المقدمة
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له ملك السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى .
ومن آيات التوحيد وإنفراد الله سبحانه بالربوبية المطلقة بعثه الأنبياء وإنزاله الكتب من السماء، وبقاء القرآن في الأرض باعجازه المتجدد حتى يوم القيامة .
ومن الشواهد على حفظ الله للقرآن من التحريف أن كل آية منه تدل على أمور :
الأول : التوحيد ونبذ الشرك .
الثاني : الإقرار بالعبودية الخالصة لله عز وجل ، ومن الإعجاز تلاوة كل مسلم ومسلمة عدة مرات في اليوم وعلى نحو الوجوب العيني قوله تعالى[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) لتجمع بين التوحيد والشكر لله.
الثالث : التسليم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين.
الرابع : التصديق بالكتب السماوية النازلة من عند الله، وفي التنزيل[قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ]( ).
الخامس : دعوة الآية القرآنية في المنطوق أو المفهوم إلى مسائل :
الأولى : الأركان العملية في العبادة كالصلاة والزكاة والصيام والحج , قال تعالى[وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ]( ).
الثانية : الخلق الحميد كالصدق والعدل والأمانة والإحسان .
الثالثة : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الرابعة : النفرة من القبائح , والنهي عن الفواحش كالظلم والسرقة .
السادس : تجلي الأحكام الشرعية المحيطة بالمواضيع المتجددة بما يمنع من الإجتهاد في مقابل النص في أي زمان , والمختار أن مدار الأعلمية على الفقه والتفسير .
السابع : التذكير باليوم الآخر ، وأن الدنيا متاع ودار اختبار وامتحان.
ويمكن تسمية الحياة الدنيا (دار التوحيد) لما فيها من الشواهد غير المتناهية التي تدل على خلق الله للسموات والأرض وملكيته المطلقة لهما، وخضوعهما وانقيادهما وما فيهما لمشيئة الله .
ومن خصائص خلافة الإنسان في الأرض وقوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) تعاهده لسنن التوحيد وقيامه بنسك العبادة وتحليه بالتقوى.
ليكون من مصاديق إتصاف المسلمين بكونهم[خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )، إقرارهم بالتوحيد وتسليمهم بانتفاء الشريك وجهادهم في سبيل الله من وجوه :
الأول : تنزيه الأرض وأهلها من عبادة الأصنام , ولم تلق أمة من الأذى والضرر في هذا السبيل مثل الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إذ كان الكفار يهجمون بالجيوش العظيمة يريدون قتله وأهل بيته وأصحابه وسبي نسائهم لأنهم رحالاً ونساءً يدعون إلى التوحيد، وهجران الأوثان ، يمقتون النفاق , وفي التنزيل [وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا] ( ) .
فان قلت قد حارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عبادة الأصنام في الجزيرة، وبالخصوص في مكة وما حولها ، فكيف يكون سعيهم تنزيهاً للأرض منها بالعنوان العام الشامل .
الجواب إنه من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، ومن مصاديق تسمية مكة بأم القرى، وورود ذكرها مرتين في القرآن بهذا الاسم ،وفي مسألة الإنذار، قال تعالى[وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ) وقال تعالى[وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ]( ) لإرادة محاربة الأصنام في الأرض بالقرآن وتنزيله .
الثاني : الزجر عن إدعاء الطواغيت الربوبية ، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنحسار مثل هذا الدعوى بعد أن كان فرعون ونمرود وأمثالهما ملوكاً جبارين يدعون إلى أنفسهم ، وورد حكاية عن فرعون في التنزيل[فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى* فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالْأُولَى]( ) .
لتكون الآية أعلاه من أخذ الله عز وجل لفرعون وخزيه في الدنيا والآخرة، وفيها تأديب للملوك والسلاطين الذين صاروا يبذلون الوسع للحفاظ على عروشهم باعلان العبودية لله عز وجل ، وهذا الإعلان من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين، وبقاء القرآن سالماً من التحريف إلى يوم القيامة .
الثالث : تبعث كل آية من القرآن النفرة في النفوس من الظلم والقبائح وتخبر بدلالتها التضمنية القارئ والسامع لها بأن الله عز وجل يطلع على ما في نفسه ، ويعلم ما يدور في خلده ، وأنه سبحانه يحاسبه على ما يقول وما يفعل ، قال سبحانه[مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ]( ).
الحمد لله الذي جعل القرآن مرآة حاضرة في كل زمان لعالم الكون ونشأة الخلق.
إن الله الذي خلق الأكوان هو الذي أنزل القرآن مع تجلي سنخية الخلق في إعجاز التنزيل ، إذ تبعث كل آية على التدبر والتبصر في عالم الكون والخلق، فأراد الله عز وجل أن يجعل من خصائص خلافة الإنسان في الأرض وجود كتاب سماوي يشهد بأن الله عز وجل هو الخالق البارئ ، وهذا الكتاب هو القرآن وهو قريب من كل انسان ، إن لم يأته ويقرأ آياته فانه يسمعها ، وهو من الشواهد على الإعجاز في قراءة كل مسلم ومسلمة آيات القرآن في الصلاة اليومية الواجبة وجوباً عينياً عليهم .
ويتضمن هذا الجزء شواهد من سبي النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لبعض نساء المشركين ، وصيرورة هذا السبي عزاً وفخراً لهن في الدنيا والآخرة ، ومنه سبي صفية بن حيي بن أخطب وكيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اصطفاها لنفسه ، ولم يتخذها سرية انما اعتقها وتزوجها ، لتفوز بمرتبة سامية بصيرورتها أماً للمؤمنين لقوله تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] ( ) .
وحينما يحدث جدال أو مشادة بينها وبين نساء النبي الأخريات تجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقف معها ويلقنها الجواب ، ليس عن إنحياز بل هو إكرام فتشمخ الضرات من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنسبهن وقربهن منه، لتذكر نسبها الرفيع.
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة ومناسبة لعمل الصالحات والمسارعة في الخيرات التي تترشح عن الرزق الكريم العام والخاص في مسائل وصيغ منها :
الأولى : التكاثر والتناسل بالنكاح الصحيح، فإن قلت قد ورد قوله تعالى[أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ]( )، الجواب إنما جاء التحذير واللوم في الآية للذين ينقطعون إلى الدنيا، وجمع الأموال فيها، وكثرة الأولاد، والإمتناع عن إخراج الزكاة والحقوق الشرعية , لينتبه المؤمنون لواجباتهم العبادية , ويشكروا الله عز وجل , وفيه دعوة لعامة الناس للتوبة والإنابة .
وتدل الآية بالدلالة التضمنية على أن الدنيا دار التكاثر وهو من فضل الله عز وجل على الناس وعمومات الإبتلاء فيها ومن مصاديق قوله تعالى[وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
فمن مصاديق الخلافة في الأرض(التكاثر) وهو مصاحب للإنسان في كل شيء، ومن أسرار إحتجاج الملائكة[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ).
وهل يكون من معاني الآية أعلاه أن الملائكة شكوا إلى الله كثرة مصاديق التكاثر عند الناس.
كما لو سألوا الله رمي وابتلاء الناس بالنقص في الأموال وعقم شطر منهم ليكون الابتلاءبلاء في قوله تعالى[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ]( )، أمراً دائماً , وحالاً تطل على كل طبقة وجيل من الناس .
الجواب لا دليل عليه ، والمختار أنهم سألوا الهداية والصلاح في ذرية آدم، والتنزه عن الفساد والقتل بغير الحق، وفي أسباب نزول قوله تعالى[أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ]( ).
وفي أسباب نزول هذه السورة وجوه (قال قتادة : نزلت في اليهود قالوا : نحن أكثر من بني فلان،
وبنو فلان أكثر من بني فلان،
ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضُلاّلا. وقال ابن بريدة : نزلت في فخذ من الأنصار تفاخروا. وعن مقاتل والكلبي : نزلت في حيّين من قريش : بني عبد مناف وبني قصي،
وبني سهم بن عمرو بن هصيص ابن كعب.
كان بينهم لحاء فتعادّوا السادة والأشراف أيّهم أكثر , فقال : بنو عبد مناف : نحن أكثر سيّداً وأعزّ عزيزاً وأعظم نفراً وأكثر عدداً.
وقال بنو سهم مثل ذلك فكثرهم بنو عبد مناف ثم قالوا : نعدّ موتانا حتى زاروا القبور فعدّوهم،
وقالوا : هذا قبرُ فلان وهذا قبرُ فلان،
فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات؛ لأنهم كانوا أكثر عدداً في الجاهلية فأنزل اللّه سبحانه هذه الآية) ( ).
الثالث : ورد عن ابن بريدة قال (نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار، في بني حارثة وبني الحارث، تفاخروا وتكاثروا، فقالت إحداهما: فيكم مثلُ فلان بن فلان، وفلان؟ وقال الآخرون مثل ذلك، تفاخروا بالأحياء، ثم قالوا: انطلقوا بنا إلى القبور. فجعلت إحدى الطائفتين تقول: فيكم مثل فلان؟ يشيرون إلى القبر -ومثل فلان؟ وفعل الآخرون مثل ذلك، فأنزل الله:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } لقد كان لكم فيما رأيتم عبرة وشغل.
وقال قتادة:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} كانوا يقولون نحن أكثر من بني فلان ونحن أعَدُّ من بني فلان، وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم، والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم)( ).
ويدل كلام قتادة أعلاه على عدم ارادة خصوص اليهود وحدهم في سبب نزول الآية، والمقابر موضع ومجمع القبور والمفرد مقبرة، والظاهر والمتبادر من المراد من زيارتها الموت .
(وعن الإمام علي عليه السلام قال :كنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت ألهاكم التكاثر إلى ثم كلا سوف تعلمون في عذاب القبر) ( ).
ورد عن ابن عباس بأن سورة التكاثر مكية , وهو المختار , مما يجعل كون سبب النزول اليهود أو بعض الأنصار أمراً مستبعداً .
الثانية : التكاثر بالأموال والتنافس في جمعها لإفادة لفظ التكاثر نوع مفاعلة بين أمور:
الأول : الذين يقومون بالتكاثر.
الثاني : موضوع التكاثر.
الثالث : تعدد مصداق التكاثر.
الرابع : التنافس في التكاثر.
الخامس : توالي التكاثر.
السادس : الإسراع والتعجيل بالتكاثر.
الثالثة : التكاثر بالعقارات والأملاك وأن كان فرع المال إلا أن له خصوصية.
وهل يمكن القول أن كل آية من القرآن تنهى عن الإنشغال بالتكاثر، الجواب نعم، إذ أنها تنمي القناعة والرضا بالقليل، والإجتهاد في الشكر لله عز وجل على كل نعمة ليكون من معاني قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا]( )، أن عدّ وإحصاء النعم برزخ دون اللهث وراء الدنيا.
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا دار التكاثر بفعل الخيرات وعمل الصالحات ومنها تلاوة القرآن والتدبر في معاني آياته، وإستقراء المواعظ منه بما يكون ضياءً ينير دروب الهداية ليتجلى التكاثر بذات المسارعة وفي الخيرات والمبادرة إلى عمل الصالحات على نحو القضية الشخصية والنوعية، ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ تبعث كل آية من القرآن إلى الخير والمعروف والتنافس فيه، وتمنع وتنهى عن فعل السيئات.
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالقرآن وآياته وجعله[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( )، ومنه الثواب العظيم في تلاوة آياته، وصيرورتها نوراً يضيء سبل الرشاد للناس جميعاً.
وقد جعل الله آيات القرآن شاهداً على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف، والقهر والإكراه، إنما بعث الله عز وجل النبي محمداً[رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] بدعوة الناس بالموعظة الحسنة للإسلام ولكن الكافرين أصروا على محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسعي للإجهاز على الإسلام، وإستئصاله، فلم يكتفوا بالبقاء على الكفر والجحود إنما بذلوا الوسع لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وأنفقوا الأموال من أجل إغتياله والغدر به، ثم قاموا بتجهيز الجيوش العظيمة لقتله ومحو دولة الإسلام التي لم تكن قائمة إلا في المدينة المنورة , ولم تكن المدينة يومئذ خالصة في الولاء والإيمان للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كانت فيها طائفة من اليهود وهم :
الأول : بنو قينقاع :وهم نحو سبعمائة وكانوا صاغة وتجاراً وهناك غزوة دفاع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم باسم غزوة بني قينقاع إذ نقضوا عهدهم فحاصرهم النبي خمس عشرة ليلة في شهر شوال بعد معركة بدر ، وهم اشجع يهود المدينة حتى نزلوا على حكمه في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم ، فشفع فيهم رأس النفاق عبد الله بن أبي وكان رئيس الخزرج، وألحّ على النبي فأطلقهم ووهبهم له ، وهم قوم عبد الله بن سلام وأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه فيها وكانت دارهم ومحل سكناهم في طرف المدينة ، وفيه شاهد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتل منهم أحداً مع نزولهم على حكمه ، وسيأتي بيانه .
الثاني : بنو النضير: وقيل أن عددهم ألف وخمسمائة مع النساء والصبيان ، وحملوا على ستمائة بعير .
وواقعة بني النضير في شهر ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة ، وأخذوا ما تحمله الإبل من دون سلاح .
وكان من أولاد الأوس والخزرج من تهود ، إذ كانت بعض نسائهم تنذر إذ ولدت وعاش ولدها تهوده لأن اليهود كانوا أهل كتاب ، وفيهم نزل قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) على قول .
إذ ورد عن ابن عباس (كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يعيش لها ولد ، فتنذر إن عاش ولدها أن تجعله مع أهل الكتاب على دينهم ، فجاء الإِسلام , وطوائف من أبناء الأنصار على دينهم ، فقالوا : إنما جعلناهم على دينهم ، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا ، وأن الله جاء بالإِسلام فلنكرهنهم ، فنزلت [ لا إكراه في الدين ] ( ) , فكان فصل ما بينهم إجلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ، فلحق بهم من لم يسلم ، وبقي من أسلم .
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كان ناس من الأنصار مسترضعين في بني قريظة فثبتوا على دينهم ، فلما جاء الإِسلام أراد أهلوهم أن يكرهوهم على الإِسلام ، فنزلت { لا إكراه في الدين } .) ( ).
الثالث : بنو قريظة: وعددهم نحو ستمائة ومنهم من أوصلهم إلى تسعمائة كما عن ابن إسحاق ، وعن جابر بن عبد الله الأنصاري أنهم كانوا أربعمائة مقاتل ) ويمكن الجمع بين الخبرين بارادة الأتباع معهم على القول بالعدد الأكثر .
ولو دار الأمر بين الخبر الوارد عن جابر الأنصاري وعن ابن إسحاق ، فالأرجح هو خبر جابر مع صحة السند لأنه صحابي ، وهو من أهل بيعة العقبة , أما محمد بن إسحاق بن يسار فهو من الطبقة السادسة ، وكان جده يسار من موالي قيس بن مخرمة بن عبد المطلب فهو قرشي مطلبي مولاهم .
ولد محمد بن إسحاق سنة ثمانين للهجرة في المدينة المنورة ، ثم سافر منها لطلب العلم إلى الجزيرة والكوفة والري والإسكندرية وسمع من العلماء وأتى أبا جعفر المنصور في الحيرة وأختص به , وأمره بتدوين مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومبتدأ الخلق , واختصر ابن هشام كتابه عن طريق تلميذ ابن إسحاق زياد البكالي المتوفى سنة 183 هجرية وكثير من أخبار ابن إسحاق مرسلات .
وقد نزل القرآن بجواز المعاملة والصلات مع أهل الكتاب ، قال تعالى[لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ). وقد عقد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معهم العقود التي تتضمن الألفة بين المسلمين وبينهم، وحفظهم في أموالهم وأنفسهم ودينهم، والنصرة بينهم لمحاربة الذي يهاجم المدينة، وكان بنو قينقاع أول من نقض العهد مع المسلمين بالإعتداء على امرأة من المسلمين. كما كان في المدينة طائفة من المنافقين الذين خطّوا لأنفسهم منهاجاً خاصاً يتقوم بمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين من المهاجرين والأنصار، من جهات: الأولى : إخفاء الكفر في ذات الوقت الذي يظهرون فيه الإيمان. الثانية : القعود عن الدفاع، مع أدائهم الصلاة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم. الثالثة : تحريض المؤمنين على القعود. الرابعة : إشاعة روح الشك في التنزيل ودلالاته، وعالم الآخرة وما فيه من الوقوف بين يدي الله للحساب, وعالم الثواب والعقاب وموضوعية الإيمان فيه , وفي التنزيل [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ] ( ). الخامسة : الشماتة المبطنة بالشهداء من المسلمين، كما ورد حكاية عنهم في التنزيل[الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ]( ). الحمد له الذي جعل لكل شئ قدراً ، ولكل قدر أجلاً ، ولكل أجل كتاب ، وهل منه العلوم عامة وعلم التفسير خاصة ، الجواب نعم ، ففي كل زمان يهيئ الله الأسباب لإشراقة ضياء من خزائن آياته وهو سبحانه الذي خلق وأحصى عدد ذرات الكون والرمال والشعر والوبر . وجاء هذا الجزء وهو الرابع والستون بعد المائة من (معالم الإيمان في تفسير القرآن ) خاصاً بمعجزة للنبي ، وهي أن المعارك التي وقعت له على قسمين : الأول : معارك ليس فيها قتال . الثاني : معارك دفاعية , وفي التنزيل [وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً]( ) وقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس غزوات بقصد الهجوم والإستيلاء والإستحواذ على الأراضي والأموال من الغير . ويدرك الناس في كل زمان قانوناً وهو أن الدفاع عن الحق والتنزيل واجب . وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتجلى بحرصه على الإمتناع عن القتال لوجوه : الأول : الوحي من عند الله بالإمتناع عن القتال إلا للدفاع . الثاني : كفاية المعجزات العقلية والحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في جذب الناس ودخولهم الإسلام . الثالث : كراهة القتال وسفك الدماء ، وعندما أخبر الله عز وجل الملائكة بأمر عظيم من خلقه له شأن في السموات والأرض وهو جعل خليفة في الأرض . تساءلوا واشتكوا وسألوا الله إصلاح الخليفة بالتنزه من الفساد في الأرض وسفك الدماء، للتضاد بين الخلافة عن الله وبين فعل القبائح مطلقاً، وورد قول الملائكة[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) بذكر الفرد الأهم والأكثر قبحاً من أفعال الناس مع إلتفات الملائكة إلى تنزه الخليفة عن فعلها إنما يفعلها غيره ، وهل يدل قوله تعالى أعلاه على عصمة الأنبياء بلحاظ تسليم الملائكة بمقام الخليفة لهم ، الجواب لا ، إلا بالواسطة والتقريب وان كان المختار عصمة الأنبياء . الرابع : فضل الله عز وجل في هداية الناس للإيمان لبيان قانون وهو ليس من نبي إلا ويكون له أتباع بمشيئة ولطف من عند الله عز وجل . وعن(النواس بن سمعان الكلابي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه وإن شاء أزاغه . وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك والميزان بيد الرحمن يرفع أقواما ويخفض آخرين إلى يوم القيامة . وعن عبد الله بن عمرو يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرف كيف يشاء ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك) ( ). وتبين هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استعان بالدعاء لثبات المسلمين على الإيمان وجذب الناس للهداية . وهل هذه الإستعانة من مصاديق قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( ) الجواب نعم . وأيها أكثر كسبب لهداية الناس إلى الإسلام : الأولى : المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم . الثاني : المعجزة العقلية وهو آيات القرآن . الثالث : القتال سواء في الغزوات التي غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفاعاً أو السرايا التي بعثها لأطراف المدينة المنورة ، قال تعالى [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ) . الجواب هو الثاني , وهو سلاح سماوي متجدد . وهل يشمل الدعاء هداية الناس إلى الإيمان من غير قتال الجواب نعم ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في مثل هذا الدعاء (جَاءَ الطُّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَقَالَ إِنَّ دَوْسًا قَدْ عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ فَاسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ . فَقَالَ النَّاسُ : هَلَكُوا . فَقَالَ : اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ) ( ). وقد دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ على أقوام من قريش عندما أصروا على قتاله وقاموا بقتل أصحابه , لمنع توالي هجومهم على المدينة وتجدد القتال , كما يأتي بيانه إن شاء الله . وقد دعا لهم جميعاً وفي يوم وموضع شرّفها الله بالذكر في القرآن بقوله تعالى [فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ]( ) (قال مجاهد : دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يوم عرفة وهو واقف بعرفة ، فرفع يديه حتى رئي بياض إبطيه ، وقال : اللهم اهد قريشا ثلاث مرات , اللهم إنك أذقت أولهم وبالا ، فأذق آخرهم نوالا) ( ). ومن الإعجاز في آية الدعاء أعلاه الإطلاق في موضوع الدعاء لبيان فضل الله عز وجل على المؤمنين ، قال تعالى [وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ] ( ) لبيان أنه ليس من دعاء إلا ويستجيب الله عز وجل له سواء على نحو الموجبة الكلية أو الجزئية وهو سبحانه أعلم بالمصلحة , وفي ذات موضوع الدعاء أو مقدماته أو في موضوع آخر . الرابع : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أصحابه في الدفاع وعودته من غير أن يلقى قتالاً . الخامس : السنة النبوية القولية والفعلية بلحاظ أنها شعبة من الوحي ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) ليكون من خصائص الوحي في السنة النبوية صيرورته سبباً لهداية الناس إلى الإسلام , وتقدير الآية أعلاه على جهات منها :
الأولى : [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ). لإقامة الحجة على الناس .
الثانية : إن هو إلا وحي يوحى، ليتخذ المسلمون السنة النبوية ضياءً ونبراساً ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ). الجواب نعم ، لقانون وهو : الوحي ورشحاته المباركة من الصراط القويم .
الثالثة : إن هو إلا وحي يوحى لهداية الناس إلى الإسلام .
الرابعة : ان هو إلا وحي يوحى لإمتناع الناس عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام .
الخامسة : [إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] وبرزخ دون القتال بين المسلمين وغيرهم .
السادسة : وحي يوحى من عند الله عز وجل وينزل به جبرئيل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(وأخرج ابن مردويه عن أبي الحمراء وحبة العرني قالا : أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تسد الأبواب التي في المسجد ، فشق عليهم، قال حبة : إني لأنظر إلى حمزة بن عبد المطلب وهو تحت قطيفة حمراء وعيناه تذرفان ، وهو يقول : أخرجت عمك وأبا بكر وعمر والعباس( )، وأسكنت ابن عمك؟
فقال رجل يومئذ : ما يألوا يرفع ابن عمه، فعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قد شق عليهم، فدعا الصلاة جامعة ، فلما اجتمعوا صعد المنبر فلم يسمع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبة قط كان أبلغ منها تمجيداً وتوحيداً ، فلما فرغ قال : يا أيها الناس ما أنا سددتها ولا أنا فتحتها ولا أنا أخرجتكم وأسكنته ، ثم قرأ { والنجم إذا هوى ما ضلّ صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } ) ( ).
لبيان الحجة السماوية في قول وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنع الجدال والخصومة فيه ، ليكون من غايات الوحي في المقام نزول الرحمة بهداية المسلمين للإمتثال لقوله تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ]( ).
وهل للوحي موضوعية في دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين القتال أو عدمه ، الجواب نعم ، فلا يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع أو يأمر بسرية إلا عن وحي يأتي به جبرئيل من عند الله عز وجل .
لقد كان الوحي يأتي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأمور الكبيرة والصغيرة والشخصية، ويتجلى بالإطلاق في الحرف (مَا) في قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) الذي يفيد نفي نطق وكلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الهوى فيأتي بعدها التأكيد بما هو أخص وأعظم بأن كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحي من عند الله عز وجل , لبيان قانون من باب الأولويات القطعية وهو أن فعله من الوحي.
ومنهم من قيد موضوع الآية بما يبلغه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التنزيل وأنه ليس من السحر أو الكهانة أو الأساطير .
وقد يرد(مَا) بخصوص أسباب نزول ولكن الموضوع أعم كما في قوله تعالى[مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ]( ).
وصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقاتل ابتداء في أي معركة، وكان يأمر السرايا أن يبدأوا بالدعوة إلى الإسلام ، وأن لا يبدأوا بقتال، ولو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبدأ بالقتال من طرفه فلا ضير فيه لأن القتال لا يكون حينئذ إلا عن الوحي، لذا فان البيان والتأكيد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبدأ القتال وينهى أصحابه عند حضوره معهم , أو وهم في السرايا عن مثل هذا الإبتداء شاهد على صدق نزول الوحي عليه لأن الله عز وجل لا يحب لعبادهٍ القتال .
ترى لماذا لم يبدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتال الذين كفروا مع أنهم معتدون وفي ضلالة، الجواب من وجوه :
الأول : بيان مصداق جلي لقانون وهو أن الأنبياء لا يبدأون بقتال, ليكون من معاني قوله تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
ويمكن تأسيس قانون وهو سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرآة لسنن وسيرة الأنبياء السابقين , فيكون من معاني الآية أعلاه مسائل :
الأولى : معاداة ومحاربة الكفار للأنبياء .
الثانية : دخول شطر من الأنبياء ساحات القتال .
الثالثة : لم يقاتل الأنبياء هم وأصحابهم وأنصارهم إلا دفاعاً .
الرابعة : رضا الله عز وجل عن الأنبياء وأصحابهم الذين قاتلوا في سبيله تعالى .
الخامسة : منع الكفار من التعريض بالأنبياء السابقين , سواء الذين قاتلوا الكفار , أو الذين لم يقاتلوهم .
السادسة : بعث السكينة في نفوس المسلمين بصحة وسلامة منهاج الدفاع عن الإسلام والنبوة , قال تعالى[وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ] ( ).
إن الأنبياء الذين قاتلوا هم وأصحابهم إنما قاتلوا دفاعاً عن أنفسهم وعن ملة التوحيد .
الثاني : كفاية المعجزات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهداية الناس إلى الإيمان.
وتحتمل الصلة بين الآيات الكونية ومعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم جهات :
الأولى : تعضد الآيات الكونية معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : تذّكر معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالآيات الكونية وتدعو للإتعاظ منها , ومنها ما يتعلق بذات الآيات وبعث الناس على الإلتفات إليها والإعتبار منها , قال تعالى في ذم الجاحدين بالنبوات والطواغيت ونزول العذاب بهم [فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا] ( ).
الثالثة : كل من الآيات الكونية ومعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعضد بعضها بعضاَ .
ولا تعارض بين هذه الجهات وكل واحدة منها تخفيف عن الناس في سبل الهداية والإرشاد وبرزخ دون القتال, والإصرار على محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل الإيمان.
الثالث : إقامة الحجة على الذين كفروا في تصديهم وتجهزهم للقتال من غير أن يكون في البين خطر يداهمهم قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
الرابع : بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقانون من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) بكراهية القتال للناس وكراهيتهم ونفرتهم منه , وتجلي قانون في سيرته وهو : لزوم عدم اللجوء الى القتال من غير ضرورة .
الخامس : إذا كان كل من الطرفين لا يبدأ القتال فلا يكون هنالك قتال , ومن الإعجاز في المقام ورود قوله تعالى[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) في وصف معركة بدر , ومعركة أحد .
السادس : تأدب الصحابة وأجيال المسلمين بعدم البدء بالقتال مع الذين كفروا, وهل يكون من باب الأولوية القطعية بعدم الإبتداء بالقتال فيما بينهم, كطوائف ومذاهب وقبائل ودول , الجواب نعم .
السابع : إخبار الناس في أجيالهم المتعاقبة عن ضابطة وقانون يحكم المسلمين وهو عدم الإبتداء بالقتال .
الثامن : دلالة عدم الإبتداء بالقتال على كراهيته , فإن قلت ما هو البديل عن القتال، الجواب هو فضل الله بالقاء وتلقي الحجة والبرهان , من وجوه :
الأول : العقل إذ جعل الله عز وجل العقل عند الإنسان ليسخره طوعاً وإنطباقاً للتدبر والتفكر في الخلق والنشأة , والتسليم بوجوب عبادة الله عز وجل , والتصديق بالأنبياء بالمعجزة الحسية أو العقلية , فكل منهما تفيد الأمر الخارق للعادة تقر معه العقول بأنه من الله عز وجل , وأنه يفوق قدرة البشر مجتمعين ومتفرقين.
(عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لما خلق الله العقل قال له : أقبل ، فأقبل ، ثم قال له : أدبر ، فأدبر ، فقال : وعزتي ما خلقت خلقا أعجب إلي منك ، بك آخذ ، وبك أعطي ، وبك الثواب ، وعليك العقاب) ( ).
والمعنى واحد لبيان بديع صنع الله عز وجل في خلق الإنسان وهو من أسرار إخبار الله عز وجل الملائكة عن آية خلق آدم وإتخاذه [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
وتفضل الله عز وجل برد إحتجاج الملائكة , وإقامة الحجة عليهم بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) بأن الله عز وجل رزق الإنسان العقل رسولاً باطنياً عنده يمنعه من القتل وسفك الدماء بالذات وإن لم يدخل الإيمان في قلبه لذا تجد من فطرة الإنسان وما أجمعت عليه الأمم والشعوب في أعرافها وسننها وقوانينها النفرة من القتل , والحرص على إجتنابه , والإمتناع عنه , والثناء العام على الذي يدفع القتل أو يساهم في دفعه بإصلاح ذات البين , وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وببذل المال والصفح والعفو , قال تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ] ( ).
الثاني : الآيات الكونية : التي تحث الإنسان على التفكر فيها في ذات الوقت الذي ينتفع منها إنتفاعاً يومياً متجدداً , وليس من حصر لهذه الآيات ويمكن تقسيمها إلى :
الأولى : الآيات السماوية كالشمس والقمر .
(عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا : ما جاءكم موسى من الآيات؟ قالوا : عصاه ، ويده بيضاء للناظرين . وأتوا النصارى فقالوا : كيف كان عيسى فيكم؟ قالوا : كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى . فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهباً . فدعا ربه فنزلت {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب}( ) فليتفكروا فيها)( ).
الثانية : الآيات الأرضية كالجبال والأنهار .
الثالثة : الآيات الزمانية كالليل والنهار .
الرابعة : الآيات الطارئة كالكسوف والخسوف .
الخامسة : آيات الملك والسلطان وتداوله بين الناس , وفي التنزيل [قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
السادسة : الزلازل والهزات الأرضية .
السابعة : الولادات والوفيات بين الناس , ومن أسرار الخلق وجود تخصيص وإستثناء في الأنظمة السماوية والأرضية وفي ذات الإنسان وحياته اليومية تجذب الناس إلى الإيمان , وتمنع من الغفلة فينزل الغيث وتخضر الأرض , او يحدث الفيضان ويغرق الناس أو ينحصر الغرق والتلف بالمواشي والمزروعات ليشكروا الله عز وجل على نجاتهم بأنفسهم , فذات البلاء قد يكون نعمة وتحذيراً وتنبيهاً عن تخلف الناس عن الشكر لله وعن عبادته .
ويكبر المولود ويصبح صبياً ثم رجلاً , وكذا البنت , ويتزوج كل منهما وقد يكون بعضهم عقيماً , ومن الآيات أن الناس الذين حوله يولون عناية للأمر , ويكون معروفاً عندهم بالعقم ذكراً كان أو أنثى , قال تعالى [أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ] ( ).
ومن علم الله عز وجل في المقام مبادرة العقيم في الجملة إلى فعل الخيرات , وإلى وقف المسجد والدار ونحوه , والسعي في الصدقة الجارية.
ومن الآيات أن مسألة العقم لا زالت موجودة بين الناس , وهل يحتمل أن يكون لها علاج وشفاء وإنجاب ولو بالواسطة.
الجواب نعم , وهو لا يضر بمضمون ذات الآية القرآنية لصدق العقيم على من لم يُعالج ويشفى منه , بالإضافة إلى أن هذا العلاج والإنجاب لا يكون على نحو الموجبة الكلية الذي يتغشى كل عقيم إذ تبقى بعض الحالات في المقام مستعصية على العلوم الطبية ونحوها .
وينشأ جيل جديد ولا تكون حياة أو أعمار الناس بمرتبة وعرض واحد, فمنهم الغني والفقير , ومنهم الذي يموت في سن الشباب على نحو مباغت أو عن مرض عضال .
وتلك ظاهرة باقية حتى مع إرتقاء العلم وقواعد الطب ومن مصاديق قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ).
وفيه بيان ومصداق لضعف ووهن الإنسان في أصل خلقته ونشأته , قال تعالى[وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا]( ).
توالي وتدافع الآيات على الإنسان ويكون من معاني قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) صيرورة كل آية كونية وسيلة لعبادة الناس لله عز وجل , وباعثاً للشوق في نفوسهم للعبادة .
الثامنة : الأرض وبدائع عالم الحيوان والنبات , وما فيها من النفع أو الضرر على الإنسان إذ جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إمتحان وإبتلاء واختبار .
التاسعة : حاجة الناس مجتمعين ومتفرقين إلى الله عز وجل وعلى نحو يومي متكرر , وهذه الحاجة رحمة من عند الله عز وجل بالناس , وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ] ( )
الثالث :البراهين والآيات الأرضية والنعم غير المتناهية التي تفيض بها الأرض على الناس ، ليكون من معاني قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) استخراج الإنسان النفط والذهب والنحاس والمعادن الثمينة من أعماق الأرض في هذا الزمان ، ومن الدول ما تكون فقيرة في هذا الزمان ولكن التنقيب والكشف يبين وجود خزائن في أرضها .
وقد كانت نعمة الزراعة مصاحبة للإنسان من حين هبوط آدم وحواء إلى الأرض ، قال تعالى [وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ] ( ).
ومن الإعجاز عدم ورود لفظ [هَامِدَةً] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، مع ذكر الأرض في القرآن نحو أربعمائة وأربع وخمسين مرة , لبيان نكتة وهي تغشي الأمطار وإمكان الزراعة في بقاع الأرض .
الرابع : من الحجج الدامغة التي يتفضل بها الله على العباد المعجزات التي تجري على أيدي أنبيائه , ونزول الكتب السماوية عليهم ، ومن لطف الله عز وجل بالناس ذكرها من وجوه :
أولاً : مجئ آيات القرآن بمعجزات الأنبياء ، ففي إبراهيم ورد قوله تعالى [قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ]( )وفي عيسى وأمه مريم ورد قوله تعالى [قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا] ( ) .
لبيان قانون وهو من الأنبياء من تصاحبه المعجزة من حين ولادته .
ثانياً : بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعجزات الأنبياء بتفسيره للقرآن ، وهذا البيان دعوة للناس للعناية بتأريخ النبوة , والمقارنة ورؤية وجوه التشابه بينها وبين سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الحمد لله الذي يهب من غير حساب , وما لم يكن على البال بلحاظ إنعدام الأسباب أو المقدمات ، أو حضورها بفضل ولطف من عند الله لتكون بذاتها هبة مستقلة ونوع طريق وعلة لهبة وفيض أعظم وأكبر بفضل من الله سبحانه , لبيان أن قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) رحمة بالخلائق عامة وبالناس خاصة ، فهو مالك السموات والأرض يحب أن يهب ويعطي ويمنح وليس من حد أو منتهى لعطائه.
وهل ذات الدعاء والمسألة من هذه الهبات ، الجواب نعم ، لأنه توفيق وتيسير وتنمية لمعالم الإيمان في النفوس والمجتمعات وامتثال لأمره تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ).
وأتوجه اليكم جميعاً برجاء الدعاء والمسألة بالمدد والإعانة منه سبحانه لتوالي إصدار أجزاء هذا التفسير بارتقاء علمي وذخائر من درر آيات القرآن وان يتفضل الله عز وجل علي بالأجر المتصل , وبحفظ هذا السِفر وتعاهده في الأحقاب التالية .
وجاء هذا الجزء والذي يليه بعلم جديد مقتبس من القرآن والسنة النبوية بأن معارك الإسلام الأولى لم تكن هجومية إنما كانت دفاعية، وبحكم الضرورة والذب عن النفس والمال والعرض.
ومن سجايا مجتمع جزيرة العرب آنذاك الفتك بالعدو وقتل الرجال وسبي النساء والصبيان وبيعهم إماء وعبيداً يسخرون للخدمة والعمل الشاق فانبثق فجر الإسلام ليقضي على منهاج الإستعباد وإلى يوم القيامة بالدعوة للعبودية لله وحده، والدفاع عن هذه الدعوة بالسيف وتحمل الضرر والحصار والضنك.
وتلقى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه الأذى بالصبر وحسن التوكل على الله، وفي التنزيل[ِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا]( ).
ليكون من الإعجاز في نبوته ومصاديق رسالته أن الذين حاربوه بالأمس دخلوا اليوم في الإسلام , وأن الذين يحاربونه اليوم يدخلون غداً في الإسلام، ليصبحوا أمراء وقادة يذبون عن الإسلام وينقلون آيات القرآن ويتلونها في الصلاة، ويعملون بمضامينها ويحكمون بقواعدها وضوابط السنة النبوية الشريفة، قال تعالى[وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ]( )، ويبين عامة أصحابه أخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتابعين وأجيال المسلمين بلحاظ أنها من رشحات الوحي والتنزيل .
ويتضمن هذا الجزء علماً جديداً وهو (السنة النبوية مقدمة وتوطئة لنزول الآيات القرآنية ) وسيتم توسيع هذا العلم بالشواهد والأدلة في هذا السفر ومن قبل الدارسين والعلماء ، بلحاظ مناسبة حديث أو فعل نبوي سابق لنزول لاحق لآية قرآنية بما يفيد تلقي المسلمين لها وكأنهم مستعدون لها منتظرون لنزولها ، ويرون سهولة وتيسير العمل بمضامنيها وما فيها من الأحكام .
ولا يتعارض هذا العلم مع الأصل وهو أن السنة النبوية بيان وتفسير للقرآن ليكون من فروع هذا البيان والتفسير ما هو سابق لنزول الآية القرآنية.
والمختار أن السنة النبوية لا تنسخ القرآن والذي يقول بالنسخ في المقام ليأتي بالشواهد لإمكان بيان الوجه الصحيح فيها بالإضافة إلى أن القرآن قطعي الصدور , وسالم من التحريف والتغيير والتبديل .
ومن مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ) إجماع المسلمين والمسلمات على سلامة القرآن من الزيادة أو النقصان ، وليس هناك من المسلمين من يقول بوجود زيادة كلمة واحدة في القرآن ، وما بين الدفتين كله قرآن ، وهذا زمان اتفاق المسلمين والمسلمات في مشارق الأرض ومغاربها على سلامة القرآن من التحريف ومن الزيادة والنقصان فيه والإقرار بهذه السلامة مسؤولية شرعية على كل مكلف ومكلفة على نحو الإستقلال والإشتراك ، وكأنه ملحق بضرورات الدين والعقيدة.
ويتجلى في التدبر بآيات القرآن والسنة النبوية قانون وهو أن الإسلام حرب على الإرهاب ، ويحرم القتل العشوائي وإفزاع الآمنين والتعدي على الحرمات وإدخال الفزع والرعب في قلوب الناس في حياتهم اليومية الرتيبة في السوق والدائرة والشارع والمدرسة والبيت .
إن قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) حجة وبرهان ليشيع المسلم الأمن في ناحيته ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ).
لقد إختار الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتماً للنبيين وبعثه في أفضل بقعة وهي مكة المكرمة لتكون الدنيا روضة بهيجة بالتقوى , والدعوة إلى عبادة الله بالحكمة والموعظة الحسنة والتحلي بالأخلاق الفاضلة، وليس بالقتل والظلم والتخويف .
ومن الإعجاز في القرآن أن آياته مناسبة لكل مكان وزمان بما يمنع التشديد على النفس والإضرار بالذات والغير ، إذ يستلزم العيش في زمن العولمة وتداخل الحضارات وأثر الدول العظمى في القرار المحلي أو الشخصي إلى المداراة والعقلانية والصبر والإنصات للآخر والإنتفاع منه، ومن مراتب العلم والتقنية التي بلغتها بعض الدول والمؤسسات، وكذا بالنسبة للأمم لتكون الأنظمة على أساس الوطن كنوع جامع لأبناء البلد على نحو التساوي في الحقوق والواجبات وإن تعددت المشارب والمذاهب والملوك .
ليشكر المسلم الله عز وجل على إمكان أدائه فرائضه وعباداته بأمن وسلامة سواء في بلده أو بلد آخر في أرجاء المعمورة ومن غير إيذاء لأهل البلد .
لقد ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ، ومكث أربعين سنة قبل النبوة ، مع ظهور علاماتها وأماراتها ، وأقام فيها بعد النبوة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس إلى الإسلام .
وتشمل هذه الدعوة :
الأول : أهل بيت النبي ، وقد بادرت خديجة والإمام علي عليهما السلام إلى الإيمان بنبوته .
الثاني : الأفراد من قريش رجالاً ونساءً .
الثالث : قبائل قريش .
الرابع : عامة أهل مكة ، ويدخل فيهم الغلمان والعبيد .
الخامس : أفراد القبائل العربية في موسم الحج وحتى في عامة أيام السنة حيث يفدون لأداء العمرة ، ويحضر النبي على نحو يومي صلى الله عليه وآله وسلم في البيت الحرام يؤدي الصلاة , وتنقل لهم في قراهم والبوادي أنباء ومعجزات نبوته , وهو من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
ويتصل ببعضهم ويبين لهم وجوب التوحيد ولزوم الإيمان بالله والكتاب والملائكة والنبوة ونبذ الأصنام وعبادة الأوثان .
ويجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته في الأشهر الحرم ، ذي القعدة وذي الحجة ومحرم وهي أشهر سرد متتالية ، ثم شهر رجب منفرداً لصيرورته ومن ينصت له في مأمن من بطش قريش ، إنما كانوا يبعثون من يمشي خلفه يحذر الناس من دعوته ، أو كانوا يقفون على مداخل مكة يمنعون الناس من اللقاء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هجرة قصيرة إلى الطائف التي تبعد عن مكة نحو ثمانين كيلو متراً ، ولم يرغب أهلها بوجوده بين ظهرانيهم وأغروا العبيد والصبيان به .
فكانت بيعة طائفة من الأوس والخزرج له في العقبة مقدمة لهجرته وأصحابه إلى المدينة المنورة في معجزة حسية ظاهرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكما هو معلوم فان معجزات الأنبياء حسية إلا معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهي متعددة من وجوه :
الأول : المعجزة العقلية ، وهي آيات القرآن ، والمختار أن كل آية منه معجزة بذاتها , كما يتجلى الإعجاز بصلتها مع أي من آيات القرآن .
الثاني : المعجزة الحسية ، ويمكن تقسيمها إلى أقسام ، منها بلحاظ المكان والزمان إلى :
الأولى : المعجزات الحسية المكية مثل انشقاق القمر إذ سأله أهل مكة أن يريهم آية يؤمنوا معها بنبوته فأراهم صيرورة القمر شقين في ليلة كان فيها القمر بدراً ، إذ وثّق القرآن هذه المعجزة ، قال تعالى [اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ *وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ]( )ومنها سلام حجر مخصوص عليه قبل بعثته .
(عن جابر بن سمرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي إذ بعثت ، إني لأعرفه الآن) ( ).
الثانية : المعجزة الحسية المدنية ، منها تكثير الطعام القليل ليشبع الطائفة والعدد الكثير .
ومنها صيرورة الماء القليل كثيراً بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد تكررت هذه الآية ، ومنها ما كان برهاناً قائماً بذاته بفضل من عند الله ، وفي أطراف المدينة المنورة هناك بيوت وقرية تسمى قباء ، نزل بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول هجرته في دار كلثوم بن الهدم في بني عمرو بن عوف من الأوس ، إذ لبث بضع عشرة ليلة ، وقيل إنما أقام في قباء يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس .
والإجماع على مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها صباح الجمعة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي .
وأُبتني في قباء أول مسجد في المدينة بأمر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وشارك في بنائه بالعمل بيديه قبل أن تمر بضعة أيام ويركب راحلته ويسير فيها إلى أن بركت عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان مربداً للتمر لغلامين يتيمين أخوين اسميهما سهل وسهيل ، وهما في حجر أسعد بن زرارة من بني النجار الذين هم أخوال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فساومهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه لإتخاذه مسجداً (فقالا : لا بل نهبه لك يا رسول الله فأبى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقبله منهما حتى ابتاعه منهما وبناه مسجدا وطفق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينقل مع المسلمين اللبن في بنائه وهو يقول : هذا الجمال لا جمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهر إن الأجر أجر الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة .
ويتمثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشعر رجل من المسلمين)( ).
وسميت قباء من بئر كان فيها اسمه قبار ، ولكن الناس تطيروا من هذا الاسم لقربه من اسم القبر فسموها قباء .
وتبعد محلة قباء عن المسجد النبوي ثلاثة كيلومتر وتقع في جنوب المدينة المنورة وهي من منطقة العالية , وكانت قباء قرية مستقلة تمر بها القوافل القادمة من مكة ، وكان لأهلها فيها عدة آطام( ) منها :
الأول : أطم الشنيف .
الثاني : المستظل .
الثالث : واقم .
الرابع : الصياحي .
وتتصف منطقة قباء بوفرة المياه وكثرة النخيل والآبار منها :
الأول : بئر عذق الذين نزل عندها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هجرته .
الثاني : بئر أريس الذي سقط فيه خاتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ اتخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاتماً من ذهب وجعل فصه مما يلي بطن كفه ، ونقش فيه : محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وحاكى الناس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلبس خاتم من ذهب ، وكان في الأصل غير محظور عليهم لبسوا خواتم الذهب .
ولما رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيوع لبس خاتم الذهب بما يوحى بأنه محاكاة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رمى بخاتمه (عن ابن عمر :اتخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاتما من ذهب وجعل فصه مما يلى بطن كفه، ونقش فيه: محمد رسول الله)( ).
وإتخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاتماً كله فضة ونقش عليه(محمد رسول الله), (عن أنس قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر ولم يختمه، فقيل له: إنّ كتابك لا يقرا إلاّ أن يكون مختوماً، فاتّخذ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خاتماً من فضّة، فنقشه محمد رسول الله)( ), والمراد من الوِرق في الخبر أعلاه الفضة .
ثم سقط هذا الخاتم من يد عثمان في بئر أريس في سنة ثلاثين للهجرة , وكانت قليلة الماء , ولكن لم يدركوا قعرها عند النزح , واغتم عثمان لفقده وتطير من الأمر , وشاع خبر فقده وتعذر العثور عليه بين أهل المدينة , وصنع عثمان غيره .
(عن أنس قال: كان خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في يده، وفى يد أبي بكر، وفى يد عمر بعد أبي بكر.
قال: فلما كان عثمان جلس على بئر أريس، فأخذ الخاتم فجعل يعبث به فسقط.
قال: فاختلفنا ثلاثة أيام مع عثمان فنزح البئر فلم يجده.)( ).
وسُميت هذه البئر بئر الخاتم لوقوع خاتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها ، والعجز عن إخراجه والعثور عليه .
الثالث : بئر غَرس بفتح الغين , والغرس فسيل النخيل والشجر الذي يغرس في الأرض ، وهو في الشجر كالزرع في الحب .
ويقع بئر غَرس شرقي مسجد قباء على بعد (1500) م في الموضع الذي يسمى في هذا الزمان (قربان).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستعذب ماءها , وقال : (نعم البئر بئر غرس هي من عيون الجنة وماؤها أطيب المياه) ( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستعذب له من بئر غرس ومنها غسل) ( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأتي قباء كل سبت وأحياناً يزور أصحابه .
(عن أنس قال جئنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قباء فانتهى إلى بئر غرس وأنه ليستقي منها على حمار ثم تقوم عامة النهار ما نجد فيها ماء فمضمض في الدلو ورده فيها فجاشت بالرواء) ( ).
وأهملت هذه البئر ثم جددت بعد سنة سبعمائة للهجرة , وقد جاءت بعض الأخبار لتبين بركة وضوء ومضمضة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في زيادة ماء آبار عديدة .
وعن(سلمى امرأة أبي رافع قالت كان أبو أيوب حين نزل عنده النبي صلى الله عليه وسلم يستعذب له الماء من بئر مالك بن النضر والد أنس ثم كان أنس وهند وحارثة أبناء أسماء يحملون الماء إلى بيوت نسائه من بيوت السقيا وكان رباح عبده الأسود يسقي له من بئر غرس مرة ومن بئر السقيا مرة) ( ).
وأبو رافع هو مولى محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسلمى أم أولاده ، وكانت قابلة خديجة بنت خويلد بن أسد في ولادتها لأولادها ، إذا ولدت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي قبلّت مارية أم إبراهيم بن رسول الله .
وأخبرت زوجها أبا رافع بأن مارية ولدت غلاماً , فجاء أبو رافع بالبشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوهب له غلاماً ، وشهدت سلمى واقعة خيبر مع رسول الله.
وجاءت سلمى يوماً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تشتكي عنده من أبي رافع بأنه يضربها ، فقال له : ما لك ولها .
قال أبو رافع : أنها تؤذيني يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
قال : بم آذيته يا سلمى ؟
قالت : (ما آذيته بشيء ولكنه أحدث وهو يصلي , فقلت: يا أبا رافع إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أمر المسلمين إذا خرج من أحدهم ريح أن يتوضأ فقام يضربني .
فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يضحك ويقول ” يا أبا رافع لم تأمرك إلا بخير)( ).
وعن الإمام علي عليه السلام (أوصاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إذا أنا مت فاغسلني بسبع قرب من بئري بئر غرس) ( ).
وقد وردت نصوص من السنة النبوية في فضل مسجد قباء منها عن أسيد بن ظهيرة عن (النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : من صلى في قباء يوم الاثنين والخميس انقلب بأجر عمرة .
وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم وصححه عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر الاختلاف إلى قباء راكباً وماشياً .
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي وابن ماجة عن سهل بن حنيف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من خرج حتى يأتي هذا المسجد مسجد قباء فيصلي فيه كان كعدل عمرة) ( ).
وأختلف في قوله تعالى [لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ]( ) على قولين :
الأول : مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة .
الثاني : مسجد قباء .
والمختار هو الأولُ , وبه وردت أخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يجعل الوقوف الطويل عند هذا الخلاف أمراً زائداً و(عن سهل بن سعد الساعدي قال : اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى .
فقال أحدهما : هو مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم . وقال الآخر : هو مسجد قباء . فأتيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألاه .
فقال : هو مسجدي هذا) ( ).
ومن العلوم والمقاصد السامية في هذا الجزء من التفسير أن غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفاعية، ويصح القول بأن إطلاق لفظ الغزوة على الواحدة منها أو الغزوات عليها جميعاً من باب المجاز وإرادة المفهوم العام للمعارك، فتسمى معركة بدر التي جرت في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، غزوة بدر , مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا في حال الدفاع , ولم يبدأوا القتال , وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتطلع لإنسحاب كفار قريش من غير قتال وقد ذكر الله عز وجل الواقعة في القرآن من غير أن يسميها غزوة إذ قال سبحانه , [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) , ولم يرد في القرآن ذكر لمادة (غزا) بخصوص النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما ورد في قوله تعالى[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى]( ).
والغزي والغزاة جمع غاز .
وفي الآية مسائل :
الأولى : لم يرد لفظ ( أَوْ كَانُوا ) و (غُزًّى ) إلا في الآية أعلاه .
الثانية : إبتدأت الآية بنداء الإكرام للمسلمين والمسلمات أعلاه( ).
الثالثة : في الآية ذم للمنافقين وتعريض بهم .
الرابعة : قدمت الآية ضرب المؤمنين أقدامهم في الأرض للتجارة والكسب, لبيان حسد ورغبة إرادة الكافرين عدم خروج المسلمين من بلادهم للكسب , وما يصاحبه من أداء الصلاة وبيان معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم للناس سواء المعجزات العقلية أو الحسية , ومنها بيان النصر المبين الذي تفضل به الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر , وعجز الذين كفروا عن تحقيق أي نصر سواء في معركة أحد أو معركة الخندق .
الخامسة : لم تقل الآية غزاة , إنما قالت (غُزًّى) , والمراد أمور :
الأول : الدفاع .
الثاني : المرابطة في الثغور قال تعالى , [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ).
الثالث : إستطلاع حال العدو .
الرابع : مقدمات القتال .
الخامس : معالجة آثار هجوم العدو , وتدارك الخسارة .
السادس : جاءت الآية (أَوْ كَانُوا غُزًّى) بخصوص وقائع معركة أحد , وشهادة سبعين من المهاجرين والأنصار .
السابع : إرادة موت المسلم في السفر بقدر وقضاء الله عز وجل , أو قتله من قبل العدو , ليكون إحتمال موت نفر المسلمين بلحاظ الآية على وجوه :
الأولى : الموت في سفر التجارة .
الثانية : القتل أثناء السفر للتجارة والكسب .
الثالثة : الموت في الغزو .
الرابعة : القتل في الغزو .
الخامسة : حوادث الطريق والهلاك في البراري .
السادسة : تعدي وظلم الذين كفروا على المسلم المنفرد أو المتعدد .
الثامن : لقد كانت معركة أحد دفاعية محضة ليكون معنى (غُزًّى) في الآية الدفاع , وتقدير الآية : أو كانوا مدافعين , ومن الآيات أن المهاجرين والأنصار كانوا يومئذ يدافعون حتى عن المنافقين وعوائلهم , وحفظ لهم شهداء أحد أنفسهم وأموالهم ,ودفعوا عنهم الذل والهوان .
التاسع : إرادة المعنى العام لحال الغازي وهو الذي يخرج للقتال , سواء للدفاع أو غيره , وهل يمكن القول بدلالة الآية على أنهم غزاة في نظر الذين كفروا والمنافقين على نحو الخصوص , الجواب لا.
إنما المراد من لفظ الغزو المعنى العام للقتال والدفاع , ويدل عليه سبب نزول الآية وأن المقصود فيه وهو معركة أحد التي هي للدفاع , فإن قلت قد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بعد معركة أحد بيوم واحد خلف جيش الذين كفروا ونزل فيه قوله تعالى , [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ] ( ) , ووصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ إلى حمراء الأسد , والجواب أنه لم يلق قتالاً يومئذ , وسيأتي بيان منافع هذا الخروج خلف العدو , وإذا كان هذا الخروج وأمثاله يسمى غزوة فإن غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للجميع , وحجة وقدسية لمن خاطبهم وذكر الله عز وجل مصيبتهم بقوله تعالى ,[ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
وتسمى معركة أحد، التي وقعت في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة غزوة أحد , وتسمى معركة الخندق التي جرت بعدها بأكثر من سنة غزوة الخندق مع أن كل واحدة منهما دفاعية محضة .
ومن البراهين في المقام إقتراب موقع المعركة التالية من المدينة أكثر من السابقة من جهات:
الأولى : يبعد موضع معركة بدر نحو 150 كم عن المدينة المنورة , باتجاه الجنوب الغربي , وعن مكة 310 كم , باتجاه الشمال الغربي , أي أن قدر المسافة التي قطعها الكفار من أجل القتال يومئذ ثلاثة أضعاف المسافة التي قطعها المسلمون باتجاه بدر تقريباً , مع التباين في النية , فلم يكن قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من خروجهم القتال في معركة بدر , لذا اعتذر بعض وجوه أصحابه عند عودته الى المدينة بأنهم لم يخرجوا معه لأنهم لم يظنوا وقوع قتال فقبل عذرهم .
الثانية : يبعد موضع معركة أحد ثمانية كيلومتر عن المدينة , إذ قطع جيش المشركين أكثر من أربعمائة كيلو متر .
الثالثة : أحاطت جيوش الأحزاب بالمدينة وبادر النبي صلى الله وآله وسلم وأصحابه لحفر خندق حولها لمنع إقتحامها من قبل جيوش المشركين، قال تعالى[إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ]( ).
قال قتادة : نزلت هذه الآية يوم الأحزاب، وقد حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً فخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل أبو سفيان بقريش ومن معه من الناس حتى نزلوا بعفوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عيينة بن حصن أخو بني بدر بغطفان ومن تبعه حتى نزلوا بعفوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاتبت اليهود أبا سفيان فظاهروه .
فبعث الله عليهم الرعب والريح. فذكر أنهم كانوا كلما بنوا بناء قطع الله أطنابه، وكلما ربطوا دابة قطع الله رباطها ، وكلما أوقدوا ناراً أطفأها الله، حتى لقد ذكر لنا أن سيد كل حي يقول: يا بني فلان هلم إلي حتى إذا اجتمعوا عنده قال : النجاة… النجاة… أتيتم لما بعث الله عليهم الرعب)( ).
