معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 162

المقدمة
الحمد لله خالق كل شئ ، وجاعل لكل شئ أمداً وأجلاً معلوماً عنده سبحانه قبل أن يخلقه وبعد أن يفنى , وجعل الحاجة مصاحبة لكل مخلوق لتكون من العلل التي تجذبه إلى التسبيح والتهليل ، وفي التنزيل[اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ]( ).
الحمد لله الذي جعل الإنسان يمتاز عن غيره من الخلائق بالخلافة في الأرض ، ومن خصائص هذه الخلافة إختيار الدعاء والتسبيح وقراءة القرآن عن طواعية وشوق ورغبة ، ليكون هذا الإختيار علة للإجتهاد بتكرار الحمد والشكر لله , ويصبح هذا الحمد مناسبة لتثبيت هذه النعمة ودوامها .
الحمد لله الذي جعل كل ذكر له نعمة عظمى ، فتفضل وفرض الصلاة خمس مرات في اليوم على كل مسلم ومسلمة ليجني المسلمون الحسنات والأجر وهو من مصاديق إتصاف الأجر من عند الله بأنه عظيم , كما في البشارة في خاتمة الآية السابقة , بقوله تعالى [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ] ( ).
الحمد لله الذي جعل الناس عبيداً له ليس لهم إلا طاعته والإستجابة له، طوعاً أو قهراً , وقد فاز المسلمون بالتحلي بالتقوى بمدد وعون من الله عز وجل .
وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: من قال: الحمد لله كما هو أهله، شغل كتاب السماء .
قيل : وكيف يشغل كتاب السماء؟ قال: يقولون: اللهم إنا لا نعلم الغيب، فيقول: اكتبوها كما قالها عبدي وعلي ثوابها)( ).
الحمد لله الذي أنعم علينا بهذا الجزء من سِفر التفسير المبارك ، وهو الجزء الثاني والستون بعد المائة ، ويختص بتفسير آية واحدة من سورة آل عمران هو قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ( ) وفق منهاجنا في تفسير القرآن بتفسير آياته حسب نظم القرآن .
فبعد أن أنعم الله عز وجل علينا بتفسير سورة الفاتحة ثم سورة البقرة في خمسين جزء ، تم صدور سبعة وخمسين جزء في تفسير شطر من سورة آل عمران في آية علمية لم يشهد لها التأريخ مثيلاً إذ يتصف هذا التفسير والحمد لله بالإستقراء والإستنباط والتحليل , وتأسيس قوانين وعلوم نقلية وعقلية .
وقيل تكررت كلمة الناس في القرآن ثلاثمائة وثمانية وستين مرة , وذكرت مرتين في آية البحث مع التباين الموضوعي في معنى كل منهما , وتقدير الآية : قال جماعة من الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأن طائفة من الناس أعدّوا العدة للإجهاز عليكم الذي يدل تبليغه من قبل الناس على تأكيده , وإن كان صادراً من واحد .
وجاء هذا الإنذار والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكشوفون في البراري ، فلم يكونوا في المدينة بين أهليهم وأصحابهم ، ولا يرجون مدداً وعوناً إلا من عند الله عز وجل، إذ يدل هذا الإنذار[قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ]( ) عدم وجود أناس آخرين ينصرون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهو من الإعجاز في ذكر الناس بالتعريف بالألف واللام ، وهو وإن كان من العهد ، وليس الجنس والإطلاق إلا أنه يدل بالدلالة التضمنية على تسليم الناس بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه منفردون ، يستطيع العدو الكافر الإجهاز عليهم فبينت آية البحث إظهارهم حسن التوكل على الله المترشح عن صدق الإيمان، والسعي في رضوان الله.
إذ تبين آية البحث أن سلاح المسلمين يومئذ هو التوكل على الله وتفويض الأمور إليه سبحانه وفيه حجة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا إلى الله[بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ) وأن الإسلام لم يثبت وينتشر بالسيف ، إنما كان المسلمون في حال دفاع .
وقد ورد قوله تعالى[وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ) سبع مرات في القرآن لبيان أنه مصداق التقوى وسبيل النجاة ، وهو باب لجلب المصالح ودفع المضار .
وتبين آية البحث عدم التنافي أو التعارض بين التوكل على الله وبين الأخذ بالاسباب والإحتراز من الشرور والضرر .
(عن ابن عباس قال : كان ناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة يقولون: نحج بيت الله ولا يطعمنا، فقال الله{وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى}( ) ما يكف وجوهكم عن الناس) ( ).
ومن الأسباب في معاني وموضوع آية البحث خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف العدو متعقباً له لزجره وطرده ومنعه من الكرّة والرجوع إلى المدينة المنورة .
لقد أشرقت الأرض بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوالى عليه نزول آيات القرآن، وكل واحدة منها شمس مضيئة تنير دروب السائلين، وتهدي إلى الحق , وتبعث الناس على التوكل على الله ، وتبين لهم الأحكام والسنن .
وليس من حصر لرشحات وفوائد آية البحث ودلالتها على صبر وجهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في ملاحقة الذين كفروا ، الذين ما أن سمعوا بتعقب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم حتى عجلوا السير فارين إلى مكة ليصدق عليهم قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) وأن هذه الخيبة ملازمة لهم في الطريق وعند الدخول إلى مكة للتسالم بعجزهم عن تحقيق أي هدف وشر كانوا يصبون إليه ، وبذلوا الأموال من أجله ، مع قلة عدد المسلمين مع النبي يومئذ، وكثرة جراحاتهم ، واستقامتهم على الهدى, وهو الذي ذكرته الآية السابقة بقوله تعالى[الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ]( ).
وقد يجزع الإنسان عند البلاء ونزول المصيبة ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار خرجوا من معركة أحد بثروة من الصبر وكنز من التوكل المطلق على الله , تركوهما إرثاً لأجيال المسلمين واليقين برفعة الإسلام وهزيمة الذين كفروا، فساروا مع قلة عددهم خلف جيش عظيم خاضوا حرباً ضده في اليوم الفائت في معركة أحد التي غيّرت مجرى الوقائع والأحداث , وبينت للناس قانوناً وهو أن الإسلام باق ، وأن الذين كفروا لا يستطيعون حجب دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى التوحيد .
ومن معاني الخيبة في الآية أعلاه صيرورة كلاً من معركة بدر ومعركة أحد دعوة جهادية لدخول الناس للإسلام، وشاهداً على قبح الكفر والضلالة، لقد أصيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالجراحات الشديدة يوم معركة أحد، وفقدَ سبعين من أصحابه سقطوا شهداء ومنهم عمه حمزة بن عبد المطلب وكثرت الجراحات والقروح في أهل بيته وأصحابه .
وعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة في ذات يوم المعركة بعد أن وصلت إليها إشاعة قتله، فكانت إطلالة طلعته البهية كيوم دخوله المدينة مهاجراً إليها , ولتتجدد ذات البهجة والغبطة في كل مرة يعود فيها من حملات الدفاع , ويكون فيها زيادة إيمان كما ذكرته آية البحث , وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ بالدخول على فاطمة عليها السلام .
لقد استبشر المسلمون والمسلمات ونسوا ما نزل بهم من المصيبة خاصة وان الله أكرمهم بالإخبار عن حياة الشهداء عنده في دار النعيم, كما ورد بقوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
وصار الصحابة يتناوبون في حراسة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الرجوع من معركة أحد , خشية مباغتة العدو أو كمين له في الليل.
وقد بات وجوه الأنصار عند باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي المسجد يحرسونه منهم :
الأول : سعد بن عبادة .
الثاني : حباب بن المنذر .
الثالث : سعد بن معاذ .
الرابع : أوس بن خولي .
الخامس : قتادة بن النعمان ، ولم يرد في الأخبار في المقام ذكر للمهاجرين ، ولكن إثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، ولعله لم تكن الصفة لفقراء المسلمين موجودة آنذاك .
لينزل الوحي في صباح اليوم التالي بالخروج بأصحابه خلف العدو، وملاحقته، وتلك آية في الإيمان والصبر، فأمر بلالاً أن ينادي بالنفير واشترط أن لا يخرج معه إلا من حضر معركة أحد في اليوم السابق، لمنع مجئ المنافقين ولبيان استغناء المسلمين عنهم.
ليتجلى قانون في السنة الدفاعية من جهات :
الأولى : خروج المؤمنين لملاحقة العدو في اليوم الثاني لواقعة أحد وساعة عز وفخر .
الثانية : منع حدوث الخلاف والفتنة عند خروج المنافقين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتعقب العدو، قال تعالى[لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ]( ).
الثالثة : لقد رجع مع رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول ثلاثمائة من جيش المسلمين المتوجه إلى معركة أحد مع أن جيش المشركين على مشارف المدينة .
وعندما ناشدهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر الأنصاري بالعودة إلى صفوف الجيش ، وعدم خذلان النبي صلى الله عليه وآله وسلم[قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ]( ) إذ أدّعوا بأنه لا يحصل قتال يومئذ بمغالطة تأريخية وتثبيط للعزائم .
فقد أطل على المدينة ثلاثة آلاف رجل يريدون القتال، وكانوا يتوعدون ويهددون به منذ نحو سنة أي من حين هزيمتهم في معركة بدر، ليكون رجحان رجوع المنافقين في الطريق إلى حمراء الأسد من باب الأولوية القطعية.
عن أنس أنه ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: كان خير الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة( )، فانطلقوا قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري( ) ما عليه سرج، وفي عنقه السيف، وهو يقول للناس: لم تراعوا( ) يردهم، ثم قال عن الفرس: وجدناه بحرا( ) وإنه لبحر)( ).
وتستنبط مسائل متعددة من هذا الحديث منها :
الأولى : جواز مبادرة القائد إلى الخروج طليعة وعيناً للمسلمين لكشف أخبار العدو .
الثانية :قيام الإمام بالمرابطة بنفسه .
الثالثة : التخفيف عن عامة المؤمنين .
الرابعة : بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقانون وهو حفظ الله عز وجل له ، وأنه لم يسلم من كيد الذين كفروا بحراسة المؤمنين وحدهم بل هناك مدد وواقية وحجب من عند الله ، ويدل عليه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ).
الخامسة : بعث السكينة في نفوس المؤمنين رجالاً ونساءاً .
السادسة : جواز العارية .
السابعة : الإنتفاع من العارية في سبيل الله .
الثامنة : جواز تقلد السيف في العنق .
التاسعة : البشارة لأهل المدينة بالأمن والأمان .
ومن الإعجاز في نظم آيات القرآن إبتداء آية البحث والآية التي قبلها بالاسم الموصول (الذين) ويحتمل وجوهاً :
الأول : إرادة التباين والتعدد بين الاسمين .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وفيه شعبتان :
الأولى : الاسم الموصول في الآية السابقة أعم وأوسع من الذي في آية البحث .
الثانية : الاسم الموصول في آية البحث هو الأعم والأوسع .
الثالث : نسبة التساوي بين الاسمين .
الرابع : إرادة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء بين الاسمين ، ومادة للإفتراق بينهما .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني , والثالث أعلاه ، وهو من الإعجاز في نظم آيات القرآن ، ومن مصاديق البيان في القرآن وعمومات قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ] ( ) وما دامت النسبة التساوي في المقصود في الآيتين , فلماذا لم تكونا آية واحدة ، الجواب فيه وجوه :
الأول : التقسيم إلى آيتين من الأجر العظيم الذي ذكرته الآية قبل السابقة بأن يكون موضوع كل آية على نحو مستقل .
الثاني : تقسيم القرآن إلى آيات أمر توفيقي من عند الله عز وجل ، وهو العالم بالأمور ، وفي التنزيل [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ] ( ).
الثالث : دعوة المسلمين والناس للتدبر في التباين الموضوعي بين الآيتين، إذ تبين الآية السابقة دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة للخروج خلف العدو في اليوم الثاني لمعركة أحد .
أما آية البحث فأنها تتضمن ما لاقاه المسلمون أثناء السير متعقبين للعدو وحتى بلوغهم حمراء الأسد والتي تبعد عن المدينة المنورة باتجاه الجنوب عشرين كيلو متراً، وهل كان موضع حمراء الأسد غاية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في أصل المسير ، الجواب لا ، وهو من الإعجاز في الفصل بين الآيتين .
الرابع : أختتمت الآية السابقة بالبشارة بالأجر والثواب العظيم للمؤمنين على القيام بالإحسان والخشية من عند الله عز وجل .
وتجلت معاني الإحسان والتقوى في آية البحث بالقول والفعل ، ليكون من إعجاز نظم القرآن إنعدام الفصل بين الوعد بالأجر والثواب من عند الله وبين فوز المسلمين بالأجر .
الخامس : النسبة بين موضوع الآيتين هو العموم والخصوص المطلق ولا تختص النسبة بينهما بلحاظ الاسم الموصول الذي تبدأ به كل منهما ، بل هو أعم ويشمل كلمات الآيتين وموضوع كل منهما .
السادس : وردت آية البحث بخصوص تلبية الصحابة لنداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج خلف العدو ، وتسليمهم بقانون وهو أن هذا النداء شعبة من الوحي .
بينما تضمنت آية البحث معنى أعم ، ويتعلق بما جرى بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين طائفة من الناس ، ونقلهم أخبار جيش المشركين .
الحمد لله الذي جعل القرآن ضياء القلوب، وسبيل الهداية والرشاد وإلى الغايات الحميدة، وهو الوسيلة المباركة إلى حسن العاقبة والفوز بالأجر العظيم الذي ذكرت الآية السابقة تعليقه على التقوى والإحسان .
وهل من موضوعية لتلاوة الصحابة القرآن في تلبيتهم نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بملاحقة جيوش الذين كفروا ، وعدم خوفهم وخشيتهم منها حين سمعوا التهديد من الناس ، الجواب نعم .
(كعب الأحبار قال الله تعالى لموسى عليه السلام مثل كتاب محمد في الكتب مثل سقاء فيه لبن كلما مخضته استخرجت منه زبدا) ( ).
الحمد لله الذي جعل القرآن باعثاً لمن يقرأه أو يسمعه على العمل الصالح ، وزاجراً عن الفعل القبيح .
وقد ورد في يوسف عليه السلام قوله تعالى[وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ]( ) وتفضل الله عز وجل على المسلمين وجعل كل آية من القرآن برهاناً دائماً منه سبحانه، كما يحضر القرآن عند الهّم بالمعصية فيصرف الإنسان عنها، ومنه الآية التي جاء هذا الجزء في تفسيرها إذ أنها واقية من الركون للظالمين، ومن الخوف والخشية منهم ، وهو باعث على تفويض الأمور إلى الله مع السعي والكسب، إذ تبين آية البحث أن الصحابة لم يجلسوا في بيوتهم، أو في المسجد النبوي ويتركوا أمر وتهديد الكفار توكلاً على الله عز وجل، وأن كان سبحانه يصرف البلاء ويدفع شرور الكفار بفضل منه تعالى، كما في قصة أصحاب النيل عند ارادة أبرهة هدم الكعبة، قال تعالى[أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ* تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ]( ) ولكن الصحابة لبوا نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للنفير إلى حمراء الأسد .
وعن الإمام علي عليه السلام : (واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى، أو نقصان في عمى.
واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوه على لأوائكم، فإنه فيه شفاء من أكبر الداء، وهو الكفر والنفاق والغي والضلال، فأسالوا الله به، وتوجهوا إليه بحبه، ولا تسألوا به خلقه، إنه ما توجه العباد إلى الله بمثله. وعلموا أنه شافع مشفع، وقائل مصدق .
وإنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه، ومن محل به القرآن يوم القيامة صدق عليه، فإنه ينادي مناد يوم القيامة: ألا أن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غير حرثه القرآن، فكونوا من حرثته وأتباعه، واستدلوه على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آرائكم واستغثوا فيه أهواءكم.
وعنه: من قرأ القرآن فمات فدخل النار , فهو ممن اتخذ آيات الله هزوا)( ).
واقتبس العلماء والمصلحون والشعراء من القرآن ، وهذا الإقتباس من رشحات تلاوة كل مسلم ومسلمة آيات من القرآن أن خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني ، فحينما تبارى جرير والأخطل رجحت كفة جرير لأنه اقتبس من القرآن .
إذ قال جرير بن بلال في قصيدته من الكامل :
ما زلت تحسب كل شئ بعدهم خيلا تكر عليكم ورجالا) ( ).
فلما سمع الأخطل انبهر وتحير وقال من ابن له هذا ، فقيل له هذا المعنى مأخوذ من القرآن من قوله تعالى [يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ] ( ) فقال الأخطل وكان نصرانياً : أنا من أين لي مثل كتاب محمد آخذ منه واستعين به.
ومطلع قصيدة جرير :
حَيِّ الغَدَاةَ، برامةَ الأطْلالا … رَسماً تَقَادَمَ عَهْدُهُ فَأَحالا
إنّ الغَوَادِيَ وَالسّواريَ غَادَرَتْ … للرّيحِ مُخْتَرَقاً بِهِ وَمَجالا) ( ).
وكان الأخطل قد هجا جريراً بقصيدة مطلعها :
كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ … علس الظلامَ من الربابِ خيالاَ) ( )
لتستنبط من معاني الإقتباس من القرآن في الشعر والنثر مسائل :
الأولى : حاجة الناس للقرآن .
الثانية : إتخاذ القرآن حجة وبرهاناً .
الثالثة : الإرتقاء في العلم والأدب بالرجوع إلى القرآن .
الرابعة : رجحان كفة الذي يصدر عن القرآن ويستحضر آياته .
وهل في استحضار المسلم لآية البحث منافع له ، الجواب نعم ، فهي سلاح وحرز وواقية , ويتجلى هذا المعنى في ثنايا هذا الجزء وما يتضمنه من تفسيرها والقوانين التي تستنبط وتستقرأ منها .
ومن خصائص آيات القرآن عدم إنقطاع تأسيس القوانين والقواعد والنظريات والأحكام منها .
وقد تجد عدداً من الفقهاء يعطون حكماً شرعياً ويستدلون عليه بالسنة أو الإجماع ،وصحيح أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع إلا أن الرجوع إلى القرآن كدليل حجة واقعة ، وضياء ينير القلوب ، ويبعث النفوس على العمل بمضمونه .
الحمد لله الذي جعل كل آية قرآنية دليلاً على وجوده سبحانه وعظيم سلطانه ، وكل آية يتفرع ويقتبس منها المتعدد من الأدلة ، وهذا الإقتباس متجدد إلى يوم القيامة .
ومن خصائص علم التفسير تضمنه الأدلة على وجود الله عز وجل وحضور مشيئته وجوب عبادته، وبيان عالم الجزاء وأهوال الآخرة والوقوف بين يدي الله عز وجل، وفي التنزيل[يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ] ( ).
إذ تبين هذه الآيات قانوناً متجدداً إلى يوم القيامة وهو دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل يوم لعبادة الله عز وجل ، فهو الذي خلق الناس جميعاً والخلائق الأخرى وجعل الناس يتنعمون في الدنيا ، وهو الذي أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم تضمنت الآيات أعلاه الإنذار للذين كفروا من عذاب النار .
وتبين آية البحث وجود أمة مؤمنة تعبد الله عز وجل وتشكره سبحانه على النعم التي تفضل بها على الناس جميعاً وتقاتل في سبيله ، وأمة من الكفار تقاتل الرسول ، وتبذل الأموال لإستدامة عبادة الأصنام .
فاسمع المهاجرون والأنصار صوتهم إلى الناس جميعاً بأنهم متوكلون على الله مفوضون أمورهم إليه ، وهو الذي يصرف عنه شرور الذين كفروا ويجمع الناس ليوم القيامة .
وهل في قول الصحابة يومئذ[حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ) تذكير بعالم الآخرة، وإنذار الذين كفروا من العذاب بسبب كفرهم ومحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنصاره .
الجواب نعم ، لما بلغه الصحابة من التفقه في الدين ، وهو من أسباب الإرتقاء الذي فازوا به ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلاوة القرآن ، والتدبر في آياته ومضامينها القدسية .
وحكى عن الفخر الرازي صاحب تفسير(مفاتح الغيب) والذي يسمونه التفسير الكبير ، وكأنهم بهذه التسمية يدعون إلى عدم الزيادة عليه في أجزائه ، وكان الرازي يوماً يمشي في الشارع ويحيط به تلامذته وأتباعه ، فرأته عجوز وهي بجانب الطريق ، وقيل كان الناس يستعدون لإستقباله .
فسألت العجوز من هذا :
فقالوا : ألا تعرفينه ، هذا الفخر الرازي .
قالت : ومن الفخر الرازي : قالوا : هو الذي أتى بالف دليل ودليل على وجود الله تعالى .
فقالت العجوز بفطنة : لو لم يكن عنده ألف شك وشك لما احتاج إلى هذه الأدلة .
فلما سمع الفخر مقالتها قال : اللهم ايماناً كايمان العجائز .
ولا أصل أو سند لهذا الخبر ، ولم يأت الرازي إلا ببضع أدلة على وجود الله عز وجل ، وقد تفضل الله وجعل الآيات الكونية أكثر وأعظم من أن تحصى ، وكل آية تصلح أن تكون دليلاً على وجوده سبحانه ، فلا تنحصر أدلة وجوده على دليل الحدوث ودليل العناية ونحوه .
والمجئ بالدليل العقلي في المقام أمر حسن ، ولا ملازمة بين الاتيان به وبين وجود الشك في النفس ، فالذي يجتهد ببيان الأدلة على بطلان وحرمة الربا لا يعني أنه يتعاطاه أو تميل نفسه إليه ، وكذا في باب المحرمات .
لقد تفضل الله عز وجل وجعل كل مسلم ومسلمة متفقهاً في علم الكلام بآيات الإحتجاج والبراهين التي في القرآن ، وهو من أسرار تلاوة كل مسلم ومسلمة للقرآن في الصلاة خمس مرات في اليوم .
وهل نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الهزيمة والإنكسار في معركة أحد من الآيات والبراهين على وجود الله عز وجل ، الجواب نعم .
لقد عبأت قريش الجيوش على نحو منتظم متكامل للمعركة ، وأخذوا بكل الإحتمالات وأشدها فجاءوا بجيش قوامه ثلاثة آلاف رجل ، بينما كان جيش المسلمين سبعمائة فقط ، وحتى لو كان هذا العدد مضاعفاً فانه لا يصل إلى نصف عدد جيش الذين كفروا ويعجز المسلمون عن بلوغ أسلحتهم وراحلهم مرتبة الربع من اسلحة ورواحل الذين كفروا ، ولكن الله عز وجل كان معهم وهو ناصرهم ، وهل يعلم المسلمون هذا القانون الجواب نعم ، ليكون علم المسلمين بأن الله معهم في ميدان المعركة وهو الذي ينصرهم ويدفع عنهم الهزيمة مع إنتفاء أسباب النصر دليلاً على وجود الله عز وجل .
وتمام العلة في الفلسفة هو وجود المقتضي وفقد المانع ، واعتمد رؤساء جيش قريش هذا القانون وفق الحساب العسكري السائد في كل زمان ، ولم يدركوا تبدل الموضوع وتبعية الأثر والحكم له ، وطرو أمر جديد على الأرض وهو نزول الملائكة والذين مسكنهم السماء إلى الأرض للقتال مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهذا النزول وموضوعه من مصاديق احتجاج الله عز وجل عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) حينما احتجوا على خلافة الإنسان في الأرض بفساده وسفكه الدماء فيها ، وتجلت مصاديق متعددة لموضوع احتجاجهم إذ افسد الذين كفروا ونصبوا الأصنام لأمور :
الأول : عبادة الأصنام .
الثاني : التقرب إلى الأوثان ، وتقديم النذور إليها ، والتبرك بها بهتاناً وزوراً .
الثالث : إتخاذ الأصنام واسطة تقربهم إلى الله عز وجل إفكاً وجهالة .
وفي التنزيل [مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى] ( ).
(عن ابن عباس { والذين اتخذوا من دونه أولياء . . . }( ) قال : أنزلت في ثلاثة أحياء : عامر ، وكنانة ، وبني سلمة . كانوا يعبدون الأوثان، ويقولون الملائكة بناته . فقالوا { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}( ))( ).
ولما كانت علة خلق الناس هي عبادته سبحانه وأنه هو اللطيف الرحيم فانه لم ينتقم من الناس ويفني الحياة الإنسانية على الأرض ، ولكنه تفضل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليقاتل وأصحابه في معركة أحد ويخرج في اليوم الثاني خلف العدو .
ويحتمل أثر معركة أحد في دخول الناس الإسلام وجوهاً :
الأول : إزدياد دخول الناس في الإسلام .
الثاني : إمتناع الناس عن دخول الإسلام .
وهو أحد أهم الغايات التي سعت إليها قريش من وراء هجومهم .
وهل هو من أسباب سرعة إنسحابهم من المعركة ، الجواب نعم ، لقد أرادوا أيصال رسالة إلى أهل مكة والمدينة والقبائل المحيطة بها , بأن يجتنبوا دخول الإسلام .
ومن خصائص مكة تنزهها من الظلم والبغي واستهجان أهلها له .
ولما بغت جرهم في مكة وصاروا يظلمون من دخلها من غير أهلها ، ويأكلون مال الكعبة الذي يهدى إليها ، قاتلهم بنو بكر من كنانة وغبشان خزاعة ، وأخرجوهم من مكة .
وخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي من مكة بالأسى والحزن وقد فقدوا جوار البيت وملك مكة ، فقال عمرو بن الحارث :
(وقائلة والدمع سكب مبادر … وقد شرقت بالدمع منها المحاجر
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا … أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فقلت لها والقلب مني كأنما … يلجلجه بين الجناحين طائر
بلى نحن كنا أهلها فأزالنا … صروف الليالي والجدود العواثر
وكنا ولاة البيت من بعد نابت … نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
ونحن ولينا البيت من بعد نابت … بعز فما يحظى لدينا المكاثر
ملكنا فعززنا فأعظم بملكنا … فليس لحي غيرنا ثم فاخر
ألم تنكحوا من خير شخص علمته … فأبناؤه منا ونحن الأصاهر
فإن تنثن الدنيا علينا بحالها … فإن لها حالا وفيها التشاجر
فإخرجنا منها المليك بقدرة … كذلك بين الناس( ) تجري المقادر
أقول إذا نام الخلي ولم أنم … إذا العرش لا يبعد سهيل وعامر
وبدلت منها أوجها لا أحبها … قبائل منها حمير ويحابر
وصرنا أحاديثا وكنا بغبطة … بذلك عضتنا السنون الغوابر
فسحت دموع العين تبكي لبلدة … بها حرم آمن وفيها المشاعر
وتبكي لبيت ليس يؤذى حمامه … يظل به آمنا وفيه العصافر
وفيه وحوش لا ترام أنيسة … إذا خرجت منه فليست تغادر
قال بن إسحاق وقال عمرو بن الحارث أيضا يذكر بكراً وغبشان وساكني مكة الذين خلفوا فيها بعدهم :
يا أيها الناس سيروا إن قصركم … أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
حثوا المطي وأرخوا من أزمتها … قبل الممات وقضوا ما تقضونا
كنا أناسا كما كنتم فغيرنا … دهر فأنتم كما كنا تكونونا)( ).
ليأتي الإسلام ويزيح الأصنام عن الكعبة ويتعاهد عبادة الله في البيت الحرام وعموم الأرض, بعد جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وحينما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً في اليوم التالي لمعركة أحد بالنداء لتعقب ومطاردة جيش العدو اشترط شرطاً وهو ألا يخرج معه إلا من قاتل في اليوم السابق في معركة أحد .
مع أن الأصل هو عدم وجود مثل هذا الشرط لأن الذين قاتلوا في معركة أحد أصابتهم الجراحات ، ولاقوا العناء في الطريق إلى المعركة والعودة منها وفي خوض المعركة ولمعان السيوف ، وما لحقهم من الأسى بسبب فقدان الغنائم وغياب النصر بعد تجلي تباشيره ، لولا ترك الرماة مواضعهم ومجئ خيالة الذين كفروا من خلف جيش المسلمين فان قلت : أراد النبي صلى الله وآله وسلم عدم خروج المنافقين معهم وتكرار رجوعهم من وسط الطريق، قال تعالى[لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ]( ).
والجواب هذا صحيح ولكن الذين يخرجون بهذا الشرط أعم وأكثر .
بدليل أن جابر بن عبد الله الأنصاري لم يخرج إلى معركة أحد لأن أباه خرج إليها وأمره أن يبقى مع أخوته ، فلما قتل أبوه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسأله الإذن له بالخروج معه إلى حمراء الأسد فاذن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يستصحب جابر وصية أبيه ، ولم يجلس للعزاء والرثاء بوفاته .
وتلك آية في صلاح المهاجرين والأنصار وصدق إيمانهم ، فجاءت الآية التي يختص هذا الجزء بتفسيرها بالثناء عليهم والإخبار عن إنقطاعهم للتوكل على الله عز وجل مع الإستعداد للتضحية في الدفاع عن النبوة والتنزيل ، فأنعم الله عليهم ووقاهم ملاقاة العدو وشر القتال ، وهو من عمومات قوله تعالى[وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا]( ).
ويتبادر إلى الذهن أن المقصود من [فَاخْشَوْهُمْ] أي في تلك الحال وسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد مع كثرة جراحاتهم وقلة عددهم بالنسبة لعدد جيش الذين كفروا ، ولكن التحذير الوارد في آية البحث أعم من موضوع وأوان التحذير ، ومن وجوه تقدير الآية :
الأول : فاخشوهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم يطلبون قتله .
الثاني : فاخشوا ملاقاتهم بالقتال لكثرتهم وإصرارهم على الثأر والإنتقام.
الثالث : واخشوهم إذا رجعتم إلى المدينة لأنهم يريدون الأذى والضرر لكم، وفي التنزيل[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
الرابع : فاخشوهم اليوم وغداً .
الخامس : فاخشوهم على أنفسكم وعوائلكم وعباداتكم.
السادس : فاخشوهم واجمعوا لهم كما جمعوا لكم .
وسيأتي مزيد كلام ووجوه أخرى في تقدير الآية في باب التفسير .

حرر في الرابع عشر من شهر محرم الحرام 1439
الموافق 5/10/2017

قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] الآية 173.
الإعراب واللغة
الذين : اسم موصول يجوز إعرابه على وجوه :
الأول : مبني في محل نصب لفعل محذوف تقديره : أذكر .
الثاني : بدل من [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا] ولو على نحو الموجبة الجزئية .
الثالث : بدل من [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ].
الرابع : اسم موصول في محل رفع مبتدأ بلحاظ إبتداء آية البحث به ، وموضوعية هذا الإبتداء .
قال : فعل ماض مبني على الفتح .
لهم : اللام : حرف جر .
هم : ضمير في محل جر متعلق بـ (قال) .
الناس : فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره .
إن الناس : ان : حرف شبه بالفعل .
الناس : اسم (ان ) منصوب ، وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
قد جمعوا : قد : حرف تحقيق .
جمعوا : فعل ماض مبني على الضم : الواو : فاعل .
لكم : جار ومجرور متعلق بـ [جَمَعُوا].
فاخشوهم : جملة وكلمة تتألف من أربعة أطراف :
الأول : الفاء : حرف عطف لربط السبب والمسبب ، إذ تأتي الفاء على وجوه :
أولاً : الفاء السببية التي تدخل على الفعل المضارع ويسبقها نفي أو طلب ، مثل : أتق الله فتنال الثواب ، ومثل : ازرع فتحصد .
ثانياً : حرف عطف ، بأن يكون ما بعدها معطوفاً على ما قبلها ، كما في قوله تعالى [قُلْ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي فَلاَ تُنظِرُونِ] ( ) .
ثالثاً : رابطة لجواب الشرط ، يترتب فيه الشرط على الجواب ، كما في قوله [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ] ( ).
رابعاً : حرف تعليل بمعنى لأجل ، كما في قوله تعالى [قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ] ( ).
ومثل : اجتنب الغيبة فانها قبيحة .
خامساً : تأتي الفاء حرفاً زائداً إذا دخلت على [حسب] أو [قط] كما في قوله : أصوم رمضان فقط ، ويعرب اسم فعل : بمعنى يكفي .
سادساً : الفاء الفصيحة , وهي التي تفصح عن شرط محذوف أو كلام محذوف قبلها يكون سبباً لما يذكر بعدها ، وسميت فصيحة لأنها تفصح عن مقدر قبلها ، وتدل على أن المحذوف سبب للمذكور على اختلاف بين النحويين في تعيينها وحصرها والضابطة فيها على قولين ، وهو من أسرار عدم ذكرها كثيراً في الإعراب , ولامكان حمل الفاء في موضعها على السببية ونحوها .
وفصيحة هنا فعيلة بمعنى فاعلة أي مفصحة ، كما في [فقولي] في قوله تعالى [فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا] ( ).
الثاني : اخشى : فعل أمر مبني على حذف حرف العلة .
الثالث: الواو : واو الجماعة فاعل .
الرابع : هم : ضمير مفعول به .
فزادهم إيماناً : فزادهم : الفاء : حرف عطف .
زاد : فعل ماض مبني على الفتح .
هم : ضمير مفعول به يعود للاسم الموصول الذي إبتدأت به آية البحث [الَّذِينَ]والفاعل ضمير مستتر تقديره هو يعود إلى القول الذي تذكره آية البحث والمتضمن التحذير والإنذار .
إيماناً : مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره .
وقالوا : الواو حرف عطف , قالوا : فعل ماض مبني على الضم .
الواو : فاعل .
حسبنا الله : حسب : مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره ، و(نا) خبر مضاف إليه في محل جر .
واسم الجلالة : خبر مرفوع بحذف مضاف ، وليس من حصر لمعاني المضاف في المقام , منه :
الأول : لطف الله .
الثاني : رحمة الله .
الثالث : نصر الله .
الرابع : عون الله .
الخامس : المدد من الله.
السادس : آيات الله .
السابع : ما يبعثه الله من خوف في قلوب الذين كفروا ومنه ما يأتي بواسطة الملائكة أو الريح أو الرعد والمطر وغيرها ، وفي التنزيل [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ) ولا تختص مصاديق الآية أعلاه بذات الجنود بل تشمل أموراً :
أولا : كيفية مجئ الجنود .
ثانيا : الإتحاد أو التعدد في ذات الجنود .
ثالثا : أوان مجئ الجنود .
رابعا : التدريج أو حال الدفع المتحد في مجئ الجنود .
خامسا : موضوعية الدعاء في مجئ الجنود .
فلا ينحصر هذا التجنيد بالبلاء والعقوبة للظالمين ، إنما يكون من مصاديقه المدد والعون للمؤمنين ، ومنه آية البحث .
وهل التوكل على الله من جند الله , أم أن القدر المتيقن فيها هو ما يأتي للإنسان ، وليس ما يصدر عنه ، الجواب هو الأول .
الثامن : نصرة الله لرسوله ، ليكون الحذف أعم من أن يختص بالمضاف, فيشمل فضل الله.
التاسع : علم الله .
العاشر : مشيئة الله .
الحادي عشر : سخط الله على الذين كفروا .
الثاني عشر : رضوان الله علينا ، قال تعالى [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ] ( ).
ونعم : الواو حرف عطف واستئناف .
نعم : فعل ماض جامد لإنشاء المدح , وعكسه (بئس ) لإنشاء الذم .
الوكيل : فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره ، والمراد بالمدح في المقام هو الله عز وجل , وتقدير الآية : ونعم الوكيل الله .
والجمع : تأليف المتفرق ، وضم الأفراد بعضها إلى بعض سواء كانت إرتباطية أو غير ارتباطية .
وجمع القلوب : التأليف بينهما بالمودة والوئام ، أما الجمع للأعداد فهو الحشد لقتالهم ، والمراد في آية البحث من قوله تعالى [قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ] أي أن الذين كفروا قاموا بتحشيد وجمع الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن أسماء مزدلفة (الجمع) لإجتماع الناس فيها .
(ومن سنن العرب ذِكْرُ الواحد والمراد الجمع؛ كقولهم للجماعة: ضَيْف، وعَدُوّ؛ قال تعالى: ” هؤلاءِ ضَيْفِى”( )، وقال: ثم يُخْرجكُم طِفْلاً)( ).
ولكن الآية جاءت بصيغة الجمع لبيان كثرة جيش العدو ، وللهيبة وإرادة التخويف ، وقد يطلق الجمع على ذات الشئ الواحد، كما في جمع الكف أي ضمها يقال(وضربه بجمع كفه)( ).
وفلانة جمع أي عذراء ، ومن معاني الجمع الإلتئام والإتحاد وسمي يوم الجمعة لاجتماع الناس فيه للصلاة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] ( ) فان قلت إنما كان اسم يوم الجمعة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الجواب نعم , وهو الذي تدل عليه الآية أعلاه , ففيه خلق آدم وجمع فيه . ويوم الجمع يوم عرفة ، وأيام جمع أيام منى .
وفي يوم الجمعة تقوم الساعة ويجمع الناس ، ومن أسماء يوم القيامة يوم الجمع , قال تعالى[يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ]( ) .
إذ ورد في القرآن بهذا الاسم مرتين , وقيل أول من سمى الجمعة هو كعب بن لؤي بن غالب , والأصل وجود هذا الاسم قبله .
والخشية مرتبة من الخوف والوجل , و(الخَشْيَةُ: الخوف، والفعل: خَشِيَ يَخْشَى. ويقال: وهذا المكان أخْشَى من ذاك، قال العجَاج:
قطعت أخْشاهُ إذا ما احْجَبا أي: أفزعه.) ( ).
ويقال هذا المكان أخشى من ذلك .
(عن ابن مسعود أنه قال ليس العلم بكثرة الحديث ولكن العِلْم بالخَشْية قال الأزهري ويؤيد ما قاله قولُ الله عز وجل إنما يخشى اللهَ من عباده العُلَماءُ) ( ).
ولكن الآية أعلاه تبين قانوناً , وهو أن الخشية مترشحة عن العلم وأنه طريق إلى الخوف والخشية من الله عز وجل ويقال رجل عالم وعلامة ، والعلّامة له معنيان :
الأول : بلوغ مرتبة عالية من العلم , والهاء للمبالغة ، وليس للتأنيث ، إنما المراد أنه قد بلغ الغاية والنهاية، والإرادة تأنيث الغاية سواء كان الموصول ذكراً أو أنثى .
الثاني : (والعَلاّمةُ النَّسَّابةُ) ( ) وتدل كثرة الحديث على العلم ، إنما الذي يبلغ مرتبة العلم يخشى ويخاف الله .
والجمع : النخل الذي ينبت من نوع لا يعرف صنفه , والجمع في إصطلاح النحو ما يزيد على اثنين ، وهو أقسام :
الأول : جمع المذكر السالم .
الثاني : جمع المؤنث السالم .
الثالث : جمع التكسير .
وقد يطلق الجمع على الإثنين ، وهما أقل الجمع .
وفي الإصطلاح البلاغي : جمع المختلف , وهو الإتيان بكلمتين بينهما تباين وتضاد .
الجماعة : العدد الكثير من الناس والأشجار والنبات وصيغة منتهى الجموع في النحو والصرف هو كل جمع تكسير في وسطه ألف وبعده حرفان أو ثلاثة أحرف من سطها ساكن , مثل جواهر جمع جوهر ، ومكاتب جمع مكتب .
وقد يأتي جمع الجموع بصيغة جمع المذكر السالم ، وجمع المذكر السالم، وجمع المؤنث السالم مثل صواحبون ومداليات .
وكما في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأحدى أزواجه (إنكن لانتن صواحبات يوسف) ( ).
وقد يقال من النظائر والمترادفات كل من الكلمات :
الأول : الخوف .
الثاني : الخشية .
الثالث : الوجل .
الرابع : الإشفاق .
الخامس : الرهبة .
وصحيح أن معنى هذه الكلمات متقارب ، وقد تأتي كلمات منها في آية واحدة كما في قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ] ( ) وقوله تعالى [وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ] ( )وفي باب (الفروق اللغوية ) أستدل على أن الخشية أعلى رتبة من الخوف بأصل اشتقاق كل من الكلمتين ، فيقال : شجرة خشية أي يابسة ، أي ليس من نفع منها ، أما الخوف فيقال (ناقة خوفاء أي بها داء وليس بفوات) ( ).
ولم يذكر في أمهات كتب اللغة لفظ خوفاء ، والمختار أن النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق ، وأن الخشية أدنى مرتبة من الخوف ، وهي أطول مدة ، فان قلت قد ورد قوله تعالى [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ] ( ) والجواب نعم ، والمراد أن العلماء يعلمون بسعة رحمة الله وشدة عقابه .
وقد ورد خوف الملائكة من الله قال تعالى [يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ).
والخشية خوف مقترن بالتعظيم للخائف منه ، لذا ورد هذا اللفظ في آية البحث على لسان الأعراب والناس لما رأوا من كثرة جيوش قريش ، وقلة عدد المهاجرين والأنصار الذين مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حمراء الأسد وفي طريقهم إليها ، بالإضافة إلى علم الناس بما لحق بهم من الخسارة والجراحات في معركة أحد , فجاء جواب الصحابة انما نخشى الله عز وجل ولا نخاف الظالمين .

في سياق الآيات
صلة هذه الآية بالآيات المجاورة , وهي على شعبتين :
الشعبة الأولى : صلة هذه الآية بالآيات المجاورة السابقة , وهي على وجوه :
الوجه الأول : صلة هذه الآية بالآية السابقة [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ) ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : إبتدأت كل من الآيتين بالاسم الموصول [الَّذِينَ] الذي يفيد جمع المذكر السالم , ويقابله في جماعة النساء اللائي واللاتي ، ويحتمل تكرار الاسم الموصول [الَّذِينَ] في المقام وجوهاً :
الأول : كل من الاسمين يجمع بين الرجال والنساء من الصحابة .
الثاني : إرادة خصوص الرجال ، وهو القدر المتيقن من الاسم الموصول [الَّذِينَ] إلا مع القرينة والأمارة على عموم الجنس .
الثالث : التباين ، فالمراد آية السياق خصوص الصحابة الذين خرجوا متعقبين جيش الذين كفروا ، أما آية البحث فتشمل عموم الصحابة والصحابيات .
الرابع : إرادة الخصوص والعموم في آية البحث ، وأن المراد فيها على مراتب :
الأولى : الذين خرجوا إلى معركة أحد ، ولم يلتفتوا إلى رجوع وإنخزال الذين نافقوا وسط الطريق .
الثانية : المهاجرون والأنصار الذين خرجوا إلى حمراء الأسد يطاردون العدو إذ عادوا من هذه المطاردة بزيادة في الإيمان ، وتسليم لأمر الله , وتوكل عليه ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] ( ).
الثالثة : عموم المؤمنين في أيام الرسالة ، إذ أظهروا أصدق معاني الإيمان مما جعل المنافقين في حال غيظ وحسرة .
الرابعة : إرادة عامة المسلمين والمسلمات في الصبر على الأذى والتهديد الذي يصدر من الكفار ، وصحيح أن أسباب نزول آية البحث خاصة إلا أنها لا تتعارض مع عموم المعنى .
والمختار شمول المهاجرين والأنصار بمضامين آية البحث وآية السياق ، وتكون الوجوه الأخرى أعلاه في طوله لبيان أن آية البحث غضة طرية ، وباقية في مضامينها وأحكامها إلى يوم القيامة ، وهذا المعنى العام لا يمنع من الخصوص والإكرام والتشريف للذين خرجوا خلف العدو مع شدة جراحاتهم ، وهو الذي يدل عليه نظم هذه الآيات ، والمستقرأ من معانيها ، وفي التنزيل [لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ] ( ) فمن وجوه عدم الإستواء بينهم في المقام نزول آية البحث والسياق بالإكرام الخاص للمدافعين عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام ، وعن القاعدين والمنافقين وعوائلهم ، إذ قيدت آية البحث الإصابة بالقروح بقوله تعالى [مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ] ( ) .
ولم تصب الجراحات القاعدين سواء كان قعودهم عن عذر أو لا إلا على المعنى الأعم بأن القرح والجراحات التي لحقت المدافعين نفذت إلى نفوس عامة المسلمين وآذتهم ، وقد يقال إن آية السياق أول الآية تحصر موضوعها بالإستجابة لله والرسول بالخروج خلف العدو , والجواب هذا صحيح .
فان قلت قد جاءت آية السياق بصيغة الفعل الماضي مما يدل على وقوع أحداثها ، وإنقضاء أيامها لتأتي آية البحث لتوثق هذه الأحداث ، والجواب هذا صحيح ، وهو ليس برزخاً دون عموم المعنى في آية البحث .
ومن أسرار إبتداء كل من آية البحث والآية السابقة لها بالاسم [الَّذِينَ] بعث العلماء على التحقيق في مضامينهما والصلة والجامع المشترك بينهما ، وحث المسلمين بالفطرة على التدبر في معاني هذه البداية ، قال تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ) .
ومع قلة كلمات آية السياق فقد تكرر لفظ (الذين) فيها مرتين وظاهر النسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق للتقييد والتبعيض في قوله تعالى [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ] ( ) لبعث الصحابة وعموم المسلمين على الإحسان وتعاهد التقوى في القول والعمل .
وتحتمل النسبة بين الاسم الموصول (الذين) في أول آية البحث والآية السابقة وجوهاً :
الأول : إرادة التساوي بين الاسم الموصول في أول كل من الآيتين .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق بينهما ، وتقدير الجمع بين الآيتين ، ومن الذين استجابوا لله والرسول الذين قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم .
الثالث : نسبة التساوي بين الاسم الموصول (الذين) في وسط الآية السابقة وبين الاسم الموصول في أول آية البحث , وتقدير الجمع بينهما للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم الذين قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم .
الرابع : إرادة نسبة العموم والخصوص المطلق بين الاسم الموصول (الذين) الوارد وسط آية السياق والاسم الموصول الذي تبدأ به آية البحث ، وتقدير الجمع بينهما : الذين أحسنوا واتقوا من الذين استجابوا لله والرسول الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ).
للتداخل والتفرع في ذات الأمة والصحابة ، وكأن مضامين آية البحث من خصوص الخصوص من الصحابة ، كما لو قال الأب لابنه صل فهذا الأمر مطلق ، ثم قال له : صل العيد ، فتكون صلاة العيد مقيدة .
ثم قال : صل العيد جماعة ، فتكون صلاة العيد بالنسبة لقيد الجماعة مطلقة ، فالذين قاتلوا في معركة أحد من المهاجرين والأنصار نحو سبعمائة ، أما الذين خرجوا خلف العدو حتى بلغوا حمراء الأسد فعددهم مائتان وسبعون فتصح نسبة العموم والخصوص المطلق بينهما ، فيكون المراد من قوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ] من المقيد والتخصيص .
وتقديره على وجوه :
الأول : المهاجرون والأنصار الذي استجابوا لله والرسول .
الثاني : وليعلم المؤمنين الذين استجابوا لله والرسول ) جمعاً بين الآية السابقة وبين ما تقدم قبل خمس آيات [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) لوحدة الموضوع واتحاد نظم هذه الآيات وإرادة خصوص واقعة أحد ، وإن كان معنى ودلالات الآية أعم من أن تنحصر بموضوعها أو أسباب نزولها .
الثالث : وليعلم المؤمنين , الذين قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم .
الرابع : وليعلم المؤمنين الذين زادهم جمع الذين كفروا ايماناً .
الخامس : وليعلم المؤمنين الذين قالوا حسبنا الله ونعم الوكيل .
السادس : وليعلم المؤمنين الذين استجابوا لله والرسول .
السابع : وليعلم المؤمنين الذين أصابهم القرح .
الثامن : وليعلم المؤمنين الذين أحسنوا .
التاسع : وليعلم المؤمنين الذين نفروا خلف العدو .
العاشر : وليعلم المؤمنين الذين لهم أجر عظيم .
الحادي عشر : وليعلم المؤمنين الذين [انْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ] ( ) .
المسألة الثانية : يتعلق موضوع آية السياق بالإستجابة لله والرسول بلحاظ أنها العمود الذي يتقوم به الإيمان، الذي هو إعتقاد واقرار وتسليم بالوحدانية لله والشهادة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة والرسالة من عند الله .
أما الإستجابة فهي من عالم القول والفعل لتبين صدق إيمان المسلمين وسعيهم لتثبيت معالم الإيمان في الأرض .
وأيهما أصعب وأشق على المسلمين استجابة لله والرسول مع القرح والتي تذكرها آية السياق ، أما قول الناس لهم أن الناس قد جمعوا لكم .
الجواب ليس من صعوبة ومشقة مع الإيمان , واذا كان ولابد فان الإستجابة للخروج خلف العدو هي الأصعب لأنها تتضمن أموراً :
الأول: بذل الجهد بعد العودة من معركة أحد .
الثاني : شد الرحال والخروج من المدينة وسمي السفر لأن الإنسان يسفر فيه , أي ينكشف عن أهله وبيته وجدران بيوت بلدته .
الثالث: ركوب الرواحل مع شدة الجراحات في معركة أحد.
الرابع : قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة ملاقاة العدو ومحاربته .
الخامس : إحتمال تجدد القتال والقتل .
أما آية البحث فأنها أخبرت عن أمور :
الأول : عزم الذين كفروا على القتال .
الثاني : إصرار الذين كفروا على معاودة القتال بعد معركة أحد وقبل أن يعودوا إلى مكة .
الثالث : تسخير وحشد الذين كفروا من قريش الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الرابع : شيوع إرادة الذين كفروا البطش بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ] ( ).
وهل نفعت هذه الإشاعة الذين كفروا أم كانت سبباً للإضرار بهم ، الجواب هو الثاني .
وتدل علية آية البحث التي بينت صبر وثبات المسلمين في مقامات الهدى والإيمان .
ومن الإعجاز في المقام سبق معركة بدر وأحد قبل هذا التخويف للمسلمين، فقد انتصر المسلمون انتصاراً ساحقاً في معركة بدر، لينزل قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) ويكون على وجوه:
الأول : إنه واقية وحرز من التخويف الذي ذكرته آية البحث.
الثاني : إنه برزخ دون ترتب الأثر عليه.
الثالث : الآية أعلاه بشارة نصر المسلمين في المعارك اللاحقة.
وهل هذه البشارة لأصل الإستصحاب، الجواب إنما هو للتسليم بالمدد من عند الله، والإستصحاب فرع عنه لأنه دليل عقلي، وتقديره: كما نصركم الله ببدر فإنه ينصركم في المعارك اللاحقة، كما يكون تقديره بالأولوية وفحوى الخطاب : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فأنه ينصركم في المعارك اللاحقة من باب الأولوية لسلامتكم من الذل والضعف بعد معركة بدر.
الرابع : نصر المسلمين في معركة بدر زاجر للمنافقين، ومانع من إتساع النفاق، وبيان لقانون وهو جلب النفاق الضرر لصاحبه.
فصحيح أن الآية أعلاه , وردت بصيغة الجملة الخبرية ولكنها إنشائية من جهة حضورها في أيام المسلمين اللاحقة من جهات :
الأولى : تنمية الآية أعلاه وهي آية[بِبَدْرٍ] ملكة العز عند المسلمين , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( )، وهل من موضوعية في مضامين آية البحث لكل من :
الأول : واقعة بدر .
الثاني : نصر المسلمين في معركة بدر .
الثالث : نزول آية ببدر .
الجواب نعم ، وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : الذين قال لهم الناس بعد النصر في معركة بدر .
الثاني : الذين قال لهم الناس بعد نزول آية ببدر .
الثالث : الذين قال لهم الناس بعد صيرورتهم في حال عز .
الثانية : تلاوة المسلمين للآية أعلاه دعوة لهم للصبر والدعاء وسؤال الله عز وجل تحقيق النصر في معارك الإسلام الأخرى ، خاصة وأن هذا النصر تنجز بلطف من الله وبدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتفضل الله بالإستجابة ونزول الملائكة مدداً، قال تعالى[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
الثالثة : حاجة المسلمين إلى النصر من عند الله عز وجل , وليس من حصر لمصاديق هذه الحاجة , وتعدد اللحاظ فيها من جهات:
الأولى : الحاج الشخصية للفرد الواحد من المسلمين في عباداته ومعاملاته وتقيده بالأحكام الشرعية العامة.
الثانية : الحاجة النوعية للمهاجرين، وسلامتهم من أذى المنافقين والذين كفروا.
الثالثة : الحاجة النوعية للأنصار، وبيان حسن إختيارهم الإيمان ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة : الحاجة العامة لعموم الصحابة والصحابيات.
الخامسة : حاجة المسلمين في كل زمان لنصر الله في معركة بدر، قال تعالى[وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ولقد جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً ولا يقدر على الإستغناء عن الحاجة طرفة عين ، وأيهما أكثر :
الأول : حاجة الإنسان لله عز وجل .
الثاني : حاجة الإنسان للناس مجتمعين ومتفرقين , ومنهم الأبوان والأولاد .
الجواب هو الأول ، وتلك آية في بديع خلق الله عز وجل للإنسان ، ولو إجتمع كلهم لإعانة عبد حجب الله عز وجل عنه أسباب التوفيق أو أرادوا بقاءه حياً فأنهم يعجزون عن تعاهد حياته إذا كانت أيامه قد انقضت عند الله ، وهو من مصاديق[قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ).
الرابعة : ترغيب المسلمين بتلاوة آية[بِبَدْرٍ] وتنمية ملكة التوكل على الله عندهم، وهو من مصاديق خاتمة آية البحث[وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] بلحاظ أن نصر المسلمين في معركة بدر عون لهم لبلوغ مرتبة التوكل على الله ومدرسة وموعظة في بيان المنافع العظيمة للتوكل على الله، وقد إجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء عشية وصباح المعركة فجاء النصر.
المسألة الثالثة : لقد ذكرت كل من آية البحث والسياق اسم الجلالة(الله) مع تعدد الموضوع ، إذ تضمنت آية السياق الإخبار عن حرص المهاجرين والأنصار على الإستجابة لله في أشق الأحوال وأبعد الغايات في الجهاد من جهات :
الأولى : خروج الصحابة بعد يوم قتال شديد لم يعهده المسلمون من قبل وهو يوم معركة أحد .
وأخبر القرآن عن نزول المصيبة بالمسلمين يومئذ بقوله تعالى[أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا]( ).
الثانية : الإمتثال لأمر الله وأمر رسوله مع شدة الجراحات والقروح في المعركة والتي تستلزم أياماً متعددة للعلاج والإلتئام .
الثالثة : قلة عدد المسلمين الذين خرجوا خلف العدو بلحاظ كثرة أفراده، إذ خرج مائتان وسبعون من المسلمين لمطاردة نحو ثلاث آلاف من المشركين مسلحين بالسيوف والرماح ومستعدين للقتال ، ويركبهم الندم لأنهم لم يحققوا أي غاية من غاياتهم الخبيثة في معركة أحد .
ليجمع لهم مع الندم الفزع والخوف حينما سمعوا بخروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلفهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
الرابعة : إبتعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن المدينة مع إحتمال رجوع جيش المشركين لملاقاتهم .
ومن الآيات في المقام تحلي عوائل الصحابة بالصبر والتقوى، مع إعانتهم على الخروج لملاقاة العدو مع شدة الجراحات .
ومن معاني الصبر في المقام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بقوا ثلاثة أيام في حمراء الأسد عدا أيام طريق الذهاب والعودة وكان المجموع خمسة أيام لتشهد لهم تلك البقعة من الأرض بالتقوى والدفاع والإستعداد للتضحية في سبيل الله , ويثيبهم الله عز وجل في العاجل والآجل، قال تعالى[فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ]( ).
ليعودوا منتصرين من غير قتال، وفيه نوع تحد للذين كفروا وهو مناسبة للثواب والأجر للمؤمنين وعوائلهم، وليكون من مصاديق الأجر العظيم في خاتمة آية السياق شمول أسر وعوائل المؤمنين به، وإذا أعطى الله عز وجل فانه يعطي بالأتم والأكمل والأفضل.
المسألة الرابعة: ذكرت آية السياق الله عز وجل، كما ذكرت الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وجاء ذكره من جهات :
الأولى : الشهادة بأنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي مرتبة عظيمة بأن يشهد له الله عز وجل بالرسالة، قال تعالى[وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا]( ).
