المقدمة
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض من غير مثال سابق لتكون كل ذرة وجزء منها برهاناً للخلائق كلها على وجوب عبادته سبحانه ، ولقد أبى إلا أن تكون آيات صنعه جلية ظاهرة في عالم الأكوان والموجودات كلها .
ومن خصائص وبدائع قدرته أنه سبحانه جعل الحجة على كل مخلوق , من وجوه كثيرة منها :
الأول : الآيات في ذات المخلوق ، وهي من جهات متجددة منها :
الأولى : الكم والمقدار والحجم لذات تلك الآيات .
الثانية : الكيف وهو الهيئة الخارجية والداخلية للشئ .
الثالثة : الجسمية والجوهر والفعل والحركة , وأن ينفعل أو لا ينفعل .
الرابعة : إستجابة المخلوق كلاً وجزءً لمشيئة الله عز وجل ، قال تعالى [ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ] ( ) .
الخامسة : ذات وجود المخلوق آية بلحاظ أنه ممكن لم يوجد إلا بمشيئة الله ، لقانون العلة والمعلول ، ولبطلان التسلسل في الخلق والإيجاد .
الثاني : البراهين في جنس المخلوق ، وسنخية خلقه وتكاثره , والآيات في سعيه لحفظ النفس والجنس ، ليكون من مصاديق الآية أعلاه [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ) صيرورة الناس حريصين على التوالد والتكاثر وتعاهد الأمم والأجيال في كل الأزمنة للنكاح الشرعي والنفرة من السفاح .
فمع أن قوم فرعون كانوا مشركين ، فقد أبدت عامة النسوة الإستهجان من صدور مقدمات السفاح من طرف واحد , وهي امرأة العزيز لقوله تعالى [وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امرأة الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ).
الثالث : الحجج فيما حول ذات المخلوق والإنسان خاصة التي تدرك بالبديهية.
ويدل عليه قوله تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ) ودلالة الآية أعلاه على إقامة الحجة بذات الشخص وبأسرته وبغيره من الناس في كل ساعة .
الحمد لله الذي تفضل ببعث الأنبياء والرسل رحمة بالناس ، وجذباً لهم إلى منازل الهدى والإيمان في دنيا الإبتلاء والإمتحان التي جعلها الله عز وجل طريقاً إلى الآخرة ، وميزاناً وفيصلاً في عالم الحساب والجزاء ، وأغدق سبحانه على الأنبياء والناس بالآيات والحجج الحسية والعقلية لمخاطبة العقول والناس على مختلف مشاربهم ، وليس من حصر لمصاديق كل وجه من الوجوه أعلاه , وهو من مصاديق اللطف الإلهي بالناس , وتقريبهم لمنازل الإيمان, وعدم حاجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى القتال, أو إتخاذه بلغة للجذب الناس لأداء الفرائض بقصد القربة.
وقد إنفرد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من بين الأنبياء بأمور :
الأول : الحجج العقلية.
الثاني : الجمع بين الحجة الحسية والعقلية .
الثالث : تثبيت حجج الأنبياء الحسية بآيات القرآن التي أرادها الله عز وجل أن تبقى ضياء ينير دروب الهداية للناس وتكون حصناً وواقية للأنبياء والمؤمنين من الأمم السابقة والمسلمين والمسلمات عامة .
ليكون من إعجاز القرآن أمور :
الأول :ذكر قصص الأنبياء .
الثاني : المنع من تحريف الوقائع التأريخية سواء تلك التي تخص الأنبياء والمؤمنين عموماً ، أو التي تتعلق بالظالمين والطواغيت .
الثالث : بيان إتحاد السنخية بين سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين في إجتناب القتال والإمتناع عن الإبتداء بالقتال .
فان قلت قد ورد قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) والجواب نعم هذا صحيح .
وبين الغزو والقتال عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء موضوع الحرب والقتال ، أما مادة الإفتراق فقد لا يكون في الغزو قتال ، وقد يأتي القتال من غير غزو , أو بغزو من الفريقين .
لذا قيل أن عدد غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من عشرين غزوة على إختلاف في عددها نبينه إن شاء الله ، وقد قاتل في تسع منها والمختار أنه ليس من غزوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إنما كان جهاده وقتاله دفاعاً .
الرابع : جهاد الأنبياء السابقين في بشارتهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهذه البشارات لم يكن إعلانها وتثبيتها أمراً سهلاً .
فقد لاقى الأنبياء المشقة والعناء في ذات النبوة وليس من أحد لاقى أشد الأذى من قومه مثل الأنبياء ، ليكون هذا الأذى مقدمة لصبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في جهاده في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة .
الحمد لله أسمى وأصدق مصاديق الحمد والشكر له سبحانه على النعم ، وهي على جهات منها :
الأولى : النعم المستديمة .
الثانية : النعم المستحدثة كل ساعة وكل يوم .
الثالثة : نعمة صرف البلاء والضرر .
الرابعة : نعمة تخفيف حدة الأذى .
الخامسة : النعم الخاصة على ذات الإنسان ، والنعمة العامة وانتفاع الفرد منها وانتفاع الأمة من النعم الخاصة بالفرد منها .
ليفوز المسلمون في هذه الجهة بمصاديق بهية وشواهد من قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وهل من بشارات الأنبياء السابقين بالنبي محمد وجهادهم في سبيل تثبيت وتوارث هذه البشارات دعوة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السعي في سبل هداية الناس .
الجواب نعم ، إذ انها تساهم في تأسيس قانون وهو عدم الحاجة للقتال في التبليغ والدعوة الى الله واتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويدل عليه قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ] ( ) فلم تقيد الآية التبليغ بالسيف ، وليس من دليل قاطع على تقييد هذا التبليغ بالغزو ، ومن الإعجاز في المقام عدم وجود اسم السيف في القرآن ، ومع هذا قال جملة المفسرين بأن آية السيف نسخت آيات عديدة ومنهم من أوصل الآيات التي نسختها آية السيف إلى مائة آية .
وقد بينّت على نحو التفصيل في عدة أجزاء من هذا التفسير عدم ثبوت نسخ آية السيف وهي[فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ) لآيات معدودة , لتكون مدرسة وقاعدة في معرفة قانون عدم نسخ أغلب آيات القرآن وإن لإمكان الجمع بين هذه الآيات وآية السيف وانتفاء التعارض بينها ، إذ أن هذا التعارض شرط بالنسخ إلى جانب لزوم ثبوت تأخر الناسخ عن المنسوخ ، وقال تعالى [لاَ يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (الممتحنة/8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ]( ).
وسأذكر بفضل الله ومشيئته عدم نسخها لآيات عديدة أخرى لكشف الحقائق وبيان موضوعية بشارات الأنبياء السابقين برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأثرها في هداية الناس إلى الإسلام .
وتوالي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية ، ومن خصائصها أنها تتضاعف وتتراكم ، فتأتي الآية لتضاف إلى غيرها من غير ان تزاحمها ، وكل واحدة منها توليدية تتفرع عنها آيات ودلالات متعددة مما يدل بالدلالة الإلتزامية على عدم الحاجة للجوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إلى القتال .
ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصاحبة المعجزة له وتتعقبه معجزة أخرى, ومن الشواهد على استغناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن القتال نزول القرآن على نحو التدريج والنجوم في ثلاث وعشرين سنة لتكون كل آية على وجوه :
الوجه الأول : تعيين منهاج النبوة ، وهداية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأحسن السبل في الدعوة إلى الله ,وتبليغ الأحكام ، وهو من معاني ورشحات تثبيت الفؤاد الذي ذكر في قوله تعالى[وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً]( ).
ويحتمل تثبيت الفؤاد في الآية أعلاه وجوهاً :
أولاً : إرادة خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ صيغة الخطاب في الآية أعلاه .
ثانياً : المقصود المسلمون .
ثالثاً : إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويلحق به المسلمون ، والمختار هو الثالث ، وقد ورد تثبيت الفؤاد في موضوع آخر ، وهو قوله تعالى[وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ]( ).
لبيان قانون وهو مجئ أسباب الهداية واستقراء الإيمان في القلوب لعامة المسلمين بقصص القرآن ، وبيانه لأحوال الأنبياء والرسل وما لاقوه من أذى قومهم , وفيه دعوة من وجوه :
أولاً : الدعوة إلى النبي محمد صلى الله عليه , وفيها مسائل :
الأولى : حث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الإقتداء بالأنبياء السابقين والإنتفاع من سنتهم .
الثانية : بيان وجوه الجهاد والصبر التي يتصف بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : إختصاص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزات تدعو لبذل الوسع في التبليغ .
الرابعة : بلوغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرتبة سامية في الصبر ، وتحمل الأذى ، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم قال (ما أوذي نبي مثل ما أوذيت) ( ).
الخامسة : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشكره لله عز وجل على نعمة ورود قصص الأنبياء في القرآن ، وصيرورتها سبباً لتثبيت الفؤاد وإمتلاء القلب بالسكينة .
ثانياً : الدعوة إلى المسلمين ، وفيها مسائل :
الأولى : دعوة المسلمين للإقتداء بالأنبياء السابقين ، وبسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وهذا الجمع المبارك في الإقتداء من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
الثانية : شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة نزول آية أنباء الرسل .
الثالثة : إتعاظ المسلمين من قصص الأنبياء .
الرابعة : إعتقاد المسلم بأنه المقصود بالخطاب في القرآن , سواء كان أمراً أو نهياً.
الخامسة : تجلي مدرسة الوعد والوعيد التي دأب الأنبياء السابقون عليها في دعوتهم قومهم إلى الإسلام .
ثالثاً : الدعوة إلى أهل الكتاب والناس جميعاً ، وفيها مسائل :
الأولى : لزوم الإقتداء بالأنبياء .
الثانية : إستقراء الصلة بين الأنبياء وعامة الناس .
الثالثة : تجلي قانون وهو إحاطة آيات القرآن بالأحداث والوقائع في الأزمنة السابقة ،لبيان المسألة الأهم في حياة الناس ، وهي دعوة الأنبياء لهم لعبادة الله ، وجحود شطر من الناس بالنبوة والتنزيل .
الرابعة : حاجة الناس للرجوع إلى القرآن لمعرفة سنخية عمل الأنبياء ، وما لاقوه من أممهم .
الخامسة : تجلي قانون ثابت في الأجيال المتعاقبة ، وهو مجئ القرآن بالحق والصدق .
السادسة : إدراك المنزلة الرفيعة للأنبياء عند الله والإقرار بعالم الجواء في الآخرة.
السابعة : التدبر في منافع إتباع ونصرة الأنبياء .
الثامنة : التسليم بحاجة أهل الأرض إلى الأنبياء ، وتعاقب بعثتهم .
الوجه الثاني : إعانة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حفظ وتدوين وتوثيق آيات القرآن ، وترتيبه من جهة السور والآيات ، وهذا الترتيب معجزة أخرى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
إذ كان جبرئيل ينزل بالآية ويقول ضع هذه الآية بعد الآية كذا (عن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر “بسم الله الرحمن الرحيم”، ووضعتموهما في السبع الطوال؟ ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان: كان رسول الله مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا .
فإذا أنزلت عليه الآية فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وحسبت أنها منها وقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر “بسم الله الرحمن الرحيم” فوضعتها في السبع الطوال)( ).
الثالث : توثيق القرآن للوقائع والأحداث وبيان أسباب النزول والغاية الحميدة من نزول الآية القرآنية وعلم أسباب النزول أعم من تسميته إذ يشمل كيف أن الآية القرآنية تهدي إلى الصلاح وتبين العمل اللازم القيام به ، ويمكن تأسيس قانون وهو (صرف الآية القرآنية المسلمين عن القتال ).
لبيان كيف أن الآية القرآنية في منطوقها أو مفهومها تبين للمسلمين عدم الحاجة للجوء إلى القتال والسيف في الدعوة إلى الله ،إنما احضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم السيف في الدفاع .
ومن الآيات أن المسلمين يعيشون أحوالهم الإجتماعية والمعاشية العامة قبل المعركة حتى إذا توجه العدو إليهم أو أعد العدة للهجوم عليهم والكيد بهم إجتمعوا بأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوجهوا للدفاع ، وما أن تنقضي المعركة حتى يعودون إلى شؤونهم الخاصة ، مع الحرص على أداء الفرائض الخمسة ، ومتابعة نزول آيات القرآن ، والتفقه في الدين ، وهو ذاته واقية وحرز من القتال ، ورسالة إلى أهل الأرض بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لا يرغبون بالقتال ، ولا يتخذونه بلغة لتحقيق الغايات ، إنما تكون كل آية باعثاً للإيمان في القلوب وحجة على الناس .
ولابد أن تؤلف المجلدات الخاصة بهذا العلم من جهات :
الأولى : آيات القرآن .
الثانية : السنة النبوية .
الثالثة : الوقائع التأريخية أيام البعثة النبوية .
الرابعة : الدلائل الإجتماعية .
الخامسة : عدم وقوع قتال في سرايا ومغازي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأولى .
السادسة : مقدمات معارك الإسلام كمعركة بدر وأحد والخندق .
السابعة : الشواهد على عدم إبتداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والقتال .
الثامنة : تأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أمراء السرايا بحضور أفرادها بعدم البدء بالقتال .
التاسعة : تقوم دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بدايات المعارك بندائه الرسالي الذي يسمعه الفريقان المتقابلان (قولوا لا اله إلا الله تفلحوا) وذات النداء كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول وهو في مكة وحين موسم الحج وبعد ة الهجرة إلى المدينة (ربيعة بن عباد، من بني الديل، وكان جاهليًا فأسلم -قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: “يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا” والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحولُ ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب)( ).
العاشرة : إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن القتال حالما ينسحب العدو ويكف عن القتال كما في معركة أحد والخندق .
ويكون من مصاديق ومعاني آية التبليغ أعلاه وجوه :
الأول : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك [بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
الثاني : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك أنك رسول الله .
الثالث : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك بالقول والدعوة إلى الله .
الرابع : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك بوجوب عبادة الله عز وجل , والإمتناع عن الشرك ومفاهيمه .
الخامس : يا أيها الرسول بلغ أمتك وأهل بيتك ما أنزل إليك من ربك .
السادس : يا أيها الرسول بلغ أنت وأصحابك ما أنزل إليك من ربك .
السابع : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك من غير أن تبدأ عدوك بالقتال .
الثامن : يا أيها الرسول إن الله يظهرك وينصرك من غير غزو, قال تعالى[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ]( ).
فان قيل قد توجه الأمر في الآية إلى خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والجواب الأصل في الأوامر الإلهية هو العموم فيتوجه الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتحلق به الأمة من عامة المسلمين والمسلمات وأجيالهم إلا أن يرد التخصيص من جهات :
الأولى : التخصيص والحصر والتعيين الخاص وارادة خصوص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الآية .
وحتى الخطاب الخاص للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحما على المعنى الأعم من جهة تلقيه والعمل بضمونه، فقوله تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ]( ) يكون من معانيه(يا أيها الذين آمنوا قولوا انما رسول الله محمد بشر مثلنا يوحى إليه إنما الهنا والهكم إله واحد).
الثانية : إرادة تخصيص الصحابة في الحاقهم بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالثة : إرادة أهل البيت في الخطاب القرآني، قال تعالى[إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا]( ).
وهل تشمل الآية أعلاه النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أم أنها خاصة بعلي وفاطمة والحسن والحسين ، الجواب هو الأول مع إنفراد النبي بمرتبة شرف النبوة وورد عن أم سلمة قالت : في بيتي نزلت{إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت} وفي البيت فاطمة، وعلي، والحسن، والحسين. فجللهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكساء كان عليه، ثم قال هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس، وطهرهم تطهيراً)( ).
الرابعة : التخصيص الجامع للرجال من المسلمين في تكاليف جهادية مخصوصة كالقتال ، مع لحاظ العذر والإستثناء ، قال تعالى[فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى]( ) ولا بد من شرط الإسلام والعقل والبلوغ والذكورة والقدرة على التفقه في الجهاد والمرابطة والسلامة من العاهة والعجز، قال تعالى[لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
وعن الإمام الحسن بن علي عليه السلام قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إني جبان , وإني ضعيف . فقال : هلم إلى جهاد لا شوكة فيه : الحج) ( ).
وفي سقوط القتال عن المرأة شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في حال دفاع ، وأنهم لا يلجأون إلى القتال إلا على نحو الضرورة والإضطرار والدفاع عن النفوس والأعراض .
و(عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله! . . . هل على النساء من جهاد؟ قال : عليهن جهاد لا قتال فيه . الحج والعمرة) ( ).
التاسع : يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من غير حاجة للقتال .
العاشر :يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك فان الملائكة تنزل مدداً وظهيراً لك .
الحادي عشر : يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك فأنت خاتم النبيين.
الثاني عشر : يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك أن الذي يحاربك يخسر الدنيا والآخرة.
الثالث عشر : يا أيها النبي بلغ ما أنزل من ربك تجد أكثر الناس يجتنبون قتالك).
وفيه آية وبركة إذ يسهل على النبي ملاقاة القوم .
لقد قالوا أن عدد غزوات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هي خمس وعشرون أو سبع وعشرون أو تسع وعشرون غزوة على إختلاف فيها ، والمختار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في حال دفاع .
والإجماع على أن أكثر غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس فيها قتال ، كما سيأتي بيانه بالتفصيل مع جدول إحصائي بياني .
ويقال غزا يغزو غزوا فهو غاز (والغُزَّى: جمع غازٍ على ” فُعَّلٍ ” .
والمَغْزاةُ والمغازي: مواضع الغَزْوِ، وتكون المغازي مَناقِبُهم وغَزَواتُهم.
وأَغْزَتِ المرأة أي غَزَا زَوْجُها، فهي مُغْزِيَةٌ.
وجمع الغَزْوةِ غَزَواتٌ.
وتقول للرجل: ما غَزْوَتُكَ أي ما تعني بما تقول.
وأَغْزَيْتُه أي: بعثته إلى الغَزْوِ) ( ).
(غزا الشيء غزوا: اراده وطلبه بينهم تواثب.
والغزوة: ما غزى وطلب. قال ساعدة بن جؤية:
لقلت لدهري إنه هو غزوتي … وإني وإن أرغبتني غير فاعل
والغزو: السير إلى قتال العدو وانتهابه.) ( ).
والمَغزى : المقصد والموضع الذي يقصده الغازي وجمعه المغازي (وَإِنَّمَا يَكُونُ غَزْوُ الْعَدُوِّ فِي بِلَادِهِ)( ).
وقد اختلف في علم الكلام هل الاسم هو عين المسمى أم أن الاسم غير المسمى، والمختار هو الثاني فقد يتعدد الاسم ولكن المسمى متحد ، وقد يسبق الاسم المسمى أو يقع العكس .
وفي الحديث النبوي المتواتر عند كل علماء وأجيال المسلمين وهو (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مِائَةٌ إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ إِنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ) ( ) .
(وأخرج أبو نعيم عن محمد بن جعفر قال : سألت أبي جعفر بن محمد الصادق عن الاسماء التسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة؟ فقال : هي في القرآن ، ففي الفاتحة خمسة أسماء . يا ألله ، يا رب ، يا رحمن ، يا رحيم ، يا مالك .
وفي البقرة ثلاثة وثلاثون اسماً : يا محيط ، يا قدير ، يا عليم ، يا حكيم ، يا علي ، يا عظيم ، يا تواب ، يا بصير ، يا ولي ، يا واسع ، يا كافي ، يا رؤوف ، يا بديع ، يا شاكر ، يا واحد ، يا سميع ، يا قابض ، يا باسط ، يا حي ، يا قيوم ، يا غني ، يا حميد ، يا غفور ، يا حليم ، يا إله ، يا قريب ، يا مجيب ، يا عزيز ، يا نصير ، يا قوي ، يا شديد ، يا سريع ، يا خبير .
وفي آل عمران : يا وهَّاب ، يا قائم ، يا صادق ، يا باعث ، يا منعم ، يا متفضل .
وفي النساء : يا رقيب ، يا حسيب ، يا شهيد ، يا مقيت ، يا وكيل ، يا علي ، يا كبير .
وفي الأنعام : يا فاطر ، يا قاهر ، يا لطيف ، يا برهان .
وفي الأعراف : يا محيي ، يا مميت .
وفي الأنفال : يا نعم المولى ، يا نعم النصير .
وفي هود : يا حفيظ ، يا مجيد ، يا ودود ، يا فعال لما يريد . وفي الرعد : يا كبير، يا متعال .
وفي إبراهيم : يا منَّان ، يا وارث . وفي الحجر : يا خلاق . وفي مريم : يا فرد .
وفي طه : يا غفّار . وفي قد أفلح( ): يا كريم .
وفي النور : يا حق ، يا مبين . وفي الفرقان : يا هادي . وفي سبأ : يا فتَّاح .
وفي الزمر : يا عالم . وفي غافر : يا غافر ، يا قابل التوبة ، يا ذا الطول ، يا رفيع .
وفي الذاريات : يا رزاق ، يا ذا القوة ، يا متين . وفي الطور : يا برّ .
وفي اقتربت ( ): يا مليك ، يا مقتدر .
وفي الرحمن : يا ذا الجلال والإِكرام ، يا رب المشرقين ، يا رب المغربين ، يا باقي ، يا مهيمن .
وفي الحديد : يا أول ، يا آخر ، يا ظاهر ، يا باطن .
وفي الحشر : يا ملك ، يا قدوس ، يا سلام ، يا مؤمن ، يا مهيمن ، يا عزيز ، يا جبار ، يا متكبر ، يا خالق ، يا بارىء ، يا مصوّر)( ).
ولو دار الأمر في المعنى والمضمون والدلالة بين الاسم والمسمى ، فالمدار على ذات المسمى ، وهو ظاهر في المعاملة ولغة الخطاب والصلات بين الناس ، فقد نجد شخصاً يحمل اسم عنوان الصلاح وينطبق قوله وفعله على ذات العنوان .
وقد تجد بعضهم يسمى باسم حيوان مفترس ، وتجد إنساناً وديعاً مسالماً يكره الخصومة , ويبتعد عن مواطن التحدي والتعدي .
ومن الإعجاز في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه قام بابدال أسماء عدد من الصحابة والصحابيات ، لتتضمن أسماؤهم الجديدة معنى التقوى والصلاح والتفاؤل والرضا ، والأهم فيما يسمى مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو ذات السنة النبوية القولية والفعلية سواء في غزوة الإبواء وهي أول غزوة ولم يقع فيها قتال .
أو غزوة بدر وأحد والخندق وحنين الدفاعية المحضة , أو تبوك وهي آخر ما يسمى بالغزوات والتي خرج فيها رسول الله صلى الله عيه وآله وسلم ولم يلق قتالاً .
وفي الحديث بأن الصحابة ( باتوا يَبوكون حِسْيَ تَبوك بقِدْح فلذلك سميت تَبُوك أي يحرّكونه يدخلون فيه القِدْح وهو السهم ليخرج منه الماء ومنه يقال باكَ الحمارَ الأَتان .
وسميت غزوة تَبُوك لأَن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأَى قوماً من أَصحابه يَبوكون حسْيَ تَبُوك أَي يدخلون فيه القِدْح ويحركونه ليخرج الماء فقال ما زلتم تَبُوكونها بَوْكاً فسميت تلك الغزوة غزوة تَبُوك وهو تَفْعُل من البَوْك والحِسْي العين كالجَفْر) ( ) .
وبعد رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة من فتح مكة وحصار الطائف في السنة الثامنة أقام فيها شهر ذي الحجة والمحرم وصفراً وربيعاً الأول وربيعاً الآخر .
وفي شهر رجب من السنة التاسعة خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك مع شدة الحر وأول الثمر في عام جدب وبعد المسافة مما يجعل الناس يميلون للإقامة والبقاء في المدينة، وغالباً ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوري في الجهة التي يقصدها عند خروجه من المدينة، وفي تبوك أخبر الصحابة عامة بالجهة التي يريد ولهذا الإخبار العام أسباب عديدة وغايات كثيرة تترشح من الوحي بلحاظ أن إخبار النبي عن وجهته شعبة من الوحي ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقم باخبار المسلمين بوجهته نحو الروم مع كثرتهم وشدة بأسهم , ووجود اليهود والمنافقين وغيرهم في المدينة إلا بأمر من عند الله ، وهل يمكن القول انما هو باذن الله .
والجواب نعم , والمختار أن النسبة بين الأمر والإذن من عند الله هو العموم والخصوص المطلق فالأمر أعم ،وقام جماعة من المنافقين يومئذ بتحريض المسلمين على القعود ، وكانوا يجتمعون في بيت سويلم عند بئر جاسوم ، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحرق عليهم بيت سويلم ففر الضحاك بن خليفة وهو أحدهم من ظهر البيت فانكسرت رجله ، وانهزم الباقون ، فقال الضحاك
كَادَتْ وَبَيْتِ اللّهِ نَارُ مُحَمّدٍ … يَشِيطُ بِهَا الضّحّاكُ وَابن أُبَيْرِقِ
وَظَلْت وَقَدْ طَبّقْت كَبْسَ سُوَيْلِمٍ … أَنُوءُ عَلَى رِجْلِي كَسِيرًا وَمِرْفَقِي
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا أَعُودُ لِمِثْلِهَا … أَخَافُ وَمَنْ تَشْمَلُ بِهِ النّارُ يُحْرَقْ) ( ) .
ويمكن أن يسمى خروج النبي وأصحابه إلى تبوك : رحلة الصفح والمصالحة والمعجزة من جهات :
الأولى : صالح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوحنا بن روبة صاحب آيلة على الجزية , وآيلة هي مدينة العقبة الحالية في جنوب الأردن سميت باسم آيلة بنت مدين بن النبي إبراهيم عليه السلام ، وهي أول مدينة إسلامية تؤسس خارج الجزيرة العربية ، وتم تأسيسها سلماً ، وتقع المدينة البيزنطية القديمة على بعد بضع مئات إلى الشمال الشرقي من موقع آيلة .
وقدّم يوحنا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم هدية فرساً ابيض وفي رواية بغلة بيضاء وهو الأرجح , وأظهر طاعته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وصالحه على أن يدفع جزية قدرها ثلاثمائة دينار كل سنة .
وقد كان عددهم ثلاثمائة رجل ، واشترط عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قري أي إطعام من يمر بهم من المسلمين ، وكتب له النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً :
(بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذِهِ أَمَنَةٌ مِنْ اللّهِ ، ومن مُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ اللّهِ لِيُحَنّةَ بْنِ رُؤْبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ ، سُفُنُهُمْ وَسَيّارَتُهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ لَهُمْ ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ مُحَمّدٍ النّبِيّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشّامِ ، وَأَهْلِ الْيَمَنِ ، وَأَهْلِ الْبَحْرِ فَمَنْ أَحْدَثَ مِنْهُمْ حَدَثًا ، فَإِنّهُ لَا يَحُولُ مَالُهُ دُونَ نَفْسِهِ . وَإِنّهُ طَيّبٌ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنْ النّاسِ وَإِنّهُ لَا يَحِلّ أَنْ يُمْنَعُوا مَاءً يَرِدُونَهُ وَلَا طَرِيقًا يُرِيدُونَهُ مِنْ بَرّ أَوْ بَحْرٍ) ( ) .
ثم جاء صاحب آيلة إلى المدينة وكساه النبي صلى الله عليه وآله وسلم برداً يمنية، وأمر له بمنزل عند بلال .
وبلال بن رباح شديد الأدمة أي أن بشرته سوداء , وكان من المستضعفين في مكة وعبداً مملوكاً لبني جمح من قريش , ولاقى أشد ضروب التعذيب من سيده أمية بن خلف لأنه من السابقين إلى الإسلام بصبر .
صار بعد الهجرة أول مؤذن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ثم أصبح الملوك والأمراء يحلون ضيوفاً عليه، ولما حضرته الوفاة قال(من الهزج:
غداً نلقى الأحبه … محمداً وحزبه
فقالت امرأته: واويلاه! قال: وافرحاه)( ).
توفى بلال في السنة العشرين من الهجرة على قول في دمشق ودفن بباب الصغير.
الثانية : مصالحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل أذرح وجرباء ، قال الواقدي (نسخت كتاب أذرح وإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي صلى الله عليه وسلم لأهل أذرح، أنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجبٍ وافية طيبة، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان للمسلمين، ومن لجأ إليهم من المسلمين من المخافة والتعزير إذا خشوا على المسلمين وهم آمنون، حتى يحدث إليهم محمد قبل خروجه) ( ).
وأذرح قرية في الأردن في محافظة معان ، وأصل الكلمة عربي , وفيها تم بعد أمر التحكيم بين الإمام علي عليه السلام ومعاوية بن أبي سفيان .
وتبعد قرية الجرباء بضع كيلو مترات عن أذرح .
الثالثة : كتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل مقنا كتاب أمان وصالحهم على ربع غزولهم وربع ثمارهم ، ومقنا مدينة على الساحل عند خليج العقبة .
الرابعة : عفو النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أكيدر بن عبد الملك الكندي صاحب دومة، إذ بعث إليه خالد بن الوليد، وقال له سيجده يصيد البقر، فلما وصل خالد إلى حصنه ليلاً جاء بقر الوحش وصارت تحك بقرونها سور القصر بآية من عند الله، فخرج أكيدر ليصيدها ليلاً فأخذه المسلمون وجاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعفا عنه وصالحه على الجزية ورده إلى قصره ودار ملكه .
وبهذه الوجوه من الصلح أمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون من جهة الشمال .
وتجلى قانون في منهاج النبوة وسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو تحقيق الصلح والأمن والموادعة بين المسلمين وغيرهم , من غير حاجة إلى قتال وغزو .
ليكون من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( )، كفاية البشارة والإنذار في دعوة الناس للهداية والإيمان من جهات :
الأولى : البشارة للمؤمنين بخصوص الحياة الدنيا.
الثانية : البشارة للمؤمنين في عالم البرزخ إذ أن القبر يكون روضة للمؤمن، وحفرة من حفر النيران للكافر، و( قال النبي محمد : إن المؤمن يقعد في قبره حين ينكفئ عنه من يشهده، فيقال: ما رجل , يقال له: محمد ما هو؟ فإن كان مؤمنا قال: هو عبد الله ورسول الله، فيقال له: نم، نامت عيناك)( ).
الثالثة : البشارة للمؤمنين في مواطن الحساب ويوم القيامة.
الرابعة : إنذار الذين كفروا بالنبوة.
الخامسة : إنذار ووعيد الذين يحاربون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
السادسة : الإنذار من العذاب الأليم في الآخرة للذين يصرون على الكفر، ويغادرون الدنيا بالإقامة عليه.
ومن إعجاز القرآن ورود أسماء ثمانية عشر رسولاً ونبياً في موضع واحد من القرآن بقوله تعالى[وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنْ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ]( ).
وقد تجلت معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريقه إلى تبوك وأثناء إقامته هناك وعند عودته منها من وجوه :
الأول : نزول آيات القرآن في ذم الذين تخلفوا عن غزوة تبوك .
الثاني : صبر المسلمين وطاعتهم لله ورسوله بالخروج مع شدة الحر والحرج ورجحان لقاء الروم بفيالق جيوشهم وأسلحتهم ودروعهم وخيلهم ، ليكون عدم وقوع معركة ومواجهة معهم من مصاديق الرحمة في قوله تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ) بلحاظ أن صرف القتال واللقاء رحمة للمسلمين بلحاظ كبرى كلية وهي هداية الناس للإيمان من غير أن تصل النوبة إلى القتال والقتل ، فقد جعل الله عز وجل كل آية من القرآن دعوة سماوية للناس للإيمان ونبذ مفاهيم الكفر والشرك .
وقد صدرت مائة وستون جزءً من تفسيري هذا للقرآن (معالم الإيمان ) في بيان الذخائر والدرر التي تتضمنها آيات القرآن .
لقد جعل الله عز وجل معجزات الأنبياء حسية مثل ناقة صالح وسفينة نوح ، وعصا موسى ومعجزاته الأخرى , وإحياء عيسى لبضعة من الموتى وإبرائه المرضى، كما ورد في التنزيل[وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ]( ).
وجاءت معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سوراً جامعاً للدلائل الحسية والعقلية , ليكون فيها أمور :
الأول : تصديق معجزات الأنبياء السابقين والتي تتصف بكونها حسية , يراها أو يسمعها من حضرها أو سمعها ، فيدركون أنها أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدي وسالم من المعارضة .
الثاني : تثبيت معجزات الأنبياء بين الناس وإلى يوم القيامة ، وهو من الشواهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن أسرار بشارتهم برسالته ودعوتهم الناس للتصديق به واتباعه ونصرته .
وهو من الجزاء والأجر الحسن في الدنيا للأنبياء إذ حفظ الله عز وجل لهم نبوتهم ومعجزاتهم بين الناس برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وآيات القرآن التي تتضمن الإخبار عن نبوتهم ، وتذكر معجزاتهم ، كما جاءت السنة النبوية ببيان شطر من هذه المعجزات .
فان قلت لم يذكر القرآن كل الأنبياء ومعجزاتهم ، الجواب نعم قد ذكر خمساً وعشرين نبياً وبيّن معجزاتهم ليكون هذا الشكر محيطاً بمنهاج النبوة بالإضافة إلى ورود آيات خاصة تتضمن الإخبار عن عامة الأنبياء , وتدعو إلى التصديق بهم والإقتداء بسننهم ولزوم إكرامهم وأخذ المواعظ من سيرتهم , ونهجهم في سبل الإيمان .
الثالث : بيان قبح الكفر بالنبوات والصدود عن أشخاص الأنبياء وسوء عاقبة الذين حاربوهم وأصحابهم ، ليدل قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) على الإنذار والوعيد للذين كفروا ممن رفع السيف واتبع لواء الشرك والضلالة ، ولاقى الأنبياء وأتباعهم في سوح القتال ، لبيان قانون وهو أن الذين يقاتلون مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمرتبة الربيين ،ولهم أجرهم عند الله لأنهم يدافعون .
الرابع : آيات القرآن شواهد عقلية متجددة في كل زمان تدعو الناس إلى الإسلام ، ونبذ محاربته ، وتزجر عن الكفر والضلالة .
وأيهما أكثر آيات القرآن أم ذكر أسماء الله الحسنى فيها .
الجواب هو الثاني .
ويمكن تأسيس علم مستقل وهو ( أسماء الله في القرآن والقوانين المترشحة عنها)، ومنها : قانون دلالة أسماء الله على عدم الحاجة للقتال مطلقاً .
تدعو أسماء الله الحسنى إلى عبادته تعالى , وتصير وسيلة مباركة لذكر المسلمين لله عز وجل وبشارتهم بالثواب العظيم ، ومنع الله عز وجل من غفلة المسلم أو المسلمة عن ذكره وذكر أسمائه الحسنى يوما أو أياماً متعددة ، إذ تفضل الله عز وجل فأوجب على كل منهما الصلاة خمس مرات في اليوم والزمهما بقراءة القرآن فيها ليذكروا الله عز وجل طوعاً وانطباقاً ليأتي الرزق الكريم من عنده سبحانه مما جعله خاصاً بمن يذكره باسمائه ويجهر بالشهادة له بالربوبية المطلقة والعبودية له سبحانه، كما في عامة أجزاء الصلاة وهيئة الركوع والسجود، ويذكره بأسمائه الحسنى وصفاته القدسية كما في قراءة القرآن في الصلاة ، قال تعالى [وَاذْكُرْ اسم رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً] ( ) .
الخامس : إستقراء الناس العلوم والقوانين والقواعد، وإستنباط المفاهيم النافعة من آيات القرآن على نحو دائم إلى يوم القيامة، وزيادة وتوسعة ذات العلوم المكتسبة والمستقرأة منه مع تقادم الأيام .
فمن خصائص المعجزة العقلية أنها خزينة لا تنفد دررها، وذخيرة دائمة تنهل منها الأمم.
السادس : المعجزة العقلية حرز وواقية للناس في دينهم وأخلاقهم وسبب لنزول الرزق الكريم عليهم.
السابع : إنها وسيلة النفع الدائم في الحياة الدنيا، والنجاة والفوز في الدار الآخرة، وفي التنزيل[فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ]( )، لبيان أن النعم التي بأيدي الناس هي من عند الله، وأنه عز وجل يزيد فيها ويضاعفها لمن سأله ودعاه، وجعل الله الآخرة ملكاً طلقاً له، يدرك معها الخلائق أنه ليس من حاجة إلا إليه سبحانه، وفي التنزيل[وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ]( ).
وتدل كل من الآيتين على إستغناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين عن القتال، وأن الذي يطلبون ويسعون إليه يأتي من عند الله بالدعاء والعمل الصالح وسنن التقوى، وفيه حث للناس على عدم قتالهم ومحاربتهم.
ومن الإعجاز في قوله تعالى [ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ] ( ) في المقام( ) أمور :
الأول : الأمر من عند الله عز وجل للمسلمين بدعائه وسؤاله ، لقوله تعالى[ادعوني] وفيه مسائل :
الأولى : حب الله عز وجل للمسلمين والمسلمات سبب للأمر بالدعاء ونتيجة لإمتثالهم لهذا الأمر .
الثانية : تزكية المسلمين والمسلمات ، وفي التنزيل [وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ] ( ) .
الثالثة : تنمية ملكة التقوى عند المسلمين بالإجتهاد في مدرسة الدعاء .
الرابعة : تأسيس الآية لقوانين الدعاء عند الحاجة ومطلقاً .
الخامسة : عدم حاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى السيف والقتال لتحقيق الغايات الحميدة سواء لأمور الدنيا أو الآخرة ، ويكون من تقدير الآية أعلاه وجوه :
اولاً : ادعوني لثباتكم في مقامات الإيمان .
ثانياً : ادعوني للسلامة والعافية من قتال الكافرين .
ثالثاً : ادعوني لهداية الناس إلى الإيمان .
رابعاً : ادعوني لسلامة ثغور المسلمين من غزو وتعدي الكافرين .
خامساً : يا أيها الذين آمنوا ادعوني استجب لكم .
سادساً : يا أيها الذين آمنوا أنتم محتاجون إلى رحمتي فادعوني .
سابعاً : لا تشغلكم الحياة الدنيا عن ذكري فادعوني استجب لكم .
ثامناً : يا أيها الذين آمنوا اقتدوا بالأنبياء فادعوني .
تاسعاً : ادعوني فان الدعاء سلاح الأنبياء ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ألا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم ويدر أرزاقكم ؟
قالوا: بلى، قال: تدعون ربكم بالليل والنهار، فان سلاح المؤمن
الدعاء. وقال الرضا عليه السلام: عليكم بسلاح الانبياء ، فقيل له: وما سلاح الانبياء ؟ فقال: الدعاء)( ).
عاشراً : ادعوني فمقادير الأمور كلها بيدي ، لذا كانت بداية الآية [وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ] ( ).
الثاني : إختصاص الجهة التي يتوجب لها الدعاء , فلا يصح الدعاء والمسألة إلى من عند الله عز وجل , إذ أن خزائن السماوات والأرض كلها بيده تعالى , وفي التنزيل[قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ]( ).
وفيه ترغيب بالدعاء وبيان الحاجة اليه.
الثالث : الدعاء مصداق للتوحيد , وشاهد على نبذ الشرك ومفاهيم الضلالة .
الرابع : الإطلاق في بيان مواضيع الدعاء وعدم إختصاصها بأمور معينة , وجاءت آية الدعاء بصيغة الجمع والإستغراق المصاحب للحياة الدنيا (ادعوني) وهو خطاب وأمر عام من جهات منها :
الأولى : ادعوني لأنفسكم .
الثانية : ادعوني للإسلام .
الثالثة : ادعوني لبعضكم وللفرد منكم .
الرابعة : ادعوني لأنفسكم مجتمعين ومتفرقين .
الخامسة : ادعوني للسلامة من القتال , وصرف العدو عنكم , ومنع إشاعة وتفشي القتل .
السادسة : ادعوني لنصر الإسلام , ودرء سنن الشرك , وتنزيه الأرض من عبادة الأوثان .
السابعة : ادعوني لتوالي نزول آيات القرآن , وفي التنزيل [وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ] ( ).
الثامنة : الآية إنحلالية وتقدير صيغة المفرد لكل مسلم : إدعني أستجب لكَ, ولكل مسلمة, إدعني أستجب لكِ النشوة : إدعنني أستجب لكنَّ.
الخامس : الوعد الكريم بالكثرة والإطلاق في الإستجابة من عند الله عز وجل لأدعية المسلمين لقوله تعالى (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) فليس من حصر لمصاديق الإستجابة من جهات :
الأولى : إلكم .
الثانية : الكيف .
الثالثة : الزمان .
الرابعة : موضوع الإستجابة , وبينه وبين مسألة الدعاء عموم وخصوص مطلق, فالإستجابة في موضوعها وزمانها ونفعها أعم وأكثر مما يرجو السائل في تصوره الذهني , ومنه وقاية المسلمين من القتال , وعدم حاجتهم إلى الغزو .
السادس : تمام آية الدعاء هو [وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ] ( ), لبيان خسارة الذين كفروا في النشأتين , لحرمانهم أنفسهم من سنن الإيمان , ومنها الإمتثال لأمر الله عز وجل بالدعاء , ولو توجه الكافر بالدعاء فهل يقبل منه أو يستجاب له , الجواب لا, لشرط الإيمان وقصد القربة .
وفي التنزيل[قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ]( ), وصحيح أن موضوع الآية أعلاه هو عالم الآخرة وحال البؤس والشقاء التي عليها أهل النار إلا أن خاتمتها قانون عام , وهو ضياع دعاء الكافرين لإنتفاء شرط الإيمان , نعم قد يكون المراد من الآية هو بطلان وضياع دعاء الكافرين في خصوص عالم الآخرة وهم في النار لأنه جاء في زمان وحال جزاء ليس فيه عمل , ومنه حال الذين حاربوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسعوا في إغتياله وجهزوا الجيوش لقتاله , طاعة للشيطان , ومحبة للإقامة على عبادة الأوثان.
التاسعة : ادعوني لأنفسكم وآبائكم أستجب لكم .
العاشرة : ادعوني لأنفسكم ولابنائكم وذراريكم أستجب لكم .
الحادية عشرة : ادعوني في أسباب الرزق وتيسيرها أستجب لكم .
الثانية عشر : ادعوني لطيب ولادات ابنائكم وسلامتكم من الآفات وأسباب الهلكة , وفي التنزيل[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نيّة المؤمن خير من عمله، وعمل المنافق خير من نيته، وكل يعمل على نيته، وليس من مؤمن يعمل عملاً إلاّ صار في قلبه صورتان)( ).
لقد كانت كيفية هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما صبر عليه من الأذى شاهداً على أنه لم يطمع في شئ من زينة الدنيا .
ولم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طلب قافلة قريش في معركة بدر للإستيلاء على الأموال التي فيها ، إنما كان بنية استرداد أموال المهاجرين التي استولى عليها كفار قريش ، وصاروا يتاجرون بها ، هذا على الظاهر ، أما الحال والواقع فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتصد إلى القافلة في طريقها انما وصلت بسلام إلى مكة ؟ قال تعالى[وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ]( ).
ولو أراد الإستيلاء عليها لما تعذر عليه ، ولكنه سار بوحي من الله عز وجل لتقع معركة بدر باعتداء من كفار قريش من جهات :
الأولى : الإصرار على القتال .
الثانية : المناجاة بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالثة : الإمتناع عن الرجوع عندما وصلتهم رسالة رئيس القافلة أبي سفيان بسلامتها ، وصيرورتها في مأمن وقريبة من مكة ، نعم قد رجع بنو زهرة برأي وحكمة من حليفهم الأخنس بن شريق الذي سبق وأن استمع إلى قراءة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن في مكة قبل الهجرة هو وأبو جهل وأبو سفيان .
وقعدوا ثلاث ليال في موضع قريب من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليستمعوا إلى قراءته للقرآن حتى يصبح الصباح .
ففي صباح اليوم الثالث أخذ الأخنس عصاه وذهب إلى أبي سفيان ودخل عليه في بيته ، وقال أخبرني يا أبا حنظلة ما رأيك فيما سمعت من محمد ، وكان أبو سفيان يكنى بولده حنظلة الذي قتل في معركة بدر ، فقال أبو سفيان (يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها ، قال الأخنس وأنا والذى حلفت به ثم خرج من عنده . أي وأنا مثلك للإقرار بالمعجزة .
حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد قال ماذا سمعت تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجازينا على الراكب وكنا كفرسي رهان قالوا منّا نبى يأتيه الوحى من السماء فمتى ندرك هذه والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه فقام عنه الأخنس وتركه) ( ).
وتجلى التباين يوم بدر بين الأخنس , وأبي جهل إذ أصر الأخير على القتال ، وأما الأخنس فقد أقنع بني زهرة بالرجوع ، ويدل الخبر أعلاه على حسده لبني هاشم لأن النبوة فيهم ، مع أنها نعمة على قريش , وأنه امتنع عن التسليم بالمعجزات لبغضه لرجحان كفة بني هاشم بها .
وقد سعى حكيم بن حزام بين رجالات قريش صبيحة معركة بدر ، وهو يحثهم على الرجوع وإجتناب القتال ، وتلك آية في نبوة محمد أن يكثر السعي في معسكر الكفار رجاء الإمتناع عن القتال مما يدل على أن أمر بدء ووقوع القتال من طرف واحد ، وليس من الطرفين ، إذ الأصل في هذا السعي في حال وجوده أن يكون بين الفريقين المتقابلين ، بأن يمشي المصلحون بينهم .
فقد مشى حكيم بن حزام بين كبار رجال قريش يدعوهم لصرف الناس عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستجابة بعضهم لقوله مثل عتبة بن ربيعة ، ولكن أبا جهل أصر على القتال ، وذمّ عتبة فقال (وَمَا بِعُتْبَةَ مَا قَالَ وَلَكِنّهُ قَدْ رَأَى أَنّ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ أَكَلَةُ جَزُورٍ وَفِيهِمْ ابنهُ فَقَدْ تَخَوّفَكُمْ عَلَيْهِ) ( ).
إذ كان أبو حذيفة مهشم أو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من أوائل الذين هاجروا إلى الحبشة مع امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو فارين بدينهما ، وقد حضر أبو حذيفة معركة بدر إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وشهد مقتل أبيه وأخيه وعمه كفاراً .
ولما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يلقى قتلى المشركين في القليب أي البئر التي نضب ماؤها ، جرّ المسلمون عتبة بن ربيعة ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى وجه ابنه الصحابي أبو حذيفة إذ علته الكآبة وتغير لونه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
( يا أبا حذيفة لعلك قد داخلك من شأن أبيك شئ ) أي أنه صار في حال سخط ونقمة لأن المسلمين قتلوا أباه عندئذ ، قال أبو حذيفة
(لَا ، وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا شَكَكْتُ فِي أَبِي وَلَا فِي مَصْرَعِهِ كُنْتُ أَعْرِفُ مَنْ أَبِي رَأْيًا وَحِلْمًا وَفَضْلًا ، فَكُنْت أَرْجُو أَنْ يَهْدِيَهُ ذَلِكَ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَمّا رَأَيْتُ مَا أَصَابَهُ وَذَكَرْتُ مَا مَاتَ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ بَعْدَ الّذِي كُنْتُ أَرْجُو لَهُ أَحْزَنَنِي ذَلِكَ فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِخَيْرٍ وَقَالَ لَهُ خَيْرًا) ( ).
وذكر أن عتبة بن ربيعة دعا ولده أبا حذيفة إلى البراز يوم بدر قبل أن يقتل ، وفي ذم أبي حذيفة قالت هند وهي على الكفر :
فما شكرت أبا رباك من صغر … حتى شببت شباباً غير محجون
الأحول الأثعل المشؤوم طائره … أبو حذيفة شر الناس في الدين) ( ).
والأثعل الذي له سنّ زائدة تنبت من صلب سن أخرى ، وكان حذيفة من خير الناس ، وهاجر إلى الحبشة وهجرته هذه من أسباب سخط عتبة بن ربيعة على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثم هاجر أبو حذيفة إلى المدينة ، وشهد معركة بدر واحداً والخندق والحديبية والمشاهد كلها .
وقتل يوم اليمامة في السنة الحادية عشرة للهجرة عند ادّعاء سليمة الكذاب النبوة ونصرة بني حنيفة له ، وكان عمر أبي حذيفة يومئذ أربعاً وخمسين سنة .
ويدرك الناس بجلاء أن كفار قريش هم المعتدون مع أنهم على باطل في إصرارهم على الإقامة على الأوثان عبادة وتزلفاً مع الجحود بالنبوة والحق ، وحينما فتح النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة في السنة الثامنة للهجرة لم يأخذ منهم الأموال ،ولم يتسلط عليهم ، انما قام بكسر الأصنام التي حول الكعبة ،
لقد كان فتح مكة شاهداً على قانون وهو عدم إتخاذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتال مقدمة وسبيل إليه .
ولو إختار طريق القتال لتم فتح مكة قبل السنة الثامنة ، ولكنه تعاهد شروط صلح الحديبية مع كفار قريش إلى أن فضحوه , وجاء رجال قبيلة خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مستجيرين به .
و(عن ابن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة وحول البيت ستون وثلثمائة نصب ، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً }( ) { وجاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد}( ).
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن المنذر ، عن جابر قال : دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة وحول البيت ثلثمائة وستون صنماً فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأكبت لوجهها وقال : { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً }( ) .
وأخرج الطبراني في الصغير وابن مردويه والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم الفتح وعلى الكعبة ثلثمائة وستون صنماً ، فشد لهم إبليس أقدامها بالرصاص ، فجاء ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخرّ لوجهه فيقول : { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً }( ) حتى مر عليها كلها ) ( ).
ولم يبق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة إلا خمسة عشر يوماً قضاها في أمور نبوية مباركة :
الأول : أخذ البيعة من عامة أهل مكة من غير سفك دماء .
الثاني : إظهار العفو والحلم اللذين يدلان على الإعجاز بالتنزه عن الثأر والإنتقام والبطش بالعدو الكافر .
الثالث : قبول إسلام عامة قريش وأن كان عن خوف .
الرابع : تنزيه البيت الحرام وإلى يوم القيامة من عبادة الأوثان , والتزلف لها .