وقد ورد في القرآن ذم للمنافقين لإجتماع عدة صفات مكروهة فيهم منها القعود عن القتال الدفاعي .
لماذا لم يغز النبي ص أحداً
يزهو غلاف هذا السِفر المبارك باسمه العام وهو(معالم الإيمان في تفسير القرآن) وتتعاقب معه أرقام الأجزاء، وكأنها قناديل يزداد ضياء آخرها ليترشح منه ضياءً ونوراً على الأجزاء السابقة، ونتضرع إلى فيض وفضل من عند الله عز وجل لتوالي أجزاء أخرى .
وجاء هذا الجزء بعنوان وعلم جديد وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً إذ كان وأصحابه في حال دفاع عن ملة التوحيد , فصارت في هذا الزمان عقيدة كل المذاهب , ولا عبرة بالقليل النادر .
وحتى هذا الدفاع لم يكن عن إستعداد ورصد لمدة مديدة، وتدريب خاص وعام للتهيء لدخول المعارك بقصد محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه على نحو التعيين .
فمثلاً كان كفار قريش يعدون لمعركة أحد لأكثر من سنة، ينفقون الأموال ويتدربون على السلاح، ويلقون القصائد الحماسية ويرّغبون الناس بالمشاركة ويطوفون على القبائل يحرضونهم ويستمعون لشروطهم بالمشاركة في الهجوم على المدينة ويغرونهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، ويسّخرون الذين يستهزءون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن إستعدادهم للقتال منهم أهل وذوي قتلاهم في معركة بدر التي وقعت في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة من البكاء على موتاهم أو رثائهم.
لقد ناحت قريش على قتلاهم السبعين في واقعة بدر ، وأشتد النياح وكثرت المواساة واستولى عليهم القلق لوقوع سبعين آخرين في الأسر ، ولا يعلم هل يقتلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لشدة أيذاء قريش لهم , أم لا ، وعزم كبراء قريش على الثأر والإنتقام ولعله بعد أن علموا بسلامة الأسرى واطلاق سراح بعضهم والطلب من عدد منهم بتعليم واحد منهم عشرة من صبيان المسلمين ليعتق بعده .
وقال رؤساء قريش لأهل مكة بعد أيام من البكاء والنياحة لا تبكوا القتلى (فيبلغ محمدا واصحابه فيشمتوا بكم ولا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنسوا بهم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه في الفداء) ( ).
أي ينتفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الفداء في إصلاح أمورهم ومحاربة قريش , وسيأتي بيانه .
لقد أكرم الله عز وجل المسلمين بأن جعلهم أفضل الأمم في الدعوة إلى الله ، قال تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) مما يدل على أن خروجهم بالموعظة والحكمة وليس بالقتل .
(مِنْ حَدِيث ِ أَبِي الدّرْدَاءِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسم صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يَقُولُ إنّ اللّهَ تَعَالَى قَالَ لِعِيسَى ابن مَرْيَمَ : إنّي بَاعِثٌ مِنْ بَعْدِكَ أُمّةً إنْ أَصَابَهُمْ مَا يُحِبّونَ حَمِدُوا وَشَكَرُوا وَإِنْ أَصَابَهُمْ مَا يَكْرَهُونَ احْتَسَبُوا وَصَبَرُوا وَلَا حِلْمَ وَلَا عِلْمَ قَالَ يَا رَبّ كَيْفَ هَذَا وَلَا حِلْمَ وَلَا عِلْمَ ؟ قَالَ أُعْطِيهِمْ مِنْ حِلْمِي وَعِلْمِي ) ( ).
إذ قاتل قتالاً شديداً وقطعت يداه ثم قتل (فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : ” على مثل جعفر فلتبك البواكي) ( ).
ومن فضل الله أني أتولى بمفردي كتابة أجزاء التفسير وتصحيحها ومراجعتها ووكذا كتبي الفقهية والأصولية لحين طبعها من غير إعانة من أحد إلا من عند الله عز وجل , مع أن كل جزء منها مدرسة مستحدثة في الإستنباط والإستقراء من خزائن القرآن وتثوير لذخائره .
وأقوم بطبع أجزائه المتعاقبة على نفقتي الخاصة بتيسير ومدد ولطف من عند الله وهو [الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] ( ).
وتدعو الدول والمنظمات المدنية وغيرها في زمن العولمة هذا للتعايش السلمي , والأنبياء عامة والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة أول من سعى واجتهد في الدعوة إلى التعايش السلمي وتحقيق مصاديقه , وبنائه على أسس الحق والهدى والعدل , وتتجلى شواهده في القرآن والسنة , قال تعالى ,[ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] ( ).
حرر في التاسع والعشرين من شهر صفر 1439
19/11/2017
الولادة المباركة
لقد ولد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة في العشرة الثانية من شهر ربيع الأول في مكة ، لتشع أنوار النبوة لتبقى وتتسع في عموم الأرض , ومات أبوه عبد الله (554-571)م وهو في بطن أمه إذ تزوج عبد المطلب الذي كان يسمى شيبة الحمد من آمنة بنت وهب بن عبد مناف، وكانت تعيش في كنف عمها وهب بن عبد مناف , فذهب إليه عبد المطلب، وأخذ معه ولده عبد الله ، فخطبها له، ولما تزوجها أقام عندها ثلاثة أيام، وتلك عادة عند العرب آنذاك ان الرجل إذا دخل على امراته عند أهلها يبقى عندها ثلاث أيام وكأنها مثل مدة الضيافة .
(قال الزبير: وكان عبد الله أحسن رجل رؤي في قريش قط وكان أبوه عبد المطلب قد مرّ به فيما يزعمون على امرأة من بنى أسد بن عبد العزى وهى أخت ورقة بن نوفل وهى عند الكعبة فقالت له اين تذهب يا عبد الله
قال: مع ابي قالت لك مثل الابل التي نحرت عنك وكانت مائة وقع علي الآن
قال أنا مع ابي ولا استطيع خلافه ولا فراقه وانشد بعض اهل العلم في ذلك لعبد الله بن عبد المطلب ( ).
وورد عن (عطاء عن ابن عباس قال لما خرج عبد المطلب بابنه ليزوجه مرّ به على كاهنة من اهل تبالة متهودة قد قرأت الكتب يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية فرأت نور النبوة في وجه عبد الله.
فقالت يا فتى هل لك ان تقع علي الآن وأعطيك مائة من الإبل، فقال عبد الله:
أما الحرام فالممات دونه والحل لا حل فأستبينه
فكيف لي الأمر الذي تبغينه يحمي الكريم عرضه ودينه
ثم مضى مع أبيه فزوجه آمنة بنت وهب فأقام عندها ثلاثا ثم ان نفسه دعته إلى ما دعته إليه الخثعمية فأتاها فقالت ما صنعت بعدي قال زوجني أبي آمنة بنت وهب فأقمت عندها ثلاثا قالت إني والله ما أنا بصاحبة ريبة ولكني رأيت في وجهك نورا فأردت أن يكون فيّ وأبى الله إلا أن يصيره حيث أحب ثم قالت فاطمة
إني رأيت مخيلة لمعت فتلألأت بخاتم القطر
ظلما بها نور يضيء له ما حوله كإضاءة البدر
ورجوته فخرا أبوء به ما كل قادح زنده يوري
لله ما زهرية سلبت ثوبيك ما استلبت وما تدري
وقالت أيضا
بني هاشم قد غادرت من أخيكم أمينة إذ للباه يعتلجان
كما غادر المصباح بعد خبوه فتائل قدميثت له بدهان
وما كل ما يحوي الفتى من تلاده بحزم ولا ما فاته لتواني
فاجمل إذا طالبت أمرا فإنه سيكفيكه جدان يصطرعان
سيكفيكه إما يد مقفلة وإما يد مبسوطة ببنان
ولما قضت منه أمينة ما قضت نبا بصري عنه وكلّ لساني
وأخرجه ابن سعد عن هشام بن الكلبي عن أبي الفياض الخثعمي مفصلا وفيه أنه لما رجع إليها قال هل لك فيما قلت.
قالت: قد كان ذاك مرة فاليوم لا فذهبت مثلا.
وفي آخره وبلغ شبان قريش ما عرضت على عبد الله فذكروا لها ذلك فقالت الأبيات) ( ).
وورد الخبر عن ابن عباس أيضاً أن المرأة من خثعم وأنها كانت تعرض نفسها في موسم من المواسم وتتصف بأنها ذات جمال ، ومعها آدم وجله وكانت تبيعه فاتت على عبد الله بن عبد المطلب فلما رأته أعجبها حسنه فعرضت نفسها عليه .
ورأت بين عينيه ساعتئذ نوراً ساطعاً هو عنوان نطفة النبوة التي تولدت عنده ، وصارت جاهزة لتلقى في رحم امرأة ، وأبى الله إلا أن يولد الأنبياء عن نكاح شرعي ، فقال عبد الله حين دعته: مكانكِ حتى أرجع إليك، فأنطلق إلى أهله فبدا له بفضل ولطف من عند الله أن يواقعها[لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً] ( ) من حينه .
ولما رجع إلى المرأة قالت: من أنت.
قالت: أنا الذي وعدتكِ.
فأنكرته وقالت: لا، ما أنت هو .
ولئن كنت ذاك لقد رأيت بين عينيك نوراً ما أراه الآن.
وعن عروة وغيره(قتيلة بنت نوفل اخت ورقة بن نوفل كانت تنظر وتعتاف فمر بها عبد الله فدعته ليستبضع منها ولزمت طرف ثوبه فأبى، وقال حتى آتيك وخرج سريعا حتى دخل على آمنة فوقع عليها.
فحملت برسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم رجع الى المرأة فوجدها تنتظره فقال لها هل لك في الذي عرضت علي
قالت: لا مررت وفي وجهك نور ساطع ثم رجعت وليس فيه ذلك النور وفي لفظ مررت وبين عينيك غرة مثل غرة الفرس ورجعت وليس هي في وجهك)( ).
ولا تدل هذه الأحاديث على عرض النسوة الزنا على عبد الله، إذ يدل رد بعضها إلى بعض على رغبة النساء باقتطاف ثمرة النور الذي أشرق في جبهته وجبينه على نحو مفاجئ وبغتة بطريق شرعي ليزكي المولود، ولعل أخباراً شائعة بخصوصه ، ورجوع عبد الله للمرأة إنما لإتمام الحجة، وتأكيد الشاهد بأن مولوداً مباركاً سيأتي إلى الأرض ينتفع الناس من خيره وما جعل الله عز وجل فيه من الفيض واللطف .
لقد حملت آمنة بنت وهب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن تشعر بثقل ووطأة الحمل كما تجده النساء ولكنها أنكرت انقطاع الحيض عنها، ولم يكن هذا الإنكار على نحو السالبة الكلية، وكان الحيض ينقطع عنها أحياناً ثم يعود وكأن هذا الإنقطاع مقدمة للإعجاز في حمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل خفة الحمل بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) الجواب لا، لأن القول المتيقن من الآية أعلاه هو الوحي والرسالة والتبليغ نعم ، هو من بركات رسالته التي تتغشاه وذويه وأهل البيت، وليس من حصر زماني أو مكاني لهذه البركة، ولا تقول في أصول الفقه بالإستصحاب القهقري، ولكنه يتجلى في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم باللطف من عند الله بآياته وبسلامتهم وسلامته لحين الوضع، وهل من البركات والمقدمات بناء إبراهيم للبيت الحرام ودعوته الناس للحج، الجواب نعم.
ليكون من معاني أمر الله لإبراهيم عليه السلام في قوله تعالى[وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ]( ) وجوه منها:
الأول : وأذن في الناس بالحج ليدعوهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى التوحيد .
الثاني : وأذن في الناس بالحج لتكون مكة والحرم أول مكان تبليغ الناس بوجوب الإيمان .
الثالث : وأذن في الناس بالحج لتحضر القبائل فيطلب منها النبي إيوائه وإجارته.
الرابع : وأذن في الناس بالحج ، وعلى الله ايصال البلاغ للناس جميعاً .
الخامس : وأذن في الناس بالحج مقدمة لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : وأذن في الناس بالحج ليتعاهد المسلمون حج بيت الله الحرام.
السابع : وأذن في الناس بالحج ليسمعوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وهو يدعوهم إلى التوحيد الذي يدل عليه حج البيت بلحاظ قانون وهو الذي يحج بيت الله يقر ويعترف بالربوبية المطلقة له سبحانه .
ومن الشواهد بأن الإسلام لم ينتشر بالسيف مناداة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في موسم الحج كل عام(قولوا لا إله إلا الله تفلحوا).
الثامن : وأذن في الناس بالحج فيأتي الأفراد والقبائل من حول مكة للحج لتمر الأيام والسنين فيبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليأتي الملايين كل عام من مشارق ومغارب الأرض إلى حج بيت الله الحرام .
والذي يتطلعون إلى حجه أضعاف مضاعفة لعددهم ، وهو من الشواهد على أمور :
الأول : بلوغ المسلمين أسمى مراتب التقوى .
الثاني : إنه من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالث : غزو الإيمان القلوب واستحواذه على الأركان والجوارح من غير أن يغزو ويهجم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسيف .
ويحتمل دخول الناس من حيث القلة والكثرة في الإسلام وجوهاً :
الأول : الذين دخلوا الإسلام بالدفاع وصلح الحديبية وفتح مكة أكثر من غيرهم .
الثاني : الذين جاءوا إلى المدينة ودخلوا الإسلام طواعية هم الأكثر.
الثالث : نسبة التساوي بين الوجهين أعلاه.
والمختار هو الثاني ، وتلك معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وشاهد على انتشار الإسلام بقوله تعالى[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
$$وكانت ثويبة قد بشرت مولاها أبا لهب بولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاعتقها لفرحه بولادته في معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ولادته بأن عمه الذي سيعاديه في نبوته فرح فرحاً شديداً بولادته واعتق جارية له .
وقيل أن العباس بن عبد المطلب رآى في المنام أبا لهب بعد موته (فقال له: ما حالك؟ فقال له: في النار، إلا أنه خفًف عني كل ليلة اثنين وأمصني من بين إصبعي هاتين ماءً بارداً، وأشار له إلى إصبعيه، وأن ذلك بإعتاقه ثويبة فرحاً عندما بشرته بولادة ابن أخيه وإرضاعها له) ( ).##
وبالإضافة إلى أن حمزة هو عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه قريبةً من أمه ، لأن أم حمزة هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة بنت عم آمنة بنت وهب بن عبد مناف أم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسلم حمزة في السنة الثانية للهجرة بخلاف العباس الذي وقع أسيراً في أيدي المسلمين في السنة الثانية للهجرة لتدور الأيام ويحكم أولاده بلاد المسلمين ويستمر حكمهم من سنة (132-750) للميلاد .
النسب الرفيع
هو محمد بن عبد الله بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مَناف بن قُصيّ بن كِلاب بن مُرة بن كَعبْ بن لُؤَيّ بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النّضْر بنِ كِنانة بن خُزَيْمة بن مُدْرِكةَ بن إليْاس بن مُضَر بن نِزَار بن مَعَدّ بن عَدْنان . ولا يختلف الناسبُون إلى عدنان، .
ثم يختلفون فيما بعده، فبعضهم يقول: عَدْنان بن أُد ّبن أدَد بن الهميْسع بن حميل بن النَّبت بن قَيذَار بن إسماعيل بن إبراهيم. وبعضهم يقول: عدنان بن أدد.
وهو النسب المتفق على صحته وقيل :عدنان بن أدد بن المقّوم بن ناحور بن تيرح بن يشحب بن يعرب بن يشجب بن ثابت بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام بن تارح وهو آزر بن ناحور بن ساروح بن راعو بن فالخ بن عيبر بن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ وهو إدريس عليه السلام فيما يزعمون وهو أول بني آدم أعطي النبوّة وخط بالقلم بن يرد بن مهليل بن قنين بن ياشن بن شيث بن آدم عليه السلام( ).
والمتفق عليه في علم الأنساب ! عدنان , أما ما بعده فيه.
وأم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة , وكانت ولادته في يوم الإنين في شهر ربيع الأول من عام الفيل وقال بعضهم ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد عام الفيل بثلاثين سنة.
وللنبي أعمام وهم :
الأول : أبو طالب ، واسمه عمران ، وقيل عبد مناف (540-619)م ، وهو كافل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو الإمام علي عليه السلام .
وأم أبي طالب هي فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم وأم الإمام علي عليه السلام فاطمة بنت أسد ، وأم الحسنين فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لذا كانوا يسمعون أبناء الفواطم , وأشتهر أبو طالب بكنيته بابنه طالب , وأبناؤه هم :
أولاً : طالب , وهو أكبر ولده الذي خرج مع قريش مكرهاً إلى معركة بدر ، ثم اختلف في أمره ، فقيل رجع من وسط الطريق بعد مشادة بينه وبين بعض رجالات قريش ، إذ أخرجت قريش معها إلى المعركة بني عبد المطلب وارتجزت قريش ، وارتجزت طالب فقال
(اللهم اما يغزون طالب … في مقنب من هذه المقالب
فليكن المغلوب غير الغالب … وليكن المسلوب غير السالب) ( ).
أي سأل الله عز وجل الخسارة , والمقنب جماع من الفرسان والخيل دون المائة ، المقالب جمع مقلب وهو الحيلة والمكيدة ، وقالت قريش لبني هاشم والله لقد عرفنا هواكم مع محمد) وقيل أنهم ردوا طالب وجماعة معه أو أنه رجع عنهم في الطريق ، وقد انسحب بنو زهرة يوم المعركة وقبل بدئها، ولما انهزم كفار قريش لم يكن طالب مع الأسرى ولا مع القتلى , وهو ممن رجع إلى مكة ، فلا يعلم حاله على نحو التعيين ، وليس له عقب ، والظاهر أنه فقد بمكيدة في طريق العودة إلى مكة .
ثانياً : عقيل بن أبي طالب ويكنى أبا يزيد ، وبينه وبين طالب عشر سنين ، وكان عالماً بانساب قريش .
ثالثاً : جعفر بن أبي طالب , وبينه وبين عقيل عشر سنوات أيضاً ،وله سابقة في الإسلام ، وهو ممن هاجر إلى الحبشة ، واستشهد في مؤتة في شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة , ويسمى ذا الجناحين لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقاتل فيها جعفر حتى قطعت يداه جميعاً ثم قتل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن الله عز وجل أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء ” . فمن هنا قيل له جعفر ذو الجناحين.
وذكر ابن أبي شيبة عن يحيى بن آدم عن قطبة بن عبد العزيز عن الأعمش عن عدي بن ثابت عن سالم بن أبي الجعد قال أرى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم جعفر بن أبي طالب ذا جناحين مضرجاً بالدم.
وعن ابن عمر أنه قال : وجدنا ما بين صدر جعفر بن أبي طالب ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح وقد روى أربع وخمسون جراحة والأول أثبت ولما أتى النبي صلى الله عليه وسلم نعي جعفر أتى امرأته أسماء بنت عميس فعّزاها في زوجها جعفر ودخلت فاطمة رضي الله عنها وهي تبكي وتقول واعماه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” على مثل جعفر فلتبك البواكي)( ).
رابعاً : الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام .
ولأبي طالب من البنات جمانة وريطة بنت أبي طالب ، وهم جميعاً لفاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي .
الخامس : الزبير ، وهو شقيق لعبد الله لأمه وأبيه ، وأمهما فاطمة بنت عمرو بن عائد .
السادس : المقوّم : وهو شقيق حمزة بن عبد المطلب ، وأمهما هالة بنت وهب بن عبد مناف .
السابع : ضرار وهو شقيق للعباس ، وأمهما نُتيلة بنت جناب بن حبيب.
الثامن : حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله , ويكنى أبا عمارة وأبا يعلى ، لولديه عمارة ويعلى .
وأم حمزة هي هالة بنت وهب بن عبد مناف، وهو أسن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسنتين ، وقيل بأربع سنوات .
التاسع : أبو لهب ، واسمه عبد العزى واشتهر بكنيته التي ذكره بها القرآن ذماً وتوبيخاً له .
وكان كفار قريش يؤذون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وأشتد أذاهم له بعد وفاة عمه أبي طالب , ومع ثباته في الدعوة إلى التوحيد والتصديق بنبوته، فلما أسلم حمزة كفوا عن بعض إيذائهم له كماً وكيفاً.
وهاجر حمزة إلى المدينة، وأبلى بلاءً حسناً في معركة بدر وقتل شيبة بن ربيعة مبارزة وشهد حمزة معركة أحد حيث استشهد فيها بعد أن قتل واحداً وثلاثين من المشركين يومئذ ، وقتل وحشي للحمزة تعرفه أجيال المسلمين بالذات والكيفية ، وقد حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمقتل عمه حمزة وبكاه ورثاه .
(عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نظر يوم أحد إلى حمزة وقد قتل ومثل به ، فرأى منظرا لم ير منظرا قط أوجع لقلبه منه ولا أوجل فقال : رحمة الله عليك ، قد كنت وصولا للرحم ، فعولا للخيرات ، ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك حتى تجيء من أفواه شتى ، ثم حلف وهو واقف مكانه : والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك ، فنزل القرآن وهو واقف في مكانه لم يبرح:[ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ]( )، حتى ختم السورة.
وكفّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن يمينه وأمسك عما أراد)( ).
وقيل أن أمه أول امرأة عربية تكسو البيت الحرام بالحرير والديباج ، إذ فُقد العباس فنذرت إن وجدته ان تكسو البيت ، ولما وجدته قامت بالوفاء بنذرها ، ويحتاج هذا القول إلى دليل ، وأسندت قريش في أيام الجاهلية إلى العباس السقاية وعمارة البيت ، ومعنى العمارة أن يمنع الناس من سب وشتم بعضهم بعضاً في الحرم ، وله أعوان في انجاز عمله .
وكان العباس جهوري الصوت، (قال الضحاك بن عثمان الجزامي: كان يكون للعباس الحاجة إلى غلمانه وهم بالغابة، فيقف على سلع، وذلك في آخر الليل، فيناديهم فيُسمعهم، والغابة نحو من تسعة أميال)( ).
ولا يخلو من مبالغة ، نعم قد أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمناداة المسلمين يوم حنين عندما انهزم أكثرهم .
وروى (عن ثعلبة بن صقير وحكيم بن حزام، أنهما قالا: لما توفى أبو طالب وخديجة، وكان بينهما خمسة أيام، اجتمع على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مصيبتان، ولزم بيته وأقل الخروج، ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع فيه.
فبلغ ذلك أبا لهب فجاءه فقال: يا محمد امض لما أردت، وما كنت صانعا إذ كان أبو طالب حيا فاصنعه، لا واللات لا يوصل إليك حتى أموت.
وسب ابن الغيطلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقبل إليه أبو لهب فنال منه، فولى يصيح: يا معشر قريش صبأ أبو عتبة.
فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبى لهب فقال: ما فارقت دين عبد المطلب.
ولكني أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد.
فقالوا: لقد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم.
فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك أياما يأتي ويذهب لا يعرض له أحد من قريش، وهابوا أبا لهب، إذ جاء عقبة بن أبى معيط وأبو جهل إلى أبي لهب فقالا له: أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك ؟ فقال له أبو لهب: يا محمد أين مدخل عبدالمطلب ؟ قال: مع قومه.
فخرج إليهما فقال:
قد سألته فقال: مع قومه.
فقالا: يزعم أنه في النار !
فقال: يا محمد أيدخل عبدالمطلب النار ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ومن مات على ما مات عليه عبدالمطلب دخل النار.
فقال أبو لهب – لعنه الله -: والله لا برحت لك إلا عدوا أبدا وأنت تزعم أن عبدالمطلب في النار.
واشتد عند ذلك أبو لهب وسائر قريش عليه.) ( ).
ولكن لم يرد ذم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجده عبد المطلب ونعته بالكفر ، وليس من دليل على حماية وحياطة أبي لهب لرسول الله بعد وفاة أبي طالب .
وبين وفاة أبي طالب ووفاة خديجة خمسة أيام , وفيه نكتة وهي أن الله هو الذي حفظ وسلّم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الإعجاز في قوله تعالى[تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( ) موت أبي لهب على الكفر ، وعدم توبته , وكنيته أبو عتبة وهو ولده الأكبر مات في سنة624 ميلادية بعد معركة بدر.
ويحتمل سبب تسميته وجوهاً :
أولاً : ورود التسمية في القرآن واشتهاره بهذه الكنية .
ثانياً : سبب التسمية الأحاديث النبوية ونعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بأبي لهب .
ثالثاً : شدة عداوة ابي لهب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
رابعاً : تسمية أبو عبد المطلب له باسم أبي لهب لإشراقة وجهه يوم ولادته .
العاشر : العباس ، ويكنى ابا الفضل وأمه نتُيلة بنت جناب بن حبيب , وهو أسن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسنتين أو ثلاث ، وقيل هو أصغر أعمامه .
(عن عبدالرحمن بن جابر، عن أبيه جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين حين رأى من الناس ما رأى: ” يا عباس ناد: يا معشر الانصار يا أصحاب الشجرة ” فأجابوه: لبيك لبيك.
فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره فلا يقدر على ذلك فيقذف درعه عن عنقه ويأخذ سيفه وترسه ثم يؤم الصوت، حتى اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة، فاستعرض الناس فاقتتلوا، وكانت الدعوة أول ما كانت للانصار، ثم جعلت آخر للخزرج، وكانو صبرا عند الحرب، وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه فنظر إلى مجتلد القوم فقال: ” الآن حمى الوطيس”.
قال: فوالله ما راجعه الناس إلا والاسارى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّتفون، فقتل الله منهم من قتل، وانهزم منهم من انهزم، وأفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم أموالهم وأبناءهم).
الحادي عشر : عبد الكعبة ، وأمد فاطمة بنت عمرو بن عائذ ، وذكر أنه لم يدرك الإسلام ، ولم يعقب .
الثاني عشر : قُثم ، وهو شقيق العباس ، وأمه صفية .
الثالث عشر : المغيرة ، ولقبه جَحَل ، وهو شقيق حمزة ، ومعنى الجحل: السقاء الضخم ، وقال الدراقطني لقبه حجل بتقديم الماء والمراد منه القيد والخلخال .
الرابع عشر : الغيداق واسمه مصعب ، وقيل : نوفل ، وهو من أكثر قريش أموالاً ، ومعروف بالجود .
وعن جابر بن عبد الله قال : كان لآل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خادم تخدمهم يقال لها بريرة ، فلقيها رجل فقال لها :
يا بريرة غطي شعيفاتك( ).
فان محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لن يغني عنك من الله شيئاً ، فجاءت بريرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته بما قاله الرجل ، وذكرته له فوقف ، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجر رداءه محمرة وجنتاه .
قال جابر ، وكنا معاشر الأنصار تعرف غضبه بجر ردائه وحمرة وجنتيه فأخذنا السلاح ، فقلنا : يا رسول الله أمرنا بما شئت ، والذي بعثك بالحق نبيا لو أمرتنا بآبائنا وأمهاتنا وأولادنا لمضينا لقولك فيهم ، أي لأمرتنا بقتلهم لاستجبنا لأمرك لأنك لا تأمر إلا عن الوحي والتنزيل .
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه لبيان أن الغضب ليس برزخاً دون إبتداء الخطبة بالحمد لله .
ومن أسرار الحمد أنه دافع ورافع للغضب .
ثم قال : من أنا ، قالوا جميعاً : أنت رسول الله .
قال نعم ، ولكن من أنا ، قال جابر فقلنا : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف .
قال النبي : أنا سيد ولد آدم ولا فخر ، وأول من ينفض التراب عن رأسه( ) .
لقد احتج الملائكة على جعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) إذ أدركوا أن ذريته تفسد في الأرض وترتكب الفواحش ، ويشيعون القتل بينهم بالظلم والعدوان
وهل يشمل احتجاج الملائكة معركة بدر وأحد والخندق وحنين ونحوها، الجواب نعم ، لما فيها من ظلم وتعد من قريش وسفك لدماء المؤمنين، ويدخل في الفساد الذين ذكره الملائكة في احتجاجهم جحود شطر من الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع تجلي المعجزة والبراهين الساطعة على صدق نبوته وأنه رسول من رب العالمين ، مع إصرار كفار قريش على محاربته .
وهل تدخل جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسقوط رباعيته وانبعاث الدم من وجنته في إحتجاج الملائكة [وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) أم أن القدر المتيقن من سفك الدماء هو القتل .
الجواب هو الأول، ويقال (سَفَكَ الدَّمَ يَسْفِكُه فهو مَسْفُوكٌ وسَفِيكٌ: صَبَّهُ فانْسَفَكَ)( ).
أي انصب وسال وأريق ، نعم الغالب من معنى سفك الدم هو القتل لجريانه من المصاب من غير انقطاع حتى تفارق الروح الجسد ، ولكن الملائكة نفروا من الجروح والإصابات القليلة لأنها مقدمة للقتل بالإضافة إلى أن جراحات النبي بلاء وامتحان عسير ، وفيه دلالة على زيادة التجرأ والتعدي .
لم يترك الله عز وجل كلام واحتجاج الملائكة يذهب سدى ، وكيف يتركه وهو [الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ] ( ) إنما أخبر الملائكة بخلق وخلافة الإنسان في الأرض لتمام الحجة ، ويتجلى البرهان , وليرى الملائكة بديع صنع الله , وعظيم قدرته وعواقب الأمور ، إذ أجابهم سبحانه[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
لتتجلى مصاديق من هذا العلم من حيث الإحتجاج ، إذ تفضل الله عز وجل وعلًم آدم الأسماء كلها ثم سأل الملائكة عنها فعجزوا عن الإجابة إلى أن أذن الله لآدم بتعليمهم إياها بقوله تعالى [قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ] ( ).
لبيان نكتة حاضرة للملائكة من جهات :
الأولى : لم يتكلم آدم إلا باذن من عند الله سبحانه .
الثانية : لم يستعجل آدم باخبار الملائكة عن الأسماء .
الثالثة : لم يجعل آدم علمه يذهب هباءّ أو لغواً .
الرابعة : امتثال آدم لأمر الله عز وجل .
الخامسة : تنزه آدم عن الإستهزاء أو السخرية من الملائكة لأنهم لم يعلموا الأسماء , وهو يعلمها .
السادسة : إمتثال آدم لأمر الله عز وجل بتعليم الأسماء إلى الملائكة .
السابعة : بيان قوة ذاكرة آدم بحفظه الأسماء عند تعليم الله له الأسماء .
الثامنة : ثبوت الأسماء في ذهن آدم واستحضارها عند اللزوم مقدمة لتلقي الأنبياء التنزيل وأحكام النبوة وتعاهد المؤمنين لها .
التاسعة : تحلي آدم بالصبر في ذات الإجابة ومقدماتها وعدم التعجيل بذكر الأسماء إلا عندما أمره الله عز وجل ، وفيه مقدمة لصبر الإنسان عن الفساد والفواحش وسفك الدماء , ولتدرك الملائكة قانوناً من خصائص الخلافة في الأرض وهو ملازمة الصبر للأنبياء واتباعهم , (قال الإمام علي عليه السلام: خذوا عني كلمات لو ركبتم المطي فأنضيتموها لم تصيبوا مثلهن: ألا يرجو أحد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحيي إذا لم يعلم أن يتعلم، ولا يستحيي إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم. واعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس له) ( ).
العاشرة : الفصل والتمييز عند آدم ، وهو من وظائف العقل ، فحينما سأل الله عز وجل الملائكة عن الأسماء لم يبادر آدم إلى الجواب ، ولم يخبر أحداً منهم بمضمون الجواب على فرض انه كان حاضراً عند سؤال الله عز وجل الملائكة , وهو الأرجح للعطف بالواو في (وَقُلْنَا يَاآدَمُ) فلم يقل الله عز وجل (ثم قلنا) أو علم به قبل أن يأمره الله عز وجل بالإجابة ، لتكون هذه الإجابة دليلاً على إمكان حفظ الناس للتنزيل خصوصاً القرآن .
نعم لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جهاد, وهو من علاماته في الكتب السماوية السابقة كما سيأتي( ).
وعن ثعلبة بن مالك أن عمر بن الخطاب سأل أبا مالك عن صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم في التوراة وكان من علماء اليهود،
فقال : صفته في كتاب بني هرون الذي لم يغير ولم يبدّل : أحد من ولد إسماعيل بن إبراهيم ومن آخر الأنبياء وهو النبي العربي الذي يأتي بدين إبراهيم الحنيف .
يأتزر على وسطه ويغسل أطرافه في(عينيه) حمرة وبين كتفيهً خاتم النبوّة مثل زر الحجلة،
ليس بالقصير ولا بالطويل،
يلبس الشملة ويجري بالبغلة ويركب الحمار ويمشي في الأسواق،
معه حرب وقتل وسبي سيفه على عاتقه لا يبالي مَن لقي مِن الناس،
معه صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان , ولو كانت في عاد ما أهلكوا بالريحِ ولو كانت في ثمود ما أهلكوا بالصيحة.
مولده بمكّة ومنشأه بها وبدء نبوّته بها ودار هجرته يثرب بين جرّة ونخل (وسبخة) وهو أُمّي لا يكتب بيده،
هو بجهاد، لم يقل هو في غزو
يحمد الله على كل شدة ورخاء،
سلطانه الشام،
صاحبه من الملائكة جبرئيل يلقى من قومه أذىً شديداً. ويحبّونه حبّاً شديداً ثمّ يدال على قومه يحصرهم حصر (الجرين)( )،
يكون له وقعات في يثرب،
منها له ومنها عليه،
ثمّ يكون له العاقبة يعدّ معه أقوام هم إلى الموت أسرع من الماء من رأس الجبل إلى أسفله،
صدورهم أناجيلهم , قربانهم دماؤهم , ليوث النهار ورهبان بالليل يرعب منه عدوه بمسيرة شهر،
يباشر القتال بنفسه حتّى يخرج ويكلم لا شرطة معه ولا حرس يحرسه.
[يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ]( ), أي بالايمان {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ} يعني الشرك)
وقد وردت أحاديث نبوية في حفظ القرآن وعظيم ثوابه (عن ابي الدرداء ان نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم قال من حفظ عشر آيات من اول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال) ( ).
ويمكن تقسيم الأحاديث التي وردت في حفظ القرآن والحث عليه من جهات :
الأولى : الأخبار التي تحث على حفظ آية واحدة .
الثانية : الأحاديث التي تدعو لحفظ آيات وسور القرآن لتلاوتها في الصلاة .
الثالثة : حفظ آيات مخصوصة لقضاء حاجات من جلب الخير وصرف الشر والأذى .
الرابعة : الأحاديث التي تحث على حفظ القرآن وتعاهده ، ليكون هذا الحفظ واقية من تحريف القرآن ، وحرزاً من الزيادة أو النقيصة فيه
وهذه الجهات مجتمعة ومتفرقة من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الحادية عشرة : تعلم آدم الأسماء وكذا استجابته لأمر الله بتعليمها إلى الملائكة مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن آباء موحدين، وبقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبين نسبه حتى في خطبه ، ويفتخر به وبمنزلته وشأنه فيه
(وأخرج عن أنس قال : خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار
وما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرهما ، فأخرجت من بين أبوي فلم يصبني شيء من عهد الجاهلية
وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم ، حتى انتهيت إلى أبي وأمي ، فأنا خيركم نفساً وخيركم أباً) ( ).
وقال ابن الرومي في قصيدة نونية طويلة :
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم … كلا لعمري ولكن منه شيبان
وكم أب قد علا بابن ذرى شرف … كما علا برسول الله عدنان ( )
لقد خلق آدم وحواء ، وجعل الناس من ذريتهما واختلفوا قبائل وشعوباً وفرقاً وطرائق ، وجاء القرآن بالدعوة إلى الوحدة والإتحاد بسور الإيمان الذي يسع الجميع , ويكون الطريق إلى النجاة والنعيم في الآخرة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] ( ).
ومن خصائص النبوة والصفة التي يلتقي فيها الأنبياء أنهم من أوسط قومهم ، ومن أرفع وأزكى البيوت فيها ، وهل هو من الأمارات في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم
الجواب نعم ، لأن في ذات الإنتساب للبيوت الكريمة ، والشأن بين الناس غنى عن الدعوى الكاذبة , وانتفاء للحاجة لطلب الجاه من أمر غير موجود .
وهو برزخ دون محاولة جمع الأنصار والمريدين عن أمر كالسراب ، إذ يدرك معه صاحب النسب الزكي القطع بانكشاف الكذب في الدعوى التي لا أصل لها .
لقد أكرم الله عز وجل الأنبياء في بيوتهم وأنسابهم ، وزكًى تلك الأنساب باختيار الأنبياء من بينهم .
ومن الإعجاز في نبوة محمد الشأن الرفيع لذريته من بعده وإكرام ذراري بني هاشم , وقيام ذريته بتعاهد مبادئ الإسلام، وتقديم التضحيات لإستدامة استقامة الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قال تعالى[ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ).
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ نسبه نزول سورة قريش ، إذ تفضل الله عز وجل بسورة كاملة لتكون حجة عليهم .
وهل من تعارض بين الإكرام الدائم والحجة الحاضرة ، الجواب لا ، لإمكان الجمع بينهما ولإستقراء المسائل المتكثرة من هذا الجمع منها :
الأولى : بيان شأن قريش في المجتمعات .
الثانية : دعوة قريش رجالاً ونساءً إلى الإيمان .
الثالثة : توجه الدعوة للإيمان إلى عموم أفراد قريش وغيرهم على نحو التكليف الشخصي للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , فاذا امتنع الأب عنه , وأصر على الكفر فعلى الابن والبنت الإيمان وكذا بالنسبة للزوجة .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسرار موضوعية آيات القرآن في جذب الناس للإيمان أن يسعى الرجل من قريش في النهار بايذاء النبي وأصحابه حتى إذا عاد إلى البيت في المساء وجد ابنه أو ابنته أو هما معاً قد دخلا الإسلام ، أو يفاجئ وهو في البيت الحرام أو السوق بمن يخبره بغزو الإسلام بيته .
وهذا الغزو من مصاديق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه ليس غزواً وهجوماً بالسيف ، انه غزو الآيات التي تنزل من السماء في مكة أو المدينة لتنفذ إلى شغاف القلوب والعقول في أمصار الأرض تنقلها الريح ، وهو خير محض ونفع في النشأتين، وفي التنزيل[اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ]( ).
الرابعة : لقد أكرم الله قريشاً بذكرهم في القرآن وبيان فضله عليهم وتيسير رحلاتهم وقوافلهم صوب الشام واليمن من غير اعتراض من القبائل العربية لتجارتهم أو قيام رجالها بنهب تلك القوافل مع ما معروف عنهم من إتخاذ النهب حرفة ومهنة ، فمثلاً تتألف قافلة أبي سفيان التي أراد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه اعتراض طريقها من ألف بعير محملة بالبضائع , وفيها الذهب والفضة ، ولم يكن معها إلا ثلاثون رجلاً ، وبامكان بعض القبائل العربية في طريقها جمع المئات من أفرادها والإغارة عليها .
ليكون من معاني[رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ), حفظ الله عز وجل لهذه الرحلات , وصرف الناس عن نهبها , فتصير حجة على قريش , ومقدمة للإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد تبين امكان هذا الجمع وقرب القبائل من قريش بتجهيزها ثلاثة آلاف رجل لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة أحد بعد واقعة بدر ومرور قافلة أبي سفيان بسنة واحدة ثم زحفهم بعشرة آلاف رجل بعدها بأكثر من سنة , في معركة الخندق.
الخامسة :يذكر عدد من المفسرين والمؤرخين كفار قريش الذين حاربوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ (قريش) مثلاً في قوله تعالى[وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ] ( ).
قال ابن الجوزي(أي من مكة لأن قريشا أخرجوا منها المسلمين) ( ).
مع أن المسلمين الذين تم اخراجهم هم أيضاً من قريش ، وفي قوله تعالى[الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ]( ) قال مجاهد (فخرت قريش بردها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية محرماً في ذي القعدة عن البلد الحرام ، فأدخله الله مكة من العام المقبل ، فقضى عمرته وأقصه ما حيل بينه وبين يوم الحديبية) ( ).
فان قلت قد ورد نعت الكفار باسم قريش من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قَالَ ابن إسْحَاقَ : وَقَدْ ارْتَحَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ أَصْبَحَتْ فَأَقْبَلَتْ فَلَمّا رَآهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ تُصَوّبُ مِنْ الْعَقَنْقَلِ، – وَهُوَ الْكَثِيبُ الّذِي جَاءُوا مِنْهُ إلَى الْوَادِي – قَالَ اللّهُمّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا ، تُحَادّك وَتُكَذّبُ رَسُولَك ، اللّهُمّ فَنَصْرُك الّذِي وَعَدْتنِي ، اللّهُمّ أَحِنْهُمْ الْغَدَاةَ) ( ).
والجواب هناك ضميمة وتقدير في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , والمراد الكفار من قريش وما عندهم من العتو والزهو والإصرار على العناد وطلب القتال ، وكثيراً ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الكفار من قريش باسمائهم , ولم ينعتهم باللفظ والنسب العام (قريش) .
وفي يوم فتح مكة ورد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له (اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ ” ، فَهَتَفَ بِهِمْ فَجَاءُوا ، فَأَطَافُوا بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ ” أَتَرْونَ إلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ ” ، ثُمّ قَالَ بِيَدَيْهِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى : ” اُحْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتّى تُوَافُونِي عَلَى الصّفَا ” .
حَتّى قَالَ أَبُو سُفْيَانَ يَا رَسُولَ اللّهِ أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ” مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ) ( ), والحديث ضعيف في دلالته ، فضلاً عن مسألة سنده ، فمع وجود أمرين للقتل وهما :
الأول : خروج رجال من قريش للقتال ومنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من دخول مكة .
الثاني : استباحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقتل من المشركين سوى سبعة عشر , وفي يوم فتح مكة :
(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اليوم يوم المرحمة ! اليوم أعز الله فيه قريشاً!)( ).
فان عدد القتلى قليل لا يتجاوز عدد الأصابع وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن الفتح الذي غيّر مجرى التأريخ صار من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ), في جذب الناس للإيمان وصلاح نفوسهم وتهذيب أخلاقهم وتيسير أدائهم المناسك كمؤمنين ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا]( ).
وتعيين عام وسنة تنزيه البيت الحرام من المشركين حال نزول الآية أعلاه من الإعجاز في نزول القرآن نجوماً وعلى نحو التدريج , وشاهد على الحاجة في البيان والتشريع لهذا التدريج .
البشارات بنبوة محمد
من أسرار الخلق التداخل والتقارب والتجانس بين الخلائق والكائنات ، وهناك سور للموجبة الكلية جامع بينها , ومن أفراده :
الأول :اتحاد سنخية عالم الإمكان .
الثاني : الحاجة المستمرة الملازمة لعالم الإمكان .
الثالث : أصل الخلق بمشيئة الله عز وجل .
الرابع : التسليم بالربوبية المطلقة لله عز وجل ، وفي التنزيل [وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلاَلُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ] ( ).
ووردت الآية أعلاه بلفظ (ما ) لإرادة الجمع بين جنسين وطرفين :
أولاً : العاقل .
ثانياً : غير العاقل .
الخامس : الإنقياد لمشيئة الله عز وجل .
وكذا جعل الله عز وجل الإتصال بين أجيال الناس وطبقاتهم المتباينة .
ليكون الجامع بينها هو العبودية لله عز وجل والإقرار بالوحدانية ، ويقطع كل إنسان بأن الشمس تأتي تشرق عليه وعلى أهل زمانه في الصباح وقد أشرقت على آلاف الأجيال من قبله وستشرق وسوف تشرق على الذين بعده ، ولن تتأثر هي والقمر بموته وهلاكه وإن كان ملكاً وسلطاناً ، وفيه توبيخ للطواغيت ، ليموت فرعون الذي أدعى الربوبية وتبقى الشمس والقمر يطلان على الناس ، وآيات القرآن تتلى على الناس وتتضمن ذمه وجنوده , والأمطار تهطل على الناس بغزارة ، وتخرج الأرض نباتها لتدعو مجتمعة ومتفرقة إلى إتباع الأنبياء الذين يبعثهم الله وإلى التقيد بأحكام الكتب التي ينزلها الله من السماء .
وقد ظلت أقوام بسبب عالم الغيب الذي يحيط بحياتهم والمخاوف والأهوال كالزلازل والعواصف والفيضانات ووضعوا آلهة متعددة ولكل إله ميدان .
فللمطر إله وللنباتات , والماشية إله , وللحب إله وغيرها , وهذه الآلهة تتزوج , ويصيبها الغضب والحب والكره مثل حال البشر عدا أنهم لا يموتون .
والمختار أن الناس كانوا على التوحيد إبتداءً من آدم عليه السلام ، قال تعالى [كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً] ( ) وظل شطر من الناس باتباع الهوى ، وابتعادهم عن رشحات النبوة العقائدية والعملية والقواعد والأحكام التي جاء بها الأنبياء , قال تعالى , [ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ] ( ).
ومن فضل الله عز وجل على الناس مجئ كل نبي بالبشارة بالرسول اللاحق ، ليكون النبي محمداً مبشَراً به , ولتكون هذه البشارة على وجوه :
الأول : بيان الإتحاد في سنخية النبوة .
الثاني : بيان قانون وهو أن النبوة والتنزيل لطف متجدد من عند الله .
الثالث : تأكيد فضل الله على الناس بأنه لا يتركهم من غير نبي وكتاب نازل ، فان قلت قد انقطعت النبوة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم والكتب السماوية بالقرآن ، وهو آخر الكتب السماوية نزولاً .
والجواب هذا ليس تركاً من الله للناس لأنه سبحانه تولى بنفسه حفظ شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن ، وجعل آياته تتصف بخصوصية وهي إدراك أهل كل زمان لقانون , وهو كأن هذه الآيات وما فيها من الأحكام نازلة في زمانهم ومنه مبحث أسباب النزول ، إذ يستعرضها المسلمون والناس وكأنها حادثة في زمانهم .
ليبقى القرآن نابضاً بالحياة ، وتتدفق من ثنايا آياته ضروب الخير وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
ومن خصائص كل كتاب سماوي مجيؤه بالبشارة والغبطة في أمور الدنيا والآخرة ، وجاءت آيات من القرآن تفيد المعنى الأعم في البشارة الشامل للمسلمين وغيرهم ، قال تعالى [وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي]( ).
وهل ورود البشارة في الكتب السماوية من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ] ( ) الجواب نعم .
وورد في التوراة (واما اسماعيل فقد سمعت لك فيه ، ها انا أباركه وأثمره ، وأكثره كثيراً جداً ، اثني عشر رئيسا بلد واجعله أمة كبيرة ) ( ).
ومع ورود آية خاصة بالبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على لسان عيسى عليه السلام في التنزيل [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ).
فقد جاء القرآن بآية بشارة به جامعة للتوراة والإنجيل كما في قوله تعالى[الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
لبيان قانون في الكتب السماوية وهو الملازمة بين أمور :
الأول : البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : صفات كريمة ثابتة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومنها ما يدل أحياناً على التضاد الظاهر بينهما ، ولا ينقض أثر هذا التضاد إلا الإعجاز ، كالنبوة والأمية .
ويؤمن اليهود والنصارى بأن سفر أشعياء من كتب العهد القديم وأنه من عند الله عز وجل , وقد ورد فيه : أو يدفع الكتاب للأمي ، ويقال له : اقرأ هذا أرجوك ، فيقول : (أنا أمي) ( ).
النشأة الطاهرة
لقد نشأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتيماً وأرسل إلى المرضعة في البادية على منهاج قريش في إعداد ونشأة صبيانهم بعد أن أرضعته ثويبة بلبن ولد لها يسمى مسروح ، وقد أرضعت قبله كلاً من :
الأول : حمزة بن عبد المطلب وهو أسن من النبي بسنتين وقيل باربع .
الثاني : أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد وهو من بني مخزوم وأمه بزة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم.
وابو سلمة أول من خرج إلى المدينة هو وامرأته واحتبست عنه سنة بسبب ولدها ثم خرجت به إلى المدينة , فولدت ابنته زينب هناك , ليكون أبو سلمة وزوجه ممن هاجر الهجرتين إلى الحبشة ثم إلى المدينة , إذ رجع من الحبشة إلى مكة فأوذي فيها عند رجوعه من الحبشة , وأم سلمة زوجه هي هند بنت أبي أمية , ويسمى أبوها زاد الراكب , فلا يرافقه أحد في سفر إلا كفاه مؤنته وزاده في الطريق , وأم سلمة أول ظعينة دخلت المدينة مهاجرة , وقيل بل ليلى بنت أبي حثمة زوجة عامر بن ربيعة .
لقد هاجر أبو سلمة لشدة أذي قريش له , وعلمه بإسلام الأنصار وكانت هجرته إلى المدينة قبل بيعة العقبة الثانية بقصد الفرار من أذى قريش, وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأم سلمة عند زواجه منها : إن شئت سبعت عندك وسبعت لنسائي .
وإن شئت ثلثت ودرت , فقالت : بل ثلث , وتوفيت أم سلمة سنة ستين للهجرة , وقيل سنة تسع وخمسين.
توفى أبو سلمة في جمادى الآخر سنة ثلاث للهجرة , وقال عند وفاته: اللهم أخلفني في أهلي بخير , فأخلفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على زوجته أم سلمة , لتصبح أماً للمؤمنين ويكون أولاده سلمة وعمر وزينب ربائب عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وشهد أبو سلمة بدراً وأحداً , وجرح في معركة أحد , وأندمل جرحه, ثم إنتفض فمات منه .
الثالث : أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وهو ابن عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد استخلفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة حين خروجه إلى غزوة العشيرة في السنة الثانية للهجرة والتي لم يقع فيها قتال ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد على ابنة حمزة .
فقال : ” إنها ابنة أخي من الرضاعة وإنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب “( ).
وعن أم حبيبة أنه دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت له : هل لك في أختي ابنة أبي سفيان .
وفيه انها قالت له ، لقد انبئت أنك تخطب درة بنت أبي سلمى ، قال النبي بصيغة الإستفهام : درة بنت أبي سلمة ، قالت : نعم .
قال : فوالله لو لم تكن ربيبتي في حجري ماحلت لي انها ابنة أخي من الرضاعة ، أرضعتني واياه ثويبة ، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن .
وثويبة جارية لأبي لهب ، وكانت تدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بعد زواجه من خديجة ، فكانا يكرمانها ، وأعتقها أبو لهب بعدما هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة ، وكان يبعث إليها من المدينة بكسوة وصلة حتى ماتت بعد فتح خيبر .
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبأ وفاتها سأل عن ابنها مسروح الذي أرضعته بلبنه ، فقيل له قد مات أيضاً فسأل عن قرابتها ليصلهم، فأخبروه : أنه لم يبق منهم أحد , وقيل إنها ماتت قبل أن تدرك الإسلام.
في رياض الوحي
من لطف الله عز وجل بالناس بعث الأنبياء لدعوتهم إلى عبادة الله والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا البعث من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ) ومنه إقتران النبوة بوجود الإنسان في الأرض ، فلم يهبط آدم إلا وقد نال مرتبة النبوة بعد أن خصّه الله عز وجل بأمور كريمة:
الأول : خلق آدم في الجنة .
الثاني : نفخ الله من روحه في آدم .
الثالث : صحبة آدم للملائكة برهة من الزمن , وإبتدأت هذه الصحبة بتعليم الله عز وجل آدم الأسماء ثم قيام آدم بتعليمها للملائكة.
وليس من خلق أفضل من الإنسان بخصوص إبتداء خلقه بتعليم الله عز وجل له ، وتلقي الملائكة التعليم والتعلم منه , قال تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ]( )، وهو من رشحات قوله تعالى[وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ) والله عز وجل قادر أن يخلق آدم في الأرض وبالكاف والنون وليس بالنفخ ، ولا يدل هذا الإكرام على أن الإنسان أفضل من الملائكة.
وهل يدل احتجاج الملائكة من أول ساعة علموا فيها بخلافة آدم في الأرض بأنهم أفضل من جنس الإنسان بدليل قوله تعالى[أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
الجواب لا ، لأن رد الله عز وجل احتجاجهم بالبرهان القاطع وهو إحاطته علماً بكل شئ وأن في خلافة الإنسان في الأرض أموراً غيبية لا يعلمها إلا هو سبحانه ، وهل يعلمها آدم وأنها من الأسماء التي علمها له بقوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) الجواب لا .
وهناك نوع تعدد وغيرية بين الاسم والمسمى ، ومن أسماء الله عز وجل(العالم) و[الْعَلِيمُ] ( ) و[عَلاَّمُ الْغُيُوبِ] ( ) ومن علمه تعالى توالي بعثة الأنبياء، وإعانتهم بلطف منه تعالى ، وما أكثر القتل العرضي والمقصود مع الترصد أو سبق الإصرار أو بدونهما في الجزيرة أيام حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد جاء الملك بالوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو في غار حراء (قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد،
ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ،
فأخذني فغطني الثانية،
حتى بلغ مني الجهد،
ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقاري،
فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد،
ثم أرسلني فقال : (اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)
حتى بلغ،
(مَا لَمْ يَعْلَمْ) ( ), وتقدير قول جبرئيل : إقرأ : أي إقرأ ما في هذا الكتاب , إذ جاءه بنمط من ديباج .
فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال : زمّلوني زمّلوني، أي دثروني .
فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال : يا خديجة مالي؟
وأخبرها الخبر وقال : قد خشيت عليّ؟
قالت له : كلاّ ابشر،
فوالله لا يحزنك الله،
إنك لتصل الرحم،
وتصدق الحديث،
وتحمل الكَلّ،
وتُقري الضيف،
وتعين على نوائب الحق.
ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزي بن قصي،
وهو ابن عم خديجة،
وكان امرأً تنصّر في الجاهلية،
وكان يكتب الكتاب العربي،
وكان شيخاً كبيراً قد عمي،
فقالت خديجة : أي ابن عم اسمع من ابن أخيك،
فقال ورقة بن نوفل : يا ابن أخي ما ترى؟
فأخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما رأى،
فقال ورقة : هذا الناموس الذي أُنزل على موسى،
يا ليتني فيها جذع،
ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستفهماً : أومخرجي هم؟
فقال ورقة : نعم لم يأت رجل قط بما جئتَ به إلاّ عُوديَ وأُوذيَ،
وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزّراً،
ثم لم ينشب ورقة ان توفي وفتر الوحي فترة،
حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً كي يتردّى من رؤوس شواهق الجبال،
فكلّما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منها تبدّى له جبرائيل (عليه السلام) فقال : يا محمد إنك رسول الله حقاً،
فيسكن بذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع،
فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا بمثل ذلك،
فإذا أوفى بذروة جبل تبدّى له جبرائيل فقال له مثل ذلك)( ).
علة ذهاب النبي (ص) مع خديجة إلى ورقة بن نوفل
ترى لماذا أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم خديجة بالوحي ولماذا ذهب معها إلى ورقة بن نوفل( ).
والجواب من جهات :
الأولى : تأكيد قانون الوحي وأنه حق , وأشرق وتجدد ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : التوقي من احتمال رمي النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالسحر والوهم من قبل كفار قريش ، ومع هذا وشهادة بحيرى له بالنبوة ولو بالفحوى , قالوا أنه ساحر وأنه مجنون ، وفي التنزيل [كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ] ( ).
فان قلت ما دامت قريش ونحوها يحاكون كفار الأمم السابقة برمي النبي بالسحر أو الجنون ، فكيف يذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع خديجة إلى ورقة بن نوفل لدفع افترائهم .
الجواب : نعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسحر أو الجنون ونحوهما من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة في الأصل والفرع ، أما الأصل فهو موضوع الإفتراء المتعدد من وجوه :
الأول :السحر .
الثاني : الجنون .
الثالث : المس من الجن .
الرابع : الوهم .
الخامس : الكذب .
السادس : إرادة حب الجاه والمال والشأن والسيادة ، وفي قوم هود ورد في التنزيل [إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ] ( ).
أي أن بعض الآلهة التي كان يعبدها قوم عاد غضبوا على هود فاصابوه بالجنون لأنه سبها وشتمها ، ونهى الناس عن عبادتها ، وكان قوم هود يسكنون الأحقاف وتقع إلى الجنوب من صحراء الربع الخالي وحضرموت، وقد تظهر التنقيبات وصور الأقمار الصناعية وجود آثار وأطلال تدل على الحياة والعمارة المندثرة فيها .
الثالثة :حث الناس على الإمتناع عن السخرية بالنبي حينما يعلن نبوته وما ينزل عليه من القرآن ، قال تعالى [وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون] ( ).
وقد وردت الأخبار بقصص عن كيفية ومضمون استهزاء الكفار ببعض الأنبياء والرسل .
منها قول قوم نوح له حينما قام بصنع السفينة بأمر من عند الله عز وجل, فقد روى محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير في حديث إنهم كانوا(يسخرون منه ويقولون : يا نوح هل صرت نجاراً بعد النبوة؟)( ).
واستهزأت ثمود بالنبي صالح كما في التنزيل [وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ] ( ) لبيان اقتران الإستهزاء بالتحدي والإنكار وسؤال تعجيل العذاب لهم .
وإستهزأ أهل مدين بشعيب[قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا]( ).
الرابعة : من معاني وغايات ذهاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع خديجة إلى ورقة بن نوفل تهيئة المقدمات لتبليغه الرسالة وإيجاد شهود يصدقون بدعوته ممن لهم معرفة بالنبوات وتأريخ النبوة والتنزيل .
الخامسة : مجئ الملك للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمر عظيم ، فلا غرابة ان يستمع في بداية تلقيه الوحي إلى من يشهد له بأنه وحي من عند الله، وأنها بداية مباركة لتلقي الوحي، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( ).
ولفظ البشر في الآية أعلاه مسألة سيالة , ومن معانيه أنه بشر يريد الطمأنينة والتأكد وما يبعث السكينة بالنفس بأن الذي جاءه ملك من عند الله عز وجل وليس من الجن ونحوهم .
السادسة : الكشف عن حقيقة وتثبيتها للأجيال ، وهي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يخشى إظهار ما يأتيه من الوحي ، ورؤيته للملك لأنه معجزة وأمر خارق للعادة .
السابعة : كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم معروفاً عند الناس (بالصادق الأمين ) وكل من من الصدق والأمانة والخصال الحميدة الأخرى مقدمة لإخباره عن رؤيته للملك جبرئيل وسؤاله له أن يقرأ .
الثامنة : لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذهابه مع خديجة إلى ورقة بعث السكينة في نفس خديجة لتطمئن على صدق نبوته ، وتعضده بأموالها , ولا تراودها الشكوك ، ولا تسبب له الأذى ، ولا تقعد في طريق إصلاحه للرسالة ونهوضه باعباء التبليغ ، فكانت هي والإمام علي عليهما السلام أول من آمن به .
التاسعة : تهيئة خديجة وأهل البيت إلى الأذى والحصار الذي ستفرضه قريش عليهم ، فان قلت هل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بهذا الحصار ساعة ذهابه وخديجة إلى ورقة بن نوفل ، يحتمل الجواب وجوهاً :
الأول : لا يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن هذا الحصار سيقع عقب إعلانه نبوته .
الثاني : يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحصار بتفاصيله .
الثالث : يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حصار قريش لأهل البيت على نحو الإجمال .
الرابع : أنما يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه سيلقى وأهل بيته الأذى من المشركين .
والمختار هو الثالث والرابع , $$ فنزول جبرئيل وقوله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إقرأ وضمه إلى صدره ليس أول الوحي ، انما سبقته الرؤيا الصادقة لستة أشهر فتأتي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لتكون كفلق الصبح في تحقق مصداقها .
ولا يختص هذا التحقيق بليلة ويوم الرؤيا إنما يتغشى أشهر وسنوات لاحقة لتكون تلك الرؤيا مواساة متقدمة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على ما سيلاقيه من الأذى من قومه وعموم المشركين وباعثاً للإحتراز من أضراره على الدعوة إلى الله عز وجل , قال تعالى , [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ).##
العاشرة : تتقوم الدعوة في بداية بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعرضه وبيانه لمعجزاته والجدال والإحتجاج وبذل الوسع لإيجاد أنصار لرسالته , وأمة تصدّقه ، وأجيال تتوارث هذا التصديق ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذهابه إلى ورقة بن نوفل ليقارن بين ما رآى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما عنده من أخبار الأنبياء .
الحادية عشرة : من خصائص الذين عندهم [عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ] ( ) في زمان نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنهم كانوا يتطلعون إلى بعثة نبي آخر الزمان ، وكانوا يرون علامات وأمارات دنو وحلول زمان بعثته ، وقد تحقق مصداق البعثة ، وتبين أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم النبيين .
فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقارن أهل المعرفة بين تلك البشارات والأمارات وما عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووجوه المطابقة بينهما .
الثانية عشرة : قد ورد في إبراهيم قوله تعالى[قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي]( ) وأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يطمئن لبدء رسالته ووظائف إمامته .
الثالثة عشرة : كانت قريش ترجع إلى أهل الكتاب لسؤالهم عن صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فذهاب النبي صلى الله عليه وسلم لورقة بن نوفل وبيانه لبدء بعثته, متقدم زماناً وموضوعاً على إفتراء وإستهزاء كفار قريش .
وعن طريق عكرمة عن ابن عباس قال ( قدم حيي بن أخطب ، وكعب بن الأشرف ، مكة على قريش فحالفوهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لهم : أنتم أهل العلم القديم وأهل الكتاب ، فأخبرونا عنا وعن محمد .
قالوا : ما أنتم وما محمد؟ .
قالوا : ننحر الكوماء ، ونسقي اللبن على الماء ، ونفك العناة ، ونسقي الحجيج ، ونصل الأرحام .
قالوا : فما محمد؟ قالوا : صنبور( ) قطع أرحامنا ، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار .
قالوا : لا بل أنتم خير منهم واهدى سبيلاً . فأنزل الله { ألم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت …}( ) إلى آخر الآية.
وأخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة . مرسلاً .
وأخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت له قريش : أنت خير أهل المدينة وسيدهم؟ قال : نعم .
قالوا : ألا ترى إلى هذا المنصبر المنبتر من قومه ، يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج ، وأهل السدانة ، وأهل السقاية! قال : أنتم خير منه . فانزلت{إن شانئك هو الأبتر}( ) وأنزلت {ألم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت} إلى قوله{نصيراً})( ) .
لقد سألوهم عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهل هو صادق في قوله وأمر نبوته , لأنهم أهل كتاب وعندهم أخبار وبشارات النبوة وعلامات نبي آخر الزمان .وكعب بن الأشرف من قبيلة طي ثم من نبهان , وأمه من بني النضير فصار سيداً فيهم (ويكنى أبا ليلى. بكى أهل بدر من المشركين وشبب بنساء النبي صلى الله عليه وأصحابه وأزواجه وسلم وبنساء المسلمين.
وقيل أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم محمد بن مسلمة ورهطاً معه من الأنصار فقتلوه ليلاً. وهو القائل:
رب خال لي لو أبصرته … سبط المشية آباء أنف
لين الجانب في أقربه … وعلى الأعداء سم كالزعف
ولنا بئر رواء عذبه … من يردها بإناء يغترف
ونخيل في تلاع جمة … تخرج التمر كأمثال الأكف) ( ).
(فلما تيقن عدو الله الخبر خرج حتى قدم مكة فنزل على المطلب بن أبى وداعة بن ضبيرة السهمى وعنده عاتكة بنت أسيد ابن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس فأنزلته وأكرمته وجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشد الاشعار ويبكى على أصحاب القليب الذين أصيبوا ببدر من قريش ثم رجع كعب بن الاشرف إلى المدينة فشبب بأم الفضل بنت الحارث زوجة العباس , فقال :
أراحل أنت أم تحلل بمنقبة * وتارك أنت أم الفضل بالحرم
صفراء رادعة لو تعصر انعصرت * من ذى القوارير والحناء والكتم
يرتج ما بين كعبيها ومرفقها * إذا تأتت قياما ثم لم تقم
أشاه أم حكيم إذ تواصلنا * والحبل منها متين غير منجذم
إحدى بنى عامر جن الفؤاد بها * ولو تشاء شفت كعبا من السقم
فرع النساء وفرع القوم والدها * أهل المحلة والايفاء بالذمم
لم أر شمسا بليل قبلها طلعت * حتى تجلت لنا في ليلة الظلم
ثم شبب بنساء من نساء المسلمين حتى آذاهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم كما حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن اسحاق عن عبد الله بن المغيث بن أبى بردة : من لي من ابن الاشرف .
أي أن النبي لم يأمر بقتله على نحو الحصر, وقوله: من لي: أعم من القتل.
ويشمل هداية كعب, وكفه عن إيذاء المسلمين.
فقال محمد بن مسلمة أخو بنى عبد الاشهل: أنا لك به يا رسول الله أنا أقتله قال فافعل إن قدرت على ذلك فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق نفسه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له لم تركت الطعام والشراب.
قال: يا رسول الله قلت قولا لا أدرى أفي به أم لا .
قال: إنما عليك الجهد .
قال: يا رسول الله إنه لابد لنا من أن نقول , قال : قولوا ما بدا لكم فأنتم في حل من ذلك قال فاجتمع في قتله)( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الله عز وجل لم يجعل الناس بحاجة إلى مثل هذا السؤال عن نبوته , ولا تصل النوبة للسعي في تحصيل الجواب عليه من غير المسلمين , إذ تتجلى المعجزات والبراهين الحسية والعقلية التي تدل على صدق نبوته ومنها توالي نزول آيات القرآن ، وعدم نزولها دفعة واحدة ، لأن منافع هذا التوالي أكثر من أن تحصى .
لقد كان ذهاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع خديجة إلى ورقة بن نوفل حجة على أولئك الذين عندهم أخبار النبوة من أهل الكتاب ممن في مكة وما حولها , وحينما ترجع قريش إلى ورقة بن نوفل يكون عنده جواب واضح بصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يدل على أن ذهاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بداية الوحي إلى ورقة بن نوفل رحمة بقريش ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
الرابعة عشرة : بيان قانون وهو إتحاد سنخية الوحي بين الأنبياء .
وكان ورقة يكتب من الإنجيل بالعبرانية ، وحين دخل عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ورقة ( شيخاً كبيراً قد عمي ، فقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك . فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى؟ .
فأخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبر ما رأى ، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ، يا ليتني أكون فيها جذعاً، يا ليتني أكون فيها حياً إذ يخرجك قومك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أو مخرجي هم؟ قال : نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً. ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي)( ).
ليكون ذهاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ورقة, موعظة وكالحاجة للناس في بيان صدق نبوته وأنها في بداياتها لا تختلف عن نبوة موسى عليه السلام .
الخامسة عشرة : بيان حماس ورقة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفيه شهادة وحث للناس لدخول الإسلام ، وقوله : يا ليتني أكون فيها جذعاً أي شاباً .
والجذع من الدواب ما يكون سنه بين السنة إلى السنتين , ومن الأنعام ما يركب ظهره ، ويجمع على جُذع وجذعان وأجذاع (والدهر يسمّى جَذَعا لأنه جديد. قال:
يا بِشْرُ لو لم أكُنْ منكم بمنزلةٍ … ألقَى عليّ يديه الأْزْلَمْ الجَذَعُ
صيرّ الدهَر أزْلَمَ لأنّ أحداً لا يقدرُ أن يكْدَحَ فيه. يقال: قِدْحٌ مُزَلَّمٌ، أي: مُسَوَّى، وفرسٌ مُزَلّمٌ إذا كان مُصَنّعا وقال بعضهم: الأَزْلَمُ الجَذَعُ في هذا البيت هو الأسد، وهذا خطأ أنما هو الدّهر، يقول: لولا أنتم لأهلكني الدهر) ( ).
وحينما أراد بعضهم أثارة الفتنة بين الأوس والخزرج حبس معهم وذكّرهم بيوم بغات وما فيه من القتال بينهم ، وأنشد الأشعار التي يتقاولون فيها فتنازع منهم رجلان .
(قال أحدهما لصاحبه إن شئتم رددتها الآن جذعة وغضب الفريقان جميعا وقالوا قد فعلنا موعدكم الظاهرة – والظاهرة الحرة – السلاح السلاح فخرجوا وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله إلى الاسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم من الكفر وألف به بينكم فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان , وكيد من عدوهم فبكوا وعانق الرجال من الاوس الرجال من الخزرج , ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
السادسة عشرة : حضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ورقة مناسبة لإخباره بأن قريشاً سيخرجوه من مكة ، وأن عليه الإستعداد للهجرة التي كانت نوع ضرورة في ذاتها وأوانها لأنهم أرادوا قتله ليلة الهجرة حيث نام في فراشه الإمام علي عليه السلام .
السابعة عشرة : دعوة ورقة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لأخذ جانب الحيطة والحذر من قريش لأنه لم يخبره عن الهجرة وحدها ،إنما ذكر له عداء القوم له ، وأن قانوناً يجمع بين الأنبياء وهو عداء أكثر قومهم لهم ، ليدل الحديث بالدلالة التضمنية على سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل أثناء وجوده في مكة مع تحمله وأهل بيته وأصحابه الأذى من الكفار .
الثامنة عشرة : قد أسسنا في هذا الجزء قانون (السنة النبوية مقدمة لنزول الآية القرآنية ) فهل ذهاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى ورقة بن نوفل مقدمة وأمتثال سابق لنزول آيات الدعوة إلى الله والتبليغ كما في قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ] ( ) الجواب نعم .
وقد يقال أن النداء في الآية أعلاه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفة الرسالة بينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بدايات الوحي التي تدل على مرتبة النبوة وبينها وبين درجة الرسالة عموم وخصوص مطلق ، فكل رسول هو نبي وليس العكس ، والجواب إنما يكون هذا التباين بين أشخاص ومراتب الأنبياء .
فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حين جاءه جبرئيل مأمور بالتبليغ بالإضافة أن موضوع هذا القانون هو كون السنة مقدمة لنزول الآية القرآنية .
التاسعة عشرة : ورد في حديث أبي رافع قال (صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول يوم الاثنين وصلت خديجة عليها السلام آخر يوم الاثنين وصلى علي عليه السلام يوم الثلاثاء من الغد) ( ).
ويبين حديث ورقة بن نوفل حقيقة عقائدية وهي ان دخول خديجة الإسلام ليس عن عاطفة ولأنها زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما جاء عن بينة وشهادة من رجل معروف بعلمه واحاطته باخبار النبوة والكتب السماوية .
فلا غرابة في تسخير خديجة أموالها في سبيل الله ، وتعضيد نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأنها كانت تزاول التجارة عن طريق المضاربة , لتنفق أموالها في سبيل الله , وتعيش الحصار والضيق والجوع مع بني هاشم في شعب أبي طالب .
وتصبح عاجزة عن بعث الأموال لشراء البضائع من الشام ، ولم تعلم قريش صيرورة عجزها وبالاً على قوافل وتجارات قريش أو لا أقل أنها كانت مباركة لأن أموالها تسخر في سبيل الله .
لقد ابتدأ هذا الحصار ليلة هلال محرم سنة سبع من حين بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخرجوا منه في السنة العاشرة للهجرة ، وقيل أنه دام سنتين ، والأرجح أنه لم يصل إلى ثلاث سنوات .
وكتبت قريش وثيقة بالحصار تعاقدوا عليها وفيها أمور :
الأول : عدم الزواج من بنات بني هاشم .
الثاني : عدم تزويج قريش بناتهم لبني هاشم .
الثالث: منع البيع والشراء مع بني هاشم .
الرابع : تحريض ذوي الجلب وعامة الناس من مبايعتهم ، واذا اراد شخص بيع بني هاشم حنطة أو شعيراً جاءت قريش فدفعت له مبلغاً للشراء أكبر وأكثر بكثير فيمتنع عن بيعهم ، وقد تنكل قريش فلا تشتري منه .
الخامس :مقاطعة بني هاشم في الحديث والكلام .
السادس : الإمتناع عن مجالسة بني هاشم .
وشمل الحصار بني هاشم وبني المطلب مؤمنهم وكافرهم باستثناء أبي لهب وأولاده فانهم انحازوا إلى جانب قريش على بني عمومتهم .
العشرون : فوز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتأييد وشهادة ورقة بن نوفل وما كان أن ينالها من دون الذهاب إليه , وعرض رؤيته للملك عليه .
لقد أعلن ورقة رغبته وشوقه لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم يظهره الله عز وجل ليتلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشارة من ورقة بأن له دولة ينصره فيها المؤمنون .
الحادية والعشرون : لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرض نفسه على القبائل في الموسم ، كما ذهب إلى الطائف وعرض نفسه وما عنده من ذخائر النبوة على أهلها فقابلوه بالجفاء فكان ذهابه إلى ورقة مصداقاً متقدماً زماناً لهذا العرض .
الثانية والعشرون : ترغيب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعرض نفسه على الناس ، وبعث خديجة وأهل البيت على مؤازرته وعدم صدّه أو منعه من هذا العرض .
الثالثة والعشرون : بعث السكينة في نفوس أهل البيت من بني هاشم أن النبي محمداً على حق ، وهو صادق في دعوى النبوة ، وكان عمه أبو طالب عضداً وحامياً له ، وكان أكثر بني هاشم مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعواه وإخباره عن النبوة ويمنعون عنه ، حتى الكافر منهم باستثناء نفر قليل مثل عمه أبي لهب .
الرابعة والعشرون : لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أموراً تتعلق بدفع القتال من وجوه :
الأول : إمتناع قريش عن إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إجتناب قريش محاصرة بني هاشم وإيذاء أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : إنزجار الكفار عن قتال النبي في معركة بدر وأحد والخندق.
الخامسة والعشرون : دعوة النساء لدخول الإسلام والإقتداء بخديجة وتصديقها برسالة محمد.
السادسة والعشرون : بيان صفحة جهادية في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس للإسلام بنفسه وأهل بيته.
السابعة والعشرون: بيان مسألة وهي تسخير خديجة لذوي قرباها لتعضيد نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي .
وقصة تنصر ورقة بن نوفل مقدمة للبشارة بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم, إذ خرج ورقة وزيد بن عمرو بن فضيل يطلبان العقيدة والدين الذي فيه السلامة والنجاة ، إذ أدركا بطلان عبادة قريش للأصنام وان قومهما في ضلالة ، وأنهما عاجزان عن التغيير ، وليس عندهما حجة ، فهما طالبان للهدى حتى وصلا إلى الشام ، وكانت النصرانية ديانة لشطر من أهلها فتنصر ورقة وتعلم الإنجيل ، أما زيد فانه لم يتنصر فقيل له : أن الذي تطلب أمامك ، وستجد من يدلك على الصواب وسبيل الهدى ، فانطلق حتى أتى الموصل فوجد فيها راهباً , فقال الراهب :
من أين أقبل صاحب الراحلة ؟
قال زيد بن عمرو بن نفيل : من بيت إبراهيم أراد التحدث بلغة يعرفها الراهب ، والتودد إليه ، لأن إبراهيم هو النسب والجامع المشترك بين العرب المستعربة وبين أهل الكتاب مع التذكير بالبيت الحرام وأنه بيت إبراهيم الخليل أي البيت الذي قام ابراهيم ببنائه بأمر من عند الله ، وفي التنزيل [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ).
وهل يصح أن يسمي المسلم البيت الحرام بيت إبراهيم كما سماه زيد بن عمرو ، الجواب لا ، انما هو بيت الله ، ولهذا بعث الله عز وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحمل العرب والناس على تسمية الأشياء باسمائها والإقرار بأن البيت الحرام هو بيت الله عز وجل ، وقد خاطب الله عز وجل ابراهيم اسماعيل بما يفيد قيامهما بتأكيد قانون من الإرادة التكوينية وهو أن البيت الحرام هو بيته تعالى ، قال سبحانه [وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ) ليكون من مصاديق دعاء ابراهيم يبعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً إعادة تسمية البيت بانه بيت الله وتنزيهه من الأصنام والأفك والأوثان .
وورد في دعاء إبراهيم واسماعيل [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ).
(عن الضحاك : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : أنا دعوة إبراهيم . قال وهو يرفع القواعد من البيت { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم}( ) حتى أتم الآيه) ( ).
ليكون دعاء ابراهيم واسماعيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نوع تبرأ من إدعاء بعض العرب أن البيت الحرام بيت إبراهيم وقيامهم بنصب الأوثان فيه ، وهذا التبرء نظير ما ورد في عيسى عليه السلام وسؤال الله عز وجل له [وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ] ( ).
لبيان أمور :
الأول : من خصائص الأنبياء التنزه عن الغلو فيهم .
الثاني : دعوة الأنبياء الناس لإجتناب الشرك .
الثالث : بيان الأنبياء أنهم بشر وعباد لله مثل باقي الناس ، ولكن الله تفضل وأكرمهم بالوحي والنبوة فعلى الناس اتباعهم .
الرابع : إدراك الأنبياء لقانون وهو حاجتهم لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كشف الحقائق , وإعادة سنن التوحيد وسبل العبادة والإستقامة وازاحة مفاهيم الغلو بالأنبياء والإنحراف والضلالة بعبادة الطواغيت أو الأوثان .
وهل مجئ القرآن والسنة بنسبة البيت الحرام بأنه بيت الله وحده ، من مصاديق قوله تعالى [وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] ( ) الجواب نعم ، خاصة وأن البيت الحرام صاحَبَ وجود الإنسان في الأرض وحجه آدم وحواء ، قال تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] ( ) ، وليكون نزول القرآن بتسمية البيت الحرام إلى الله وأنه بيته سبحانه وأنه سبحانه هو الذي هدى ابراهيم إلى موضعه وأمره بأن يطهره للعُبّاد ، قال تعالى [وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ).
وهو من الشواهد على قانون وهو : في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إعادة الأسماء إلى مسمياتهم كما في تعليم الله عز وجل لآدم بها، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
ونمت القبلية أيان الدولة الأموية والعباسية , وحيث تمت مبايعة أبي العباس بالخلافة من قبل أهل الكوفة لتقع معركة الزاب بين الموصل وأربل والتي تسمى هذا الزمان أربيل .
وكان جيش أهل الكوفة بقيادة أبي العباس ، وجيش بني أمية بقيادة الخليفة مروان بن محمد الملقب بالحمار الذي كان قبل ولايته حاكماً في أًقليم أرمينية وأذربيجان وقاد المعارك فيها بحنكة ، والذي ضعف جيشه كخليفة بسبب أمور :
الأول : ميل مروان الحمار إلى القبائل القيسية وإعراضه عن القبائل اليمانية , والمرادمن القبائل القيسية عرب الشمال , أما اليمانية فهم عرب الجنوب , وظهرت الخصومة بينهما , أثناء الفتنة بين عبد الله بن الزبير وهو من الحجاز حيث ناصرته القيسية , وبين بني أمية الذين عمدوا إلى مصاهرة اليمانية ليناصروهم.
وأصل الخلاف أن اليمانية إستوطنوا بلاد الشام بهجرات قبل الإسلام, فصارت أجيالهم اللاحقة من أهل تلك الديار , وجاءت هجرات عديدة إلى الشام في الإسلام خاصة بعد أن أثنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبارك على السكن في الشام , في أحاديث منها ماورد (قال عبد الله بن حوالة كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكونا إليه العرى والفقر وقلة الشئ .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبشروا فوالله لأنا بكثرة الشئ اخوفني عليكم من قلته والله لا يزال هذا الامر فيكم حتى يفتح الله أرض فارس وأرض الروم وأرض حمير وحتى تكونوا اجنادا ثلاثة جندا بالشام وجندا بالعراق وجندا باليمن , وحتى يعطى الرجل المائة ( ), فيسخطها قال ابن حوالة قلت يارسول الله ومن يستطيع الشام وبه الروم ذوات القرون ؟ فقال : والله ليفتحها الله عليكم وليستخلفنكم
فيها حتى يظل العصابة البيض منهم قمصهم الملحمة اقفاؤهم قياما على الرويجل الاسود منكم المحلوق ما امرهم من شئ فعلوه .
وان بها رجالا لانتم احقر في أعينهم من القردان في اعجاز الابل .
قال ابن حوالة فقلت يارسول الله اختر لي ان ادركني ذلك قال انى اختار لك الشام فانه صفوة الله من بلاده واليه تجتبى صفوته من عباده
يا آهل اليمن عليكم بالشام فان من صفوة الله من ارضه الشام ألا فمن أبى فليستبق في غدر اليمن فان الله قد تكفل لي بالشام واهله) ( ).
ولقيام دولة بني أمية , وحاجتهم للجنود في العاصمة دمشق لحمايتها وتوجيههم للقتال ودرء الفتن وكثرت الهجرة إلى الشام .
ومتى ما علمت الأمصار والكور أن كثرة جيش الملك أو الأمير وانضباطه واستجابة أمرائه له فإنها تهدأ وتصرف النظر عن الخروج عليه , وتكاثر اليمانيون والقيسيون وأنتشروا في ربوع بلاد الشام وهي سوريا ولبنان والأردن وفلسطين , وكان اليمانيون يتفاخرون بأنسابهم وأيام حكمهم وشأنهم في الجزيرة .
الثاني : معاداة ومحاربة مروان الحمارلأبناء عمه الأمويين والذين يناصرون اليمانية .
الثالث : كثرة الشقاق والخصومات داخل البيت الأموي والجيش .
الرابع : قتل مروان لبعض رؤساء اليمانية .
الخامس : كثرة محاربة مروان للخوارج .
السادس : تعدد الفتن والمؤامرات في الدولة الأموية .
ولقب بالحمار لأنه يواصل الحرب والقتال ضد أعدائه ، ويصبر على مكاره القتال .
وفي المثل (أصبر من حمار ) ( ), والأقرب أنه لقب بالحمار تشنيعاً به ، مثلما لقب بالجعدي نسبة إلى مؤدبةً الجعد بن درهم الذي قتله والي العراق خالد بن عبد الله القسري بأمر من هشام بن عبد الملك في سنة 120 هجرية بعد أن أحضره وسأله عن انكاره اتخاذ الله إبراهيم خليلاً ، وتكليم الله لموسى ، ويقول بخلق القرآن ، وأتهم بالزندقة ، وفي يوم عيد الأضحى صلى خالد القسري بالناس صلاة العيد .
(وخطب، ثم قال في آخر خطبته: انصرفوا وضحوا تقبل الله منا ومنكم، فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم، فإنه يقول ما كلم الله موسى تكليما، ولا اتخذ إبراهيم خليلا، تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علواً كبيراً، ثم نزل وحز رأسه بيده بالسكين ) ( ), والأضحية بالأنعام وليس بالإنسان .
لقد أرضعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمه وبعدها أرضعته ثويبة .
وكانت أم أيمن وأسمها بركة تحضنه ، وقد ورثها من أبيه فلما كبر أعتقها وزوجها مولاه زيد بن حارثة , وولدت له أسامة بن زيد .
ثم تولت رضاعته حليمة السعدية وزوج حليمة السعدية هو الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدي ، ويدعى أبا كبشة ، ومن أسباب تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ابن أبي كبشة وجوه :
الأول : الحارث بن عبد العزى أبوه من الرضاعة وإليه نسب لإرادة السخرية .
الثاني : جد أم النبي آمنة بنت وهب الزهرية يدعى أبا كبشة .
الثالث : عمرو بن يزيد بن لبيد من بني النجار، وهو والد سلمى أم عبد المطلب يدعى أبا كبشة فنسب إليه .
وتتجلى موضوعية المعجزات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ الآية أعلاه من وجوه :
الأول : تبين الآية أعلاه سنخية دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى الإسلام ، وبلحاظ كبرى كلية وهي أن نهجه في المقام دستور يحكم صيغة عمل المسلمين في المقام إلى يوم القيامة .
الثاني : بيان موضوعية المعجزة في الدعوة إلى الإسلام والهدى ، وهل تختص موضوعيتها بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية أم تشمل عمل المسلمين والمسلمات.
الجواب هو الثاني، فقد نزلت المعجزة من عند الله عز وجل لتبقى بذاتها وموضوعيتها وأثرها المبارك ونفعها، وهو من خصائص وأسرار إتصاف معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكونها معجزة عقلية وتعددها ، إذ تحتمل الآية القرآنية في المقام وجوهاً :
أولاً : الآية القرآنية معجزة قائمة بذاتها .
ثانياً : الآية القرآنية جزء من معجزة القرآن .
ثالثاً : تجلي الإعجاز بالصلة بين كل آيتين من القرآن .
رابعاً : تعدد الإعجاز في آيات القرآن بالذات ، وترشح العلوم عنها بلحاظ كونها كنزاً سماوياً من العلوم والفيض الإلهي .
خامساً : كل شطر من الآية القرآنية إعجاز .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، وكلها من مصاديق الإعجاز في الآية القرآنية، وفي التنزيل[قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ]( )، أي على يقين، ولم يرد لفظ(على بصيرة) في القرآن إلا في الآية أعلاه، وورد لفظ بصيرة مرة أخرى في قوله تعالى[بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ]( ).
الثالث : بيان قانون وهو التباين بين الدعوة إلى الإسلام والهدى بالحكمة والموعظة الحسنة وبين القتال والقتل والحروب .
نعم اثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره، فقد تكون الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وبالقتال، الجواب هذا صحيح مع ورود الدليل، وقد تجلى قانون من السنة النبوية وهو أن المعارك التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه كلها للدفاع .
(عن أبي ليلى الأشعري ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: تمسكوا بطاعة أئمتكم ولا تخالفوهم ، فإن طاعتهم طاعة الله معصيتهم معصية الله ، فإن الله إنما بعثني أدعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، فمن خالفني في ذلك فهو من الهالكين وقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله، ومن ولي من أمركم شيئاً فعمل بغير ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ( ).
وحال وكيفية الدفاع من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة ، وقد بينت في رسالتي العملية الحجة مسائل في الدفاع عن النفس على نحو تدريجي تصاعدي من غير اللجوء إلى القوة والجرح أو القتل في المرتبة الأولى .
(مسألة 1) يجب المدافعة عن النفس والعرض من السارق ونحوه مع القدرة عليه كفاية وكذا عن المال في الجملة مع مراعاة الأيسر فالأيسر والترتيب التصاعدي فان اندفع بالزجر والصوت العالي فلا يصح ضربه، ولو اندفع بالضرب باليد فلا يصح بالآلة الجارحة.
(مسألة 2) لو انحصر دفع السارق ونحوه بالقتل او الجرح فانه هدر ولو قتل المدافع كان بمنزلة الشهيد.
(مسألة 3) لو امكن الهرب من السارق والمعتدي مطلقاً لزم ولا تصل النوبة الى مقاتلته)( ).
فان قلت قد طرأت مسألة في هذا الزمان وهي وجود الرصد والكاميرا ، فهل يجب اخبار الأجهزة الأمنية ليلقى السارق جزاءه ، ومنعه وغيره من التمادي في الجناية
الجواب ليس من وجوب في المقام ، ولكل حال شأن خاص وقوله تعالى [وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ( ) حاكم في المقام .
ليكون هذا المعنى التصاعدي هو الضابطة في المعارك العامة من باب الأولوية القطعية ، وإن كان احد الطرفين يدرك أموراً :
الأول : انه معتدى عليه .
الثاني : رجحان كفته .
الثالث : انه على حق .
الرابع : تنجز نصره في المعركة .
وقد اجتمعت هذه الأمور بجيش المسلمين في وقائع الإسلام كلها ، ومن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام رجحان كفته بأسباب غيبية ومدد من الملائكة فقد امتنع عن القتال في أول معارك الإسلام الكبرى وهي معركة بدر، وهو يعلم بتحقق الأمور أعلاه عنده وان القتال يجلب له ولأمته من المنافع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ومع هذا كان يحرص على دفع القتال، وكان يتطلع ويتابع ما يدور في معسكر المشركين وتلك معجزة له، وأمر اختص به صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي صبيحة يوم بدر رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد رؤساء المشركين وهو يطوف على كتائب المشركين بما يظهر أنه يدعوهم للإمتناع عن القتال .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يك في أحد من القوم خير فعند صاحب هذا الجمل الأحمر أن يطيعوه يرشدوا).
وفيه حجة حاضرة على عدم سعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى للدفاع، وسيأتي من الشواهد الأخرى ما يدل على ان النبي محمداً يتجنب مسمى القتال ، وحتى الدفاع ويحتمل قوله (يرشدون) وجوهاً :
الأول : تأكيد قانون وهو الرشد في اجتناب القتال .
الثاني : هداية المشركين إلى الإيمان بالمعجزة والبرهان اللمي والبرهان الإني.
والبرهان قياس صائب في الوجود الذهني سواء كانت مقدماته بديهية أو نظرية، إذ يتألف من مقدمتين ونتيجة ويترشح عنه اليقين والقطع.
والبرهان اللُمي هو الإستدلال بالعلة على المعلول كون الحد الأوسط علة لثبوت الأكبر للأصغر بلحاظ كبرى كلية وهي أن الحد الأوسط هو الضابطة في الصلة بين الحد الأكبر والحد الأصغر ، وواسطة في الإثبات ، أي إثبات الأمر وإقامة الدليل ، وتجلي البرهان ، وهو مقتبس من الفعل المتعدي(أثبت).
أما الثبوتية فهو أمر موجود وعلة حقيقة سواء علمت بها أو لم تعلم بها والبرهان الإني فهو الإستدلال بالمعلول على العلة، فتثبت العلة بواسطة إثبات المعلول، فتدل إقامة صلاة عيد الفطر وأن اليوم أول شوال ومن البرهان اللمي والعلة في عدم هجوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الوحي والتنزيل , ومن البرهان الإني أن عدم هجوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإبتدائه بالقتال دليل على صدق نبوته وأنه لا يعمل إلا بالوحي ولا يطمع بدنيا , ويدرك أنها زائلة.
الرابع : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقانون وهو أن عدم قتال المشركين رشاد لهم ، إذ أنه قبيح من جهات :
الأولى : المقدمات التي يتهيأ معها المشركون للقتال .
الثانية : ذات القتال .
الثالثة : قصد المشركين من القتال .
الرابعة : خاتمة قتال المشركين وكيف أنه ضرر على أنفسهم .
الخامسة : دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المشركين لإرادتهم القتال، وعندما اقبلت قريش صوب موضع معركة بدر وقبل وقوع القتال رفع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يديه بالدعاء ، وقال (اللّهُمّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا ، تُحَادّك وَتُكَذّبُ رَسُولَك ، اللّهُمّ فَنَصْرَك الّذِي وَعَدْتنِي، اللّهُمّ أَحِنْهُمْ الْغَدَاةَ)( ).
السادسة : سوء عاقبة الكفار في قيامهم بمحاربة الإسلام بالسيف والمال، إذ يخلدهم هذا العمل في النار.
ومن الإعجاز مناسبة نزول آيات القرآن من السور المكية بصيغة الإنذار والوعيد.
إلى جانب الحث على التوحيد والإيمان والتذكير بالآخرة وعالم الحساب، ولزوم نبذ الشرك وعبادة الأوثان لتكون مقدمة وزاجراً للمشركين من قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين كما في قوله تعالى [بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ] ( ).
الخامس : يرشدوا بتدبرهم وأهليهم بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أن كم وكيفية هذا التدبر في حال السلم أكثر منها في حال العداوة والبغضاء .
لقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إنْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنْ الْقَوْمِ خَيْرٌ فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ إنْ يُطِيعُوهُ يَرْشُدُوا)( ).
والمراد من الخير السلم والإمتناع عن الحرب والقتال ، والمراد من طاعته أي طاعته بما يطوف به عليهم من الدعوة إلى الإمتناع عن القتال والقتل .
نعم ، لا يختص الخير في عدم وقوع القتال بالذين كفروا ، إنما هو عام يشمل المسلمين الذين حضروا معركة بدر ، فان قلت لولا معركة بدر لما فازوا بصفة (البدريين ) وأختصوا بهذه المنزلة الرفيعة ونزول القرآن بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) والجواب من جهات :
الأولى : ذات حضور المهاجرين والأنصار معركة بدر فخر لهم وباب للتوبة عظيم وإن لم يقع قتال .
الثانية : ليس من حصر أو حد لرزق الله عز وجل للناس جميعاً والمؤمنين خاصة ، إذ يفتح الله عز وجل للبدريين باباً آخر ينالون فيه الأجر والثواب من غير قتال.
الثالثة : عدم وقوع القتال يوم بدر نصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وليكون من معاني لفظ (خير) في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( إن يكن في أحد من القوم خير )وجوه :
أولاً : خير لذات المشركين من جهات :
الأولى : عدم تحمل أوزار قتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : عزوف المشركين عن القتال بإنتفاء موضوعه يومئذ لأن الطرف الآخر، وهم المسلمون لا يريدون القتال.
الثالثة : بامتناع المشركين عن القتال سلامة لهم من الحزن والأذى .
الرابعة : اجتناب المشركين الوقوع في الأسر .
ثانياً : خير في يوم المعركة بالإمتناع عن القتال .
ثالثاً : خير بدعوة صاحب الجمل الأحمر بالدعوة إلى الإسلام .
رابعاً : خير بأن يتحمل صاحب الجمل الأحمر دية الحضرمي وإجتناب القتال بإسقاط سببه.
خامساً : خير للمسلمين بعدم وقوع القتال لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكره لأصحابه القتال مطلقاً .
سادساً : خير للناس عموماً .
سابعاً : لما احتجت الملائكة على جعل آدم[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) لأن الإنسان يفسد في الأرض ويقدم على القتل وسفك الدماء، ففي لحظة واحدة يجعل شخصاً آخر جثة هامدة فاقداً الحياة، لو اجتمعت الخلائق على إعادة الحياة له لما استطاعوا.
ومن الآيات في المقام أن أغلب أو جميع الذين قاموا بالقتل وفي كل زمان يتمنون أنهم لم يقدموا عليه، وأعرضوا عنه وانصرفوا عن أسبابه، وحتى الملوك والرؤساء فأنهم يندمون على إختيار القتال.
فإن قلت حتى الذي قتل بالحق ، كالذي يقتل أو يطلب القصاص من قاتل أبيه أو ولده ونحوه، أم أنه خارج بالتخصيص لقوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ) .
الجواب هو الأول ، فكذا الذي يطلب القصاص يأتيه يوم يتمنى فيه لو إختار العفو عن غريمه ، ولم يطلب القصاص منه ، وهذا التمني من مصاديق قوله تعالى[وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ) ليكون من معاني الآية أعلاه وجوه منها :
الأول : وإن تعفوا لا تندموا .
الثاني : وإن تعفوا فهو من التقوى .
الثالث : وإن تعفوا يأتيكم الأجر والثواب وهل يشترط قصد القربة في العفو لظاهر الآية بصيرورته طريقاً للتقوى والقرب منها، الجواب لا.
وهل القصاص والقود للقاتل عن عمد من مصاديق سفك الدماء الذي احتجت الملائكة عليه كما في قوله تعالى [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ).
الجواب لا ، إنما يكون من معاني رد الله واحتجاجه عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) وفيه أمور:
الأول : القصاص من القاتل ظلماً وتعدياً زجر ومنع لتجدد وشيوع القتل .
الثاني : قيام الجاني وعائلته بدفع دية القتل الخطأ .
الثالث : نفرة النفوس مطلقاً من القتل، وذم الناس لمن يقوم بالقتل .
الرابع : ندم القاتل على فعل القتل، وعدم مغادرة صورة المقتول لذهنه، وهي حاضرة في وجوده الذهني، وقد يأتي يوم يمكن معه للعلم والتقنية معرفة القاتل بالموجود والمتراكم في وجوده الذهني ، وليس فقط بالمعكوس والثابت بعيني المقتول.
وإن كان هذا العلم وكيفيته أمراً عظيماً , ولكن قد يقوم القاتل بالقتل غيلة ومكراً ومن غير أن يراه المقتول خاصاً مع كثرة الأسلحة وأصابتها الهدف المتعدد بدقة عن بُعد ومسافة .
ومن خصائص النبوة تجلي مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) في سنتهم وسيرتهم من جهة المنع من القتال، ودفعه وصرف الناس عنه ، ولكن هذا المنع لا يتعارض مع إستمرار الدعوة إلى الله بل هو في طولها وجزء ورشحة منها، ولكن لو دار الأمر بين الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة وبين القتال، فالواجب هو الأول، وهو الذي يدل عليه الكتاب والسنة.
فمن خصائص النبوة دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله في حال السراء والضراء، ولكن الذين كفروا يشهرون السلاح في وجهه، خاصة عندما يصير له أصحاب ويكون عددهم في إطراد مستمر، ومن داخل بيوت الذين كفروا ، كما في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ يأتي الكافر إلى بيته ليلاً ليرى ابنته تقرأ القرآن ويخرج إلى البيت الحرام أو السوق ليخبره الناس بأن ولده قد دخل الإسلام ، وأنه يتردد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستمع لآيات القرآن ويتلقى منه أحكام الإسلام ومنهم من يلحق ببنيه في دخول الإسلام , أو يكون أسوة حسنة لهم في الهداية .
فعزم رؤساء الكفر على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكأن هناك فتنة يريدون استئصالها، عندئذ نصر الله عز وجل نبيه بأن أخبره بعزمهم على قتله تلك الليلة , واذن له بالهجرة إلى المدينة ليبدأ تأريخ جديد للإسلام والإنسانية ، ويكون من معانيه الخير والسؤدد المتصل , فلذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر(ان يكن في أحد من القوم خير)( ) لصرف الناس عن القتال ، ومضى منهاج الهجرة بسلام في الدعوة إلى الله .
وفي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه مسائل :
الأولى : تحذير المسلمين وحثهم على الحيطة والحذر .
الثانية : بيان عدم النفع وإرادة الإصلاح من رؤساء جيش المشركين يوم بدر عدا صاحب الجمل الأحمر وأثره، وهو لا يمنع من ترشح الخير عن دعوته .
الثالثة : إشعار المسلمين بأصرار الذين كفروا على القتال .
الرابعة : دعوة المسلمين للإستعداد للقتال .
الخامسة : البشارة بالنصر وهزيمة الذين كفروا ، لأن تركهم السلامة والخير الذي يطوف به صاحب الجمل الأحمر يؤدي إلى صيرورتهم على ثلاث طوائف :.
الأولى : الذين يقعون أسرى في أيدي المسلمين وعددهم سبعون .
الثانية : الذين قتلوا في ساعة المعركة وعددهم سبعون .
الثالثة : الذين انهزموا وهم نحو سبعمائة ، بلحاظ أن مجموع جيش المشركين كان نحو ألف رجل وان بعضهم اعتزل القتال عندما وصل كتاب أبي سفيان بسلامة القافلة وإنتفاء موضوع خروج جيش المشركين وعلة هذا الخروج.
وفي قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
بيان وتوثيق لعزم الكفار قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بما يسمى الإبادة الجماعية ، مما يدل على وجوب دفاع المسلمين عن أنفسهم وفق كل القوانين والأعراف ، ومن صيغ هذا الدفاع ما يكون المبادرة إلى الهجوم ولكن من غير إبادة وقتل عام ، وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : إرادة ما يسعى إليه الكفار ، ويترصدون له مناسبة وأجلاً .
الثاني : المقصود واقعة وحال معروفة عند المسلمين أوان نزول الآية الكريمة، فما أن نزلت الآية حتى استحضر المسلمون أسباب النزول والشاهد عليه.
الثالث : إرادة التذكير بسعي كفار قريش للضرر بالمسلمين حين نزولهم الحديبية قبل إبرام الصلح .
الرابع : كيلا ينسوا الشكر لله عز وجل على دفع البلاء والشر عنهم يومئذ ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا]( ).
الخامس : إرادة أهل خيبر , وزجر غطفان وجماعة من بني أسد عن إعانتهم عند حصار خيبر , أما غطفان فحال المسلمون بينهم وبين أهل خيبر (قال الواقدي : حدثني عبد الله بن جعفر عن يعقوب بن عتبة قال : خرج علي رضي الله عنه في مائة رجل إلى أن نزل إلى حي من بني أسد بن بكر و ذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم أن لهم جمعا يريدون أن يمدوا يهود خيبر فسار إليهم بالليل و كمن بالنهار و أصاب عينا لهم فأقر له أنه بعث إلى خيبر يعرض عليهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر) ( ).
وقال الحسن البصري 🙁 كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم محاصراً بطن نخلة. فقال رجل من المشركين : هل لكم في أن أقتل محمداً،
قالوا : فكيف تقتله؟
قال أمسك به،
قالوا : وددنا إنّك فعلت ذلك. فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو متقلد سيفه،
فقال : يا محمد أرني سيفك فأعطاه إياه فجعل الرجل يهز السيف وينظر مرّة إلى السيف ومرّة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال : من يمنعك مني يا محمد؟
قال : اللّه .
فتهدّده أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأغلظوا له فشام السيف ومضى. فأنزل اللّه هذه الآية) ( ).
وقيل أن الآية وردت بصيغة الجمع ولا يتناسب الخطاب فيها مع قصة الأعرابي وهو واحد وليس قوم ، ولكن الأعرابي لم يكن وحده بل كان وراءه قومه وهم الذين حرضوه وطلبوا منه النزول والذهاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن أسباب نزول الآية أعلاه :
الأول : التذكير بمعركة الأحزاب ، ومجئ عشرة آلاف رجل لقتال المسلمين ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا]( ).
الثاني : إرادة أهل مكة الفتك بالمؤمنين في بدايات الدعوة وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشطر من أصحابه بالهجرة إلى المدينة .
الثالث : المقصود عزم كفار قريش على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في فراشه وأمر الله عز وجل له بالهجرة ليلتئذ.
الرابع : المراد همّ الأعرابي بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتمكنه من حمل السيف ورفعه بوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لولا أن دفعه الله .
الخامس : المقصود عزم المشركين بالإغارة والمباغتة للمسلمين ولكن الله صرف عزمهم بما لم تقع فيه غزوة أو معركة ، وأخبرت الآية أعلاه عنه ، لموضوعيته في بيان سنخية الدفاع في قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي التنزيل[وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً]( ).
السادس : المقصود إرادة أهل خبير ومن والاهم من غطفان وبني أسد قتال المسلمين إذ وقع حصار خيبر، قال تعالى[وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ]( ).
السابع : إرادة يوم الرقاع، إذ همّ بنو محارب الهجوم على المسلمين ، كما يأتي بيانه ، ثم انتظروا إلى صلاة العصر فنزلت صلاة الخوف ، فعلموا أن النبي يعمل بالوحي والتنزيل إذ علم الله بمكرهم ، وصرفهم بانشطار المسلمين إلى قسمين في الصلاة .
الثامن : إرادة عموم صرف الكفار عن المسلمين ، ودفع القتال مع تهيئة مقدماته من طرف الذين كفروا .
التاسع : ذهاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني النضير إذ ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم يستعينهم على دية العامريين فأراد بعضهم قتله ، فانصرف هو وأصحابه.
العاشر : المقصود ارسال كسرى إلى عامله في اليمن للقبض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن الإعجاز في نبوة محمد أنه بعث رسائل إلى الملوك والأمراء بعد صلح الحديبية يدعوهم إلى الإسلام، ومنهم كسرى ، وسيأتي بيانه وتفصيله ، فأرسل كسرى إلى نائبه بعد أن أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتابا إلى كسرى بيد عبد الله بن حذافة وكان يتكلم الفارسية ، فذهب إلى كسرى وسأل الإذن عليه حتى وصل إليه، ولم تكن آنذاك اسلحة نارية ومتفجرات ونحوها، إنما كان السيف يؤخذ من صاحبه حين الدخول على الأمير أو يترك وشأنه مع إستدامة الحذر بوقوف الحرس عند رأس الملك والأمير ، وكلما كانت خشيتهم من شخص عليه كان حذرهم وأوامرهم إليه أشد وأكثر ولكنه لا يدفع الأجل والكيفية التي يريدها الله عز وجل لموت الإنسان ، قال تعالى [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ) كما سيأتي في كيفية قتل كسرى هذا على يد ابنه.
وكما ابتدأ سليمان عليه السلام كتابه إلى بلقيس ببسم الله الرحمن الرحيم ، ابتدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتابه إلى كسرى بذات البسملة ، وقد آمنت بلقيس وأكرمها الله ، أما كسرى فانه اتبع نهج فرعون الذي أبى الإيمان برسالة موسى عليه السلام ، ولاقى منه بنو اسرائيل أشد العذاب ، وفي التنزيل [سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ]( ).
ولقد هلك فرعون، ثم صار أهل مصر مسلمين وكذا هلك كسرى وصار أهل فارس مسلمين , واستجاب الله عز وجل دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمزق حكمه.
ونص الكتاب هو : بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ إلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى وَآمَنَ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ وَشَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ اللّهِ فَإِنّي أَنَا رَسُولُ اللّهِ إلَى النّاسِ كَافّةً لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّا وَيَحِقّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ أَسْلِمْ تَسْلَمْ
فَإِنْ أَبَيْت فَعَلَيْكَ إثْمُ الْمَجُوسِ ” فَلَمّا قُرِئَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ مَزّقَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَقَالَ ” مَزّقَ اللّهُ مُلْكَهُ)( ).
وكان عامل كسرى على اليمن باذان قد كتب إلى كسرى يخبره بظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته إلى الله ، فاجتمع عند كسرى كتاب عامله وكتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأدرك أن الأمر له شأن عظيم ويشمل الجزيرة واليمن وبلاد فارس، وهو عنوان عالمية الإسلام في المقام، ومن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وبعد أن مزق كسرى كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهمّ بقتل الرسول .
كتب إلى باذان أن بعث إلى هذا الرجل الذي خالف دين قومه فمره فليرجع إلى دين قومه فان أبى فابعث لي برأسه (وإلا فليواعدك يوما تقتتلون فيه) ( ).
ليكون قوله الأخير من مصاديق قوله تعالى [إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ] ( ) .
ويبين هذا الحديث عزم كسرى على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو وأصحابه ، إذ يدل الحديث على علم كسرى بوجود صحابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم قادرون على القتال والمواجهة .
لقد وقعت قبل كتاب كسرى هذا معارك بين المسلمين والذين كفروا وهي:
الأول : معركة بدر .
الثاني : معركة أحد.
الثالث : معركة الخندق .
الرابع : صلح الحديبية .
فان قلت كيف يحتسب صلح الحديبية مع المعارك أعلاه التي خاضها المسلمون مع التباين في الموضوع والجواب ، لقد كان صلح الحديبية بلحاظ المقام أكبر من المعركة التي تحتمل النصر أو الخسارة في القتال ، وقد سأل قيصر أبا سفيان عن نتيجة قتالهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنه .
قال هرقل: فهل قاتلتموه أي قاتلتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال أبو سفيان: نعم .
قال: فكيف قتالكم أياه، قال: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه قال: ماذا يأمركم؟ قال ابو سفيان: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة)( ).
وان كان كلامه غير تام إذ لم يكن هناك تكافؤ في نتائج المعارك إنما كانت كالآتي :
الأولى : النصر المبين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر ، وهي أول معارك الإسلام ، قال تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) وهل كان كسرى يعلم أن هذه المعركة دفاعية محضة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لم يخرج لقتال ، وكان صبيحة المعركة يرجو إمتناع القتال والتفرق من غير قتال، الجواب نعم، إذ تعرض على الملوك الوقائع ذات الأهمية وأسبابها ونتائجها.
وهل حدث قبل معركة بدر التقاء المسلمين بالذين كفروا من غير أن ينفع قتال بينهم، الجواب نعم ، كما في سرية عبيدة بن الحارث .
لبيان حال ملاقاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعدوه في ميادين القتال التي تتقوم بمبادئ الرسالة السماوية التي تتضمن أولوية الدعوة إلى الله بالحجة والبرهان على القتال ولمعان السيوف ، قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) .
الثانية : عدم تنجز نصر لأحد الطرفين في معركة أحد وإن إدعاه رؤساء جيش المشركين .
الثالثة :خزي الذين كفروا في عودتهم إلى مكة من معركة أحد إذ كانت الخيبة تصاحبهم فلم يستطيعوا قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن كثرت جراحاته ولم يقدروا على أسر بعض المهاجرين أو الأنصار ، لذا قد صاحبت الخيبة المشركين في طريق العودة إلى مكة بعد قتل طائفة منهم .
فمن معاني مجيئهم يوم أحد للثأر لقتلاهم في معركة بدر الإمتناع والتوقي من وقوع قتلى بين صفوفهم ، ولكن قُتل منهم ثمانية وعشرون من بينهم حملة لواء الشرك والضلالة ، حتى سقط اللواء على الأرض ليكون انذاراً لقرب زوال سلطانهم وسقوط الأصنام يوم فتح مكة .
فلم تمر خمس سنوات على معركة أحد حتى دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مكة فاتحين ومن غير قتال يذكر .
(عن ابن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة وحول البيت ستون وثلثمائة نصب ، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول:{جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً} { وجاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد }( ) ) ( ).
عن ابن مسعود وابن عبّاس : لما إفتتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة وجد حول البيت ثلثمائة وستين صنماً،
صنم كل قوم بحيالهم ومعه مخصرة فجعل يأتي الصنم فيطعن في عينه أو في بطنه ثمّ يقول {جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} بجعل الصنم ينكب لوجهه وجعل أهل مكة يتعجبون،
ويقولون فيما بينهم ما رأينا رجلاً أسحر من محمّد) ( ).
ومما يدل على صلة رؤساء قريش مع الملوك قول أبي سفيان: أهديت لكسرى خيلاً وأدماً فقبل الخيل ورد الأدم، وأدخلت عليه، فكان وجهه وجهين من عظمه، فألقى إلي مخدة كانت عنده، فقلت: وا جوعاه! أهذه حظي من كسرى بن هرمز؟ قال: فخرجت من عنده، فما أمر على أحد من حشمة إلا أعظمها، حتى دفعت إلى خازن له، فأخذها وأعطاني ثمانمائة إناء من فضة وذهب.
قال الأصمعي: فحدثت بهذا الحديث النوشجان الفارسي، فقال: كانت وظيفة المخدة ألفاً أن الخازن اقتطع منها مائتين)( ).
معنى قول النبي(ص) ( لا سواء )
في ذات يوم معركة أحد وعند نهايات المعركة أطل أبو سفيان على جيش المسلمين ،وأخذ ينادي ويصرخ بأعلى صوته والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يجيبه او يأمر بعضاً من أصحابه أن يجيبه، ليوطئ أبو سفيان للإنسحاب ويجعل هزيمته بطعم النصر.
فقال (يوم بيوم بدر، يوم لنا ويوم علينا ويوم نساء ويوم نسر، حنظلة بحنظلة، وفلان بفلان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا سواء، أما قتلانا فأحياء يرزقون وقتلاكم في النار يعذبون) ( ).
أراد أبو سفيان أنه وقومه إنتصروا في معركة أحد مثلما انتصر المسلمون في معركة بدر ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (لا سواء).
ولا يختص قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا ونفيه التساوي في المقام بين عاقبة القتلى، وأن قتلى المسلمين [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ) وأن قتلى الكفار في النار، إنما أراد المعنى الأعم، ليكون من وجوه تقدير كلامه:
الأول : لا سواء بين يوم بدر ويوم أحد ، فكان يوم بدر نصراً عظيماً للإسلام ، وهزيمة وفراراً للذين كفروا، أما معركة أحد فقد كانت كراً وفراً .
الثاني : لا سواء، فقد كانت الغلبة في بداية ووسط وخاتمة معركة بدر للمسلمين ، أما معركة أحد ، فقد كانت بداياتها نصراً للمسلمين وقتلاً بالمشركين مع ظهور أمارات الفرار في معسكرهم لولا ترك رماة المسلمين لمواضعهم .
الثالث : لا سواء ففي معركة بدر قُتل صناديد قريش .
الرابع : لا سواء ففي كل من معركة بدر وأحد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم سالماً منتصراً .
الخامس : لا سواء فقد أخبر الله عز وجل عن نصر المسلمين في معركة بدر[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) .
ولم يرد في القرآن أو السنة ما يدل على نصر كفار قريش في معركة أحد.
السادس : لا سواء فانه ليس يوماً بيوم ، إنما هو بلحاظ التعدي من المشركين يوماً بعد يوم ، أي في معركة بدر ثم معركة أحد ، ففي معركة بدر كان المشركون متعدين ومصرين على القتال ، وكذا في معركة أحد ، وهو من مصاديق الحجة وسعي الذين كفروا في صيغ الغزو والقتال .
وسيأتي باب المقارنة في المقام بين هذه المعارك وكيف أن الذين كفروا يصرون على التعدي والقتال في كل معركة ، ويكون إصرارهم على القتال ومواصلتهم له في كل معركة لاحقة أشد من المعركة السابقة .
السابع : لا سواء في ذات أشخاص القتلى من الطرفين ، فقد قال أبو سفيان (حنظلة بحنظلة)( ) يريد أنهم قتلوا حنظلة بن أبي عامر في معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة في مقابل قتل المسلمين لحنظلة بن أبي سفيان في معركة بدر في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة .
كما سيأتي بيانه في الجزء التالي في باب (المغالطة حنظلة بحنظلة).
الثامن : لا سواء إذ ألقى الله عز وجل النعاس على المؤمنين في معركة بدر وأحد، قال تعالى[إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ]( ).
ومن إعجاز القرآن ورود لفظ النعاس مرة واحدة فيه ، لبيان نفعه في الحرب وكراهيته في الصلاة وفي الذكر والسعي في رضوان الله.
التاسع : لا سواء إذ نزل القرآن بالإخبار عن حضور الملائكة في معركة بدر وأحد مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وبخصوص معركة أحد ورد (عن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كأشَدِّ القتالِ ما رأيتهما قبل ولا بعد) ( ).
العاشر : لا سواء، إذ يقف سيد المرسلين في معسكر المسلمين وهو موقف لم يحدث قبل وبعد ولا يتجدد بعد , ومن علل نزول الملائكة لنصرته .
وهذا الإتحاد والحصر أمارة على نصر الإسلام وإشاعة مبادئ التوحيد في الأرض لأن الله خلق الناس وأذن لهم بعمارة الأرض من أجل عبادته سبحانه ، وجعل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين ، فلابد أن ينصره الله عز وجل على أعدائه .
ولكن الضلالة برزخ دون تسليمهم بهذا القانون التكويني ولزوم نزول آيات القرآن كلها بمشيئة الله ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا] ( ).
الحادي عشر : قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : لا سواء ، ليكون في هذا القول دعوة لأجيال المسلمين للتدبر في التباين والتضاد الحاصل في واقعة بدر وأحد بين الفريقين .
الثاني عشر : قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا سواء، باعث للسكينة في نفوس المسلمين، وبيان لقانون وهو رفعة شأنهم ودوام عزهم بسلطان الإيمان والتقوى، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثالث عشر : لا سواء في صيرورة نصر المسلمين في معركة بدر مقدمة لنصرهم في معارك لاحقة وتخلف ما ناله المشركون في معركة أحد عن صيرورته مقدمة لنصر لاحق لهم .
الرابع عشر : لا سواء، لأن الله عز وجل جعل أهل البيت والصحابة يشتاقون للقاء العدو وبعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( ).
الخامس عشر : لا سواء، في الأثر والنفع العظيم للمسلمين المترتب على معركة بدر وأحد , والضرر الفادح منهما على المشركين ، إذ رجع المسلمون من كل من المعركتين بالنصر والعز، وعاد المشركون إلى مكة بالخيبة والخسران، ففي خصوص معركة أحد التي يدّعي أبو سفيان يومئذ بنصرهم فيها نزل قوله تعالى[فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
السادس عشر : لا سواء، للتباين الشخصي بمغادرة الشهداء الدنيا على الإستقامة والتقوى، ومفارقة الذين كفروا لها ولنعيمها بالإصرار على الكفر والجحود .
السابع عشر : لا سواء لحب الله عز وجل للمؤمنين وبغضه للكافرين، قال تعالى[أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ).
الثامن عشر : لا سواء بأن الشهيد يبقى خالداً في أذهان الناس ، ويذكره المسلمون بالفخر والرضا، ويستغفرون له ويعلمون أنه حي عند الله .
وهل يصح سؤال الشهيد تعضيد دعاءنا والإستغفار والشفاعة لنا ، للتسليم بحياته، قال تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ).
الجواب إنما قيدت الآية أعلاه حياتهم عند الله لبيان أنها حياة جزاء كريم من غير عمل ، وما تعضيد الدعاء والإستغفار إلا عمل وإن لم يكن لنفسه إلا أن يشاء الله.
التاسع عشر : لا سواء في حكم العقل ، إذ يدافع المؤمنون عن أنفسهم وعن علة خلق الله الناس، وهي عبادتهم له ، ويهجم ويغزو المشركون حباً للات والعزى فيلاقيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: قولوا لاإله إلا الله تفلحوا) فتذهب في الأمصار ويتردد صداها في الآفاق فأنجذب وينجذب لها الناس أمس واليوم وغداً.
العشرون : الإيمان علم ، والكفر جهالة، قال تعالى [قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الحادي والعشرون : لا سواء في الدنيا والآخرة ، فهناك تنافر وتضاد بين الإيمان والكفر بالذات والأثر والعاقبة، قال تعالى[فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ]( ).
الثاني والعشرون : لا سواء ، في حال العز التي عليها المؤمنون , وحال الخيبة والذل التي عليها الذين كفروا .
الثالث والعشرون : لا سواء لصدور الأوامر لجيش المسلمين من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحده .
وتتصف هذه الأوامر بأنها من سنخية بسيطة غير مركبة، تتقوم بالتوكل على الله، وعدم البدء بالقتال أو الهجوم ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) أن عدو النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مأمن حتى عند بدايات التقاء الصفين ، وهو من مختصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فليس من قائد أو جيش يأمن العدو غائلتهم وغدرهم وهجومهم إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن كان الذين يقابلونه كفاراً يريدون قتله ويبغون استئصال الإسلام.
وأما جيش المشركين فأنهم يختلفون، وبعضهم يريد إجتناب القتال ، وآخرون يصرون عليه مع ظهور التشاجر والخصومة والتعدي بينهم، كما في مقدمات وبداية معركة بدر.
الرابع والعشرون : لا سواء ،فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يبدأ القتال ولا يخرج أصحابَه للمبارزة ، أما الذين كفروا فهم الذين يبدأون القتال ، ويخرجون بين الصفين يسألون المبارزة ويلحون في طلبها ، ويمتنع عنها المسلمون فيقومون بتحديهم وإثارتهم فتكون العاقبة قتل المشركين كما في بداية معركة بدر و معركة أحد .
فذكر أبو سفيان العام ثم الخاص، والثأر يريد بيان تشفيه بثأره لولده حنظلة بقتل من هو شبيه بالاسم والشأن ، ولقد رزق الله عز وجل الصحابي حنظلة وذريته آية في العالمين .
لقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (قَالَ رَأَيْت الْمَلَائِكَةَ تُغَسّلُهُ فِي صِحَافِ الْفِضّةِ بِمَاءِ الْمُزْنِ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ قَالَ ابن إسْحَاقَ ، فَسُئِلَتْ صَاحِبَتُهُ فَقَالَتْ خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ حِينَ سَمِعَ الْهَاتِفَةَ . صَاحِبَتُهُ يَعْنِي امْرَأَتَهُ وَهِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ أُبَيّ ابن سَلُولَ أُخْتُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ ، وَكَانَ ابْتَنَى بِهَا تِلْكَ اللّيْلَةَ فَكَانَتْ عَرُوسًا عِنْدَهُ فَرَأَتْ فِي النّوْمِ تِلْكَ اللّيْلَ كَأَنّ بَابًا فِي السّمَاءِ فُتِحَ لَهُ فَدَخَلَهُ ثُمّ أُغْلِقَ دُونَهُ فَعَلِمَتْ أَنّهُ مَيّتٌ مِنْ غَدِهِ فَدَعَتْ رِجَالًا مِنْ قَوْمِهَا حِينَ أَصْبَحَتْ فَأَشْهَدَتْهُمْ عَلَى الدّخُولِ بِهَا خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ)( )، وقيل أن النبي أخبر عن تغسيل الملائكة لحمزة بن عبد المطلب أيضاً لأنه كان جنبا يوم معركة أحد( ) .
وفي إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تغسيل الملائكة لحنظلة مسائل:
الأولى : تفضل الله عز وجل بجعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعلم ما تفعله الملائكة في ميدان المعركة حيث يشاء الله .
الثانية : بيان معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باخباره عن قيام الملائكة بتغسيل حنظلة .
الثالثة : لابد من علة لانفراد حنظلة بهذه النعمة والآية .
الرابعة :إفتخار الأنصار عامة والأوس خاصة بحنظلة (عن قتادة عن أنس قال افتخرت الأوس فقالوا منا غسيل الملائكة حنظلة ابن الراهب ومنا من حمته الدبر عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح ومنا من أجيزت شهادته بشهادة رجلين خزيمة بن ثابت ومنا من اهتز بموته عرش الرحمن سعد بن معاذ فقال الخزرجيون منا أربعة قرأوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقرأه غيرهم زيد بن ثابت وأبو زيد ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب) ( ) .
ومراد قول الخزرج (ولم يقرأه غيرهم) أي من الأنصار وليس أهل البيت والمهاجرين فقد قرأه وحفظه الإمام علي عليه السلام وعبد الله .
الخامسة : بيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعلة وسبب قيام الملائكة بتغسيل حنظلة عدم استطاعته الإغتسال غسل الجنابة عند خروجه إلى ميدان المعركة ، وفيه أحكام :
أولاً : أولوية اجابة النفير وتقديمه على الواجب العبادي الموسع .
ثانياً : جواز الخروج إلى ميدان المعركة على جنابة لضيق الوقت ، إنما جاء شرط غسلها كمقدمة للصلاة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
ثالثاً :إنكشاف صدق علة المعجزة التي أخبر عنها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند رجوع المسلمين إلى المدينة من معركة أحد ، إذ قاموا بسؤال زوجته عن سر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الملائكة قامت بتغسيله عند استشهاده ، فقالت إنه خرج من غير غسل جنابة، وكان النبي صلى الله عليه وآله يكني كما هو كلام الله يتضمن الكناية كما في قوله تعالى [أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا] ( ) لفظ اللمس كناية عن الوطئ والجماع .
ولم يذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبب تغسيل الملائكة لحنظلة إنما (قَالَ سَلُوا أَهْلَهُ ؟ مَا شَأْنُهُ ؟ فَسَأَلُوا امْرَأَتَهُ فَأَخْبَرَتْهُمْ الْخَبَر) ( ) ، فلما عاد المسلمون إلى المدينة علموا بالسبب والعلة ، إذ كشفت زوجته الأمر .
رابعاً : تأكيد صحة الحمل إن كان هناك حمل ، ويحتمل أشخاص الملائكة الذين غسّلوا حنظلة وجوهاً :
الأول : إنهم من ضمن الملائكة الذين نزلوا مدداً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، كما في قوله [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ) .
الثاني : إنهم من الملائكة الخمسة آلاف الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ).
الثالث : إنهم ملائكة نزولوا خصيصاً لتغسيل حنظلة بلحاظ التباين الوظيفي بين الملائكة الذين ينزلون مدداً لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وبين الذين ينزلون لأمور خاصة ، فالمقاتل والمدد لا ينشغل بتغسيل الموتى والشهداء .
والمختار هو الثالث لروية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم وهم ينزلون لتغسيله ، لبيان سنخية ومرتبة سامية في مدد الملائكة , ووظائفهم الأخرى .
وهل وقع تغسيل الملائكة لحنظلة حالما قُتل وقبل أن ينقضي القتال ، أم بعد إنقضائه ، والمختار هو الثاني ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رآى الملائكة يغسلونه عند الإستعداد لدفن الشهداء .
ترى لماذا أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن تغسيل الملائكة لحنظلة ، فيه مسائل :
الأولى : لقد رآى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الملائكة ينزلون لتغسيل حنظلة ، فأخبر بما رآى ليشترك المسلمون بنعمة رؤية الملائكة وما يقومون به بالواسطة التي تكفي لحضور الأمر في الوجود الذهني , بلحاظ أنهم يتلقون ما يخبر عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتصديق والقبول والرضا .
الثانية : بيان كرامة خاصة لأحد الشهداء ، وفيه أمارة على إختصاص شهداء آخرين بآيات وكرامات أخرى .
وهل يختص الأمر بالشهداء من المؤمنين الذين حضروا معركة أحد .
الجواب لا ، لتتجلى مصاديق من هذه الكرامات في قوله تعالىلِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ.
الثالثة : مواساة عوائل الشهداء بفقدهم لبيان حضور الملائكة وعنايتهم بهم.
الرابعة : إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا من مصاديق تفسير قوله تعالى بخصوص الشهداء [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) .
الخامسة : التوثيق التأريخي لواقعة تغسيل الملائكة لحنظلة ففي كل زمان يذكر المسلمون والمسلمات هذا الواقعة وكأنها قد وقعت في ذات زمانهم .
السادسة : تذكير المسلمين والمسلمات بلزوم غسل الجنابة وعدم تأخيره من غير علة أو سبب .
السابعة : تفقه المسلمين في الدين .
الثامنة : بيان شأن ومنزلة الشهداء عند الله .
التاسعة : مواساة المؤمنين بحنظلة ، وبيان عظيم شأنه ، وقد حضر أبوه أبو عامر الفاسق معركة أحد مع جيش المشركين .
العاشرة : هذا الإخبار مقدمة لولادة عبد الله بن حنظلة ، وهو من أهل التقوى .
الحادية عشرة : بيان عدم تحقيق الذين كفروا النصر في معركة أحد .
وهل بلغ كسرى والملوك نبأ تغسيل الملائكة لحنظلة في معركة أحد ، الأقرب لا ، إنما بلغتهم انتصارات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الميدان بمعجزة من عند الله ، وهذا البلاغ من مصاديق ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : نُصِرْت بِالرّعْبِ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا( ).
ومن مصاديق الرعب في المقام ذات البلاغ وحرص الناس على سماع وتناقل أخبار وصبر ودفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والحديث أعلاه من تفسير الآية المتقدمة بما يجعل الهم والعزم على الهجوم على المسلمين في أدنى مراتبه .
إذ أن الهم من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متعددة قوة وضعفاً .
ويبين قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ]( ).
عزم المشركين على الهجوم على المسلمين لولا فضل الله، وهو ظاهر الآية الكريمة لأنها تدعو المسلمين إلى أخذ الحائطة والحذر .
الثانية عشرة : لم يرد لفظ [هَمَّ قَوْمٌ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وهل فيه دعوة على تعدد الأقوام والمرات التي أرادوا فيها الهجوم والتعدي على المسلمين ، وأن المراد من لفظ (القوم) هو اسم جنس .
الجواب نعم ، إلا أن تأتي ألفاظ متعددة في القرآن بذات المعنى ، فان قلت ظاهر الآية إرادة موضوع متحد ، والجواب إنه لا يمنع من التعدد الموضوعي وكثرة الذين أرادوا الهمّ بالتعدي على المسلمين .
لقد عاش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حالة الإستضعاف في بدايات البعثة النبوية في مكة بل وحتى بعد تلك البدايات ، إذ كانت مدة بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة في مكة نحو ثلاث عشرة سنة وهي مدة ليست بالقليلة يدعو فيها الناس إلى الإسلام ، ومن الإعجاز فيها أنها تنمي ملكة الصبر وتكشف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن الدعوة إلى الله بالحجة والدليل خير وأفضل من السيف وقعقعة السلاح, في كل حال .
ومن الإعجاز في نبوته عدم إنحصار واختصاص هذه الدعوة بأهل البيت أو عامة قريش أو أهل مكة ، بل جاءت دفعة واحدة إلى القبائل العربية ببركة وفودها إلى حج بيت الله الحرام كل عام ، ليكون من معاني قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ]( ) في خطاب وأمر الله عز وجل لإبراهيم ليكون هذا الأذان واجتماع القبائل مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته القبائل للإسلام , ورادعاً لهم عن محاربته .
فقد يدخل الإيمان قلب إنسان بعيد عن مكة يتلقى مبادئ الإسلام وآيات القرآن عن طريق السماع عن الواسطة من غير أن يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويسمع منه في ذات الوقت الذي يجحد بنبوته بعض أهل بيته وأقاربه .
ومن مكر ودهاء كفار قريش تسخيرهم عمه أبا لهب ليطوف خلفه بين القبائل ليردد : إنه كذاب .
ويروي رجل من بني الديل بعد أن دخل الإسلام (رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية في سوق ذى المجاز وهو يقول: ” يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ” والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضئ الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب.
يتبعه حيث ذهب.
فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب.) ( ).
لتتبادر إلى الأذهان قاعدة الأولوية بظن كفار قريش , إذ يقول أفراد القبائل إذا كان عمه والذي يعيش معه في مكة ويعرف تفاصيل حياته اليومية يكذبه ويحذر من تصديقه فمن باب الأولوية ألا نصدقه ، ولكن المعجزة قاهرة لقواعد الأولوية ، وأصل الإستصحاب وأسباب الترجيح وفق العادة والعرف ، ليكون من معانيها أنها تأسر القلوب وتنفذ إلى شغافها ، وتمتنع عن مفارقتها أو الغفلة عنها ، إنما تلح عليها بالتدبر في سنخيتها ودلالاتها ، وكيف أنها أمر خارق لقواعد الطبيعة وقوانين السببية والعلة والمعلول ، وهذا القول تعريف مستحدث منّا للمعجزة بلحاظ أثرها وعظيم نفعها .
وتخلف أبو لهب عن معركة بدر بدله العاصي بن هشام بن المغيرة لدَين له عليه .
وهكذا الذين يعلنون الحرب على النبوة والحق فانهم شديدوا الخوف ويغيبون عن اللقاء والنزال ، وجاءت الأخبار إلى مكة بهزيمة قريش وسقوط عدد من رجالاتها وفرسانها قتلى منهم في معركة بدر، وأول من دخل مكة الحيسمان بن أياس الخزاعي وأخذ يعدد قتلى قريش منهم ، عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة .
وأبو بكر بن هشام وأمية بن خلف ، وزمعة بن الأسود ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وأبو البختري بن هشام ، وكان صفوان بن أمية يسمعه وهو جالس عند حجر اسماعيل .
فقال : والله لن يعقل هذا ، لقد طار قلبه أي من الخوف ورؤيته المعركة وشدة القتال ولمعان السيوف ، ثم قال : فسلوه عني ، فقال أهل مكة للحيسمان (مَا فَعَلَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ ؟ قَالَ هَا هُوَ ذَاكَ جَالِسًا فِي الْحِجْرِ ، وَقَدْ وَاَللّهِ رَأَيْتُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ حِينَ قُتِلَا) ( ).
وقال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واسم أبي رافع إبراهيم ، وقال هرمز وكان عبداً قبطياً للعباس , فوهبه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، كنت علاماً للعباس بن عبد المطلب وكنت أعمل الأقداح في حجرة زمزم ، وقد سرنا الخبر فقتل طائفة من المشركين ، وجاء أبي لهب يجر رجليه حتى جلس على طنب الحجرة ، وكان ظهره إلى ظهري .
وبينما أبو لهب جالس إذ جاء أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وكان هو الآخر قبل إسلامه شديداً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال له أبو لهب : هلم إلي يا ابن أخي فعندك لعمري الخبر ، بلحاظ أن أبا سفيان حضر المعركة، وكان أقل رعباً ، لا ينادي بأسماء القتلى ، ولا تظهر عليه علامات يظنها المشركون من الهوس ورشحات الرعب لأنهم يتمنون ألا تكون أخبار هزيمتهم , وسقوط القتلى من كبرائهم صحيحة .
وعن ابن إسحاق (حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابن عَبّاسٍ ، قَالَ قَالَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُنْت غُلَامًا لِلْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَدْ دَخَلَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ ، فَأَسْلَمَ الْعَبّاسُ وَأَسْلَمَتْ أُمّ الْفَضْلِ وَأَسْلَمْتُ .
وَكَانَ الْعَبّاسُ يَهَابُ قَوْمَهُ وَيَكْرَهُ خِلَافَهُمْ وَكَانَ يَكْتُمُ إسْلَامَهُ وَكَانَ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ مُتَفَرّقٍ فِي قَوْمِهِ) ( ).
وكتب ابن اسحاق السيرة في كنف ورعاية أبي جعفر المنصور ، ثم أن العباس كان أسيراً عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر ، ولولا قرابته من رسول الله لقتله المسلمون .
وكان بامكانه ارسال بديل عنه إذ تخلف عدد من رجالات قريش وأرسلوا بدلاء عنكم فعل أبو لهب ، وعند العباس مال كثير اضطر لدفع بدل وعوض لفك أسره وأسر ابن أخيه عقيل بن أبي طالب ، ولم يذكر ابن هشام في كتابه العباس ضمن أسرى معركة بدر .
وأختلف في أوان إسلام العباس على وجوه :
الأول : أسلم في بدايات البعثة .
الثاني : أسلم ليلة هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة .
الثالث : أسلم العباس قبل معركة بدر ، وبه قال ابن أثير .
الرابع : أسلم بعد أسره في معركة بدر ، وحينما عاد إلى مكة استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة من المدينة ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره بالبقاء ، ثم كرر سؤاله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يأذن له بالهجرة .
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره بالبقاء ، ولا دليل على هذا الإستئذان وعدم سماح النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بالهجرة ، فاغلب الصحابة هاجروا من دون إذن خاص لوجود حث ودعوة للهجرة ، ووجود العباس في المدينة مهاجراً أحسن له وللمسلمين ، وقد هاجر العباس إلى المدينة قبل فتح مكة ، وشارك بمعركة حنين ولم يفارق النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
نعم كان بنو هاشم محل ريبة من قبل كفار قريش قبل وأثناء وبعد معركة بدر ، وكان يقولون لهم ان قلوبكم مع محمد ،
(ولما اسلم العباس بشر أبو رافع النبي صلى الله عليه وآله وسلم باسلامه فاعتقه ، فكان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ) ( ) وكان أبو رافع أيام واقعة بدر في مكة عبداً للعباس ، قبل أن يهبه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد أسلم فريق من المهاجرين والأنصار ، وتقدموا للقتال ، ومنهم من قتل ولم يذكره أحد ، أو اكتفى المؤرخون بذكر اسمائه فقط ، وقد جاهد نفر من أهل البيت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة وبعدها كالإمام علي عليه السلام وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب الذي أستشهد في معركة بدر .
الخامس : لم يسلم العباس حتى تم فتح خيبر ، ومنهم من أستدل على تقدم زمان اسلامه بأن أم الفضل اسلمت ، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينها وبين زوجها العباس ، لأن النبي فصل بين ابنته زينب وزوجها أبو العاصي ، ولكن لم يثبت اعلان أم الفضل اسلامها ولم تختر الهجرة إلى الله ورسوله .
والمختار أن العباس اسلم بعد صلح الحديبية , وقبل فتح مكة بمدة .
ولم يبق أبو لهب في الدنيا بعد معركة بدر إلا سبعة أيام حتى ابتلاء الله بمرض العدسة ، وهي قرصة يتشاءم منها العرب ، ويظنون أنها معدية ، فيتجنبون صاحبها ، فتباعد ابناء أبي لهب عنه ، ولما مات بقي بعد موته ثلاثة أيام لا يقرب أحد جثته ، فلما خافوا السبة والتعيير بتركه ، قاموا بدفعه بعصي في حفرته وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه .
ليكون سوء عاقبة أبي لهب ونفرة الناس منه حتى حين موته من مصاديق قوله تعالى [تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ] ( ) وفيه إنذار للذين كفروا بالكف والإمتناع عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد نزلت الآية أعلاه في مكة وقبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتلاها المسلمون في مكة وغادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة مهاجراً وأهل بيته وكبار أصحابه ، ولكن سورة المسد ومنها الآية أعلاه بقيت في مكة يتلوها المسلمون والمسلمات وغيرهم ، وانتقلت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة من غير أن تغادر مكة .
وهو من إعجاز القرآن ، إذ يغادر الأشخاص الموضع والبلدة ، فلا يعملون إلا في تلك البلاد والمواضع التي يذهبون إليها ، أما الآية القرآنية فانها تنتشر في الأمصار ، من غير أن تغادر البلد الذي كانت فيه ، ويكون أهل كل بلد متلقين لآيات القرآن وناقلين لها إلى غيرهم ، وهو من الإعجاز في وجوب قراءة كل مسلم ومسلمة لآيات القرآن في الصلاة اليومية ، ولزوم الجهر في أكثر هذه الصلوات ، إذ يجب على المسلم الجهر في كل من :
الأولى : صلاة الصبح ، وهي ركعتان .
الثانية : صلاة المغرب وهي ثلاث ركعات .
الثالثة : صلاة العشاء وهي أربع ركعات .
محاولات قتل النبي(ص)
تدل الوقائع التأريخية والسنة النبوية على سعي الكفار لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم , إذ كانوا يقصدون بهمهم ونواياهم التعدي منها إرادة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويمكن تقسيم هذا العزم من المشركين إلى قسمين :
الأول : محاولات إغتيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة , ومنها :
الأولى : قبل ولادة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعندما كان حملاً في بطن أمه للأخبار عند بعض الملبين بأن نبي آخر زمان قد ولد ، وأن علامات زمانه أطلت على الناس , مع وجود علامات خاصة في بدن وشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تدل على النبوة منها خاتم النبوة .
الثانية : عند ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تتجلى أمارات كونية تدل على ولادته .
الثالثة : عندما صار النبي صلى الله عليه وآله وسلم غلاماً يافعاً وتجلت علامات النبوة , وحرص أبو طالب وبني هاشم على حفظه وحراسته في الليل وفي النهار .(اخرج ابن عساكر في تاريخه عن جلهمة بن عرفطة قال : قدمت مكة وهم في قحط فقالت قريش يا أبا طالب اقحط الوادي وأجدب العيال فهلم واستسقِ فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء وحوله أغيلمة فأخذه ابو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ بإصبعه الغلام وما في السماء قزعة فأقبل السحاب من ها هنا وها هنا واغدق وأغدودق وانفجر له الوادي وأخصب البادي والنادي ففي ذلك يقول أبو طالب
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمةً وفواضل)( ).
الرابعة : عند إعلان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبوته , ودعوته الناس للإسلام .
الخامسة : عند أداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة في المسجد الحرام ، وقيام رجالات قريش بالتحريض عليه ، وتوليهم بأنفسهم إيذائه لاغراء الغلمان والصبيان به , مع تكرر هذه الحال والمحاولة .
وعن عبد الله بن مسعود (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلي ورهط من قريش جلوس وسلا جزورٍ قريب منهم فقالوا: مَنْ يأخذ هذا السلا فيلقيه على ظهره؟ .
فقال عقبة بن أبي معيط: أنا. فأخذه فألقاه على ظهره فلم يزل ساجداً حتى جاءت فاطمة فأخذته عن ظهره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” اللهم عليك بالملأِ من قريش، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة، اللهم عليك بشيبة بن ربيعة. اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، اللهم عليك بعقبة بن أبي معيط، اللهم عليك بأبي بن خلف ” أو أمية بن خلف .
فقال عبد الله: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعاً، ثم سحبوا إلى القليب غير أبي أو أمية فإنه كان رجلاً ضخماً فتقطع) ( ).
وصحيح أن كفار قريش لم يقصدوا قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساعتئذ لأنهم في البيت الحرام , ولواقية من عند الله عز وجل وخشيتهم الفتنة ، ولكن القاء رؤسائهم بعض أحشاء شاة مذبوحة عليه أثناء سجوده دعوة لعامتهم للبطش به .
السادسة : عند حصار كفار قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته في شعب أبي طالب .
وهل كانت قريش تمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته من دخول البيت الحرام مدة الحصار ، الجواب لا .
فليس لهم هذا ، ولكنهم كانوا يهمّون بقتل النبي حتى وهو في البيت .
ورآه عقبة بن أبي معيط يصلي في حجر الكعبة فوضع ثوبه على عنقه فخنقه خنقاً شديداً)( ).
وعقبة هذا من كبراء رجالات قريش ، وأصحاب الأموال فيها ، وكان سبب وموضوع إسلام عبد الله بن مسعود أنه يرعى غنماً لعقبة بن أبي معيط فمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وسأله لبناً فتجلت معجزة له .
وعن ابن مسعود (فقال لي: ” يا غلام، هل من لبنٍ ” ؟ فقلت: نعم، ولكنني مؤتمن. قال: ” فهل من شاةٍ حائلٍ لم ينز عليها الفحل ” ؟ فأتيته بشاةٍ فمسح ضرعها، فنزل لبن فحلبه في إناء وشرب وسقى أبا بكر ثم قال للضرع: ” اقلص فقلص ثم أتيته بعد هذا .
فقلت: يا رسول الله، علمني من هذا القول، فمسح رأسي، وقال: ” يرحمك الله، فإنك عليم معلم ” .
قال أبو عمر: ثم ضمه إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان يلج عليه ويلبسه نعليه ويمشي أمامه ويستره إذا اغتسل ويوقظه إذا نام. وقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” إذنك علي أن ترفع الحجاب، وأن تسمع سوادي حتى أنهاك ” ،وكان يعرف في الصحابة بصاحب السواد والسواك) ( ).
(واسم أبي معيط أبان بن أبي عمرو، واسم أبي عمرو ذكوان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف) ( ).
وكان عقبة يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة , ومرة بصق في وجهه وشتمه بأخبث ألفاظ الشتم والنبي بين أصحابه في البيت الحرام ، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم واكتفى بمسح وجهه من بزاقه ،ولكنه (قال : إن وجدتك خارجا من جبال مكة أضرب عنقك صبرا) ( ) .
وتلك معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكأنه يخبر قريشاً عامة وعقبة خاصة بوقوع الهجرة , وقيامهم بالهجوم في معركة بدر وأحد ، ويحذرهم من هذا الهجوم والخروج فيه ، أي أن إنذار النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعقبة بن أبي معيط رحمة به مع مجيئه في ساعة إيذائه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعندما تناجى رجالات قريش للخروج إلى معركة بدر ، أبى عقبة أن يخرج معهم خشية تحقق إنذار ووعيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم له ، فقال له أصحابه : لك جمل أحمر لا يدرك فلو كانت الهزيمة طرت ، فخرج معهم , ولكن عندما وقعت المعركة وانهزم المشركون وحلّت به راحلته .
(وفي حديث أَسْرِ عُقْبة بن أَبي مُعَيْط فوَحِل به فرسُه في جَدَدٍ من الأَرض والجَدَدُ ما استوى من الأَرض وواحَلَني فوحَلته أَحِلُه كنتُ أَخْوَضَ للوَحَل منه وواحَلَه فوَحَلَه والمَوْحِل الموضع الذي فيه الوَحَل) ( ).
والظاهر أنه ركب الفرس عند الفرار وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح بقتله ، وقيل قتله الإمام علي عليه السلام , فقال عقبة : يا محمد أتقتلني من بين هؤلاء ؟
قال : نعم بما بزقت في وجهي .
وقال : فمن للصبية يا محمد ؟
قال : النار .
ونزل قوله تعالى[وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً] ( ) .
السابعة : محاولة قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الهجرة إلى مكة ، وهي أظهر وأشد محاولات اغتياله ، واشترك في التخطيط لها ، وتنفيذها كبار رجال قريش وبصفة القبلية بأن يرشح فرد من كل قبيلة ، وأن الذي يرشحهم جميعاً هيئة من رؤساء قريش وليس ذات القبائل لإرادة اختيارهم وفق شرائط خاصة ، من الفتوة والقوة والبطش ، ومن أوسط بيوتهم وأبناء الرؤساء ، وممن ليس عنده إيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنتعرض له تفصيلاً ، لأن نجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلتئذ معجزة وحجة وبداية لتغيير التأريخ .
الثاني : محاولات إغتيال النبي بعد الهجرة , ونتعرض لها تفصيلاً إن شاء الله في جزء آخر , ودلالتها على عدم ترتب الغزو أو البطش من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسببها, إنما كان يصبر ويعفو ويشكر الله سبحانه, لتكون تلك المحاولات, وصدورها من الكفار والمنافقين , ونجاته منها معجزة له وسبيلاً لهداية الناس.
ومن معاني قوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ) أنه يتغشى عامة رجالات وأشراف قريش وهم أبناء عمومة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، كما تشتغل نساؤهم بالتجارة أيضاً ، ولكن بطريقة المضاربة ونحوها ، ويتجرن بارسال تجارتهن وأموالهن بواسطة رجال منهم أو غلمان عندهن ، وليكون هذا الأمر سبباً ومقدمة لزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من خديجة الكبرى , لتجلي مصاديق البركة والربح الوفير من عمله معها , وكان لها ولمالها موضوعية في ظهور نجم النبوة .
وأراد أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً أن يخرج إلى الشام للتجارة فتعلق به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان عمره اثنتي عشرة سنة ، وكان أبو طالب يحبه ويخشى عليه , ويرجو البركة فيه لتجارته وللقافلة فاصطحبه معه .
ولما وصلت القافلة إلى بصرى , وهي مدينة في أطراف الشام ، وكان فيها راهب في صومعة يسمى بحيرى ، وكان له علم بالتوراة ويرث عن علماء النصرانية كابراً عن كابر علماً لا يجعلونه يصل إلى عامة الناس ، ولا إلى أبنائهم أو الطلبة حديثي العهد بطلب العلم ، كيلا يطلبوا به الدنيا والتزلف إلى الملوك , وكان تجار قريش يمرون به ويعرفونه ولا يكلمهم لأنه منقطع في رهبانيته عن الناس .
ولكن حينما نزلوا قريباً من صومعته وبادر إلى صنع طعام كثير لهم عن شئ رآه وأحس به وهو في صومعته ، لقد أدرك أن أمراً خارقاً للمتعارف عند هؤلاء التجار يستحق العناية والإكرام والإجلال .
إذ رآى أن غمامة تظل شخصاً منهم ثم تابع تلك الغمامة ليتبين موضوعها وهل هي تتغشى فرداً واحداً أم أكثر , فنظر لها إذ وقفت على شجرة فتهصرت ومالت على صبي من بين أفراد القافلة استظل تحت تلك الشجرة وأدرك بحيري أن هذا الصبي جاء إلى هذا الموضع لأول مرة ، وهو ورؤيته وانتظار طلعته البهية علة إقامته في الصومعة , وتوارث الرهبان للإقامة فيها .
لقد أثار إستغرابهم ودهشتهم ما فعله بحيرى فلم يحدث أن رأوا راهباً في صومعة معزولة عن الناس يعتمد الكفاف والزهد ، ويقنع بالقليل من الزاد واللباس يطبخ الطعام الكثير ويقدمه إلى قافلة وتجار كثيراً ما مروا عليه في ذات الطريق فلم يكلمهم ولم يكلموه ، خاصة مع التباين في الملة والدين والبلد والسكنى ، ثم أرسل بحيرى إلى الرجال الموجودين في القافلة وأخبرهم بأنه صنع طعاما لهم ، ويجب أن يحضروا جميعاً كبيرهم وصغيرهم وحرهم وعبدهم ، لقد طلب حضور الصغار ويريد به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنه ذكره بصيغة الجمع لأمور :
الأول : التورية وإرادة علامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونجاته من المشركين .
الثاني : ذكر الصغار بصيغة الجمع لإكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمخاطبته بصيغة التفخيم والإكرام إذ يرون أنه صغير ولكنه ينظر له نبياً ورسول آخر الزمان .
لقد توارث الرهبان الإقامة في هذه الصومعة ولا يعلم الناس أنهم ينتظرون نبي آخر الزمان يمر على هذا الموضع ، وهو من مصاديق ثناء الله عز وجل على نفسه [بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ).
الثالث : المشاكلة بين لفظ الكبار ولفظ الصغار ، وذكر العبيد لإرادة العموم والتورية .
فتساءل رجال قريش عن سر هذه الدعوة .
فقال له أحدهم : والله يا بحيرى إن لك لشأناً اليوم .
وقد كنا نمر بك كثيراً ، فما تصنع بنا مثل الذي فعلته هذا اليوم ،أراد أن يستقرأ السر الذي دفع بحيرى لهذا الكرم , والفعل المخالف للعادة بالنسبة له .
فلجأ بحيرى إلى التورية وعدم التعجل في الأمر ، فقال : صدقت قد كان هذا ، ولكني أردت هذا اليوم إكرامكم كضيوف حللتم عندي بتجهيز طعامكم فتأكلون منه كلكم ، فأجابوا دعوته وحضروا عنده ، ولم يشكوا باحتمال أنه صنع لهم طعاماً مسموماً ونحوه ، إذ أن الإنقطاع إلى العبادة سبيل لبعث الأمن في النفوس .
وعندما حان وقت الغذاء توجهوا إليه واجتمعوا عنده ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تخلف في القافلة وبقي على رحال القوم لصغر سنه ، وبقي جالساً تحت الشجرة .
فنظر بحيرى فيهم فلم يرّ صفة الذي جاءت معه غمامة تظله الذي مالت إليه إغصان الشجرة التي اختار الرسول الجلوس تحتها ، فلم يذكر بحيرى ذات الموضوع على نحو التعيين ، إنما قال لهم :
يا معشر قريش أردت إكرامكم وأعددت لكم طعاماً كثيراً وأود أن يكون جمعكم قد حضر ولا أرض بتخلف أحد منكم عن طعامي لأن الدعوة لكم عامة تشمل كبيركم وصغيرهم .
فقالوا له : يا بحيرى دعوتنا فاجبنا دعوتك جميعاً ولم يتخلف منا إلا غلام حديث سنّ ، فتخلف في رحالنا ، قال بحيرى : ادعوه فليحضر معكم لهذه الوليمة ويأكل من طعامي .
عندئذ قال رجل من قريش كان معهم وآلات والعزى أن كان للؤم بنا أن يتخلف محمد بن عبد الله بن أبي طالب من بيننا عن طعام ودعوة عامة لنا .
كيف طوعت لنا أنفسنا أن نحضر بدونه ، فقام من بينهم واحتضنه وجاء به وأجلسه مع القوم ، ليتحقق لبحيرى ما يريده من إعداده للطعام الكثير بحضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يعلم رجالات قريش آنذاك أنه حدثت كرامة وإكرام خلاف العادة والعرف والمتبادر لهم ببركة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو لا يزال صغيراً , وفيه دعوة لهم للعناية به والحفاظ عليه .
والذب عنه والإيمان بنبوته عند بعثته فلما جلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم أخذ بحيرى يلحظه وينظر إليه بفراسة وتدبر ليرى صفات مكتوبة عندهم يتصف بها نبي آخر زمان ، ويجتهد أن لا يلتفت القوم إلى ما يخصه به من النظر بعد أن فطن إلى عدم حضوره , وأصر على إحضاره بحجة إرادة حضورهم جميعاً .
ولما فرغوا من طعامهم تفرقوا ، فاعترض بحيرى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وقال له : (يَا غُلَامُ أَسْأَلُك بِحَقّ اللّاتِي وَالْعُزّى إلّا مَا أَخْبَرْتَنِي عَمّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ وَإِنّمَا قَالَ لَهُ بَحِيرَى ذَلِكَ لِأَنّهُ سَمِعَ قَوْمَهُ يَحْلِفُونَ بِهِمَا)( ).
لقد أراد بحيرى إختباره بيمين المناشدة بالأصنام لأن قومه يقدسونها ويحلفون بها ، فهل محمد صلى الله عليه وآله وسلم على دين آبائه أم يختلف عنهم خصوصاً وأن بحيرى كان يسمع تجار قريش يحلفون باللات والعزى بحضور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند بعثته ، خاصة وأنهم أهل تجارة حضروا إلى بصرى والشام للبيع والشراء ، وتكون موضوعية الحلف في التجارة فيه في كل زمان ، وقد بينت في رسالتي العملية (الحجة) مسائل في اليمين والحلف :
(مسألة 1) يمكن تقسيم اليمين تقسيماً استقرائياً الى :
الأول: يمين العقد: وهي التي تقع تأكيداً وتحقيقاً لما بنى عليه الحالف والتزم به من ايقاع امر او تركه في المستقبل كقول : والله لأحجن، او لأتركن المزاح .
وهذا القسم هو العمدة في المقام فهو الذي ينعقد عند اجتماع الشرائط الآتية ويجب بره والوفاء به وكما ان حنثه لا يجوز فان الكفارة تقع فيه عند تحققه والحِنث – بالكسر – في اليمين: نقضها والنكث فيها وعدم الوفاء بموجبها.
الثاني: يمين المناشدة : وهي المتوجهة الى الغير لحثه على انجاح المقصود كما لو قلت لأخيك اسألك بالله ان تصل رحمك، وقد يكون سؤال الترك في المستقبل كما لو قلت له: اسألك بالله ان تترك التدخين، ويسمى السائل هنا الحالف والمقسم اما الذي يسأل , فيسمى المحلوف عليه .
وهذه اليمين لا تنعقد ولا يترتب على عدم الإمتثال والإلتزام بها إثم او كفارة لا على الحالف في احلافه ولا على المحلوف عليه في عدم انجاح مسؤوله , وعليه الإجماع وبعض الأخبار.
(مسألة 2) يكره رد السائل والحالف مع القدرة ولو على نحو الموجبة الجزئية والشيء اليسير خصوصاً ان كان متوسلاً بالله عزوجل واسمائه الحسنى وبما هو مقدس في الشريعة .
(مسألة 3) وكتب الأدعية مملوءة بهذا القسم من اليمين كصيغة مباركة من صيغ الدعاء.
الثالث: يمين اللغو: وهي التي ليس معها قصد وغاية منه سبق اللسان الى اليمين وجريان العادة مما لا يكون طريقاً لتثبيت امر أو نفيه كقول الشخص أثناء كلامه لا والله.
الرابع: اليمين الصادقة: وهي الحلف على الماضي والحال بصدق وحق سواء كان على نحو الإقرار او الشهادة او لفك خصومة ونحوها وليس فيها كفارة.
الخامس: اليمين الغموس: وهي الحلف على الماضي او الحال مع تعمد الكذب , وتضييع حق امرئ مسلم، سُميت بالغموس لأنها تغمس صاحبها في النار .
وفي بعض الأخبار انها من الكبائر وانها تدع الديار بلاقع.
(مسألة 4) لا تنعقد اليمين الا باللفظ أو ما يقوم مقامه كاشارة الأخرس، والأقوى عدم انعقادها بالكتابة لعدم كفاية الكتابة في الإنشـائيات مع ما للكتابة من موضوعية في هذا الزمان.
(مسألة 5) تصح اليمين في أية لغة كانت خصوصاً في متعلقها وموضوعها.
(مسألة 6) لا تنعقد اليمين الا اذا كان المقسم به هو الله عز وجل سواء بذكر اسم الجلالة او الأسماء الحسنى او الأوصاف الخاصة به التي لا يشاركه فيها غيره سبحانه كقول الحالف و[رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( )، والذي[يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ]( ).
وتصدق ايضاً بالأفعال المشتركة التي تطلق في حقه تعالى في الغالب وان صحت في حق غيره من مخلوقاته ولكن اطلاقها ينصرف اليه سبحانه بالتبادر والعرف كالرب والرحيم اذ ان استعمالها في غيره يحتاج الى قرينة ومؤونة زائدة ولو حلف بالمشترك مثل: الموجود الحي السميع , فان نوى ذاته المقدســة انعقد اليمين اذا كان في يمين العقد خصوصاً مع القرينة الدالة على الإختصاص , أما لو كانت اليمين متعلقة بحق الغير , فالأولى اجتنابها للزوم البيان والوضوح , وعد ماللبس والترديد .
(مسألة 7) اليمين الشرعية أعم مما ذهب اليه أهل اللغة باختصاص التاء من حــروف القسم تالله، بالدخول على لفظ الجلالة والواو على الأسماء الظاهرة جميعها، والباء وهي الأصل فتدخل على الظاهر والمضمر، ولو أنشأ اليمين بصيغة القسم والحلف أقسمت بالله او حلفت بالله صح، نعم لا يكفي لفظ أقسمت او حلفت بدون لفظ الجلالة وما هو بمنزلته.
(مسألة 8) موضوعية قصد القربة في اليمين , أي ان المراد بها وجه الله وهو ظاهر في الصيغة لأن الحلف به تعالى , وليس القربة هنا غاية لليمين او النذر والأقوى أن الرياء لا يفسدها.
(مسألة 9) لا تنعقد اليمين بالحلف بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والأئمة عليهم السلام وسائر النفوس المقدسة المعظمة ولا بالقرآن الكريم والكعبة المشرفة وغيرها من المواضع الشريفة المباركة وعليه النص والإجماع.
(مسألة 10) لا تنعقد اليمين بالطلاق والعتاق بان يقول: زوجتي طالق ان فعلــت كذا فلا يحصــل الطلاق بحنــث هذا اليمين ولا تترتب عليه كفارة.
(مسألة 11) لا يجوز الحلف بالبراءة من الإسلام او من النبي صلى الله عليه وآله وسلم , كما لو قال: برئت من دين الإسلام ان فعلت كذا او ان لم افعل كذا , وصاحبه يؤثم سواء كان صادقاً او كاذباً حنث او لم يحنث وان لم تكن في حنثه كفارة لأنه حرام في نفسه، نعم عليه الإستغفار وتستحب الكفارة إطعام عشرة مساكين.
(مسألة 12) لو علق اليمــين على مشــيئة الله بان قال: والله لأفعلن كذا ان شاء الله لا تنعقد اليمين ولا حنث الا ان يكون ذكر المشيئة للتبرك.
(مسألة 13) لو قرن انعقاد يمينه بامضاء غيره كما لو قال والله لأعتمرن هذا الشهر ان رضي أبي فان رضي أبوه انعقد يمينه وتحقق الحنث بترك العمرة في ذلك الشهر، وان قال الأب لا ارضى لم تنعقد يمينه وكذا لو لم يعلم هل الأب رضي ام لا حتى انقضى الشهر، ولا ينتقل متعلق اليمين الى الشهر اللاحق.
(مسألة 14) يشترط في الحالف البلوغ والعقل والإختيار والقصد فلا تنعقد يمين الصغير والمجنون مطبقاً او ادواراً في دور جنونه , ولا المكره ولا السكران بل ولا الغضبان في شدة الغضب السالب للقصد وسلامة النية وكذا لا يصح من المحجور فيما حجر عليه.
لقد جاءت مناشدة بحيرى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم باللات والعزى باطلة من أصلها ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يهمل سؤاله ، ولم يعرض عنه إنما قال له : ( لا تسألني باللات والعزى شيئاً , فوالله مالا أبغضت شيئاً قط بغضهما ) ( ).
إنها كلمة تهيج الرجال من قريش عليه ، وتجعلهم ينفرون منه ويغلظون معه في الكلام والمعاملة خاصة وأنه صغير بينهم وفي حال السفر التي تلزم المصاحبة المتصلة ، وقرب النبي منهم في الليل والنهار ، نعم وجود أبي طالب معهم يقلل من حدة هذه النفرة وما يترشح عنها ، ويخفف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذاهم دون أن يمنع لغة الإشارة والتعريض والنظر إليه بشزر.
فعلم بحيرى مسألة من مسائل النبوة ، وهي إمتناع النبي عما عليه أهل زمانه من مفاهيم الكفر والضلالة ، وأنه لا يمكن لصبي عمره اثنتا عشرة سنة أن يتحدى قومه بالإمتناع عما يجتمعون عليه في الليل والنهار من مفاهيم متوارثة يحسبونها جزءً من حياتهم اليومية , وتراثهم يضاف إليه إكرام الناس لهم على ما هم عليه من هذه العادات والمفاهيم ، وان كان إكرام الناس هذا عن أمر آخر كما في إكرام الناس لقريش الذي كان عن أمور زاكية :
الأول : جوار البيت الحرام .
الثاني : سدانة البيت .
الثالث : عمارة البيت الحرام .
الرابع : انجذاب النفوس للبيت الحرام وما يتعلق به بالفطرة , وهو أمر ظاهر في كل زمان بمعزل عن التشابه في الملة والدين أو التباين فيه ، وهو المستقرأ من الجمع والتفريق بين قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ) وقوله تعالى [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ] ( ).
ولم تقيد الآية أعلاه ميل نفوس شطر من الناس إليهم بالإيمان عند المحب من الناس والمحبوب من ذريته الذين صاروا يقيمون في مكة المكرمة عند البيت الحرام بينما تجلى هذا القيد في الرزق في قوله تعالى[وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً]( ).
وقيل جاء هذا التخصيص بعد أن أخبر الله عز وجل إبراهيم بوجود ظالمين في ذريته وأنهم لا يستحقون توالي النعم ، كما في قوله تعالى[وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]( ) ليكون من قوانين النبوة توجه دعاء النبي بما يبينه له الله عز وجل من الأحوال .
والمختار أن المعنى في إطلاق ميل النفوس لأهل الحرم وتقييده في الرزق أعم في مضمونه وحكمه ودلالته ، إذ يكون ميل النفوس إليهم مترشحاً عن جوار البيت الحرام وهو من مصاديق البركة التي جعلها الله عز وجل في البيت وما حوله ، وأما التقييد في الرزق فكيلا يسخّر الذين كفروا النعم والرزق الكريم في معصية الله , قال تعالى[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ]( ).
كما أن إبراهيم لم يسأل حجب الرزق الكريم عن ذريته وأهل الحرم من أهل الضلالة والكفر ، إنما سأل توالي الرزق الكريم لخصوص المؤمنين، واثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، فيأتي الرزق لعامة ذرية إبراهيم ومن معهم من أهل الحرم بفضل من الله عز وجل ، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ *إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) فيأتي الرزق لعامة قريش ولكن استدامته تتقوم بالإيمان والتقوى ، قال تعالى [وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ ] ( ) .
ومن فضل الله عز وجل عليهم أن الله عز وجل يصرف عنهم الشر والبلاء لينعموا بجوار البيت والثروة والمال والجاه والطيبات كما في الجمع بين سورة الفيل وسورة قريش أعلاه بقوله تعالى [فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ]( )[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ]( )، فكان هلاك أبرهة وأصحابه نوع طريق لإزدهار تجارة قريش ، ومقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وعن (أُمّ هانئ بنت أبي طالب قالت : إن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم قال : فضَّل اللّه قريشاً بسبع خصال لم يعطها أحداً قبلهم،
ولا يعطاها أحداً بعدهم : فضلَّ اللّه قريشاً أني منهم،
وأنّ النبوة فيهم وأنّ الحجابة فيهم،
والسقاية فيهم،
ونصرهم على الفيل،
وعبدوا اللّه سبحانه عشرين سنة لا يعبدهُ غيرهم،
وأنزل اللّه سبحانه فيهم سورة لم يذكر فيها أحدٌ غيرهم) ( ).
وقيل اللام للتعجب : أي عجباً لإيلاف قريش رحلتهم في الشتاء والصيف وتركهم عبادة رب هذا البيت ، واللام في لإيلاف لام التعليل وتقدير الجمع بين الآيتين : فجعلهم كعصف مأكول ليؤلف قريشاً ).
ليدوم شأنهم ومنزلتهم عند العرب وتجارتهم بين مكة والشام ، وبين مكة واليمن ، وبينهما أي بين اليمن والشام من غير واسطة مرور قوافل قريش على مكة للقيام بنقل البضائع والتجارات بالإبل والقوافل بين الشرق والغرب عبر الصحراء بعد أن تعطل طريق الحرير بين العراق والشام للحرب التي وقعت بين الدولة الفارسية والدولة الرومانية .
والغريب أن الملوك والرؤساء يتخذون قرار الحرب وهم يعلمون أنه سبب لتعطيل المكاسب والأرزاق والزراعات وزهوق النفوس بانخزال الأموال والشلل في المهن والحرف ، وكساد التجارات ، ولكنهم يدركونه يوماً بعد يوم في استدامة الحرب حتى يصير كل واحد منهم يميل إلى وقفها ويتمنى لو لم تكن تلك الحرب .
وهو من أسرار الخلافة في الأرض وصدق احتجاج الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( )ومن رد الله عز وجل عليهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) إحساس الملوك والملأ والناس بالندامة لوقوع القتال وصرف أكثر الحروب والمنع من وقوعها مع قصد الناس إليها .
فان قلت قد وقعت معارك في أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الجواب هذا صحيح ، ولكن فيه مسائل :
الأولى : لم يسع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى القتال ونشوب المعارك مع أن حمل الكفار على الإيمان طوعاً أو كرهاً حق لأمور :
الأول : إرادة الإعانة في تحقيق علة خلق الإنسان بقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
الثاني : جذب الناس إلى ما فيه خيرهم ونفعهم من ارتكاب المعاصي والسيئات .
الثالث : منع سيادة مفاهيم الكفر وطغيان المفسدين في الأرض ، إذ أن الكفر رأس الكبائر .
فمن يختاره ويتلبس به لا يمتنع عن أرتكاب المعاصي والسيئات.
الرابع : إزاحة الموانع التي تحول دون هداية الناس وإيمانهم ، وقد تجلت شواهد كثيرة بخصوص أثر وضرر صدّ رؤساء الكفر الناس عن الإسلام .
فعندما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو القبائل في موسم الحج إلى الإسلام كان أقطاب من مشركي قريش يصدون الناس عنه وينعتونه بالكذب والجنون .
وعن (محمد بن المنكدر أنه سمع ربيعة بن عباد أو عياد الدؤلى يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطوف على الناس في منازلهم قبل أن يهاجر إلى المدينة يقول يأيها الناس إن الله يأمركم ان تعبدوه ولا تشركوا به شيئا قال : ووراءه رجل يقول يأيها الناس إن هذا يأمركم أن تتركوا دين آبائكم فسألت من
هذا الرجل فقيل أبو لهب) ( ).
الخامس : نزول الأمر الإلهي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالجهاد في سبيل الله ، وبيان عظيم الأجر والثواب لمن يجاهد ومن يقتل في سبيل الله .
ومن إعجاز القرآن عدم ذكر ثواب من يقتل كافراً وأن كان هذا القتل دفاعاً ، بينما ذكر ثواب الذي يُقتل في الطاعة والصبر والجهاد في سبيل الله، قال تعالى[وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ) وفيه نكتة وهي أن القرآن والسنة يثبتان مفاهيم السلم الأهلي بالصبر والتضحية والفداء .
السادس : إخبار القرآن عن قتال الأنبياء وأنصارهم في سبيل الله ، قال تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ).
بحث في [وَكَأَيِّنْ]
هل يدل قوله تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ]( ) على قتال الأنبياء جميعاً , الجواب لا ، وهو الظاهر من قوله تعالى[وَكَأَيِّنْ] والذي يدل بالدلالة التضمنية على وجوه:
الأول : قتال شطر من الأنبياء , وليس كل الأنبياء وتدل عليه السنة النبوية وقصص الأنبياء ، فلم يقاتل نوح أو إبراهيم أو موسى أو عيسى وهم الرسل أولي العزم والخامس هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان إنحصار القتال في المعارك بالنسبة للرسل الخمسة أولي العزم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكان قتاله دفاعياً وبمقدار الحاجة والضرورة .
فلا يبدأ النبي صلى اله عليه وآله وسلم القتال مع جيش المشركين ، بل يقوم بدفع القتال والمبارزة بما يجعل الفريقين وأجيال الناس يعلمون بهذا القانون .
وهل عدم غزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم لغرض القتال سبب في دخول طائفة منهم الإسلام , الجواب نعم، وقد إنتظرت مدن وقبائل غزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم , ولكنه لم يغزهم إنما غزت آيات القرآن قلوبهم وإستولت على منتدياتهم وصاروا معها مقرين بلزوم دخول الإسلام .
ليكون من إعجاز القرآن الغيري سفَر الآية إلى القبائل والمدن لتأتي بهم إلى المدينة مسلمين، وهو من مصاديق إمامة القرآن في سبل الخير والصلاح قال تعالى[يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ]( ).
ومن الإعجاز أنهم جميعاً شهود على التأريخ، ويكون من المتسالم بين الناس أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد القتال ، ولم يرغب فيه ولم يدع إليه ، وإنما كان يدافع عن ملة التوحيد والنبوة والتنزيل .
الثاني : في [وَكَأَيِّنْ] التي ابتدأت بها الآية أعلاه من سورة آل عمران أربع لغات :
الأولى : كأين على وزن كاعِين بكسر العين ، وهذه الصيغة وردت أكثر من غيرها في أشعار العرب ، ومنه قول جرير :
(وكائنْ بالأباطِحِ منْ صديقٍ … يراني لو أُصبتُ هو المُصابا) ( ).
أي أن هذا الصديق يرى كأنه المصاب ونزل به ذات البلاء الذي نزل بي.
الثانية : كأينّ : بالتشديد والتخفيف ، كما في قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا] ( ) أي وكم من قرية .
الثالثة : جاءت قراءة القراء السبعة بـ(كأين) باستثناء ابن كثير الذي قرأها كايِن على وزن كاعِن .
الرابعة : كأين كلمة مركبة من كاف التشبيه و[أي ] المنونة إذ دخلت كاف التشبيه على أي كالتي دخلت على (ذا) فتقول كذا وكذا وصارت[وَكَأَيِّنْ] بمعنى (كم) التي تفيد التكثير ، كما في قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ]( ).
الثالث : من معاني التكثير المقصود في الآية أي أن أنبياء كثيرين قاتلوا هم وأصحابهم في سبيل الله من غير أن يضعفوا أو يهنوا أو يجبنوا , وفيه مسائل :
الأولى : بعث الهمّة في نفوس المسلمين.