الثانية : دلالة آية السياق في مفهومها على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يأمر وينهي ، وأن وظائف الرسول لا تختص بالتبليغ كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( ).
وبين قيام النبي بالتبليغ وقيامه بالأمر والنهي عموم وخصوص مطلق ، فالتبليغ أعم وأوسع وأكثر .
وهل تختص الإستجابة التي ذكرتها آية البحث بالأوامر والنواهي أم تشمل التبليغ والدعوة ، المختار هو الثاني ، فمن مصاديق تبليغ النبي الناس جذبهم إلى منازل الإنقياد للأوامر التي تنزل من عند الله , والعمل بأحكام الشريعة.
الثالثة : وجود أمة مستجيبة لله ورسوله ، لبيان إرتقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مرتبة المستجاب من قبل الناس .
الرابعة : صحيح أن الآية ذكرت الإستجابة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه كان معهم في ذات موضوع الإستجابة ، إذ كان هو الإمام في الإستجابة لأمر الله عز وجل ، ليكون من معاني آية البحث : استجابة رسول الله لأمر الله عز وجل فاستجاب له المسلمون .
المسألة الخامسة : من إعجاز القرآن في نظمه مجئ آية البحث بعد آية السياق ، إذ جاءت استجابة المسلمين لله والرسول قبل علمهم بعزم المشركين على إستئصالهم , وفيه مسائل:
الأولى : استجابة المسلمين لله والرسول زاجر للمشركين عن السعي لإستئصال المسلمين , وهو من عمومات قوله تعالى[وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ]( ).
الثانية : بعث اليأس والقنوط في نفوس الذين كفروا لبلوغ المسلمين مرتبة الإستجابة لله والرسول مما يدل على تصديقهم بالكتاب والسنة ، وإنقيادهم لهما.
الثالثة : من معاني ورشحات الإستجابة لله والرسول عدم الخشية من الذين كفروا.
وتقدير الجمع بين الآيتين : الذين استجابوا لله والرسول لا يخشون جمع المشركين .
الرابعة : بيان قانون وهو أن الإستجابة لله والرسول واقية من الخوف من تهديد الذين كفروا وهذه الواقية من فضل الله في قوله تعالى[وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
ومن الآيات أن نصر الله عز وجل للمسلمين في معركة بدر مقدمة ونوع طريق لإستجابتهم لله والرسول ، وواقية من الخشية من الذين كفروا وجمعهم وجيوشهم.
لذا تضمنت آية (ببدر) الأمر بالتقوى بقوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) وتضمنت الآية السابقة الحث على التقوى والترغيب بها، وبيان أن ثوابها وأجرها عظيم ، وتتجلى التقوى في آية البحث من جهات :
الأولى : مجئ خطاب وتحذير الناس للمسلمين بصفتهم الإيمانية وتحليهم بالتقوى.
لقد أدرك عامة الناس التباين والتضاد بين المسلمين والذين كفروا الذين يعكفون على عبادة الأوثان ويريدون قتل النبي محمداً والمسلمين مع توالي نزول آيات القرآن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وكل آية خزينة تنزل من العرش هبة ورحمة للناس.
فلما احتج الملائكة على جعل الإنسان[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) رد الله عليهم بالحجة والبرهان المتجدد إلى يوم القيامة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ومن هذا البرهان المتجدد فيما يخص القرآن أمور :
الأول : نزول آيات القرآن نجوماً وعلى نحو التوالي .
الثاني : كل آية قرآنية كنز من العلوم .
الثالث : جمع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء وعامة المسلمين آيات وسور القرآن بين دفتين .
الرابع : تجدد تجليات الآية القرآنية واستحضار العلوم منها في كل زمان ومكان .
الخامس : سلامة القرآن من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان , ومن إعجاز القرآن مجيء هذه السلامة بوعد من عند الله يتجدد ويتجلى كل يوم في قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
ويحتمل حذف كلمة أو بضع كلمات من القرآن على فرض حدوثه وجوهاً :
أولاً : إنه من التحريف .
ثانياً : انه أشد من التحريف .
ثالثاً : عدم بلوغه مرتبة التحريف .
والصحيح أنه الأول والثاني أعلاه .
ويحتمل تعاهد المسلمين للقرآن وآياته وجوهاً :
الأول : انه من الإستجابة لله والرسول.
الثاني : انه من مصاديق آية البحث وزيادة الإيمان، وحسن التوكل على الله سبحانه.
الثالث : لا صلة لمسألة تعاهد المسلمين لآيات القرآن بآية البحث والسياق خاصة مع ذكر أسباب نزول الآيتين والتي هي متقاربة ، وتكاد تكون واحدة في بعض الأخبار .
الرابع : تعاهد المسلمين لآيات القرآن مقدمة للعمل بمضامين آية البحث والسياق.
الخامس : هذا التعاهد من رشحات آية البحث والسياق .
وباستثناء الوجه الثالث أعلاه فان الوجوه الأخرى صحيحة، وهي من ذخائر القرآن وعلومه .
الثانية : الصبر في مقامات الإيمان مع التخويف بكثرة الأعداء وتهديدهم للمسلمين بالجموع والجيوش الكبيرة بدليل قوله تعالى[النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ]( ) لبيان شدة عداء الكفار واصرارهم على الإنتقام من المسلمين والبطش بهم ، فلا تكتفي قريش برجالاتها وعبيدها بل تحرض القبائل , وتغريهم بالأموال وتطوف عليهم وتحصي أعداد الذين يخرجون معهم.
وهو الذي تجلى في معركة الخندق إذ حشرت قريش عشرة آلاف رجل في الوقت الذي لم تستطع في معركة أحد جمع أكثر من ثلاثة آلاف رجل مع أن المدة بينهما أقل من سنتين.
والأصل أن يكون الناس الذين تجمعهم قريش في معركة الخندق أقل مما جمعته في معركة أحد لتجلي البراهين التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها الذي استبان في السنة الدفاعية وحضور الملائكة مدداً للنبي وأصحابه .
وبخصوص معركة أحد قال تعالى[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
الثالثة : إبتدأت آية السياق بالإخبار عن إتباع الصحابة لأوامر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وتحقق مصداق استجابتهم لله والرسول .
الرابعة : تأكيد الصحابة النطق بالشهادتين تأكيداً عملياً بالسيف والدم والفداء , وبذل الأموال في سبيل الله , وبيان سنن الإيمان إلى يوم القيامة بالصبر والدفاع .
الخامسة : قتال المهاجرين والأنصار بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتلقي الجراحات وسقوط القتلى من بينهم وهم يحرصون على سلامته، ومع هذا فإنه يبقى ثابتاً وسط الميدان ويتقدمهم في الزحف في آية وبرهان على صدق نبوته ويدعوهم للإقتداء به، والرجوع إليه، كما في قوله تعالى[وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ]( ).
السادسة : صدور الإحسان وأعمال الخير والبر من المسلمين بما هم مؤمنون بالله ورسوله ، وتبين الآية الملازمة بين التقوى والإحسان ، وتتجلى مصاديق التقوى بعدم تخلف الصحابة عن الإحسان حتى مع شدة الجراحات التي ألّمت بهم .
والإحسان من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة بلحاظ أمور :
الأول : حال ومرتبة وشأن المحسن .
الثاني : موضوع وأوان الإحسان .
الثالث : حال المحسن إليه.
الرابع : المبادرة إلى الإحسان، قال تعالى[وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ]( ).
الخامس : الغاية والقصد من الإحسان , وقصد القربة في المقام من الإحسان للذات ومنه الصبر، قال تعالى[وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ]( ).
السابعة : لقد ذكرت آية السياق التقوى باللفظ وعلى نحو التعيين وشهدت للمؤمنين بتعاهدهم الخشية من الله عز وجل، وطاعتهم له في اتيان الواجبات والإمتناع عما حرّم الله .
المسألة السادسة : تقدير الجمع بين الآيتين : الذين قالوا حسبنا الله ونعم الوكيل لهم أجر عظيم).
هل يمكن القول أن الحياة الدنيا دار (التوكل على الله ) الجواب نعم ، إذ جعل الله عز وجل الإنسان كائناً محتاجاً ، وفي كل لحظة من حياته يحتاج إلى رحمة وفضل ورأفة الله، وهذه الحاجة متعددة وإن إتحد الموضوع والزمان , والنسبة بين الحاجة والتوكل على وجوه :
الأول : نسبة التساوي وهي أن التوكل على الله مسافة لحاجة الإنسان .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين .
الأولى : موضوع التوكل على الله أعم من الحاجة .
الثانية : الحاجة أعم من التوكل على الله .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء ، وأخرى للإفتراق بينهما .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه ، لبيان أن حياة الإنسان تتقوم وتسمو بالتوكل على الله ، ولا تعارض بين التوكل على الله وإتخاذ الوسائل والأسباب .
(وعن أنس قال : قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ قَالَ : اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ . قَالَ عَمْرُو بْنُ عَلِىٍّ قَالَ يَحْيَى وَهَذَا عِنْدِى حَدِيثٌ مُنْكَرٌ. قَالَ أَبُو عِيسَى وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ رُوِىَ عَنْ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِىِّ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وآله وسلم نَحْوُ هَذَا)( ) .
والتوكل لغة الإعتماد على الغير ، أما في الإصطلاح فهو اللجوء إلى الله والثقة به ، ورجاء فضله بجلب المصالح ودفع المضار , ومنه اليأس مما في أيدي الناس .
(عن ابن عباس قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزوّدون، يقولون: نحن متوكلون، ثم يقدمون فيسألون الناس، فأنزل الله{وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى})( ).
وذات مضمون خاتمة آية البحث [حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ) لبيان قانون في حياة الأنبياء وهو التوكل المطلق على الله في حال السراء والضراء ، وقد تعاهد المسلمون هذا القانون لينالوا مرتبة [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
المسألة السابعة : من الإعجاز في نظم آيات القرآن إفادة الجمع بين الآية السابقة وآية البحث جمع المهاجرين والأنصار بين أمور :
الأول : الإستجابة لله عز وجل .
الثاني : الإستجابة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الصلاح والإحسان .
الرابع : التقوى والخشية من الله عز وجل .
الخامس : زيادة الإيمان في حال الحرب والسلم .
السادس : اللجوء إلى الله عز وجل , والتسليم بعظيم قدرته وسعة سلطانه وحضور فضله في المهمات .
(عن جابر بن عبد الله قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غزوة قِبل نجد , فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أدركته القائلة يوما بواد كثير العضاه فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت سمرة فعلق بها سيفه فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعونا فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس.
فقال إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا.
فقال لي من يمنعك مني .
فقلت : الله , فشام السيف , وجلس ثم لم يعاقبه)( ).
وهناك من الأعراب من دخل قلبه الإيمان دفعة ، ليلحق بأهل آية البحث , وإن لم يخرج معهم .
(عن المطلب بن عبد الله بن حنطب : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ في مجلس ومعهم أعرابي جالس {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعلم مثقال ذرة شراً يره}( ).
فقال الأعرابي: يا رسول الله أمثقال ذرة؟ قال : نعم.
فقال الأعرابي : واسوأتاه . ثم قام وهو يقولها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لقد دخل قلب الأعرابي الإِيمان) ( ).
ليكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام لأصحابه والتابعين وعموم المسلمين في تفويض الأمور إلى الله عز وجل ، ومن الإعجاز في السنة النبوية حفظ المسلمين وتوارثهم لها ، وحرصهم على عدم تضييعها، ومن إعجاز القرآن الغيري أنه سبيل مبارك لحفظ السنة النبوية.
فان قلت السنة بيان وتفسير للقرآن فكيف تحفظ بالقرآن .
الجواب يتعاهد المسلمون تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن لأنه شعبة من الوحي ولحاجتهم للبيان والتفصيل والأحكام التي تأتي في السنة النبوية.
وقد أخبرت آية السياق عن استجابتهم لله والرسول، ليكون حفظ السنة فرع هذا الإستجابة ، وأمارة عليها، وهل حفظ السنة النبوية من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، الجواب نعم.
والذكر مصدر ذكر الشيء بذكره ذِكراً , وهو استحضار الشيء, وخلاف النسيان .
ويأتي الذكر بمعنى جريان الأمر على اللسان ، وفي الإصطلاح هو جريان ذكر الله على اللسان , والمختار أن الحفظ في الآية أعلاه يشمل السنة النبوية في الجملة ، وهو من الإعجاز في ذكر الآية للذكر وإرادة المعنى الأعم منه، والضابطة هو التنزيل من عند الله ، وما يأتي به جبرئيل من الوحي بخصوص السنة النبوية التي ثبتت بالتواتر اللفظي من الذكر الذي تذكره الآية أعلاه .
السابع : حسن التوكل على الله عز وجل .
وهناك نوع ملازمة بين الإيمان والتوكل على الله ، والأنبياء قادة الأمم والأئمة في التوكل على الله ، وكل نبي له سنة بهذا الخصوص فيها فخر للناس، وهو من مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، ليرى الملائكة والخلائق سيرة الأنبياء في التوكل المطلق على الله عز وجل في أمورهم الخاصة والعامة، وما يخصهم بأشخاصهم وأحوال أممهم، قال تعالى[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
ومن خصائص قصص القرآن تضمنها لمصاديق التوكل على الله .
وجاءت بلفظ التوكل او بما هو في معناه منه ما ورد في قصة هود ومواجهته لرؤساء الكفر من قومه، كما ورد في التنزيل[فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ]( ).
وورد في دعاء ابراهيم عليه السلام[رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ]( ).
وفي قصة يعقوب ومصيبته بفقد يوسف مواعظ متعددة، إذ كان عليه السلام ينمي ملكة التوكل على الله عند أبنائه ويحرص على جعله نهجاً ثابتاً في حياته ، كما ورد في التنزيل [وَقَالَ يَابَنِيَّ لاَ تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ] ( ).
وليكون التوكل على الله فرع الإيمان والشاهد على صحته ، وفيه إقرار من العبد بالربوبية المطلقة لله عز وجل.
وكان التوكل على الله حاضراً ساعة إحتضار يعقوب، وفي التنزيل[أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
وكان الأنبياء يدعون أنصارهم وقومهم للتوكل على الله عز وجل .
ومن خصائص الرسل أولي العزم الإجتهاد في دعوة قومهم وليس أصحابهم وحدهم إلى التوكل على الله ، كما ورد في قصة موسى عليه السلام [وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ] ( ) لبيان استجابتهم لدعوة موسى بالتوكل على الله للنجاة من فرعون وقومه ومنع تسلطهم على بني إسرائيل .
وهل يمكن القول أن الرسل أولي العزم يكونون أسوة لعموم الأنبياء ، الجواب نعم .
وهو لا يتعارض مع إلتقائهم جميعاً بالوحي من عند الله ، وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين والمسلمات إذ قال لهم [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) ومن مصاديق الأسوة في المقام مجئ القرآن بالأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتوكل على الله .
وبيان قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لا يتوكلون إلا على الله عز وجل، وفي التنزيل[فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ]( ) [قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا]( ).
لبيان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يقطع بأن أمته تتوكل على الله, ويغادر الدنيا إلى الرفيق الأعلى وهو يشهد للأجيال المتعاقبة من المسلمين والمسلمات بأنهم يتوكلون على الله ، وتحتمل النسبة بين التوكل والإستعانة كما في قوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ) وجوهاً :
الأول : التساوي بين التوكل والإستعانة .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وهو على شعبتين :
الأولى : التوكل على الله أعم من الإستعانة به سبحانه.
الثانية :الإستعانة بالله أعم من التوكل .
الثالث : إرادة نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه ، إذ يجمع التوكل على الله المعرفة والإيمان والتسليم بأن الخلق والتدبير والنفع والضرر ومقاليد الأمور كلها بيد الله ، أما الإستعانة فهي تجمع مع المعرفة والإيمان الثقة بالله ، والإعتماد عليه ، ومن يتوكل على الله يستعين به سبحانه ، وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين ، وجعل كل مسلم ومسلمة يقرأون عدة مرات في اليوم قوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ) وفيه تنمية لملكة التوكل على الله عز وجل , وهو باب لزيادة الإيمان .
(عن ابن عباس قال : كنت رديف( ) رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا بني ، احفظ الله يحفظك ، واحفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، جفت الصحف ، ورفعت الأقلام، فلو جهدت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم يقدره الله لك لم يقدروا على ذلك ، ولو جهدت الأمة على أن يضروك بشيء لم يقدره الله عليك ما قدرت على ذلك) ( ).
لبيان قانون وهو عدم إنحصار أسباب زيادة الإيمان فهي لا تختص بموضوع مخصوص ومنه التهديد والوعيد من قبل الظالمين ، فاكثر أيام المسلمين ليس فيها تهديد ووعيد من جيوش المشركين ، ولكنهم يزدادون إيماناً في كل يوم وهو من رشحات النصر في معركة بدر ومضامين آية البحث, إذ خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلف جيوش الكفار فأخبرهم الركبان والناس القاطنين في طريقهم بأن جيش قريش يريد العودة لقتالهم فما زادهم إلا إيماناً , مع حسن التوكل على الله عز وجل , لتبقى آية البحث اشراقة تنير سبل المسلمين في أمور الدين والدنيا وتزجر الذين كفروا عن إيذائهم والتعدي عليهم , وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
المسألة الثامنة : لقد تضمنت الآية السابقة البشارة بالأجر العظيم للمؤمنين الذين يحسنون إلى أنفسهم وغيرهم .
وأخبرت آية البحث عن زيادة إيمانهم فما هي الصلة بين الأمرين ، الجواب من جهات :
الأولى : زيادة الإيمان سبب في توالي الإحسان .
الثانية :زيادة الإيمان تنمية لملكة حب الإحسان والتعاون والتعضيد فيه : وهو من مصاديق خطاب الله عز وجل للمسلمين [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
الثالثة : زيادة الإيمان برزخ دون البخل والشح والأخلاق المذمومة وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
وبين الشح والبخل عموم وخصوص مطلق، إذ أن الشح أشد، فقد يعطي البخيل عن مشقة وجهد ولوم ذاتي مع النفس أما الشحيح فانه يمتنع عن العطاء .
(وقال ابن الرومي
يقتِّرُ عيسَى على نفسِهِ … وليسَ بباقٍ ولا خالدِ
ولو يستطيعُ لتقتيره … تنفَّسَ من منخرٍ واحدِ)( ) .
وهل هذا الذم في الغيبة المحرمة , الجواب نعم , وحينما يقرأ أحدهم البيت أعلاه من الشعر هل يؤثم قائله مرة أخرى , أم أن الأمر مقيد بمعرفة المراد من عيسى الذي ورد في ذمه في البيتين أعلاه .
المختار أن القدر المتيقن هو الاثم لصاحبه أوان القول إلا أن يكون سبباً للإقتداء به في إيذاء الناس.
وعن حذيفة قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام علينا سائل فسكت القوم ، ثم عاد فسأل ، فأعطاه بعض القوم خاتما أو شيئا ، فتتابع القوم ، وأعطوه .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من سن سنة حسنة فاتبع عليها فله أجره ، ومثل أجور من تبعه عليها ، غير منتقص من أجورهم شيئا، ومن استن سنة سيئة فاتبع عليها فعليه وزرها، ومثل وزر من اتبعه عليها ، غير منتقص من أوزارهم شيئا( ).
الرابعة : الإحسان مرآة الإيمان وشاهد عليه لإرادة المؤمن الأجر والثواب ، نعم قد يحسن الناس فيما بينهم من غير المؤمنين ، ولكنه محدود وخال من قصد القربة .
الخامسة : يزيد الإحسان في الإيمان لما فيه من حسن التوكل على الله ورجاء البدل والأجر من عند الله عز وجل .
المسألة التاسعة : لقد ذكرت الآية السابقة حقيقة تأريخية من جهات :
الأولى : إصابة الصحابة بالقروح والجراحات الشديدة, ليدل بالدلالة التضمنية على خوض المسلمين لمعركة من وقت قريب وتكبدهم فيها خسائر ولحوق الاضرار الجسدية بهم, نعم هذه الجراحات لا ترقى إلى الضرر العام بالإسلام والمسلمين لقوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
الثانية : دلالة هذه القروح على وقوع قتال شديد بين المسلمين والذين كفروا يوم معركة أحد .
الثالثة : القروح التي تذكرها الآية السابقة من مصاديق إصابة المسلمين بقوله تعالى قبل ست آيات[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
الرابعة : تضمنت الآية أعلاه الدلالة على إذن الله في سقوط سبعين شهيداً من المسلمين يوم معركة أحد، مع إصابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه بالجراحات , وفيه دليل على التخفيف من عند الله عنهم كمقدمة لخروجهم لحمراء الأسد .
الخامسة : مع شدة جراحات المسلمين فأنهم لم يخافوا تهديد الذين كفروا، وفيه آية تبين قانوناً وهو أن الإيمان مدد ذاتي , وعون لمواجهة الأعداء, وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وهل الإيمان وزيادته التي تذكرها آية البحث من مصاديق القوة في قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ] ( ) أم أن القدر المتيقن من القوة في المقام هو الأسلحة والمؤن ، المختار هو الأول لإرادة ذات القوة ومقدماتها .
وأخبرت آية السياق عن إتصاف المؤمنين بالإحسان , وأنه طريق للفوز بالأجر العظيم ، ويتجلى الإحسان في آية البحث من جهات :
الأولى : خروج المهاجربن والأنصار خلف العدو ومطاردته لمنع قيامه بالكّرة على المدينة .
الثانية : المبادرة للنهوض للنفير مع شدة القروح والجراحات وحداثتها إذ لم يمر عليها أكثر من يوم مما يدل على عدم إندمالها , وحتى في هذه الأزمنة ومع إرتقاء الطب فانه يصعب إندمال جراحات السيف في ليلة ونهارها , ومن المسلمين من تلقى يومئذ ضربات متعددة من سيف واحد أو من أكثر من سيف , للإختلاط والتداخل بينهم وبين المشركين , ومجيء خيالة المشركين من خلف المسلمين .
(عن ابن عباس قال ما نصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في موطن كما نصر يوم أحد فانكروا ذلك فقال ابن عباس بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله إن الله يقول في يوم أحد ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه
قال ابن عباس والحس القتل(حتى إذا فشلتم) الآية وإنما عنى بهذا الرماة .
وذلك ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقامهم في موضع ثم قال احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا فلما غنم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأباحوا عسكر المشركين اكب الرماة جميعا في العسكر ينتهبون وقد التقت صفوف أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهم هكذا وشبك اصابع يديه والتبسوا .
فلما اخلت الرماة تلك الخلة التي كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضرب بعضهم بعضا والتبسوا وقتل من المسلمين ناس كثير وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو تسعة وصاح الشيطان قتل محمد فلم يشك أنه حق حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين السعدين نعرفه بتكفئه إذا مشى ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا فرقى حولنا وهو يقول اشتد غضب الله على قوم دموا وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقول مرة اخرى : اللهم ليس لهم أن يعلونا) ( ).
الثالثة : تلقي الوعيد بصفة الإيمان والثبات عليه والسلامة من الإرتداد أو الهم به، ويدل عليه قوله تعالى[فَزَادَهُمْ إِيمَانًا]( ).
الرابعة : ثبات المهاجرين والأنصار في مقامات الإيمان ، ويدل عليه بالأولوية القطعية إخبار الآية عن زيادة الإيمان ، وفيه غاية الثناء عليهم ، فمع مجئ ضروب من التخويف وأسباب الفزع وتجمع وإجتماع وجمع الذين كفروا للتعدي على المسلمين فانهم إزادوا إيماناً وأظهروا الثبات على الإيمان بالله ورسوله ، والعزم على الدفاع عن النبوة والتنزيل، وفي التنزيل[وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ]( ) لبيان قانون في الآية أعلاه وهو الوعد الكريم من الله عز وجل لأهل هذه الآية الذين تعقبوا جيش المشركين حتى حمراء الأسد.
الخامسة : دلالة إخبار الآية عن زيادة الإيمان على المناجاة بالصبر والعزم على القتال دفاعاً ، ويتجلى هذا المعنى من سياق الآية ، فلم يطلب المؤمنون القتال ، ولكن الذين كفروا جمعوا لهم وأرادوا الكيد بهم ، فكان ردهم الصبر ، وتعاهد سنن التقوى ، والرضا باللحوق بالشهداء الذين فارقوا الدنيا في واقعة أحد والتي وقعت قبل يوم واحد كم سيرهم لتعقب العدو ، وهذا الصبر من الإحسان للذات والذرية والتابعين ، وهو من أسرار تخليده في القرآن بلحاظ قانون وهو كل آية قرآنية مدرسة في التأديب والإصلاح .
السادسة : سلامة المهاجرين والأنصار من وقوع الخلاف بينهم أو الشقاق وتعدد الأقوال بينهم ، فلم يقولوا مثلما قيل لموسى عليه السلام[فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ]( ) بل أجابوا على التهديد والوعيد بالإجماع على التحدي والرضا بما كتب الله عز وجل .
السابعة : من الإحسان التسليم بأن الله عز وجل هو الكافي وهو الوكيل الذي يذب عن المسلمين، ويصرف عنهم الأذى، وهو من مصاديق قوله تعالى[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
المسألة العاشرة : لقد أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [أَجْرٌ عَظِيمٌ] وفيه بلحاظ آية البحث مسائل :
الأولى : التذكير بيوم القيامة ، وحاجة كل إنسان للثواب على الفعل الحسن القليل أو الكثير والصغير أو الكبير، وهو من عمومات قوله تعالى[فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه]( ).
الثانية : الترغيب بالثواب والأجر ، ومن مصاديق الترغيب به وصفه بالعظيم ويبعث هذا الوصف الشوق في النفوس للسعي في المسالك التي تؤدي إلى الأجر والثواب بلحاظ أن نزول هذا الوصف من عند الله وعد كريم , وفي التنزيل[وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ]( ).
الثالثة : جاء ذكر الأجر قبل تخويف الناس للمسلمين ويفيد نوع تعارض بين الأجر وبين الخوف والفزع من جمع الذين كفروا ، ويطرد ذكر الأجر هذا الفزع عند المؤمنين خاصة ، فالذي لا يقر بالأجر وعلم الغيب وعالم الآخرة يتلقي تخويف الذين كفروا بالفزع والخوف ، فكانت خاتمة الآية السابقة كالمقدمة لمضامين آية البحث وهي عون ومدد سماوي للمسلمين للصبر وتلقي تهديد الذين كفروا بالتوكل على الله، وفيه مسائل :
الأولى : يتجلى إتحاد الموضوع بين آية البحث والآية ال , إذ إبتدأت كل من الآيتين بالاسم الموصول ( الذين ) وتحتمل النسبة بينهما وجوهاً :
أولاً : نسبة التساوي وأن كلاً من الاسمين يراد منه ذات الأشخاص والرهط والطائفة.
ثانياً : نسبة العموم والخصوص المطلق وهي من شعبتين :
الثانية : المراد من الاسم الموصول في آية البحث أكثر عدداً من المراد من المقصود في آية السياق , كما لو كان لفظ ( الذين ) في آية السياق يقصد منه خصوص الذين أحسنوا واتقوا من الذين إستجابوا لله ورسوله .
الثالثة : المراد من الاسم الموصول في آية السياق أكثر عدداً من المقصود بالاسم الموصول في آية البحث .
ثالثاً : نسبة العموم والخصوص من وجه، فهناك طائفة يشملها الاسم الموصول في الآيتين وهناك طائفة أخرى يختص بها الاسم الموصول من آية البحث , وطائفة يختص بها الاسم الموصول المراد في آية السياق .
والمختار هو نسبة التساوي بين الاسمين وهو من فضل الله عز وجل على الصحابة والمسلمين عامة , إذ لا يعني هذا الذكر التعيين والحصر فمضمون الآيتين متجدد إلى يوم القيامة .
لقد جاءت آية البحث بذكر خصال حميدة للمؤمنين أيام النبوة فأبى الله أن يكون الثناء عليهم محصوراً بآية واحدة فجاءت الآية التالية في مدحهم وبيان صبرهم وتحملهم الأذى في جنب الله, وتعقبتها آية أخرى تبين جزاء الله العاجل لهم بقوله تعالى[فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ]( ).
الرابعة : تحتمل الصلة بين آية البحث وآية السياق وجوهاً:
الأول : المقصود في أول آية السياق هم أنفسهم المذكورون في آية البحث وتقدير الجمع بينهما : الذين إستجابوا لله والرسول هم أنفسهم الذين قال الله تعالى في الثناء عليهم[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ]( ).
الثاني : المقصود في أول آية السياق شطر من الذين ذكرتهم آية البحث في بدايتها, وتقدير الجمع بينهما على وجوه :
أولا : الذين أحسنوا منهم الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم.
ثانياً : الذين اتقوا منهم الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم.
ثالثاً : الذين أحسنوا منهم وأتقوا الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم .
الثالث : إرادة المعنى الأعم للآية الكريمة وتقديرها:
الذين إستجابوا لله والرسول لهم أجر عظيم وإذ قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً …).
والمختار هو الأول والثالث أعلاه , فصحيح أن آية البحث نزلت بخصوص المهاجرين والأنصار الذين حضروا معركة أحد ثم توجهوا إلى حمراء الأسد تلبية لنداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ملاحقة الذين كفروا إلا أن موضوعها أعم , ويشمل كل المؤمنين الذين تقيدوا بأداء الفرائض العبادية , وهل يشمل المؤمنات أم أن الأمر خاص بالرجال من المسلمين لما فيه من مفاهيم الوعيد بالقتال والتقاء الصفوف.
الجواب هو الأول , من جهات :
الأولى : دلالة آية السياق على توجه الإنذار للمسلمين مجتمعين ومتفرقين, ومن وجوه تقدير الآية بلحاظ الخطاب للنساء: اللائي قال لهن الناس إن الناس قد جمعوا لكم ) ولا يضر بهذا المعنى كون النساء في المدينة لم يخرجن لحمراء الأسد , لوجود المنافقين فيها .
الثانية : يسعى الكفار في جمعهم الجيوش إلى غزو المدينة المنورة وقتل المسلمين وسبي المسلمات, وهل هو من مصاديق قوله تعالى حكاية عن بلقيس ملكة سبأ[قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ]( ) .
والجواب إنه أشد لأن الكفار أشد من الملوك فيما يقصدون فعله, وعزمهم على استئصال الإسلام وقصة سليمان النبي مع بلقيس في القرآن من المواعظ والعبر، ولم تستوف حقها من الإستنباط والإستقراء، وفي الآية أعلاه (قال ابن عباس: إذا دخلوها عنوة خرّبوها)( ).
وقال الله عز وجل (وكذلك يفعلون) لإرادة الإطلاق وتشابه ذات الفعل والضرر الذي يجلبه الملوك عند فتح المدن ومنه إستضعاف وإذلال أهلها، ليكون من معاني الآية أعلاه بلحاظ آية البحث وجوه:
الأول : دعوة المسلمين للدفاع عن المدينة المنورة.
الثاني : بذل المسلمين الوسع في الصبر والمرابطة والدفاع لعدم العودة لحال الذل التي نجاهم الله منها بالنصر في واقعة بدر.
الثالث : تحذير المسلمين من إفساد القرى والمدن عند فتحها للتباين الموضوعي بينهم وبين الملوك، لذا فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤكد عبوديته لله عز وجل ويمنع من الإساءة للناس مطلقاً، وسيأتي مزيد بيان.
الثالثة : توجه المنافقين والمنافقات إلى النساء في المدينة في بث السموم وإثارة المخاوف فيما بين المسلمين , وفي مجتمع المدينة ليجعلوا المسلمة تخاف من وجوه :
الأول : الخوف على الإسلام.
الثاني : الخشية والخوف على النفس والأبناء والأهل.
الثالث : الخشية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصةً مع تجاهر الذين كفروا بالسعي لقتله , وقد تجلى مصداق لهذه الخشية بعد وقوع معركة بدر , واصرار الذين كفروا فيها على القتال وإبتدائهم بالخروج من بين الصفين لطلب المبارزة إذ تقدم عتبة بن ربيعة وابنه الوليد وأخوه شيبة وطلبوا المبارزة.
وهل يصح هذا التقدم مع إتحاد الرحم بينهم أم أن الأولى أن يتقدم أفراد من أنساب وأسر وقبائل متعددة.
الجواب هو الثاني لمنع الإبادة من أسرة وعشيرة واحدة, ولكنه الغرور والضلالة المترشحان عن الكفر, ومنه حينما تقدم لهم ثلاثة من الأنصار وهم:
الأول : عوف بن الحارث .
الثاني : معوذ بن الحارث، وأمهما عفراء( ) بنت عبيد من بني النجار.
الثالث : عبد الله بن رواحة .
فقال عتبة : من أنتم؟
قالوا: رهط من الأنصار، ولم يذكروا عشائرهم، ولا نسبتهم إلى الأوس والخزرج، إنما ذكروا أنهم من الأنصار، وفيه مسائل :
الأولى : إرادة تحدي وإغاظة الذين كفروا، قال تعالى[وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ]( ).
الثانية : بيان حقيقة وهي وجود أمة تنصر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة لذا لم يقولوا : نحن أنصار ، إنما قالوا : رهط من الأنصار للدلالة على إيمان أمة خلفهم كلهم يضحون بأنفسهم دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قانون وهو إتخاذ المسلمين يوم اللقاء وساحة النزال مناسبة ووعاء لبيان ظهور الإسلام، وصدق الإيمان وعجز الذين كفروا عن محوه وإن قتلوا بعض الصحابة.
الثالثة : زجر الذين كفروا عن القتال .
الرابعة : إقامة الحجة على الذين كفروا لدلالة تسمية الأنصار على وجود أمة تنصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينما قريش عشيرته وأهله، وقد كذّبوه وآذوه وأصحابه في مكة فاعرض عنهم وأمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة ولكن قريشاً أصروا على قتاله .
ومن الإعجاز في آية البحث بيان قانون وهو تفويض المسلمين أمرهم إلى الله عز وجل إذ قالوا [حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ) وهل يختص هذا التفويض بمعركة أحد .
الجواب لا ، إنما هو يشمل كلاً من :
الأول : ما قبل معركة أحد ، ومنه وقائع معركة بدر .
الثاني : معركة أحد .
الثالث : ما بعد معركة أحد .
لقد جاءت آية البحث بقانون يتغشى أيام المسلمين، ومنهاج ينير لهم دروب الهداية، وهو من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
الخامسة : إرادة قصد القربة في البروز للقتال وبيان حقيقة وهي أن الأنصار لم يقاتلوا حمية، أو على الأنساب أو إرادة الشهرة ، إنما أرادوا رضا الله عز وجل .
وهناك أمور :
الأول : هل بروز ثلاثة من الأنصار يوم بدر من مصاديق الآية السابقة[الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ]( ).
الثاني : لو لم يبرز هؤلاء الثلاثة هل برز غيرهم من الأنصار .
الثالث : لماذا لم ينتظروا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالخروج .
أما الأمر الأول , فالجواب نعم ، لوجوب الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل والإسلام، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ]( ).
لقد رضي النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بروز الرهط من الأنصار ولم يمنعهم من الخروج ولم يوجه لهم لوماً ، مما يدل على رضاه ، وهو من باب السنة التقريرية .
وقد وعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالنصر على الذين كفروا , وفي جهة الخطاب في قوله تعالى[إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ]( )، وجوه :
الأول : الآية خطاب إكرام للمؤمنين في يوم بدر إذ سألوا الله النصر والغلبة.
الثاني : الآية خطاب تبكيت للذين كفروا بلحاظ تتمة الآية بقوله تعالى[وَإِنْ تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ]( )، لإستفتاحهم على أنفسهم إذ توجه أبو جهل بين الصفين بطلب النصر للذي له الحق، و(عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري حليف بنى زهرة انه حدثه انه لما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض , قال أبو جهل اللهم اقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة فكان هو المستفتح على نفسه)( ).
الثالث : إرادة العنوان الجامع في الخطاب وشموله للفريقين , مع التباين في المعنى والقصد والغاية، فهو ثناء ووعد للمؤمنين، وذم وتبكيت للذين كفروا .
والمختار هو الثالث أعلاه، إذ أن الفتح ونصر الإسلام رحمة للجمعين، ففيه عز للمؤمنين، وهو باب توبة للذين كفروا لتكون الواو في(وان تنتهوا) إستئنافية.
وأما الأمر الثاني فلو لم يبرز هؤلاء الثلاثة لبرز غيرهم من المهاجرين ومن الأنصار لتأكيد صدق إيمان الصحابة ، وعدم الخوف أو التخاذل في ملاقاة الذين كفروا ، ولكن هؤلاء بادروا إلى الخروج قبل غيرهم فاغنوا عنهم .
وهل رجوع هؤلاء الثلاثة إلى الصف وعدم مبارزتهم للعدو من مصاديق قوله تعالى[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]( ) الجواب لا ، لوقوع القتال فعلاً ولإشتراكهم بالقتال عند تلاحم الصفين ، إنما نزلت الآية أعلاه بخصوص معركة الخندق وعدم وقوع قتال فيها , والمدار على عموم المعنى وليس سبب النزول , ولا يعلم عدد المرات التي صرف الله عز وجل فيها القتال عن المسلمين إلا الله عز وجل.
وأما الأمر الثالث فقد خاطب المشركون المسلمين ودعوهم للمبارزة ، وفيه نوع تحد ، ومن المتعارف آنذاك اذا دعا أحدهم للمبارزة يتصدى له من يرغب بلقائه ، ومن يجد في نفسه القدرة على قتاله .
لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبكيت كفار قريش بأن جعل الأنصار يبادرون للمبارزة ، وأنه لم يأمر بقتال ومنازلة قريش وإن طلبوها ، وحينما رجع كفار قريش إلى مكة توجه اللوم إلى الذين قتلوا لأنهم أصروا على القتال وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
ولما سقط سبعون من الشهداء في معركة أحد لم يتوجه لوم إليهم لأنهم انتقلوا إلى الإقامة في ظلال العرش بحياة خالية من الإفتتان والإبتلاء ، أما ما يبثه المنافقون من أسباب اللوم وضروب الجدال فهو حجة عليهم ، وجاءت هذه الآيات لفضحهم ، وتحذير المسلمين من أراجيفهم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ] ( ).
لقد كان عتبة بن ربيعة من كبار رجالات قريش فأبى أن يبارزه وأخاه وابنه شبان من الأنصار، إن قاموا بقتل هؤلاء الشبان فليس من فخر، وان مال عليهم هؤلاء فليس من فخر، وإن مال عليهم هؤلاء الشبان وقتلوهم صاحبهم الخزي بعد قتلهم، فقالوا: نريد الأكفاء من أبناء عمنا من قريش , فبادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينئذ بالتوجه إلى أهل البيت ليبارزوا القوم , والنسبة بين قريش وأهل البيت عموم وخصوص مطلق , إذ أن أهل البيت من قريش , وليس العكس .
(فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قم يا حمزة , قم يا علي , قم يا عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب)( ).
لقد أراد كفار قريش الإبتداء بقتل المهاجرين إذ أن وقع قتل المهاجر الواحد عند أهل مكة كبير , وفيه صد لأهلها رجالاً ونساءً عن دخول الإسلام والهجرة , فأبى الله عز وجل إلا خزي الكفار , وليكون من مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) أمور :
الأول : نصركم الله بخزي الذين سألوا مبارزتكم وقتالكم .
الثاني : نصركم الله بعجز الذين كفروا عن إيجاد المانع الذي يحول دون دخول الناس والإسلام .
الثالث : نصركم الله في المبارزة الأولى بين المسلمين والذين كفروا, إذ تم قتل عتبة وشيبة والوليد دفعة واحدة , بينما خرج سالماً منتصراً الإمام علي عليه السلام وحمزة بن عبد المطلب , وجرح عبيدة جروحاً بليغة مات من أثرها.
الرابع : نصركم الله على الذلة والفقر والعوز .
الخامس : نصركم الله بسلامة المهاجرين في واقعة بدر , إذ كان عدد قتلى المسلمين ثمانية, وهو عدد قليل أزاء خسارة كفار قريش لسبعين من القتلى, ومثلهم من الأسرى، بالإضافة إلى أن الأصل هو نصر الجيش الأكثر عدداً وعدة أو لا أقل التساوي في الخسارة، ولكن الله سبحانه يعطي بالأتم والأوفى, وحينما نصر المسلمين فإنه نصرهم بأتم كيفية وأحسن حال.
لتكون معركة بدر وقلة عدد وعدة المسلمين فيها مادة للإحتجاج على الذين كفروا .
الرابعة : النصر في معركة بدر واقية من النفاق وأهله، وفيها دعوة لهم من جهات :
الأولى : شكر لله عز وجل على نعمة النصر .
الثانية : بيان مصداق عملي لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : إتخاذ معركة بدر ونصر المسلمين فيها مادة للإحتجاج على الذين كفروا، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
الرابعة : النصر في معركة بدر واقية من النفاق وضرره .
الخامسة : تدبر أجيال المسلمين في معركة بدر كمعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
أولاً : أوان المعركة.
ثانياً : أسباب المعركة.
ثالثاً : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بإستشارة أصحابه في دخول المعركة , والتأكيد على الأنصار ورضاهم بالمعركة لأنهم إشترطوا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذب عنه عند مداهمة العدو المدينة وليس الخروج وقطع نحو مائة وخمسين بين المدينة وموضع معركة بدر للقتال , ثم إنهم لم يخرجوا إلا لطلب قافلة أبي سفيان , قال تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ]( ).
لبيان معجزة أخرى وهي ترشح النصر عن الإستشارة, والسلامة العامة للمسلمين بها .
رابعاً : ثمرات معركة بدر, وكيف أنها مصداق لقوله تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
خامساً : نزول آية ( ببدر ) بعد تحقق النصر للمسلمين في المعركة .
وفيه وجوه :
أولاً : توثيق آية ( ببدر ) للمعركة وموضوعها وزمانها .
ثانياً : بيان التضاد بين حال المسلمين قبل معركة بدر وبعدها ، وهو الذي توثقه للأجيال آية (ببدر) وحضورها في الوجود الذهني عند المسلمين, وفي منتدياتهم .
ثالثاً : سلامة آية ببدر والآيات التي تتعلق بمعركة بدر من التحريف والتبديل والتغيير ، وتلك آية ومعجزة للقرآن إذ تأتي سلامته من التحريف من جهات متعددة منها محافظة ذات الآية على رسمها ومنطوقها, ومضمونها ودلالتها.
وهناك آيات نزلت بخصوص معركة بدر , لتكون كل واحدة منها مرآة لفضل الله على المسلمين بتحقيق النصر لهم , وخذلان الذين كفروا , منها قوله تعالى[إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ]( )، وسيأتي مزيد بيان( ).
المسألة الحادية عشرة : لقد تعددت الدلالة على الصحابة في آية البحث من وجوه :
الأول : الاسم الموصول ( الذين ) الذي تبدأ به آية السياق .
الثاني : واو الجماعة في ( استجابوا ) .
الثالث : الضمير المتصل ( هم ) في أصحابهم .
الرابع : الاسم الموصول ( الذين ) في قوله تعالى ( للذين ).
الخامس : واو الجماعة في ( أحسنوا )
السادس : الضمير ( هم ) في ( منهم )
السابع : واو الجماعة في ( اتقوا ) .
وورد ذكرهم في آية البحث من وجوه :
الأول : الاسم الموصول ( الذين ) والذي تبدأ به آية السياق .
الثاني : الضمير المتصل ( هم ) في ( قال لهم ).
الثالث : واو الجماعة في ( قد جمعوا ) .
الرابعة : الضمير ( كم ) في لكم .
الخامس : واو الجماعة في ( فاخشوهم ) .
السادس : الضمير المتصل ( هم ) في فزادهم .
السابع : واو الجماعة في ( قالوا ) .
الثامن : ضمير المتكلم ( نا ) في (حسبنا )
إن تعدد الضمائر والدلائل على الصحابة الذين قاتلوا في معركة أحد وخرجوا خلف العدو مطاردين له ، وزاجرين لكفار قريش وغيرهم من الإغارة على المدينة المنورة .
وصحيح أن معركة أحد دفاعية محضة إلا أن مضامين آية البحث تبين أنها بداية ملاحقة جيش الذين كفروا ، لتكون هذه الملاحقة برزخاً دون قيام المشركين بإعادة الكرة والهجوم المتكرر والتقدم على المدينة , فالذي يبقى في دفاع دائم يكون عرضة لمباغتة العدو ومداهمته المدينة وهم على حين غفلة وأهلها في سكون وراحة , لذا فإن خروج المسلمين للقتال حول المدينة المنورة , والإغارة على الذين يبلغ النبي صلى الله عله وآله وسلم عزمهم على الهجوم على المدينة حاجة ودفاعية , وتخفيف عن المقاتلين ودرء للأخطار ودفع للأضرار التي تأتي من الهجوم المتكرر للعدو , ومن الإعجاز أن القرآن قال [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ] ( ).
وبين القتال والدفاع عموم وخصوص مطلق , فالقتال أعم ويشمل الدفاع والمرابطة والهجوم والمبارزة طلباً لها , وتحدياً وإجابة لطلب العدو الكافر .
ومن الإعجاز في المقام أنه لم يطلب المسلمون من المنافقين في معركة أحد مشاركة في هجوم , إنما سألوهم الدفاع كما في قوله تعالى [وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا] ( ) .
فأجابوا بصيغة النفاق أنهم لا يعلمون وقوع قتال بين المسلمين والذين كفروا , وأنه لا حاجة للذهاب إلى معركة أحد , وتركوا مسألة الدفاع بقوله تعالى [أَوْ ادْفَعُوا].
ويكون الدفاع على وجوه :
الأول : تحصين بلاد المسلمين .
الثاني : إرسال رسالة إلى جيش الذين كفروا بأن المسلمين جميعاً يقفون خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : بيان مسألة وهي عزم الأوس والخزرج على الدفاع عن أنفسهم وأهليهم , وقد رغب بعض الأنصار وهم في الطريق إلى معركة أحد بنصرة اليهود لهم , إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَا نَسْتَعِينُ بِحُلَفَائِنَا مِنْ يَهُودَ ؟ فَقَالَ : لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِمْ) ( ).
لقد جاء اليهود إلى الجزيرة العربية بعد اضطهاد الرومان لهم في أنفسهم ومعابدهم لأن الجزيرة بعيدة عن سلطات الدول العظمى ، وهي في مأمن منهم ، واتعظ اليهود من الدروس والعبر التي لاقوها من أذى السلاطين لهم ، فقاموا ببناء حصون وقلاع لهم ، يؤّمنوا فيها حياتهم في الليل عند غلق أبوابها ، وعند مداهمة العدو لهم ، وصار عددهم في ازدياد ، وعقدوا مواثيق وأحلافاً مع القبائل العربية ، وتوجهوا إلى التجارة والكسب ، واختاروا الأرض الخصبة ، وزاولوا زراعة النخيل وغيرها ، بعد انهيار سد مأرب وسد العرم ، قال تعالى [فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ] ( ) وقيل كان انهيار السد سنة 575 ميلادية هاجرت القبائل اليمانية .
ونزل الأوس والخزرج مدينة يثرب وتعاقد يهود المدينة معهم ، عندما ازداد عددهم بأن يأمن بعضهم بعضاً ، ويمتنعون عن غيرهم .
وأقامت بطون الأوس في جنوب وشرق يثرب ، بينما سكنت قبيلة الخزرج وبطونها وسط وشمال يثرب وكانوا يعملون بجد ومشقة لتوفير لقمة العيش ، ومنهم من اختار أرضاً بكراً أصلحها للزراعة ، وكانت الأموال والثروة بيد اليهود .
وعندما كثر عدد الأوس والخزرج وقع الخلاف بينهم وبين اليهود ، وقطعوا الحلف الذي بينهم ، فاستنجد الأوس والخزرج بالغساسنة من سكنة الشام لأن بينهم خؤولة ، فجاءوا لنجدتهم فصار الأوس والخزرج في منعة وقوة واتخذوا الدور وجمعوا الأموال وسكنوا عالية وسافلة يثرب لذا بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشيرين بالنصر في معركة بدر، أحدهما للعالية , والآخر للسافلة .
ثم وقعت حروب بين الأوس والخزرج ، فدخل اليهود في أحلاف معهم ، إذ دخل النضير وقريظة في حلف مع الأوس ، ودخل بنو قينقاع في حلف الخزرج ، فصار اليهود يتقاتلون فيما بينهم في الجاهلية بسبب هذه الأحلاف.
لقد جاء الأوس والخزرج إلى يثرب وعملوا بالفلاحة والأعمال الشاقة ولما ازداد عددهم ووقع الخلاف بينهم وبين اليهود لجأ الطرفان إلى العهود والأحلاف والصلح ، وعندما إزداد عدد وبيوتات الأوس والخزرج صاروا يتقاتلون بينهم .
ويرجع العرب جميعاً في نسبهم إلى أصلين :
الأول : عدنان .
الثاني : قحطان .
وعدنان من ولد اسماعيل بن ابراهيم , أما قحطان فيعود نسبه إلى إرم بن سالم بن نوح ، وقيل هو من نسب إسماعيل ايضاً ، ولكن عندما أسكن إسماعيل وأمه في الحرم كانت هناك قبائل عربية ، منها جرهم في ذات المنطقة ، ومنها في اليمن , وليس من دليل على فناء تلك القبائل , مما يعني أن نسب العرب أعم من أن ينحصر بذرية إسماعيل وقحطان إلا أن يقال بتقدم زمان قحطان , وتفرع نسله قبل سكن إسماعيل الحرم .
وقيل الأوس والخزرج من غسان من عرب اليمن ، وسميت غسان لأنه كان لهم ماء باليمن نازلين عنده اسمه غسان وهو قريب من الشلل (ما بين زبيد ورمع، وادي الأشعريين بأرض اليمن وفي ذلك يقول حسان بن ثابت الأنصاري:
إمَا سألتِ فإنَا معشر نُجُب … الأزد نسبَتُنَا، وَالمَاءُ غسان ) ( ).
وفي قوله تعالى [إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ] ( ) ورد عن ابن إسحاق قال (كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة حتى قام الإسلام ، فأطفأ الله ذلك ، وألف بينهم) ( ).
فكانت بعثة وهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة رحمة بالأنصار ، وبرزخاً دون استمرار القتال بينهم ، وحتى بعد الهجرة حصلت مشادات بينهم .
وعن (مقاتل بن حيان : كان بين الأوس والخزرج في الجاهلية وصال حتى هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فأصلح بينهم،
فافتخر بعد ذلك منهم رجلان : ثعلبة بن غنم من الأوس وأسعد بن زرارة من الخزرج،
فقال الأوسي : منّا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين،
ومنّا حنظلة غسيل الملائكة،
ومنّا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدين،
ومنّا سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمة له , ورضى الله بحكمه في بني قريظة،
وقال الخزرجي : منّا أربعة أحكموا القرآن : أُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد،
ومنّا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم فجرى الكلام بينهما فغضبا،
فقال الخزرجي : أما والله لو تأخر الإسلام قليلا , وقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقتلنا ساداتكم، واستعبدنا آبائكم ونكحنا نسائكم بغير مهر.
فقال الأوسي : قد كان الإسلام متأخراً زماناً طويلا فهلا فعلتم ذلك،
فقد ضربناكم حتى أدخلناكم الديار، وأنشدا الأشعار وتفاخرا وتأذيا،
فجاء الأوس إلى الأوسي , والخزرج إلى الخزرجي ومعهم سلاح،
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فركب حماراً وأتاهم فأنزل الله تعالى هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته}( ) الآيات، فقرأها عليهم فاصطلحوا.) ( ).
(عن ابن عباس في قوله { ثم أقررتم وأنتم تشهدون }( ) إن هذا حق من ميثاقي عليكم { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } أي أهل الشرك حتى تسفكوا دماءكم معهم { وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم } قال : تخرجونهم من ديارهم معهم { تظاهرون عليهم بالإِثم والعدوان }( ) فكانوا إذا كان بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس .
وظاهرَ كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم ، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة { وإن يأتوكم أسارى تفادوهم }( ) .
وقد عرفتم أن ذلك عليكم في دينكم { وهو محرم عليكم } في كتابكم { إخراجهم }( ) { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض }( ) أتفادونهم مؤمنين بذلك وتخرجونهم كفراً بذلك) ( ).
ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وجوه :
الأول : انقطاع الحروب والإقتتال بين كل من الأوس والخزرج .
الثاني : امتناع قبائل اليهود عن الإقتتال بينهم .
الثالث : القتال بين اليهود وبين الأوس والخزرج .
الرابع : إنشغال الجميع بالتدبر في إعجاز القرآن , وذخائر نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ] ( ).
وبعد أن كان أهل المدينة يسمون الأوس والخزرج صاروا يسمون الأنصار .
لقد كان الأوس والخزرج أبناء عم ، فصاروا في الإسلام أخوة مع المهاجرين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
فكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهم كتاباً وعاهد اليهود وآمنهم على أنفسهم وأهليهم وحفظ لهم أموالهم ، ولم يحملهم على دخول الإسلام ، واشترط عليهم ولهم .
وذكر ابن إسحاق العهد وهو (بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ إنّهُمْ أُمّةٌ وَاحِدَةٌ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ وَهُمْ يَفْدُونَ عَانِيهمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو عَوْفٍ( ) عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، كُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ .
وَبَنُو سَاعِدَةَ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ نَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ .
وبنو الْحَارِثِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ .
وَبَنُو جُشَمٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو النّجّارِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى .
وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ .
وَبَنُو النّبِيتِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو الْأَوْسِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ .
قَالَ ابن هِشَامٍ : الْمُفْرَحُ الْمُثْقَلُ بِالدّيْنِ وَالْكَثِيرُ الْعِيَالِ .

قَالَ الشّاعِرُ
إذا أَنْتَ لَمْ تَبْرَحْ تُؤَدّي أَمَانَةً
وَتَحْمِلُ أُخْرَى أَفْرَحَتْك( ) الْوَدَائِعُ
وَأَنْ لَا يُحَالِفَ مُؤْمِنٌ مَوْلَى مُؤْمِنٍ دُونَهُ وَأَنّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى مِنْهُمْ أَوْ ابْتَغَى دَسِيعَةَ ظُلْمٍ أَوْ إثْمٍ أَوْ عُدْوَانٍ ، أَوْ فَسَادٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعًا ، وَلَوْ كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ.
وَلَا يَقْتُلُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنًا فِي كَافِرٍ وَلَا يَنْصُرُ كَافِرًا عَلَى مُؤْمِنٍ وَإِنّ ذِمّةَ اللّهِ وَاحِدَةٌ يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ مَوَالِي بَعْضٍ دُونَ النّاسِ .
وَإِنّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنّ لَهُ النّصْرَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصِرِينَ عَلَيْهِمْ وَإِنّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ لَا يُسَالَمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ إلّا عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ وَإِنّ كُلّ غَازِيَةٍ غَزَتْ مَعَنَا يَعْقُبُ بَعْضُهَا بَعْضًا .
وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ يُبِيءُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا نَالَ دِمَاءَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتّقِينَ عَلَى أَحْسَنِ هَدْيٍ وَأَقْوَمِهِ وَإِنّهُ لَا يُجِيرُ مُشْرِكٌ مَالًا لِقُرَيْشِ وَلَا نَفْسًا ، وَلَا يَحُولُ دُونَهُ عَلَى مُؤْمِنٍ وَإِنّهُ مَنْ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيّنَةٍ فَإِنّهُ قُوّدَ بِهِ إلّا أَنْ يَرْضَى وَلِيّ الْمَقْتُولِ وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ كَافّةً وَلَا يَحِلّ لَهُمْ إلّا قِيَامٌ عَلَيْهِ وَإِنّهُ لَا يَحِلّ لِمُؤْمِنِ أَقَرّ بِمَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَآمَنَ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَنْصُرَ مُحْدِثًا ، وَلَا يُؤْوِيهِ وَأَنّهُ مَنْ نَصَرَهُ أَوْ آوَاهُ فَإِنّ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللّهِ وَغَضَبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ وَإِنّكُمْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَإِنّ مَرَدّهُ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَإِلَى مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ . وَإِنّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارَبِينَ .
وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ مَوَالِيهمْ وَأَنْفُسُهُمْ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي النّجّارِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ .
وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي سَاعِدَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَمٍ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْأَوْسِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَإِنّ جَفْنَةَ بَطْنٍ مِنْ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّ لِبَنِي الشّطَيْبَةِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ الْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ وَإِنّ مَوَالِيَ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّ بِطَانَةَ يَهُودَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلّا بِإِذْنِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَإِنّهُ لَا يَنْحَجِزُ عَلَى ثَأْرِ جُرْحٍ وَإِنّهُ مَنْ فَتَكَ فَبِنَفْسِهِ فَتَكَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَبَرّ هَذَا .
وَإِنّ عَلَى الْيَهُودِ نَفَقَتَهُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ نَفَقَتَهُمْ , وَإِنّ بَيْنَهُمْ النّصْرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصّحِيفَةِ , وَإِنّ بَيْنَهُمْ النّصْحَ وَالنّصِيحَةَ وَالْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ .
وَإِنّهُ لَمْ يَأْثَمْ امْرِئِ بِحَلِيفِهِ وَإِنّ النّصْرَ لِلْمَظْلُومِ وَإِنّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ وَإِنّ يَثْرِبَ حَرَامٌ جَوْفُهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَإِنّ الْجَارَ كَالنّفْسِ غَيْرُ مُضَارٍ وَلَا آثِمٌ وَإِنّهُ لَا يُجَارُ حُرْمَةٌ إلّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا ، وَإِنّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ فَإِنّ مَرَدّهُ إلى الله عَزّ وَجَلّ وَإِلَى مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ وَإِنّهُ لَا تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلَا مَنْ نَصَرَهَا ، وَإِنّ بَيْنَهُمْ النّصْرَ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ .
وَإِذَا دُعُوا إلَى صُلْحٍ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ فَإِنّهُمْ يُصْلِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ وَإِنّهُمْ إذَا دُعُوا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنّهُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إلّا مَنْ حَارَبَ فِي الدّينِ عَلَى كُلّ أُنَاسٍ حِصّتُهُمْ مِنْ جَانِبِهِمْ الّذِي قَبْلَهُمْ وَإِنّ يَهُودَ الْأَوْسِ ، مَوَالِيهمْ وَأَنْفُسُهُمْ عَلَى مِثْلِ مَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ مَعَ الْبِرّ الْمَحْضِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ قَالَ ابن هِشَامٍ : وَيُقَالُ مَعَ الْبِرّ الْمُحَسّنِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ . قَالَ ابن إسْحَاقَ : وإَنّ الْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ لَا يَكْسِبُ كَاسِبٌ إلّا عَلَى نَفْسِهِ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَصْدَقِ مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ وَإِنّهُ لَا يَحُولُ هَذَا الْكِتَابُ دُونَ ظَالِمٍ وَآثِمٍ وَإِنّهُ مَنْ خَرَجَ آمِنٌ وَمَنْ قَعَدَ آمِنٌ بِالْمَدِينَةِ إلّا مَنْ ظَلَمَ أَوْ أَثِمَ وَإِنّ اللّهَ جَارٌ لِمَنْ بَرّ وَاتّقَى) ( ) .
وفي آية السياق والبحث دعوة لأهل المدينة , ومنهم المنافقون لبذل الوسع في حراسة أطرافها وأزقتها من جهات :
الأول : المرابطة حول المدينة , وداخل أزقتها لمنع مباغتة سرية من العدو بالإغارة عليها , ويتوجه الصحابة الذين نصبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمرابطة إلى ساحة المعركة , وبذل الوسع في القتال والدفاع عن النبوة والتنزيل ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ] ( ) .
الثاني : إمتناع الذين نافقوا عن الدفاع , واختارهم القعود الذي هو مبغوض ذاتاً وأثراً.
الثالث : الإمتناع عن التحريض على القعود , وعن الشماتة بالذين قتلوا في سبيل الله , ليكون قوله تعالى [أَوْ ادْفَعُوا] ( ) إلى رحمة بالذين نافقوا ودعوة لهم للتوبة وعدم الإصرار عليه .
المسألة الثانية عشرة : جاءت كل من آية البحث والسياق بصيغة الجملة الخبرية لتكون الدلالات التي تتضمنها كل منهما متجددة في موضوعها , نعم وردت صيغة الأمر بقوله تعالى ( فاخشوهم ) لبيان ميل الناس إلى الذين آمنوا , وقيامهم بتحذيرهم من الذين كفروا , وإصرارهم على قتالهم.
وفيه تخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بعد معركة أحد بأن تعاون وتآزر الناس معهم على نحو الموجبة الجزئية , وصاروا كالعيون لهم , وتحتمل علة هذا التخفيف وجوهاً :
الأول : إنه فضل من عند الله عز وجل .
الثاني : إنه جزاء من الله عز وجل على دخول الإسلام .
الثالث : فيه ثناء من الله عز وجل على الصحابة لحسن السمت , وصدق الإيمان .
الرابع : إرادة الثواب العاجل للمجاهدين في معركة أحد وصبرهم في تلقي الأذى يومئذ من الذين كفروا .
الخامس : صيرورة هذا التعاون مقدمة لدخول الناس الإسلام , ولا يختص الدخول في المقام بالذي يتعاون مع المسلمين ويخبرهم عن طريق سير العدو ومكره , بل يشمل غيره من الناس .
السادس : إنه من وعد الله برجوع الذين كفروا في خيبة وحسرة إلى مكة, كما في قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
فتدل آية السياق على حقيقة تتعلق بضروب إبتلاء الذين كفروا وإصابتهم بالخيبة , وفيه أمور :
أولاً : مبادرة الناس لإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن الذين كفروا ونواياهم .
ثانياً : إدراك جيش كفار قريش بانحياز الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع إشاعتهم بأنهم انتصروا في معركة أحد , مما يدل على أن المدار في ميل وخيارات الناس هو المعجزة والحجة والبرهان .
ثالثاً : إستجابة الناس للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في بث الخوف والرعب في نفوس الذين كفروا مع إنكسار المسلمين في معركة أحد وكثرة قتلاهم , وشدة الجراحات الظاهرة على أبدانهم .
رابعاً : لقد أصبح كفار قريش يخافون على تجارتهم وقوافلهم التي تقطع الصحارى والفيافي بإتجاهات متعددة ذهاباً وإياباً منها :
الأول : من مكة إلى الشام .
الثاني : من الشام إلى مكة .
الثالث : من مكة إلى اليمن .
الرابع : من اليمن إلى مكة، وهذا التعدد من مصاديق قوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ]( ).
الخامس : النقل من جدة إلى مكة , لجلب التجارة القادمة من الحبشة ومصر وأنشى ميناء جدة أيام عثمان بن عفان وكان قبله ميناء الشعيبة منه ركب المهاجرون إلى الحبشة ،ولكن مدينة جدة قديمة .
وقد استوطنت ثمود وقضاعة مدينة جدة ، ولما تم أسر نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم قال له (افد نفسك برماحك التي بجدة ” ، قال: أشهد أنك رسول اللّه، ففدى نفسه بها، وكانت ألف رمح، وكان أسن من حمزة والعباس. ورجع إلى مكة، ثم هاجر هو والعباس إلى رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم أيام الخندق، وشهد فتح مكة والطائف، وثبت مع رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين وأعان رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ بثلاثة آلاف رمح) ( ).
وفي السنة التاسعة للهجرة بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أهل جدة شاهدوا ناساً من الحبشة في مراكب في البحر فأوجسوا منهم خيفة، وخشوا مداهمتهم لهم فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصحابي (علقمة بن مجزر في ثلثمائة فانتهى إلى جزيرة في البحر و قد خاض إليهم البحر فهربوا منه فلما رجع تعجل بعض القوم إلى أهليهم فأذن لهم فتعجل عبد الله بن حذافة السهمي فيهم فأمره على من تعجل و كانت فيه دعابة فنزلوا ببعض الطريق و أوقدوا نارا يصطلون عليها و يصطنعون فقال: عزمت عليكم إلا تواثبتم في هذه النار فقام بعض القوم فتحجزوا حتى ظن أنهم واثبون فيها .
فقال : اجلسوا إنما كنت أضحك معكم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : من أمركم بمعصية فلا تطيعوه)( ).
السادس : من الشام إلى اليمن , فقد عطلت الحرب بين الدولة الرومانية والدولة الفارسية الطريق بين العراق والشام الذي يكون كالجسر للتجارة بين المشرق والمغرب ونقل البضائع من الهند والصين إلى الشام وأوربا , وبالعكس .
وإتخذ التجار الوسائط البحرية فتأتي السفن إلى اليمن أو جدة لتنقل البضائع إلى الشام , إذ لم تكن قناة السويس أو ما شابها موجوداً آنذاك ليكون من الإعجاز في قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ] ( ) تعدد وكثرة قوافل التجارة لقريش والعمال والجِمال والعبيد الذين يعملون بخدمتهم , ويدل قوله تعالى [رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] على اتصال وإستمرار رحلات قريش .
فيخرج رهط من قريش من مكة مثلاً في الصيف ليكونوا في الربيع في طريق العودة إلى مكة وهكذا فليس من أيام تخلو من التجارة والكسب لقريش , فلما جاء الإسلام كانوا منشغلين بالأموال والأرباح الكثيرة التي أصابتهم بالزهو والغرور لذا تتضمن سورة قريش وجوب عبادتهم لله عز وجل وعدم ملاقاة النبوة بالجحود , للملازمة بين دوام النعمة عليهم وبين الإيمان فيكون من معاني قوله تعالى [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ] ( ). وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : دوام تجارة الشتاء والصيف بعبادة الله .
الصغرى : عبادة قريش لله بالتصديق بالنبوة .
النتيجة : قريش لم يصدقوا بالنبوة فلم تدم عليهم نعمة تجارة الشتاء أو الصيف ، قال تعالى [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] ( ).
لقد كانت نعمة الله عز وجل على قريش عظيمة , فلا أحد يتعدى على قوافل تجارتهم بالصحراء بين القبائل المتناحرة التي يغزو بعضها بعضاً من أجل سبي امرأة أو غنيمة شاة أو بقرة .
بينما تسير بين ظهرانيهم قافلة من مئات الإبل محملة بالذهب والفضة والبضائع وتزداد هذه القوافل عدداً وكماً وأموالاً قبيل موسم الحج وفتح أسواق العرب في عكاظ والمجنة وذي المجاز ونحوها , لذا كانت قافلة أبي سفيان في شهر رمضان ومؤلفة من ألف بعير , لتصل إلى مكة في آخر شهر رمضان .
وأشهر الحج ثلاثة تبدأ من شهر شوال ، قال تعالى [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ] ( ).
وقد مرّ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مَعبد بن أبي معبد الخزاعي ، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم يميلون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويجتهدون في النصح له، ولا يخفون عنه شيئاً له فيه نفع، أو عليه فيه ضرر.
وكان مُعبد يومئذ مشركاً لم يسلم بعد (فقال يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا ان الله قد عافاك فيهم) ( ) .
وبيّن معبد ما يدل على تطلعهم لرفعة ونصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسلامته من الجراحات.
أي أن معبداً ومع شركه قام بمواساة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الشهداء السبعين الذين سقطوا في معركة أحد، وقيل كان معبد يومئذ مسلماً، وهو بعيد والمشهور بخلافه .
وفيه شاهد على عدم شماتة العرب بالمسلمين وخسارتهم في معركة أحد، وأنهم كانوا يدركون أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يخسروا المعركة ، ولم ينهزموا فيها ، فقد تكون خسارة المنتصر أكثر من خسارة الطرف الآخر ، أو مساوية لها ، ولكن العبرة بخواتيم الأمور ، لقد تكلم معبد بصيغة الجمع (عَزّ عَلَيْنَا مَا أَصَابَك ، وَلَوَدِدْنَا أَنّ اللّهَ عَافَاك فِيهِمْ) ( ) .
لبيان الحزن الذي أصاب قومه من خزاعة عند بلوغهم وقائع معركة أحد، وفيه شاهد على أن القبائل وأهل الجزيرة يتابعون ويتناقلون وقائعها .
ونزلت آية البحث والآيات الأخرى ، لتكون جزءً مما ينقله الركبان ، وللقيام بالتدبر فيها ، وفي دلالاتها ، ومنها إخبارها عن عظيم منزلة الشهداء واستبشارهم بما أنعم الله عز وجل به عليهم .
فمن إعجاز آيات القرآن الغيري تعلقها بالوقائع وبيانها للأحداث بما يفيد صيرورة تلك الأحداث طريقاً لهداية الناس وموعظة وباباً للتوبة ، ولبيان قانون وهو أن التدبر في قوله تعالى [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] ( ) عام يشمل أموراً منها :
الأول : نزول القرآن من عند الله .
الثاني : صيغة التدريج والتوالي في نزول القرآن وعدم نزول آياته دفعة واحدة .
الثالث : إنحصار نزول القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأولين والآخرين .
الرابع : بلاغة القرآن وسمو لغته عن لغة وتخاطب البشر .
الخامس : انتفاء التعارض بين آيات القرآن ومضامينه القدسية .
السادس : بيان القرآن للوقائع ، وتوثيقها من السماء ، وسلامتها من التحريف والتبديل والتغيير إلى يوم القيامة ببركة القرآن .
السابع : توثيق القرآن للأحداث سبب لصيرورتها مدداً وعوناً وموعظة للمسلمين .
الثامن : دعوة العلماء لاقتباس المسائل والسنن والأحكام من الوقائع المذكورة في القرآن ، وكيفية ذكرها .
وهل يختص هذا الأمر بالعلماء المسلمين ، الجواب لا ، فهو أعم وأوسع ومن عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وظاهر الخبر أن معبداً هذا لم يخوّف المسلمين ولم يقل لهم (أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم انما قام بتخويف أبي سفيان وجيشه إذ لقاهم في الروحاء .
والروحاء منطقة بين مكة والمدينة .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينزل بها إذا أراد الحج أو العمرة ، وينزل بها عند الرجوع في بعض الغزوات ، وتبعد عن المدينة ليلتين والمسافة بينهما ثمانون كيلو متراًَ ، وقيل هي المحطة الأولى من محطات القوافل التي تخرج من المدينة .
وفيها مسجد صغير حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشرف الروحاء .
ويحتمل أوان لقاء معبد النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وجوهاً:
الأول : قبل وصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد.
الثاني : أثناء وجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حمراء الأسد، إذ أقام فيها يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء أي اليوم السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة , وعاد النبي إلى المدينة يوم الجمعة .
الثالث : لقى مَعبد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد رجوعه من حمراء الأسد.
والمختار أنه التقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قبل الوصول إلى حمراء الأسد.
وبينما كان أبو سفيان وأصحابه يعدون العدة للرجوع إلى المدينة واستئصال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
رآى أبو سفيان معبداً، وكان من عادة أبي سفيان الإكثار من سؤال الركبان في الطريق , خاصة يكون في حيرة من أمره إذ يلح عليه بعض كبار رجالات قريش مثل عِكرمة بن أبي جهل بالكّرة على بقية المسلمين كيلا تتكرر مسألة بدر وإعتراض المسلمين للقوافل , ولمنع هجرة شباب قريش إلى المدينة مسلمين، ونحوه من الأسباب.
فقال أبو سفيان: هذا مَعبد وعنده الخبر ، ما وراءك يا معبد؟ إذ أراد أن يسمع منه حال المسلمين بعد المصيبة التي لحقت بهم، وهل هم في حال وهن وضعف كي يكّروا عليهم، ولم يعلموا أن الله عز وجل نهى المسلمين عن الضعف، وطرد عنهم الإستضعاف من الذلة، أما دفع الضعف فلقوله تعالى[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( )، وأما طرد الإستضعاف فلقوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) .
وما خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد إلا وهو من مصاديق كل من الآيتين أعلاه.
لقد كان مَعبد يسعى للمبادرة إلى تخويف أبي سفيان وأصحابه إبتداءً من عنده ، أما وقد سأله أبو سفيان فوجدها فرصة سانحة .
فقال: تركت محمداً وأصحابه، قد خرج يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، وقال أنهم(يتحرقون عليكم بمثل النيران، وقد أجمع معه من تخلف عنه بالأمس من الأوس والخزرج، وتعاهدوا ألا يرجعوا حتى يلحقوكم فيثأروا منكم، وغضبوا لقومهم غضباً شديداً ولمن أصبتم من أشرافهم.
قالوا: ويلك! ما تقول؟
قال: والله ما نرى أن نرتحل حتى نرى نواصي الخيل!
ثم قال معبد: لقد حملني ما رأيت منهم أن قلت أبياتاً:
كادت تهد من الأصوات راحلتي … إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تعدو بأسدٍ كرامٍ لا تنابلةٍ … عند اللقاء ولا ميلس معازيل
فقلت ويل ابن حربٍ من لقائهم … إذا تغطمطت البطحاء بالجيل)( ).
وقد تفضل الله سبحانه وبعث الخوف في قلوب كفار قريش فقبل أن يصلهم معبد , قال لهم صفوان بن أمية وهو من الرؤساء: لقد أصيب المسلمون وأخشى أن يجمعوا عليكم من تخلف من الأوس والخزرج(فارجعوا والدولة لكم، فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم : أرشدهم صفوان وما كان برشيدٍ، والذي نفسي بيده، لقد سومت لهم الحجارة، ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب! فانصرف القوم سراعاً خائفين من الطلب لهم)( ).
وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
ومن الآيات يوم معركة أحد أن الأنصار زجروا وشتموا أبا عامر الراهب عندما دعاهم للإنحياز له وترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فأدرك أبو سفيان ورؤساء قريش إنتماء أهل المدينة للإسلام، وإخلاصهم في الجهاد في سبيل الله والذب عن رسوله الكريم.
المسألة الثالثة عشرة : لقد تكرر لفظ ( الناس ) في آية البحث مرتين , وكذا ورد في ست آيات أخرى , منها قوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ] ( ).
ويراد من لفظ [النَّاسِ] الأول في آية البحث الذين حذّروا المسلمين من عودة جيش المشركين للإجهاز على المدينة وأهلها .
أما المراد من الثاني فهم جيش المشركين الذي رجع إلى مكة بعد ان قاتل في معركة أحد ، إذ أصر قادته على الإنسحاب من المعركة من غير أن يحققوا أي غاية من الغايات الخبيثة التي جاءوا من أجلها .
لقد وجد مَعبد (أبا سفيان وقريشاً بالروحاء، وهم يقولون: لا محمداً أصبتم، ولا الكواعب أردفتم، فبئس ما صنعتم! فهم مجمعون على الرجوع، ويقول قائلهم فيما بينهم: ما صنعنا شيئاً، أصبنا أشرافهم ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم، قبل أن يكون لهم وفرٌ والمتكلم بهذا عكرمة بن أبي جهل) ( ) .
وكان عِكرمة على رأس خيالة المشركين يوم معركة أحد هو وخالد بن الوليد ، وقال عكرمة يومئذ (
كُلّهُمْ يَزْجُرُهُ أَرْحِبْ هَلّا … وَلَنْ يَرَوْهُ الْيَوْمَ إلّا مُقْبِلَا
يحْمِلُ رُمْحًا وَرَئِيسًا جَحْفَلَا) ( ).
وفي عمرة القضاء في السنة السابعة للهجرة قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسكه ودخل البيت ، وعندما زالت الشمس وحان وقت صلاة الظهر أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً ليؤذن فوق الكعبة ، وقريش حاضرون .
(فقال عكرمة بن أبي جهل: لقد أكرم الله أبا الحكم حين لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول ! وقال صفوان بن أمية: الحمد لله الذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا.
وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم حتى يقوم بلال ينهق فوق البيت.
وأما سهيل بن عمر ورجال معه لما سمعوا بذلك غطوا وجوههم.) ( ).
ليأتي يوم الفتح ويفر عكرمة ويلحق باليمن ، ولكن امرأته أم حكيم بنت الحارث من هشام جاءت به إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسلم بعد الفتح واستعمله أبو بكر على عمان ، ثم وجهه إلى اليمن ثم لزم الشام مجاهداً ، فقتل يوم اليرموك شهيداً .
وقيل استشهد باجنادين وهو ابن اثنتين وستين وسقط معه اثنا عشر مسلماً (وأجنادين من أرض فلسطين بين الرملة وأبيات جبرين ويقال جبرون) ( ).
وقيل يوم مرج الصفر , وكلاهما وقعتا في السنة الثالثة عشرة للهجرة .
بينما وردت آية البحث خاصة لبيان حال المهاجرين والأنصار بعد معركة أحد وحبهم ومسارعتهم في تلبية نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحاق بجيش الذين كفروا وبعث الخوف والفزع في نفوسهم .
ومن الإعجاز في نظم آيات القرآن أن الإخبار عن عزم المشركين العودة للقتال جاء في آية البحث وبعد ثناء الآية السابقة على المهاجرين والأنصار وكيف أنهم يجمعون بين أمور :
الأول :الإيمان بالله ورسوله والتنزيل بلحاظ الجمع بين خاتمة الآية السابقة وأورد آية البحث وتقديره: وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين الذين إستجابوا لله والرسول).
صلة خاتمة الآية السابقة بآية البحث
تقدير الجمع بين خاتمة الآية السابقة وآية البحث على وجوه :
الأول : الذين لهم أجر عظيم قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم) بلحاظ كبرى كلية , وهل تلقى الصحابة هذا الإنذار والتخويف بصفة الإيمان.
الثاني : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم وأنتم متقون ) ليكون المتقون خبر الذين ، إذ لم يجمع ويحشد الذين كفروا الجيوش ضدهم إلا لإيمانهم وتقواهم ،وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : المتقون لهم أجر عظيم .
الصغرى : المسلمون الذين جمع لهم الناس متقون .
النتيجة : المسلمون لهم أجر عظيم .
الثالث : ترغيب الناس بالإيمان بلحاظ أن النفوس تميل بالفطرة إلى الأجر والعوض والبدل وأبى الله عز وجل إلا أن ينفرد الأجر الذين يتفضل به على وجوه منها :
أولاً : إنبساط الأجر من الله على حال المؤمن في الدنيا والآخرة ، قال تعالى [مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ] ( ).
ثانياً : إتصاف الأجر من عند الله بأنه عظيم .
ثالثاً : مضاعفة الأجر الذي يأتي من عند الله , وتحتمل المضاعفة في المقام جهات :
الأولى : مضاعفة الأجر حتى يصير عظيماً .
الثانية : بعد أن يصبح الأجر عظيماً يتفضل الله بمضاعفته .
الثالثة : كل أجر من عند الله هو عظيم .
الرابعة : شمول الأجر أمور الدنيا والآخرة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق خاتمة الآية السابقة ، وهل يدل قوله تعالى [وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ]( ) .
وقوله تعالى[وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ) على إنحصار الأجر والثواب بعالم الآخرة بلحاظ أنه وعد .
الجواب لا ، إنما هو عام يشمل الحياة الدنيا والآخرة .
وتضمنت آية السياق في خاتمتها ذكر الأجر والثواب ، ورغّبت فيه , وبينت قربه, وكيفية نواله بالإجتهاد والسعي في أمور :
الأمر الأول : لقد قيدت الآية السابقة الثواب والأجر العظيم من جهات:
الأولى : الإستجابة لأوامر الله عز وجل، وهل تختص هذه الإستجابة بالخروج إلى حمراء الأسد خلف العدو.
الجواب لا، إنما المراد مصاحبة الإستجابة لله للمؤمنين في أيام الحياة ولحين مغادرتهم الدنيا، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ومن الآيات في المقام حضور الإستجابة لله في كل ساعة من عمر الإنسان، وهو من الإعجاز في تشريع الصلاة خمس مرات في اليوم، مع مقدماتها من الوضوء والأذان والإقامة، وهل إنتظار الصلاة في وقتها من العبادة، الجواب نعم.
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , قال: أَلا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ ، وَانْتِظَارُ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ)( ).
وتقدير آية السياق الذين إستجابوا ويستجيبون لله بلحاظ نزول آية البحث , والمهاجرون والأنصار يتقيدون بأحكام الشريعة وهو من الإحسان والتقوى اللذين تذكرهما آية السياق.
الثانية : الإستجابة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حال السلم والحرب، ويتنعم المسلمون في كل زمان بإستجابة المهاجرين والأنصار لأوامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ومنه ما يخص واقعة أحد بقوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) .
فقد صلى الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الجمعة في اليوم الرابع عشر من شهر شوال ليتوجهوا بعدها إلى لقاء العدو، وتكون هذه الصلاة حجة على الذين كفروا، قال تعالى[أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى]( ) .
لقد أراد الذين كفروا منع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الصلاة، وتعطيل ذات الصلاة[وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ]( ).
لقد أظهر الصحابة طاعة الله ورسوله في كل من:
الأول : الصلاة.
الثاني : الخروج إلى المعركة تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، مع إظهار أسمى معاني الإيمان، لقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بقدوم جيوش الكفار نحو المدينة، حتى إذا صاروا قريبا من جبل أحد ونزلوا هناك يوم الأربعاء، ويوم الخميس ويوم الجمعة، وإستشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه هل تخرج لقتالهم في الموضع الذي هم فيه أم نتحصن في المدينة، مع ميل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعدم الخروج، فأظهرت طائفة من المسلمين خاصة أولئك الذين لم يحضروا معركة بدر الرغبة في الخروج إلى العدو، وقتاله خارج المدينة وإستصحبوا النصر في معركة بدر، وجلب الأسرى والغنائم إلى المدينة.
وقالوا: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنَّا جبُنَّا عنهم وضعفنا)( ).
الثالثة : الإتصاف بالإحسان، وبلوغ مرتبة المحسن، لتصبح ملكة وسنخية ثابتة عند المؤمن، ومن اللطف الإلهي في المقام أن ذات الإيمان هو إحسان محض، وتترشح عنه مصاديق كثيرة من الإحسان في الليل والنهار، ومن المترادف أمور :
أولاً : الإحسان.
ثانياً : الإنعام.
ثالثاً : الإفضال.
مع التباين على نحو الموجبة الجزئية بينها، فالإحسان هو النفع الحسن، والأمر المحبوب الذي تميل إليه النفوس بالفطرة وترتضيه العقول، ويكون الإحسان للنفس والغير، قال تعالى[إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ]( )، ويأتي متعدياً وغير متعد لشخص أخر، فيقال: فلان أحسن الشيء، وإستحسنه أي عدّه حسناً والإنعام التفضل على الغير.
أما الإفضال فهو الزيادة في النفع على الإستحقاق وبين كل من الإحسان والإنعام عموم وخصوص مطلق، فالإحسان هو الأعم، فمن إعجاز آية السياق مجيؤها بالمعنى الأعم لنيل المسلمين الأجر والثواب.
الأمر الثاني : بعث المسلمين والمسلمات على الإحسان والإخبار عن قانون وهو أن الإحسان أمر مرغوب فيه ، وهو خير محض في ذاته وأثره الذي لا ينحصر بساعته ومدته بل يستمر نفعه ما شاء الله .
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، أو صدقة تجري له، أو ولد صالح يدعو له) ( ).
ومن خصائص الإحسان أنه كالقرض يبعث الطرف الآخر على الرد بالمثل ، لذا فان ترك مقارضته أمر قبيح ، وقد يكون الرد بالشكر بالله .
وجاءت الآية السابقة بصيغة الجمع [أَحْسَنُوا] لبعث المسلمين على التعاون في مقدمات الإحسان ، وفي فعله ، ودفع الموانع التي تحول دونه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ).
ومن معاني الجمع في المقام أفضلية تعدد الأيدي في الإحسان سواء في الموضوع المتحد أو المتعدد .
وتقدير لفظ [أَحْسَنُوا] في آية السياق وجوهاً :
الأول : أحسنوا لأنفسهم .
الثاني : أحسنوا للناس .
الثالث : أحسنوا للفرد الواحد منهم .
وليس من حصر لمصاديق الإحسان في المقام منها :
الأول : الإحسان بأداء الفرائض العبادية .
الثاني : الإحسان بالتقرب .
الثالث : الإحسان بالصبر .
الرابع : الإحسان بعمل الصالحات ، (من سن في الاسلام سنة حسنة فله اجرها واجر من عمل بها من بعده) ( ).
الخامس : الإحسان بالمرابطة .
السادس : درء السيئة ، قال تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ] ( ).
السابع : التنزه عن النفاق إحسان للذات والغير .
الثامن :السعي في الصالحات إحسان .
التاسع : الدعوة إلى الله إحسان ، قال تعالى [وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ] ( ).
العاشر : الإحسان للنفس والغير بالإقتداء بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
الأمر الثالث : ذكرت آية السياق قانوناً في الإستجابة لله والرسول حتى في حال الشدة والضراء في البدن والحال والمكاسب، وعند طرو المصيبة . والنسبة بين قوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، وبين[مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ]( ) في الآية السابقة عموم وخصوص مطلق، فجراحات وقروح النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المصيبة التي ذكرتها الآية أعلاه، ومنها فقد سبعين شهيداً.
ويحتمل الحرمان من جلب أسرى المشركين والغنائم وجوهاً:
الأول : إنه من المصيبة العامة للمسلمين يوم معركة أحد، خاصة وأنهم كانوا يتطلعون إلى تجدد النصر في معركة أحد مثلما أنعم الله عليهم في معركة بدر.
الثاني : إنه من المصيبة بالمعنى الأخص، بلحاظ الخسارة التي أصابت المسلمين بالحرمان من منافع بدل وعوض الأسرى، والغنائم.
الثالث : إنه ليس من المصيبة التي ورد ذكرها في قوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
والمختار هو الثالث.
لقد تفضل الله بتوثيق صبر وثبات الصحابة في حال الضراء والشدة ، لقد أنتصر المسلمون يوم معركة بدر بفضل ومدد من عند الله، وعندما عاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه البدريون، قدّم أمامه كلاً من :
الأول : بشيران إلى المدينة ، هما زيد بن حارثة إلى السافلة ، وعبد الله بن رواحة إلى أعالي المدينة ، وهما يعلنان نبأ النصر المبين ، والتعاضد والأخبار والأرقام التي تدل على هذا النصر .
الثاني : دخول الغنائم التي استولى عليها المسلمون من رواحل وسيوف ودروع ومؤن المشركين إلى المدينة .
الثالث : مجئ سبعين من أسرى قريش .
ومن خصائص معركة بدر أن قريشاً لم يستعينوا برجال القبائل التي حول مكة ، ولم يستصرخوهم لأن خروجهم صدر مستعجلاً لإنقاذ قافلة أبي سفيان ، ولاستخفافهم بالمسلمين بلحاظ قلة عددهم ومؤنهم ، ولم يعلموا أن الملائكة ومن يوم خلق الله آدم ينتظرون هذا اليوم للنزول لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لعمومات قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) إذ يرد الله على احتجاج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) .
وهل هذا المعنى من مصاديق تسمية معركة بدر بيوم الفرقان بقوله تعالى [يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) الجواب نعم ، وكان موضوع الفرقان في المقام يشمل الملائكة إذ تجلت لهم قوانين تبين أهلية الإنسان للخلافة في الأرض بالدفاع في سبيل الله .
الرابع : دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة بالحمد والثناء على الله عز وجل بالنصر والظفر والفتح في أول معارك الإسلام والتي فرضت على المسلمين ، وكانت دفاعية ، لإنعدام سبب إصرار وإبتداء المشركين على القتال ، وخرج وجهاء المدينة وعامة المسلمين إلى مشارف المدينة بالروحاء لأمور :
الأول : السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورؤية الطلعة البهية بالعودة المباركة .
الثاني : تفقد حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار ، فهذا يريد أن يرى أباه وهذا يريد أن يلتقي بابنه أو أخيه .
الثالث : الشوق لمعرفة تفاصيل المعركة , وكيفية الظفر بالذين كفروا وخزيهم .
فقال لهم سلامة بن وقش وهو شاب من الأنصار شهد معركة بدر :
(ما الذي تهنئوننا به؟ فوالله ما قتلنا إلا عجائز صلعاً. فتبسم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم وقال: يا ابن أخي، أولئك الملأ، لو رأيتهم لهبتهم، ولو أمروك لأطعتهم، ولو رأيت فعالك مع فعالهم لاحتقرته، وبئس القوم كانوا على ذلك لنبيهم! .
فقال سلمة: أعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله) ( ).
ليبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدرسة في القتال تعتمدها أكبر الجيوش في هذا الزمان مع الفارق ، إذ يقومون بتفخيم قدرة العدو وأسلحته وبسالته ليستعدوا له بأكمل وجه ، حتى إذا ما دخلوا المعركة كانت كفتهم هي الراجحة .
نعم أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيان حقيقة الحال لأمور :
الأول : لزوم عدم الإستخفاف بالعدو المنهزم ، ليكون هذا البيان مقدمة لدخول معركة أحد .
الثاني : تأكيد فضل الله بالمدد من الملائكة يوم بدر ، قال تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
الثالث : بيان موضوعية دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تحقيق النصر .
الرابع : تفضل الله عز وجل ببعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا، وهو من أسباب استخفاف سلامة بن وقش بالعدو ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) .
الخامس : لزوم الثناء على الذين برزوا للعدو يومئذ وقاتلوا ، ولقد قتّل يومئذ من المسلمين ثمانية من الشهداء مما يدل على شدة ضراوة المعركة مع أنها ابتدأت بمبارزة متعددة دفعة واحدة خسرها المشركون ، إذ تقدم عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد ، فقتلهم الإمام علي وحمزة واستشهد عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب .
وتتجلى الصلة بين معركة بدر وأحد ببيان آية السياق لاستجابة المسلمين لله والرسول ، ترى هل من صلة بين نصر المسلمين في معركة بدر وبين خروج المسلمين إلى حمراء الأسد ، وعصمتهم من الخوف والخشية من جيش الذين كفروا .
الجواب نعم ، وهو من مصاديق سلامة المسلمين من الذلة والهوان والضعف بعد معركة بدر لقوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) وهل يمكن القول أنه لو لم ينتصر المسلمون في معركة بدر ، ويتخلصوا من أسباب القلة في العدد والنقص في الأسلحة لما استطاعوا الخروج إلى حمراء الأسد خلف العدو .
الجواب ليس من سبب خاص يكون مانعاً من خروج المسلمين هذا لأنه بأمر من عند الله ومدد وعون منه سبحانه ، فكما نصر الله المسلمين في معركة بدر فانه سبحانه يبعث المسلمين على الخروج في كل حال ، ومنه مبادرتهم إلى الخروج مع كثرة جراحاتهم .
نعم للنصر في معركة بدر موضوعية وأثر عظيم في بعث المسلمين للإستجابة لله والرسول في ملاحقة العدو ، لبيان قانون من اللطف الإلهي وهو أن الله عز وجل يأمر المسلمين بأسباب ومقدمات الإستجابة لأوامره وأوامر رسوله ويقربهم منها ، ويجعلهم في حصن حصين من الأذى والضرر الذي قد يترشح عن أراجيف المنافقين والذين تعالت أصواتهم بعد معركة أحد وسقوط سبعين قتيلاً من المسلمين كما سيأتي في قانون (فضح معركة أحد للمنافقين).
أختتمت الآية السابقة بلفظ[أَجْرٌ عَظِيمٌ] مع بيان الجهة التي تنال النعمة الكبرى التي تتغشى كلاً من :
الأول : أيام الحياة الدنيا ، وموارد الإبتلاء فيها .
الثاني : عالم البرزخ لتكون واقية من ضغطة وأهوال القبر .
الثالث: الدار الآخرة ومواطنها المتعددة ، والمثوى الأخير فيها ، إذ يتجلى مصداق الثواب الأخير بالإقامة في الجنة .
وجاءت آيات القرآن بالبشارة بالجنة للمهاجرين في مرضاة الله والمنفقين لأموالهم والباذلين لأنفسهم في سبيل الله، قال تعالى[خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
وبلحاظ الصلة بين آية البحث وخاتمة الآية السابقة يكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : الذين لهم أجر عظيم [قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ] ( ) أي أن قول وتخويف الناس للمؤمنين لم يأت إلا بعد أن فازوا بالأجر والثواب العظيم .
الثاني : الذين قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم لهم أجر عظيم) بلحاظ أن هذا القول وحده سبب للثواب من جهات :
الأولى : صيغة التخويف والتهديد في هذا القول .
الثانية : كثرة جيش الذين كفروا .
الثالثة : مجئ تهديد الذين كفروا مع شدة وكثرة جراحات المهاجرين والأنصار .
الرابعة : تلقي الصحابة هذا التهديد وهم في حال سفر وإبتعاد عن المدينة .
نعم كان وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهم سكينة وباعثاً على الصبر ، وهو من أسباب إعلانهم التوكل على الله وتفويض الأمور إليه سبحانه .
الثالث : تقدير الآية : فزادهم إيماناً فلهم أجر عظيم .
لقد أخبرت هذه الآية عن صفة الإيمان التي يتحلى بها المهاجرون والأنصار الذين بادروا إلى إجابة دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقاء العدو بعد أن صار على مشارف المدينة ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] ( ) وذكر الأهل في المقام لبيان عدم وجود فترة أو حال تشاور وتردد في المقام ، فقد انتهى وقت المشورة ، وليس من سبيل إلى الإرجاء والتسويف ، فما من سبيل إلا الدفاع .
ولو امتنع المسلمون عن القتال يومئذ فما هي النتيجة ، الجواب يعلم الناس في كل زمان أن النتيجة هي قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم محاربة للنبوة ، وانقطاع التنزيل ، وقتل شطر من الصحابة إنتقاماً وثأراً لقتلى المشركين في بدر ، وهو من أسباب وأسرار جلبهم النسوة معهم من مكة وتحملهن عناء السفر ليندبن قتلى بدر ، ويطلبن بالثأر فأخزاهم الله من أول ساعة المعركة إذ ظهرت أمارات الهزيمة على جيش المشركين ، وتوجهت النسوة إلى الأبل لركوبها والعودة إلى مكة قبل أن يبدأ المسلمون بنهب معسكرهم .
عن ( البراء بن عازب قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرماة يوم أحد، وكانوا خمسين رجلا، عبدالله بن جبير، قال: ووضعهم موضعا وقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.
قال: فهزموهم، قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن.) ( ).
الرابع : لهم أجر عظيم فزادهم إيماناً من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) مجئ الثواب للمؤمنين بسبب إيمانهم ولعلمهم الصالحات ، وهذا الأجر الثواب على أقسام :
أولاً: الأجر الآجل في عالم الآخرة ، وهو المتبادر من نظم آيات القرآن .
ثانياً : الأجر والثواب العاجل الذي يأتي للمؤمن مصاحباً ومتعقباً لقيامه بالعمل الصالح .
ثالثاً : الأجر الذي يترشح على الذرية والأهل .
رابعاً : من الأجر صرف البلاء .
وهل في آية البحث شاهد ومصداق منه .
الجواب نعم ، إذ رجع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة إلى المدينة من غير قتال مع الذين هددوا وتوعدوا ، وفي التنزيل [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
ويحتاج القول بأن هذه الكفاية من الأجر العظيم إلى دليل ، والجواب لا مانع من كونه من فضل الله ، ومن سعة رحمته ، ومن الأجر العظيم ، فمن معاني عظمة الأجر اتصاله وتجدده وشموله للحياة الدنيا والآخرة , وتعدده مع إتحاد سببه .
الخامس : تقدير الجمع بين الآيتين : الذين زادهم إيماناً لهم أجر عظيم .
يترشح الأجر العظيم الذي يأتي للمؤمنين من الفضل العظيم الذي ينعم به الله على الناس عامة والمؤمنين خاصة .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا (دار الفضل) فهي بذاتها فضل من الله ، وليس من حصر لمصاديق الفضل الإلهي على الناس ، كما يقوم الناس بالفضل والإحسان فيما بينهم بسبب الرحم وأسباب المودة والرأفة ، وتفضل الله عز وجل وبعث الأنبياء ، وأنزل الكتب السماوية ليبادر الناس إلى الفضل والإحسان فيما بينهم .
وهل بر الولد لوالديه من الفضل ، الجواب نعم .
ومنه الفضل للذات ونشر شآبيب الرحمة والرأفة وهو من مصاديق الإحسان في آية السياق , وقوله تعالى [أَحْسَنُوا مِنْهُمْ].
لقد جعل الله عز وجل الدار الآخرة دار الثواب والجزاء ومن لطف الله عز وجل بالعباد عدم حصر الثواب بعالم الآخرة , إذ جعل الثواب مصاحبا للفعل والعمل الصالح من غير أن ينقص من ثواب الآخرة شيئاً , أما الذي يفعل السيئات فإن الله عز وجل يمهله ويقربه إلى منازل التوبة , ومن بديع صنع الله وقوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)
وتحتمل الآيات الكونية وجوهاً :
الأول : كل آية كونية تدعو إلى التوبة والإنابة كالشمس والقمر والنهار والليل والسحاب والمطر والرياح .
الثاني : التفصيل فتكون الآيات على أقسام :
أولاً : الآيات الكونية التي تلح على الإنسان بالتوبة .
ثانياً : الآيات الكونية التي تدعو بالدلالة والواسطة إلى التوبة والإنابة .
ثالثاً : الآيات الكونية التي لا صلة لها بمسألة التوبة والإنابة .
الثاني : شطر من الآيات الكونية تحث على القربة , وترغب فيها , وشطر لا يدعو إليها .
الثالث : كل آية كونية تبعث على التوبة ، ولكن هذا البعث على نحو الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
والمختار هو الأول إذ تدعو كل آية الناس إلى التوبة وترّغب فيها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ) ويحتمل حث الآيات الكونية الناس على التوبة وجوهاً :
الأول : إنه من الأجر العظيم الذي أختتمت به آية البحث .
الثاني : انه من الأجر مطلقاً .
الثالث : انه من لطف الله عز وجل على الناس .
الرابع : العموم والخصوص , وأنه من الطف على الناس عامة ، ومن الثواب والأجر بالنسبة للمؤمنين .
أي أن المؤمنين ينهلون من اللطف العام للناس ، ويكسبون من الثواب والأجر الخاص بهم ، وهو من فضل الله برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها لم تقل (وما أرسلناك بالرحمة للعالمين) إنما وردت الآية بصيغة التنكير وأن رسالته صلى الله عليه وآله وسلم رحمة من مصاديق متكثرة من رحمة الله عز وجل .
وهل هي فرد من الرحمة في الدنيا التي وردت في قوله صلى الله عليه وآله وسلم (إن لله مائة رحمة ، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق ، وبها تعطف الوحوش على أولادها ، وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة) ( ).
الجواب إنها أعم موضوعاً ودلالة ، فمن مصاديق الرحمة برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يتعلق بعالم الآخرة وأنها من مصاديق التسعة والتسعين رحمة في الآخرة .
ومنها شفاعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة ,( وفي رواية أبي داود ، قال : خطبنا ابن عباس على منبر البصرة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما من نبي إلا وله دعوة تنجزها في الدنيا ، وإني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ، ألا وإني سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ، وأول من تنشق عنه الأرض ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد وتحته آدم فمن دونه ولا فخر وذكر حديث الشفاعة بطوله ، وفيه ذكر عيسى فيقول : إني لست هناكم ، إني اتخذت وأمي إلهين من دون الله ، ولكن أرأيتم لو أن متاعا في وعاء قد ختم عليه أكان يوصل إلى ما في الوعاء حتى يفض الخاتم ؟ فيقولون : لا ، فيقول : فإن محمدا خاتم النبيين قد حضر اليوم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فيأتوني الناس فيقولون : اشفع لنا إلى ربنا حتى يقضي بيننا ، فأقول : أنا لها ، حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى ، فإذا أراد الله أن يقضي بين خلقه نادى مناد : أين أحمد وأمته ؟ فأقوم وتتبعني أمتي غر محجلون من أثر الطهور ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فنحن الآخرون الأولون ، نحن آخر الأمم وأول من يحاسب ، وتفرج لنا الأمم عن طريقنا ، وتقول الأمم : كادت هذه الأمة أن يكونوا أنبياء كلها ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : فأنتهي إلى باب الجنة فأستفتح ، فيقال : من هذا ؟ فأقول : أحمد ، فيفتح لي ، فأنتهي إلى ربي وهو على كرسيه ، فأخر ساجدا ، فأحمد ربي بمحامد لم يحمده بها أحد قبلي ، ولا يحمده بها أحد بعدي ، فيقال لي : ارفع رأسك ، وقل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأقول : أي رب ، أمتي أمتي ، فيقال : اذهب فأخرج من النار من كان في قلبه من الخير كذا وكذا ، فأنطلق فأخرجهم من النار ثم أرجع فأخر ساجدا ، فيقال : ارفع رأسك وسل تعطه ، فتحد لي حدا فأخرجهم) ( ).
الوجه الثاني : صلة آية البحث بقوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تتضمن آية البحث الإخبار عن أمر وجودي في الحياة الدنيا .
يتجلى باظهار المهاجرين والأنصار حسن التوكل على الله والعزم على الصبر في ملاقاة الذين كفروا بجموعهم وجيوشهم ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
وجاءت آية السياق لبيان حال الشهداء في عالم الآخرة ليكون من معاني الجمع بين الآيتين الخطاب للذين آمنوا من جهات :
الأولى : بعث الطمأنينة في نفوس المؤمنين على حال الشهداء الذين قتلوا في معركة بدر وأحد ، وورد (عن نعيم بن همار : أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الشهداء أفضل؟ قال : الذين أن يلقوا في الصف لا يلفتوا وجوههم حتى يقتلوا ، أولئك ينطلقون في العرف العالي من الجنة ، ويضحك إليهم ربهم . وإذا ضحك ربك إلى عبد في الدنيا فلا حساب عليه) ( ).
الثانية : فضل الله عز وجل على الصحابة باطلاعهم على علم من علوم الغيب ، وصيرورة هذا العلم تركة وثروة بيد المسلمين والمسلمات إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار تلاوة المسلمين آيات القرآن في الصلاة اليومية ، إذ تكون هذه التلاوة كشفاً يومياً للغيب .
الثالثة : بعث السكينة في نفوس المجاهدين وعوائلهم فغاية ما يلقاه المدافع عن النبوة والتنزيل في ميدان المعركة هو القتل ، ويتصف هذا القتل بأنه دفاع في سبيل الله لتترشح عنه النعم العظيمة في الجنة .
وهل تدل آية البحث على معنى الدفاع في المقام ، الجواب نعم بدليل قوله تعالى [قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ]بينما كان المسلمون منهمكين في أمور :
الأول : أداء الصلاة اليومية جماعة بامامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : التفقه في الدين ومعرفة أحكام الحلال والحرام .
الثالث : الكسب للمعاش وإنشغال الأنصار بالزراعة والسقي ، وقيام المهاجرين بالبيع والشراء في سوق المدينة .
(عن أنس بن مالك أن عبد الرحمن بن عوف قدم المدينة فآخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري فقال له سعد أخي أنا أكثر أهل المدينة مالا فانظر شطر مالي فخذه وتحتي امرأتان فانظر أيتهما أعجب إليك حتى أطلقها لك .
فقال عبد الرحمن بن عوف : بارك الله لك في أهلك ومالك دلوني على السوق فدلوه على السوق فاشترى وباع فربح بشيء من أقط وسمن ثم لبث ما شاء الله أن يلبث فجاء وعليه ردع من زعفران .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مهيم فقال يا رسول الله تزوجت امرأة . قال : فما أصدقتها قال وزن نواة من ذهب .
قال أولم ولو بشاة .
قال عبد الرحمن : فلقد رأيتني ولو رفعت حجرا رجوت أن أصيب تحته ذهبا أو فضة) ( ).
ولم تمر الأيام حتى تزوج عبد الرحمن بن عوف امرأة من الأنصار بثلاثين ألف درهم مما يدل على حال الثراء التي صار عليها ، ولم تأت من الكسب في السوق إنما من الفتوحات والغنائم وقد ترك ذهبا (قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه) ( ).
وكانت له أربع زوجات ورثت كل واحدة منهن مائة الف دينار ربع الثمن ، ليكون ثمن التركة (100,000 ×4 =400,000 دينار ) ويكون مجموع تركة عبد الرحمن بن عوف (400,000×8 =3,200,000 دينارا ذهبا .
وبلحاظ أن الدينار هو مثقال ذهب عيار ثمان عشرة حبة ، والمثقال نحو 4,25 غرام يكون المجموع 13600 كيلو ذهب ، مما يعني مئات الملايين الورقية العالمية في هذا الزمان ،وكزينة دولة .
ومات عبد الرحمن في السنة الثانية والثلاثين للهجرة ، نعم كانت ثروة وتركة الزبير أكثر منها ، إذ ورثت كل زوجة من زوجاته الأربعة مليوناً ومائتي ألف (وكان يضرب في المغنم بأربعة أسهم سهم له وسهمين لفرسه وسهم لذي القربى أي لأمه) ( ) .
وكذا زيد بن ثابت الذي يترك من الذهب والفضة ما يكسر بالفؤوس عدا الأموال والضياع .
وهذه الحال ليست كثيرة بين الصحابة فمن أهل البيت والصحابة من غادر الحياة الدنيا ولم يخلف وراءه تركه .
والزبير مثلاً لم يتولى إمارة أو جباية بينما خاص الإمام على المعارك ، وسار أميراً في السرايا وتولى الحكم أميراً للمؤمنين في المدينة والكوفة واستمرت أيامه إلى ما بعد موت الزبير بأكثر من ثلاث سنوات أميراً للمؤمنين , وأستشهد ولم يترك سوى ثلاثمائة درهم .
(عن عائشة قالت: لما مرض أبو بكر مرضه الذي مات فيه قال: انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي فإني قد كنت أستحله، قال: وقال عبد الله بن نمير أستصلحه جهدي، وكنت أصيب من الودك نحوا مما كنت أصيب في التجارة، قالت عائشة: فلما مات نظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل صبيانه وإذا ناضح كان يسني عليه، قال عبد الله بن نمير: ناضح كان يسقي بستانا له، قالت: فبعثنا بهما إلى عمر) ( ).
والميراث هو ما يتركه الإنسان عند موته لأولاده وورثته مطلقاً ، ولا ينحصر بالمال بل يشمل العلم النافع والذكر الحسن والتأديب والإعانة على الصلاح ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) ولم يترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأموال الكثيرة والضياع مع أنه كان يرده الخمس من الغنائم ، وكانت عطاياه وهباته شاهداً على صدق نبوته ، ودليلاً على أنه يفعل ما يأمره الله عز وجل به ، وفيه تأديب للصحابة والتابعين وعموم المسلمين لإجتناب إدخار الأموال الطائلة .
وقد تفضل الله عز وجل وأمر بالصلاة والزكاة وحذر من إدخار الأموال من غير إخراج زكاتها وتسخيرها في سبيل الله عند الحاجة ، ولو على نحو الموجبة الجزئية وإنفاق الجزء والشطر منها ، قال تعالى [وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] ( ) .
لقد بينت آية السياق أن الأجر العظيم ملازم لأمور :
الأول : الإستجابة والإمتثال لأوامر الله .
الثاني : الإمتناع عما نهي الله عنه .
الثالث : الإستجابة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإقتداء به في سنته .
الرابع : الإحسان وفعل الخير الذي يدل على الصلاح .
المسألة الثانية : إبتدأت آية السياق بالفعل المضارع [يَسْتَبْشِرُونَ] والمقصود هم شهداء معركة بدر وأحد ، لبيان قانون من الإرادة التكوينية فيما يخص الذين قتلوا في سبيل الله في معارك الإسلام الأولى وتضحيتهم في الدفاع عن النبوة والتنزيل بتحلية وتخلية .
إذ تحلوا بحسن النية وقصد القتال في سبيل الله وإرادة رضاه والقربة إليه سبحانه , وأما التحلية فأنهم تركوا الحمية والعصبية القبلية ، ولاقوا الذين كفروا وان كانوا اخوانهم وآباهم ورؤساء وافراد عشيرتهم ، وهو أمر مستحدث لم يحدث في تأريخ الجزيرة .
وهو من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتصديق المسلمين به وبذلهم النفوس لإعلاء لواء الإسلام , وتكون [وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا] ( ).
أما آية البحث فابتدأت بالاسم الموصول [الذي] ويعود للمهاجرين والأنصار الذين خرجوا في اليوم التالي لمعركة أحد إلى حمراء الأسد لمطاردة وطرد جيش الذين كفروا ، وكأن هذه الأراضي صارت من حمى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولتكون هذه المطاردة على وجوه :
الأول : بعث الخوف في قلوب أفراد جيش الذين كفروا .
الثاني : تأكيد عودة جيش الكفار إلى المدينة بصبغة الخيبة .
الثالث: بعث الحسرة والأسى في قلوب الكفار الذين هم خلف جيش قريش .
الرابع : تبكيت وتوبيخ المنافقين ، وبيان إعراض المسلمين عن دعوتهم للقعود .
الخامس : شد وتقوية عزائم المؤمنين .
السادس : بيان حقيقة وهي أن المسلمين لم ينهزموا في معركة أحد.
السابع : تأكيد سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإبطال العملي لإشاعة قتله , مع إخبار الأجيال بأن جراحاته لم تقعده عن الجهاد في اليوم التالي لمعركة أحد .
الثامن : الخروج إلى حمراء الأسد مقدمة لفتح مكة ودعوة لأهلها للتهيئ للفتح ، والإمتناع عن نصرة جيش الذين كفروا ، ومنه قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقتل أبي عزة الشاعر في حمراء الأسد ، وقد تقدم بيانه في الجزء السابق.
والذي كان قد أسره المسلمون في معركة بدر ، فشكا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقره وكثرة عياله وتوسل إليه ليفكه من الأسر ، فاستجاب له النبي صلى الله عليه وآله وسلم واشترط عليه أن لا يظهر عليه ولا يخرج لقتاله ، ولكنه عاد وخرج في معركة أحد، فأسره المسلمون ، وقيل لم يؤسر غيره يومئذ .
فقال : يا محمد إنما خرجت مكرهاً ولي بنات فأمنن عليّ .
(أَيْنَ مَا أَعْطَيْتنِي مِنْ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ؟ لَا وَاَللّهِ لَا تَمْسَحْ عَارِضَيْك بِمَكّةَ تَقُولُ سَخِرْت بِمُحَمّدٍ مَرّتَيْنِ) ( ).
لبيان علة قتله وعدم إنحصارها بنقضه العهد والميثاق ، ولكن لإتخاذ العفو الجديد وسيلة للسخرية والإستهزاء بالنبي ، وفيه تأليب للكفار للعودة للقتال مرة أخرى .
وتتجلى في قصة أبي عزة الشاعر هذا مسألة ، وهي أن الصحابة لا رأي لهم مع أمر ونهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يستشيرهم ولم يشفع له أحد من المهاجرين من قريش ممن تذكرهم آية البحث بالاسم الموصول والضمير في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ] ( ).
إذ تدل الآية على إنقطاعهم إلى الله من جهات:
الأولى : الإستجابة.
الثانية : التوكل على الله .
الثالثة : الإستجابة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأن الله عز وجل أمر بطاعته ، قال تعالى [مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ] ( ) .
الرابعة : تلقي القروح والجراحات في سبيل الله يوم معركة أحد في ذات الوقت الذي سقط إخوانهم شهداء .
الخامسة : الإحسان وعمل البر .
السادسة : التقوى والخشية من الله , والسعي في مرضاته .
السابعة : رجاء الأجر والثواب من عند الله ، وبذل الوسع للفوز به ، قال تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ] ( ).
المسألة الثالثة : لقد ذكرت آية السياق حال شهداء أحد وهم عند الله إذ يتغشاهم الإستبشار ، ومن إعجاز آية السياق ذكرها لموضوع وعلة هذا الإستبشار وعلى نحو الإطلاق والتعدد من جهات :
الأولى : الاستبشار بنعمة من الله تأتي للشهداء وللمؤمنين الأحياء والأموات.
الثانية : الإستبشار بفضل ولطف ومنّ زائد من عند الله عز وجل ، يأتي للشهداء والمؤمنين من دون استحقاق منهم ، ليكون الإستبشار في المقام على وجوه :
الأول : الإستبشار بذات الإستبشار .
الثاني : الفرح والإستبشار بفضل الله عز وجل .
