاه على نحو القضية الشخصية إلى الإسلام ، اعتذر لعدم رغبته بمخالفته قومه وقال له (وإنما الرجل بقومه، فإذا لم يعضدوه فالعدى أبعد.) ( ).
وفي طريق عودة عبس إلى ديارهم قال لهم ميسرة (ميلوا بنا إلى فدك فإن بها يهود نسائلهم عن هذا الرجل فمالوا إلى اليهود فأخرجوا سفرا لهم فوضعوه ثم درسوا ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
النبي الأمي العربي يركب الحمار ويجتزىء بالكسرة وليس بالطويل ولا بالقصير ولا بالجعد ولا بالسبط في عينيه حمرة مشرب اللون فإن كان هو الذي دعاكم فأجيبوه وادخلوا في دينه ، فإنا نحسده ولا نتبعه ولنا منه في مواطن بلاء عظيم ، ولا يبقى أحد من العرب إلا اتبعه أو قتله.
فقال ميسرة : يا قوم إن هذا الأمر بين , فأسلم ميسرة في حجة الوداع)( ).
التاسعة : بنو نصر .
العاشرة : بنو البكّاء .
الحادية عشرة : كندة .
وتبين هذه الأخبار حقيقة وهي أن القبائل لم تأت إلى النبي تسأله عن نبوته ومعجزاته إنما كان هو يبذل الوسع ويصل إليهم في منازلهم ، فذهب إلى كندة وحينما كلمهم أعرضوا عنه ، ولكن أصغرهم أخذ ينادي [يا قوم استبقوا إلى هذا الرجل قبل ان تسبقوا اليه فوالله إن أهل الكتاب ليحدثونا أن نبيا يخرج من الحرم قد أظل زمانه فأبوا ] ( ) .
لبيان مصداق لقوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) ، وتقدم البشارات والإنذارات بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية عشرة : كلب وهي قبيلة قحطانية ، وكانت في حلف مع قريش وتأمن لهم طريق القوافل إلى الشام ، وذكر ياقوت الحموي أن دومة الجندل كانت عاصمة قبيلة كلب .
الثالثة عشرة : الحارث بن كعب (قال ابن إسحاق: وحدثني ابن شهاب الزهري أنه عليه السلام أتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مليح، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه فأبوا عليه.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عبدالرحمن بن [ عبدالله بن ] حصين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى كلبا في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول: “يا بنى عبدالله إن الله قد أحسن اسم أبيكم” فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم)( ).
الرابعة عشرة : عُذرة بن سعد بن هزيمة من حمير ديارهم في وادي القرى ،وكان رجال منهم يدينون باليهودية وساركوا في معركة الأحزاب ثم صالحوا المسلمين على دفع الجزية ثم دخلوا الإسلام ، ومنهم جميل بن معمر العذري الملقب جميل بثينة .
الخامسة عشرة : بكر بن وائل ، إذ قدم وفد كبير منها إلى مكة فعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه عليهم ، واستمعوا له ولكنهم لم يجيبوه بالإيجاب أو النفي ، إنما قالوا : حتى يجئ شيخنا حارثة ، فلما جاء واستمع لما عرضه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : (إن بيننا وبين الفرس حربا فإذا أفرغنا مما بيننا وبينهم عدنا فنظرنا فيما تقول فلما التقوا بذي قار هم والفرس قال لهم شيخهم ما اسم الرجل الذي دعاكم إلى ما دعاكم إليه قالوا محمد قال فهو شعاركم فنصروا على الفرس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بي نصروا
وأخرج البخاري في تاريخه والبغوي في معجمه عن الأخرم الهجيمي قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم ذي قار ، هذا أول يوم انتصف فيه العرب من العجم ) ( ).
السادسة عشرة : الحضارمة , نسبة إلى حضرموت , ومنهم من أسلم والنبي لا يزال في مكة قبل الهجرة .
لقد تجلت معالم النبوة في طواف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القبائل وهو يبين لهم أنه رسول الله وأن إتباعه واجب ، وفيه خير الدنيا والبركة ، وأن الإمتناع عن نصرته تفويت لأسباب النجاة وليكون هذا الطواف حجة ومقدمة لدخول الناس الإسلام ، ونوع زاجر للذين كفروا من محاربته .
الثالث : ذهاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطائف ودعوة أهلها للإسلام إذ بقي فيها عشرة أيام يدعو أشرافها إلى الإسلام ولكنهم طلبوا منه المغادرة ، وأغروا به صبيانهم وسفاءهم .
الرابع : تحذير العرب من نصرة قريش على النبي وأصحابه في معركة أحد وأنتصر على قريش في معركة بدر ، وصاروا يسعون للثأر والإنتقام فامتنعت بعض القبائل عن نصرتهم .
الخامس : تهيئة مقدمات دخول الناس للإسلام .
السادس : ميل النفوس إلى الإسلام .
السابع : مبادرة بعض الأفراد من كل قبيلة لدخول الإسلام , ليفوزوا بالأجر العظيم الذي تذكره آية البحث, قال تعالى[فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى]( ).
الثامن : عدم توجيه القبائل اللوم للأوس والخزرج عند هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، بدليل أن أهل المدينة يأتون إلى موسم الحج فلا يسمعون عتاباً أو كلاماً قبيحاً من قريش , ومن القبائل الأخرى.
التاسع : لقد ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم علامات وشواهد من النبوة عند كل قبيلة يفد إليها ، فصارت القبائل تسأل أهل المدينة عن نزول آيات القرآن ، والفرائض في الإسلام وأحكام الحلال والحرام .
العاشر : بيان قانون وهو تواضع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقربه من الناس, وتودده إليهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
الحادي عشر : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشكو للقبائل إيذاء قريش له وامتناعهم عن الإستجابة لدعوته للإيمان وعبادة الله ، وفيه حجة وتوثيق ودعوة للقبائل لنبذ ما تفعله قريش ، و نقص من هيبتها بين القبائل لأن سر إكرام الناس لهم هو جوارهم لبيت الله وسدانته .
(عن ابن عباس قال حدثني علي بن أبي طالب عليه السلام قال : لما أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ان يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب فيهم مفروق بن عمر وهانئ بن قبيصة .
فقال مفروق : إلى ما تدعو .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أدعوكم إلى شهادة ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وإلى أن تؤووني وتنصروني فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسله واستغنت بالباطل عن الحق والله غني حميد .
فقال مفروق : والله ما سمعت كلاما أحسن من هذا .
فتلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم الآيات .
فقال مفروق : والله ما هذا من كلام أهل الأرض ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ] ( ).
فقال مفروق : دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرض كسرى وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم تسبحون الله وتقدسونه) ( ) .
فان قلت قد سقط عدد ممن أسلم شهداء في معركة بدر وأحد ، ولم يفوزوا بالغنائم ولم يهنئوا بفتح بلاد فارس ، الجواب لقد نالوا ما هو أعظم بكثير إذ رزقهم الله الخلود في النعيم الدائم كما تقدم في الآيات السابقة ، قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ).
قانون عصمة القرآن من إتخاذ الكفار لآياته لمعاداة الإسلام
لقد خلق الله عز وجل آدم ليكون الإنسان[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، فتناجى الملائكة وتساءلوا مخاطبين الله عز وجل[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ) .
لبيان أن الملائكة لا يخفون على الله شيئاً مما في نفوسهم لإدراكهم بأنه سبحانه يعلم ما يفعلون وما تحدث به أنفسهم، ولأنهم لا يريدون إلا طاعة الله والتسليم المطلق بالحكمة التامة في كل ما يفعل ،وفي التنزيل [وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ]( ).
فلم يكن سؤالهم أعلاه عن إنكار وإستغراب إنما أرادوا تفضل الله عز وجل بإخبارهم عن علة هذه الخلافة والصفات التي تؤهل وتصلح الإنسان لها، وليستعدوا للإستجابة للأمر من عند الله بالسجود لآدم.
وكأن هناك نوع ملازمة بين الخلافة في الأرض وسجود الملائكة للخليفة لبديع صنع الله عز وجل له.
ويتعلق موضوع آية البحث بأكثر من مائتي صحابي خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ملاحقة ومطاردة نحو ثلاثة آلاف رجل من المشركين لم يفقدوا في معركة أحد إلا ثمانية وعشرين منهم .
وقد أخبرت آية البحث عن حال هؤلاء الصحابة بأنهم مثقلون بالجروح وفيه بلحاظ أوان نزول الآية وجوه :
الأول : نزلت آية السياق بعد وصول كفار قريش إلى مكة .
الثاني : نزلت آية السياق وكفار قريش وحلفاؤهم في الطريق مما يجعلهم يفكرون بالعودة لأن الآية تبين حال الصحابة وأنهم جرحى ,والدماء تسيل منهم لكثرة القروح التي تظهر على رؤوسهم ووجوههم وأبدانهم .
الثالث : عجز الذين كفروا عن إتخاذ آية السياق سبباً وحجة للعودة إلى ميدان القتال .