لقد وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على باب الكعبة يوم الفتح في المسجد الحرام وجمع قريشاً , وهم في خوف وفزع مما ينتظرهم من العقاب العاجل لشدة حربهم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وتمكين الله عز وجل له منهم ، ولموضوعية ورشحات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) وتطلعوا إلى ما يأمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوصهم ، ولكنه قال : (لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ) وتحتمل هزيمة الأحزاب من وجوه :
الأول : إن الله عز وجل هو الذي هزم الأحزاب .
الثاني : الذي هزم الأحزاب هو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : المهاجرون والأنصار هم الذين هزموا الأحزاب .
الرابع : إنهزم الأحزاب من عند أنفسهم .
الخامس : الفرد الجامع من الوجوه أعلاه أو اشتراك وتداخل بعضها ببعض .
فبيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمراً عظيماً وهو أن الله عز وجل هو الذي هزم هذه الأحزاب وحده ، لم يشاركه في أسباب ومقدمات هزيمتهم غيره ، وفيه مسائل منها :
الأولى : بيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعبوديته لله وحده .
الثانية : تأديب الصحابة بحصر النصر بالله عز وجل وليس النصر منهم , ولا يعني هذا محو موضوعيتهم وصبرهم وجهادهم في سبيل الله , والذي لم يتم إلا بفضل الله, قال تعالى[وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ]( ).
الثالثة : تأكيد قانون وهو حتمية تحقيق النصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله .
الرابعة : تنجز فتح مكة من غير قتال ، وحتى لو تم قتال من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانما هو من عند الله وبالوحي من عنده سبحانه ، لتمادي الذين كفروا بالغي، وعزمهم على الإضرار بالإسلام والمسلمين ووضع الحواجز التي تحول دون فتح مكة , وإقامة الصلاة والفرائض العبادية الأخرى .
ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقريش ومن حضر خطبته يوم الفتح (أَلَا كُلّ مَأْثُرَةٍ أَوْ مَالٍ أَوْ دَمٍ فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ إلّا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجّ أَلَا وَقَتْلُ الْخَطَإِ شِبْهُ الْعَمْدِ السّوْطُ وَالْعَصَا فَفِيهِ الدّيَةُ مُغَلّظَةً مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنّ اللّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيّةِ وَتَعَظّمَهَا بِالْآبَاءِ النّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ ” ثُمّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ { يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }.
ثُمّ قَالَ ” يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا تَرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ بِكُمْ ؟ ” قَالُوا : خَيْرًا أَخٌ كَرِيمٌ وَابن أَخٍ كَرِيمٍ قَالَ ” فَإِنّي أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ)( ) للدلالة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد القتل والثأر والقصاص من الكفار الذين فتكوا بالمسلمين ومنهم عمه حمزة ، إنما أظهر العفو , وبيّن ما يجب على قريش من التسليم بالمساواة بين المسلمين وأن مدار التفضيل على التقوى والخشية من عند الله عز وجل .
وعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم راجعاً إلى المدينة ، ولكن ليس وحيداً خائفا كما في طريق الهجرة الذي سلكه هو وصاحبه ومن غير طريق القوافل والذي يسمى الطريق السلطاني والتجاري ، ولم يكن خروجه وصاحبه إلى غار ثور ثم إلى يثرب يطلبهما رجال قريش والقافة مع الجوائز الكبيرة ، لمن يقتله أو يحضره ، إنما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة بعد الفتح على الجادة العامة ومعه اثنا عشر ألف من أصحابه , وبين الخروجين أمور:
الأول : مدة ثمان سنوات، إذ إبتدأ التقويم والحساب الإسلامي من حين هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة إلى المدينة.
الثاني : حرب قريش ومن والاهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : حدوث معارك وقتال بين المسلمين والذين كفروا , وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع ودفع للضرر، وهو من مصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
الرابع : كل من الخروجين منفرداً ومجتمعاً مع الآخر آية حسية تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله .
الخامس : توالي النصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام، وكل مرة يتحقق فيها النصر على وجوه:
الأول : إنذار الذين كفروا من قتال المسلمين.
الثاني : دعوة المسلمين للصبر، وشكر الله على نعمة النصر.
الثالث : حث الناس على دخول الإسلام .
والمتبادر إلى الذهن أن محاربة الناس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قد انتهت وانقطعت بفتح مكة فهي أم القرى كما سمّاها الله عز وجل بقوله تعالى [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ] ( ) .
ولكن هذه التسمية إشارة إعجازية بأن التعدي من الكفار لم ينته بفتح مكة لذكره تعالى لما حول أم القرى بعرض واحد مع مكة .
إذ تبين الآية منزلة وشأن مكة لكنها تحذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من القبائل الأخرى ، وتحقق مصداق هذا المعنى عندما باغتت هوازن وثقيف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في طريق رجوعهم إلى المدينة ، فكانت معركة حنين ، قال تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ] ( ) أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه اتخذوا من الكثرة سبيلاً للأمن والسلامة من القتال .
ولكن المشركين أصروا على القتال والهجوم بغتة على المسلمين وهم سائرون في الطريق إلى المدينة وانهزمت الطلائع الأولى للمسلمين لشدة وضراوة الهجوم وليكون هذا الإنهزام حجة على الذين كفروا ، وشاهداً على أن المسلمين لم يقصدوا ولم يرغبوا بالقتال حتى مع كثرتهم وصدق إيمانهم فأخزى الله الذين كفروا بمعجزة منه تعالى ، إذ أنزل ملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، قال تعالى [ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ] ( ) .
ولابد من دلالات لنزول الملائكة يوم حنين منها :
الأولى : فيه شهادة سماوية بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسول من عند الله سبحانه.
الثانية : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حال دفاع عن النفوس والملة .
الثالث : نزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه تزكية لهم في منهاج الدفاع .
الرابع : زجر الذين كفروا عن التعدي والهجوم على المسلمين وثغورهم .
الخامس : نزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مناسبة كريمة لهداية الناس للإيمان ، وتصديقهم بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولو كان إيمانهم بقوة السيف لكان الإرتداد من ذوات الأشخاص وذراريهم ظاهرة جلية ليدل عدم حصول الإرتداد عند المسلمين على أنهم لم يدخلوه بالسيف ، وهو من مصاديق البرهان الإني بالإستدلال من المعلول إلى العلة .
السادس : تذكير الناس على نحو متجدد بالصلة بين العالم العلوي وأهل الأرض ، وأن هذه العلة تتقوم بفضل الله من وجوه :
الأول : بعث الأنبياء .
الثاني : الوحي إلى الأنبياء ، وهذا الوحي من الكلي المشكك كماً وكيفاً ، فمن الأنبياء من يرى بالمنام ويدرك أنه وحي ، وهو الوحي المنامي , كما في التنزيل حكاية عن إبراهيم [قَالَ يَابنيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ] ( ).
ومن الأنبياء من يسمع صوت الملك ولا يراه ، ومنهم من يسمع ويرى الملك وهم الرسل ، وقد إمتاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : الوحي الحاضر .
الثانية : نزول جبرئيل بالوحي .
الثالثة : الحديث القدسي .
الرابعة : نزول آيات القرآن ، وإحاطتها باللامحدود من الوقائع والأحداث .
الخامسة : نصرة الملائكة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وبخصوص معركة بدر نزل قوله تعالى [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ) .
الثالث : تفضل الله عز وجل بالآيات الكونية التي تدعو الناس إلى الإيمان .
وهذه الآيات على أقسام :
أولاً : الآية الثابتة .
ثانياً : الآية المتحركة .
ثالثاً : الآية الطارئة .
رابعاً : الآيات الجامعة للثبات والتحرك والطارئ ، قال تعالى [وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّا يُؤْفَكُونَ] ( ) [وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ] ( ).
الحمد لله الذي أنعم علينا بصدور هذا الجزء وهو الخامس والستون بعد المائة من تفسيري للقرآن ، ومن اللطف والفضل من عند الله أني أقوم بكتابة أجزائه المتعاقبة وتصحيحها ومراجعتها بنفسي من غير عون إلا من عند الله عز وجل سبحانه .
هذا بالإضافة إلى كتبي الفقهية والأصولية والكلامية مع الإجابة على الفتوى الشرعية التي ضاعفها وجعلها أعم وأوسع الواتساب ووسائل الإتصال الإجتماعي السريعة نسأل الله أن تكون مناسبة لزيادة الأجر والثواب .
لتكون في جانب منها حجة على الإنسان وباباً للأجر والثواب ، وهل فيها دلالة على عدم الحاجة إلى السيف والقتال في تثبيت معالم الإيمان ونشر مبادئ وأحكام الإسلام ومفاهيم التقوى ، الجواب نعم ، لبيان شاهد على المعجزة العقلية للقرآن .
لقد صار العالم كالمدينة الواحدة من جهة الإتصال بالسمع وبالبصر بالواسطة وأخذ الناس يطلع بعضهم على بعض .
ومن فطرة الناس التي جبلهم الله عز وجل عليها كراهية القتال وسفك الدماء، وهو من فضل الله من جهات :
الأولى : عندما احتج الملائكة على جعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) قال[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
فمن علم الله عز وجل نفرة عامة الناس من القتل .
الثانية : تفضل الله عز وجل بالنفخ في آدم من روحه ، وفي التنزيل [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ] ( ) ليكون هذا النفخ وفيوضاته حاضرة في الوجود الذهني عند كل إنسان ، وفي نوايا وعزائم الناس كافة .
ومن معاني هذا النفخ في هذا الزمان الحرص على إجتناب مقدمات القتال وسيأتي زمان قريب يشترك فيه عامة الناس بطلب حظر وتدمير أسلحة الدمار الشامل ، وصيرورة العالم خال منها .
الثالثة : اختيار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الهجرة إلى المدينة بعد صبر طويل على أذى قريش له ولأهل بيته وأصحابه .
الرابعة : إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الغزو والهجوم وحرصه على عدم الإبتداء بالقتال .
الخامسة : دخول الناس جماعات وأفواجاً في الإسلام ، إذ صارت وفود القبائل تأتي إلى المدينة المنورة لتعلن إسلامها ومَن خلفها من أهليهم ، وضاقت بهم شوارع وأزقة المدينة ، وهو من الشكر العاجل من الله عز وجل للأنصار والمهاجرين على تعضيدهم ونصرتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله .
وقال تعالى في توثيق هذا القانون [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ) فان قلت قد ورد لفظ الفتح في الآية أعلاه وهذا صحيح وهو أعم من أن يراد منه أمر مخصوص كفتح مكة ، فقد كان صلح الحديبية فتحاً عظيماً .
(عن عروة قال : أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الحديبية راجعاً، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والله ما هذا بفتح، لقد صددنا عن البيت وصدَّ هدينا .
فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قول رجال من أصحابه : إنّ هذا ليس بفتح .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : بئس الكلام ، هذا أعظم الفتح ، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألوكم القضية ويرغبون إليكم في الإِياب ، وقد كرهوا منكم ما كرهوا ، وقد أظفركم الله عليهم ، وردكم سالمين غانمين مأجورين ، فهذا أعظم الفتح .
أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، وأنا أدعوكم في أخراكم ، أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا؟
قال المسلمون : صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه ، ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا . فأنزل الله سورة الفتح) ( ).
ولم يقم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجة بأن هذا الصلح فتح بالتفكير إنما هو بالوحي والتنزيل لعمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، وقال تعالى في قصة الإسراء[فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى]( ).
ومما تزهر به السنة النبوية عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من خطاب الكراهية ، ويدل على تنزهه من مفاهيم الغضاضة والكدورة قوله تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
لقد جاء عنوان هذا الجزء والذي قبله وأجزاء تليه إن شاء الله ( لم يغُز النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً ) ليكون مضمون هذه الأجزاء والمعنون مطابقاً للعنوان ، ودليلاً عليه ، وفيه سياحة في سنن النبوة .
وقيل أن مجموع غزوات وسرايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة ، وقد كانت مدة بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة من حين هجرته إليها وحتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى عشر سنوات ، وإذا طرحنا الأشهر الستة الأولى من الهجرة ، فتكون نتيجة تقسيم الغزوات والسرايا على الأيام كل غزوة أو سرية في كل خمسة وثلاثين يوماً وقد تتداخل بعض السرايا بلحاظ أن السرية الأولى في شهر رمضان من السنة الأولى للهجرة ، ولم يكن فيها قتال ، مما يدل على شدة ظلم وجور الذين كفروا وإصرارهم على محاربة النبوة والتنزيل.
وقد يرد لفظ (الغزوة) والغزوات في هذا الجزء أو الأجزاء التالية، ولا يراد منه الإقرار منّا بالمعنى المتبادر والحقيقي من الغزو والهجوم إنما لورود ذات التسمية في الأخبار وأقوال المفسرين أو المؤرخين .
وتحتمل المعارك بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكفار قريش وجوهاً :
الأول :ليس من غزو , ولم يقم أحد الطرفين بالغزو ولم يقصده .
الثاني : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي غزا وبدأ الغزو .
الثالث : كل من الطرفين غزا الآخر .
الرابع : قيام كفار قريش بالغزو .
والصحيح هو الأخير فقد اختار كفار قريش التهديد والوعيد لكل من :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : المهاجرون من أهل البيت , ومن بيوتات قريش وعامة المهاجرين .
الثالث : التهديد للأنصار وعوائلهم بالقتل والأسر والسبي .
الرابع : اللوم والتبكيت والتخويف لليهود في المدينة لأنهم تلقوا دعوة النبي للإسلام بالسكوت وما يدل على الرضا بنبوته ومعجزاته وحال العز التي صار عليها المسلمون في المدينة .
لقد كانت قريش ناقمة وساخطة لأمر وهو لصيرورة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مأمن من شرهم عندما هاجروا إلى المدينة ، وتوالي نزول آيات القرآن .
ومنهجنا والذي وافق زمان العولمة بفضل الله هو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز قوماً في عقر( )دارهم إنما كان في حال دفاع , وحتى هذا الدفاع لم يقع إلا في حال الضرورة، وبعد عدم إنزجار الكفار بصيغ الوعظ والإنذار والتخويف والوعيد المقرون بالتذكير بوجوب دخول الإسلام , وأداء الواجبات العبادية , وإتباع نبي الرحمة , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومن خصائص القرآن أن كل آية منه تدعو إلى الإيمان وتبعث النفرة في النفوس من الكفر ومفاهيم الضلالة ، وقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بالقيام بالتذكير بوجوب الإخلاص في عبادة الله ، واللجوء إليه في الملمات بتلاوة كل واحد منهم ذكراً أو أنثى عدة مرات في اليوم في الصلاة [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ).
حرر في 24ربيع الأول 1439
12/12/2017
أول سرية في الاسلام
السرية هي الفرقة التي تخرج للقتال وهي أكبر من الجريدة وأقل من الكتيبة ، وقيل ( السرية من خمسين إلى أربعمائة ) ( ) ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث بعض السرايا بأقل من خمسين ، وحتى أقل من عشرة كما في سرية عبد الله بن جحش.
لبيان الإعجاز في نبوته وان رحمة الله والمدد منه تعالى يتغشى سرايا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى[إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ]( ).
والسرية لغة هم النفر الذين يسيرون لقتال عدوهم ، وهي فَعلية من سَرى يسري ، لسير السرية في الليل وإرادة مباغتة العدو في ساعة غفلة وسكينة .
والسِراية : السُرى والسير في الليل ، ولكن معنى السرية أعم فصار يشمل حال سير الفرقة للقتال ليلاً أو نهاراً .
وأختلف في أول سرية في الإسلام على أقوال :
الأول : سرية حمزة بن عبد المطلب وهو المشهور والمختار .
الثاني : سرية عبد الله بن جحش ، وفي الإستيعاب نسبه إلى القيل(وقيل إن سرية عبيدة كانت قبل سرية حمزة وفيها رمى سعد وكان أول سهم رمي في سبيل الله وقيل أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن جحش والأول أصح والله أعلم.
والأكثر على أن سرية عبد الله بن جحش كانت في سنة اثنتين في غرة رجب إلى نخلة وفيها قتل ابن الحضرمي لليلة بقيت من جمادى الآخرة) ( ).
ولعل القول بأنها أول سرية لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب له كتاباً، وكان قبلها يأمر بالسرية شفوياً .
الثالث: سرية عبيدة بن الحارث بن المطلب قاله ابن إسحاق ولم يذكر السند .
الرابع : خروج سرية حمزة وسرية عبد الله بن جحش في آن واحد ، وإن كان عقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لراية حمزة قبل راية عبيدة , وشيّعهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جميعاً .
وقال ابن حزم : وكان بعث حمزة ، وبعث عبيدة متقاربين وأختلف في أيهما أسبق .
والمختار أن أول سرية هي سرية حمزة بن عبد المطلب , وكانت في شهر رمضان من السنة الأولى للهجرة , ثم سرية عبد الله بن جحش في شهر شوال من ذات السنة .
وحرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون السرايا الأولى من المهاجرين من قريش وليس فيها أنصاري واحد ، لأن الأنصار جاءوا في السنة الثالثة عشرة للبعثة النبوية قبل الهجرة , وبايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيعة العقبة الثانية ، وتسمى بيعة العقبة الكبرى .
وحضر بيعة العقبة الثانية (ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان فمن الأوس أحد عشر رجلا:
الأول : أسيد بن حضير أحد النقباء.
الثاني : أبو الهيثم بن التيهان بدري أيضا.
الثالث : سلمة بن سلامة بن وقش بدري.
الرابع : ظهير بن رافع.
الخامس : أبو بردة بن نيار.
السادس : نهير بن الهيثم بن نابى بن مجدعة بن حارثة.
السابع : سعد بن خيثمة أحد النقباء، بدرى وقتل بها شهيدا.
الثامن : رفاعة بن عبد المنذر بن زنير نقيب بدري.
التاسع : عبد الله بن جبير بن النعمان بن أمية بن البرك بدري، وقتل يوم أحد شهيدا أميرا على الرماة.
العاشر : معن بن عدي بن الجد بن عجلان بن الحارث ابن ضبيعة البلوى حليف للاوس شهد بدرا وما بعدها وقتل باليمامة شهيدا.
الحادي عشر : عويم بن ساعدة شهد بدرا وما بعدها.
ومن الخزرج اثنان وستون رجلا:
الثاني عشر : أبو أيوب خالد بن زيد، وشهد بدرا وما بعدها ومات بأرض الروم شهيدا .
الثالث عشر : معاذ بن الحارث.
الرابع عشر : عوف بن الحارث .
الخامس عشر : معوذ بن الحارث .
والثلاثة أعلاه هم أخوة , ويسمون بني عفراء نسبة إلى أمهم, وهم بدريون , وحضور ثلاثة أخوة بيعة العقبة , وشهودهم معركة بدر دفاعاً دليل على صدق نبوة محمد .
السادس عشر : عمارة بن حزم شهد بدرا وما بعدها وقتل باليمامة.
السابع عشر : أسعد بن زرارة , أبو أمامة أحد النقباء، مات قبل بدر.
الثامن عشر : سهل بن عتيك، بدرى.
التاسع عشر : أوس بن ثابت بن المندر بدرى.
العشرون : أبو طلحة زيد بن سهل، بدرى.
الحادي والعشرون : قيس بن أبى صعصعة عمرو بن زيد بن عوف ابن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن كان أميرا على الساقة يوم بدر.
الثاني والعشرون: عمرو بن غزية.
الثالث والعشرون : سعد بن الربيع أحد النقباء شهد بدرا وقتل يوم أحد.
الرابع والعشرون: خارجة بن زيد شهد بدرا وقتل يوم أحد.
الخامس والعشرون: عبد الله بن رواحة أحد النقباء، شهد بدرا وأحدا والخندق، وقتل يوم مؤتة أميرا.
السادس والعشرون: بشير بن سعد، بدرى.
السابع والعشرون: عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه الذى أرى النداء، وهو بدرى.
الثامن والعشرون: خلاد بن سويد بدرى أحدى خندقي، وقتل يوم بنى قريظة شهيدا، طرحت عليه رحى فشدخته، فيقال إن رسول الله صلى الله عيله وسلم قال: ” إن له لاجر شهيدين” وقيل أن الذي ألقى الرحى عليه تلك المرأة التي لم يقتل من بني قريظة امرأة غيرها( ).
التاسع والعشرون : أبو مسعود عقبة بن عمرو البدرى.
قال ابن إسحاق: وهو أحدث من شهد العقبة سنا ولم يشهد بدرا.
الثلاثون : زياد بن لبيد، بدري.
الحادي والثلاثون : فروة بن عمرو بن وذفة.
الثاني والثلاثون : خالد بن قيس بن مالك بدر.
الثالث والثلاثون : رافع بن مالك أحد النقباء.
الرابع والثلاثون : ذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق، وهو الذى يقال له مهاجري أنصارى، لأنه أقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة حتى هاجر منها، وهو بدري قتل يوم أحد.
الخامس والثلاثون : عبادة بن قيس بن عامر بن خالد بن عامر بن زريق بدرى.
السادس والثلاثون : الحارث بن قيس بن عامر بدري أيضا.
السابع والثلاثون : البراء بن معرور أحد النقباء , وأول من بايع فيما تزعم بنو سلمة، وقد مات قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وأوصى له بثلث ماله فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم على ورثته.
الثامن والثلاثون : ابنه بشر بن البراء، وقد شهد بدرا وأحدا والخندق ومات بخيبر شهيدا من أكله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الشاة المسمومة، رضى الله عنه.
التاسع والثلاثون: سنان بن صيفي ابن صخر بدري.
الأربعون : الطفيل بن النعمان بن خنساء بدري، قتل يوم الخندق.
الحادي والأربعون : معقل بن المنذر بن سرح بدري.
الثاني والأربعون : يزيد بن سنان المنذر بدري.
الثالث والأربعون : مسعود بن زيد بن سبيع.
الرابع والأربعون : الضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بدري.
الخامس والأربعون : يزيد بن خذام بن سبيع.
السادس والأربعون : جبار بن صخر بن أمية بن خنساء بن سنان بن عبيد بدري .
السابع والأربعون : الطفيل بن مالك بن خنساء بدري.
الثامن والأربعون : كعب بن مالك.
التاسع والأربعون : سليم بن عامر بن حديدة بدري.
الخمسون : قطبة بن عامر بن حديدة بدري.
الحادي والخمسون : أبو المنذر يزيد بدري أيضا.
الثاني والخمسون : أبو اليسر كعب بن عمرو بدري.
الثالث والخمسون : صيفى ابن سواد بن عباد.
الرابع والخمسون : ثعلبة بن غنمة بن عدى بن نابى، بدرى واستشهد بالخندق.
الخامس والخمسون : عمرو بن غنمة بن عدى عبس بن عامر بن عدى، بدرى.
السادس والخمسون : خالد بن عمرو بن عدي بن نابى.
السابع والخمسون : عبد الله بن أنيس حليف لهم من قضاعة.
الثامن والخمسون : عبد الله بن عمرو بن حرام أحد النقباء، بدري , واستشهد يوم أحد.
التاسع والخمسون : ابنه جابر ابن عبد الله.
الستون : معاذ بن عمرو بن الجموح بدري.
الحادي والستون : ثابت بن الجذع، بدري وقتل شهيدا بالطائف.
الثاني والستون : عمير بن الحارث بن ثعلبة بدري.
الثالث والستون : خديج بن سلامة حليف لهم من بلى.
الرابع والستون : معاذ بن جبل شهد بدرا وما بعدها ومات بطاعون عمواس في أيام عمر بن الخطاب.
الخامس والستون : عبادة بن الصامت أحد النقباء شهد بدرا وما بعدها.
السادس والستون : العباس بن عبادة بن نضلة، وقد أقام بمكة حتى هاجر منها، فكان يقال له مهاجري أنصارى أيضا، وقتل يوم أحد شهيدا.
السابع والستون : أبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم حليف لهم [من بنى غصينة] من بلى وعمرو بن الحارث بن لبدة.
الثامن والستون : رفاعة بن عمرو بن زيد بدرى.
التاسع والستون : عقبة ابن وهب بن كلدة حليف لهم بدري وكان ممن خرج إلى مكة فأقام بها حتى هاجر منه .
السبعون : سعد بن عبادة بن دليم أحد النقباء.
الحادي والسبعون : المنذر بن عمرو الساعدي نقيب بدري , وشهد معركة أحد وقتل يوم بئر معونة أميرا وهو الذى يقال له: أعتق ليموت( ).
وأما المرأتان فهما :
الثاني والسبعون : أم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار، المازنية النجاريةقال ابن إسحاق: وقد كانت شهدت الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معها أختها وزوجها زيد بن عاصم بن كعب، وابناها حبيب وعبد الله.
وابنها حبيب هذا هو الذى قتله مسيلمة الكذاب حين جعل يقول له: أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ فيقول: نعم.
فيقول: أتشهد أنى رسول الله ؟ فيقول: لا أسمع.
فجعل يقطعه عضوا عضوا حتى مات في يديه، لا يزيده على ذلك، فكانت أم عمارة ممن خرج إلى اليمامة مع المسلمين حين قتل مسيلمة، ورجعت وبها اثنا عشر جرحا من بين طعنة وضربة.
الثالث والسبعون : أم منيع أسماء ابنة عمرو بن عدى بن نابي بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة)( ).
وتعهد أصحاب العقبة الثانية بأمور :
الأول : الصبر على الأذى الذي يأتي بسبب إيواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا هاجر إليهم .
الثاني : السمع والطاعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في النشاط والكسل( ) .
الثالث : النفقة في العسر واليسر .
الرابع : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الخامس : قول الحق في الله من غير مخافة لومة لائم .
السادس : نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وحفظه والذب عنه إذا وصل إلى يثرب المدينة .
السابع : البيان والوضوح في مرتبة حفظ الأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وبأن يكون مثل حفظهم لأنفسهم وذويهم .
إذ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَابناءَكُمْ) ( ).
والمختار هو نوع مغايرة في يوم العقبة بين أمور :
الأول : دخول الإسلام .
الثاني : البيعة .
الثالث : الإيواء والنصرة , عندما يصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة .
نعم قد يتداخل دخول الإسلام مع البيعة .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يطلب من المهاجرين والأنصار يوم بدر أن يشيروا عليه في ملاقاة القوم بالقتال ، وكان يؤكد بصورة خاصة على الأنصار لأنهم قيدوا نصرته في بيعة العقبة بأن يمنعوه مثلما يمنعون ويذبون عن ابنائهم وأزواجهم .
وفي الخبر عن ابن إسحاق فيما يخص يوم بدر (ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” أشيروا على أيها الناس ” وإنما يريد الانصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله
إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه ابناءنا ونساءنا.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الانصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم.
فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ .
قال : ” أجل ” .
قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركة الله.
قال: فسر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقول سعد ونشطه، ثم قال: ” سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم “)( ).
سرية حمزة بن عبد المطلب
كانت قصة إسلام حمزة والعلة المباشرة لإعلانه دخول الإسلام حين قام أبو جهل بايذاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشتمه ونال منه ومن دين الإسلام عندما رآه وحيداً عند جبل الصفا المطل على الكعبة الشريفة .
ولم يجبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأظهر الحلم والصبر لأنه لا يريد الخصومة ويسعى لدفعها فمن باب الأولوية أنه لا يسعى للقتال .ولما رآى أبو جهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساكتاً لا يجيبه رفع حجراً ورمى به رسول الله فأصابه برأسه وسال منه الدم .
ثم ذهب أبو جهل إلى منتديات قريش في الكعبة وهو يتفاخر بما فعله برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وكان حمزة في الصيد كعادته ، متوشحاً قوسه ، وهو معروف بمهارته وحذقه فيه ، ولما عاد من قنصه عند المساء ذهب إلى البيت الحرام ليطوف حول الكعبة كعادته ، وكانت بيوت بني هاشم قريبة من البيت ، وكان خبر اعتداء أبي جهل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيل الدم من وجهه قد شاع في البيت الحرام والبيوت القريبة منه ، مما أثار موجة من السخط والإستياء من فعل وحماقة أبي جهل لأمور :
الأول : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتوحيد ، وعبادة ربّ البيت الحرام .
الثاني : عدم إشهار النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيفاً .
الثالث : صبر وحلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الرد على أبي جهل .
الخامس : وجود أفراد من المسلمين في مكة ودخول الإسلام لأكثر بيوتها .
السادس : النفرة العامة من التعدي والدفاع عنه .
وبصرت خادمة لعبد الله بن جدعان حمزة متجهاً صوب الكعبة فاسرعت نحوه ، وقالت (يا أبا عمارة لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام وجده ها هنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد .
فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله بن من كرامته فخرج يسعى ولم يقف على أحد معدا لابي جهل إذا لقيه أن يقع به فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم فأقبل نحوه , حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة ثم قال : أتشتمه فأنا على دينه) ( ).
لقد أصلح الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم من أيام صباه لوظائف النبوة وبعث الناس إلى نصرته والذب عنه ، قبل وبعد أن بعثه الله نبياً إذ كان يتصف بالأمانة والصدق وسلامة السريرة إلى جانب رفعة النسب والشأن العظيم في قومه ، وهذا الشأن ترتيبي من جهات :
الأولى : الشأن الرفيع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأهله بني هاشم وإكرام أعمامه الأحد عشر له , وكـأنه في محل ومكانة أبيه الذي توفى عنه وهو في بطن أمه .
الثانية : المنزلة السامية لبني هاشم في قريش وهيبة عبد المطلب ، وجهاده في الدفاع عن البيت الحرام ، وإقامته الحجة مع أبرهة ، والشأن العالي لأبي طالب بين بيوتات وأفخاذ قريش ، فكان هو وشأنه حصناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاة عبد المطلب .
وتجلت عندما مات موضوعية تعاهده للنبي وأثر هذا التعاهد ، فتجرأت قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتناجوا بالإضرار به وعزموا على قتله في فراشه فأخبره جبرئيل بالأمر وأذن الله عز وجل له بالرحيل وأمر الإمام علي عليه السلام بالمبيت في فراشه .
الثالثة : منزلة قريش بين العرب لجوارهم للبيت الحرام ، وعملهم في التجارة العالمية بتسييرهم القوافل بين كل من :
الأول : مكة والشام .
الثاني : مكة واليمن .
الثالث : مكة ويثرب والتي صارت تسمى بعد هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليها المدينة المنورة .
ومن الإعجاز القرآني في المقام ورودها باسم يثرب مرة واحدة بقوله تعالى[وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا]( ) وورد ذكرها بعدة مواضع من القرآن باسم المدينة منها قوله تعالى[وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ]( ) [مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ] ( ) [يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الرابع : بين الشام واليمن من غير المرور على مكة خاصة بعد إنقطاع طريق التجارة بين العراق والشام بسبب الحرب بين الدولة الرومانية والدولة الفارسية فمن خصائص الحروب النقص في أرزاق الناس في الزراعات والتجارات واستحواذ السلاطين وأعوانهم على الأمور العامة , ولا عبرة بانتفاع فئة قليلة من تجار الحروب والقواد وصنّاع السيوف والدروع ونحوها .
الخامس : مكة والحيرة .
السادس : التجارات الطارئة منها ما يجري في موسم الحج وتعدد جهات القوافل ، ومن الظواهر في المواسم العامة كثرة حركة وسائط النقل .
لقد كان حمزة آخاَ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة ، ارتضعا من ثدي ثويبة جارية لأبي لهب ، فتكون الصلة بينهما من طرق :
الأول : النسب والعمومة .
الثاني : إتحاد الرضاعة من ثدي واحد ، لذا حين عرض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يتزوج ابنة حمزة قال (إنّهَا لَا تَحِلّ لِي إنّهَا ابنةُ أَخِي مِنْ الرّضَاعَةِ وَيَحْرُمُ مِنْ الرّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الرّحِمِ) ( ).
(وكلم علي بن ابي طالب رسول الله صلى الله عليه وآله في عمارة بنت حمزة وكانت مع امها سلمى بنت عميس بمكة، فقال: علام نترك بنت عمنا يتيمة بين ظهرانى المشركين ؟ فخرج بها حتى إذا دنوا من المدينة، اراد زيد بن حارثة – وكان وصى حمزة واخاه اخوة المهاجرين – أن يأخذها من علي، وقال: أنا احق بها، ابنة اخي، فقال جعفر بن ابى طالب: الخالة والدة، وانا احق بها لمكان خالتها عندي، اسماء بنت عميس، فقال على رضوان الله عليهم: الا أراكم في ابنة عمى، وانا أخرجتها من بين اظهر المشركين، وليس لكم إليها نسب دوني، وانا احق بها منكم،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: “أحكم بينكم، اما انت يا زيد فمولى الله ورسوله، واما انت يا علي فاخي وصاحبي، واما انت يا جعفر فتشبه خلقي وخلقي: وانت يا جعفر اولى بها، تحتك خالتها، ولا تنكح المرأة على خالتها ولا عمتها ” فقضى بها لجعفر، فقام جعفر فحجل حول النبي صلى الله عليه وآله فقال:”ما هذا يا جعفر ؟ ” قال: يا رسول الله كان النجاشي إذا ارضى احد اقام فحجل حوله، فقال علي عليه السلام : تزوجها يارسول الله قال: ” هي ابنة اخي من الرضاعة) ( ).
وقيل أن صفية بنت عبد المطلب طلبت كفالتها أيضاً فقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخالة عليها في باب الحضانة .
وهذا التعدد في طلب الكفالة من الشواهد على إكرام الشهيد في ذريته ، وهل هو من مصاديق حياته بقوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ) .
الجواب نعم ، فهذا التعدد في الكفالة والإكرام من مصاديق الحياة عند الله ، وهل يختص بهذا الإكرام الأولاد الصلبيون لحمزة وشهداء أحد ، الجواب لا ، إنما يتفضل الله عز وجل بهداية القلوب للذرية من عنده تعالى ، وهو من عمومات قوله تعالى [فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ] ( ) .
ومصاديق قوله تعالى [وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا] ( ) فقد حفظ الله عز وجل الكنز للغلامين لصلاح أبيهما .
عن (حماد بن الوليد الثقفي يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله تعالى {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنز لَهُمَا}( ) قال: سطران ونصف لم يتم الثالث: عجبت للموقن بالرزق كيف يتعب وعجبت للموقن بالحساب كيف يغفل؟ وعجبت للموقن بالموت كيف يفرح؟ .
وقد قال تعالى: { وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ }( ) قالت : وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما، ولم يذكر منهما صلاح، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء، وكان نساجًا) ( ).
وهل يختص حفظ الكنز للغلامين بهما شخصياً ، الجواب لا ، إنما يشمل ابناءهما وأزواجهما وذريتهما ، وهو من أسرار وراثة المؤمنين الأرض ، وتعاهدهم للعبادة ومفاهيم الصلاح .
وأخوة الرضاعة جامع بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحمزة، فقد ارتضعا من ثدي واحد ، وتحققت أخوة الرضاعة التي تنشر الحرمة .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال(يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب)( ).
و(قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يحرم من الرضاعة المصة ولا المصتان إنما يحرم ما فتق اللبن)( ).
الثالث : صلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحمزة كمؤمن ومهاجر من مكة إلى المدينة.
الرابع : صلة الأخوة الإيمانية، فصحيح أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم آخر بين الصحابة من المهاجرين والأنصار وإختار لنفسه علياً عليه السلام أخاً، ولكن الأخوة الإيمانية العامة شاملة لكل المؤمنين بأجيالهم المتعاقبة والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أول المؤمنين بالله وكتابه وملائكته وهو إمام المؤمنين كافة.
فجاء مسرعاً ورفع القول وضرب به أبا جهل فشج رأسه وسال منه الدم ، فبادر رجال من بني مخزوم رهط أبي جهل لنصرته وهو كبيرهم ، ودفع حمزة عنه ، وقالوا : نراك صبأت يا حمزة أي أن نصرتك للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم شاهد على اسلامه .
(قال حمزة: ومن يمنعنى وقد استبان لى منه ما أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الذى يقول حق، فو الله لا أنزع، فامنعوني إن كنتم صادقين.
فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإنى والله لقد سببت ابن اخيه سبا قبيحا.
فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد عز وامتنع، فكفوا عما كانوا يتناولون منه) ( ).
وعندما علم كفار قريش بهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة واسقراره فيها وإحاطة أصحابه من المهاجرين والأنصار به ، وإزدياد عدد المسلمين وان استيلاء قريش على أملاك وأموال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في مكة لم يضرهم في دعوتهم إلى الله ، وفي حال العز التي هم عليها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
فلم تمض بضعة شهور على هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أخذ كفار قريش يبعثون رسائل التهديد والتخويف إلى بعض رؤساء الأوس والخزرج خاصة من يواطئهم على عبادة الأوثان ومنها ما كتبه إلى عبد الله بن أبي بن أبي سلول ، وكان رئيس الخزرج ورأس النفاق (إنكم آويتم صاحبنا وإنا نقسم بالله لتقاتلنه أو لتخرجنه أو لنسيرن إليكم بجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم) ( ).
ولعل من أثر هذه الرسائل قول عبد الله بن أبي في حادثة بني المصطلق في شهر شعبان من السنة السادسة للهجرة ، والذي حكاه القرآن [لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
لقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في تفقه أصحابه في الدين ، وإتقان أداء الفرائض مع الحرص على دفع أسباب القتال ، قال تعالى [الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ]( ).
وكان تهديد ووعيد قريش على وجوه :
الأول : التهديد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : التهديد والوعيد للمهاجرين .
الثالث : التحذير والإنذار للأنصار .
الرابع : التخويف لأهل المدينة من الأوس والخزرج .
الخامس : تهديد وتخويف يهود المدينة بسبب سكوتهم عن دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى عبادة الله ، ونبوته , والإمتناع عن الشرك وعبادة الأوثان ، إذ كتب رؤساء كفار قريش بعد واقعة بدر إلى يهود المدينة (إنكم أهل الحلقة والحصن وإنكم لتقاتلن صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء. وهي الخلاخيل)( ).
السادس : الوعيد لنساء المدينة بالسبي ولم يقف تهديد قريش عند كتابة الرسائل إذ كان أهل المدينة يذهبون إلى مكة للعمرة والتجارة مع الصلات الإجتماعية والتجارية بينهم وبين قريش والإنصار في طرق القوافل وغيرها ، وكما كان أهل مكة يذهبون إلى الشام للتجارة كما في قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ *إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ) فان أهل يثرب لهم صلات وتجارات مع الشام ، فيسمعون ذات لغة التهديد, لذا ورد في التنزيل[وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
وبعد الهجرة كان دِحية الكلبي وغيره يأتون بالتجارة من الشام ، وجلب التجارة مرة إلى المدينة في يوم جمعة ، مع عادتهم في ضرب الطبول للإخبار عنها وخروج الناس إليها سبباً لنزول قوله تعالى[وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ]( ).
وازداد هذا التهديد المتصل من كفار قريش ، ولعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم ينفذون ما يتوعدون به ، ولا يتورعون من الظلم والتعدي قام ببعث سرية استطلاع إلى سرية البحر أي ساحله في شهر رمضان من السنة الأولى من الهجرة والموافق شهر آذار سنة (623) ميلادية ، وكان آمر السرية حمزة بن عبد المطلب عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وحمل اللواء مرثد كناز بن حصين الغنوي .
وكان مرثد ووالده أبو مرثد حليفي حمزة بن عبد المطلب ، وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين مرثد وبين أوس بن الصامت أخي عبادة بن الصامت .
وشهد مرثد بدراً وأحداً ، وقتل يوم الرجيع إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونفراً من الصحابة لغرض التبليغ في شهر صفر على رأس ستة وثلاثين شهراً من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،فقتلوهم بنو لحيان من هذيل غذراً ، والشهداء هم :
الأول : مرثد بن أبي مرثد .
الثاني : خالد بن البكير .
الثالث : عاصم بن ثابت .
الرابع : خبيب بن عدي الذي أخذ أسيراً ثم صلب وقد تقدم ذكره .
الخامس : زيد بن الدثنة .
السادس : عبد الله بن طارق .
وقال ابن سعد أن عدد البعث عشرة ( ).
وقال حسان بن ثابت في رثائهم :
ألا ليتني فيها شهدت ابن طارق … وزيداً وما تغني الأماني ومرثدا
فدافعت عن حيي خبيب وعاصم … وكان شفاء تداركت خالدا) ( ).
والمعروف عن حسان بن ثابت أنه يتجنب المبارزة والقتال ، ولكن شعره أعلاه يدل على مدى غضبه وحزنه على فقدهم ، ورغبته في الدفاع عنهم .
وفي قصة سرية مرثد وأصحابه وقتلهم غدراً شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد القتال والحرب ، وأن أصحابه يعلمون بأن وظيفتهم هي التبليغ وحث الناس على التفقه في الدين ومعرفة أحكام الحلال والحرام ، ومع هذا عدى عليهم أهل قرى من عضل والقارة في الطريق لم تقصدهم السرية ، ولم يطلبهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وتتألف سرية حمزة بن عبد المطلب من ثلاثين من الصحابة كلهم من المهاجرين، ليس فيها أنصاري .
وبلغوا سيف البحر من ناحية العيص مكان بين ينبع والمروة ناحية البحر الأحمر، وأعترضت سرية حمزة بن عبد المطلب قافلة لقريش قادمة من الشام عليها أبو جهل بن هشام في ثلاثمائة رجل من قريش وغلمانهم ، وقيل أن عدد رجال القافلة هو (ثلاثين ومئة راكب من قريش) ( ).
وقيل أن غاية القافلة اعتراض هذه القافلة ، ولا دليل عليه خاصة وأن عدد رجال القافلة عشرة أضعاف عدد أفراد السرية إلى جانب أن زمان السرية ليس فيه أمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال .
ومشى مجدي بن عمرو الجهني بين الفريقين ، وكان حليفاً لكل منهما , وأخذ يتنقل بين الفريقين ، مرة إلى هؤلاء وأخرى إلى هؤلاء حتى حجز بينهم ، وافترقوا فرجع حمزة وأصحابه إلى المدينة ، وذهب أبو جهل والقافلة ورجالها إلى مكة ، وأسلم مجدي وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر .
ومن البرهان الجلي في عدم إرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتال أن أول سرية بعثها ليست للقتال ولم تقاتل أو تقتل أحداً ، ولم يقم أفرادها بالنهب أو السلب أو السبي إنما بعثهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإستطلاع .
وهل من سبب لهذا الإستطلاع ، الجواب نعم ، إذ كان تهديد قريش متصلاً ، وما برحوا يبعثون رسائل التخويف والإنذار إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وعموم أهل المدينة المنورة بالهجوم عليهم وغزوهم ، وهو الذي تحقق مصداقه في زحف وغزو كفار قريش في معركة بدر وأحد والخندق .
سرية عبد الله بن جحش
هو (عبد الله بن جحش بن رئاب
بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي، أمه أميمة بنت عبد المطلب، عمة رسول الله , وهو حليف لبني عبد شمس. وقيل: حليف لحرب بن أمية.
أسلم فيما ذكر الواقدي قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم) ( ).
وهو ممن هاجر الهجرتين إلى الحبشة وإلى المدينة وهو أخ زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وأخوه عبد بن جحش أبو أحمد الأعمى وكل منهما هاجر إلى الحبشة وأختاه حمنة وأم حبيبة .
وقد آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين عبد الله بن جحش وعاصم بن ثابت ، وكانت (سرية عبد الله بن جحش في سنة اثنتين في غرة رجب إلى نخلة)( ).
ولهم أخ وهو عبيد الله بن جحش هاجر معهما ثم تنصر بأرض الحبشة وبانت منه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان فتزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومات عبيد الله في الحبشة نصرانياً .
وعن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطبهم يوم أراد بعثهم إلى نخلة وقال (لابعثن عليكم رجلا ليس بخيركم , أصبركم على الجوع والعطش “.
فبعث علينا عبد الله بن جحش الاسدي، فكان أول أمير في الاسلام.) ( ).
ويتصف عبد الله بن جحش بحبه للدفاع , وطاعته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشوقه للشهادة ، وكانت سرية عبد الله بن جحش في السنة الثانية قبل بدر بشهرين وقيل هي السبب في معركة بدر واصرار الكفار على القتال مع أن عدد أفرادها لا يتجاوز تسعة ، وقيل أن عددهم هو أثنا عشر كلهم من المهاجرين ليس فيهم أنصاري .
وكانت جهتها إلى نخلة ونالت هذه السرية شهرة لحدوث نوع قتال بين المسلمين والمشركين ، وقيام المشركين ببث الإشاعات ضد المسلمين والنيل منهم والتحريض عليهم بحجة أنهم قتلوا شخصاً في الشهر الحرام ، ولكن الله عز وجل دافع عنهم وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ] ( ).
قال ابن إسحاق: وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن جحش بن رئاب الاسدي في رجب مقفله من بدر الاولى، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الانصار أحد، وهم :
الأول : أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، قُتل أخوه الوليد وأبوه عتبة وعمه شيبة في معركة بدر كفاراً معتدين , وكان أبو حذيفة حاضراً إلى جانب النبي صلى وسلم الله عليه وآله وسلم .
الثاني : عكاشة بن محصن بن حرثان حليف بنى أسد بن خزيمة.
الثالث : عتبة بن غزوان حليف بني نوفل.
الرابع : سعد بن أبي وقاص الزهري.
الخامس : عامر بن ربيعة الوائلي حليف بني عدي.
السادس : واقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع التميمي حليف بني عدي أيضا.
السابع : خالد بن البكير أحد بنى سعد بن ليث حليف بنى عدي أيضا،
الثامن : سهل بن بيضاء الفهرى.
وقيل كانوا سبعة ثامنهم أميرهم عبد الله بن جحش .
وقال يونس عن ابن إسحاق: ( كانوا ثمانية وأميرهم التاسع ) ( ).
وكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً وسلّمه إلى عبد الله بن جحش ، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ، والمراد قطع المسافة بالسير المتوسط ، وكانوا كل اثنين يتعاقبان بعيراً .
وإذا فتح الكتاب وقرأه يمضي لما أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتتجلى عند فتح الكتاب الغاية من بعث السرية وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمرهم بالقتال .
وبعد يومين من السير فتح عبد الله بن جحش كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاذا فيه : اذا نظرت كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف ، فترصد قريشاً تعلّم لنا أخبارهم .
أي ليس في الكتاب أمر بالقتال أو التعرض لقافلة أو سلب مال أحد أنما هي للإستطلاع ومعرفة أحوال قريش وما يكيدون به للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين خاصة وأن عدد أفراد السرية أقل من أصابع اليدين .
وتقع نخلة قريبا من مكة في الجهة المغايرة للجهة التي تقع فيها المدينة ، فلا يظن رجال قريش أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلون إلى تلك الأمكنة .
فتسمى سرية نخلة ، ويقال أنها أول سرية في الإسلام ، وقطع أفراد السرية أكثر من أربعمائة كيلو متر لا لشئ إلا للإستطلاع ، وأي جيش أو قبيلة تهجم عليهم آنذاك تفتك بهم وتقتلهم , وتكون صدمة مؤلمة للمسلمين .
وقد هجم المشركون على طائفة وسرية من المسلمين عدد أفرادها أكثر من هؤلاء وقتلوهم ، كما في بئر معونة مثلاً مع التباين في الموضوع والقصد ، واختلاف الأمر , لأن واقعة معونة حدثت بعد تحقق انتصارات للإسلام ، إذ وقعت بعد أربعة أشهر من واقعة أحد ، عندما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل نجد سبعين من أصحابه , وقيل أربعين ليس معهم أسلحة قتال لتعليم طائفة من المسلمين عندهم بناء على طلب وجهه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة الذي أعلن إسلامه .
وقدم أحدهم وهو حرام بن ملحان كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى عدو الله عامر بن الطفيل الذي قتله قبل أن ينظر في الكتاب واستصرخ عليه بني عامر فابوا إجابته وامتنعوا عن التعدي على المسلمين فاستصرخ قبائل من سليم عصية ورعل فأجابوه فأخذوا سيوف المسلمين بالمكر والوعد الكاذب , ثم عدوا عليهم فقتلوهم ، كما يأتي بيانه إن شاء الله .
وروى الواقدي( ) عن عبد الله بن جحش ، قال : دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين صلى العشاء فقال (قَدْ اسْتَعْمَلْتُك عَلَى هَؤُلَاءِ النّفَرِ فَامْضِ حَتّى إذَا سِرْت لَيْلَتَيْنِ فَانْشُرْ كِتَابِي، ثُمّ امْضِ لِمَا فِيهِ “
قُلْت: يَا رَسُولَ اللّهِ أَيّ نَاحِيَةٍ؟ فَقَالَ: ” اُسْلُكْ النّجْدِيّةَ ، تَؤُمّ رَكِيّةَ ” قَالَ فَانْطَلَقَ حَتّى إذَا كَانَ بِبِئْرِ ابن ضُمَيْرَةَ نَشَرَ الْكِتَابَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ سِرْ حَتّى تَأْتِيَ بَطْنَ نَخْلَةَ عَلَى اسم اللّهِ وَبَرَكَاتِهِ وَلَا تُكْرِهَن أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِك عَلَى الْمَسِيرِ مَعَك، وَامْضِ لِأَمْرِي فِيمَنْ تَبِعَك حَتّى تَأْتِيَ بَطْنَ نَخْلَةَ .
فَتَرَصّدْ بِهَا عِيرَ قُرَيْشٍ. فَلَمّا قَرَأَ عَلَيْهِمْ الْكِتَابَ , قَالَ : لَسْت مُسْتَكْرِهًا مِنْكُمْ أَحَدًا، فَمَنْ كَانَ يُرِيدُ الشّهَادَةَ فَلْيَمْضِ لِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ أَرَادَ الرّجْعَةَ فَمِنْ الْآنِ فَقَالُوا أَجْمَعُونَ نَحْنُ سَامِعُونَ وَمُطِيعُونَ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلَك، فَسِرْ عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ حَيْثُ شِئْت.