الثالث : الرضا والغبطة بمصاديق من فضل الله عز وجل أعظم وأكبر من أن يتصورها الناس .
الثالثة : الإستبشار بالوعد من عند الله عز وجل بالأجر والثواب للذين آمنوا ، لذا أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى [لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ] ( ).
وأختتمت آية السياق بذكر المؤمنين وأجرهم ، لتأتي آية البحث وتبين أن المؤمنين هم الذين لا يخشون إلا الله ، ولا يزدادون مع تهديد ووعيد الذين كفروا إلا ايماناً وحرصاً على تعاهد مقامات التقوى والخشية من الله عز وجل .
ترى ما هي النسبة بين المؤمنين في آخر الآية قبل السابقة الاسم الموصول ( الذين ) في آية البحث , فيه وجوه :
الأول : نسبة التساوي .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق , وفيه شعبتان :
الأولى : المؤمنون الذين تذكرهم الآية السابقة وتخبر عن الأجر والثواب العظيم الذي أعده الله عز وجل أعم وأكثر من المهاجرين والأنصار الذين تذكرهم آية البحث في أولها .
الثانية : الذين تذكرهم آية البحث أعم وأكثر من المؤمنين الذين تذكرهم الآية السابقة .
الثالثة : نسبة العموم والخصوص من وجه , وأن هناك مادة للإلتقاء وأخرى للإفتراق بين الذين إفتتحت الآية السابقة بذكرهم وبين الذين جاءت آية البحث بالثناء عليه وبيان صدق إيمانهم بالقول والفعل في حالة السلم والحرب .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه .
المسألة الرابعة : من الإعجاز في نظم القرآن تقدم آية استبشار الشهداء وهم عند الله بحسن المقام ، ثم جاءت آية البحث لتخبر عن مناجاة جيش الذين كفروا بالعودة إلى المدينة المنورة لتجديد القتال والإغارة على المدينة خاصة بعد أمور مجتمعة :
الأول : مقتل سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : كثرة الجراحات التي أصابت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث: تعرض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى القروح والجراحات ومنهم من أقعدته هذه الجراحات.
الرابع : إشاعات وأراجيف الذين نافقوا , وتوجيههم اللوم حتى للشهداء بذريعة أنهم لو لم يخرجوا إلى ميدان معركة أحد لما قتلوا .
ولما علم الصحابة بحال الشهداء وتوالي نعم وفضل الله عليهم لأنهم دافعوا عن شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعن التنزيل أدركوا أنهم لن يخسروا شيئاً عند ملاقاة جيش الذين كفروا مرة أخرى .
فخرجوا إلى حمراء الأسد تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعقبين لجيش الذين كفروا مع كثرته والأسلحة والمؤون التي مع أفراده .
ترى لماذا تقدمت آية استبشار شهداء أحد على آية استجابة الصحابة , فيه مسائل :
الأولى : لحاظ التقدم الزماني لمعركة أحد على خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد .
الثانية : الإعجاز في بيان قانون وهو ان استبشار الشهداء بما رزقهم الله متقدم في زمانه على خروج الصحابة إلى معركة أحد .
لقد استشهد سبعون من الصحابة في يوم السبت النصف من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية .
وخرج الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي ، وهو يوم الأحد حتى بلغوا حمراء الأسد ، مما يدل على صيرورة الشهداء في حال استبشار وغبطة قبل أن يستجيب الصحابة لأمر الله ورسوله في الخروج إلى حمراء الأسد .
الثالثة : دعوة المهاجرين والأنصار للشكر لله عز وجل على النعم التي رزقها لاخوانهم شهداء معركتي بدر وأحد .
الرابعة : حث الصحابة على الدعاء وسؤال الله عز وجل الفوز بالنعم وفضل الله عز وجل في الدنيا والآخرة .
الخامسة : بعث السكينة في نفوس الصحابة بأن يتفضل الله عز وجل عليهم بعد موتهم أو قتلهم بالنعم والفضل .
السادسة : زيادة إيمان المسلمين، وسلامتهم من الإرتداد ، وهو من أسرار الثناء عليهم في آيات القرآن، إذ يبعث هذا الثناء المسلمين على تعاهد الإيمان بسبب إخبارهم عن جمع المشركين جيوشهم لقتالهم ، والجواب هذا صحيح ، وإثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، فليس من حصر لضروب وأسباب زيادة إيمان المسلمين ، وأسناها وأعظمها نعمة وفضل الله كما ذكرته آية السياق ، قال تعالى[وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ]( )وسيأتي مزيد كلام في علم المناسبة( ).
المسألة الخامسة : أختتمت آية السياق بالوعد من عند الله عز وجل بأنه[لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) ومن الإعجاز فيه عدم إختصاص الوعد بعمل المؤمنين وفعلهم الصالحات .
كما في قوله تعالى [وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ] ( ) إنما جاءت الآية بذكر الأجر , وبينه وبين عمل الصالحات عموم وخصوص مطلق ، فالأجر أعظم وأكبر أوسع لبيان قانون وهو أن الله عز وجل يؤجر ويثيب المؤمن على إيمانه ثم يتفضل ويحفظ ذات الأجر، ومضاعفته أضعافاً متتالية .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن العبد إذا تصدق من طيب يقبلها الله منه ، فأخذها بيمينه، ورباها كما يربي أحدكم فلوه( )، أو فصيله( )، وإن الرجل يتصدق بالتمرة، فتربو( ) له في يد الله، أو قال: كف الله، حتى تكون مثل الجبل، فتصدقوا)( ).
وإبتدأت آية البحث بالاسم الموصول (الذين) لإرادة المهاجرين والأنصار الذين قاتلوا في معركة أحد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحت لوائه ثم خرجوا في اليوم التالي متعقبين العدو الكافر ، ليكون من معاني الجمع بين الآيتين وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ] ( ).
المسألة السادسة : من إعجاز آية السياق مجيؤها بصيغة المضارع سواء في أولها أو في آخرها ، ترى لماذا لم تقل الآية : وأن الله لم يضع أجر المؤمنين، الجواب لإفادة تعاهد وحفظ الله عز وجل ثواب وأجر المؤمنين في الدنيا والآخرة ، ولإرادة الإطلاق الزماني ، وتقدير الآية : وأن الله لم يضع ولا يضيع أجر المؤمنين .
ومن الإعجاز تلاوة المسلمين والناس آية السياق في كل زمان بصيغة المضارع ، وتدل ذات التلاوة على إرادة الماضي أيضاً كما تدل عليه بالدلالة التضمنية على وجود وثبوت الأجر ، وعدم محوه أو زواله أو نسخه .
ففي كل زمان يقرأ المسلم الآية [وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) ومنه الأجر الموجود في هذا الزمان , وإن كان الفعل وزمان الذين فعلوه من المؤمنين قد انقضى ومضى والنسبة بين الموجود من الأجر وبين الذي كتب أول مرة عند الفعل الحسن وعمل الصالحات هو العموم والخصوص المطلق ، إذ يضاعف الله عز وجل ذات الأجر في كل آن بفضل منه تعالى، (وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)( ).
ليكون هذا الحديث شاهداً على مجئ الثواب والأجر للعبد بعد وفاته والمضاعفة والحفظ أعم منه ، فحتى المؤمن الذي ليس له ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية أو علم ينتفع به، فان الله عز وجل يضاعف له الأجر على عبادته وطاعته لله عز وجل ورسوله في الحياة الدنيا ’ لإلحاقها بالصدقة الجارية .
وعن(ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل وهو يعظه: اغتنم خمسا قبل خمس:
شبابك قبل هرمك
وصحتك قبل سقمك
وغناءك قبل فقرك
وفراغك قبل شغلك
وحياتك قبل موتك)( ).
المسألة السابعة : لقد تقدم لفظ المؤمنين في هذه الآيات بقوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) لتكون واقعة أحد مناسبة لتجلي صدق الإيمان ، وأن الذين دخلوا الإسلام وهاجروا مع رسول الله والذين نصروه من أهل المدينة إنما كانوا مؤمنين حقاً بلحاظ أن معركة أحد شاهد على أن الذين حضروها لم يطلبوا الدنيا ولا الجاه ولا الغنائم لأن هذه المعركة خالية من الغنائم والمكاسب، وبدليل أنهم كانوا يشتاقون للقاء العدو ، ويتمنون الموت لقوله تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ).
وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : ولقد كنتم تمنون الموت في لقاء العدو .
الثاني : ولقد كنتم تمنون الموت في سبيل الله .
الثالث: ولقد كنتم تمنون القتل في سبيل الله .
الرابع : ولقد كنتم تمنون الموت للعلم واليقين بالمنزلة السامية للشهداء عند الله سبحانه.
إذ أخبرت آية السياق عن استبشار وغبطة الشهداء بما رزقهم الله عز وجل من فضله ونعمته وإحسانه .
ومن عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) بيان هذه الآيات لبعث شهداء بدر وأحد أحياء عند الله من حين قتلهم.
وجاء تمني طائفة من الصحابة الموت لوجوه :
الأول : عدم حضورهم معركة بدر ، فمن الصحابة من فاته الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة بدر وظنوا أنه وأصحابه يطلبون عير قريش ، وفي التنزيل [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ] ( ) .
وعندما وقعت معركة بدر وبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم (زيد ابن حارثة إلى اهل السافلة و عبدالله بن رواحة إلى اهل العالية بشيرين بالفتح قال كعب وكان رجلا من طيء ثم احد بني نبهان وكانت أمه من بني النضير احق هذا أترون ان محمدا قتل هؤلاء الذين يسمى هذا الرجلان فهؤلاء اشراف العرب وملوك الناس والله ان كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الارض خير من ظهرها)( ).
ثم قدّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغنائم والأسرى فحينما وصل مشارف المدينة تلقاه وجوه الصحابة الذين تخلفوا عن الخروج معه ، وهنأوه بالنصر واعتذروا بأنهم لا يعلمون أن قتالاً سيقع بينه وبين المشركين فقيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عذرهم، وهذا القبول فرع الوحي لعمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) بينما قال المنافقون في معركة أحد بعده بنحو عام[لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَتَّبَعْنَاكُمْ]( ).
فذكر الله عز وجل قولهم في الآية أعلاه بصيغة الحجة عليهم والتوبيخ لهم والإخبار عن قبح سرائرهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إنما الأعمال بالنيات)( ).
الثاني : وصول جيش الذين كفروا إلى أطراف المدينة .
الثالث : شيوع إرادة الذين كفروا من زحف جيوشهم قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل يمكن تقدير قصد الصحابة : إنه لا خير في الحياة من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،الجواب نعم ، ولكن الأولى والأنسب هو يجب الدفع عن رسول الله والتضحية دونه ، وهذا الدفع والتضحية في سبيل الله، وتفقه من المسلمين في الدين ومعرفة فلسفة الشهادة ، وأن القتل في سبيل الله طريق الحياة الأبدية ، ترى لماذا لم يتمن الصحابة القتل، فلم تقل الآية: ولقد كنتم تمنون القتل) الجواب من جهات:
الأولى : بيان سلامة المؤمنين من طلب القتل بذاته ، أو قتل النفس وما يسمى بالإنتحار .
الثانية : بيان مصداق لقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) بسلامة المسلمين من الأمر من الله بقتل أنفسهم كما ورد في بعض المؤمنين من الأمم السابقة بقوله تعالى[وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا]( ).
الثالثة : تصد الصحابة لقتال المشركين والخروج من القتال سالمين إلى حين الوفاة على الفراش مع إحراز درجة الشهادة وحسن الإقامة في الآخرة، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى قبل ثلاث آيات[يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
إذ تدل الآية أعلاه على تفضل الله عز وجل باخبار الشهداء عن أمور:
الأول : قتال المسلمين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : سلامة المسلمين من الإرتداد .
الثالث : فوز إخوان الشهداء من المؤمنين بذات المرتبة والشأن الذي نالوه ، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
وبما أن التقوى مصاحبة للحياة الدنيا للملازمة بينها وبين الإيمان تفضل الله عز وجل بعدم خلو الأرض من المؤمنين.
الرابع : يدل ورود لفظ [يَسْتَبْشِرُونَ] بصيغة المضارع على تجدد استبشار الشهداء مما يدل على عدم انقطاع موضوعه، وفي كل يوم يتطلع الشهداء إلى قدوم بعض المؤمنين إليهم، ويبشر بعضهم بعضاً بقدومهم، وهذا الإستبشار على وجوه:
أولاً : الإستبشار بمن مات من المؤمنين وصعود روحه إلى عليين .
ثانياً : إستبشار الشهداء برؤية بعض المؤمنين قد قدموا عليهم في رياض عالم البرزخ .
ثالثاً : إستبشار الشهداء بتوبة وصلاح بعض الناس ونيلهم مرتبة الإيمان.
رابعاً : إستبشار الشهداء باخبار الله عز وجل لهم بأوان موت أو قتل بعض المؤمنين او بوقوع هذا القتل .
خامساً : قيام الملائكة بالمجئ إلى الشهداء ، ومعهم بعض المؤمنين الذين انتقلوا إلى دار الآخرة سواء كان انتقالهم في الحال وللتو أو فيما بعد.
الرابعة : النسبة بين الموت والقتل هو العموم والخصوص المطلق ، فالموت أعم ويشمل الموت على الفراش، والموت عن علة أو مرض أو آفة من السماء والأرض أو الغرق والسقوط من الجدار ونحوه من أسباب الموت، أما القتل فهو زهوق الروح بآلة ومباشرة للقتل .
وقد يكون هناك سبب للقتل ، وقصد الشهداء صيغة العموم وهو الموت لإرادة تفويض كيفية وأوان مغادرتهم الدنيا إلى الله تعالى ، وهذا التفويض من مصاديق خاتمة آية البحث [وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ].
الخامسة : الموت أيسر وأخف من القتل وحرارة السيف .
وهل يتعارض هذا التمني مع النهي الوارد (عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا تتمنوا الموت فإن هول المطلع شديد، و أن من السعادة أن يطيل الله عز و جل عمر العبد، و يرزقه الإنابة)( ).
الجواب لا ، إنما كان تمني الموت من شطر من الصحابة عندما بلغهم قدوم العدو لقتالهم ونصبه معسكره في أطراف المدينة , ولا يرضى إلا بقتلهم فرغبوا في الدفاع عن النبوة والتنزيل.
كما ورد (عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا)( ).
المسألة الثامنة : إبتدأت آية السياق بحال الغبطة والفرح التي يكون عليها الشهداء عند الله عز وجل ، لبيان أمور :
الأول : خلو أيام الشهداء من الهم والخوف ونحوه ، وهو من مصاديق ما ورد قبل ثلاث آيات بقوله تعالى[أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) .
الثاني : إستبشار الشهداء والمؤمنين بمقاعدهم التي تنتظرهم في الجنان ، قال تعالى [يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ] ( ).
الثالث : ذكرت آية السياق استبشار شهداء أحد بقوله تعالى[يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ] ، ولم تقيد هذه النعم ، بل جاءت مطلقة من جهات :
الأولى : زمان النعمة .
الثانية : مكان النعمة .
الثالثة : ماهية النعمة .
الرابعة : الكم والكيف للنعمة ومقدارها .
الخامسة : موضوع النعمة .
السادسة : متعلق النعمة .
السابعة : متلقي النعمة ، فهي أعم من أن تختص بذات الشهداء ،وقد يقال المتبادر من الآية نعمة الله على ذات الشهداء ، وتقديرها يستبشرون بنعمة الله عليهم .
والجواب لا دليل على هذا المعنى ، والتدبر في الآية يفيد عموم المعنى والمتعلق إذ أنهم يستبشرون بها ، فيكون تقدير الآية على وجوه غير متناهية منها :
أولاً : يستبشرون بنعمة الله عليهم .
ثانياً : يستبشرون بما أعد الله لهم من النعم .
ثالثاً : يستبشرون بنعمة الله بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل يوم معركة أحد ، إذ غادر الشهداء الحياة الدنيا أثناء معركة أحد ، وكان جيش المسلمين في حال إرباك وتداخل بعد ترك الرماة مواضعهم على الجبل ومجئ خيالة مشركي من قريش من خلفهم.
ومن الشهداء من قتل بعد انتشار إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الصفين ، فحينما انتقل إلى جوار ربه وبعث الله فيه الحياة علم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتل وهو نعمة عظمى على الشهداء والمسلمين والناس جميعاً فاستبشروا بها الشهداء ومن مصاديق قوله تعالى[يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ]( ).
رابعاً : يستبشر الشهداء عند نزول كل آية من القرآن .
خامساً : يستبشر الشهداء عند تلاوة أي مسلم أو مسلمة آيات القرآن سواء في الصلاة أو خارجها، كما يستبشرون لأنهم ضحوا بأنفسهم من أجل هذه القراءة واستدامتها.
فمن إعجاز القرآن في المقام أمور :
أولاً : تعدد مصاديق الإستبشار بذات النعمة الواحدة .
ثانياً : تجدد الإستبشار في ذات النعمة .
ثالثاً : تغشي النعمة الواحدة للشهداء والأحياء من المسلمين .
الرابع : آية البحث وثيقة سماوية تتضمن الإخبار عن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في اليوم التالي لمعركة أحد خلف جيش الذين كفروا من قريش وحلفائهم مع كثرة جراحاتهم ، ويحتمل حال الشهداء حينئذ وجوهاً :
الأول : استبشار الشهداء بهذا الخروج .
الثاني : عدم علم الشهداء بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في اليوم التالي من جهات :
الأولى : حجب الله هذا الخروج عن الشهداء .
الثانية : إنشغال الشهداء بالتنعم بفضل الله .
الثالثة : سنخية وقواعد الحياة عند الله بعدم الإطلاع على ما يحدث في الأرض إلا بإذن من عند الله عز وجل .
الثالث : قيام الشهداء بالدعاء للنبي وأصحابه الذين خرجوا معه.
والمختار هو الأول ، وهو من عمومات قوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ]( ).
لقد فارق شهداء أحد الدنيا قبل يوم من خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد .
وقد أخبرت الآيات السابقة عن حياتهم عند الله عز وجل بقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) .
ومن أسرار النهي عن الظن بموت الشهداء هو بقاء أحوالهم في الدنيا في الوجود الذهني لهم ، ولو دار الأمر بين الحياة الجديدة عند الله بين أمور :
الأول : نسخ ومحو كل شئ خاص بالدنيا وعالق في أذهان الشهداء .
الثاني : لا يبقى في أذهان الشهداء عن الدنيا إلا ما شاء الله .
الثالث : بقاء كل الأمور والوقائع والأحداث التي جرت للشهداء ومروا بها في أذهانهم في حياتهم الجديدة .
والمختار هو الثاني، إذ يمحو الله عز وجل عن الشهداء كل ما يتعارض مع أسباب الغبطة والسعادة التي يتنعمون بها، وقد أخبرت الآية السابقة عن استجابة الصحابة لله والرسول، وهو من أسباب استبشارهم، وكذا بالنسبة لخروجهم تحت لواء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليكون من مصاديق استبشار الشهداء أمور :
الأول : بقاء الإسلام .
الثاني : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل .
الثالث : تعاهد المسلمين للصلاة .
الرابع : عدم إصابة المسلمين بالخور أو الجبن .
الخامس : فضح المنافقين , وصيرورة المسلمين في حال إحتراز منهم .
السادس : خزي الذين كفروا ، وعجزهم عن تحقيق أي غاية جاءوا من أجلها .
السابع : عدم خشية المهاجرين والأنصار من الذين كفروا وتخويف الناس لهم .
الثامن : حال العز والرفعة للمؤمنين بعد العوز والفقر والأذى الشديد الذي لاقوه من الذين كفروا , قال تعالى[وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
المسألة التاسعة : من معاني استبشار الشهداء بلحاظ النعم التي تذكرها وتدل عليها آية البحث وجوه :
الأول : عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة من معركة أحد .
الثاني : إقامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة المغرب والعشاء جماعة في ذات يوم المعركة ، وإن أدى الصلاة عن جلوس .
لقد أدرك الشهداء نعمة وهي أنهم فارقوا الدنيا لتبقى الصلاة تركة للأجيال المتعاقبة ، وطريقاً لهم لنيل ذات منزلة الشهداء من الحياة عند الله مع التنعم بالحياة الدنيا بما فيه رضوان الله عز وجل ، وكأن من معاني حياتهم عند الله عز وجل أنهم يطلّون على الناس في كل زمان ويقولون أموراً :
أولاً : قتلنا لتبقى الآيات وإقامة الصلاة .
ثانياً : قتلنا لتتنعموا بالحياة الدنيا لعمومات قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) بتقريب أن الشهادة والقتل في سبيل الله أبهى مصاديق العبادة ، وأن موضوعه ونفعه وأثره أعم من أن يختص بأيام الشهداء ذاتهم .
ثالثاً : تعدى علينا الذين كفروا لينالوا جزاءهم في الدنيا والآخرة .
رابعاً : يبعث أداؤكم الفرائض الإستبشار عندنا .
الثالث : مناداة بلال في المدينة في اليوم التالي لمعركة أحد للخروج خلف العدو ، والإستبشار بأن هذا النداء من عند الله عز وجل وبالوحي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل كان الشهداء حينئذ يعلمون بوصول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد وعودتهم سالمين من غير قتال ، الجواب نعم .
وهو من مصاديق فضل الله الذي تذكره آية السياق كسبب للإستبشار بقوله تعالى [يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ] ( ) فمن ذخائر آية السياق ذكر كل من نعمة الله وفضله ، ويدل هذا التعدد في الذكر والعطف بينهما على المغايرة في المصاديق لتكون على وجوه :
أولاً : مصاديق النعمة على ذات الشهداء .
ثانياً : أفراد فضل الله على الشهداء .
ثالثاً : المصاديق الجامعة للنعمة والفضل على الشهداء .
رابعاً : النعم التي يتفضل بها الله عز وجل على الأحياء من المسلمين في كل زمان ، ليكون استبشار الشهداء متجدداً كل يوم بل كل ساعة .
وهل يستبشر الشهداء بالنعم التي تأتي للناس عامة كالمطر والخصب وصرف البلاء ومحو الآفات وصرفهم عن الحرب والإقتتال ، الجواب نعم ، وتقدير آية السياق على وجوه :
أولاً : يستبشر الشهداء بالنعم الأخروية .
ثانياً : يستبشر الشهداء بالنعم الدنيوية .
ثالثاً : يستبشر الشهداء بالنعم الدنيوية والأخروية على المؤمنين .
رابعاً : استبشار الشهداء باستجابة المهاجرين والأنصار لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى تعقب العدو .
وهل يتمنى الشهداء وهم عند الله عز وجل استجابة الصحابة لله والرسول ويتمنون لو كانوا في الدنيا ويبادرون لهذه الإستجابة، أم أن ليس من تمن في حياة الشهداء في عالم البرزخ.
المختار هو الأول ، وقد ورد في أهل الجنة ، وما يرزقهم الله عز وجل من النعم قوله تعالى [وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ] ( ) .
وهل يستبشر الملائكة باستجابة الصحابة لأمر الله ورسوله في ملاحقة العدو ، وبعث الفزع في نفوس جنوده ، الجواب نعم ، لما في هذه الإستجابة من صدق الإيمان وحسن التوكل على الله .
كما يستبشر بها المسلمون في كل زمان وهو من أسرار مجئ آية الإستجابة وهي السابقة بعد آية الإستبشار، وتوثيق القرآن لكل منهما، ليلتقي الملائكة والشهداء وعموم المسلمين في الغبطة والسعادة والإستبشار باستجابة الصحابة لأمر الله ورسوله، فجاءت هذه الإستجابة في يوم مخصوص، وهو السادس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة، ليبقى ويستديم الإستبشار به إلى يوم القيامة.
وتكون ذات الإستجابة وأثرها والإستبشار بها أموراً حاضرة في مواطن يوم القيامة، وهي باب للأجر والثواب العظيم ، لذا أختتمت الآية السابقة بذكر الأجر العظيم .
الخامس : لقد فارق الشهداء الحياة الدنيا يوم معركة أحد ، ليتركوا أصحابهم من خلفهم يتعاهدون الإحسان ومقدماته وتوابعه ، وهل من موضوعية لشهادتهم في هذا الإحسان من جهة الكم والكيف والموضوع ، الجواب نعم، وهو من مصاديق[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) بلحاظ إتصال ودوام الأخوة بين الشهداء والأحياء من المؤمنين , وتتعدد وجوه ومصاديق هذه الأخوة منها :
أولاً : صيرورة الشهداء أسوة للأحياء من المؤمنين .
ثانياً : تلاوة الأحياء من المسلمين للآيات التي تتضمن الثناء على الشهداء سواء الذين قتلوا في معارك الدفاع عن الإسلام أو قتلوا مع الأنبياء السابقين ومن أتباعهم ، وهو من مصاديق لغة العموم قبل أربع آيات بقوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
ثالثاً : استغفار الشهداء للأحياء من المسلمين ، وقيام الأحياء بالإستغفار للشهداء وإهداء التلاوة والمناسك لهم .
رابعاً : إتحاد سنخية الإيمان والعمل والتوكل على الله ، وهل من موضوعية لشهداء بدر وأحد في زيادة إيمان الصحابة كما في قوله تعالى [فَزَادَهُمْ إِيمَانًا] ( ) الجواب نعم من جهات :
الأولى : الإتعاظ بفداء وتضحية الشهداء .
الثانية : تعاهد ذات النهج الذي غادر الشهداء الدنيا عليه ، وهو صدق الإيمان والإخلاص في العبودية لله عز وجل والإمتثال المطلق لأوامر الله عز وجل ، ليكون من معاني الآية السابقة : استجابة لله والرسول كما استجابة الشهداء .
الثالثة : دلالة الشهادة والقتل في سبيل الله على الخشية من الله عز وجل، وعدم الخشية من الذين كفروا وجيوشهم .
(وعن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل يقول اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والارض ولك الحمد أنت قيام السماوات والارض ولك الحمد أنت رب السماوات والارض ومن فيهن أنت الحق وقولك الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والساعة حق .
اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وأخرت وأسررت وأعلنت أنت إلهي لا إله لا أنت) ( ) .
المسألة العاشرة : تقدير الجمع بين الآيتين : يستبشرون بنعمة من الله بزيادة الإيمان) .
لقد نسبت آية البحث زيادة إيمان المهاجرين والأنصار إلى السبب وهو تخويف ووعيد جيش الذين كفروا .
وهل يحتمل أن تكون النسبة وعلة زيادة الإيمان فضل الله ، ليكون تقدير الآية : فزادهم الله إيماناً) هذا ما نبينه في باب تفسير الآية أن شاء الله.
لقد غادر الشهداء الحياة الدنيا مع إيمانهم وتقواهم ففقدت الأرض كماً وكيفاً من الإيمان رحل معهم[وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ) ولم يأت لفظ يأبى في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان حاجة الأرض وأهلها إلى إتحاد نور الله وظهور دولة الحق والإيمان وليس من منتهى لنور وصفات الله، قال تعالى[أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ]( ).
وبين التمام والزيادة عموم وخصوص مطلق، فالتمام أعم وأكبر وأكثر.
وقيل لأبي الدرداء (إنه ليس أحد له بيت في الأنصار إلا قال شعراً ، فما لك لا تقول؟! قال : وأنا قلت فاستمعوه :
يريد المرءُ أن يُعطي مُناهُ … ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرءُ فائدتي وذخري … وتقوى الله أفضل ما استفادا)( ).
لقد غادر الشهداء مع إيمانهم الحياة الدنيا ليزيد الله إيمان المهاجرين والأنصار، لتعادل الحال والكيفية لإيمانهم بعد واقعة أحد مجموع إيمانهم وإيمان الشهداء، وتوالي دخول الناس الإسلام وهو آية من عند الله، ومن مصاديق الفضل الذي تذكره آية السياق بقوله تعالى[يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ]( ) .
فان قلت هذا من جهة البدلية والعوض في الإيمان، فكيف الحال بخصوص أشخاص الشهداء، الجواب من وجوه :
الأول : فوز الشهداء بالحياة الأبدية عند الله , وتغشي حال الغبطة والسعادة لهم .
الثاني : توالي فضل الله على الشهداء في كل آن ، ويأتي هذا الفضل على وجوه :
أولاً : القضية الشخصية بالفضل من عند الله الخاص بشهيد بعينه .
ثانياً : الفضل على شهداء معركة مخصوصة كشهداء أحد (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ الْعُذْرِيِّ ، حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَدْ مَسَحَ وَجْهَهُ وَدَعَا لَهُ.
قَالَ: لَمَّا أَشْرَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَيْهِمْ قَالَ : أَنَا أَشْهَدُ عَلَى هَؤُلاءِ مَا مِنْ مَجْرُوحٍ جُرِحَ إِلا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى جُرْحُهُ ، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ
وَقَالَ : انْظُرُوا إِلَى هَؤُلاءِ أَكْثَرِ آخِذٍ لِلْقُرْآنِ فَاجْعَلُوهُ أَمَامَ أَصْحَابِهِ فِي الْقَبْرِ)( ).
ثالثاً : الفضل الذي يأتي للشهداء جميعاً بصفة الشهادة (عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ : لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ يُغْفَرُ لَهُ فِى أَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ وَيُرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ , وَيُحَلَّى حُلَّةَ الإِيمَانِ , وَيُزَوَّجُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَيُشَفَّعُ فِى سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ)( ).
الثالث : دخول أفواج من الناس الإسلام.
لقد رحل عن الدنيا سبعون من الصحابة يوم معركة أحد ، ليدخل الإسلام آلاف من الناس بذات سبب شهادتهم، وهو من عمومات قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا]( ) ليكون من مصاديق توبة الله في الآية توبته على الشهداء، وزيادة الأجر لهم وصيرورته عظيماً، كما ورد في الآية قبل السابقة.
لتكون زيادة الإيمان في الكم والكيف والعدد من جهات :
الأولى : يزداد الذين آمنوا إيماناً ، ويمكن تسميتها الزيادة المتصلة التي تأتي لذات المؤمنين .
الثانية : الزيادة الإبتدائية بالنسبة للذي يدخل الإسلام إبتداء .
الثالثة : كثرة الناس الذين يدخلون الإسلام .
وقد يظن بعض رؤساء قريش ان معركة أحد برزخ وزاجر للناس عن دخول الإسلام لأنها تؤدي إلى الخوف من عداوة ومحاربة قريش ، ولكن الذي وقع بخلافه بتسليم القبائل بأن النصر في معركة أحد كان للنبي وأصحابه إذ أنهم لم ينهزموا مع قلة عددهم ثم خرجوا في اليوم التالي خلف جيش المشركين .
الرابعة : تعظيم شعائر الله، وإقامة الصلاة وإتيان الزكاة والخمس وأداء الصيام وحج بيت الله الحرام.
الخامسة : الإكثار من تلاوة القرآن وذكر الله وهو الذي تدل عليه آية البحث إذ أن قول الصحابة(حسبنا ونعم الوكيل) ذكر لله وتوكل عليه والوثوق بفضله سبحانه، وفيه تحد للذين كفروا وإغاظة للمنافقين، وفي التنزيل[وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( )، ومن أسباب زيادة الإيمان التحلي بالصبر وهو الذي تدل عليه آية البحث وتبينه بالدلالة التضمنية من جهات:
الأولى : الخروج خلف العدو.
الثانية : تحمل القروح وجراحات المعركة.
الثالثة : التسليم لأمر الله بفقد سبعين من الصحابة، وهو من مصاديق قوله تعالى[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ]( ).
الرابعة : كثرة جراحات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصيرورة القتل قريباً منه لولا فضل الله.
الخامسة : الحرمان من الغنائم والأسرى على خلاف ما كانوا يظنون خاصة مع إستصحاب النصر وشد وثاق الأسرى وجلب الغنائم في معركة بدر التي وقعت قبل معركة أحد بنحو ثلاثة عشر شهراً.
السادسة : تناقل الناس عزم قريش على البطش بالمسلمين، وعن ابن عباس قال: استقبل أبو سفيان في منصرفه من أحد عيراً واردة المدينة ببضاعة لهم ، وبينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبال .
فقال : إن لكم عليّ رضاكم إن أنتم رددتم عني محمداً ومن معه ، إن أنتم وجدتموه في طلبي أخبرتموه أني قد جمعت له جموعاً كثيرة .
فاستقبلت العير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقالوا له : يا محمد إنا نخبرك أن أبا سفيان قد جمع لك جموعاً كثيرة ، وأنه مقبل إلى المدينة ، وإن شئت أن ترجع فافعل . فلم يزده ذلك ومن معه إلا يقيناً { وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } فأنزل الله { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا…})( ) .
أي أن الآية نزلت بعد إظهار المسلمين التوكل على الله والإنقطاع إليه سبحانه ، وكان موضوع خاتمة الآية سبباً لنزولها ، وبيان علة هذا القول وأنه جاء بعد تخويف الناس لهم من حشود الذين كفروا .
السابعة : شدة إيذاء المنافقين للمؤمنين ، وبثهم الأراجيف في المدينة وإظهارهم الشماتة الخفية بالشهداء ، كما ورد قبل خمس آيات حكاية عنهم [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ).
الثامنة : مصاحبة الإيمان بالصبر على طاعة الله عز وجل وأداء الفرائض وتدبر المهاجرين والأنصار في القرآن ، وإعجازه والتفقه في الدين في ذات الوقت الذي يحملون فيه السلاح .
التاسعة : المرابطة ، وخشية مداهمة العدو المدينة ، ومن الإعجاز أن ذات تسمية كل من المهاجرين والأنصار شاهد على الصبر والتحمل ، فمن معاني الهجرة ترك الوطن والأهل والمغادرة إلى المجهول والتعرض للمخاطر، ومعنى النصرة هو الإستعداد لتلقي الأذى من أهل العداوة ، فقد حاربت قريش ومن والاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وليس له في الأرض من أنصار إلا رجالاً من الأوس والخزرج .
وذات الإيمان نعمة عظيمة ، وقد فاز شهداء أحد به وبمصاحبته لهم عند مغادرتهم الحياة الدنيا به ، ويأبى الله إلا أن يبقى الإيمان في الأرض لا يفارقها وأن رحل عنها حملة له ، فان آخرين على ذات النهج ، وتفضل الله ورزقهم زيادة رتبة في الإيمان ، لم تترشح عن حال سلم وأمن ودعة وسراء، إنما جاءت هذه الزيادة بسبب التخويف والوعيد من الذين كفروا ليدل بالأولوية القطعية على زيادة ايمان الصحابة في حال الحرب والسلم وهو مناسبة للتفقه في الدين.
لقد إرتقى المسلمون في المدينة في منازل الإيمان ، وصاروا في حال الوقاية من الإرتداد وأسبابه ، فقد ظن الذين كفروا أنهم بتخويفهم وبث الرعب في صفوفهم ، يتكاسلون ويتفرقون خاصة مع إعانة وتعضيد الذين نافقوا للمشركين إذ يحثون على القعود ويدعون إليه ويظهرون الإستهزاء والإستخفاف بمنهج أهل الإيمان وإذا كان تخويف الذين كفروا وتهديدهم بالرجوع على الصحابة وقتلهم يزيدهم إيماناً فان قعود الذين نافقوا لن يضرهم ولا يبعث الخشية والخوف في قلوبهم ، قال تعالى [وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ]( ) .
الوجه الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى [وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : جاءت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية ، وجاءت آية السياق بصيغة الجملة الإنشائية ويتعلق موضوع كل منهما بحال الصحابة في القتال مع التباين الجزئي بخصوص الوقت ، إذ تتعلق آية السياق بواقعة أحد، وما لحق المسلمين فيها ، أما آية البحث فتخص اليوم التالي للمعركة وخروج المسلمين خلف العدو .
لقد تجحفل ثلاثة آلاف رجل في سفح جبل أحد على بعد بضعة كيلو مترات من المدينة المنورة وهم يريدون استباحتها وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجعل أصحابه بين قتيل وأسير خصوصاً المهاجرين ، وأرسلوا رسائل اطمئنان إلى الأنصار أن خلوا بيننا وبين ابن عمنا ولا شأن لنا بكم .
ولكن الأنصار خرجوا للقتال بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واظهروا التضحية وأسمى مراتب الفداء بالقتال دونه يوم معركة أحد وأشتركت النسوة بالقتال ، وهو من أسباب إصابة جيش الذين كفروا بالرعب والفزع وتعجيلهم بالإنسحاب لما فيه من إشارة بأن النساء والصبيان يقاتلونهم في المدينة إن أرادوا دخولها .
لقد أجمع رؤساء قريش على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إذ أدركوا أن مبادئ الإسلام تستولي على القلوب ، وتجذب النفوس ، وتخاطب العقول بالحجة والبرهان ،قال تعالى [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ) .
وفي إشراقة كل يوم تطل على أهل الأرض آيات قرآنية جديدة في نزولها وموضوعها.
وكانت قريش من أهل المعرفة بأحوال العرب وأنسابهم والوقائع التي جرت بينهم وأسبابها ومدتها ، والأشعار التي قيلت فيها مع اقتباس المواعظ والعبر من هذه الأشعار إلى جانب الإتعاظ من واقعة بدر ، وكيف قُتل سبعون من رجالهم وأسر منهم مثلهم ، وبعض من القتلى والأسرى من كبار رجالات قريش ، وكانوا معروفين عند أهل مكة والمدينة وعند القبائل ، وفي الشام واليمن ، إذ لهم صلات تجارية ، ويجلبون البضائع من تلك الأمصار ، أو تُجلب لهم وباسمائهم ، ومنها أحمال من الذهب والفضة.
فاستعانت قريش بالقبائل ورجالاتها ، وهل هو من مصاديق ما يسمى في هذا الزمان خاصة المرتزقة , وأن مسألة وظاهرة المرتزقة ليست وليدة هذا الزمان ، ورغبة الدول الإستعمارية باستدامة سيطرتها على بعض الأمصار والأماكن.
وقد تم تعريف المرتزق وفق المادة 47 من التوضيح والضوابط والقواعد والتي تسمى البروتوكول لسنة 1977 الملحقة باتفاقيات جنيف الأربعة ، إذ تتضمن هذه المادة اتصاف المرتزق بصفات هي :
الأولى : الذي يجري تجنيده للقتال في نزاع مسلح ، وليس للأمن أو المرابطة مثلاً .
الثانية : المشاركة الفعلية في الأعمال العدائية ، ليخرج الذي يقاتل دفاعاً.
الثالثة : الغاية من القتال الكسب والمال والمغنم الخاص .
الرابعة : يصرف للمرتزقة عوض وبدل مالي يفوق ما يعطى لأقرانه من أفراد الجيش والشعب .
الخامسة : المرتزق ليس من رعايا طرف النزاع الذي يقاتل معه ولا مقيماً ومستوطناً فيه ، ولو كان من ولاية أحد طرفي النزاع ولكنه قاتل إلى جانب الطرف الآخر فيصدق عليه أنه مرتزق إذا اجتمعت معه الصفات الأخرى .
السادسة : ليس المرتزق عضواً في القوات المسلحة التي يقاتل معها من أهل البلد .
السابعة : لم يأت المرتزق بصفة الوفد والرسول وذي المهمة الخاصة متوجهاً إلى أحد طرفي النزاع ، ولا يحتسب مقاتلاً ولا ينال صفة أسير حرب إن وقع في الأسر .
ولم تخرج القبائل مع قريش دفاعاً عن دين أو نسب أو وطن خاصة وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يهجموا على تلك القبائل ولم يهددوها وقد طاف عليهم رجالات قريش مع الترغيب بالأموال والمكاسب .
والمختار أن تلك القبائل ليسوا من المرتزقة وفق الإصطلاح المعاصر ، إذ كان الجامع بينهم وبين رجالات قريش هو الكفر وإرادة محاربة الإسلام ، وهناك أحلاف ومواثيق قبلية يعملون بها , إلا أن الإرتزاق له موضوعية في المقام ولو على نحو القضية الشخصية .
ومن الإعجاز في السنة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يطوف على تلك القبائل في أسواق العرب في موسم الحج وفي مساكنها في منى أيام الحج لأمور :
الأول : الدعوة لعبادة الله وحده ، ونبذ عبادة الأصنام ، وهل كان البيت الحرام وموسم الحج مدداً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المقام .
الجواب نعم ، وهو من الإعجاز في قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] ( ) ليكون من معاني وضع البيت الحرام للناس والبركة فيه في المقام مسائل :
الأولى : شهادة ذات البيت الحرام على التوحيد ، وعبادة الله عز وجل.
الثانية : تذكير البيت الحرام بالله عز وجل ولزوم عبادته .
الثالثة : من معاني دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقبائل تنزيه البيت الحرام من الأصنام .
الرابعة : من بركات البيت الحرام بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جواره ، والتصديق بنبوته من قبل أهل بيته وأصحابه ، ليكونوا شهوداً على الأمة وسابقين لهم وحجة عليهم ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ] ( ).
الخامسة : نقض الأحلاف القبلية المرتكزة على الإعانة على الباطل والعصبية .
السادسة : من بركات البيت الحرام رجوع جيش الذين كفروا إلى مكة في كل معركة بخذلان وإنكسار فدخلوها منهزمين في معركة بدر وبعد أن خلفوا ورائهم سبعين قتيلاً ومثلهم من الأسرى ، وكذا في معركة أحد التي تجهزوا واستعدوا لها لأشهر متتالية ، وبذلوا الأموال الطائلة في أمور :
أولاً : إستمالة رؤساء القبائل .
ثانياً : إعانة المقاتلين .
ثالثاً : الإنفاق على عوائل المقاتلين .
رابعاً : شراء الخيل والإبل والسيوف والدروع ونحوها من مستلزمات القتال .
خامساً : إعداد مؤونة وطعام الجيش من حين إجتماعهم وتوجههم إلى معركة أحد وعودتهم ، وفي معركة بدر كان المشركون يذبحون كل يوم عشرة جمال قبل أن يتكفل كل واحد منهم طعامه ، وكان عددهم نحو الف، أما في معركة أحد فكان عددهم ثلاثة آلاف مما يدل على أنهم يذبحون نحو ثلاثين جملاً كل يوم .
وكانوا يسيرون في الطريق إلى المدينة على توئدة لكثرتهم ولأنهم لم يكونوا على عجلة من أمرهم كما في معركة بدر ففي ذهابهم إليها كانوا يخشون استيلاء المسلمين على قافلة أبي سفيان ، وكانوا في عودتهم منها منهزمين فارين .
وكان الجيش في معركة أحد من قبائل شتى ، فيصعب على قادتهم توجيه أوامر لهم تحثهم على الإسراع في المشي، وكانوا محتاجين لهم في الباطل ، ويخشون جانبهم , ومنهم أعراب ذوو غلظة ،ولكنهم أدركوا تجلي معجزات النبوة , ولو على نحو الموجبة الجزئية .
فكان على قريش التي يعرف رجالها بالترف وكثرة الأموال الصبر والتحمل ، وهذا الصبر خال من الثواب ، بل هو مقدمة ونوع طريق لنزول البلاء، بل ذاته بلاء وأذى إذ يضطر رجالات قريش للإستجابة لشروط رؤساء وأفراد القبائل والأعراب سواء أثناء المسير أو قبله ، وقد يأتي بعض الطلب بعد انقضاء معركة أحد ، وهو الذي أدركت قريش الحاجة إليه بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلفهم إلى حمراء الأسد إذ يلوذ أبو سفيان وأصحابه برجال القبائل ويقاتلون بهم.
الثاني : بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمعجزات الحسية والعقلية التي رزقها الله عز وجل له ، وهو من عمومات البيان في قوله تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) .
الثالث : حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم القبائل على إيوائه وحفظه بذمامهم ، وكفايته شرور قريش ، إذ كانوا يريدون قتله .
الرابع : دعوة القبائل لأن يمنعوه حتى يبلغ الرسالة التي أمره الله عز وجل بها إلى الناس ، ومن الآيات في المقام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعدهم بالجنة إن قاموا بايوائه ، ولكنهم يعرضون عن دعوته .
وهناك مسألتان :
الأولى : هل كانت دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنة واحدة أم في سنوات متعددة .
الثانية : أين كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعرض نفسه على القبائل .
أما المسألة الأولى ،فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقام على دعوة القبائل في الموسم لثلاث سنوات متتالية في موسم الحج في الأشهر الحرم .
وأما المسألة الثانية ، فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأتي القبائل في منازلهم في أسواق الموسم وهي :
الأول : سوق عكاظ .
الثاني : سوق مجنة .
الثالث : سوق ذي المجاز .
كما كان يأتيهم في أيام منى ، ويدعوهم إلى التوحيد ويعدهم بأنهم يملكون العرب ويخضع لهم العجم بلواء لا إله إلا الله .
وعن جماعة من التابعين قالوا (أقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة ثلاث سنين من أول نبوته مستخفيا ثم أعلن في الرابعة فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين يوافي الموسم كل عام يتبع الحاج في منازلهم وفي المواسم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة فلا يجد أحدا ينصره ولا يجيبه حتى إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ويقول :
[يا أيها الناس قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتذل لكم بها العجم فإذا آمنتم كنتم ملوكا في الجنة ].
وأبو لهب وراءه يقول : لا تطيعوه فإنه صابىء كذاب فيردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبح الرد ويؤذونه ويقولون : أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك وهو يدعوهم إلى الله ويقول : [ اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا ] .
وكان ممن يسمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم وعرض نفسه عليهم : بنو عامر بن صعصعة ومحارب بن حصفة وفزارة وغسان ومرة وحنيفة وسليم وعبس وبنو النضر وبنو البكاء وكندة وكلب والحارث بن كعب وعذرة والحضارمة , فلم يستجب منهم أحد)( ).
ومن الشواهد في المقام قتل حملة لواء المشركين واحداً بعد الآخر يوم أُحد وهم :
أولاً : طلحة بن أبي طلحة وهو صاحب لواء المشركين، إذ خرج بين الصفين يطلب المبارزة، ونادى بصوت عال: أنا قاصم، من يبارزني، فلم يخرج له أحد من المسلمين فأخذ يكرر القول ولا أحد يجيبه للمبارزة، عندها (قال: يا اصحاب محمد زعمتم ان قتلاكم إلى الجنة وان قتلانا في النار كذبتم واللات لو تعلمون ذلك حقا لخرج إلى بعضكم)( )، وفيه مسائل:
الأول : لقد أصر وألح طلحة بن أبي طلحة على المبارزة، وهذا الإلحاح في ميدان المعركة قبيح.
الثاني : كان طلحة حامل لواء المشركين، والأولى به أن يحافظ على اللواء وحمله، ولكن الكفر برزخ دون الرجوع إلى العقل والتروي.
ومن الإصرار والعناد في المقام أن رؤساء قومه من قريش لم يطلبوا منه عدم الخروج للمبارزة , ولم يأمروه بالعودة بعد عدم خروج مبارز له من المسلمين.
الثالث : هل كان إمتناع المسلمين عن مبارزته عن خوف أو جبن الجواب لا، لوجوه:
الأول : كان أهل البيت والصحابة ينتظرون أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أمرهم أن لا يفعلوا شيئاً في الميدان إلا أن يأذن لهم .
الثاني : من قواعد القتال في الإسلام عدم الإبتداء بالقتال، لتأكيد قانون الدفاع، وليتجلى في ميدان الحرب مصداق لقوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثالث : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ والإنذار قبل المعركة.
الرابع : إقامة الحجة على الذين كفروا.
الخامس : إرادة توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى الدعاء وسؤال النصر من عند الله.
السادس : إتعاظ الفريقين من حال المبارزة، فمع إلحاح المشركين على المبارزة تكون عاقبته قتلهم وفيه خزي لهم .
السابع : دعوة للناس للتدبر بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثامن : إمهال الكفار للتدبر في موضوع القتال، أسبابه وموضوعه، والغايات منه، وأضراره.
التاسع : لقد كانت مواجهة المسلمين مع الذين كفروا يوم أحد مناسبة كي يرى ثلاثة آلاف منهم السجايا الحميدة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصدق نبوته فلم تغادره الأخلاق الحسنة والرأفة بالناس أبداً لقوله تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
لقد جمع رؤساء قريش أفراد القبائل والأعراب لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلاقاهم بتلاوة القرآن، ونزول الملائكة لنصرته ودلالة الوقائع على عجز الكثير من المشركين عن هزيمة العدد القليل من المؤمنين فيرجع أفراد جيش الذين كفروا إلى ديارهم وأهليهم ويتفرقون لينقل كل واحد منهم ما شاهده من آيات النبوة، وإقراره ببطلان عمل كفار قريش ومحاربتهم النبوة، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
لبيان أن المواعظ والعبر المستقرأة من واقعة أحد، والمنافع ٍالتي ترشحت عنها للمسلمين والناس أكثر من أن تحصى لأنها بإذن من الله عز وجل.
ومن معاني صيغة الخطاب في الآية أعلاه أنها وردت بصيغة الخطاب(وما أصابكم) بينما أخبرت عن إلتقاء الصفين وكأنه بصيغة الغائب[الْتَقَى الْجَمْعَانِ] لبيان أن النسبة بين المسلمين الذين تخاطبهم الآية أعلاه وبين الجمع الذين لاقوا الذين كفروا يوم معركة أحد هو العموم والخصوص المطلق وأن الإصابة يومئذ تشمل بالحزن كل مسلم ومسلمة ، وهي لنفعهم في النشأتين، ومن هذا النفع تلاوة كل مسلم ومسلمة هذه الآية في الصلاة وخارجها، والإتعاظ منها.
وعندما ألح طلحة بن أبي طلحة على المبارزة وصار يتبختر بين الصفين والتبختر قبيح ذاتاً إلا في الحرب ولخصوص المؤمن، وليس الكافر وإن كان فارساً شجاعاً , ويدل عليه حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حينما إشتد القتال وحميت الحرب، إذ رفع سيفاً وقال :
(من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى ينحني فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشبة الأنصاري وكان رجلا شجاعاً يختال عند الحرب، فلما أخذ السيف اعتمَّ بعمامة حمراء وجعل يتبختر ويقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل
ألاّ أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموضع ثم حمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على المشركين فهزموهم.
وقتل علي بن أبي طالب طلحة بن أبي طلحة وهو يحمل لواء قريش،
فأنزل الله نصره على المؤمنين)( ).
ويتجلى في حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم التقييد بالقرائن ومناسبة الحال , وتقديره: إلا في هذا الموضع من قبل المؤمنين)، فبرز الإمام علي عليه السلام إلى طلحة.
قال ابن إسحاق: وقال عبد الله بن الزبعري في يوم أحد: من الرمل:
يَا غُرَابَ الْبَيْنِ أَسْمَعْتَ فَقُلْ … إِنمَا تَنْطِقُ شيئاً قَدْ فعِلْ
إِن لِلْخَيْرِ وَللشَر مَدَى … وَكِلاَ ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ
والْعَطِيَّاتُ خِسَاسٌ بَيْنَنَا … وَسَوَاء قَبْرُ مُثْرٍ وَمُقِلْ
كُلُّ عَيْشٍ وَنَعِيمٍ زَائِل … وَبَنَاتُ الدَّهْرِ يَلْعَبْنَ بِكُلّ
أَبْلِغَا حَسانَ عَني آيَةً … فَقَرِيضُ الشّعْرِ يَشْفِي ذَا الْغُلَلْ
كَمْ تَرَى بالْجَر مِنْ جُمْجُمَةٍ … وَأَكُفٍّ قَدْ أُتِرَّتْ وَرِجِلْ
وسرابِيلَ حِسَانٍ عَرِيَتْ … عَنْ كُمَاةٍ أُهْلِكُوا فِي الْمُنْتَزَلْ
كَمْ قَتَلْنَا مِنْ كَرِيمٍ سَيدٍ … مَاجِدِ الجَدَيْنِ مِقْدَام بَطَلْ
صَادِقِ النَّجْدَةِ قَرْمٍ بَارعٍ … غَيْرِ ملْتَاثِ لَدَى وَقْعِ الأَسَلْ
فَسَلِ الْمِهْرَاسَ مَا سَاكِنُهُ … بَيْنَ أَقْحَافٍ وَهَامِ كَالْحَجَلْ
لَيْتَ أَشْيَاخِي بِبَدْرِ شَهِدُوا … جَزَعَ الْخَزْرَجِ مِنْ وَقْعِ الأَسَلْ
حِينَ حَكَتْ بِقُبَاءِ بَرْكَهَا … واسْتَحَزَ الْقَتْلُ فِي عَبْدِ الأَشَلْ
ثُم خَفُّوا عِنْدَ ذَاكُمْ رُقَّصاً … رَقَصَ الْحَفَّانِ يَعْلُو فِي الْجَبَلْ
فَقَتَلْنَا الضعْفَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ … وَعَدَلْنَا مَيْلَ بَدْرٍ فَاعْتَدَلْ
لاَ ألُومُ النفْسَ إِلا أَنَّنَا … لَوْ كَرَرْنَا لَفَعَلْنَا الْمُفْتَعَلْ
بسُيُوفِ الهِندِ تَغلُو هَامَهُم … عَلَلاً تَعلُوهُمُ بَعدَ نَهَل
فأجابه حسان بن ثابت: من الرمل:
ذهبَت يَابن الزبَعرَي وَقعَةٌ … كَانَ مِنا الفَضلُ فِيهَا لَو عَدَل
ولَقَد نِلتُم وَنلنَا مِنكُمُ … وَكَذَاكَ الحَربُ أَحيَاناً دُوَل
نَضَعُ الأَسيَافَ فِي أَكتَافِكُم … حَيثُ نَهوَى عَللاً بَعدَ نَهَل
نُخرِجُ الأَصبَحَ من أَستَاهِكُم … كَسُلاحِ النيبِ يَأكُلنَ العَصَل
إِذ تُوَلونَ عَلَى أَعقَابِكُم … هَرَباً فِي الشعبِ أَشبَاهَ الرّسَل
إِذ شددنَا شَدة صَادِقَةً … فَأَجَأناكُم إِلَى سَفحِ الجَبَل
بِخَنَاطِيلَ كَأَشدَافِ المَلاَ … من يُلاَقُوهُ مِنَ الناسِ يُهَل
ضَاقَ عَنا الشِّعبُ إِذ نَجزَعُهُ … وَمَلأَنَا الفُرطَ مِنهُ وَالرِّجل
بِرِجَالِ لَستُمُ أَمثَالَهُم … أُيدُوا جِبرِيلَ نَصراً فَنَزَل
وَعَلَونَا يَومَ بَدرِ بِالتقَى … طَاعَة الله وَتَصدِيق الرُسُل
وَقَتَلنا كُل رَأس مِنهُم … وَقَتَلنا كُل جَحجَاحٍ رفل
وَتَرَكنَا فِي قُرَيش عَورةً … يَومَ بَدر وَأَحَادِيثَ المثل
وَرَسُولُ اللهِ حَقاً شَاهِد … يَومَ بَدرٍ والتنَابِيلُ الهُبَل
في قريش من جُمُوعِ جَمعُوا … مِثل ما يُجمَعُ في الخِصبِ الهمَلْ
نَحنُ لا أَمثَالُكُم ولد استهَا … نَحضُرُ البَأسَ إِذَا البَأسُ نَزَل)( ).
واشرأبت الأعناق من الفريقين ، وصاروا ينظرون للمبارزة وكيفيتها ونتائجها وغاياتها ، إذ برز الإيمان إلى الكفر والضلالة , وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) وإرادة المؤمنين في كل زمان إذ أنهم يتطلعون إلى غلبة الإمام علي عليه السلام ، ويفرحون بهذه الغلبة .
ليكون من إعجاز الآية أعلاه إنقضاء الواقعة التي تذكرها الآية القرآنية مع بقاء موضوعها متجدداً إلى يوم القيامة ببيان مصداق الإيمان أو النفاق بكيفية تلقي وقائع معركة أحد، وفيه دعوة للمسلمين وأهل الحل والعقد، والمشرفين على إعداد المناهج الدراسية ببيان وجوه الإعجاز والمدد الإلهي في معركة أحد للمسلمين، وكيف أن معارك الإسلام دفاعية محضة .
وكانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة ، ولم تكن الراية الوحيدة في معسكر المشركين، ولكنها الأهم والأبرز لأن رئاسة الجيش تحتها ثم برز صاحبها للقتال .