الثانية : ترغيب المسلمين بالدفاع والمرابطة.
الثالثة : زجر المنافقين عن بث الأراجيف بأن النبي محمداً يسعى للقتال أو يطلبه.
الرابعة : تأديب المسلمين بعدم الإلحاح على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصلح الذي فيه ذلة وأذى للإسلام، قال تعالى[فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ]( ).
الخامسة : الدفاع عن ملة التوحيد والنفوس من منهاج الأنبياء، وهو مصاحب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بسبب إصرار الذين كفروا على الجحود، وإشهارهم السيف لمنع إستحواذ الدعوة إلى الله على القلوب.
السادسة : من الإعجاز الغيري للآية (كأين من نبي ) المدد من سيرة الأنبياء للمسلمين في صبرهم ودفاعهم، وهذا المدد من أسباب تفقه المسلمين, ومن مصاديق الحسن في قوله تعالى[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ]( ).
السابعة : المنع من إصابة المسلمين بالملل والسأم من القتال خاصة وأنه مكروه بذاته , وهذه الكراهية سبب لسرعة دبيب الملل منه , من الناس جميعاً , ولكن المؤمن يستعين بالصبر , ويرجو الأجر والثواب .
الثامنة : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا لدلالة الآية بالدلالة التضمنية على رسالة مفادها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يقاتلون في سبيل الله من غير خوف أو خور أو جبن، وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ…]( ).
الرابع : إفادة معنى السؤال من [َكَأَيِّنْ] كما في سؤال أبي بن كعب لابن مسعود : كأين تقرأ سورة الأحزاب أي كم آية تقرأ سورة الأحزاب
فأجاب : ثلاث وسبعون آية( ) .
وإستدل بهذا الخبر ابن مالك على احتسابها للإستفهام وورد في خبر(كيف) بدل(كأين) و(عن عاصم عن زر قال قال أبي بن كعب كيف تقرأ سورة الأحزاب قلت سبعين أو إحدى وسبعين آية قال والذي أحلف به لقد نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم وإنها لتعادل البقرة أو تزيد عليها)( ) .
واستعمال [َكَأَيِّنْ] للإستفهام أمر نادر ، نعم توافق َكَأَيِّنْ في أمور :
أولاً : البناء .
ثانياً : الإبهام.
ثالثاً : الحاجة إلى المميز .
رابعاً : إفادة التكثير.
خامساً : التصدير .
بينما لا تلزم (كذا ) المركبة من كاف التشبيه ، وذا الإشارة التصدير، فتقول قرآت كذا وكذا وليس في القرآن لفظ(كذا) وتختلف[َكَأَيِّنْ] مع(كم) في أمور :
أولاً : وكأين مركبة من كاف التشبيه و(أي) المنونة لذا جاز الوقوف عليها ، لأنها أشبه بالنون الأصلية، أما(كم) فهي بسيطة.
ثانياً : ورود تمييز[َكَأَيِّنْ ] مجروراً في الغالب ،وقيل هذا الشرط لازم.
ثالثاً : لا تقع [َكَأَيِّنْ] مجرورة ، وقيل بالجواز كما لو قيل : بكائن تختم القرآن .
رابعاً : لا يقع مميز[َكَأَيِّنْ]إلا مفرداً .
خامساً : عدم وقوع [َكَأَيِّنْ] استفهامية , على المشهور شهرة عظيمة.
الخامس : لقد أخبر الله عز وجل عن مجئ أحسن القصص في القرآن كما في قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ]( ).
فهل ذكر قتال كثير من الأنبياء من أحسن القصص، الجواب نعم ، لعدم إنحصار[أَحْسَنَ الْقَصَصِ] في باب القضية الشخصية، ويكون من وجوه الحسن في المقام صيرورة الآية مدداً وعوناً للمسلمين كما تقدم، وحصانة من دبيب النفاق وأسباب الشك، وذات الإخبار عن قتال الأنبياء حسن بالذات.
لقد كان عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرين ألف نبي، ويحتمل عدد الذين قاتلوا منهم وجوهاً :
الأول : أكثر الأنبياء قاتلوا في سبيل الله .
الثاني : العدد الأقل من الأنبياء قاتلوا .
الثالث : نسبة التساوي بين عدد الأنبياء الذين قاتلوا في سبيل الله والأنبياء الذين لم يقاتلوا في سبيل الله .
والمختار هو الثاني أعلاه، فالمراد من التكثير في قوله تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ]( ) إنما الكثرة الذاتية في عدد الأنبياء وعظمة الأمر عند الله ، وليس المراد الكثرة من مجموع عدد الأنبياء أعلاه .
ومن الإعجاز في قوله تعالى[وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ]( ) أنها من سورة المنافقين ونزلت في ذمهم وكانت أسباب نزولها متأخرة زماناً عن واقعة أحد ، وخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى حمراء الأسد ، ولكن المنافقين لا يفقهون [هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ) .
ويكون من الإعجاز في بيان وتفسير السنة النبوية للآية القرآنية تعيين وضبط أوان نزولها ، إنما هو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) .
السنة النبوية مقدمة لنزول الآية القرآنية
وهو علم جديد تستقرأ فيه السنة النبوية بلحاظ تأريخها وسبقها لأوان نزول الآية القرآنية مع إتحاد الموضوع وكشف السنة البياني للآية القرآنية ليكون من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القول أو الفعل بمضامين الآية القرآنية قبل نزولها ، وتكون السنة النبوية بلحاظ تفسيرها للقرآن على وجوه:
الأول : السنة النبوية التي تسبق نزول الآية القرآنية .
الثاني : السنة النبوية المصاحبة لنزول الآية القرآنية .
الثالث : القول أو الفعل النبوي المفسر لآية قرآنية مخصوصة , والمتأخر زماناً على نزولها .
لقد أراد الله عز وجل للسنة النبوية أن تكون المصدر الثاني للتشريع ، وجاءت بياناً وتفسيراً للقرآن ، وقد يصدر القول والحكم من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم تأتي الآية القرآنية في ذات الموضوع لتكون منافعها على وجوه :
الأول : موافقة الآية القرآنية لحكم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إرادة إتحاد جهة الصدور بين القرآن والسنة ، فكل منهما نازل من عند الله عز وجل ، مع التباين الرتبي , وإرتقاء القرآن إلى منزلة لم تبلغها الكتب السماوية السابقة ، قال تعالى [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ] ( ) .
وتوجه الخطاب في الآية أعلاه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيان صبغة القدسية لنزول القرآن بأنه صدق وحق وحاجة للناس جميعاً ، مع اتصاف القرآن بأنه شاهد صدق على نزول الكتب السماوية السابقة ، وفيصل لبيان ما طرأ عليها من تغيير أو تبديل , وهو برزخ دون تجدد التحريف فيها .
فالقرآن أمين عليها يشترك هو والمسلمون بحفظها لتلاوة المسلمين لآيات القرآن خمس مرات في اليوم , وتعاهدهم لها .
وهو من الإعجاز في عمومات قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ).
الثالث : تأكيد قانون وهو عدم التعارض بين القرآن والسنة .
الرابع : بيان مصداق وشاهد لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه يتكلم ويفعل عن الوحي .
الخامس : بعث أهل البيت والصحابة إلى انتظار الآية القرآنية المناسبة للقول والفعل الصادرين عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،ويمكن تقسيم السنة النبوية إلى أقسام :
الأول : السنة التي تقدمتها آية أو آيات .
الثاني : السنة التي تترشح عن كل آية قرآنية .
الثالث : السنة النبوية القولية والفعلية التي تلحق بها آية قرآنية .
ومن خصائص تقسيم السنة النبوية وفق هذا المنهاج بيان ضروب الحكمة في الصلة بين القرآن والسنة ، كما أنه يكون فرع علم أعم وهو الملائمة والمناسبة بين القرآن والسنة النبوية ، وعدم وجود تعارض بينهما .
ولا يعني هذا العلم أن كل حديث وفعل نبوي مقدمة لآية قرآنية ، فأكثر الأحاديث النبوية بيان وتفسير لآيات القرآن ولكن من السنة القولية والفعلية ما يكون توطئة وتهيئة للأذهان لنزول الآية القرآنية وإدراك مضامينها والتفقه في المسائل والأحكام التي وردت فيها .
الهجرة الأولى إلى الحبشة
لقد خرج المهاجرون إلى الحبشة في الهجرة الأولى دفعة واحدة ، وتحتمل كيفية وابتدأء موضوع الهجرة إلى الحبشة وجوهاً :
الأول : حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم طائفة من أصحابه للهجرة مع تعيين محلها , وأنها إلى الحبشة وبيان علة هذا التعيين والأختيار .
الثاني : مبادرة بعض المؤمنين إلى الهجرة لسلامة دينهم وخشية الفتنة .
الثالث : رؤية بعض الصحابة كيف أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يحميه ويدفع عنه عمه ابو طالب .
وعن أم سلمة قالت (لما ضاقت مكة وأوذى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله في منعة من قومه ومن عمه، لا يصل إليه شئ مما يكره ومما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه “.
فخرجنا إليها أرسالا، حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار آمنين على ديننا، ولم نخش فيها ظلما.
فلما رأت قريش أنا قد أصبنا دارا وأمنا غاروا منا، فاجتمعوا على أن يبعثوا إلى النجاشي فينا ليخرجنا من بلاده وليردنا عليهم) ( ) .
وظاهر كلام أم سلمة الجمع بين الهجرتين , وهل تقسيم الهجرة إلى الأولى والثانية تقسيم استقرائي أم أنه واقعي , الجواب هو الثاني .
لقد خرج المسلمون في الهجرة الأولى متسللين ، منهم الراكب على جمل ، ومنهم الماشي على قدميه إلى أن انتهوا إلى ميناء الشيبة على بحر القلزم وهو البحر الأحمر .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وطريق الهجرة أنهم وجدوا سفينتين تريدان الإقلاع إلى الحبشة سواء ركبوا معهم أو لم يركبوا فحملوهم معهم ، مقابل نصف دينار أجرة كل واحد منهم واختلف في عددهم منهم من قال أنهم أحد عشر رجلاً وأربع نسوة ، ومنهم من قال أنه عشر رجال وثلاث نسوة .
وجاء رجال قريش خلفهم متعقبين أثرهم لإرجاعهم إلى مكة مقهورين، ولكنهم وجدوهم قد غادروا ، وكان أهل الحبشة يعرفون أهل مكة وأسواقها الزاهرة .
إذ يأتي التجار منها إلى الحبشة للتسوق والشراء ، كما كانوا يتذكرون واقعة الفيل ، وكيف أن الله حفظ البيت الحرام بآية وآفة سماوية حلت بأبرهة وجنوده .
ويدين أهل الحبشة آنذاك بالنصرانية ويجتنبون القتل والبطش ، ولكن هؤلاء المهاجرين لم يقيموا في الحبشة إلا ثلاثة أشهر حيث سمى إلى علمهم أن قريشاً دخلت الإسلام ، وأنهم كفوا عن إيذاء وفتنة المسلمين ، فعاد أكثرهم إلى مكة ، ولكنهم وجدوا الحال على ما هي عليه مع إزدياد إيذاء قريش للمسلمين ، فعزموا هم وعدد آخر من الصحابة على الهجرة إلى الحبشة ، والذين خرجوا في الهجرة الأولى هم .
(من بنى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف عثمان بن عفان بن أبي العاص ابن أمية؛ ومعه امرأته رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن بنى عبد شمس أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو؛ أحد بنى عامر بن لؤي ؛، ومن بنى أسد بن عبد العزى بن قصي الزبير بن العوام.
فعد النفر الذين ذكرهم الواقدي؛ غير أنه قال: من بنى عامر بن لؤي ابن غالب بن فهر أبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، ويقال: بل أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل ابن عامر بن لؤي. قال: ويقال: هو أول من قدمها، فجعلهم ابن إسحاق عشرة؛ وقال: كان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة) ( ).
الهجرة الثانية إلى الحبشة
لقد كانت الهجرة الأولى إلى الحبشة نوع سفارة وطليعة إذ اطمئن منها المسلمون إلى حقيقة وهي حسن معاملة أهل الحبشة للمسلمين وعدم إكراههم على ترك الإسلام وعدم إيذائهم لإنتمائهم للإسلام لأن أهل الحبشة كانوا على دين النصرانية ، وكان عندهم ملك عادل لا يرضى بظلم أحد في ملكه .
ورآى المسلمون كيف اشتد حصار قريش على بني هاشم في شعب أبي طالب وإيذائهم للمسلمين مجتمعين ومتفرقين .
فخرجوا إلى الحبشة ولكن لم يخرجوا دفعة واحدة أو في شهر أو سنة واحدة ، إنما كان خروجهم تباعاً .
ومن مقدمات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم التي أسسها نبي إبراهيم بوحي من عند الله أمور :
الأول : أنه قبل أن يسكن إسماعيل وأمه عند البيت الحرام.
الثاني : إنه عند جعل إسماعيل وأمه عند البيت الحرام وهو على شعب:
الأولى : سماع إسماعيل وأمه لدعاء إبراهيم لبعث السكينة في نفسيهما.
الثانية : لم يسمع إسماعيل وأمه دعاء إبراهيم.
الثالث : جاء دعاء إبراهيم بعد مغادرته البيت الجرام وإسماعيل وأمه.
والصحيح هو الأخير
وعن ابن عباس قال : إنّ أول من سعى بالصفا والمروة هاجر أُم إسماعيل، وإنّ أول ما أحدثت جّر الذيول لهي ، وذلك أنها لما فرت من ساره فأرخت من ذيلها ليعفى أثرها ، فجاء بها إبراهيم ومعها ابنها إسماعيل حتى انتهى بهما إلى موضع البيت فوضعهما ثم رجع فأثبتته.
فقالت : إلى من تكلنا،
فجعل لا يرد عليها شيئاً،
فقالت : الله أمرك بهذا؟
قال : نعم. قالت : إذاً لا يضيعنا،
فرجعت ومضى (إبراهيم) حتى إذا كان على ثنية كداء أقبل على الوادي. فقال : {رَّبَّنَآ إِنِّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ}( ) الآية.
ومع الإنسانة شنّة فيها ماء فنفذ الماء فعطشت فانقطع لبنها فعطش الصبي،
فنظرت إلى الجبال أدنى من الأرض فصعدت الصفا فتسمّعت هل تسمع صوتاً أو ترى أنيساً فلم تسمع شيئاً فانحدرت فلما نزلت على الوادي سعت , وما تريد السعي كالإنسان المجهود الذي يسعى وما يريد بذلك السعي،
فنظرت أيُّ الجبال أدنى من الأرض فصعدت المروة فتسمّعت هل تسمع صوتاً أو ترى أنيساً،
فسمعت صوتاً،
فقالت كالإنسان الذي يكذب سمعه : صه حتى استيقنت،
فقالت : قد أسمعتني صوتك فأغثني فقد هلكت وهلك من معي،
فإذا هو الملك فجاء بها حتى انتهى بها إلى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عيناً فعجلت الإنسانة فجعلت تفرغ في شنتها،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرحم الله أُم إسماعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عيناً معيناً، أي لاستمرت تفور بالماء على ما حولها من الأرض .
وقال لها الملك : لا تخافي الضمأ على أهل هذا البلد فإنما هي عين لشرب ضيفان الله .
وقال : إن أبا هذا الغلام سيجيء فيبنيان لله بيتاً هذا موضعه. قال : ومرت رفقة من جرهم تريد الشام فرأوا الطير على الجبل وقال : إن هذا الطير لعائف على ماء فأشرفوا فاذا هم بالإنسانة فأتوا هاجر , وقالوا إن شئت كنا معك وآنسناكِ والماء ماؤك .
فأذنت لهم فنزلوا معها وكانوا هناك حتى شبّ إسماعيل وماتت هاجر فتزوج إسماعيل امرأة من جرهم فاستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل ( ).
لقد لاقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأذى الشديد من قريش إلى جانب دلالة هذا الأذى على إصرارهم على عبادة الأوثان والجحود بنبوته وإمتناعهم عن الإنصات لآيات القرآن .
لقد كان نوح عليه السلام أطول الأنبياء عمراً ومع استمرار دعوته فان الملأ من قومه جحدوا برسالته واستخفوا به وبمن آمن بنبوته ، وورد حكاية عنهم في التنزيل [وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ] ( )[قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ]( ).
لقد كانت رسالة نوح جلية وواضحة ، إذ أنه يدعو إلى التوحيد ونبذ عبادة وتقديس الأصنام إلا أن قومه تناجوا بتعاهد الشرك ومفاهيم الكفر ، إذ ورد في التنزيل [وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا] ( ) وبقي نوح يدعو قومه إلى الإيمان ما يقرب من ألف سنة ، ولكنهم بقوا على حال الكفر مع الإستهزاء به وإيذائه .
وقد ورد (عن عبيد بن عمير قال : إن كان نوح ليضربه قومه حتى يغمى عليه ، ثم يفيق فيقول : اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وقال شقيق : قال عبد الله : لقد رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يحكي نبياً من الأنبياء وهو يقول : اللهمَّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون)( ).
وعبيد بن عمير من التابعين من أهل مكة ، وكان يعظ الناس (عن ثابت قال أول من قص عبيد بن عمير على عهد عمر بن الخطاب) ( ).
وكان عبيد يقص في مكة وليس في المدينة ، وتوفى سنة أربع وسبعين للهجرة .
وقد تؤدي كثرة القص وذكر الروايات إلى عدم التقيد بجهة الصدور ودقة الخبر .
كما ورد عن عكرمة وهو من التابعين قال (كان قوم نوح يخنقونه حتى تترقى عيناه ، فإذا تركوه قال : اللهمَّ اغفر لقومي فإنهم جهلة) ( ).
وورد قريب منه عن مجاهد ، وهو من التابعين أيضاً .
ولكن آيات القرآن والأحاديث النبوية تبين استهزاء قوم نوح به ، وإمتناعهم عن الإستجابة لدعوته بالإستغفار والتدارك لنزول البركة ، والتوقي من البلاء والهلاك بالطوفان ، وفي التنزيل حكاية عنه [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا( ).
نعم ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على إيذاء قوم لنبيهم من غير أن يذكر اسمه ، إذ ورد عن عبد الله بن مسعود قال (كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يحكي نبياً من الأنبياء قد ضربه قومه وهو يمسح الدم عن جبينه ويقول : اللهمَّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ( ).
وظاهر كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يقصد نوحاً عليه السلام في كلامه .
لقد أصرّ قوم نوح على الكفر مع طول إقامة نوح بينهم واستمراره في نهج الدعوة إلى الله وإنذارهم من البلاء والعذاب بالقول والفعل ، ومن الأخير قيامه بصنع السفينة في اليابسة وليس من ماء ، ولم يسع قوم نوح في قتله لبيان الحجة في هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ، قال تعالى [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) ونشره مبادئ الإسلام .
ولن تأت هذه الهجرة ابتداء إنما كانت عن تهيئة ومقدمات إيمانية ، إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو وفد الحاج في كل موسم إلى الإسلام بعرض واحد مع دعوته لأهل مكة ليجتهد ويبذل الوسع في موسم الحج والطواف على الأسواق التي تقام مدة الحج ، وعلى القبائل في منازلها في منى .
ومنهم أهل يثرب من الأوس والخزرج ، ومن تلك المقدمات ما يتعلق بذات أهل الموسم ووفد الحاج إذ كان أهل يثرب يجاورون اليهود من بني النضير وقينقاع وقريظة ، وكانوا يتوارثون الحديث عن نبي آخر زمان وظهور علاماته ، واستعدادهم لمبايعته واتباعه ، وفي التنزيل [وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ]( ).
وهل من موضوعية في هذا التوارث والحديث لبشارة عيسى عليه السلام بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ) أم أن تلك البشارة خاصة بالنصارى ، ولا تشمل اليهود .
الجواب هو الأول , لقانون وهو أن رشحات النبوة والإنتفاع منها أعم من أن يختص باتباع النبي ذاتهم ، وهذا القانون من المائز بين الرسول والنبي ، إذ يكون النفع العام من الرسول أكبر وأكثر .
وبالإضافة إلى البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأخبار المتوارثة عن الأنبياء الخاصة بنبوته فان معجزاته هي الفيصل والسبيل للهداية وجذب الناس ومنهم أهل يثرب للتصديق برسالته, وسيأتي ذكر أسماء الذين هاجروا إلى الحبشة , وترجمة موجزة لطائفة منهم.
التقويم القمري
ومن مقدمات بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم صيرورة أربعة أشهر من السنة القمرية حرماً ليس فيها قتل وقتال، وهو حكم سماوي من الإرادة التكوينية والقمري هو وحدة أس التقويم يعتمد الفترة المحصورة بين هلالين , وهو معتمد الحساب الإسلامي وطول مدته 29,53 يوماً، وقد اعتمدت شعوب وأمم سالفة حساب القمر , ومنهم العرب قبل الإسلام والتقاويم التي تعتمدها الأمم السالفة كثيرة منها:
الأول : التقويم المصري القديم ، وفيه أن السنة(365) يوماً، بلحاظ ظهور نجم الشعرى اليمانية قبل شروق الشمس، وقسموا السنة إلى اثني عشر شهراً مع إضافة خمسة أيام في آخر السنة للأعياد.
الثاني : التقويم السرياني: وهو تقويم وضعه سلوقس نيكاتور أحد قادة الإسكندر المقدوني الذي تولى الحكم في سوريا واعتمده حين تولى الحكم إذ بدأ يوم الإثنين الأول من أكتوبر(312)ق الميلاد، وعرّبت أسماء الأشهر بما يناسب حال الزراعة والمناخ والأمطار .
ليتجلى الإعجاز بتوارث الناس حصر وتعيين عدد أشهر السنة باثني عشر شهراً وان اختلفوا في أوان إبتداء السنة وكيفية الحساب كالشمسي والقمري وورد قوله تعالى[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ]( )، وعن إبي حمزة عن عمه وكانت له صحبة – قال : كنت آخذاً بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق أذود الناس عنه فقال : يا أيها الناس ، هل تدرون في أي شهر أنتم ، وفي أي يوم أنتم ، وفي أي بلد أنتم؟
قالوا : في يوم حرام ، وشهر حرام ، وبلد حرام .
قال : فإن دماءكم وأموالكم واعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه .
ثم قال : اسمعوا مني تعيشوا ، ألا لا تتظالموا ألا لا تتظالموا ، إنه لا يحل مال امرىء إلا بطيب نفس منه ، ألا أن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة ، وإن أول دم يوضع دم( ) ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب كان مسترضعاً في بني ليث فقتله هذيل .
ألا وإن كل ربا كان في الجاهلية موضوع ، وإن الله قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب ويتجلى الإعجاز بنسبة وضع وسقوط ربا العباس بن عبد المطلب إلى الله عز وجل .
وهل هو من عمومات قوله تعالى [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا] ( ) أم أن الآية أعلاه خاصة بأسباب نزولها وإرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام .
المختار هو الأول لبيان قانون لزوم تنزه أهل البيت وبني هاشم عامة من الحرام والكسب غير المشروع ،قال تعالى [فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ] ( ) لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، ألا وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق الله السموات والأرض ، منها أربعة [مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ]( ) ، ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض .
إلا إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكنه في التحريش بينهم .
واتقوا الله في النساء فانهن عوان عندكم لا يملكن لأنفسهن شيئاً ، وإن لهن عليكم حقاً ولكم عليهن حقاً أن لا يوطئن فرشكم أحداً غيركم ، ولا يأذن في بيوتكم لأحد تكرهونه[وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ]( ) ضرباً غير مبرح ،ولهن[ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ]( ) وإنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها وبسط يديه .
وقال : اللهمَّ قد بلغت ألا هل بلغت ، ثم قال : ليبلغ الشاهد الغائب فإنه رُبَّ مبلغ أسعد من سامع( ).
وجرت في ذات الأشهر وأسمائها الأمثال منها:
الأول : هواء كوانين يخرف المصارين(أي ينفذ إلى جوف الإنسان ويلامس الأمعاء وبعد كانون الشتاء يهون، وأبرد من ميّة كانون(كانون الأجرد يخلي الشجر أمرد ، والمصارين جمع مُصران والتي تؤدي إليها الكرش ما تدفعه . .
الثاني : شباط ما عليه رباط، وشباط لباط (بكثرة تقلب الطقس وحال الأمطار فيه، غيمة شباط ولا صحوة كانون.
الثالث : آذار أبو الزلازل والأمطار، وآذار الغدار برد آذار يقصص المسمار في آذار يستوى الليل والنهار هو آذار يقلع الأشجار لإرادة شدة العواصف فيه ، بآذار يفتح الورد، زرار زرار، أشهر آذار ساعة شمسية وساعة أمطار.
الرابع : مطر نيسان يحيي الإنسان.
الخامس: تموز يفور الماء في الكوز، في نيسان الحصيدة وين ما كان، في نيسان أطفى نارك، وأفتح شبابيك دارك.
وهذا قبل التغيير المناخي، وزيادة حرارة الأرض.
مطر نيسان خير وصحة للإنسان.
السادس : شهر آيار والأمثلة التي تتعلق به كثيرة، منها آيار توت ومشمش وخيار، إيار شهر الرياحين ، آيار أبو التمر ، في آيار نام على سطح الدار.
السابع : شهر حزيران، ومن أمثلته: حزيران شهر الريان، كناية عن كثرة الفواكه والخضار.
الثامن : شهر تموز: ومنها في تموز يغلي الماء في الكوز( ) كناية عن شدة الحر.
التاسع : آب اللهاب، في النهار حار , وفي الليل جلاب في آب اللهاب أقطف العنب ولا تهاب دلالة على نضجة وطيب مذاقه.
العاشر : أيلول ذنبه مبلول أي تأتي الأمطار في آخره، أيلول دباغ الزيتون.
الحادي عشر : جاء كانون اختبئ في بيتك بالجنون كناية على البرد القارص.
الثالث : التقويم العبري وقيل بدأ في السابع من تشرين الأول سنة3761 قبل الميلاد، والسنة العبرية شمسية، ولكنها تعتمد الشهور القمرية ويقومون باضافة سبعة شهور كل تسع عشرة سنة، حيث يعود موعد القمر كما كان في دورته الأولى.
الرابع : التقويم الهندي , وهو تقويم شمسي قمري دورة السنين عندهم ستون سنة، كل سنة لها اسمها الخاص بها، والسنة القمرية هي(354) يوماً أما السنة الشمسية فهي(365) يوماً، فيقومون باضافة شهر اضافي من ثلاثين يوماً كل ثلاثين شهراً ، وتبدأ السنة الشمسية عندهم من دخول الشمس في الحمل وابتدأ حسابهم هذا من نحو ألف سنة قبل الميلاد.
الخامس : التقويم الصيني، وهو تقويم شمسي قمري يعتمد دورتي الشمس والقمر .
وتكون أسماء السنوات عند الصينيين القدامى على أسماء الحيوانات، ويظنون أن خصال مواليد أي سنة تكون بحسب صفات الحيوان الذي سُميت به السنة.
فمواليد سنة التنين يتصفون بالشجاعة ومواليد سنة الديك بالغرور، والحصان بالقوة، والبقرة بالمال والثروة، والغنم بالطاعة، والأفعى بالغدر.
ولا زالوا على هذا الحساب مثلاً سنة 2000 سنة التنين وسنة 2001 سنة الأفعى وسنة 2002 سنة الحصان وسنة 2003 سنة الغنم وسنة 2004 سنة القرد، وسنة 2005 سنة الديك ولكل سنة في التقويم الصيني اسم خاص فمثلاً سنة 706 ع وفق التقويم الصيني بدأت في 26 كانون الأول سنة 2009 وانتهت في 14 شباط سنة 2010 وسميت باسم سنة البقرة .
وهكذا وكل سنة تبدأ بيوم مخصوص من السنة الميلادية غير اليوم الذي بدأت به غيرها ولا بقرّ الإسلام بهذه المعاني قال تعالى[وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ]( ).
واستعمل التقويم الصيني قبل أكثر من ألفي عام ولكن دخلت التقاويم الأخرى إلى الصين مثل التقويم الهندي في القرن الثامن الميلادي، ودخل التقويم الإسلامي الذي يعتمد في كل شهر إطلالة القمر إلى الصين في القرن الثالث عشر .
ودخل التقويم الميلادي الذي يحتسب وفق سير وحركة الشمس في القرن السادس عشر وصار مستعملاً عندهم ليكون استعمال التقويم الصيني القديم نادراً.
وقد جاء القرآن بنظام خاص للتقويم وهو حساب الأشهر القمرية مع وجود أربعة أشهر حرم وهي شهر ذي القعدة وشهر ذي الحجة وشهر محرم أشهر متصلة، وشهر رجب شهر منفرد.
وتفضل الله عز وجل وأخبر بأن هذا التقويم هو الثابت، والأصل من حين خلق الله السموات والأرض، لذا قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته في حجة الوداع :
إن الزمان قد استدار، فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، أولهن رَجَب مضر بين جمادى وشعبان ( ).
لتعاهد قانون وهو إجتناب الزيادة في حساب الأشهر المتقدمة .+
والجواب هذا صحيح، ولكنه لا يخرج عن صبغة الدفاع التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأن الآية وردت بصيغة التشبيه في ( كما يقاتلونكم ).
وتقدير الآية :ان قاتلوكم كافة فقاتلوهم كافة وان لم يقاتلوكم فلا تقاتلوهم ).
وفيه منع من غلبة النفس الغضبية والشهوية عند المسلم , وزجر عن إتخاذ القتال سنة دائمة ، ولبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن عنده جيشاً متخصصاً بالقتال ، إنما يقاتل المسلمون كلهم إن قاتلهم المشركون ، ويرجعون إلى أعمالهم ومكاسبهم وزراعاتهم في غير أوقات القتال من غير أن يتعارض هذا الأمر مع مواصلة التمرين وإعداد الأسلحة، كما قال تعالى[وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ]( ).
والآية أعلاه مدنية ، ولم يرد لفظ [وَأَعِدُّوا، رِبَاطِ ،تُرْهِبُونَ ، تَعْلَمُونَهُمْ]في القرآن إلا في الآية أعلاه لبيان موضوعيتها .
وتحتمل الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : إنها تدل على إرادة الهجوم والغزو .
الثاني : المراد من مضامين الآية أعلاه الدفاع .
الثالث : المراد المعنى الجامع وهو الغزو والدفاع .
الرابع : إرادة مرتبة أدنى من القتال دفاعاً .
والمختار هو الأخير وتكون الوجوه الأخرى في طوله ، وهو من الشواهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأت بالغزو إنما جاء لدفع وصرف الإقتتال والقتل .
وعندما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام تفضل الله وأخبر الملائكة بأمر خلقه ، كما ورد في التنزيل [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ]( ).
فأجابهم الله بالحجة والبرهان المتجدد إلى يوم القيامة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
وكانت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من علم الله الذي دحض به حجة الملائكة ، وهو برهان يتجدد في كل يوم بتلاوة المسلمين القرآن وتعاهدهم للفرائض ، ونبذهم للإرهاب والقتل العشوائي .
الخامس : التقويم البابلي : ويسمى أيضاً تقويم أوما ، وابتدأ في عصر سلالة أور السومرية الثالثة في عصر ملكها شولغي وهي شمسية قمرية ، تتألف من أثني عشر شهراً أي أن التقويم البابلي مأخوذ من التقويم السومري .
وتبدأ هذه السنة في الربيع وتتعلق بالأبراج والآلهة التي يقدسون ولهذه الأشهر أسماء خاصة بها ، فشهر آراخ نيسافو (شهر الملجأ) يقابل شهر نيسان وبرج الحمل .
ويبدأ كل شهر برؤية الهلال .
وكذا بالنسبة للسنة الآشورية إذ تتداخل مع السنة البابلية فرأس السنة الجديدة عند البابليين والآشوريين والكلدانيين هو الأول من شهر نيسان ويستمر لأثني عشر يوماً ، لكل شهر يوم واحد مما يدل على الضبط والنظام في الممالك القديمة .
إذ تترتب على التقويم وضبط التأريخ المعاملات والأحكام والديون والأعياد والمواعيد وعطاء الجنود وغيرهم .
السادس : التقويم الجمهوري الفرنسي : وهو من أقصر التقاويم التي عمل بها في التأريخ إذ اقترن بالثورة الفرنسية ،وأنشئ هذا التقويم في سنة أنتصار الثورة سنة 1792 ميلادية مع عدة اجراءات منها تشديد الرقابة على أسعار المواد الغذائية وغيرها ، والغاء الإقطاع وإمتيازات النبلاء ،والعبودية في المستعمرات الفرنسية وتأمين حدود الجمهورية .
وكثرت الإعدامات وبلغت نحو عشرين ألف شخص بما فيهم الملك لويس السادس عشر الذي اعدم في يناير سنة 1793 ميلادية .
وأرادوا بالتقويم الجديد تحويل الناس عن المسيحية وهيمنة الكنيسة في الحساب اليومي ، وأوجدوا النظام المتري وعمل بهذا التقويم أربع عشرة سنة من سنة 1792 -1806 ميلادية ومن قبل كمونة باريس.
واحتسبوا يوم إعلان الجمهورية بداية للسنة وهو يوافق 22 أيلول سنة 1792 وبقي تقسيم السنة إلى اثني عشر شهراً ويتألف كل شهر من ثلاثين يوما ، ثم تضاف خمسة او ستة أيام في نهاية السنة كي تتوافق مع السنة المدارية الشمسية .
وقسمت السنة إلى أربعة فصول كل فصل ثلاثة اشهر وقسم الشهر إلى ثلاثة أسابيع كل واحد منها عشرة أيام ،وأطلقوا على الأيام أسماء مقتبسة من أسماء الفواكه والخضروات والحبوب والحيوانات لإرادة مخالفة الكنيسة التي كانت تطلق أسماء القديسين على الأيام .
فلسفة الأشهر الحرم : إنفرد العرب والإسلام بالأشهر الحرم ، وحرمة القتال والقتل فيها حتى أن اسم رجب وهو الشهر السابع من الأشهر العربية مأخوذ من أمور :
الأول : إرادة تعظيم شهر رجب من الرجوب وتهابه العرب لحرمة القتال فيه .
الثاني : يسمى رجب مضر لأن قبيلة مضر لا تغيره ولا تعمل بالنسيئة ، وما تقوم به بعض القبائل بتبديل أيام الأشهر لإرادة استدامة أيام القتال وعدم تعطيله قد انقطع بنزول الآية أعلاه .
وقيل إنما سمي رجب مضر لأنها تعظمه ، وهو الأنسب ، لأن النسيئة كانت تتم في الحرم المكي ويقوم بها بنو فقيم من قبيلة كنانة العدنانية ، حيث يحللون الشهر الحرام ويحرمون شهراً آخر غيره يأتي من بعده .
فقد يحجون مثلاً في شهر ذي الحجة ، ويحجون في سنة أخرى في شهر صفر، فنزل قوله تعالى[إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
فوافق حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للبيت الحرام في حجة الوداع في شهر ذي الحجة ووقف في عرفة في اليوم التاسع منه ليثبت التأريخ إلى يومنا هذا وحتى يوم القيامة , وهو من عمومات قوله تعالى [وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً]( ).
وهو من قوانين الضبط في العبادات ببركة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
أسرى بدر من المشركين
الأسير هو المحبوس والأسر شد الوثاق .
ويسمى الأسير : الأخيذ ويسمى المسجون، والمقيّد لأنه يقيد ويربط، ويسمى العاني لإقراره بالعناء، ويقال: أَعْنُوه، أي: أَبْقُوهُ في الإسار.
ومعنى العاني أعم ومنه : الخاضع المُتَذَلِّل. قال الله عزّ وجلّ: “وعَنَتِ الوجوه للحيّ القيّوم” وهي تَعْنو عُنُوّاً)( )، وقد يأتي العاني بمعنى العبد.
والجمع: أسراء وأسارى وأسرى، وفي التنزيل[وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ]( )،
ويسمى الأسير مأسوراً .
والفكاك هو ترك الأسير , وأخذ المال والعوض بدلاً عنه ، ثم صار معناه أعم بعد عصر النبوة ليشمل أخذ اسير مسلم في مقابله , وإذا أطلق سراح الأسير وخلي سبيله يسمى (الطليق ) ويقال أطلق الأسير أطلاقاً أي فكّ من الأسر , والجمع طلقاء .
والأسر فعل مركب .
الأول : الذي يقوم بالأسر ويسمى آسر .
الثاني : فعل الأسر , وهو وقوع شخص في قبضة شخص أو جماعة أو قوم بينهم نوع عداوة أو حرب أو حال غزو .
الثالث : الأسير أو المأسور ، وهو الذي يقع في الأسر .
وقد ورد لفظ الأسير بصيغة المفرد مرة واحدة في القرآن بقوله تعالى[وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا] ( ) وسيأتي بيانه .
كما ورد مرة واحدة بصيغة الجمع [الأَسْرَى] في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
والمختار شمول الآية للأسرى في :
الأولى : معركة بدر .
الثانية : معارك الإسلام الأولى .
الثالثة : أسرى المسلمين في كل زمان .
وهو من إعجاز لغة الخطاب في الآية بأن يتوجه النداء في المقام للنبي بأن يقول للأسرى , ومعناه على شعبتين :
الأولى : قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأسرى في زمن النبوة ، وهو ينقسم إلى وجوه :
الأول : الأسرى في معركة بدر .
الثاني : الأسرى في كل معركة من معارك الإسلام أيام النبوة .
الثالث : الأسرى بحوزة المسلمين , وإن لم يكن أسرهم في معركة .
ولا تعارض بين هذه الوجوه وكلها من مصاديق الآية , فلم ينحصر موضوعها بأسرى معركة بدر وان كان هو سبب النزول .
الثانية : قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأسرى بعد إنتقاله(عن ابن زيد في الآية قال : لما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وظهر , ونبع الإيمان نبع النفاق معه , فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجال .
فقالوا : يا رسول الله لولا أنا نخاف هؤلاء القوم يعذبونا ، ويفعلون لأسلمنا ، ولكنا نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فكانوا يقولون ذلك له .
فلما كان يوم بدر قام المشركون , فقالوا : لا يتخلف عنا أحد إلا هدمنا داره ، واستبحنا ماله . فخرج أولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم ، فقتلت طائفة منهم وأسرت طائفة ، قال : فأما الذين قتلوا فهم الذين قال الله { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم}( ) الآية كلها { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها }( ) وتتركوا هؤلاء الذين يستضعفونكم { أولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً}( ) ثم عذر الله أهل الصدق فقال { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً }( ) يتوجهون له لو خرجوا لهلكوا { فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم }( ) اقامتهم بين ظهري المشركين)( ).
والمختار أن الآية أعم حتى في أسباب نزولها , ويمكن تأسيس قاعدة ، وهي أخذ أسباب النزول عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة الذين حضروا نزول آية , أو الصحابة الآخرين والتابعين الذين يروون أسباب النزول عنهم.
وقال الثعلبي في قوله تعالى ({يَا أيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى}( ) نزلت في العباس بن عبد المطلب , وكان أسيراً يومئذ،
وكان العباس أحد العشرة الذين ضمنوا طعام أهل بدر من المشركين في غزوهم وزحفهم نحو ميدان المعركة فبلغته النوبة يوم بدر،
وكان خرج بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها الناس،
فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا قبل ذلك وبقيت العشرون أوقية مع العباس فأخذت منه في الحرب،
فكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحُسب العشرون أوقية من فدائه فأبى،
وقال : أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا أتركه لك،
وكلّفه فداء بني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث فقال العباس : يا محمد تركتني اتكفف قريشاً ما بقيت .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل أوّل خروجك من مكة،
فقلت لها : إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهذا لك ولعبد الله ولعبيد الله والفضل وقثم يعني بنيه.
فقال له العباس : وما يدريك؟
قال : أخبرني ربي فقال العباس : فأنا أشهد أنك صادق،
وأن لا إله الا الله وأنك عبده ورسوله،
ولم يطلع عليه أحد إلا الله فذلك قوله {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى}( ) الذين أخذتم منهم الفداء.) ( ).
ونزلت الآية في عامة الأسرى ، ولم يقصد بها فرد مخصوص منهم ، كما أنها باقية في موضوعها إلى يوم القيامة .
نعم أكثر أيام نبوه محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليس فيها قتال وأسرى وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وفي الآية أعلاه مسائل :
الأولى : مواساة الأسرى والتخفيف عنهم وعن ذويهم .
الثانية :دعوة الأسرى لتنقية قلوبهم من الضغائن ومن المكر.
الثالثة: حث الأسرى على التوبة والإنابة وقصد الصلاح مدة الأسر وبعد فكهم منه .
وإن حال السجن والأسر مناسبة للتأمل ، فأراد الله عز وجل للأسرى عدم إضمار الإصرار على الكفر والثأر والإنتقام من المسلمين .
إن أمر الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للأسرى ويتكلم معهم معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان لنظام وقانون في مسألة الأسرى لم ترق إليه الأنظمة الدولية في تنظيم شؤون الأسرى , وبان يقوم النبي والإمام والقائد العام نفسه بلقاء الأسرى والتحدث معهم بذكر الله ، ويدعوهم إلى إصلاح النفوس ويعدهم بالخير والفلاح ، وكأنه يقول لهم أبشروا فانه سيطلق سراحكم وأن الله عز وجل حاضر معكم يعلم سركم وعلانيتكم .
ليكون من معاني آية [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) (وما أرسلناك إلا رحمة للأسرى وذويهم ).
ومن الإعجاز توجه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصفة الشخصية ثم توجه الأمر بصيغة الجمع والغائب [فِي أَيْدِيكُمْ]( ) لإفادة عموم المسلمين وإطلاق الأزمنة كما في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبّكُمْ] ( ) .
وإذا كانت الآية تدعو الأسرى بأن تمتلأ قلوبهم بالخير وإرادة رضا الله عز وجل فمن باب الأولوية أن يتحلى المسلمون والمسلمات بذات الخصلة الحميدة .
وفي الآية توبيخ وتبكيت للمنافقين ، فاذا كان الذين أسرهم المسلمون وهم يقاتلون يدعوهم الله ورسوله لإصلاح سرائرهم ، فمن باب الأولوية القطعية أن يتحلى الذين يظهرون الإيمان ويعيشون بين ظهراني المسلمين ويأكلون من الغنائم بحسن السريرة , وعدم إبطان الكفر ومفاهيم الضلالة .
من خصائص القرآن وإعجازه الغيري كونه [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) وهذا التبيان لا يقدر عليه إلا الله عز وجل , وإن جاء بأي كيفية وصيغة أي لو أن غير الله عز وجل من عموم الخلائق دوّن آلاف المجلدات فانها تتخلف عن تبيان يسير عن الأشياء ومنها .
بينما جعل الله عز وجل القرآن بكلماته المحدودة محيطاً باللامحدود من الوقائع والأحداث ، وهل يشترك معه بهذه الصفة المباركة كتاب سماوي آخر ، الجواب لا ، لبيان حاجة الناس في كل زمان للإقتباس من القرآن والعمل بمضامينه ، وتفسير السنة النبوية له سواء السنة القولية أو الفعلية .
ومنها القوانين والأنظمة التي تضبط المعاملة مع الأسرى ، ولقد تضمنت الآية أعلاه تفقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأحوال الأسرى وبعث الأمل في نفوسهم ، لينعكس هذا الأمر من جهات :
الأولى : عناية المسلمين بالأسرى .
الثانية : العنوان الإرتكازي في الوجود الذهني للمسلمين بأن الأسرى إلى خير .
الثالثة : زجر المسلمين عن البطش بالأسرى أو الثأر منهم لسقوط الشهداء من المسلمين ، فلا يأتي بعض المسلمين ويقتل أسيراً ويقول ثأراً لأخي أو لوالدي خاصة مع إنتفاء سبب الثأر الشخصي بعد أن الله عز وجل بأن الشهداء [أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) .
الرابعة : قيام المسلمين بالوعظ والإرشاد للأسرى ودعوتهم للإيمان .
الخامسة : ذات خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأسرى وتوصيته المسلمين بهم دعوة لهم لدخول الإسلام , وبعث للندامة في نفوسهم لمحاربتهم له .
لتخبر الآية عن قانون وهو أن الأسرى سيكونون رسلاً للإسلام عند قومهم من جهات :
الأولى : قيام الأسرى بالإخبار عن تجلي معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وعدم إمكان سترها أو إخفائها .
الثانية : تدبر الأسرى في آيات القرآن , ومعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم على نحو قهري .
الثالثة : حسن معاملة المسلمين للأسرى .
الرابعة : تسليم الأسرى بتقوى وصلاح المسلمين , وتعاهدهم للفرائض العبادية .
الخامسة : حفظ الأسرى بعض آيات القرآن ، وثبوتها في الوجود الذهني عندهم لينقلوا لأهليهم وقومهم آيات القرآن ومعانيها وأخبار الوحي وحرص المسلمين على العمل بآيات القرآن .
السادسة : تلقي الأسرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإقتباسهم من أنواره ، وهذا الإقتباس من مصاديق نفخ الله من روحه في آدم كما في قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) لبيان قانون وهو أن هذا النفخ تثبيت لمفاهيم الصلاح في النفس الإنسانية وهو الأصل في سنخية الإنسان .
السابعة : هداية شطر من الأسرى إلى الإسلام ، وفيه شواهد عديدة ، فمنهم من أسلم وهو في الأسر ، ومنهم من أسلم بعد إطلاق سلاحه سواء الذي أسلم حالما فك من الأسر وأخبر بأنه لا يريد ان يقال عنه أسلم للنجاة والفكاك من الأسر , أو الذي اسلم بعد عودته إلى أهله .
الثامنة : إخبار الأسرى عن قوة إيمان المسلمين , وعزمهم على الدفاع عن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام والتنزيل .
ومن الأنظمة السائدة تولي الدولة أطعام الأسرى ، وهذا الإسكان كالسجن والحجز ليبقى الأسرى رهائن ، ولكن القرآن ندب المسلمين والمسلمات إلى طعام الأسرى ، إلى جانب عناية الدولة بهم ، وجعل الأسير بعرض واحد في الصدقة مع المساكين واليتامى بقوله تعالى[وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا]( ).
ولقد وردت آيات القرآن والسنة النبوية بالعناية بالمسكين , واليتيم وبيان الأجر والثواب العظيم في إكرام كل واحد منهما ، وجعل الله عز وجل للمسكين سهماً مفروضاً في الصدقات الواجبة بقوله تعالى [ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ) وذكر الله عز وجل اليتامى في اثني عشر موطناً من القرآن لتأكيد السعي لنفي الفقر عنهم والتخفيف من وطأة الحاجة عندهم ، قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابن السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( ).
وهل يلحق الأسير بابن السبيل ، الجواب لا ، فالقدر المتيقن من ابن السبيل الذي نفق ماله وعجز عن الرجوع إلى أهله ، فيعطى ما يوصله إلى بلده وإن كان غنياً فيه ، أما الأسير فهو الذي حارب الإسلام والمسلمين ، فوقع في أيدي المسلمين ، فلم يقتلوه إنما اقتادوه ليكون كالوديعة عند الدولة وعامة المسلمين .
وليس من نظام وقانون في العالم يحث ويأمر ويرغب عامة الناس بإطعام الأسير وبيان أن القصد من هذا الإطعام هو حب الله فاذا كان الأسير قد قاتل وقومه النبي الذي بعثه الله عز وجل لهداية الناس وأصحابه وانصاره فكيف يكون إطعامه في حب الله ، إنه من إعجاز القرآن ، ولا يقدر على هذا القول ونسبة الغاية في إطعام الأسير إلى حب الله عز وجل إلا هو سبحانه .
وهل يكون من مصاديق قانون : إذا تغير الموضوع تبدل الحكم وأنه حين تبدلت صفة المحارب لله ورسوله إلى أسير تغير الحكم .
الجواب صحيح أن الموضوع تغير ، ولكنه لا يصل إلى درجة التصدق عليهم إنما يكون اللطف بهم بقصد حب الله وجعلهم بعرض واحد مع اليتامى والمساكين لأمور :
الأول : عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثاني : بيان قانون وهو تنزه المسلمين عن الإنتقام والبطش والثأر ، وهذه التنزه من رشحات ومصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) وقوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) بلحاظ قانون وهو من معاني [خَيْرَ أُمَّةٍ] في الآية أعلاه التحلي بالأخلاق الحميدة ، ونشر شآبيب المودة , وإجتناب أسباب بعث النفرة في النفوس ، لأن البطش والإنتقام مبغوض بذاته .
الثالث : عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن سفك الدماء وأصحابه عن الإفساد في الأرض ، فحينما احتجت الملائكة على جعل آدم[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) بأن الإنسان يفسد في الأرض ويسفك الدماء .
لقد بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لنشر مفاهيم التوحيد وتحريم القبائح من ضروب الفساد ومقدماته ورشحاته ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] ( ) .
وصحيح أن آية الإطعام من سورة الإنسان نزلت في أهل البيت عليهم السلام إلا ان موضوعها أعم , وهي باقية في أيدي المسلمين والوجود الذهني عندهم .
(عن ابن عباس في قول الله سبحانه وتعالى {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}( ) .
قال : مرض الحسن والحسين فعادهما جدّهما محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعادهما عامّة العرب فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذراً وكل نذر لا يكون له وفاء فليس بشيء.
فقال علي عليه السلام : إن برأ ولداي مما بهما صمتُ ثلاثة أيام شكراً،
وقالت فاطمة عليها السلام : إن برأ ولداي مما بهما صمت لله ثلاثة أيام شكراً ما لبس الغلامان العافية،
وليس عند آل محمد قليل ولا كثير،
فانطلق علي عليه السلام إلى شمعون بن جابا الخيبري،
وكان يهودياً فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير،
وفي حديث المزني عن ابن مهران الباهلي فانطلق إلى جار له من اليهود يعالج الصوف يقال له : شمعون بن جابا،
فقال : هل لك أن تعطيني جزّة من الصوف تغزلها لك بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة أصوع من الشعير . قال : نعم،
فأعطاه فجاء بالسوق والشعير فأخبر فاطمة بذلك فقبلت وأطاعت قالوا: فقامت فاطمة عليها السلام إلى صاع فطحنته وأختبزت منه خمسة أقراص لكل واحد منهم قرصاً وصلى علي مع النبي (عليه السلام) المغرب،
ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه اذ أتاهم مسكين فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد،
مسكين من مساكين المسلمين،
أطعموني أطعمكم من موائد الجنة،
فسمعه علي عليه السلام فأنشأ يقول :
فاطم ذات المجد واليقين
يا ابنة خير الناس أجمعين
أما ترين البائس المسكين
قد قام بالباب له حنين
يشكوا إلى الله ويستكين
يشكوا إلينا جائع حزين
كل امرء بكسبه رهين
وفاعل الخيرات يستبين
موعدنا جنة عليين
حرمها الله على الضنين
وللبخيل موقف مهين
تهوى به النار إلى سجين
شرابه الحميم والغسلين
من يفعل الخير يقم سمين
ويدخل الجنة أي حين
فأنشأت فاطمة :
أمرك عندي يا ابن عمّ طاعة
ما بي من لؤم ولا وضاعه
غذيت من خبز له صناعة
أطعمه ولا أبالي الساعة
أرجو إذ أشبعت ذا المجاعه
أن ألحق الأخيار والجماعه
وأدخل الخلد ولي شفاعه
قال : فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئاً إلاّ الماء القراح،
فلمّا كان اليوم الثاني قامت فاطمة إلى صاع فطحنته فاختبزته وصلّى علي مع النبي(عليه السلام))( ).
وورد خبر آخر أن الآيات نزلت في أنصاري أطعم المسكين واليتيم والأسير.
(أخبرنا ابن فتجويه قال : حدّثنا محمد بن خلف بن حيّان قال : حدّثنا إسحاق بن محمد بن مروان قال : حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال : حدّثنا على بن علي بن أبي حمزة الثمالي قال : بلغنا أن مسكيناً أتى رسول الله (عليه السلام) .
فقال : يا رسول الله أطعمني فقال : والذي نفسي بيده ما عندي ما أطعمك , ولكن أطلب فأتى رجلاً من الأنصار وهو يتعشى وامرأته فقال له: أني أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت له : أطعمني فقال: ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب،
فقال : الأنصاري لأمرأته : ما ترين؟
فقالت : أطعمه وأسقه ثم أتى رسول الله(عليه السلام) يتيم فقال يا رسول الله أطعمني .
فقال : ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب فأتى اليتيم الأنصاري الذي أتاه المسكين فقال له : أطعمني .
فقال لامرأته : ما ترين؟
قالت : أطعمه فاطعمه،
ثم أتى رسول الله (عليه السلام) أسير فقال : يا رسول الله أطعمني،
فقال : والله ما معي ما أطعمك , ولكن أطلب فأتى الأسير الأنصاري فقال له : أطعمني،
فقال : لامرأته ما ترين , فقالت : أطعمه،
وكان هذا كلّه في ساعة واحدة،
فأنزل الله سبحانه فيما صنع الأنصاري من إطعامه المسكين واليتيم والأسير {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} .) ( ).
ولم يذكر اسم الأنصاري , ومن هو مع أن الآية معجزة وسبب لنزول فخر للذين نزلت فيهم ولابنائهم وذراريهم إلى يوم القيامة ، كما لم يرد الحديث عن صحابي .
وروي عن مقاتل (نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكيناً ويتيماً وأسيراً) ( ). والصحيح نزول الآية في أهل البيت عليهم السلام , وعليه الإجماع , ولا يخدش به قول نادر مقطوع , ولا دليل على الجمع بينهما.
وهل من معاني ومقاصد سامية غيرية لإكرام الإسلام للأسرى كجذب أزواجهم وأبنائهم وذويهم إلى الإسلام ، الجواب نعم , ومنها ما يتعلق بهذا الزمان , ومنظمات حقوق الإنسان واقتباسها من القرآن والسنة , وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وحينما تسمع الأسرة والأهل بأن أباهم أو ابنهم صار أسيراً عند المسلمين فان السكينة تملأ نفوسهم , ويكون من معاني الآية أعلاه وجوه :
الأول : ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ) ليعلم أهل الأسير بأن رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثاني : ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً واسيراً ) رجاء الثواب والأجر من غير اكراه للأسير على دخول الإسلام .
الثالث : ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ) للقطع بتنزه المسلمين عن التضييق على الأسير فيطمئن الداني والقاصي، والقريب والبعيد والحليف والعدو إلى قانون وهو حسن إقامة الأسير عند المسلمين.
وقد يقال إن التضييق والتشديد على الأسرى سبب لحمل العدو على الرضا بالشروط وزجر الكفار عن التعدي على المسلمين ، فلماذا لم يشدد المسلمون على الأسرى, خاصة وأنهم كفار محاربون .
الجواب هذا صحيح ولكن مصاديق الرحمة والسماحة والأخلاق الحميدة في الإسلام هي الحاكمة في المقام .
لتكون العناية بالأسرى من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) ومنها عناية المسلمين بالأسرى : وتقدير الآية أعلاه : وأنك لعلى خلق عظيم ) باطعامك وإطعام المسلمين الأسرى , وحسن عنايتكم بهم .
ومن الإعجاز في إحسان ورأفة أهل البيت بالمسكين واليتيم والأسير حث عوائل ونساء المسلمين للرأفة والرفق بالأسرى ، وإخبار مجتمعات الكفار وقواد وأفراد الجيوش أن المرأة في الإسلام مكرمة ، وأنها تستطيع الإنفاق والصدقة ، وتدل هذه الإستطاعة على السعة والغنى عند المسلمين وعوائلهم وان للمرأة المسلمة مالاً خاصاً وشأناً , وتتصرف بإحسان ، وقصد القربة إلى الله , وهو من مصاديق قوله تعالى [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ]( ).
الرابع : ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ) في ذات الوقت الذي يجاهدون فيه في سبيل الله .
الخامس : ويطعمون الطعام على حب الله مسكيناً ويتيماً وأسيراً ، لبيان لزوم الرأفة بالضعيف والمستضعف مطلقاً .
السادس : الذين استجابوا لله والرسول [ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا]( ).
السابع : ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إشاعة للسلام، ونبذاً للقتال .
ومن إعجاز القرآن بلحاظ القوانين الدولية بخصوص الأسرى أمور :
الأول : إقتباس المشرعين من القرآن وأحكامه .
الثاني : المقارنة بين أحكام الإسلام في الأسرى والقوانين الدولية الخاصة بمنظمة حقوق الإنسان والصليب الأحمر .
الثالث : بيان أفضلية أحكام الإسلام على القوانين الخاصة بالأسرى في كل زمان .
الرابع : تقيد المسلمين بالضوابط الشرعية في أحكام الأسر ، وتخلف كثير من أفراد الجيوش والمؤسسات الخاصة بالأسرى في العالم عن تنفيذ القوانين الدولية الخاصة بالأسرى , ويتجلى بالوثائق والسجلات الخاصة بالمنظمة.
الخامس : دلالة قوله تعالى [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا] ( ) على لزوم الإمتناع عن الإجهاز على الأسير وقتله في الوقت الذي يحصل فيه تجاوز على قوانين الأسر والتعليمات الخاصة به عند جيوش عديدة .
السادس : ذكر قصص من السنة النبوية بخصوص الأسرى ، ومن الآيات قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر بفكاك عدد من الأسرى من غير فداء واكتفائه باشتراط تعليم عشرة من صبيان المسلمين لعدد منهم ممن لا يملك فداءً ، وسيأتي بيانه تفصيلاً .
السابع : ليس من رئيس دولة يلتقي بالأسرى ويسمع شكواهم وأن حدث فهو أمر نادر لأن التعامل معهم خاص بفرع من قيادة الجيش أو السجن ودائرة الحجز ، أما النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكان يتولى شؤون الأسرى ، ويستطيعون لقاءه , ويستمع لهم , ويجيب على أسئلتهم .
والمراد من الأسير في الآية هو من الكفار ، فان قلت صار المسلمون في هذا الزمان دولاً وأمصاراً بينها حدود ولكل منها جيش خاص ، فان حدث بين دولتين منها قتال ووقع أفراد من جيش أحداهما بيد جيش الدولة الأخرى فهل يصدق عليهم أنهم أسرى وفق المصطلح القرآني ومنهاج السنة النبوية .
الجواب لا , نعم يلحقونهم بالأسرى وأحكام الأسر لصدق الموضوع, مع زيادة عناية بهم , ولزوم الصلح وإطلاق الأسرى ، قال تعالى [وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ]( ).
ومن السنة النبوية أنه لو دار الأمر بين وقوع الفرد والجماعة في الأسر وبين عدمه ، فالأصل هو عدم الأسر لدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى التوحيد ، وعدم ابتدائه القتال ، كما يقوم النبي باطلاق سراحهم ، وفيه تأديب لأمراء المسلمين بالعمل بهذا القانون ، وفي التنزيل [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
وعن (عمار بن شعيث بن عبد الله بن الزبيب العنبري حدثني أبى قال سمعت جدي الزبيب( ) يقول بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جيشا إلى بني العنبر فاخذوهم بركية من ناحية الطائف فاستاقوهم إلى نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم( ).
فركبت فسبقتهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت السلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته اتانا جندك فأخذونا وقد كنا اسلمنا وخضرمنا آذان النعم فلما قدم بنو عنبر .
قال لي نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم : هل لكم بينة على انكم اسلمتم قبل ان تؤخذوا في هذه الايام.
قلت : نعم .
قال : من بينتك .
قلت : سمرة رجل من بنى العنبر , ورجل آخر سماه له فشهد الرجل وأبى سمرة ان يشهد.
فقال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم : قد أبى ان يشهد لك فتحلف مع شاهدك الآخر .
قلت : نعم فاستحلفني فحلفت بالله لقد أسلمنا يوم كذا وكذا وخضرمنا آذان النعم .
فقال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم : اذهبوا فقاسموهم انصاف الاموال ولا تمسوا ذراريهم لولا ان الله عز وجل لا يحب ضلالة العمل ما رزئناكم عقالا .
قال الزبيب : فدعتنى أمي فقالت : هذا الرجل أخذ زربيتى فانصرفت إلى نبى الله صلى الله عليه وآله وسلم يعنى فاخبرته فقال لي احبسه فأخذت بتلبيبه وقمت معه مكاننا ثم نظر الينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائمين .
فقال : ما تريد بأسيرك , فأرسلته من يدى .
فقام نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال للرجل رد على هذا زربية امه التى اخذت منها .
فقال : يا نبي الله انها خرجت من يدي قال : فاختلع نبى الله صلى الله عليه وسلم سيف الرجل فاعطانيه ، فقال لرجل اذهب فزده آصعا من طعام، قال فزادني آصعا من شعير) ( ).
وقوله (وخضرمنا آذان النعم) أي قمنا بشق آذان الأنعام شقاً من غير قطع لها ، ليعلم الذين يلقونهم أنهم قد أسلموا ، فلا يلزم سؤالهم هل أسلموا ، أم لا .
وكانوا في الجاهلية يقطعون إحدى أذني الناقة ، وقال أفراد السرية أنهم أمهلوهم حتى صار وقت الصلاة ، فلم يسمعوا أذانا للصلاة في القرية فارادوا أخذ الأموال والذراري غنائم فحكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم باعادة النساء والذراري لأهلها بني عنبر ، وتنقسم الأموال مناصفة لعدم الدليل القاطع على إسلامهم .
ورضي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشاهد واحد مع اليمين ، بعد أن تخلف الشاهد الآخر مع أن المسألة أعم من المال الذي يصح فيه الشاهد الواحد مع يمين الدائن ، مما يدل على التخفيف في الإسلام في حكم الأسرى، ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أرضهم فيئاً .
وعن اسماعيل بن قيس : بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم جيشاً إلى خثعم، فلمّا غشيهم استعصموا بالسُّجود، فقتل بعضهم، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أعْطوا الورثة نصْف العَقْل بصلاتهم ) ( ).
أي أن المقتول لم يثبت اسلامه ولم ينطق بالشهادتين ، فأعطي أولياؤه نصف ديته ، لقد كان منهاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زاجراً لعموم الصحابة من التمادي في القتل ، وهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) حينما قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) .
إذ أن وقوع الكفار الذين يحاربون النبوة والتنزيل في الأسر إستئصال للفساد ، ثم تأتي المعاملة الحسنة لهم صفحة مشرقة في الإصلاح لهم ولغيرهم من الناس .
النبي (ص) وأسر النساء
يتعلق لفظ الأسرى بخصوص الرجال المحاربين لله ورسوله ، أما النساء اللائي يستحوذ عليهن من الكفار والمحاربين فيسمين هن والصبيان السبايا ، ولكنه أيضاً فرع الأسر .
فهل تشملهم آية الإطعام من سورة الإنسان( ) ، الجواب نعم ، ويراد من الإطعام أمور :
الأول : الزاد والماء بالصدقة والهبة والضيافة .
الثاني : اللباس .
الثالث : الرفق .
الرابع : الإحسان مطلقاً .
الخامس : عدم الإيذاء سواء باليد أو اللسان .
وأيهما أشد أسر الرجل أم سبي المرأة ، الجواب هو الثاني ، نعم قد يتم إختيار المرأة زوجة وتكون أم ولد وتسلم وتعتق وتكون ذات شأن ، ولا تسبى النساء إلا نساء الذين حاربوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الجزيرة وأعانوا عليه وجمعوا الجيوش لغزو المدينة .
لقد أقام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الناس إلى نبوته ورسالته ثلاث عشرة سنة في مكة ، وليس من قتال فيها ، إنما كان وأهل بيته وأصحابه يتحملون الأذى .
وقام المسلمون بالإستيلاء على الغنائم والسبي بعد الهجرة عندما قام المشركون بالهجوم على المدينة يريدون قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
فكل من الغنائم والسبي فرع القتال وتعدي الذين كفروا ، ووقعت معركة بدر في السنة الثانية للهجرة ، وليس فيها سبي لأن المشركين لم يأتوا معهم بالنساء .
ثم زحف المشركون مرة أخرى في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة وأحضروا معهم خمس عشرة امرأة لشحذ الهمم والقاء الأشعار والأراجيز وللتحدي , والإخبار بأنهم مطمئنون من عدم وقوعهن سبايا إذ جاء بعض كبارهم بنسائهم ومنهم ومن أحضر زوجتين له .
أو لرجحان النفع منهن في المعركة مع إحتمال السبي فحينما التقى الجمعان في معركة أحد قامت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان والتي قتل أبوها وأخوها وعمها في معركة بدر والنسوة التي معها خلف الرجال ، وهن يضربن الدفوف ) .
ويحرضن على القتال ومما كانت تردده وصويحباتها
(وَيْهَا بَنِي عَبْدِ الدّارْ … وَيْهَا حُمَاةَ الْأَدْبَارْ
ضَرْبًا بِكُلّ بَتّارْ وَتَقُولُ
إنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ … وَنَفْرِشُ النّمَارِقْ
أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ … فِرَاقَ غَيْرَ وَامِقْ) ( ).
وحينما عرض النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه وسط ميدان معركة أحد سيفاً ، وقال من يأخذه بحقه طلبه رجال فاعرض عنهم ومنهم الزبير الذي طلبه ثلاث مرات فلم يعطه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال أبو دجانة وما حقه ؟
قال أن تضرب به العدو حتى ينحني .
قال : انا أخذه يا رسول الله بحقه .
قال النبي : لعلك إن أعطيتكه تقاتل في الكيول ، والكيول مؤخر الصفوف ، والقتال فيها صفة الجبان ، لأن الذي في آخر الصفوف لا يقاتل في الغالب وإن حمل سيفاً .
وقال الإمام علي عليه السلام :
(إني امرؤ عاهدني خليلي … أن لا أقوم الدهر في الكيول) ( ).
وأبو دجانة هو سماك بن خرشة الأنصاري أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج ( ).
وعندما أعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم السيف صار في نفس الزبير , وقال أنا ابن عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يمنعني السيف وأعطاه أبا دجانة .
فقلت والله لأنظرن ما يصنع أبو دجانة فاتبعته ، فأخذ عصابة حمراء فنهب بها رأسه .
فقالت الأنصار : أخرج عصابة الموت وأخذ يرتجز ويقول :
(أنا الذي عاهدني خليلي … ونحن بالسفح لدى النخيل.
أن لا أقوم الدهر في الكيول … أضرب بسيف الله والرسول.) ( ).
وقاتل أبو دجانة قتالاً شديداً ، قال الزبير (وكان في المشركين رجل لا يدع لنا جريحا الا دفف عليه فجعل كل واحد منهما يدنو من صاحبه فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا فاختلفا ضربتين فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه وضربه أبو دجانة فقتله ثم رأيته حمل بالسيف على رأس هند بنت عتبة ثم عدل السيف عنها.) ( ).
أي تنزه ان يقتل امرأة بسيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ليدل الحديث على أن هنداً لم تكن في مؤخرة الجيش إنما كانت متقدمة في الصفوف وتحرض المشركين على القتال ولم تمر بضع ساعات على القتال في معركة أحد وبعد أن قُتل حملة لواء المشركين واحداً بعد آخر حتى تهيأت هند إلى الفرار ، وصار المسلمون قريبين منهن .
ولم تمر الأيام حتى انعم الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بفتح مكة ، فبايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرجال في مكة ولما فرغ من بيعتهم توجه إلى بيعة النساء ، وكانت هند بنت عتبة فيهن متنكرة لما فعلته بحمزة ولتحريضها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم واهل البيت والمسلمين .
فأسلمت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسألته العفو وأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبين للنساء مضمون البيعة وأول ما ابتدأ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو البيعة على التوحيد ، إذ قال : بايعنني على ألا تشركن بالله شيئاً .
والظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يجمع في بيعة النساء الشهادتين مرة واحدة إنما ذكر التوحيد وعدم الإشراك بالله أولاً ، لينتقل بعدها إلى الإقرار بنبوته ورسالته ، ومن رجال التأريخ من لم يذكر أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهن بالشهادة بالرسالة ، للتسالم على ذكرها ضمن البيعة , منه عن ابن جرير :
(بايعننى على ألا تشركن بالله شيئا ” فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه من الرجال.
” ولا تسرقن ” فقالت: والله إني كنت أصبت من مال أبي سفيان الهنة بعد الهنة، وما كنت أدري أكان ذلك علينا حلالا أم لا ؟ فقال أبو سفيان – وكان شاهدا لما تقول -: أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” وإنك لهند بنت عتبة ؟ ” قالت: نعم فاعف عما سلف، عفا الله عنك.
ثم قال: ” ولا يزنين ” فقالت: يا رسول الله وهل تزني الحرة ! ثم قال: ” ولا تقتلن أولادكن ” قالت: قد ربيناهم صغارا أفنقتلهم كبارا ؟ فأنت
وهم أعلم ! فضحك عمر بن الخطاب حتى استغرق.
ثم قال: ” ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ” ( )فقالت: والله إن إتيان البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل.
ثم قال: ” ولا يعصيننى ” فقالت: في معروف) ( ).
ولا يخلو الحديث من مبالغة في شخص هند ، وكأنها هي المتكلم الوحيد من بين نساء قريش وأهل مكة , وتعلق وتعقب على كل كلام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ذات الوقت الذي دخلت فيه متنكرة خشية وخوفاً من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وحدثت غزوات بين معركة بدر وأحد ، ثم معركة الخندق والتي لم يقع فيها سبي لنساء المشركين ، وكل من معركة أحد والخندق مناسبة لشكر المسلمين لله عز وجل لعدم وقوع نسائهم في السبي مع اجتماع أمور :
الأول : كثرة جيوش المشركين .
الثاني : عزم المشركين على البطش والإنتقام .
الثالث : اشتداد المعارك .
الرابع : قرب جيش المشركين من المدينة .
لقد أخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم معه إلى معركة أحد بعض النسوة منهن فاطمة الزهراء عليها السلام وعمته صفية بنت عبد المطلب أم الزبير.
وهناك مسألة وهي : يحتمل خروج المؤمنات مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجوهاً :
الأول : خرجت النساء بمبادرة من عندهن .
الثاني : من مستلزمات الجيش وجود نساء لتضميد الجرحى وسقي المقاتلين .
الثالث : أخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم النساء معه بالوحي ، وهو على شعب :
الأولى : حضور الوحي في اختيار وإحضار كل امرأة منهن لعمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى] ( ) بلحاظ أن أي فعل ذا شأن في الجيش يكون بأمر وعلم وامضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : موضوعية الوحي بالإذن بخروج النساء على نحو الإجمال من غير تعيين .
الثالثة : إذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخروج النساء بأمر من عنده وليس بالوحي .
الرابعة : رضا وموافقة أولياء النساء اللائي خرجن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى معركة أحد .
والمختار هو الشعبة الأولى والرابعة من الوجه الثالث أعلاه ، لبيان التباين بين حضور المؤمنات وبين حضور المشركات في ميدان معركة أحد من وجوه :
الأول : حضور المؤمنات معركة أحد بقصد القربة إلى الله ، ومجئ المشركات إلى معركة أحد تزلفاً إلى اللات والعزى .
الثاني : إجتهاد المؤمنات بالدعاء وإنشغال المشركات بالضرب على الدفوف , وترديد الزجر والأهازيج .
الثالث :وجود فاطمة الزهراء عليها السلام مع النسوة المؤمنات ، وهي التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (فاطمة بضعة مني) ( ).
وهذا الحديث متواتر عند المسلمين كافة ، ومن خصائصه تلقيهم لهم بالقبول مع ذكر معانيه ودلالته المتعددة ليكون من الأحاديث التي تتصف بسور الموجبة الكلية التي يشترك فيها كل المسلمين .
ومما قامت به فاطمة الزهراء عليها السلام يومئذ أي يوم معركة أحد مداواة جراح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وقطع نزيف الدم عنه.
(عن أبي حازم، أنه سمع سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أما والله إنى لاعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن كان يسكب الماء وبما دووى، قال: كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغسله وعلى يسكب الماء بالمجن( ).
فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها وألصقتها فاستمسك الدم، وكسرت رباعيته يومئذ، وجرح وجهه وكسرت البيضة على رأسه) ( ).
وناول الإمام علي عليه السلام سيفه لفاطمة وقال
(أفاطم هاك السيف غير ذميم * فلست برعديد ولا بلئيم
لعمري لقد أعذرت في نصر أحمد * ومرضاة رب بالعباد رحيم) ( ).
وفي يوم الأحزاب كانت صفية بنت عبد المطلب مع النساء إذ جعلهن
في فارع وهو حصن لحسان بن ثابت .
وكان حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع النساء والصبيان في ذات الحصن فجاء رجل من غير المسلمين يطوف على الحصن فقالت صفية بنت عبد المطلب لحسان إن هذا الرجل يطوف بالحصن وأني أخشى أن يدل على عورتنا ويخبر عدونا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مشغولون عنا .
ثم طلبت من حسان أن ينزل إليه ويقتله (يَغْفِرُ اللّهُ لَك يَا ابْنَةَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَاَللّهِ لَقَدْ عَرَفْت مَا أَنَا بِصَاحِبِ هَذَا : قَالَتْ فَلَمّا قَالَ لِي ذَلِكَ وَلَمْ أَرَ عِنْدَهُ شَيْئًا ، احْتَجَزْت ثُمّ أَخَذْت عَمُودًا ، ثُمّ نَزَلْت مِنْ الْحِصْنِ إلَيْهِ فَضَرَبْته بِالْعَمُودِ حَتّى تَقْتُلَهُ .
قَالَتْ فَلَمّا فَرَغْت مِنْهُ رَجَعْت إلَى الْحِصْنِ فَقُلْت : يَا حَسّانُ انْزِلْ إلَيْهِ فَاسْلُبْهُ فَإِنّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ سَلَبِهِ إلّا أَنّهُ رَجُلٌ قَالَ مَا لِي بِسَلَبِهِ مِنْ حَاجَةٍ يَا ابْنَةَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ) ( ).
الرابع : تعرض نساء المشركين للأسر وصيروتهن قريبات منه حتى فزعن وأخذن يهرولن نحو الإبل لولا أن ترك الرماة المسلمون مواضعهم ، وجاءت خيالة المشركين من الخلف ، قال تعالى [وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
بينما كانت المؤمنات في حصن بفضل من عند الله ، فمع صيرورة الريح والغلبة للمشركين حينئذ فانهم عجزوا عن إخافة المؤمنات وكنّ متوكلات على الله عز وجل .
وبعد انتهاء معركة أحد وعودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه إلى المدينة المنورة مثقلين بالجراحات ، نزل جبرئيل في اليوم التالي وأمره أن يخرج بأصحابه خلف جيش الذين كفروا فنادى بلال في المدينة بالنفير .
(وقال محمد بن إسحاق في مغازيه: وكان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال، فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه: ألا يخرجن أحد إلا من حضر يومنا ؟ بالامس.
فكلمه جابر بن عبد الله فأذن له) ( ).
ترى لماذا أذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لجابر بن عبد الله الأنصاري دون غيره ، فيه مسائل :
الأولى : للعذر الذي قدمه جابر ، وهو أن أباه قال له عند الإنبعاث إلى معركة أحد : لا تخرج معنا ولكن أخرج ، أنا وابق أنت مع أخواتك لكثرة أخواته .
الثانية : استشهاد أبي جابر عبد الله بن حسيل الأنصاري في معركة أحد، ولم يتورع المشركون عن قتله مع كبر سنه .
الثالثة : بيان صبر وجهاد الأنصار في سبيل الله .
الرابعة : تأكيد حقيقة وهي أن قتل أب الصحابي في المعركة لم يمنع الابن من الخروج للنفير في اليوم التالي .
الخامسة : بعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا فاذا كان الصحابي يخرج إلى المعركة فيقتل ، فيخرج ابنه للقتال ومطاردة العدو في اليوم التالي من غير اقامة مأتم حزناً ورثاء على أبيه ، ومن غير خوف أفراد الأسرة وخوفه على نفسه فان المهاجرين والأنصار يتفانون في التضحية في سبيل الله، وهذا البعث من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ).
السادسة : بيان قانون وهو ورود الإستثناء في الأوامر النبوية بما يتناسب وملاك الإيمان والصلاح .
السابعة : إرادة منع المنافقين من الخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ويكون من معاني قول النبي : لا يخرج معنا إلا من شهدها بالأمس فنهض مائتا رجل من المؤمنين ) ( ) أي لا يخرج معنا منافق.
وقيل كان من الصحابة من لا يستطيع المشي لكثرة جراحاته ، ولا يجد ركوباً ، فربما يحمل على الأعناق طاعة لله ورسوله ، وحباً للدفاع عن النبوة والإسلام.
الثامنة : إرادة تفسير وبيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] ( ).
التاسعة : بيان قانون وهو إستغناء الإسلام عن الذين رجعوا من وسط الطريق وعددهم ثلاثمائة .
فان قلت ربما أدركت التوبة عدداً منهم ، الجواب هذا صحيح ، ولكن لا ملازمة بين التوبة والخروج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حمراء الأسد .
لقد أراد الله عز وجل اختصاص المجاهدين في معركة أحد بقوله تعالى[الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ] ( ) والذي رجع من وسط الطريق من معركة أحد وإن تاب لم يصبه القرح والكلوم التي تغشت المهاجرين والأنصار يومئذ .
العاشرة : بيان مصداق لقوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) بملاحقة جيوش الذين كفروا على كثرتها من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومائتين وسبعين من أصحابه لبيان تجدد صبرهم وجهادهم , ومن غير استعانة بالذين نافقوا والذين في قلوبهم مرض .
صفية .. من السبي إلى أم المؤمنين
قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامرأة مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ) .
لقد اباح الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم التسري بالمرأة التي تكون فيئاً عليه من الغنائم، قال تعالى[وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ]( ).
ووقعت صفية بنت حيي بن أخطب بن سبط هارون بن عمران وأمها برة بنت سموأل في السبي يوم خيبر , وكانت صفية بنت حيي عند سلام بن مشكم وهو من رؤساء اليهود ثم خلف عليها كنانة بن أبي الحقيق وهو شاعر أيضاً .
وكانت زوجة سلام بن مشكم زينب الحارث هي التي وضعت السم في الشاة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبرته الذراع بالأمر بعد أن لاك منه ، وزينب هذه أخت مرحب فارس اليهود في خيبر الذي قتله الإمام علي عليه السلام ، ومرحب من بني إسرائيل وقال ابن هشام أنه من حمير .
وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني النضير يستعين بهم في دية قتيلين من المشركين ، قتلهما عمرو بن أمية ثاراً لأصحابه المسلمين الذين قتلوا في بئر معونة .
ولم يعلم أن معهما عقداً وعهداً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , فقال رسول الله صلى عليه وآله وسلم : (لقد قتلتَ قتيلين لأَدِيَنهُمَا) ( ).
وكان بين النضير وبين بني عامر عقد وحلف ، فلما أخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر وإرادته إعانته في تحصيل تمام ديتهما أظهروا الموافقة ، ولكن بعضهم أراد قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان جالساً إلى جانب أحد جدران بيوتهم ، وقال : لن تجدوه بمثل هذه الحال ، ولا تتمكنون منه مثل اليوم ، ليصعد أحدكم ويلقي عليه صخرة ، فقال : عمرو بن جحاش بن كعب : أنا لذلك ، وصعد ليلقي الصخرة ، وكان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفر من أصحابه منهم الإمام علي وأبو بكر وعمر بن الخطاب ،ولكن سلام بن مشكم حاول منعهم وقال لهم (لا تفعلوا والله ليخبرن بما هممتم به وإنه لنقض العهد الذي بيننا وبينه) ( ).
ونزل الخبر من السماء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنهض سريعاً كأنه يريد حاجة وتوجه إلى المدينة ولحقه أصحابه ، وهم في لهفة لمعرفة السر في الأمر .
وقالوا : أقمت ولم نشعر ؟ بصيغة السؤال والإستفهام فأخبرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم همّوا بقتله فأخبره الله سبحانه فقام ، وأنذرهم وأمرهم بالخروج من المدينة وأمهلهم عشرة أيام ، ولكن رأس النفاق عبد الله بن أبي سلول أغراهم بالبقاء وقال لهم أقيموا في حصتكم ومعي الفان من قومي وغيرهم من العرب يدخلون معكم حتى يموتون معكم وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان كما يأتي بيانه إن شاء الله لبيان ضرر المنافقين والفتن التي يثيرونها وسعيهم لإيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وحتى اليهود ، وقد توعد الله عز وجل المنافقين ، وقال تعالى [إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ] ( ) وفي شهر صفر من السنة السابعة للهجرة تم فتح خيبر وصارت صفية في السبي ، وذكر أن بلالاً مرّ بها وابنة عم لها على قتلاهم .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبلال أنزعت منك الرحمة يا بلال ، حتى تمر بالمرأتين على قتلى رجالهما .
وتبعد خيبر عن المدينة المنورة (185 )كم وفيها حصون وتلال ومزارع ، ولا زالت آثارها شاخصة , وتسمى في هذا الزمان خيبر القديمة ، وتبعد عن البلدة في الوقت الحاضر خمسة كيلو متر ، وكان يقطنها بضعة آلاف نسمة ، ولم يكن عندهم خصومة أو أعداء مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا يعلمون من كتبهم قرب بعثة نبي آخر زمان ، وأن المدينة مهاجره ويطمعون أن يكون منهم أو من أخوانهم الذين سكنوا المدينة قادمين من الشام ، ولكنهم عندما جاءهم بنو النضير بعد جلائهم من المدينة بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرادوا اغتياله , ومات بشر بن البراء بن معرور من ذات أكله من الشاة المسمومة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند افتتاح خيبر ، وفيه قولان :
الأول : لم يبرح بشر من مكانه حتى مات .
الثاني : لزمه وجعه سنة ثم مات .
وحضر بشر مع أبيه بيعة العقبة ، وشهد بدراً وأحداً ويتصف بدقة الرمي ، وقد آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين واقد بن عبد الله التميمي ، وقد نصبّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيداً لبني سلمة إذ سألهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
(من سيدكم ” قالوا الجد بن قيس قال: ” بم سودتموه ” قالوا أنه أكثرنا مالاً وإنا على ذلك لنزنه بالبخل , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” وأي دواء أدرأ من البخل ” قالوا فمن سيدنا يا رسول الله قال: ” بشر بن البراء)( ).
وهل فيه شاهد على جواز قيام الإمام بتبديل رئيس القوم والقبيلة إذا كان فيه عيب ظاهر لا يلائم مقام الرياسة ، أم أن الأمر من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومستلزمات الدفاع , المختار هو الأول ، وهل يصح انتخاب رئيس القبيلة الجواب نعم .
نعم لم يختر النبي صلى الله عليه وآله وسلم رئيساً لقومه من عامة بني سلمة إنما اختار من حضر بيعة العقبة ومعارك الإسلام الأولى .
وكان أبوه البراء سيد الخزرج ومن النقباء ، وكان بنو سلمة يقولون : هو أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة ، بعد أن شرط له واشترط عليه ، ثم بايع الأنصار ليلة العقبة في مكة .
وفي صيرورة صفية عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضمها له يوم خيبر وجوه :
الأول : شراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصفية بنت حيي بن أخطب بسبعة أرؤس .
الثاني : لما أحضر سبي خيبر عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءه دحية الكلبي فقال : أعطني جارية من السبي ، فقال : أذهب فخذ جارية ، فأخذ صفية بنت حيي بن أخطب .
فقال الإمام علي عليه السلام : إنها سيدة قريظة والنضير وما تصلح إلا لك يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لدحية خذ جارية من السبي وغيرها , مما يدل أن النبي زاهد في النساء , لم يأخذها إلا بالوحي .
الثالث : كانت صفية بنت حيي مما أفاء الله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحجبها .
الرابع : استصفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صفية بنت حيي وصارت في سهمه ثم اعتقها وجعل عتقها صدقة .
الخامس : (وقعت في سهم دحية بن خليفة الكلبي فاشتراها رسول الله صلى الله عليه و سلم بأرؤس اختلفوا في عددها وأعتقها وتزوجها وذلك سنة سبع) ( ).
ولما اصطفاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه خرج بها حتى إذا بلغت سد الصهباء حلت له أي طهرت من الحيض ، فبنى بها ، وصنع حيساً في نطع صغير ، أي بساط من الجلد , وقال لا نس : آذن من حولك .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحوي لها وراءه بعباءة ثم يجلس عند بعيره ، فيضع ركبته وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب .
وعن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر (لأبعثن رجلا لا يخزيه الله يحب الله ورسوله ” فجاء وهو أرمد فبزق في عينيه ثم هز الراية ثلاثا فأعطاه فجاء بصفية بنت حيي وبعثه يقرأ براءة على قريش وقال: ” لا يذهب إلا رجل مني وأنا منه) ( ).
وعن أمية بن قيس العفارية قالت (عن أمية بنت أبي قيس الغفارية قالت: أنبأتنا إحدى النسوة اللاتي زففن صفية بنت حيي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمعتها تقول: ما بلغت سبع عشرة سنة) ( ).
واستسرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ريحانة من بني قريظة ثم اعتقها فلحقت بأهلها واحتجبت وهي عند أهلها .
وعن الواقدي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوجها وضرب عليها الحجاب وقيل أنها قالت : يا رسول الله أكون في ملكك فهو أخف علي وعليك فكانت في ملكه يطؤها إلى أن ماتت , والأول أرجح .
وصفية بنت حيي بن أخطب من بني النضير وهي من سبط لاوي بن يعقوب ثم من ذرية هارون بن عمران أخي موسى عليهما السلام .
وأبعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنة عمها التي كانت معها ساعة السبي , وأمر بصفية فجعلت خلفه وغطى عليها ثوبة فعرف الناس أنه اصطفاها لنفسه .
(عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في سفرٍ فاعتل بعيرٌ لصفية وفي إبل زينب بنت جحش فضل فقال لها: ” إن بعيراً لصفية اعتل فلو أعطيتها بعيراً ” فقالت أنا أعطي تلك اليهودية! فتركها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذا الحجة والمحرم شهرين أو ثلاثة لا يأتيها. قالت زينب: حتى يئست منه ) ( ).
وحينما دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على زينب بعد أن هجرها في شهر ربيع الأول الذي قبض فيه ورضي عنها ، قالت : ما أدري ما أجزيك به ، فوهبت له نفيسة ( ).
ولما قدمت صفية مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خيبر أنزلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيت لحارثة بن النعمان ، فسمع نساء الأنصار فجئن ينظرن إلى جمالها .
وجاءت عائشة متنقبة مع النساء فعرفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأدركها فأخذ ثوبها ، فقال كيف رأيت يا شقيراء ؟
وفي رواية (كيف رأيت يا عائشة؟ ” قالت: رأيت يهودية. فقال: ” لا تقولي ذلك فإنها أسلمت وحسن إسلامها) ( ).
ترى لماذا لم يوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوماً إلى عائشة حين نعتت صفية باليهودية بينما اغتاظ على زينب بنت جحش لأنها قالت ذات القول وتركها ثلاثة أشهر .
الجواب كان كلام عائشة في بداية دخول صفية مع السبي ولم تعلم باسلامها مع غيرة مع النساء في أول دخول الضرة .
أما كلام زينب فورد بعده بنحو ثلاث سنوات وبعد أن تجلت معالم ايمان صفية وأدائها الفرائض العبادية ومنها حج بيت الله الحرام .
$$ ولما بنى ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صفية وجد أثر لطمة أخضرت معها عينها فسألها عن الأمر ، فقالت : أنها رأت ليلة زواجها من كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أن القمر وقع في حجرها ، فلطمها على وجهها وقال ، ما هذا إلا انك تتمنين ملك الحجاز محمد .
وذكر ابن حجر العسقلاني هذه الرؤية ولكنه أخبر بأن التي لطمت وجهها أمها وقالت لها (إنك لتمدين عنقك إلى أن تكوني عند ملك العرب فلم يزل الأثر في وجهها حتى أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عنه فأخبرته.) ( ).
ولو دار الأمر بين صدور اللطمة في هذا الأمر بين الزوج والأم ، فالأظهر هو الأول .
وقد أول الرؤيا بأنها تفكر وتحدث نفسها بالزواج بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنها معجزة له صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : إنه شاهد على صدق إختياره لها زوجة , وحصول هذاالزواج بالوحي .
الثانية : من مصاديق الإعجاز في المقام دعوة صفية للرضا بالزواج من النبي والغبطة به .
الثالثة : عدم قيام صفية بايذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد قُتل أبوها وهو سيد قومه وقتل زوجها ، وفي ذات اليوم ضمت إلى رحل النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبية لولا فيض النبوة وقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعتقها ثم الزواج منها .
الرابعة : إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم للسبايا ودعوة المسلمين لإكرامهن بالزواج منهن .
الخامسة : تحلي صفية بالأخلاق الحميدة من حين قدومها إلى المدينة ، قال سعيد بن المسيب (قدمت صفية وفي أذنها خوصة من ذهب فوهبت منه لفاطمة ولنساء معها ) ( ).
السادسة :مرتبة التقوى التي بلغتها صفية في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى ، أتت جارية لصفية إلى عمر بن الخطاب فقالت : إن صفية تحب السبت وتصل اليهود )، ويدل الخبر على وجود إماء في ملك صفية وخدمتها .
فبعث إليها عمر فسألها عن الأمر فقالت (أما السبت فإني لم أحبه منذ أبدلني الله به الجمعة , وأما اليهود فإن لي فيهم رحماً فأنا أصلها ثم قالت للجارية: ما حملك على هذا؟ قالت: الشيطان. قالت: اذهبي فأنت حرة)( ).
لقد نسبت صفية ابدال يوم السبت بالجمعة لها بأنه هبة ونعمة عليها من عند الله عز وجل وأخبرت بأن صلتها ببعض اليهود بالرحم القريب ، ولإرادة صلة الرحم بالمعنى الأعم , وفيه دعوة للإسلام وبعث للطمأنينة في نفوسهم .
وهل يحق لهؤلاء اليهود أن يتفاخروا ويلتمسوا الأمن بأن التي تصلهم زوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأم المؤمنين , الجواب نعم ، قال تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] ( ).
وأختلف في سنة وفاة صفية والأقرب أنها ماتت سنة خمسين للهجرة أي أنها عمرت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحو أربعين سنة قضتها بالتقوى والصلاح ، وقيل ماتت سنة ست وثلاثين .
وعندما مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي انتقل فيه إلى جوار ربه ، إجتمعت عنده نساؤه فقالت صفية بنت حيي ، إني والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي ) فخاطبته بصفة النبوة وأظهرت حبها له ، وإدراكها لحاجة المسلمين والناس جميعاً له ، وللوحي الذي يعلم الجميع بانقطاعه عند مفارقته الدنيا .
وهل قول صفية هذا من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
أم أن القدر المتيقن هو تحلي المسلمين بمراتب سامية من من الإيمان ، وسيرتهم الحسنة على نحو العموم المجموعي .
وليس إرادة الفرد الواحد ، الجواب هو الأول .
وعندما سمعت أزواج النبي كلامها غمزن ببصرن وتبادلن نظرة استنكار فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : مضمضن .
فقلن : من أي شئ ، فقال ، من تغامزكن بها ، والله إنها لصادقة .
روت صفية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وممن روي عنها ابن أخيها ومولاها أي هناك من ذوي قرباها من أسلم وحسن اسلامه .
ترى متى أولم عليها النبي لمناسبة زواجه بها ، الجواب عند صباح ليلة العرس ، وقد ذكرت صفية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة دخل بها سّر كثيراً ، ولم ينم تلك الليلة ولم يزل يتحدث معها حتى أصبح ، ووصفتها أم سنان الأسلمية .
قالت : كانت من أحنى ما يكون من النساء .
وكانت أم سنان قد حضرت عرس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفية وممن قمن بتمشيطها وتعطيرها .
وفي هذه المباحث التفصيلية مسائل:
الأولى : بيان قانون وهو أن سبي المرأة في الإسلام رحمة لها، وسبيل هداية.
الثانية : في السبي منع من صيرورة المرأة وعاءً لتكاثر الكفار الذين يحاربون الإسلام.
الثالثة : ترغيب الناس بالإسلام والإمتناع عن محاربة المسلمين، لأنها طريق لوقوع النساء في السبي , واكرامهن.
الرابعة : منع أهل الكتاب من محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة : صيرورة بعض النساء المسبيات أمهات للمؤمنين.
ومن الإعجاز في قوله تعالى[النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ]( )، لزوم إكرام أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً وإن كانت بعضهن من السبي، وذكرت الآية أعلاه المؤمنين ولم تذكر المسلمين، وبينهما عموم وخصوص مطلق .
فالمسلمون أعم وكل مؤمن هو مسلم وليس العكس، وليخرج المنافق, ولكن حرمة نكاح أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممن طلقها في حياته أو مات عنها تشمل الناس جميعاً من باب الأولوية القطعية ولو فرضنا أن إحدى أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم طلقها فأرتدت فهل يحل نكاحها .
الجواب لا، لإطلاق الحكم , ولبيان الآية لعدم حصول إرتداد عندهن , وإرادة العموم إذ يقر المسلمون بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى بهم من أنفسهم أي أرأف وأعطف بهم وإذا دعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أمر ودعتهم نفوسهم إلى غيره، أو نهاهم عن أمر ويريدون إتيانه، فيقدم ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويجب إجتناب ما ينهى عنه , فكيف وقد جاء النهي عن نكاح أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله وبآية قرآنية .##
وفي قراءة عبد الله بن سعود: النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم) لإرادة البيان والتفسير والتوضيح.
وفي لوط ورد قوله تعالى[قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي]( )، وورد عن ابن عباس(ما عرض لوط عليه السلام بناته على قومه لا سفاحاً ولا نكاحاً إنما قال: هؤلاء بناتي نساؤكم ، لأن النبي إذا كان بين ظهري قوم فهو أبوهم)( ).
ومن معاني الآية أعلاه عدم جواز نكاح أي مؤمن لزوجة من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وهل تشمل الآية النساء ويصح تقديرها(وأزواجه إمهاتهن)، المختار هو الإيجاب، إذ ورد لفظ المؤمنين في الآية لغلبة التذكير وإرادة العموم وورد عن أم سلمة أنها قالت: أنا أم الرجال منكم والنساء)( )، وورد عن عائشة (أن امرأة قالت لها : يا أمي فقالت : أنا أم رجالكم ولست أم نسائكم)( ).
ولقد كانت حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أزواجه علماً مستقلاً في الإجتماع والأخلاق والسياسة والتأريخ والأدب، وكانت ترجمة وتفسيراً عملياً لآيات القرآن، وبياناً لقانون وهو أن الإمتثال للأوامر والنواهي الإلهية بخصوص الأسرة أمر ممكن، وفيه السعادة والغبطة في الدنيا والآخرة.
وعن جارية بن أبي عمران قال : (سمعت أبا سلمة الحضرمي يقول: جلست مع أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وهما يتحدثان وقد ذهب بصر جابر فجاء رجل فسلم ثم جلس .
فقال: يا أبا عبد الله أرسلني إليك عروة بن الزبير أسألك فيم هجر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نساءه. فقال جابر: تركنا رسول الله يوما وليلة لم يخرج إلى الصلاة فأخذنا ما تقدم وما تأخر، فاجتمعنا ببابه نتكلم ليسمع كلامنا ويعلم مكاننا، فأطلنا الوقوف فلم يأذن لنا ولم يخرج إلينا. قال فقلنا: قد علم رسول الله مكانكم ولو أراد أن يأذن لكم لأذن، فتفرقوا لا تؤذوه.
فتفرق الناس غير عمر بن الخطاب يتنحنح ويتكلم ويستأذن حتى أذن له رسول الله. قال عمر: فدخلت عليه وهو واضع يده على خده أعرف به الكآبة، فقلت: أي نبي الله بأبي أنت وأمي ما الذي رابك وما لقي الناس بعدك من فقدهم لرؤيتك! .
فقال: يا عمر يسألنني أولاء ما ليس عندي، يعني نساءه، فذاك الذي بلغ مني ما ترى. فقلت: يا نبي الله قد صككت جميلة بنت ثابت صكة ألصقت خدها منها بالأرض لأنها سألتني ما لا أقدر عليه،
وأنت يا رسول الله على موعد من ربك وهو جاعل بعد العسر يسرا. قال فلم أزل أكلمه حتى رأيت رسول الله قد تحلل عنه بعض ذلك. قال فخرجت فلقيت أبا بكر الصديق فحدثته الحديث فدخل أبو بكر على عائشة فقال: قد علمت أن رسول الله لا يدخر عنكن شيئا فلا تسألنه ما لا يجد، انظري حاجتك فاطلبيها إلي.
وانطلق عمر إلى حفصة فذكر لها مثل ذلك، ثم اتبعا أمهات المؤمنين فجعلا يذكران لهن مثل ذلك حتى دخلا على أم سلمة فذكرا مثل ذلك فقالت لهما أم سلمة: ما لكما ولما ها هنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أعلى بأمرنا ولو أراد أن ينهانا لنهانا، فمن نسأل إذا لم نسأل رسول الله؟
هل يدخل بينكما وبين أهليكما أحد؟ فما نكلفكما هذا. فخرجا من عندها، فقال أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، لأم سلمة: جزاك الله خيرا حين فعلت ما فعلت، ما قدرنا أن نرد عليهما شيئا. ثم قال جابر لأبي سعيد: ألم يكن الحديث هكذا؟ .
قال: بلى وقد بقيت منه بقية. قال جابر: فأنا آتي على ذلك إن شاء الله، ثم قال: فأنزل الله في ذلك: [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً] ( ) يعني متعة الطلاق، ويعني بتسريحهن تطليقهن طلاقا جميلا، وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة .
تخترن الله ورسوله فلا تنكحن بعده أحدا. فانطلق رسول الله فبدأ بعائشة فقال: إن الله قد أمرني أن أخيركن بين أن تخترن الله ورسوله والدار الآخرة وبين أن تخترن الدنيا وزينتها، وقد بدأت بك فأنا أخيرك. قالت: أي نبي الله وهل بدأت بأحد منهن قبلي؟ .
قال: لا. قالت: فإني أختار الله ورسوله والدار الآخرة فاكتم علي ولا تخبر بذاك نساءك. قال رسول الله: بل أخبرهن. فأخبرهن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جميعا فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وكان خياره بين الدنيا والآخرة أن يخترن الآخرة أو الدنيا. قال: وإن كُنْتُنَ تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما. فاخترن أن لا يتزوجن بعده.
ثم قال: يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة، يعني الزنا، يضاعف لها العذاب ضعفين، يعني في الآخرة، وكان ذلك على الله يسيرا، ومن يقنت منكن لله ورسوله، يعني تطع الله ورسوله، وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين، مضاعفا لها في الآخرة، وكذلك العذاب، واعتدنا لها رزقا كريما. [يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ] ( )يقول فجور، وقلن قولا معروفا وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، يقول لا تخرجن من بيوتكن ولا تبرجن، يعني إلقاء القناع فعل أهل الجاهلية الأولى. فقال أبو سعيد: هذا الحديث على وجهه)( ).
السادسة :تنمية ملكة حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند عموم المسلمين .
السابعة : إكرام المسلمين لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياة النبي وفي حياتهن بعد وفاته وبعد لحوقهن به .
الثامنة : بيان الضبط والأدب الرفيع الذي يتصف به المسلمون .
التاسعة : بعث الفزع والخوف في قلوب المشركين من النظام الإجتماعي القويم في الإسلام والذي هو مقدمة وسبيل لسلامة المجتمع من الأدران .
العاشرة : بيان مصداق لقوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( ) فيكون إكرام المسلمين لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدم زواجهم منهن من مصاديق تمسكهم بالقرآن والسنة .
الحادية عشرة : إكرام المسلمين للمؤمنة .
الثانية عشرة : توثيق أسماء أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعد إضافة غيرهن لهن أو أنكار زوجية بعضهن .
الثالثة عشرة : عدم التفريق والتمييز بين أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبب النسب أو الحرية وأصل السبي ونحوه ، وعن عائشة قالت (كان متاعي فيه خفة، وكان على جمل قارح، وكان متاع صفية فيه ثقل، وكان على جمال ثفال بطىء .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حولوا متاع عائشة على جمل صفية، وحولوا متاع صفية على جمل عائشة. فلما رأيت ذلك قلت: يا لعباد الله، غلبتنا هذه اليهودية على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أم عبد الله، إن متاعك فيه خف، ومتاع صفية فيه ثقل، فأبطأ بالركب، فحولنا متاعها على بعيرك، وحولنا متاعك على بعيرها.
فقالت عائشة: ألست تزعم أنك رسول الله؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أو فيّ شك؟ فقلت: ألست تزعم أنك رسول الله، فهلا عدلت؟ فسمعني أبو بكر وكان فيه غرب – أي حدة – فأقبل علي ولطم وجهي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مهلاً يا أبا بكر. فقال: يا رسول الله، أما سمعت ما قالت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الغيرة لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه) ( ).
ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صفية يوما فوجدها تبكي، فقال : ما يبكيك ؟
قالت : بلغني أن عائشة وحفصة تنالان مني وتقولان : نحن خير من صفية نحن بنات عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجه .
وظاهر كلامها أن النيل منها غير القول : نحن خير من صفية فلقنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم جواباً واقياً جامعاً مانعاً :
قال : ألا قلتِ لهم كيف تكّن خيراً مني وأبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صدق الله عليه وآله وسلم .
وكان بين صفية وبينهما عموم وخصوص من وجه إذ تلتقي معهما بأنها زوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتفترق عنهما بأمرين :
الأول : بنوتها من النبي هارون .
الثاني : عم صفية هو رسول الله موسى عليه السلام .
مع نسبهما وقربهما من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي تلقين النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصفية يجدد التصديق بالأنبياء السابقين ويخبر عن بقاء نسلهما ودخول بعض ذريتهما الإسلام .
وقد جعل الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الخمس ، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال (لا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس والخمس مردود فيكم)( ).
و(أخرج ابن عساكر عن عمر بن الحكم قال لما سبيت بنو قريظة عرض السبي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكانت فيه ريحانة بنت زيد بن عمرو فأمر بها فعزلت وكان يكون له صفي من كل غنيمة)( ).
وأخرج البيهقي في سننه عن يزيد بن الشخير عن رجل من الصحابة من أهل البادية ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتب له في قطعة أديم من محمد رسول الله الى بني زهير بن أقيس انكم إن شهدتم ان لا إله إلا الله وان محمد رسول الله وأقمتم الصلاة واتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم النبي وسهم الصفي)( ).
وعن رجل من الصحابة من أهل البادية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (كتب له في قطعة أديم من محمد رسول الله الى بني زهير بن أقيس انكم إن شهدتم ان لا إله إلا الله وان محمد رسول الله وأقمتم الصلاة واتيتم الزكاة وأديتم الخمس من المغنم وسهم النبي وسهم الصفي انتم آمنون بأمان الله ورسوله
قال ابن عبد البر سهم الصفي مشهور في صحيح الآثار معروف عند أهل العلم ولا يختلف اهل السير في ان صفية منه) ( ).
ولكن لم يكن إجماع في المقام على أن صفية بنت حيي بن أخطب من الصفي لورود بعض الأخبار بأنه اشتراها بعدد رؤوس .
وكان سبي صفية من حصن ناعم ، وهو أول حصن غزاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خيبر ، إذ كانت خيبر تتألف من شعبتين أو جهتين :
الأولى : حصون وقلاع منها :
الأول : حصن ناعم .
الثاني : حصن الصعب بن معاذ .
الثالث: حصن قلعة الزبير .
الرابع : حصن أبي .
الخامس : حصن النّزار .
وتقع الثلاثة الأولى أعلاه في منطقة تسمى (النطاة ) وأما الحصنان الآخران فيقعان في منطقة تسمى (الشق) وبهما دار قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم .
الثانية : الكتيبة وفيه حصون وهي :
الأول : حصن القموص وهو حصن ابن أبي الحقيق .
الثاني : حصن الوطيح .
الثالث : حصن السلالم .
ولم يقع قتال في الحصون الثلاثة أعلاه ، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعة عشر يوماًً ثم سألوه ألا يقاتلهم فاجابهم مع أن كثيراً من اليهود ممن قاتله في الحصون الأولى قد فرّ إلى هذه الحصون واستشهد من المسلمين في معارك خيبر عشرون رجلاً منهم راعي غنم أسود كان أجيراً عند رجل من اليهود ، وقيل أقل وقيل أكثر من هذا العدد , وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون رجلاً ، وفيها سبيت صفية .
وكانت قصة هذا الراعي أنه سأل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يعرض عليه الإسلام .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم محاصراً لأحد حصون خيبر ، فلم يحضره أو يعرض عنه أو يخبره بانشغاله عنه أو بأمره بالإسلام قهراً لأنه راع وهو محاصر للقوم ، ولم يحجبه عنه ، ولم يأمر أحد أصحابه بتولي مسؤولية عرض الإسلام عليه ولم يشك بأنه عين لأهل الحصن خاصة وأنه أجير عندهم إنما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعرض الإسلام على الراعي ، وهو من الإعجاز في نبوته وصدق رسالته بلحاظ أمور :
الأول : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعرض الإسلام على الفرد والجماعة.
الثاني : المساواة بين الناس في عرض الإسلام وعدم التمايز فيه بين الغني والفقير والسيد والعبد .
الثالث : قرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عامة الناس وانتفاء الحاجب والواسطة في الإتصال به والوصول إليه .
الرابع : استدامة ذات نهج عرض الإسلام على الناس والأفراد عامة حتى في حال كثرة المسلمين ، وظهور قوة دولة الإسلام ، وتقدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العمر .
ولما عرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإسلام على الراعي أعلن إسلامه ولابد أنه رآى من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصدق إيمان أصحابه ، ثم سأل الراعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الغنم : كيف يصنع بها فلم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإستحواذ عليها وأخذها غنائم ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له (اضرب في وجهها فانها سترجع إلى ربها)( ).
فقام الراعي بما أمره به رسول الله إذ أخذ حفنة من الحصباء ورمى بها في وجوه ومقاديم الغنم وخاطبها قائلاً : أرجعي إلى صاحبك ، فوالله لا أصطحبك .
لقد التحق بالمسلمين وصار واحداً منهم وامتنع عن العمل عند غيرهم ، فخرجت الغنم مجتمعة كأن معها سائقها يسوقها حتى دخلت الحصن .
ولا بأس بتأليف مجلدات خاصة بإسلام الأفراد , واستقراء المسائل منها , وكيف أن الإسلام انتشر بالمعجزة والبرهان القاطع, ولكل واحد في اسلامه قصة وكيفية مستقلة تستقرأ منها دلائل النبوة والأسرار الملكوتية التي تجذب الناس إلى الهدى والإيمان ، ليكون من معاني قوله تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً]( ) وجوه :
الأول : ترشح دخول الناس في الإسلام جماعات وأفواجاً عن نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفتح مكة .
الثاني : الملازمة بين النصر ودخول الناس جماعات وأفواجاً .
الثالث : سبق دخول الناس أفراداً في الإسلام على دخولهم قبائل وجماعات .
الرابع : التخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دخول الناس في الإسلام فبعد أن كان يعرض الإسلام ومبادئه وأحكامه على الأفراد ويرجو اسلامهم ، صار الناس يأتون طواعية إلى المدينة يعلنون اسلامهم واسلام من خلفهم من عوائلهم وقبائلهم .
الخامس : دلالة أداة الشرط (إذا ) على البشارة بكثرة المسلمين وتوالي دخول الناس في الإسلام .
وهل يدل على إرادة أيام حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم, وما بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى ، الجواب نعم ، وقد يقال بدلالة[وَرَأَيْتَ] على التقييد والحصر بخصوص أيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن آيات السورة تدعوه حينئذ للتسبيح والإستغفار وهو من أعمال الدنيا ، والمختار الإطلاق الزماني ، وعدم التقييد والحصر ويكون من معاني قوله تعالى[وَإِذَا رَأَيْتَ]( ) أي : إذا رأيتم .
إن في رجوع الغنم من غير راع إلى الحصن إذ فتحوا لها الباب ، وعلم أهله بدخول الراعي الإسلام حجة عليهم ، وبيان الإنصاف وعدل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتنزهه عن أخذ أموالهم ، وأنه لم يحاصرهم بسببها أو طلباً لها .
إنما أراد الهدى والإيمان وصار الراعي يقاتل مع المسلمين ، فأصابه حجر فقتله فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووضع خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغطوه بكساء ، وفيه إكرام خاص له ، والتفت إليه النبي ثم أعرض عنه ، وكان مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(نفر من أصحابه ثم أعرض عنه فقالوا يا رسول الله لم أعرضت عنه ؟ قال إن معه الآن زوجتيه من الحور العين ينفضان التراب عن وجهه ويقولان ترب الله وجه من ترب وجهك وقتل من قتلك) ( ).
لأنه قاتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبأمره ، وهذا الأمر من الوحي .
وعندما بنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفية تولى أبو أيوب الأنصاري حراسة خيمته .
واسمه خالد بن زيد اخو بني النجار, وقامت أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك باصلاحها , ولم يكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم صفية على الإسلام إنما أسلمت طواعية .
وبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع صفية في قبة له ، وأبو أيوب متوشحاً سيفه يطوف بالقبة وعند الصباح رآى النبي مكانه قال :
مالك يا أبا أيوب ، مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعلم بحراسته له ، فذكر أبو أيوب أسباب الحراسة :
الأول : خفت عليك هذه المرأة .
الثاني : أنها امرأة قتلتَ أباها وهو حيّ بن أخطب ، ونسب أبو أيوب القتل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه لم يباشره .
الثالث : قد قتلتَ زوجها ، وهو كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق , ولم تلد صفية له ، ولا لزوجها الأول سلامة بن مشكم ، وكان عند كنانة هذا كنز بني النضير ينفرد بحفظه ، وهو مؤتمن عليه ، مما يدل على شأن كنانة في قومه لذا زوجه حيي بن أخطب وهو رئيس بني النضير ابنته ، كما في خزائن المصافي هذه الأيام ، وعندما أحضر بيد يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأله عنه ، فبعد وأنكر العلم بمكانه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله برجل من اليهود ، فقال أني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة , أي أن هذا الطواف أمارة على وجود أمر ما فيها يتفقده كل صباح.
فقال النبي لكنانة : أرأيت إن وجدناه عندك أقتلك؟.
قال كنانة : نعم ، أي مع أن كنانة بالأسر فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكلم معه بصيغة الشرط .
فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحفر الخربة والبحث فيها عن الكنز، فأخرج منها بعض كنزهم، ويبدو أنه قام بتوزيع وتقسيم الكنز في أكثر من موضع .
فسأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما بقي من الكنز فأبى أن يؤديه أو أن يخبر عنه، فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الزبير بمحاولة إستئصاله منه، ولكنه إمتنع، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى محمد بن مسلمة فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة.
الرابع : قد قتلت قومها وجعلت عتقها صداقها , ومنهم من يعد هذا الصداق من مختصات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
والمختار إرادة العموم وجواز أن يكون العتق صداقاً .
الخامس : أنها حديثة عهد بديانة غير الإسلام ، ولم يعلم أبو أيوب أن من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إدراك زوجته صدق نبوته من أول وهلة تجمعها معه ، لذا لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخشى مكرها وكيدها ، وهو من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد كانت صفية معه في الطريق من خيبر إلى المدينة قبل أن تطهر وتصلح له .
فدعا له النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينئذ وقال له: حرسك الله يا أبا أيوب كما بت تحرس نبيه، وذكرت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (رحمك الله يا أبا أيوب) مرتين.
وبقي أبو أيوب سالماً وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عيله وآله وسلم كما شهد مع الإمام علي عليه السلام قتال الخوارج بالنهروان وقد آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين مصعب بن عمير.
ومات سنة خمسين، ودفن في القسطنطينية أيام إرادة المسلمين فتحها، وتم بناء مسجد على قبره بعد سبع سنوات من وفاته، ويسمى مسجد أيوب سلطان) .
وصار لهذا المسجد شأن عظيم عند سلاطين الدولة العثمانية فإذا تولى أحدهم الحكم والسلطة يقيم مجلساً عظيماً في هذا المسجد، ويتقلد فيه سيف السلطة والحكم , وأكبر عامة الأتراك لأبي أيوب إستضافته للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما قدم مهاجراً من مكة إلى المدينة وإحتسبوها جهاداً في سبيل الله.
ولم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي أيوب ان حراستك أمر زائد أو أني واثق منها ، إنما رفع يديه بالدعاء ، وقال (اللّهُمّ احْفَظْ أَبَا أَيّوبَ كَمَا بَاتَ يَحْفَظُنِي)( ).
وهناك مسألتان :
الأولى : لقد بات النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتكلم ويتحدث مع صفية الليل كله ، فهل كان أبو أيوب يسمع الكلام .
الثانية : وأرادت المرأة الفتك بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قرب فهل يستطيع أبو أيوب التداخل والتدارك .
والجواب على الأولى ، أن أبا أيوب لا يسمع كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنه يرقب ويرصد خشية وقوع أمر طارئ من قول أو فعل فيه ريبة .