فَسَارَ حَتّى جَاءَ نَخْلَةَ فَوَجَدَ عِيرًا لِقُرَيْشٍ فِيهَا عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيّ، وَالْحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ الْمَخْزُومِيّ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيّ، وَنَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْمَخْزُومِيّ. فَلَمّا رَأَوْهُمْ أَصْحَابُ الْعِيرِ هَابُوهُمْ , وَأَنْكَرُوا أَمْرَهُمْ , فَحَلَقَ عُكّاشَةُ رَأْسَهُ مِنْ سَاعَتِهِ ثُمّ أَوْفَى لِيُطَمْئِنَ الْقَوْمَ.) ( ).
أي أن الذي يريد أن يرجع قبل أو بعد فتح الكتاب فلا يحمله على البقاء معه ، وكان عددهم ثمانية وهو عدد قليل لا يدل على إرادة القتال والغزو والهجوم ، وإن كانوا مستعدين للإمتثال لأمر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكانت سرية عبد الله بن جحش إلى بطن نخلة في شهر رجب من السنة الثانية للهجرة ، ويبعد وادي نخلة مسيرة ليلة نحو أربعين كيلو متر عن مكة .
وفي وادي نخلة استمع جنّ نصيبين لقراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الصبح كما ورد في سورة الجن [وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ]( ).
وعن عبد الله بن مسعود قال (هبطوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة ، فلما سمعوه .
قالوا : أنصتوا قالوا : صه ، وكانوا تسعة أحدهم زوبعة ، فأنزل الله { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن }( ) إلى قوله {ضلال مبين}( ).
وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن } الآية قال : كانوا تسعة عشر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسلاً إلى قومهم)( ).
(عن أبي إسحاق عن ثابت بن قطبة الثقفي، قال : جاء أُناسٌ إلى عبد الله بن مسعود، قالوا : كنّا في سفر فرأينا حيّة متشحّطة في دمها مقتولة، فأخذها رجل منّا،
فواريناها، فلمّا ولّوا جاءهم ناس، فقالوا : إنّكم دفنتم عمراً، فقالوا ومَنْ عمر؟
قالوا : الحيّة التي دفنتم في مكان كذا وكذا. أمّا إنّه كان من النفر الّذين استمعوا القرآن من النبي (عليه السلام) وكان بين حيّتين من الجنّ من المسلمين وغيرهم، نزال، فقتل)( ).
لقد كانت سرية عبد الله بن جحش سرية استطلاع لمنطقة محصورة ، ولم تكن سرية قتال أو اعتراض لقافلة .
وأسند النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرتها في بادئ الأمر إلى أبي عبيدة بن الجراح ، ولكنه حينما أراد أن يخرج بكى جزعاً من مفارقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستدعى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن جحش وهو ابن عمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأن أمه أمامة بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاه كتاباً مكتوباً ، ولم يكن مختوماً بختم خاص يلزم فتحه حضور عدد من أصحابه وشهادتهم على هذا الفتح ، إنما أمره أمراً ألا يفتح الكتاب ويطلع على مضمونه إلا بعد يومين فتقيد بالأمر .
وهل كان هذا الأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي أم هو اجتهاد منه سبحانه ، الجواب هو الأول لعمومات قوله تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) وكذا بالنسبة لتوجيه هذه السرية وتبديل أميرها .
وتسمى سرية عبد الله بن جحش (سرية نخلة ) لإستطلاع حال قريش في منطقة نخلة وهي من المداخل القريبة من مكة ، وتقع خارج الحرم ، وليس في كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأوامره لعبد الله بن جحش أمر بمبارزة أو قتال أو رمي سهام ونبال ، إنما كانت الغاية من بعث السرية تتألف من :
الأول : الوصول إلى نخلة .
الثاني : رصد قريش ، وحركة قوافلها .
الثالث: العلم بأخبار قريش ، إذ أن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وتعلم لنا اخبارها) أعم من موضوع سير القوافل وعدد الرجال والعير التي فيها .
وبلغت السرية نخلة فنزلوا فيها ، فمرت بهم قافلة لقريش تحمل زبيباً وأدماً وخمراً وغيرها من مواد التجارة .
فلما رآهم رجال القافلة هابوهم وخشوا منهم فأشرف لهم عُكاشة بن محصن ، وقد حلق رأسه ، فإطمئن أفراد القافلة ، وقال بعضهم : عمّار للبيت الحرام لا بأس عليكم منهم .
(وتشاور الصحابة فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب فقالوا: والله لئن تركتموهم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام.
فتردد القوم وهابوا الاقدام عليهم.
ثم شجعوا أنفسهم عليهم وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان بن عبد الله, والحكم بن كيسان، وأفلت من القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم)( ).
وقوله (شجعوا أنفسهم) لا أصل له ، فالأصل هو عدم الرمي أو القتل لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيّن لهم وظيفة السرية , وهو الرصد والإستطلاع ، وليس القتل .
ولما رجع عبد الله بن جحش وأصحابه إلى المدينة ، ومعه أسيران وعير ، أطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأسيرين ، وأبى أن يأخذ من العير شيئاً ، وقال : ما أمرتكم بقتال ، وفي رواية (ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام) .
وأخذ عامة المسلمين يلومون عبد الله بن جحش وأصحابه .
وإتخذ كفار قريش من الواقعة سبباً للذم والتحريض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وقالوا (قَدْ اسْتَحَلّ مُحَمّدٌ وَأَصْحَابُهُ الشّهْرَ الْحَرَامَ وَسَفَكُوا فِيهِ الدّمَ وَأَخَذُوا فِيهِ الْأَمْوَالَ وَأَسَرُوا فِيهِ الرّجَالَ , فَقَالَ مَنْ يَرُدّ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِمّنْ كَانَ بِمَكّةَ إنّمَا أَصَابُوا مَا أَصَابُوا فِي شَعْبَانَ) ( ).
وتفاءل اليهود وفق علم الزجر وإشارات الاسماء لما علموا أن : عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله .
وقالوا : عمرو عمرت الحرب , أي طالت , وزاد سعيرها بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين .
الحضرمي : حضرت الحرب , أي ستكون الحرب عاجلة , وليس فيها إرجاء .
وواقد : وقد الحرب .
ولا دليل على هذا التأويل والحساب ، ولم ينظروا إلى أن اسم واقد هو واقد بن عبد الله ، وأن النتيجة هي إخلاص العبادة لله عز وجل .
ولما أكثر الناس على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص مسألة قتل ابن الحضرمي في الشهر الحرام ، نزل قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا]( ).
للتذكير بأن كفار قريش أخرجوا المسلمين من مكة مع الكفر بالله والنبوة والمسجد الحرام ، وأن الذين كفروا مستمرين في قتال المسلمين ، لتتضمن الآية البيان والعذر والتحذير من الذين كفروا .
سرية عبيدة بن الحارث
وهو عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف , والأصح الأول، بن قصي وأمه سخيلة بنت خزاعي بن الحويرث من ثقيف ، ويسميه وينسبه بعض العلماء إلى عبد المطلب ، بدل المطلب .
وكان عبيدة أكبر سناً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعشر سنين ، وأسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم.
وعبيدة أسنّ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعشر سنين، وبعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بطن راغب في شهر شوال على رأس ثمانية أشهر من الهجرة وعقد له لواءً أبيض، وكان حامله هو مسطح بن أثاثة بن المطلب الذي آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين زيد بن مزين الأنصاري .
وقد أسلم عبيدة بن الحارث قبل دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم، وأسلم أخواه الحصين والطفيل.
وهاجروا إلى مكة وكان مع عبيدة بن الحارث في طريق الهجرة (مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ونزلوا على عبد الله بن سلمة العجلاني)( )، وقال ابن إسحاق: أن سرية عبيدة هي أول السرايا .
وقيل أن سرية عبيدة كانت قبل سرية حمزة وفيها رمى سعد وكان سهمه أول سهم رمي في سبيل الله وقيل ( أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن جحش)( ).
وسار عبيدة بخمسين راكباً , وقيل ستين، وقيل ثمانين ليس فيهم أنصاري، ومقصدهم رصد عير لقريش .
وإلتقوا مع جمع من قريش, وقيل قافلة لقريش, وعددهم مائتان عليهم أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف غلبت عليه كنيته، وأمه هي صفية بنت حزن الهلالية وقيل كان عليهم مكرز بن حفص وقيل عكرمة بن أبي جهل ولم يذكر ابن كثير أمر قافلة إنما قال (أنهم التقوا هم والمشركون على ماء يقال له أحياء، وكان بينهم الرمى دون المسايفة)( ).
فلم يقع إصطفاف أو قتال بين الفريقين، وهو من الدلائل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر أفراد السرية بالقتال، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد آخى بين عبيدة بن الحارث وعمير بن حرام الأنصاري السلمي فقتلا معاً في معركة بدر إذ بارز عبيدة عتبة بن ربيعة وهو من فرسان قريش وكبار رجالهم، فصرعه عبيدة، ولكن عتبة ضربه في نصف ساقه فقطعها، ومات عبيدة من أثر هذا الجرح والنزيف ولكن ليس في المعركة , إنما مات حين وصل وادي الصفراء ، ودفن هناك وهو ابن أربع وستين سنة .
وزوجة عبيدة بن الحارث زينب بنت خزيمة الهلالية , وتسمى في الجاهلية أم المساكين، وكانت قبله عند أخيه الحصين بن الحارث، فطلقها، فتزوجها أخوه عبيدة، وبعدما إستشهد عنها في معركة بدر، وإنقضاء عدتها تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم تلبث عنده سوى بضعة شهور وتوفيت.
ولم يقتل أو يمت أحد من الصحابة في السرايا الأولى للإسلام، لأنهم لم يقصدوا القتال، ولم يندفعوا في مقدمات الهلكة.
وقالت هند بنت أثاثة بْنِ عَبّادِ بْنِ الْمُطّلِبِ تَرْثِي عَبِيدَة بْنَ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطّلِبِ:
لَقَدْ ضُمّنَ الصّفْرَاءُ مَجْدًا وَسُؤْدُدًا … وَحِلْمًا أَصِيلًا وَافِرَ اللّبّ وَالْعَقْلِ
عُبَيْدَةَ فَابْكِيهِ لِأَضْيَافِ غُرْبَةٍ … وَأَرْمَلَة تَهْوِي لِأَشْعَثَ كَالْجِذْلِ
وَبَكّيهِ لِلْأَقْوَامِ فِي كُلّ شَتْوَةٍ … إذَا احْمَرّ آفَاقُ السّمَاءِ مِنْ الْمَحْلِ
وَبَكّيهِ لِلْأَيْتَامِ وَالرّيحُ زَفْزَةٌ … وَتَشْبِيبُ قِدْرٍ طَالَمَا أَزْبَدَتْ تَغْلِي
فَإِنْ تُصْبِحُ النّيرَانَ قَدْ مَاتَ ضَوْءُهَا … فَقَدْ كَانَ يُذْكِيهِنّ بِالْحَطَبِ الْجَزْلِ
لِطَارِقِ لَيْلٍ أَوْ لِمُلْتَمِسِ الْقِرَى … وَمُسْتَنْبَحٍ أَضْحَى لَدَيْهِ عَلَى رَسْلِ)( ).
وهرب يومئذ المقداد بن عمرو وعتبة بن غزوان إلى المسلمين، وشهد المقداد معركة بدر والمشاهد كلها.
وفي غزوة عبيدة هذه رمى سعد بسهم، وهو أول من رمى بسهم، ويحتمل هذا الرمي وجوهاً:
الأول : الأمر والإذن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرمي.
الثاني : صدور الأمر بالرمي من عبيدة بن الحارث آمر السرية.
الثالث : رمى سعد بن أبي وقاص عن حاجة وضرورة.
الرابع : هذا الرمي إجتهاد من سعد.
والمختار هو الثالث أعلاه، فلم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتال أو رمي، خاصة وأن الرمي من مصاديق القتال، ومقدمة له، ولم يكن في هذه السرية أنصاري، وساروا حتى وصلوا بطن رابغ على ساحل البحر في اقليم تهامة، وتبعد مدينة رابغ عن جدة 140كم، وعن مكة 186كم، وهي أحد مواقيت الإحرام للحج والعمرة ويحرم منها القادمون من أفريقيا الشمالية والغربية، وأهل لبنان، وسوريا، والأردن، وفلسطين، ومن يمر عليها من غيرهم وبعد راغب يأتي ميقات الجحفة وهو أقرب إلى مكة , وهو ميقات أهل الشام.
ورابغ من ربغ وهو النعومة، ويقال: عيش رابغ أي ناعم.
ولقي أبا سفيان في مائتين من مشركي مكة على ماء يقال له أحيا من بطن رابغ على بعد عشرة أميال من الجحفة ، فوقع بينهم رمي ومناوشة ، ولم يلتقوا في صفوف ولم تسل السيوف ، وهو من الإعجاز في تسمية كلاً من معركة بدر وأحد بـ (الْتَقَى الْجَمْعَانِ)( ).
لماذا لم يقع قتال في سرايا الإسلام الأولى
لقد جعل الله عز وجل عائدية [مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ) له سبحانه، لا يشاركه فيه أحد، وفيه دلالة على أن الأمور فيها لا تكون إلا بمشيئته سبحانه، وهو الذي جعل الناس خلفاء في الأرض لعمارتها بعبادته، وتفضل مرة أخرى وبعث الأنبياء رسلاً بينه وبينهم لجذبهم إلى مقامات الهدى , وإتخاذها وسائط وسبلاً للنجاة في النشأتين ومن هذه السبل إلحاح كل مسلم ومسلمة كل يوم على الله عز وجل بالقول بصيغة القرآنية[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
ولما تمادى الذين كفروا في الضلالة، ونصبوا الأوثان في[ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ) تفضل الله وأرسل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لهدايتهم والناس جميعاً إذ أن الضلالة ضربت أطنابها في كثير من بقاع الأرض، ولم يكن أتباع الأنبياء السابقين قادرين على إصلاح الأمور ، فصارت بعثته حاجة للناس، ليكون من معاني كافة للناس قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا]( )، على وجوه منها:
الأول : كافة للناس لتكفهم عن المعاصي.
الثاني : كافة للناس لتكفهم وتدفع عنهم ما يأتي بالبلاء والآفات.
الثالث : كافة للناس لهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
الرابع : كافة للناس من المسلمين وغيرهم، فمن خصائص رحمة الله إتصافها بالعموم والإطلاق.
الخامس : كافة للناس لمنع الإقتتال بينهم.
السادس : كافة للناس بالبشارة والإنذار وليس بالقتل والإقتتال.
السابع : كافة للناس عربيهم وأعجميهم، أبيضهم وأسودهم.
الثامن : كافة للناس بعرض ومرتبة واحدة.
التاسع : كافة للناس بما جاء به الأنبياء السابقون من أحكام الحلال والحلال.
العاشر : كافة للناس لزجرهم عن محاربتك وقتالك.
الحادي عشر : كافة للناس لتنمية ملكة الأخوة الإيمانية بينهم.
الثاني عشر : كافة للناس للزجر عن الكفر ومفاهيم الضلالة.
ومن فضل الله عز وجل على الناس بأجيالهم المتعاقبة حاجتهم ، مجتمعين ومتفرقين له سبحانه لأن وجود الإنسان من عالم الإمكان وهو وفق القياس الأقتراني :
الكبرى : كل ممكن محتاج .
الصغرى : الإنسان ممكن .
النتيجة : الإنسان محتاج .
وعندما يعجز الناس عن هداية أنفسهم ، وعن القيام بالأمر بالدعوة إلى الله والنهي عن الكفر وعبادة الأصنام ، يتفضل الله عز وجل بهدايتهم إلى سبل الرشاد، وهذه الهداية من اللطف وعالم الإبتلاء والإختبار الذي تتقوم به حياة الناس في الأرض فلا يحملهم قهراً على الإيمان وهو القادر عليه ، إنما يتفضل بالحجة والبرهان ، ويسلح النبي بالمعجزة .
وقد ورد (عن جابر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك . قلنا : يا رسول الله تخاف علينا وقد آمنا بك؟ فقال : إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد ، يقول به هكذا)( ).
ويختار الله عز وجل الأنبياء برتب سامية من جهة النسب والشأن والسجايا النفسية الكريمة، وفيه رأفة ولطف بالناس وتقريب لهم للإيمان ومنع من الإفتراء على الأنبياء , وفي التنزيل[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( )، لبيان مرتبة الأنبياء في حسن الخلق والصلاح , وصيرورته مقدمة ونوع طريق لهداية الناس .
ترى لماذا لم يجعل الله النبوة في الملوك ليحملوا الناس على الإيمان ويأمروهم بالفرائض العبادية .
لقد تفضل الله عز وجل بالإجابة على هذا السؤال في القرآن بقوله [اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ]( ) وقد ورد في السيرة النبوية كيف أن النبي محمداً كان يقضي الليالي المتتالية يتعبد في غار حراء ، وهو في حال انقطاع إلى الله ، ليكون الملك مناسبة لشدة الإمتحان ، فبهداية الملك إلى الإسلام يبقى له عرشه وسلطانه.
فمن خصائص الأنبياء عدم منافسة الملوك في عروشهم ، إنما يأتون لدعوتهم وقومهم إلى الإيمان ، ولو آمن فرعون بما جاء به موسى عليه السلام لبقى في ملكه وسلطانه .
لقد جاءت امرأة فرعون وهي آسيا بنت مزاحم لتسأله أن يهب لها موسى وهو رضيع، وأن لا يذبحه الذباحون الذين حينما سمعوا بأمره أقبلوا إليها بشفارهم يريدون ذبحه، فطلبت امهالها حتى تستوهبه من فرعون، وكما ورد في التنزيل [وَقَالَتْ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ] ( ) فاجابها فرعون: يكون قرة عين لك، وأما لي فلا حاجة لي فيه.
وعن ابن عباس (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : والذي يحلف به ، لو أقر فرعون بأن يكون قرة عين له ، كما قالت امرأته لهداه الله به ، كما هدى به امرأته ولكن الله – عز وجل – حرمه ذلك) ( ).
نعم قد يصل النبي إلى كرسي الملك ليتخذ منه وسيلة لإقامة السنن وأحكام الشريعة والفرائض.
ولم تكن مكة أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاضعة لملك وسلطان حكم مخصوص بل كانت بفضل الله بعيدة عن حكم السلاطين والدول العظمى آنذاك كالدولة الرومانية التي وصل حكمها إلى الشام ومنه الأردن ، والدولة الفارسية إذ نصّب كسرى نائباً له في اليمن واسمه باذان .
فليس من ملك تشكو له قريش شأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بل قاموا بذات أوامر السلطان التي تتصف بالقسوة والبطش للإنتقام من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ، ولم يكن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يحمل سيفاً وهو في مكة ، إنما يدعو الناس ويصرف أذاهم عنه ببركة آيات القرآن .
وعندما أشتد أذاهم لأصحابه لم يأمرهم بالدفاع والقتال ، إنما أمرهم بالهجرة إلى المدينة المنورة لوجود إخوان لهم من الخزرج والأوس والذين تلقوهم بالود وحسن الضيافة ، إذ فتحوا للمهاجرين بيوتهم وأسكنوهم معهم ، ليكون هذا الفعل الحسن مقدمة ومصداقاً لنزول قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ]( ) .
وورد (عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من نفّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر في الدنيا يسر الله عليه في الدنيا والآخرة .
ومن ستر على مسلم في الدنيا ستر الله عليه في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) ( ).
وصارت مكة تتناقل كل صباح أنباء هجرة عدد من المسلمين اذا لم يكن الأمر يتعلق بغياب او فقدان أفراد معدودين أو مغمورين منهم ثم يعلمون بعد حين بالجهة التي قصدوها ، إنما صار أهل مكة يتناقلون على نحو علني نبأ الهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة ، وأن المسلمين في كل منهما أعزة مكرمين نجّاهم الله من أذى كفار قريش ، وهو من المصاديق المتقدمة لنزول قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وأقيمت صلاة الجمعة في المدينة قبل قدوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليها.
وعن عبد الرحمن بن كعب بن مالك وكان قائد أبيه بعدما ذهب بصره أن أباه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحّم لأسعد بن زرارة فسأله عن علة هذا الترحم.
(قَالَ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَمَّعَ بِنَا فِى هَزْمِ النَّبِيتِ مِنْ حَرَّةِ بَنِى بَيَاضَةَ فِى نَقِيعٍ يُقَالُ لَهُ نَقِيعُ الْخَضِمَاتِ. قُلْتُ : كَمْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ قَالَ أَرْبَعُونَ) ( ) .
الأمر الذي جعل كفار قريش يزدادون حنقاً على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويدركون ما يتهدد مقاماتهم من الأخطار ، وامتنعوا أن يقروا بقانون جلي بأن الأضرار بالبقاء على الكفر والضلالة هي أشد وأمرّ ، وأنها السبب في جلب النحوسة والبلاء إليهم ، فعزموا على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأذن الله عز وجل له بالهجرة إلى المدينة ، وكان طريق الهجرة مليئاً بالأخطار ، وشاهداً على تمادي كفار قريش بالطغيان والفساد لملاحقتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة قتله في الطريق لولا فضل الله في جعل الحجب دون بلوغهم غايتهم ، ليبقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر ثلاث ليال في غار ثور ، وتأتيهم خفية أخبار قريش ويستطلع ما يقومون به لمنع هجرته ووصوله إلى المدينة .
وكان عامر بن فهيرة يرعى الغنم قرب جبل ثور فيأتي لهما في المساء باللبن خفية من عيون قريش ويطلعهم على أخبار الرصد وطلب قريش لهم .
وعامر بن فهيرة مملوك للطفيل بن عبد الله واشتراه أبو بكر منه فأسلم قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم ويدعو فيها إلى الإسلام ، وهو أسود اللون وصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هجرته إلى المدينة وشهد بدراً وأحداً وحنين .
واستشهد وهو ابن أربعين سنة في يوم بئر معونة في شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة أي بعد أربعة أشهر من واقعة أحد .
وقتله عامر بن الطفيل الذي رآى نوراً خرج منه مع أول طعنة طعنه بها .
و(قدم عامر بن الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قال له : من الرجل الذي لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء دونه ثم وضع فقال له : هو عامر بن فهيرة)( ).
وروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال حين خرج من مكة مهاجراً إلى المدينة توجه بالدعاء والشكوى إلى الله عز وجل .
(عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي ، فأسكني أحب البلاد إليك)( ).
والحديث ضعيف دلالة فلم ترد أحاديث أخرى تبين أن المدينة أحب عند الله من مكة إلا أن قلنا بالمجاز وإرادة العرض وأثر وموضوعية الحال في سنخية المحل ، وهو مدة إقامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة وتشرفها بالوحي والتنزيل وشخص خاتم الأنبياء ، وليس فيه تعارض مع قدسية مكة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها) ( ).
والمراد أن أشرف البقاع من سائر البلدان هي المساجد ، أما إذا أريد المعنى الخاص فاشرف البقاع مكة ، وأفضله عند الركن والمقام ، أما في المدينة فبين القبر والمنبر .
(عن محمد بن المنكدر قال : رأيت جابراً وهو يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول : ههنا تسكب العبرات ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) ( ).
إن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة حجة على الذين كفروا ، وفيه وعيد لهم بأن سخط الله عز وجل ينزل بساحتهم ، ومن سنة الله في الأرض البطش بمن يخرج المؤمنين من ديارهم لإيمانهم ، قال تعالى [أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ] ( ) .
وتدل الآية أعلاه على اضطرار المؤمنين للقتال ، وأن الكافرين هم الذين يختارون القتال ، والقتال نوع مفاعلة بين طرفين , أما الآية أعلاه فتدل على سنة أخرى في القتال تتقوم بطرفين :
الأول : طرف ظالم ويطلب القتال ، وهم الذين كفروا .
الثاني : طرف مدافع .
ويتصف بأمور :
أولاً : وقوع الظلم عليهم .
ثانياً : أخرجوا من ديارهم بغير حق .
ثالثاً : التمسك بالتوحيد وقول لا إله إلا الله .
رابعاً : مجئ النصر من عند الله للطرف الثاني أعلاه .
فان قلت قد ورد قوله تعالى[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) والذي يدل على التكافؤ ، والجواب لا يخرج تأويل الآية أعلاه من سورة الحج عن مضمون ودلالة الآية أعلاه من سورة آل عمران ، ليكون من معانيها وجوه :
الأول : يوم التقى الجمعان الظالم والمظلوم .
الثاني : يوم التقى الجمعان المؤمن والكافر .
الثالث : يوم التقى الجمعان الذين أخرجوا من ديارهم من مكة بغير حق ، والذين أخرجوهم منها .
الرابع : يوم التقى الجمعان تتقوم الحجة على الذين كفروا .
الخامس : يوم التقى الجمعان لينصر الله الذين آمنوا .
السادس : يوم التقى الجمعان فريق يقاتل دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودفاعاً عن أنفسهم ، وفريق يقاتل ظلماً وتعدياً وجوراً .
السابع : يوم التقى الجمعان لتتجلى معجزات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : يوم التقى الجمعان لبيان حدة التضاد والتناقض بين المؤمنين والذين كفروا .
التاسع : يوم التقى الجمعان لتأكيد تمادي الذين كفروا بالظلم ، قال تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ).
العاشر : يوم التقى الجمعان مقدمة وبيان لسنخية حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة الذين كفروا ، ليكون هذا اللقاء من مصاديق قوله تعالى [يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ]( ).
وأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الجمعة والسبت والأحد في غار ثور، وركب يوم الإثنين وأستأجر عبد الله بن أريقط الليثي ثم الديلي دليلاً ويقال: عبد الله بن اريقد بالدال ، ويقال : بقاف ، وكان عبد الله على دين كفار قريش، ولم يرد ذكره في الصحابة على (قول الذهبي في التجريد)( ).
لقد ألبس النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الهجرة بردته وهي الشملة المخططّة لعلي عليه السلام وأمره أن يبيت في فراشه وحينما جاء الرجال من قريش وكانوا من أشد فتيانهم وأكثرهم بطشاً ، خاصة وأن كثرة عددهم يدفعهم إلى التدافع لإنجاز ما أمروا به ، وليس في بني هاشم قوة لمواجهة قبائل قريش كلها ، وقد مات أبو طالب الذي كان كنفا وحصناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيضطر بنو هاشم لقبول الدية عن مقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكن [يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ] ( ).
فأخذوا يرمون علياً عليه السلام وهم يظنون أنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ علي يتضور ويتقلب على جنبيه .
وبقي المشركون يرقبون علياً في فراشه ، فلما أطلّت تباشير الصبح ثاروا عليه وهجموا هجمة رجل واحد ليقتلوه ، فلما رأوه علياً سقط في أيديهم ، فقالوا : أين صاحبك هذا .
ولم يقولوا أين النبي ولا أين محمد ، إنما أشاروا إلى الفراش لإرادة الذي يبيت فيه , ولعزمهم على قتله.
فقال : لا أدري .
عندئذ اجتهدوا في إقتفاء اثره ، وجاؤوا بالقافة .
القيافة عند العرب
القيافة تتبع الأثر والصفات البدنية للنظر في شبه الولد بابيه أو بأخيه , أو لكشف صاحب أقدام , ومعرفة طريقه ومحل وجوده , أو لتعيين صاحب فعل مخصوص بلحاظ أثر قدميه , والقيافة المصدر وتعني تتبع الأثر ، يقال قاف القائف فهو قائف قيافة .
وهو علم الإستدلال بالهيئة والصفات الشخصية ولون البشرة والقدمين على التشابه بين الآباء والابناء وعلى الصوت في النسب والولادة , وليس بحجة لعمومات قوله تعالى[وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ]( )، ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( الولد للفراش)( ).
وروى أحمد بأسناده: أن صفية كانت قد زنت برجل من الحمس، فولدت غلاما، فادعاه الزاني، فاختصما إلى عثمان بن عفان فرفعهما إلى علي بن أبي طالب، فقال علي : أقضي فيهما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الولد للفِرَاش وللعَاهِر الحَجَر” وجلدهما خمسين خمسين)( ).
وكانت بعض البيوتات والأفخاذ مختصة بهذا العلم مثل بني مدلج ومنهم سراقة الذي اقتفى أثر رسول الله صلى عليه وآله وسلم وأصحابه في طريق الهجرة إلى المدينة , وهم يتوارثون هذا العلم وكأنه لخصوصية وسنخية ينفردون بها لما فيه من قوة الفراسة .
ومن مفاهيم هذا العلم توثيق صلات الرحم ، وهو قائم على الظن والتخمين، وليس القطع واليقين ، وفيه عز وفخر للمرأة التي تلد الذي يشبه أباه وزجر للنساء من الزنا والحمل غير الشرعي ، وذل وتبكيت للتي تلد من لا يشبه آبائه بشئ من هيئتهم .
ومنهم من استدل على القيافة بقوله تعالى[تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ]( ) وعرف الفراسة (وهو الاستدلال بالحق الظاهر على الخلق الباطن ، وقد نبه الله تعالى على صدق هذا الطريق بقوله تعالى : {إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيات لِلْمُتَوَسّمِينَ}( ) وقوله تعالى: {تَعْرِفُهُم بسيماهم}( ) وقوله تعالى : {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ القول}( )واشتقاقها من قولهم : فرس السبع الشاة)( )، ولا أصل وموضوعية له .
والفراسة مصدر التفرس ، وهو التوسم .
وذكر أن الحكيم (اقليمون) كان صاحب فراسه ، ويدَعي أنه يعرف خصائص واخلاق الإنسان من رؤيته أو رؤية وجهه فاراد أحد السلاطين وكان معروفاً بالعفاف أن يختبره ، فطلب أن يرسموا صورته ، وكان اليونانيون مشهورين بدقة الرسم وضبط الملامح والتفاصيل ، لأنهم يعبدون الصور ، فيحرصون على إظهار وإتقان التفاصيل .
وأمر رجاله بأخذ الصورة إلى اقليمون ولا يخبرون عن شخصه , وكون الصورة تعود له .
فلما رآها اقليمون قال : هذا رجل عظيم الرغبة في الزنا ) أي لم يقل أنه زان ، ولكن أخبر عن رغبته واستحواذها على معاني وجهه ، فانكروا كلامه وحملوه على الجهل ، لما عرف عن هذا السلطان من صيانة نفسه ، فلما رجعوا إلى الملك وأخبروه بما قاله (أقليمون ) اندهش من فطنته .
وقال : صدق قد كنت ارغب بالزنا ولكني أصون نفسي عنه ، وقيل بأن الذي عُرضت صورته ليس السلطان ، إنما هي صورة بقراط أحضرها طلابه.
وقد حررت مسألة في رسالتي العملية وهي :
(مسألة 79) والقيافة محرمة ، قال تعالى [وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً]( ) (الأقوى حــرمة القيافة وهي الحــاق الولد بالوالــد والأخ باخيه بلحاظ آثار وعلامــات بدنية، والذي يعرف تلك الآثار يُسمى قائــف والجمع قافّـــة يُقال: قفت أثـــره أي تبعته، والحــرمة لعدم موضوعيتها شرعاً في الإلحاق الذي يكون عمدته النسب وعمومات الولد للفراش)( ).
وربما استدل بعضهم على الجواز لما ورد عن عائشة (قالت : كان أسامة بن زيد ، وزيد بن حارثة جميعا ، فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسرورا ، فقلت : ما لك يا رسول الله؟
قال : إن مجززا آنفا مر على زيد وأسامة ، فرأى أقدامهما ، فقال : هذه أقدام بعضها من بعض) ( ).
وقيل(إنما سمي مجززاً لأنه كان إذا أخذ أسيراً جز ناصيته ولم يكن اسمه مجززاً، هكذا قال: ولم يذكر اسمه)( ).
ولكن الحديث أعلاه لا يدل على جواز القيافة إنما هو لتمام الحجة ، وطرد الشك , لأن زيداً كان أبيض البشرة , وأسامة أقرب للأدم أخذ السواد من أمه أم أيمن .
وجاء العلم الحديث بالحامض النووي (DNA ) الذي يتصف بالدقة في تعيين النسب الصلبي خاصة بين الأب وابنه .
ولو أفرز هذا التحليل نتائج خلاف العقد الشرعي ، كما لو تبين أن جينات وصفات فلان لا توافق صفات والده ، إنما توافق جاراً لهم مثلاً كان يدخل على والدته أثناء غياب والده فهل يلحق به .
الجواب إنما يلحق بأبيه لعمومات الولد للفراش .
ولا يثبت في هذه الصورة والتحليل الزنا ولا إقامة الحد لأنه لا يتم إلا بأحد طريقين :
الأول : الإقرار .
الثاني : شهادة أربعة شهود رأوا فعل الزنا ، ولو ثبت الزنا فان الولد يبقى للفراش وينسب لأبيه ، ويحرم قذفه لعمومات قوله تعالى [ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ] ( ) ولأنه لا حرمة لماء الزاني ، نعم إذا كان الزوج لم يطأ امرأته اثناء المدة المحتملة للحمل وهي ما بين ستة إلى تسعة شهور ، وبضعة أيام قبل الولادة فحينئذ لا تنطبق عليه الولد للفراش ، ولا يصح القول بأن الزاني أبوه البايلوجي , فلا أصل لهذا الإصطلاح ، ولو كان الوطئ وطأ شبهة فانه يلحق بالواطئ شرعاً وعقلاً والعلم عند الله .
وموضوع القيافة والكهانة والعيافة والخط على الرمل متقارب ، وإن كان لكل منها خصوصية لكنها تجتمع بالظن والإخبار عن أمور من علم الغيب من غير بينة أو يقين مع إرادة كسب المال من الناس ، وقد حَرّم الإسلام الكهانة والخط على الرمل بأن يقوم الحازي أو غلام بين يديه بالخط على الرمل أو أرض رخوة بميل أو حديدة في يده , وهذا الخط على قسمين :
الأول : خط خطوط كثيرة وبسرعة كيلا تكون ذات عدد ، ثم يقوم الحازي بمحو خطين خطين على مهل ، وغلامه ينادي بصيغة التفاؤل ورجاء الأحسن في المستقبل
ابنى عيان أسرعا البيان
فان بقي خطان فهما علامة النجح ، وان بقي خط واحد فهو علامة الخسارة والندامة .
الثاني : خط ثلاثة خطوط على الرمل أو الأرض الرخوة التي تقبل الخط ، ثم الضرب عليهن ، بحصى أو نوى أو حبات من شعير أو حنطة ، وينظر مواقعهن بين الخطوط ، ويقول سيكون كذا وكذا ، وليس عنده علم من الغيب ، ولكنه يلحظ أحوال الناس ، ويتخذ من الحدس والفراسة والتوسم ونحوه وسائط للإخبار عن حال الشخص ، وقد يصيب وقد يخطأ ، لأن الله عز وجل أراد إنحصار علم الغيب به سبحانه , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] ( ) .
ويحتمل علم الغيب بلحاظ الآية أعلاه وجوهاً :
الأول : علم الغيب من مصاديق ملك الله للسموات والأرض , وفرع لهذا الملك .
الثاني : علم الغيب من رشحات علم الغيب .
الثالث : ليس من صلة بين علم الغيب وملك السموات والأرض .
والصحيح هو الأول , وقال تعالى [قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ] ( ) وقال تعالى[عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ]( ) لبيان إختصاص الإطلاق في الملك بالله عز وجل وأن ملكه سبحانه أمر مختلف عن معنى ملك واقتناء وحيازة الناس للأشياء ، ويكون هذا الملك من مصاديق قوله تعالى [يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ] ( ) .
لبيان أن أفراد علم الغيب ذاته أمر غير ثابت إنما يغيره ويبدله الله عز وجل بمشيئته ورحمته ودعاء وصلاح أهل الأرض ، ومنه بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإمتناع عن محاربته وقتاله .
لقد كانت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أعظم النعم على أهل الأرض، وتتجدد هذه النعمة بكل ساعة على أهل الأرض، وليس من حد أو رسم لأفراد هذا التجدد، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
ومن خصائص الإنسان ميله لاستقراء المستقبل ، ومداعبة رغائبه وحبه لموافقة الوقائع لآماله , وصرف البلاء وأسباب الخوف عنه .
(عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ السُّلَمِيِّ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قَالَ فَعَطَسَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَقُلْتُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُلْتُ وَا ثُكْلَ أُمِّيَاهْ مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيَّ قَالَ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ فَعَرَفْتُ أَنَّهُمْ يُصْمِتُونِي لَكِنِّي سَكَتُّ فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ بِأَبِي هُوَ وَأُمِّي مَا شَتَمَنِي وَلَا كَهَرَنِي وَلَا ضَرَبَنِي .
فَقَالَ إِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ هَذَا إِنَّمَا هِيَ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَوْمٌ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَمِنَّا رِجَالٌ يَأْتُونَ الْكُهَّانَ .
قَالَ : فَلَا تَأْتُوهُمْ . قُلْتُ : وَمِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ .
قَالَ : فَإِنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ يَجِدُونَهُ فِي صُدُورِهِمْ فَلَا يَصُدَّنَّهُمْ .
قُلْتُ وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ . قَالَ : كَانَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ , فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ
فَذَاكَ ) ( ).
ولا يدل الحديث على إباحة علم الرمل وتعليمه من جهات :
الأولى : ورد الحديث بصيغة الخبر عن فعل سيرة نبي من الأنبياء .
الثانية : تقييد النبي صلى الله عليه وآله وسلم صحة الخط على الرمل بموافقة خط النبي ، وهو أمر متعذر فينتفي المشروط بانتفاء شرطه .
الثالثة : كان الخط على الرمل معجزة لأحد الأنبياء , والظاهر أنه من مصاديق قوله تعالى [عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا]( ).
الرابعة : كان النبي يخط بالرمل فيخبر عن الأشياء بالوحي ليكون هذا الوحي نوع طريق لصلاح الناس ورجوعهم للنبي فيأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر .
ومن خصائص الأنبياء أنهم يأتون بما هو مشهور في زمانهم من العلوم والصنائع للتحدي وبيان المعجزة ، فيرى الناس أن إخبار النبي عن علم الرمل أمر مختلف ومباين لما يقوله الآخرون في ذات العمل .
نعم قد يصيبون أو يخطئون ، وحتى صوابهم إنما يأتي بالإتفاق او الفراسة أو سبب وأمارات ظاهرة شخصية أو عامة .
أما ما يقوله النبي فان الوقائع تأتي مثلما أخبر , فيكون هذا العلم طريقاً للهداية.
الخامسة : قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فمن وافق خطه فهو ذاك) يدل على تعذر هذه الموافقة ، ولزوم الإمتناع عن الخط .
السادسة : قد تقدم في حديث معاوية السلمي أنه أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه وقومه حديثوا عهد بجاهلية ، فأخبره النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حرمة الكهانة ونهاهم عن اللجوء إلى الكهان ، ومنعهم من الطيرة على نحو صريح .
وأخبر عن حرمة الخط بالرمل بصيغة السبر والتقسيم والإنكار ، وتعذر موافقة النبي لأنه يعمل بالوحي ، وكأنه قال لهم : أن الذين يخطون لا يستطيعون موافقة خط النبي فحرام عليهم الخط والرجوع إليهم .
لقد تفضل الله عز وجل على المسلمين بالقرآن والسنة والصدور عنهما ، والرجوع في الغيب واستشراق المستقبل بالدعاء والمسألة ، ويلحق بالخط على الرمل إدعاء قراءة الفنجان والكف والخشب ونحوه ، وقيل أن العلم في المقام عن طريق الجن ولا تصل النوبة إليه ، إنما هو إدعاء لا أصل له .
وجاءت بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتخليص الناس من اللهث وراء هذه الحماقات ، ومن تقييدهم بأوهامها وانفاق أموالهم بخصوصها أو بناء أسباب الظن والإنتقام من الغير بسبب الإخبار الذي يأتي عن طريق الكاهن أو العائف أو الزاجر للطير أو الضارب في الرمل .
وذكر الشافعي (150-204 )هجرية (767- 820 ) ميلادي أنه أراد دراسة الفراسة فسافر إلى اليمن في طلب كتبها , وولد الشافعي في غزة وانتقلت به أمة إلى مكة وعمره سنتان ، وكان كثير السفر ، فقد سافر إلى المدينة ، وارتحل إلى اليمن وعمل فيها وإلى بغداد سنة (184) هجرية وذكر أن الرشيد استدعاه مع تسعة اتهمهم والي نجران بأنهم علوية وقتل التسعة ونجا الشافعي بالحجة وشفاعة محمد بن الحسن الشيباني له بالعلم والمعرفة.
وطلب العلم عند القاضي محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة ، ثم عاد إلى مكة وأقام فيها تسع سنوات وتولى التدريس فيها، وعاد إلى بغداد سنة 195 ثم سافر إلى مصر سنة199 وأكمل كتابه الرسالة وتوفى في مصر .
وسافر الشافعي إلى مصر لبيان علومه وجذب الناس إلى أقواله ومذهبه إذ بلغه أن أهلها على فريقين ، فريق يتبع أبا حنيفة , وآخر يتبع مالك ، وكان يرد على مالك ويقول أنه بشر قد يخطئ وهو أمر لا يرضى به المالكية آنذاك ، أو لعلهم يحملونه على إرادة الإنتقاص من فقاهته ، فأجتهد علماء المالكية بالدعاء عليه وكان (أشهب بن عبد العزيز ( )يقول في سجوده اللهم أمت الشافعي فإنك إن أبقيته اندرس مذهب مالك فتعجب الشافعي من ذلك وأنشد
تمنى رجال أن أموت وإن أمت * فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى * تجهز لأخرى مثلها فكأن قد) ( ).
وصاح القاضي ابن المنكدر بالشافعي (يا كذا يا كذا، دخلت هذه البلدة وأمرنا ورأينا واحد، ففرّقت بيننا، ودعا عليه) ( ).
وفي مسألة الفراسة وتعلمها يذكر الشافعي انه قال : خرجت (إلى اليمن في طلب كتب الفراسة حتى كتبتها وجمعتها فلما حان انصرافي مررت على رجل في طريقي وهو محتبي بفناء داره أزرق العين ناتئ الجبهة سناط ( ).
فقلت له هل من منزل .
فقال : نعم . قال الشافعي : وهذا النعت أخبث ما يكون في الفراسة .
فأنزلني , فرأيت أكرم رجل بعث إلي بعشاء طيب وعلف لدابتي وفراش ولحاف.
فجعلت أتقلب الليل أجمع ما أصنع بهذه الكتب إذ رأيت النعت في هذا الرجل فرأيت أكرم رجل فقلت أرمي بهذه الكتب .
فلما أصبحت قلت للغلام أسرج .
وركبت ومررت عليه , وقلت له : إذا قدمت مكة فمررت بذي طوى فسل عن منزل محمد بن إدريس الشافعي .
فقال لي الرجل : أمولى لأبيك أنا .
قلت : لا .
قال : فهل كانت لك عندي نعمة .
فقلت : لا فقال : أين ما تكلفت لك البارحة .
قلت : وما هو .
قال : اشتريت لك طعاما بدرهمين وإداما وعطرا بثلاثة دراهم , وعلفا لدابتك بدرهمين وكراء الفراش واللحاف درهمين .
قلت : يا غلام أعطه ، فهل بقي من شئ .
قال : كري المنزل , فإني وسعت عليك وضيقت على نفسي .
قال الشافعي : فغبطت نفسي بتلك الكتب .
فقلت له بعد ذلك : هل بقي من شئ .
قال : امض أخزاك الله فما رأيت قط أشر منك) ( ).
أي مع أن الشافعي أعطاه كل ما يطلب من الأجرة , وكان يظن قيامه بالضيافة وهو المتبادر ، وأن الشافعي لم يصدر منه سوء , فقد قال له الرجل بعد أن استلم كل ما طلب لم أر أشر منك .
والمختار أن الفراسة وفق علامات الوجه والهيئة ليست تامة ، وقد ثبت في علم الإجتماع موضوعية البيئة والتربية في النشأة والسلوك إلى جانب الوراثة ، وقديماً قيل : الطبع يغلب التطبع ، والحبة تطلع على البذرة ، أي ذات الصفات التي في الأب تكون في الابن .
ولكن ذات التطبع والبيئة ، قد تغلب على الطبع ، وقد تصير ذاتها طبعاً ، إذ ليس من فواصل ثابتة ومسميات خاصة للطبع والتطبع ، ويدل فضل الله عز وجل يبعث الأنبياء والرسل على عدم موضوعية الفراسة في طبائع وأطلاق الناس .
وقد أنعم الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأثنى عليه سبحانه وقال [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) وأمر الله عز وجل المسلمين والمسلمات بالإقتداء به واتباع سنته , قال سبحانه [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) ليكون الإيمان طبعاً وتطبيعاً ومنهاجاً يغلب على العلامات التي يقول بها أهل الفراسة .
نعم ورد قوله تعالى[فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ]( ) والمراد الناظرون والذين يتفكرون في الآثار والشواهد والوقائع وفق قاعدة العلة والمعلول , والسبب والمسبب , وموضوعية مشيئة الله وانتقامه من الظالمين .
وورد عن ثوبان قال (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: احذروا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله وينطق بتوفيق الله)( ).
وقيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفراسة بالإيمان لبيان أنها أمر خاص بالمتفرس واستقرائه للحال والمستقبل ،وليس المتفرس به ، وإن كانت هناك موضوعية للأخير في ذات الفراسة ولكن بلحاظ القول والفعل .
ويقال توسمت فيه الصلاح أي رأيت ولحظت ميسم الصلاح والخير عنده والميسم السمة والعلامة .
لقد أراد الله عز وجل للمسلمين عدم اللجوء إلى الكهنة والمنجمين والعرافين والذين يورطون الناس في أفعال لا أصل لها ، أو يمنعونهم عن فعل الخير أو يحثونهم على تأجيل عمل صالح ينفع الفرد والجماعة والله عز وجل يقول [إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] ( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإرتقاء الفكري عند المسلمين، وحسن توكلهم على الله , وإدراكهم إنحصار علم الغيب به سبحانه، وهو الذي فتح باب الدعاء للنهل من فضله الذي ليس له حد أو منتهى.
لقد آثر العرب قبل الإسلام عبادة الأوثان فترشحت عنه الأخلاق المذمومة، والعادات القبيحة، فصار الغزو فيما بينهم وسبي النساء والأولاد موضوعاً للتفاخر، وأصبحت الأنساب وحفظها وتعاهدها في خطر، وتجلت الحاجة للإصلاح الذي لا يقدر عليه إلا الله عز وجل .
فلو نادى مطلح لعدوا عليه وقتلوه ولو أمر به ملك لأنقضى هذا الإصلاح بموته أو تنحيته أو قتله، فتفضل الله عز وجل ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقضاء على الغزو والنهي والسلب في الجزيرة وعموم أرجاء الأرض، فجاء بآيات القرآن لتكون معجزة عقلية حاضرة في كل زمان ومكان، فأختار الذين كفروا محاربته، وإرادة قتله في مكة، وعندما هاجر إلى المدينة قاموا بغزوها وعلى نحو متعدد، ليكون هذا الغزو حجة عليهم في ذاته لأنهم لم يرجعوا منه إلا بالخيبة والخسران، قال تعالى بخصوص معركة أحد[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
لقد كانت كل آية من القرآن حرباً على الكفر والكهانة والعيافة والقيافة ونحوها، وأوجدت طبائع حميدة عند الناس ملائمة للفطرة وتتقوم بالتوحيد، وقصد القربة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل من هذا الأمر والنهي زاجر عن الغزو والنهب والظلم وبرزخ دون الإقتتال .
أم معبد
تتعدد معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية في هجرته إلى المدينة وطريقه إليها ، وحين الحلول فيها ، ليكون التدبر فيها في أوانها وفي كل زمان دعوة للناس للهداية والإيمان والتذكير بوجوب عبادة الله .
فلم ينج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الهجرة وإلى حين الوصول إلى المدينة إلا بواقية ومدد من عند الله ، ليكون هذا المدد واللطف مقدمة لنزول الملائكة لنصرته في معركة بدر واحد ، وفي طريق الهجرة مرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أم معبد الخزاعية وقصة مرور النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها في طريق الهجرة خبر متواتر .
واسم أم معبد (عاتكة بنت خالد ) ( )واسم زوجها أكثم بن أبي الجون .
وكانت أم معبد برزة : أي أنها امرأة كبيرة في السن لا تحتجب عن الرجال كالفتيات والشواب ،وتحتمي بفناء الخيمة وتسقي وتطعم المسافرين لقاء أجر ،ويعرفها بعض المسافرين بين المدينة ومكة مثلما يعرفون مواضع الآبار ، فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وكان معه كل من :
الأول : أبو بكر .
الثاني : عامر بن فهيرة .
الثالث : عبد الله بن أريقط وهو الدليل .
وسألوها لحماً وتمراً بثمن وعوض ، فلم يجدوا عندها شيئاً ، (وقالت :والله لو كان عندنا شئ ما أعوزكم القرى ) ( ) أي لا تصل النوبة إلى الشراء ولاكرمناكم بالضيافة , لما رأت من الهيبة ونور النبوة على الطلعة البهية .
وكان زاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قد نفِد ، ليس عندهم شئ يأكلونه ،ليتجلى قانون وهو حضور المعجزة في حال الضرورة بما ينفع الذين حول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين وغيرهم .
ومن النعم الإلهية ما يصيب البر والفاجر , وهناك مسألة وهي هل معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة مقدمة لتصديق أهل المدينة ومن حولها بنبوته , والتخفيف عنه وعن المهاجرين الذين سبقوه إليها أو الذين سيفدون إليها بعد هجرته .
الجواب نعم ، وهو من فضل الله عليهم وأسباب التخفيف عنهم ، قال تعالى [وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ).
فنظر النبي إلى شاة في جانب من خيمة أم معبد فسألها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها .
(قَالَتْ شَاةٌ خَلّفَهَا الْجَهْدُ عَنْ الْغَنَمِ .
فَقَالَ : هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ ؟ قَالَتْ هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ) ( ).
أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيان مقدمات المعجزة الحسية ، وتثبيت الآيات في الطريق بين مكة والمدينة ، فمن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصاحبة المعجزة له ، فهي لا تغادره ولا تنفك عنه من جهات :
الأولى : نزول آية قرآنية.
الثانية : تحقق مصداق للآية القرآنية .