ولما لم يبرز أحد لملاقاته أعاد التحدي (ونادى : يا محمد تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم إلى النار ونجهزكم بأسيافنا إلى الجنة، فمن شآء أن يلحق بجنته فليبرز إلي، فبرز إليه الإمام علي عليه السلام وهو يقول:
يا طلح إن كنتم كما تقول* لكم خيول ولنا نصول
فاثبت لننظر أينا المقتول * وأينا أولى بما تقول
فقد أتاك الاسد الصؤل * بصارم ليس به فلول
ينصره القاهر والرسول
فقال طلحة: من أنت يا غلام ؟ قال: أنا علي بن أبي طالب.
قال: قد علمت يا قضم ، أنه لا يجسر علي أحد غيرك.
فشد عليه طلحة فضربه فاتقاه الإمام علي عليه السلام بالحجفة( ) ، ثم ضربه أمير المؤمنين على فخذيه فقطعهما جميعا فسقط على ظهره، وسقطت الراية ، فذهب علي عليه السلام ليجهز عليه فحلّفه بالرحم)( ).
وطلحة هو كبش الكتيبة في رؤيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : بعد أن قتل طلحة، حمل لواء قريش أخاه عثمان بن أبي طلحة، فحمل عليه حمزة وقطع يده وكتفه وقتله، وقيل قتله الإمام علي عليه السلام، ويدل هذا الخبر على وقوع المبارزة قبل أن تشتد المعركة وقبل أن يترك الرماة موضعهم .
فمن عادات العرب في القتال أن يبدأ بالمبارزة الفردية بين فرسان الفريقين والظاهر أن عثمان بن أبي طلحة لم يطلب المبارزة مثلما فعل أخوه، إنما حمل ليقاتل دونه كفار قريش ولكن أهل البيت والصحابة عجلوا عليه نكالاً .
ثالثاً : بعد قتل عثمان بن أبي طلحة حمل اللواء أخوه سعيد بن أبي طلحة وهم من بني عبد الدار من قريش ، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم, فقتله .
رابعاً : حمل اللواء مسافع بن طلحة فقتل وكان أبوه أول من حمل اللواء.
خامساً : ثم حمل لواء المشركين الحارث بن طلحة فقتل .
سادساً : حمل اللواء كلاب بن طلحة ، فقتله الزبير بن العوام ( ).
سابعاً : ثم حمل لواء المشركين الحُلاس بن طلحة بن أبي طلحة فقتل .
ثامناً : ثم حمل لواء المشركين أرطاة بن شرحبيل فقتله الإمام علي عليه السلام .
تاسعاً : ثم حمله شريح بن قارظ فقتل .
عاشراً : ثم حمل اللواء صُواب وهو غلام حبشي لبني عبد الدار اختلف فيمن قتله ، هل قتله الإمام علي عليه السلام أم سعد بن ابي وقاص أم قُزمان ، وقطعت يد صُواب اليمنى فأخذ اللواء بيده اليسرى فاحتضن اللواء بذراعيه وعضديه (ثُمّ حَنَى عَلَيْهِ ظَهْرَهُ وَقَالَ يَا بَنِي عَبْدِ الدّارِ هَلْ أُعْذِرْت)( ).
ولما قتُل أصحاب اللواء كلهم انتاب الخوف معسكر المشركين ، وانكشفوا وهم يستعدون للفرار , ونساؤهم تولول وتدعوا بالثبور وهن يسارعن إلى الإبل.
وعن البراء بخصوص معركة أحد (قال: لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم جيشا من الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير، وقال: لا تبرحوا، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا.
فلما لقينا هربوا، حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة.
فقال عبد الله: عهد إلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألا تبرحوا.
فأبوا، فلما أبوا صرفت وجوههم)( ).
وكان أبو سفيان قد جعل خالد بن الوليد في مائتين من الخيالة خلف جيش المسلمين وأمرهم أن يأتوا المسلمين من الخلف.
وكلما تقدمت الخيل رشقهم الرماة بالنبال فرجعت الخيل فلما ترك أغلب الرماة موضعهم هجمت عليهم خيل المشركين وقتلوا عبد الله بن جبير رئيس الرماة وبضعة أفراد من المؤمنين بقوا معه فجاءوا إلى جيش المسلمين من الخلف .
وحينما قدم وحشي قاتل حمزة إلى المدينة لدخول الإسلام بعد فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة، وكان يخشى أن يقتله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقف على رأسه، ونطق بالشهادتين ، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أوحشي؟
قال : نعم يا رسول الله .
قال : أقعد ، فحدثني كيف قتلت حمزة .
فحدثه تفصيلاً , فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(وَيْحَك غَيّبْ عَنّي وَجْهَك ، فَلَا أُرَيَنّك.
قَالَ وحشي : فَكُنْتُ أَتَنَكّبُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ حَيْثُ كَانَ لِئَلّا يَرَانِي، حَتّى قَبَضَهُ اللّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ) ( ).
ترى لماذا لم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات القول لخالد بن الوليد الذي كان السبب في خسارة المسلمين يوم معركة أحد أو لغيره من قادة المشركين؟
الجواب ما يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الوحي والتنزيل فلا يصح الجدال فيه ، إنما يكون التباين في فعل النبي في الموضوع شبه المتحد مناسبة لاستقراء المسائل والمواعظ والعبر , وفيه المصلحة والنفع الخاص والعام , إذ أن الإسلام يجّب ما قبله، ثم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يمنع وحشي من الخروج في السرايا والدفاع ، وما أن تقادمت الأيام حتى قتل سليمة الكذاب على قول وبذات الكيفية .
لقد قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم توبة وإسلام كبار قريش ليجتهدوا في الجهاد والدفاع .
المسألة الثانية : في الصلة بين الآيتين( ).
إبتدأت آية السياق بحرف العطف الواو لاتصالها بالآية التي قبلها التي تتضمن الإخبار عن الخسارة الكبيرة التي نزلت بالمسلمين في معركة أحد بعدما تخلى الرماة عن موضعهم على الجبل مع تأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بعدم تركه بأي حال من الأحوال، وقد قال الله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ) لبيان قانون وهو عدم إنحصار صيغ الطاعة بالعبادات والفرائض إنما تشمل الأوامر الخاصة، والقواعد الكلية التي فيها سلامة الإسلام ونجاة المسلمين .
لقد تضمنت آية السياق والآية التي قبلها حقيقة تأريخية وهي نزول المصيبة بالمسلمين في معركة أحد ، ولكنها لم تكن هزيمة وانكساراً، ويدل على هذا المعنى آية البحث التي تؤكد للأجيال المتعاقبة من الناس خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلف العدو ، ويدل بالدلالة التضمنية على أمور :
الأول : عدم انشغال المسلمين بالتلاوم فيما بينهم بخصوص الخسارة والمصيبة .
الثاني : تفويض المسلمين أمورهم إلى الله عز وجل واسترجاعهم .
الثالث : رضا المسلمين بالمصيبة التي نزلت بهم لإخبار آية السياق بأنها لم تنزل بهم إلا بإذن الله عز وجل، وفيه دعوة لهم للتوكل على الله وهو الذي تجلى في اليوم التالي لمعركة أحد كما ورد في آية البحث إذ[قَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ).
الرابع : إقتباس المسلمين الدروس والمواعظ من معركة أحد لأن الله عز وجل جعله إختباراً لهم , ومن ضروب الإمتحان يومئذ .
وهل يمكن القول لو لم تقع مصيبة واقعة أحد لوقع أشد منها ، أو لما حقق المسلمون بعض الانتصارات التي حققوها .
الجواب لا دليل عليه، ولله المشيئة المطلقة، وهو قادر على أن يمحو المصيبة ويحقق للمسلمين أضعاف الإنتصارات التي حققوها .
ولكنه سبحانه أراد لهم الأجر والثواب، لذا أختتمت الآية السابقة بقوله تعالى[لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
ولم تبدأ آية البحث بحرف العطف ، ولكنها تتضمن العطف في المعنى والمضمون ، وقد يغير دخول الواو كحرف عطف المعنى ويجعله ينصرف إلى الغيرية ، فلو قالت الآية [والَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ] لأحتمل أنهم غير الذين ذكروا في الآية السابقة .
المسألة الثالثة : وردت آية السياق بصيغة الخطاب [وَمَا أَصَابَكُمْ ..] والمراد المسلمون ، بينما جاءت آية البحث بصيغة الجملة الخبرية وتتعلق بذات الموضوع مع تعدد الأطراف في الآية من جهات :
الأولى : المهاجرون والأنصار الذين بصحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : الناس الذين أخبروا أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن عزم المشركين الإجهاز عليهم .
الثالثة : جيش المشركين الذي كان منسحباً من معركة أحد في المدينة .
وهل إخبار الناس هذا للصحابة مما أذن الله عز وجل به كما في آية السياق أم لا، الجواب هو الأول، بلحاظ أن هذا الإخبار وما ترشح عنه مدرسة عقائدية.
وأيهما أشد على المسلمين ما أصابهم يوم معركة أحد الذي تذكره آية السياق أم التهديد والوعيد الذي تذكره آية البحث .
ومع أن المسلمين تلقوا التهديد وهم في سفر طويل والجراحات تتغشاهم، والدماء تسيل منهم، فان المصيبة التي لحقتهم في معركة أحد أشد وهي من أسباب تلقيهم التهديد والوعيد بصبغة الصبر والتقوى .
لبيان قانون وهو ترشح منافع معركة أحد من جهات :
الأولى : ساعة المعركة ، ونزول آيات قرآنية خاصة بالمعركة ، وتوثيق السماء لقانون نصرة الله للمسلمين في أول المعركة ، كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ] ( ).
الثانية : بيان علة خسارة المسلمين في معركة أحد ، ومنع المنافقين من القول : لو كان نبياً لما خسر المعركة.
إذ ترك الرماة موضعهم مع تأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بعدم تركه في أي حال من الأحوال.
لقد كانت وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرماة مدرسة في العلوم العسكرية لما فيها من الشمول والإطلاق والقطع ومنع اللبس والترديد والتخفيف عن أمير الرماة .
(وعن البراء قال : لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم جيشا من الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا)( ).
الثالثة : تفضل الله عز وجل بالعفو عن الرماة وغيرهم من المسلمين ممن قصّروا يوم معركة أحد لقوله تعالى[وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ]( ).
وهل من موضوعية لآيات القرآن في خروج المسلمين إلى حمراء الأسد ، الجواب نعم ، وهو من سبل هداية المسلمين إلى تلقي تخويفهم من جيش الذين كفروا بالتوكل على الله ، وتفويض الأمور إليه سبحانه.
الرابعة : حضور مصيبة المسلمين في معركة أحد في مبادرتهم إلى الخروج إلى حمراء الأسد ، ومن الإعجاز في قوله تعالى[وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]( ) عدم إنقطاع موضوعه بيوم معركة أحد بل هو مستمر ومتجدد في الأيام والمعارك اللاحقة.
وهل الآية أعلاه من أسباب بعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا، وعمومات قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( ) الجواب نعم.
فيرزق الله عز وجل المسلمين الصبر وحب التضحية في سبيله، والإمتناع عن الإستجابة لشروط الذين كفروا .
الشعبة الثانية : صلة آية البحث بالآيات المجاورة التالية ، وفيه وجوه :
الوجه الأول : صلة آية البحث بالآية التالية[فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ]( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : من الإعجاز في نظم الآيات في المقام إتحاد موضوع آية البحث وآية السياق .
لقد تعقب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مع قلة عددهم جيوش الذين كفروا إلى حمراء الأسد ، ولم يخشوا من كثرتهم ووعيدهم ، فتفضل الله وأنزل آية السياق متعقبة لآية تخويف الذين كفروا للمؤمنين ، ليكون من الأجر والثواب العاجل لهم ، وهو من مصاديق خاتمة الآية السابقة بالبشارة بالأجر العظيم ، إذ استجابوا لنداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بملاحقة جيوش العدو وكسر هيبتهم والإخبار بأنهم لم يحققوا انتصاراً في معركة أحد، وأن المسلمين لم يخسروا تلك المعركة، وليس من حصر للجهات التي يتم إخبارها بهذا القانون منها:
الأول : ذات جيش المشركين والمؤلف من ثلاثة آلاف رجل.
الثاني : أهل مكة رجالاً ونساءً ، وفيه دعوة لهم للإسلام ، وزاجر عن الخروج مع الذين كفروا في تعديهم وهجومهم على الإسلام .
الثالث : القبائل التي مرّ عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سواء في طريقهم إلى حمراء الأسد أو في عودتهم ، مع درس إيماني للجميع لما يظهره المؤمنون من حسن التوكل على الله واعتصامهم به سبحانه، مثلما لجأ مؤمن آل فرعون إلى الله كما ورد في التنزيل [وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ]( ) إذ توعده قومه بالإنتقام منه ، لأنه خالفهم واختار الإيمان بأنبياء بني إسرائيل ، وكان آل فرعون ينظرون لبني إسرائيل باستخفاف وأنهم أدنى منهم ، ومسخرون لخدمتهم كما يخبر القرآن عن آل فرعون[فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ]( ) والمراد من العبادة هنا الطاعة والتذلل والخشوع.
وهو من أسباب العتو والغرور عند فرعون إذ ساوى بين طاعة الناس لله وطاعة قومه له ، ولم يعلم أن الذي جاء به موسى عليه السلام غير تلك الطاعة ، إنما هو العبودية الحقة .
والخضوع التام والإستجابة المطلقة لله عز وجل، وحسن التوكل عليه، فأظهر واحد منهم التجاهر بتفويض أموره إلى الله عز وجل .
وفي قوله تعالى[فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ]( ) (عن ابن عباس قال : كانت الذرية التي آمنت بموسى من أناس بني إسرائيل من قوم فرعون، منهم امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وخازن فرعون ، وامرأة خازنه)( ).
والمختار أن المقصود من الذرية في الآية أعلاه هم ذرية قومه من بني اسرائيل، لبيان أن الشباب أكثر استجابة للبراهين والآيات التي يأتي بها الأنبياء وهم مستعدون للتضحية والفداء ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ) .
إذ يجمع المؤمنون بين أمور :
الأول : صدق الإيمان.
الثاني : التوكل على الله .
الثالث : الفتوة وهمة الشباب .
الرابع : الإستعداد للتضحية , لذا جاءت هذه الآيات بالثناء على الشهداء والإخبار عن حياتهم عند الله عز وجل من حين قتلهم .
وفي معركة أحد أصيب أحد المؤمنين وهو يزيد بن حاطب بسيوف وجور الذين كفروا ، وكانت إصابته بليغة، فنقل إلى دار بني ظفر وأخذ المسلمون يعودونه ، ويتفقدونه ، وصار في حال احتضار ، فأخذ المسلمون والمسلمات ينادونه : أبشر بالجنة يا ابن حاطب وكان أبوه من المنافقين ، قضى أكثر حياته بالكفر والجهالة فقال لهم (أجل! جنة من حرمل، غررتم والله هذا المسكين من نفسه!) ( ).
ومن غايات رؤساء قريش في معركة أحد أمور :
الأول : منع شباب مكة ذكوراً وأناثاً من دخول الإسلام .
الثاني : قتل أو أسر الشباب الذين آمنوا وخرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة أحد .
الثالث : تتبع المهاجرين كباراً وشباناً رجالاً ونساءاً لقتلهم أو إدخالهم مكة أسرى مقيدين ليكونوا عبرة وموعظة ، وليرى أهل مكة ضرباً من الثأر لشهداء بدر ، فأبطل الله مكرهم ، وأرجع كيدهم إلى نحورهم بأن جعلهم يرجعون خائبين لقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
المسألة الثانية : ذكرت آية البحث اسم الجلالة مرة واحدة بالإخبار عن توكل المهاجرين والأنصار عليه في ساعة الضيق ، بلحاظ كبرى كلية وهي تهديد وتخويف الذين كفروا لهم من الضيق والأذى لوجوه :
الأول : كثرة أفراد جيش الذين كفروا .
الثاني : قصد الذين كفروا البطش والإنتقام ، وهم موتورون .
الثالث : حال الجهالة التي تصاحب الشرك ومفاهيم الضلالة التي يصرون عليها .
الرابع : إجتماع الذين كفروا بهيئة الجيش وحرص رؤسائهم على عدم تضييع هذه الحال والمناسبة خاصة وان أكثر الجنود من غير قبيلة الرؤساء الذين هم من قريش .
الخامس : مناجاة الذين كفروا بالثأر والبطش والإنتقام من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وتحريض النساء اللائي تصاحب الجيش لهم، وقيامهن بانشاد الأهازيج وإلقاء القصائد والأشعار وندب قتلاهم في معركة بدر وأحد.
السادس : سعي وحرص كبار قريش على تأمين طريق التجارة بين مكة والشام ، وبين مكة واليمن خاصة بعد أن كانت علة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة بدر التعرض إلى قافلة أبي سفيان ، لأموال المهاجرين التي استولى عليها كفار قريش , قال تعالى [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ] ( ).
وذكرت آية السياق اسم الجلالة مرتين على نحو متصل (الله والله ) مع التباين في الموضوع الذي جاء كل منهما به ، وقد ورد في رسم القرآن على هذا النحو اثنتين وعشرين مرة .
المسألة الثالثة : ورد اسم الجلالة في آية البحث على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الإستجابة له سبحانه، واللجوء إليه من كيد وسعي الذين كفروا للإجهاز عليهم.
وهل هو من معاني قوله تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ]( ) .
الجواب القدر المتيقن من الآية أعلاه هو الغلبة والنصر في الميدان ، إنما بينت الآية إتخاذ المؤمنين سلاح التوكل على الله لدفع شرور الذين كفروا، إذ قالوا [حَسْبُنَا اللَّهُ] لبيان كفايته تعالى للمؤمنين فهو الذي أمرهم بالخروج وملاحقة العدو ، وهو سبحانه الذي يختار لهم أحد أمور :
الأول : النصر .
الثاني : الشهادة :
الثالث : العودة بأمان .
وقد تفضل الله عليهم بالأمر الثالث أعلاه ، إذ تبين آية السياق عودتهم من غير قتال لقوله تعالى[فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ]( ) فان قلت قد ورد قوله تعالى [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ] ( ) وهل هذا الإنقلاب والإنسحاب من وجوه النصر .
الجواب نعم وأن المراد من الآية أعلاه المعنى الأعم وخاتمة الأمور.
ومن الإعجاز في المقام ورود قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) بخصوص معركة بدر وأحد، وكأن هناك نوع ملازمة بين الآيتين أعلاه .
المسألة الرابعة : لقد فقد المسلمون سبعين شهيداً في معركة أحد ، وأخبر الله عز وجل عن كونها مصيبة عظمى ألمت بهم بقوله [أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا] ( ) أي كما قتل المسلمون سبعين من المشركين يوم بدر ، فقد قُتل من المسلمين يوم أحد بعددهم , وامتاز المسلمون بأن أسروا سبعين من المشركين لعظيم فضل الله عز وجل عليهم.
ومن الإعجاز في الآية أعلاه إختتامها بقوله تعالى [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) لبيان البشارة للمسلمين بالنصر ولحثهم على الدعاء والصبر والمرابطة ، وحسن التوكل على الله .
ومن معاني ومنافع خاتمة الآية أعلاه بلحاظ آية البحث أمور :
الأول : الإمتثال لأمر الله عز وجل في الخروج طاعة له سبحانه , وقربة إليه .
الثاني : تسليم المسلمين بعدم استعصاء شئ على الله عز وجل ، فكل الأشياء حاضرة عنده , مستجيبة لأمره ، وفي التنزيل [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ) .
الثالث : بلوغ المسلمين مرتبة اليقين بأن الله عز وجل قادر على صرف ما يتوعد به الناس المسلمين .
الرابع : غبطة المهاجرين والأنصار بوجود النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم ، ليكون من معاني الآية أعلاه وجوه :
أولاً : ان الله على نصر نبيه محمد قدير .
ثانياً : ان الله على صرف شرور الذين كفروا قدير .
ثالثاً : ان الله على تفريق جمع الذين كفروا قدير .
رابعاً : ان الله سبحانه على بعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا قدير .
خامساً : ان الله على بعث الفرقة والخلاف بين الذين كفروا قدير .
سادساً : ان الله على هزيمة وخذلان الذين كفروا قدير ، لذا تفضل الله عز وجل بقوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
الوجه الثاني : صلة آية البحث بقوله تعالى [وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : تدل آية البحث بالدلالة التضمنية على وجود جيش للذين كفروا ، ولم يكن آنذاك اختصاص بالقتال ووجود وزارة خاصة به ، وتنظيم يضم الجنود ، إنما كان الجميع يخرج للنفير والقتال ، فرؤساء الكفر هم أنفسهم يقودون الجيش في معركة أحد ، وهم يعملون بالتجارة وينتقلون بالإبل بين مكة والشام ، ومكة واليمن ، ويتولون سدانة البيت ، ولهم الوجاهة الإجتماعية .
فجاءت آية البحث لتخبر عن كثرة جمعهم وأنهم يطلبون القتال ، والجامع المشترك بينهم هو الكفر والضلالة ، فقد طرحوا جانباً الخلافات والثأر بينهم ، فنزلت آية السياق لبعث السكينة في نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونفوس المسلمين .
لتصير هذه السكينة نوع طريق للجوئهم إلى الله , وتوكلهم عليه , ووسيلة مباركة لجلب وتثبيت السكينة في النفوس ، وهل يلزم الدور في المقام ، الجواب لا ، لكثرة أفراد ومراتب السكينة .
وتبين آية البحث ارتقاء المسلمين في المعارف الإلهية ، إذ أظهروا التوكل على الله في ساعة تهديد العدو لهم ، وفضل الله لأخبار جيش الذين كفروا من قريش من جهة كثرة الأفراد والأسلحة والمؤن مع قلة عدد المسلمين الذين مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معاني [فَاخْشَوْهُمْ] أي اخشوهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه نكتة ، وهي صيرورة عامة الناس يحرصون على سلامة النبي باللسان واليد .
ومن مصاديق نزول السكينة مع الآية القرآنية ورود النهي عن الحزن في آية السياق مع تعيين علة هذا الحزن ، وهي إصرار رؤساء قريش على الكفر والجحود وقيامهم بحشد الجيوش والزحف على المدينة المنورة لإستئصال الإسلام .
المسألة الثانية : هل يمكن تقدير الجمع بين الآيتين : الذين قال لهم الناس إن الناس يسارعون في الكفر ) .
الجواب نعم ، فليس من كيفية للمسارعة في الكفر من تجهيز الجيوش لمحاربة رسول الله والمؤمنين الذين معه ، وهو أمر يحزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : الذين يهجمون لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم عشيرته وأهله .
الثانية : إمتناع المشركين من قريش عن دخول الإسلام مع قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بانذارهم ، قال تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( ).
وهل إنذار عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الله , أم لتلقي الأمر بخصوص قول وفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب هو الأول فكل آية قرآنية مكية أو مدنية هي إنذار لهم خاصة الآيات والسور المكية التي تتضمن التخويف والوعيد والتذكير بيوم القيامة وعذاب الذين كفروا الأليم يومئذ .
الثالثة : من إعجاز القرآن أن سورة آل عمران مدنية ومع هذا فهي تتضمن الإنذار والوعيد للذين كفروا , ليشمل الذم المنافقين لإخفائهم وابطانهم الكفر , ولبيان حقيقة تأريخية وهي بقاء الكفر وشدة بأس رجاله حتى بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
المسألة الثالثة : لا يختص لفظ[الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ]( ) بجيش الذين كفروا من قريش بل يشمل المنافقين والذين ينصرون جيش الذين كفروا ويرغبون بالكفر وبقاء سلطانه ومفاهيمه ومظاهره ومنها وجود الأصنام واللجوء إليها والإسترزاق بها .
وإبتدأت آية السياق بالخطاب إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتضمن هذا الخطاب النهي عن حالة قلبية تتجلى بالإنقباض والحسرة على إختيار طائفة من الناس الكفر والضلالة مع توالي وتجدد معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتحتمل الآية وجوهاً:
الأول : إرادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنهي عن الحزن، وهو الظاهر من لغة الخطاب.
الثاني : إلحاق المسلمين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيشملهم جميعاً النهي عن الحزن بسبب إقامة الذين كفروا على الجحود والضلالة.
الثالث : المقصود عموم المسلمين، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يحزن على الذين كفروا لعلمه بالعذاب الأليم الذي أعدّه الله لهم.
وتقدير الآية على وجوه:
الأول : ولا يحزنك يا محمد الذين يسارعون في الكفر.
الثاني : ولا يحزنك أنت والمؤمنين قبح فعل الذين يسارعون في الكفر.
الثالث : ولا يحزنكم الذين يسارعون في الكفر.
ومن معاني الجمع بين الآيتين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يحزنوا بسبب الجراحات الأليمة التي ألمت بهم، ولم يحزنوا بسبب تخويف الناس لهم من الذين كفروا، إنما حزنوا من الذين كفروا لجفائهم وعنادهم وضلالتهم ، وللعذاب الأليم الذي ينتظرهم في عالم الآخرة.
المسألة الرابعة : تبين آية السياق قانوناً يتغشى الوقائع التي تدل عليها آية البحث، وهو أن الذين كفروا لن يضروا المؤمنين شيئاً، فأما الشهداء فقد أخبرت هذه الآيات عن فوزهم بالحياة الأبدية في دار الخلد والنعيم، وأما المهاجرون والأنصار الذين بقوا أحياء بعد معركة أحد فأنهم يجتهدون في طاعة الله ورسوله وأخبرت آية البحث عن خروجهم خلف العدو وجيش الذين كفروا مطاردين له.
ومن معاني الآية إمتناع المؤمنين عن الإرتداد فقد كان بعض المنافقين الفاسقين يرجونه من هجوم الذين كفروا وشدة قتالهم وإصرارهم على إستئصال الإسلام، فجاءت آية السياق لمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحزن على مسارعة الذين كفروا بالضلالة، مما يدل بالأولوية القطعية إنتفاء أسباب الحزن فيما يخص المسلمين في ثباتهم على دينهم، لأن هذا الثبات مجلبة للسعادة والغبطة وهو من معاني الجمع بين الآيتين لأن صبر وجهاد الصحابة وإمتناعهم عن الخوف والخشية من الذين كفروا مناسبة لغبطة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدم حزنه على الذين كفروا ووعيدهم وتهديدهم.
وتجلت المسارعة في الكفر بهجوم كفار قريش على المدينة لقتل النبي وأصحابه , وفي قوله تعالى[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ]( )، قال ابن عباس: هم المطعمون يوم بدر)( ).
والمراد من المطعمين أي رؤساء قريش الذين قاموا بإطعام الجيش المتوجه إلى معركة بدر وهم اثنا عشر رجلاً، (وهم :
الأول : أبو جهل .
الثاني : أمية بن خلف .
الثالث : العباس بن عبد المطلب .
الرابع : عتبة بن ربيعة .
الخامس : الحارث بن عامر بن نوفل .
السادس : طعيمة بن عدي بن نوفل .
السابع : أبو البَخْترِي .
الثامن : العاصي بن هاشم .
التاسع : حكيم بن حزام .
العاشر : النضر بن الحارث .
الحادي عشر : نُبَيْه بنُ حجاج السهمي أخوه مُنَبه.
الثاني عشر : سهيل بن عَمرو العامري .
كانوا يطعمون في كل يوم عشر جزائر)( ).
الوجه الثالث : صلة آية البحث بقوله تعالى [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ] ( ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لقد أنزل الله عز وجل القرآن رحمة للناس ومدداً وعوناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين .
وجاءت آية السياق بالوعيد والتخويف للذين كفروا ، وفيه بلحاظ آية البحث زاجر لهم عن إعادة الكرّة في القتال ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ومانع من إمضاء وعيدهم بالرجوع إلى القتال مرة أخرى .
لقد تضمنت آية البحث الإخبار عن استعداد وتهيئ جيش الذين كفروا للعودة إلى القتال ، وليس أمامهم من جيش مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوى مائتين وخمسين .
فأنزل الله عز وجل آية السياق لمنع المشركين من العودة للقتال وليصيروا في حال التفكر بسوء العاقبة الذي ينتظرهم بسبب كفرهم بالله وجحودهم بالنبوة والتنزيل .
المسألة الثانية : لقد أنعم الله عز وجل على قريش بالمال والجاه ببركة جوار البيت الحرام ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
فمن البركة كثرة المال عند سدنته ومجاوريه ، والجاه الرفيع لهم بين القبائل وخارج الجزيرة ، إذ كان رجالات قريش معروفين عند حاشية ملك الروم ، وفي بلاط كسرى وتوارثوا هذه النعم وفيوضات البركة ، فمالوا عن جادة الهدى ، واختاروا عبادة الأصنام ، فبعث الله عز وجل النبي محمداً لهدايتهم إلى الإسلام وسنن التوحيد لتدوم عليهم النعم ولكنهم جحدوا برسالته وسخروا الأموال التي رزقهم الله , والجاه الذي يتنعمون به لمحاربته وقتاله .
وقد آذوه وأهل بيته وأصحابه في مكة فاختاروا الهجرة إلى المدينة وابتعد عن قريش مسافة نحو خمسمائة كيلو متراً ،ولكنهم أصروا على ملاحقته ومحاربته ولو كان رجالات قريش فقراء فهل يستطيعون إحضار ثلاثة آلاف رجل لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحمل نفقات الجيش لمدة شهر بالذهاب من مكة إلى المدينة والعودة منها عدا الأموال التي دفعوها لرؤساء القبائل يستميلونهم إلى جانبهم والأموال التي أعطوها للشعراء لقاء القاء القصائد الحماسية التي تهيج الناس وتبعث في نفوسهم الرغبة في القتال .
الجواب لا يستطيعون إحضار هذه الجيوش لذا فمن الإعجاز بالجمع بين آية البحث والسياق بيان قانون وهو لزوم الشكر لله عز وجل على النعم بعدم تسخيرها لمحاربة الإسلام وبعث الفتنة بين المسلمين .
المسألة الثالثة : لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان واختبار، ومن وجوه الإمتحان فيها مجئ الأموال والرزق الواسع للفرد والجماعة والفرقة والدولة ليرى الله عز وجل كيف يعملون بتلك الأموال ،وقد أنعم الله عز وجل على قريش بجوار البيت الحرام ، وهذا الجوار لطف من عند الله وسبب لتقريبهم إلى طاعة الله والتصديق بمعجزات النبوة ، ولكنهم إختاروا الكفر والضلالة ، فلم يحجب الله عز وجل عنهم الأرزاق ، ولكن بعث لهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم نبياً ورسولاً هادياً إلى طاعة الله عز وجل .
(عن عليّ بن أبي طالب: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) ( ) دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لي: “يا عليُّ، إنَّ الله أمَرَنِي أنْ أُنْذِرْ عَشِيرَتِي الأقْرَبِين” .
قال: “فضقت بذلك ذرعا، وعرفت أني متى ما أنادهم بهذا الأمر أَرَ منهم ما أكره، فصمتُّ حتى جاء جبرائيل، فقال: يا محمد، إنك إلا تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربك. فاصنع لنا صاعا من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عسا من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب، حتى أكلمهم، وأبلغهم ما أمرت به”، ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه، فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب .
فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به. فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حِذْية من اللحم فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصحفة .
قال: “خذوا باسم الله”، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة، وما أرى إلا مواضع أيديهم; وايم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد ليأكل ما قدمت لجميعهم .
ثم قال: “اسْقِ النَّاسَ”، فجِئْتُهُمْ بذلك العس، فشربوا حتى رووا منه جميعا، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله; فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكلمهم، بدره أبو لهب إلى الكلام، فقال: لَهَدَّ ما سحركم به صاحبكم، فتفرّق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال: “الغد يا عليّ، إن هَذَا الرَّجُل قدْ سَبَقَنِي إلى ما قَدْ سَمِعْتَ مِنَ القَوْلِ، فَتفرّق القوم قبلَ أنْ أُكَلِّمَهُمْ فأعِدَّ لَنا مِنَ الطَّعَامِ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ، ثُمَّ اجْمَعْهُمْ لِي”، قال: ففعلت ثم جمعتهم، ثم دعاني بالطعام، فقرّبته لهم، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة .
قال: “اسقهم”، فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا منه جميعًا، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: “يا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ، إنِّي والله ما أعْلَمُ شابا فِي العَرَبِ جَاءَ قَوْمَهُ بأفْضَلَ ممَّا جئْتُكُمْ بِهِ، إنّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ .
وَقَدْ أمَرَنِي الله أنْ أدْعُوكُمْ إلَيْهِ، فَأيُّكُمْ يُؤَازِرُني عَلى هَذَا الأمْرِ، عَلى أنْ يَكُونَ أخِي”وكَذَا وكَذَا؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعا، وقلت وإني لأحدثهم سنا، وأرمصهم عينا، وأعظمهم بطنا، وأخمشهم ساقا. أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك، فأخذ برقبتي .
ثم قال : “إن هذا أخي “وكذا وكذا ، “فاسمعوا له وأطيعوا” ، قال : فقام القوم يضحكون ، ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع) ( ).
وهل يختص الإمتحان في واقعة أحد بالمشركين وجحودهم أم يشمل المهاجرين والأنصار ، الجواب هو الثاني ، إذ بينت آية البحث التوفيق الذي فاز به المهاجرون والأنصار بأعلانهم التوكل على الله واللجوء إليه في المهمات ، وفيه نكتة وهي صرف الله البلاء عن المؤمنين ، مما يدل على قصر مدة الإمتحان للمؤمنين وطولها ومشقتها للذين كفروا .
ويصاحب الإمتحان في الدنيا اللطف من عند الله عز وجل بالناس جميعاً ، وهذا اللطف من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً .
وورد في يوسف عليه السلام قوله تعالى [وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ] ( ) فذات البرهان لطف من الله يتعظ منه شطر من الناس ، وقد تجلى في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتعدد البراهين التي تكون حاضرة في الوجود الذهني عند الناس جميعاً حضوراً متبايناً .
نعم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة مهاجراً إلى المدينة حتى شاعت بين أهل مكة المعجزات التي جرت على يديه ، إلى جانب قانون وهو كل آية من القرآن معجزة بذاتها .
والمعجزة في الإصلاح هي كل أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدي وسالم من المعارضة .
ومن اللطف الإلهي في المقام أن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عقلية وحسية ، فالعقلية آيات القرآن .
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحسية حينما سألت قريش النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أن يريهم آية تدل على صدق نبوته أراهم انشقاق القمر .
(عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة ، فقالوا : انتظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم ، فجاء السفار فسألوهم فقالوا : نعم قد رأيناه فأنزل الله { اقتربت الساعة وانشق القمر } .) ( ).
وفي مكة كان الإسراء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آية كونية ومعجزة حسية وثقها القرآن لتكون معجزة عقلية باقية إلى يوم القيامة ، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] ( ) لبيان أن هذه المعجزات رحمة ولطف من عند الله ، ولا يقدر عليها غيره سبحانه ، فلا تستطيع الملائكة نقل نبي أو غيره في عالم الملكوت إلا بأمر من عند الله .
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مصارع القتلى من قريش قبل معركة بدر ، إذ كان يقول هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان ، فلما وقع القتال بين الفريقين في صبيحة اليوم التالي وهو السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة سقط هؤلاء القتلى في ذات الموضع .
ثم خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جوف الليل وصار يخاطبهم ويوجه لهم اللوم مع أنهم قتلى .
(عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ سَمِعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ وَهُوَ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ ، يَا عُتْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ وَيَا شَيْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَيَا أُمَيّةُ بْنَ خَلَفٍ ، وَيَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ ، فَعَدّدَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي الْقَلِيبِ : هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبّكُمْ حَقّا ، فَإِنّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبّي حَقّا ؟ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَتُنَادِي قَوْمًا قَدْ جَيّفُوا ؟ قَالَ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أنُ يُجِيبُونِي .
قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ يَوْمَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ بِئْسَ عَشِيرَةُ النّبِيّ كُنْتُمْ لِنَبِيّكُمْ ، كَذّبْتُمُونِي وَصَدّقَنِي النّاسُ وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النّاسُ , وَقَاتَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي النّاسُ ثُمّ قَالَ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبّكُمْ حَقّا ؟ لِلْمَقَالَةِ الّتِي قَالَ .
[ شِعْرُ حَسّانَ فِيمَنْ أَلَقُوا فِي الْقَلِيبِ ]
قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ
عَرَفْتُ دِيَارَ زَيْنَبَ بِالْكَثِيبِ … كَخَطّ الْوَحْيِ فِي الْوَرَقِ الْقَشِيبِ
تَدَاوَلُهَا الرّيَاحُ وَكُلّ جَوْنٍ … مِنْ الْوَسْمِيّ مُنْهَمِرٍ سَكُوبِ
فَأَمْسَى رَسْمُهَا خَلَقًا وَأَمْسَتْ … يَبَابًا بَعْدَ سَاكِنِهَا الْحَبِيبِ
فَدَعْ عَنْك التّذَكّرَ كُلّ يَوْمٍ … وَرُدّ حَرَارَةَ الصّدْرِ الْكَئِيبِ
وَخَبّرَ بِاَلّذِي لَا عَيْبَ فِيهِ … بِصِدْقِ غَيْرِ إخْبَارِ الْكَذُوبِ
بِمَا صَنَعَ الْمَلِيكُ غَدَاةَ بَدْرٍ … لَنَا فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ النّصِيبِ
غَدَاةَ كَأَنّ جَمْعَهُمْ حِرَاءٌ … بَدَتْ أَرْكَانُهُ جُنْحَ الْغُرُوبِ
فَلَاقَيْنَاهُمْ مِنّا بِجَمْعٍ … كَأُسْدِ الْغَابِ مُرْدَانٍ وَشِيبِ
أَمَامَ مُحَمّدٍ قَدْ وَازَرُوه … عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي لَفْحِ الْحُرُوبِ
بِأَيْدِيهِمْ صَوَارِمُ مُرْهَفَاتٌ … وَكُلّ مُجَرّبٍ خَاظِي الْكُعُوبِ
بَنُو الْأَوْسِ الْغَطَارِفُ وَازَرَتْهَا … بَنُو النّجّارِ فِي الدّينِ الصّلِيبِ
فَغَادَرْنَا أَبَا جَهْلٍ صَرِيعًا … وَعُتْبَةَ قَدْ تَرَكْنَا بِالْجَبُوبِ
وَشَيْبَةَ قَدْ تَرَكْنَا فِي رِجَالٍ … ذَوِي حَسَبٍ إذَا نُسِبُوا حَسِيبِ
يُنَادِيهِمْ رَسُولُ اللّهِ لَمّا … قَذَفْنَاهُمْ كَبَاكِبَ فِي الْقَلِيبِ
أَلَمْ تَجِدُوا كَلَامِي كَانَ حَقّا … وَأَمْرُ اللّهِ يَأْخُذُ بِالْقُلُوبِ ؟
فَمَا نَطَقُوا ، وَلَوْ نَطَقُوا لَقَالُوا … صَدَقْتَ وَكُنْتَ ذَا رَأْيٍ مُصِيبِ) ( ).
ويمكن تقسيم خطابات النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقسيماً استقرائياً إلى قسمين :
الأول : الخطابات المكية .
الثاني : الخطابات المدنية .
وكذا بالنسبة للسنة القولية والفعلية إلحاقاً لها بتثبيت آيات القرآن وتقسيمها إلى مكي ومدني ، وهل خطابات النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقتلى بدر من المشركين مدني لأنه وقع بعد الهجرة النبوية أم أنه مكي تبعاً لموضوعه وان المخاطبين من أهل مكة ، الجواب لا مانع من إجتماع الأمرين معاً .
وفي سورة الفاتحة قيل أنها نزلت في مكة مرة أخرى فهي مكية ومدنية ، نسبه القرطبي إلى القيل ( )، وهذه النسبة تضعيف للقول , ونسبة الرازي إلى بعض العلماء ( ).
وأن تعدد التنزيل سبب لتسميتها بالمثاني لتثنية نزولها ، ولا دليل عليه .
ونسب إلى أبي هريرة وعطاء بن يسار ومجاهد والزهري وغيرهم أن سورة الفاتحة مدنية .
والمختار أن سورة الفاتحة مكية وقراءتها ملازمة للصلاة قبل الهجرة ، وبه قال الإمام علي عليه السلام ، وابن عباس والإمام علي بن الحسين، والإمام جعفر الصادق وقتادة وسعيد بن جبير ، وقال تعالى [وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ] ( ) والآية أعلاه من سورة الحجر والإجماع على كونها مكية .
إعجاز الآية الذاتي
لقد إبتدأت آية البحث بقول صادر من طائفة من الناس موجه إلى المسلمين الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد في اليوم التالي لمعركة أحد متعقبين لجيش الذين كفروا ، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معهم يومئذ ، فلماذا لم يتوجه كلام الناس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالذات .
الجواب تبين آية البحث صبر وجهاد المهاجرين والأنصار , وطاعتهم لله ورسوله .
وتكرر في الآية لفظ الناس من جهتين :
الأولى : طائفة من الناس تحذر المسلمين .
الثانية : جيش الكفار الذي يريد الإجهاز على المسلمين .
وهل يصح تقدير الآية : الناس الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم).
الجواب نعم، ولكن الآية أكرمت المسلمين بذكرهم بالاسم الموصول (الذين) والمعطوف وفق نظم الآيات على مضامين الآية السابقة.
وتقدير الجمع بينهما: الذين استجابوا لله والرسول قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم).
لبيان قانون وهو أن الإستجابة لله والرسول في فعل مخصوص عصمة من المعصية في الفعل اللاحق له، ولإرادة بيان فضل للمسلمين في الصبر والتقوى ، ونعتهم (بالذين) في آية البحث من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
وهل يدل تكرار لفظ الناس في آية البحث على أنه لو إجتمع الكفار في ذات الوعيد على الذين آمنوا لم يستطيعوا قهرهم وهزيمتهم، الجواب نعم، فقد يفكر بعض الذين كفروا من قريش أو حلفاؤهم بمشاغلة المسلمين ومباغتتهم فأخبرت آية البحث بأن الله عز وجل قد سلّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من شرور قريش وأعوانهم.
وهذا المعنى من أسرار تكرار لفظ الناس في الآية مع تجلي التباين بين المقصود من كل لفظ منها ومن معانيها في قوة العدو وتجهيزه وقصده البطش فالذين نقلوا خبر عزم جيش قريش وحلفائهم على الإجهاز على المسلمين قد رأوا أعداد هذا الجيش وكثرته، ثم رأوا قلة الصحابة الذين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ وهم في طريقهم إلى حمراء الأسد فخوّفوهم بجيش قريش فلم يرجعوا ، ولم يهمّوا بالرجوع والقعود إنما قالوا ( حسبنا الله ونعم الوكيل).
ليكون من الإعجاز في المنافع الغيرية للآية القرآنية نزول قوله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ]( ) بخصوص معركة أحد، إذ همت طائفتان هما (بنو حارثة وبنو سلمة)( ) بالضعف والوهن، ولم يهنوا لأن الهم أول النية، وإرادة العزم ولا يصل إلى الفعل وتنجزه إلا مع القرينة الدالة عليه.
وكان النبي قد أمر أصحابه يومئذ بعدم الإبتداء بالقتال ، وقال (لا يُقَاتِلَنَّ أَحَدٌ حتى نَأْمُرَهُ بِالْقِتَالِ)( ) ولم تكن هذه الوصية خاصة بمعركة أحد، إنما هي عامة في معارك الإسلام ، ولا يأتي الأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالوحي والتنزيل , وهو من أسباب المدد والنصر من عند الله عز وجل .
ولم تذكر آية البحث التحذير الذي جاء للمسلمين بصيغة المبني للمجهول(الذين قيل لهم) إنما ذكرت الفاعل والقائل وأنهم الناس، لبيان إعجاز خاص بالآية وهو أن المسلمين لم يتناجوا بينهم بأن الكفار جمعوا لهم وأنهم يخشون على أنفسهم والكفار كما في قوله تعالى[وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ]( )، لتنزيه المسلمين عن تخويف بعضهم بعضاً، وسيأتي مزيد كلام في باب التفسير( ).
ويمكن تسمية آية البحث [قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ]( ) ولم يرد لفظ[قَدْ جَمَعُوا] ولفظ[جَمَعُوا لَكُمْ] إلا في آية البحث لبيان الأذى الذي لاقاه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المشركين.
إعجاز الآية الغيري
تبين آية البحث قانوناً وهو شيوع أمر الإسلام وأن الناس صاروا يعرفون ويغبطون المسلمين بإيمانهم وانقيادهم لأوامر الله ورسوله وهو من الإعجاز في نظم هذه الآيات ومجيء آية البحث بعد آية الإستجابة لله والرسول ، فأدرك الناس أن المسلمين يعلمون بالوحي ومنهاج التنزيل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) .
لقد ورد بخصوص الملائكة قوله تعالى [وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ) وكان حقاً للملائكة أن يحتجوا على فساد الإنسان في الأرض ، وسفكه الدماء ، فتفضل الله عز وجل واحتج عليهم بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) لتتجلى صفحة مشرقة في صلاح الإنسان وعمارته الأرض بالتقوى والطاعة لله عز وجل ولرسوله فصاروا يفعلون ما يأمرهم الله ورسوله .
وهل يصح القول أن الملائكة يفعلون ما يؤمرون مع سلامتهم من التعدي عليهم بينما الصحابة استجابوا لله ولرسوله مع كثرة جراحاتهم ، الجواب أن الملائكة أسمى مرتبة لأن طاعتهم لله عز وجل مستديمة ومنبسطة على آنات الزمان كلها ، وأنهم عقول بلا شهوة ، ولكن المهاجرين والأنصار بلغوا مرتبة رفيعة في مصاديق الخلافة في الأرض .
لتكون ذات الإستجابة حرباً على الفساد , وبرزخاً دون الظلم والتعدي ، وبين الفساد والظلم عموم وخصوص مطلق , فكل ظلم هو فساد وليس العكس .
وهل هجوم الذين كفروا في معركة أحد من الفساد أم من الظلم ، الجواب إنه منهما معاً ، لبيان حاجة أهل الأرض إلى رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول آيات القرآن لبيان أحكام الشريعة ، ووجود أمة من الصحابة تجتهد وتجاهد في سبيل الله وتدافع عن كل من :
الأول : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : الرسالة السماوية بالشريعة السمحاء .
الثالث : التنزيل وحفظ آيات القرآن ، وجعلها إرثاً عقائدياً وتركة للتابعين وتابعي التابعين ، فمن الآيات أن وظيفة المهاجرين والأنصار في المقام لا تنحصر بترك التنزيل ارثاً لخصوص التابعين .
وتدعو الآية الناس عموماً إلى عدم طاعة رؤساء الكفر والطواغيت ، بلحاظ كبرى كلية وهي أن المسلمين مع قلة عددهم لم يخشوا جحافل الذين كفروا ، وإذا امتنع الناس عن نصرة رؤساء الكفر فأنهم لا يستطيعون محاربة الرسالة والتنزيل ، وعادة ما يختفي الطواغيت خلف عامة الجنود الذين يتولون مزاولة القتال.
الآية سلاح
من قوانين الإرادة التكوينية التي تفضل الله عز وجل بها وعصمها من التبديل أو التغيير أو التحريف ومنع الناس من نسيانها أو الغفلة منها أن الآية القرآنية سلاح وحرز وواقية من جهات :
الأولى : رسم الآية القرآنية .
الثانية : صلة الآية القرآنية بآيات القرآن الأخرى ، وإذا كان عدد آيات القرآن هو (6236) آية فهل تكون هذه الصلة (6235) سلاحاً لكل آية قرآنية ، الجواب أنها أكثر بكثير من هذا الرقم بلحاظ أمور :
الأول : دلالة صلة الشطر من الآية القرآنية بالشطر من آية أخرى .
الثاني : صلة كلمة من الآية القرآنية بكلمات وجمل الآيات الأخرى .
الثالث : المعاني المستقرأة من الصلة بين شطر من الآية القرآنية بآية قرآنية أخرى على نحو العموم المجموعي .
الرابع : صلة الآية القرآنية بآيات القرآن الأخرى، لبيان اللامتناهي في مضامين صلات الآية القرآنية( ).
الخامس: صلة مفهوم الآية القرآنية بمنطوق الآيات القرآنية الأخرى .
السادس : العلوم المستقرأة من الصلة بين كل آيتين من القرآن .
السابع : الأحكام المستنبطة من الصلة بين كل آيتين من القرآن .
الثامن : سنخية السلاح الذي يتجلى من مضامين الآية القرآنية ، لتكون هذه العلوم من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
ويكون تقديرها ، وأن تعدوا نعمة الله في الأسلحة المستقرأة من الآية القرآنية لا تحصوها .
التاسع : صلة شطر من الآية القرآنية بشطر من آية أخرى( ).
الثالثة : منطوق الآية القرآنية ومعانيها , وهي على وجوه :
الأول : المعاني الثابتة ومن خصائصها أنها لا تبلى .
الثاني : المعاني المستقرأة من جمع ذات الآية القرآنية مع آيات القرآن الأخرى .
الثالث: المفاهيم المستحدثة من مضامين الآية القرآنية والصلة بين أولها ووسطها وآخرها .
الرابع : دلالات الآية القرآنية .
الخامس : ما يدركه ويفقهه المسلمون من تلاوة الآية القرآنية ، ومن الإعجاز في شريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلاوة كل مسلم ومسلمة لآيات من القرآن عدة مرات كل يوم على نحو الوجوب العيني ، وهذه التلاوة على شعبتين :
الأولى : القراءة الثابتة في كل صلاة وهي سورة الفاتحة ، ومن الإعجاز في المقام أن كل آية من سورة الفاتحة موضوع للتدبر واستقراء المسائل .
وعن الإمام علي عليه السلام قال( فاتحة الكتاب أعطاها الله محمدا صلى الله عليه وآله وأمته، بدأ فيها بالحمد والثناء عليه، ثم ثنى بالدعاء لله عز وجل .
ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: قال الله عز وجل: قسمت الحمد بيني وبين عبدي: فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد: (بسم الله الرحمن الرحيم) قال الله عز وجل: بدأ عبدي باسمي حق علي أن اتمم له اموره، وابارك له في أحواله، فإذا قال[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ).
قال الله عز وجل: حمد لي عبدي، وعلم أن النعم التي له من عندي، والبلايا التي اندفعت عنه بتطولي، اشهدكم أني اضيف له نعم الدنيا إلى نعيم الاخرة، وأدفع عنه بلايا الاخرة، كما دفعت عنه بلايا الدنيا، فإذا قال:[الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ]( ) قال الله عز وجل: شهد لي بأني الرحمن الرحيم اشهدكم لاوفرن من رحمتي حظه، ولاجزلن من عطائي نصيبه، فإذا قال[مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ]( ).
قال الله عز وجل: اشهدكم كما اعترَف بأني أنا المالك ليوم الدين، لاسهلن يوم الحساب حسابه، ولاتقبلن حسناته، ولاتجاوزن عن سيئاته. فإذا قال العبد[إِيَّاكَ نَعْبُدُ]( ).
قال الله عز وجل: صدق عبدي إياي يعبد، لاثيبنه عن عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي، فإذا قال: (وإياك نستعين) قال الله عز وجل بي استعان وإلى التجأ، اشهدكم لاعيننه على أمره ولاغيثنه في شدايده، ولاخذن بيده يوم القيامة عند نوائبه.
وإذا قال[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، إلى آخرها، قال الله عز وجل: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل، قد استجبت لعبدي، وأعطيته ما أمل، وآمنته مما منه وجل)( ).
الثانية : القراءة المختارة إذ يحق للمسلم قراءة سورة أخرى او ثلاث آيات أو أكثر من سورة قرآنية أخرى بعد الفاتحة .
وهذا الإختيار لطف من عند الله، وإكرام للمسلم، وترغيب له باختيار الآيات التي يتدبرها ويتعظ منها .
مفهوم الآية
إبتدأت الآية بذكر المهاجرين والأنصار بقوله تعالى[الَّذِينَ] وهل يدخل فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتوجه قول الناس في آية البحث له ولأصحابه أم أن الآية تحكي حال الصحابة خصوصاً بعد مجئ الآية السابقة التي تتضمن الإخبار عن استجابتهم لله والرسول.
والمختار أن الاسم الموصول[الَّذِينَ] في بداية الآية يشمل الرسول محمداً صلى الله عليه وآله وسلم , وتقديرها: الرسول وأصحابه قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) من جهات :
الأولى : دلالة أسباب النزول على توجه الناس بإخبارهم وخطابهم عن حال جيش المشركين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإلى أصحابه، مع تعدد الأمر والحادثة إذ أن مضامين آية البحث أعم من – حمراء الأسد حتى بلحاظ أسباب النزول كما يأتي ( ).
(عن مجاهد في قوله { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم } قال : هذا أبو سفيان قال لمحمد يوم أحد : موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا .
فقال محمد صلى الله عليه وآله وسلم : عسى . فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزل بدراً , فوافوا السوق فابتاعوا ، فذلك قوله { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء } وهي غزوة بدر الصغرى)( ).
الثانية : يصدق على توجه الخطاب والنداء إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم توجهه إلى أصحابه وإلى أمته لأنه الرسول والإمام والقائد وإذا قال رئيس القوم او توجه الخطاب له بصفة الرئاسة فكأنما توجه للجميع ، فكيف والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الرسول والإمام الذي أبى إلا أن يخرج بنفسه إلى حمراء الأسد وإلى بدر الصغرى مع شدة جراحاته ، وسبق إرساله السرايا قبل معركة بدر وأحد .
الثالثة : تهديد الذين كفروا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في شخصه بالقتل ، وأصحابه بالإستئصال أي الحرب على النبوة والتنزيل والإسلام والفرائض العبادية .
وعن ابن حزم قال (خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحمراء الأسد ، وقد أجمع أبو سفيان بالرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وقالوا : رجعنا قبل أن نستأصلهم ، لَنَكُرَّنَّ على بقيتهم . فبلغه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج في أصحابه يطلبهم ، فثنى ذلك أبا سفيان وأصحابه ومر ركب من عبد القيس فقال لهم أبو سفيان : بلغوا محمداً أنا قد أجمعنا الرجعة الى أصحابه لنستأصلهم . فلما مر الركب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحمراء الأسد أخبروه بالذي قال أبو سفيان .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون معه { حسبنا الله ونعم الوكيل } فأنزل الله في ذلك { الذين استجابوا لله والرسول….}الآيات) ( ).
وتبين آية البحث تعدد مشارب الناس بعد البعثة النبوية فقد كانوا مقيمين على الكفر وعبادة الأصنام ، فلما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم صار الناس على أقسام :
الأول : المؤمنون من المهاجرين والأنصار .
الثاني : الذين أصروا على البقاء على الكفر .
الثالث : فرقة من الناس كالبرزخ بينهم ، إذ اعتزلت عبادة الأوثان عن نصرة الذين كفروا ، فتتوجه لهم آية البحث بالترغيب بالإسلام ،وتشكو لهم تحذير المسلمين والذي يدل في مفهومه على النفرة من الذين كفروا ، وعدم الخوف من جيوشهم .
ومن مفاهيم آية البحث لزوم إجتناب المسلمين الغفلة عن عدوهم لأنه في حال جمع الجيوش لهم ، قال تعالى [وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا] ( ) .
فما أن انتهت معركة بدر حتى استعد الذين كفروا لمعركة أحد بحيث أنهم لم يوزعوا البضائع والتجارات التي جاءت بها قافلة أبي سفيان على أهلها ، وكان عدد العير المحملة بالبضائع فيها ألف بعير ، ومنها ما كانت تحمل الذهب ومشوا على أهلها وسألوهم توظيف هذه البضائع في الحرب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقتاله ، فوافقوا عليه .
ولم تكن عند المسلمين أموال لينفق منها على مستلزمات القتال ، وقد عانت المدينة المنورة من قدوم المهاجرين وتزايد أعدادهم من حيث المؤن ، ولأن الوافدين لم يأتوا بالأموال والإستثمار وأكثرهم ليسوا من أهل الحرف والمهن، وكانوا لا يملكون إلا سلاح الإيمان ، فآخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للتكافل بينهم ، ولا يعلم المنافع المترتبة على هذه المؤاخاة إلا الله عز وجل .