وأما الثانية فالجواب نعم .
ولم يطلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحراسة عن دخول صفية ، ولكن بعدها بيوم أو يومين وفي بعض الطريق وهم يسيرون (مِنْ آخِرِ اللّيْلِ مَنْ رَجُلٌ يَحْفَظُ عَلَيْنَا الْفَجْرَ لَعَلّنَا نَنَامُ ؟ .
قَالَ : بِلَالٌ أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ أَحْفَظُهُ عَلَيْك . فَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَنَزَلَ النّاسُ فَنَامُوا وَقَامَ بِلَالٌ يُصَلّي فَصَلّى مَا شَاءَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ أَنْ يُصَلّيَ ثُمّ اسْتَنَدَ إلَى بَعِيرِهِ وَاسْتَقْبَلَ الْفَجْرَ يَرْمُقُهُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ فَنَامَ فَلَمْ يُوقِظْهُمْ إلّا مَسّ الشّمْسِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَوّلَ أَصْحَابِهِ هَبّ)( ).
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة اللوم ماذا صنعت يا بلال ؟
لبيان الضرر الفادح الذي لحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بتفويت صلاة الصبح عن وقتها ، فقد أوكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإخبار عن أوان طلوع الصبح إلى بلال .
ومن الإعجاز في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم العبادية أنه لم يأمر أحد أهل بيته أو أصحابه على نحو التعيين برصد طلوع الصبح كي يقال اختاره النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنام ، إنما توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه بالسؤال عمن يتطوع بالسهر لترقب الصبح ، ليدل الخبر بالدلالة التضمنية على إطمئنان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الطريق بعدم مداهمة الكفار لهم من جهات :
الأولى : كفاية رجل واحد للحراسة والبقاء في حال استيقاظ .
الثانية : تعيين النبي صلى الله عليه وآله وسلم لموضوع الحفظ وهو طلوع الفجر.
الثالثة : تطوع بلال للسهر وذكره حفظ الفجر بخصوص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : انا يا رسول الله احفظه عليك ، ولم يقل أحفظه عليكم .
الرابعة : هل يدل ظاهر الخبر على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يصلوا صلاة الليل .
الجواب لا ، إذ يفرق الخبر بين كونهم في بعض وبين آخر الطريق كما تقدم كما عن سعيد بن المسيب قال (ولما انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خيبر فكان ببعض الطريق فما كان آخر الليل)( ).
أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكمل قيام الليل في آخره ثم أوصى بلالاً بحفظ طلوع الفجر.
الخامسة : نوم بلال اثناء تعهد مسؤولية دفع النوم عن نفسه في آخر ساعات الصباح ، إذ يدل هذا النوع بالدلالة الإلتزامية على عدم هجوم مباغت من العدو .
وأصيب سلمة بن الأكوع يوم خيبر في ساقه، فقال الناس : أصيب سلمة.
فجاء سلمة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنفث في موضع الإصابة ثلاث نفثات ، فلم يشتكها سلمة بعدئذ أبداً (قال سلمة بن الأكوع:
غزوت مع أبي بكر أمّره النبي صلى الله عليه وسلم علينا) ( ).
وصارت جارية وضيئة من هوازن سبية عند سلمة ، فلقيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السوق ، فقال : يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك.
فقال سلمة : يا نبي الله اعجبتني المرأة ، وما كشفت لها ثوبا .
قال سلمة : فسكت عني .
حتى إذا كان في الغد لقيني في السوق ولم أكشف لها ثوباً .
فقال : يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك .
قلت : هي لك يا رسول الله ، وكان سلمة يظن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطلبها لنفسه لحسنها .
فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة يفادى بها أسارى من المؤمنين في أيدي المشركين .
(وعن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: جاء عين للمشركين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: فلما طعم انسلّ، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عليّ بالرجل، اقتلوه قال: فابتدر القوم، قال: وكان أبي يسبق الفرس شدّاً. قال: فسبقهم إليه فأخذ بزمام ناقته أو بخطامها. قال: ثم قتله. قال: فنفّله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلبه) ( ).
لقد ظن سلّمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يطلب المرأة لنفسه خاصة وأنه ألحّ عليه ، ومع هذا الإلحاح فانه لم يخبره بقصد بعثها عوضاً لأهل مكة لفداء الأسرى من المؤمنين الذين لم يؤسروا إلا ظلماً ، وأن سبي النساء كان أمراً متعارفاً .
وهل كان الكفار يسعون لسبي نساء المسلمين ، الجواب نعم ، ولكن من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلامة نسائه ونساء المسلمين من السبي والأسر ، وفيه دعوة للمسلمين لتعاهد معاني العفة والطهارة وأداء الوظائف العبادية شكراً لله عز وجل .
لقد هجم ثلاثة آلاف رجل من المشركين على المدينة في معركة أحد ، وصاروا على بعد نحو ثمانية كيلو متر عنها وهم يسعون لأمور :
الأول : قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : قتل طائفة من الصحابة وأسر طائفة أخرى .
الثالث : سبي نساء المسلمين .
الرابع : استباحة المدينة المنورة .
الخامس : نهب الأموال الخاصة ، ومنها أموال اليهود الذين كانوا يقطنونها ، وكان لبني قينقاع سوق فيها .
السادس : منع إقامة الصلاة وأداء الواجبات العبادية .
السابع : إشاعة عبادة الأصنام في المدينة المنورة .
وهل هذه الإشاعة باعادة معالم الكفر التي كان عليها أهلها ، الجواب إنما أرادوا أضعافها [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ) .
وفي الآية أعلاه وردت أقوال :
الأول : (فقال ابن عباس : الهاء عائدة على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعني ليعلمه شرائع الدين كلها فيظهره عليها حتى لايخفى عليه منها شيء.
الثاني : قال آخرون : الهاء راجعة إلى دين الحق.
الثالث : قال أبو هريرة والضحاك : ذلك عند خروج عيسى إذا خرج اتبعه كل دين وتصير الملل كلها واحدة،
فلا يبقى أهل دين إلا دخل في الإسلام أو أدى الجزية إلى المسلمين.
الرابع : قال السدّي : وذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدّى الخراج.
الخامس : قال الكلبي : لا يبقى دين إلا ظهر عليه الإسلام وسيكون ذلك، ولم يكن بعد، ولا تقوم الساعة حتى يكون ذلك) ( ).
والمختار أن الآية مطلقة وفي كل زمان من حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان عمر صفية يوم دخل بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبع عشرة سنة ، وعندما طهرت من حيضها وصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بعد ستة أميال من خيبر مال يريد أن يعرس بها فامتنعت وطلبت الاستمرار بالمسير فوجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه ، فلما كان بالصهباء وهي على بريد من خيبر.
وأصل البريد كلمة فارسية يراد منها البغل ، وهو (بريد دم) أي مقطوع الذنب لأن بغال البريد مقطوعة الأذناب كعلامة لها ، ولمنع التعرض لها وسرقتها وحتى إن قام بعضهم بسرقتها فان الشرطة والعرفاء يلاحقونه ، كما أنه لا يشتريها منه أحد ، وسمي الذي يركبها البريد ، والإجماع على أن البريد أربعة فراسخ ثم اختلف في مقدار وطول الفرسخ .
وعند الإمامية والحنفية والمالكية البريد الواحد نحو 22 كم , والفرسخ نحو 5,5 كم ، وعند الحنابلة والشافعية البريد 44 كم ، ويتعلق به موضوع أحكام السفر .
وفي هذا الزمان ومع التداخل بين الشعوب والصلة والتقارب بين العلماء فلابد من الإتفاق على مقدار ومسافة واحدة للبريد .
نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصهباء ، فمشتطتها أم سليم وعطرتها .
قالت أم سنان الأسلمية : وكانت من أضوأ ما يكون من النساء فدخل على أهله ، فلما أصبح سألتها ماذا قال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيان لقانون وهو أن الصحابة رجالاً ونساءً يوثقون ما يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى مع أزواجه .
وهو من الإعجاز في تسميتهن أمهات المؤمنين فأجابت صفية (قال لي: ” ما حملك على الإمتناع من النزول أولاً؟ ” فقلت: خشيت عليك من قرب اليهود فزادها ذلك عنده)( ).
ومن مختصات أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن زينب بنت جحش تفخر على نساء النبي الآخريات بأمور :
الأول : نزول أمر نكاحها من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً] ( ) وتقول لهن زوجكن أهاليكن .
الثاني : نزول آية الحجاب ، وآية الحجاب هي [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا] ( ) .
وبعد أن نزلت آية القّر بقوله تعالى [وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ]( ) وقال لنسائه عام حجة الوداع كما عن أبي هريرة : هذه ، ثم ظهور الحصر ) أي هذه الحجة ثم اتخذن الحصير كالدابة كناية عن الاقامة في البيوت . وغادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
قال : فكان كلهن يحجن إلا زينب بنت جحش ، وسودة بنت زمعة ، وكانتا تقولان : والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)( ).
والمراد من ظهور الحصر ، أي الزمن بيوتكن , والجلوس على الحصير ، وليس ركوب الدواب مطلقاً سواء للسفر لأداء مناسك الحج أو غيره .
ومنهم من قال أن الحديث موضوع لذم عائشة على خروجها إلى البصرة في واقعة الجمل .
وقد وردت عدة أخبار في أسباب نزول هذه الآية منها أنها وردت في قصة زينب بنت جحش فكانت تتفاخر بها .
(عن أنس بن مالك قال: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زينب بنت جحش، دعا القوم فَطَعموا ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو[كأنه] يتهيأ للقيام فلم يقوموا. فلما رآى ذلك قام، فلما قام [قام] مَنْ قام، وقعد ثلاثة نفر.
فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليدخل، فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقت، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم قد انطلقوا. فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل، فألقي الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ }( ))( ).
ويدل تعليل حسنّ الحجاب بأنه أطهر للقلوب وعلى نحو البيان التفصيلي بأنه شامل على لطهارة قلوب الرجال والنساء ، ليتضمن أموراً :
الأول : التعليم والإرشاد .
الثاني : منع الجدال والإختلاف في الحكم .
الثالث : الدعوة للإمتثال لحكم الحجاب .
الرابع : النهي عن الإفراط والتفريط بالتشديد بالحكم أو التهاون فيه .
كما يدل هذا التعليل على إرادة عموم الحكم ليشمل جميع نساء المسلمين لأن العلة قد تعمّم معلولها أو قد تخصص ، والأصل في أحكام الأوامر والنواهي القرآنية العموم إلا مع الدليل أو القرينة على التخصيص ، وبدليل إبتداء آية الحجاب بالنداء والخطاب التشريفي لعموم المسلمين والمسلمات بلفظ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] وما فيه من التنبيه والبعث على العمل بمضمون الآية الكريمة والحكم الشرعي المقترن به .
الثالث : صلة قربى زينب بنت جحش برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ أنها ابنة عمته .
(عن الكميت بن زيد حدثني مذكور مولى زينب ابنة جحش عن زينب بنت جحش قالت خطبني عدة من قريش فأرسلت أختي حمنة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أستشيره فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أين هي ممن يعلمها كتاب ربها عز و جل وسنة نبيها صلى الله عليه وآله وسلم قالت ومن هو يا رسول الله قال زيد بن حارثة قالت فغضبت حمنة غضبا شديدا وقالت يا رسول الله أتزوج ابنة عمتك مولاك قالت وجاءتني فأخبرتني فغضبت أشد من غضبها وقلت أشد من قولها فأنزل الله عز و جل “وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم”( ) فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوجني من شئت فزوجني زيد بن حارثة فأخذته بلساني فشكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال أمسك عليك زوجك واتق الله .
فقال : أطلقها يا رسول الله .
قالت : فطلقني فلما انقضت عدتي لم أعلم إلا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد دخل علي وأنا مكشوفة الرأس الشعر فلما رأيت ذلك علمت أنه من أمر السماء فقلت يا رسول الله لا خطبة ولا إشهاد قال الله عز و جل المزوج وجبريل الشاهد)( ).
وعن عائشة أن بعض نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسألته : أينا أسرع بك لحوقاً ، قال أطولكن يداً .
فأخذوا قصبة يذرعون بها أيديهن ، فكانت سودة بنت زمعة أطولهن يداً .
ولكن المراد من الحديث أكثرهن صدقة ، وهي زينب بنت جحش ، إذ أنها كانت تعمل بيدها وتتصدق قربة إلى الله ، وكانت تصل الرحم ، وتتصف بالتقوى , وتزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم زينب بنت جحش عند هلال ذي القعدة سنة أربع من الهجرة ، وهي بنت خمس وثلاثين سنة .
و(عن أنس قال: أولم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على زينب فأشبع المسلمين خبزاً ولحماً، ثم خرج فصنع كما كان يصنع إذا تزوج، فأتى أمهات المؤمنين فسلم عليهن وسلمن عليه ودعا لهن، ثم رجع وأنا معه) ( ).
وكان نكاح المرأة بعد انقضاء عدتها شائعاً عند الصحابة خاصة مع تعدد الشهداء أو وقوع الطلاق .
فمثلاً كانت عاتكة بنت زيد أخت سعيد بن عمرو بن نفيل عند عبد الله بن أبي بكر ، فهام في حبها ، وانشغل بها حتى عن صلاة الجمعة ، وأمره أبوه بطلاقها لأنها فتنته فقال :
(يقولون طلقها وأصبح مكانها … مقيماً تمنني النفس أحلام نائم
وإن فراقي أهل بيت أحبهم … وما لهم ذنب لإحدى العظائم
فلم يزل أبوه حتى طلقها، فلم يصبر عنها واتبعا نفسه، فهجم عليه أبوه يوماً فسمعه يقول:
فلم أر مثلي طلق اليوم مثلها … ولا مثلها في غير ذنب تطلق
لها خلق جزل ورأي ومنصب … وحلم وعقل في الأمور ومصدق
فرّق له فراجعها، ولم تزل عنده حتى أصابه سهم في الطائف فمات، فرثته بقولها:
وآليت لا تنفك عيني سخينة … عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
فلله عينا من رأى مثله فتى … أعف وأكفى في الأمور وأصبرا
إذا أشرعت فيه الأسنة خاضها … إلى الموت حتى يترك أحمرا) ( ).
وبعد انقضاء عدتها تزوجها عمر بن الخطاب ، وأولم عليها ودعا الصحابة واستأذن الإمام علي عليه السلام من عمر أن يميل رأسه إلى خدر عاتكة ويكلمها ، قال : نعم .
فأمال رأسه وقال لها يا عدية نفسها وذكرّها بالشعر الذي قالته في عبد الله ، فبكت .
فقال عمر : يا أبا الحسن ما دعاك إلى كل هذا , كل النساء يفعلن .
ولما قتل عمر عنها رثته بشعر منه :
(فجعني فيروز لادر دره … بأبيض تال للكتاب منيب
رءوف على الأدنى غليظ على العدا … أخي ثقة في النائبات مجيب
متى ما يقل لا يكذب القول فعله … سريع إلى الخيرات غير قطوب)( ).
وتزوجها الإمام الحسن بن علي عليه السلام فيما بعد ، ولم تتزوج غيره .
وفيه زواج المرأة بعد طلاقها أو وفاة زوجها غير ضير عليها ، وأن تعددت حالة الوفاة أو القتل خاصة , وأن المسلمين كانوا في دفاع ضد الذين كفروا , ليبوؤا باثمهم في إنخرام أيام المؤمنين في الدنيا , ويتم أبنائهم , وترمل نسائهم .
ومع منزلة زينب بنت جحش عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(وغضب عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقولها في صفية بنت حيي، تلك اليهودية فهجرها لذلك ذا الحجة والمحرم وبعض الصفر ثم أتاها بعد وعاد إلى ما كان عليه معها) ( ).
وظاهر الخبر أعلاه أنها لن تنعت صفية باليهودية قبلاً ، وفي حديث معها، إنما قالت الكلام مع غيبتها وعدم حضورها .
طريق الهجرة وإجتناب النبي ص القتال فيه
لقد هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة بعد ليلة أراد فيها المشركون قتله في فراشه ، وكان قد هاجرت طائفة من أصحابه قبله.
ولقد أذن الله عز وجل له بالهجرة وأعدّ الزاد والراحلة وأنتظر حلول الظلام ليغادر بيته ، ويلحق به أبو بكر ، فيتجها نحو غار ثور للإختباء عن عيون الكفار ، ترى لماذا لم يتجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة إلى المدينة من غير ان يختبئ في الغار ، الجواب من جهات :
الأولى : لم يدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم غار ثور إلا بوحي من عند الله ، لذا ورد قوله تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا] ( ).
الثانية : طلب قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم , وخروجهم في أثره .
الثالثة : سرعة عدد خيل قريش .
الرابعة : سؤال قريش القاطنين حول مكة والمسافرين القادمين إليها والخارجين منها .
والرعاة عن النبي وصاحبه ، مع بيان أوصافهما .
الخامسة : إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم منع القتلى والإقتتال في طريق الهجرة ، ان كيفية وطريقة سفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً آية من عند الله , ودليل على إجتنابه أسباب ومقدمات القتال واللقاء مع المشركين ، وفيه دعوة لهم للكف عن اللحاق به ومطاردة أصحابه .
السادسة : إرادة بيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في غار ثور ، ليزداد المسلمون إيماناً , ولينزجر المشركون ، ويكفوا عن إيذائه وليمتنعوا عن محاربته .
ولا يبعد غار ثور عن البيت الحرام إلا نحو أربعة كيلو مترات ، فدخل فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر الغار , وبقيا فيه ثلاث ليال .
وأخرج بالإسناد عن ابن عباس في قوله: { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك } قال : تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق – يريدون النبي صلى الله عليه وسلم – وقال بعضهم : بل اقتلوه ، وقال بعضهم : بل أخرجوه . فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فبات علي رضي الله عنه على فراش النبي صلى الله عليه وسلم ، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون علياً رضي الله عنه يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوه علياً رضي الله عنه رد الله مكرهم فقالوا : أين صاحبك هذا؟ قال : لا أدري . . . ! فاقتصوا أثره ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا : لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال)( ).
وقال بحسن أسناد هذا الحديث ابن حجر في فتح الباري وابن كثير من البداية والنهاية .
كما ورد عن ابن عباس ما يدل على أن ابليس حضر عند قريش لتحريضهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودفعهم لإختبار قتله ويدرك ابليس عجزهم الوصول إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقتله ، ولكنه أراد فتنتهم وبعثهم على التمادي في محاربته ، لعل الناس يصدون ويبطئون ويتباطؤون بدخول الإسلام , وفي التنزيل[إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا]( ).
وتناجى بعض وجهاء قريش وقبائل وبيوتات متعددة للإجتماع في دار الندوة ، فاعترضهم ابليس في صورة شيخ كبير ، وبهيئة يبدو عليها الوقار ، فاستغربوا وجوده ، فقالوا : من أنت؟
قال شيخ من أهل نجد ، سمعت بعزمكم على الإجتماع ، وموضوع هذا الإجتماع فاردت ألا يفوتكم مني رأي ونصح ، والأمر إليكم ولكم إختيار أو ترك ما أبديه من الرأي .
عندئذ أذنوا له بالدخول معهم إلى دار الندوة والتي أنشأها جدّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واسمه قصي بن كلاب بن مرة بن كعب وكان اسمه زيداً ، إنما بعدت داره عن قريش لأن أمه فاطمة بنت سعد تزوجت ربيعة بن حرام من سادات بني عذرة بعد وفاة زوجها كلاب بن مرة فأخذت معها ولدها لصغر سنه ثم عاد عندما كبر وعيره بنو عدذرة بأنه ليس منهم في قصة تقدم ذكرها .
ليجتمع في دار الندوة وجهاء وحكماء قريش ، ولا يقضون أمراً إلا فيها وبالتشاور بينهم .
وهل دار الندوة أول بناء في مكة وكان أهلها يسكنون مضارب وخيماً من الشعر الأسود ، كما قال بعض الإخباريين ، الجواب لا ، إنما بنى أهل مكة الدور والبيوت حول البيت الحرام .
لقد جعل الله عز وجل البيت الحرام مكاناً آمناً ، وقال تعالى [وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ* وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ] ( )والمراد بالبلد الأمين هو مكة وتؤيده آيات أخرى منها ما ورد حكاية عن إبراهيم عليه السلام في دعائه [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ]( )ويترشح عن الأمن العمارة وبناء البيوت والإستقرار ، كما كانت مكة طريقاً للتجارة بين الشام واليمن والحيرة ، وقد تولت سدانة وولاية البيت قبيلة جرهم ، وهم أخوال أولاد اسماعيل عليه السلام ، ثم انتقلت السدانة إلى خزاعة بعد قدومها من مكة ، واعتنى بها التبابعة ، وكساها التبع أسعد أبو بكر الحميري ، وقد آمن برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة وقال
(شهدْتُ على أحمدٍ أنه … رَسُولٌ من اللَّه بارِي النَسَمْ
فَلَوْمُدَّ عُمْرِي إلى عمره … لكنْتً وزيراً له وابن عم
وألْزِمُ طاعَتَهُ كلً منْ … على الأرض من غرُب أوعجم
و أول من كسا الكعبة الأنطاع والبُرُودَ، فلذلك يقول بعض حِمْيَر:
وكَسَوْنَا البيْتَ ائَنِي عظم اللَّهُ مُلاَءً مُقضَباً وَبُرُودا)( ).
ولقد قاتل قصي خزاعة في مكة بسبب ولاية البيت الحرام ، إذ أنه تزوج حبىَّ بنت حليل بن حبشية الخزاعي ، فولدت له أولاده الأربعة ، وحليل هذا هو آخر من ولي البيت من خزاعة ، ولما كبر وتقدمت به السن جعل ولاية البيت إلى ابنته حبىَّ ، وكانوا يفتحون البيت في الصباح ، ويغلقونه في المساء تقديساً وتنزيهاً له .
ليبعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ، ويبقى البيت مفتوحاً على مدار الساعة تقديساً وتنزيهاً له .
ويبقى هو المصداق الجلي لقوله تعالى [وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ) إلى يوم القيامة لبيان أن تمام الدين وأداء المناسك كاملة لا يتم إلا ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا] ( ).
وقالت حبىَّ لأبيها : قد علمت أني امرأة ولا أقدر على فتح الباب في الصباح واغلاقه في المساء , وقامت بجعل هذا الفتح والإغلاق لرجل منهم يسمى أبا غبشان.
فقام قصي بشراء ولاية البيت منه ، خاصة وأنه زوج حييَّ ، ولكن خزاعة لم يرضوا بالأمر .
وحدث قتال بينهم ، فأصابت العدسة خزاعة وهو مرض معد , ولا يمهل صاحبه ، وقد تقدم أن أبا لهب مات به فغادر أغلب خزاعة مكة ، قال الطبري (فمنهم من وهب مسكنه ومنهم من باع ومنهم من أسكن .
فولي قصي البيت وأمر مكة والحكم بها , وجمع قبائل قريش فأنزلهم أبطح مكة وكان بعضهم في الشعاب ورؤوس جبال مكة فقسم منازلهم بينهم فسمي مجمعا .
وله يقول مطرود وقيل إن قائله حذافة بن غانم …
أبوكم قصي كان يدعى مجمعا … به جمع الله القبائل من فهر) ( ).
وقام قصي ببناء دار الندوة ليجتمعوا فيها لتداول الشؤون العامة ، وقيل إتخذها داراً لسكناه ، وصارت محلاً لعقد الأحلاف والمواثيق ، وفيها حالف عبد المطلب خزاعة ثم انتفع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الحلف في صلح الحديبية ، وفيها حضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلف الفضول .
وكان التجهز لقوافل التجارة نحو الشام واليمن يتم في دار الندوة ، وإذا طرأ أمر تناجوا إلى دار الندوة ، ولا يحضر الإجتماعات ذات الشأن إلا من كان عمره فوق الأربعين سنة ، باستثناء بني قصي ، ومن عُرف برجاحة عقله .
لتدور الأيام وتجتمع قريش في دار الندوة للإتفاق على حصار بني هاشم ورصد وإحصاء المسلمين وإيذائهم ثم لإرادة اغتيال وقتل النبي محمد صلى الله عليه ووآله وسلم .
وحينما اجتمعوا لهذا الغرض جاء إبليس بهيئة عجوز وأدعى أنه رجل من نجد ، فان قيل هل يمكن أن يحضر ابليس آنذاك بزي البشر .
الجواب نعم باذن الله لأنه من الفتنة أثناء بعث الأنبياء ولصد الناس عن نبي زمانه بتحريض رؤساء الشرك والضلالة، وفي التنزيل حكاية عنه[قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
ولبيان أن الله عز وجل هو القوي الغالب ، وحضر يومئذ الحكم بن هشام (أبو جهل) مع أن عمره ثلاثون سنة لما عرف عنه من حسن التدبير ، وإبداء الرأي ، وحضر معهم حكيم بن حزام , وعمره خمس عشرة سنة لأنه ولد في الكعبة .
وأذنوا لابليس وهو بهيئة الرجل النجدي بالدخول معهم لأن دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تتعلق بعبادة الأصنام ودين الآباء فحرص على أن لا يتشتت الكلام ويتكلموا في التجارة ونحوها , فبادر إلى القول(انظروا في شأن هذا الرجل – فوالله – ليوشكن أن يواتيكم في أمركم بأمره)( ).
أي أنه حذرهم وأنذرهم وأراد إثارتهم وفتنتهم, وقال لهم إذا سكتم عنه فانه سيغلب أمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عليكم، ولم يكذب بهذا لأنه يعلم أن الله عز وجل[ يُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( ).
عندئذ قال أحدهم: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة , أراد أن الوثاق والحبس يمنعه من الإتصال بالناس ودعوتهم إلى الإسلام ، ويجعله في حال من الشكوى والأذى والسعي والتوسل بهم لإطلاقه من الحبس وهم قد عزموا على عدم إطلاقه .
فقام الشيخ النجدي بابطال هذا الرأي بالحجة بأن أصحابه يثبون على السجن ويكسرون بابه ، ويخرجون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم يمنعونه ويهاجرون به إلا بلاد أخرى ، وأراد تحذيرهم من هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه يعلم أن فيها عزّ وانتصارَ الإسلام .
ثم طلب منهم الشيخ النجدي أن ينظروا في رأي آخر بخصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليحصر موضوع اجتماعهم بالإنتقام منه والبطش به .
فقال أحدهم : أخرجوه بين أظهركم فاستريحوا منه .
أراد أن ابتعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مكة يصرف عنهم دعوته الناس للإسلام ، ويكون أمره ودعوته في غيرهم .
وقد حذّر الشيخ النجدي من هذا القول إذ أنه يخاف هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنع وحماية الأنصار له . ففزع من هذا القول ولكنه لم يظهر فزعه إنما قال : ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه ، وأخذه القلوب بما تستمع من حديث .
ثم أنذرهم وحذرهم بأنه إذا خرج من مكة وسلطان قريش تجتمع عليه العرب ، ثم يدخل مكة فاتحاً ، وكذّب عليهم بأنه يقتل أشرافهم ، وهو لا يقصد القتل في الحال وتلك الأيام أو في فتح مكة إنما مراده معركة بدر وأحد ، فتكلم بالتورية والإيهام ، عندئذ استأذن أبو جهل بأن يبدي لهم رأياً ، فقالوا : وما هذا ؟
(قال : نأخذ من كل قبيلة غلاما شابا ثم نعطيه سيفا صارما حتى يضربوه ضربة رجل واحد فإذا تفرق دمه في القبائل فلا أظن أن بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلها فإذا أرادوا ذلك قبلوا العقل و استرحنا منه ثم أصلحتم أمركم فاجتمع ملككم على ما كنتم عليه من دين آبائكم .
فقال النجدي : القول ما قال هذا الفتى , لا رأي غيره فتفرقوا على ذلك)( ).
ولما أرادوا قتله في فراشه , نزل جبرئيل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمره أن لا يبيت في مضجعه ، وأخبره بمكر القوم وما عزموا عليه فأمر علياً عليه السلام أن يبيت بدلاً عنه في مضجعه لأن قريشاً إذا رأت المضجع خالياً سعوا للبحث والتفتيش ومحاولة العثور على النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وتتبع أثره لقتله بعد أن اتفقوا على قتله في تلك الليلة من غير أن تكون موضوعية أو تقييد بأن يقتل في فراشه .
قانون الإجارة
يقال استجار يستجير استجر استجارة فهو مستجير , واستجاره فهو مستجير واستجاره : أي سأله أن يؤمّنه ويهيئ له أسباب الحماية .
وفي المثل : كالمستجير من الرمضاء بالنار ، يضرب مثلاً للذي يفر من شر ويقع فيما هو أشد وأمرّ منه , والإستجارة مأخوذة من الجوار ، إذ أن المستجير بك يلوذ بجوارك وذمامك , ويحتمي بظلك وأمانك وعهدك .
والإستجارة عند العرب قديمة ، وقد تقع معارك وتسفك الدماء بسبب إجارة قبيلة لشخص أو جماعة من قبيلة أخرى ، كما تقع الإجارة داخل القبيلة الواحدة .
وجاء الإسلام ليثبت القيم الأخلاقية الحميدة .
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق) ( ).
ومن إعجاز القرآن ومصاديق قوله تعالى في الثناء عليه [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] ( ) ذكره للإستجارة وقد وردت مادة (أجار ) في سبع مواضع من القرآن ستة في اللجوء إلى الله ، وبيان عظمته ، منها قوله تعالى [قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] ( ) .
ووردت واحدة في الإستجارة بين الناس ، وأبى الله عز وجل إلا أن يجعلها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ] ( ) وفيه مسائل :
الأولى : بيان الخصال الحميدة للنبوة .
الثانية : تأكيد إتصاف شريعة الإسلام بالسماحة .
الثالثة : بيان مصداق العفو وكظم الغيظ في الدعوة إلى الله ، قال تعالى [الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] ( ).
الرابعة : صيرورة الإجارة قانوناً في الإسلام ، واذا كانت الإجارة تصح للمشرك فمن باب الأولوية إجارة المسلم الخائف .
الخامسة : تتقوم الإجارة بأمور الدين والشريعة ومقدمات دخول الإسلام .
لتكون الإجارة نوع طريق لمعرفة الناس بالإسلام وليسمعوا آيات القرآن ويتدبروا في معانيها ودلالاتها.
والإجارة أعم إذ تشمل إعطاء الأمان للخائف ، ولو من ذات صاحب الأمان ، فمن الإجارة اعطاؤك الأمان لمن يخشى عقابك وطلبك له .
وعن (عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس عام الفتح ، ثم قال : أيها الناس إنه لا حلف في الإسلام ، وما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لا يزيده إلا شدة .
والمؤمنون يد على من سواهم يجير عليهم أدناهم , ويرد عليهم أقصاهم ، ترد سراياهم على قعيدتهم ، لا يقتل مؤمن بكافر ، دية الكافر نصف دية المسلم ، لا جلب ولا جنب ، ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم)( ).
ولو أجار عبد مملوك مسلم شخصاً من الحربيين الذين يقاتلون المسلمين، فهل يمضي المسلمون إجارته , الجواب نعم ، وهو من مصاديق لفظ(أدناهم) في الحديث أعلاه ، وكذا بالنسبة لصحة إجارة المرأة .
ولا يجوز أن يبطلوا اجارتها ، ويحرم حينئذ دم المستجير ومنهم من حذر من الإحتيال والخدعة في الإستجارة وأنها قد تكون مكراً أو كسباً للوقت.
ولكن الآية جاءت مطلقة ، وفي السنة النبوية شواهد كثيرة تدل على قبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإستجارة وحفظ مال المستجير ورده عليه مع أنه بحكم الغنيمة .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم يرد عليهم أقصاهم أي إذا كان المجير بعيد الدار عن الحربي , فليس للذين هم أقرب داراً من الحربي نقض إجارته.
وهو نظام جديد لم تشهد له الأرض بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يطلب القتال ولا يسعى إليه حتى حينما صار وأصحابه في حال المنعة والقوة مع رجحان كفتهم على العدو الذي وهن وضعف وتفرق أفراده وفيه بيان لقانون يتغشى السنة النبوية ، وهو أن أقوال وأفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأنظمة التي تؤسس في الإسلام تدعو إلى المودة والرأفة ونبذ القتال وترك الغزو وبيان عدم وصول النوبة إليه .
عن عاصم بن سليمان عن فضيل بن يزيد الرقاشي قال: شهدت قرية من قرى فارس يقال لها شاهرتا فحاصرناها شهرا حتى إذا كنا ذات يوم وطمعنا أن نصبحهم انصرفنا عنهم عند المقيل فتخلف عبد منا فاستأمنوه فكتب إليهم في سهم أمانا ثم رمى به إليهم .
فلما رجعنا إليهم خرجوا إلينا في ثيابهم ووضعوا أسلحتهم.
فقلنا: ما شأنكم؟.
فقالوا: أمنتمونا وأخرجوا إليهم السهم فيها كتاب بأمانهم.
فقلنا: هذا عبد لا يقدر على شيء.
قالوا: لا ندري عبدكم من حركم , فقد خرجنا بأمان، فكتبنا إلى عمر فكتب أن العبد المسلم من المسلمين، وأمانة أمانهم. قال : ففاتنا ما كنا أشرفنا عليه من غنائمهم( ) .
وهل نظر إلى الغنائم , الجواب لا، إنما ذكره للبيان وتأكيد الحكم والغبطة به , فالأهم والأولى هو جذب أهل القرية وغيرهم إلى الإسلام وبعث في نفوسهم الطمأنينة , لاسيما وأن أهل فارس وأمراءهم غالباً ما يميلون بالفطرة والتوارث إلى العدل .
وتصح إجارة المرأة مع أن القتال ساقط عنها .
فلما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة (ذي قرد ) وتسمى أيضاً غزوة الغابة في السنة السادسة للهجرة قبل صلح الحديبية خرج فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أكثر من خمسمائة من أصحابه لمطاردة عيينة بن حصن الفزاري ونحو أربعين شخصاً من غطفان الذين أغاروا على لقاح أي حوامل الإبل ذات اللبن ، فقتلوا الحارس وهو من غفار واسمه ذر بن أبي ذر الغفاري ، وأخذوا امرأته ليلى مع الإبل وعددها عشرون وهربوا نحو نجد .
مما يدل على أمور :
الأول : لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينوي هذه الغزوة ، ولم يخطط لها وينتظرها والمسلمون .
الثاني : إنها غزوة مطاردة قريباً من غزوة حمراء الأسد .
الثالث : جاءت هذه الغزوة رداً على قرصنة من أشخاص ذوي شأن وجاه عند العرب .
وهي أول غزوة نودي فيها (يا خيل الله أركبي) ( ) واستردوا الإبل أما المرأة فقد فرت من اللصوص على ظهر ناقة من نوق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى وصلت بها إلى المدينة .
وأخبرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها نذرت إن نجاها الله عز وجل لتنحر تلك الناقة ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بئسما جزيتها ) أي أنها صارت سبباً لنجاتك وسلامتك من الأعداء فكيف يكون جزاؤها النحر ثم قال (انه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين انما هي ناقة من ابلي فارجعي الى أهلك على بركة الله) ( ).
وقد أبلى سلمة بن الأكوع يومئذ بلاء حسناً ، ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا رسول الله لو سرحتني في مائة رجل لاستنقذت بقية السرح وأخذت باعناق القوم .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انهم الآن ليغبقون( ) في غطفان فقسم رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم في أصحابه في كل مائة رجل جزورا وأقاموا عليه ثم رجع قافلا حتى قدم المدينة) ( ).
أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اكتفى باستعادة الإبل , ولم يأذن بطلب القوم مع أنهم قتلوا حارس الإبل .
فلما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الغزوة بلغه أن عيراً لقريش اقبلت من الشام ، فبعث زيد بن حارثة في سبعين ومائة فارس فأخذوا القافلة وما فيها ، وكان فيها فضة كثيرة لصفوان وأسروا ناساً كانوا مع العير منهم أبو العاص بن الربيع ، ولما وصل أبو العاص إلى المدينة دخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سحراً ( )، وكانت امرأته في مكة ، وفرّق بينهما الإسلام ، فاستجارها فأجارته .
فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح ، قامت زينب على بابها ونادت بأعلى صوتها : أني أجرت ابن العاص ، فالتفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أصحابه وقال : (أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟
قالوا: نعم.
قال: فوالذي نفسي بيده، ما علمت بشيءٍ مما كان حتى سمعت الذي سمعتم، المؤمنون يد على من سواهم، يجير عليهم أدناهم، وقد أجرنا من أجارت.
فلما انصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى منزله دخلت عليه زينب فسألته أن يرد إلى أبي العاص ما أخذ منه من المال، ففعل وأمرها ألا يقربها، فإنها لا تحل له ما دام مشركاً.
ثم كلّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه، وكانت معه بضائع لغير واحدٍ من قريش، فأدوا إليه كل شيء؛ حتى إنهم ليردون الإداوة والحبل، حتى لم يبق شيءٌ) ( ).
وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأخلاق الحميدة التي كان المسلمون يتحلون بها .
وتسمى هذه السرية سرية زيد بن حارثة إلى العيص ، ولم يقتل فيها أحد ، ولم يأخذ المسلمون من أموال القافلة .
ترى لو اعترض المسلمون قافلة أبي سفيان في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة والتي وقعت معركة بدر بسبب نية المسلمين اعتراضها ، فهل يرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أموال قريش عند سؤالهم له ، الأقوى نعم .
لقد ورد قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) ليتجلى فيه قانون يبين للمسلمين والناس أن صرف القتال عن المسلمين هو الأحسن والأفضل في أي حال حتى في حال نصرهم والوثوق من غلبتهم في المعركة ، مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد الغزو ولا يسعى إليه ، إنما يرجو دفع القتال دائماً سواء كان غزواً أو دفاعاً .
وأخذ أبو العاص وجماعته الإبل والبضائع وتوجهوا إلى مكة ، وكان أهلها يأتمنون أبا العاص ويثقون به ، فأدى إلى كل ذي حق حقه , ثم قال (يا معشر قريش، هل بقي لأحدٍ منكم شيء؟ قالوا: لا والله) ( ).
أراد أن يستوثق منهم ، ويمنع الفرية عليه وتشويه سمعته ، ثم قال (فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) ثم قال (لقد أسلمت بالمدينة، وما منعني أن أقيم بالمدينة إلا أن خشيت أن تظنوا أني أسلمت لأن أذهب بالذي لكم. ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرد عليه زينب بذلك النكاح) ( ).
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأخذ من القافلة شيئاً وكان بالإمكان الإكتفاء باجارة وحماية أبي العاص بشخصه , ولكنه أعاد الأموال والإبل , ولم يجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلك الأموال لشراء السلاح والخيل للدفاع , إنما أعادها لأهلها وإن كانوا مشركين معتدين.
وليس من حصر للشواهد التي تدل على كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال الدفاع وليس الغزو والهجوم، ومنها وقائع تأريخية موثقة بالقرآن والسنة , كقيام كفار قريش بتحريض القبائل وتجهيز ثلاثة آلاف رجل نحو المدينة في معركة أحد , من غير تهديد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أمارة على أنه يعد العدة للهجوم عليهم.
وقد يقال كان زحفهم نحو المدينة ثأراَ لقتلاهم في معركة بدر ، فالجواب ليس من ثأر في المقام لأنهم المعتدون في معركة بدر ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم صبيحة يوم بدر ينتظر إمتناع كفار قريش عن القتال كما أمر أصحابه بعدم البدء بالرمي أو القتال .
وتلك حجة في منهاج الإسلام في نبذ العنف ، وبغض القتال حتى مع الذين كفروا ، وقد وثّقه القرآن بقوله تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ) لإرادة معنى الدفاع والإضطرار للقتال , وما فيه من الأذى العام للمقاتلين ومَن خلفهم , لأن المسلمين يتلقون ما فرض الله عليهم بالقبول والرضا .
والجامع المشترك بين معارك الإسلام الأولى هو وقوع القتال بين الكفار والمسلمين باختيار الكفار لأمور :
الأول: مقدمات المعركة .
الثاني : مكان المعركة .
الثالث : التهيئ للمعركة على نحو علني وظاهر ، والمسلمون منقطعون إلى ذكر الله عز وجل .
فان قلت قد ورد في التنزيل[فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]( ) فاذا كان كفار قريش قد استعدوا لمعركة أحد سنة كاملة فلماذا لم يتهيأ ويستعد المسلمون لها بالتمرين والمناجاة وتحريض القبائل.
والجواب، هذا التهيئ والإستعداد لم يقع مع أنه ليس من مصاديق التعدي، فالقدر المتيقن منه هو الهجوم والشروع بالقتال، وان كان الكفار يؤثمون على هذا الإستعداد بالذات , ولكونه مقدمة لقتالهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : كيفية بدء المعركة .
الخامس : طلب المبارزة، فتتصف معارك الإسلام كلها بامتناع المسلمين عن البدء بطلب المبارزة ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوصي أمراء السرايا بالدعوة إلى التوحيد ، وأن لا يبدأوا بالقتال .
ولتأكيد قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعثه الله رحمة للناس وهداية لهم (قيل يا رسول الله ألا تدعو على المشركين , قال (إنما بعثت رحمة ولم أبعث عذابا)( ).
السادس : إصرار الذين كفروا على مواصلة القتال لولا أن الله يبعث الخوف والفزع في قلوبهم ، ليمتنعوا عن هذه السجايا المذمومة .
السابع : التهديد والوعيد بالقتال في معركة لاحقة كما في إعلان أبي سفيان عندما هموا لمغادرة موضع معركة أحد .
(قال ابن إسحاق: ثم نادى أبو سفيان: إنه قد كان في قتلاكم مُثلة والله ما رضيت وما سخطت، وما نهيت ولا أمرت.
قال: ولما انصرف أبو سفيان نادى: إن موعدكم بدر العام المقبل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل من أصحابه: قل: نعم هو بيننا وبينك موعد.
قال ابن إسحاق: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبى طالب فقال: اخرج في آثار القوم وانظر ماذا يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الابل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الابل فهم يريدون المدينة.
والذى نفسي بيده إن أرادوها لاسيرن إليهم فيها ثم لاناجزنهم.
قال علي : فخرجت في أثرهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الابل ووجهوا إلى مكة)( ) .
أي أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عزمه على الدفاع عن المدينة مع تركه لكفار قريش وشأنهم في حال انصرافهم إلى مكة .
ترى لماذا ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكفار يعودون إلى مكة مع بقائهم على الكفر ، وادّعائهم الغلبة والنصر في المعركة ، والجواب لقد نزل القرآن ببيان ما لحق الكفار في معركة أحد من الضرر، خاصة وأن أكثر عدد من الآيات نزل بخصوص معركة يتعلق بمعركة أحد .
وتتضمن كل آية الإنذار المتعدد ويلزم دراسة مستقلة تتجلى فيها شواهد متعددة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد القتال أو الغزو ، إنما كان في حال دفاع ، وهذا ما نتعرض له في الأجزاء التالية إن شاء الله .
بيعة العقبة الأولى
ليس من حدث يقع في الأرض إلا بإذن من الله عز وجل، وهناك وقائع غيرت مجرى التأريخ وصارت منعطفاً ترتب عليه بناء صرح أو هدم آخر سواء كان بينهما تضاد وتناقض، أو هناك فارق رتبي أو تبدل وتغيير على نحو الموجبة الجزئية أو السالبة الجزئية.
ومن الوقائع التي جلبت الرحمة لأهل الأرض بيعة الأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة , والمراد من العقبة موضع في منى قريب من مكة , وما يتصف به موضع منى أنه جزء من الحرم , لذا يكون منى أشرف من عرفة , وإن ورد ذكر عرفة في القرآن بقوله تعالى[فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ]( ).
لقد سبق بيعة العقبة الأولى لقاء بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونفر من رجالات الخزرج في الموسم وهم :
الأول : أبو أمامة أسعد بن زرارة بن عدس من بني النجار واسم النجار هو تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة.
الثاني : عوف بن الحارث بن رفاعة من بني النجار.
الثالث : رافع بن مالك بن العجلان من بني زريق من الخزرج.
الرابع : قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن سواد من بني سلمة .
الخامس : جابر بن عبد الله بن رئاب .
السادس : عقبة بن عامر بن نابي السلمي .
ومنهم من يجعل عبادة بن الصامت بدل جابر بن رئاب وقيل كان عددهم أول إجتماعهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثمانية ومنهم عبادة بن الصامت وأبو هيثم بن التيهان، وقيل هو أول من أسلم من الآوس، وعويم بن ساعدة .
ولما سمعوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم آيات القرآن، وأخبرهم عن نبوته، وأجابهم عن أسئلتهم أسلموا، وواعدوه في قابل في موسم الحج ولم تكن بيعة في البيت ورجعوا إلى قومهم ليدعوهم إلى الإسلام، ثم بعثوا معاذ بن عفراء ورافع بن مالك: أن أبعث إلينا رجلاً يفقهنا، فبعث معهم مصعب بن عمير ونزل على سعد بن زرارة , على هذا القول أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث مصعباً قبل بيعة العقبة الأولى، قال ابن إسحاق: فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الاسلام، حتى فشا فيهم , فلم تبق دار من دور الانصار إلا وفيها ذكر لرسول الله صلى الله وسلم.
حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الانصار اثنا عشر رجلا وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة المتقدم ذكره، وعوف بن الحارث المتقدم، وأخوه معاذ , وهما ابنا عفراء، ورافع بن مالك المتقدم أيضا، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر ابن زريق .
قال ابن هشام: وهو أنصارى مهاجري.
وعبادة بن الصامت بن قيس ابن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، وحليفهم أبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم البلوى، والعباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان بن يزيد بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج العجلاني، وعقبة بن عامر بن نابى المتقدم، وقطبة بن عامر بن حديدة المتقدم فهؤلاء عشرة من الخزرج.
ومن الاوس اثنان وهما: عويم بن ساعدة، وأبو الهيثم مالك بن التيهان)( ).
والمختار ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث مصعب بن عمير بعد بيعة العقبة الأولى، ولو كان كان كما أخبر ابن إسحاق بأن هؤلاء النفر الستة عندما رجعوا لقومهم فشى الإسلام فيهم لحضر أكثر من الاثني عشر رجلاً .
بينما بعد بيعة العقبة الأولى وذهاب مصعب بن عمير معهم حضر بيعة العقبة الثانية في السنة التالية ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان من الخزرج والأوس.
وتمت بيعة العقبة الأولى في موسم الحج من السنة الثانية عشرة من بداية النبوة, وحضرها إثنا عشر شخصاً من وجهاء مدينة يثرب والتي صارت تسمى فيما بعد المدينة, وطيبة , عشرة من الخزرج واثنان من الأوس.
والذين حضروا البيعة هم:
الأول : أسعد بن زرارة.
الثاني والثالث : عوف ومعاذ ابنا عفراء.
الرابع : رافع بن مالك.
الخامس :ذكوان بن عبد قيس.
السادس :عبادة بن الصامت.
السابع :يزيد بن ثعلبة.
الثامن :العباس بن عبادة.
التاسع :عقبة بن عامر.
العاشر :عامر بن حديدة.
الحادي عشر : أبو الهيثم مالك بن التيهان.
الثاني عشر : عويم بن ساعدة.
وعن عبادة بن الصامت قال: كُنْت فِيمَنْ حَضَرَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى ، وَكُنّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ، فَبَايَعْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَلَى بَيْعَةِ النّسَاءِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الْحَرْبُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاَللّهِ شَيْئًا ، وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِيَ وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا ، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانِ نَفْتَرِيهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا ، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ .
فَإِنْ وَفّيْتُمْ فَلَكُمْ الْجَنّةُ . وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأَمْرُكُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ إنْ شَاءَ عَذّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ)( ).
والظاهر أن تسمية هذه البيعة ببيعة النساء متأخر زماناً عن أوان البيعة، وهو أما من عند عبادة أو من الذين رووا الحديث عنه وتسميتها بيعة النساء لعدم تضمنها أمر القتال والحرب.
وقد ورد عن عبادة ذات الحديث، ولم يذكر أنها بيعة النساء إذ(قَالَ ابن إسْحَاقَ وَذَكَرَ ابن شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عَائِذِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْخَوْلَانِيّ أَبِي إدْرِيسَ أَنّ عُبَادَةَ بْنَ الصّامِتِ حَدّثَهُ أَنّهُ قَالَ بَايَعْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الْأُولَى عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاَللّهِ شَيْئًا ، وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِيَ وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا ، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانِ نَفْتَرِيهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا ، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ .
فَإِنْ وَفَيْتُمْ فَلَكُمْ الْجَنّةُ وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ فَأُخِذْتُمْ بِحَدّهِ فِي الدّنْيَا ، فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَإِنْ سُتِرْتُمْ عَلَيْهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَأَمْرُكُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ إنْ شَاءَ عَذّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ)( ).
وبعث معهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصعب بن عمير ليعلمهم قراءة القرآن وأحكام الصلاة , ويتوجه بدعوة رؤساء أهل المدينة وعامة أهلها إلى الإسلام ، ويدل على قيامه بهذه الدعوة أخبار متعددة ، وقيل أنه سمي آنذاك (سفير الإسلام ) والظاهر مجئ هذه التسمية في زمان لاحق .
ويقع موضع بيعة العقبة على بعد ثلاثمائة متر عن جمرة العقبة على يسار الذي يذهب من مكة إلى منى ، ومن الآيات أن هذا الموضع يقع خلف جبل العقبة الكبير الذي هو الحد الطبيعي لمنى من الناحية الغربية ، ليتجنب النبي والأنصار أنظار وعيون كفار قريش .
وتم بناء مسجد على موضع بيعة العقبة في بدايات الدولة العباسية في سنة(144) هـ ببناء مكشوف الفناء ، وفي مقدمته مظلة .
ثم جدد على نحو متعدد حتى تم بناؤه من الحجر والجص ، وقد أزيل في هذا الزمان جبل العقبة الكبير سنة (1428) هـ للتوسعة على وفد الحاج في أداء المناسك في منى , ومنع لحوق الضرر بهم ، فصار مسجد العقبة مكشوفاً للناظرين , قريباً من الزائرين , ويمكن رؤيته من عند الجمرة والوصول إليه .
وفيه آية تأريخية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليطلع المسلمون في زمن العولمة على مَعلم من معالم الجهاد عند بداية الدعوة الإسلامية من غير قتال أو طلب من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين بايعوه لم يروموا القتال ، أو القتال غيلة لبعض الأفراد من الذين كفروا , وقوله تعالى[ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ]( ).
ويسمى مسجد العقبة بمسجد البيعة ، وقد ذكر المؤرخون هذا المسجد منهم الأزرقي (المتوفى سنة 244 هجرية ) والفاكهي (المتوفى سنة 279 هجرية) والذي سماه (مسجد البيعة بيعة الأنصار ليلة العقبة ، عقبة منى ) ( ) وذكر الفاكهي هذا التفصيل للتمييز والفصل بينه وبين المساجد الأخرى مثل مسجد الجن الذي سماه ابن الضياء مسجد البيعة لأن الجن بايعوا فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو موضع الخط الذي خطه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن مسعود الذي رافقه تلك الليلة ومنعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مجاوزته .
ولم يسم الفاكهي هذا المسجد إلا باسم مسجد الجن وزمانه متقدم كثيراً على زمان ابن الضياء .
وذكره ابن الجوزي (المتوفى سنة 597 )هجرية .
وابن الضياء (789 -854 ) هجرية الذي ذكر تأريخ عمارته ثم قال (وهو الآن منخرب جداً) ( ).
لقد كان عدد الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة الأولى من الخزرج والأوس اثنى عشر رجلاً وكان عدد المسلمين في مكة يومئذ أضعاف هذا العدد ، ولكن بيعة العقبة تنفرد بدلالات عقائدية وتأريخية منها :
الأولى : بيعة العقبة شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنجذاب الناس إليها.
الثانية : خشية النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من القوم الظالمين الذين يسعون في قتله وقتل أصحابه، والأصل مع هذه الخشية إعراض الناس عن الدعوة للسلامة من الضرر والقتل، ولكن صدق النبوة سبب للهداية، والإستعداد لتحمل الأذى.
الثالثة : بيان مصداق بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد القتال، ولا يسعى إليه، وليس في بيعة العقبة الأولى أو الثانية لغة تهديد أو وعيد للذين كفروا , سواء بالنسبة لأهل مكة أو غيرهم .
الرابعة : لم تكن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة بأهل مكة أو المدينة إنما كان يطوف على مساكن القبائل في الأسواق الموسمية حول مكة، وفي منى مدة الحج يعرض عليهم مبادئ التوحيد ويبين وجوب الإقرار بها، ويخبرهم عن رسالته من عند الله لبيان قانون وهو إقتران عالمية دعوته إلى الإسلام مع بدايات النبوة، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الخامسة : بيان قانون وهو عجز الظالمين عن حجب دعوة الحق وان سخّروا أدوات الحكم والمال والجاه، وإذا منعوا من ظهورها وبيانها في دويرتهم فأنها تتجلى في موضع وبلد آخر ثم تعود قوية في ديارهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ) .
فهذه الملكية مطلقة وهي حاضرة في كل آن، ولها أثر وتأثير , وهي برزخ دون إستحواذ الظالمين على مقاليد الأمور في الأرض، ومن الحجة على الناس عدم دوام الظلم سواء كان عاماً أو خاصاً، وهو الذي أدركه كفار قريش، إذ أنهم كانوا يتخذون من دار الندوة منتدى لقص أخبار العرب وغيرهم والمعارك التي وقعت بينهم، والقصائد والأشعار التي تبين تلك الوقائع , وتبقى شاهداً عليها، ويقتبسون منها الدروس، ولكنهم لم يتعظوا منها بخصوص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد نزل القرآن من عند الله بالآيات التي توثق التأريخ من قبل أن يخلق آدم عليه السلام مع بيان كيفية خلقه في الجنة ثم هبوطه إلى الأرض كما بيّن قصص الأمم السالفة، وذكّر قريشاً وأمثالهم بسوء عاقبة الذين يحاربون الأنبياء وأتباعهم , فانتفع كثير من الناس من هذه البراهين، ودخل شطر منهم الإسلام .
أي أن النسبة بين الإنتفاع من مواعظ وقصص وآيات القرآن وبين دخول الإسلام عموم وخصوص مطلق، فليس كل الذين إنتفعوا من لغة البشارة والإنذار في القرآن دخلوا الإسلام، إذ أن هذا الإنتفاع من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة في الكم والكيف، وقد أظهر الأنصار في حضورهم بيعة العقبة الإنتفاع الأمثل منها.
السادسة : بيعة العقبة دعوة لعموم قريش للتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من باب الأولوية القطعية , لأنهم أهله وعشيرته , ورأوا المتعدد من معجزاته .
وأيها سبقت زماناً :
الأولى : الهجرة الأولى إلى الحبشة .
الثانية : الهجرة الثانية إلى الحبشة .
الثالثة : بيعة العقبة الأولى .
والجواب هو تقدم هجرة الحبشة الأولى التي تمت في شهر رجب من السنة الخامسة للبعثة النبوية ثم هجرة الحبشة الثانية التي هاجر فيها الصحابة على دفعات , وف أكثر من سنة , وكأنها مفتوحة .
لقد كانت بيعة العقبة الأولى معجزة حسية وعقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ عاد اثنا عشر من أهل يثرب إليها من الحج مسلمين ومعهم مصعب بن عمير ، وقيل معه ابن أم كلثوم واقيمت الصلاة في يثرب، وعلم أهلها بغزو الإسلام بلدتهم ، وكان يهود المدينة وما عندهم من الإخبار والبشارات ببعثته لحوقاً لهم في دخول الإسلام .
ليكون من الشواهد على عدم انتشار الإسلام بالسيف أن أول مدينة دخلها الإسلام وساد فيها وهي يثرب لم يدخلها بالسيف والقتال أو حتى الصلح ، ولا يستطيع شخص وقبيلة وطائفة أن تطلب الحكم في دولة أو بلاد أخرى إلا بالغزو والقتال .