والمختار هو الأخير والثاني أعلاه , ولكنها تبعث الخوف في قلوب الذين كفروا .
ويمكن معه تأسيس قانون بامتناع آيات القرآن من إتخاذ الذين كفروا لها وسيلة لمحاربة المسلمين أو أن الآية القرآنية تكشف لهم ثغرة عند المسلمين ، كما في آية السياق فقد يظن بعضهم أن قوله تعالى[مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ]( ) إخبار وبيان لحال ضعف عند المسلمين بأن الجراحات أرهقتهم، وهو من أسباب مدح الآية الكريمة لهم مما يعني التعجيل بالإجهاز عليهم، الجواب من فضل الله إستبشار المؤمنين الذين تذكره آية البحث أمور :
الأول : انتفاع المسلمين الأمثل من الآية القرآنية .
الثاني : تجدد إنتفاع أجيال المسلمين من الآية القرآنية في كل زمان .
الثالث : دعوة الآية القرآنية المسلمين للنهل منها , والتدبر في معانيها ، والمعاني المستقرأة من الجمع بينها وبين آيات القرآن الأخرى .
الرابع : بعث الله عز وجل الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا برزخ دون إلتفاتهم للإضرار العام بالمسلمين , قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
الخامس : عصمة وخلو الآية القرآنية مما يضر الإسلام والمسلمين ، لقد كان خروج المسلمين لحمراء الأسد عنواناً للتآخي والمودة والتعاضد بينهم في ساعة الشدة وحال الضراء وتهديد العدو .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال (مثل المؤمنين في توادهم وتحاببهم مثل الجسد إذا اشتكى شيء منه تداعى سائره بالسهر والحمى ، وفي الجسد مضغة إذا صلحت وسلمت سلم سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ، القلب) ( ).
ومن معاني الجمع بين الآيتين أن الذين أصابتهم الجروح والقروح يستبشر بهم الشهداء وهم عند الله ، ومن الآيات في المقام ان إستبشار الذين عند الله له خصوصية للمقام السامي الذي يدل عليه قوله تعالى[عِنْدِ اللَّهِ].
وتبين الآية الخصال الحميدة في بضع كلمات وهي :
الأول : الإيمان، وليس في الآية لفظ يدل عليه بالنص مثل (يا أيها الذين آمنوا) أو (ان المؤمنين)ولكن هذا المعنى مستقرأ من قوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ] وتلك مرتبة رفيعة من الإيمان ودليل على اليقين مع الإيمان الظاهر والباطن جاء العمل الصادق والتفاني مع حال الضراء في البدن .
بالإضافة إلى اختتام الآية السابقة بلفظ [المؤمنين] وتقدير بداية البحث المؤمنون الذين قال لهم الناس ..
الثاني : التنزه عن المعصية ، ويدل على هذا التنزه إخبار الآية عن الإستجابة لله والرسول.
الثالث : الإجتهاد في المسارعة في الخيرات وجني الحسنات .
الرابع : الإمتناع عن الجدال مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : التسليم بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رسول من عند الله .
السادس : التحلي بملكة الصبر ، والذي تدل عليه الإستجابة لأوامر الله ورسوله ، وفي التنزيل [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ).
السابع : تلقي التكاليف المتعددة بالقبول والرضا والعمل من غير تراخ أو تسويف .
الثامن : تحمل الجراحات في سبيل الله إذ يدل قوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ] ( ) على استعدادهم للموت دفاعاً عن النبوة والتنزيل .
التاسع : الإحسان وفعل الخيرات .
وهل عصمة القرآن من إتخاذ الذين كفروا آياته للإضرار بالمسلمين أو كشف نواياهم ومقاصدهم من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ) .
الجواب نعم، بلحاظ المعنى الأعم للحفظ من جهات:
الأولى : أفراد الزمان الطولية.
الثانية : تعدد الأماكن، ففي الأمصار يكون القرآن محفوظاً سالماً.
الثالثة : الموضوع ورسم القرآن وتلاوته.
الرابعة : حفظ القرآن من إتخاذ الكفار له وسيلة للإضرار بالإسلام، ولا يجد الذي يسعى في هذا الباب بغيته ، إنما يكون سعيه سبباً لإيمانه .
قانون الإستجابة
لقد خلق الله عز وجل الناس وهو غني عنهم وعن الخلائق كاملةً , إنما جاء الخلق آية كونية وشاهد على بديع صنعه وكثرة آياته , وتعدد مصاديقها والتباين بينها إذ خلق الله عز وجل الملائكة بصور وقدرات شتى وجعل مسكنهم السماء ولا يعلم عددهم إلا هو سبحانه , ثم خلق إنساناً واحداً : [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) فأنبهر الملائكة كيف يكون هذا[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ), مع سعة الإرض , وإتجاه الذرية إلى عمارتها , فأراد الله عزوجل أن يرى الملائكة التباين والتضاد في فضل بني آدم وأن منهم من يكون مقتدياً بالإنبياء في الإنقطاع إلى الله عز وجل والتقوى , وإذ كان الملائكة عقلاً بلا شهوة فإن الإنسان جامع للعقل والشهوة , فمن يغلب عقله على شهوته يختار الإيمان ويتعاهد سنن الصلاح , وتكتب الملائكة له الحسنات , وتستقبله في الآخرة لتقوده إلى مقامه الحسن , وما أعد الله عزوجل له من النعم , وهو من مصاديق قوله تعالى في خاتمة آية البحث (أجر عظيم ) .
وفي الإستجابة أطراف :
الأول : المستجاب له .
الثاني : موضوع الإستجابة .
الثالث : المستجيب .
وذكرت آية البحث مسألة وهي ان المستجاب له الله عز وجل ورسوله لبيان الدرجة الرفيعة التي بلغها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن قرن الله عز وجل طاعته بطاعة الله عزوجل , لتكون الإستجابة في آية البحث على وجوه :
الأول : الإستجابة لله .
الثاني : الإستجابة للرسول .
الثالث : الإستجابة لله والرسول .
ويمكن تسمية الحياة الدنيا بأنها( دار الإستجابة ) إذ يستجيب ويمتثل فيها العباد للأوامر والنواهي التي تأتي وتنزل من عند الله عز وجل , ولا تختص هذه الإستجابة بزمان دون آخر , ولا أمة دون غيرها , إنما جعل قانون ملازم لوجود الإنسان من حين خلقه , إذ إبتدأت هذه الإستجابة بتأهيل آدم لها بقوله تعالى : [ وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ] ( )
ليكون هذا التعليم حجة عليه وعلى ذريته ومادة لشهادة الملائكة مع الناس في الدنيا والآخرة , وحجة على الملائكة أنفسهم , وهذا التعدد في مصاديق الحجة على الناس والملائكة مجتمعين ومفترقين من مصاديق قوله تعالى : [قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( )
وتحتمل إستجابة المهاجرين والأنصار لله والرسول وجوهاً :
الاول : إنها من مصاديق الحجة البالغة في الآية أعلاه .
الثاني : إنها من رشحات الحجة البالغة التي تذكرها الآية أعلاه .
الثالث : هذه الإستجابة طريق للحجة البالغة على الناس ليكون المؤمنون أيام الرسالة والتنزيل قدوة للمسلمين في الإستجابة لله ورسوله .
وقد ورد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في آية البحث بأنه مستجاب له وتأتي آيات تتضمن توجيه الأمر له من عند الله , وآيات تدل على إستجابته لله عز وجل , ووجوب هذه الإستجابة , قال تعالى : [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ] ( ).
قانون في كل آية قرآنية ثناء على العلم وأهله وذم للجهالة
من مصاديق نهل وكسب المؤمنين بما يفوق غيرهم من الناس قولهم [حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] الذي أختتمت به الآية التالية ، لينعم الله عز وجل على الذين يفوضون أمورهم إليه بالثواب العاجل والحاضر إلى جانب الثواب العظيم في الآخرة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) فمن أبهى مصاديق العلم أمور :
الأول : الإيمان .
الثاني : ما يؤدي إلى الإيمان.
الثالث: ما يترشح عن الإيمان .
ويمكن تأسيس علم مستقل تؤلف فيه مجلدات كثيرة يتعلق بكل آية من آيات القرآن وهو ثناء الآية القرآنية على العلم وأهله ، وذمها للجهالة والضلالة ، سواء بلحاظ منطوق الآية القرآنية أو مفهومها بأن يتجلى تفسير وتأويل كل آية قرآنية بلحاظ قوله تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ).
وهل مجئ الآية أعلاه بصيغة الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبصيغة الإستفهام (هل) حث على موضوعية هذه الآية في تفسير كل آية من القرآن .
الجواب نعم ، وهو من ذخائر القرآن التي تفتح أبواباً من العلم لتكون هناك آيات كالأصول التي يتم تفسير كل آيات القرآن بواسطتها ، ومنها آية [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) وهو من أسرار افتتاح القرآن في رسمه ونظمه بها ، وإجماع المسلمين على جزئيتها من سورة الفاتحة التي يبدأ نظم القرآن بها ، وكتُب وفُرض على كل مسلم ومسلمة قراءتها في سبع عشرة ركعة من كل يوم على نحو الوجوب العيني .
ولا يضر به إجتهاد بعض الفقهاء بعدم وجوب قراءتها في الصلاة كابن قدامة في المغني ، ولا ملازمة بين كونها آية من القرآن وبين قراءتها في الصلاة جهراً أو سراً لأن حكم القراءة خاص مع الإجماع على أن كل أمر ذي شأن ينبغي ان يبدأ بالبسملة ، ولما قدم معاوية (فصلى بالناس صلاة يجهر فيها فقرأ أم القرآن ولم يقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } ، فلما قضى صلاته ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم حين استفتحت القرآن؟ فأعاد معاوية الصلاة وقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } ، وهذا الخبر يدل على إجماع الصحابة على أنه من القرآن ومن الفاتحة ، وعلى أن الأولى الجهر بقراءتها) ( ) , وقد تقدم البحث الفقهي بخصوصها مفصلاً في الجزء الأول من هذا السفر المبارك .
ومن إعجاز نظم القرآن وعصمته وإمتناعه عن كونه سبباً في الخلاف والخصومة في آياته مجئ آية مستقلة في سورة النمل تتضمن البسملة ، قال تعالى [إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِاسم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ] ( ) لبيان أن البسملة أمر متسالم ومتوارث بين الأنبياء وأنه مفتاح الخطاب وسبيل النصر والغلبة ، وهو باعث للفزع والخوف في قلوب الطواغيت والملوك الذين يجهلون سنن التوحيد وأن البسملة وحدها كافية لهداية الأمم .
لقد انشغل كثير من العلماء بالخلاف : هل البسملة آية من سورة الفاتحة وحدها أم من كل آية من القرآن ، وهل تقرأ جهراً في الصلاة أم سراً ، ولا بأس به .
ولكن الأولى العناية بالفيوضات التي تترشح عن البسملة وحاجة المسلمين مجتمعين ومتفرقين لها ، وكيف انها ميراث الأنبياء وسلاحهم في الدعوة إلى الله , وهذا المعنى هو الذي جاءت به النصوص عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وإذ اتخذها سليمان وسيلة لدعوة بلقيس للإسلام ، فقد أنعم الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن جعل كل مسلم ومسلمة يرفعان لواء البسملة كل يوم لمحاربة النفس الشهوية والغضبية ولبناء صرح الإيمان .
وتكون الآية أعلاه من سورة الزمر بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : إبتدأت آية البحث بالإخبار عن استجابة أمة من الصحابة لأمر الله عز وجل وأمر رسوله ، وهو من مصاديق أسمى مراتب العلم .
الثاني : بيان ذات آية البحث والسنة النبوية وأخبار الصحابة بتعلق موضوع الإستجابة بخصوص مطاردة جيش الذين كفروا ، لتكون هذه الإستجابة قائمة على أبهى مصاديق العلم لما فيها من قصد وغاية حميدة من وجوه :
الأول : إرادة قصد رضا الله عز وجل .
الثاني : صيرورة الإستجابة لأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سجية ثابتة عند المسلمين .
الثالث : الدفاع عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل حتى في حال الجراحات وكثرة القروح ، ترى ماذا لو لم يخرج الصحابة بجراحاتهم خلف العدو .
الجواب لكّر عليهم العدو وأجهز عليهم وقتلهم أو أسّرهم بجراحاتهم، وليس من علاج ومداواة لجراحاتهم فيموت من لم يقتل منهم تحت وطأة تلك الجراحات والتعذيب ، بينما إذا كانوا في المدينة فان أهليهم وأبناءهم يقومون بمداواتهم وخدمتهم والتفاخر بهم .
وهو من أسرار إخبار الآية عن استجابتهم لله والرسول لأن خروجهم خلف العدو بجراحاتهم وسيلة لأمور :
الأول : إقامة شعائر الله .
الثاني : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : بيان قانون صدق إيمان المسلمين .
الرابع : عمارة الأرض بذكر الله وإقامة الصلاة وحينما إلتقى الجمعان في معركة أحد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض) ( ).
فموضوع ذات الدعاء متصل ومستمر حتى بعد معركة أحد وعزم الذين كفروا على العودة والرجوع للإغارة على المدينة .
وأيهما أشد ضرراً على المسلمين :
أولاً : مقدمات معركة أحد وزحف جيش المشركين وتجحفلهم عند جبل أحد .
ثانياً : سقوط سبعين شهيداً في معركة أحد .
ثالثا : شدة جراحات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاً : جراحات الصحابة من المهاجرين والأنصار .
خامساً : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلف العدو.
سادساً : إحتمال عودة جيش الذين كفروا , وإغارتهم على المدينة المنورة .
الجواب كلها فيها أذىً ومشقة , وفيها الثواب العظيم , وقد تفضل الله عز وجل وأنزل الآيات الثلاثة السابقة في الثناء على الشهداء ، وبيان عظيم شأنهم ومنزلتهم عند الله وأكرم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالثناء عليهم في آية البحث لخروجهم خلف العدو مع شدة جراحاتهم في اليوم السابق وهو يوم معركة أحد لبيان إنكشاف الأذى وانصراف الضرر من معركة أحد وأنطواء صفحتها مع سلامة النبي والإسلام والمهاجرين والأنصار وإغاظة الذين نافقوا , وخزي الذين كفروا من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).
وتكون عودة جيش العدو على شعب :
الأولى : مباغتة العدو للمسلمين وأهل المدينة .
الثانية : تواطئ الذين نافقوا مع جيش الذين كفروا ، وقد وردت بعض الأخبار بالصلة بين رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول برؤساء كفار قريش وغطفان .
الثالثة : كان مع جيش الذين كفروا يوم معركة أحد أبو عامر الراهب ، إذ خرج من المدينة ومعه خمسون من الأوس , وقيل كان عددهم أقل .
وكان يمُّني أبا سفيان وجيش الذين كفروا بأن الأوس والخزرج سيطيعونه ويتركون نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خصوصاً بعد إغراء ثلث جيش المسلمين وسط الطريق بوحي وايعاز من رأس النفاق .
وفي بداية المعركة خاطب الأوس وكان وجيهاً عندهم ، ولكن رسول الله سماه الفاسق كما تقدم في المقدمة , ودعاهم إلى ترك نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشتموه أمام الصفين ، ليكون هذا الشتم والسب إهانة وإنذاراً للعذاب الأخروي الذي ينتظره .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يمنعه عندما أراد الخروج واللحاق بكفار قريش ، فان قلت ليس من دليل على علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخروجه ، الجواب من جهات :
الأولى : يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي أوان خروج أبي عامر الفاسق وأصحابه ، خصوصاً وإنه مقدمة للعدوان والظلم والتعدي .
الثانية : قيام أهل المدينة باخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن خروج أبي عامر وأصحابه .
الثالثة : لو دار الأمر بين علم النبي وأصحابه بخروج أبي عامر الفاسق وأصحابه وبين عدم علمهم , فالأصل هو الأول .
الرابع : اللحاق بأبي عامر وإعادته إلى المدينة أمر ممكن ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بجلبه وإعادته .
الخامس : من الآيات أن إبنه حنظلة كان مؤمناً تقياً ، ولابد أنه يعلم بخروجه وأوانه ومقاصده منه وأصحابه الذين معه ، ثم أن أبي عامر لم يكتف بمن معه ، فقد عرض نيته بترك المدينة والإلتحاق بكفار قريش على غير الذين صاحبوه ورافقوه .
وهو من وجوه الإبتلاء والإمتحان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )السهولة واليسر في إختيار الحق وإتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون هذا الإتباع ومقدماته ونتائجه من البديهيات التي لا تستلزم وسطاً ، وهو من الشواهد على قوله تعالى [هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ) .
لبيان قانون مستحدث وهو أن معاني وحضور ودلالات هذه الآية أعم من أن تختص بآيات القرآن وتأويلها فتشمل الإستجابة أو عدمها للسنة النبوية وهو من الأسرار بإبتداء آية البحث بالجمع بين الإستجابة لله عز وجل والإستجابة لرسوله , ليكون من وجوه تقدير آية البحث : قل هل يستوي الذين يعلمون فيستجيبون لله والرسول والذين لا يعلمون ممن لا يستجيبون لله والرسول والذين يحاربون الله ورسوله ).
لقد بينت الآية التالية أن الناس أيام معركة أحد على أقسام :
الأول : المؤمنون من المهاجرين والأنصار وهم المذكورون في قوله تعالى[قِيلَ لَهُمْ].
الثاني : الذين نافقوا بأن نطقوا بالشهادتين وأظهروا الإسلام ، وحضروا الصلوات اليومية ، وقاموا بالخروج مع المسلمين أحياناً في القتال في ذات الوقت الذي يخفون فيه الكفر ويصرون على الضلالة .
الثالث : الذين كفروا وجحدوا بالنبوة ، وجهّزوا الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يكتفوا بالقتال في معركة أحد ووقوع سبعين شهيداً من المسلمين ، وتغشي الجراحات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار ، فما أن بلغ الذين كفروا الروحاء في طريق عودتهم إلى مكة حتى عزموا على الرجوع لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
فسّخر الله عز وجل من ينقل خبرهم وما عزموا عليه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : اليهود الذين في المدينة وحولها من بني النضير وقريظة وبني قينقاع .
الخامس : الناس الذين يميلون إلى الإسلام ويتعاطفون مع المسلمين ، ويدركون حقيقة وهي أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله جاء بالمعجزة إلا أنهم قصرّوا وتوانوا وأرجأوا دخولهم الإسلام ، لتكون آية البحث ومضامينها القدسية جذباً لهم للإسلام وتبكيتاً لهم على الإبطاء عن دخوله وأداء الفرائض ، وكأنها تقول لهم : لو دخلتم الإسلام واستجبتم لله والرسول لما اصابت القروح النبي والمهاجرين والأنصار ليكون كسر الأسنان الأمامية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حجة عليهم ، ودعوة لهم للمبادرة للدفاع عنه بقصد القربة إلى الله والذي لا يتحقق إلا بالإيمان .
ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صحته وسقمه يدعو بشخصه الكريم إلى الله عز وجل , وهو من عمومات قوله تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
فصحيح أن الله عز وجل عصمه من الخطأ والزلل إلا أنه لم يعصمه من الجراحات والقتل ، قال تعالى [وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ] ( ) لتستصرخ جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين والناس جميعاً للإحتجاج على الذين كفروا وتبكيتهم والتصدي لهم ، وتمنع جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين نافقوا من القول لاخوانهم من الأنصار أنكم تعرضون أنفسكم للقتل لأن النبي لم يكن في مأمن منه , ويدرك الصحابة أن سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى .
وفيه تحذير وإنذار للمؤمنين بأن حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطر ولابد من الذود والدفاع عنه , وهو من مصاديق الآية التالية وزيادة إيمانهم عندما[قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا]( )، والتي يأتي الجزء التالي وهو الواحد والستون بعد المائة خاصاً بتفسيرها.
إذ تدل جراحاته واقتراب العدو منه يريدون قتله على أنه لم يكن بمأمن من القتل يوم معركة أحد , وفيه دعوة للهدى , وحرب على النفاق وحجة عليهم .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ] ( ) .
الجواب نعم وفي الأمر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [قل] بشارة لسلامته من القتل لحين تبليغ المنافقين وإقامة الحجة عليهم بالعجز عن دفع الموت عن أنفسهم وهل يصح تقدير الآية أعلاه : قل فأدرءوا عن أنفسكم القتل .
الجواب نعم ، والقتل أخص من الموت ، لذا وردت الاية أعلاه بالمعنى الأعم الشامل للموت والقتل والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، فكل قتل هو موت وليس العكس ، ولو قالت الآية فأدرءوا عن أنفسكم القتل لقيل بأنهم يجتنبون القتال ، وأن القتل أمر قليل الحدوث .
ومن الإعجاز في المقام أن ذات الآية القرآنية لها منافع عظيمة بخصوص قوله تعالى[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ) من جهات :
الأولى : تثبيت الإيمان في قلوب الصحابة رجالاً ونساءً ، فقد كانوا حديثي عهد بالإسلام ، ويلاقون الشكوك وأسباب الريب من الذين نافقوا، واشهار السيوف من الذين كفروا كما في معركة بدر وأحد والخندق .
لتكون كل آية قرآنية من مصاديق زيادة الهدى كماً وكيفاً في قوله تعالى [وَزِدْنَاهُمْ هُدًى] ( ) .
ومن معاني زيادة الهدى زيادة العلم بلحاظ كبرى كلية وهي الملازمة بين العلم والهدى ، وأحدهما طريق للآخر ومرآة له من غير أن يلزم الدور بينهما ، فلا غرابة أن تحث أول آية من القرآن نزولاً على طلب العلم بصيغة الإيمان بقوله تعالى [اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ] ( ) .
الثانية : كل آية قرآنية علم قائم بذاته وهو من أسرار جعل كل آية بين فاصلتين ، ليكون من مصاديق الآية أعلاه وجوه منها :
الأول : قل هل يستوي الذي يعلمون بنزول الآية القرآنية من عند الله والذين يجهلون نزولها ) ليدخل في الذين يعلمون عموم المسلمين والمسلمات، وعدم إختصاص الآية بالمؤمنين ، وقد يقال بدخول الذين لا يعلمون الكفار والمنافقون ومن لم تبلغه الدعوة ولم تتل عليه آيات القرآن ، فلا يعني قوله [َالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] الحصر بالكفار أو أهل الجهالة والضلالة، إنما يشمل الذي لم تبلغه ، مع التباين في العذر وعدمه والقدر المتيقن من الآية هم كفار العرب الذين قالوا ليس محمد بشيء (عن ابن عباس قال : قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا محمد إن كنت رسولاً من الله كما تقول فقل لله فليكلمنا حتى نسمع كلامه، فأنزل الله في ذلك { وقال الذين لا يعلمون } قال : هم كفار العرب)( )، وهو من إعجاز الآية ، وفيه دعوة للمسلمين للإجتهاد في التبليغ ودعوة الناس إلى الإسلام .
الثاني : هل يستوي الذين يعلمون فيستجيبون لله ورسوله والذين لا يعلمون الذين يقومون بقتال النبي وأنصاره .
الثالث : هل يستوي الذين يعلمون بأن يتلقوا القروح بالرضا والشكر لله عز وجل والذين لا يعلمون من الذين اختاروا القعود .
الرابع : هل يستوي الذي يعلمون فأحسنوا وأتقوا والذين لا يعلمون منافع الإحسان ، وثمرات التقوى ، وجزاؤها في الدنيا والآخرة فمن مصاديق آية البحث وجوه :
أولاً : الذين أحسنوا بقصد القربة إلى الله .
ثانياً : الذين اتقوا بقصد القربة إلى الله .
ثالثاً : الذين أحسنوا طاعة لله عز وجل .
رابعاً : الذين أحسنوا مع شدة وكثرة القروح التي أصابتهم يوم معركة أحد .
ومن الآيات إنتهاء معركة أحد في ذات اليوم الذي إبتدأت به أما إحسان المؤمنين فهو مستمر ومتصل ومتجدد كل يوم لتتضمن الآية التوبيخ والتبكيت للذين كفروا والمنافقين لأنهم أرادوا منع الإحسان في الأرض ليس فقط بالصد عنه، إنما بقتل النبي وأصحابه وإستئصال الإحسان .
الثالثة : تلاوة الآية القرآنية إحسان محض ، قال تعالى [وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ) وهو من الإحسان من وجوه :
الأول : الإحسان بالتلاوة للذات .
الثاني : الإحسان للمسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) .
ويحتمل الإحسان في المقام وجوهاً :
أولاً : إحسان المسلم للرجال من المسلمين .
ثانياً : إحسان المسلم بالتلاوة للمسلمات .
ثالثاً : إحسان المسلمة بالتلاوة لغيرها من المسلمات.
رابعاً : إحسان المسلمة بتلاوتها القرآن للرجال من المسلمين ، فان قلت لا يصح قيام المسلمة بالجهر بالتلاوة وسماع الأجنبي لها ، والجواب الإحسان في المقام أعم فيشمل إحسان المسلمة إلى إخوانها وأبيها وأمها وزوجها وأبنائها بالإضافة إلى أن ذات التلاوة الصامتة إحسان للذين يرون المرأة تقرأ القرآن أو يسمعون بقراءتها وواقية لها ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا]( ).
الثالث : تلاوة المسلم والمسلم الآية القرآنية إحسان لغير المسلمين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) فذات القرآن حكمة وموعظة سواء بالجهر أو الإخفات .
وقد يصح القول أنه لو أنحصر النفع والإحسان بالتلاوة في الجهر بها لما جعل الله عز وجل شطراً من القراءة في الصلاة بالإخفات .
لتكون ذات القراءة في الصلاة جهراً أو إخفاتاً من مصاديق قوله تعالى [هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) فيتصف الذين يعلمون بخصال :
الأولى : إقامة الصلاة .
الثانية : أداء الصلاة استجابة لله عز وجل ، وهو من مصاديق أول آية البحث [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ] ( ).
الثالثة : قراءة القرآن في الصلاة .
الرابعة : التدبر في ألفاظ ومعاني آيات القرآن ، والعمل بمضامينها ، وهل لأداء الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة اليومية، وتلاوة القرآن فيها موضوعية في صدهم ولقائهم العدو في معركة أحد وأستجابتهم لله ورسوله والخروج خلف الذين كفروا مع أنهم أقل من معشار ، عدد جيش الذين كفروا بالإضافة إلى قلة أسلحتهم وشدة وطأة القروح والجراحات عليهم ، ولكن هذه الأسباب لم تقعدهم عن الدفاع طرداً وعكساً .
لقد تطلع الذين نافقوا إلى قعود الذين آمنوا عن معركة أحد، ورجعوا من وسط الطريق إلى المعركة على أمل أن يرجع معهم الأوس والخزرج، ولكنهم دخلوا معركة أحد وقاتلوا ببسالة تحت لواء النبوة، وعندما إنتهت المعركة ظن المنافقون أنهم سيقعدون لا أقل ما دامت جراحاتهم لم تلتئم، فأمر الله عز وجل رسوله بأن يندبهم لمطاردة الذين كفروا في اليوم الثاني لمعركة أحد، وهذا الأمر من الإعجاز في نعتهم بأنهم استجابوا لله والرسول، وليس لأمر والنداء خاص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحده كيلا يجزع المسلم في ساعة الإبتلاء، خاصة مع الأراجيف والشكوك التي يبثها الذين نافقوا.
وإذا ما تعرض الناس للبلاء والإمتحان دبّ الخلاف والفرقة بينهم، وقد يتخلى كثير منهم عما يظن أو يعتقد، فجاءت آية البحث لبيان صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخلاص أصحابه في إيمانهم بأن قاموا بالإستجابة لله ورسوله، لتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن حضور المهاجرين والأنصار إلى معركة أحد، إنما هو استجابة لله ورسوله ويدل عليه قوله تعالى[مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ], الذي يخرج القاعدين بالتخصص من مضامينها إلا أن يراد أذى عموم المسلمين والمسلمات بقروح الخاصة الذين دافعوا يوم معركة أحد , وكأنها أصابت الجميع .
وإذا كان أحد الصحابة لم يصب بالجراح في معركة أحد ، فهل يشمله قوله تعالى أعلاه وأنه يحتسب ممن أصابهم القرح ، أم أن القدر المتيقن من الآية هو خصوص الذين أصيبوا بالجراح والقروح كما في جراحات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجراحات الإمام علي عليه السلام وطلحة والزبير وسعد بن معاذ وغيرهم.
الجواب هو الأول بفضل من الله لذا فان آية البحث إنحلالية ، وتقديرها بصيغة المفرد على وجوه :
الأول : من بعد ما أصاب أحدكم القرح .
الثاني : من بعد ما أصاب أحدكم القرح .
الثالث : من بعد ما أصاب الرسول القروح .
الرابع : من بعد ما أصابك القروح .
لتكون هذه القروح شاهداً على مرتبة العلم التي بلغوها ، وتدل على جهالة كل من الأول الذين قاتلوا المسلمين في معركة بدر وأحد والخندق وحنين ، وأيهما أكثر جهالة بين الذين قاتلوا المسلمين في هذه المعارك .
الجواب هم الذين اشتركوا في الهجوم على المسلمين في معركة بدر ثم معركة أحد ثم معركة الخندق ، أما بلحاظ الإشتراك في المنفرد من هذه المعارك ، بالمختار هو الذين قاتلوا المسلمين في معركة حنين لوجوه :
الأول: تجهز هوازن وثقيف لمعركة حنين وخروجهم جميعاً.
الثاني : إخراج ثقيف النساء والصبيان والأنعام والمواشي معهم إلى ميدان المعركة بقصد الدفاع والذب عنها فأخزاهم الله عز وجل بالذلة والهوان والعار بما لم يصب به رهط من العرب لولا تدارك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإعادة النساء والصبيان لهم .
الثالث: إبتداء المشركين في معركة حنين بالهجوم على المسلمين .
الرابع : إختيار المشركين المباغتة والكيد من جهة إختيار مكان وأوان الهجوم في الخيوط الأولى للفجر .
الخامس : مجئ معركة حنين بعد فتح مكة وقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بكسر الأصنام التي في البيت وهو يقول [وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا]( ) .
وتلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية أثناء رميه الأصنام إلى الأرض معجزة له ، وزاجر لثقيف عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وبشارة النصر عليهم .
السادس : لم ترتفع الأصوات بين أهل الطائف بالصبر وتأجيل القتال خاصة مع إنحسار الكفر وهزيمة رجالات قريش ودخولهم الإسلام .
السابع : نزول الأذى والإنكسار بالمسلمين في بدايات معركة حنين لولا أن أنعم الله عز وجل على المسلمين بثبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان إذ مرت عليه طلائع المسلمين الأولى منهزمة وهو يناديهم ويدعوهم بالعودة إلى القتال ونزل قوله تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ] ( ) .
وهل من موضوعية لآية البحث في ثبات ونصر المسلمين في معركة حنين الجواب نعم من جهات:
الأول : إبتداء آية البحث بالإخبار عن استجابة المهاجرين والأنصار دعوة لعموم المسلمين في معركة حنين بالإستجابة لله والرسول وتتجلى هذه الإستجابة بأمور :
الأول : العودة إلى ميدان القتال .
الثاني : الثبات في مواضع القتال .
الثالث : الدفاع والذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الآيات في معركة أحد أن صحابية من الأنصار وهي أم عمارة نسبية بنت كعب ، أخذت تدافع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصيبت بالجراح ضربها ابن قمئة على عاتقها بعد أن صار على بعد أمتار معدودة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتكون حجة على المسلمين في معركة حنين التي جرت بعد خمس سنوات من وقوع معركة أحد ، كما أن إنهزام المسلمين في معركة أحد ونزول الآيات بيان لهذه الهزيمة وأضرارها لولا رحمة الله , ولتكون واقية من الفرار يوم حنين ، قال تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ*إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ] ( ).
ليتلوا المسلمون الآية أعلاه كل يوم وليلة في الصلاة المكتوبة وخارج الصلاة لتكون حرزاً سماوياً يحول دون استمرار ذات الهزيمة .
ومن التباين بين هزيمة المسلمين في معركة أحد والهزيمة الجزئية في معركة حنين وجوه :
الأول : قلة عدد جيش المسلمين في معركة أحد إذ كان عددهم نحو سبعمائة ، بينما صار عددهم اثني عشر ألفاً ، عشرة آلاف جاءوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة لغرض فتح مكة ، وألفين من مسلمي الفتح .
الثاني : علة خسارة المسلمين في معركة أحد ترك الرماة المسلمين مواضعهم التي جعلهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أما في معركة حنين فقد انهزم المسلمون للمفاجأة وسرعة هجوم ثقيف ، إذ خرجوا من الوادي دفعة واحدة والمسلمون يسيرون في الطريق .
ومن الآيات أن المسلمين لم ينهزموا في أي من المعركتين سواء معركة أحد أو معركة حنين ، وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنّة الدفاعية .
الثالث : هزيمة أكثر جيش المسلمين في كل من المعركتين ثم رجوعهم إلى ميدان القتال ، باستثناء أفراد في معركة أحد لم يرجعوا إليها .
الرابع : التباين في كيفية وزمان رجوع المنهزم إذ تأخر شطر من الصحابة بالعودة أو أنهم أبعدوا في الهزيمة ، أما في معركة حنين فان الذين انهزموا من السرايا الأولى من الجيش كانوا في سير كانوا يمرون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيدعوهم للعودة والرجوع فكانوا يعالجون دوابهم للإستدارة وإذا امتنعت دابة أحدهم عن هذه الإستدارة نزل عنها وأخذ سيفه ليقاتل دون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبين يديه والذي كان ينادي (أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب) ( ).
الخامس : إنتهاء معركة أحد بسبعين من المسلمين قتلى , ورجع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من غير أسرى أو غنائم ، مع أنهم وعموم أهل المدينة كانوا يستصحبون النصر المبين في معركة بدر وسوق الأسرى والغنائم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل دخوله المدينة ، أما في معركة أحد فقد رجع وأصحابه بالجراحات البليغة .
أما في معركة حنين فلم تمض ساعة على المعركة حتى تكاثر المسلمون حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصار عددهم ثلاثمائة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الآن حمي الوطيس) ( ) فتغيرت الريح وزحف المسلمون بسكينة وعز وعزيمة .
وأنهارت دفاعات العدو ، ثم ما لبثوا أن إنهزموا لم يمنعهم من الفرار صراخ واستغاثة النساء والصبيان بهم وصياح وثواء ، الأنعام التي جاءوا بها إلى المعركة ،برأي رئيسهم يومئذ مالك بن عوف وهو في الثلاثين من عمره يفتقر إلى الخبرة , وأراد الله عز وجل أن يخزيه والذين اتبعوه، قال تعالى [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (التوبة/25) ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ] ( ) فوقعت النساء في السبي وصارت الأموال غنائم .
السادس : نزول آيات القرآن في كل من معركة أحد ومعركة حنين وما ورد بخصوص معركة أحد أكثر عدداً وأكثر كلمات مما ورد بخصوص حنين إذ أن معركة أحد أشد أذى على المسلمين من معركة حنين , وصارت موعظة لهم .
الثانية : معركة أحد جزء من حال عامة تحيط بالمسلمين تتصف بأن أكثر الناس في الجزيرة بين كافر ومنافق ، وكان الميل إلى النفاق ومفاهيم الكفر ليس عسيراً ، فما أن ناجى رأس النفاق عبد الله بن أبي طوائف الأنصار، ومن معهم وقال لهم(ما ندرى علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس)( )، حتى رجع ثلاثمائة وهم نحو ثلث جيش المسلمين .
الثالثة : كانت معركة أحد لقاء مبارزة والتحام للصفين ، لذا قال تعالى في وصف معركة أحد [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ] ( ).
الرابعة : صيرورة معركة أحد وما فيها من المواعظ والعبر مقدمة وضياءً ومدداً للمسلمين في السنوات اللاحقة لمعركة أحد .
الخامسة : إذا نزلت الآية القرآنية في معركة سابقة فانها تنفع المسلمين في المعارك اللاحقة ، وفي حال السلم ، أما لو نزلت الآية في معركة لاحقة فانه لا أثر لها في المعارك السابقة لنزولها ولكنها موعظة ووسيلة سماوية لإقتباس المواعظ من تلك المعارك ، فجاءت الآيات الكثيرة بخصوص المعارك الأولى للإسلام ، حتى أنه اختلف في قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
هل تتعلق بصلح الحديبية أم بفتح مكة ، وهو لا يتعارض مع ورود آيات خاصة لكل منهما .
السادسة : تنزل آيات القرآن قبل وأثناء وعقب المعركة ليرتقي المسلمون في مراتب العلم ، ودرجات الرفعة والسمو ، وليس من حصر لأسباب ووسائل هذا الإرتقاء ، ومن أظهرها وأبهاها نزول آيات القرآن ، وما فيها من الدلالات الباهرات ، ويحتمل أثر وموضوعية الآية القرآنية في إرتقاء المسلمين في منازل العلم وجوهاً :
الأول : يرتقي المسلمون في نزول كل آية قرآنية مرتبة من العلم .
الثاني : من المسلمين من ينتفع ويرتقي بنزول آية من القرآن ، ومنهم يلزمه نزول عدة آيات كي يرزق منازل ودرجات العلم .
الثالث : يرتقي المسلمون في نزول كل آية من القرآن مراتب ودرجات متعددة .
والمختار هو الثالث ، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن ، فليس من حصر لأبواب العلم المستقرأة من الآية القرآنية من جهات :
الأولى : رسم ألفاظ الآية القرآنية .
الثانية : المضامين القدسية للآية القرآنية .
الثالثة : المفاهيم والمسائل المستقرأة من الآية القرآنية .
الرابعة : في تلاوة الآية القرآنية والتدبر في معانيها تنمية لملكة الإيمان .
وهل من مصاديق قوله تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ) إقتباس مسائل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الآية القرآنية ، الجواب نعم ، وهو بلحاظ آية البحث على وجوه :
الأول : الإستجابة لله والرسول من المعروف والخير المحض .
الثاني : القعود عن تلبية نداء رسول الله صلى الله عليه من المنكر .
الثالث : الخروج لملاقاة العدو مع كثرة الجروح معروف وأمر بالمعروف بملاقاة العدو في حال الشدة والرخاء ، ليكون وجوب الدفاع عن الإسلام في حال السراء من باب الأولوية القطعية ، قال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
الرابع : لقد وصفت آية البحث الصحابة الذين خرجوا إلى حمراء الأسد بعد يوم من معركة أحد بأنهم أحسنوا ،وذات الإحسان إتقان للعمل ومعروف وهو أمر بالمعروف من غير تعارض بينهما بلحاظ إقتباس المسلمين فعل الإحسان من الآية القرآنية التي تتضمنه , وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ] ( ) .
ومن الإحسان أداء الفرائض والرأفة ومصاديق الرحمة بالناس في القول والعمل والتنزه عن الظلم والتعدي .
وقال تعالى [هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ] ( ) ليكون من الإحسان الذين يتفضل به الله عز وجل على المؤمن أمور :
الأول : الثناء عليه في القرآن وفي الحياة الدنيا .
الثاني : إحسان الناس له وبرهم به .
الثالث : الثواب العظيم الذي يتفضل الله عز وجل به على المؤمن وذريته في الدنيا والآخرة.
ومن اللطف في المقام ذكر الآية للإحسان متعقباً للإستجابة لله والرسول مع كثرة الجراحات ، فلا الدفاع وكثرة القروح فيه يثني عن الإحسان أو يكون عنه بديلاً ، ولا الإحسان يحل بديلاً عن الإستجابة لله ورسوله في الدفاع .
نعم يكون العفو عن الجناية أو مطلقاً من الإحسان .
وعن ابن مسعود قال : كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم نعد الآيات بركة ، وأنتم تعدونها تخويفاً . بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس معنا ماء .
فقال لنا : اطلبوا من معه فضل ماء , فأتي بماء فوضعه في إناء ثم وضع يده فيه ، فجعل الماء يخرج من بين أصابعه .
ثم قال : حي على الطهور المبارك والبركة من الله , فشربنا منه . قال عبد الله : كنا نسمع صوت الماء وتسبيحه وهو يشرب) ( ).
والمراد من لفظ الآيات في الحديث أعلاه آيات القرآن والمعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن العلم التدبر فيها ، واتخاذها بركة ووسيلة لزيادة الإيمان وترغيب الناس بالإسلام وبعث النفرة في النفوس من الكفر والإقامة على الضلالة .
وهل تدل آية البحث على بلوغ المسلمين مراتب العلم واستحقاقهم للثناء ، الجواب نعم , من وجوه :
الأول : الإستجابة لله عز وجل علم وخير محض وهو وفق القياس الإقتراني .
الكبرى : الذين يستجيبون لله متقون .
الصغرى : المهاجرون والأنصار استجابوا لله .
النتيجة : المهاجرون والأنصار متقون .
ويكون بلحاظ العلم وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : الذين يستجيبون لله علماء .
الصغرى : المهاجرون والأنصار استجابوا لله .
النتيجة : المهاجرون والأنصار علماء .
قال تعالى[إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ]( )
الثاني : من مصاديق العلم طاعة واتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعمل بما يأمر به , ومنه خروج الصحابة خلف العدو مع شدة جراحاتهم لأن الله عز وجل أمر بالخروج وهو يعلم بتلك الجراحات ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ليكون من علم الله في المقام أمور :
الأول : نزول آية البحث عند خروج الصحابة طاعة لله والرسول .
الثاني : تحمل الصحابة أعباء ومشاق السفر مع شدة الجراحات .
الثالث : صحبة الملائكة للصحابة في طريقهم إلى حمراء الأسد وعودتهم منها .
الرابع : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الخامس : عدم وقوع قتال في خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة أحد .
السادس: مجئ الأجر والثواب العظيم للصحابة .
السابع : فضح المنافقين وإمتلاء قلوبهم بالغيظ والحسد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] ( ) .
الثامن : تلاوة أجيال المسلمين المتعاقبة لآية البحث التي تتضمن الثناء على الصحابة .
التاسع : صلاح المؤمنين وبلوغهم مراتب التقوى واليقين.
العاشر : علم الله عز وجل بعجز الخلائق عن الإحاطة بالثواب العظيم الذي أعدّه للمؤمنين من الأولين والآخرين .
قانون الإستجابة الشخصية
لقد ذكرت آية البحث الإستجابة العامة لأمر الله ورسوله في موارد القتال ومقدماته ودفع العدو وضرره .
وتأتي في القرآن الأوامر العامة التي تتوجه لكل جيل من المسلمين لتبقى حية غضة طرية إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار سلامة القرآن من التحريف والتبديل والتغيير ، وفي مناسك حج بيت الله الحرام قال تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ] ( ) وفيه شاهد على وجوب الوقوف في عرفة لذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (الحج عرفة) .
(عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَعْمَرَ الدِّيلِىَّ قَالَ شَهِدْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وآله وسلم بِعَرَفَةَ وَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ نَجْدٍ فَأَمَرُوا رَجُلاً فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَجِّ .
فَقَالَ : الْحَجُّ عَرَفَةُ , مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ فَقَدْ أَدْرَكَ حَجَّهُ أَيَّامُ مِنًى ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ (مَنْ تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ) . ثُمَّ أَرْدَفَ رَجُلاً فَجَعَلَ يُنَادِى بِهَا فِى النَّاسِ) ( ).
وفيه دعوة للمسلمين للخروج من عرفة دفعة واحدة في صفحة عبادية مشرفة يشارك فيها وفد الحاج ولا تقع إلا مرة واحدة في كل سنة ، وفي وقت مخصوص وهو غروب الشمس من اليوم التاسع من شهر ذي الحجة من كل عام .
وكثيرة هي الأوامر والوصايا الشخصية الصادرة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى بعض المسلمين ، منها مثلاً ما ورد عن أبي ذر قال (كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حرة المدينة فاستقبلنا أحد فقال يا أبا ذر . قلت لبيك يا رسول الله قال : ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا تمضي علي ثالثة( ) وعندي منه دينار إلا شيئا أرصده لدَين إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا ) .
عن يمينه وعن شماله ومن خلفه ثم مشى ثم قال ( إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا – عن يمينه وعن شماله ومن خلفه – وقليل ما هم ) .
ثم قال لي : مكانك لا تبرح حتى آتيك . ثم انطلق في سواد الليل حتى توارى فسمعت صوتا قد ارتفع فتخوفت أن يكون أحد عرض للنبي صلى الله عليه و سلم فأردت أن آتيه فذكرت قوله لي ( لا تبرح حتى آتيك ) . فلم أبرح حتى أتاني قلت يا رسول الله لقد سمعت صوتا تخوفت فذكرت له فقال ( وهل سمعته ) .
قلت : نعم .
قال : ذاك جبريل أتاني فقال من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق ؟ قال وإن زنى وإن سرق) ( ).
والأصل في الأوامر وجوب الإستجابة العامة لها سواء جاءت بصيغة المفرد أو الجمع ، وكذا الأصل في الأوامر الخاصة إلا أن يدل دليل على إرادة الحصر والخصوص ، ومنه ما ورد في إبراهيم عليه السلام [قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ] ( ) فهو قضية شخصية لا تتكرر في عالم الرؤيا والمنام بلحاظ التباين في المقام بين رؤيا النبي التي هي شعبة من الوحي ورؤيا عامة الناس ، فلو رآى إنسان آخر غير النبي مثل رؤياه كأنه يذبح ولده , فلابد من تأويلها لأنها رؤيا إنذار تتضمن التحذير من الإساءة للولد والإضرار به ، وتصرف رؤيا الإنذار بالدعاء والصدقة ، وقد تكون الرؤيا من الأضغاث .
ولا تختص الإستجابة بالأوامر إذ تشمل النواهي والمبادرة إلى الإمتناع عما نهى الله عز وجل رسوله عنه ، ومن الإعجاز في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد على صدق نبوته مجئ النهي في موارد وقد إعتاد عليها شطر من الناس ، ومنها اتباع الهوى والرغائب ، ولم يحتج المسلمون على النهي فيها ، إنما أظهروا الطاعة والإستجابة لله عز وجل.
(عن أنس قال : كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة ، فنزل تحريم الخمر ، فنادى مناد ، فقال أبو طلحة : اخرج فانظر ما هذا الصوت؟ فخرجت فقلت : هذا مناد ينادي : ألا إن الخمر قد حرمت .
فقال لي : اذهب فأهرقها . قال : فجرت في سكك المدينة ، قال : وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ البسر والتمر .
فقال بعض القوم : قتل قوم وهي في بطونهم ، فأنزل الله { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُناح فيما طعموا . . . }( ) الآية .) ( ).
(عن جابر بن عبد الله قال : اصطبح ناس الخمر يوم أحد ، ثم قتلوا شهداء) ( ).
وتبين آية البحث الإستجابة العامة من الصحابة لله عز وجل ورسوله وفي أشق الأحوال من جهات :
الأولى : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين قبل يومين من المدينة إلى موضع جبل أحد .
الثانية : سنخية هذا الخروج هو القتال ومحاربة العدو الكافر .
الثالثة : إنخزال ثلث جيش المسلمين وسط الطريق إلى معركة احد .
الرابعة : تجلي علة هذا الإنخزال وهو النفاق وإرادة المكر والكيد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار .
ويبعث على الإنخزال والإنسحاب مع العلم بكثرة جيش المشركين على التشاؤم والطيرة ، فجاء القرآن والسنة بالنهي عنها مع لزوم حسن التوكل على الله ، وتفويض الأمور إليه سبحانه , قال تعالى [مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ]( ) وقال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ] ( ) .
(عن حارثة بن النعمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاث لازمات لأمتي : الطيرة والحسد وسوء الظن : فقال رجل ما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال : إذا حسدت فاستغفر الله ، وإذا ظننت فلا تحقق ، وإذا تطيرت فامضِ) ( ).
بحث تأريخي
يحتمل المقصود من لفظ [الَّذِينَ] في أول الآية وجهين :
أولاً : عموم الصحابة من المؤمنين ، وقيد من المؤمنين ليخرج الذين نافقوا الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة إلى الدفاع والقتال في معركة أحد ، ولكنهم لم يستجيبوا للدعوة النبوية إذ امتنعوا عن لقاء العدو ، وقالوا [لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ] ( ) أي أنهم لم يقطعوا بحدوث القتال يومئذ فلا حاجة أن يتحملوا عناء ومشاق السفر ، وتعطيل الأعمال .
ثانياً : المراد جميع الذين حضروا معركة أحد ممن نجوا من القتل فيها ، فلم يخافوا من جمع المشركين .
والمختار هو الثاني لإرادة المعنى الأعم خاصة في مقام الأجر , وقد تكرر لفظ الذين في آية البحث مرتين , وظاهر النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق , وسيأتي مزيد كلام في الجزء التالي باب سياق الآيات.
وكان الصحابة يومئذ على أقسام :
الأول : الذين خرجوا إلى معركة أحد وقاتلوا فيها .
الثاني : الذين إنسحبوا من وسط الطريق بتحريض رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول بلحاظ المعنى العام للصحابي وهو الذي نطق الشهادتين ورأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الذين قعدوا عن الخروج عن المعركة لضرر كالمريض والشيخ الكبير ، قال تعالى [لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى] ( ) .
وينقسم الذين خرجوا إلى معركة أحد ممن ورد ذكرهم في القسم الأول أعلاه إلى أقسام :
الأول : الذين بادروا للإستجابة لله ورسوله في النفير لمطاردة العدو في اليوم التالي لمعركة أحد ، وهم الذين ذكروا في آية السياق أي الآية السابقة وعددهم مائتان وسبعون .
الثاني : الذين استشهدوا في معركة أحد، فلم يعودوا إلى المدينة وعددهم سبعون ، ولم يغادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرض معركة أحد إلا بعد أن قام بدفنهم بدمائهم , وقال (زملوهم بجراحهم إنه ليس مكلوم يكلم في الله تعالى إلا وهو يأتي يوم القيامة لونه لون دم وريحه ريح مسك)( ).
وقد استحضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن وقراءته حتى في كيفية الدفن ، فقال (أنظروا أكثر هؤلاء جمعاً للقرآن فاجعلوه أمام أصحابه في القبر وكانوا يدفنون الثلاثة والاثنين في القبر ) ( ).
ومن الآيات أن ذكرهم باق بين المسلمين والمسلمات يأتون من مشارق ومغارب الأرض لزيارتهم ، وهو من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لَمّا أَشْرَفَ عَلَى الْقَتْلَى يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ)( ).
الثالث : الذين رجعوا من معركة أحد ولم يستطيعوا الخروج في اليوم التالي إلى معركة حمراء الأسد لشدة جراحاتهم .
الرابع : الذين حضروا معركة أحد وقاتلوا تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكنهم لم يخرجوا إلى حمراء الأسد لسبب أخر غير شدة الجراحات .
الخامس : الذي لم يخــرج إلى معركة أحد ولكــنه خـرج إلى حمـراء الأسد فحينما ندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه إلى المسير للقاء العدو (أمر بلالاً أن ينادي: إن رسول الله يأمركم بطلب عدوكم، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس) ( ).
وكان جابر بن عبد الله الأنصاري لم يحضر معركة أحد ، إنما حضرها أبوه واستشهد فيها مع كبر سنه،فاستأذن جابر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر ثلاث مسائل متداخلة وهي:
الأولى : حب حضور أي مشهد يشهده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : بيان علة وسبب تخلفه عن حضور معركة أحد ، إذ أن أباه عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري أمره بالبقاء على سبع أخوات له ، (وقال: يا بني إنه لا ينبغي لي و لا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن و لست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهن) ( ).
الثالثة :إرادة جابر الأنصاري الأجر والثواب بالخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فاذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجابر أن يخرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستعمل رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ابن أم مكتوم وأقام يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء في حمراء الأسد ثم رجع إلى المدينة لإعطاء رسالة إلى كفار قريش وغيرهم من وجوه:
الأول: لم يخسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون معركة أحد.
الثاني : بيان طاعة المهاجرين والأنصار لله ورسوله .
الثالث : تفاني المهاجرين والأنصار في سبيل الله .
الرابع : إستدامة أثر ونفع نصر المسلمين في معركة بدر وسقوط سبعين قتيلاً ومثلهم من الأوس من كفار في تلك المعركة والتي لم يكن بينهما وبين موضوع آية البحث إلا نحو سنة .