فان قلت قد يحدث التآخي بين الجماعات السياسية والإجتماعية ونحوها ، والجواب هذا صحيح ولكنه قياس مع الفارق لأن مؤاخاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه لم تقع إلا بوحي من عند الله فبقيت خالدة إلى يوم القيامة ليستقرأ منها قانون وهو أن ما يأتي بالوحي لا يغادر الأرض وإن لم يكن من القرآن ، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : ما يأتي بالوحي يثبت في الأرض .
الصغرى : المؤاخاة من الوحي .
النتيجة : المؤاخاة تبقى في الأرض.
ومن مفاهيم آية البحث بلوغ المسلمين مرتبة الخشية من الله عز وجل، والحرص على إتباع رضوانه، والإمتناع عن معصيته، والخشية نوع مفاعلة، وفيها أطراف:
الأول : الذي يَخشى.
الثاني : موضوع الخشية.
الثالث : الذي يُخشى منه، وفي التنزيل[فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً]( ).
ويمكن تسمية الحياة الدنيا بأنها(دار الخشية من الله) مع قيد(من الله) لبيان أن الخشية من الناس من نزغ الشيطان.
وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين والمسلمات بوجوب تلاوة كل واحد منهم قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، ومن مصاديق الصراط الخشية من الله بالسر والعلانية وفي العبادات والمعاملات والأحكام.
الآية لطف
من إعجاز الآية القرآنية مجئ اللطف في ثناياها ، كما يستقرأ من معانيها ودلالالتها ، إذ أن القرآن كلام الله عز وجل ، وهو سبحانه يأبى إلا أن تكون كل كلمة نازلة منه لطفاً وخيراً محضاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
لقد وردت آية البحث بصيغة الماضي [قَالَ لَهُمْ النَّاسُ]لبيان إنصراف الأذى عن المسلمين يومئذ ، وفيه دعوة لهم للشكر لله عز وجل على هذه النعمة إذ دفع الله عز وجل عنهم القتل والأسر .
لقد كان الصحابة يدركون ضرورة قانون سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل والأسر .
لأن تلك السلامة حاجة للأجيال المتعاقبة ، ويعلمون أن الله عز وجل هو الذي يحفظ رسوله بجنود من البشر ومن الملائكة والآيات الكونية وغيرها، وفي التنزيل [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ) ومنها جنوده تعالى في حفظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وتقدير الآية : ولا يعلم جنود ربك في حفظ رسوله إلا هو .
وآية البحث من هذه الجنود ولا يختص حفظها لذات شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أيام حياته إنما هي تتعاهد نبوته في كل زمان وإلى يوم القيامة .
وهو من الإعجاز الغيري للآية القرآنية ، فان قلت كيف يكون هذا التعاهد ، والجواب من جهات :
الأولى : إبتداء آية البحث بالثناء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار بقوله تعالى [الذين] .
الثانية : تلقي الصحابة التنبيه والتحذير من الناس لإجتناب مكر الذين كفروا ، وهو من اللطف الإلهي ببلوغ المؤمنين هذه المرتبة ، مرتبة ميل الناس إليهم، وفي التنزيل[فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ]( ).
الثالثة : صيرورة عامة الناس عوناً للمسلمين في دفع حجب الغفلة ، وعيوناً لهم على جيش قريش ، فبعد أن كانت القبائل تهاب جانب قريش لأنهم سدنة البيت ولكثرة أموالهم وصِلاتهم ونزول الناس عليهم في مكة عند أداء الحج أو العمرة ، صاروا يميلون إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من وجوه :
الأول : نقل أخبار وتحركات جيش كفار قريش.
الثاني : بيان تفاصيل جيش العدو، وهو من عمومات قوله تعالى[قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ].
الثالث : إخبار الناس للمسلمين عن جيش العدو أمارة تقرب وود مع المسلمين، وفي التنزيل[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( ).
الرابع : فضل الله عز وجل على الناس عامة بالنفرة من الظلم والتعدي، وقد جمع جيش الذين كفروا بينهما مع الإقامة على الكفر والضلالة ، وهذه النفرة من مصاديق نفخ الله من روحه في آدم ، وفي التنزيل[وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
الخامس : شيوع آيات القرآن وتناقل الناس لها، وتضمنها الوعيد للذين كفروا ، والوعد بالجزاء للذين آمنوا .
السادس : موضوعية طواف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القبائل في موسم الحج في تهيئة أذهانهم للإسلام والتدبر في المعجزات التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يعلم أحد بأن ذهاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قبائل العرب في أماكنها في الحجر مقدمة لميلهم إلى الإسلام عند حدوث القتال مع كفار قريش .
الرابعة : بعث آية البحث على العناية بالسنة النبوية القولية والفعلية، والمنع من التفريط بها .
الخامسة : حرص المسلمين على الإقتداء بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في سنته وإقتباس دروس الصبر من سيرته ونهجه في الدعوة إلى الله.
لقد كانت حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كلها صبر ومرتكزة على الصبر .
لقد إبتدأت نبوته بالرؤيا الصادقة ، وتلك بداية النبوة وفيها إصلاح للنبي لتلقي الوحي ، وقد كانت نبوة إبراهيم في شطر منها بالرؤيا كما ورد في التنزيل[فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ]( ).
مع أن رؤيا إبراهيم هذه ليست في بداية نبوته ، إنما كانت بعد أن أنجاه الله من النار وزواجه من هاجر وولادة اسماعيل .
وتتصف رؤيا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم آنذاك بأن الوقائع التي يراها فيها تقع على نحو الحتم والقطع , ليدرك أن هذه الرؤيا من عند الله سبحانه .
ومن مصاديق قوله تعالى[ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ] ( ) أن الرؤيا الصادقة حبل ممدود بين الله عز وجل وبين خلقه ويشترك الأنبياء والصالحون بل وعامة الناس بالرؤيا الصادقة ، ولكن مع التباين بالنسبة للأنبياء من جهات :
الأولى : تكرر الرؤيا الصادقة .
الثانية : مجئ الرؤيا بالأحداث والوقائع على نحو التفصيل ، وليس الإشارات والرموز وحدها .
الثالثة : عدم وجود فترة بين الرؤيا وتحقق مصداقها .
الرابعة : إدراك النبي لقانون وهو أن هذه الرؤيا من عند الله عز وجل .
الخامسة : تسليم النبي بأن ما يراه في المنام يختلف عما يراه سواه من الناس .
السادسة : قيام النبي باخبار الناس عما يراه في منامه ليأتي المصداق الواقعي كما أخبر عنه، ليكون من الشواهد على صدقه ، وعلى وجود سر ملكوتي في الأمر .
السابعة : إتخاذ النبي رؤياه مناسبة للتأمل والتدبر في الوقائع ومقدماتها وأسرارها .
الثامنة : رؤيا النبي الصادقة مقدمة لتلقي الوحي والملك معاينة أو بالإيحاء من غير أن يرى الملك .
وبعد الرؤيا الصادقة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حبّب الله إليه الخلاء والإنعزال عن الناس كمقدمة عقلية للنبوة.
فكان يخلو في غار حراء يقضي فيه بضع ليال يتعبد فيها ويذكر الله بعيداً عن أمور الدنيا ، وعن عبادة الناس للأصنام .
ثم يرجع إلى أهله للتزود إلى أن جاءه الملك عند خروجه من غار حراء.
ورد عن جابر بن عبد الله قال (لا أحدثك الا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يمينى فلم أر شيئا فنظرت عن يسارى فلم أر شيئا فنظرت من خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فرأيت شيئا بين السماء والارض فأتيت خديجة.
فقلت دثروني وصبوا علي على ماء باردا فدثروني وصبوا على ماء باردا فنزلت هذه الآية (يأيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر)) ( ).
وفي رواية عن عائشة أنما الملك جاءه وهو في الغار وقال له اقرأ ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم(فقلت: ما انا بقارئ)( ) .
أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفزع من الملك وكأنه على موعد معه، مع أن مكان الخلوة تكون فيه أي حركة سبباً للخوف والفزع وخفقان القلب .
وهل من موضوعية للرؤيا الصادقة التي استمرت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمدة ستة أشهر من أول سني النبوة .
(عن عبدالله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله{لهم البشرى في الحياة الدنيا}( ) قال: الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن ، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوّة ، فمن رأى ذلك فليخبر بها وادّاً، ومن رأى سوى ذلك فإنما هو من الشيطان ليحزنه ، فلينفث عن يساره ثلاثاً وليسكت ولا يخبر بها أحداً)( ).
وأعاد الملك على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأمر : اقرأ ، ولكن مع غطه له أي أخذه وعصره وضمه ضماً شديداً ، ثم أرسله وأمره بأن يقرأ فكان جواب النبي ذاته : ما أنا بقارئ .
فأخذه وغطه حتى بلغ منه الجهد .
ثم قال الملك[اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ]( ).
وذهب النبي إلى بيته وقال (زملوني زملوني)( ) ليتوالى فيما بعد نزول الآيات على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, ويتلوها على الناس , وتكون سبباً مباركاً لخزل فريق منهم الإسلام .
إفاضات الآية
من خصائص الآية القرآنية أنها واقية وحرز، وفي كل مرة يتلوها المسلم يقتبس منها أسباب الإحتراز والسلامة من الأذى ، وهو من أسرار وجوب تلاوة كل مسلم ومسلمة للقرآن خمس مرات في اليوم ، ومن الآيات في المقام أن كل آية تتضمن كيفية معينة من الإحتراز ، وإنارة سبل الهداية والعصمة من الغواية والضلالة.
وتتجلى في آية البحث معاني المن والسلامة من الإنقطاع إلى الخوف أو الفزع من الذين كفروا وجيوشهم ، فما أن ابتعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن المدينة باتجاه الطريق إلى مكة لملاحقة الذين كفروا حتى توالت عليهم الأخبار بأن جيش المشركين يريدون العودة والرجوع للإجهاز عليهم .
وإذا عادوا فانهم لا يقفون عند قتالهم، إنما يزحفون لإستباحة المدينة بلحاظ أن جيش الذين كفروا نحو ثلاثة آلاف رجل، لم يخسروا في معركة أحد إلا ثمانية وعشرين قتيلاً.
ويحتمل تفرق بضعة أفراد منهم في طريق العودة من المعركة، أما عدد الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينئذ فهو مائتان وسبعون، وقيل مائتان.
لقد عرف المهاجرون والأنصار منهاج الخير والصلاح ، وكيفية نيل المراتب العالية بتعاهد الإيمان والذب والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد إختاروا منازل السمو والشرف والصحبة المباركة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتي تهيأت للناس مرة واحدة في سنين معدودة قبل الهجرة وبعدها لينغلق بابها إلى يوم القيامة .
ولم تكن تلك الصحبة خالية من الأذى والإبتلاء بل كانت صبراً وجهاداً ، فقد مرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهم في طريقهم إلى حمراء الأسد ورآه الناس وتكلموا معه , وهم ليسوا بأصحاب له لأنهم لم يدخلوا الإسلام ، وأن قدموا خدمة للإسلام بتحذير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جيش الذين كفروا .
لقد تلقى المسلمون التحذير بالقبول وعدم التكذيب , ولجأوا إلى الله عز وجل مستجيرين به ، واثقين بما عنده سبحانه ، لتكون آية البحث مدرسة لأجيال المسلمين تبعث على التوكل على الله وتفويض الأمور إليه في حال الشدة والرخاء .
وفي التنزيل [وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا] ( ).
ومن معاني التفويض أن الإنسان يقر بحاجته وضعفه وعجزه والخلائق عن جلب المنافع ودفع المكاره ، ومن التفويض التسليم بنزول القضاء ، والتفويض في آية البحث أعم ، فمن معانيه أن الله عز وجل هو الذي يصرف ضرر وشر الذين كفروا ، فلا يختص التفويض بعجز ذات الإنسان ، بل يشمل إرادة المسلم عجز الكافر عن الإضرار به ، وتقدير آية البحث : قالوا حسبنا الله الذي يصرف كيدهم وشرهم .
وإلا فان المسلمين فوضوا أمورهم إلى الله عز وجل من حين دخولهم الإسلام .
لقد نزلت سورة الفاتحة في مكة ، ترى ما هي الصلة بين قوله تعالى[إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( )، وبين نزول أول سور القرآن فيها .
الجواب اتحاد السنخية السماوية, والفيض والبركة من الله سبحانه, وكون القرآن مرآة عالم الخلق وشاهد عليه.
وما أن هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة إلا وهو يتلوها في الصلاة، كما كان مصعب بن عمير يتلوها ويعلمها الأنصار قبل قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الآية بشارة
لقد أنزل الله عز وجل القرآن بشرى للمؤمنين، ومن معاني هذه البشرى زيادة إيمانهم مع كل مصداق من مصاديق البشارة القرآنية.
وتتضمن كل آية من القرآن في منطوقها أو مفهومها البشارة، وهذه البشارة أعم من أن تقترن بأسباب وموضوع النزول بلحاظ كبرى كلية وهي بقاء الآية القرآنية غضة طرية إلى يوم القيامة ومن البشارات في آية البحث أمور :
الأول : صيرورة المسلمين أمة تواجه الذين كفروا في الميدان، ليكون من معاني قوله تعالى[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، لزوم الشكر لله عز وجل على نعمة بلوغ مرتبة التكافئ في القدرة على القتال والمبارزة مع الذين كفروا في السنين الأولى للهجرة النبوية، ورجحان كفة المسلمين في الأيام اللاحقة وهناك مسألتان :
الأولى : هل من موضوعية لزيادة إيمان المسلمين في رجحان كفتهم مع تقادم الأيام.
الثانية : هل من أثر للوقائع اليومية في زيادة إيمان المسلمين.
الجواب الأولى نعم، إذ أن الإيمان قوة إضافية، ومدد قرآني وباعث على الصبر والعزم في لقاء العدو , وهو من أسرار قوله تعالى[فَزَادَهُمْ إِيمَانًا]( )، أي أن المسلمين صاروا أكثر قوة وثباتاً في منازل الهدى وميدان المعركة بعد بلوغهم تهديد ووعيد الذين كفروا.
وأما الثانية فالجواب نعم، وهو من أسرار الإبتلاء والإمتحان في الحياة الدنيا، إذ تطل على الناس الآيات الكونية، وتأتي أفعال العباد بما يتجلى معه الإطلاق والعموم في مشيئة الله عز وجل.
وجاءت آية البحث بمصداق لزيادة إيمان المسلمين بسبب تخويف الناس لهم من جيوش الذين كفروا، لتكون هذه الزيادة سلاحاً ذاتياً لإصلاح النفوس ومنع اليأس والقنوط من الإقتراب من عامة المسلمين، وفي التنزيل[قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ]( ).
الثاني : بيان قانون وهو إرتقاء المسلمين في سلم المعارف الإلهية على كل حال، سواء في السراء أو الضراء، فإذا تُرك المسلمون وشأنهم إنقطعوا إلى ذكر الله، وتفقهوا في الدين، وإذا ما جاءهم الوعيد والتخويف ثبتوا في مقامات الإيمان، وإذا زحفت جيوش الذين كفروا لقتالهم تلقوهم برجاء[إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ]( )، وهو من مصاديق قوله تعالى[الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، لبيان الشكر لله عز وجل بصيرورة المسلمين جمعاً يقابل الذين كفروا بعد أن شاع الكفر وصارت عبادة الأوثان عرفاً سائداً بين الناس، إن قول المسلمين(حسبنا الله) بشارة وتترشح عنه البشارات من جهات :
الأولى : كفاية الله عز وجل للمسلمين، وهو الذي تجلى في ذات الموضوع بأن إنهزم جيش الذين كفروا، وإمتنع رؤساؤه عن لقاء المسلمين.
الثانية : هل يقصد المسلمون بالتوكل على الله خصوص تلك الحادثة، والإجابة على تخويف الناس لهم , الجواب لا، إنما بينّوا للناس قانوناً يصاحب المسلمين إلى يوم القيامة.
الثالثة : لقد أرجع المسلمون التخويف والوعيد بمثله إذ أخبروا عن سلامتهم لأنهم متوكلون على الله , وأنه سبحانه ينتقم من الذين كفروا.
الثالث : وراثة التابعين وتابعي التابعين تلك الزيادة في الإيمان التي فاز بها المهاجرون والأنصار.
الرابع : الأمن والعز للمؤمنين لأنهم لجأوا إلى الله وتوكلوا عليه سبحانه، قال تعالى[وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ]( ).
الآية إنذار
من خصائص الحياة الدنيا أنها (دار الإنذار) وقد صاحب الإنذارُ آدم وحواء من حين خلقهما الله في الجنة بقوله تعالى[وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ]( ) وكان عدم تقيدهما بمضامين هذا الإنذار سبباً وعلة ظاهرة لهبوطهما من الجنة إلى الأرض ، وإن كان هذا الهبوط هو علة خلق آدم لقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
ولو لم يأكل آدم وحواء من الشجرة لأبتليا بأمر وسبب آخر للهبوط خاصة وأن ابليس كان معهما في الجنة يجتهد بإغوائهما ، وظهر ذات الإجتهاد بتحريضه لكفار قريش في محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ليتجلى مصداق لقوله تعالى [إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا]( ) بانقلاب جيش الذين كفروا من معركة أحد راجعين إلى مكة من دون تنجز أي غاية جاءوا من أجلها مع إضافة إبتلاء وسبب لذلهم وهو خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلفهم .
وهل يتوجه أهل مكة وأجيال الناس إليهم بالسؤال لماذا لم تعدلوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم في حمراء الأسد وعددهم قليل وأقل من عُشر عدد جيش الذين كفروا .
الجواب لا، لفضل الله على المؤمنين وميل الناس إليهم، وخشية عموم الذين كفروا منهم.
ومن خصائص رؤية الركبان لمطاردة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لجيش الذين كفروا على كثرته في اليوم الثاني لمعركة أحد دخول هؤلاء الركبان مكة المكرمة بعد وصول جيش المشركين لها بأيام وبثهم نبأ تلك المطاردة التي حاول جيش الكفار التعتيم عليها.
وهل خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ) .
الجواب نعم ، لبيان قانون وهو أن الإنذار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعم من أن يختص بآيات القرآن والسنة النبوية القولية أو الفعلية الشخصية ، إنما يشمل الإنذار بفعل المهاجرين والأنصار معه , وصبرهم في جنب الله سبحانه .
ومن الإعجاز في آية البحث صدور الإنذار من الناس إلى المسلمين ، لبيان أنه يختلف في جهة صدوره ، وأن الإنذارات التي تأتي من الناس تتعلق بالوقائع والأحداث ، أما الإنذار الذي يأتي من عند الله عز وجل فهو متجدد ودائم , وتتفرع عنه مسائل وأمور مباركة , قال تعالى[لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ]( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمائز الذي تتصف به رسالته صيرورة الإنذار الذي يأتي من الناس متجدداً ودائماً بتوثيقه في القرآن ، كما في قوله تعالى في آية البحث [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ] ( ) الذي وإن ورد بصيغة الجملة الخبرية إلا أنه يفيد الإنشاء من جهات :
الأولى : الشكر والثناء على الله عز وجل لنزول آية البحث وذكر واقعة تحذير وإنذار الناس للمسلمين .
الثانية : بيان ثبات الصحابة في منازل الهدى ، ومن مصاديق قوله تعالى[فَزَادَهُمْ إِيمَانًا] ( ) أي الإيمان ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, ونصر الله له.
الثالث : لقد أراد الذين كفروا وراء تهديدهم للمسلمين تحريضهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإظهار الملل من القتال، وأرادوا اتساع دائرة النفاق وإغراء رؤساء النفاق بالحث على القعود في البيوت ، كما ورد قبل خمس آيات حكاية عنهم بخصوص الشهداء [الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ) .
ليتلائم هذا القول مع تهديد ووعيد الذين كفروا ، وهل هو عن إتفاق بين الذين كفروا والمنافقين، بمعنى يتفقون على هجوم الذين كفروا وقيام المنافقين بالإنسحاب من وسط الطريق إلى المعركة وبث روح القعود بين أهل المدينة، الجواب تابع للدليل, وكان بعض المنافقين يتصل مع كفار قريش ويحرضهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم, ويطمعهم ويغويهم ويقول لهم أن أصحابه قليل .
الآية موعظة
من خصائص الحياة الدنيا أنها تتقوم بالموعظة لإصلاح النفوس وتهذيب المجتمعات ، وفي الموعظة أطراف :
الأول : الذي يقوم بالموعظة .
الثاني : ذات موضوع الموعظة .
الثالث : كيفية الموعظة .
الرابع : الذي يُوعظ ويتلقى الموعظة ، ومن يكون واعظاً في مسألة قد يكون موعَظاً في أخرى .
والموعظة منهاج الأنبياء وسلاح الصالحين ، وهي الطريق للهداية في أمور الدين والدنيا .
ومن مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه موعظة متعددة في منطوقها ومفهومها، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يوجه كلامه للشخص المقصود بالموعظة إنما كان يقول : ما بال أقوام يفعلون كذا ….) .
فمثلاً إذا كان أحدهم يكثر من الغيبة ، فلا يوجه له اللوم صراحة ، إنما يقول ما بال بعضهم يغتب الناس .
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ]( ).
وقد تكون الدعوة إلى الفضيلة وترك الرذيلة بالثناء على فاعل الخير في حضرة وحضور ذات الشخص الذي يفعل الأمر السيئ بذات الموضوع، لبيان التضاد بينهما ، ولبعث النفرة من الفعل القبيح , وللترغيب بالعمل الصالح .
ويتجلى التضاد في آية البحث بين المؤمنين والذين كفروا بالسلاح والقتال لتدعو آية البحث للإيمان والثبات عليه وتصد الناس عن الميل إلى الذين يصدون عن ذكر الله ، ويحاربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وهو من الإعجاز بتكرار لفظ [النَّاسَ ] في آية البحث مع إرادة الجمع والتعدد والكثرة من جهات :
الأولى : الناس الذين يحذرون المؤمنين بقوله تعالى[قَالَ لَهُمْ النَّاسُ].
الثانية : المؤمنون الذين يتلقون التحذير، وهل يختص التحذير ولزوم الخشية من الذين كفروا بالمؤمنين الذين حضروا حمراء الأسد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم أنه أعم وأكثر، الجواب هو الثاني ، فانه يشمل المؤمنين والمؤمنات .
الثالثة: الذين كفروا وجيشهم بقوله تعالى [إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ] .
وأيهم أكثر عدداً من هذه الأطراف الثلاثة الذين تذكرهم آية البحث .
الجواب هو الثالث أعلاه لأن عددهم يقارب ثلاثة آلاف رجل، قال تعالى[كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ]( ).
وهل في آية البحث موعظة لهذه الأطراف ، الجواب نعم، وهي موعظة متصلة إلى يوم القيامة تحث الناس على إجتناب التعدي على حرمات الإسلام، وتدعو المسلمين والمسلمات إلى التوكل على الله واللجوء إليه والوثوق بفضله ورحمته .
ومن خصائص الوثوق بالله عز وجل أنه جاذب للربح والخير في النشأتين ، وهو إستمساك بالعروة الوثقى ، وفوز برحمة الله بالأمن والسلامة من شرور الذين كفروا .
لقد نزلت آيات القرآن بالوعد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالنصر والغلبة ، وحينما توجه الناس إلى المؤمنين بالتحذير من جيش الذين كفروا استحضروا وعد الله بالنصر , فقالوا [حَسْبُنَا اللَّهُ] أي أن الله هو الذي وعدنا النصر والغلبة على الذين كفروا .
ومن الإعجاز أن نصر المسلمين في معركة بدر سابق لمعركة أحد وخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد .
لقد جعل الله عز وجل عند كل إنسان واعظاً ذاتياً يهديه إلى العمل الصالح ، ويزجره عن إرتكاب السيئات .
وعن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله ضرب مثلا صراطا مستقيما على كتفي الصراط سوران لهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب سور وداع يدعو على رأس الصراط وداع يدعو من فوقه والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فالابواب التي على كتفي الصراط حدود الله لا يقع أحد في حدود الله حتى يكشف ستر الله والذي يدعو من فوقه واعظ الله عز وجل)( ).
ومن خصائص الموعظة نفاذها إلى القلوب وعجز الغشاوة التي قد تحل بالقلوب عن سترها ومنعها، ويتلقى المسلم الموعظة بالإعتبار والرضا والإستجابة، قال تعالى[سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى]( ).
لتبين آية البحث أن المسلمين يخشون الله عز وجل ، ويظهرون الصبر في طاعته ويدركون قانوناً وهو أن التوكل على الله سبيل النجاة من كيد ومكر الذين كفروا .
الآية رحمة
لقد كانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للناس وطريقاً إلى الخلود في النعيم في الآخرة ، وأراد الذين كفروا حجب هذه الرحمة ، ومنع الناس من الإنتفاع الأمثل منها ، وأظهرت الوقائع والأحداث عجزهم عن حجبها ، فلن ينفعهم إعتداؤهم وقتالهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، قال تعالى[وَاللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ]( ) لذا لجأ المهاجرون والأنصار إلى التوكل على الله ، والقول[حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] وهي ذات الكلمة التي قالها إبراهيم حين ألقي في النار إذ قال [حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] فأنجاه الله عز وجل من النار , ومن بطش نمرود والقوم الظالمين.
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ذات الكلمة وأظهروا اللجوء إلى الله عز وجل عندما أراد جيش الذين كفروا الإجهاز عليهم.
وصار هذا القول واللجوء إلى الله قانوناً عند المسلمين .
لقد جعل الله القرآن رحمة وهدى ، قال تعالى[وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا]( ) ليدفع القرآن الأمراض عن المؤمنين ويصلح نفوسهم , ويتوجه إلى الناس جميعاً لهدايتهم وإصلاحهم ، ويتجلى في آية البحث من جهات :
الأولى : وجود أمة من المؤمنين تتخذ التوكل على الله منهاجاً ثابتاً .
الثانية : طائفة من الناس تحرص على سلامة المؤمنين من أذى وبطش الذين كفروا .
الثالثة : أمة من الذين كفروا أصابهم الخوف مع كثرتهم فعجلوا بالرجوع إلى مكة .
وهل من موضوعية لآيات القرآن في تعجل الذين كفروا الرجوع إلى مكة , الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : بعث آيات الوعيد الخوف في قلوب الذين كفروا ، ومن الإعجاز نزول هذه الآيات في مكة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، قال تعالى [وَالْعَصْرِ *إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ]( ).
الثانية : إدراك الذين كفروا لقانون وهو أن نزول آيات القرآن يجعل المسلمين يضحون بأنفسهم في سبيل الله لأنها تنمي حب الشهادة ، كما تبين حينما تحدى أبو سعد بن أبي طلحة ، عندما تقدم للمبارزة يوم معركة أحد، إذ قال (يَا أَصْحَابَ مُحَمّدٍ زَعَمْتُمْ أَنّ قَتْلَاكُمْ فِي الْجَنّةِ وَأَنّ قَتْلَانَا فِي النّارِ كَذَبْتُمْ وَاَللّاتِي لَوْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ حَقّا لَخَرَجَ إلَيّ بَعْضُكُمْ فَخَرَجَ إلَيْهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَهُ عَلِيّ فَقَتَلَهُ)( ).
الحاجة لآية البحث
ليس من حصر لوجوه ومصاديق الرزق من عند الله ، ولا أوانها وكيفيتها وكمها ومقاديرها ، إذ تأتي دفعة ونجوماً , ومنه الرزق الكريم بنزول آيات القرآن ، وكل آية رزق من وجوه :
الأول : الآية فيض نازل من السماء .
الثاني : ذات الآية القرآنية رزق للفرد والجماعة .
الثالث : مصاحبة البركة للآية القرآنية ، وهذه البركة للناس كافة ، وهي كالمطر ونزوله إذ يصيب البر والفاجر .
الرابع : كل آية قرآنية من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الخامس : إرتقاء المسلمين في مراتب العلم مع نزول وتلاوة كل آية من القرآن، فلا يختص الصحابة بالإنتفاع من هذه النعمة العظيمة ، بل تنتفع أجيال المسلمين المتعاقبة من تلاوتهم لها وكأنها نازلة في ذات اليوم , وهو من مصاديق[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
وهو من الآيات بحضور سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياة المسلمين يومياً على نحو الإنطباق .
السادس : تلاوة المسلم للآية القرآنية سبب لجلب الرزق .
وتحتمل هذه التلاوة وجوهاً :
أولاً : انها من مصاديق قوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ) بلحاظ أن التلاوة دعاء .
ثانياً : التلاوة استجابة لله عز وجل وطاعة له ، لتكون باباً آخر للرزق، وهو من مصاديق الآية السابقة [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
ثالثاً : تلحق التلاوة بالدعاء.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من فضل الله عز وجل في تلاوة القرآن، ويمكن تشريع قانون وهو (التلاوة دعاء ) لبيان أن تلاوة الآية القرآنية تضرع إلى الله ، وتتضمن الخشوع والخضوع له سبحانه .
السابع : التلاوة واقية من النحوسة والكدورة .
الثامن : تبعث التلاوة السكينة في النفس لتكون نوع طريق للعمل وإختيار الأحسن في الكسب والإكتساب .
التاسع : التلاوة حرز من الغش والكذب والأخلاق المذمومة ، ومع الصلاح يأتي الرزق والفضل الإلهي ، وهو من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
العاشر : قد يبقى قارئ القرآن فقيراً ولكنه غني بالقناعة وبالرضا عن الله عز وجل وحبه له، وعشقه لكلامه(عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: القرآن غنى لا فقر بعده ولا غنى دونه)( ).
ويبعث القرآن الأمل في النفس في أمور الدين والدنيا، ويجعل هذا الأمل المؤمن في غبطة دائمة , قال تعالى[وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ]( )، وتدل الآية أعلاه على أن النسبة بين ما يوعد به المؤمن وبين الرزق عموم وخصوص مطلق، فالموعود به أكثر وأعظم.
وجاءت الآية أعلاه بصيغة الجمع لبيان الفيض العام الذي يأتي للناس وينتفع منه المسلمون، والذي يأتي لعموم المسلمين مع النفع الخاص للمؤمن أي يجتمع للمسلمين الرزق العام والخاص، وينفع المؤمن مما يأتي للمسلمين من الرزق العام والخاص ومن فضل الله عليهم على نحو الخصوص، وعن أبي الدرداء: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية{ولمن خاف مقام ربه جنتان}( ) فقلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم الثانية {ولمن خاف مقام ربه جنتان} فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ فقال الثالثة{ولمن خاف مقام ربه جنتان} فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: نعم وإن رغم أنف أبي الدرداء)( ).
ومن الإعجاز في تلاوة القرآن أن كل آية خزينة تُنهل منها العلوم وتترشح عن تلاوتها مفاهيم الصلاح ومنها آية البحث فهي مدرسة في الخلق الكريم الذي يتجلى بالتوكل على الله في الملمات، والإستعانة به من كيد الظالمين .
ومن البديهيات عند أهل الإيمان أن الدنيا والآخرة ملك لله عز وجل، وبيده سبحانه مقاليد الأمور , وتبين آية البحث قانوناً وهو أن جموع الذين كفروا لن تستأصل الإسلام وإن أصابت المسلمين بالأذى، وسقط عدد منهم شهداء، فهؤلاء يذهبون إلى حياة أبدية تتصف بالسعادة والغبطة .
وفي شهداء أحد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة)( ).
والذين بقوا من المسلمين وهم الأكثر عدداً من الشهداء يثبتون في منازل الإيمان ، ويتقيدون بأداء العبادات والفرائض.
وهل تدل آية البحث على هذا التقييد , الجواب نعم، لقوله تعالى[فَزَادَهُمْ إِيمَانًا] فمع الإيمان يحرص المسلمون على أداء الصلاة والصيام والحج والزكاة والخمس.
فكيف مع زيادته الجواب يزداد حرصهم على أدائها، وهذا الحرص والأداء من أسباب إظهارهم التوكل على الله عز وجل حينما قام الناس بإنذارهم من كيد وشرور جيش الذين كفروا.
لقد أراد الله عز وجل تأديب المسلمين، وإصلاحهم للخلافة في الأرض بسنن التقوى، لإستدامة الحياة الإنسانية على الأرض لأن عبادة الناس لله علة هذه الإستدامة لقوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
ومن الإعجاز في المصاديق العملية والبراهين الخارجية للآية أعلاه عدم وجود مانع لأداء المسلمين الصلاة، وليس من مانع يحول دون أدائها، وأن السلاطين والأمراء وإن كانوا على دين أو مذهب آخر لا يعارضون أداء الصلاة سواء في البيوت أو المساجد للوثوق العام بأن هذه الصلاة لا تضر سلطاناً، ولا تهدد ملكاً في عرشه، وإنما هي إصلاح للنفوس، ونوع طريق للمودة والثقة بين الناس .
ليكون من معاني(فزادهم إيمانا) أيها المسلمون إزدادوا إيماناً، وإقتدوا برسول الله والمهاجرين والأنصار في الصبر وكيفية تحدي الذين كفروا بجيش قليل عدد أفراده لا يتجاوز مائتين وسبعين ليؤسسوا لعلم وقانون خاص في التوكل على الله في مواجهة الظالمين، وصرف أذاهم بهذا التوكل.
فتفضل الله عز وجل وألقى الخوف والرعب في نفوس جيش الذين كفروا وسارعوا بالعودة إلى مكة، وسيأتي بعد آيتين النهي من عند الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن على الذين كفروا ومسارعتهم في الضلالة وإقدامهم على تجهيز الجيوش لمحاربته، بقوله تعالى[وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ]( ).
وهل في آية البحث حاجة للناس من غير المسلمين، الجواب نعم، إذ ذكرت الآية طائفتين منهم:
الأولى : الذين قاموا بتحذير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من كيد الذين كفروا.
الثانية : الذين أصروا على الكفر ومحاربة الإسلام.
ثناء الله على نفسه في آية البحث
لقد كان العرب قبل الإسلام أمة وثنية يعبدون الأصنام , وقلة منهم اختاروا النصرانية واليهودية، فتفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رحمة بهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) بلحاظ أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن وأداء الفرائض العبادية كلها من الصراط المستقيم والطريق إلى النعيم الدائم، قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
ومن أسماء الله تعالى(الهادي) وهو الذي يهدي الناس مجتمعين ومتفرقين إلى الإيمان ، ويصرفهم عن أسباب ومقدمات الضلالة والغواية .
وبينت آية البحث التضاد والتناقض بين الذين آمنوا والذين أصروا على الكفر والجحود وإرتقاء هذا التضاد إلى القتال بين الطرفين فاذا امتنع الذين أتقوا عن القتال فان جانب الكفر هو الذي يسود ويطغى .
لذا إختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الصبر والدفاع في ميادين القتال ، ولم يمنعهم عن القتال تحريض الذين نافقوا على القعود ،وقيامهم بالصد عن سبيل الله ، فدخلوا معركة بدر على نحو الدفاع المحض فنزل الملائكة لنصرتهم ، ليكون هذا النزول بشارة إستدامة الإسلام ،وعجز الذين كفروا عن إستئصال المسلمين والإجهاز عليهم ، وإن سقط منهم شهداء .
فقد وعدالله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات حياة النعيم لهؤلاء الشهداء من حين مغادرتهم الدنيا بحرارة السيف وجريان الدم .
وحياة الشهيد هذه من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) عندما إحتج سبحانه على الملائكة بأهلية الإنسان للخلافة في الأرض فلم يقعد المؤمنون في بيوتهم إلى أن يدخل الذين كفروا المدينة ، فيذبحون فريقاً منهم ويأسرون فريقاً آخر .
إنما بادروا للخروج إلى معركة أحد ويدل عليه قوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) ثم خرجوا في اليوم الثاني مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لملاحقة العدو.
وهذا الخروج وقاهم شر الذين كفروا ، فقد سألهم الناس في الطريق الخشية من الذين كفروا والعدول عن الطريق العام بين مكة والمدينة وانتهاج طريق يخفى عليهم ، أو الخشية منهم بالرجوع إلى المدينة بسرعة ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقي في حمراء الأسد ثلاث ليال ، لرصد الذين كفروا , وإرسال رسالة إلى القبائل بعز الإسلام، وهو من مصاديق انتفاء الذل عنهم بقوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
النعم التي تذكرها آية البحث
تبدأ الآية بحوار وإنذار وفيه أطراف :
الأول : رهط من الناس يقومون بالتحذير والتخويف لما رأوا بأعينهم من كثرة جيش المشركين ، وسمعوا منهم عزمهم على الرجوع للقتال حتى استئصال الإسلام ، وغاب عنهم أن الإسلام باق إلى يوم القيامة ، قال تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( ).
وهل هذا التحذير الوارد في قوله تعالى [إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ] ( ) رحمة ونعمة ، الجواب نعم ، فهو نعمة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار وعلى عموم المسلمين لدلالته على وجود طوائف من الناس تحذر المسلمين من الناس , وتبين لهم حال العدو من الكثرة أو القلة مع بيان نواياه الظاهرة أزاء المسلمين .
وهذا البيان مقدمة لإطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين على نوايا العدو الخفية .
الثاني : الذين توجه لهم الإنذار وهم الذين ذكرتهم الآية السابقة بقوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ] ( ) من المهاجرين والأنصار ومن نعم الله عليهم وجود الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي استجابوا له بين ظهرانيهم ، ومجي الإنذارات لهم ، من عامة الناس يحذرونهم ويخوفونهم بجيش المشركين ويقولون لهم [فَاخْشَوْهُمْ] ومن معانيه : أن معكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمشركون يطلبونه فيجب أن تحافظوا عليه وتذبوا عنه ليكون من مصاديق ومعاني [فَاخْشَوْهُمْ] وجوه :
أولاً : فاخشوهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : فاخشوهم على أنفسكم .
ثالثاً : فاخشوهم على الوحي والقرآن .
رابعاً : فاخشوهم على الإسلام .
لبيان نعمة عظمى على المسلمين من جهة ميل الناس إليهم ومبادرتهم بتقديم النصيحة لهم .
لقد لاقى المسلمون قبل يوم من خروجهم إلى حمراء الأسد خسارة عظيمة في ميدان معركة أحد ، إذ سقط سبعون منهم قتلى وسط المعركة ، وفي اليوم الثاني حينما خرجوا بجراحاتهم خلف العدو تلقاهم الناس بالنصيحة والتحذير كمسلمين ، مما يدل على ميل الناس للإسلام ، وأن أنصار الكفار صاروا في قلة وإنحسار .
الثالث : الذين يُحذر الناس منهم ومن شرورهم وهم جيش الذين كفروا ، وبينما كان أهل الجزيرة العربية يضمرون الإحترام والتقدير لقريش ورجالاتها ، ويمتنعون عن التعرض لقوافلهم أو نهبها صاروا يحذرون منهم ويخبرون عن قبح أقوالهم وسوء أفعالهم .
وجاء رد المسلمين على التحذير من المشركين نعمى عظمى إذ أخبروا عن توكلهم على الله ، وأظهروا حبهم له وطاعتهم لأوامره ووثوقهم بنزول الأمن والسلامة لهم من عند الله ، فكما نزلت الملائكة في معركة أحد لنصرتهم ، كما ورد في التنزيل خطاباً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ) لتنزل الملائكة في اليوم التالي لدفع الذين كفروا عن مهاجمة المسلمين ومنهم من الرجوع والإجهاز عليهم .
وإذا كان الملائكة إلى جانب المسلمين يقاتلون الكفار ، كما قال تعالى [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] ( ) فمن باب الأولوية القطعية أنهم يحولون دون رجوع الذين كفروا إلى القتال في اليوم التالي لمعركة أحد ، وهذه نعمة أخرى تدل عليها آية البحث بالدلالة التضمنية ، فمن إعجاز الآية القرآنية تعدد النعم المستقرأة من منطوقها ومن مفهومها.
وقال تعالى[بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( )، ومن معاني مسومين أي لبس الملائكة العمائم، (وكانت عمائمهم يوم بدر سوداً، ويوم أحد حمراً)( ).
وقال سحيم بن وثيل:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا … متى أضع العمامة تعرفوني
ألم تر أنني في حميري … مكان الليث من وسط العرين
عذرت البزل إن هي خاطرتني … فما بالي وبال ابني لبون
وماذا يغمز الأعداء مني … وقد جاوزت رأس الأربعين)( ).
ابن جلا أي ابن المنكشف أمره والمشهور بشأنه غير الخامل يقال انجلى الصبح أي إنكشف والثنايا الطريق في الجبل، والطريق في الرمل، أي أنه جلد يطلع على الطرق الصعبة العسيرة.
وسحيم هذا شاعر مخضرم ولد قبل الهجرة بأربعين سنة , وعاش في الإسلام ستين سنة .
لقد أجاب المسلمون على التحذير والإنذار بالقول [حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ) وهذا القول والإجابة نعمة عظمى [وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ]( ) إذ ذكروا الله ولجأوا إليه في ساعة الشدة .
فان قلت لا بد من الأسباب والعمل لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم(اعقلها وتوكل)( ) والجواب هذا صحيح ، وذات خروج المسلمين خلف العدو من العمل ، كما أن وجودهم في حمراء الأسد لثلاث ليال من العمل والإحتراز والإستعداد للقتال ، ولكن الله عز وجل خفّف عنهم ليرجعوا إلى المدينة بأمان لهم ولأهلها وهو الذي تبينه الآية التالية إذ ذكرت لفظ النعمة بقوله تعالى [فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ] ( ).
وهل تختص هذه النعمة بالعودة والإنقلاب ، أم تشمل غير العودة ، الجواب هو الثاني فتشمل النعمة في المقام وجوهاً :
الأول : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأكثر المهاجرين والأنصار من القتل أو الأسر في معركة أحد .
الثاني : انقلاب ورجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة في ذات يوم معركة أحد .
الثالث :سير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد متعقبين العدو .
وتقدير الآية التالية خرجوا بنعمة الله فانقلبوا بنعمة من الله وفضل ، وفي التنزيل [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
الصلة بين أول وآخر الآية
ابتدأت آية البحث بالاسم الموصول [الذين] لإرادة طائفة أو أمة ، وتحتمل وجهين :
الأول : إرادة التعيين .
الثاني : الإبهام .
وتدل مضامين الآية على إرادة الأول أعلاه من جهات :
الأولى : مجئ آية البحث بصيغة الفعل الماضي , مع تكرار لفظ (قال) و(قالوا).
الثانية : بيان الآية لحال الصحابة يوم معركة أحد وما بعده , وكثرة جراحاتهم .
الثالثة : أسباب النزول وإرادة الذين استجابوا لله والرسول .
الرابعة : إخبار الآية عن حسن سمت المسلمين، وتوكلهم على الله عز وجل .
وتجمع الآية بين أطراف :
الأول : المهاجرون والأنصار الذين خرجوا إلى حمراء الأسد خلف جيش الذين كفروا .
الثاني : الناس الذين أخبروا الصحابة عن عزم كفار قريش على البطش بهم .
الثالث : رؤساء جيش قريش الذين كفروا، الذين يتوعدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ويتلاومون فيما بينهم لرجوعهم إلى مكة من غير أن يحققوا أي غاية جاءوا من أجلها , وظنوا أن تلك الغايات لا زالت قريبة المنال , ومن أهم هذه الغايات :
الأولى : قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من الإعجاز في السنة الدفاعية أمور :
الأول : ثبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسط الميدان في معركة أحد .
الثاني : قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة أحد .
الثالث : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد ، وعدم إكتفائه بارسال سرية من أهل البيت والصحابة ، شاهد على صدق نبوته ، وحفظ الله عز وجل له , وفي التنزيل [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ).
الثانية : قتل وأسر المهاجرين أي قتل طائفة منهم وأسر الباقين ، ليدخلوا مكة كأسرى لزجر الشباب ذكوراً وأناثاً عن دخول الإسلام .
الثالثة : أسر الأنصار وأخذ المواثيق منهم على هجران الفرائض والعبادات .
الرابعة : إعانة المنافقين وجعلهم يشمتون بالمؤمنين .
الخامسة : سبي نساء وبنات الأنصار .
السادسة : إعادة شأن أبي عامر الفاسق في المدينة .
السابعة : فرض هيبة قريش بين القبائل .
الثامنة : المحافظة على قوافل تجارة قريش في الطريق بين مكة والشام وبين مكة واليمن ، فعندما يصيب الضعف والوهن مركز السلطة فان الناس تتجرأ على الأطراف سواء الثابتة أو المتحركة بالإضافة إلى طرو موضوع نوعي وسنخية جديدة من جهات :
الأولى : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : نزول آيات القرآن وتوالي هذا النزول وعدم انقطاعه ، وهو من الحكمة المتعالية في نزول القرآن نجوماً وعلى نحو ثلاث وعشرين سنة ومع عدم نزول تمام القرآن إلى قبيل مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
وكان النبي وأصحابه يؤدون الصلاة ويتلون آيات القرآن فيها ، لتكون الصلاة وعاءً عبادياً يومياً متعدداً لتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه الآيات التي تنزل حديثاً ، فقد يتلو النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة آيات نزلت في ذات اليوم ، أو يتلوها أمام جماعة فيلتفت المأمومون أو شطر منهم ويدركون أن آيات قرآنية جديدة نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليتدبروا في معانيها.
وحالما يسمع المسلمون آيات القرآن النازلة حديثاً يدركون أنها من كلام الله للتباين بينه وبين كلام البشر، قال تعالى[وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا]( ).
لبيان قانون خالد وهو التباين بين كلام الخالق وكلام المخلوقين والتسليم بأن لغة القرآن أمر خارق بذاته وبلاغته وإعجازه، وقد أقر عدد من كبار رجالات قريش بحقيقة هذا القانون، ولكن العناد والمناجاة بالباطل صارت كالغشاوة على بصائرهم وقلوبهم .
ولما نزلت سورة غافر على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل الهجرة قرأها في المسجد الحرام فسمعها الوليد بن المغيرة، فأصيب بالذهول وتحير في أمره، فلم يسمع مثله من قبل مع أنه كان حافظاً لأشعار العرب , راوياً للوقائع وأيام القتال، وتأريخ الممالك في الجملة فانطلق إلى مجلس بني مخزوم من ساعته.
وقال : والله لقد سمعت من محمد كلاماً آنفا ما هو كلام الأنس ولا كلام الجن ، ثم اتجه نحو التفصيل والبيان .
فقال: وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته)( )، فلم يكن عندهم جواب .
وانتشر قول الوليد في مجالس ومنتديات قريش .
فقالوا : لقد صبا الوليد ، أي ترك دينه وانتقل إلى الدين الجديد ، وخشوا على أنفسهم وأولادهم وعبيدهم لأن الجميع يعرف منزلته عند أهل مكة والقبائل المحيطة بها، حتى أنه حين مات أرخت قريش بوفاته مدة لمنزلته عندهم .
وهو ممن حرم على نفسه الخمر في الجاهلية .
وكان يسمى ريحانة قريش .
فتصدى أبو جهل لحمله على النكوص والرجوع عما قال من الثناء على آيات القرآن والإقرار بقدسيتها .
فدخل عليه وهو حزين ،فقال : يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً فانك أتيت محمداً لتنال منه خيراً ، فقال الوليد : لقد علمت قريش أني من أكثرها مالاً .
لبيان حقيقة وهي عدم طمعه بمال من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا يريد أن تجمع له قريش مالاً ، إنما أثنى على آيات القرآن لما فيه من الإعجاز والدلالة على أنه فوق كلام البشر .
ومن أسرار نفخ الله عز وجل من روحه في آدم كما في قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ) ميل الإنسان للحق بالفطرة إلا أن يطرأ عليه حب الشهوة وحال الطمع أو الغضب ونحوه .
فقال أبو جهل أن قومك يريدون أن يسمعوا منك كلاماً يدل على كراهتك لما سمعت.
قال الوليد : وماذا أقول فيه ليس فيه ما يلزم الذم فالح عليه أبو جهل ، وقال أن قومك لا يرضون منك إلا أن تذمه.
وكأنه يقول له بأنك تخسر منزلتك وشأنك وتجارتك في قريش إن لم تقول كلاماً في القرآن ينسخ مدحك له .
فحرص الوليد على منزلته وشأنه في قومه ، وامتثل لقول أبي جهل وقال دعني أفكر فيه .
وعندما حضر موسم الحج وقارب أوان توافد القبائل على مكة اجتمعت قريش في دار الندوة ، وقال الوليد : ستقدم عليكم وفود العرب، وقد بلغهم نبأ صاحبكم أي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته الناس للإسلام ، فاجمعوا فيه على قول واحد يجعل الناس تنفر منه، ولا يستمعون إلى دعوته وتلاوته لآيات القرآن ، ولا ينعته بعضكم بما يخالف نعت غيره فيكذب بعضكم بعضاً .
لقد ابتلاه الله عز وجل فبعد أن استمع إلى سورة غافر وأدرك أنها ليست من كلام المخلوقين ، فتنه أبو جهل وأخلد إلى الشأن والجاه بين قومه واستدامة مال التجارة ليكون مصداقاً لقوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ *إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]( ).
لقد أراد الله عز وجل لهم بالإيمان استدامة الرزق الكريم والتجارة وسلامة طرقها، وأراد لهم بالتجارة الإيمان وتعاهد البيت الحرام وسدانته من غير أن يلزم الدور بينهما ، ولكنهم أصروا على الجحود ، وكان الوليد بن المغيرة مثالاً لإقامة الحجة عليهم، لإقراره بأن آيات القرآن ليست من كلام البشر أو الجن .
ولما سمعوا كلام الوليد فرحوا وطربوا وقالوا له : يا أبا عبد شمس أقم لنا رأيا نجتمع إليه فيما يخص محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
قال الوليد : بل أنتم قولوا وأنا اسمع منكم .
قالوا : ننعته بأنه كاهن ، والمراد من الكاهن هو الذي يخبر عما يحدث في قادم الأيام ويدعي المعرفة بعلوم الغيب لقاء أجر , والكهانة حرام شرعاً.
وقد ذم الله الكهانة وأخبر عن عصمة القرآن منها، قال تعالى[وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ]( ).
وبين الكاهن والعراف عموم وخصوص مطلق ، فكل كاهن هو عراف وليس العكس، إذ يخبر العراف عن الماضي كالشئ المسروق ومكان الضالة وحال الغائب، وقيل العراف المنجم، ويخبر الكاهن عن الماضي والمستقبل .
(وقالَ الرّاغِبُ : العَرّافُ : كالكاهِنِ إلاّ أَنَّ العَرّاف يُخَصُّ بمَنْ يُخْبِرُ بالأَحْوالِ المُستَقْبَلَةِ والكاهِنُ يخبِرُ بالأَحْوالِ الماضِيَةِ) ( ).
وقد شاعت العرافة في نجد وتهامة كما عرّف (بنو لهب) وهم قبيلة من الأزد بالزجر والعيافة.
والزجر هو نوع من التكهن يقول : زجرت أن يكون كذا وكذا .
(الزَّجر: النهي والانتهار.
زَجَره يَزْجُره زَجْراً، وازدجره فانزجر، وازدجر.
وزَجَر السبع والكلب، وزَجَر به: نهنهَه) ( ).
وقال الشاعر :
(وينَهْى ذوي الأَحْلام عنّي حلومُهم … وأرفع صَوْتي للنَّعام المُخَزْم)( ).
أي أن ذوي الحلم والعقل يصرفهم عن إيذائي حلمهم ، وأما الجهال فانا أزجرهم وأؤدبهم , وشبههم بالنعام لخفة عقولهم .
لقد اختارت قريش نعت النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأنه كاهن لأن الكاهن يخبر عن المغيبات لقاء أجر ، وهو قد يصيب اتفاقاً وقد يخطأ ويجهل، والخطأ هو الأكثر في قول الكاهن وأرادوا منع الناس عن التدبر في علوم الغيب، خاصة وان السور المكية تتصف بتضمنها الإنذار والتخويف والوعيد.
قال الوليد: والله ما محمد بكاهن وليس عنده زمزمة أو سجع الكاهن ، وأراد الوليد بهذا أن العرب لا يصدقونكم إذا نعتم محمداً بأنه كاهن.
قالوا : إنه مجنون .
قال فلا تصدقكم العرب حينئذ لأن الجنون فقدان للعقل ، وهو ليس بالمصاب بالصرع والخنقة، وليس عنده وسوسة، إنه يجذب القبائل إلى القرآن، ويبعثهم للإستماع إليه ونعته بأنه كاهن أو مجنون كذب وزور مما يجعل الناس يدخلون الإسلام ويتلقون آيات القرآن بتدبر .
وكأن الوليد يستدرج قريشاً ويبين لهم سذاجة مغالطتهم ولكنه ليس من الإستدراج إنما أراد قصور عقولهم عن دفع فيوضات التنزيل.
قالوا : فنقول شاعر .
وقد ورد هذا المعنى في القرآن في نعتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم[أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ]( ).
أي أن الكفار لم يمتنعوا عن وصف النبي بأنه شاعر لأن الوليد أبطل هذا النعت خاصة ورجال قريش أعم وأكثر ممن حضر مجلس قريش هذا ، ولا تنحصر أيامهم بمكة ومدة التنزيل الأولى .
قال الوليد (لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر)( ).
لبيان أن الكلام الذي جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس من ضروب الشعر ، قالوا : فنقول أنه ساحر، قال الوليد : ما هو بساحر فليس عنده نفث ولا عقد ولا خدعة .
حينئذ سألوا الوليد : إذن ماذا نقول .
فأقر لهم بأن القرآن الذي يتلوه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم له حلاوة وتميل له النفوس وقال (وان اصله لعذق وان فرعه لجناة)( ).
وأن أي ذم أو تشويه لما أتى به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو باطل ومغالطة ولكن أقرب هذه الوجوه وصفه بالساحر لأنه يفرق بين الابن وأبيه، والزوج وزوجته , بأن يدخل الابن الإسلام وتكون القطيعة بينه وبين أبيه إذا أصر على الكفر أو يقع العكس ، وكذا يسلم الزوج أو الزوجة ويبقى الآخر على الكفر فتحرم عليه ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ).
فاتفقوا على إشاعة مقولة أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ساحر ، ويمشون بها لبثها بين الناس في موسم الحج لصدهم عن الإستماع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ترى لماذا لم يمنعوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عن الناس إذ كان يطوف على القبائل في مواضعهم في مكة وفي منى، والجواب أن أيام موسم الحج في الأشهر الحرم ، وفي شهري ذي القعدة وذي الحجة وهما من الأشهر الحرم الأربعة ، قال تعالى[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ) ومن ظلم الكفار لأنفسهم في الأشهر الحرم أنهم كانوا يسيرون خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون لرجال القبائل إنه ساحر فاحذروه ولا تصدقوه.
ونزل في ذم الوليد قوله تعالى[ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا]( ) أي أن الله خلقه وحده ليس له مال وشأن، وتفضل الله وجعل له مالاً كثيراً وتجارة تدر عليه الأرباح وتزيد في أمواله (وبنين ) كان له من الولد عشرة ولكنه لم يشكر الله بالإقرار بالوحدانية والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ترى هل إستجابت القبائل إلى أراجيف وأباطيل رجالات قريش، يحتمل وجوهاً:
الأول: استجابة أفراد من القبائل في الموسم إلى أقاويل قريش على نحو السالبة الجزئية .
الثاني : لم يستجب أفراد القبائل لأقاويل كفار قريش .
الثالث : استجابة أفراد القبائل لأقاويل قريش .
الرابع : لم تنحصر الإستجابة بالذين حضروا الموسم بل شملت الذين من خلفهم ، فمن خصائص موسم الحج أن الذين يحضرونه رسل لقومهم .
والصحيح هو الثاني أعلاه وإن ترددوا في التصديق بنبوته إذ كانوا يخشون قريشاً في إعلان التصديق بها.
وتلك معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في باب الدعوة ونشرها , وشاهد على أنه كان يقوم بنفسه بنشر مبادئ الإسلام وتلاوة وإيصال آيات القرآن إلى الناس، فلم يوجه سرايا وجماعات لتبليغ القبائل والحاضرين الموسم .
وهل فيه أذى وضرر محتمل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم أنه كان يُبلغ في الأشهر الحرم التي ليس فيها قتل وتعد ، الجواب هو الأول لشدة سخط وإرادة كفار قريش الإنتقام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإضافة لقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ على مدار أيام السنة، وفي التنزيل[يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ]( ).