ولم يدخل الإسلام المدينة ثم يلاقي المسلمون الذى فيها خاصة المهاجرين الأذى , إنما استقبلهم الأنصار بالمودة والأخوة الإيمانية ، فبعد أن كانوا يتلقون الأذى في بلدهم ، وبين أهليهم في مكة وعند المسجد الحرام ، صاروا في مأمن في دار الغربة والهجرة ليتفرغوا لحفظ القرآن والتفقه في الدين ، والتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والدعوة إلى الله عز وجل ، ويشكروه سبحانه على إجتماع نعمة الإيمان والأمن ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم واجتهاده في الطواف على القبائل ، وتحمل الأذى في الطواف وصدود أكثر القبائل عنه , لتكون الهجرة من المصاديق المتقدمة لنزول قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
وهل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتابع أخبار مصعب بن عمير سفيره في المدينة والمسلمين الآخرين من المهاجرين والأنصار ويوجههم , أم أنه ينتظر الموسم اللاحق ، الجواب هو الأول بلحاظ أمور :
الأول : مجئ أناس من الأوس والخزرج إلى العمرة .
الثاني : الصلات التجارية بين أهل مكة والمدينة .
الثالث : مجئ الركبان وانتشار الأخبار ، فقد يدخل بعض أفراد القبائل إلى المدينة ، ويعودون إلى قبائلهم ويحدّثونهم عن حال المسلمين فيها وإقامتهم الجمعة والصلاة اليومية .
ويسافر بعض أفراد قبيلتهم ممن سمع منهم إلى مكة فيتلقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأخبار , خاصة وأنه موجود في البيت الحرام على نحو يومي أو شبه يومي ، كما يتلقاها أصحابه ممن لم يهاجر وغيرهم فيوصلونها إليه , ويتقوم سماع أخبار وشؤون المسلمين بالوحي من عند الله , وف التنزيل[طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى]( ).
وقد تتعدد الواسطة فيسمع شخص آخر ثم يسمع من هذا الآخر شخص أو جماعة فيتناقلون أنباء انتشار الإسلام في المدينة ، ومن خصائص المعجزة إنجذاب الناس إليها بعقولهم وأسماعهم , وتسخير ألسنتهم في نقلها والتدبر فيها وربّ ناقل للمعجزة لم يؤمن بها إلا أشخاص يبادرونه إلى التصديق بها ، وهو الذي تجلى في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإعجاز في أمر هجرته وأصحابه إلى المدينة المنورة .
وبناء صرح دولة الإسلام من غير إراقة قطرة دم واحدة مع إشاعة نبأ الرسالة السماوية إلا دماء الشهداء الأوائل الذين ماتوا تحت التعذيب مثل ياسر بن عامر بن مالك, وسمية بن خباط وقيل بنت خبط, وهما والدي الصحابي عمار بن ياسر, والذي كان يعذب معهما, وفيه نزل قوله تعالى[مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ]( ).
الرابع : ذهاب بعض المسلمين من مكة إلى المدينة والعودة منها ونقل الآيات والسور القرآنية التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنباء السنة النبوية إلى مصعب بن عمير والأنصار في المدينة ، فمن خصائص النبوة عدم الإنقطاع مع الأنصار والأتباع ، وهو من فضل الله عز وجل عليهم ليتعاهدوا سنن الإيمان .
ولو تردد الأمر بين إنقطاع مصعب بن عمير عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم طيلة السنة من حين ذهابه مع الأنصار بعد بيعة العقبة الأولى إلى حين عودته في موسم الحج التالي في السنة الثالثة عشرة للبعثة النبوية ، وبين استدامة الإتصال بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهة وبينه وبين الأنصار من جهة أخرى ، فالصحيح هو الثاني .
فان قلت قد يتسرب نبأ هذا الإتصال إلى كفار قريش ، الجواب نعم وفيه بعث للفزع والخوف في نفوسهم , ودعوة لهم للتوبة والإنابة .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( )الجواب نعم ،لأن استدامة اتصال المهاجرين والأنصار باشق الأحوال مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خصائص أحسن الأمم في إيمانها وصلاحها ، وإحترازها من الإرتداد وأسباب الضلالة .
وهل من موضوعية لهذا الإتصال وتوالي آيات القرآن على مصعب بن عمير والأنصار في المدينة في مجئ ثلاثة وسبعين رجلاً من الأوس والخزرج في السنة التالية ومبايعتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، لقد كان الوحي وآيات القرآن تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ولكنها تصل إلى المسلمين في المدينة وغيرهم ، وهذا الوصول وموضوعيته من أسرار بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم مع وفد الأوس والخزرج إلى المدينة مع أن عددهم كان اثني عشر رجلاً .
ولم يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصعباً إلا بالوحي وأمر من عند الله ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم قصده القتال والحرب أن أول بعث له هو سفير من قريش ومن ذوي قرباه يبيّن للصحابة من الخزرج والأوس أمور دينهم، مع أنه كان يلقى أشد الأذى من رؤساء قريش وأتباعهم، لتكون يثرب نواة دولة الإسلام وتتلقى بصبر الهجمات المتكررة من الكفار , فيتحول هذا الصبر إلى فخر وعز في النشأتين لهم ولأبنائهم وذراريهم .
وفي دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد إنقضاء واقعة حنين(اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ)( ).
وفي فرعون وإرادته البطش ببني اسرائيل ، ورد في التنزيل قال [قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ] ( ).
وهل في الآية أعلاه بعث للمهاجرين والأنصار بلزوم الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأنفس والأعراض والوطن , وزجر ومنع للمشركين من غزو المسلمين .
الجواب نعم ، إذ أن قصص القرآن موعظة وعبرة ودرس لإقتباس المسائل منها ، وليكون من معاني الحسن في قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( )وجوه :
الأول : نزول قصص القرآن من عند الله سبحانه .
الثاني : التباين بين قصص القرآن والقصص التي يرويها الناس في الكتب أو الأخبار من جهات منها :
الأولى : المضامين القدسية لقصص القرآن .
الثانية : صفة القرآنية للقصص الواردة فيه .
الثالثة : الصدق والقطع بوقوع الأمور والحوادث التي أخبر عنها القرآن، وفي التنزيل [وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً]( ).
الرابعة : الأجر والثواب في تلاوة قصص القرآن .
الخامسة : رسوخ مضامين آيات القرآن في الأذهان ، وهو من مصاديق البركة في قوله تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ]( ).
وهل يمكن القول بقانون وهو : أن كل آية من القرآن موضوع أو حكم يلزم اتباعه ، الجواب نعم .
وفيه دعوة للعلماء وعامة المسلمين للوقوف عند كل آية من القرآن واقتباس المسائل واستنباط الأحكام من منطوقها والإتعاظ من مفهومها بما لا يتعارض مع منطوق آيات القرآن الأخرى ، ويتجلى فيه قانون وهو ترشح معاني الإعجاز في الآية القرآنية من جهات :
الأولى : نزول الآية القرآنية .
الثانية : أسباب نزول الآية القرآنية .
الثالثة : مضامين الآية القرآنية .
الرابعة : تلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية وتلاوته وابلاغه المسلمين بها كما أنزلت , من غير تبديل أو حذف لأحد حروفها أو كلماتها .
الخامسة : سلامة الآية القرآنية في رسمها وتلاوتها ، فليس بين تلاوة جبرئيل وتلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأجيال المسلمين للآية القرآنية اختلاف أو تباين .
الثالث: تتضمن قصص القرآن الشواهد والمصاديق لقانون عدم غزو الأنبياء لغيرهم إذ أنهم مشغولون بطاعة الله والإنقياد لأوامره .
وهل تشمل هذه القصص منهاج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإمتناع عن غزو غيره ، الجواب نعم ، وهي أكثر قصص القرآن أي لو أجريت احصائية في عدد وموضوع قصص الأنبياء والوقائع التي في القرآن لتجلى قانون وهو أن أخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيه أكثر من أخبار أي نبي آخر.
وإن قيل هل يدل قوله تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ] ( ) وصيغة الغائب وإرادة الماضي والأنبياء السابقين في قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ] ( ) على أن القصص غير أخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والجواب اثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، والمراد من الأخبار أعم من القصص , وبينهما عموم وخصوص مطلق .
فالأخبار وقصص القرآن أعم من قصص النبوة , ومن أخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن أمور :
أولاً : الوحي والتنزيل ، فكما قال تعالى بخصوص نوح عليه السلام[فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنْ اصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا] ( ) وفي موسى عليه السلام ورد قوله تعالى[وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ]( )، قال تعالى مخاطباً النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم[وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا] ( ).
ثانياً : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة إلى الله وتبليغ آيات القرآن مطلقاً , وآيات الأحكام الخاصة .
ثالثاً : الحال الشخصية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومختصاته وشؤون أزواجه , وإكرام الله عز وجل له .
رابعاً : الأوامر والنواهي .
خامساً : إيذاء الذين كفروا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
سادساً : هجوم جيوش المشركين على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
سابعاً : مصاديق فضل الله على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا] ( ) .
ثامناً : نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإخلاصه في العبادة ، قال تعالى [مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى] ( ).
تاسعاً: اجتهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طاعة الله .
عاشراً : تعاهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لسنن التقوى .
الحادي عشر : النداء القرآني الموجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاصة مع لحوق الأمة به في الأمر والنهي إلا مع الدليل على إرادة التخصيص بشخصه الكريم .
والمختار في النداء الخاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إرادة عموم أجيال المسلمين , إلا مع القرينة أو الدليل على قصد خصوص النبي محمد في الخطاب ، كما في قوله تعالى[قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً]( ).
وقد صام النبي صلى الله عليه وآله وسلم صوم الوصال بصيام يومين مع الليلة التي بينهما أو ثلاثة أيام مع الليلتين اللتين بينهما ولكنه نهى المسلمين عنه ، وان كان هذا الصيام لم يرد في القرآن ، إنما ورد موضوعه في السنة النبوية بما يفيد أنه من مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن إعجاز القرآن ومصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) شمول المسلمين والمسلمات بالخطابات الخاصة والعامة من جهات :
الأولى : الخطاب الموجه للأمم السابقة من جهة الأوامر والنواهي .
الثانية : الخطاب الموجه إلى الأنبياء السابقين بلحاظ أن المسلمين ورثة الأنبياء ، وفي التنزيل[أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ] ( ).
الثالثة : وهل تشمل الأوامر الموجهة للمؤمنين من الأمم السابقة المسلمين والمسلمات .
الجواب لابد من تعيين تلك الأوامر , والنظر لكل واحد منها على نحو مستقل إذ أن شريعة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ناسخة للشرائع السابقة ، ولكن ورود الأوامر والنواهي للأمم السابقة في القرآن مدرسة وموعظة .
الرابعة : ما يتوجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الأوامر والنواهي في القرآن ، إلا الخطاب والأمر أو النهي الذي يرد إلى شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نحو التعيين .
وهل الخطاب والأمر في قوله تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]( )، خاص بالنهي , الجواب إنه خاص وعام , أما من جهة الوحي فهو خاص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا ينزل الوحي إلا عليه وبإنتقاله إلى الرفيق الأعلى إنقطع الوحي، وأما العام فإن المسلمين مأمورون بالقول والحكم الذي تتضمنه الآية الكريمة، وتقديره: قولوا إنما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشر مثلنا يوحى إليه .
الخامسة : الأوامر والنواهي التي توجهت إلى المسلمين عامة في القرآن ، وهي لا تحتاج إلى واسطة .
وقد وردت أوامر ونواهي في القرآن موجهة إلى المسلمين ، ومن الإعجاز في القرآن تقدم نداء الإكرام والشهادة للمسلمين بالإيمان قبل كثير من هذه الأوامر والنواهي .
وقد يجتمع الأمر والنهي في آية واحدة من آيات النداء ، وقد يتعدد معه أحدهما أو كلاهما ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ] ( ) .
إذ تبدأ الآية أعلاه بنداء الإيمان ، وتتضمن النهي المتعدد وتعقبها الأمر بتقوى الله .
وأكثر الجهات أعلاه هي الخامسة , فالأوامر والنواهي التي وردت لعامة المسلمين هي الأكثر في القرآن ، وفيه مسائل :
الأولى : بيان حب الله عز وجل للمسلمين .
الثانية : اختصاص المسلمين بفضل من الله بخصوص الأوامر والنواهي ومناهج الصلاح ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
الثالثة : تجلي مصداق لكون القرآن [تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
الرابعة : بيان قانون وهو أن الدنيا دار الأوامر والنواهي وأن المسلمين الذين تعاهدوا العمل بما فيها من الأوامر والتي هي نازلة من عند الله عز وجل .
وقد تأتي الأوامر من الملك أو رئيس الطائفة أو رب العمل أو الأسرة ، ولكن الآمر والمأمور من المسلمين يدركان قانون وهو أن العبودية لله هي السور الجامع لهما .
ومن الآيات تكرار مصاديق هذا القانون خمس مرات في اليوم وتغشي هذه المصاديق لكل المسلمين والمسلمات في مشارق ومغارب الأرض ، وهل يختص المصداق في المقام بذات الصلاة ، أم يشمل المقدمات، الجواب هو الثاني , سواء كانت تعبدية أو توصلية .
(وروى أبو نعيم عن حسان بن ثابت أنه قال: والله إني لفي منزلي وأنا ابن سبع سنين وأنا أحفظ ما أرى وأعي ما أسمع وأنا مع أبي إذ دخل علينا فتى منا يقال له ثابت بن الضحاك، فتحدث فقال: زعم يهودي في بني قريظة الساعة وهو يلاحيني:
قد أظل زمان خروج نبي يأتي بكتاب مثل كتابنا يقتلكم قتل عاد وإرم.
قال حسان: فوالله إني لعلى فارع، يعني أطما، في السحر إذ سمعت صوتا لم أسمع قط صوتا أنفذ منه، فإذا يهودي على ظهر أطم من آطام المدينة معه شعلة من نار، فاجتمع إليه الناس فقالوا: مالك ويلك: قال: هذا كوكب أحمد قد طلع، هذا كوكب لا يطلع إلا للنبوة، ولم يبق من الأنبياء إلا أحمد.
قال: فجعل الناس يضحكون ويعجبون بما يأتي به.
وكان حسان عاش مائة وعشرين سنة، ستين في الجاهلية وستين في الإسلام) ( )
وكان ملوك غسان يبعثون بالهدايا إلى حسان بن ثابت حتى بعد اسلامه لأنه كان في الجاهلية يذهب إليهم ويمدحهم ، وهنك صلة نسب ين الأوس والخزرج وبين غسان , فهم معاً من الأزد اليمانية , وفي هذه الصلة نفع للإسلام .
وفي جبلة بن الأيهم بن جبلة آخر ملوك الغساسنة , حكم بين (632-638 ) وكان منزله الجولان وما حولها من نواحي دمشق ، واختلف فيه هل دخل الإسلام وارتد أم بقى على نصرانيته إلى أن مات.
وقد ( كتب النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبلة بن الأيهم ملك غسان يدعوه إلى الإسلام، فأسلم، وكتب بإسلامه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهدى له هدية، ثم لم يزل مسلماً حتى كان في زمن عمر بن الخطاب، فبينا هو في سوق دمشق إذا وطئ رجلاً من مزينة، فوثب المزني فلطمه، فأخذه فانطلق به إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقال: هذا لطم جبلة.
قال: فيلطمه.
قالوا: أو ما يقتل؟ قال: لا، فقالوا: أفما تقطع يده؟ قال: لا، إنما أمر الله بالقود، قال جبلة: أترون أني جاعل وجهي نداً لوجه جديٍّ جاء من عمق؟! بئس الدين هذا! ثم رجع نصرانياً، وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم، فبلغ ذلك عمر، فشق عليه .
وقال لحسان بن ثابت: أبا الوليد أما علمت أن صديقك جبلة بن الأيهم ارتد نصرانياً؟ قال: إنا لله وإنا إليه راجعون ولمَ؟ قال: لطمه رجل من مزينة.
قال: وحق له، فقام إليه عمر بالدرة فضربه بها.
وقيل إن جبلة أقام على نصرانيته إلى أن شهد اليرموك مع الروم في خلافة عمر، ثم أسلم بعد ذلك.
وقيل: إن جبلة لم يسلم البتة، وإنما سأل عمر أن لا يأخذ منه الجزية، ويقبل منه الصدقة، فامتنع عليه، فلحق بالروم.
وقال سعيد بن عبد العزيز: قال عمر بن الخطاب لجبلة:يا جبيلة! فلم يجبه، ثم قال: يا جبلة! فلم يجبه مرتين، ثم قال: يا جبلة! فأجابه.
قال: اختر مني إحدى ثلاث: إما أن تسلم فيكون لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم، وإما أن تؤدي الخراج، وإما أن تلحق بالروم.
قال: فلحق بالروم.
قال الكلبي: ذكروا أنه لما أسلم جبلة بن الأيهم الغساني من ملوك جفنة في خلافة عمر بن الخطاب، كتب إلى عمر يعلمه بإسلامه ويستأذنه في القدوم عليه، فلما وصل كتابه إلى عمر سره ذلك، وكتب إليه يأذن له في القدوم عليه، فخرج جبلة في خمسين ومائة رجل من أهل بيته حتى إذا كانوا من المدينة على ميلين عمد إلى أصحابه فحملهم على الخيل أي كانوا يمتطون الإبل لبعد المسافة.
وقلدهم قلائد الفضة وألبسهم الديباج وسرق الحرير، ولبس تاجه فيه قرطا مارية وهي جدته.
قال: وبلغ عمر بن الخطاب، فبعث إليه بالنزل هناك، ثم دخل المدينة في هيئته.
قال : فلم تبق بكر ولا عانس إلا خرجت تنظر إلى جبلة وموكبه، فأقبل حتى دخل على عمر بن الخطاب، فسلم عليه ورحب به عمر، وسر بإيلامه وقومه، ثم أقام أياماً، وأراد عمر الحج من عامة ذلك، فخرج جبلة معه مشهوراً بالموسم ينظر إليه الناس ويتعجبون من هيئته وكماله.
قال: فبينا جبلة يطوف بالبيت إذ وطئ رجل من بني فزارة إزاره من خلفه فانحل، فما ورع جبلة أن رفع يده فهشم أنف الفزاري، فولى الفزاري والدماء تشخب من أنفه حتى استعدى عليه عمر بن الخطاب، فبعث إلى جبلة فأتاه .
فقال له: يا جبلة هشمت أنف الرجل؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، اعتمد حل إزاري، ولولا حرمة الكعبة لضربت بالسيف بين عينيه، فقال له عمر: أما أنت فقد أقررت، فإما أن ترضي الرجل، وإلا أقدته منك، قال: تصنع ماذا؟ قال عمر: إما أن يهشم أنفك كما هشمت أنفه، وإما أن ترضيه.
قال جبلة: أو خطير( ) هو لي؟ قال: نعم.
قال: وكيف وأنا ملك وهو سوقة؟ قال عمر: الإسلام قد جمعك وإياه، فلست تفضله إلا بالعافية.
قال جبلة: والله لقد ظننت يا أمير المؤمنين أن سأكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية.
قال عمر: هو ما ترى إما أن تقيده أو ترضيه.
قال جبلة: إذاً أتنصر.
قال عمر: إن فعلت قتلتك.
قال: لمَ؟ قال: لأنك قد دخلت في الإسلام فإن ارتددت قتلتك.
قال: فلما رأى جبلة أن عمر لا تأخذه في الله لومة لائم وليست له حيلة، واجتمع من حي الفزاري وحي جبلة على باب عمر جمعٌ كثير حتى كادت تكون فتنة عظيمة، فقال: أنا أنظر في هذا الأمر ليلتي هذه، وانصرف إلى منزله، وتفرق الناس .
فلما ادلهم الليل عليهم تحمل جبلة في أصحابه من ليلته إلى الشام، وأصبحت المدينة منه ومن قومه بلاقع، ثم أتى الشام فتحمل في خمس مائة أهل بيت من عكٍّ وجفنة حتى دخل القسطنطينية في زمن هرقل فتنصر هو وقومه , فلما رأى ذلك هرقل أقطعه حيث شاء , وأجرى عليه من النزل ما شاء، وجعله من سماره ومحدثيه، وظن أنه فتحٌ من الفتوح عليه عظيم) ( ).
ولما بعث عمر كتاباً إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (ووجه به مع رجل من أصحابه ) ( ) وسلّمه الكتاب وأجابه إلا بخصوص الإسلام ثم قال هرقل: يا عربي ، هل لقيت ابن عمك .
قال : ومن ابن عمي ؟ .
قال جبلة بن أيهم الغساني ، قال لا .
قال هرقل : فالقه وأنظر إلى حاله .
ولم يرد في الخبر أعلاه اسم الرسول الذي بعثه عمر إلى هرقل واراد هرقل أن يرى حال البهجة والترف التي تتغشى جبلة ، فأستأذن عليه ، فدخل فقام له ورحب به وعانقه وعاتبه في ترك النزول عليه , وكانت كراسيه من الذهب ، ثم سأله العودة إلى الإسلام , فقال جبلة بعد الذي كان , أي إرادة القصاص منه , وإغداق هرقل عليه.
فقال : نعم ، وكان الأشعث بن قيس الكندي قد ارتد عن الإسلام فضربهم بالسيف ومنعهم الزكاة , ثم دخل الإسلام وزوجه أبو بكر أخته ام فروة .
فقال : دع عنك هذا ؟
ثم أومأ إلى وصي قائم عند رأسه فجئ بصناديق يحملها الرجال ووضعت مائدة من ذهب ثم دخلت جواري فغنين بما يتضمن الثناء على ملوك غسان وهم آباء جبلة بقصيدة لحسان بن ثابت قبل الإسلام :
(لله در عصابةٍ نادمتهم … يوماً بجلق في الزمان الأول
أولاد جفنة عند قبر أبيهم … قبر ابن مارية الكريم المفضل
يسقون من ورد البريص عليهم … صهبا تصفق بالرحيق السلسل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم … شم الأنوف من الطراز الأول
يغشون حتى ما تهر كلابهم … لا يسألون عن السواد المقبل) ( ).
ثم أمر جبلة جارية وقال : يا جارية هاتي فاتته بخمسمائة دينار هرقلية .
قال : ادفع به إلى حسان بن ثابت واقرئه مني السلام .
ثم قال يا جارية هاتي ، فاتته بخمسمائة دينار فدفعها للرجل ، فلم يقبل منه ، وقال : لا أقبل صلة رجل ارتد عن الإسلام .
وحينما وصل مبلغ خمسمائة دينار إلى عمر بن الخطاب .
قال : يا غلام أدع لي حسان بن ثابت فدعي ، فلما دخل عليه وكان ضريراً ومعه قائده ، أدى السلام ثم قال : أني لأجد روائح آل جفنة عندك .
(قال: نعم، قد أتاك الله من جبلة بمعونة، ونزع لك منه على رغم أنفه، قال: فأخذها , وولى وهو يقول: ” من الكامل “
إن ابن جفنة من بقية معشرٍ … لم يغذهم آباؤهم باللوم
لم ينسني بالشام إذ هو ربها … لا لا ولا متنصراً بالروم
يعطي الجزيل ولا يراه عنده … إلا كبعض عطية المذموم
وأتيته يوماً فقرب مجلسي … وسقى فرواني من الخرطوم) ( ).
وحسان بن ثابت هو شاعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويُوثق شعره خصائص مدرسة الدفاع في الإسلام وكان له شعر في أغلب الوقائع والأحداث والمعارك في بدايات الإسلام .
الفرق بين الغزوة والسرية
يقال غزا يغزو غزواً فهو غاز , وجمع الغازي : غُزاة وغزّي ( ).
والسرية من سرى يسري : وهم الرهط والقوم الذين يسيرون نحو أعدائهم , وكأن أصله من السرى أي السير في الليل ، قال تعالى [سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ] ( ).
ثم جعلت السرية للذين يخرجون للحرب ليلاً أو نهاراً ، ووضعت أسماء للغزوات والجيوش بحسب عدد أفرادها وهي :
الأول : الجريدة ، وهي القطعة من الجيش التي وجهت إلى جهة مخصوصة .
الثانية : السرية القطعة من الجيش وهي من خمسين إلى أربعمائة ، ويقال : خير السرايا أربعمائة رجل ، وقال (ابن السكيت : السرية ما بين خمسة أنفس إلى ثلثمائة) ( ).
الرابع : الجيش وهو من ألف إلى أربعة آلاف .
الخامس : الفيلق .
السادس : الجحفل .
السابع : الخميس وهو من أربعة آلاف إلى اثني عشر الفاً ، وسمي الخميس لأنه يتألف من خمسة أقسام ، وقال ابن السكيت : الخميس ما زاد على السرية(وأنشد :
لها مزهرٌ يعلو الخميس بصوته … أحبشّ إذا ما حرّكته اليدان) ( ).
وقال ابن الدريد : سمي الجيش الخميس لانه يخمس ما وجده أي يأخذه صاحب العين .
والصواب أنه سمي الخميس لأنه كان يتألف من خمسة أجزاء وهي :
الأول : المقدمة .
الثاني : الميمنة .
الثالث : الميسرة .
الرابع : القلب .
الخامس : الساقّة (المؤخرة ) .
إذ كان المراد من الجيش الذي يتقدم ويزحف للغزو أو الدفاع ، وليس كما هو الحال في الزمن الحاضر من حيث التخصيص بالإنتساب للجيش وتعدد أقسام القوات لتشمل البرية والجوية والبحرية ووظائفهم في بناء الدولة وحفظ الأمن والإستقرار وسلامة الثغور وحدود الدولة والمياه الأقليمية والتدخل في حال حدوث كوارث وآفات سماوية أو أرضية ، وقد يستعين بالجيش رأس الدولة وقوى الأمن لفرض النظام ومنع العبث والإضرار بالأموال العامة والخاصة .
والفرق بين الغزوة والسرية في الإصطلاح هو أن الغزوة يخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتكون بقيادته , أما السرية في الفرقة التي يقوم ببعثها بأمرة أحد أهل بيته أو أصحابه , وبين الصحابة وأهل البيت في المقام عموم وخصوص مطلق , فكل فرد من أهل البيت هو من الصحابة , وليس العكس .
ويمكن القول أن تسمية المعارك التي حضرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزوات من باب المجاز , وتوارث العلماء والمحققين اسم الغزوة لبيان قوة الاسلام , مع عدم إنطباقه على الواقع .
فلم يغزُ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمصار الكافرين , وكان وأصحابه قادرين عليه . إنما كانت تغزوهم آيات القرآن .
وما ورد بالإسناد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)( ).
وعلى فرض صحة سند الحديث، فأنه جعل تحديث النفس بالغزو في مرتبة واحدة مع ذات الغزو والقتال الرؤيا وما فيه من المشقة والأذى والقدر المتيقن من الحديث هو وجود حال دفاع عن بيضة الإسلام .
ليكون من معاني قوله تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( )، هداية المسلمين إلى إتخاذ الدفاع منهاجاً , وترك الغزو ونبذ القتل والإقتتال إلا في حال الدفاع.
ومن الآيات أن هذا الدفاع سبب للرشاد والصلاح، وهداية الناس إلى الإسلام.
ومن معاني الهداية في الآية أعلاه بلوغ آيات القرآن لعامة الناس ليمتنعوا عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكون هذا الإمتناع مقدمة لهدايتهم ودخولهم الإسلام ليتجلى قانون في تفسير الآية أعلاه وهو : هداية القرآن الناس إلى سبل الإيمان بالذات والواسطة.
ولا يشترط في الغزوة أمور :
الأول : القتال ، فقد تسمى غزوة من غير ان يكون فيها قتال , مثل غزوة قرقرة الكُدر ، وغزوة ذي أمر ، وغزوة حمراء الأسد ، وغزوة دومة الجندل الأولى ، وغزوة الحديبية ، وغزوة دومة الجندل الثانية ، كما يأتي بيانه ان شاء الله .
الثاني : الهجوم والغزو ، فقد تكون دفاعاً كما في معركة بدر وأحد والخندق وحنين وهي أهم وأظهر معارك الإسلام ، ليكون إطلاق لفظ الغزوة على حروب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو من باب المجاز .
الثالث : حمل الأسلحة والتدريب والتهيئ للقتال ، فقد يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه للغزو من غير تهيئ لقتال كما في غزوة الحديبية ، وقد يقال إنه خلاف الأصل ، وقوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ) .
والجواب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يخرج على تلك الحال إلا بالوحي ، وهل يكون تخصيصاً واستثناء من مضامين الآية أعلاه ، الجواب لا ، لأن موضوعها أعم .
ولقد انتصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل غزواته التي خرج فيها حتى وإن لم يقع فيها قتال ، وقيل أنه والمسلمين خسروا في معركة أحد، والمختار أنهم لم يخسروا تلك المعركة .
وأختلف في عدد غزوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقيل تسع أو ثمان وعشرين غزوة .
ومجموع غزوات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسرايا التي بعثها نحو مائة.
وبين الغزوة والسرية عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء من جهات:
الأولى : عزم الذين كفروا على قتال المسلمين والتعدي عليهم.
الثانية : حال الدفاع عند المسلمين.
الثالثة : صدور الأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن مختصاته صلى الله عليه وآله وسلم أن الغزوة والسرية لا يصدر أمرهما إلا من عند الله، مع قيامه بمشاورة أصحابه .
وفي التنزيل[وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ]( ).
الرابعة : دعوة المسلمين في الغزوة وفي السرية إلى الله , والدفاع عن بيضة الإسلام ومعالم الإيمان .
الخامسة : تقيد المسلمين بسنن الإسلام في كل منهما , وتعظيم شعائر الله والصبر.
السادسة : الأجر والثواب للمجاهدين المدافعين وعموم الصحابة رجالاً ونساءاً.
وعن (عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ أَحَدِ بَنِي سَلِمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَتِيكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَالَ بِأَصَابِعِهِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ وَالْإِبْهَامِ فَجَمَعَهُنَّ .
وَقَالَ : وَأَيْنَ الْمُجَاهِدُونَ , فَخَرَّ عَنْ دَابَّتِهِ فَمَاتَ( ) فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ لَدَغَتْهُ دَابَّةٌ فَمَاتَ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ , أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاللَّهِ إِنَّهَا لَكَلِمَةٌ( ) مَا سَمِعْتُهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَاتَ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى .
وَمَنْ مَاتَ قَعْصًا( ) فَقَدْ اسْتَوْجَبَ الْمَآبَ)( ).
السابعة : نيل القتلى من المسلمين في الدفاع بما يسمى غزوة أو بالسرية مرتبة الشهادة.
ويكون من مصاديق قوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ) أي سواء قتلوا في الغزوات أو السرايا في سبيل الله.
الثامنة : إبتداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمراء السرايا لقاء العدو بالدعوة إلى التوحيد وبيان قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لا يرغبون بالقتال، ولا يطلبونه، ليكون من مصاديق قوله تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( )، أن المسلمين يدعون إلى السلم، ولكن الذين كفروا يقومون بأمور:
الأول : الإصرار على القتال.
الثاني : الهجوم على المسلمين.
الثالث : غزو بلاد المسلمين.
الرابع : الدعوة إلى المبارزة، بخروج بعض فرسان المشركين بين الصفين وطلب المبارزة والبراز( ).
الخامس : قيام المشركين برمي السهام والنبال قبل بدء المعركة وأثناء قيام النبي والصحابة بالوعظ، والدعوة إلى الله , وبيانهم لقانون نبذ الأصنام وعبادتها .
التاسعة : عدم إبتداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه القتال سواء في الغزوة أو السرية.
العاشرة : رفع اللواء والراية في كل من الغزوة والسرية.
الحادية عشرة : قيام أحد الصحابة بحمل اللواء أو الراية.
الثانية عشرة : إنتفاع المجاهدين من الوحي والتنزيل سواء في الغزوة أو السرية.
الثالثة عشرة : كانت الغاية من الغزوات والسرايا دفاع المسلمين عن أنفسهم وأهليهم وذراريهم , وجذب الناس لعبادة الله ومنع استحواذ أقطاب الكفر ومفاهيم الضلالة على الناس .
الرابعة عشرة : النقص في السلاح والرواحل عند المسلمين في كل من الغزوة والسرية، ويقابلها في أكثر الأحيان كثرة أفراد جيش الذين كفروا ورواحلهم وأسلحتهم .
فمثلا في معركة بدر التي وقعت في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة كان عدد المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر، ومعهم سبعين جملاً , يتناوب كل ثلاثة رجال على جمل منها , وفرس واحدة وأختلف في الثانية .
أما جيش كفار قريش فكانوا نحو ألف ومعهم مائتا فرس , وأكثر منها من الإبل، أما في معركة أحد فكان عدد المسلمين[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، نحو سبعمائة، وعدد جيش كفار قريش والقبائل التي معهم نحو ثلاثة آلاف رجل، ومعهم ثلاثة آلاف بعير , ومائتا فرس , و سبعمائة درع .
وأنفقت قريش على معركة أحد والإعداد لها نحو خمسين ألف دينار ذهب، وكل دينار مثقال ذهب عيار ثمان عشرة حبة وزنته 4،25 غرام فيكون المجموع 50000×4،25 = 212500 غرام من الذهب.
الخامسة عشرة : العوز ونقص المؤون عند المسلمين سواء في الغزوات أو السرايا .
السادسة عشرة : هيئة القتال والإستعداد له.
السابعة عشرة : قصد القربة إلى الله.
أما مادة الإفتراق فمن جهات :
الأولى : يخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يسمى الغزوة , ولا تكون إلا بإمامته.
فكما كان يؤم المسلمين في الصلاة اليومية فانه يقودهم في الغزو لمقام النبوة، وذخائر الوحي والتنزيل، وعمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) .
فينهل المسلمون من الوحي في كيفية وتفاصيل القتال ، ليكون من الشواهد على صدق نبوته عدم خسارته في أية غزوة ومعركة اشترك فيها مع قلة أصحابه والنقص في عدّتهم وأسلحتهم في مقابل الكثرة في طرف الذين كفروا.
أما السرية فلا يخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ولكنها لا تتم إلا بأمره ولا تكون إلا بذات الغايات الحميدة للدفاع, والذي يسمونه الغزو .
الثانية : أما السرية فهي الرهط والفرقة التي يبعثها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن يخرج فيها , إنما تتألف من الصحابة ،وتكون بأمرة أحد أهل البيت أو الصحابة
الثالثة : عدد أفراد الغزوة أكثر من عدد أفراد السرية في الجملة.
الرابعة : قد يأتي النفير العام في الغزوة لأن الرسول يكون إماماً فيها أما السرية فتتم بالتعيين والتوافق والندب، ولا تتم تسمية آمر السرية إلا من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة : عدد سرايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من غزواته.
ولكن لو جمعنا عدد الأفراد من الصحابة في الغزوات , وعددهم في السرايا، فيظهر أن عددهم في الغزوات هو الأكثر بلحاظ أن تكرار خروج الصحابة في غزوتين أو سريتين أو أكثر يتكرر إحتسابه بعددها.
لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو الفريق الآخر إلى التوحيد قبل بدء المعركة وكان الشعار العام (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) والذي أصبح في هذا الزمان وببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لواء الإنسانية وسور الموجبة الكلية الذي يقول به أهل الأرض ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
وأيهما سابق في زمانه غزوة خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم سرية بعث فيها أصحابه ، الجواب هو الثاني .
ومن الإعجاز في المقام أن أول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقع فيها قتال ، وأول غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي غزوة الأبواء وتسمى غزوة ودان في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة, على رأس اثني عشر شهراً من مقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ليس فيها قتال أيضاً , إنما كانت مناسبة للأمان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين عمرو بن مخشي الضمري .
وهل لدعوة النبي القبائل في موسم الحج قبل الهجرة للإسلام موضوعية في هذا الميثاق والسلامة من القتال , الجواب نعم .
ومن رشحات الوحي في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن آمر أول سرية في الإسلام على قول هو حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو حامل اللواء في أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
البلاء العاجل للإستهزاء بالنبوة
لقد كان رهط من رجالات قريش يكثرون من الإستهزاء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والسخرية من التنزيل , وهم ثمانية (عن ابن عباس ، أن المستهزئين ثمانية :
الأول : الوليد بن المغيرة.
الثاني : الأسود بن المطلب.
الثالث : الأسود بن عبد يغوث.
الرابع : العاص بن وائل.
الخامس : الحارث بن عدي بن سهم.
السادس : عبد العزى بن قصي؛ وهو أبو زمعة ، وكلهم هلك قبل بدر بموت أو مرض .
السابع : الحارث بن قيس من العياطل( ), أو عيطلة اسم أمه.
الثامن : عدي بن قيس .
و(عن أنس قال : مرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أناس بمكة، فجعلوا يغمزون في قفاه ويقولون : هذا الذي يزعم أنه نبي ومعه جبريل. فغمز جبريل بأصبعه فوقع مثل الظفر في أجسادهم ، فصارت قروحاً نتنة. فلم يستطع أحد أن يدنو منهم وأنزل الله تعالى{إنا كفيناك المستهزئين}( ))( ).
(عن عروة بن الزبير، أو غيره من العلماء، أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يطوف بالبيت، فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى جنبه، فمر به الأسود بن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء، فعمى، ومر به الأسود بن عبد يغوث، فأشار إلى بطنه، فاستسقى بطنه، فمات منه حَبَنَا .
ومر به الوليد بن المغيرة، فأشار إلى أثر جُرح بأسفل كعب رجله -كان أصابه قبل ذلك بسنتين وهو يجر إزاره، وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلا له، فتعلق سهم من نبله بإزاره، فخدش رجله ذلك الخدش، وليس بشيء، فانتقض به فقتله .
ومر به العاص بن وائل، فأشار إلى أخمص قدمه، فخرج على حمار له يريد الطائف، فربض على شِبْرِقَةٍ فدخلت في أخمص رجله منها شوكة فقتلته. ومر به الحارث بن العياطل , فأشار إلى رأسه، فامتخط قيحا، فقتله
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن رجل، عن ابن عباس قال: كان رأسُهم الوليد بن المغيرة، وهو الذي جمعهم.) ( ).
وكما كان من بين قتلى قريش , عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة وابنه الوليد, وكذا كان بينهم أخوان وابن لأحدهما , وهم :
الأول : زمعة بن الأسود .
الثاني : عقيل بن الأسود .
الثالث : الحرث بن زمعة بن الأسود .
وكان أبوهم الأسود في مكة ، ويحب أن يبكي على بنيه ويندبهم ويتطلع إلى مواساة الناس له لما قدمه من أجل الأصنام والأوثان ، وحمية قريش, ودونه خرط القتاد, فقد أضاء الإعجاز بنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر جنبات مكة, وغزا القلوب طوعاً وانطباقاً وقهراً , لتتضاءل المواساة على قتل الكافر ظالماً, وهذا الغزو المبارك هو الأصل في معنى ومفهوم غزواته صلى الله عليه وآله وسلم بمدد وعون ولطف من الله سبحانه .
ولكن قرار رؤساء الكفر من قريش المنع من البكاء شامل للأسود , مع عظيم شأنه عندهم وشدة وهول مصيبته .
(وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد دعا عليه فقال : اللهم أعم بصره وأثكله بولده) ( ).
وسبب اصابة الأسود بالعمى آية من عند الله عز وجل لقوله تعالى[إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ] ( ) .
وكما كانت عاقبة أبي لهب فكذا كانت عاقبة الأسود بن عبد المطلب الذي كان يتجاهر بايذائه وظلمه لرسول الله الله عليه وآله وسلم وللذين آمنوا برسالته ، وقد يظن بعضهم أن الأسود بن عبد المطلب هو من بني هاشم ، إنما هو الأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب .
ويلتقي الأسود مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجد الرابع ونسب النبي هو محمد بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب .
لقد شمل منع قريش النياحة على قتلى بدر حتى الأسود بن المطلب مع انه من كبرائهم وفقد ثلاثة من أولاده في المعركة مما يبين تبكيته وذلّه ، وزيادة حسرته .
كما يدل هذا المنع على الضبط والإنضباط في مجتمع كفار مكة وتقيدهم به ، بما لا يكون حتى في عديد من الأنظمة شديدة القسوة في أوامرها في هذا الزمان ، وما فيها من وسائل التبليغ والإعلان ودوائر التنصت والتجسس على الناس ، مما يدل على أن القوم ليس في جهالة وغفلة أو ضعف ووهن ، وفيه شاهد على المعجزة في نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بالبراهين والحجج .
وسمع الأسود بعد هذا المنع امرأة تنوح في جوف الليل , والنياحة الندب والرثاء بصوت مسموع يدل على الحزن والمصيبة .
(وناحَتِ المرأةُ زَوْجَها، وعليه نَوْحاً ونُواحاً، بالضم، ونِياحاً ونِياحةً ومَناحاً، والاسم النِّياحَةُ، ونِساءٌ نَوْحٌ وأنْواحٌ ونُوَّحٌ ونَوائِحُ ونائِحاتٌ، وكُنَّا في مَناحَةِ فُلانٍ) ( ).
وكانت النساء في الجاهلية إذا أصيبت احداهن بفقد زوجها أو أبيها أو أخيها أو ابنها بكت عليه حولاً كاملاً , فتسعدها جارتها وقراباتها ، فيجتمعن عندها في أوقات النياحة , ويساعدنها ما دامت تنوح وتبكي عليه .
فاذا أصيبت احداهما بمصيبة بادرت إلى رد الجميل فاسعدتها فنهل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الإسعاد .
وقد نهى النبي عن النياحة ، وعن هذا الإسعاد ورد (عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَخَذَ عَلَى النِّسَاءِ حِينَ بَايَعَهُنَّ أَنْ لاَ يَنُحْنَ فَقُلْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ نِسَاءً أَسْعَدْنَنَا فِى الْجَاهِلِيَّةِ أَفَنُسْعِدُهُنَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: لاَ إِسْعَادَ فِى الإِسْلاَمِ) ( ).
لقد أمر الأسود بن عبد المطلب غلامه لينظر (هَلْ أُحِلّ النّحْبُ هَلْ بَكَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهَا ؟ لَعَلّي أَبْكِي عَلَى أَبِي حَكِيمَةَ يَعْنِي ولده زَمَعَةَ فَإِنّ جَوْفِي قَدْ احْتَرَقَ .
فَلَمّا رَجَعَ إلَيْهِ الْغُلَامُ قَالَ إنّمَا هِيَ امرأة تَبْكِي عَلَى بَعِيرٍ لَهَا أَضَلّتْهُ . قَالَ فَذَاكَ حِينَ يَقُولُ الْأَسْوَدُ
أَتَبْكِي أَنْ يَضِلّ لَهَا بَعِيرٌ … وَيَمْنَعُهَا مِنْ النّوْمِ السّهُودُ
فَلَا تَبْكِي عَلَى بَكْرٍ وَلَكِنْ … عَلَى بَدْرٍ تَقَاصَرَتْ الْجُدُودُ
عَلَى بَدْرٍ سَرَاةِ بَنِي هُصَيْصٍ … وَمَخْزُومٍ وَرَهْطِ أَبِي الْوَلِيدِ
وَبَكّي إنْ بَكّيْتِ عَلَى عَقِيلٍ … وَبَكّي حَارِثًا أَسَدَ الْأُسُودِ
وَبَكّيهِمْ وَلَا تَسَمِي جَمِيعًا … وَمَا لِأَبِي حَكِيمَةَ مِنْ نَدِيدِ
أَلَا قَدْ سَادَ بَعْدَهُمْ رِجَالٌ … وَلَوْلَا يَوْمُ بَدْرٍ لَمْ يَسُودُوا) ( ).
ويبين الأسود في البيت الأخير أعلاه سخطه على الذين ترأسوا في قريش وانهم ليسوا أهلاً للرئاسة والأمر والنهي ، ولكن معركة بدر أخذت رجالهم ومنهم ابنه زمعة .
ويظهر من شعره أنه لم يوجه لوما للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انما يندب حظه العاثر وسوء اختياره وقومه بقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وفي شعره إنذار للمشركين من الذهاب إلى معركة أحد ، وحث لأهل مكة والقبائل على عدم اتباع رؤساء الكفر في الهجوم على المدينة .
فلقد سلّم الأسود بالضلالة والهزيمة , بعد فقده بصره وقتل ثلاثة أولاد له في يوم واحد ، وهو يوم معركة بدر الذي يذكره بمرارة في شعره بعجز الكفار عن تحقيق نصر أو غلبة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فان قيل قد سقط أربعة عشر قتيلاً من المسلمين في معركة بدر ثم سبعين منهم في معركة أحد فهل أصاب عوائلهم وذويهم ما أصاب رجالات وعوائل قريش من الحزن والكآبة والرغبة في النياحة وحصول التلاوم والذم فيما بينهم .
الجواب لا ، فقد نزل القرآن بالبشارة بحياة شهداء بدر وأحد وأن حياتهم ليس في موضع آخر من الأرض ، أو في عالم القبر ، أو في جنة آدم، كي يقوم بعضهم بناء على القول بأن جنة آدم من جنان الأرض فلابد أن نرى ونعلم بالشهداء خاصة مع الإرتقاء العلمي ودقة الرصد والكشف في عموم الأرض في هذا الزمان .
إنما أخبر الله بأن حياتهم عنده سبحانه بقوله [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ).
لبيان الإعجاز في الإحتراز لمستقبل الأيام بقيد (عنده) الوارد في آية البحث ، وأن كان هذا الإحتراز ليس من المقاصد الأساسية فيه ، بالإضافة إلى مواساة عوائل الشهداء بقانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز بهم ولم يقاتل ابتداءً أنما أراد المشركون استباحة المدينة وقتل الرجال وسبي النساء والصبيان ، وحمل أهلها على عبادة الأوثان ولو دخلوا إلى المدينة سواء في معركة بدر أو أحد أو الخندق فان المنافقين وقبائل اليهود الموجودين في المدينة لا يسلمون من شر وأذى كفار قريش وحال نهب الأموال .
وصار الأسود أعمى مما يجعله أكثر حاجة للولد وأشد أسى على فقده فكيف وقد فقد ثلاثة من أولاده في واقعة واحدة ، هي واقعة بدر إذ غادروا الدنيا وهم في حال ظلم لأنفسهم ، وجحود وإصرار على منع الدعوة إلى التوحيد والأخلاق الحميدة وحسن العاقبة .
أول سرية في الإسلام
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في مكة، وبقي ثلاث عشرة سنة يدعو الناس فيها إلى الإسلام، ولم يجهز سرية ولم ينو الحرب والقتال لبيان أنه رسول السلام والأمن، والنجاة في النشأتين، وفي التنزيل[اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ]( ).
وكان النبي وأهل بيته وأصحابه يصبرون على الأذى، قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ]( )،
وعندما هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة للنجاة من عزم كفار قريش على قتله، وليقوم بالتبليغ والدعوة.
إزداد أذى قريش وأعوانهم وصاروا بجتهدون في غايات:
الأولى : قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : قتل أو أسر الصحابة.
الثالثة : منع الناس من دخول الإسلام.
الرابعة : الإضرار بالمسلمين في أموالهم وأنعامهم، وكأنهم يقومون بحصار أشبه بحصارهم لبني هاشم ولكنه أعم منه، ويقترن بإرادة البطش وأختلف في أول سرية في الإسلام من جهات :
الأولى : سرية حمزة بن عبد المطلب، وهو المشهور, والمختار وكانت الجهة التي توجهت إليها سرية حمزة بن عبد المطلب هو سيف البحر أي ساحله وطرفه من أرض جهينة.
وخرج حمزة وهم دورية فالتقوا بعير لقريش فيها أبو جهل مع ثلاثمائة رجل من قريش وغلمانهم وعبيدهم والجمّالين .
الثانية : سرية عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب .
وقد تشترك السريتان أعلاه في سرية وموضوع واحد ، وهل كان حمزة وعبيدة معاً في ذات السرية ، يمكن استقراء مسألة اتحاد أو التعدد السريتين بلحاظ :
الأول : تأريخ السرية .
الثاني : عدد أفراد السرية .
الثالث : أسماء أفراد السرية .
الرابع : الجهة التي توجهت إليها السرية .
الخامس : تفاصيل ووقائع السرية .
السادس : سند الأخبار عن السرية .
وأكثر الأخبار في المقام من المرسلات ، وصحيح أن الإرسال علامة ضعف الحديث ، لكن يمكن التساهل والتسامح في الأمور التأريخية ، إذ كانت شائعة ولم تكن معارضة باجماع أهل المغازي ، فمثلاً كثير من أخبار محمد ابن إسحاق ( 85 – 151 ) هجرية ( 703 – 768 ) م , وردت من غير بيان السند .
والمختار هو التعدد والتباين ، وأن سرية حمزة بن عبد المطلب هي غير سرية عبيدة بن الحارث .
الثالثة : سرية عبد الله بن جحش ، ولعل الذين قالوا أنها أول سرية في الإسلام للوقائع التي حدثت فيها ، وبه قال ابن المدائني أما ابن اسحاق فجعل سرية عبيدة بن الحارث أول سرية في الإسلام .
والمختار أن أول سرية في الإسلام هي سرية حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عقد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عقد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لواء أبيض وحمله أبو مرثد , كناز بن الحصين الغنوي .
وكان عدد أفراد هذه السرية ثلاثين ، وكلهم من المهاجرين ، وخرجت السرية في شهر رمضان بعد سبعة أشهر من الهجرة النبوية إلى المدينة ليتبين حقيقة وهي أن السرية سابقة في زمانها للغزوة ، أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرسل سرية قبل أن يقوم بالخروج بنفسه في غزوة .
وحمزة هو عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أبناء عبد المطلب ,
ولم يقع قتال في خروج هذه السرية , إذ حجز بين الفريقين مجدي بن عمرو كما يأتي تفصيله .
وليس في هذه السرية أحد من الأنصار .
ومن إعجاز القرآن أنه لم يسم الأوس والخزرج إلا باسم الأنصار وجعلهم بعرض واحد مع المهاجرين ، لبيان لزوم اتخاذ الإنتساب للإسلام هو الأصل وفيه الفخر والعز .
وأخرج أبو الشيخ عن أبي اسامة ومحمد بن إبراهيم اليمني ، (قالا : مرّ عمر بن الخطاب برجل وهو يقرأ { والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان }( ) فوقف عمر ، فلما انصرف الرجل قال : من أقرأك هذه؟ قال : أقرأنيها أبي بن كعب . قال : فانطلق إليه فانطلقا إليه فقال : يا أبا المنذر أخبرني هذا أنك أقرأته هذه الآية . قال : صدق تلقيتها من في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . قال عمر : أنت تلقيتها من في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ .
قال : فقال في الثالثة وهو غضبان : نعم . والله لقد أنزلها الله على جبريل عليه السلام ، وأنزلها جبريل عليه السلام على قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يستأمر فيها الخطاب ولا ابنه . فخرج عمر رافعاً يديه وهو يقول : الله أكبر الله أكبر)( ).
وكان العرب على قسمين اليمنية والقيسية , ولم يكن هذا التقسيم معروفاً أيام النبي , وأصل اليمنية من قحطان ، ورايتهم بيضاء ، وليس السكن في اليمن شرطاً لهذا الاسم ، إنما المراد أنهم من القحطانية سواء سكنوا الشام أو العراق أو فارس أو مصر أو المغرب الأقصى ، وقبيلة طئ يمنية وان كانت تسكن جبل أجا وسلمى في حائل شمال نجد ، والغساسنة في الشام ولخم وجذام في الشام والعراق .
وقبيلة الأوس والخزرج يمانية مع أنهم يسكنون يثرب ويسمون هم والغساسنة وخزاعة وبارق وغامد وزهران وعك الأزد ، ومن قبائل اليمن :
الأول : حميَر ، وفيهم الملك .
الثاني : مذحج .
الثالث : النخع .
الرابع : زبيد .
الخامس : قضاعة ، ومنها جهينة وبلى ونهد وكلب .
السادس : همدان من بكيل وحاشد .
السابع : كندة .
الثامن : الأزد ، ومنهم الأوس والخزرج والغساسنة .
التاسع : جذام .
العاشر : بجيلة .
الحادي عشر : الاشعرون .
الثاني عشر : المناذرة ملوك الحيرة .
ومن العرب من كان يستخف ببعض النسب للخصومة والعداوة أو للشياع ومن غير علة .
وقيل لبعض العرب (أيسرك أن تدخل الجنة وأنت باهلي قال بشرط أن لا يعلم أهل الجنة) ( ) .
وهناك أبيات من الشعر في القدح بهم وشدة ذمهم ، وهل تدخل في الغيبة , الجواب نعم , قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا]( ).
وقال ابن خلكان (وقد رأيت في بعض المجاميع أن الأشعث بن قيس قال: يا رسول الله أتتكافأ دماؤنا قال نعم ولو قتلت رجلا من باهلة لقتلتك) والحديث ضعيف من جهة الإرسال وعدم ذكر المصدر إلى جانب ضعفه دلالة .
وسأل بعض الأعراب رجلا : ممن أنت , فقال : من باهلة فجعل يرثي له قال وأزيدك أني لست من الصميم وإنما أنا من مواليهم فجعل يقبل يديه ورجليه .
فقال : ولم تفعل هذا فقال لأن الله تعالى ما ابتلاك بهذه الرزية في الدنيا إلا ليعوضك الجنة في الآخرة ) ( ).
لقد تفضل الله سبحانه بتأسيس قانون التفاضل العام بين المسلمين خاصة والناس عامة وهو ملاك التقوى والخشية من الله عز وجل ، قال سبحانه [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ) .
وهو من إعجاز القرآن ليجعل عناية الفرد والجماعة والقبيلة والطائفة بذكر الله ، والإخلاص في طاعته والإمتثال لأوامره ، كما جمع الله المسلمين بلفظ الأمة المتجددة وأن الجامع بينهم هو الإيمان ، وهو علة التفضيل ، قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
لتكون النسبة بين الآيتين أعلاه هي العموم والخصوص المطلق ، وأن آية [خَيْرَ أُمَّةٍ] أعم وأوسع ، وكان الحكم في الجاهلية للقبائل اليمنية القحطانية وإلى أن ثارت قبائل قيس ودارت حروب كثيرة بينهم ، وحدثت هجرات متعددة إلى أن تخلص القيسية من سلطانهم وسطوتهم .
وجاء الإسلام ليقضي على التمايز والنزعة العشائرية [الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ] ( ).
وعندما وقعت معركة صفين نصر اليمانية الإمام علي عليه السلام ، ونصر القيسية معاوية بن أبي سفيان ، وفي الدولة الأموية وعندما وقعت الخلافات بين رؤساء بني أمية أنفسهم ، أنتصر بنو كلب اليمنية لطائفة ، ونصرت قبيلة قيس طائفة أخرى .
وتخمد فتنة اليمانية والقيسية حيناً وتظهر حيناً آخر ، فمثلاً اشتدت في بدايات ومنتصف القرن التاسع عشر في بعض قرى فلسطين ، فاذا أهين اللون الأبيض انتفضت اليمانية ، وبالعكس إذا أهين اللون الأحمر , وتقذف الحجارة من السطوح وتسفك الدماء ، كما في قرى كفر نعمه .
واذا كانت الزوجة يمنية ومرت بالحارة القيسية فعليها أن تغطي ثوبها الأبيض بقطيفة حمراء , وكذا العكس إذا مرت القيسية بمحلة يمنية فعليها أن ثوبها الأحمر بقماش وخمار أبيض .
ويعرض اليمني من الطعام الأحمر ، والقيسي من اللون الأبيض وكانوا يتسابقون بالكرم .
ولكن إذا دخل القيسي ضيفاً عند اليمني قدم له طعاما أبيض تعريضاً به ، فيخرج القيسي عسلاً ليضعه عليه ويعلوه .
والقيسية قبائل متعددة ، وينتمون إلى قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ورايتهم حمراء .
وأظهر القبائل القيسية :
الأولى : القيسي .
الثانية : هوازن .
الثالثة : سليم .
الرابعة : غطفان .
الخامسة : ثقيف .
السادسة : أعصر (باهلة , غنى ، الطغاوة ).
السابعة : مازن .
الثامنة : محارب .
التاسعة : عدوان .
ومنهم أبو سيارة العدواني وهو أول من سنّ الدية مائة من الإبل وكان يبدأ الإفاضة من مزدلفة .
ومن التابعين الفقيه والقارئ يحيى بن يعمر العدواني .
لقد آخى الإسلام بين المسلمين بسور الإيمان الجامع لهم، لينقطع حبل العصبية القبلية، فإن قلت أنه يظهر ويتكرر في أزمنة وأحوال متعددة والجواب هذا صحيح ولكن الصلوات اليومية الخمسة تأتي عليه وتمنع من تفشيه وإستحواذه على القلوب، قال تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( )، وهو من أسرار ظهور مبادئ الإسلام وإنقياد الناس لها من غير قتال.
لقد إحتجت الملائكة على جعل الإنسان[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لأنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء فجاءت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتدعو كل آية قرآنية نزل بها جبرئيل وسيلة وسلاحاً لإستئصال الفساد ولمنع التمادي في القتل وسفك الدماء، وهو من مصاديق رد الله عز وجل على الملائكة يوم خلق آدم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).