لقد أنزل الله عز وجل على المسلمين الملائكة مدداً يوم معركة بدر ، لتكون ذات المعركة والنصر فيها مدداً وعوناً للمسلمين يوم معركة أحد وما بعدها ومن أسرار نسبة النصر في معركة بدر لله عز وجل بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ] ( ) صيرورة هذا النصر عضداً للمسلمين في معركة أحد ، وباعثاً لهم للخروج خلف العدو إلى حمراء الأسد بعد معركة أحد بيوم واحد ولم ينقطع النفع من هذا النصر بخصوص موضوع آية البحث بل هوتأريخ مشرف ومدد لأجيال المسلمين يمنعهم البشارة ، ويدعوهم للتقوى وأداء الوجبات العبادية .
بحث أصولي في النهي
جاءت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية ، وليس فيها أمر او نهي ، ولكن هذا لا يمنع من استقراء الأوامر والنواهي من مفهوم ودلالة ذات الآية ، وجاءت آية البحث بصيغة الخبر الباعث على الفعل ، وهو من إعجاز القرآن بأن يأتي الخبر ليتضمن في مفهومه الأمر أو النهي ثم تتبين علة وسبب هذا النهي ، ويكون كل منهما درساً في العلوم والتفقه في الدين ، ووسيلة مباركة للأخذ بأيدي المسلمين إلى سبل الصلاح والهدى والرشاد .
لقد أراد الله عز وجل أن تكون الأوامر والنواهي الواردة في آيات القرآن جامعة للعلوم ومناسبة لإرتقاء المسلمين في سلم المعارف الإسلامية ، وتتباين صيغ النهي في القرآن , ومنها ما يكون نهي تحريم ومنها ما يكون نهي تنزيه .
وتتعدد الجهة التي يتوجه إليها النهي القرآني لتشمل :
الأولى : توجه النهي للناس جميعاً ، بلحاظ أن علة خلقهم هي عبادة الله عز وجل ، فيأتي النهي مقدمة وإزاحة للموانع التي تحول دون هذه العبادة .
فان قلت قد ورد لفظ [يَاأَيُّهَا النَّاسُ] ( ) إحدى وعشرين مرة في القرآن ليس فيها نهي إنما هي أوامر وبيان وتحذير وإنذار كما في قوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ] ( ) .
الجواب قد توجه النهي إلى الناس من غير صيغة النداء أعلاه ، كما في قوله تعالى [فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
الثاني : تفضل الله عز وجل بتوجيه خطاب النهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو على قسمين :
أولاً : ما يكون خاصاً بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : ما يكون عاماً للمسلمين والمسلمات .
ولو دار الأمر بين القسمين أعلاه ، فالأصل هو الثاني سواء جاء بصيغة افعل أو الجملة الشرطية أو بذات صيغة النهي لا تفعل ، أو الجملة الخبرية التي يستقرأ من مفهومها النهي ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا] ( ) وكما في قوله تعالى [وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ] ( ) إذ يراد من الآية : ولا تعجبكم أموالهم في الحياة الدنيا لأنها سبب لعذابهم .
الثالث : النهي الموجه إلى المسلمين والمسلمات عامة سواء في أبواب العبادات أو المعاملات أو الأحكام ، كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ] ( ).
وقد تجلى إمتثال المسلمين لمضامين الآية أعلاه بآية البحث التي تبين استجابتهم لنداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقتالهم الذين كفروا ، فهم لم يكتفوا باجتناب ولايتهم إنما قاموا بقتالهم في معركة أحد ، ثم خرجوا يطاردونهم في اليوم التالي ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ).
وقد يتوجه النهي للمسلمين من غير لغة النداء ، كما في قوله تعالى [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] ( ).
وأيهما أكثر النهي الموجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويراد منه عامة المسلمين أم النهي الموجه إلى المسلمين ، المختار هو الثاني .
ولابد من اجراء إحصائية في المقام مع بيان الدلالة والموعظة والغاية منها، بلحاظ قانون وهو أي إحصائية في القرآن تستنبط منها مسائل وأحكام.
وهل يلزم الجمع والفصل بين هذه النواهي وذكر كل نهي موجه للمسلمين على نحو مستقل ، الجواب لا مانع منه ، وهو دراسة قرآنية مستفيضة تستقل بذكر كل نهي في القرآن ، ويكون هذا النهي على أقسام :
أولاً : النهي بعد النداء كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ] ( ) ثم تعقب النهي له .
ثانياً : النهي بصيغة (لا تفعل) بأن يقترن الفعل المضارع بـ (لا)الناهية .
ثالثاً : ورود الجملة الخبرية بما يدل على النهي والمنع كما في قوله تعالى:[حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
وكما ورد الخلاف في دلالة الأمر على الوجوب أو الإستحباب أو الأمر الجامع لهما , وموضوعية القرينة الصارفة في المقام , فإنه وقع الخلاف في النهي هل يدل على التحريم أو الكراهة أو الأمر الجامع لهما , والمختار أنه يدل على التحريم إلا مع القرينة الصارفة للكراهة ، ويدل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) على حرمة الربا وحرمته مطلقة في حال الإختيار والإضطرار .
كما أختلف في علم الأصول في إرادة الفورية أو التراخي , والتكرار أو كفاية مرة واحدة في الأمر والنهي المطلق المجرد من الأمارات والقرائن فانه ليس من قاعدة ثابتة في المقام , فكل آية لها حكمها المستقرأ من مضامينها ، وتدل آية البحث منطوقاً وموضوعاً وحكماً على الفورية في لاالعمل ، إذ لا سبيل إلى التراخي والإبطاء عن دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للنفير وملاحقة العدو ومنهم من يحمل الأمر المطلق على التراخي للسعة والمندوحة في الشريعة السمحاء فيؤخر العمل بالأمر إلى حين الخشية من فوات الإمتثال , ويكون هذا القول في النهي أبعد وأصعب منه في الأمر .
الرابع : النهي ببعض أسماء الأفعال مثل ( مه ) أي لا تفعل .
و (صه ) أي لا تتكلم .
ويتوجه النهي إلى كل من :
الأول : المخاطَب , سواء كان متحداً أو متعدداً وهو أكثر أقسام النهي ومن إعجاز القرآن أمور :
أولاً : توجه الأوامر والنواهي إلى أكثر الناس في تاريخ الإنسانية وهم المسلمون , فهي باقية إلى يوم القيامة وهو من مصاديق الرحمة في حفظ الله عز وجل للقرآن وقوله [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
ثانياً : سلامة الأوامر والنواهي القرآنية من التحريف والتبديل .
ثالثا : وجود أمة تمتثل للأوامر والنواهي القرآنية , وتجد هذا الامتثال في كل ساعة , وهو من مصاديق قوله تعالى ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) ( ) .
رابعاً : بيان السنة النبوية للأوامر والنواهي القرآنية .
خامساً : مجيء الأوامر والنواهي الإلهية في القرآن بصيغة ( لا ) الناهية, وصيغة الجملة الخبرية, ومنها آية البحث, ومن معانيها: لا تتخلفوا عن الإستجابة لله والرسول وان تغشتكم الجراحات، ولا تقصروا في سبل الإحسان والتقوى، قال تعالى[وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
أولاً : يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول .
ثانياً : يا أيها الذين آمنوا لا تتركوا الإستجابة لله والرسول .
ثالثا : يا أيها الذين آمنوا إستجيبوا لله والرسول وإن أصابكم القرح .
رابعاً : يا أيها الذين آمنوا إن أصابكم القرح فلا تقصروا عن الإستجابة لله والرسول .
خامساً : يا أيها الذين آمنوا لا تمتنعوا عن الإحسان ، قال تعالى [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ] ( ) .
سادساً : يا أيها الذين آمنوا الذي لم يتقِ الله عزوجل يحرم نفسه من ثواب عظيم .
الثاني : قد يتوجه النهي من الناهي إلى نفسه , وهو ليس من حديث النفس والعزيمة بالكف عن أمور , إنما يقول إذا كان معه غيره , لا أسافر في رمضان , أو لن نسافر في رمضان ، وهذا القسم من النهي قليل .
الثالث : توجه النهي الى الغائب، ومن أمثلته[لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا]( )[فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ]( ).
وتستعمل أداة النهي(لا) في نهي المخاطب والغائب أيضاً، مثل[يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( ) ولا يرتد المسلم،وتخرج(لا) عن معنى النهي الى الدعاء والسؤال والتضرع وهي(لا) الدعاء مثل[رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا].
الخامس : توجه النهي في القرآن إلى أهل الكتاب على نحو الخصوص والتعيين في تنظيم للصلات بين المسلمين وحكامهم وبين أهل الكتاب، ولبعث الطمأنينة في النفوس والألفة بين الناس، ولبيان قانون وهو أن الإسلام لم ينتشر بالسيف إنما انتشر وقامت صروح أحكامه بالموعظة الحسنة والبرهان ، قال تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ]( ).