وما اشاعتهم بين القبائل بأنه ساحر إلا لتحريضهم عليه ، وإرادة قتله من قبل القبائل الأخرى ليبؤوا بدمه [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
وعندما تجلى لعموم قريش قانون إمتناع القبائل عن قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقانون تلقي أهل المدينة المنورة رسالته بالتصديق وقدوم شخصه الكريم عليهم بنصرته جاءت جيوشهم لمعركة بدر وأحد ، وتعالت أصواتهم بالتهديد والوعيد ، وجاهروا بعزمهم على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فجاء الرد عليهم في آية البحث التي توثق طرو حال جديدة مباركة في الجزيرة وهي حسن التوكل على الله وتفويض الأمور إليه في ساعة الشدة والضراء ، فلم يقابل الصحابة تهديد قريش بمثله، ولم يذكروهم بوقائع معركة بدر , وكيف تم نصر الله للمسلمين بمعجزة، إنما إتخذوا من تهديد جيوش الذين كفروا والتي لم تبتعد كثيراً عن المدينة موضوعاً ووسيلة للثبات في مقامات الإيمان والإرتقاء في سلم المعرفة.
لقد ذكرت آية البحث أطرافاً وهم :
الأول : الصحابة من المهاجرين والأنصار الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد ، وعددهم مائتان وسبعون، وهم المحذَرون بفتح الذال .
الثاني : الذين قاموا بتحذير وتخويف الصحابة ، وأختلف في عددهم، وقيل هو شخص , وهم المحذِرون بكسر الذال .
والمختار بخلافه ، وسيأتي التفصيل والتحقيق في باب أسباب النزول .
الثالث : جيش الذين كفروا وعددهم نحو ثلاثة آلاف رجل وهم المحذَر منهم .
ترى لماذا لم تكتف الآية بالقول : الذين قيل لهم أن الناس قد جمعوا لكم ولفظ القيل ورد في القرآن في حالات ومناسبات مشابهة كما في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ]( ).
الجواب فيه وجوه :
الأول : ذكر موضوعية الذين بلغوا وحذروا المسلمين .
الثاني : دعوة العلماء والمسلمين عامة إلى العناية بذات الذين قاموا بتحذير المسلمين .
الثالث : بيان قانون مستحدث ، وهو وجود طرف ثالث غير المؤمنين والذين كفروا ، جاء إخبارهم عن نية وعزم الذين كفروا الإغارة والإجهاز على المسلمين وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عنواناً ودليلاً على هذه الطائفة .
الرابع : تبكيت المنافقين ، وذمهم من جهات :
الأولى : قعود الذين نافقوا عن الدفاع وبثهم الأراجيف في المدينة وتوجيههم اللوم للذين قتلوا من الصحابة ، كما ورد حكاية عنهم في التنزيل [لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا] ( ) وقعد المنافقون عن الذب عن المدينة عامة وعن أنفسهم خاصة .
الثانية : بث المنافقين الإشاعات وأسباب الوهن والضعف في المدينة .
الثالثة : القيام بالترغيب بعدم الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقتال بين يديه .
ولا تختص صيغ الترغيب هذه بالرجال عامة والأنصار خاصة ، بل يشمل نساء المدينة عامة والمؤمنات خاصة ، وهو من الإعجاز في ذكر المنافقات بالذات في خمس مواضع من القرآن مع أن لفظ المنافقين يشملهن ايضاً لغلبة التذكير .
الرابعة : بث الأراجيف في المدينة عن خسارة النبي وأصحابه في المعركة وحينما يخرجون إلى المعركة يقول المنافقون أنهم لا يرجعون .
وفي قوله تعالى [وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ] ( ).
(إنما خرج محمدٌ في أكلة رأس ، يقدم على قومٍ موتورين، فأبوا أن ينفروا معه) ( ).
الخامس : دلالة قيل في الآية أعلاه على تعدد جهة صدور القول وهم:
أولاً : القرآن الذي يدعو الناس للإيمان قال تعالى [ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ] ( ).
ثانياً : دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس للإيمان قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
ثالثاً : المؤمنون من المهاجرين والأنصار، وهل أداء الصلاة اليومية من هذه الدعوة، الجواب نعم، وهو من أسرار قراءة المسلمين القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب لتكون مدرسة لإتعاظ الناس جميعاً.
رابعاً : ذات المنافقين بأن يدعو بعضهم بعضاً إلى الإيمان الصادق ولزوم إصلاح النفوس، وعدم إخفاء الكفر.
خامساً : التلاوم بين الذين كفروا على بقائهم على الكفر مع تجلي وتوالي معجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
سادساً : توبيخ عوائل الكفار لهم على الفساد , والحث على الصدود عن سبيل الله.
سابعاً : قيام المؤمنين والمؤمنات بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثامناً : مجيء الأذى للذين كفروا وعوائلهم لسوء إختيارهم وقبيح فعلهم مما يجعلهم يتناجون بالتوبة والكف عن إرتكاب المعاصي والسيئات.
لقد ورد الفعل الماضي (قال) بتوجيه وحفظ من الناس إلى المسلمين، وموضوع القول هو لزوم أخذ الحائطة من جيش الذين كفروا إذ أنهم جمعوا للمسلمين.
وهل يحتمل إرادة الناس جمع قريش لمعركة أحد وأنهم لم يعلموا بإنقضائها , الجواب لا، إذ أنهم رأوا تقدم الجيش الكبير نحو المدينة، ثم ما لبث أن عاد وليس معه أسرى أو أمارة تؤكد إنتصارهم.
وورد الفعل(قالوا) في آية البحث بصيغة الماضي وهو صادر من المؤمنين جواباً على قول وتحذير الناس لهم، وفيه أدب الخطاب وإكرام الذين حذروهم بأن أجابوهم، وتضمن الجواب أسمى معاني الإيمان والرضا على الله، والوثوق بما عنده، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).وكأن الصحابة شكروا هؤلاء بصفحة من التقوى , والدعوة بالواسطة للإسلام .
أسباب النزول
ذكرت أسباب متعددة لنزول آية البحث منها :
الأول : إرادة خصوص نعيم بن مسعود الأشجعي من لفظ الناس في قوله تعالى[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ] فيذكر الفرد الواحد ويراد منه الجمع، وأستدل عليه بقوله تعالى[إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً]( )ولكنه قياس مع الفارق.
وقيل إذا كان القائل رئيساً فيجوز الإخبار عنه بالجمع وترد قصة نعيم بن مسعود هذه من جهات :
الأولى : إنها سبب لنزول الآية السابقة [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ] ( ).
الثانية : انها سبب لنزول آية البحث .
الثالثة : يتعلق خبر نعيم بن مسعود بخصوص الخروج في اليوم التالي لواقعة أحد .
الرابعة : ترد قصة نعيم بن مسعود في موضوع آية البحث .
وتحتمل بدايات هذه القصة عند انقضاء معركة أحد باختيار جيش الذين كفروا إذ أطل أبو سفيان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ونادى (إن موعدكم بدر العام المقبل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل من أصحابه: قل: نعم هو بيننا وبينك موعد.) ( ).
وعندما حان الموعد في العام التالي لمعركة أحد خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة بمر الظهران ، ويسمى في هذه الأزمنة (وادي فاطمة ) وقيل سميت مراً لمرارتها .
وعند خروج أبي سفيان وأصحابه قذف الله الرعب في قلوبهم وصاحبهم هذا الرعبُ والخوف لحين عودتهم إلى مكة، وهو من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ) فلقى نعيم بن مسعود الأشجعي قادماً لأداء مناسك العمرة .
فقال له أبو سفيان : يا نعيم أنا واعدت محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى ، ولم يذكر سنخية اللقاء لأن المتبادر هو اللقاء للقتال، والتبادر من علامات الحقيقة، لذا ورد قوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ]( ) ثم اتجه أبو سفيان إلى تقديم الذريعة والعذر للتخلف عن اللقاء ، إذ قال، وأن هذا عام جدب ، ولا يصلح لها إلا عام ترعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن .
وهل التفت أبو سفيان ورهطه إلى علة الجدب والقحط وهي محاربة الله ورسوله في معركة أحد والإستعداد لمحاربة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الجواب نعم، ولو على نحو الموجبة الجزئية وهو من أسباب دخول فريق من أهل مكة الإسلام.
ولم يأت هذا الإستعداد عن تهديد ووعيد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وما جرى هو العكس ، إذ أن أبا سفيان هو الذي توعد وهدد وعيّن موعد اللقاء من قابل مما يدل على أن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة التالية إلى بدر الصغرى هو للدفاع ، ومن الآيات في المقام قيامه بالرجوع هو وأصحابه إلى المدينة ، وعدم مواصلة السير نحو مكة أو السير بإتجاه القبائل التي تؤازر المشركين .
ويحضر في المقام سؤال ترى أين أموال تجارة قريش من الكسب بين مكة والشام , ومكة واليمن، وأين الأموال التي يجنيها أهل مكة من وفود العرب لأداء الحج والعمرة ، قال تعالى في خطاب إلى إبراهيم عليه السلام[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ).
وتفيد الآية أعلاه على أن منافع الحج عامة لأهل مكة ووفد الحاج منذ أيام إبراهيم عليه السلام، وليس من حصر لهذه المنافع , وهل هي من الكلي المتواطئ الذي يكون متساوياً في كل سنة أم هناك تباين في المنافع بين سنة وأخرى.
الجواب هو الثاني، اذ أن المنافع مع الإسلام وتولي المسلمين أمور السدانة وصيرورة أهل مكة مسلمين أكثر وأعظم .
وتكّذب الآيات أعلاه إدعاء أبي سفيان الجدب والقحط لما في الحج كل عام من المنافع ومن ذبح الهدى والأنعام واطعام الفقراء فيها الذي يدل على وفرة الأنعام وكثرة الذبح في موسم الحج ، والذي يستعد له أهل مكة طيلة أيام السنة .
فما أن تنقضي أيام الموسم حتى يتهيأ أهل مكة للموسم القادم لذا تعمر أسواق العرب في موسم الحج ، ومنها :
أولاً : سوق مجنة مشتق من الجنة وهي البستان ، ويأتيه العرب بعد سوق عكاظ ، ويمضون فيه الأيام العشرة الأخيرة من شهر ذي القعدة وموقعها في وادي فاطمة بمر الظهران على بعد بريد من مكة إذ كان العرب يسيرون نحو مكة , وكلما صار الوقت قريباً من أيام الحج توجهوا إلى الأسواق القربية منها .
ثانياً : سوق عكاظ ويقع قريباً من الطائف ومن جهة الشمال الشرقي منها .
ثالثاً: سوق ذي المجاز ، وهو في ناحية عرفة وإلى جانبها إذ ينتقل إليه العرب بعد رؤية هلال ذي الحجة ويبقى فيه شطر منهم إلى يوم الثامن وهو بناحية جبل كبكب على مسافة نحو خمسة كيلو متر من جبل عرفة.
ولا يدل نظام الأسواق هذا على أن العرب كلهم يبقون فيها عشرة أيام، ولكنها تبقى عامرة ، ويستمر البيع والشراء فيها طيلة مدة نصبها، فقد يبقى فيها بعض العرب يوماً واحداً ثم يغادر أو ينتظر لحين بيع بضاعته.
لقد أراد الله عز وجل الخزي لرؤساء الكفر عند أهل مكة والقبائل وعند المسلمين من جهات :
الأولى : التخلف عن الموعد الذي إختاروه بأنفسهم .
الثانية : إعتذار أبي سفيان بالجدب والقحط وهو أمر لا أصل له .
الثالثة : سلامة المسلمين من القتال في بدر الصغرى وكل محو أو تأجيل لقتال إنما هو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الرابعة : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على الموعد إلى الموضع الذي عيّنه أبو سفيان بمرأى ومسمع من الطرفين إلى موضع[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
ليكون من خزي الذين كفروا يوم أحد اختتامه بتهديد ووعيد من المشركين إذ رجعوا عن تحقيق مسماه ،وكأنه من قول المنافقين في وسط الطريق إلى معركة أحد لعبد الله بن عمرو بن حرام السلمي والد جابر بن عبد الله الأنصاري حينما رجع معهم خطوات وهو يحذرهم من الغدر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخذلان قومهم من الأنصار أمام جيش المشركين.
فرد عليه المنافقون (لو نعلم انكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكنا لا نرى أن يكون قتال فلما استعصوا عليه وأبوا الا الانصراف قال ابعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم نبيه صلى الله عليه وآله و سلم)( ).
ودارت الأيام ليأتي موعد بدر الصغرى في العام التالي أي في السنة الرابعة للهجرة , وهو من مصاديق الفضل والتخفيف من عند الله عز وجل عن المسلمين .
وعندما انهزم المشركون في معركة بدر هزيمة خزي وعار وهو الذي يدل عليه قوله تعالى في خطاب للمسلمين [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) فمن مصاديق نصر الله للمسلمين الخزي والهوان لعدوهم.
وليكون من معاني قوله تعالى [وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] أي إقامة الحجة على الذين كفروا بأن الله نصر المسلمين في معركة بدر وهم أذلة ليكون نصرهم في المعارك اللاحقة من باب الأولوية ، وهو الذي أدركه رؤساء قريش ، وتأكدوا منه في معركة أحد , فاختاروا العزوف عن الخروج إلى معركة بدر الصغرى .
ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نصر الله له في ميدان القتال كما في معركة بدر، وترشح مصاديق عديدة من هذا النصر بكيفية وصيغ أخرى منها إمتناع المشركين عن القتال في الزمان والمكان الذي إختاروه، وتوعدوا المسلمين به، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ]( ).
ولم يرد لفظ(المحسنون) بصيغة الرفع في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وورد مرة واحدة بصيغة التأنيث ، قال تعالى [وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا] ( ) .
بينما ورد لفظ [الْمُحْسِنِينَ]ثلاثاً وثلاثين مرة ليشمل هذا اللفظ المسلمين والمسلمات الذين يعملون الصالحات ، إنما ورد اللفظ بالتذكير لغلبته على التأنيث .
وجاء لفظ (محسن) بصيغة المفرد أربع مرات في القرآن منه [بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ] ( ) وتقدير الآية بصيغة التأنيث : بلى من اسلمت وجهها لله وهي محسنة فلها أجرها عند ربها .
الثاني : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلف جيش المشركين في اليوم التالي لمعركة أحد .
قال ابن إسحاق (قَالَ تَعَالَى{الّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلّهِ وَالرّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ}( ) أَيْ الْجِرَاحُ وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ عَلَى مَا بِهِمْ مِنْ أَلَمِ الْجِرَاحِ { لِلّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}
وَالنّاسُ الّذِينَ قَالُوا لَهُمْ مَا قَالُوا ، النّفَرُ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ ، الّذِينَ قَالَ لَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ مَا قَالَ؟ قَالُوا إنّ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ رَاجِعُونَ إلَيْكُمْ)( ).
الثالث : القائل أعرابي من غير ذكر نسبته وقبيلته.
(وأخرج ابن جرير عن السدي قال : لما ندم أبو سفيان وأصحابه على الرجوع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وقالوا : ارجعوا فاستأصلوهم. فقذف الله في قلوبهم الرعب فهزموا ، فلقوا أعرابياً فجعلوا له جعلاً .
فقالوا له : إن لقيت محمداً وأصحابه فأخبرهم أنا قد جمعنا لهم . فأخبر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد ، فلقوا الأعرابي في الطريق فأخبرهم الخبر فقالوا : { حسبنا الله ونعم الوكيل} ثم رجعوا من حمراء الأسد . فأنزل الله فيهم وفي الأعرابي الذي لقيهم{الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم…})( ).
الرابع : مجئ التخويف للمسلمين بعد انقضاء معركة أحد وقبل الوصول إلى حمراء الأسد ، ولم يمنعهم هذا التخويف من تعقب العدو والإستعداد للقائه .
وقال ابن القيم الجوزية: لما قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم أحد (بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ مِنْ أُحُدٍ : إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَتَجَهّزُوا وَخَرَجُوا لِلِقَاءِ عَدُوّهِمْ وَأَعْطَوْهُمْ الْكَيْسَ مِنْ نُفُوسِهِمْ ثُمّ قَالُوا : { حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } فَأَثّرَتْ الْكَلِمَةُ أَثَرَهَا ، وَاقْتَضَتْ مُوجَبَهَا( ).
الخامس : المراد في نزول آية البحث غزوة بدر الآخرة في شهر شعبان من السنة الرابعة ، وقال الواقدي في شهر ذي القعدة سنة أربعة ، وبلحاظ التأريخ , الأول أصح .
(عن عكرمة قال : كانت بدر متجراً في الجاهلية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واعد أبا سفيان أن يلقاه بها ، فلقيهم رجل فقال له : إن بها جمعاً عظيماً من المشركين . فأما الجبان فرجع . وأما الشجاع فأخذ أهبة التجارة وأهبة القتال{وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } ثم خرجوا حتى جاؤوها فتسوّقوا بها ولم يلقوا أحداً فنزلت { الذين قال لهم الناس } إلى قوله { بنعمة من الله وفضل })( ).
السادس : إرادة خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إظهار اللجوء إلى الله والتوكل عليه في خاتمة آية البحث , ليكون لجوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله سبحانه وثقته بفضله نيابة عن أمته .
(عن ابن عباس قال : قال آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار { حسبنا الله ونعم الوكيل } وقال نبيكم مثلها { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } .) ( ).
السابع : خروج طائفة من المهاجرين والأنصار في اليوم الثاني لمعركة أحد إذ ندبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لملاحقة العدو ، ولم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم .
إذ ورد (عن قتادة قال: ذاك يوم أحد بعد القتل والجراحة وبعد ما انصرف المشركون أبو سفيان وأصحابه قال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم لاصحابه: ألا عصابة تشدد لامر الله فتطلب عدوها فإنه أنكى للعدو وأبعد للسمع .
فانطلق عصابة على ما يعلم الله من الجهد حتى إذا كانوا بذي الحليفة جعل الاعراب والناس يأتون عليهم، فيقولون هذا أبو سفيان مائل عليكم بالناس، فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأنزل الله تعالى فيهم – الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم إلى قوله تعالى ( والله ذو فضل عظيم) ( ) .
الثامن : لقد تكرر لفظ الناس في آية البحث والمراد من الأول [قَالَ لَهُمْ النَّاسُ] هو نعيم بن مسعود الأشجعي بعينه( ) وعدّ من إعجاز القرآن بأن يأتي لفظ يفيد الجميع ، والمراد منه واحد.
وعن الإمام علي عليه السلام في تفسير آية البحث قال (نزلت هذه الآية في نعيم بن مسعود الاشجعي وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله رجع من معركة احد وقد قتل عمه حمزة وقتل من المسلمين من قتل، وجرح من جرح وانهزم من انهزم، ولم ينله القتل والجرح، أوحى الله تعالى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله أن اخرج في وقتك هذا لطلب قريش، ولا تخرج معك من أصحابك إلا من كانت به جراحة، فأعلمهم بذلك، فخرجوا معه على ما كان بهم من الجراح حتى نزلوا منزلا يقال له: حمراء الاسد، وكانت قريش قد جدت السير فرقا، فلما بلغهم خروج رسول الله صلى الله عليه وآله في طلبهم خافوا فاستقبلهم رجل من أشجع يقال له: نعيم بن مسعود يريد المدينة .
فقال له: أبو سفيان صخر بن حرب: يا نعيم هل لك أن أضمن لك عشر قلائص وتجعل طريقك على حمراء الاسد فتخبر محمدا أنه قد جاء مدد كثير من حلفائنا من العرب: كنانة وعشيرتهم والاحابيش، وتهول عليهم ما استطعت، فلعلهم يرجعون عنا ؟
فأجابه إلى ذلك، وقصد حمراء الاسد فأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك، وقال: إن قريشا يصبحون بجمعهم الذي لا قوام لكم به فاقبلوا نصيحتي وارجعوا، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ” حسبنا الله ونعم الوكيل، اعلم أنا لا نبالي بهم، فأنزل الله سبحانه على رسوله ” الذين استجابوا لله والرسول ” إلى قوله: ” ونعم الوكيل ” وإنما كان القائل نعيم بن مسعود فسماه الله باسم جميع الناس) ( ).
التاسع : القائل هم المنافقون في المدينة إذ كانوا قبل معركة أحد يحرضون المسلمين على القعود وعدم الخروج ، ثم رجع ثلاثمائة منهم من وسط الطريق إلى معركة أحد ، حتى إذا نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي لمعركة أحد بالخروج خلف العدو أخذوا يحذرون الصحابة والأنصار منهم خاصة ، ويحثونهم على القعود ، ويذكرونهم بالشهداء الذين سقطوا في معركة أحد بالإضافة إلى مسألة كثرة أفراد جيش المشركين .
فأجابهم المهاجرون والأنصار[حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ) وهذا الجواب مصداق لقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وليكون من إعجاز آية البحث التشابه بالسرائر والصفة بين المراد من لفظي الناس في آية البحث ، ويكون تقديره الذين قال لهم المنافقون أن المشركين قد جمعوا لكم ، ويكون جواب الصحابة تأديباً للمنافقين وزاجراً لهم ودعوة لهم التوبة .
وقال ابو عبيدة (الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمعُوا لَكُمْ): وقع المعنى على رجل واحد، والعرب تفعل ذلك، فيقول الرجل: فعلنا كذا وفعلنا، وإنما يعنى نفسه، وفي القرآن: (إنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) والله هُوَ الخالق)( ).
ولكنه قياس مع الفارق من وجوه :
أولاً : إرادة تكلم الشخص عن نفسه (فعلنا كذا) وليس الخبر ، فحينما يأتي الخبر يكون بصيغة المفرد فيقال : فعل فلان وليس : فلان فعلوا .
ثانياً : الأصل هو إرادة الجمع إلا مع الدليل الخاص في المقام .
ثالثاً : ذكر الله عز وجل في المقام، وهو أمر مختلف لإفادة التعظيم والإجلال والقدرة المطلقة.
والمختار أن القائلين جماعة وفرداً , فأن القول تكرر وتشابه ، لبيان صبر وجهاد المسلمين , وأنهم كانوا يظهرون حسن التوكل على الله عز وجل .
التاسع : الذي أخبر المسلمين بأن الناس قد جمعوا لهم إنما هو(أعرابي من خزاعة. أخرجه ابن مردويه عن أبي رافع)( ).
(وَقَالَ السُّدِّيُّ : ” هُوَ أَعْرَابِيٌّ ضَمِنَ لَهُ جُعْلًا عَلَى ذَلِكَ”؛ فَأَطْلَقَ اللَّهُ تَعَالَى اسم النَّاسِ عَلَى الْوَاحِدِ عَلَى قَوْلِ مَنْ تَأَوَّلَهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا وَاحِدًا، فَهَذَا عَلَى أَنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَ الْعُمُومِ وَأَرَادَ بِهِ الْخُصُوصَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَمَّا كَانَ النَّاسُ اسْمًا لِلْجِنْسِ وَكَانَ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ ، تَنَاوَلَ ذَلِكَ أَقَلَّهُمْ وَهُوَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَفْظُ الْجِنْسِ ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ : إنْ كَلَّمْت النَّاسَ فَعَبْدِي حَرٌّ : إنَّهُ عَلَى كَلَامِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَفْظُ الْجِنْسِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ فَيَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ)( ).
ولكن المثل الذي ذكره أبو بكر( ) أعلاه قياس مع الفارق فالمراد فيه تحقق مصداق الكلام وتنجز الشرط ، وأن لم تكن الصيغة التي ذكرها صيغة نذر، وموضوع الآية هو أن الناس هم الذين قالوا وأخبروا وتكلموا ثم أنهم أخبروا عن أمر عام وليس خاصاً وهو جمع الجيوش واختار ابن عربي أن القائل هو واحد ، ولم يقيده بأنه أعرابي لعله لتعدد الخبر بخصوصه وورود قول بأن الذي أنذر المسلمين هو نعيم بن مسعود الأشجعي ، وقد اسلم وهاجر في معركة الخندق فأمره النبي صلى الله عليه وآله أن يخفي اسلامه ويرجع إلى المشركين ويخّذلهم، وينذرهم ويخيفهم ويسعى في إلقاء الخلاف بينهم وبين بني قريظة.
التاسع : المراد من الناس الذين أنذروا المسلمين أربعة نفر، قاله الشافعي( ).
العاشر : القائل رجل من أشجع، قاله الفراء( ).
الحادي عشر : بعد أن قام معبد الخزاعي باخبار أبي سفيان عن طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه له دخله الخوف وسعى لإجتناب اللقاء مرة أخرى ، للإحتفاظ بما كسبه في معركة أحد ، فلقيه ركب من عبد قيس متوجهين إلى المدينة للميرة .
فقال لهم : ثبطوا عنا محمداً وامنعوه من لحوقنا ، ولكم حمل بعير من الزبيب ، فلما لقوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خوّفوهم ولكنهم أجابوا[حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( ) وساروا إلى حمراء الأسد، وظاهر الحديث أن هذا التخويف والإجابة عليه حدثا في طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد.
لتمر الأيام ويقدم وفد عبد قيس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة العاشرة للهجرة ليدخلوا الإسلام ،فسألهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قيس بن ساعدة لبيان كيف أنه كان يبشر بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن ابن عباس قال : قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: “أيكم يعرف قس بن ساعدة الإيادي”، قال: كلنا يا رسول الله نعرفه.
قال: “فما فعل”،
قالوا: هلك.
قال: ما أنساه بعكاظ في الشهر الحرام على جمل له أحمر وهو يخطب الناس وهو يقول: أيها الناس اجتمعوا وأسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت إن في السماء لخبراً وإن في الأرض لعبراً مهاد موضوع وسقف مرفوع ونجوم تمور وبحار لا تغور أقسم قس قسماً لئن كان في الأمر رضاً لتعودن سخطاً إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون؟ أرضوا فأقاموا أم تركوا فناموا”.
ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “أيكم يروي شعره”. فأنشدوه:
في الذاهبين الأول … ين من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً … للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها … يسعى الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلى … ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا … لة حيث صار القوم صائر)( ).
(وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” يعرض هذا الكلام يوم القيامة على قس بن ساعدة فإن كان قاله لله فهو من أهل الجنة”)( ).
أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمضى قولهم بنسبة الشعر لقيس بن ساعدة إلا أنه أخبرهم بأن المدار يوم القيامة على النية والقصد في قول وفعل العمل الصالح لبيان حقيقة وهي رجحان كفة وقصد القربة في عمل المسلم ببركة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان في وفد عبد القيس الجارود بن بشر بن المعلى ودخل الإسلام وحسن إسلامه ، وقال (يا رسول الله إنى على دين وإني تارك ديني لدينك فتضمن لي بما فيه؟
قال: نعم أنا ضامن لذلك إن الذى أدعوك إليه خير من الذي كنت عليه فأسلم وأسلم أصحابه.
ثم قال : يارسول الله! احملنا
فقال: والله ما عندي ما أحملكم عليه , فقال: يا رسول الله ! إن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس أفنتبلغ عليها؟ قال: لا تلك حرق النار)( ).
وعلّمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يجب عليهم من العبادات وبيّن لهم لزوم أداء الصلاة .
وعندما انتقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى نهى الجارود قومه عن الردة ، وبعد أن تم فتح مكة وعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك جاءت وفود العرب [يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً] ( )ومنها :
الأول : وفد ثقيف إذ قاموا بمبايعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد معركة حنين ، وإمتناعهم في الحصن عند محاصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم .
الثاني : وفد طي.
الثالث : وفد بني تميم .
الرابع : وفد بني عامر .
الخامس : وفد عبد القيس .
السادس : وفد بني حنيفة .
السابع : وفد كندة .
الثامن : وفد الأشعريين .
التاسع : وفد الأزد .
العاشر : وفد أهل نجران .
العاشر : وفد همدان .
الحادي عشر : وفد نصارى نجران وغيرهم .
قال تعالى[فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ]( ).
وسنبينه تفصيلاً إن شاء الله لما في مجيء هذه الوفود من المواعظ والدروس وفيهم من وجهاء العرب ومن الفرسان، وذكروا مسائل ووجهوا الأسئلة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يجيبهم، فمثلاً عندما قدم وفد ثقيف أسكنهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، وبنى لهم خياماً لكي يكونوا قريبين منه صلى الله عليه وآله وسلم ويؤدوا الصلاة خمس مرات في اليوم، ويسمعوا القرآن، والتفتوا إلى مسألة وهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا خطب لا يذكر اسمه، فقالوا: يأمرنا بالشهادة له بالرسالة ولا يذكر هو اسمه.
فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قولهم ، فقال (فَإِنّي أَوّلُ مَنْ شَهِدَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ . وَكَانُوا يَغْدُونَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ كُلّ يَوْمٍ وَيُخَلّفُونَ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ عَلَى رِحَالِهِمْ لِأَنّهُ أَصْغَرُهُمْ فَكَانَ عُثْمَانُ كُلّمَا رَجَعَ الْوَفْدُ إلَيْهِ وَقَالُوا بِالْهَاجِرَةِ عَمَدَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ الدّينِ وَاسْتَقْرَأَهُ الْقُرْآنَ فَاخْتَلَفَ إلَيْهِ عُثْمَانُ مِرَارًا حَتّى فَقِهَ فِي الدّينِ) ( ).
من غايات الآية
في الآية مسائل :
الأولى : تبين آية البحث العناية الإلهية بالمسلمين وتفضل الله عز وجل بأسباب ومقدمات حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الثانية : بيان كيفية ثبات الإسلام من وجوه :
الأول : ثبات الإسلام في النفوس .
الثاني : تجلي معالم الإيمان في المجتمعات .
الثالث : بدايات بناء صرح الإسلام ، وكيف أنها معجزة بذاتها .
الثالثة : هل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف العدو في اليوم التالي لمعركة أحد من ضروب الدفاع أم الغزو والهجوم .
الجواب هو الأول وهو دفاع محض ، وحتى الهجوم في هذه الحال فهو أمر مشروع ويلحق بالدفاع لتعدي الذين كفروا في اليوم السابق بهجومهم على المسلمين .
الرابعة : لقد أراد الذين كفروا في معركة أحد قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأنجاه الله عز وجل وقام في اليوم التالي بملاحقة الذين كفروا بنفسه ، وهو معجزة له في السنة الدفاعية .
وهل خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد من تلقاه نفسه أم بالوحي ، الجواب هو الثاني ، ويتجلى الوحي في المقام من وجوه :
الأول : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد ، وملاقاة العدو خارج المدينة مع أنه كان يميل إلى قتالهم فيها ، ولكن رهطاً من الشباب المسلم ألحوا عليه به بالخروج خاصة أولئك الذين فاتهم الاشتراك في معركة بدر ، ليكون خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد من مصاديق قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] ( ) .
وهل من مشورة بالخروج إلى حمراء الأسد . الظاهر عدم الإستشارة إذ نزل جبرئيل بالأمر بالخروج لإرهاب جيش الذين كفروا ومن الآيات أن عسكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ذاع صيته في القبائل ومنه أهل مكة والمدينة .
ليكون في هذا الخروج إرهاب للمشركين ودعوة للناس لدخول الإسلام ، فمن الإعجاز في السنة الدفاعية جذب الناس إلى الإيمان ، فلقد اراد الذين كفروا بمعركة أحد والإعداد الطويل لها ، صدّ الناس عن دخول الإسلام .
فجاء صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المعركة ، وخروجهم خلف العدو باعثاً للناس لدخول الإسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) .
الثاني : أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمناداة بين الصحابة للخروج خلف جيش العدو .
الثالث : اعلان النبي شرطاً للخروج بحصرة بالمؤمنين الذين قاتلوا في معركة أحد .
الخامسة : لما تفضل الله عز وجل وأخبر عن كون علة خلق الناس هي إنقطاعهم لعبادته، تفضل وأنزل آية البحث مصداقاً لهذه العبادة في أشق الأحوال، ليكون من معاني قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، على وجوه منها :
الأول : ليعبدونِ في حال الرخاء والشدة.
الثاني : ليعبدونِ في أشد الأحوال.
الثالث : ليعبدونِ وإن أراد الذين كفروا الإجهاز عليهم.
الرابع : ليعبدونِ , وأنا الكافي , وفي التنزيل[أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الخامس : ليعبدونِ فازيدهم ايماناً.
السادس : ليعبدونِ فيصيب الذين كفروا الخوف والرعب.
السابع : ليعبدونِ فأنزل آيات القرآن مدحهم والثناء عليهم.
الثامن : ليعبدون فأنعم عليهم بالأجر العاجل والأجل، ومن العاجل ما ورد في الآية التالية بقوله تعالى[فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ]( )، بخلاف إنقلاب الذين كفروا عند رجوعهم إلى مكة إذ انقلبوا بحال من الخوف والفزع، قال تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ).
التاسع : ليعبدونِ بالتوكل على الله، فان قلت هل التوكل على الله كاف في العبادة , الجواب لا، لدلالة أول الآية على استجابتهم لله والرسول، ومن أبهى مصاديق الإستجابة إقامة الفرائض , قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
العاشر : بيان آية البحث لقانون وهو صيرورة المؤمنين في حال من العز لا يخشون معه الذين كفروا ووعيدهم وإن كان عدوهم أضعاف عدد المؤمنين، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
ولعله لو جاء هذا التهديد والوعيد قبل معركة بدر لكان الأمر مختلفاً ولأظهرت طائفة من المسلمين الخوف والخشية من الذين كفروا ولأظهرت طائفة من المسلمين الخوف والخشية من الذين كفروا ومع أن معركة أحد جاءت بعد ثلاثة عشر شهراً على معركة بدر وما فيها من النصر والغنائم للمسلمين فان رهطاً من المسلمين صاروا في حال خوف من شدة القتال، كما قال الله تعالى[إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا]( ).
وتبين آية البحث التي تتضمن ذكر الوقائع لليوم التالي لمعركة أحد إنعدام مثل هذا الهم عند المسلمين، وهل كان الذين هموا بالخوف في واقعة أحد موجودين في حمراء الأسد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي .
الجواب نعم، إذ ورد عن جابر بن عبد الله قال : فينا نزلت . في بني حارثة ، وبني سلمة { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } وما يسرني أنها لم تنزل لقول الله { والله وليهما } ( ).
السادسة : من غايات آية البحث بيان جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار في سبيل الله، وتضحياتهم المتصلة إذ نزلت بهم الخسارة والمصيبة بفقد سبعين منهم في معركة أحد، وتفشي الجراحات في أبدانهم، بما يدل بالدلالة التضمنية على إصابتهم بالضعف والعجز عن ملاقاة ذات العدو في معركة أحد، وإذا هم يفاجئون في اليوم التالي بالوحي بدعوتهم لملاحقة ذات العدو، والجيش الذي قاتلهم يوم أحد، فبادروا إلى النفير .
ومن الآيات في المقام اشتراط النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم خروج أحد من المسلمين لم يحضر معهم في معركة أحد.
السابع : يحتمل تبليغ الناس للمسلمين وتحذيرهم من جيش الذين كفروا وجوهاً :
الأول : إنه خير محض.
الثاني : فيه منفعة ومضرة.
الثالث : إنه أذى وضرر.
والصحيح هو الأول من جهات:
الأولى : تأكيد إستحقاق الذين كفروا العذاب لإصرارهم على إستئصال الإسلام.
الثانية : بيان ميل الناس للمسلمين، وحرصهم على عدم إصابتهم بالضرر.
الثالثة : توثيق توكل المسلمين على الله عز وجل في أشق الأحوال.
الرابعة : كفاية الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين عند توكلهم عليه، وهو الذي تدل عليه الآية التالية[فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ]( ).

التفسير
قوله تعالى[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ]
تبين آية البحث صيرورة المسلمين أمة تجتمع على الإيمان والتقوى ، بحيث يخاطبهم الناس ، وهم يدركون أن المسلمين اختصوا بصفة الإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ويتجلى هذا المعنى من جهات :
الأولى : إبتداء الآية بالاسم الموصول (الذين) وفيه شاهد على كونه سوراً جامعاً بصبغة الإيمان .
الثانية : توجه الناس للمسلمين بالبلاغ عن حال الذين كفروا واصرارهم على التعدي .
الثالثة : علم الناس بالعداوة والقتال بين المسلمين والذين كفروا ، واحتمال تجدده .
الرابعة : تأكيد قانون وهو أن المسلمين في حال دفاع حتى في مقدمات القتال ، وأنهم لم يوجهوا للذين كفروا التهديد والوعيد ، ولكن العكس هو الذي وقع كما تدل عليه آية البحث ، فلم تقل الآية أموراً :
الأول : الذين قال لهم الناس أنكم جمعتم للناس .
الثاني : قال الناس للناس أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد جمع لكم .
الثالث : قال الناس للذين كفروا أن المسلمين قد جمعوا لكم فاخشوهم.
انما توجه التحذير إلى المسلمين ، مما يدل على أنهم في حال دفاع ، وما هو أقل رتبة من الدفاع وأنهم غير مهيئين للقتال ، وعندما رأوا أنفسهم قليلي العدد والعدة والسلاح كثيري الجراحات , وما خرجوا إلا بالوحي فوضوا أمرهم إلى الله .
الخامسة : من مصاديق الإيمان وزيادته عند الصحابة الصبر وعدم الفزع من الذين كفروا وجمعهم والمراد لفظ (الناس) الوارد في قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ] الذين قاموا بتحذير المسلمين وتبليغهم بجمع الذين كفروا الجيوش لهم .
وهذا التحذير رحمة بالمسلمين وفي التنزيل[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
وقد تقدم البيان في أسباب النزول , ويحتمل هذا اللفظ وجوهاً :
الأول : إرادة قوم من الأعراب يسكنون تلك الأماكن ويجتمعون حول الآبار لترد ابلهم وأنعامهم الماء فيمر الناس والجماعات والجيوش عليهم ، ويسمعون كلامهم .
الثاني : المقصود بعض القرى في طريق المسلمين إلى حمراء الأسد .
الثالث: إرادة الركبان والمسافرين إذ يلتقون بغيرهم ويعلمون من كلامهم وفعلهم نواياهم ومقاصدهم، خاصة وأن الخوف من الطرف الآخر يتغشى الناس آنذاك وفي البراري بالذات، فحالما يجده يسأله عن قبيلته ووجهته والجهة التي جاء منها ، أما بالنسبة للجيش فان الناس أكثر رغبة لمعرفة مقاصده ، كما أنها تتبين من جهات :
الأولى : جنس وهوية أفراد الجيش .
الثانية : رئاسة الجيش .
الثالثة : انتساب أفراد الجيش ، وهل هم من قبيلة واحدة أو من قبائل يجمع بينها حلف، وتتبين للناس سنخية جيش المشركين، فرؤساؤه كأبي سفيان ونحوه من قريش التي كانت تصلح بين القبائل ، وتتجنب القتال معها.
وفجأة وإذا هم رؤساء للجيش يقاتلون ابن عمهم لأنه جاء بالنبوة والرسالة من عند الله عز وجل .
وفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نزل قوله[وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا]( ).
(عن ابن عباس في قوله : {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً } قال : لما أتى الجن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه ويسجدون بسجوده فعجبوا من طواعية أصحابه له ، فقالوا لقومهم : { لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً})( ).
وموضوع الآية أعم ، وهو يشمل كفار قريش ومن والاهم من باب الأولوية ، وتدل عليه آية البحث وكيف أنهم يريدون الإنتقام من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وإبتدأت آية البحث بالاسم الموصول (الذين) ويراد منه المهاجرون والأنصار الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد متعقبين العدو المشرك .
وهل يشمل الاسم الموصول (الذين) النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أم أنه خارج بالتخصيص.
الجواب هو الأول، وهو من مصاديق قوله تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ]( ) ويكون تقدير آية البحث على وجوه :
الأول : النبي محمد قال له الناس إن الناس قد جمعوا لك فاخشوهم ، بلحاظ أن كفار قريش كانوا يقصدون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال له الناس إن الناس قد جمعوا لكم ، بلحاظ أن كفار قريش أرادوا البطش بالصحابة فيتوجه الخطاب والتحذير من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : النبي محمد قال له الناس أن المشركين قد جمعوا لكم فأخبر أصحابك، وحينما أخبرهم كان ردهم إعلان التوكل على الله والتسليم لأمره ، والرضا بقضائه واللواذ برسوله الكريم .
الرابع : المهاجرون الذين قال لهم الناس أن المشركين جمعوا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليقتلوه ) ليكون من معاني آية البحث دعوة المهاجرين للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : المهاجرون الذين قال لهم الناس أن المشركين قد جمعوا لكم فاخشوهم .
السادس : المهاجرون الذين قال لهم الناس ان المشركين قد جمعوا للأنصار .
السابع : المهاجرون الذين قال لهم الناس أن المشركين جمعوا لأهل المدينة واستباحتها .
الثامن : الأنصار الذين قال لهم الناس إن المشركين قد جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
التاسع : الأنصار الذين قال لهم الناس أن الناس قد جمعوا للمهاجرين.
العاشر : الأنصار الذين قال لهم الناس أن المشركين قد جمعوا لكم .
الحادي عشر : الانصار الذين قال لهم الناس ان المشركين جمعوا لأهليكم وذراريكم فاخشوهم.
لقد افترق الجيشان يوم أحد بعد أن نادى أبو سفيان( مَوْعِدُكُمْ الْمَوْسِمُ بِبَدْرٍ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ” قُولُوا : نَعَمْ قَدْ فَعَلْنَا ” قَالَ أَبُو سُفْيَانَ ” فَذَلِكُمْ الْمَوْعِدُ ” ثُمّ انْصَرَفَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ)( ).
ولكنهم لم يلبثوا في الطريق أن صاؤ بعضهم يلوم بعضاً على الإنسحاب دون تحقيق أي غاية جاءوا من أجلها، وكأنهم يقولون بماذا نجيب إذ ارجعنا الى مكة وماذا يتناقل الركب عنا ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم ينشر معالم الدين وأحكام الشريعة , ويقيم الفرائض، ويدعو الناس إلى الإسلام.
ثم حصل عند رؤساء جيش المشركين ما يشبه الإجماع على الرجوع للقتال، واستئصال الإسلام، وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلما بلغ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على عزمهم على الرجوع بادر الى ندب المسلمين للخروج لمطاردتهم .
قوله تعالى [إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ]
يدل لفظ جمعوا على إتفاق وإجتماع الذين كفروا على محاربة المسلمين وعلى سعيهم للإجهاز على الإسلام ، وعدم وجود خلاف وشقاق بينهم على هذا الأمر، أما لفظ(اجمعون واجمعين) فيأتي لبيان الحال ووصف المعرفة كما في قوله تعالى [فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ] ( )و[وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ] ( ).
ولو قالت الآية أعلاه من سورة الحجر ، وأجمع الملائكة على السجود لتضمنت إتفاقهم على السجود كما لو تشاوروا فيما بينهم ويحتاج تحقق ذات السجود دليلاً آخر.
ولو قالت الآية أعلاه من سورة يوسف(وأجمعوا على أن تأتوني باهلكم) لكان موضوع الجمع هو الإتفاق بين أخوة يوسف وليس ذات الأهل .
فاراد الله عز وجل اقامة الحجة على الذين كفروا من قريش ومن والهم باصرارهم على استئصال الإسلام وعدم اكتفائهم بالتلبس بالكفر مع قبحه ، ولكن هذا الإصرار سبب لتعجيل نزول الخزي بهم .
وفي الآية إخبار عن عزم الذين كفروا على القتال وشيوع هذا العزم بين الناس في الحاضرة والبوادي ، ورؤية الناس للشواهد والمصاديق التي تدل على إرادة المشركين البطش بالصحابة .
وقد تقدم باب أسباب النزول( )، وفيه تفصيل .
وصحيح ان لفظ الناس ورد مرتين في آية البحث وأن ألفاظه متشابهة ، وكأن ذات الناس يقولون للمؤمنين أنا جمعنا لكم فأخشونا ، وهذا المعنى مستحدث منا وهو لا يتعارض مع إرادة الغيرية والتعدد .
ترى كيف يتحقق هذا المعنى ، الجواب يصح بأن يقوم أحد أفراد جيش الذين كفروا باخبار المسلمين عن عزم جيش المشركين على البطش بهم.
وقد قام أبو سفيان بذات الوعيد يوم معركة أحد قبل أن ينصرف، وقال(ألا إن موعدكم بدر الصفراء على رأس الحول)( ).
فيكون المراد من لفظ [الناس] هو أبو سفيان وأصحابه أيضاً إلى جانب الركبان وغيرهم وأنهم أخذوا يكررون القول ويبينون الموعد للناس، كما لو كانوا يقولون : لئن يأتي رأس الحول لنستأصل المسلمين بالإضافة إلى مسألة وهي وجود مسلمين وأناس يميلون إلى الإسلام في جيش كفار قريش.
ليكون من معاني جمعوا لكم وجوهاً :
أولاً : الجمع للمسلمين من حين أول ساعة انقضت بها معركة أحد .
ثانياً : إعلان جيش قريش أثناء عودتهم إلى مكة بأنهم يجمعون للإغارة على المدينة مرة أخرى ، ويتجلى هذا الأمر بالتحالف من جديد بين رؤساء الجيش والقبائل في الطريق إلى مكة .
ثالثاً : أعوان الذين كفروا ممن لم يقاتل إذ يشترك معهم في التهديد والوعيد للمسلمين .
رابعاً : المقصود المنافقون في المدينة ، فحينما علموا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه رجعوا سالمين في أشخاصهم مع حرصهم على إقامة الفرائض وانهم يستحضرون ذكر الشهداء بتلاوة الآيتين قبل السابقة ، وما فيهما من الإخبار عن حياتهم عند الله في نعيم دائم.
(عن قيس الجذامي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن للقتيل عند الله ست خصال : تغفر له خطيئته في أول دفعة من دمه ، ويجار من عذاب القبر ، ويحلى حلة الكرامة ، ويرى مقعده من الجنة ، ويؤمن من الفزع الأكبر ، ويزوّج من الحور العين .
وأخرج الترمذي وصححه وابن ماجة والبيهقي عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن للشهيد عند الله خصالاً . يغفر له في أول دفعة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويحلى عليه حلة الإيمان ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن يوم الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه)( ).
خامساً : إرادة جمع المشركين التدبير والمكر، وفي التنزيل[ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِي]( ).
سادساً : وسوسة الشيطان لأوليائه ، قال تعالى [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) وقيامهم بتخويف المسلمين .
سابعاً : انتشار الاشاعات والمبالغة فيها فيقولون للمسلمين : أن الكفار جمعوا لكم من الناس مثل الليل وأنهم لن يرضوا إلا بقتلكم أو أسركم وسبي نسائكم ونهب أموالكم .
ثامناً : لقد كانت بين الأوس والخزرج في أيام الجاهلية معارك وحروب، فلما جاء الإسلام آخى بينهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ).
وسخّروا هذه الأخوة في الدفاع عن النبوة والتنزيل لأنهما اللذان قطعا تلك المعارك وأزالا العداوة والبغضاء عن نفوسهم ، قال تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ) فأغاظ هذا الأمر أعداء الأوس والخزرج من سكنة المدينة وغيرها ، الذين كانوا يعيشون وينتفعون من المعارك بينهما ، وما فيها من الضعف والوهن لهم.
(أخرج ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم قال : مر شاس بن قيس وكان شيخاً قد عسا في الجاهلية ، عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم ، على نفر من أصحاب رسول الله من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه ، فغاظه ما رأى من ألفتهم ، وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية
فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد . والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار ، فأمر فتى شاباً معه من يهود فقال : اعمد إليهم فاجلس معهم ، ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله ، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار . وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج . ففعل.
فتكلم القوم عند ذلك ، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس ، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج فتقاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددناها الآن جذعة .
وغضب الفريقان جميعاً وقالوا : قد فعلنا. السلاح السلاح . . . موعدكم الظاهرة ، والظاهرة الحرة.
فخرجوا إليها وانضمت الأوس بعضها إلى بعض ، والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين الله الله … أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً؟! فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوّهم لهم. فألقوا السلاح ، وبكوا وعانق الرجال بعضهم بعضاً ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس ، وأنزل الله في شأن شاس بن قيس وما صنع {قل يا أهل الكتاب لمَ تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون} إلى قوله {وما الله بغافل عما تعملون})( ).
وإذ لم ينفع المكر باثارة الفتنة بين الأنصار ولا بينهم وبين المهاجرين كما فعل رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول في واقعة بني المصطلق، إذ نزل قوله تعالى[يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
فقد قام أعداء المهاجرين والأنصار بتخويفهم بجيش الذين كفروا والذي لم يرجع إلى مكة ولا زال في الطريق ، وهل يحتمل إتصال بعض رؤساء النفاق بجيش المشركين في طريق العودة وحثهم على الرجوع لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وذكر انهم في حال ضعف وخسارة، الجواب لا مانع منه إلا أنه يحتاج إلى دليل، وقد تبين بقوله تعالى[فَزَادَهُمْ إِيمَانًا].
ورد اسم الجلالة مرة واحدة في آية البحث ولكنها تدل على إرادة ذكر الله من جهات :
الأولى : إبتداء الآية بالاسم الموصول [الذين] وسيأتي في باب التفسير تضمنه صيغة العطف ، ومن وجوه تقديره : الذين آمنوا بالله ورسوله .
الثانية : جاء قول وإخبار الناس بعزم جيش الذين كفروا على الإنقضاض على المسلمين بما هم مؤمنون بالله ورسوله .
وتقدير الآية : قال الناس للذين آمنوا بالله ورسوله .
الثالثة : لقد كانت قريش منشغلة بالتجارة بين مكة والشام، وبين مكة واليمن، ويقومون بخدمة الحاج في الموسم، ويستعدون لهذه الخدمة قبلها بشهور ، وهم منكبون على تقديس الأصنام لا يرون فيه أمراً معيباً ومنقصة لعكوف عامتهم عليها .
فبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم [بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( ) فلم يتلقوا البشارة بالشكر والإمتثال، ولا الإنذار بالإتعاظ والإعتبار، بل أخذوا يجمعون الجيوش لإرادة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وتقدير آية البحث على وجوه :
الأول : قد جمعوا لكم وهم على الكفر والضلالة .
الثاني : قد جمعوا لكم ببذل الأموال وتهييج القبائل .
الثالث : قد جمعوا لكم لأنهم لا يريدون هدم الأصنام ، وإزالة عبادة الأوثان .
الرابع : قد جمعوا لكم لأنهم أتباع الشيطان، قال تعالى[الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا]( ).
الخامس : قد جمعوا لكم لأنكم آمنتم بالله والرسول .
السادس : يبعث الله الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا لأنهم جمعوا لكم ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
السابع : الناس الذين جمعوا الجموع لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم عذاب أليم.
الثامن : الكفار الذين جمعوا الجيوش لمحاربتكم سيحشرهم الله جميعاً يوم القيامة، وفي التنزيل[فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]( ).
التاسع : قد جمعوا لكم لأنكم تجمعون في الجمعة وتقيمون الصلاة وتعبدون الله لا تشركون به شيئاً، قال تعالى[حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى]( ).
العاشر : قد جمعوا لكم حسداً لأنكم اجتمعتم على الإسلام ونبذتم الفرقة وهجرتم القتال بسبب العصبية [الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ]( ).
الحادي عشر : قد جمعوا لكم ليبتليكم الله هل تخشونهم أم تصبرون وتتعاهدون الإيمان، قال تعالى[وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ]( ).
فأخبرت آية البحث ذاتها عن الصبر ، وهو من مصاديق الإحسان والتقوى للذين ذكرتهم الآية السابقة.
الثاني عشر : قد جمعوا لكم لوجوه :
أولاً : لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معكم .
ثانياً : قد جمعوا لكم لأنكم قاتلتم قبلها بيوم واحد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : قد جمعوا لكم وهم يقصدون قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فمن معاني آية البحث : قد جمعوا لكم لتتفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وتبين الآية أن الذين كفروا جمعوا الناس لقتال المسلمين، لأن الذي بَجمع غير الذي يُجمع ويكون في الجمع أطراف:
الأول : الجامع ، وهو رجالات قريش .
الثاني : المجموع وهم أفراد القبائل والأحابيش والغلمان والعبيد والأسلحة والرواحل .
وهل يتعلق الجمع في الآية بغير القبائل ، الجواب نعم ، وتقديره :
أولاً : قد جمعوا لكم الغلمان .
ثانياً : قد جمعوا لكم العبيد .
ثالثاً : قد جمعوا لكم السيوف والأسلحة والدروع .
رابعا : قد جمعوا لكم الخيل .
خامساً : قد جمعوا لكم الأموال أي ينفقونها في قتالكم .
سادساً : قد أجمعوا أمرهم وعزائمهم , وفي التنزيل[فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ]( ).
الثالث : المجموع له ، وهم المسلمون الذين يقيمون الصلاة بامامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتلقون التنزيل بالغبطة والسعادة ، ويتفقهون في كل يوم في الدين وأحكامه .
وهل يختص جمع الذين كفروا للمسلمين بمعركة أحد فقط ، الجواب لا.
ليكون هذا القانون باعثاً للمسلمين على الصبر والمرابطة ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ]( ).
لقد ورد لفظ الناس مرتين في آية البحث، أما من جهة المعنى فهو متعدد وتقديره: الناس الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم).
أما لفظ الناس الأول أعلاه فيعود للمهاجرين والأنصار، وأما الثاني فيعود للركبان وأهل القرى في الطريق بين مكة والمدينة الذين حذّروا المسلمين .
والمقصود من الثالث هم رؤساء الكفر من قريش، وأما الواو في جمعوا فالمراد عامة الجيش الذي زحف من مكة أو الذين التحقوا بهم في الطريق .
كما يمكن تقدير الآية : ان الناس قد جمعوا لكم الناس ) ولكن موضوع الجمع أعم من الناس ، لبيان رؤية الناس لعدة ورواحل وأسلحة جيش الذين كفروا، ولكنهم لم يقولوا لهم لا قبل لكم به .
وهناك مسألتان :
الأولى : لماذا أطلق الذين حذروا المسلمين لفظ[الناس] على الكفار الذين يريدون إعادة الكرّة على المسلمين .
الثانية : ما المراد من قولهم[قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ]( ).
أما المسألة الأولى أعلاه فمن المعاني والمقاصد بلفظ الناس في المقام وجوه:
الأول : الإخبار عن كثرة جيش الذين كفروا .
الثاني : بيان عدم ميل أهل القرى والركبان إلى كفار قريش في عدوانهم.
الثالث : إرادة خشية ذات أهل القرى من جيش قريش ألا يميلوا عليهم، لأن الفرسان في حال المعركة لا يتورعون عن التعدي والظلم والإضرار بالحرث والنسل إلا الذين آمنوا ويخشون الله عز وجل ، لذا فمن مصاديق قوله تعالى[قَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ] في آية البحث إمتناع المسلمين عن الإضرار بالناس من غير الذين اعتدوا عليهم بل عدم الإضرار والإنتقام حتى من الذين اعتدوا وحضروا للقتال.
فمن دلالات الآية تنزه المسلمين عن الثأر لسبعين شهيداً وجراحات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في رأسه ووجهه وبدنه، وجراحات المسلمين عموماً .
فلم يرد المسلمون بالتحدي وبذات التهديد، مما يدل على أن قوله تعالى[فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]( ) إنما المراد التعدي بالمصداق الواقعي , وليس بالتهديد والتخويف .
ويحتمل لجوء المسلمين إلى الله عز وجل عند سماعهم الوعيد والتخويف وجوهاً:
الأول : تحريض الذين كفروا على المسلمين .
الثاني : استحياء الذين كفروا وكفهم عن القتال .
الثالث : إشاعة الخوف في صفوف وقلوب الذين كفروا .
والصحيح هو الثالث، وفيه دعوة للناس الذين أخبروا المسلمين عن عزم الذين كفروا الرجوع لقتالهم ولعامة جيش الذين كفروا للتوبة ودخول الإسلام ونبذ الكفر والضلالة .