الثالثة : تجلي معجزة حسية سواء في قول وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بلحاظ فعل غيره من أثر ورشحات المعجزة ، وخصال النبوة التي ينفرد بها من بين أهل زمانه .
فقد أقرت أم معبد بخلو ضرع الشاة من الحليب من باب الأولوية لأنها عجزت عن السير مع الغنم إلى المرعى مع أن كلاً من المشي مع القطيع وقصد المرعى باعث على النشاط .
وهل تدرك الغنم في الصباح أنها تتوجه إلى المرعى أم لا تدركه حتى تكون في وسطه .
الأقوى هو الأول ، إذا كانت قد اعتادت على الذهاب إليه ، وعليه بنيت نظرية الإرتباط الشرطي في هذا الزمان ، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأم معبد :
(أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: نعم، بأبي أنت وأمي، إن رأيت بها حلباً!) ( ).
لقد خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم معبد بكنيتها وهي صيغة إكرام وتأسيس لأخلاق حميدة ، وهل هذه الأخلاق برزخ دون الخصومة والفتنة والإقتتال .
الجواب نعم ، وهذه البرزخية مقدمة لتدبر الناس في إعجاز القرآن والآيات الباهرات التي جاء بها من عند الله ، ولم يقم بحلب الشاة من غير إذن من المالك، مع أن ذات فعل حلب الشاة محبوب لإنتفاء الموضوع حسب الأسباب ، فدعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشاة لجلبها من كسر الخيمة ، فمسح على ضرعها وذكر اسم الله عز وجل وسأله البركة فيها (وقال: ” اللهم بارك لها في شاتها)( ).
لترى أم معبد أمراً مستحدثاً لم تشهده من قبل مع كثرة الناس الذي يمرون عليه سواء الذين يأتون قادمين من مكة أو من المدينة ويقصدون الحج أو العمرة أو التجارة والضرب في الأرض , أو الذين يأتون باتجاه المدينة , إلا أن يقال أن أهل بيعة العقبة قد مروا عليها وذكروا اسم الله واسم رسوله عندها ولكنها رأت المعجزة ومقدماتها في تلك الساعة .
ترى لماذا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم البركة لأم معبد في ذات الشاة، ولم يسألها في الشاة نفسها وصيرورة لبنها أعم وأكثر ، الجواب أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم النفع التوليدي لأم معبد في ذات الشاة وحليبها وثمنه ، وترشح أسباب العافية والغبطة على أم معبد منه .
ولتعم البركة شياه وماعز أم معبد الأخرى ، ولتدرك أم معبد أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وبعثته بركة للناس .
فاذا الشاة تفتح رجليها للحلب ، وتدر الحليب ، وتجتر أي تخرج من كرشها ما تمضغه .
ودعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم باناء كبير ليشربوا به الحليب ويشبعوا ويناموا ، وجرى منها لبناً كثيرة ، ملأ الإناء ، وابتدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأم معبد إذ سقاها حتى أرتوت ثم سقى أصحابه الذين معه وشرب هو آخرهم .
فأكثروا من شرب الحليب مرة بعد أخرى وأم معبد تنظر للمعجزة فآمنت بنبوته ، وقيل أنها بايعته تلك الساعة , وغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريقه إلى المدينة ، ونظرُ أم معبد يشيعه بالدعاء والشكر لله على نعمة مروره عليها ، مع الرغبة في إغتراف الناس من معين رسالته .
وبعد برهة عاد أبو معبد وهو يسوق أعنزاً عجافاً مهزولة ، يتمايلن من الضعف فاستغرب من أمر وجود الحليب في بيته ، فليس من طريق لإيجاد الحليب في بيته ، لقد إبتعدت تلك الشاة عن الرعي والمرعى منذ مدة ، ولا تحمل كي يكون عندها حليب، وليس من شاة حلوبة في البيت .
فأجابته أم معبد وأخبرته بمرور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم ، إذ ذكرته بصفاته الظاهرة التي تدل على الصلاح وما عنده من نور النبوة ، وقال لها أبو معبد : صفيه لي .
(قالت رأيت رجلا ظاهر الوضاءة( ) أبلج( ) الوجه حسن الخلق لم تعبه ثجلة( ) ولا تزريه( ) صعلة وسيم( ) قسيم( ) في عينيه دعج( ) وفي أشفاره عطف( ) وفي صوته صهل( ) وفي عنقه سطع( ) وفي لحيته كثاثة( ) أزج( ) أقرن( ) إن صمت فعليه الوقار( ) وإن تكلم سماه وعلاه البهاء أجمل الناس وأبهاه من بعيد وأحلاه وأحسنه من قريب حلو المنطق( ) فصل لا نزر ولا هذر( ) كأن منطقه خرزات نظمن( ) ربعة( ) لا بائن من طول ولا تقتحمه عين من قصر ( )عصنا بين عُصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا له رفقاء يحفون به( ) ان قال أنصتوا له وإن أمر تبادروا إلى امره محفود( ) محشود( ) لا عابس( ) ولا مفند( ) , فقال أبو معبد هو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة) ( ) , لبيان اسم آخر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو (صاحب قريش) ونال هذا الاسم بعض أهل القرى والبادية لأمور :
الأول : إنتساب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قريش .
الثاني : أعلان النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبوته في قريش .
الثالث : محاربة قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فإن قلت قد ورد الاسم بلفظ صاحب من الصحبة والرفقة .
والجواب المراد أعم وقد وردت الصحبة في القرآن مع التباين في السنخية والمبدأ كما في سورة يوسف [يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ] ( ).
الرابع : الدعوة العامة عند الناس للإطلاع على ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والتدبر في معجزاته .
وود أبو معبد أن يكون ممن يصحب الرسول ، وقال لأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً ، وتلك معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمع أنه خرج من مكة هارباً بدينه ونفسه فان الناس تهوى مصاحبته وإتباعه ، وتلقي الأوامر منه، ويزداد أتباعه وأنصاره وهو على ذات النهج بعدم الحث على القتال والحرب.
ليكون من معجزاته ومختصاته صلى الله عليه وآله وسلم أن صفاته تجذب المستمعين إليه وتجعل أفئدتهم تشتاق إلى رؤيته وصحبته، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ]( ).
وأخذ سراقة يلح على فرسه بالإسراع حتى رأى سوادهم ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قد ساروا اليوم وليلته وواصلوا المسير في اليوم الثاني إلى وقت الظهيرة فمالوا إلى ظل صخرة في الطريق تقيهم حرارة الشمس ، وليستريحوا بفيئها .
وقام أبو بكر ينظر هل من طلب وقوم يتعقبونهم ، فرآى راعي غنم فسأله : لمن أنت .
فقال : لرجل من قريش وذكر اسمه فعرفه .
فقال له : هل في غنمك من لبن ؟ قال نعم .
قال : هل أنت حالب لي ؟ قال : نعم .
فامسك بشاة ثم أمره أبو بكر بنفض ضرعها من الغبار( )، ثم نفض كفيه من الغبار، ومعه اناء صغير على فمه خرقة فحلب فيه قليلاً من اللبن ، فصبه في القدح حتى رد أسفله ووافاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد استيقظ فشرب منه ، ثم إرتحلوا وهم يعلمون أن قريشاً يطلبونهم ، وأخذ سراقة يقترب منهم ، وأبو بكر كثير الإلتفات حتى إذا كان بينهم وبين سراقة قدر رمح أو رمحين وعن أبي بكر أنه قال :
(يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا ! وبكيت، قال: لم تبكى ؟ قلت: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على سراقة فقال: ” اللهم اكفناه بما شئت “.
فساخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد، ووثب عنها, وقيل فركبها وساخت مرة أخرى , والأول أصح أي أنها ساخت مرة واحدة .
وفي رواية أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: “اللهم اصرعه” فصرعته فرسه ثم قامت تحمحم، ثم قال: مرني يا نبي الله بما شئت.
فقال: “قف مكانك ولا تتركن أحدا يلحق بنا”)( ).
وتوفى سراقة في السنة الأربعين.
وقال سراقة : يا محمد قد علمت أن هذا عملك
فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فو الله لاعمين على من ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر بإبلى وغنمى بموضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك , أي يكون سهمه علامة لرعاة أبله وغنمه ليعطوه ما يحتاج من الإبل أو الغنم أو هما معاَ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” لا حاجة لي فيها ” ودعا له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنطلق ورجع إلى أصحابه.) ( ).
أي لم يبق من المسافة بينهم وبين الطلب سوى ثلاثين إلى ستين متراً .
لقد كانوا أربعة وسراقة بمفرده فكيف يريد شدّ وثاقهم مع إحتمال قتالهم له ، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يكن معهم سلاح إلا سلاح التوكل على الله عز وجل ، ولما دنا سراقة منهم عثرت به فرسه ، فخّر منها وكادت أضلاعه تتهشم ، فمدّ يده إلى كنانته وأخرج الأزلام واستقسم بها أيقدم على الإضرار بهم, أم لا ، فخرج له ما يكره من عدم الإضرار بهم .
وكان سراقة دليل الغلمان الذين اجتمعوا من بطون قريش ومعهم عصيهم وهراواتهم يسعون خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم للبحث والتفحص والتفتيش عن مكانه عند خروجه من مكة ، لأن سراقة كان من القافّة فهو من مدلج وهم معروفون بالقيافة .
حتى إذا صاروا على بعد مائتي ذراع من غار ثور قال , الدليل (وهو سراقة بن مالك بن جعشم المدلجى : هذا الحجر ثم لا أدري أين وضع رجله) ( ).
فقال الفتيان: أنت لم تخطئ منذ الليلة.
حتى إذا أصبحوا قال: انظروا في الغار، فاستبقه القوم حتى إذا كانوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدر خمسين ذراعا، فإذا الحمامتان، فرجع فقالوا: ما ردك أن تنظر في الغار ؟ .
قال: رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار، فعرفت أن ليس فيه أحدأي أنه رآى أثر قدم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الحجر ، ولكنه لم يستطع تتبعه في التراب والرمل .
فأستغرب الفتيان من قوله ، وقالوا له : لم نعهد أنك تخطىء هكذا ، وعند الصباح نظر سراقة فيما حوله وتتبع الأثر فقال : أنظروا في الغار .
فتوجهوا صوب الغار الذي كان فيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وابو بكر حتى إذا صاروا على بعد خمسين ذراعاً منه أي نحو خمسة وعشرين متراً .
رجع سراقه فسألوه لماذا لم ينظر في الغار .
قال : رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار ، فعر فت عدم وجود أحد فيه ، ولم يكن وحده الذي رآى الحمامتين ، إنما أراد الله عز وجل رسوخ المعجزة في أذهان فتية قريش , ولتكون حجة عليهم , ومقدمة لإسلامهم .
وفي رواية الزهري(أرسل الله زوجاً من حمام حتى باضا أسفل النقب،
والعنكبوت حتى نسج بيتاً، فلمّا جاء سراقة بن مالك في طلبهما فرأى بيض الحمام وبيت العنكبوت، قال لو دخلاه لتكسر البيض، وتفسخ بيت العنكبوت، فانصرف،
وقال النبي: اللهم اعم أبصارهم فعميت أبصارهم عن دخوله، وجعلوا يضربون يميناً وشمالاً حول الغار)( ) .
وسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلامهم ، فعلم أن الله عز وجل تفضل بحفظه ، ودرء البلاء عنه ليأخذ الجائزة الكبرى من قريش , وفي رواية عن الواقدي كان كرز بن علقمة .
فسمت( ) النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الحمامتين ودعا لهما بالبركة، فأرسلهما الله عز وجل عند الحرم وأفرخا فيه , وهذا الحمام الذي في الحرم من نسل تلك الحمامتين ، ليراه حجاج وعمار بيت الله الحرام في كل طبقة وجيل ،
وجاء هذا الزمان ليراه المسلمون والناس عبر الفضائيات ونحوها ، فيذكرهم بهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من المعجزات ومصاديق البركة وكيف أنه يتجنب القتال ، وحتى حمل السيف مع أن القوم يطلبون ويريدون قتله .
لقد أدرك سراقة المعجزة ، وهو من رشحات دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتصديق برسالته وهو في مكة ، فصحيح أن أكثر أهلها بقوا على الشرك والتزلف إلى الأصنام يومئذ إلا أنهم أدركوا حقيقة النبوة , وأخذوا يتدبرون في الآيات والشواهد التي تدعو إلى التوحيد , وإتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي يدل عليه قوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً]( ) .
ومنهم من دخل الإسلام ومنها من صار متردداً , ومنهم من أصر على الحجة قال تعالى[وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ]( ), وهذا الإدراك من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً , ويتعلق تفاوته بالقابل إذ أن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعمة عليهم جميعاً , وهي جليلة وظاهرة للعقل والحواس .
فلم يأت الإيمان لهذه الأفواج كلها دفعة ومرة واحدة ، فكان سراقة من أهل مكة ويرى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ويسمع آيات القرآن التي نزلت عليه ، ولكنه ممن أصر على الكفر ، ثم طمع بجائزة قريش وهي دية كاملة مائة بعير ثمن القبض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولكنه أدرك أن علة سيخ أرجل فرسه بالتراب بمعجزة وأنه عاجز عن القبض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، حينئذ نادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو له ، ويجعل فرسه تنهض والا فانه يبقى في مكانه حتى ينفذً زاده ويموت ، خاصة وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتخذ الجادة العامة في مسيره التي تسير فيها القوافل , وما يحتمل معه مرور الركبان على سراقة وحمله معهم أو تزويده بالطعام والشراب له ولفرسه في طريق العودة إلى مكة بينما لم يخش النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجوع والعطش في طريقه مع قلة سالكيه لمصاحبة المعجزة له ,وإنتفاعه ومن معه من فيوضاتها .
وهل امتنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الدعاء له ليكون عبرة لغيره وشاهداً حاضراً على صدق نبوته ، والإنتقام ممن يريد إلحاق الضرر به .
الجواب لا ، فلم يأت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا للرحمة ونشر شآبيب العفو والتسامح بين الناس لتكون طريقاً لسؤال العفو من عند الله ، ومناسبة لتنمية ملكة الإستغفار ، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال : (أربع من كن فيه لم يهلك على الله بعدهن إلا هالك : يهم العبد الحسنة فيعملها فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة , بحسن نيته ، وإن هو عملها كتب الله له عشرا .
ويهم بالسيئة أن يعملها فإن لم يعملها لم يكتب عليه شئ وإن هو عملها أجل سبع ساعات، وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات( ), وهو صاحب الشمال: لا تعجل عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها، فإن الله يقول: [إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ]( ), أو الاستغفار، فإن هو قال: “أستغفر الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، العزيز الحكيم ،الغفور الرحيم ذو الجلال والاكرام وأتوب إليه ” لم يكتب عليه شئ، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة ولا استغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات: أكتب على الشقي المحروم)( ).
لقد قام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء لسراقة، فنهضت فرسه، وأصلح حاله في آية في النبوة بالدعاء للعدو إن نسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وتجلي الإستجابة من عند الله عز وجل في الحال لتكون سبباً لهدايته ومن خلقه .
وأطلع سراقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يريده الناس به وبأصحابه وأنهم جادون في طلبهم , ويجعلون الجعل والجوائز لمن قتلهم أو قبض عليهم ، وكلما تقدم الوقت تزداد قيمة هذه الجوائز .
لقد أنعم الله عز وجل على قريش بالتجارة والكسب لتكون هذه الأموال مسخرة في طاعة الله أو لا أقل تقابل بالشكر منهم على جوار البيت وتعدد النعم ، ولكنهم جعلوها في محاربة النبوة والتنزيل, قال تعالى[ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ]( ).
وأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخفي أمرهم , ويصدر الناس عن اتباعهم والسعي للحوق بهم .
وأدرك سراقة أن النصر حليف النبي وأنه قادم على نحو القطع فسأله أن يكتب له كتاب موادعة وأمان, قال سراقة : فسألته ان يكتب لي كتاب امن فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي في رقعة من أدم)( ).
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية أن سراقة هذا كان في أول النهار يجتهد في طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وصار في آخره حارساً له يقول للذين خرجوا في طلب النبي : قد كفيتكم ما ها هنا فسحت وذهبت بعيداً فلم أره ولا أصحابه وسألت فلم أجد جواباً , وكان سراقة محل ثقة كفار قريش من جهات :
الأولى : إنه على دين الكفر والضلالة الذي هم عليه .
الثانية : سراقة من القافةٍ الذين يتبعون الأثر .
الثالثة : خروج سراقة مع غلمان وشباب قريش للبحث والتفتيش عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حول مكة , وكان سراقة هو دليلهم .
الرابعة : طمع سراقة بالجائزة التي خصصتها قريش لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وأخفى سراقة الكتاب عن قريش لما فيه من الإقرار الضمني بظهور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ورجحان دخوله مكة فاتحاً وهو الذي تم بفضل من الله عز وجل .
وقد سمع أبو جهل بقصة سراقة وكيف أنه عرض على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كنانته وأن من أسباب سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووصوله إلى يثرب هو ومن معه قيام سراقة برد الطلب عنه بسبب ثقتهم به، فقال أبو جهل مخاطباً بني مدلج وهم قوم سراقة:
بنى مدلج إني أخاف سفيهكم سراقة مستغو لنصر محمد
عليكم به ألا يفرق جمعكم فيصبح شتى بعد عز وسؤدد)( ).
وكان سراقة بن مالك شاعراً فقال لأبي جهل :
(أبا حكم والله لو كنت شاهداً … لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمداً … رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
عليك بكف القوم عنه فإنني … أرى أمره يوماً ستبدو معالمه
بأمر يود الناس فيه بأسرهم … بأن جميع الناس طراً يسالمه)( ).
وفي معركة بدر وعندما تقابل الجيشان ، نزل جبرئيل بخمسمائة من الملائكة مجنبة وميكائيل في خمسمائة من الملائكة مجنبة، فجاء إبليس في جند كأنهم من بني مدلج وهو في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لأنه من أشراف كنانة ثم بني مدلج لذا يسميه بعضهم سراقة بن مالك بن جعشم الكناني المدلجي.
فقال للمشركين أنا جار لكم، ولا تأتيكم كنانة من خلفكم بما تكرهون لأنهم كانوا يخشونها[لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ]( ).
وعن ابن عباس: فلما اصطف القوم , قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره وكأنه من المباهلة , فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه فقال: يا رب إن تهلك هذه العصابة في الأرض فلن تعبد في الأرض أبداً . فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب فأرم به وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تلك القبضة فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السلام فلما رآه إبليس , وكانت يده في يد رجل من المشركين، انتزع إبليس يده ثم ولى مدبراً وشيعته .
فقال الرجل: يا سراقة أتزعم أنك لنا جار؟ فقال : إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله والله شديد العقاب، فذلك حين رأى الملائكة)( ).
وعندما رجعت قريش من معركة بدر أقبلوا على سراقة بن مالك يلومونه فأظهر جهله بالأمر وأكد لهم أنه لم يخرج إلى معركة بدر ولم يحضرها، فعلموا أنه الشيطان , فكان إنذاراً آخر لهم، وسبباً لإسلام بعضهم , ليكون من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إجتماع أمور :
الأول : توالي الإنذار للناس من الجحود بنبوته , وفي التنزيل[فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا]( ).
الثاني : إسلام طائفة من الناس مع كل إنذار، وهو شاهد على أن هذه الإنذارات معجزة حسية له.
الثالث : الإنذار النبوي سلاح أمضى من السيف، وهو من الدلائل العقلية والشواهد الواقعية على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يلجأ إلى القتال والسيف في نشر الإسلام، والله عز وجل هو الذي هدى القلوب للإيمان.
وقد قال حسان بن ثابت في أبيات:
سِرْنَا وَسَارُوا إلَى بَدْرٍ لِحَيْنِهِمْ … لَوْ يَعْلَمُونَ يَقِينَ الْعِلْمِ مَا سَارُوا
دَلّاهُمْ بِغُرُورٍ ثُمّ أَسْلَمَهُمْ … إنّ الْخَبِيثَ لِمَنْ وَالَاهُ غَرّارُ
وَقَالَ إنّي لَكُمْ جَارٌ فَأَوْرَدَهُمْ … شَرّ الْمَوَارِدِ فِيهِ الْخِزْي وَالْعَارُ
ثُمّ الْتَقَيْنَا فَوَلّوْا عَنْ سَرَاتِهِمْ … مِنْ مُنْجِدِينَ وَمِنْهُمْ فِرْقَةٌ غَارُوا)( ).
وأخرج عن الحسن البصري(أن سراقة بن مالك المدلجي حدّثهم قال : لما ظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أهل بدر وأحد، وأسلم من حولهم قال سراقة : بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج ، فأتيته فقلت: أنشدك النعمة . فقالوا : مه .
فقال: دعوه ، ما تريد ؟ .
قلت : بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم ، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام ، وإن لم يسلموا لم تخشن لقلوب قومك عليهم . فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيد خالد , فقال : اذهب معه فافعل ما يريد .
فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم، ومن وصل إليهم من الناس كانوا على مثل عهدهم فأنزل الله{ودوا لو تكفرون} حتى بلغ {إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق}( ) فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم)( ).
ومات سراقة بن مالك في السنة الرابعة والعشرين للهجرة , وقيل نحو السنة الأربعين, والأول أصح .
ومرت الأيام والأشهر سريعة وهي ملأى بالنصر للإسلام حتى تم فتح مكة ومعركة حنين والطائف , فخرج سراقة قاصداَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحضر معه الكتاب ولقيه بالجعرانة ، ودخل بين كتائب الأنصار ، وهم يقرعونه بالرماح ويقولون إليك إليك ، ولكنه أخذ يقترب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا صار قريباً منه رفع يده بالكتاب .
وقال : يا رسول الله هذا كتابك لي ، وأنا سراقة بن مالك ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا يوم وفاء وبر أدنه .
قال سراقة : قَالَ فَدَنَوْت مِنْهُ فَأَسْلَمْت. ثُمّ تَذَكّرْت شَيْئًا أَسْأَلُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَنْهُ فَمَا أَذْكُرُهُ إلّا أَنّي قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ الضّالّةُ مِنْ الْإِبِلِ تَغْشَى حِيَاضِي ، وَقَدْ مَلَأْتهَا لِإِبِلِي ، هَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ فِي أَنْ أَسْقِيَهَا ؟ قَالَ نَعَمْ فِي كُلّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرّى أَجْرٌ قَالَ ثُمّ رَجَعْت إلَى قَوْمِي ، فَسُقْتُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَدَقَتِي)( ).
أي حالما أسلم سراقة بادر إلى إخراج زكاة أمواله من الإبل والغنم, وأراد من لفظ صدقتي: زكاته لقوله تعالى[خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا]( ), ليفيد الجمع بين الآية أعلاه وآية الصدقات بقوله تعالى[إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ), أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يستلم الزكوات ثم يوزعها في أصناف مخصوصة .
وهل يدل هذا الجمع على نوع رقابة من الأمة على فعل وكيفية صرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأموال الزكاة .
الجواب لا , للعصمة ومنزلة النبي , واتصاف فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعدالة والصحة , وعدم صرف الزكاة في غير مواردها , كما أن الجمع بينهما مناسبة لعمل العلماء والحكام المسلمين بأموال الزكات وإلى يوم القيامة .
ومن الإعجاز أن هذه الشواهد والوقائع التي لاقت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعثته تختتم بخير وغبطة .
وتكون من دلائل النبوة يتدبر فيها المسلمون والناس عامة ، ليستقرأوا منها المسائل والمواعظ ويشكروا الله من جهات:
الأولى : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : تجلي المعجزات لعامة الناس .
الثالثة : تدبر الناس في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : التواتر في نقل هذه الشواهد وكثرة الذين يتناقلونها من المسلمين ومن الكفار بما يبحث على الوثاقة بها .
فإن قلت كيف تأتي الوثاقة عن طريق الكفار , الجواب لأنهم يذكرون ما أصابهم من البلاء والأذى بسسب كفرهم ويروون الشواهد والدلائل التي تدل على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وليكون من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحسية إقرار الذين كفروا بمعجزاته .
الخامسة : هداية أولي الألباب للإيمان .
السادسة : حصول الشقاق والخصومة بين أهل الكفر والضلالة .
السابعة : النقص في عدد أتباع رؤساء الكفر في مقابل الزيادة في عدد المسلمين.
الثامنة : سلامة وعز الذين دخلوا الإسلام ونصروا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم .
وتتجلى في كتب السيرة المنزلة الرفيعة التي نالوها بين الأجيال المتعاقبة من المسلمين ، وقد أثنى عليهم القرآن في آيات عديدة منها التي ذكرتهم بصفتي الهجرة والنصرة ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]( ) .
وهل تدل الآية أعلاه على صيغة العموم في تقدم إيمان المهاجرين لأن الله عز وجل قدم ذكرهم في الآيات التي قرنت بينهم وبين الأنصار ، الجواب لا ، فلا يدل التقديم وفق الترتيب اللفظي على التقديم في المرتبة أو زمان الإيمان خاصة مع إشتراك صفة الهجرة والنصرة في السبق والأولوية إلا أن يقال بحصر المهاجرين بالذين أسلموا في مكة قبل بيعة العقبة الأولى وهذا ما لم يقل به أحد .
ولكن وجود نفر من أهل البيت والصحابة آمنوا قبل الأنصار من أسباب هذا التقديم ، ولبيان قانون وهو أن الإيمان بدا وتجلى في مكة قبل إنتقاله إلى المدينة .
(عن أنس بن مالك قال أنزلت النبوة على رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم يوم الاثنين وبعث يوم الاثنين وأسلمت خديجة يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء ليس بينهما إلا ليلة)( ).
وقد ماتت خديجة قبل الهجرة وكذا بعض المسلمين ، ومنهم من قُتل أثر التعذيب الشديد من قبل قريش .
وهل لهؤلاء موضوعية في تقديم اسم المهاجرين على الأنصار في القرآن، أو أثر في دخول الأنصار الإسلام الجواب قد تم الإيمان والهدى بفضل الله ومن إيمان السابقين , خاصة مع محاربة كفار قريش للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بما فيهم عمه أبو لهب , فقد أدرك وفد الأوس والخزرج إلى موسم الحج قبل وبعد بيعة العقبة أموراً :
الأول : صدق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في نبوته.
الثاني : لزوم نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : شدة عداوة كفار قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
الرابع : حاجة أحكام النبوة لهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لبيانها وظهورها، وحسن التبليغ.
الخامس : وجود أمة وأهل بلدة يأوون ويمنعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويدفعون عنه الأذى, قال تعالى[وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ]( ).
السادس : دعوة الأوس والخزرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للهجرة إلى يثرب.
السابع : تجلي الخير والبركة والرفعة بإيواء ونصرة النبي محمد صلى الله وآله وسلم أي أن الأوس والخزرج أدركوا أن هذا النصرة غنيمة، وليس من حصر للمنافع ومصاديق الفيض التي فاز بها الأوس والخزرج وابناؤهم من إيواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنها ما كانت حاضرة وعاجلة , ومنها ما يستحدث أو يتجدد إلى يوم القيامة.
ومن النعم الحالة على أهل المدينة ببركة قدوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان بين الأوس والخزرج ضغائن وخصومة وقتال يتكرر بين الحين والآخر يقتل فيه رجال كثيرون منهم، فألفّ الله عز وجل بينهم بالإسلام وهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذكر أن قوله تعالى[هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
وصار سراقة بن مالك بن جعشم ممن يروي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخرج في بعض السرايا ، فمما رواه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له (ألا أخبرك بأهل الجنة وأهل النار . قلت : بلى يا رسول الله .
قال: أما أهل النار فكل جعظري( ) جواظ ( ) مستكبر وأما أهل الجنة فالضعفاء المغلبون( ).
وروى عنه من الصحابة ابن عباس، ومن التابعين سعيد بن المسيب وابنه محمد بن سراقة ومما رواه سراقة ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: يا سراقة ألا أدلك على أعظم الصدقة؟ قال : بلى يا رسول الله.
قال: إن ابنتك مردودة إليك ليس لها كاسب غيرك)( ).
وعن الحسن البصري: أن عمر بن الخطاب ( أتي بفروة كسرى فوضعت بين يديه وفي القوم سراقة بن مالك ، فأخذ عمر سواريه فرمى بهما إلى سراقة ، فأخذهما فجعلهما في يديه فبلغتا منكبيه فقال : الحمد لله سوارا كسرى بن هرمز في يدي سراقة بن مالك بن جعشم ، أَعرابي من بني مدلج .
ثم قال : اللهم إني قد علمت أن رسولك قد كان حريصاً على أن يصيب ما لا ينفقه في سبيلك , وعلى عبادك فزويت عنه ذلك نظراً منك وخياراً ، اللهم إني أعوذ بك أن يكون هذا مكراً منك بعمر ثم تلا {أيحسبون أَنما نمدهم به من مال وبنين ، نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون})( ).
وقد يتبادر إلى الذهن في قراءة قوله تعالى[فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ]( ) أن الأفئدة تهوى إلى البيت الحرام ويكون من تقدير الآية (فاجعل افئدة من الناس تهوي إليه).
(وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم، عن الحكم قال : سألت عكرمة وطاوساً وعطاء بن أبي رباح عن هذه الآية فقالوا: البيت تهوي إليه قلوبهم يأتونه . وفي لفظ قالوا : هواهم إلى مكة أن يحجوا)( ).
ولا يتعارض هذا المعنى مع الفيض الذي يتجلى على القلوب بهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة, ومعاني صيغة[تَهْوِي إِلَيْهِمْ]( ) إذ تميل القلوب واصغى الأسماع إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حله وترحاله ، ويكون ميل الناس إليه مقدمة لإيوائهم له ولأهل بيته وأصحابه ونصرته ويكون من معاني الآية أعلاه وجوه :
الأول : دعوة الأوس والخزرج النبي للهجرة إلى بلدهم.
الثاني : انتفاء الملل والضجر عند الأوس والخزرج من طيلة اقامة المهاجرين بينهم .
الثالث : ميل الأفئدة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم برزخ دون حشد الكفار لعامة الناس ضد النبوة والتنزيل .
الرابع : بعث السكينة في نفوس المسلمين لإختيارهم حب الله وحب رسوله، وفي المثل : إذا فزع الفؤاد ذهب الرّقاد.
لقد اختار المسلمون سبيل الارشاد والهدى والإيمان، وهو من مصاديق قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
ويأتي الفؤاد بمعنى القلب ووظيفته، وهما مما إذا اجتمعا افترقا واذا افترقا إجتمعا ، وورد جمعها في القرآن والسنة، قال تعالى[وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
وتدل الآية أعلاه على أن الفؤاد ليس وظيفة القلب إنما هو محل ينشغل بالحزن والفرح والهمّ بالفعل أو الإمتناع عنه.
وعن عقبة بن عامر قال (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: أَهْلُ الْيَمَنِ أَرَقُّ قُلُوباً وَأَلْيَنُ أَفْئِدَةً وَأَنْجَعُ طَاعَةً)( ).
وهل قوله تعالى[فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ]( ) شاهد على عدم حاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للغزو والهجوم ، الجواب نعم ، اقتداء بإبراهيم واسماعيل اللذين قاما بدعوة الناس إلى حج بيت الله الحرام.
وهذه الدعوة وحدها حرب على الشرك ومفاهيم الضلالة ، ولكن تعاقب الأزمنة وإغواء الشيطان وميل الناس إلى اتباع الهوى أسباب أدت إلى ظهور عبادة الأصنام حتى وصلت إلى البيت الحرام .
لتكون من الشواهد على الحاجة لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : العقيدة، ولزوم خلو عقائد الناس من مفاهيم الشرك والضلالة خاصة مجاوري البيت الحرام وذرية إبراهيم.
وهل هذه الخصوصية من الأولوية في قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، أم ليس من أولوية في وجوب العبادة على الناس عامة وكلهم في عرض واحد , وهو المتبادر من الآية أعلاه .
الجواب هو الأول، والحجة على ذرية إبراهيم أكبر من غيرهم في لزوم التقيد بسنن التنزيل.
الثانية : أمور الحكم والسلطة، فلا بد أن يحكموا وفق الشرائع السماوية ليسود العدل ويكون نوع طريق لتقيد الناس بعبادة الله، ولغبطتهم وسعادتهم بالحياة الدنيا، التي جعلها الله رحمة لهم، ودار رغد وتوالٍ للرزق، وهو من مصاديق الخلافة في قوله تعالى[إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، إذ أن الخلافة سبب لنزول النعم، وإخراج الأرض لخزائنها.
الثالثة : حال المجتمع والصلات فيه، إذ أنها لا تتقوم إلا بسنن التوحيد وشرائع النبوة، وما فيها من نشر شآبيب الإحسان الوقاية من الظلم والجور والتعدي.
وحينما جاء الإسلام وهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة آخى بين أصحابه من المهاجرين والأنصار ، وقال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) لبيان قانون يحكم الصلات بين أهل الأرض وهو أن ذات الإيمان سبب للود والرأفة ، وبرزخاً دون الفتنة والقتل والإقتتال .
والآية أعلاه شاهد على لزوم عصمة المسلمين من الإقتتال فيما بينهم ، وهي زاجر للذين كفروا من التعدي والإعتداء عليهم بلحاظ كبرى كلية وهي أن الأخوة بينهم عامل قوة ومنعة ، وهي من مصاديق العز في قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
الخامس : واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ليتحلوا بالصبر ويخلصوا العبادة لله ، قال تعالى [وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ]( ).
لقد تجلى في طريق هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة قانون ميل القلوب إليه كرسول من عند الله ، إذ كانت صفاته تدل على نبوته وتجذب الناس إلى الإنصات إليه ، وهو برزخ دون صيرورة القتال طريقاً للهداية ، فلا تصل النوبة إليه ، فان قلت قد ورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء : نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل التراب لي طهوراً ، وجعلت أمتي خير الأمم ) ( ).
والجواب من جهات :
الأولى : لا ملازمة بين الرعب والقتال .
الثانية : الرعب والفزع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم زاجر للكفار من القتال ومن المناجاة به .
الثالثة : اقتران الرعب في الحديث أعلاه بصيرورة مفاتيح الأرض بيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فلابد أن يتم فتح مكة سواء وقع قتال أو لم يقع، وقد جاء القرآن بكراهة القتال .
الرابعة : دلالة الحديث على تنجز نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرعب وحده ، وليس بكونه مقدمة للقتال .
الخامسة : من خصائص [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة ، ومن واجبات الناس أزاءها الإكرام والإنصات والتعلم والمحاكاة في فعل الخيرات .
السادسة : من معاني قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء) وجوه :
الأول : التخفيف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في قلة القتال .
الثاني : تحقق النصر للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتفضل الله بقذف الرعب والفزع في قلوب الذين كفروا ، وهو الذي تجلى في صلح الحديبية ، لذا ورد القول بأنه فتح: (عن أنس، قال: لمّا رجعنا من غزوة الحديبية، قد حيل بيننا وبين نسكنا، فنحن بين الحزن والكآبة، فأنزل الله تعالى عليه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}( ) فقال رسول الله: لقد نزلت عليَّ آية هي أحبُّ إليَّ من الدُّنيا جميعاً)( ).
الثالث : أخبر القرآن عن قتال شطر من الأنبياء هم وأصحابهم ، قال تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
فقد تضمنت الآية أعلاه قتال الأنبياء وأصحابهم وصبرهم وعصمتهم من الوهن والضعف والخور والقعود عن الدعوة إلى الحق ولكنها لم تذكر نصرهم وإن كانت تدل عليه بالدلالة الإلتزامية خاصة وأنها أختتمت بقوله تعالى [وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) وذات حب الله للفرد والجماعة والطائفة مدد وعون وسبيل إلى النصر.
ليكون من الإعجاز رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تلاوة كل مسلم ومسلمة قوله تعالى[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) ليكون من معاني الصراط سؤال حب الله ،والسعي إليه ، والإمتناع عن الحواجز التي تحجبه من فعل المعصية ولحمل السيئة ، ومن التقصير والإبطاء في فعل الخيرات .
وهل من [الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) الغنى عن الغزو والهجوم على الغير ، الجواب نعم من جهتين :
الأولى : إنقطاع المؤمنين إلى العبادة وتعاهد سنن التقوى، قال تعالى[وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]( ).
الثانية : ميل عامة الناس إلى الإيمان , وبعث النفرة في نفوسهم من مفاهيم الكفر والضلالة وأمتناعهم عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد استطاعت قريش تحريض وحشد كثير من القبائل ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة أحد، وفي شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، إذ جاءوا بثلاثة آلاف رجل ، وتعجلوا فيها لتكون قبل شهر ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم .
ثم جاءوا بعشرة آلاف رجل في معركة الخندق التي وقعت بعدها ، ومن القبائل التي اشتركت في الهجوم على المدينة :
الأولى : الأحابيش .
الثانية : غطفان .
الثالثة : كِنانة إذ خرج مُسافع بن عبد مناف من رجال قريش يحرضهم على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : تِهامة ، إذ خرج إليهم صفوان بن أمية ومعه أبو عزّة الشاعر يثير فيهم النخوة لمحاربة النبوة والتنزيل .
ولكن عندما خرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة لفتحها بعد أن نقضت قريش العهود لم تفزع القبائل لنصرة قريش مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل إلى ديارهم وقصدهم في منتدياتهم ، وتدل تسمية الله عز وجل لمكة بأم القرى كما في قوله تعالى [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ).
على أمور :
الأول : دخول أفراد القبائل الإسلام عند بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة .
الثاني : دخول الناس الإسلام عند فتح مكة .
الثالث: لا ملازمة بين تسمية مكة أم القرى وبين تبعية الناس والقبائل لحال البعثة النبوية فيها أو تنجز فتحها .
والصحيح هو الأول والثاني بلحاظ أن دخول الناس الإسلام على نحو تدريجي وعلى أوقات متعاقبة وأحوال متعددة ، وهو من أسرار نزول القرآن نجوماً وحدوث أسباب لنزول آيات القرآن .
ليتجلى مصداق هذا الدعاء في شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نبوته ورسالته فتهوى إليه قلوب المؤمنين وشطر من الناس من غيرهم ، أي لا يختص الميل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمؤمنين بنبوته بل هو أعم ويشمل غيرهم من الناس سواء من المستضعفين أو الذين لم يؤمنوا به ، أو يترددون في ترك ما ورثوه من آبائهم من المفاهيم ، ويأتي هذا الميل في ذات الوقت الذي يحارب فيه كفار قريش ومن والاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليكون واقية من إجتماع أهل مكة والقبائل عليه .
وبين الناس الذين تذكرهم الآية أعلاه بقوله تعالى [أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ] ( ) وبين المسلمين عموم وخصوص مطلق ، أي أن الناس الذين يميلون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته وآيات القرآن يتألفون من :
الأول : المسلمون .
الثاني : المسلمات .
الثالث : طوائف من النصارى وأهل الكتاب ، قال تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
الرابع : شطر من عموم الناس ، وهذا الميل من سنن خلافة الإنسان في الأرض فعندما أحتج الملائكة على جعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )لأن بعض ذريته يفسدون في الأرض ويقتل بعضهم بعضاً بغير حق ، رد الله عز وجل على احتجاجهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
ومن علم الله عز وجل بعثة الأنبياء واختتامها برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، يتبعونه فيما جاء به من عند الله ويدافعون عنه ، ويهاجرون ويتحملون المشاق في سبيل الله .
ويتفضل الله عز وجل بجعل شطر من الناس يميلون إليه ويمتنعون عن محاربته وقتاله ، وهذا الميل مقدمة لإسلام طائفة منهم ومن غيرهم ، أي قد يميل بعضهم فيدخل الإسلام ، إذ يأتيه الإيعاز دفعة ، قال تعالى [إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ] ( ).
وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمنع قريش من تأليب الناس على النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه خاصة حينما كانوا قليلي العدد ، وهوى وميل الأفئدة أعم من النصرة الفعلية ، وهو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، فيشمل دخول الإسلام ونصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والذب عنه ، وعدم الإشتراك في التعدي عليه أو تجهيز الجيوش لمحاربته .
وكان عبد الله بن اريقط عالماً بالطرق بين يثرب ومكة (قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل، وهو على جاهليّته) ( ) أي كان على دين كفار قريش ، ومع هذا لم يغدر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يخبر كفار قريش عن وجوده في غار ثور .
ومعنى غمس يمين أي دخل في جملتهم ، كناية عن غمس الحالف يده في الماء عند التحالف ، وآل العاص هم بنو سهم من أفخاذ قريش ، وقد دفع له النبي صلى الله عليه وآله وسلم الراحلتين ، فأحضرهما بعد ثلاث ليال ، ولما قدم أبو بكر الرحلة إلى النبي (قرب له أفضلهما، ثم قال له: اركب فداك أبي وأمي ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إني لا أركب بعيراً ليس لي، قال: فهو لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ! قال: لا ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به ؟ قال: كذا وكذا، قال: قد أخذتها بذلك، قال: هي لك يا رسول الله، فركبا فانطلقا) ( ).
وخصص كفار قريش جائزة وجعلاً لمن يدل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو يحضره ، وبعد أن بات الإمام علي عليه السلام في فراشه ، لبث أياماً في مكة وقام بارجاع الأمانات التي كانت عند الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهلها , وكان لبثه هذا تحد للذين كفروا , وفيه عز للمؤمنين .
وخرج رجالات قريش في طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وكانوا على شعبتين :
الأولى : الذين يطمعون بالجائزة من قريش .
الثانية : الذين هم أشداء على النبي والمؤمنين ، ويريدون قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو تقييده هو ومن معه .
وكان الناس يقتفون الأثر ، ويتبعون إنطباع الأقدام والنعال في الرمال وعلى الصخر ويعرفون حجم قدم الإنسان سواء بالذات أو برؤية أثر قدمه مرة واحدة .
وجاءت قريش بكرز بن علقمة الخزاعي ليقتفي أثر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فانتهى إلى باب الغار وهو ينظر إلى أثر قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (فقال هذه القدم من تلك القدم التي في المقام يعني قدم إبراهيم) ( ).
وصحيح أنها علامة النسب إلا أنها قرينة على إتحاد الموضوع في تنقيح المناط ودعوة للناس للتصديق بالنبوة والتدبر بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فجعل الله عز وجل عنكبوتاً تبني بيتاً على فوهة الغار وكأنه من عشرات السنين ووقفوا عنده ولو نظر أحدهم إلى قدميه لرآهما في الغار ، ولكن الله عز وجل صرف شرهم ، وكفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذاهم .
وكان سراقة بن مالك من بني مدلج جالساً مع نفر من قومه في مجلس ، وقد بلغهم أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قد غادر مكة وأن قريشاً جعلت ديته لمن قتله أو أسره ، إذ انتشر الأمر عند عموم أهل مكة .
فجاءهم رجل وقال: يا سراقة رأيت آنفاً أسودة بالساحل ، وأظنه محمداً وأصحابه( ).
فأدرك سراقة أنهم هم .
فقام بالتورية والتمويه طمعاً بالفوز بالجعل والجائزة , وقال : أنهم ليسوا بهم .
ثم ذكر أسماء أشخاص آخرين أدّعى أنهم هم ، ليتولى بنفسه إحضار أو قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويفوز بالجائزة ، ولا ينافسه فيها أحد.
ولبث سراقة جالساً برهة ، ثم تسلل إلى بيته وأمر جاريته أن تخرج بفرسه من وراء أكمة ، فتحبسها عليه لكي لا يراه قومه حينما ينطلق بأثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وغار ثور الذي إختفى فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عيون قريش فتحة في صخرة مجوفة عرضها (1,25 ) متراً ويبعد أربعة كيلو مترات عن المسجد الحرام من جهة الجنوب، إرتفاع قمته (728) متراً ،وكان هذا الجبل يسمى جبل أطحل ، فسكنه ثور بن عبد مناف فسمي باسمه نسبة إلى ساكنه ،وقيل لأن قمته كرأس اليد، وليس لأن رأسه يشبه رأس الثور , ولم يكن هذا الغار في الطريق إلى المدينة .
وقد ذكر هذا الغار في القرآن بلفظ الغار بقوله تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا] ( ).
في طريق الهجرة
لقد بقىٍ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيام في الغار ، ثم خرج متخفياً أيضاً وسلك بهم الدليل طريقاً غير الجادة العامة لمنع اقتفاء أثرهم من قبل خيل قريش خاصة مع الجوائز التي جعلوها على قتلهم أو القاء القبض عليهم ، وهو مقدار الدية , وهي مائة ناقة لكل واحد منهم , وربما إقترب النبي من طريق القوافل حسب الحاجة , و(سلك بهم الدليل أسفل من مكة ثم مضى بهم حتى جاوز بهم الساحل أسفل عسفان ثم استجاز بهم على أسفل أمج حتى عارض بهم الطريق
ثم أجاز بهم فسلك بهم الخرار .
ثم أجاز بهم ثنية المرة ثم سلك بهم القفا ثم أجاز بهم مدلجة لفف ثم استبطن بهم مدلجة لفف .
ثم استبطن بهم مدلجة مجاج ثم سلك مرجح من ذي العضوين .
ثم بطن ذي كشد ثم أخذ بهما الجداجد ثم الأجرد ثم سلك بهم بطن أعداء ثم مدلجة تعهن ثم العبابيد ثم الفاجة ثم العرج ثم بطن العائر ثم بطن ريم ثم رحلوا من بطن ريم و نزلوا بعض حرار المدينة وذلك يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول) ( ).
ويحتمل إختيار النبي صلى الله عليه وآله وسلم طريقاً غير الجادة العامة وطريق القوافل وجوهاً:
الأول : الخشية والحيطة من كفار قريش، وطلبهم له.
الثاني : إقامة الحجة على الذين كفروا.
الثالث : بيان قانون وهو عجز الذين كفروا عن الإضرار بالنبوة والتنزيل .
الرابع : دعوة المسلمين للصبر والتحمل، والإمتناع عن المواجهة والقتال.
وقد تبعهم سراقة بمفرده، وهم أربعة ومع هذا لم يبطشوا به، إنما إتجه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الدعاء ، فكان من أثره مسائل:
الأولى : كفاية أذى وشر سراقة.
الثانية : قعود سراقة عن ملاحقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزة حسية ظاهرة، وفيها دعوة له ولغيره من الكفار للتوبة والإيمان.
الثالثة : زيادة إيمان الذين برفقة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابعة : ثبوت هذه المعجزة في ذخائر التأريخ والسنة النبوية إلى يوم القيامة.
الخامس : بيان قانون وهو إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن القتال والقتل.
السادس : بيان قانون السعة والمندوحة وتعدد وسائل النجاة لمن إختار مرضاة الله وسلامة الدين, وفي التنزيل[يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ]( ).
وكان النبي وأصحابه يمشون في النهار ويتخفون في الليل , وصار الأنصار وجماعة المهاجرين يخرجون لإستقبال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل صباح ويعودون عند اشتداد الظهيرة .
فلما كان اليوم الذي قدم فيه أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً بدوياً من أهل البادية ليخبر الأنصار بقدومه ، فأخبرهم واتفق أن صعد رجل من اليهود على آطم من آطامهم أي حصن مرتفع من حصونهم لينظر إلى أمر يخصه فرآى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مُبيضين أي لابسين ثياباً بيضاء ، ويجوز أن يكون المراد أن لونهم وبشرتهم بيضاء ، فأدرك معها أنه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فنادى بأعلى صوته:
(يَا بَنِي قَيْلَةَ( ) هَذَا صَاحِبُكُمْ قَدْ جَاءَ هَذَا جَدّكُمْ( ) الّذِي تَنْتَظِرُونَهُ)( ).
فبادر المسلمون إلى السلاح وخرجوا لإستقبال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم خمسمائة من الأنصار إلى جانب طائفة من المهاجرين ممن سبق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقدومه إلى المدينة ، وأطلت النسوة من فوق الأجاجير أي السطوح التي ليس لها سترة وشرفة ، وخرج الصبيان والغلمان والولائد والإماء لاستقبال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم يصفقون ويقولون
(طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا مِنْ ثَنِيّاتِ الْوَدَاع
وَجَبَ الشّكْرُ عَلَيْنَا مَا دَعَا لِلّهِ دَاعِي) ( ).
وثنية الوداع( ): موضع بالمدينة لأن من سافر منها إلى مكة كان يودع فيه ويشيّع إليها.
وهناك محلان في مشارف المدينة لتوديع المسافرين ، أحدهما في جنوب المدينة لتوديع الذاهب إلى مكة ، والآخر في شمالها لتوديع الذي يسافر إلى الشام.
وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل المدينة من جنوبها عند قدومه من مكة ، ومنهم من قال أن نشيد ( طلع البدر علينا ) قيل في مناسبتين :
الأولى : عند قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة مهاجراً .
الثانية : عند عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تبوك شمالاً في السادس من شهر رمضان من السنة التاسعة للهجرة بعد فتح مكة والعودة من حصار الطائف .
وحينما إستقبل أهل المدينة النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يكونوا مستعدين لقتال وغزو غيرهم وإن كان باسم الإسلام، إنما جاءهم النبي لأداء الفرائض والعبادات بعيداً عن أذى كفار قريش، أي أن المسلمين في مكة قبل الهجرة لم يحاربوا قريشاً، ولم يكّسروا الأصنام في النهار أو الليل كما فعل إبراهيم عليه السلام فقد ورد في التنزيل[فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ]( )، [قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ]( ).
أي أن إبراهيم عليه السلام قام بتهشيم وتحطيم الأصنام كلها إلا الصنم الأكبر منها فإنه لم يكسره، فكانت الأمارة عليه لأنه طالما دعاهم إلى عبادة الله، وذم عبادة الأصنام وأخبر الناس بأن هذه الأصنام التي جعلوها آلة لا تنفع ولا تضر، فأرادوا البينة فربما كسرها غيره ، وإن كان من بين ظهرانيهم وممن يدعي عبادته لها.
لتكون هناك فرصة لإبراهيم أن ينكر ما فعل، ويترك القوم في إضطراب، ولكنه أراد إقامة الحجة عليهم من أجل هدايتهم، فأتهم كبير الآلهة بأنه هو الذي كسر الأصنام الأخرى ، والذي وضع الفأس في رقبته ، وكأنه إغتاظ من إشراكها في عبادتهم له، وأراد أن يعبد وحده.
فأجابوه[لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنطِقُونَ]( )، فأقام الحجة عليهم وبهذه الإقامة عرّض نفسه للهلاك والقتل وأخذوا يجمعون الحطب لحرقه في النار لنحو شهرين وكانت المرأة التي يمرض ولدها تنذر لئن أنجاه الله من مرضه لتجمع الحطب لحرق إبراهيم.
ولم يقم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بكسر الأصنام التي في البيت الحرام، إنما كانوا دعاة إلى الله بمناهج العبادة الذاتية ، ومن إعجاز القرآن أن كل آية منه على وجوه :
الأول : الآية القرآنية حرب على عبادة الأصنام.
الثاني : تجلى قانون وهو تلقي المسلمين نزول الآية القرآنية بالعمل بمضامينها القدسية، وهل تلاوتهم لها من مصاديق العمل بها .
الجواب نعم، وهو من ذخائر وجوب قراءتهم القرآن في الصلاة اليومية.
الثالث : يبعث نزول الآية القرآنية النفرة في النفوس من الأصنام وعبادتها.
الرابع : نزول الآية القرآنية إنذار للذين كفروا وذم لهم، وتذكير بقبح عبادة الأصنام.
الخامس : من الإعجاز في الآية القرآنية أنها تنزل لتبقى ، وأنها تزيح الأصنام ومفاهيم الشرك من الأرض، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( )، بهدم أركان الكفر والضلالة بسلاح التنزيل ، ومن غير حاجة للجوء إلى السيف والقتال والقتل، ولكن الذين كفروا هم الذين إختاروا الدفاع عن الأصنام بالقتال والقتل والسيف، فكانت الهزيمة عاقبة لهم , قال تعالى[قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ الْمُكَذِّبِينَ]( ).
الرؤيا أول الوحي
من أسماء الله اللطيف والخبير ، وقد اجتمعا في القرآن ثلاث مرات ، قال تعالى [أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ] ( ).
لقد بعث الله عز وجل مائة وأربعة وعشرين ألف نبي ، وهو سبحانه يصلح كل نبي لوظائف النبوة الخاصة والعامة وتلقي الوحي ، ويحتمل هذا الإصلاح وجوهاً :
الأول : إنه سنخية وكيفية واحدة لعموم الأنبياء .
الثاني : يصلح الله عز وجل كل نبي بكيفية خاصة مناسبة .
الثالث : يمتاز إصلاح الرسل للرسالة عن تهيئة الأنبياء للنبوة , وذات النسبة التي بينها وهي العموم والخصوص المطلق تكون بينهما في الإصلاح .
الرابع : كل طائفة من الأنبياء يصلحهم الله عز وجل بكيفية خاصة .
والمختار هو الثاني ، وهو من فضل الله ولطفه بالأنبياء ، قال تعالى [تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ] ( ) .
وقد إبتدأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أول نبوته بالرؤيا الصادقة وهي عنوان جامع يلتقي به كثير من الناس ، ولكن النبي يمتاز بأمور :
الأول : كثرة أفراد الرؤيا الصادقة .
الثاني : موضوعية الرؤيا .
الثالث : صيرورة الرؤيا الصادقة نوع طريق ورشاد للنبي في بدايات الوحي .
الرابع : التماس الأمن والسلامة برؤيا الإنذار , ومنها رؤيا إبراهيم عليه السلام [فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابنيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ]( ).
الخامس : الإجتهاد في التفكر والإنقطاع إلى الله بخصوص رؤيا البشارات .
السادس : تمييز النبي بين الرؤيا الصادقة وأضغاث الأحلام .
السابع : مجئ المصداق الواقعي لرؤيا النبي كفلق الصبح .
الثامن : تفضل الله عز وجل بالإيحاء إلى النبي بأن هذه الرؤيا من عنده ، إذ يدرك النبي هذا المعنى أثناء الرؤيا وحين اليقظة ، وفي قوله تعالى [لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] ( ) ،قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن ، وهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبّوة ، فمن رأى ذلك فليخبر بها وادّاً .
ومن رأى سوى ذلك فإنما هو من الشيطان ليحزنه ، فلينفث عن يساره ثلاثاً وليسكت ولا يخبر بها أحداً) ( ).
وبين الرؤيا الصالحة التي وردت في الحديث أعلاه وبين رؤيا النبي الصادقة عموم وخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء وهو الصدق ، ومادة للإفتراق وهو اختصاص رؤيا النبي بأنها شعبة من الوحي ، ومقدمة له , وإدراك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمنزلته وشأنه عند الله .
وهل للرؤيا الصادقة موضوعية في إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن القتال والغزو ، الجواب نعم ، لأن ذات الرؤيا عون في الكشف عن منهاج النبوة ، وبيان مصاديقه , وبعث السكينة في نفس النبي بالأمن والسلامة من الذين كفروا من غير حاجة للغزو والقتال .
وكان النبي وفي أيام كثيرة يسأل أصحابه بعد صلاة الصبح عندما يلتفت عليهم بوجهه (هل رأى منكم أحد الليلة رؤيا) ( ).
فاذا ذكر أحدهم أنه رآى رؤيا دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله عز وجل أنه تكون رؤيا خير لصاحبها وللمسلمين ، وأن يصرف شرها عنه وعن المسلمين ثم يأمره أن يقص رؤياه ليكون من السنة المندوبة استحباب الدعاء لصاحب الرؤيا قبل سماعها .
وهذا الدعاء باب لجلب النفع وصرف الأذى بخصوص ذات الرؤيا وبما هو أعم ، وفي سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين بعد صلاة الصبح عن رؤاهم مسائل :
الأولى : تنمية ملكة الإعتناء بالرؤيا عند المسلمين .
الثانية : التدبر في رؤيا البشارة والإنذار .
الثالثة : إجتناب ما تحذر منه الرؤيا .
الرابعة : زيادة إيمان المسلمين بأن الرؤيا حبل ممدود بين الله عز وجل وروح العبد .
الخامسة : شكر المسلمين لله عز وجل على الرؤيا الصادقة .
السادسة : تفقه المسلمين في باب علم الرؤيا وأسرارها ودلالاتها ، وهل يستطيع العلم الحديث التأثير على الناس بحيث يتكلمون بنوع الرؤيا ، أو يستطيعون تصوير رؤيا له في منامه وكأنها من عند الله .
الجواب لا دليل في البين عليه ، ثم أن باب النبوة غُلق وانقطع من حين إنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
السابعة : توقي المسلمين من الإنذار الذي تتضمنه الرؤيا .
الثامنة : تنمية اللجوء إلى الدعاء في الرؤيا وغيرها .
فمن خصائص الدعاء في المقام أنه يقرب البشارة التي في الرؤيا ويساهم في تنجزها ، ويصرف البلاء الذي تنطوي عليه .
التاسعة : بيان قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يسعى للقتال وإشعال الحرب ، ولا يحث أصحابه عليه ، إنما يهديهم إلى سبل الإيمان حتى في ساعة النوم .
العاشرة : تأسيس قواعد لتعبير الرؤيا وتأويلها وفق الكتاب والسنة .
الحادية عشرة : صيرورة تفسير الرؤى علماً ، والمنع من الإستخفاف بها .
الثانية عشرة : النهي عن الكذب في الرؤيا ، وقد وردت أحاديث عديدة عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تنهى عن الكذب في الرؤيا واختلاق الأحلام، منها ما ورد عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال (من تحلم كاذبا كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين ولن يعقد بينهما) ( ).
وقد ورد ذكر الرؤيا في القرآن سبع مرات منها رؤيا يوسف عليه السلام ثم رؤيا صاحبيه في السجن ثم رؤيا الملك ، وفي قوله تعالى [قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ] ( ) والمراد من الخمر عصر العنب وصيرورته خمراً .
وأختلف في رؤياهما , وعن ابن عباس أنها رؤيا صدق رأياها ، وهو المختار بلحاظ كبرى كلية وهي لو دار الأمر في الخبر الوارد في القرآن هل هو صحيح أم غير صحيح ، فالأصل هو الأول.
(عن عبد الله قال: ما رآى صاحبا يوسف شيئا، إنما كانا تحالما ليجربا عليه) ( ).
والمختار أن رؤياهما صادقة ، لذا ذكرها الله في القرآن ، ولا يضر بصدقها ادعاهما فيما بعد أنهما لم يريا شيئاً خاصة مع إخباره عن صلب أحدهما , وامتاز المسلمون ببركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء لمحو أثر رؤيا الإنذار .
ولو دعا صاحب يوسف الله عز وجل الذي أخبر عن صلبه محو القتل والصلب ، فهل تمحى رؤيا الصلب ، الجواب لا ، لتلبسه بالكفر والضلالة ، قال تعالى [فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ] ( ) لذا قال يوسف [قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ] ( ) وان كان موضوعه أعم .
الثالثة عشرة : الفصل والتمييز بين الرؤيا الصادقة وبين الرؤيا التي تترشح عن حديث النفس وغلبة النفس الشهوية أو الغضبية ، والتي ذكرها الله في القرآن بلفظ الأضغاث ، قال تعالى [قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ] ( ) لتبين الآية أعلاه أنه حتى الذي ينسب الرؤيا إلى أضغاث الأحلام يقر بوجود رؤيا صادقة تستلزم الإختصاص في تأويلها .
وتتعلق الآية أعلاه برؤيا ملك مصر أيام كان يوسف عليه السلام عندهم في السجن لتكون وسيلة لنجاته منه ، وإدراك الخاص والعام الحاجة إلى علمه .
ولبيان قانون في تأريخ النبوة من وجوه :
الأول: دعوة الأنبياء لله بالحكمة والموعظة .
الثاني : تحلي الأنبياء بالصبر ، فيوسف عليه السلام نبي ويعيش آنذاك في السجن ،وربما قتلوه لو أعلن نبوته ، ولكنه أخذ يظهر بعض الأمارات والحجج التي تدل على نبوته منها التأويل الصحيح للرؤيا ، ليكون هذا التأويل نوع طريق للوصول إلى الملك الذي رآى رؤيا عجز الملأ ووجهاء القوم عن تأويلها .
فتجلت الحاجة إلى يوسف في التأويل ليتبين لهم أن الحاجة إليه في تنظيم شؤون الدولة أعظم ، كما ورد في التنزيل [قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] ( ).
ليكون من وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأنبياء أنه لم يسأل الحكم من ملك أو سلطان , ولم يطلبه بالسيف والقهر , إنما جاءته النبوة الخاتمة والرسالة الجامعة بهبة من عند الله سبحانه ، لينتفع الناس جميعاً من نبوته ورسالته , وما أنزل عليه .
الثالث : تجلي المعجزة بسيرة الأنبياء ، وهل هناك من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) من مصاديق هذه المعجزة ، الجواب نعم بلحاظ كبرى كلية ، وهي أن العظمة في أخلاق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المعجزة التي تأتي بفضل من الله عز وجل .
وتتكرر شواهدها لتكون مدرسة ينهل منها المسلمون كل يوم وضياءً ينير لهم دروب الهداية في أمور الدين والدنيا .
بدايات معركة بدر
برز من صفوف جيش المشركين يوم بدر عتبة بن ربيعة وأخوه وابنه ، ودعوا إلى البراز ، ليشهد الجمعان على من بدأ القتال , ولما خرج لهم ثلاثة من الأنصار أبوا مبارزتهم ونادوا (يا محمد، أخرج لنا الأكفاء من قومنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم : يا بني هاشم، قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث الله به نبيكم، إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور الله. فقام حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، فمشوا إليهم .
فقال عتبة: تكلموا نعرفكم وكان عليهم البيض فأنكروهم فإن كنتم أكفاء قاتلناكم .
فقال حمزة: أنا حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله. قال عتبة: كفءٌ كريمٌ.
ثم قال عتبة: وأنا أسد الحَلفاء، ومن هذان معك؟ قال: علي ابن أبي طالب وعبيدة بن الحارث. قال: كفآن كريمان)( ).
والحلفاء -بفتح الحاء وسكون اللام- أجمة من القصب وقد يقال القصباء، ويدل هذا المعنى على حال الفزع والخوف وشدة الإرباك التي صار عليها عتبة بن ربيعة مع ما معروف عنه من المشي بين القبائل والسعي بينهم، ليكون هذا الفزع والإرباك من أسباب وهنه في القتال، وعجزه عن تحقيق غلبة على خصمه المسلم , وإنذاراً لقومه .
ترى لماذا أصرّ المشركون على أن يلاقوا المؤمنين من قريش ، فيه وجوه :
الأول : إرادة الإنتقام من المهاجرين .
الثاني : لو قتل المشركون رجلاً من الأنصار لا يكون له ذات الأثر عند أهل مكة بخلاف ما إذا كان المقتول أو الجريح من المهاجرين ممن يعرفهم أهل مكة .
الثالث : يقصد المشركون إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باحتمال قتل بعض أهل بيته .
الرابع : بعث النقمة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام بين أهل مكة بسبب هجرة المسلمين ثم غزو المشركين لهم وقتلهم في دار غربة ، ولكن الله عز وجل أبى إلا سلامتهم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ) .
الخامس : أنفة واستكبار قريش وإمتناعهم عن مبارزة الشباب من الأنصار، إنما كان عامة قريش ينظرون لهم كأهل زراعة وسقي ونواضح، وكانت هذه المهنة فخراً لهم ومعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم, وشاهداً على أنه وأصحابه لا يطلبون القتال .
قال أبو عبيدة (حجَّ معاوية فلما قرب من المدينة تلقّته قريش على اثني عشرَ ميلاً وتلقّته الأنصار على ميلين فعاتبهم فشكَوا الأَثَرَة، فقال: فأين أنتم عن النواضح .
فقال له قيس بن سعد: تركناها لقومك عامَ قتلنا حَنْظَلَةَ. فقال معاوية: واحدةٌ بواحدة والبادىء أظلم) ( ).
كما تجلى هذا الوصف في مقدمات معركة بدر.
إذ قال المشركون لعمير بن وهب الجمحي (احزر لنا محمداً وأصحابه. فاستجال بفرسه حول المعسكر فصوب في الوادي وصعد، يقول: عسى أن يكون لهم مددٌ أو كمين .
ثم رجع فقال : لا مدد ولا كمين، القوم ثلثمائة إن زادوا قليلاً، ومعهم سبعون بعيراً، ومعهم فرسان، ثم قال: يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قومٌ ليست لهم منعةٌ ولا ملجأ إلا سيوفهم! ألا ترونهم خرساً لا يتكلمون، يتلمظون تلمظ الأفاعي! .
والله، ما أرى أن يقتل منهم رجلٌ حتى يقتل منا رجلاً، فإذا أصابوا منكم مثل عددهم فما خيرٌ في العيش بعد ذلك! فارتأوا رأيكم! حدثنا محمد قال: حدثنا الواقدي قال: فحدثني يونس بن محمد الظفري، عن أبيه قال: لما قال لهم عمير بن وهب هذه المقالة، أرسلوا أبا أسامة الجشمي وكان فارساً فأطاف بالنبي صلى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه، ثم رجع إليهم فقالوا له: ما رأيت؟ قال: والله، ما رأيت جلداً، ولا عدداً، ولا حلقة، ولا كراعاً. ولكني والله رأيت قوماً لا يريدون أن يئوبوا إلى أهليهم، قوماً مستميتين، ليست لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، زرق العيون كأنهم الحصى تحت الحجف ( ).
ثم قال: أخشى أن يكون لهم كمين أو مدد. فصوب في الوادي ثم صعد، ثم رجع إليهم، ثم قال: لا كمين ولا مدد، فروا رأيكم!)( ).
السادس : كان عتبة بن ربيعة من رؤساء جيش المشركين يوم معركة بدر ، ولقد سعى للصلح وإجتناب القتال عند اصطفاف الفريقين وأعلن أنه يدفع من ماله دية ابن الحضرمي الذي قتله من قبل المسلمون ، ولكن أبا جهل عيّره فتقدم عتبة للقتال فلم يرض بالمبارزة إلا بالكفئ
(قالَ عَمْرُو بنُ مَعْدِ يكَرِبَ :
الحَرْبُ أَوّلُ ما تَكُونُ فَتِيَّة … تَسْعَى ببِزَّتِهَا لِكُلِّ جَهُولِ)( ).
السابع : إقرار كفار قريش بمنزلة وشأن ورفعة المسلمين من قريش ، وأنهم من أوسط بيوتهم لأن عتبة رضي بهم كأكفاء.
الثامن : غلبة الضلالة ومفاهيم الكفر على المشركين فلا يرون إلا ما فيه العناد والتحدي .
التاسع : إستدراج الله عز وجل للمشركين لخزيهم وفضيحتهم بين أجيال المسلمين والناس جميعاً .
العاشر : إقامة الحجة على الذين كفروا في معركة بدر .
الحادي عشر : إشتراط المشركين بسنخية الذي يبارزهم مقدمة لنزول النصر من عند الله للمسلمين ، ومن أحكام الجناية تحمل المباشر لها إلا أن يكون فعل المسُبب هو الأرجح .
وتبين وقائع الإسلام الأولى كون المشركين هم السبب والمباشر ليتحملوا أوزار تلك المعارك في الدنيا والآخرة .
وفي حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فإذا سألت فسل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا واعلم أن القلم قد جرى بما هو كائن) ( ).
الثاني عشر : إرادة هلاك الثلاثة الذين تقدموا من المشركين .
ومن الآيات أنهم من أسرة واحدة وأعمدة تلك الأسرى .
وعندما ندب الإمام علي عليه السلام أهل الكوفة لقتال أهل الشام عند هجومهم على عانة وعين تمر لم يقم إلا عدي بن حاتم نيابة عن قومه فقال الإمام علي عليه السلام : لا أريد أن أبيد حياً من العرب ) .
لبيان قاعدة وهي لزوم تنوع إنتساب أفراد الجيش ، وعدم كونهم من قبيلة أو بلدة واحدة , فاذا وقعت خسارة فانها تتوزع بين القبائل ، فان قلت ذات الحجة التي ترد على عتبة وأخيه وابنه هل تكون على خروج الإمام علي وحمزة وعبيدة وكلهم من بني هاشم ، الجواب لا ، من جهات :
الأولى : جاء خروج بني هاشم استجابة لطلب المبارزين من قريش .
الثانية : لقد أراد كفار قريش التحدي وإعطاء رسالة للأنصار أنكم تقاتلون دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين ، فمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الشبهة .
الثالثة : لقد خرج أول مرة ثلاثة شبان من الأنصار للقاء عتبة وأخيه وابنه فلم يمنعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يطلب منهم الرجوع .
الرابعة : لم يخرج الإمام علي وحمزة وعبيدة إلا بأمر خاص من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكل منهم وهو من الوحي ، قال تعالى [وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ) لتكون سلامة الإمام علي عليه السلام وحمزة يومئذ معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة : خروج أهل البيت في أول مبارزة شاهد صدق على رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من الإعجاز في السنة القولية .
السادسة : في رواية أنس أنه لما جاء المشركون يوم بدر (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” لا يتقدمن أحد منكم إلى شئ حتى أكون أنا دونه”.
فدنا المشركون فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض)( ).
السابعة : لم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي وحمزة وعبيدة بالخروج للمبارزة إلا بالوحي وأمر من عند الله، وقد تجلت المعجزة بأن عادوا ثلاثتهم، بينما قتل المشركون الثلاثة في الحال، نعم أصيب عبيدة بالجراحة وقطعت رجله فمات شهيداً .
وهل تشمله مضامين الآية التالية[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( )، أم أنها خاصة بالشهداء في معركة أحد ، الجواب هو الأول.
الثامنة : قد ورد أن المبارزين من المشركين اشترطوا أن يكون الذين يبارزونهم من بني هاشم ، وفي رواية أنس بن مالك (فبرز عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد حمية فقالوا: من يبارز ؟ .
فخرج فتية من الانصار مشببة، فقال عتبة: لا نريد هؤلاء، ولكن نبارز من بني عمنا من بني عبد المطلب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” قم يا حمزة، وقم يا علي، وقم يا عبيدة بن الحارث بن المطلب “.
فقتل الله عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة، وجرح عبيدة فقتلنا منهم سبعين، وأسرنا سبعين)( ).
التاسعة : في أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل بيته للخروج للمبارزة في معركة بدر معجزة تجلت معالمها في مقدمات معركة أحد ومعارك الإسلام الأولى، ومنه زجر الذين نافقوا عن التقول بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يظّن بأهل بيته ويقدم الأنصار، فقد قدم أعزّ أهل بيته للقتال في معركة بدر، فألتجأ الذين نافقوا إلى مسألة(لو أطاعونا ما قتلوا) .
ويكون تقدير قولهم هذا: لو أطاعونا ولم يحاكوا أهل البيت في بروزهم إلى العدو للمبارزة والقتال.
الثاني : عمير بن الحمام بن الجموح من بني سلمة من الأنصار وهو ممن أسلم قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ، وكان عمير ينظر إلى سير المعركة وكيف انتهت المبارزة الأولى بنصر مبين للإسلام، وكأنه من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ).
ومن إعجاز الآية أعلاه أنها وردت بصيغة الفعل الماضي .
وكان عمير بن الحمام يأكل بعض التمرات وسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يندب المسلمين ويحرّضهم على القتال وهو يقول (والذى نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر الا أدخله الله الجنة فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة وفى يده تمرات يأكلهن : بخ بخ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل، وقال ابن عقبة أول قتيل من المسلمين يومئذ عمير بن الحمام)( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد آخى بين عمير وبين عبيدة بن الحارث بن المطلب فقتلا في معركة بدر ، مما يدل على أن المؤاخاة كانت قبل معركة بدر ، ولا يمنع من تجدد بعض أفرادها بعد تلك المعركة .
وكان عمير يقول وهو يقاتل المشركين :
(ركضاً في الله بغير زاد … إلا التقى وعمل المعاد
والصبر في الله على الجهاد … وكل زادٍ عرضة النفاد
غير التقى والبر والرشاد)( ).
لقد بادر عمير إلى قتال القوم من غير أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمبارزتهم لبيان إخلاص الأنصار في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن الإسلام ، وقتلَه خالد بن الأعلم ، ليكون أول شهداء التحام الصفين بعد المبارزة الكبرى التي استشهد فيها عبيدة بن الحارث.
وفيه شاهد بأن الأنصار لم ينصتوا إلى الذين نافقوا ، ولم يسمعوا دعوتهم للقعود، فلم يكتف الأنصار بالخروج إلى المعركة ، ولا باكثار السواد، إنما أظهروا الإشتياق إلى الجنة والذي يدل بالدلالة التضمنية على تصديقهم بالوعد الكريم في القرآن، وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المنزلة الرفيعة للشهداء.
ومن إعجاز نظم آيات القرآن تعقب آية خلود الشهداء في النعيم لقوله تعالى في ذم المنافقين[الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا]( )، وبيانه لمغالطة الذين نافقوا ، ليكون من معاني الآية حياة الشهداء التي بعدها أنهم لم يطيعوكم فصاروا أحياء خالدين عند الله عز وجل وفي ضيافته في عالم البرزخ حتى إذا كان يوم القيامة تفضل الله عز وجل وأدخلهم الجنة الواسعة .
ليكون من معاني قوله تعالى[قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ]( ) أمور :
الأول : التخويف والوعيد للذين نافقوا لما بعد الموت .
الثاني : تذكير الذين نافقوا بحال الشهداء , وعظيم منزلتهم في الآخرة ، وفيه زاجر عن النفاق ، ودعوة للتوبة والإنابة ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
وهل شهادة الشهداء يوم بدر وأحد من هذه الرحمة أم أنها فرعها ورشحة منها، الجواب لا تعارض بين الأمرين .
الثالث : بيان قانون وهو تضاؤل النفاق , مع تقادم الأيام من غير حاجة لقتال المنافقين أو عقوبتهم والإضرار بهم .
لقد سعى المنافقون في الإضرار بالإسلام ، وأظهروا محاربة النبوة وشخص الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولكنه صبر عليهم وعلى أذاهم ، وجاهدهم بالموعظة والبرهان والتوبيخ .
(عن جابر بن عبدالله قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزاة ، قال سفيان : يرون أنها غزوة بني المصطلق ، فكسع رجل من المنافقين رجلاً من الأنصار فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما بال دعوى الجاهلية؟ قالوا : رجل من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار . فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : دعوها فإنها منتنة : فسمع ذلك عبدالله بن أبيّ ، فقال : أو قد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . فبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال عمر : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه زاد الترمذي ، فقال له ابن عبدالله : والله لا تنقلب حتى تَقِرَّ أنك الذليل، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العزيز ففعل) ( ).
وكان من أسباب تضائل النفاق ، والنقص الحاد في أهله :
أولاً : توالي نزول آيات القرآن ، وكل آية زاجر عن النفاق .
ثانياً : المعجزات الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : النصر المتتالي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاً : عدم قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغزو والهجوم على القرى والأمصار لنهبها .
خامساً : ذكر آيات القرآن للمنافقين والمنافقات وسوء فعلهم ، وفيه مسائل منها:
الأولى : تحدي الكفار والمنافقين .
الثانية : دعوة القرآن للتوبة من النفاق وتحذيرهم من الإقامة على النفاق وإثارة أسباب الفتنة ، قال تعالى [لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً] ( ) .
الثالثة : خشية المنافقين من نزول آيات من القرآن تذكرهم بأسمائهم وقبيح فعلهم .
سادساً : رؤية عامة المسلمين والمنافقين كيف أن المشركين يقومون بغزو المسلمين وسعيهم لإستباحتها ، لا لشئ إلا لتشريفها بنزول آيات القرآن على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مسجدها وربوعها .
الرابع : بقاء سنن الإسلام وأداء الفرائض.
الخامس : تجلي صفحة من البرهان على أن الموت أمر وجودي لما في الآية أعلاه من التحدي للذين نافقوا بعجزهم عن دفع الموت عن أنفسهم ، ولا يُدفع إلا ما هو موجود، وليس معدوماً ، وكأن الموت حينما يأتي للمنافق يقول له : فأدرءني عن نفسك) فيدرك المنافق عجزه, وفي التنزيل[الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً]( ).
أما الشهداء ومنهم شهداء معركة بدر فقد أخبرت الآية السابقة عن فوزهم بالحياة وكون حياة الشهداء عند الله نعمة أخرى غير ذات الحياة لبيان التباين بين الحياة الدنيا وحياة الشهيد في الآخرة.
بينما تضمنت الآية أعلاه التحدي للذين نافقوا بدرء الموت عن أنفسهم، وهل فيه إنذار للمنافقين بأن الثواب من عمل الأحياء كالأبناء لا يصلهم، الجواب لا دليل عليه، لصيغة الإطلاق في حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم :
(“إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)( ).
فلم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إذا مات المؤمن أو إذا مات المسلم ، إنما ورد الحديث بلفظ (ابن آدم) وفيه بيان لفضل الله عز وجل على الأحياء والأموات بالإيمان وعمل الصالحات، قال تعالى[وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ).
الثالث : عمير بن أبي وقاص، وهو من بني زهرة بن كلاب بن قريش، وهو أصغر الشهداء يوم معركة بدر، إذ كان عمره ست عشرة سنة، وكان أسلم في مكة وهاجر إلى المدينة مع صغر سنه.
ولقد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين عمرو بن معاذ أخي سعد بن معاذ.
ولقد استعرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه عند الخروج إلى معركة بدر فكان عمير يتوارى عنه، وكان يخشى أن يراه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيستصغره ويرده ولا يأذن له بالخروج.
(قال سعد : رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للخروج إلى بدر يتوارى ، فقلت : ما لك يا أخي ، فقال إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيستصغرني فيردني , وأنا أحب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة.
قال فعرض على رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستصغره، فقال : ارجع فبكى عمير فأجازه رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم)( )، فكانت الشهادة والإقامة في النعيم , والخلود في الدنيا بحسن الذكر وثناء هذه الآيات ودعوتها لإستحضار قصته وشهادته.
الرابع :سعد بن خيثمة ، بن الحارث بن مالك الأنصاري الأوسي , وأمه هند بنت أوس الأنصاري , استشهد يوم معركة بدر قتله طعيمة بن عدي ، وقيل قتله عمرو بن ود العامري .
وقد قتل حمزة طعيمة يوم بدر ، وقتل علي عليه السلام عمرو يوم الأحزاب واستشهد أبوه خيثمة يوم أحد ، قتله هبيرة بن أبي وهب المخزومي .
ويكنى سعد أبا عبد الله ، وقد بايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيعة العقبة الثانية ، وذكر أنه أحد النقباء فيها و(عن كعب بن مالك قال: لما كانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها بمنى للبيعة اجتمعنا بالعقبة فأتانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتبعه العباس وحده فقال: ” أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً ” فذكرهم وفيه: وكان نقيب بني عمرو بن عوف سعد بن خيثمة) ( ).
واستنهض النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه إلى عير قريش ، وصار من مقدمات معركة بدر .
قال خيثمة لابنه سعد : لابد لأحدنا أن يقيم فآثرني بالخروج وأقم أنت مع نسائنا ، فأبى سعد وكأنه يشم رائحة الجنة وقال (لو كان غير الجنة لآثرتك به إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا فاستهما , فخرج سهم سعد فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بدر فقتل شهيداً.
قال ابن هشام: كتب ابن إسحاق. سعد بن خيثمة في بني عمرو بن عوف وإنما هو من بني غنم بن السلم ولكنه ربما كانت دعوته فيهم فنسبه إليهم) ( ).
وروى عبد الله بن سعد الأسلمي أنه نزل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على سعد بن خيثمة .
وعن عبد الله بن سعد بن خثيمة أنه شهد بدراً والعقبة ، وقال : لقد كنت رديف أبي وكان نقيباً وشهد عبد الله الحديبية مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
قال عويم بن ساعدة الأنصاري (لما قدمنا مكة قال لي سعد بن خيثمة ومعن بن عدي وعبد الله ابن جبير: يا عويم انطلق بنا حتى نأتي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فنسلم عليه فإنا لم نره قط وقد آمنا به .
فخرجت معهم فقيل لي هو في منزل العباس بن عبد المطلب فرحلنا إليه فسلمنا وقلنا له: متى نلتقي؟ .
فقال العباس بن عبد المطلب: إن معكم من قومكم من هو مخالف لكم فأخفوا أمركم حتى ينصدع هذا الحاج ونلتقي نحن وأنتم فنوضح لكم الأمر فتدخلون على أمر بين. فوعدهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الليلة التي في صبحها النفر الآخر أن يوافيهم أسفل العقبة حيث المسجد اليوم وأمرهم أن لا ينبهوا نائما ولا ينتظروا غائبا ) ( ).
وصليت أول صلاة جمعة في المدينة في دار سعد بن خيثمة في قباء وعددهم اثنا عشر بامامة مصعب بن عمير الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الأنصار ليفقههم في الدين ويصلي بهم .
الخامس : صفوان بن وهب بن ربيعة القرشي الفهري ويسمى صفوان بن البيضاء نسبة إلى أمه واسمها دعد بنت الجحوم بن أمية ( )، وشهد أخوه سهيل
معه معركة بدر تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينما شهدها أخوهما سهل بن وهب وأمه البيضاء أيضاً مع المشركين .
وآخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين صفوان بن بيضاء ورافع بن عجلان، وقتلا معاً في معركة بدر .
وقيل(لم يقتل ببدر وإنه مات في شهر رمضان سنة ثمان وثلاثين)( ).
وقيل سنة ست وثلاثون( )وأنه مات في طاعون عمواس في الأردن، واستشهاده ببدر هو الأصح.
قال ابن عساكر : (صفوان بن وهب بن ربيعة بن هلال ابن مالك بن ضبة بن الحارث بن فهر أبو عمرو القرشي الفهري المعروف بابن بيضاء وهي أمه واسمها دعد بنت جحدم بن عمرو بن عايش له صحبة شهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدرا واستشهد بها ويقال بل عاش بعدها إلى أن مات في طاعون عمواس بناحية الأردن أخبرنا أبو الفتح يوسف بن عبد الواحد أنا شجاع بن علي أنا أبو عبد الله بن منده أنا علي بن يعقوب ومحمد بن إبراهيم بن مروان قالا نا أبو عبد الملك أحمد بن إبراهيم نا محمد بن عائذ نا محمد بن شعيب بن شابور عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث صفوان بن بيضاء في سرية عبد الله بن جحش قبل الأبواء فغنموا وفيهم نزلت ” يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه “)( ).
وفيه آية في السنة الدفاعية من جهات :
الأولى : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم باستعراض أفراد الجيش قبل الخروج من المدينة .
الثانية : تعدد الغايات الحميدة من استعراض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأفراد الجيش .
الثالثة : إرادة البركة بأن يقابل ويلتقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكل فرد من أفراد جيش المسلمين وجهاً لوجه .
الرابعة : لا يقول أو يفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أثناء الإستعراض إلا ما يأمره الله عز وجل به .
الخامسة : دلالة الإستعراض على ملاقاة العدو ، وفيه تهيئة لأذهان الصحابة لهذا اللقاء .
السادسة : إرادة عموم قاعدة لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ، إذ يبين الإستعراض حال وأهلية كل فرد من الصحابة للخروج للقتال .
السابعة : تفقد الصحابة ومعرفة حقيقة تخلف الذين نافقوا عن الخروج، فلما ذكرت الآية قبل السابقة حالهم بقوله تعالى [وقعدوا] ( ) جاء إستعراض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه لتوثيق حضورهم المعركة , ولمعرفة الناس للذين إختاروا القعود وتخلفوا عن الخروج إلى معركة بدر .
الثامنة : معرفة أفراد الجيش أصحابهم , وعدم إندساس عدو أو عين من غيرهم معهم .
التاسعة : بعث السكينة في نفوس أفراد الجيش .
العاشرة : الإستعراض مقدمة لتقسيم الجيش ومسؤولياته.
الحادية عشرة : شمول الإستعراض للأفراد والأسلحة والمؤن.
الثانية عشرة : حصر قيادة الجيش بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو وحده الذي يستعرض الجيش ويأذن للفرد بالخروج معه أو الرجوع .
وهل تم مثل هذا الإستعراض في معركة أحد، الجواب نعم، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]( ) .
وأثناء استعراض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأفراد الجيش عند الخروج إلى معركة أحد رد جماعة لصغر سنهم منهم.
أولاً : عَرابة بن أوس ، وكان عمره أربع عشرة سنة وخمسة أشهر فلم يجزه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
(وعرابة بن أوس هو الذي مدحه الشماخ بن ضرار الشاعر، وكان قدم المدينة فأوقر له راحلته تمرا فقال :
رأيت عرابة الأوسي ينمي … إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمجد … تلقاها عرابة باليمين) ( ).
وشهد أبوه أوس بن قيظي واخواه عبد الله وكُباثة ابنا أوس معركة أحد.
ثم أجاز النبي صلى الله عليه وآله وسلم عُرابة في معركة الخندق مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستعرض الجنود قبل كل معركة ، أما بالنسبة للسرايا التي تخرج بأمر النبي فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يتولى إختيار أفرادها ، أو أنه يمضي أسماءهم وهو من السنة التقريرية ، وأم عرابة شيبة بنت الربيع ين عمرو بن عدي بن زيد بن جُشم .
ثانياً : زيد بن أرقم .
ثالثاً : زيد بن ثابت .
رابعاً : رافع بن عدي، الذي تطاول رافعاً قدميه وبدنه، فاذن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
خامساً : عبد الله بن عمر، وعمره أربع عشرة سنة .
سادساً : أسامة بن زيد .
سابعاً : البراء بن عازب .
ويدل إرجاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين لم يبلغوا الحلم , ولا يقوون على القتال وعدم الإذن لهم بالخروج إلى المعركة مع حاجة المسلمين إلى تكثير السواد في مقابل كثرة جيوش الذين كفروا على تأسيس النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقواعد في القتال تتضمن عدم مشاركة غير البالغين فيها .
السادس : ذو الشمالين: قال اسمه عمير بن عبد عمر بن نضلة بن عمرو بن عبشان الخزاعى كان يعمل بيديه جميعا شهد بدرا وقتل يومئذ شهيدا.
وهو ليس ذي اليدين الذي هو رجل من بني سليم يقال له: الخرباق الذي عاش حتى روى عنه المتأخرون من التابعين ، وقد آخى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ذي الشمالين ، ويزيد بن الحارث من بني حارثة ، وسمى الشمالين (لانه كان أعسر) ( ) وقتله أبو أسامة الجشمي .
السابع : مبشر بن عبد المنذر من بني عوف بن الأوس أخو أبي لبابة ورفاعة الذي شهد معركة بدر أيضاً ، وقد رد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا لبابة من الطريق إلى المدينة ، وجعله أميراً عليها ، وضرب له بسهم في غنائم معركة بدر وكأنه حضرها ، ومنهم من قال أن مبشراً قتل في معركة أحد ، ومنهم في خيبر، والصحيح أنه قتل في معركة بدر .
نزل عليه في بني عمرو بن عوف في قباء عند الهجرة أبو سلمة وأم سلمة، وهي أول امرأة مهاجرة، ومعهم جميع بني جحش إذ نزل عليه أبو أحمد الأعمى، مع زوجته الفارعة بنت أبي سفيان ، وكان شاعراً ، وأمه أمية بنت عبد المطلب، وكذا أخوه عبد الله بن جحش .
فعدا أبو سفيان على دارهم في مكة فاستحوذ عليها ، وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين مبشر بن عبد المنذر وعاقل بن أبي البكير .
والذي قتل مبشراً هو أبو ثور .
وعن ابن عباس أن قوله[وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ]( ) نزل في شهداء ببدر ، إذ كانوا يقولون قتل فلان مات فلان ، إذ ورد(عن ابن عباس قال : قتل تميم بن الحمام ببدر, وفيه وفي غيره نزلت { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات . . . } الآية) ( ) .
الثامن : عاقل بن البكير الليثي ، (عبد ياليل قد حالف في الجاهلية نفيل بن عبد العزي جد عمر بن الخطاب فهو وولده حلفاء بني عدي) ( ) وأسلم عاقل وبايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دار الأرقم في مكة قبل الهجرة .
وقتل يوم بدر وهو ابن أربع وثلاثين سنة قتله مالك بن زهير الخطمي .
التاسع : مهجع بن صالح مولى عمر .
وأختلف في نسبه وأصله على قولين :
الأول : انه من اليمن قاله ابن اسحاق( ).
الثاني : انه من قبيلة عك، أصابه سباء, وقولهم مولى عمر أي أعتقه عمر , عن ابن هشام .
وكان مهجع من السابقين إلى الإسلام .
ورمى المشركون مهجع بسهم فقتل ، فكان أول قتيل من المسلمين ، وفي قتله دلالة على أن المشركين هم الذين بدأوا القتال ، ولم ينحصر ابتداؤهم للقتال بالمبارزة إنما كان يشمل رمي السهام الغاربة والمقصودة ، وعن ابن عباس أن مهجع ممن نزل فيه قول الله تعالى [وَلاَ تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ]( ).
وقيل ان (أول من خرج من المسلمين مهجع مولى عمر بن الخطاب، فقتله عامر بن الحضرمي)( ).
والصحيح أنه قتل بسهم وكان قتله قبل تقدم عتبة وأخيه شيبة والوليد بن عتبة ودعوتهم للمبارزة .
وقد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسم بين مهجع وبين سراقة بن عمرو بن عطية .
وابتدأ القتال في معركة بدر عند الصباح وكانت هزيمة المشركين عند الزوال أي عند الظهر من يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة وبعد أن رمي مهجع بسهم وقتل ، رمي حارثة بن سراقة الأنصاري بسهم فقُتل، وفيه مسائل :
الأولى : دقة رمي وأصابة المشركين .
الثانية : بلوغ السهم موضع القتل من المسلم .
الثالثة : حاجة المسلمين للدفاع أو القتال والمبارزة خاصة مع قلة عددهم بالنسبة لكثرة عدد المشركين .
العاشر : يزيد بن الحارث بن قيس الخزرجي بن فُسحم (فُسْحُمٌ أُمّهُ وَهِيَ امرأة مِنْ الْقَيْنِ بْنِ جِسْرٍ)( ) وله أخ اسمه عبد الله .
وآخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين ذي الشمالين ، فقتلا معاً في معركة بدر ، وتعددت المؤاخاة بين شهداء بدر مع قلة عددهم لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
والذي قتل يزيد بن الحارث هو نوفل بن معاوية الديلي ، ولا عقب ليزيد هذا.
وقيل قتله حطية بن عدي القرشي أحد بني نوفل بن عند مناف والأول أصح .
الحادي عشر : رافع بن المعلى(بن لوذان بن حارثة بن عدي بن زيد بن ثعلبة بن زيد مناة بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج) ( ) شهد معركة بدر واستشهد فيها وشهد معه المعركة أخوة هلال بن المعلى .
وقيل أن رافع بن المعلى أول من صلى إلى الكعبة وقتل يوم بدر (قتله عكرمة بن أبي جهل) ( ).
ونزلت درّة بنت أبي لهب عند هجرتها في دار رافع بن المعلى الزرقيّ .
فقال لها نسوة (فقال لها نسوة جلسْنَ إليها من بني زريق: أنتِ ابِنة أبي لهب الذي يقول الله له: ” تبّت يدا أبي لهب وتبّ ” فما يغني عنكِ مهاجرتكِ؟ فأتت دُرَّة النَّبِيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فذكرت له ما قلن لها فسكّنها وقال: ” اجلسي”.
ثم صلى بالناس الظهر، وجلس على المنبر ساعةً ثم قال: ” أيها الناس، ما لي أُوذى في أهلي؟ فوالله إن شفاعتي لتنال بقرابتي حتى إن صُداءَ وحكماً وسلهماً لتنالها يوم القيامة وسِلْهَمُ في نسب اليمن “)( ).
الثاني عشر : حارثة بن سراقة من بني النجار (بن الحارث بن عدي بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار أمه أم حارثة عمة أنس بن مالك)( ) وكان حارثة يشرب قد خرج نظاراً يوم بدر وهو غلام وبينما كان يشرب الماء من الحوض رماه حبان بن العرقة بسهم فأصاب حنجرته فقتله ، وهو أول قتيل من الأنصار .
(أصيب حارثة يوم بدر فجاءت أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني فإن يك في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الاخرى فترى ما أصنع.
فقال: ” ويحك أو هبلت أو جنة واحدة هي ؟ إنها جنان كثيرة وإنه في جنة الفردوس) ( ).
الثالث عشر : عوف بن الحارث (وهو عوف بن الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار الأنصاري شهد بدراً مع أخويه معاذ ومعوذ. وأمهم عفراء بنت عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار وقتل عوف ومعوذ أخوه يوم بدر شهيدين)( ) وتأتي تسميته في كتب التراجم على وجوه أخرى :
الأول : عوذ بن الحارث .
الثاني : عوف بن الحارث .
الثالث : عوف بن عفراء .
الرابع : عوذ بن عفراء .
وشهد عوف معركة بدر مع كل من أخويه :
الأول : معاذ بن عوف .
الثاني : معوذ بن عوف .
وسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر (قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا يُضْحِكُ الرّبّ مِنْ عَبْدِهِ ؟ قَالَ غَمْسُهُ يَدَهُ فِي الْعَدُوّ حَاسِرًا . فَنَزَعَ دِرْعًا كَانَتْ عَلَيْهِ فَقَذَفَهَا ، ثُمّ أَخَذَ سَيْفَهُ فَقَاتَلَ الْقَوْمَ حَتّى قُتِل) ( ).
والمراد ليس الضحك والإنفصال لأن الله عز وجل منزه عنه ، إنما أراد بالسؤال رضا الله عز وجل ، وفي التنزيل [أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] ( ).
وشهد عوف بن الحارث العقبتين .
وقيل إنه أحد الستة الذي اجتمعوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل العقبة( )، ومنهم من يجعل هذا اللقاء المبارك باسم العقبة الأولى .
الرابع عشر : معوذ بن بن الحارث وهو أخو عوف المذكور أعلاه وقاتلا يوم بدر وأجهزا على أبي جهل حتى اثبتاه فوقع صريعاً وقيل أن الذي أجهز على أبي جهل عبد الله بن مسعود .
وقد مرّ معوذ ومعاني بأبي جهل مغفر وحتى اثبتاه فتركاه وبه رمق ، وقاتل معوذ ومعاذ حتى قتل معوذ عبد الله بن مسعود بأبي جهل فأجهز عليه وأحتز رأسه والذي قتل معوذ هو أبو مسافع .
وابنه معوذ الربيع لها صحبة ، وهي من المبايعات نحت الشجرة .
وكانت امرأة تبيع العطر بالمدينة اسمها اسماء بنت مخرمة وهي أم عياش وعبد الله ابني أبي ربيعة المخزومي ، فدخلت على الربيع بنت معوذ بن عفراء لتعرض عطرها في نسوة فسألت الربيع عن نسبها ، فانتسبت لها بفخر وأن أباها بدوي استشهد يوم بدر .
فقال لها أسماء (أنت ابنة قاتل سيده تعني أبا جهل) ( ).
فقالت الربيع : بل أنا ابنة قاتل عبده ، أي أن معوذ المؤمن هو سيد ومالك أبي جهل الكافر .
قالت اسماء : حرام عليّ أن أبيعك من عطري شيئاً ، ترى من أين جاءت بحكم الحرمة في المقام إلا بسبب النفاق وقلة الإيمان وغلبة حمية الجاهلية ، قالت الربيع ، وحرم علي أن اشتري منه شيئاً فما وجدت لعطر نتناً غير عطرك لاغاظتها، ثم قامت الربيع .
وقد روى بعض الصحابة عن الربيع وكانت لها منزلة رفيعة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقد تلقى أبوها وعمها وهما في حال دفاع عن النبوة والتنزيل وعن النفوس .
(عن أبي عبيدة قال قلت للربيع بنت معوذ صفي لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت لو رأيته لقلت الشمس طالعة ) ( ).
وقد شهد مع عوف ومعوذ ابني الحارث أخاهما معاذ ويكنى أيضاً ابن عفراء نسبة إلى أمهم ، ولم يقتل يوم معركة بدر ، ولكن يده قطعت يومئذ .
(عن ابن عباس قال: قال معاذ ابن عفراء: سمعت القوم وهم في مثل الحرجة وأبو جهل فيهم وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه. قال: فلما سمعتها جعلته من شأني فقصدت نحوه فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة، فظننت قدمه بنصف ساقه، وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي وأجهضني القتال عنه ولقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت بها حتى طرحتها) ( ).
وحينما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا جهل مقتولاً قال : قُتل فرعون هذه الأمة( ).
وشهداء بدر من حيث النسب والإنتماء، ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار: ستة من الخزرج واثنان من الأوس .
ألوية النبي إلى الأبواء
وتسمى غزوة الأبواء , وغزوة ودان , وكانت في اليوم الثاني عشر من شهر صفر على رأس اثنى عشر شهراً من مقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة في شهر ربيع الأول على بعد ستة أميال من المدينة .
وهي أول مرة يخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه ، وحمل اللواء حمزة بن عبد المطلب عم النبي ، وكان لون اللواء أبيض واستعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن عبادة على المدينة .
وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمهاجرين ليس فيهم أنصاري وكان من المقاصد في هذا الخروج والخميس أمور :
الأول : إعتراض عير لقريش لما للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه المهاجرين من أموال وأملاك وحقوق استحوذ عليها كفار قريش .
الثاني : بيان قانون من قوانين النبوة وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد الموادعة والسلم المجتمعي.
وهو من مصاديق قوله تعالى[فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ]( ).
وبعد أن قاتل المشركون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وقتلوا العشرات منهم(قيل يا رسول الله، ادع على المشركين، قال : إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة)( ).
لبيان حضور قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم القولية والفعلية .
الثالث : الإعلان العملي لرفعة وعز المؤمنين بفضل من عند الله ، وصيرورتهم في جيش منتظم .
الرابع : من صفات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين الإنذار ، إذ قاموا بإنذار قومهم وعلى نحو متكرر ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( ) .
وتشمل الآية أعلاه الأنبياء على نحو العموم الإستغراقي من آدم عليه السلام إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثم تفضل الله عز وجل وخصّ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب مع صفة زائدة وهي الشهادة على الناس في تصديقهم أو تكذيبهم بالنبوة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ) وعن عبد الله بن سلام قال : صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التوراة وقلوبنا غلفاً ).
ويدل الحديث أعلاه على قانون وهو أن صفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الكتب السماوية السابقة العفو والصفح والغفران والعصمة من الفظاظة والغلظة والصخب ، وهل المراد ذات شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده أم يشمل الخبر وذات الصفات أمته ، الجواب هو الثاني لعمومات قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ) وقد وردت آداب عديدة في دخول الأسواق والبيع والشراء تتقوم بذكر الله والسماحة في البيع والشراء ، وكراهية أن يكون المسلم أول من يدخل السوق وآخر من يخرج منه لما فيه .
(عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “من دخل سوقًا من الأسواق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة) ( ).
الخامس : تنمية ملكة خروج المسلمين مجهزين بالعدة والدروع والرجوع من غير قتال مع الذين كفروا ، والتبادر من علامات الحقيقة ، وقد يتبادر إلى الأذهان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ما داموا خرجوا تحت الألوية والرايات فلابد أنهم يقاتلون العدو ، خاصة وأن العدو كافر يستحق القتال وحمله على الإيمان طوعاً أو كرهاً ، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليعودوا من غير قتال لبيان قانون من جهات :
الأولى : قانون عدم الملازمة بين تسيير الجيوش وبين القتال .
الثانية : قانون حضور رحمة الله في الجيوش التي يخرج بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والسرايا التي يرسلها إلى النواحي والقرى .
الثالثة : قانون أولوية التبليغ في الدعوة إلى الله وأنه مقدم على السيف حتى عند إصطفاف الفريقين ، لذا كان من خصال النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندئذ أمور :
أولاً : الإمتناع عن الإبتداء بالقتال .
ثانياً : دعوة العدو إلى كلمة التوحيد .
ثالثاً : إعانة العدو لإجتناب القتال ، وإجتناب تهديده وتحديه .
لقد نزل الملائكة من السماء يوم بدر لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأدرك بعض المشركين حضورها في ميدان المعركة ، قال تعالى [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ) ومع هذا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعير المشركين به .
نعم قد يتخذه وسيلة لإنذارهم وتحذيرهم من قتاله لأن إجتناب القتال خير محض، وفيه نفع لذات المشركين، ومانع دون تراكم وازدياد الأوزار على ظهورهم.
الخامس : إرادة بني ضمرة من بكر بن عبد مناة بن كنانة , ليس لقتالهم والإغارة عليهم , إنما المراد الأمن منهم.
ووادعت بنو ضمرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومعنى الموادعة : الإمتناع عن القتال والحرب من الودعِ وهو الترك وترك كل واحد الآخر ، وبين المصالحة الموادعة عموم وخصوص مطلق ، فالمصالحة أعم فقد تأتي بعد قتال وحرب .
وفي الحديث : (كان كعب القرظي مُوادعاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم), وتوادع الفريقان أي أعطى كل واحد منهما عهداً للآخر ألا يغزوه .
والذي وادع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من بني ضمرة (سيدهم مخشي بن عمرو الضمري).
وعاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولم يلق قيداً ، ولم يقاتل ، ولم يتعرض لقافلة قريش ، ولو شاء الله عز وجل لتعرض لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالوحي إلى النبي بخروجه في وقت مناسب , وتوجهه إلى الطريق الذي تمر فيه القافلة .
وأيهما أكبر وأعظم نفعاً الموادعة مع بني ضمرة أو الإستيلاء على القافلة ، الجواب هو الأول ، من جهات :
الأولى : بيان حقيقة وهي أن النبي يريد الموادعة والمصالحة ولا يطلب القتال .
الثانية : لم يباغت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بني ضمرة ، ويهجم عليهم إنما أراد الصلح والموادعة .
الثالثة : بعث رسالة إلى القبائل المحيطة بالمدينة بإرادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الموادعة والمصالحة , وليس القتال والحرب .
الرابعة : بيان مصداق نبوي من إحتجاج الله عز وجل على الملائكة [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ).
عندما سألوا بصيغة الإنكار عن نصب الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) مع أنه يفسد فيها ويسفك الدماء ، فمن مصاديق إحتجاج الله عز وجل على الملائكة في غزوة الإبواء أمور :
الأول : وجود نبي في الأرض يتلقى الوحي من عند الله .
الثاني : إذا كان الملائكة [ َيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ]( ) فان الأنبياء أيضاً لا يفعلون إلا ما يأمرهم به الله عز وجل .
الثالث : ذات الوحي مصداق للخلافة وبيان لأهل السموات والخلائق كلها بوجود صلة بين الله عز وجل والخليفة سواء كان المراد من الخليفة المعنى الأخص والقضية الشخصية أم المراد عموم جنس الإنسان .
فان قلت إنقطع الوحي بانتقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، الجواب هذا صحيح ، ولكن الوحي والتنزيل بقيا في الأرض بالكتاب والسنة ، وهما من أوتاد الأرض ، وتتقوم بهما الحياة الدنيا وأسباب المعيشة والمكاسب بلحاظ أن عبادة الناس لله عز وجل علة لخلقهم .
الرابع : ميل الفريقين إلى الموادعة وعدم الإقتتال .
لقد كان بنو ضمرة مقيمين على الكفر , فلماذا لم يحاربهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب بيان البرهان والشاهد على أن النبي لا يريد القتال ، إنما تكون الموادعة مناسبة للتدبر بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومقدمة حسية للهداية والإيمان ، وهو من أسرار نزول القرآن نجوماً ومع تعاقب الأيام والسنين .
وأيهما كان الأول زماناً قيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج بنفسه أم السرية التي يبعثها من أصحابه .
الجواب هو الثاني إذ كانت سرية حمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة أي أن حمزة وأصحابه خرجوا في سريتهم قبل معركة بدر بسنة كاملة ، وكان أول خروج للنبي من المدينة بهيئة الدفاع , وما يسمى غزوة إلى الأبواء في شهر صفر من السنة الثانية أي قبل معركة بدر بسبعة أشهر ، لتكون أول راية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الأبواء على وجوه :
الأول : أول راية دفاعية في الإسلام .
الثاني : أول راية نبوية للنبي وأصحابه والمهاجرين من المدينة .
الثالث : ليس في أول خروج نبوي , وأول سرية أحد من الأنصار ، وذكر عن ( على بن الحسين عليهما السلام يقول: كنا نعلم مغازي النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما نعلم السورة من القرآن ) ( ).
(قال الواقدي: وسمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت عمى الزهري يقول: في علم المغازي علم الآخرة والدنيا.) ( ).
ولابد من دراسات خاصة في أمور :
الأول : خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه من المدينة فيما يسمى بالغزوات .
الثاني : المعارك التي قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : الخروج مع الصحابة حيث لم يقاتل فيها .
الرابع :السرايا التي بعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : السرايا التي لم يقع فيها قتال .
السادس : أكثر السرايا أفراداً .
السابع : أقل السرايا افراداً .
الثامن :التسلسل العام للغزوات والسرايا مجتمعة , وتأريخ كل منها .
وعن ابن عباس أن أول آية نزلت في القتال[أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ]( ).
اذ تبين الآيتان أعلاه صفات للذين آمنوا صارت مقدمة للقتال وهي :
الأولى : الإيمان بالله ورسوله .
الثانية : لحوق الظلم بالمؤمنين .
الثالثة : إخراج المؤمنين من ديارهم وبلدتهم وأملاكهم .
الرابعة : هذا الإخراج بغير حق وهو ظلم وفق أي قانون أو قاعدة أو عرف .
الخامسة : علة ظلم وإيذاء الكفار للذين آمنوا واخراجهم من ديارهم هو إيمانهم وإعلانهم بأن الله سبحانه هو ربهم .
الأسرى المسلمون
من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله سلم وقوع أسرى من المسلمين عند المشركين على نحو العدد القليل والأفراد مع أن الرجحان من جهة العدد والعدة كان للمشركين .
فمع أن عدد جيش المسلمين في معركة بدر كان نحو ثلث جيش الذين كفروا فقد تم أسر سبعين من المشركين ، ولم يأسر فرد واحد من المسلمين ، وأنى يقع واحد منهم بالأسر، وكان المشركون يفرون بانفسهم تاركين رحالهم وأزوادهم برعب وفزع .
ولقد ورد قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) في معركة أحد التي وقعت بعد معركة بدر بثلاثة عشر شهراً فهل تشمل مضامينها معركة بدر من جهة القاء الرعب في قلوب الذين كفروا أم أن القدر المتيقن منها معركة أحد وما بعدها لعدم القول بالإستصحاب القهقري .
الجواب هو الأول وتقدير الآية أعلاه : القينا ونلقي وسنلقي وسوف نلقي الرعب في قلوب الذين كفروا ..) بلحاظ أن السين في [سَنُلْقِي] للمستقبل القريب أما سوف فهو للمستقبل البعيد ، ولكن هذا التفصيل ليس قانوناً ، إنما هو استقراء، والأصل في معنى اللفظ القرآني الإطلاق .
ليكون هذا الرعب مقدمة للفزع والخوف الذي يملأ قلوب وأركان الذين كفروا في الآخرة ومواطن يوم القيامة بلحاظ أن الدنيا مزرعة الآخرة ، فمن يعمل الصالحات يجد الأجر والثواب الحسن ، ومن يعمل السيئات تنتظره جهنم والعذاب الأليم ، قال تعالى [وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ] ( ) لبيان حال الرعب التي تصيب المشركين في عرصات يوم القيامة وشدة الهول التي تتغشاهم في مواطنها ، فهم لا يفوتون الله عز وجل ولا يستطيعون الهرب من حسابه .
وجاءت صيغة الماضي في الآية لإرادة المستقبل لأنه أمر واقع حقاً ولتجلي البرهان باخبار القرآن وعن عدد من التابعين أن الآية أعلاه نزلت في قتلى المشركين يوم بدر ، وبه قال السدي والضحاك وزيد بن أسلم.
(عن ابن زيد { ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت }( ) قال : هم قتلى المشركين من أهل بدر ، نزلت فيهم هذه الآية) ( ).
لبيان التباين بين المؤمنين والكافرين يوم القيامة ، فقد جاء القرآن بالبشارات للذين آمنوا بسلامتهم من الخوف والرعب والحزن يوم القيامة ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
ومن مفاهيم الآية أعلاه بيان قانون وهو أن وقوع المشرك أسيراً بيد المسلمين خير له ، ومناسبة للتأمل والتدبر في حالة وضلالة وسوء عاقبته ، وإمكان التدارك قبل فوات الأوان بالموت .
وكما أنه لم يقع أحد من المسلمين أسيراً بيد جيش المشركين في معركة بدر ، فانه لم يقع منهم أسرى في أيديهم في معركة أحد مع كثرة جيش المشركين، وصيرورة الريح لهم أثناء المعركة بعد ترك الرماة المسلمين مواضعهم ، فبينما قتل سبعون وأسر سبعون من المشركين في معركة بدر ، فانه قتل سبعون من المسلمين لكن لم يؤسر منهم أَحد في أٌحد ، كما كان قتلى المشركين يومئذ ثمانية وعشرين ، بينما كان قتلى المسلمين في معركة بدر أربعة عشر ووقع في الأسر من المشركين في معركة أحد إثنان .
ففي طريق عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى المدينة من حمراء الأسد التي خرج لها في اليوم التالي لمعركة أحد ظفر بمعاوية بن المغيرة وأبي عزة الجمحي وهو شاعر ، وقد وقع في الأسر أيضاً في معركة بدر ، وأطلقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلا فدية بعد أن عاهده أن لا يظاهر عليه أحداً ، لبيان أن مظاهرة الشاعر أكثر تأثيراً لأنه يهيج ويحرض الناس على القتال ، قال تعالى [وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَى أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ*وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ *إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ]( ) .
فلما حضر أبو عزة بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يا محمد أقلن علي لبناتي ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نظر إلى أمر آخر فقال : له تعود إلى مكة لتقول خدعت محمداً مرتين ( ).
ويأتي قوله هذا بشعر يتضمن تحريض الذين كفروا على النبوة والإسلام ، فيكون أكثر ضرراً على الناس عامة , وكأنه يسعر الحرب من جديد .
وبعد معركة أحد بأكثر من سنة جهّز المشركون جيشاً عظيماً قوامه عشرة آلاف رجل ليبقى هذا العدد من الجنود آنذاك شاهداً على شدة محاربة الذين كفروا للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فمع قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ والدعوة ثلاث عشر سنة في مكة قبل الهجرة ، ومنها ثلاث سنوات كان يطوف فيها على القبائل في منازلهم في منى في الموسم يدعوهم فيها على أمور مجتمعة ومتفرقة :
الأول : الإيمان بالله عز وجل .
الثاني : التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : إيواء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قراهم وديارهم .
الرابع : حفظ ومنع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعاهد سلامته والدفع عنه .
الخامس : عدم تسليم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو من معه إلى المشركين .
السادس : الإنصات إلى آيات القرآن التي تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
ولم يستجب له إلا نفر من الخزرج فأكرمهم الله بأن سمّاهم الأنصار لينفردوا بهذه التسمية وما فيها من الثناء من بين الأولين والآخرين .
وقد ورد لفظ [وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا] ( )مرتين في القرآن وكلاهما في الأنصار ، ووردتا في آيتين متقاربتين من سورة واحدة إلى جانب ذكرهم في القرآن بلفظ الأنصار مرتين أيضاً ( )وفي سورة واحدة أيضاً تلي السورة التي تذكرهم بفضل النصرة والإيواء وهي سورة التوبة ، وذكرهم في القرآن أكثر من هذه الآيات وبما يكون أعم من المدح والثناء والدلالة .
واسم معركة الأحزاب الخندق ، وتحتمل الرتبة بينهما وجوهاً :
الأول : التساوي في التسمية .
الثاني : تسمية الأحزاب هي الأهم والأولى .
الثالث : تسمية الخندق هي الأهم والأولى .
والصحيح هو الثاني لوجوه :
الأول : تسمية القرآن لهذه المعركة بالأحزاب , وقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بحفرخندق حول المدينة لمنعهم من إقتحام المدينة .
وهل كان هذا الخندق هو الواقية كعلة تامة للحيلولة دون دخولهم المدينة وإنسحابهم ورجوعهم إلى مكة ، الجواب لا ، إنما بعث الله عز وجل عليهم ريح الصبا فأطفأت نيرانهم ، وأكفأت قدورهم ، وجعلتهم عاجزين عن القرار والبقاء بسكينة .
وبعث الله عز وجل ملائكة لدفعهم عن المدينة وحصارها ، ومن مصاديق إمتناع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن القتل والقتال أنه لم يأمر برمي المشركين الذين يحاصرون المدينة بالسهام والنبال والإغارة على إطرافهم خاصة وأن الخندق لا يحيط بالمدينة كلها لوجود أشجار كثيفة وتلال من جهة أخرى .
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ترك المشركين وحالهم وانشغل وأصحابه بذكر الله وإقامة الصلاة ، لبيان معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باحاطة عشرة آلاف رجل من المشركين الأعداء للمدينة أكثر من عشرين ليلة ثم إضطرارهم للإنسحاب دون أن ينالوا شيئاً مع فقدانهم لبعض فرسانهم يومئذ ، كما في قيام الإمام علي عليه السلام بقتل فارسهم عمرو بن ود العامري وهزيمة أصحابه ، ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) .
وتدل الآية أعلاه على حرص المسلمين على إجتناب القتال وأنه أذى لهم ، وفيه دليل على عدم إنتشار الإسلام بالقتال .
، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ] ( ).
ومع وجود عشرة آلاف من المشركين محاصرين للمدينة فقد صار المنافقون في داخلها كالجيش الذي يبث الأراجيف وينشر روح الفزع واليأس والطيرة وكانوا يودون لو أنهم في البادية أثناء الحصار ويتابعون أخبار المدينة منها .
الثاني : ورود سورة كاملة في القرآن باسم الأحزاب وإن كان موضوع التسمية أعم من أن يختص بمعركة الأحزاب .
و(عن ابن عمر :أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا قفل من غزوة أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ، ثم يقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون ، صدق الله وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده)( ).
لبيان قانون من جهات :
الأولى :إتحاد صيغة دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند العودة إلى المدينة مع تعدد ضروب وأسباب خروجه منها .
الثاني : لم يغادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة إلا لحج أو عمرة أو دفاع عن بيضة الإسلام .
الثالثة : إبتداء دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بالتكبير والتهليل .
الرابعة : تتضمن كل كلمة من الدعاء الشكر لله بالأدلة الثلاثة :
الأولى : بالدلالة اللفظية المطابقية ، وهي تفسير اللفظ بجميع مدلوله كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم : له الحمد ،ربنا حامدون .
الثانية : الدلالة التضمنية ، وهي تفسير اللفظ بجزء معناه والذي يتجلى فيه واضحاً ، كما في صدق الله وعده ، نصرة عبده ، هزم الأحزاب وحده ، وقال المناطقة أن النسبة بين الدلالة المطابقية والتضمنية هي العموم والخصوص المطلق ، فمع ثبوت التضمنية تثبيت المطابقية ، دون العكس عند توجه المطابقية ولا توجد التضمنية .
الثالثة : الدلالة الإلتزامية ، وهي الإستدلال باللفظ على معنى آخر غيره ، وتسمى بالإلتزامية لأن هناك نوع تلازم ذهني بين اللفظ ومعنى خارج عنه ، فلابد من وجود هذه الملازمة بالذهن ليتبادر المعنى الخارج من اللفظ والمفهوم إلى الذهن.
الثالث : ورود ذات اسم الأحزاب عن أهل البيت والصحابة (عن زر قال : قلت لعبيدة : سل علياً عن الصلاة الوسطى . فسأله فقال : كنا نراها الفجر ، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله قبورهم وأجوافهم ناراً) ( ).
الرابع : ذكر التابعين باسم الأحزاب (عن السدي في قوله { ولما يأتكم مثل الذين خلوا}( ) أصابهم هذا يوم الأحزاب حتى قال قائلهم { ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً}( ))( ).
(عن الحسن البصري في قوله { وإذ غدوت من أهلك }( ) قال يعني محمداً صلى الله عليه وسلم يبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال يوم الأحزاب) ( ) والمختار أن موضوع نزول الآية أعلاه هو معركة أحد ، خاصة وأنه كان في معركة قتال ومبارزة ، وسمّاه الله [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
الخامس : بيان مناجاة وتحشد الذين كفروا ضد الإسلام وزحف أهل مكة والقبائل ضد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
ومن الآيات في المقام دلالة كل من اسم معركة الأحزاب والخندق على حال الدفاع التي كان عليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون وما لاقوه من الأذى وسعي الذين كفروا لإستئصال الإسلام ، فكان الخندق وقاية وإحترازاً أما تسمية الأحزاب فتدل أيضاً على قيام الذين كفروا بالهجوم على البلدة الوحيدة لحكم النبوة والإسلام .
السادس : بيان عظيم فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، لقد جهّز مشركوا مكة جيشاً من عشرة آلاف شخص وأنفقوا الأموال الطائلة على هذا الجيش ليأتي هذا الإنفاق على أموال وذخائر قريش، ويجعلهم غير قادرين على مواصلة تجارة[رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
وما فيها من المكاسب والشأن وإن كان أصابها الشلل من جهة احتمال تعرضها للسلب والنهب والإستيلاء، وتجرأ القبائل عليهم وحاجتهم لإرسال عدد أكبر من الرجال والعبيد والغلمان برفقتها .
السابع : في تسمية الأحزاب ذم للذين كفروا , وبيان لقبح ما فعلوه في محاربة الإسلام .
الثامن : الوعيد بسوء عاقبة الأحزاب الذين اجتمعوا لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
التاسع : ترغيب الأحزاب بالتوبة والإنابة ، فمن إعجاز القرآن أن التذكير بالذنب والمعصية طريق للتوبة والإقلاع عن الذنوب والمعاصي ، قال تعالى [فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذكرى] ( ).
العاشرة : بعث السكينة في نفوس المسلمين للإستعداد للدفاع بالسلاح وتهيئة الرواحل والمستلزمات لزجر الكفار عن غزو المدينة وهي المصر الوحيد لدولة الإسلام ز
وهل حفر الخندق يومئذ من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ) .
الجواب نعم ، صحيح أن الخندق إحتراز وواقية إلا أنه من أسباب القوة والمنعة، نعم يدل اسم الأحزاب على لزوم التهيئ للذين كفروا وتجهيز الجيوش والأسلحة والرواحل لمحاربتهم وصدهم ودفعهم عن ثغور الإسلام .
ويدل تعدد اسم المعركة الواحدة على عناية المسلمين بذات المعركة وشكرهم لله عز وجل على دفع شرورها عن كل من :
الأول : شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسلامته من القتل أو الأسر .
الثاني : نزول آيات القرآن وعجز الذين كفروا عن إيقافه أو منعه .
الثالث : نجاة المهاجرين من القتل و الأسر .
وكان كفار قريش يرغبون بأسرهم وإدخالهم إلى مكة أذلة لزجر شباب مكة ذكوراً وأناثاً وعموم أهلها عن دخول الإسلام .
الرابع : قتل الأنصار الذين يدافعون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويمنعون من استباحة المدينة .
الخامس : قتل أو سبي النساء والصبيان الذين يواجهون بالعصي والحجارة والسيوف جيش الذين كفروا، لأن الذين كفروا يرومون استئصال الإسلام عند الكبار والصغار.
السادس : سبي عامة نساء وصبيان المهاجرين والأنصار .
قال تعالى[يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ) إذ قام الذين كفروا بتكذيب معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لمنع دخول الناس الإسلام ، وتبين الآية وهن حيلة الكفار ، وكيف أن سعيهم ضعيف في أمر عظيم ، فاختاروا حمل السلاح وتحريض القبائل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسل وأصحابه مع قلة عددهم ، وتدل الآية على أن تحقق تمام الدين وظهور مبادئ الإسلام إنما هو من عند الله عز وجل ، والمراد من التمام في قوله تعالى [يُتِمَّ نُورَهُ] صيغة الإطلاق من جهات :
الأولى : الموضوع .
الثانية : المكان وتغشي الإيمان أرجاء الأرض .
الثالثة : الزمان واستدامة حضور الإيمان وتلاوة آيات القرآن في كل زمان وإلى يوم القيامة .
الرابعة : تغشي الحسرة لقلوب الذين كفروا وعدم مفارقتها لهم.
ولما عزم جيش المشركين على الإنسحاب من معركة أحد نادى أبو سفيان (مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ لِلْعَامِ الْقَابِلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ لِرَجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ قُلْ نَعَمْ هُوَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَوْعِدٌ) ( ) .
وفيه بالدلالة التضمنية تسليم بأن المسلمين لم ينهزموا في معركة أحد ، وأنهم أمة يتعاضد رجالها بحيث تقدر تحدي العدو وهزيمته ، وكـأنه نوع إقرار من أبي سفيان بأن المسلمين [خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ولما رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنسحاب أبي سفيان وأصحابه خشي من إحتمال رجوعهم إلى المدينة والإغارة عليها، قال ابن اسحاق (ثُمّ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ اُخْرُجْ فِي آثَارِ الْقَوْمِ ، فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ وَمَا يُرِيدُونَ فَإِنْ كَانُوا قَدْ جَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ مَكّةَ ، وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ ، وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ أَرَادُوهَا لَأَسِيرَنّ إلَيْهِمْ فِيهَا ، ثُمّ لَأُنَاجِزَنّهُمْ قَالَ عَلِيّ : فَخَرَجْت فِي آثَارِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُونَ فَجَنّبُوا الْخَيْلَ وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ وَوَجّهُوا إلَى مَكّةَ) ( ).
وفي رواية الواقدي (إنْ رَكِبُوا الْإِبِلَ وَجَنّبُوا الْخَيْلَ فَهُوَ الظّعْنُ وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ وَجَنّبُوا الْإِبِلَ فَهِيَ الْغَارَةُ عَلَى الْمَدِينَةِ) ( ).
والمختار أن النسبة بين الغزوة والغارة هو العموم والخصوص المطلق ، فالغزوة أعم ، وليس في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إغارة على مدينة وسبي أهلها .
السابع : استباحة المدينة المنورة .
الثامن : تتبع وقتل الذين كتبوا آيات القرآن على الرقاع( ) والعسب( )واللخاف( ) والأكتاف والجلود والحجارة الرقيقة والأقتاب( ) والكرانيف( ) والقرطاس( )، واستقصاء القرآن المدّون وان لم يكن مجموعاً في المصاحف بعد .
التاسع : منع إقامة الصلاة والصيام والفرائض الأخرى [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ]( ).
العاشر : إدخال عبادة الأصنام إلى المدينة , وحمل أهلها على تقديسها .
الحادي عشر : منع تلاوة المسلمين والناس عامة لآيات القرآن سواء التي نزلت في مكة قبل الهجرة أو التي نزلت في المدينة قبل وأثناء معركة الخندق .
الثاني عشر : منع الأنصار وعوائلهم وذويهم من دخول مكة لأداء مناسك الحج والعمرة ، وهل يقومون بحصارهم مثل حصارهم لأهل البيت في شعب أبي طالب ، الأقوى لا ، لعدم إجتماع مستلزمات الحصار ، ولعودة كفار قريش إلى مكة وعدم اقامتهم في المدينة .
الثالث عشر : تحريض المنافقين والفاسقين على الإسلام والمسلمين , وفي معركة أحد وحيث صار جيش المشركين على بعد بضعة كيلو مترات عن المدينة المنورة، تعمد المنافقون الإضرار بالمسلمين وعوائلهم من جهات:
الأولى : تحريض عامة الأنصار للرجوع من وسط الطريق إلى معركة أحد، وقد رجع منهم ثلاثمائة وبقي من المهاجرين والأنصار سبعمائة وهم نحو ثلث جيش المشركين الذي زحف غازياً إلى المدينة يومئذ مع حاجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام إلى السواد، وما في شهود المعركة إلى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأجر والثواب العظيم.
الثانية : إشاعة الخوف والفزع من جيش المشركين من وجوه:
أولاً : كثرة جيش المشركين.
ثانياً : عزم المشركين على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ثالثاً : إرادة المشركين قتل أو أسر الصحابة.
رابعاً : قلة عدد وعدة وسلاح المسلمين بالقياس مع جيش المشركين.
خامساً : صيرورة جيش المشركين على مشارف المدينة.
الثالثة : حث الصحابة خاصة الأنصار على عدم الخروج لقتال المشركين، لقد أرادها المنافقون فرصة لبث السموم ، وإثارة الوهن والجهل في صفوف المسلمين، ولكن الله عز وجل أنزل الآيات التي تمنع المنافقين من الإضرار بالمسلمين.
الرابعة : شماتة المنافقين بالذي يستشهد من المسلمين وليس من حصر لصيغ هذه الشماتة منها ما ذكره القرآن بقوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ]( ).
فنزل القرآن بتوبيخ المنافقين والذين كفروا ممن يثبطون المؤمنين ويدّعون أن الشهداء لو بقوا في المدينة ولم يخرجوا للقتال أو التجارة وطلب الرزق لما ماتوا وما قتلوا .
ومن ضروب التوبيخ في المقام نزول القرآن بتحدي المنافقين بعجزهم عن دفع الموت عن أنفسهم بقوله تعالى [أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ] ( ).
وهل في الآية أعلاه وعيد بتقريب آجال الكافرين والمنافقين بينما تبقى آجال المؤمنين على حالها ، أو أن الله يمد في أعمارهم ، ويأخذ لهم من أعمار الذين كفروا ، الجواب لا دليل عليه ، إنما تكون الآجال على حالين :
الأول : الذي يموت في أوانه وعند حلول أجله ، قال تعالى [إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]( ).
الثاني : الذي يمّد الله سبحانه في عمره ، ويرجئ أجله بفضل ونعمة منه تعالى ، من غير أن يأخذ له من عمر غيره ، وقد حرم الذي كفروا والمنافقين أنفسهم من هذه النعمة .
وإن قلت إن الله عز وجل يعلم بالموجود والمعدوم وهو يعلم إذا مدّ في عمر الكافر هل يتوب ويعمل الصالحات ، أم يبقى على كفره ويزداد إثماً باقامته على السيئات ، فهل يمهل الكافر الذي سيتوب بعمر وأيام اضافية حتى يبلغ مرتبة التوبة والإنابة .
الجواب نعم قد يتفضل الله بهذه النعمة بلطف منه وبسبب دعاء أو شفاعة أو فعل خير من ذات العبد أو غيره بما يجلب النفع له لتكون الآجال وإلارجاء فيها عوناً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الدعوة إلى الله من غير أن تصل النوبة إلى القتال ، وهذا الإرجاء من عمومات قوله تعالى [ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ] ( ).
وورد في سبب نزول الآية أعلاه من سورة النساء عن مجاهد بأنه كان قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم امرأة ولدت بنتاً ، فقالت لأجيرها عند الولادة انطلق فاقتبس لي ناراً ، فأنطلق الأخير ، فوجد رجلين قائمين على الباب ، فسأل أحدهما صاحبه : ما ولدت ؟
فاجابه : ولدت جارية .
فرد عليه الأول ، لا تموت هذه الجارية حتى تزني مع مائة( ) ويتزوجها الأجير وقيل أنما كان الواقف على الباب رجل واحد وأنه سأل الأجير فأخبره ، ويكون موتها بعنكبوت من غير أن يبينا كيفية القتل بالعنكبوت ، والمتبادر أنها تسمها ، فسخط هذا الأجير من كثرة زنى هذه المولودة إذا كبرت ، ومن زواجه منها ، لأنه الأجير الذي في البيت .
فقال : أما والله لأكذبن حديثهما .
فرمى بما في يده وأخذ المسكين فشحذها .
وقال : إلا تراني أتزوجها بعد ما تزني مع مائة .
ففرى كبدها ، ورمى بالسكين ، وظن أنه قتلها ، وفرّ من القرية وابتعد في الأرض ، فصاحت الصبية فقامت أمها فرأت بطنها قد شقّ فخاطته وداوته حتى برئت .
ولو أن الأجير اتجه إلى الدعاء لصرف أمر الزنا أو الزواج منها لتحقق له ما يريد ولصرف الله الجارية عن الزنا ، وهو من عمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، أي يمحو الله ما يشاء بالدعاء .
وشبت الفتاة وصارت تبغي ، وذهبت إلى ساحل من سواحل البحر ، فأقامت هناك وهي تبغي ، ويبين الخبر حاجة الناس إلى الإسلام وإقامة الحدود لزجر الناس عن القتل وعن فعل الفاحشة ، وانتقل الأجير إلى العمل بالبحر والصيد فصار عنده مال كثير ، فعاد إلى تلك القرية , وأراد أن يعرف من بقي حياً من أهل تلك الديار ومن مات وما هي أحوالهم التي صاروا عليها .
فسأل امرأة من أهل القرية أن تجد له زوجة واشترط أن تكون جميلة .
فقالت له : ها هنا امرأة من أجمل الناس ، ولكنها تبغي ، قال ائتني بها ؟
أي أن المرأة كانت ناصحة له .
وهذا الموطن من المواطن التي تجوز الغيبة فيها لعمومات (الدين النصيحة ) .
(عن تميم الداري : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : الدين النصيحة . قالوا : لمن يا رسول الله؟ قال : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم) ( ).
(عن جرير قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة ، والنصح لكل مسلم)( ).
ومع أن هذه البيعة متأخرة زماناً عن بيعة العقبة الأولى والثانية فليس فيها مبايعة على القتال إنما إرادة النصيحة.
ولزوم التأكد والطمأنينة في الخبر ، إذ أن الشهادة على الزنا لا تتم إلا بالبينة المحكمة ، وفي ثبوت الحكم يستلزم شهادة أربعة شهود رأوا الميل في المكحلة ، وهو أمر شبه متعذر لستر الله عز وجل للناس .
وقيل أن الإمام علي عليه السلام قال لا يشهد على الزنا إلا رابعاً ، وفيه مسائل:
الأولى : كراهة المبادرة للشهادة على الزنا .
الثانية : خشية الجلد ثمانين جلدة عند تخلف أحد الشهود ، أو عدم تمام شهادة أربعة رجال .
الثالثة : الإحتراز من إقامة حد الإفتراء ونحوه ، وإرادة الإمام علي عليه السلام منع العوائق التي قد تكون سبباً للإفتراء عندما يتم إقامة الحد .
الرابعة : السعة والمندوحة في الإسلام ، وعدم الحاجة إلى مثل الشهادة على الزنا .
الخامسة : الندب للعمل بستر العباد .
ولما رآها الأجير أعجبه حسنها ، فتزوجها ، ولما دخل بها سألته عن أمره , ومن أين مقدمه ، لتستقرأ حاله والأموال التي عنده ومقدارها وكيفية الحصول عليها وجمعها ، ولتطمئن على حال زواجها .
فأخبرها خبره وأنه كان يعمل في نفس المنطقة ، ولكنه اختار الهرب ، بعد أن قتل وليدة بسبب ما سمعه من رجلين في الباب عن حالها عندما تكبر بأنها تكثر الزنا ويتزوجها الأجير وأنه هو الأجير .
فقالت له : أنا هي التي طعنتها بالسكين ، وأرته مكان السكين فتحقق منه ، وصدّق قولها .
فقال لها : لقد أخبرت بثلاثة مسائل واحدة مضت وواحدة هي الحال وهي زواجه منها ، والثالثة تأتي ، أما التي مضت فقد أخبرت أنك قد زنيت مع مائة رجل (فقالت: لقد كان شيء من ذلك، ولكن لا أدري ما عددهم؟ فقال: هم مائة. والثانية: أنك تموتين بالعنكبوت. فاتخذ لها قصرا منيعا شاهقا) ( ).
ليمنع وصول العنكبوت إلى البيت وتكاثره فيه ، وصيرورته قريباً منها ، فبينما هم يوما إذا بالعنكبوت في السقف فالتفت هو لها وأراها إياها .
فقالت : أهذه التي تحذرها علي , والله لا يقتلها إلا أنا .
فأنزلوا العنكبوت من السقف ، فقامت بوطئها بابهام رجلها فقتلتها ، فطار من سم العنكبوت شئ فوقع بين ظفرها ولحمها من سودة رجلها وكان سبب موتها .
وقد يقال هل في العنكبوت سم .
الجواب هناك أكثر من أربعين ألف نوع من العناكب حول العالم ولكن أغلبها ليست عدوانية ومنها أنواع قليلة تسبب إصابات عند اللدغ ، ويمتلك العنكبوت زوجاً من الأنياب بواسطتها يحقن السم ، وهناك أنواع منها ذات ضرر وخطر مثل الإرملة السوداء وسمها قاتل .
وتعرف بالحال لأن لها بطنا أسود في وسطه لون أحمر .
والعنكبوت البرازيلي وهو أشد فتكاً من الأرملة الحمراء بنحو عشرين ضعفاً ، إذ أن سمّه كسم الثعبان ، ويفقد معها الملدوغ السيطرة على العضلات مع ضيق في التنفس .
والصحيح أن قوله تعالى [أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ] ( ) لم ينزل بخصوص القصة أعلاه , ولو في جهة أسباب النزول خاصة وأنه لم ينسب لأهل البيت والصحابة كون هذه القصة سبباً لنزول الآية الكريمة إنما نسب إلى مجاهد وهو مجاهد بن جبير (21-104) (642-722) م وهو من التابعين ومولى السائب بن أبي السائب المخزومي ، وأكثر مجاهد من الرواية .
كما روى عن عائشة عن ابن عباس وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وغيرهم ، وله كتاب تفسير ولكنه شغوف بالغرائب والأعاجيب ، ومنها هذه القصة التي ذكرها .
لقد نزلت الآية أعلاه في ذم المنافقين وزجرهم عن الشماتة بالصحابة الذين قتلوا دفاعاً عن الإسلام والنبوة والتنزيل .
وصحيح أن المدار ليس على أسباب النزول إنما هو على معنى ودلالة الآية القرآنية وعلى مضامينها القدسية الباقية إلى يوم القيامة من غير زيادة ولا نقصان وعلى مصاديقها الخارجية المتجددة في كل زمان ومكان ، وهو من أسرار تلاوة المسلمين في مشارق ومغارب الأرض لآيات القرآن خمس مرات في اليوم لتذّكر هذه القراءة بالمصاديق والشواهد الموافقة لها ، كما تدعو تلك المصاديق للتدبر بالآية القرآنية والإعجاز فيها خاصة وأن المسلم ينقطع في الصلاة لذكر الله عز وجل ، وتحضر تلك المصاديق في الوجود الواقعي ويصاحبه الوجود الذهني لمضامينها ، ولكن حصر أسباب نزول قوله تعالى [أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ]( ) بحادثة قديمة لا دليل على وقوعها فعلاً مع ما فيها بأن رجلاً أو رجلين في الباب أخبرا عن حال المولودة بأمور من الغيب لا يرقى إليها علم الإنسان وهي :
الأول: إرتكاب الزنا الكثير عندما تكبر .
الثاني : تحديد عدد الزناة بأنهم مائة .
الثالث: الزواج من ذات الخادم أي الأجير الذي يعمل في البيت .
الرابع : تموت بسم العنكبوت ، وهو الذي قتلته بنفسها بعد زواجها ، فكان فيه حتفها .
والمختار أنه لا صلة بين نزول الآية الكريمة أعلاه وأسبابها وبين الواقعة التي ذكرها مجاهد عن هذه الفتاة ، ولكن الآية إنذار للذين كفروا والمنافقين ، وتحذير لهم من الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن إرادة قتاله ومحاربته .
فمن خصائص آيات القرآن أنها مجتمعة ومتفرقة تمنع من القتال ، وتدعو لإجتنابه .
ولم يرد لفظ [مُشَيَّدَةٍ]في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وهل فيه دلالة على أن الذين يسكنون القصور من الناس قلة ، وأن القصور لا تحجب حضور الموت في أوانه ، الجواب نعم ، لعمومات قوله تعالى [فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( ) .
وسواء كان الإنسان عند أهله وفي بلده أو هو في سفر ودفاع أو مرابطة في الثغور فان الموت قريب منه ، وفيه دعوة لنبذ القتال ، والتسليم بالموت وانتظاره وإرجاؤه بذكر الله عز وجل .
لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يفي للمشركين بالعهود ، ويمنع أصحابه من نقضها , وعن (حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ قَالَ : مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلاَّ أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي : حُسَيْلٌ قَالَ فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ فَقَالُوا إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا فَقُلْنَا مَا نُرِيدُهُ مَا نُرِيدُ إِلاَّ الْمَدِينَةَ فَأَخَذُوا عَلَيْنَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلاَ نُقَاتِلُ مَعَهُ فَأَتَيْنَا النَّبِىّي صلى الله عليه وآله وسلم فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ فَقَالَ : انْصَرِفَا نَفِى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ وَنَسْتَعِينُ بِاللَّهِ عَلَيْهِمْ)( ).
فمع حاجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرجال آنذاك ، ومع أن عهد الكفار لا موضوعية له ، لوجود الراجح الشرعي بنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه حث على حفظ العهود مطلقاً، قال تعالى [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً] ( ).
لقد لجأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جوابه إلى الله عز وجل وأظهر الإستعانة به على الكفار في معركة بدر وأيامها ، فتفضل الله عز وجل وأنزل ملائكة من السماء مدداً له ولأصحابه .
ليكون من مصاديق الإستجابة من الله عز وجل له وللمسلمين بقراءة كل واحد منهم عدة مرات في الصلاة اليومية لقوله تعالى[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ]( ).
ومن العدد القليل من الأسرى المسلمين ما حصل لسرية من المسلمين وعددهم عشرة بعثهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لتبليغ الأحكام الشرعية.
وفيهم مرثد بن أبي مرثد ، وخالد بن بكير في السنة الرابعة للهجرة وأمر عليهم مرثد , وقيل عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح ، فلما صاروا بالهدة بين عسفان ومكة، بلغ حياً من هذيل اسمهم بنو لحيان خبرهم، فنفروا لهم بمائة رجل كل واحد منهم يرمي بالسهام ، فأخذوا يتبعون آثارهم، عرفوها من مأكلهم، إذ كانوا يأكلون التمر، فقالوا هذا تمر يثرب.
فأحس بهم عاصم وأصحابه فلجأوا إلى مرتفع من الأرض.
فأحاط بهم القوم، ثم قالوا لهم: أنزلوا وأعطوا أيديكم ولكم العهد والميثاق أن لا يقتل منكم أحد.
فقال عاصم : أما أنا فوالله لا أنزل في ذمة كافر اليوم، وكان قد عاهد الله ألا يمس مشركاً , ويمسه مشرك، اللهم بلغ عنا نبيك السلام، ولم يقل لهم بلغوا عني النبي صلى الله عليه وآله وسلم السلام لأنه أعلن القتال، ولترجيحه عدم وفاء هؤلاء الكفار بعهدهم لبيان قانون وهو أن الكفار هم الذين بدأوا بنقض العهود وهو الشائع من سجاياهم ، ومع هذا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم صبر عنهم ولم يقابلهم بمثله، وقال الله تعالى[فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]( ).
وعلى فرض أن عدم الوفاء بالعهد للأسرى هذا من الإعتداء فانه خارج بالتخصص من الآية أعلاه لتقديم حفظ ذمة المسلمين وإن كان العهد صادراً من أدناهم وأضعفهم ولو من امرأة والقتال ساقط عنها، او من عبد مسلم مملوك، وعاصم هذا هو جد عاصم بن عمر الخطاب لأمه .
ترى لماذا لم ينزل على ذمة القوم مع قلة عدد أصحابه وكثرة عدد المشركين وأتقانهم الرمي ، الجواب لعلمه بأن المشركين لا عهد لهم مع المسلمين، قال تعالى[لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلاَ ذِمَّةً]( ) ومعنى[إِلًّا] أي العهد.
وهل من موضوعية لقوله تعالى وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ في إتخاذ عاصم هذا القرار ، الجواب نعم .
ليكون من الإعجاز الغيري للآية أعلاه بعث المسلمين على الصبر والدفاع مع رجحان القتل بلحاظ العدد والعدة ، والمهارة في فنون القتال ونحوها ، فقاتلهم عاصم وأصحابه ، فقتل منهم سبعة ونزل ثلاثة على العهد والميثاق ، والظاهر أنهم جددوه لهم، وتسمى تلك الواقعة يوم الرجيع .
وهل كان قتال مرثد وأصحابه دفاعاً ، الجواب نعم ، ووفق مقياس العقل وقاعدة ، إذ كانوا يسيرون في طريقهم وتعقبهم القوم بقصد القتل أو الأسر من غير أن يكونوا هم الجهة التي يقصدون .
ولما استمكنوا من المسلمين الثلاثة الذين بقوا أحياء (حَلُّوا أَوْتَارَ قِسِيِّهِمْ وَكَتَّفُوهُمْ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُمْ أَحَدُ الثَّلاَثَةِ قَالَ هُوَ وَاللَّهِ أَوَّلُ الْغَدْرِ فَعَالَجُوهُ فَقَتَلُوهُ)( ).
وهو عبد الله بن طارق ، وبقي اثنان وهما :
الأول : خبيب بن عدي الأنصاري من بني عوف بن كلفة من الأوس، وكان قد شهد معركة بدر ومعركة أحد .
الثاني : زيد بن الدثنة بن معاوية بن عبيد الأنصاري البياضي شهد معركة بدر ومعركة أحد ، آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين خالد بن أبي البكير .
فكأنهما وقعا في الأسر, وليس من الأسر في المقام حسب أحكام الإسلام، ووفق القانون الدولي، ويتضمن الجزء السابع والستين بعد المائة مقارنة بين الأسر في الإسلام وإتفاقيات جنيف للأسرى واللجنة الدولية للصليب الأحمر.
فأنطلق بنو لحيان بالصحابيين أعلاه إلى مكة لعلمهم بأن قريشاً يطلبون الثأر والإنتقام من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء المهاجرين أو الأنصار، وفي أخذهما إلى مكة حجة على قريش وأنهم لا زالوا يسعون للبطش والإنتقام بالمسلمين حتى بعد معركة أحد ، مع أن أبا سفيان علا يومئذ الجبل حينما همّ بالإنصراف من معركة أحد (ثم صرخ بأعلى صوته : أنعمت فعال إن الحرب سجال يوم بيوم بدر , أعل هبل : أي ظهر دينك .
فقال رسول الله لعمر: قم فأجبه: الله أعلى وأجل , لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار , فلما أجاب أبا سفيان قال: هلم إلي يا عمر فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ائته فانطلق فقال: ما شأنه؟
فقال له أبو سفيان : أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا؟
قال: اللهم لا , وإنه ليسمع كلامك الآن قال : فأنت والله أصدق عندي من ابن قميئة وأبر لقول ابن قميئة : قتلت محمدا.
ثم نادى أبو سفيان : إنه كان في قتلاكم مثلة , والله ما رضيت وما سخطت وما أمرت ولا نهيت .
ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: إن موعدكم بدر العام القادم فقال رسول الله لرجل من أصحابه: قل : نعم هي بيننا و بينك موعدا ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: اخرج في أثر القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون؟ فإن كانوا قد جنبوا الخيل و امتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة و إن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم
قال الإمام علي عليه السلام : فخرجت في أثرهم أنظر ماذا يصنعون فلما جنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة أقبلت أصيح ما أستطيع أن أكتم ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بي من الفرح إذ رأيتهم انصرفوا عن المدينة)( ).
وان لم ينحصر قول (يوم بيوم بدر ) في معركة أحد بأبي سفيان وعندما شارفت المعركة على نهايتها ، إنما قاله بعض رجال قريش اثناء القتال لاثارة الهمم، ولو للذات.
قال الإمام علي عليه السلام (لما كان يوم أحد وجال الناس تلك الجولة أقبل أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة، وهو دارع مقنع في الحديد، ما يرى منه إلا عيناه، وهو يقول: يومٌ بيوم بدر. فيعترض له رجلٌ من المسلمين فيقتله أمية. قال علي عليه السلام: وأصمد له فأضربه بالسيف على هامته وعليه بيضةٌ وتحت البيضة مغفر فنبا سيفي، وكنت رجلاً قصيراً. ويضربني بسيفه فأتقي بالدرقة، فلحج سيفه فأضربه، وكانت درعه مشمرة، فأقطع رجليه، ووقع فجعل يعالج سيفه حتى خلصه من الدرقة، وجعل يناوشني وهو باركٌ على ركبتيه، حتى نظرت إلى فتق تحت إبطه فأخش بالسيف فيه، فمال ومات وانصرفت عنه)( ).
وكان الأولى بقريش أن لا تطلب قتل الأسيرين خاصة وأنهما أحضرا إلى مكة على نحو الظلم المركب فلم يخرجوا من مكة لقتال، ولم يطلبوا قريشاً، إنما كانوا في طريقهم لبيان أحكام الحلال والحرام، ولم يمض على معركة بدر سوى سنة وبضعة شهور ، وقد عامل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون الأسرى المشركين خير معاملة، وأطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم عدداً منهم من غير فدية أو عوض .
لقد وفد عليهم الأسيران في الأشهر الحرم، والقتل فيها محرم فأجلوا قتلهما ريثما تخرج هذه الأشهر وقد ورد في ذم الذين يرجئون الصيد يوم السبت قوله تعالى[وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ]( )، إذ كان أهلها يرون السمك الكبار تأتي يوم السبت يوم عطلتهم والإمتناع عن العمل، وتحريم الصيد فيه، لتغادر الاسماك الكبيرة والصغيرة حياضهم وساحل بحرهم مع يوم السبت، فيأتون للصيد يوم الأحد فلا يجدون شيئاً , وتكررت هذه الحال لأسابيع متعددة.
وقام (رجل منهم فأخذ حوتًا سرًا يوم السبت، فخزمه بخيط، ثم أرسله في الماء، وأوتد له وتدًا في الساحل فأوثقه، ثم تركه. حتى إذا كان الغد جاء فأخذه، أي: إنه لم يأخذه في يوم السبت ثم انطلق به فأكله .
حتى إذا كان يوم السبت الآخر، عاد لمثل ذلك، ووجد الناس ريح الحيتان، فقال أهل القرية: والله لقد وجدنا ريح الحيتان، ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل. قال: ففعلوا كما فعل، وصنعوا سرًا زمانًا طويلا لم يعجل الله عليهم العقوبة حتى صادوها علانية وباعوها في بالأسواق)( ) .
فقام أهل التقوى والبقية منهم بتحذيرهم وإنذارهم، ودعوتهم إلى التوبة وتقوى الله، والصبر على الرزق القليل، لأن هذا الصبر مقدمة ونوع طريق للفرج والكسب الكثير، وهو بذاته أمن من البلاء والعقوبة العاجلة والآجلة، قال تعالى[وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( )، وأخذوا ينهونهم عن هذا الصيد، فقالت طائفة أخرى لم تقم بالصيد يوم السبت، ولم يأكلوا من هذه الاسماك التي تصاد فيه[لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ]( ).
وأصبح أهل التقوى والبقية منهم في أحد الأيام في مساجدهم ومنتدياتهم، وفقدوا الذين كانوا يصرون على المعصية على نحو العموم المجموعي فقالوا: لابد من أمر قد حدث، فأنظروا، فجاءوا إلى دورهم فوجدوا أبوابها على حال غلقها في الليل من الداخل مما يدل على عدم مغادرتهم لها رجالاً ونساءً، فأطلّعوا عليهم من الجدران فإذا هم قردة يعرفون أخوتهم وأقاربهم من المتقين، لكن المتقين لا يميزون بينهم .
وقالت ماوية مولاة حجير ابن أبي إهاب ، وكان خبيب بن عدي أسيراً محبوساً في بيتها بمكة ريثما تخرج الأشهر الحرم فيقتلوه ، ثم أسلمت وحسن إسلامها، فكانت تتحدث عن خبيب وكيف أنها لم تر خيراً منه .
إذ أطلعت عليه يوماً من صير الباب وأنه موثق بالحديد كيلا يفر وينهزم، ولم يكن موسم عنب، وليس من حبة عنب تؤكل ، وإذا في يده قطف وعنقود عنب، مثل رأس الرجل على كبره يأكل منه فأدركت أنه من رزق الله، وأن نهجه بالإيمان بالله عز وجل والتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو نهج حق .
وكان خبيب أثناء حبسه داعية إلى الله بالتقوى والإنقطاع إلى العبادة وتلاوة آيات القرآن بصوت عال تترشح عذوبته عن التسليم بقرب القتل , ولقاء الله عز وجل بالتلاوة.
ومن الآيات أن قوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ) بخصوص معركة أحد التي وقعت في شهر شوال من السنة الثالثة وقبل الأشهر الحرم التي تبدأ في شهر ذي القعدة ، والظاهر أنهم قتلوه بعد شهر محرم من السنة الرابعة للهجرة إذ تبدأ السنة بشهر محرم وهو من الأشهر الحرم وبتمامه تخرج الأشهر الحرم الثلاثة: ذو القعدة، ذو الحجة , ومحرم، ليدخل شهر صفر، وهو ليس من الأشهر الحرم إلا أن تكون قريش تعمل تلك السنة بالنسيئة والتي حرّمها الله في قوله تعالى [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
ليتقيد المسلمون بأحكام الأشهر الحرم بأداء فريضة الصيام والحج في أوانهما، ومن الإعجاز في القرآن بيان موضوعية حج بيت الله الحرام في ضبط الحساب وفق النظام الكوني ومنازل القمر، قال تعالى[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( )، وليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( )، انتظام الحساب القمري إلى يوم القيامة .
وفي حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالناس خطبة بليغة تتضمن بيان أحكام متعددة ، وتبعث المسلمين والمسلمات في كل زمان على التفقه في الدين وضبط التواريخ لما فيها من سلامة الدين واتيان حج بيت الله الحرام، وكذا الصيام في أوانهما عند الله وفي السموات، فيقف المسلمون على جبل عرفة في ذات اليوم الذي تنظر فيه الملائكة للواقفين عليه، قال تعالى[فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ]( ).
وشدّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ في الوصية بالنساء والعناية بهن والرأفة بهن، مع بيان ما عليهن، وأكد على الأمانة.
و(عن أبي حرّة الرقاشي واسم أبي حرّة الرقاشي حنيفة وثقّة أبو داود، وكذا الحافظ، وضعّفه ابن معين , روى عن عمه – وكانت له صحبة – قال : كنت آخذاً بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أوسط أيام التشريق أي في حجة الوداع أذود الناس عنه فقال : يا أيها الناس ، هل تدرون في أي شهر أنتم ، وفي أي يوم أنتم ، وفي أي بلد أنتم؟
لقد تعدد السؤال التقريري من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ثلاث مسائل مع كثرة أهل الموسم .
قالوا : في يوم حرام ، وشهر حرام ، وبلد حرام، يبين جواب المسلمين ما بلغوه من المراتب السامية في الفقاهة بفضل الله وجهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقونه.
ثم قال: اسمعوا مني تعيشوا ، ألا لا تتظالموا ألا لا تتظالموا ، إنه لا يحل مال امرىء إلا بطيب نفس منه ، ألا أن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه إلى يوم القيامة.
وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل .
ألا وإن كل ربا كان في الجاهلية موضوع ، وإن الله قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب[فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ]( ).
ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، ألا[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ]( ).
ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ، إلا إن الشيطان قد آيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب .
وروي هذا المعنى عن جابر بن عبد الله الأنصاري( )، فهل يدل الحديث على حرمة تكفير المسلم الذي يصلي، الجواب، نعم , إذ أن صلاته حرب على الشيطان وأعوانه، وبعث لليأس في نفوسهم .
وورد ذكر الصلاة على نحو الإطلاق وإن كان هناك إختلاف في الإجتهاد في أدائها، ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم حرص المسلمين جميعاً على العمل بمضامين قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( صلوا كما رأيتموني أصلي)( ).
ولكن الشيطان ينشط في التحريض بينهم، وهل من التحريض بين المسلمين نعت بعضهم بعضاً بالكفر، الجواب نعم، ليكون الخطبة والحديث من مصاديق الإنذار في قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( ) .
وعن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : عرش إبليس على الماء، ثم يبعث سراياه فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة)( ).
ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته في حجة الوداع : واتقوا الله في النساء فانهن عوان عندكم لا يملكن لأنفسهن شيئاً ، وإن لهن عليكم حقاً ولكم عليهن حقاً أن لا يوطئن فرشكم أحداً غيركم ، ولا يأذن في بيوتكم لأحد تكرهونه[وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ]( )، وإنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها وبسط يديه .
وقال : اللهمَّ قد بلغت ألا هل بلغت ، ثم قال : ليبلغ الشاهد الغائب فإنه رُبَّ مبلغ أسعد من سامع) ( ).
وتستحق هذه الخطبة وحدها أن تؤلف فيها المجلدات ، وإن تكتب فيها الرسائل الجامعية للدراسات العليا .
وأختتمت الخطبة بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فربّ مبلغ أسعد من سامع ) .
ورُبّ حرف جر، لا يجر إلا الأسماء النكرة، ولا يتعلق بشيء لأنه شبيه بالحرف الزائد ولا يقع إلا في أول الكلام، وقد يسبقه حرف الواو.
ومبلّغ: اسم فاعل، مجرور لفظاً وعلامة جره الكسرة، وهو مرفوع محلاً مبتدأ، وأوعى: خبر المبتدأ مرفوع بالضمة المقدرة على آخره.
وتستعمل رُب للتقليل، وقيل قد تأتي للتكثير , وإستدل عليه بعضهم بقوله تعالى[رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ]( ) .
وفي ذكر(ربّ) في الآية أعلاه شاهد على وصول التبليغ بالدعوة إلى الإسلام وأن قلوب عامة الناس مالت إلى التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول آيات القرآن , إلا أن يقال بدلالة صيغة الفعل المضارع ( يود ) على معنى أعم من الوقوع ليشمل التعليق , وهو المختار . وهو لا يتعارض مع الإستدلال بالآية على إفادة ( ربّ ) التكثير .
والمراد لعل شخصاً وصل له التبليغ ممن سمع الخطبة أو غيره انتفع من أحكام هذه الخطبة وعمل بمضامينها ، ليشمل لفظ المبلّغ كل مسلم ومسلمة إلى يوم القيامة.
وهل ينحصر لفظ السامع في الخطبة أعلاه بالصحابة الذين استمعوا الخطبة أم يشمل كل مسلم ومسلمة استمع أو قرأ هذه الخطبة الجواب هو الثاني .
فان قلت : فاين الخصوصية للصحابة الذين حضروا الخطبة.
الجواب هو لفظ (الشاهد ) في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليبلغ الشاهد الغائب , وهل هذه الخطبة من جهة أوانها قبل نزول الآية أعلاه [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ) لتكون مقدمة وتوطئة لنزولها أم بعدها لتكون بياناً لها .
الجواب هو الثاني، إنما كان المشركون يؤخرون السنة أحد عشر يوماً حتى يجعلوا أياماً من المحرم في شهر صفر ليستبيحوا فيها القتال، قال مجاهد: فحج المسلمون في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين: ثم حجوا في صفر عامين، ثم في ذي القعدة عامين الثاني منهما حجة أبي بكر قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم من قابل في ذي الحجة فذلك حين يقول: إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)( ).
ولم يحضر خبيب بن عدي خطبة النبي هذه , لأنه قتل قبلها بنحو ست سنوات فهل له أجر وثواب وكأنه سمعها وعمل بها، وقام بتبليغها، الجواب نعم، لقد أخبر الله عز وجل أن خبيباً حيّ يرزق عنده ، يستبشر بفضل الله ومنه ثواب حضور هذه الخطبة للإطلاق في مصاديق فضل الله .
ولعل ماوية والنساء اللائي كنّ يسمعنه يقرأ القرآن ، وهو في سجنه عندهم قبل قتله قد حضرن موسو الحج تلك السنة وسمعن الخطبة النبوية المباركة ، إذ كن أثناء قراءته لآيات القرآن يبكين ويرقّن عليه، وقالت له ماوية : يا خبيب هل لك من حاجة ؟
(فقال : لا إلا أن تسقيني العذب , ولا تطعميني ما ذبح على النصب وتخبريني إذا أرادوا قتلي. فلما انسلخت الأشهر الحرم وأجمعوا على قتله , قالت : أتيته فأخبرته، فوالله ما رأيته اكترث لذلك وقال: ابعثي إلي بحديدة أستصلح بها)( ).
يريد الإستعداد للقتل بحلق الشعر والتهيء للصلب، وعدم السخرية منه حينئذ، وليلقى الله عز وجل بحال من النظافة، فأستجابت له، وبعثت له بموسى مع ابنها ابو حُسين وهي حاضنة له , وليس ابنها ولادة .
فلما دخل عليه الغلام أدركت أنها أخطأت ، وأن خبيباً سيقتل الغلام بذات الحديدة التي بعثته بها وأنه سيقول رجل برجل فيأخذ ثأره قبل ان يُقتل ، فلما تناول خبيب الحديدة من الغلام قال له ممازحاً له: وأبيك إنك لجريء أما خشيت أمك غدري حين بعثت معك بحديدة وأنتم تريدون قتلي؟
وكانت ماوية تسمع كلامه ، فخشيت أن يكون كلامه هذا مقدمة لقتله ، فاشتد خوفها فلم تسكت ، فقالت : يا خبيب، إنما ائتمنتك بأمان الله وأعطيتك بالهك الذي تعبده، ولم أعطك لتقتل ابني، ولم تقل له إني وإياه سندخل الإسلام لصيرورة هذا الكلام سبباً لقتلها معه.
فقال خبيب: ما كنت لأقتله وما نستحل في ديننا الغدر)( ).
ليبين خبيب قانوناً في الشريعة الإسلامية فإلى جانب أن معارك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دفاعية وليست هجومية فان القرآن والسنة ينهيان عن الغدر والغلبة والخيانة.
وقد يرى بعضهم أن حال خبيب وثأره من قاتليه قبل أن يقوموا بقتله ظلماً ليس من الغدر، ولكن أخبر بأنه غدر ، مما يدل على تأديب القرآن والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة على الأخلاق الحميدة ، وعلى بعث الأمن والطمأنينة حتى في نفوس الذين كفروا وهم يهمّون بالإعتداء والظلم والقتل ، وهو من مصاديق وعمومات قوله تعالى[وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ).
ليتلقى المسلمون هذا الخلق العظيم بالقبول والرضا ويكون سجية ثابتة عندهم، وفيه دعوة للناس لدخول الإسلام، وهو شاهد على أن الإسلام لم ينتشر بالسيف، إنما بالبرهان والمعجزة ورشحاتها على المؤمنين والمؤمنات في ثباتهم على الإيمان وعصمتهم من الشك والريب , وتنزههم عن الغش والغدر والخيانة حتى في أشد الأحوال .
ولم يخرج خبيب وأصحابه من المدينة للقتال، إنما أمرهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بمرافقة وفد القارة لتبليغ أحكام الشريعة، وتعليم المسلمين والمسلمات في ناحيتهم سنن الإسلام وتفاصيل أداء الفرائض، ولا يعني هذا أنهم لا يقاتلون ولا يدافعون عن الإسلام وعن أنفسهم .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد بيعة العقبة قد بعث مع الأنصار من الأوس والخزرج مصعب بن عمير وابن أم مكتوم.
ووقعت في السنة الثالثة للهجرة معركة أحد وهجوم ثلاثة آلاف رجل من المشركين لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ثم موعدة أبي سفيان في ذات اليوم بتجديد اللقاء والقتال في السنة التالية في بدر، ليكون من معاني وتقدير قوله تعالى[وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) وجوه :
الأول : وما أصابكم يوم التقى الجمعان ليس آخر اللقاء مع المشركين .
الثاني : وما أصابكم يوم التقى الجمعان دفاع عن الإسلام والأجيال المتعاقبة من المسلمين، قال تعالى[أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ]( ) .
والمشهور أن هذه الآية إذن بالقتال والجهاد وأن أوانها عند الهجرة النبوية إلى مكة وتقديرها: أذن للذين يقاتلون أن يقاتلوا .
ولا دليل في الآية على الهجوم والغزو وسيأتي مزيد بيان.
الثالث : وما أصابكم يوم التقى الجمعان لطف وتخفيف من عند الله .
الرابع : ما أصابكم يوم التقى الجمعان واقية من إمضاء أبي سفيان وأصحابه وعدهم باللقاء والقتال في العام التالي .
الخامس : ما أصابكم يوم التقى الجمعان دعوة للمسلمين للدفاع والصبر على أذى الذين كفروا، قال تعالى[وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ]( ).
السادس : ما أصابكم يوم التقى الجمعان حث للمؤمنين على الصبر في جنب الله إن تعرضوا للأذى، كما في خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة عندما عزم كفار قريش على قتلهما.
لقد عاد الصبي من خبيب بعد أن أعطاه الموسى سالماً لم يمسه بأذى ليمهد بحسن خلقه لدخوله وأمه الإسلام ، ثم قامت ماوية باخبار خبيباً أنهم قاتلوه بالغداة( ) .
وهل يمكن جعل مسلسل وفلم ومسرحية عن قصة خبيب والجوانب الإنسانية والأخلاقية فيها، وشدة الظلم الذي وقع على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الجواب نعم ، وكذا بالنسبة لحصار رؤساء قريش على أهل البيت في شعب أبي طالب ونحوه .
وفي صباح اليوم التالي جاء كفار قريش وغلمانهم وعبيدهم فأخرجوا خبيباً وزيد بن الدثنة في الحديد في الأيدي والأرجل ، وخرج الرجال والنساء والصبيان والعبيد , إذ كان أهل مكة على أقسام :
الأول : موتور قُتل أحد ذويه كالأب أو الأخ أو الابن في معركة بدر أو معركة أحد أو غيرها .
الثاني : ذوو الأسير في معركة بدر ممن دفعوا البدل والعوض لفكاكه .
الثالث : المخالف للإسلام والدعوة إلى التوحيد .
الرابع : الذي يريد الإطلاع وحضور فعل القتل .
الخامس : المسلمون الذين يخفون إسلامهم .
وهل يحتمل خروج بعض المؤمنين معهم للتورية والتقية ، والتدبر وإقتباس درس في الإيمان والصبر، الجواب نعم ، وساروا بهما إلى التنعيم لإخراجهما من مكة والحرم بلحاظ أن التنعيم أقرب أطراف الحل إلى مكة إذ يبعد عن البيت الحرام ستة كيلو مترات .ومنه يعتمر أهل مكة ومن كان داخلها إلى يومنا هذا.
ودارت الأيام وسمي التنعيم لأن عن يمينه جبلاً اسمه نعيم , وعن شماله جبلاً اسمه ناعم , واسم الوادي نعمان وهو داخل بيوت مكة في هذا الزمان.
لقد حرص كفار قريش على عدم قتل خبيب وزيد في مكة ولم يعلموا أن حرمتهما عظيمة عند الله وأنهما أسلما لنجاتهم والبيت الحرام من الأصنام في الدنيا ، وعذاب النار في الآخرة .
وحينما خرجوا من مكة بهما وهما بالحديد صاحبهم الملائكة ، وهل ينحصر عدد الملائكة الحاضرين بالذين يكتبون حسنات وسيئات الذين خرجوا إلى التنعيم حينئذ , الجواب لا .
و(عن ابن عباس في قوله{ما يلفظ من قول}( )، قال : كاتب الحسنات عن يمينه يكتب حسناته وكاتب السيئات عن يساره، فإذا عمل حسنة كتب صاحب اليمين عشراً، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه حتى يسبح أو يستغفر، فاذا كان يوم الخميس كتب ما يجزى به من الخير والشر، ويلقى ما سوى ذلك، ثم يعرض على أم الكتاب فيجده بجملته فيه)( ).
وسئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام: ما علة الملائكة الموكلين بعباده يكتبون عليهم ولهم، والله عالم السر وما هو أخفى ؟ قال: استعبدهم بذلك وجعلهم شهودا على خلقه ليكون العباد لملازمتهم إياهم أشد على طاعة الله مواظبة، وعن معصيته أشد انقباضا .
وكم من عبد يهم بمعصية فذكر مكانها فارعوى وكفّ ، فيقول: ربي يراني، وحفظتي بذلك تشهد، وإن الله برأفته ولطفه أيضا وكلهم بعباده يذبون عنهم مردة الشياطين، وهوام الارض، وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن الله إلى أن يجئ أمر الله عز وجل) ( ).
والمختار أن الملائكة الذين خرجوا إلى التنعيم يومئذ اكثر من الحفظة الأقران لهم.
لقد كان قتل خبيب وزيد من مصاديق احتجاج الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( ) الجواب نعم ،ليكون من مصاديق احتجاج ورده عليهم[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) وجوهاً:
الأول : ثبوت قتل خبيب وزيد ظلماً وتعدياً .
الثاني : تعجيل الفرج، وصيرورة فتح مكة حاجة , وتيسيره بفضل من الله .
الثالث: حث الملائكة على الدعاء والمسألة والتضرع إلى الله لتعجيل النصر والفتح .
الرابع : بعث الإيمان في نفوس أهل مكة .
فمن مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) هو استهجان الفطرة الإنسانية للقتل ظلماً وبغير حق.
الخامس : إنشاء مسجد الإمام علي ومسجد عائشة في التنعيم على آثار وبصمات دماء خبيب وزيد .
السادس : إقامة الحجة على الذين كفروا .
السابع : نيل خبيب وزيد مرتبة الشهادة والحياة عند الله من حين مفارقتهما الحياة الدنيا بالسيف .
فإن قيل قد نزل قوله تعالى[وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( )، في شهداء أحد: أربعة من المهاجرين ومنهم حمزة عم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والباقي من الأنصار، وعن ابن عباس (نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه)( ).
وقتل خبيب بعد معركة أحد بأربعة أشهر، والجواب : موضوع الآية أعم من سبب النزول , ومن منافع هذا القانون صيرورة ذات الآية مادة للمواساة، ورضا خبيب بما يلقاه، وشوقه للقاء الله عز وجل والحياة الأبدية عنده، وفي ظل عرشه , مع سلامته من الإرتداد أو الجزع ونحوه .
ولما وصلوا إلى التنعيم أمروا بخشبة طويلة فحفر لها ، وانتهوا بخبيب إلى خشبته، فقال لهم : هل انتم تاركي فأصلي ركعتين ؟
قالوا : نعم فصلى ركعتين من غير إطالة فيهما .
(ثم قال: لولا أن يروا أن ما بي من جزع من الموت لزدت) ( ).
وكان خبيب أول من سنّ ركعتين عند القتل ، وهل يمكن احتسابهما من السنة النبوية التقريرية أي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم بما فعل خبيب فامضى فعله ، ولم ينكره .
المختار نعم فلابد أنه بلغ النبي فعل خبيب ،وفيه مسائل :
الأولى : بيان عشق المسلمين للصلاة وحبهم لها (عن انس بن مالك رضى الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال انما حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عينى في الصلاة)( ).
الثانية : إنتفاء الفزع والخوف من نفس المسلم عند قتله من قبل الكافرين لأنه قادم على رحمة الله عز وجل .
ولقد تقدم أن نساء قريش من المشركات اللائي كان خبيب محبوساً في بيوتهن كن يبكين ويرقّن له ، فهل كان قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ) من الآيات التي كان خبيب يقرأها ويرددها، الجواب نعم , ليكون من الإعجاز الغيري للآية القرآنية أمور :
الأول : مواساة المسلم في نفسه .
الثاني : بعث الصبر في نفس المسلم وجعله مصاحباً له في الشدة والرخاء.
وعن (ابن عباس قال: أهدي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغلة أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر ثم أردفني خلفه ثم سار بي مليا.
ثم التفت فقال يا غلام قلت : لبيك يا رسول الله قال : احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك
تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة و إذا سألت فاسأل الله
وإذا استعنت فاستعن بالله قد مضى القلم بما هو كائن فلو جهد الناس أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه ولو جهد الناس أن يضروك بما لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه
فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل فإن لم يستطع فاصبر فإن في الصبر على ما تكرهه خيرا كثيرا واعلم أن مع الصبر النصر واعلم أن مع الكرب الفرج واعلم أن مع العسر اليسر) ( ).
الثالث : إنتقال نفس المسلم إلى عالم الآخرة والحياة عند الله حينما يكون القتل في سبيل الله قريباً منه .
الرابع : يدرك الذي سيقتل في سبيل الله أن الشهداء ينتظرونه ويستبشرون بقدومه لقوله تعالى[وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ).
الثالثة : لم يكن قتل المسلم في مكة أمراً مستحدثاً أو طارئاً، فلقد لاقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت والصحابة في بدايات الإسلام العذاب الشديد من المشركين وقتلوا سمية وياسر والدي عمار بن ياسر ، إذ طعن أبو جهل سمية في قبلها بالحربة فماتت .
وكان سادة بلال الحبشي من بني جمح يبطحونه على الرمضاء في أيام الحر في مكة ، ويلقون على بطنه الصخرة العظيمة ، ثم يلبسونه الدرع الحديد ويضعونه كالحبل في عنقه ، ثم يقومون بتسليمه إلى الصبيان لجره والطواف به ليترك الإسلام ويكف عن التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم, فيظهر التسليم بالتوحيد, والفخر بالتصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
لقد كان كبار رجالات قريش يسعون لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو المباشرة أو التحريض عليه بلغة الوعيد، وبالتعدي على شخصه الكريم بالإستهزاء والشتم والإيذاء البدني خاصة أثناء أدائه الصلاة في المسجد الحرام ، قال تعالى[وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ]( ).
وهذه الصلاة النبوية اليومية تزاحم وتعارض عبادتهم للأصنام، ولوجود الحاج والمعتمرين من القرى والقبائل والتجار في البيت لينقلبوا إلى قومهم وغيرهم وهم يروون ما يرون من معاني التوحيد ودلائل النبوة بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيان قانون وهو جهاد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه عند البيت الحرام وموضوعيته في السلامة من شدة التعدي والهجوم على المسلمين .
وروى إسماعيل بن أياس بن عفيف عن أبيه عن جده عفيف قال : كنت أمرءاً تاجراً فقدمت مكة أيام الحج فنزلت على العباس بن عبد المطلب وكان العباس لي صديقاً وكان يختلف إلى اليمن يشتري القطن فيبيعه أيام الموسم،
فبينما أنا والعباس بمنى إذ جاء رجل شاب حين حلقت الشمس في السماء فرمى ببصره إلى السماء ثم استقبل الكعبة فلبث مستقبلها،
حتى جاء غلام فقام عن يمينه فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما فركع الشاب وركع الغلام والمرأة , فخرّ الشاب ساجداً فسجدا معه فرفع , فرفع الغلام والمرأة فقلت : يا عباس أمرٌ عظيم فقال : أمرٌ عظيم. فقلت : ويحك ما هذا؟
فقال : هذا ابن أخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب يزعم أن الله تعالى بعثه رسولا وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذا الغلام ابن أخي علي بن أبي طالب، وهذه المرأة خديجة بنت خويلد زوجة محمد قد تابعاه على دينه، ما على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء.
قال عبد الله الكندي بعدما رسخ الإسلام في قلبه : ليتني كنت رابعاً)( ).
ليكون الأذى الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه مقدمة الأمن والأمان لأجيال المسلمين في البيت الحرام وإتيانهم المناسك بسلام، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
وعن (ابن عباس قال: قال أبو جهل لعنه الله: إن رأيتُ محمداً عند الكعبة لآتينَّه حتى أطأ على عُنُقه. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو فعل لأخذَته الملائكة عيانًا، ولو أن اليهود تَمَنَّوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار. ولو خرج الذين يُباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا)( ).
الرابعة : تأسيس قانون في المندوبات وهو مغادرة الدنيا بالصلاة ، وصيرورتها آخر عهد المسلم بالدنيا .
الخامسة : بعث السكينة في نفوس المسلمين بأن خبيباً غادر الدنيا بسلامة في دينه، قال تعالى [يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً]( ).
السادسة : حث المسلمين على فتح مكة وإقامة حكم الإسلام فيها وهداية الناس للإيمان ، فبدل أن يقتلوا المسلم ويفرحوا بقتله فانهم يقتفون أثره بأداء الصلاة التي فارق الدنيا بها .
السابعة : توبيخ وذم الذين كفروا على قبح فعلهم بالتعدي على حرمات الإسلام .
وبعد أن صلى خبيب بن عدي بين الجموع التي تريد وتنتظر قتله، قال (اللهم أحصهم عدداً وأقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً)( ).
لبيان حال تضرع إيمانية نادرة يتعجل معها الدعاء في صعوده وقيام الملائكة برفعه في طبقات السماء، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) .
فمن علم الله عز وجل أن المشركين إذا أرادوا سفك دم مؤمن فانه يدعو الله عز وجل لتتولى الملائكة رفع دعائه وتعضيده بالسؤال بتعجيل الفتح والبطش بالذين كفروا .
لقد قال الله عز وجل[ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ) ليشمل هذا الأمر حال الشدة والضراء والعرض على السيف ، وقد انتفع ونفع خبيب بدعائه المسلمين الأحياء والذين لم يولودوا بعد، وهل نفع الكفار الذين سمعوا دعاءه، الجواب نعم، لخصوص الذين تابوا عن الكفر، ثم أنشد خبيب
(لَقَدْ جَمّعَ الْأَحْزَابُ حَوْلِي وَأَلّبُوا … قَبَائِلَهُمْ وَاسْتَجْمَعُوا كُلّ مَجْمِعِ
وَكُلّهُمْ مُبْدِي الْعَدَاوَةَ جَاهِدٌ … عَلَيّ لِأَنّي فِي وِثَاقٍ بِمَضْبَعِ
وَقَدْ جَمَعُوا ابناءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ … وَقُرّبْت مِنْ جِذْعٍ طَوِيلٍ مُمَنّعِ
إلَى اللّهِ أَشْكُو غُرْبَتِي ثُمّ كُرْبَتِي … وَمَا أَرْصَدَ الْأَحْزَاب لِي عِنْدَ مَصْرَعِي
فَذَا الْعَرْشِ صَبّرْنِي عَلَى مَا يُرَادُ بِي … فَقَدْ بَضّعُوا الْحُمّى وَقَدْ يَاسَ مَطْمَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ … يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزّعِ
وَقَدْ خَيّرُونِي الْكُفْرَ وَالْمَوْتَ دُونَهُ … وَقَدْ هَمَلْت عَيْنَايَ مِنْ غَيْرِ مَجْزَعِ
وَمَا بِي حِذَارِ الْمَوْتِ أَنّي لَمَيّتٌ … وَلَكِنْ حَذَارِي جَحْمَ نَارٍ مُلَفّعِ
فَوَاَللّهِ مَا أَرْجُو إذَا مُتّ مُسْلِمًا … عَلَى أَيّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللّهِ مَصْرَعِي
فَلَسْت بِمُبْدٍ لِلْعَدُوّ تَخَشّعًا … وَلَا جَزَعًا إنّي إلَى اللّهِ مَرْجِعِي)( ).
وحينما رفعوا خبيباً على الخشبة التي يصلب عليها قيل له : أتحب أن محمداً مكانك ؟
كأنهم يقولون له أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم هو السبب فيما لحقه من الأذى والضراء وتعرضه للقتل .
فقال خبيب : لا والله .
وقرن النفي باليمين بالله عز وجل لبيان القطع والجزم به ، لبيان أن كل مسلم يذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويدفع عنه بمهجته ونفسه ليتم تبليغ الرسالة ونزول آيات القرآن ، ليكون من معاني قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ) ليكون من مقدمات نزول الآية القرآنية وتحقق مصداقها الواقعي صبر وجهاد الصحابة ليقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتبليغ خاصة وأن نزول آيات القرآن كان على النجوم والتوالي والتعاقب في نزولها ، وبلحاظ الوقائع والأحداث ، وقد استشهد خبيب بن عدي في أوائل السنة الرابعة ، وقيل في الثالثة وبقيت آيات القرآن تنزل ويقدم الإسلام نجوماً وكواكب من الشهداء في كل شهر لحين نزول آخر آيات القرآن وانتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى .
واختلف في آخر آية نزلت من القرآن على أقوال :
الأول : قوله تعالى [وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ] ( ).
(وكان بين نزولها وبين موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحد وثمانون يوماً) ( ).
و(قال جبرائيل : ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة ) ( ).
و(عاش النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزول هذه الآية تسع ليال ، ثم مات يوم الإِثنين لليلتين خلتا من ربيع الأوّل) ( ).
وسعيد بن جبير تابعي ولم يبين مصدر الخبر ، وكان يأخذ الحديث عن ابن عباس .
الثاني : (عن عمر بن الخطاب أنه خطب فقال : إن من آخر القرآن نزولاً آية الربا ، وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبينه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم) ( ).
الثالث : (عن أم سلمة قالت : آخر آية نزلت هذه الآية { فاستجاب لهم ربهم }( ) إلى آخرها) ( ) .
الرابع : (في الدلائل عن البراء قال : آخر سورة نزلت كاملة ( براءة ) وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة})( ).
الخامس : كان (أبي بن كعب يقول : إن أحدث القرآن عهداً بالله ، وفي لفظ : بالسماء هاتان الآيتان { لقد جاءكم رسول من أنفسكم }( ) إلى آخر السورة .
وأخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند وابن الضريس في فضائله وابن أبي داود في المصاحف وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والخطيب في تلخيص المتشابه والضياء في المختارة من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب . أنهم جمعوا القرآن في مصحف في أيام أبي بكر ، فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبي بن كعب ، حتى انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة { ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون }( ) فظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن.
فقال أبي بن كعب : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أقرأني بعد هذا آيتين{لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ، فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم } فهذا آخر ما نزل من القرآن) ( ).
السادس : قوله تعالى [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنْ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) (فعاش بعدها أحداً وثمانين يوماً،
ثم نزلت عليه آيات الربا،
ثم نزلت بعدها {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} وهي آخر آية نزلت من السماء،)( ) وقد تقدم في الوجه الأول أعلاه .
وليس من حصر لعدد الذين صبروا وجاهدوا حتى تم نزول كل آيات القرآن ، ونزل قوله تعالى [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي] ( ) ومنهم الذين كفلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم كجده عبد المطلب وعمه أبي طالب ، وجهاد خديجة وانفاقها الأموال في سبيل الله , وأهل البيت والصحابة في مكة ، ثم بيعة الأنصار في العقبة الأولى ، وبيعتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في العقبة الثانية .
وفيه بيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه آله وسلم وهي تنجز بيعة العقبة الأولى والثانية من غير قتال أو إشهار للسيف .
ومن الآيات في المقام وقوع كل واحدة منهما في الأشهر الحرم ، وفي موسم الحج ، لتكون هاتان البيعتان نواة لدخول الإسلام ، وحضورهم من المدينة وبيعتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من المصاديق المتقدمة لقوله تعالى [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا] ( ) .
وهل بيعة العقبة من مصاديق قوله تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ] ( ) .
أم أن القدر المتيقن من الآية أعلاه ما ورد في أسباب نزولها خاصة وأنها مدنية ، إذ ورد عن سعيد بن جبير في الآية ، قال : نزلت في الأنصار خاصة (عن سعيد بن جبير في قوله { لا إكراه في الدين }( ) قال : نزلت في الأنصار خاصة . قلت : خاصة ، كانت المرأة منهم إذا كانت نزورة أو مقلاة تنذر : لئن ولدت ولداً لتجعلنه في اليهود تلتمس بذلك طول بقاءه ، فجاء الإِسلام وفيهم منهم .
فلما أجليت النضير قالت الأنصار : يا رسول الله ابناؤنا وإخواننا فيهم ، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فنزلت { لا إكراه في الدين } فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد خير أصحابكم فإن اختاروكم فهم منكم ، وإن اختاروهم فهم منهم ، فأجلوهم معهم) ( ).
والجواب هو الأول لبيان أن مصاديق الآية القرآنية أعم من أن تختص باسباب نزولها وزمان ما بعده ، إنما تشمل الوقائع والأزمنة السابقة لها ، كما أن موضوعها لا يختص بجهة مخصوصة ومستقرأ من أسباب النزول والتي تتعلق بلحاظ الأسباب أعلاه بعدم حمل الناس على دخول الإسلام .
وفيه شاهد على ترك النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحق الأبوة والبنوة نسامحاً ، وإرادته إجتناب مقدمات الضغائن والقتال ، أو الإيذاء للأفراد والجماعات , وتشمل الآية دخول الناس الإسلام في بدايات الدعوة الإسلامية من غير إكراه أو إجبار ، ويكون من وجوه تقدير الآية :
الأول : لا إكراه في بيعة العقبة الأولى .
الثاني : لا إكراه في بيعة العقبة الثانية .
الثالث : لا إكراه في دخول الصحابة الأوائل الإسلام .
الرابع : مصاحبة لا إكراه في الدين لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : من رحمة الله بالناس لا إكراه في دخول الإسلام .
السادس : صيرورة الإسلام في منعة وقوة من غير إكراه في الدين .
السابع : لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامن : لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي بإسلام المهاجرين والأنصار، وصيرورتهم قدوة وأسوة لعامة الناس في سبل الهدى.
(قال ابن مسعود وابن زيد أن قوله تعالى[لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ]( ) منسوخة بآية السيف , وقال الباقون : هي محكمة )( ).
والمختار أنها غير منسوخة وقد تقدم البيان والتفصيل.
وهل في مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة إنذار لأهلها ، الجواب نعم ، فهذه المغادرة من سخط الله عليهم ، وهي في ذات الوقت مقدمة للفتح وكسر الأصنام ، فقد غادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو وأصحابه في حال استضعاف ليعودوا فاتحين ، وهذا الفتح مقدمة لعبادة الله وسيادة الإيمان في أرض الحرم .
وبعدما غادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة مهاجراً ، قال حسان بن ثابت في أبيات :
لقد خاب قوم زال عنهم نبيّهم … وقدّس من يسري إليهم ويغتدي
ترحّل عن قوم فضلّت عقولهم … وحلّ على قوم بنور مجدّد
هداهم به بعد الضّلالة ربّهم … وأرشدهم من يتبع الحقّ يرشد
وهل يستوي ضلال قوم تسفّهوا… عمايتهم هاد به كلّ مهتدي
وقد نزلت منه على أهل يثرب … ركاب هدىً حلّت عليهم بأسعد
نبيّ يرى ما لا يرى النّاس حوله … ويتلو كتاب الله في كلّ مسجد
وإن قال في يوم مقالة غائب … فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد( ) .
وتحتمل موضوعية معارك الإسلام الأولى في توالي نزول القرآن وجوهاً:
الأول : لمعارك الإسلام الأولى مجتمعة موضوعية في تمام نزول القرآن .
الثاني : ليس من موضوعية لمعارك الإسلام الأولى في نزول القرآن لأنها قتال وقتل وضرر في الأموال والأنفس ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ] ( ) .
وقد يظن للوهلة الأولى أن القتال ضرر محض , ولكن عند التدبر في الآية يتبين نفع معارك الإسلام في تثبيت معالم الإيمان ليتجلى قانون وهو عدم الملازمة بين الحب والخير من جهة وبين الكره والشر .
فقد يحب الإنسان أمراً ويرجو فيه الخير لنفسه وغيره ، ثم يتبين فيه أذى ، وكذا العكس فقد يكره أمراً وهو ذو نفع وفائدة .
الثالث : لكل معركة من معارك الإسلام الأولى موضوعية ونفع في تمام نزول آيات القرآن .
الرابع : تمام نزول آيات القرآن بفضل من عند الله عز وجل ، قال تعالى [وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا] ( ).
والصحيح هو الثالث والرابع فان قلت : في علم الله عز وجل يوم خلق السموات والأرض أنه تعالى ينزل آيات القرآن كلها ، والجواب هذا صحيح وقد جعله الله عز وجل بالأسباب ليتفضل على المؤمنين بالأجر والثواب .
وفيه دعوة للناس للإيمان والإجتهاد في طاعة الله ، وهل لقتل خبيب موضوعية في نزول آيات القرآن وحكمها .
الجواب نعم ، ليكون من مصاديق الجزاء الحسن لخبيب وأمثاله من الشهداء إنتقالهم للحياة عند الله من حين مغادرتهم الحياة الدنيا ، لقوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ).
ومن الآيات أن خبيباً لم يسلم نفسه للقتل بصمت إنما كان داعية إلى الله عز وجل مدة أسره ، وفي لحظة قتلهم له , لتبقى كلماته الجهادية وثيقة تأريخية إلى يوم القيامة .
لقد أظهر خبيب حبه لله ورسوله ، وبيّن حاجة الناس لنبوة محمد وسلامة شخصه ، وهل فيه دعوة للصحابة للدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وبعد أن صلّى خبيب ركعتين في ساحة الصلب قام إليه عقبة بن الحارث بن عامر فقتله وتولى هو وأبو هبيرة العبدري صلبه في التنعيم ، وقتله عقبة لأن خبيباً قتل أباه يوم بدر ، وأختلف في الذي اشترى خبيباً حينما جاء به رهط من بني لحيان إلى مكة على وجوه :
الأول : الذي اشترى خبيباً الحارث بن عامر .
الثاني : ابتياع حجير بن أبي إهاب التميمي حليف لهم خبيباً واشتراه لعقبة بن الحارث ليقتله بأبيه بلحاظ أنه ولي دم أبيه .
الثالث : بنو الحارث بن عامر هم الذين ابتاعوا خبيباً ( ).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد آخى بين (عمير بن أبى وقاص وخبيب بن عدى) ( ).
إنذارات لقريش قبل معركة بدر
لقد بعث الله عز وجل الأنبياء بالبشارة والإنذار، وجاءت الآيات القرآنية بهذا المضمون، كما إختص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب من عند الله بقوله تعالى[وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا]( )، لبيان الملازمة بين أمور كريمة:
الأول : نزول القرآن.
الثاني : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالبشارة والإنذار.
الثالث : صيغ ومضامين البشارة والإنذار التي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الرابع : بقاء البشارات والإنذارات القرآنية في الأرض وبين الناس إلى يوم القيامة، وهو من عمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكل أمر بالمعروف بشارة ، وكل نهي عن المنكر إنذار.
ومن عمومات ومعاني قوله تعالى[بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ) تفضل الله عز وجل بجعل الحياة الدنيا دار البشارة والإنذار ، وتتودد البشارة فيها للإنسان، ويداهمه الإنذار ومصاديقه طوعاً وقهراً، ومن معاني [ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( ) عدم وجود حاجز أو برزخ بين البشارات والإنذارات .
وليس من حصر للإنذارات التي جاءت لكفار قريش بخصوص بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلمٍِِ، وهي على وجوه:
الأول : الدعوة للتصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : التسليم بنزول القرآن من عند الله عز وجل.
الثالث : إدراك وجوب إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبذل الوسع في نصرته، ليفوز الأنصار بإيواء ونصرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى[وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا]( ).
الرابع : من معاني وغايات توجه الإنذار لقريش النهي عن إيذاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولكنهم تمادوا في ايذائه، وأهل بيته وأصحابه، وحاربوه بالسيف فاستحقوا نزول العذاب من عند الله سبحانه .
وفي أحسن أحوال قريش في القتال الذي كانوا يتفاخرون به وهو معركة أحد، قال تعالى في بيان ما لحقهم من الأذى والخسارة[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
لقد جاء الأنبياء السابقون بالبشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن ، وهل جاءوا بالإنذار من الصدود عنه والإعراض عن نبوته ، الجواب نعم ، فمن خصائص الأنبياء الجمع بين البشارة والإنذار ، قال تعالى [وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ] ( ) .
وقد صاحبت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإنذارات والتي تزجر الناس عن الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتنهاهم عن محاربته وقتاله، ولو أحصيت المعارك التي خاضها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع المشركين لتبين قانون من جهات :
الأولى : كانت المعارك الأولى مع كفار قريش .
الثانية : قيام كفار قريش بندب القبائل للخروج معهم لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو من الشواهد على خوفهم وامتلاء قلوبهم بالفزع والذعر من لقائه ، ومن مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ).
الثالثة : تحريض كفار قريش القبائل لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مما يدل على عدم اتعاظ كفار قريش من الإنذارات المتكررة ، وليس من حصر للإنذارات التي توجهت إلى قريش والتي تمنعهم من الكفر برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن الإنذارات التي توجهت إلى قريش :
الإنذار الأول : تواتر الأخبار عن بعثته من قبل أهل الكتاب، وحلول زمانها، والتطلع إليها وعن (عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري قال: حدثني أشياخ منا قالوا : لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منّا، كان معنا يهود ، وكانوا أهل كتاب وكنا أصحاب وثن .
وكنا إذا بلغنا منهم ما يكرهون قالوا : إن نبياً يبعث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما بعث الله رسوله اتبعناه وكفروه به ، ففينا -والله- وفيهم أنزل الله {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا َلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ})( )، فان قلت هذه الأخبار بشارة في الجملة، والجواب هذا صحيح ، ولكنها في مفهومها إنذار لأهل الجحود والعناد وأرباب المعاصي .
الإنذار الثاني : نزول آيات القرآن المكية بصيغة الإنذار، فمن إعجاز القرآن نزول آيات القرآن في مكة قبل الهجرة بالتخويف والوعيد والإنذار، وتتصف بالقصر، وقلة الكلمات مع سعة المعاني وكثرة الدلالات، والتذكير بالآخرة وعالم الحساب والجزاء.
ولما نزل قوله تعالى[وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( ) صعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم جبل الصفا وهو جبل يقع شرق المسجد الحرام ويطل عليه، وهو متصل بجبل أبي قبيس ويبعد جبل الصفا عن الكعبة مائة وثلاثين متراً، ومنه يبدأ السعي الذي ورد في قوله تعالى[إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ]( ).
ونادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من على جبل الصفا (يا صباحاه، يا صباحاه.
ويا: حرف نداء وندبة.
صباحاه : منادى مندوب مبني على ضم مقدر على آخره ، ومعناه إني أتوجع، وأتألم من هذا الصباح، وهو أمر مجازي والمراد التوجع والإستغاثة مما حدث في هذا الصباح أو ما أشرقت عليه الشمس من أذى شخصي، ومن عاداتهم آنذاك الإعتناء بهذه الإستغاثة , والسعي للتدارك ودفع الأذى وأسباب الألم.
فقالت قريش: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد.
عندئذ أخذوا يتوافدون عليه، ليعلموا ما هو سبب الندبة والإستغاثة، والذي لم يستطع الوصول إليه، بعث رسولاً يستقرأ الأمر، ولما اجتمعوا عنده : سألوه عن أسباب ندائه وإستغاثته.
فقال : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيّ ز
قالوا: نعم، إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم معروفاً بالصدق، وكان يسمى(الصادق الأمين) وهذه التسمية وما تعكسه من الخصال من مقدمات بعثته والحجة على الناس للتصديق به
(قالوا : نعم . ما جربنا عليك إلا صدقاً)( ).
قال: فإني لكم نذير بين يدي عذاب شديد.
فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا، فنزل قوله تعالى[تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ]( )، ولم ينحصر أمر إنذارات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالآية أعلاه، فكل آية مكية هي إنذار لقريش من وجوه :
الأول : نزول الآية القرآنية.
الثاني : مضامين الآية القرآنية.
الثالث : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للآية القرآنية ذات الإنذار.
الرابع : تلقي طائفة من الناس آيات الإنذار بالقبول ودخول الإسلام ، وفي التنزيل[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
وهو من إعجاز القرآن بأن إنذاراته لا تذهب سدى , إنما تكون هناك أمة تتلقاها بالقبول، ويحتمل وجوهاً:
الأول : كل آية قرآنية يستجيب لها رهط من الناس.
الثاني : عموم آيات القرآن يستجيب لها فريق من الناس.
قال تعالى (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ) ( )
الثالث : تستجيب طائفة من الناس لمنطوق ومفهوم كل شطر من الآية القرآنية ومنه البشارة والانذار .
فمثلا قوله تعالى الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ قد يقول قائل بأنها مدينة خالية من إلانذار ، وليس فيها بشارة إلا بخصوص المهاجرين والأنصار الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى حمراء الأسد في اليوم التالي لمعركة أحد ، ولكن الآية أعم إذ تتضمن البشارة والإنذار وقد بيناه في كل من:
الأول : الآية بشارة ، فمن فضل الله عز وجل إفراد باب خاص لتجليات البشارة في الآية القرآنية عند تفسيرها ، ومنه الآية أعلاه .
الثاني : الآية إنذار ، وهناك باب خاص في تفسيرنا اسمه (الآية إنذار ) عند الشروع بتفسير الآية القرآنية ، ويمكن تأسيس باب آخر جامع لهما , وهو : باب البشارة والإنذار ، كعنوان جامع يستقرأ من مضامين الآية القرآنية .
وهل كانت الآيات والسور المكية إنذاراً لقريش من قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد هجرته , الجواب نعم وهو من إعجاز القرآن بأن تنذر الآية القرآنية في زمان وموضوع مخصوص ولكن معانيها ودلالاتها باقية الى يوم القيامة , ما أن تطرأ حال ونوع إبتلاء حتى تكون الآية القرآنية حاضرة كضياء سماوي يهدي إلى الفلاح والصلاح وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ).
لبيان أن المسلمين يسألون الله الهداية بصيغة قرآنية كل يوم وهو من الفيض والمدد بوجوب أداء كل مسلم ومسلمة الصلاة خمس مرات في اليوم وتلاوتهم آيات القرآن فيها ، وإستحضار مضامين البشارة والإنذار التي في ثناياها وتترشح عنها .
وتكون الآية القرآنية وتلاوتها صراطاً وبشارة للمؤمنين وفيها غنى عن الغزو ، وهي داعية كل يوم في المساجد والبيوت بعدم الحاجة للغزو ، وبأن النصر آت بالحجة والبرهان , وقد تفضل الله فاستجاب لهم بأن جعل آيات القرآن سبيل هدى وصلاح بذاتها وتلاوتها وموضوعها ورسمها صفاتها المباركة.
وهل يتعظ المسلمون من الإنذارات الواردة في القرآن أم أنها خاصة بالذين كفروا ، الجواب هو الأول ، فمدرسة الإنذار شاملة للناس جميعاً ، وهو من مصاديق قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] ( ).
وكيفية انتفاع المسلمين من إنذارات القرآن على وجوه :
الأول : تعاهد الصلاة والفرائض العبادية الأخرى .
الثاني : الإحتراز من الردة ومفاهيم الضلالة ، وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ]( ).
الثالث : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والصلاح والنهي عما أنذر منه القرآن والسنة .
الرابع : تلاوة المسلمين آيات القرآن في الصلاة وخارجها ، والإتعاظ منها .
الخامس : القيام بانذار الذين كفروا .
السادس : الإستغناء عن الغزو والهجوم لقانون وهو إنذار الآية القرآنية أقوى وأكثر أثراً ونفعاً من السيف ، فان قلت أطنب الشعراء بذكر السيف وأثره ، منه ما ورد في فتح عمورية بعد أن قال المنجمون بنحاسة الطالع وانكسار الجيش ، وأن فتح عمورية لم يحن بعد , ولكن الله كذّب مقولتهم إذ تم فتح عمورية في أيام المعتصم العباسي في جمادى الأولى (سنة 223 هـ ) ( شهر نيسان 883 م).
إذ قال أبو تمام في قصيدة :
السيف أصدق أنباء من الكتب … في حده الحد بين الجد واللعب
والعلم في شهب الأرماح لامعة … بين الخميسين لا في السبعة الشهب
أين الرواية أم أين النجوم وما … صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
تخرصاً وأحاديثاً ملفقة … ليست بعجم إذا عدت ولا عرب) ( ).
وسبب هذه المعركة قيام الملك توفيل من الروم بمهاجمة عدد من مدن وقرى المسلمين وأسر الرجال والتمثيل بهم، وقطع آذانهم وأنوفهم وسمل عيونهم واتسعت الفتنة، وقام بابك الخرّمي (ت سنة 223) هجرية وهو رئيس لفرقة خارجة على السلطة اتصل بامبراطور الروم يستحثه ويسأله مهاجمة بلاد المسلمين وقصد بغداد ، وتم سبي النساء المسلمات في عمورية , وقيل بلغ عددهن ألف امرأة فاستغاثت احداهن وكانت هاشمية .
وحينما تم فتح عمورية وأحضرت المرأة، وجلبوا الرجل الذي إعتدى عليها، وسألوها عن عقوبته، وأن تقول فيه قولها، فأخبرت أنها بالفتح عفت عنه، وطلب العفو عنه أي أسقطت الحق الخاص الذي لها، وأرادت إسقاط الحق العام عنه فأستجيب لها، ليعلم الناس أن العفو سجيته ثابتة عند المسلمين حتى في حال القدرة وإمكان العقاب.
والمختار أن المسلمين يستجيبون لمضامين كل شطر من الآية القرآنية , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ] ( ).
ويقيض الله قوما يؤمنون بآيات القرآن , ويتخذون ما فيها من البشارة بلغة للثواب العظيم , وما فيها من الإنذار واقية من فعل السيئات وحرزاً وموعظة.
ولايختص الإنذار في آية البحث بمسألة محاربة الذين كفروا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه , إنما تتضمن التحذير والانذار من ترك الاحسان للنفس والغير, قال تعالى[وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]( ).
الإنذار الثالث : قد تكون البشارة والإنذار في ذات الإنسان في تفكيره وتدبيره وما يسمعه أو ما يقوله، وقد يأتيان بالرؤيا التي جعلها الله عز وجل حبلاً بينه وبين روح العبد , وإصلاحاً لذهنه وعوناً له في تنقيح نواياه، في لطف منه سبحانه لتقريب العباد للهداية وفعل الصالحات، واللطف بالإزاحة عن فعل السيئات، والرؤيا على أقسام منها:
الأول : رؤيا البشارات، والأمل وشآبيب الخير , وعن عبادة بن الصامت قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عن قوله تعالى “لهم البشرى في الحياة الدنيا”( ) قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له)( ).
منها ما ورد في قصة يوسف[يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ]( )، وبين الرؤيا المحبوبة والحسنة وبين رؤيا البشارة عموم وخصوص مطلق, فالرؤيا الحسنة أعم من رؤيا البشارة , وكذا بالنسبة للرؤيا الصادقة فأنها أعم من رؤيا البشارة .
الثاني : رؤيا الإنذارات، ومنها قوله تعالى بخصوص رؤيا الملك أيام يوسف عليه السلام[وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ]( ).
وهل في الآية أعلاه إنذار لقريش ، الجواب نعم ، ومن الآيات في المقام أن سورة يوسف مع كونها هي السورة الوحيدة التي تختص بذكر قصة نبي من أنبياء الله هو يوسف عليه السلام فانها نزلت في مكة وقبل الهجرة ، مما يدل على موضوعيتها وقصص القرآن مطلقاً في الإنذار للناس جميعاً ولخصوص كفار قريش وعدد آياتها مائة وإحدى عشرة آية .
وكل آية تبعث على الإيمان وتنذر من الكفر والجحود .
لقد كانت قريش تؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جهات:
الأولى : شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإيذاء البدني والقولي.
الثانية : إيذاء أهل البيت بالحصار والمقاطعة والتجويع والتخويف، ومنع المناكحة معهم , فلا يتزوجون من نسائهم , ولايزوجون بناتهم لبني عبد المطلب وبني المطلب , لا لشيء إلا لأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أعلن نبوته , وأظهر رسالته ودعا إلى كلمة التوحيد .
الثالثة : الأذى الذي يأتي لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة ، وهذا الأذى من الكلي المشكك في شدته ومدته بحسب الحال والشأن.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في مكة يتوعد أحياناً كفار قريش مع سطوتهم وغلظتهم، فمثلاً كان أُبي بن خلف يلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمكة فيقول: يَا مُحَمّدُ إنّ عِنْدِي الْعَوْذَ فَرَسًا أَعْلِفُهُ كُلّ يَوْمٍ فَرَقًا مِنْ ذُرَةٍ أَقْتُلُك عَلَيْهِ .
فَيَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بَلْ أَنَا أَقْتُلُك إنْ شَاءَ اللّهُ)( ).
وهل هو من قانون السنة النبوية مقدمة لنزول الآية القرآنية بلحاظ أن رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذا الوعيد من مصاديق قوله تعالى[فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]( ).
وفي معركة أحد قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتحذير أصحابه من كيد وغدر أبي بن خلف ، إذ خشي أن يأتيه من خلفه لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يلتفت إلى ورائه عند القتال .
وفي الساعة الأخيرة من معركة أحد وبينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أسند ظهره إلى الشعب، جاء أبي بن خلف مقنعاً في الحديد وهو يركض على فرسه، ويقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا وفيه شاهد على أمور:
الأول : تأكد كفار قريش بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتل في المعركة.
الثاني : إفتضاح كذب إشاعة قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : إصرار كفار قريش على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالهجوم العام أو القضية الشخصية .
لقد غرّ أبي وأصحابه حال الإنكسار التي صار عليها المسلمون يومئذ وإصابة أكثرهم، وسقوط الشهداء منهم ، ويبين القرآن هذا الإنكسار كما في قوله تعالى (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ) ( ).
ولم يرد لفظ [تُصْعِدُونَ] [تَلْوُونَ][ أُخْرَاكُمْ][ أَثَابَكُمْ] [غَمًّا بِغَمٍّ] إلا في الآية أعلاه ، والمختار أن فيها دلالة على عدم إصابة المسلمين بنكسة أخرى مثل التي نزلت بهم يوم معركة أحد ، وهي حجة على الذين كفروا في الدنيا والآخرة ، وشاهد بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد غزو قريش في مكة إنما هم الذين غزوا وصاروا على مشارف المدينة يرومون استباحتها .
وتحتمل هذه الإستباحة في حال حدوثها وجوهاً:
الأول : تقدم إستباحة المدينة على قتل الرجال من المهاجرين والأنصار.
الثاني : تقدم قتل الرجال ثم إستباحة المدينة.
الثالث : التداخل بين الإستباحة وقتل الرجال.
الرابع : عدم الإستباحة إلا بعد قتل وأسر الرجال.
والصحيح بالنسبة لعزائم المشركين وكيفية محاربتهم النبي وأصحابه هو الثاني، فقد كانوا يسعون لجعل المهاجرين والأنصار بين قتيل وأسير.
وتقدم أبي بن خلف يريد قتل النبي فأستقبله مصعب بن عمير وهو شاب من أهل مكة ومن أوائل المهاجرين إلى المدينة، الذي قاتل حتى قُتل .
فقال الصحابة: يا رسول الله ماذا تصنع الآن فقد جاءك أبي بن خلف، فإن شئت يعطف عليه رجل منا، وإعترضه جماعة من الصحابة لمنعه من الوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: دعوه.
(وأبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجة من سابغة الدرع والبيضة فطعنه بحربته فوقع أبي عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم)( ).
وقيل فيه نزل قوله تعالى[وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى]( ).
ولكن موضوع الآية أعلاه أعم.
لقد رجع أبي إلى كفار قريش وليس به إلا خدش صغير في عنقه إحتقن الدم به، ولكنه قال لهم : قتلني والله محمد.
وكانوا أصحاب خبرة في الجروح وآثارها فلم يروا به بأساً، فقالوا له: ذهب والله فؤادك، قال أبي: إنه قد كان قال لي بمكة أنا أقتلك فوالله لو بصق علي لقتلني، فمات في سرف في طريق عودتهم إلى مكة، ويبعد (سرف) عنها ٍاثني عشر كيلو متراً، وبه تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما بعد ميمونة بنت الحارث، وبه توفيت، وقبرها هناك معروف.
وتكثر معامل النورة في سرف حتى سمي في هذا الزمان النوارية.
وقبل قدوم ضمضم الرسول الذي بعثه أبو سفيان إلى أهل مكة يستصرخهم لإغاثة القافلة رأت عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي في مكة رؤيا هالتها وأفزعتها، فأرسلت إلى أخيها العباس, وقالت له: أني رأيت رؤيا تدل على نزول (البلاء والشر في قومك).
ومن الإعجاز في رؤيا الإنذارات أن صاحبها قد يحيط بمعناها على نحو الإجمال، لتكون هذه الإحاطة نوع حث للمؤمن ليدعو الله عز وجل لصرف مصداقها وكذا يسأل الله عز وجل تثبيت مضمون رؤيا البشارة، وهو من عمومات قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ).
وتقدير الآية أعلاه: يمحو الله مصداق رؤيا الإنذارات، ويثبت الغبطة والسعادة التي تأتي بها رؤيا البشارة.
وبادر العباس إلى سؤال عاتكة عن مضمون رؤيا الإنذار التي رأتها، فسألته أن يكتم عليها نبأ الرؤيا وأن لا يذيع أمرها، وفي حديث ابن عباس أنها قالت: رَأَيْتُ رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ حَتّى وَقَفَ بِالْأَبْطَحِ ثُمّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ أَلَا انْفِرُوا يَا لَغُدُرَ( ) لِمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ فَأَرَى النّاسَ اجْتَمَعُوا إلَيْهِ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنّاسُ يَتْبَعُونَهُ فَبَيْنَمَا هُمْ حَوْلَهُ مَثَلَ بِهِ بَعِيرُهُ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ.
ثُمّ صَرَخَ بِمِثْلِهَا : أَلَا انْفِرُوا يَا لَغُدُرَ لِمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ ثُمّ مَثَلَ بِهِ بَعِيرُهُ عَلَى رَأْسِ أَبِي قُبَيْسٍ فَصَرَخَ بِمِثْلِهَا .
ثُمّ أَخَذَ صَخْرَةً فَأَرْسَلَهَا . فَأَقْبَلَتْ تَهْوِي ، حَتّى إذَا كَانَتْ بِأَسْفَلِ الْجَبَلِ ارْفَضّتْ فَمَا بَقِيَ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ مَكّةَ وَلَا دَارٌ إلّا دَخَلَتْهَا مِنْهَا فَلِقَةٌ .
قَالَ الْعَبّاسُ وَاَللّهِ إنّ هَذِهِ لَرُؤْيَا ، وَأَنْتِ فَاكْتُمِيهَا ، وَلَا تَذْكُرِيهَا لِأَحَدِ)( ).
وعندما خرج العباس من عند أخته لقى الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان صديقاً له، وكانت بيوت مكة قليلة وتحيط بالبيت الحرام، فقص عليه الرؤيا، وسأله أن يكتمها ولا يذيعها، ولكنه أخبر أباه ، فقد كانت هذه الرؤيا ودلالتها أكبر من أن تكتم أو تترك سدى لجلاء لغة الإنذار فيها ولأن الخوف يملأ قلوب المشركين , ولصيرورة أهل مكة على طوائف وهي :
الأولى :المسلمون والمسلمات وهؤلاء منهم من يعلن إسلامه ومنهم من يخفيه ، مما يجعل إحصاءهم وإحتراز الذين كفروا منهم أمراً شاقاً وشبه متعذر .
الثانية : المستضعفون الذين يميلون إلى الإسلام والعدالة ، وتنفر نفوسهم من استكبار وعناد الكفار .
الثالثة : بنو هاشم مؤمنهم وكافرهم ،وميلهم جميعاً إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : ذووا المهاجرين إلى الحبشة والذين يسخطون على كفار قريش بسبب اختيار ذويهم مغادرة مكة والهجرة إلى البلاد البعيدة ، ومن فضل الله عز وجل أنه يلقي عليهم السكينة ، قال سبحانه [وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً] ( ) .
الخامسة : الكفار والمشركون ، وهؤلاء على مراتب من جهة شدة العناد والجحود ، ومنهم عتبة بن ربيعة وأبو جهل وأصحابه إذ بلغتهم تفاصيل رؤيا عاتكة .
فأنتشر مضمونها بمكة، وتحدث بها الناس في المنتديات، وفي صباح اليوم التالي ذهب العباس ليطوف بالبيت الحرام، وكان جماعة من قريش جالسين هناك منهم أبو جهل وهم يتحدثون عن رؤيا عاتكة.
فقال أبو جهل: يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فآتنا، فلما فرغ من الطواف جاء وجلس معهم وهو لا يظن أن حديث رؤيا أخته قد وصلت إلى أسماعهم أو أنهم أولوها عناية فائقة.
فبادر أبو جهل بإستخفاف وقال : يابني عبد المطلب متى حدثت فيكم هذه النبية أي لقد جعل أبو جهل رؤيا عاتكة بمنزلة أخبار الانبياء وعلوم الغيب وعرف العباس انه يريد رؤيا عاتكة أخته .
فقال وما ذاك ؟ قال أبو جهل رؤيا عاتكة وكأنه يعلم بأن العباس هو الذي نقل وأخبر عن هذه الرؤيا .
قال العباس . وما رأت ؟
قال ما رضيتم يا بني عبد المطلب أن يتنبأ رجالكم حتى يتنبأ نساؤكم للسخرية من الرؤيا ، ومنع انتشار خبرها بين الناس ، وظهور أثرها لما فيها من معاني التخويف والإنذار .
( ثم قال : قد زعمت عاتكة في رؤياها إنه قال انفروا في ثلاث , فسنتربص بكم هذه الثلاث وان لم يقع شيء فسنكتب عليكم كتاباً إنكم أكذب العرب ) ( ).
فأنكر العباس إنها رأت شيئا خشية من كبار كفار قريش .
وقيل بل جادله العباس وعند المساء توافدت نساء بني عبد المطلب ووجهن له اللوم لسكوته عن أبي جهل لتعريضه بنساء بني عبد المطلب بحضور رجالات قريش.
ومن البديع في المقام أنهن لم يتوعدن أبا جهل بالقيام بتوبيخه بأنفسهن مما يدل على وجود ضوابط إجتماعية مخصوصة في مجتمعات قريش. أو أن رد العباس عليه يكفي في المقام.
وفي اليوم الثالث لرؤيا عاتكة خرج العباس غاضباً يريد أن يشاتم أبا جهل واذا بصوت ضمضم بن عمرو الغفاري الذي بعثه أبو سفيان يستصرخ قريشاً وهو يصرخ بصوت ببطن الوادي وفي حالة تتصف بأمور :
الأول : كان ضمضم واقفاً على بعيره .
الثاني : قد جدع بعيره. الجدع : قطع الأنف , ويأتي بالمعنى الأعم بقطع الأنف والأذن والشفة وفي المثل (أنفُك منك وإن كان أَجْدَعَ ) ( ).
الثالث : قد حول رحله الى الخلف .
الرابع : شق قميصه.
الخامس : كان يصرخ بأعلى صوته .
السادس : يقول يا آل لؤي بن غالب اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، ثم نادى : الغوث الغوث والله ما أرى أن تدركوها .
السابع : حث ضمضم قريشاً على الخروج .
وقالت عاتكة , والظاهر أن شعرها هذا بعد واقعة بدر :
عاتكة بنت عبد المطلب في رؤياها التى رأت وتذكر بدرا :
ألما تكن رؤياي حقا ويأتكم *** بتأويلها فل من القوم هارب
رأى فأتاكم باليقين الذى رأى ***بعينيه ما تفرى السيوف القواضب
فقلتم ولم أكذب عليكم وإنما *** يكذبني بالصدق من هو كاذب
وما جاء إلا رهبة الموت هاربا *** حكيم وقد أعيت عليه المذاهب
أقامت سيوف الهند دون رءوسكم ***وخطية فيها الشبا والتغالب
كأن حريق النار لمع ظبانها *** إذا ما تعاطتها الليوث المشاغب
ألا بأبي يوم اللقاء محمدا *** إذا عض من عون الحروب الغوارب
مرى بالسيوف المرهفات نفوسكم *** كفاحا كما تمرى السحاب الجنائب
فكم بردت أسيافه من مليكة *** وزعزع ورد بعد ذلك صالب
فما بال قتلى في القليب ومثلهم *** لدى ابن أخي أسرى له ما يضارب
فكانوا نساء أم أتى لنفوسهم *** من الله حين ساق والحين حالب
فكيف رأى عند اللقاء محمدا *** بنو عمه والحرب فيها التجارب
ألم يغشكم ضربا يحار لوقعة*** الجبان وتبدو بالنهار الكواكب
حلفت لئن عادوا لنصطلينهم *** بحارا تردى تجر فيها المقانب
كأن ضياء الشمس لمع ظباتها *** لها من شعاع النور قرن وحاجب
وقالت عاتكة أيضا فيما نقله الاموى :
هلا صبرتم للنبى محمد *** ببدر ومن يغشى الوغى حق صابر
ولم ترجعوا عن مرهفات كأنها *** حريق بأيدى المؤمنين بواتر
ولم تصبروا للبيض حتى أخذتم *** قليلا بأيدى المؤمنين المشاعر
ووليتم نفرا وما البطل الذي *** يقاتل من وقع السلاح بنافر
أتاكم بما جاء النبيون قبله *** وما ابن أخي البر الصدوق بشاعر
سيكفي الذى ضيعتم من نبيكم *** وينصره الحيان عمرو وعامر)( ).
لقد سادت حالة من الغضب والسخط بين رجالات قريش عند مجئ النذير , لأن التحدي وصل الى أموالهم وقوافلهم التي كانت تقطع الصحراء رواحاً وإياباً بأمان وسلامة وهو المستقرأ من قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
لأن قوله تعالى (إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) ( )دليل على إكمال رحلة الشتاء ورحلة الصيف ، وهي متعددة عدة مرات في الشتاء ، وأخرى في الصيف. إذ أن لفظ (رحلة) اسم جنس يفيد توالي الرحلات في الشتاء والصيف.
إنما فزعت قريش لأن طريق قوافلها مستمر ولا ترضى بتهديد قائم ودائم لها ولأموالها وشأنها بين القبائل , ومنه الصلات والشأن والمنزلة مع الحكام والتجار في الدول الكبرى مثل دولة الروم وفارس.
وتجهزت قريش في يومين ، وأخذ بعض كبرائهم يندبون الناس الى الخروج ويبينون لهم أضرار القعود والسكوت ، وتولى الاغنياء من كفار قريش اعانة الفقراء في التجهز والمؤونة وقام الخطباء منهم بإلقاء الكلمات, والشعراء بنظم الشعر لإثارة الهمم بالباطل.
وقال (سهيل بن عمرو وهو يستنفر قومه : يا آل غالب أتاركون أنتم محمدا والصباة معه من شبابكم وأهل يثرب يأخذون عيرانكم وأموالكم ) ( ) .
ثم عرض على المحتاج منهم المال , وقام نوفل بن معاوية بالطواف على أرباب الأموال من قريش بجمع نفقات خروجهم لمعركة بدر لشراء السيوف والدروع والرواحل لمن لا يملكها .
( وَكَلّمَ حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَتَيْ دِينَارٍ أَوْ ثَلَثَمِائَةٍ ثُمّ قَوّى بِهِمَا السّلَاحَ وَالظّهْرَ) ( ).
ولم يتبرع طعيمة بن عدي بالمال إنما حمل عشرين بعيراً وسلّحهم وأعطائهم مؤونه في أهليهم عند غيابهم للقتال ، وتناجى رجالات قريش بالنفير العاجل ، ومن لم يستطع منهم الإنبعاث إلى بدر بعث مكانه شخصاً آخر .
وأخرج عُتبة وشيبة دروعاً لهما وصارا يصلحان بهما ، فنظر لهما عدّاس وهو غلام لهما كان قد التقى النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في هجرته الأولى إلى الطائف يلتمس الهداية والنصرة من قبيلة ثقيف التي كانت تسكن الطائف ولبث فيهم عشرة أيام يدعوهم إلى الإيمان ولكنهم أغروا سفاءهم وصبيانهم وعبيدهم به يرمونه بالحجارة ويستخفون به ، وسالت الدماء من رجليه .
فجلس يناجي الله عز وجل بكلمات بقيت معيناً ينهل منه المسلمون (اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي ، وَقِلّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي ؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي ، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك ، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك) ( ).
وكان عتبة وأخوه شيبة في حائط لهما في الطائف ينظران ما حلّ بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فبعثا عدّاس بقطف وعناقيد من العنب في طبق ليضعها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي قال (بسم الله ومدّ يده وكان عدّاس نصرانياً فاندهش من الأمر لأنه لم يسمع أهل تلك البلاد يذكرون الله ، ثم سأله النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن دينه .
فقال نصراني وأنا رجل من أهل نينوى (مِنْ قَرْيَةِ الرّجُلِ الصّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتّى ؟ فَقَالَ لَهُ عَدّاسٌ : وَمَا يُدْرِيك مَا يُونُسُ بْنُ مَتّى ؟ .
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ذَاكَ أَخِي ، كَانَ نَبِيّا وَأَنَا نَبِيّ ، فَأَكَبّ عَدّاسٌ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ يُقَبّلُ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ قَالَ يَقُولُ ابْنَا رَبِيعَةَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَمّا غُلَامُك فَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْك . فَلَمّا جَاءَهُمَا عَدّاسٌ ، قَالَا لَهُ وَيْلَك يَا عَدّاسُ مَا لَك تُقَبّلُ رَأْسَ هَذَا الرّجُلِ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ ؟ قَالَ يَا سَيّدِي مَا فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ خَيْرٌ مِنْ هَذَا ، لَقَدْ أَخْبَرَنِي بِأَمْرِ مَا يَعْلَمُهُ إلّا نَبِيّ ، قَالَا لَهُ وَيْحَك يَا عَدّاسُ ، لَا يَصْرِفَنّك عَنْ دِينِك ، فَإِنّ دِينَك خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ) ( ).
وقام كل من زمعة بن الأسود ,وطعيمة بن عدي ,وحنظلة بن أبي سفيان بالطواف على المنتديات والاسواق والبيوت لتحريض الناس على الخروج ولم يكونوا في شهر حرام إنما كانوا في شهر رمضان ومشى نوفل بن معاوية الى أرباب الأموال في قريش وسألهم بذل النفقة والابل والخيل للذين يخرجون معهم .
وكان عدد أفراد الرئاسة في القبيلة أو الطائفة قليلا وقد أعتادوا على الراحة والدعة ورغد العيش حتى اذا ما داهمهم عدو لجأوا الى الفقراء والمساكين والمستضعفين الذين كانوا يستخفون بهم ويستصغرون قدرهم , ثم يتباكون عليهم إن قتلوا , وهو أمر ظاهر في أزمنة كثيرة , ليكون من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) منع الحروب العامة , وضروب الإبادة , والقتل العشوائي.
وقال (عبد الله بن أبي ربيعة لنوفل بن معاوية هذه خمسمائة دينار فضعها حيث رأيت) والدينار الواحد مثقال ذهب عيار ثماني عشرة حبة.
وجاء طعيمة بن عدي بعشرين بعيرا وقيل أربعين . كما قام بمساعدة عدد من الرجال في النفقة ودفع لهم ما تحتاج إليه عوائلهم مدة غيبتهم في القتال .
ولم يعلموا أن الملائكة الذين إحتجوا على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ). لهم بالمرصاد في ميدان معركة بدر .
وفي خطاب نصرة وبشارة إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأمته قال الله تعالى :
(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) ( ).
مع أن أموالاً كثيرة كانت في قافلة أبي سفيان إذ تتألف من ألف بعير , ومحملة بالبضائع ومنها الذهب والفضة , الأمر الذي بعث رجال قريش على المناجاة بنجدتها والقتال .وهو من مصاديق قوله تعالى [لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا] ( )
الإنذار الرابع : لقد كان سبب استنفار قريش وتجهيزهم الجيوش مجئ رسول من أبي سفيان يخبرهم بأن قافلة تجارتهم في معرض السلب من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خصوصا المهاجرين الذين إستحوذت قريش على أملاكهم وأموالكم في مكة بعد هجرتهم , ولم يغادروها إلا بسبب شدة العذاب والأذى والعذاب الذي لاقوه منهم .
ومن معاني الإنذار لقريش في المقام أنه حينما ساروا حتى وصلوا الجحفة جاءهم الخبر من أبي سفيان بأنه قد نجا وأن العير توجهت الى مكة في سلام, وصارت قريبة منها وطلب منهم الرجوع وقال لهم ( أن ارجعوا فإنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم فأتاهم الخبر وهم بالجحفة فهَموا بالرجوع .
( فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نقدم بدرا فنقيم بها ونطعم من حضرنا من العرب وتخافنا العرب بعد ذلك )
وتخلف بطن بني عدي بن كعب الخروج ولم يشهد بدراً منهم أحد , وأراد بنو هاشم الرجوع , ولكن أبا جهل قال : لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع , فساروا معهم إلا طالب بن أبي طالب الذي رجع , ولكنه لم يصل إلى مكة ولم يعرف حاله .
وعندما وصلت رسالة أبي سفيان إلى جيش المشركين بسلامة قافلته إنقسموا إلى أقسام :
الأول : لزوم العودة , وإنتفاء سبب التقدم , وإرادة القتال , ومنهم بنو زهرة , (إذ وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي وكان حليفا لبني زهرة و هم بالجحفة : يا بني زهرة قد نجّى الله لكم أموالكم) ( ).
وقيل اسم الأخنس هو أُبي , إنما سُمي الأخنس لأنه خنس بالقوم يوم بدر , وهو من بني علاج بن أبي سلمة ولم تكن دعوة الأخنس بالرجوع خاصة لبني زهرة إنما كانت موجهة إلى جميع الجيش وهو من الأشراف , ولكن عندما يأس منهم توجه إلى بني زهرة خاصة .
الثاني : الذين رأوا عدم الحاجة إلى القتال وهم عامة الجيش , ولكنهم إنتظروا أوامر الرؤساء ليقودوهم إلى النار .
الثالث : الذين سعوا إلى التهدئة , ومشوا بين رؤساء قريش , رجاء عدم القتال, وهو شاهد على أن كفار قريش كان بيدهم يوم بدر أمور :
أولاً : إشعال الحرب .
ثانياً : إبتداء القتال .
ثالثاً :الإنصراف من غير قتال , وهل كان بيدهم الصلح الجواب ليس من موضوع للصلح إذ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو إلى التوحيد والإيمان .
الرابع : الذين أصروا على القتال ومنهم أبو جهل , (واسم أبي جهل عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي المخزومي كان أبو جهل يكنى أبا الحكم فكناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل فذهبت) ( ).
فرجع الأخنس وبنو زهرة فلم يشهد بدراً زهري فاغتبطت بنو زهرة بعد برأي الأخنس فلم يزل فيهم مطاعا معظما وأرادت بنو هاشم الرجوع فاشتد عليهم أبو جهل وقال : لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع فساروا إلا نفراً من بني هاشم .
وسار رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم حتى نزل عشيا أدنى ماء من مياه بدر فقال : [ أشيروا علي في المنزل ] فقال الحباب بن المنذر : يا رسول الله ! أنا عالم بها وبقلبها إن رأيت أن نسير إلى قلب قد عرفناها فهي كثيرة الماء عذبة فننزل عليها ونسبق القوم إليها ونغور ما سواها من المياه)( ).
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلامة المدينة من الحمى والوباء الذي كان فيها.
(فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد اللهم بارك لنا في صاعها وفي مدها، وصححها لنا وانقل حماها إلى الجحفة )( ).
وتقع الجحفة شمال غرب مكة وتبعد عنها نحو(187)كم وسميت به لاصابة وإجحاف السيل بالعماليق الذي يسكنونها وكانت تسمى مهيعة وهي ميقات في الحج لأهل الشام ومصر والمغرب ومن عليها , ترى لماذا ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجحفة بالذات , وهل كان يكني.
لقد قام كفار قريش بحمل من كان كارهاً للخروج لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حتى الذين ليس لهم في القافلة والتجارة شيء .
ومن الانذارات أنهم عندما نزلوا الجحفة ليتزودوا من الماء وضع جهيم بن الصلت بن مخرمة من بني المطلب رأسه فرآى فارساً ينعى رجالاً ووجوهاً من قريش فأنتبه مرعوباً .
وقال لمن حوله : هل رأيتم فارساً وقف علينا :قالوا:لا: إنك مجنون .فكم يكن من فارس في اليقظة ولم يخبرهم بأنه رآه في سنة من النوم وكان بين النائم واليقظان قال : قد وقف فارس ونادى :قتل أبو جهل وعتبة وشيبة وزمعة وأبو البختري وأمية بن خلف وأخذ يذكر أسماء أخرى بمن كان حاضرا في الجيش وذا شأن عندهم ( ورأيته ضرب في لبة بعيره ثم أرسله في العسكر فما بقى خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه)( ).
فلم يسمعوا كلامه ولم يتعظوا منه وقالوا إنه من وساوس الشيطان كما أنهم لا يحسنون اللجوء الى الدعاء لصرف البلاء ,وحتى لو لجؤوا إليه فإنه لاينفعهم وفي التنزيل (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ) ( )
وسرعان ما انتقل خبر هذه الرؤيا في صفوف الجيش خاصة وأنهم في سفر ومنقطعون عن أهليهم والمسائل الإبتلائية في الحياة اليومية , وبلغ الخبر أبا جهل فقال : قد جئتمونا بكذب بني المطلب مع كذب بني هاشم سترون غدا من يقتل , وفي رواية قال : وهذا أيضاً نبي من بني المطلب , لقد كان أبو جهل يصر على القتال , ويسعى في منع التردد فيه أو بعث اليأس في نفوس أصحابه .
لقد أراد الله عز وجل أن يكون أفراد الجيش شهوداً على أبي جهل في إصراره على القتال مع انتفاء السبب وإنعدام المقتضي.
إذ أن العلة التامة للفعل هي وجود المقتضي وفقد المانع , وينعدم المقتضي لقريش في القتال ويتجلى المانع منه. لقد كان خبر سلامة القافلة ,وطلب أبو سفيان منهم الرجوع إنذارا لجيش قريش ,ولكنهم أصروا على المسير وقالوا : والله لا نرجع حتى نقدم بدرا ونقيم فيها .
فقد أرادوا إشعار العرب بأنهم أقوياء ويتحدون جيش المسلمين ,ولا يخافون أحداً , وأنهم قادرون على جمع الجيوش والسير بها للقتال خارج مكة.
عندئذ كره الأخنس بن شريق , وأشار عليهم بالرجوع لإنتفاء السبب وطلب العافية ولكنهم لم يسمعوا كلامه وواصلوا المسير فرجع ببني زهرة .ولم يحضر أحد منهم معركة بدر .
وعندما أصاب كفار قريش القتل والأسر فيها وتركوا مؤنهم ورواحلهم غنائم للمسلمين عظم شأن الأخنس في بني زهرة , وصاروا يسمعون كلامه ويستجيبون لأمره.
ولما رآى بنو هاشم رجوع بني زهرة من غير ممانعة من كبار قريش هموا بالرجوع مثلهم خاصة وأنهم خرجوا مكرهين ,ولكن أبا جهل منعهم وحال دون رجوعهم وكان مع جيش المشركين طالب بن أبي طالب وقد أخرج معهم إلى معركة بدر مكرهاً , ثم أختفى وفي كيفية إختفائه وجوه :
الأول : حدث جدال بينه وبين بعض القوم , فقالوا له لقد عرفنا يابني هاشم وإن خرجتم معنا أن هواكم مع محمد فرجع طالب إلى مكة فيمن رجع .
الثاني : قال الكلبي : أنه لم يوجد في الأسرى ولا في القتلى ولا رجع الى أهله.
الثالث : ولعل بعض المنهزمين من كفار قريش أدركه في الطريق وقتله غيلة .
الرابع : كانت بطون قريش في الطريق إلى معركة بدر ترتجز ويتقدم الراجز منهم لبعث الهمم, فنزل طالب بن أبي طالب وهو يرتجز ويقول:
لَا هُمّ إمّا يَغْزُوَنّ طَالِبْ … .. فِي عُصْبَةٍ مُحَالِفٌ مُحَارِبْ
فِي مِقْنَبٍ( ) مِنْ هَذِهِ الْمَقَانِبِ … فَلْيَكُنْ الْمَسْلُوبُ غَيْرَ السّالِبِ
وَلْيَكُنْ الْمَغْلُوبُ غَيْرَ الْغَالِبِ( ).
وعن الأمام جعفر الصادق عليه السلام : أن قريشاً قالوا حينئذ: إن هذا ليغلبنا فردوه .
الخامس : قيام بعضهم بالغدر بطالب , وقتله في طريق العودة إلى مكة, خاصة وإنه كان قد جاء بأبيات يمدح بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
إذا قيل من خير هذا الورى قبيلا و أكرمهم أسره
أناف لعبد مناف أب و فضله هاشم العزة
لقد حل مجد بني هاشم مكان النعائم و النثرة
وخير بني هاشم أحمد رسول الإله على فترة( )
ونادى الأخنس بن شريق حليف بني زهرة مخاطباً لهم : يا بني زهرة قد الله عز وجل أموالكم , وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل , وإنما نفرتم لتمنعوه وماله فلم يبق سبب للقتال أو حتى للبقاء هنا ثم قال (فاجعلوا بي جبنها وارجعوا فانه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة لا ما يقول هذا) أي أبو جهل ( ).
إذ يحتسب هذا الرجوع جنبا لأن الجمعين تقاربا فأجعلوا هذا علي بين العرب ثم حثهم على الرجوع قائلا: ارجعوا فلا حاجة للخروج من غير ضيعة , وظلم وتعد, ولا تلتفتوا الى ما يقول أبو جهل واصراره على البقاء في بدر وقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد حرص كفار قريش على إشخاص وإحضار كل من معهم:
الأول : بنو هاشم ومنهم طالب وعقيل ابنا أبي طالب ,ونوفل بن الحارث والعباس بن عبد المطلب وغيرهم.
الثاني : المسلمون الذين أسلموا وبقوا في مكة وعلمت قريش بإسلامهم ,ولم تنتقم منهم أو لعدم القطع بإسلامهم أو أنهم كانوا يؤذونهم قبل معركة بدر.
الثالث : الذين يكرهون الخروج ممن كان يميل الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويدرك الظلم والضرر بمحاربته وقتاله.
وخرج رجالات ووجهاء قريش , ومن تخلف بعث شخصا بديلا عنه كالأجير.
وامتنع أبو لهب عن الخروج وكان يقول : رؤيا عاتكة كأخذ باليد, أي أنه كالحقيقة الواقعة.
وبعث نيابة عنه العاص بن هشام بن المغيرة وأسقط عنه أربعة آلاف درهم كانت دينا لأبي لهب عليه.
وذهب كل من أمية بن خلف وعتبة وشيبة ابنا ربيعة, وزمعة بن الأسود, وعمير بن وهب ,وحكيم بن حزام, وجماعة عند الصنم هبل واستقسموا بالازلام, والأزلام سهام صغيرة يكتب على أحداها : أفعل
وعلى أخرى: لا تفعل.
ويتركون بعضها من غير كتابة ويضعونها في كيس كالقرعة.
فاذا خرج له الذي كتب عليه : أفعل مضى لحاجته.
واذا أخرج له لا تفعل قعد وترك العمل , فخرج لهم القدح الناهي أي لا تفعلوا بمعنى لا تخرجوا إلى بدر فأجمعوا على الإقامة والإمتناع عن الخروج ولكن جاءهم أبو جهل فحثهم على الخروج، وأظهر الحاجة إليه، وإنقاذ القافلة وتحقيق النصر لرجحان كفتهم في العدد والعدة، وأعانه في قوله وإحتجاجه كل من عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث.
لقد كان أبو جهل يحرض الناس على نحو عام وخاص، إذ يذهب لمن يمتنع عن النفير . ويلح عليه ويوبخه، وهو من أسباب تسمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا جهل فرعون وحتى عتبة وشيبة ابني ربيعة أرادا عدم الخروج لأن عدّاساً حذرهما .
وكان حكيم بن حزام(يَقُولُ لَقَدْ رَأَيْتنَا حِينَ بَلَغْنَا الثّنِيّةَ الْبَيْضَاءَ – وَالثّنِيّةُ الْبَيْضَاءُ الّتِي تُهْبِطُكَ عَلَى فَخّ وَأَنْتَ مُقْبِلٌ مِنْ الْمَدِينَةِ – إذَا عَدّاسٌ جَالِسٌ عَلَيْهَا وَالنّاسُ يَمُرّونَ إذْ مَرّ عَلَيْهِ ابْنَا رَبِيعَةَ، فَوَثَبَ إلَيْهِمَا فَأَخَذَ بِأَرْجُلِهِمَا فِي غَرْزِهِمَا، وَهُوَ يَقُولُ بِأَبِي وَأُمّي أَنْتُمَا، وَاَللّهِ إنّهُ رَسُولُ اللّهِ وَمَا تُسَاقَانِ إلّا إلَى مَصَارِعِكُمَا وَإِنّ عَيْنَيْهِ لَتَسِيلُ دُمُوعُهُمَا عَلَى خَدّيْهِ فَأَرَدْت أَنْ أَرْجِعَ أَيْضًا، ثُمّ مَضَيْت.
وَمَرّ بِهِ الْعَاصُ بْنُ مُنَبّهِ بْنِ الْحَجّاجِ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ حِينَ وَلّى عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ فَقَالَ مَا يُبْكِيك؟ فَقَالَ يُبْكِينِي سَيّدَايَ وَسَيّدَا أَهْلِ الْوَادِي، يَخْرُجَانِ إلَى مَصَارِعِهِمَا، وَيُقَاتِلَانِ رَسُولَ اللّهِ. فَقَالَ الْعَاصُ وَإِنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ؟ قَالَ فَانْتَفَضَ عَدّاسٌ انْتِفَاضَةً وَاقْشَعَرّ جِلْدُهُ ثُمّ بَكَى وَقَالَ إي وَاَللّهِ إنّهُ لَرَسُولُ اللّهِ إلَى النّاسِ كَافّةً. قَالَ فَأَسْلَمَ الْعَاصُ بْنُ مُنَبّهٍ، ثُمّ مَضَى وَهُوَ عَلَى الشّكّ حَتّى قُتِلَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى شَكّ وَارْتِيَابٍ. وَيُقَالُ رَجَعَ عَدّاسٌ وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا، وَيُقَالُ شَهِدَ بَدْرًا وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ)( ).
وسيأتي باب خاص في(كراهة كثير من رجالات قريش للخروج إلى معركة بدر).
وجاء الإسلام والتنزيل بحرمة الأزلام لأنه لا أصل لها ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
وتبعث الأزلام على الطيرة والتشاؤم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب الفأل الحسن ويكره الطيرة ومع هذا حتى الأزلام كانت حجة على المشركين , فعزموا على القعود وعدم الخروج الى بدر ولكن أبا جهل ألح عليهم وعيّرهم.
وكان أمية بن خلف جالساً في المسجد ومعه رهط من قومه فجاء له عقبة بن أبي معيط بمجمرة فيها نار ومجمر وقدمها بين يديه وكأنه امرأة ثم قال له : يا أبا علي استجمر انما انت من النساء فقال: قبحت والله وقبح ماجئت به)( ).
فتجهز واشترى (جَمَلًا بِثَلَاثِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ نَعَمِ بَنِي قُشَيْرٍ فَغَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ. فَصَارَ فِي سَهْمِ خُبَيْبِ بْنِ يَسَافٍ)( )، وسار مع الجيش هو وولده علي فقتلا معا في معركة بدر إذ أجهز عليهما بلال لشدة ما كان أمية يعذب به بلالا.
لقد وقعت هذه الاحداث كلها في يومين وقيل ثلاثة أيام من حين مجيء ضمضم رسولا من أبي سفيان الذي كان رئيس القافلة , ومع أنها تتألف من ألف بعير محملة بالبضائع فليس معها من قريش إلا ثلاثون رجلا الى جانب بعض العمال الأجراء والعبيد وأغلبهم لا يحسن القتال انما صاحبوا القوم طلباً لشبع البطن وستر الجسد.
وقامت قريش بأستنفار القبائل المحيطة بمكة فخرج رجال معهم، وكان عدد أفراد الجيش نحو ألف من المقاتلين فساروا مسرعين يطوون الأرض، يريدون حفظ ووقاية قافلة أبي سفيان وقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل الأحوال أي حتى وإن لم يتعرض وأصحابه للقافلة .
وفي توثيق توجه الفريقين للقتال واستجابة الأنصار لله ورسوله, وخذلان وتخاذل الذين كفروا قال حسان بن ثابت :
قَوْمِي الّذِينَ هُمْ آوَوْا نَبِيّهُمْ … وَصَدّقُوهُ وَأَهْلُ الْأَرْضِ كُفّارُ
إلّا خَصَائِصَ أَقْوَامٍ هُمْ سَلَفٌ .. لِلصّالِحِينَ مَعَ الْأَنْصَارِ أَنْصَارُ
مُسْتَبْشِرِينَ بِقَسْمِ اللّهِ قَوْلُهُمْ … لَمّا أَتَاهُمْ كَرِيمُ الْأَصْلِ مُخْتَارُ
أَهْلًا وَسَهْلًا فَفِي أَمْنٍ وَفِي سَعَةٍ نِعْمَ النّبِيّ وَنِعْمَ الْقَسْمُ وَالْجَارُ
فَأَنْزَلُوهُ بِدَارِ لَا يُخَافُ بِهَا … مَنْ كَانَ جَارَهُمْ دَارًا هِيَ الدّارُ
وَقَاسَمُوهُ بِهَا الْأَمْوَالَ إذْ قَدِمُوا . مُهَاجِرِينَ وَقَسْمُ الْجَاحِدِ النّارُ
سِرْنَا وَسَارُوا إلَى بَدْرٍ لِحَيْنِهِمْ . لَوْ يَعْلَمُونَ يَقِينَ الْعِلْمِ مَا سَارُوا
دَلّاهُمْ بِغُرُورٍ ثُمّ أَسْلَمَهُمْ … إنّ الْخَبِيثَ لِمَنْ وَالَاهُ غَرّارُ
وَقَالَ إنّي لَكُمْ جَارٌ فَأَوْرَدَهُمْ … شَرّ الْمَوَارِدِ فِيهِ الْخِزْي وَالْعَارُ
ثُمّ الْتَقَيْنَا فَوَلّوْا عَنْ سَرَاتِهِم ..مِنْ مُنْجِدِينَ وَمِنْهُمْ فِرْقَةٌ غَارُوا( )
الإنذار الخامس : لما وصلت جيوش قريش الى بدر وأستقروا في موضعهم بعثوا عمير بن وهب الجمحي وقالوا :احزر لنا عدد اصحاب محمد إذ إنهم أرادوا معرفة العدد الاجمالي ليروا كيفية المواجهة والقتال فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال( ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون ولكن امهلوني حتى انظر أللقوم كمين أو مدد , فضرب في بطن الوادي حتى ابعد فلم ير شيئا فرجع إليهم) ( )
لبيان أنهم أرسلوا خبيرا في معرفة عدد أفراد الجيش بلحاظ .
الأول : الخيل والإبل التي معهم.
الثاني : عدد الخيم والمواضع.
الثالث : الربوة والمرابط الظاهرة.
الرابع : سعة المكان الذي ينتشرون فيه.
الخامس : المتحرك والثابت في المعسكر.
السادس : الأواني ومستلزمات المياه اليومية.
السابع : حركة وتنقل الرجال .
الثامن : الإستعداد والتهيئ للمعركة .
ثـم طلب منه قادة الجيش أن يستطـلع ما حول المعسكر , وهـو لهم كمين أو عدد ؟
لبيان أن شخصاً واحداً يقوم بوظائف سرايا متعددة بالاستطلاع مع دقة رصده وكشفه وضبط بيانه مع أنه على الباطل ومع القوم الظالمين ,وفيه دلالة على الآذى الشديد الذي لاقاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو الصحابة من القوم المشركين .
خاصة وأن قادة جيش المشركين الذين سعوا في إعداده وتجهيزه هم من عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم قريش.
ومن الآيات أن هذا الامر لم يكن عائقا دون دخول الناس في الاسلام لقيام الحجة والبرهان على صدق النبوة واعجاز التنزيل , وطاف عمير بن وهب بفرسه والذي اسلم فيما بعد , ونزل إلى الوادي وأبعد عن المعسكر فلم ير كمينا أو مددا من جيش النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ومن أمثلة العرب : ” الرائد لا يَكْذِبُ أهلَه “( )
ورائد القوم الذي يبعثونه ليرتاد مساقط الغيث فيهجرون موضعهم ويتوجهون حسب خبره .
وقيل : ( الرائدُ لا يكذِبُ أهلَه، يُضرَبُ مثلاً للّذي لا يكذب إذا حَدَّثَ)( )
ولكن بينهما عموم وخصوص مطلق . ولم يعلم هذا المستطلع وهو عمير بن وهب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم له مدد من الملائكة لم تشهد الارض مثله ولا عين رآت ولا أذن سمعت ,ولا يلزم أن يكون هذا المدد بعيدا أو في الوادي .
لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الى بدر , ولما أقبلت جيوش قريش طلع منهم زمعة بن الأسود , ويتبعه ابنه وهو يريد ان يختار للجيش نزلا ملائما في حال القتال والمبارزة والاستراحة . فقال حينئذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (اللّهُمّ هَذِهِ قُرَيْشٌ جَاءَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا ، جَاءَتْ تُحَادّك ، وَتُكَذّبُ رَسُولَكَ ” ، وَقَامَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَاسْتَنْصَرَ رَبّهُ , وَقَالَ اللّهُمّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي ، اللّهُمّ إنّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ ” )( ).
ويمكن إنشاء قانون وهو ليس بين دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاستجابة من الله عز وجل ثمة فترة أو برزخ , فقال تعالى (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ) ( )
الإنذار السادس : لقد كان جيش المشركين ينتظر رجوع عمير بن وهب من إستطلاعه , وهم يحسبون وجود مدد وكمائن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليحذروا .
فلما عاد أخبرهم بعدم وجود مدد أو كمين لجيش النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه لم يتركهم يتنفسون الصعداء إذ قال لهم : يا معشر قريش رأيت البلايا تحمل المنايا .
والبلايا جمع بلية, وهو الامر والآفة والأذى الذي يداهم الفرد والجماعة.
وقيل المقصود بالبلايا جمع بلية (والبَلِيَّةُ أيضاً: الناقةُ التي كانت تُعْقَلُ في الجاهلية عند قبر صاحبها، فلا تُعْلَفُ ولا تُسْقَى حتّى تموت) ( )
ويحمل الكلام العربي على ظاهره إلا مع القرينة الصارفة , ولا مانع من الجمع في إرادة البلية والشدة والتذكير بالموت وحرمان القتيل من ركوب ناقته , إنما تكون فأنه يرتجز قائمة على قبر , ثم قال عمير محذرا أو منذرا لقريش (نَوَاضِحُ يَثْرِبَ تَحْمِلُ الْمَوْتَ النّاقِعَ قَوْمٌ لَيْسَ مَعَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا مَلْجَأٌ إلّا سُيُوفُهُمْ وَاَللّهِ مَا أَرَى أَنْ يُقْتَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتّى يَقْتُلَ رَجُلًا مِنْكُمْ فَإِذَا أَصَابُوا مِنْكُمْ أَعْدَادَهُمْ فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ فَرُوا رَأْيَكُمْ ) ( )
لقد أبدى رأيه بأنه لا يقتل واحد من الأنصار حتى يقتلون من قريش واحدا آخر لظهور التفاني عليهم ، وحب التضحية والفداء عندهم , لقد أدرك عمير أثر الآيات على العزيمة في القتال .
فقال : لو قتلتموهم فأنهم يقتلون منكم ثلاثمائة, فلا خير في الباقين منكم لما يلحق بقريش من الذل والهوان كلا ببيان كراهة القتال , وحثهم على أبي مخرج آخر غير القتال ,ومن فضل الله عز وجل على الناس أن أسباب دفع القتال قبل وقوعه أكثر من اسباب وقوعه.
وقال حسان بن ثابت :
قَوْمِي الّذِينَ هُمْ آوَوْا نَبِيّهُمْ .. . وَصَدّقُوهُ وَأَهْلُ الْأَرْضِ كُفّارُ
إلّا خَصَائِصَ أَقْوَامٍ هُمْ سَلَفٌ … لِلصّالِحِينَ مَعَ الْأَنْصَارِ أَنْصَارُ
مُسْتَبْشِرِينَ بِقَسْمِ اللّهِ قَوْلُهُمْ … لَمّا أَتَاهُمْ كَرِيمُ الْأَصْلِ مُخْتَارُ
أَهْلًا وَسَهْلًا فَفِي أَمْنٍ وَفِي سَعَةٍ … نِعْمَ النّبِيّ وَنِعْمَ الْقَسْمُ وَالْجَارُ
فَأَنْزَلُوهُ بِدَارِ لَا يُخَافُ بِهَا … مَنْ كَانَ جَارَهُمْ دَارًا هِيَ الدّارُ
وَقَاسَمُوهُ بِهَا الْأَقْوَالَ إذْ قَدِمُوا … مُهَاجِرِينَ وَقَسْمُ الْجَاحِدِ النّارُ
سِرْنَا وَسَارُوا إلَى بَدْرٍ لِحِينِهِمْ … لَوْ يَعْلَمُونَ يَقِينَ الْعِلْمِ مَا سَارُوا
دَلّاهُمْ بِغُرُورِ ثُمّ أَسْلَمَهُمْ .. . إنّ الْخَبِيثَ لِمَنْ وَالَاهُ غَرّارُ
وَقَالَ إنّي لَكُمْ جَارٌ فَأَوْرَدَهُمْ … شَرّ الْمَوَارِدِ فِيهِ الْخِزْيُ وَالْعَارُ
ثُمّ الْتَقَيْنَا فَوَلّوْا عَنْ سَرَاتِهُمُ … مِنْ مُنْجِدِينَ وَمِنْهُمْ فِرْقَةٌ غَارُوا( )
الإنذار السابع : لقد استمعت قريش الى التحذير الذي أطلقه عمير بن وهب والذي بعثته للإستطلاع والكشف.
حينئذ بادر حكيم بن حزام فمشى في الناس بالرأي , ويبين لهم مساوىء القتال ويحثهم على إجتنابه ، وأتى عتبة بن ربيعة وبدأ بالثناء عليه وكيف أنه مطاع في قومه، يسعى للإصلاح، وإجتناب القتال بين القبائل، وأن قريشاً تطيعه ومن خصائص الذي يبذل الأموال لإصلاح ذات البين، ودفع الفتن الكلام المسموع بين الناس .
وفي يوم الفجار أصلح عتبة بين الفريقين بعد قتال شديد ، وكان أربعة أيام قتال متباعدة , وأشدها يوم الشرب عند عكاظ (وهو أعظمها يوما وهو الذي حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه قيدا رئيس قريش وبني كنانة وهما حرب بن أمية وأخوه سفيان أنفسهما لئلا يفروا وانهزمت يومئذ قيس إلا بني نضر فإنهم ثبتوا ويوم الحريرة عند نخلة ثم تواعدوا من العام المقبل إلى عكاظ .
فلما توافوا الموعد ركب عتبة بن ربيعة جمله ونادى يا معشر مضر علام تقاتلون , فقالت له هوازن ما تدعو إليه .
قال : الصلح , قالوا : وكيف قال ندي قتلاكم ونرهنكم رهائن عليها ونعفو عن دياتنا .
قالوا : ومن لنا بذلك .
قال أنا , وكان يتيماً صغيرا , خرج بين الصفين من غير إذن .
قالوا : ومن أنت , قال : عتبة بن ربيعة .
فوقع الصلح على ذلك وبعثوا إليهم أربعين رجلا فيهم حكيم بن حزام فلما رأت بنو عامر بن صعصعة الرهن في أيديهم عفوا عن دياتهم وانقضت حرب الفجار) ( ).
وعند التوثب والتهيء لواقعة بدر سأل حكيم بن حزام عتبة بن ربيعة أن يرجع بالناس الى مكة , وأن يتولى دفع دية حليفه عمرو بن الحضرمي.
أي أن بعض كفار قريش لما علموا بسلامة قافلة أبي سفيان اثاروا مسألة أخرى وهي دم عمرو بن الحضرمي (عن الأوزاعيّ قال: قال عتبة بن ربيعة يوم بدر لأصحابه: ألا ترونهم – يعني أصحاب النبي – جثيًّا على الرًكب كأنهم خرسٌ يتلمًظون تلمًظ الحيًات) ( ) وفي التنزيل [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) فلم تقل الآية أعلاه : أهجموا واغزوا إنما أمرتهم بالثبات مما يدل على تفرع الدفاع عن الدفاع .
إذ كان رسول الله قد بعث عبد الله بن جحش الأسدي للإستطلاع ومقدمات الحيطة .
لقد جعل الله قريشاً يتصفون بأمور :
الأول : سدانة البيت الحرام . ويتولون العناية بالبيت الحرام وخدمة الحجاج والمعتمرين وإعانة الفقير , ونصرة المظلوم , وإن كان حقه عند بعض كبار رجالات قريش .
الثاني : مزاولة التجارة العالمية مما يكون وسيلة ومادة للصلة مع الدول الكبرى والأطراف القريبة من دواوين السلاطين.
ومن عادة الحكام معاملة ذي الشأن في بلاده بعناية خاصة ، وهو يوفر لهم جهوداً وأموالاً في نشر نوع نفوذ ومقام في البلاد الأخرى .
الثالث : الوساطة والشفاعة بين القبائل لحل الخصومات .
الرابع : الإختلاط بأفراد القبائل العربية.
لقد جعل الله عز وجل الإيمان حياة ، قال تعالى [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ]( ) ليكون من مصاديق الإيمان الإستجابة لله والرسول .
وأيهما أكثر ضرراً على المسلمين والإسلام قتل الرجال أم إستباحة المدينة، الجواب في كل منهما ضرر شديد، فتفضل الله وحال بين المشركين وبين تحصيل أي منهما ، وهو من الوعد الإلهي بصرف الضرر عن المسلمين الذي يتجلى بقوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، والضرر من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً.
فأخبرت الآية أعلاه عن صرف مطلق الضرر عن المسلمين، ليكون من باب الأولوية القطعية صرف كل من الإستباحة أو قتل الصحابة، وكذا تهديد حياة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وأبى الله إلا أن يتم إنزال آيات القرآن عليه، مع وجود أمة من المؤمنين يتلقون آيات القرآن بالقبول ويعملون بمضامينها لتكون سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من القتل , والمدينة المنورة من الإستباحة من مصاديق قوله تعالى[كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( ).