وانقضت أيام تلك الوقائع ، ولكن آية البحث بقت مناراً خالداً يهدي الناس إلى التوحيد والإقرار بأن اللجوء إلى الله عز وجل والتوكل عليه سبب للنجاح والتوفيق والوقاية من أهل الظلم والجور .
ولقد أخبرت آية[بِبَدْرٍ] ( ) عن إنقطاع حال الذلة وصرفها عن المسلمين، مما يدل على أن إعلانهم اللجوء إلى الله , والتوكل عليه ليس من الضعف أو الذلة ، إنما هو من أسباب العز والشأن .
وهو من مصاديق قوله تعالى[يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
وأما المسألة الثانية فتبين تجلي حقيقة وهي أن كفار قريش جمعوا القبائل لمحاربة الإسلام، وشدوا العزم على استئصال الإسلام وأنهم يحرضون اناس على المهاجرين والأنصار الذين آمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن معاني الآية أن جمع الكفار الناس أعم من أن يختص بحمراء الأسد، إنما أخبر الركبان المسلمين بعزم الكفار على الكيد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لذا يكون تقدير فاخشوهم على وجوه متعددة منها :
الأول : فاخشوهم الآن وعند عودتكم إلى المدينة .
الثاني : فاخشوهم وأحذروا مباغتتهم لكم ليلاً .
الثالث : فاخشوا مكر الذين كفروا , وقيامهم بالتعاون مع المنافقين الذين في المدينة .
الرابع : فاخشوهم إذ يبذلون الأموال للإضرار بكم .
الخامس : فاخشوهم ما داموا أسياداً في مكة ، وكأن الناس يحرضون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين على فتح مكة وإزاحة رؤساء الكفر من مقام القرار , وجمع الناس على الباطل فأجابوا[حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] أي هو الذي يمدنا بأسباب الظفر ويعيننا لفتح مكة.
بحث بلاغي
تكرر لفظ [الناس ] في آية البحث مرتين ،وفيه دلالة على التباين بين الفردين ، فكل لفظ منهما يدل على طائفة غير الأخرى .
وجاء كل منهما بالتعريف بالألف واللام ، وأصل ألف التعريف أنها همزة قطع ، ولكنها ولكثرة الاستعمال صارت همزة وصل ، والألف واللام على قسمين :
الأول : أل العهدية : كما في قوله تعالى [فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ]( )إذ تدل الآية على إرادة موسى عليه السلام من لفظ الرسول وقوله تعالى في الآية السابقة [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ] ( ) فالمراد من الرسول في الاية أعلاه هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا بد من إحصائية تبين عدد لفظ (النبي )و(الرسول) في القرآن وتقسيمهما :
اولاً : عدد المرات التي ورد فيها لفظ النبي ويراد منه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثانياً : عدد المرات التي ورد فيها لفظ الرسول في القرآن سواء بالتعريف بالألف واللام أو بلا تعريف ،وفي حال الرفع والنصب والجر.
ثالثاً : عدد المرات التي ذكر فيها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن بلفظ الرسول.
رابعاً : عدد المرات التي ورد فيها لفظ النبي أو الرسول ، ويراد به أحد الرسل أولي العزم ، فمثلاً ذكر ابراهيم في القرآن تسعاً وستين مرة ، وذكر نوح ثلاثاً وأربعين مرة .
وعدد الأنبياء الذين ذكروا في القرآن حسب زمان البعثة هم :
الأول :الرسول آدم.
الثاني : الرسول إدريس .
الثالث : الرسول نوح.
الرابع : الرسول هود.
الخامس : الرسول صالح.
السادس : النبي لوط .
السابع : الرسول إبراهيم .
الثامن : الرسول إسماعيل .
التاسع : الرسول إسحاق .
العاشر : النبي يعقوب .
الحادي عشر :النبي يوسف .
الثاني عشر : النبي شعيب .
الثالث عشر: الرسول موسى.
الرابع عشر : النبي هارون .
الخامس عشر : الرسول داود .
السادس عشر : الرسول سليمان .
السابع عشر : النبي أيوب .
الثامن عشر : النبي ذو الكفل .
التاسع عشر : النبي يونس .
العشرون : النبي إلياس .
الحادي والعشرون : النبي اليسع .
الثاني والعشرون : النبي زكريا .
الثالث والعشرون : النبي يحيى .
الرابع والعشرون : الرسول عيسى .
الخامس والعشرون : سيد المرسلين الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ]( ).
ومن الإعجاز في اللفظ القرآني أن لفظ خاتم لم يرد في القرآن إلا في الآية أعلاه لافادة غلق باب النبوة به إلى يوم القيامة ، مما يدل على كفاية شريعته للأجيال المتعاقبة من الناس، وهو من الدلائل على حاجة الناس للقرآن .
الثاني : آل الجنس : وهي التي تستغرق أفراد الجنس كلها كما في قوله تعالى[وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا]( ).
قانون (جمعوا لكم)
الجمع ضم المتفرق بعضه إلى بعض , والجمع الحشد للقتال .
والبوش : الجمع الكثير، ولا يقال بوش إلا أن يكون الجمع من قبائل متعددة ، أما إذا كانوا من أب واحد لم يسموا بوشاً .
وجمع الجيوش مقدمة للقتال وحدوث المعركة ، قال النابغة :
إذا ما غزوا بالجيش أبصرت فوقهم … عصائب طير تهتدي بعصائب
جوانح قد أيقن أن قبيله … إذا ما التقى الجمعان أول غالب( ).
والنابغة الذبياني واسمه زياد بن معاوية من شعراء الجاهلية ،وقد أدركه حسان بن ثابت وأنشده من شعره إذ عاش حسان في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين( ).
وكان النابغة مقرباً عند النعمان بن المنذر ملك الحيرة ، وأعطاه على بعض قصائده مائة ناقة ، وحدثت حرب بين قبيلة الشاعر ذبيان وبين الغساسنة ملوك الشام ، فانهزمت ذبيان وقتل رجال منهم وأسر آخرون ، وسبيت نساؤهم ، فمال النابغة إلى الغساسنة وأقام عندهم ، وصار يمدحهم ومنها قصيدته التي تضمنت البيتين أعلاه .
والعصائب : جمع عصابة وهي الجماعة .
يريد أن جيش الغساسنة اذا سار كانت جماعات من الطيور الكاسرة تسير فوقه، فتراها طيور أخرى تتبعها بانتظار القتلى من عدوهم .
لقد صار رؤساء قريش يتباهون بجمعهم، وانقياد القبائل باستجابتهم لدعوتهم لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أما الصحابة مع قلة عددهم فقد استجابوا لله والرسول، كما ورد في الآية السابقة[الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ]( ).
فجاءت هذه الآيات بخزي الذين كفروا على جمعهم في العالمين بأن يتلو المسلمون هذه الآيات في كل زمان ويدرك الناس في أجيالهم إصرار كفار قريش على قتال المسلمين وسوء عاقبة جمعهم.
وهو من الإعجاز في سلامة القرآن من التحريض لأن كل آية منه وثيقة سماوية تمنع من تحريف الوقائع والأحداث، وتحول دون الثناء على الذين كفروا ومحاولة تزيين صورتهم وجمعهم.
لقد مرّ جيش قريش وحلفائهم على القرى وعلى محل الآبار في الطريق بين مكة والمدينة بجحافل( ) وكراديس وألوية يتبع بعضها بعضاً متوجهين لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ويعلم الناس آنذاك قلتهم وأنه لا طاقة لهم بجيش مؤلف من ثلاثة آلاف مقاتل قاصدين الثأر والبطش، ولم يعلم الناس حال الخوف والفزع الذي يتغشاهم في مسيرهم ، وازدياد أمارات هذا الخوف مع إقترابهم من المدينة والمدد الذي يأتي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله، وهو من أسرار إنسحابهم في نفس يوم معركة أحد.
إذ رأته ذات القبائل بعودته من غير أن يحقق أهدافه ، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
ومن إعجاز آية البحث تقييد جمع الذين كفروا بأنه خاص وموجه للمسلمين لقوله تعالى [قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ].
أي أنهم لم يجتمعوا إلا لمحاربة الإسلام ، فمع ورود آية البحث بصيغة الغائب ، فان لفظ [لَكُمْ] من لغة الخطاب لبيان آية البحث لقانون في نظم هذه الآيات ، وهو توجهها للمؤمنين بلحاظ عطف هذه الآيات على نداء الإيمان الذي ورد قبل آيات كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
ليكون تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا قد جمعوا لكم ) لبعث المسلمين على الحيطة والحذر من الذين كفروا، حتى بعد النصر وفتح مكة .
ومن الشواهد عليه هجوم هوازن وثقيف على نحو مباغت على المسلمين في معركة حنين بعد الفتح، وفي طريق عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مكة , قال تعالى[وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا]( ).
وجاءت الآية بصيغة الجمع [قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ] وفيه وجوه :
الأول : يا أيها النبي قد جمعوا لك.
الثاني : يا أيها النبي قد جمعوا لكم.
الثالث : يا أيها الذين آمنوا قد جمعوا لكم .
الرابع : يا أيها المهاجرون والأنصار قد جمعوا لكم .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا قد جمعوا لكم ويجمعون لكم .
قوله تعالى[فَاخْشَوْهُمْ]
قد تقدم أن هذه الكلمة مركبة تتألف من أربعة أطراف ، وبلحاظ هذه الآية يقسم الناس في طريق المسلمين إلى حمراء الأسد إلى :
الأول : المسلمون الذين زحفوا تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في اليوم التالي لمعركة أحد .
الثاني : جيش الذين كفروا الذين انسحبوا من ميدان معركة أحد في عصر ذات يوم المعركة ، أي لم يكن ثمة وقت طويل بين إنسحابهم وبين مطاردة المسلمين لهم ، فهولاء انسحبوا عصر يوم السبت، بينما لحقهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه صباح اليوم التالي.
ومن عادة الجيش المنسحب من المعركة إذا لم يكن منهزماً التباطئ بالإنسحاب ، والحرص على جعله منظماً مع تفقد الأفراد والمؤن والرواحل، ومحاولة الاستراحة في الطريق .
الثالث : أناس في الطريق سواء كانوا مسافرين بين مكة والمدينة أو غيرها، إذا كان طريق السفر العام واحداً، وتظهر الأقدام والآثار فيه يعرفه الأدلاء، وتكون في الطريق آبار ماء للشرب والتزود منها .
ومن الإعجاز في قوله تعالى[ فَاخْشَوْهُمْ ]وجوه :
الأول : مجئ الآية بصيغة الفورية التي تدل عليها الفاء ، فلم تقل الآية (واخشوهم) ، وفي قصد الفورية في المقام مسائل منها :
الأولى : ميل وإنحياز الناس إلى جانب المسلمين .
الثانية : رجاء عامة الناس سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل، وهل هو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه ما يترشح عن مقام الرسالة .
الجواب هو الأول , لتشمل الآية ما يصدر من الناس أزاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معاني الرحمة والولاء.
الثالثة : استعداد الناس للتعاون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في دفع شرور الذين كفروا، ومن الشواهد عليه ذهاب مَعبد الخزاعي إلى أبي سفيان وأصحابه وتخويفهم بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الرابعة : معرفة الناس بمكر وبطش قريش .
الخامسة : مقارنة الناس بين كثرة جيش الذين كفروا عندما مروا عليهم، وقلة عدد الصحابة الذين خرجوا من خلفهم ، وحال الجراحات التي تتغشاهم .
السادسة : إدراك الناس لامكان إجتناب المسلمين ملاقاة العدو .
السابعة : استقراء الناس لحقيقة وهي إن إنصراف المسلمين عن لقاء عدوهم أحسن لهم وفق حساب مقدمات ومقومات اللقاء والمواجهة .
الثاني : تعدد معاني الخشية في المقام , وهي على وجوه:
أولاً : معكم رسول الله فحافظوا على سلامته .
ثانياً : فاخشوا الذين كفروا ومكرهم .
ثالثاً : يطلب الذين كفروا قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاخشوهم .
رابعاً : جيش الذين كفروا أضعاف عددكم فاخشوهم .
خامساً : فاخشوا الذين كفروا فهم [لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلاَ ذِمَّةً] ( )والمراد من [إِلًّا] أي لا يراعون القرابة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا الرسالة التي جاء بها ولا الوعيد الذي تضمنته آيات القرآن ، وهو من أسرار مجئ السور المكية التي نزلت قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة بالتخويف والوعيد على الكفر ، وبيان سوء عاقبة الذين كفروا .
كما في قوله تعالى يوم القيامة [يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه]( ) .
الثالث : إدراك عامة الناس بامكان نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالحيطة والحذر .
ومن الآيات أن الناس لم يشيروا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالرجوع والإمتناع عن مواصلة السير ، إنما تقدموا بالتحذير بصيغة الحرص والرجاء أن يخشوا الذين كفروا وبطشهم , وفيه أمارة على علمهم بعمل المسلمين بالوحي .
وهل فيه دلالة على استعداد هؤلاء الناس من الركبان وأهل القبائل نصرة النبي وأصحابه، الجواب لا، نعم فيه دلالة على عدم إرادة إعانة ونصرة الذين كفروا على المسلمين.
وفيه نصر عام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الناس ، وشاهد على صيرورة مبادئ الإسلام حاضرة في المجتمعات وإدراك شطر من الناس قانون لزوم عدم محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وترشح هذا القانون عن المعجزة العقلية للقرآن وأسرار نصر المسلمين في معركة بدر وعدم هزيمتهم في معركة أحد .
ويحتمل الضمير [هم] في اخشوهم وجوهاً :
الأول : إرادة الناس الذين جمعوا الجيوش أي رؤساء الكفر من قريش بلحاظ أنهم أصحاب القرار في البدء بالقتال والهجوم .
الثاني : المقصود عامة الجيش الذين جُمعوا إذ جمعهم رؤساء الكفر وأغروهم بالأموال والغنائم ووعدوهم ، وفي ذم الذين كفروا ورد قوله تعالى[يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا] ( ).
الثالث : إرادة المعنى الجامع ، ولزوم الخشية من قادة وأفراد جيش الذين كفروا .
الرابع : الحيطة والحذر من الذين كفروا سواء الذين خرجوا للقتال أو الذين وراءهم من الرجال والنساء والذين يمدونهم بالمال ويعضدونهم .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وتدل على امتناع فريق من الناس عن إعانة الذين كفروا أو الميل إليهم ، وهذا المنهج في اتساع وإزدياد، وقولهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بأن الذين كفروا أعدوا وجمعوا لكم شاهد على نفرتهم من تحشيد الذين كفروا الجيوش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ليتجلى قانون وهو أن في كل أمر من عند الله عز وجل منافع عامة تتغشى الناس كلهم ، ومنها أمره تعالى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالخروج خلف جيش الذين كفروا ، وفي خروجهم هذا مسائل :
الأولى : زيادة إيمان الصحابة ،وهذه الزيادة غير التي ذكرتها آية البحث بقوله تعالى [فَزَادَهُمْ إِيمَانًا] ومتقدمة عليها زماناً ، إذ تأتي هذه الزيادة من وجوه متعددة منها :
الأول : نزول الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج خلف العدو .
الثاني : نداء بلال بالنفير، ويعلم المهاجرون والأنصار جميعاً أن بلالاً لا ينادي بالنفير إلا بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل خرج إلى حمراء الأسد كل الصحابة الذين شهدوا معركة أحد، الجواب لا، إذ حضرها سبعمائة من الصحابة، قُتل منهم سبعون وبقي ستمائة وثلاثون، بينما لم يخرج إلى حمراء الأسد سوى مائتين وسبعين من المهاجرين والأنصار .
الثالث: إرادة الأجر والثواب بالخروج خلف العدو .
الرابع : رؤية الناس من أهل القرى والركبان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار في مطاردة الذين كفروا ، ليكون هذا الخروج ناسخاً لخسارة المسلمين في اليوم السابق في معركة أحد ، ومبطلاً لدعوى الذين كفروا بأنهم انتصروا في معركة أحد .
لقد مّر جيش أبي سفيان في ذات الطريق الذي سار فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبروا الناس بانتصارهم في معركة أحد مع كثرة القتلى بين صفوف المسلمين ، ويصدّق بهم شطر من الناس خاصة مع كثرة أفراد الجيش وعودتهم من المعركة من دون وقوع طائفة منهم أسرى أو سبي النساء اللائي معهم ، وحينما تعقبهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه تبين للناس زيف دعوى الذين كفروا وأن المسلمين لم ينهزموا في تلك المعركة، ومعرفة الناس بنداء الأمر من مصاديق قوله تعالى[أَوْ يَكْبِتَهُمْ]( )، في ذم جيش الذين كفروا العائدين من معركة أحد.
لقد حاول الذين كفروا إخفاء خسارتهم في معركة أحد، وكيف تهاوى حملة لوائهم واحداً بعد الآخر حتى رفعته امرأة منهم، فجاء خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ليكون تأكيداً لسلامة المسلمين من الهزيمة.
الثانية : إبطال مقولة إنتصار الذين كفروا في معركة أحد، وهذه المقولة أعم من أن تختص بأفراد الجيش أو أهل زمان المعركة .
الثالثة : زجر الذين نافقوا بتجلي وبيان صبر وجهاد النبي وأصحابه في سبيل الله.
الرابعة : الموعظة والعبرة في حسن توكل المسلمين على الله عز وجل وبيان فضل ونفع هذا التوكل، وفي التنزيل[وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ]( ).
الخامسة : تاكيد قانون وهو أن حروب وغزوات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دفاعية .
فان قلت لقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد لمطاردة العدو ، فهو هجوم وغزو ، الجواب إنما هو دفاع محض من جهات:
الأولى : هذا الخروج ملحق بالدفاع في معركة أحد .
الثانية : ورود التهديد والوعيد من جيش المشركين لإعادة الكرّة والهجوم على المدينة .
الثالثة : دفع شرور العدو , ومنعه من تحقيق ما توعد به .
الرابعة : لم يحدث قتال في معركة حمراء الأسد هذه ولكنها للتأديب .
الخامسة : إرادة دعوة الناس إلى الإسلام , وعدم الخشية أو الخوف من الذين كفروا ، وفي التنزيل [وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ] ( ).
ومن معاني إصابة الكافرين بالوهن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلفهم بأمر من الله عز وجل.
لقد ورد قوله تعالى [فَاخْشَوْهُمْ] لبيان أطراف :
الأول : جهة صدور هذا التحذير وهم عامة الناس من الركبان وأهل القرى .
الثاني : الذين يخُشى منهم وهم جيش الذين كفروا .
الثالث : علة الخشية وهي جمع الذين كفروا الجنود مع الإتفاق في الرأي على الرجوع إلى معركة أحد أو غزو المدينة وإرادة استباحتها .
الرابع : موضوع الخشية .
الخامسة : الذين يتوجه لهم التحذير والإنذار ، وهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرون والأنصار الذين خرجوا معه إلى حمراء الأسد.
ترى ما المراد من الخشية التي يقصدها الناس في تحذيرهم ، وهل موضوعها متحد أم أنه متعدد بين :
الأول : مقاصد الذين كفروا .
الثاني : ما يراه الناس من أسباب الخشية .
الثالث : كيفية خشية المؤمنين من الذين كفروا .
الجواب إنها متعددة في الكم والكيف، لذا لم يذكر الناس كيفية هذه الخشية ، ولم يسألهم أو يستفسر المسلمون عنها إنما أظهروا إنقطاعهم إلى الله عز وجل ، وفي التنزيل [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] ( ).
لقد أراد الناس للمسلمين اللجوء إلى الأسباب ، والإحتراز والتوقي من الذين كفروا بالإعراض عنهم ، وإجتناب لقائهم أو الإنسحاب والتواري عن أنظارهم .
ولكن الأسباب قد لا تنجي الإنسان، ولا يسلم صاحبها لمجئ ما هو أرجح وأقوى منها من الأسباب من طرف آخر، وقد تخونه الأسباب التي اتكل عليها ، ومنه قول أبي الطيب المتنبي :
مَا كُلُّ مَا يتمنَّى الْمَرْءُ يُدْرِكُهُ * تَجْرِي الرِّيَاحُ بِمَا لاَ تَشْتَهِي السُّفُنُ
وتقدير الآية , وموضوع الخشية على وجوه :
الأول : فاخشوا الذين كفروا فانه لا أمان لهم .
الثاني : فاخشوهم واجتنبوا لقاءهم .
الثالث : جيش الكفار عظيم وكبير فاخشوهم .
الرابع : يطلب الذين كفروا الثأر ، ويريدون البطش فاخشوهم .
الخامس : لا قبل لكم بجيش الذين كفروا فاخشوهم .
السادس : لزوم الحيطة والحذر من العدو وعدم التهاون أو الإستخفاف به، خاصة مع كثرة أفراد جيشه .
السابع : فاخشوهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه مسائل :
الأولى : انهم جميعاً يطلبونكم، ويريدون قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : إنهم جميعاً أعدّوا ليقتلوكم أو يأسروكم فاخشوهم على أنفسكم.
الثالثة : أنهم جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاخشوهم عليه .
الثامن : فاخشوهم على دينكم ، ولا يحملوكم على الإرتداد .
التاسع : فاخشوهم فأنهم ظالمون .
العاشر : فاخشوهم فأنهم كافرون .
الحادي عشر : فاخشوهم فأنهم [لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلاَ ذِمَّةً]( ).
الثاني عشر : فاخشوهم بالدعاء .
الثالث عشر : فاخشوا رجوعهم عليكم.
الرابع عشر : فاخشوا قتالهم.
الخامس عشر : فاخشوا غدرهم ومكرهم.
والسؤال هو هل قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالإستجابة لطلب الناس لهم بلزوم الخشية من جيش الذين كفروا أو لا وكيف كانت الخشية منهم.
الجواب هو نعم إستجابوا لهذا الطلب، إذ أعلنوا خشيتهم من الله وتفويضهم الأمور إليهم سبحانه، قال تعالى[الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي]( ).
وهل تتناقض الخشية من الله والخشية من الذين كفروا فلا يجتمعان في محل واحد، الجواب لا تصل النوبة للتناقض، ولكن الله عز وجل عصم المسلمين من الخشية والخوف من الذين كفروا لأنهم فوضوا أمورهم إليه سبحانه.
ولم يكتف الناس بالطلب من الصحابة الحذر والحيطة ولم يظهروا إعانتهم ونصرتهم ، إذ طلبوا منهم الخشية من العدو ، وبين الخشية والحذر عموم وخصوص مطلق ، فالخشية أشد مرتبة لأنها تدل بالدلالة التضمنية على الخوف على النفس من الطرف الآخر, وفي التنزيل [إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا] ( ).
علم المناسبة
لم يرد لفظ [فَاخْشَوْهُمْ] في القرآن إلا في آية البحث ، وفيه اشارة إلى العناية بهذه الكلمة ومناسبتها وما ترتب عليها ، وكيف تجلت خشية المسلمين من الله عز وجل عندما سمعوها وكأنهم يقولون للناس: إنما نخشى الله عز وجل .
وجاءت آيات تتضمن الأمر من عند الله بالخشية منه سبحانه , قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ]( ).
ترى هل خشي الصحابة الذين كفروا لما قيل لهم[فَاخْشَوْهُمْ] الجواب لا دليل على هذه الخشية، وتدل آيات أخرى على إنتفائها كما في قوله تعالى[فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي]( ).
ولا يعني هذا الاستهانة بالناس أو الإستخفاف بكثرة وقوة العدو، إنما تتقوم الحياة الدنيا بحسن المعاملة والنصيحة وأسباب الألفة، ولا أصل لما ذكر(في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: لا يؤمن أحدكم حتى يكون الناس عنده كالأباعر)( ) فلقد أكرم الله عز وجل الإنسان مطلقاً.
وورد عن أنس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال : لا يؤمن أحدكم بالله حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)( ).
وفي رواية (لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ أَوْ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)( ).
وذكر الجار في الحديث أعم من الجار المسلم، لتكون وصايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق قوله تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
والخشية من الله مقام سامي وصفة عالية ،وأمارة على بلوغ مرتبة التقوى ، وشرط من شروط الإيمان ، قال تعالى [فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) .
وتبين آية البحث قانوناً وهو عدم مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا إلا بعد أن تجلت خشيته وخشية المهاجرين والأنصار من الله في أشق الأحوال ، وعند حث الناس لهم بالخشية من الذين كفروا وجيشهم .
وقيل أن الخشية من أعمال القلوب وظاهر آية البحث أنها أعم وتشمل القول والفعل .

قوله تعالى[فَزَادَهُمْ إِيمَانًا]
ما يصيب المسلمين من الأذى والحرج بسبب التهديد سبب آخر للأجر الذي تذكره الآية السابقة وهو من الإعجاز في قوله تعالى [يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ] ليكون من فضل الله عز وجل علمه تعالى في المقام بأمور :
الأمر الأول : إيمان الصحابة من المهاجرين والأنصار الذي لا يعلم ثوابه إلا هو سبحانه .
لقد تضمنت الآيات السابقة ذم الذين نافقوا بكشف ما في قلوبهم وقربهم إلى الكفر أيام المحنة على المسلمين وهجوم جيوش الذين كفروا في معركة أحد ، إذ تمنى المنافقون خسارة المسلمين المعركة، ولحوق الأذى بهم، وضعف دولة الإسلام في المدينة المنورة وقتل أو أسر المهاجرين , فقال تعالى في ذم المنافقين [هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ]( ).
لتجلي ملاك ومصاديق الإيمان بتقوى الصحابة وهو الذي تشهد له آية البحث من عدة وجوه ، منها زيادة إيمانهم إذ يدل قوله تعالى [فَزَادَهُمْ إِيمَانًا]( ) على ثبوت الإيمان في نفوسهم وصيرورته ملكة ثابتة .
وعندما احتجت الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) أجابهم الله عز وجل بالحجة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) ومن هذا العلم الذي الذي ينفرد به الله عز وجل احاطته بما في قلوب الناس ، وحضور الأماني والرغائب التي تطرأ على قلب كل انسان قبل أن يخلق وتبقى حاضرة عند الله عز وجل حتى يوم القيامة .
وهل يشملها قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ] ( ) الجواب نعم ، ولكن هذا المحو لا يصل أبداً إلى حضورها وثبوتها عند الله عز وجل وهو من مصاديق إطلاق علمه تعالى ويتسالم الناس على قانون وهو أن الله هو العالم , وأن العلم من صفات الله الذاتية .
والعلم على قسمين :
الأول : العلم الحضوري، وهو حضور المدرَك والمعلوم عند المدرِك من دون توسط شئ مع التباين بين المعلوم والعالم.
الثاني : العلم الحصولي ، وهو الذي يتم عند الإنسان بتوسط صورة في الخارج ترد إلى الذهن ، وتدركها الحواس كرؤية الشمس أو سماع الصوت والفصل بين الكلمات ، والأوامر والنواهي وبقاؤها في ذهن الإنسان بعلم حصولي .
ويترشح عن العلم بالعلة العلم بالمعلول ، وعن العلم بالسبب العلم بالمسبَب .
وقال تعالى[وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ]( ) ومن الفلاسفة من قال بعلم الله بالكليات ولكنه أنكر علم الله بالجزئيات لأنها أفراد متغيرة وعلم الله بها يلزم تغير علمه .
ولا يحتاج إدراك الجزئيات إلى آلة كالسمع والبصر لأن الله منزه عن الجسم ولوازمه لأن علمه تعالى حضوري ، قال تعالى [قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ] ( ) .
وتنفي آية البحث الوسوسة والتردد عن قلوب المهاجرين والأنصار، وتشهد لهم بأنه ليس من خشية عندهم من الذين كفروا وجيوشهم .
وقال الإمام علي عليه السلام في الثناء على الله(يعلم عجيج الوحوش في الفلوات( )، ومعاصي العباد في الخلوات، واختلاف النينان( ) في البحار الغامرات، وتلاطم الماء بالرياح العاصفات)( ).
الأمر الثاني : نسبة الزيادة في إيمان الصحابة لقوله تعالى [فَزَادَهُمْ إِيمَانًا]( ).
وهل هذه الزيادة من الكلي المتواطئ الذي يكون على مرتبة واحدة ، أم من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة.
الجواب هو الثاني مع زيادة من فضل الله عز وجل في ذات الإيمان ، وهو من أسرار مجئ الآية بصيغة الفاعل المستتر [فَزَادَهُمْ إِيمَانًا] .
ويكون على وجوه :
أولاً : فزادهم الله ايماناً , وهل لهذه الزيادة أجر مستقل أم أنه ذاته فضل وأجر، الجواب لا تعارض بينهما، وهو من إعجاز الآية، فهو من لطف وفضل الله وحتى على القول بأنه من الأجر الحال والحاضر فان الله يؤجر المؤمنين عليه .
ليكون من معاني العظمة في الأجر الوارد في خاتمة الآية السابقة مجئ أفراد منه على كل من :
الأولى : ذات الإيمان .
الثانية : تلقي الوعيد بصفة الإيمان.
الثالثة : الثبات على الإيمان .
الرابعة : زيادة الإيمان بسبب التهديد .
الخامسة : الإستجارة بالله عز وجل .
السادسة : حسن التوكل على الله سبحانه
ثانياً : فزادهم قول الناس بجمع العدو لهم ايماناً، وهو ظاهر الآية الكريمة.
ثالثاً : الذين قال لهم الناس اخشوهم فزادهم ايماناً )إذ يتبادر إلى الأذهان آنذاك أن الجموع الكبيرة تبعث الخوف وتدعو إلى الخشية والحيطة واللجوء إلى الفرار ونحوه، ولكن المؤمنين ردوا بالثبات في مقامات الهدى ، وبدل الخشية من الناس إزدادوا ايمانا .
وتترشح زيادة الإيمان الخشية من الله، وكذا العكس فإن الخشية من الله طريق وسبب لزيادة الإيمان من غير أن يلزم الدور بينهما.
رابعاً : ذات الوعيد والتخويف بالخشية من الناس سبب لزيادة الإيمان عند المهاجرين والأنصار لاستحضارهم الآيات التي تأمر بالخشية من الله عز وجل وحده ، وفي التنزيل[إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ]( ).
خامساً : جمع المشركين والجيوش لمحاربة المسلمين مع قلتهم سبب لزيادة إيمانهم .
سادساً : فزادهم وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم إيماناً .
الأمر الثالث : فضل الله تعالى في حفظ ذات مرتبة إيمان الصحابة من المهاجرين والأنصار وصيرورة هذا الإيمان وما لحقته من الزيادة إرثاً للذرية والتابعين .
لقد إزداد إيمان المهاجرين والأنصار في يوم معركة أحد واليوم التالي له، بلحاظ تعلقه بأمر الجيوش التي زحفت لقتالهم وعزمهم على الرجوع والكرّة مرة أخرى على المدينة، ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
ليكون من وجوه التقدير فيه، وليعلم الله المؤمنين والذين يزداد إيمانهم وبين المؤمنين والذين إزداد إيمانهم يوم معركة أحد وفي اليوم التالي له عموم وخصوص مطلق ، وهو من إعجاز القرآن ورأفة الله بالمسلمين بأن تأتي الآية بذكر الأعم .
لترغيبهم بزيادة الإيمان ،وبيان قانون للناس جميعاً يتعلق بالإيمان من جهات :
الأولى : الحسن الذاتي للإيمان .
الثانية : الثناء من عند الله عز وجل على المؤمنين .
الثالثة : بيان الأجر والثواب العظيم على الإيمان .
الرابعة : وجود أمة مؤمنة، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الخامسة : زيادة الإيمان والإرتقاء في مراتبه عند الإبتلاء والإمتحان .
الأمر الرابع : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة من خوض قتال مع الذين كفروا عند الخروج إلى حمراء الأسد ، لبيان أن تهديد ووعيد الذين كفروا لا يتحقق له مصداق واقعي سواء خاف منهم الصحابة أو فوضوا أمرهم إلى الله عز وجل، لأن المشيئة المطلقة لله عز وجل وهو الذي خفّف عن المؤمنين بأن بعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا ، ولم يتعد فعلهم التهديد الصادر من أبي سفيان في طريق عودتهم إلى مكة ليصبح هذا التهديد على وجوه :
الأول : إنه شاهد على غلظة وشدة الذين كفروا وإصرارهم على محاربة النبوة والإسلام .
الثاني : إنه سبب لنزول البلاء والعذاب بالذين كفروا .
(عن ابن مسعود قال : لما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الناس إدباراً، قال : اللهم سبع كسبع يوسف : فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام.
فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة ، فقالوا يا محمد : إنك تزعم أنك قد بعثت رحمة ، وأن قومك قد هلكوا ، فادع الله لهم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فسقوا الغيث ، فأطبقت عليهم سبعاً ، فشكا الناس كثرة المطر .
فقال : اللهم حوالينا ولا علينا فانحدرت السحابة على رأسه، فسقي الناس حولهم، قال تعالى{إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون}( ).
وآية الروم والبطشة الكبرى وانشقاق القمر وذلك كله يوم بدر)( ).
الثالث : لحوق الخزي لرؤساء جيش الذين كفروا.
الرابع : سخرية عامة الناس من وعيد وتهديد رؤساء الكفر الذي ليس له مصداق واقعي.

علم المناسبة
وردت زيادة الإيمان في سبع مواضع من القرآن ، ولم يرد لفظ[فَزَادَهُمْ إِيمَانًا] إلا في آية البحث لبيان إحدى مختصات المهاجرين والأنصار، إذ أسسوا لقانون زيادة الإيمان عند المسلمين ،وبيان قانون إطراد هذه الزيادة وسعتها عند أجيال المسلمين ليصبح من خصال المسلمين زيادة إيمانهم وتمسكهم بالقرآن وأحكامه .
وتؤكد آية البحث قانوناً وهو براءة المهاجرين والأنصار من الكفر ومن النفاق، وتدل بالدلالة التضمنية على قانون وهو عدم افتتان المؤمنين بالمنافقين، وعدم الإنصات لهم ، لتدل آية البحث على قانون وهو خسارة المنافقين وعجزهم عن جذب الناس إلى منازل النفاق ،وهو من إعجاز القرآن، لذا ترى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يمتنع عن قتل المنافق لأنه صار عاجزاً عن فتنة المؤمنين، وكان وجود المنافقين بين ظهراني المسلمين مناسبة لزيادة إيمانهم لنزول آيات القرآن بفضح المنافقين وبيان قبح فعلهم وسوء عاقبتهم ، قال تعالى[وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً]( ).
وجاء الخطاب في الآية أعلاه موجهاً إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليشمل المسلمين والمسلمات ولزوم أخذهم الحيطة والحذر من المنافقين والإعراض عنهم .
وتجلى هذا المعنى في آية البحث، فبينما كان المنافقون يعرّضون بالشهداء في معركة أحد ويقولون[لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( ) أي لو قعدوا في المدينة ولم يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين لما قتلوا في المعركة فان المهاجرين والأنصار خرجوا في اليوم التالي لمعركة أحد لمطاردة ذات الجيش الذي قاتلهم في المعركة ،وفيه خزي للمنافقين .
وتدل الآية أعلاه من سورة الأحزاب على وجوب التوكل على الله ، وهذا التوكل رحمة بالعباد مجتمعين ومتفرقين .
وتبين آية البحث قانون توكل المهاجرين والأنصار على الله عز وجل، وتجلى هذا التوكل في أقوالهم ونفوسهم حالماً جاءهم التهديد بجيش الذين كفروا ولزوم الخشية منهم .
وتقدير الآية : قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم التهديد والوعيد إيماناً) لأنه لم يأت لهم إلا بسبب إيمانهم وصلاحهم ، وإذا كان المؤمنون قاتلوا في معركة أحد بالإيمان والنصر في معركة بدر ، فأنهم خرجوا من معركة أحد بزيادة إيمان وعلو مرتبته في التقوى واليقين لبيان سلامتهم ووقايتهم من الخوف من الذين كفروا وجيوشهم ، إنما يكون خوفهم من الله عز وجل ليتجلى بطاعة الله ورسوله والصبر والمرابطة ، وأداء الفرائض والعبادات، لتنزل شآبيب الرحمة عليهم ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ) .
ولو وقف المسلمون عند الخشية من الذين كفروا فهل ينقص إيمانهم الجواب لا، لأن الإيمان نعمة من عند الله، وإذا أعطى الله فإنه أكرم من أن يرفع عطاءه.

قوله تعالى[وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ]
من أسماء الله عز وجل انه الكافي والكفيل والوكيل، ووكالة الله ليست على معنى التوكيل بين البشر، وصيرورة الوكيل أدنى مرتبة من الموكِل ، إذ يفوض له أمراً أو يسقط وكالته، إنما الوكيل في المقام هو الكفيل والكافي، وفيه إقرار بالربويبة المطلقة لله عز وجل .
وتقدم في المقدمة ذكر قوله تعالى[اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ]( )، إذ جاءت وكالته تعالى على نحو الإستعلاء بالحرف (على) بعد إخباره عن حصر خلق الإشياء به سبحانه .
حينما قال الأعراب للمسلمين عقب معركة أحد اخشوا الذين كفروا فأجابوهم، نحن نخاف من الله ونخشاه ونرجو نواله ونصره ، ولم يقولوا لهم نحن لا نخشى الذين كفروا ، ولا نخاف منهم كما ذهب إليه بعض المفسرين .
فلم يترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه نصيحة الأعراب تذهب هباء، ولم يجيبوهم بالجفاء أو بالتحدي لهم وللذين كفروا ، إنما توجهوا إلى الله بالدعاء والتضرع والإخبار بأنه هو الذي يكفينا ، وفيه دعوة للأعراب وأهل تلك القرى إلى دخول الإسلام إذ يبعث هذا الرد الشوق في القلوب لمعرفة عاقبة التوكل على الله ومنها فزع جيش الذين كفروا وتعجيلهم السير نحو مكة ،وعودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه سالمين إلى المدينة .
وتجدد النصر للمسلمين في السنوات التالية حتى تم صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة النبوية ، ليدخل أهل تلك القرى الإسلام ويخرجون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ، إذ خرج معه عشرة آلاف رجل، بينما كان عدد الذين خرجوا معه إلى معركة أحد ألف رجل رجع منهم من وسط الطريق ثلاثمائة رجل بتحريض من رأس النفاق عبد الله بن أبي بن أبي سلول .
ترى ما هي النسبة بين التوكل على الله والقول حسبنا الله ، الجواب فيه وجوه :
الأول : نسبة التساوي وإرادة تفويض الأمور إلى الله .
الثاني : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وفيه شعبتان :
الأولى : التوكل على الله أعم من حسبنا الله .
الثاني : قول حسبنا الله أعم من قول توكلنا على الله .
الثالث : نسبة العموم والخصوص من وجه ، وهناك مادة للإلتقاء ، ومادة للإفتراق بينهما .
والمختار هو الشعبة الأولى من الوجه الثاني أعلاه ، إذ يشمل التوكل الشروع بالعمل والتقوى باستحضار التوكل أثناء العمل وإرادة المدد والعون من عند الله عز وجل .
وقال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] ( ).
(عن محمد بن كعب القرظي قال : عهدت عمر بن عبد العزيز رحمه الله وهو علينا عامل بالمدينة وهو شاب غليظ البضعة ممتلئ الجسم ، فلما استخلف وقاسى من العمل والهم ما قاسى تغيرت حاله ، فجعلت أنظر إليه لا أكاد أصرف بصري ، فقال : يا ابن كعب ، إنك لتنظر إلي نظرا ما كنت تنظره إلي من قبل ؟ .
قال : قلت : يعجبني .
قال : وما عجبك ؟ قال : لما حال من لونك ، ونفي من شعرك ، ونحل من جسمك . قال : فكيف لو رأيتني بعد ثالثة حين تسيل حدقتاي على وجنتي ، ويسيل منخراي وفمي صديدا ودودا ، كنت أشد نكرة ، أعد علي حديثا كنت حدثتنيه عن ابن عباس .
قلت : حدثني ابن عباس ورفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن لكل شيء شرفا ، وإن أشرف المجالس ما استقبل به القبلة ، وإنما يجالس بالأمانة ، ولا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث ، واقتلوا الحية والعقرب ، وإن كنتم في صلاتكم ولا تستروا الجدر بالثياب ، ومن نظر في كتاب أخيه بغير إذنه ، فكأنما ينظر في النار ، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله ، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ، ومن أحب أن يكون أغنى الناس ، فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده ، ألا أنبئكم بشراركم ؟ .
قالوا : بلى ، يا رسول الله .
قال : من نزل وحده ، ومنع رفده ، وجلد عبده . قال : أفأنبئكم بشر من هذا ؟ قالوا : بلى ، يا رسول الله .
قال : من يبغض الناس ويبغضونه . قال : أفأنبئكم بشر من هذا ؟ قالوا: بلى يا رسول الله .
قال : من لم يقل عثرة ، ولم يقبل معذرة ، ولم يغفر ذنبا . قال : أفأنبئكم بشر من هذا ؟ قالوا : بلى ، يا رسول الله . قال : من لم يرج خيره، ولم يؤمن شره .
إن عيسى ابن مريم قام في قومه ، فقال : يا بني إسرائيل ، لا تكلموا بالحكمة عند الجاهل فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم ، ولا تظلموا ولا تكافئوا ظالما يظلم ؛ فيبطل فضلكم عند ربكم . يا بني إسرائيل ، الأمر ثلاثة : أمر تبين رشده فاتبعه ، وأمر تبين غيه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه فكله إلى عالمه)( ).
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا [حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] لبيان أن هذا القول سبيل للنجاة ووسيلة لحضور فضل الله عز وجل .
وجاء الحديث بصيغة الجمع لبيان صدور اللجوء إلى الله من الفرد والجماعة .
ويدل الحديث بالدلالة التضمنية على وقوع حوادث للمسلمين أفراداً وجماعات فيها أذى لهم ، يكون سلاحهم فيها اللجوء إلى الله عز وجل وهو لا يتعارض مع ما يأخذ بالأسباب .
ترى ما هي النسبة بين الأمر العظيم وبين المصيبة ، الجواب هو العموم والخصوص المطلق ، فالمصيبة من الأمر العظيم .
(عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا اشتد غمه مسح بيده على رأسه ولحيته ثم تنفس الصعداء وقال : حسبي الله ونعم الوكيل.) ( ).
ولا يغتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا لله وفي سبيل الله ، فيظهر لجوؤه إليه سبحانه ، كما أمره تعالى [قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ] ( ) .
وفيه تنمية لملكة التوكل على الله عند المسلمين ، وبيان قانون وهو إظهار التوكل على الله واللجوء إليه سبحانه عندما يطرأ أمر يغم ويحزن الفرد أو الجماعة .
ومن خصائص هذا القول صرفه لحال الغضب والجزع وهو مانع من استيلاء النفس السبعية ومن اليأس والقنوط .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء وإختيار ، فيداهم الإبتلاء الإنسان ويبقى متحيراً مشدوهاً أو أنه يفعل ما يكون وبالاً عليه ، فتفضل الله عز وجل وهدى المسلمين إلى القول عند الشدائد [حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ].
وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) بأن تنزل آية البحث لتدعو أجيال المسلمين والمسلمات للإستجارة بالله عز وجل ، والإعلان عن كفايته لهم ،ويقوم الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما يصيبه الغم باللجوء إلى الله , ويتلو ما أمره الله عز وجل [قُلْ حَسْبِي اللَّهُ] ( ) مع الإقرار بأن الله نعم الوكيل الذي يفوض العباد أمورهم إليه .
وورد عن شداد بن أوس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (حسبي الله ونعم الوكيل أمان كل خائف) ( ).
ولم يقيد النبي الأمان بالإسلام ، فلم يقل : أمان كل مسلم خائف ) وهل يستقرأ هذا المعنى والتقييد من الحديث بلحاظ أن الكافر قد ظلم نفسه، وفي التنزيل[فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( ) والأصل هو الإطلاق وشمول الحديث لكل خائف إلا مع القرينة على التخصيص .
لقد جعل الله عز وجل الحيلة الدنيا دار الرحمة والعفو ودار الإستجابة له سبحانه .
وذكر في الحديث الأمان من الخوف وهو عام فقد يتفضل الله عز وجل ويصرف هذا الخوف أو يجعل الله عز وجل الإنسان يطمئن بذاته ، وفي التنزيل [أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ] ( ).
وهذا الحديث من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) لينتفع الناس جميعاً من سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتي هي تفسير وبيان للقرآن .
وورد (عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من قال عشر كلمات عند كل صلاة غداة وجد الله عندهن مكفياً مجزياً : خمس للدنيا ، وخمس للآخرة : حسبي الله لديني ، حسبي الله لما أهمني ، حسبي الله لمن بغى عليّ ، حسبي الله لمن حسدني ، حسبي الله لمن كادني بسوء ، حسبي الله عند الموت ، حسبي الله عند المسألة في القبر ، حسبي الله عند الميزان ، حسبي الله عند الصراط ، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب) ( ).
قوله تعالى[وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]
بعد أن أخبرت آية البحث عن زيادة إيمان المهاجرين والأنصار عند تخويف الناس لهم بالعدو , أختتمت بقولهم [حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ).
والوكيل فعيل بمعنى مفعول لبيان قانون يتحلى به أهل الإيمان وهو توكيلهم أمورهم إلى الله ، ولجوئهم إليه عند الشدائد وإقرارهم بأنه هو الكافي .
ولم تمر الأيام حتى دخل الذين هددوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يومئذ الإسلام ، فمنهم من أسلم قبل فتح مكة أو عند الفتح .
ويحتمل إخبار وتحذير الناس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بلحاظ الزمان والمكان وجوهاً :
الأول : جاء التحذير , والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة وقبل أن يخرج وأصحابه إلى حمراء الأسد ، وبه قال في زاد المعاد .
الثاني : ورد التحذير والنبي صلى الله عليه وآله وسلم خارج من المدينة ،وفي الطريق بينها وبين حمراء الأسد .
الثالث : مجئ التحذير والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حمراء الأسد ، إذ بقوا فيها ثلاثة أيام ، ويحتمل أوان التحذير :
أولاً : في اليوم الأول.
ثانياً : في اليوم الثاني .
ثالثاً : في اليوم الثالث .
الرابع : جاء التحذير والنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في طريق العودة إلى حمراء الأسد .
الخامس : تلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه التحذير بعد عودتهم إلى المدينة ، وكأن المشار إليه هو الموعد الذي ضربه المشركون في العام التالي في بدر .
والمختار هو الثاني أعلاه ، ولا مانع من تعدد التحذير والإنذار في أكثر من موطن .
وعن ابن حزم قال (خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحمراء الأسد ، وقد أجمع أبو سفيان بالرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وقالوا : رجعنا قبل أن نستأصلهم ، لَنَكُرَّنَّ على بقيتهم . فبلغه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج في أصحابه يطلبهم ، فثنى ذلك أبا سفيان وأصحابه .
ومرّ ركب من عبد القيس , فقال لهم أبو سفيان : بلغوا محمداً أنا قد أجمعنا الرجعة الى أصحابه لنستأصلهم . فلما مر الركب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحمراء الأسد أخبروه بالذي قال أبو سفيان؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون معه{حسبنا الله ونعم الوكيل} فأنزل الله في ذلك { الذين استجابوا لله والرسول…} الآيات)( ).
أي أن التحذير جاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهم في حمراء الأسد .
عن (أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وَجَّه عليا في نفر معه في طلب أبي سفيان، فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال: إن القوم قد جمعوا لكم قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. فنزلت فيهم هذه الآية.) ( ).
والظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر علياً لملاحقة العدو في ذات يوم معركة أحد خشية عكوفهم على المدينة .
وورد ما يدل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان حاضراً في حمراء الأسد يومئذ .
(عن ابن عباس قال { حسبنا الله ونعم الوكيل } قالها إبراهيم حين ألقي في النار ، وقالها محمد حين قالوا { إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل })( ).
ويحتمل جهة صدور القول [حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] وجوهاً :
الأول : القائل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى يوم أحد فقيل له : يا رسول الله { إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } فقال { حسبنا الله ونعم الوكيل } فأنزل الله { الذين قال لهم الناس . . . })( ).
الثاني : القائل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ورددها من بعده أصحابه .
الثالث : قالها المهاجرون والأنصار .
ويحتمل القول وجوهاً :
أولاً : الإلهام من عند الله .
ثانياً : إنه من رشحات زيادة الإيمان بقوله تعالى [فَزَادَهُمْ إِيمَانًا] ويكون حرف العطف الواو في قوله تعالى [وَقَالُوا حَسْبُنَا] من عطف الخاص على العام والمُسبَب على السبب .
ثالثاً : تلقي الصحابة هذه الكلمة من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : صدور قول[حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , كما لو كان الناس أخبروه عن جمع الكفار لهم، أو أنهم أخبروا المهاجرين والأنصار الذين معه فنقلوا الأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : إرادة قول طائفة من المهاجرين والأنصار فحسبه الله عز وجل قول لهم جميعاً.
السادس : قول المسلمين[حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ترديداً للوحي كما لو نزل به جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والمختار هو الأول والثاني والثالث والرابع أعلاه، لمقام النبوة وإمامته صلى الله عليه وآله وسلم ولأصالة العموم، كما أن هذا القول رشحة من زيادة إيمان الصحابة الذي أخبرت عنه آية البحث، فحالما زاد إيمانهم رشحت منه آيات تدل على بلوغهم مراتب عالية في التقوى واليقين، تفرع عنها إمتلاء نفوسهم بالسكينة ولجوئهم إلى الله ، وثقتهم بأنه ينجيهم ويكفيهم .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا { حسبنا الله ونعم الوكيل })( ).
(وعن جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : كيف أنعم وصاحب القرن قد التقمه ، وحنى جبهته ، وأصغى بسمعه ينتظر متى يؤمر فينفخ؟ قالوا : يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال : حسبنا الله ونعم الوكيل)( ).
رابعاً : إقتباس الصحابة هذه الكلمة من القرآن ومن قول ابراهيم عليه السلام .
ولم يرد في القرآن وكذا في السنة على الظاهر ما يدل على ان ابراهيم عليه السلام قال هذه الكلمة ، ولكنه ورد (عن ابن عمرو قال : هي الكلمة التي قالها إبراهيم حين ألقي في النار { حسبنا الله ونعم الوكيل } وهي الكلمة التي قالها نبيكم وأصحابه إذ قيل لهم { إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } .) ( ).
وقال السدي (حتى إن كانت المرأة تمرض، فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطبًا لحريق إبراهيم-ثم جعلوه في جَوْبة من الأرض، وأضرموها نارًا، فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع، لم توقد قط نار مثلها، وجعلوا إبراهيم، عليه السلام، في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد -قال شُعَيب الجبائي: اسمه هيزن-فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة .
فلما ألقوه قال: “حسبي الله ونعم الوكيل” ، كما رواه البخاري، عن ابن عباس أنه قال: “حسبي الله ونعم الوكيل” قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا: { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } ( ).) ( ).
خامساً : سماع الصحابة هذه الكلمة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة أحد .
وتبين آية البحث فوز المسلمين بتفويض أمورهم إلى الله والثناء عليه في ذات التوكيل فقوله تعالى [حَسْبُنَا اللَّهُ] أي هو الكافي والمانع ثم أختتمت الآية بالثناء عليه سبحانه .
بحث بلاغي
من وجوه البديع الإيغال ويسمى الإمعان وهو ختم الكلام بنكتة وقاعدة يتم المعنى بدونها ،وقيل أنه خاص بالشعر ، ولا دليل عليه إنما هو عام يرد في التنزيل على نحو البيان وتأسيس القوانين ، ويرد في النثر وكلام ومخاطبات البشر فيما بينهم سواء باللغة العربية أو غيرها .
والإيغال في القرآن علم مستقل بذاته لأن له معان ودلالات اضافية خاصة به فمثلاً ذكر في قوله تعالى [إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ]( ) بأن[إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ] زائد على المعنى مبالغة في عدم انتفاعهم .
وليس من زيادة في المعنى إنما تبين الآية كون الصم لا يفقهون مع تباين حالهم سواء في الحضور أو في المغادرة والغياب .
وهل في الآية أعلاه إعجاز لبيان إرتقاء الطب , وصيرورة الصم يسمعون الكلام فذكرت الآية إعراضهم وتوليهم وفرارهم بحيث يصيرون بعيدين عن الدعاء بينما هم يسمعونه عند اللقاء والمقابلة.
الجواب نعم، خاصة وأن قوله تعالى [إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ] يدل على سماعهم ومعرفتهم مضمون الدعوة إلى الإسلام .
ومن الإيغال اختتام آية البحث بقوله تعالى[وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] فقد أخبر المسلمون الناس بحذرهم من جيش المشركين بالتوكل على الله , ولجوئهم إليه سبحانه .
والوكيل فعليل من التوكل أي هو الذي نتوكل عليه في أمورنا ، وليس الوكيل في الآية بمعنى الوكالة من الموكل ، وما فيها من الشأن للموكل في اختياره الوكيل .
إنما الوكيل في الآية هو الذي نفوض إليه أمورنا مجتمعين ومتفرقين.
فالوكيل هنا أي الرب الذي يقدر الأمور ، ويأتينا بالخير، ويدفع عنا الشر ، وليس من نافع أو ضار غيره سبحانه، وفي التنزيل[وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ]( ).
وهذا المعنى من الوكالة إختص به الإنسان وهو من مصاديق خلافته في الأرض ، فلا يصح أن يجعل الخليفة الذي استخلفه وكيلاً عنه ، ولو على نحو الموجبة الجزئية لأن المشيئة المطلقة لله عز وجل .

بحث تأريخي
لقد جاءت آية البحث بخصوص معركة أحد ومقدماتها وما تفرع عنها من خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلف العدو ، حتى عدّ هذا الخروج غزوة مستقلة بذاتها في صبيحة يوم الأحد السادس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية المباركة.
وأختلف في تأريخها وبين قول ابن إسحاق وابن سعد في المقام عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من وجوه :
الأول : مجئ معركة حمراء الأسد في اليوم التالي لمعركة أحد فلما أتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح جماعة في المسجد أمر بلالاً بأن ينادي بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمركم بطلب العدو وأنه لا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس.
وكان وجوه الأنصار حاضرين الصلاة ، فمنهم من كان مبيته في المسجد، وعند باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحراسته ، ومنهم من حضر لأداء الصلاة ، فبادروا إلى قومهم يدعونهم للخروج مع تفشي الجراحات بينهم .
فمثلاً جاء سعد بن معاذ لقومه بني عبد الأشهل ليخبرهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال أسيد بن خضير وهو سيد بني عبد الأشهل وكان أبوه خضير الكتائب زعيم الأوس وقد أصيب أسيد بن خضير يوم معركة أحد بسبع جراحات ، وحينما سمع النداء ترك الدواء وأسباب العلاج وحمل سيفه ، وقال : سمعاً وطاعة لله ورسوله ، فخلّدهم الله في الآية السابقة بقوله [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ] ( ) .
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد آخى بينه وبين زيد بن حارثة .
الثاني : وقوع الغزوة في شهر شوال، وهو الشهر العاشر من الأشهر القمرية.
الثالث : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يوم الأحد.
الرابع : إبتداء خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه صبيحة يوم الأحد.
الخامس : ارادة ملاحقة ومطاردة جيش الذين كفروا بعد مغادرتهم في اليوم السابق لميدان معركة أحد .
وتقع مادة الإفتراق في تأريخ خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خلف العدو، فهي في السادس عشر من شهر شوال على قول ابن إسحاق.
أما ابن سعد فقال أنهم خرجوا في الثامن من شهر شوال، أي بين قوليهما أسبوع وأعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم اللواء إلى الإمام علي عليه السلام، وكان اللواء معقوداً لم يحل من حين الخروج إلى معركة أحد .
وعندما بلغ جيش المشركين نبأ خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خلفهم ظنوا إجتماع الصحابة الذين لم يحضروا بالأمس معه ، فسارعوا الخطى إلى مكة , ولم يكن هذا السبب كافياً ، ولكن الله عز وجل هو الذي القى في قلوبهم الرعب والفزع ، كما أنهم استحضروا حضور الملائكة القتال مددا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار، وأدرك جيش الذين كفروا ومن وراؤهم عجزهم عن تحقيق نصر على المسلمين.
قال تعالى[قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn