معالم الإيمان في تفسير القرآن – الجزء- 166

المقدمـــة
الحمد لله الذي يتوالى فضله مع إزدياد التقصير بصيرورة التقصير سبباً للطف منه تعالى ، ووسيلة لتقريب النعم ، بمشيئته وفضله وتيسير العمل في طاعته، والمسارعة في مرضاته.
الحمد لله في السراء والرخاء وفي الشدة والضراء ، فهو سبحانه ولي النعم، وكاشف الكرب ولا يقدر على تعقب ونسخ اليسر للعسر إلا هو سبحانه.
الحمد لله الذي يجعل حجباً بيننا وبين الشيطان بعد أن جعله فتنة للناس لبيان أن فتنته ليست عامة ، وأن الحمد لله واقية منها، وفي التنزيل [قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ] ( ).
الحمد لله الذي أنعم علينا ببلوغ أجزاء التفسير مائة وواحداً وستين جزءً وكلها تأويل واستنباط من ذات آيات القرآن ،ونسأله تعالى تعاقب صدور الأجزاء بذات المنهجية وبيان سنخية النبوة ، ومصاديق الإعجاز فيها.
الحمد لله في كل دقيقة وساعة في أيام الحياة الدنيا ونحن أحياء وأموات.
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين والناس جميعاً بالقرآن معلماً ومؤدباً وهادياً إلى سواء السبيل ، ولما كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته [رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) فلابد أنه لم يأت بالقتال والسيف، صحيح أنه قد يكون القتال والقتل طريقاً إلى بسط العدل وإقامة حكم الحق، ولكن الله عز وجل قادر على هداية الناس لاتباع النبوة والتنزيل من غير أن تصل النوبة لإبتداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين القتال مع الذين كفروا .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يصلح المسلمين لقانون إجتناب القتال ابتداء واستدامة .
(عن يحيى بن أبي كثير : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تتمنوا لقاء العدو فإنكم لا تدرون لعلكم ستبلون بهم وسلوا الله العافية، فإذا جاءوكم يبرقون ويرجفون ويصيحون فالأرض الأرض جلوساً ثم قولوا : اللهم ربنا وربهم نواصينا ونواصيهم بيدك وإنما تقتلهم أنت ، فإذا دنوا منكم فثوروا إليهم واعلموا أن الجنة تحت البارقة)( ).
وقد ورد ذات الحديث في صيغ متعددة منها عن (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِى أَوْفَى حِينَ خَرَجَ إِلَى الْحَرُورِيَّةِ فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فِى بَعْضِ أَيَّامِهِ الَّتِى لَقِىَ فِيهَا الْعَدُوَّ انْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ قَامَ فِى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِىَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ)( ).
وهذا الحديث مدرسة في مفاهيم القتال والحرب مع قلة كلماته , ويشمل النوايا والرغائب والعاقبة في عالم الآخرة .
وينهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن حال تمني القتال، ولقاء الذين كفروا ليدل بالأولوية القطعية على إجتناب قصد القتال والسعي إليه وطلبه، مع رجاء العافية والسلامة والأمن، والوقاية من العلل والبلاء، وهو في المقام سؤال المسلمين لله عز وجل بالسلامة من القتال مما يدل على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يدعو المسلمين إلى الإمتناع عن لقاء الذين كفروا إلا أن يكون هذا اللقاء دفاعاً وضرورة وحاجة، حينئذ يلزم أمران:
الأول : الصبر.
الثاني : الدعاء، وهما مجتمعان ومتفرقان، وعاقبتهما والأجر عليهما من مصاديق الفلاح في قوله تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
لنغادر الحياة وتبقى الملائكة وأجزاء الكون تردد حمدنا لله وكأننا نحمّلها أمانة الحمد , فان قلت قد ورد قوله تعالى[إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً] ( ) .
والجواب من جهات :
الأولى : نرجو حمل أجزاء الكون لأمانة حمدنا لله بفضل وإذن من عند الله سبحانه.
الثانية : من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) عدم تقييد أسباب حفظ تجديد حمدنا في كل يوم من أيام الدنيا بأجزاء الكون، إنما نريد هذا الحفظ ببركة ومضاعفة من عند الله عز وجل.
وهل هو من مصاديق قوله تعالى[ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ) الجواب نعم لبيان تعلق مصاديق الدعاء بأمور:
الأول : ما مضى وانقضى فيما يخص فعل العبد وغيره ، فيدعو المسلم لنفسه بخصوص ما عمله في الماضي ، ويدعو لأبيه وأمه والمسلمين جميعاً .
وتتعرض هذه الأجزاء لسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدفاعية ، ونسأل الله عز وجل المقام الرفيع والسامي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين والأنصار الذين أخلصوا في الدفاع عنه وعن بيضة الإسلام ، ليكون من معاني قوله تعالى [عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا]( ) توالي الحمد لله الذي نردده بعد وفاتنا ، ليكون وسيلة للشفاعة، وواقية للمسلمين والناس من القتال وشدته.
(عن جابر بن عبد الله، أنه ذكر حديث الجهنّميّين فقال له أحدهم: ما هذا الذي تحدث والله تعالى يقول: {إنك من تدخل النار فقد أخزيته}( ) {وكلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها }( ).
فقال: هل تقرأ القرآن؟ قال : نعم.
قال : فهل سمعت فيه بالمقام المحمود؟ قال : نعم.
قال : فإنه مقام محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يخرج الله به من يخرج)( ) أي يخرجون من النار بشفاعته وحسن مقامه عند الله.
الحمد لله الذي جعل الحياة الدنيا مزرعة للآخرة، وبلغة للبشارة بالروح والريحان ، ووراثة الجنان ، الحمد لله الذي يمد بعمر الإنسان ليتوب ويجدد الشكر له سبحانه والثناء عليه .
ويكبّر ويهلل ، ويؤدي مناسك حج بيت الله ، ويلبي التلبيات الأربعة (لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ).
وليس من مسلم يؤدي مناسك الحج إلا وهو شاكر لله ، ومقر بقانون وهو لولا فضل الله عليه لما وفق لأداء المناسك ، ويتغشى هذا الإقرار المسلمين والمسلمات على نحو العموم المجموعي والإستغراقي والفردي في كل جيل وطبقة ليكون من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الحمد لله الذي جعل كل آية من آيات القرآن حمداً له سبحانه، وسلاحاً لطرد الغفلة ، وبرزخاً دون الجهالة، وواقية من السهو والنسيان، فان قلت قد يقع سهو في الصلاة ، ولذا شرعت سجدتا السهو على اختلاف في وجوبهما أو استحبابهما وفي كيفيتهما.
والجواب من الإعجاز في أداء الصلاة ندرة السهو والنسيان فيها بالنسبة لكل مسلم ومسلمة ، إذ يؤدي كل منهما في كل يوم سبع عشرة ركعة.
والمتبادر أن أزدياد هموم الدنيا ومشاق المعيشة، وكثرة العيال، وضعف الهمة أمور تفقد الإنسان القدرة على أداء وظائفه بذات الدقة التي يؤديها في حال الغبطة والسعادة والقوة، ولكن هذا التبادر منتف في كيفية ضبط أداء المسلم والمسلمة الصلاة على كل حال .
وهذا الأداء باعث للسكينة في النفس، وسبب لتعاهد قوة الذاكرة، ووسيلة لطرد الهم، وهو من مصاديق قوله تعالى[أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ]( ).
والنسبة بين الغفلة والنسيان هي العموم والخصوص المطلق , فكل غفلة هي نسيان وليس العكس .
إذ أن الغفلة ترك بالإختيار من قبل الغافل ، أو فيها شائبة الإختيار والتفريط والإهمال وعدم التفطن ، أما النسيان فهو غياب الصورة عن القوة المدركة من غير قصد وعمد ، وقال تعالى [وَلاَ تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ] ( ).
وكذا ذات النسبة بين النسيان والسهو، إذ أن السهو غياب الشيء عن القوة الحافظة مع بقائه في القوة المدركة، ففي السهو عن الشيء يستحضره الإنسان بأدنى تنبيه، بخلاف النسيان فكل نسيان هو سهو وليس العكس .
الثالث : المراد من الأمانة في قوله تعالى أعلاه أداء الفرائض والواجبات الراتبة فخشيت الخلائق التقصير في أدائها ، وليس الأمانة من شخص إلى الكائنات وتحرص كل الكائنات على الدأب على الحمد لله ، قال تعالى[يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ]( ).
الحمد لله الذي ألهمنا الشكر والحمد له سبحانه، وهدانا إلى الثناء عليه وتسبيحه ، وهل يمكن تسمية الحياة الدنيا (دار الحمد ) أم أن هذه التسمية خاصة بعالم الآخرة لثناء أهلها على الله وتسليم أهل الجنة وأهل النار بوجوب الحمد لله .
وورد في التنزيل بخصوص أهل الجنة [وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( ) الجواب هو الأول ، وأنه لا تعارض بين تسمية كل من الدنيا والآخرة دار الحمد، وهو من فضل الله على الناس بأن جعل الحمد مصاحباً للحياة , وعالم الوجود وهو عمل وجزاء.
الحمد لله على حلمه علينا مع علمه بحالنا وتخلفنا عن واجبات العبادة والذكر له سبحانه وانشغالنا بالدنيا وهمومها، وقد كفلها لنا سبحانه، وجعل زيادة النعمة فيها بالحمد له، ومن خصائص تفضل الله عز وجل بجعل الإنسان[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( ) تعاهده للحمد لله.
هذا التعاهد الذي جاءت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإستدامته في الأرض مع سلامة من الشرك والضلالة، لقد إبتدأت أول آية من نظم القرآن بعد البسملة[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، لبيان أن الحمد لله وحده سبحانه، بلحاظ أن كل فرد من كل الخلائق مربوب لله، وهناك تباين بين الرب والمربوبين ويلزم الكل الحمد لله والثناء عليه سبحانه، وهل تفسيرنا هذا من الحمد لله .
الجواب نعم، ونسأل الله أن تكون قراءته حمداً له سبحانه وباباً للأجر والثواب.
الحمد لله الذي جعل ثقتي ورجائي بواسع رحمته ولطفه، وأرجو فضله بمحو الأذى والبلاء عني وعنكم في النشأتين .
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه وإطلاق قدرته ، إذ تفضل وجعل الأشياء كلها مستجيبة لمشيئته ، لا تقدر على البقاء والدوام والإنعدام إلا بإذنه ، وتفضل وسخّر للإنسان السموات والأرض وخزائنها.
الحمد لله إذ جعلنا نحبه ونطيعه ونشتاق للقائه ونحب المؤمنين فيه ، ونذكر سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الجزء حباً له تعالى ولرسوله الكريم، وهو وسيلة مباركة لإتباع نهجه صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
لقد كان عرب الجزيرة يغزو بعضهم بعضاً ، ويسبون النساء والصبيان ، ويلحقهم الأذى والضرر انطباقاً ، ويكون الثأر وحب الإنتقام والبطش سبباً باستئصال جنس العرب ، وتشرذمهم في الأمصار والتبعية لغيرهم ، فأراد الله عز وجل تغيير طباعهم ، وتبديل أحوالهم نحو سبل السلامة والأمن في النشأتين بدعوتهم إلى التوحيد ، ونبذ الشرك وما يترشح عنه من صيغ الغزو، ويترشح الغزو عن الكفر من جهات :
الأولى : قيام الكفار بالغزو فيما بينهم .
الثانية : صيرورة العصبية والجاهلية سبباً للإقتتال والغزو بين المشركين .
الثالثة : إنحياز كل طائفة وقبيلة إلى الصنم والوثن الذي يعبدون .
الرابعة : إصرار المشركين على محاربة النبوة والتنزيل .
وهل وحدت هذه المحاربة المشركين ، الجواب لا ، قال تعالى [تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى] ( ).
وفيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ واجه أعتى قوى الضلالة والكفر , وليس عنده من سلاح إلا آيات القرآن والمعجزة الحسية ، وكل فرد منهما مانع من استعمال السلاح واللجوء إلى الغزو لتحقيق الغايات الحميدة للبعثة النبوية، إنما جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزة العقلية ، وهي سور جامع لمفاهيم الصلاح والهداية من جهتين :
الجهة الأولى : الإعجاز الذاتي للآية ، وهو على وجوه :
الأول : نزول الآية القرآنية من عند الله.
الثاني : تضمن الآية القرآنية ما يدل على نزولها من عند الله , وانها كلامه.
الثالث : الآية سلاح في حفظ ذاتها، وهو من الشواهد على سلامة القرآن من التحريف، ومن مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الرابع : دعوة الآية القرآنية للسلم المجتمعي.
الخامس : نبذ الآية القرآنية للعنف وقصد القتل والإقتتال.
وهل من صلة بين قانون القصاص في قوله تعالى[وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( )، وبين دعوة القرآن والسنة إلى الإمتناع عن القتال، أم أن الموضوع متباين وأن القصاص قضية شخصية , والقتال أمر عام، الجواب هو الأول لبيان النفرة من القتل مطلقاً، ولأن سبل تجلي الحق والطرق والوسائل إلى الصلاح والهداية أكثر من أن تحصى.
الجهة الثانية : الإعجاز الغيري للآية القرآنية , وفيه وجوه :
الأول : كل آية قرآنية معجزة عقلية قائمة بذاتها ، فقد شاء الله أن تبقى الآية القرآنية غضة طرية تتضمن القوانين العبادية والأخلاقية والعبادية.
الثاني : من خصائص معجزات الأنبياء سواء كانت حسية أو عقلية أنها سور لمفاهيم الصلاح ودعوة لسنن الرشاد، ومن فضل الله عز وجل على الناس بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن معجزاته حسية وعقلية لتكون مجتمعة ومتفرقة واقية من القتال من جهات:
الأولى : تصديق الناس بالمعجزة.
الثانية : دخول الناس الإسلام، ليكون من مصاديق قوله تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً]( )، سلامة المسلمين والناس جميعاً من القتال، لينشغل المسلمون بأداء الفرائض والتسبيح , ويكون هذا الإنشغال من رشحات قلة القتال، وهو سبب لقلته من غير أن يلزم الدور بينهما .
وتسمى سورة النصر سورة التوديع( )، لأنها تدل على قرب مغادرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، وعن حفص بن غياث عن عاصم الأحول عن الشعبي عن أم سلمة قالت: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بآخره لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلا قال: سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه .
فقلنا: يا رسول الله لا تقوم ولا تقعد ولا تجيء ولا تذهب إلا قلت: سبحان الله أستغفر الله وأتوب إليه .
قال : فإني أُمرت بها ثم قرأ{إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}( ) حتى ختمها)( ).
الثالثة : تمنع الآية القرآنية من الحاجة إلى السلاح والقتال والقتل ، لقد احتج الملائكة على جعل آدم عليه السلام (فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) ( ) لأن شطراً من ذريته يفسدون في الأرض ، وقسماً قليلاً منهم يقتلون ويسفكون الدماء، فصحيح أن قوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )جاء بالعطف بين الفساد والقتل بعرض واحد ، ولكنه لا يعني التساوي في الحكم خاصة مع الإقرار بالإختلاف بينهما بالكيفية والموضوع ، ولابد من دراسة مقارنة بين الفساد وهو من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة وبين سفك الدماء الذي هو من الكلي المتواطئ في إزهاق الروح ومفارقتها البدن إلا أن يراد من سفك الدماء الجراحات والقروح أيضاً إلى جانب القتل ، ومع هذا المعنى يبقى سفك الدماء أقل أفراداً من الفساد ، وأيهما أشد خطراً الفساد أم القتل .
المختار هو القتل وبين الفساد والقتل عموم وخصوص مطلق ، فالقتل بغير حق من الفساد , وكأن الآية من عطف الخاص على العام ، وعطف الأهم على المهم ، ونزلت آيات القرآن ليكون لكل واحدة منها إعجاز غيري من وجوه :
الأول : الآية القرآنية حرب على الفساد , وبرزخ دون وقوعه .
الثاني : من مصاديق الحكمة والموعظة في قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) حث الناس على ترك الفساد وعلى الإمتناع عن القتل .
الثالث : قانون كل آية تنهى الفساد .
الرابع : قانون كل آية تأمر بالمعروف .
الخامس : كل آية تزجر عن القتل .
ويبين الجدول والخارطة المكانية لمعارك الإسلام كيف أن الذين كفروا هم الذين قاموا بالغزو ، وليس النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهات :
الأولى : يبعد موضع معركة بدر التي وقعت في شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة عن المدينة المنورة (150) كم , وعن مكة (320) كم .
الثانية : وقعت معركة أحد في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة ، أي بعد ثلاثة عشر شهراً من معركة بدر ، ويبعد موضع المعركة وهو جبل أحد(5) كم عن المسجد الحرام .
الثالثة : من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه صار في هذا الزمان جزء من المدينة ، وتعداه العمران والبيوت .
ولو لم يهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، فهل وصل العمران فيها إلى ما هو عليه الآن ، الجواب لا ، ولا يصل إلى معشاره ، لبيان فيوضات وبركة نبوته وحلوله في المكان .
ليكون هذا العمران والسعة من عمومات قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد واقعة أحد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
(فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْت امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَلَوْ سَلَكَ النّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا ، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ . اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ . وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ) ( ).
ومن رحمة الله بالأنصار وذراريهم السلامة من غزو الغير لهم ، والتنزه عن غزوهم لغيرهم ، لقد جعل الله عز وجل عندهم لباس التقوى سلاحاً وعوناً وتفضل بآيات القرآن مدداً ، وفيها غنى عن السيف والغزو إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
الرابعة : وقعت معركة الخندق في السنة الخامسة للهجرة , وقد زحفت جحافل الأحزاب على المدينة حتى أحاطوا بها , فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحفر خندق حولها لدفع القتال والملاقاة مع جيوش الذين كفروا, ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
وورد عن عبد الله بن مسعود (أنه كان يقرأ هذا الحرف { وكفى الله المؤمنين القتال }( ) بعلي بن أبي طالب) ( ).
فإن قلت قد ورد قوله تعالى[إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوص]( ), والجواب: إثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره وأن الله عز وجل يحب صرف القتال عن المسلمين ولو أصر الذين كفروا عليه فإن الله عز وجل يحث المسلمين على الإخلاص في الدفاع ليأتي معه النصر لأنه فرع حب الله عز وجل لهم.
وقد جربت الدول الكبرى والرياسات في هذا الزمان مسألة الإحتلال العسكري ، فصار مصدراً للأذى ، وكثرة القتلى ولم ينجح كطريق ومنهاج للإستحواذ بينما كانت آيات القرآن حرزاً من الأوهام وأفكار الضلالة، وواقية من الضرر والخسارة ، لتكون لكل آية من القرآن موضوعية في صرف الضرر عن المسلمين في قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
وهل تدل الآية أعلاه على سلامة المسلمين من الضرر مطلقاً ، سواء من باب الأولوية أو مطلقاً ، الجواب القدر المتيقن من الآية هو سلامة المسلمين من الكيد والمكر الذي يأتي من الذين كفروا .
وجاء هذا الجزء وهو السادس والستون بعد المائة من تفسيري في ذات المنهجية التي صدر فيها الجزء (164) (165) السابقين وهو قانون (لم يغز النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً ) فشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يقم بالغزو، ولم يأمر السرايا بالغزو والنهب والسلب ، إنما كان في حال دفاع، يجتهد بدعوة الناس إلى التوحيد، فينادي قبل بدء المعركة(قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا)( ).
ولم يقل لهم وقولوا أن محمداً رسول الله مع أنها كلمة حق وصدق ، إنما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إجتناب القتال بالسور الجامع للناس جميعاً ، وهو العبودية لله عز وجل ، وبيان قانون وهو عدم إكراه أهل الكتاب على الإسلام أو قتالهم ، إذ يلتقون مع المسلمين باتباع نهج الأنبياء , قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] ( ).
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم وقوع قتال بينه وبين النصارى إلى حين مغادرته الحياة الدنيا .
مع مجئ وفد نصارى نجران إلى المدينة والمحاججة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين رضوا بدفع الجزية .
وسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة التاسعة للهجرة بعد أن بلغه إجتماع الروم للإغارة على المدينة بسبب تحريض الكفار والمنافقين , لما في بزوغ شمس الإسلام من الضرر عليهم والتهديد لدولتهم , فجهز النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكبر جيش في أيام نبوته إذ بلغ عدد أفراده ثلاثين ألفاً في زمان قحط وجدب وفي شدة الحر أيام الصيف , وكانت جيوش هرقل والروم في الشام وهم على دين النصرانية، وعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير وقوع قتال، إذ تفرق جيش الروم , ويعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من غير أن يراق دم شخص واحد وتتجلى عند المسلمين حال المنعة التي صبروا عليها في عموم أجيالهم, ويبطل سحر المنافقين وهو من مصاديق قوله تعالى[وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]( ).
وهل مصالحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوفد نجران وعودته من تبوك من غير قتال من مصاديق قوله تعالى [وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ]( ).
الجواب نعم ، فمن إعجاز الآية القرآنية تحقق المصداق العملي لمضامينها من حين نزولها , وإكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الكتاب وفيه بعث للنفرة في النفوس من الكفر , وزاجر للذين كفروا عن الإضرار بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ترى ما هي النسبة بين هذا المصداق وأسباب النزول ، الجواب إنه العموم والخصوص المطلق ، فهذا المصداق أعم وأوسع من أسباب النزول ، فذات الأسباب من مصاديق الآية القرآنية والدلائل على نزولها من عند الله عز وجل ومنها الآيات التي تبين امتناع النبي عن القتال ، وإتخاذه الدفاع سبيلاً لدفع الكفار، ولم يقل وأصحابه أنهم يستحقون القتال والحرب .
لقد كانت عجلة الأيام ودورانها ناصرة ومؤازرة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ), ليكون من معاني نسبة مداولة الأيام وتبديل أحوال الناس فيها إلى الله عز وجل شاهداً على أن هذا التداول خير محض وهو لصالح المؤمنين وإشاعة مفاهيم التقوى بين الناس .
وهو من أسرار وثمرات نزول القرآن نجوماً وعلى نحو توالي وتعاقب نزول الآيات ، ومن عمومات قوله تعالى[اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ]( ) تفضله برزق الأنبياء ملكة الصبر ، ودفعهم الكفار بالحسنى ، ليكون هذا الدفع سبباً لتدبرهم والناس جميعاً بآيات التوحيد، ومعجزات النبوة، ويكون شاهداً على صدق نبوته لتحليهم بمرتبة سامية من الصبر لا يرقى إليها الإنسان إلا بتوفيق من عند الله عز وجل.
وشهادة الكون بأنه مخلوق ومحتاج وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
ليكون من معاني الآية أعلاه وجوه :
الأول : ادفع بالتي هي أحسن ولا تقاتل أو تحارب الذين كفروا .
الثاني : ادفع بالتي هي أحسن أنت وأهل بيتك وأصحابك .
الثالث : تحلى بالصبر وادفع بالتي هي أحسن .
الرابع : ادفع بالتي أحسن (فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).
الخامس : ادفع بالتي هي أحسن عند التقاء الصفين ، وحين البدء بالقتال .
السادس : ادفع بالتي هي أحسن في حال السلم والحرب .
السابع : من خصائص النبوة دفع الأذى بالتي هي أحسن , وهذا الدفع بلغة لوجوه :
أولاً : صرف الأذى والضرر .
ثانياً : الإمتناع عن مقدمات الفتنة .
ثالثاً : إتخاذ الإحسان واقية من الأذى .
رابعاً : الصبر على الأذى من الأحسن الذي ذكرته الآية أعلاه .
خامساً : تعاهد أداء الفرائض من الأحسن الذي يدفع الشر والأذى .
الثامن : ادفع بالتي هي أحسن , ولا يقدر على الدفع بالأحسن إلا الأنبياء، وأتباعهم.
التاسع : ادفع بالتي هي أحسن , ويأتيك النصر من عند الله، قال تعالى[وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).
العاشر : ادفع بالتي هي أحسن , لإقامة الحجة على الذين كفروا ، وهو من عمومات قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
الحادي عشر : ادفع القتال بالصلح .
الثاني عشر : ادفع عن نفسك ، وعن التنزيل ، وعن المؤمنين بالتي هي أحسن .
الثالث عشر : ادفع المنافقين بالتي هي أحسن.
ويكون الدفع بلحاظ جهته على وجوه :
الأول : جهة صدور الدفع وبلحاظ صيغة الخطاب في آية البحث , وهل تنقطع هذه الجهة بانتقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى ، الجواب لا ، إنما يبقى مصداقها وعلى نحو متعدد وإلى يوم القيامة، وتقدير الآية على جهات :
الأولى : يا أيها الذين آمنوا ادفعوا بالتي هي أحسن .
الثانية : يا أيها الذين آمنوا ادفعوا بالتي هي أحسن كما دفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : يا أيتها اللائي آمن ادفعن بالتي هي أحسن .
الثاني : كيفية الدفع إذ أنها تحتمل جهات :
الأولى : الدفع بالمثل .
الثانية : الدفع بالأشد .
الثالثة : الدفع بالحسن .
الرابعة : الدفع بالأحسن والأمثل .
وبين الجهة الثالثة والرابعة أعلاه عموم وخصوص مطلق ، فالحسن هو الأعم .
الثالث : وسيلة الدفع ، وليس من حصر لهذه الوسيلة ، ولكن الآية قيدته بالأحسن والأفضل والذي يبعث الرضا في النفوس والسكينة في المجتمعات .
الرابع : المدفوع والذي يتلقى الأحسن من عامة الناس والمذاهب والملل.
ومن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المقام أن الله عز وجل بعثه نبياً في مكة وهي[أُمَّ الْقُرَى]( ) والتي شرّفها الله عز وجل من بين بقاع وأمصار الأرض بالبيت الحرام ليحج له آدم والأنبياء جميعاً, ويقتدي بهم أجيال المسلمين .
ومن الآيات أن أداء المسلمين للحج أعم من أن ينحصر بموضوع الإقتداء هذا إذ تلقوا التكليف من الكتاب والسنة.
ليكون من وجوه تفضيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو تعاهد المسلمين والمسلمات حج وعمارة البيت الحرام .
وكان البيت أيام بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مليءُ بالأصنام والأوثان ، كل قبيلة لها صنم إلى جانب تفشي الفاحشة والنهب والسلب بين الناس فدعاهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى عبادة الله وحده ، وإقامة سنن الفرائض العبادية ، والتقيد بأحكام الحلال والحرام ، ولم يتخذ السيف في دعوته أهل مكة للإسلام بل تحمل الأذى الشديد منهم صابراً محتسباً، متطلعاً إلى فضل الله عز وجل.
(عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَاهُ قَالَ فَمَرَّ رَجُلٌ بِغَارٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ قَالَ فَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِأَنْ يُقِيمَ فِي ذَلِكَ الْغَارِ فَيَقُوتُهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ مَاءٍ وَيُصِيبُ مَا حَوْلَهُ مِنْ الْبَقْلِ وَيَتَخَلَّى مِنْ الدُّنْيَا .
ثُمَّ قَالَ لَوْ أَنِّي أَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَإِنْ أَذِنَ لِي فَعَلْتُ وَإِلَّا لَمْ أَفْعَلْ فَأَتَاهُ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي مَرَرْتُ بِغَارٍ فِيهِ مَا يَقُوتُنِي مِنْ الْمَاءِ وَالْبَقْلِ فَحَدَّثَتْنِي نَفْسِي بِأَنْ أُقِيمَ فِيهِ وَأَتَخَلَّى مِنْ الدُّنْيَا
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلَا بِالنَّصْرَانِيَّةِ وَلَكِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَغَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَلَمُقَامُ أَحَدِكُمْ فِي الصَّفِّ خَيْرٌ مِنْ صَلَاتِهِ سِتِّينَ سَنَةً) ( ).
ويدل الحديث أعلاه على تسمية خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما يسمى غزوة بالسرية , وأن التقسيم بين الغزوة التي يكون فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , والسرية التي يبعثها من أصحابه إنما هو تقسيم إستقرائي من قبل التابعين .
ولم يقم بكسر الأصنام التي يعبدون كما قام جده النبي إبراهيم عليه السلام بكسرها ، لأن ذات البيت الحرام يصرخ بهم كل صباح ومساء بلزوم التنزه عن عبادة الأصنام ، فاجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تنزيه الأرض من عبادة الأوثان ، لأن العام يشمل الخاص بخلاف العكس ، لذا هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ودعا الناس هناك إلى التوحيد وإلى التصديق برسالته ، وتتجلى أبهى معالم هذا التصديق بصيغ الطاعة ، قال تعالى [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
ومن طاعة المسلمين لله والرسول عدم إبتدائهم بقتال وان كان الصفان متلاقين ، وإن اعتدى بعض الكفار وقاموا برمي السهام وإصابة عدد من المسلمين .
لقد جعل الله الذين كفروا في خيبة وخزي على كل حال، إن سكتوا دخل الإيمان بيوتهم ، وإختار أبناؤهم وعبيدهم عبادة الله واتباع الرسول، وإن غزوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في عقر دارهم في المدينة لم يرجعوا إلا بالخسارة وهو من مصاديق قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) .
ومن الإعجاز في موضوع الآية أعلاه أنها نزلت بخصوص معركة أحد إذ زحف المشركون من مكة وقطعوا نحو أربعمائة وخمسين كيلو متراً بعدتهم وأسلحتهم ومؤنهم وخيلهم ليغزوا المدينة ويقتلوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فرجعوا بالخيبة مع أن عدد المسلمين الذين لاقوهم في ساحة المعركة أقل من الربع بالنسبة إليهم.
لقد كانت مدة بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثاً وعشرين سنة، تنزل فيها آيات القرآن على نحو متعاقب ، لبيان أمور :
الأول : وجوب عبادة الله , قال تعالى [يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] ( ).
الثاني : التصديق بالملائكة والأنبياء والكتب السماوية المنزلة من عند الله، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا] ( ).
الثالث : طاعة الله والرسول على نحو الوجوب العيني على كل مكلف من غير أن يتعارض مع العمل بالواجبات الكفائية .
ترى ما هي النسبة بين عبادة الله وطاعته تعالى ، فيه وجوه :
أولاً : إرادة التساوي بين العبادة والطاعة .
ثانياً : نسبة العموم والخصوص المطلق ، وفيه شعبتان :
الأولى : عبادة الله أعم من طاعته , لإرادة قصد القربة في العبادة , وقصد التقرب إلى الله عز وجل بإتيان العمل العبادي .
الثانية : طاعة الله أعم من عبادته .
ثالثاً : نسبة العموم والخصوص من وجه ، فهناك مادة للإلتقاء بين العبادة والطاعة ، ومادة للإفتراق بينهما .
والمختار هو الشعبة الثانية من الوجه الثاني أعلاه ، إذ أن الطاعة أعم وتشمل الطاعة في العبادات والمعاملات والأحكام وإتخاذها جلباباً في الأحكام التكليفية الخمسة الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة .
الرابع : تعيين وأداء الفرائض العبادية, وفق الكتاب والسنة, فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بيان أحكام العبادات وضبط كيفيتها .
لقد رفع إبراهيم وإسماعيل قواعد البيت الحرام ، كما في قوله تعالى[وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
ثم جاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقام بتنزيه البيت من الأصنام ورفع ذات البيت ودعا الناس إلى حج بيت الله الحرام واقامة الصلاة فيه , وهل يمكن القول بإرادة المسلمين من قوله تعالى [أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ).
الجواب نعم من وجوه :
الأول : وطهرا بيتي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه .
الثاني : وطهرا بيتي للمسلمين والمسلمات.
الثالث : وطهرا بيتي لفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة .
الرابع : وطهرا بيتي للذي سألتما الله بعثه بالنبوة كما في قوله [رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] ( ) .
الخامس : يا أيها الرسول طهر بيتي للطائفتين والعاكفين والركع السجود .
السادس : يا أيها الذين آمنوا طهروا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود .
السابع : يا حكام وأمراء المسلمين طهروا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود .
وهل هذا التطهير من الكلي المتواطئ الذي يكون على مراتب متساوية أم أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متباينة ومختلفة ، الجواب هو الثاني ، ففي كل زمان تظهر أمور مستحدثة .
وهل تطهير البيت الحرام من مصاديق دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنبذ القتال والحرب , وأنه لم يبعث بالسيف ، الجواب نعم .
ليهيئ ويطهر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت الحرام لعماره في زمانهما , وما بعده إلى حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزلت الآية أعلاه ليشكر المسلمون الله عز وجل على بعثة إبراهيم وإسماعيل وجهادهما في سبيل الله , وكيف أن الناس إنحرفوا عن منهاج النبوة ونصبوا الأصنام والتماثيل في البيت الحرام، فصارت نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة للناس في أمور دينهم ودنياهم.
وتكون لمناسك الحج موضوعية في تعاهد المسلمين لفريضة الحج , وحالما بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وبين الغايات السامية التي جاء من أجلها أدرك عامة الناس أنه على نهج إبراهيم مما يلزم تصديقه وعدم محاربته.
وكان هذا الإدراك سبباً في تفرق وعزوف الناس تباعاً عن نصرة كفار قريش في قتالهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وفيه شاهد على عدم حاجة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للقتال لتثبيت القواعد العبادية , وسنن التقوى التي جاء بها الخطاب الإلهي إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن[ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ).
ليكون من معاني الآية أعلاه من سورة البقرة بخصوص تطهير البيت الحرام البشارة والوعد الكريم بتنجز فتح مكة فلم يتحقق الركوع والسجود إلا في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والظاهر أن أتباع الملل السابقة لم يكونوا يصلون الصلاة كالتي جاء بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الركوع والسجود وضبط الترتيب بين أجزائها الركنية والواجبة والمستحبة , وهو من الشواهد على تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وقوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
لقد إبتدأ الوحي للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من عند الله عز وجل بلحاظ كبرى كلية وهي تفضل الله عز وجل بوضع البيت الحرام للناس جميعاً لقوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا]( ).
ومن معاني الآية أعلاه لزوم إشتراك الناس جميعاً في فعل عبادي متعدد , ونبذ القتال بينهم , والضابطة والحكم بينهم هو منهج الأنبياء وسنن العبادة, وتفضل الله عز وجل وجعل حج البيت دعوة سماوية عملية تجدد كل سنة للإخوَة بين الناس بنِية عبادة الله عز وجل وقصد القربة.
ومن الإعجاز في المقام أن الله عز وجل جعله أشهراً معدودة , تجمع بينها قوانين حرمة القتال سواء للذين ينوون الحج أو غيرهم , قال تعالى[الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ]( ), وشاء الله عز وجل أن تكون هذه الآية وسيلة زمانية ومكانية في الحرم لنشر الإسلام , وتحقق مقدمات هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة من مكة حيث البيت الحرام ، وتوافد الناس للحج والعمرة ، لتكون البعثة , ومن بداياتها من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ] ( ).
لقد دأب المفسرون وكتاب السيرة النبوية والدارسون على ذكر غزوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على اختلاف في عددها :
الأول : أنها ست عشرة غزوة ، (عَنِ ابن بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم سِتَّ عَشْرَةَ غَزْوَةً) ( )، والظاهر أنه يريد عدد المرات التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنه لم يقل هذا إنما ذكر عدد الغزوات التي غزاها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , واثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره .
الثاني : ثمان عشرة غزوة .
الثالث : تسع عشرة غزوة ، عن زيد بن أرقم .
الرابع : ست وعشرون غزوة .
الخامس : سبع وعشرون غزوة ، وبه قال ابن هشام .
السادس : تسع وعشرون غزوة .
والإختلاف في عدد السرايا التي بعثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكبر , ومجموع القتلى أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أقل من خمسمائة قتيل موزعين على كل من :
الأول : المسلمون من المهاجرين والأنصار , وغيرهم , بلحاظ أن ياسر وسمية والدي عمار ماتا تحت التعذيب قبل الهجرة .
الثاني : الكفار .
الثالث : يهود المدينة .
في الوقت الذي تجعل القيادات العسكرية في هذه الأزمنة هامش خسارة 3% أو أكثر عند فعاليات التمرين والفرضية والمناورة العسكرية ، بينما كان النبي وأصحابه يعودون من أكثر السرايا من غير قتال أو قتلى.
وقيل أن قتلى بني قريظة هو خمسمائة وقيل ستمائة (وَالْمُكْثِرُ لَهُمْ يَقُولُ كَانُوا بَيْنَ الثّمَانِ مِئَةٍ وَالتّسْعِ مِئَةٍ) ( ).
وهم قتلوا بالتحكيم نتيجة غدرهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أيام معركة الخندق ، والمختار أن عدد القتلى منهم هو ثلاثون، ولكن المبالغة وتفخيم العدد جاءا فيما بعد .
وحتى الذي يبالغ في عددهم يقول أنهم حينما استنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (فَحَبَسَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ امرأة مِنْ بَنِي النّجّارِ) ( ).
وما تتصف به بيوت أهل المدينة آنذاك الصغر وقلة الغرف .
لقد خاض العرب فيما بينهم معارك شرسة وطويلة برداء العصبية والثأر مع طول مدة المعركة لتستمر لسنوات ومنها المعارك التي بين أبناء عمومة وفروع وبطون قبيلة واحدة ، أو قبائل من أصل متحد .
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في مكة إذ يحيط به الكفار ، ويتجاهرون بتقديس الأصنام ، ولكن وجود البيت الحرام فيها مدد وعون للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى التوحيد، فهذا الوجود من مصاديق قوله [فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ] ( ) .
ومع شدة أذى الكفار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة فانه امتنع عن الصلح معهم ، ومن الإعجاز في المقام أن هذا الإمتناع من عند الله عز وجل لقوله تعالى [قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ] ( ).
ومن فضل الله عز وجل أني أقوم بتأليف ومراجعة وتصحيح أجزاء التفسير هذه وكتبي الفقهية والأصولية بمفردي وليس من مدد إلا من عند الله عز وجل .
وجاء هذا القانون(لم يغز النبي أحداً) لبيان مدرسة جديدة تستلزم الحجة والبرهان من القرآن والسنة ، ومن اللطف الإلهي في المقام توثيق الوقائع التأريخية والمعارك التي خاضها القرآن بآيات القرآن والسنة وتفسير هذه الآيات وأخبار أهل البيت والصحابة ، وفيها بيان لسنن التقوى التي تتغشى عمل المسلمين والتي هي بلغة وغاية ، قال تعالى [وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
ويتجلى في هذه الأجزاء 159-160-161 وعدة أجزاء أخرى قانون عدم غزو النبي محمد لأهل قرية أو بلد في ديارهم ونهبهم كما هو المتبادر من لفظ الغزو ، والمتعارف في تلك الأزمنة
وهل يمكن التداخل في هذه الصفات ، الجواب ممكن كما لو كان بعض أتباع المشركين يقوم بتحذير المسلمين ، وكما في حال النفاق .
وتسمى غزوة أحد بما يعني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه هم الذين غزو بينما زحف جيش عرمرم من المشركين ليقطع نحو (450) كم من مكة إلى المدينة فاضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى الخروج للدفاع .
وتسمى معركة الخندق في كتب كثيرة من كتب التفسير والسيرة والتأريخ غزوة الخندق مع أن المشركين أحاطوا يومئذ بالمدينة فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بحفر الخندق حولها بمشورة من سلمان الفارسي ، ومن الآيات أن آثار وبقايا هذا الخندق لا زالت موجودة إلى هذا الزمان ، فكيف تكون غزوة إلا أن يراد أنها غزوات للمشركين .
ليقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالخروج أو بعث السرايا إلى الذين يجمعون الجيوش للإجهاز على المدينة لتفريقهم .
ترى لماذا صار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتوجه بالسرايا إلى الذين يبلغه أنهم يجمعون الجيوش للإغارة على المدينة ، الجواب كيلا تتكرر واقعة بدر وأحد والخندق ، أو يحدث ما هو الأسوء منها ، ففي هذا التوجه والسرايا رحمة بالناس ووسيلة لدرء الأضرار .
ومن الآيات في المقام عدم وقوع قتال في أكثرها ، إذ يرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وكذا السرايا إلى المدينة بسلام من غير قتل وقتال ، ولم يقصدوا جلب الغنائم في خروجهم إنما كانوا يريدون دفع الكيد والغدر عنهم ، وليكون خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعثه السرايا لمن يبلغه أنهم يعدون العدة للإغارة على المدينة من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) .
وفيه موعظة ودرس للمسلمين في كل زمان باجتناب الغزو والظلم والتعدي ، لتكون عودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من السرايا من غير قتال من مصاديق قوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
حينما تفضل الله عز وجل ورد على الملائكة حينما قالوا [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ) وهو الذي نتعرض له تفصيلاً في الجزء الثامن والستون بعد المائة إن شاء الله.
وإجماع المؤرخين من المسلمين وأرباب الملل الأخرى والمستشرقين على قانون وهو أن النبي محمداً هو نبي الرحمة.
وقال برتلي سانت هيلر(1793- 1884) وهو مستشرق ألماني في صفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: فيه صفتان هما من أجّل الصفات التي تحملها النفس البشرية وهما: العدالة والرحمة، وهذا صحيح ولكن هاتين الصفتين من ضمن الصفات والخصال الحميدة التي تتجلى بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي شعبة من الوحي، ومن مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، وقال صلى الله عليه وآله وسلم : ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا).
ومن معالم الخلق العظيم الذي يتصف به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إكرامه للمرأة سواء المسلمة أو غيرها مع خصوصية للمسلمة لعمومات قوله تعالى[إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( )، ومع أن المشركين هم الذين أصروا على الإعتداء على مصر الإسلام الوحيد وهو المدينة المنورة فإن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن إفزاع النساء والشيوخ والصبيان، وعن هتك الأعراض .
وعن ذرة (قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين في الجنة، وأشار بأصبعيه والساعي على الأرملة والمسكين كالغازي في سبيل الله تعالى وكالقائم الصائم الذي لا يفتر)( ).
لقد أكرم الله عز وجل الناس بالأنبياء والتنزيل وهو من اللطف الإلهي، وإذا أنزل الله عز وجل نعمة فهو اسم إكرام من أن يرفعها ، ولو دار الأمر بين الإطلاق والتقييد ، أو السعة والتضييق , والعموم والخصوص في نعم الله .
فالصحيح هو الإطلاق والسعة والعموم ، وهذا العموم عرضي وطولي فهو شامل لأهل كل زمان وتنال منه الأجيال كلها ، وشاء الله عز وجل أن تختتم النبوة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتبقى أحكام نبوته بين الناس إلى يوم القيامة ، ومنها أنه يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويمتنع عن الغزو والهجوم ، وإذا إلتقى وأصحابه مع الذين كفروا في ميدان المعركة فانه ينادي (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) وينهى أصحابه عن الإبتداء بالقتال أو الرمي بالنبال أو السهام أو حتى الحجارة .

   حرر في 19ربيع الآخر 1439
               6/1/2018

صلح النبي ص مع يهود المدينة
بعد أن عزم الكفار على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم غادر في ذات الليلة التي أرادوا فيها قتله إلى يثرب تسمى المدينة وطيبة واستقبله المسلمون هناك بالنصرة والتأييد فأكرمهم الله وسماهم الأنصار ، وكان في المدينة قبائل عديدة من اليهود أظهرهم :
الأول : بنو النضير .
الثاني : بنو قريظة .
الثالث : بنو قينقاع .
ولم يكن جميع يهود المدينة وعموم الجزيرة العربية من نسل اسرائيل ،إنما كانوا على أقسام :
الأول : اليهود الذين من بني إسماعيل ، وهم عرب تهودوا ، مثل يهود غطفان وكنانة .
الثاني : اليهود الذين من قبائل سبأ وحمير .
الثالث : الذين من بني اسرائيل كيهود بني قينقاع (وعن ابن عمر أنهم من ذرية يوسف الصديق عليه السلام ) ( ).
وتجلت معالم النبوة في معاملة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لليهود بأن عقد معهم العهود والمواثيق حالما وصل إلى المدينة ، وحرص على السلم والتعايش بينهم وبين المسلمين في الأمور الإقتصادية والإجتماعية .
لقد عقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلحاً , ونوع حلف مع بني قريظة، ومن شروطه :
الأول : إنَّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
الثاني : إنَّ يهود بني عوف أمة مع المؤمنين, ولليهود دينهم وللمسلمين دينهم ، مواليهم وأنفسهم ، وقيل المراد أن يهود بني عوف يكونون مع المؤمنين في النصرة .
وبنو عوف قبيلة عربية تهود عدد من أبنائها لأن بعض النساء لا يعيش لهن ولد ، فتنذر ان عاش لها ولد فانها تهوده .
الثالث : لليهود دينهم وللمسلمين دينهم موالهيم وأنفسهم إلا من ظلم نفسه وأثم فإنه لا يُوْتغ( ) إلا نفسه وأهل بيته.
الرابع : إنَّ لِيهود بني النجار مثل ما لِيهود بني عوف ، أي اليهود الذين يوالون بني النجار ويسكنون معهم .
الخامس : إن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
السادس : إن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
السابع : إن ليهود بني جُشم مثل ما ليهود بني عوف.
الثامن : إن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف لبيان الموادعة بين المسلمين ومواليهم والذين بين ظهرانيهم من اليهود ، لتأكيد قانون وهو عدم انقضاض المسلمين على اليهود او بالعكس .
التاسع : وإن ليهود بن ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
العاشر : إنَّ جَفْنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
الحادي عشر : إنَّ لبني الشُّطبة مثل ما ليهود بني عوف، وإنَّ البر دون الإثم.
الثاني عشر : إنَّ موالي ثعلبة كأنفسهم.
الثالث عشر : إنَّ بطانة يهود كأنفسهم.
الرابع عشر : إنه لا يخرج منهم أحدٌ إلا بإذن محمد، وإنه لا ينحجز على ثأر جُرحٍ.
الخامس عشر : إنه من فتك فبنفسه فتك وأهل بيته إلا من ظلم، وإن الله على أبرِّ هذا.
السادس عشر : إنَّ على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإنَّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإنَّ بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
السابع عشر : إنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم.
الثامن عشر : إن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.
التاسع عشر : إن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
العشرون : إنَّ الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
الحادي والعشرون : إنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
الثاني والعشرون : إنَّ ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث، أو شجار يُخاف فساده فإنّ مردَّه إلى الله وإلى محمد رسول الله وإنَّ الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرِّه.
الثالث والعشرون : إنه لا تُجار قريش ولا من نصرها.
الرابع والعشرون : إنَّ بينهم النصر على من دهم يثرب.
الخامس والعشرون : إذا دُعُوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه.
السادس والعشرون : إنهم إذا دُعُوا إلى مثل ذلك، فإنَّ لهم ما على المؤمنين إلا من حارب في الدين.
السابع والعشرون : على كل أُناس حصَّتهم من جانبهم الذي قِبلهم.
الثامن والعشرون : إنَّ يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة.
التاسع والعشرون : إن البر دون الإثم.
الثلاثون : لا يكسب كاسب إلا على نفسه.
الحادي والثلاثون : إنَّ الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبرِّه.
الثاني والثلاثون : إنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم.
الثالث والثلاثون : إن الله جار لمن برَّ واتقى.
الرابع والثلاثون : محمد رسول الله ). وهذا البند آية قرآنية( ).
وفي عقد الموادعة الذي عقده النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع يهود المدينة مسائل :
الأولى : بيان التضاد بين الإيمان والكفر فلم يعقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلحاً مع كفار قريش عندما كان في مكة ، وقد نزلت سورة الكافرون في مكة لتكون برزخاً بين المسلمين والمشركين , ومانعاً من العهد والصلح بين المسلمين والمشركين .
(عن ابن عباس أن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يعطوه مالاً فيكون أغنى رجل بمكة ويزوّجوه ما أراد من النساء ، فقالوا : هذا لك يا محمد وكف عن شتم آلهتنا ولا تذكر آلهتنا بسوء ، فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة ولك فيها صلاح .
قال : ما هي ؟
قالوا : تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة .
قال : حتى أنظر ما يأتيني من ربي فجاء الوحي من عند الله { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون }( )الآية . وأنزل الله { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } ( )إلى قوله : { الشاكرين } ( )) ( ).
لقد عرض المشركون على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المال وأظهروا رضاهم بتنصيبه ملكاً عليهم لشرف بيئته وصدق حديثه ن وميل النفوس له ، لمنعه من الإستمرار بدعوة الناس إلى الإسلام ولكنه أبى المهادنة والموادعة معهم مع بقائه في مكة ثلاث عشرة سنة من حين البعثة النبوية ، بينما أجرى عقد صلح وموادعة مع يهود المدينة بعد وصوله إليها بمدة .
وتلك معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حربه على الشرك وميله إلى أهل الكتاب مع أن المسلمين كانوا في حال استضعاف في مكة ، بينما صاروا في حال منعة في المدينة ، وآمن بنبوته الأوس والخزرج وكانت لهم اليد الطولى في المدينة ، واليهود حلفائهم ، وكانوا إذا وقع قتال بين الأوس والخزرج خرج بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس .
وقد يقتل اليهودي يهودياً آخر ، وقد يخرج بعضهم بعضاً من داره ، وهو محرم عليهم ، قال تعالى [وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ] ( ) لذا نزل القرآن بذمهم وتذكيرهم بحالهم قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وفضل الله عز وجل عليهم بهذه الهجرة من وجوه :
الأول : لم يقع قتال بين ذات اليهود من أهل المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
الثاني : بطلان الأحلاف السابقة بين الأوس والخزرج وبين اليهود لعقدها ولأوس والخزرج على الشرك .
الثالث : تنزه اليهود عن مفاداة الأسرى من بينهم الذين يقعون بأيدي الأوس والخزرج أو عند ذات اليهود من خلفاء الأوس أو حلفاء الخزرج ن قال تعالى [وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ] ( ).
لقد تفضل الله عز وجل بقانون (مصاحبة البركة للنبوة ) فحينما كان النبي تغشت المحل البركة وتجلت شأبيب الرحمة على النفوس وأفاضت السماء بنعمة الغيث ، وامتاز النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بآية وهي سلامة الناس من القتال والغزو والسبي ، فلم تمر سنوات على هجرته إلى المدينة حتى صارت الضعينة تسير بين مكة والمدينة بأمن وسلامة ورضا .
وصار اليهود وأموالهم في مأمن من التعدي والظلم ، ولقد كانوا يتطلعون إلى بعثته لنجاتهم من تخرص وتعدي بعض أهل المدينة.
وعن (عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري حدثني أشياخ منا قالوا : لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منا ، كان معنا يهود ، وكانوا أهل كتاب وكنا أصحاب وثن ، وكنا إذا بلغنا منهم ما يكرهون , قالوا : إن نبياً يبعث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما بعث الله رسوله اتبعناه وكفروه به ، ففينا – والله – وفيهم أنزل الله { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا . . . }( ) الآية كلها)( ).
الرابع : هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة برزخ دون طغيان عبادة الأصنام فيها ، فقد تفشت عبادتها في البلد الحرام ، فمن باب الأولوية قد تسود في غيرها .
وقد كان قوم من أهل المدينة يقتنون هذه الأصنام فجاءت بعثة وهجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة رحمة باليهود لتكون كلمة الله هي العليا .
الخامس : من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن النبي موسى عليه السلام هو أكثر الأنبياء الذين ذكروا في القرآن ليكون فيه بخصوص بني إسرائيل أمور :
أولاً : الفخر لبني إسرائيل .
ثانياً : الشهادة لليهود بالرسالة السماوية وأنهم أتباع لها .
ثالثاً : الموعظة لبني إسرائيل .
رابعاً : إقامة الحجة على بني إسرائيل .
أولوية الدعاء في المعركة
من خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومختصاته لجوؤه إلى الدعاء وإجتهاده فيه عند التقاء الصفين مع أن أصحابه لا يقومون بعمل إلا بأمره واذنه ، أي ليس من تزاحم بين الدعاء وإمامة الجيش .
وكان يقول عند لقاء العدو ( اللهم مُنَزّلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِيَ السّحَابِ وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ وَرُبّمَا قَالَ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلّونَ الدّبُرَ بَلْ السّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرّ.
وَكَانَ يَقُولُ اللّهُمّ أَنْزِلْ نَصْرَكَ .
وَكَانَ يَقُولُ ” اللّهُمّ أَنْتَ عَضُدِي وَأَنْتَ نَصِيرِي وَبِكَ أُقَاتِل وَكَانَ إذَا اشْتَدّ لَهُ بَأْسٌ وَحَمِيَ الْحَرْبُ وَقَصَدَهُ الْعَدُوّ يُعْلِمُ بِنَفْسِهِ وَيَقُولُ أَنَا النّبِيّ لَا كَذِبَ أَنَا ابن عَبْدِ الْمُطّلِبِ) ( ) .
لتأديب المسلمين والإقرار على إتخاذ الدعاء سلاحاً ومنهاجاً بقانون يحكم قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وهو أن نصرهم لا يكون إلا من عند الله وانه لا يصح نسبته إلى أنفسهم وإن كانوا يبلون في ساحة المعركة بلاءً حسناً .
ومن الإعجاز بخصوص هذا القانون نزول مضمونه في أول معركة للمسلمين ، لقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من مشاورة أصحابه قبل لقاء العدو وعند التوجه للدفاع وفي حال اصطفاف الجيوش ، وكان يرفق بهم في الطريق ويتخلف أحياناً في مؤخرة الجيش لإعانة الضعيف ، ويردف الذي ليس له راحلة أو يحث على حمله .
وكان يبعث العيون ليأتوه بخبر العدو فان قلت أليس في الوحي غنى عن العيون ، الجواب نعم ،فيه غنى ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلّم المسلمين كيفية أخذ الحائطة والحذر من العدو ، وقال تعالى [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ).
(عن عبد الله بن رافع ، مولى أم سلمة ، عن أم سلمة ، قالت : جاء رجلان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يختصمان في مواريث وأشياء قد درست ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنما أقضي بينكما برأيي ما لم ينزل علي ، فمن قضيت له بحجة أراها ، فاقتطع بها قطعة ظلما ، فإنما يقتطع بها قطعة من النار إسطاما يأتي به في عنقه يوم القيامة . قالت : بكى الرجلان ، وقال كل واحد منهما : يا رسول الله ، حقي هذا الذي أطلب لصاحبي . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا ، ولكن اذهبا فتوخيا ثم استهما ، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه) ( ).
وعن الإمام علي عليه السلام (في كتاب علي عليه السلام: إن نبيا من الانبياء شكا إلى ربه القضاء، فقال: كيف
أقضي بما لم ترعيني ولم تسمع أذني ؟ فقال: اقض بينهم بالبينات وأضفهم إلى اسمي
يحلفون به. وقال: إن داود عليه السلام قال: يا رب أرنيالحق كما هو عندك حتى أقضي به، فقال: إنك لا تطيق ذلك، فألح على ربه حتى فعل، فجاءه
رجل يستعدي على رجل، فقال: إن هذا أخذ مالي، فأوحى الله عز وجل إلى داود: إن هذا
المستعدي قتل أبا هذا وأخذ ماله، فأمر داود بالمستعدي فقتل فأخذ ماله فدفعه إلى
المستعدى عليه، قال: فعجب الناس وتحدثوا حتى بلغ داود عليه السلام ودخل عليه من
ذلك ما كره، فدعا ربه أن يرفع ذلك ففعل، ثم أوحى الله عز وجل إليه أن احكم بينهم
بالبينات، وأضفهم إلى اسمي يحلفون به) ( ).
وكان اذا أراد الخروج للدفاع إلى جهة مخصوصة ورّى بغيرها أي يخبر بأنه سيقصد موضعاً آخر، والتورية ليست من الكذب إنما تأتي لدفع الأذى والضرر وكيلا يبلغ العدو خروجه وأصحابه إليه , وفيه تخفيف عن الجميع بما فيهم الأعداء لإرادة إنقاذهم من براثن الكفر، ومنع صيرورة موضوع مناجاتهم محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتي لا تجلب لهم إلا الخسارة في الدنيا والندامة والعذاب في الآخرة .
وسيأتي مزيد كلام في قانون خصال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل وأثناء وبعد المعركة .
ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تأديب المسلمين لينهلوا من فيض النبوة ، ويحاكوه في سنته وسيرته ، وهل يتضمن قوله صلى الله عليه وآله وسلم (صلّوا كما رأيتموني أصلّي) ( ) دعوة المسلمين لإتباع سنته حتى في المستحبات ، الجواب نعم ، لعمومات قوله تعالى [وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا] ( ) ، قال تعالى [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ] ( ) .
وعن جابر قال : (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في خطبته يحمد الله ويثني عليه بما هو له أهل ثم يقول من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الامور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ثم يقول بعثت أنا والساعة كهاتين وكان إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه نذير جيش صبحتكم مساتكم ثم قال من ترك مالا فلاهله ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي أو علي وأنا ولي المؤمنين) ( ).
وهل من معاني كون الدعاء سلاحاً خوف الذين كفروا منه ، الجواب نعم ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ] ( )بلحاظ أن النفوس تخشى من الله عز وجل ، ولا عبرة بالقليل النادر الذي يصر على الجحود ويظهر الإستكبار والذي يبتلى بما يكون معه عبرة وموعظة لغيره .
وفي معركة بدر عندما التقى الصفان (وَدَنَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ قَالَ أَبُو جَهْلِ عمرو بْن هِشَامٍ اللّهُمّ أَقْطَعَنَا لِلرّحِمِ وَآتَانَا بِمَا لَا يُعْرَفُ فَأَحِنْهُ الْغَدَاةَ)( ).
ترى لماذا توجه أبو جهل إلى الدعاء مع شركه ومحاربته الرسالة ، الجواب من وجوه :
الأول : إرادة إيهام وإحتلال الناس .
الثاني : منع جيش المشركين من التدبر بمعجزات النبوة .
الثالث : تشويه الرسالة وإدعاء أنها سبب كقطع الأرحام ، إذ كان أخو ابي جهل سلمة بن هشام مسلماً مهاجراً إلى الحبشة .
الرابع : تحريف الحقائق وإدعاء أن ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يعرفونه .
الخامس : الإصرار على إنكار معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم العقلية والحسية .
السادس : جعل المشركين يطمعون بالغلبة .
لفظ الجهاد
يتضمن هذا الجزء وجوه البيعة التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأخذها على الناس، وليس فيها لفظ الغزو والهجوم، وإن ورد فيها الجهاد .
ولفظ الجهاد سور جامع يشمل أموراً :
الأول : الهجوم على الذين كفروا.
الثاني : المرابطة .
الثالث : الدفاع .
الرابع : الصبر .
الخامس : الجهاد في أداء الواجبات والفرائض العبادية، والمقصود من الجهاد في الغالب هو الوجه الثالث والرابع، بلحاظ القرائن ولسنة النبي الدفاعية التي هي مرآة للقرآن، ومنه تعدد معاني وضروب الجهاد ، فقد جاءت السنة النبوية ببيان أفضلها وأحسنها ، إذ ورد (عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم :أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ) ( ).
ولم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أفضل كلمة جهاد ، أو أفضل جهاد ، إنما قال أفضل الجهاد لإرادة الإطلاق في مصاديق الجهاد ، وبيان قانون من جهات :
الأولى : هذه الكلمة وسيلة إصلاح عام ، وبرزخ دون القتال والقتل .
الثانية: كلمة الحق والعدل أمضى من السيف ، مما يدل على أن النبي محمداًً صلى الله عليه وآله وسلم يحث على إجتناب اللجوء للسيف وأنه لا يحسبه من الكي ، ولا حتى آخره .
وعن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (الشفاء في ثلاث شربة عسل وشرطة محجم وكية نار وأنهى أمتي عن الكي) ( ).
الثالثة : موضوعية منهاج بيان الحق وأنه ذروة الجهاد .
الرابعة : تنمية ملكة الصبر عن اللجوء إلى السيف عند المسلمين .
الخامسة : حث أمراء وحكام المسلمين على الإستماع للنصيحة لأن هذا الإستماع تنزيه لهم من الجور في الجملة .
السادس : جهاد النفس ومنع إستحواذ النفس الشهوية والغضبية على الجوارح والأركان سواء لذات الإنسان أو غيره ، وهو من الإعجاز في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ]( ) .
فان قلت لم تذكر الآية أعلاه قيام أفراد هذه الأمة بإصلاح ذاتهم ، الجواب بلى، تضمنته من جهات :
الأولى : توجه الخطاب في آية البحث إلى المسلمين والمسلمات بلحاظ عطف الآية على نداء الإيمان قبل آيتين .
الثانية : لغة التبعيض التي إبتدأت بها الآية بقوله تعالى [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ] للثناء على أهل الإيمان والتقوى ، لتكون الآية معطوفة من وجوه :
أولاً : العطف على نداء الإيمان قبل آيتين في نظم الآية أعلاه ، وتقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا لتكن منكم أمة يدعون …) .
ثانياً : العطف على الأمر بالتقوى التامة قبل آيتين [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] ( ) وتقدير الآية : ولتكن من المتقين أمة يدعون .
ثالثاً : العطف على الإعتصام والتوكل على الله .
ويمكن تقسيم العطف إلى أقسام منها:
الأول : العطف الموضوعي ،وهو عطف موضوع على موضوع .
الثاني : عطف حكم على حكم .
الثالث : عطف نهي على أمر وبالعكس بلحاظ أن كل واحد منهما إلزام.
في الأوامر
من وجوه العطف عطف أمر على أمر آخر كما في قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ] ( ) وهذه الأوامر تنقسم إلى أقسام متعددة بلحاظ ماهية الأمر مثل :
1-2 – الأمر المطلق والأمر المقيد .
3-4 – الأمر التعبدي والأمر التوصلي .
5-6 – الأمر التعييني والأمر التخييري .
7-8 – الأمر العيني والأمر الكفائي .
9-10 – الأمر الواقعي والأمر الظاهري .
11-12 – الأمر الموسع والأمر المضيق .
13-14 – الأمر الوجوبي وهو الدال على الوجوب والأمر الإستحبابي وهو الدال على الإستحباب .
15-16 – الأمر المؤقت والأمر غير المؤقت .
17- 18 – الأمر الموسع والأمر المضيق .
19- 20- الأمر النفسي والأمر الغيري .
21-22 الأمر المنجز والأمر المعلق .
الرابع : عطف جواب على جواب .
رابعاً : العطف على بيان الآيات الوارد في خاتمة الآية بقوله تعالى [كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ] ( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه صيغة التشبيه فيها [كَذَلِكَ] لبيان عظيم قدرة الله عز وجل وتوالي آياته , وهل يختص الأمر بالآيات الكونية ، الجواب لا ، إنما يشمل تجدد معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في كل زمان ، والبراهين الجلية التي تدعو الناس إلى الإيمان .
وفي التنزيل [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ) ليكون تجدد وبيان الآيات من عند الله برزخاً دون القتال ، ومانعاً من الغزو والإغارة والنهب والبطش بالناس .
الثالثة : بعث الهمة والعزم عند المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون فيه .
والنسبة بين التعاون في الأمر بالصلاح والنهي عن القبائح وبين المناجاة فيهما هي العموم والخصوص المطلق ، فالتعاون أعم لذا ندب الله عز وجل المسلمين للتعاون في الصالحات ، قال تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]( ).
وفي هذا التعاون حاجب دون القتال والغزو ، وحجة على الذين كفروا, وترغيب لهم بدخول الإسلام .
ومن الإعجاز في الشرائع الإلهية أن كلاً من الأمر بالمعروف والتعاون والمناجاة في الصالحات والنهي عن المنكر جهاد للنفس ، ومنع من التمادي والإنغماس في حب الدنيا والإنشغال بزينتها ، واللهث وراء لذاتها ، وفي التنزيل [إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي] ( ).
وفي الحديث (ليس عدوك الذى يقتلك فيدخلك الله به الجنة , وإن قتلته كان لك نورا , ولكن أعدى الأعداء لك نفسك التي بين جنبيك)( ).
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوم كانوا في سرية (فقال : قدمتم خير مقدم قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر مجاهدة العبد هواه ) ( ).
السابع : الجهاد في أداء الفرائض والمناسك والتقرب إلى الله عز وجل بالإجتهاد في طاعته والإمتناع عن معصيته .
وتكرر اسم [الْمُجَاهِدِينَ] ثلاث مرات في آية واحدة من مجموع أربع آيات ورد فيها هذا اللفظ في القرآن ، قال تعالى [لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا] ( ).
لبيان أن الجهاد هو الدفاع وهو أعم من أن يختص بالسيف وبذل النفوس إنما يشمل الصبر والمرابطة والبذل في الأموال طاعة لله والإنفاق في سبيل الله .
وهل يتعلق الجهاد بالأموال بخصوص القتال ومقدماته ورشحاته ، الجواب لا ، فمن الجهاد بالأموال في سبيل الله إخراج الزكاة والخمس وإعانة الفقراء وإشاعة الصدقة .
لقد جعل الله عز وجل الحياة الدنيا دار إبتلاء وإختبار وإمتحان ، وحتى المؤمن لا ينجو من الإبتلاء والإمتحان , ولكن المائز ان ابتلاء المؤمن باب للثواب وطريق للبث الدائم في الجنة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) .
وشاء الله أن تكون النبوة امتحاناً للناس جميعاً إذ أن الإيمان بها نجاة وسلامة وأمن , والجحود بها ضلالة وخسارة ، قال تعالى [فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ] ( ) ومن مختصات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تأكيده الدائم على جهاد النفس وعلى التحلي بالصبر والإقامة على الفرائض .
ومع كثرة أعداء الإسلام وسعيهم للهجوم على المدينة ومواصلتهم التهديد والوعيد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتجه إلى المظاهر العسكرية ، ولم يدع إلى عسكرة المجتمع , ولم يشغل الصحابة بالتدريب , والتمرين والتهيء اليومي المستمر لقتال الأعداء ، بل كان المهاجرون والأنصار يزاولون أمور حياتهم الإعتيادية.
حتى أخذوا يستعدون لمعركة الثأر والتي صارت تسمى معركة أحد لوقوعها في سفح جبل أحد .
وقد اهتزت أركان مكة وما حولها لهول ما لحق كفار قريش في معركة بدر من جهات :
الأولى : كثرة القتلى من المشركين ، إذ فقدوا سبعين من رجالاتهم .
الثانية : من عادة الرؤساء تقديم المستضعفين وعامة الجنود للقتال ، ولكن رؤساء ورئاسات من قريش سقطت في معركة بدر لذا حينما قاموا بمنع البكاء على قتلى معركة بدر .
وسمع الأسود بن المطلب صوت نائحة في الليل فقال لغلامه وقد فقد بصره (انظر هل أحل النحب هل بكت قريش على قتلاها) ( ).
إذ أراد الأسود البكاء على أولاده ، فقد ثلاثة من أولاده في معركة بدر، منهم ابنه زمعة الذي هو من أزواد الراكب الثلاثة وهم :
الأول : أبو أمية بن المغيرة المخزومي .
الثاني : زمعة بن الأسود بن المطلب بن عبد مناف بن أسد بن عبد العزى .
الثالث : مسافر ابن أبي عمرو بن أمية .
ومعنى أزواد الراكب أنهم يتكفلون نفقة من يسافر معهم ، فأي واحد من هؤلاء الثلاثة إذا سافر معه فرد أو جماعة فانه يتولى نفقتهم أثناء السفر ، وهل ينفع زمعة هذا الفعل .
الجواب لا، لأنه مات كافراً محارباً للنبوة والتنزيل وما لبث غلام الأسود حتى عاد إليه وقال له إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته ، لبيان سوء عاقبة الذين يقتلون وهم يحاربون الإسلام ، ولحوق الخزي بهم حتى في ذويهم وأهليهم .
فقال الأسود في أبيات عديدة
أَتَبْكِي أَنْ يَضِلّ لَهَا بَعِيرٌ … وَيَمْنَعُهَا مِنْ النّوْمِ السّهُودُ
فَلَا تَبْكِي عَلَى بَكْرٍ وَلَكِنْ … عَلَى بَدْرٍ تَقَاصَرَتْ الْجُدُودُ( ).

عصمة مكة من سلطان الدول العظمى
وكانت الرئاسة في مكة قبل الإسلام تنتقل من شخص إلى آخر بالشأن والجاه والمال أو الوراثة ، فكانت عند عبد مناف بن قصي .
ثم صارت من بعده إلى ابنه هاشم بن عبد مناف وهو جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاحسن القيام باعبائها ورضيت عنه عامة قريش ، ثم صارت من بعده إلى ابنه عبد المطلب مع رؤساء آخرين من سائر قريش خاصة بعد تكاثر فروعهم وعددهم مع إقرارهم بشأن ومرتبة عبد المطلب كما يدل عليه في قصة غزو أبرهة مكة ودخول عبد المطلب عليه في مجلسه .
وبرز من قريش من بني عبد مناف رؤساء سادوا واتصلوا مع الملوك وهم :
الأول : هاشم .
الثاني : عبد شمس .
الثالث : المطلب .
الرابع : نوفل .
وكانت قريش في تعمل في التجارة , ويتم بيعهم وشراؤهم مع أهلها ومن يدخل إليها ، فركب هاشم إلى قيصر ، وأخذ منه عهداً وأماناً بما هو أعم من الإتفاق التجاري ، وصارت قريش تتجر إلى الشام وركب عبد المطلب إلى اليمن ، وأخذ عهداً وميثاقاً من ملوك اليمن للزوم تكفل العناية بتجارة قريش عند دخولهم البلد وأرض الملكة .
فصارت قريش تتجر إلى اليمن وذهب نوفل إلى الحبشة ، ودخل على النجاشي وأخبره برغبتهم بالتجارة مع الحبشة ، وكيف أن قبائل العرب يحضرون في مكة في الموسم لحج البيت الحرام وللشراء أو البيع أيضاً ، فقام رجال قريش بالإتجار مع الحبشة ، والسفر إليها لأخذ الأدم ونحوه والتسوق منها ، وليس من قبيلة أو أهل بلدة في الجزيرة بلغوا هذه المرتبة من الصلات مع الدول الأخرى مثلهم ، وهو من بركات البيت الحرام ، ودعاء ابراهيم عليه السلام ، كما ورد في التنزيل [رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ] ( ).
وأطلقت قريش على هؤلاء الأربعة أسماء تتضمن معنى الثناء عليهم ، منها :
الأول : المجيرون ، لإجارتهم للمظلوم ومن استجارهم ولجأ إليهم ولفخرهم ورئاستهم ، ولأخذهم الأمان لقومهم من ملوك زمانهم .
الثاني : الزينون ، فكل واحد منهم زين في قوله وفعله .
والمختار أنه ليس من رئيس على قريش وأهل مكة ، إذ أن البيت الحرام خيمة وسور جامع يلوذون به ، وكان عندهم وجهاء وسادة على أبناء عمومتهم ومنهم مع تفاوت في المنزلة :
الأول : عبد المطلب بن هاشم من بني هاشم .
الثاني : أبو طالب بن عبد المطلب .
الثالث : حرب بن أمية ، من بني أمية .
الرابع : صخر بن حرب ، وهو أبو سفيان .
الخامس : العلاء بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة .
السادس : الوليد بن المغيرة من بني مخزوم ، وهو أبو خالد بن الوليد .
السابع : قيس بن عدي بن سعد من بني سهم .
الثامن : العاص بن وائل بن هاشم .
التاسع : نفيل بن عبد العزى بن رزاح .
وكانت قريش تجتمع في دار الندوة ويقومون في تدارس الأمور وشؤون المجتمع وقوافل التجارة ونصرة المظلوم ودفع الشر والأذى، ولا يختص الأمر بهؤلاء الرؤساء إنما يشمل عامة قريش، وإن كان الدخول خاصاً الرؤساء، ولمن كان عمره أكثر من أربعين سنة إلا أن يمتاز برجحان العقل وحسن المنطق فيسمع قوله وينظر في مشورته وإن كان عمره أقل من أربعين سنة , وفي هذه القاعدة التي إعتمدتها قريش حجة عليهم في لزوم الإنصات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من حين أيام شبابه.
من تأريخ مكة
من مقدمات النبوة أنه كان معروفاً بالصدق والأمانة في مجتمع يجمع بين التجارة وفيوضات البيت الحرام وهي مكة، ووفادة الناس لها من مدن وقرى الجزيرة العربية، وأكثر ما يحتاجه المجتمع فيه الصدق الأمانة خاصة مع عدم وجود حاكم مطلق وأجهزة تنفيذية تعمل بأمره.
وبصر عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي الفراغ الحاصل في رئاسة قريش ،وإمكان الإتصال بالدول العظمى آنذاك لإنتزاع هذا المقام لشخصه وذريته مع إدراك الجميع عدم الحاجة إليه ، وكان عثمان هذا يتصف بالظرافة والعقل فذهب إلى قيصر ليسأله أن يكون ملكاً على قريش لحاجة قريش إلى التجارة مع الشام بالإضافة إلى سلطان قيصر، ودخل عثمان بن الحويرث إلى بلاط قيصر ورغّبه بملك مكة وتبعيتها وأهلها له، وليس عليه إلا أن يكتب له كتاباً يملكه فيه عليهم ، وفيه توسعة لملك قيصر وصيرورة حدود مملكته قريباً من حدود ملك كسرى ، خصوصاً وأن ولاء اليمن آنذاك لكسرى فارس وآثار الحرب بين الدولة الرومانية والفارسية لا زالت ظاهرة .
ولم يطلب عثمان من قيصر ووزرائه جنوداً أو أسلحة أو أموالاً ، ورأوا فيه حصافة وتدبراّ ، فكتب له قيصر كتاباً ملّكه فيه على قريش ، فرجع عثمان إلى مكة وليس معه إلا الكتاب الذي يتضمن أمر توليته وتمليكه .
ولم يسأل عثمان هذا الإمارة على مكة وأن يكون عاملاً لقيصر إنما سأله أن يكون ملكاً عليها لمعرفة كل منهما بمنزلة مكة وقدسية البيت الحرام، وتجارة قريش.
وروى الزبير (أن قيصر حمل عثمان على بغلة عليها سرج عليه الذهب حين ملكه)( ).
وكما ورد عن الكلبي أن عثمان (قال: يا قوم، إن قيصر من قد علمتم أمانكم ببلاده، وما تصيبون من التجارة في كنفه، وقد ملكني عليكم، وإنما أنا ابن عمكم( ).
وإنما آخذ منكم الجراب من القرظ( )، والعكة من السمن والإهاب( )، فأجمع ذلك ثم أبعث به إليه. وأنا أخاف إن أبيتم ذلك أن يمنع منكم الشام؛ فلا تتجروا به ويقطع مرفقكم منه.
فلما قال لهم ذلك، خافوا قيصر، وأخذ بقلوبهم ما ذكر من متجرهم، فأجمعوا على أن يعقدوا على رأسه التاج عشيةً، وفارقوه على ذلك، فلما طافوا عشية، بعث الله إليه ابن عمه أبا زمعة الأسود بن المطلب بن أسد، فصاح على أحفل ما كانت قريش في الطواف، فقال: عباد الله، ملك بتهامة؟!)( ).
أي كيف يكون هناك ملك بتهامة وبلاد الحرم، وفي رواية أن الأسود بن المطلب قال في احتجاجه : قريش لقاح لا تملك) أي أنهم لا يدينون لملك ولا يملك عليهم أحد، ولم يصبهم سباء .
وهل من صلة بين رفض قريش لنصب عثمان ملكاً عليهم، وبين نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم، فشاء الله عز وجل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة والمدينة وليس من ملك في أي منهما .
وهل جحود قريش بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثل جحودهم بتمليك عثمان بن الحويرث، الجواب لا ، فهو قياس مع الفارق، إنما دعا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قريشاً إلى التوحيد والإيمان وإلى أن يكونوا أمراء على الناس وليس تابعين لقيصر أو كسرى، وقال لقريش (هَلْ لَكُمْ فِي كَلِمَةٍ تَدِينُ لَكُمْ بِهَا الْعَرَبُ ، وَتُؤَدّي الْعَجَمُ إلَيْكُمْ بِهَا الْجِزْيَةَ .
قَالُوا : مَا هِيَ ؟ قَالَ ” لَا إلَهَ إلّا اللّهُ)( ).
وعن الزبير أن الكتاب الذي قدم به إلى قريش بتنصيبه مختوم بالذهب وكان عثمان هذا ممن يسمى البطريق أي الرئيس والمقرب من الملك .
وأيد رجالات قريش كلام الأسود وامتنعت قريش عن نصب عثمان بن الحويرث ملكاً عليهم وان جاء بكتابه من قيصر .
ولم ينته الأمر عند هذا الحد ، ولم يكتف عثمان برد قريش له ورفضهم للكتاب الذي جاء به ، بل رجع إلى قيصر ليحرضه على قريش ويبين له كيف أنهم جحدوا أمره وردوا كتابه .
وأراد أن يقوم قيصر بحبس تجار قريش الذين يفدون إلى الشام للتسوق ، أو لا أقل يمنعهم من دخول الشام ليحملهم على الموافقة على تمليكه خاصة وأنه ابن عمهم ، ولم يطلب منهم إلا النزر القليل مقابل حماية قيصر لهم .
ولم يعلم أن الله عز وجل قد أذن لقريش بالتجارة مع الشام واليمن لتكون مقدمة لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما في قوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ* إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
ولجأت قريش إلى الحيلة والرشوة والمكر فذهبوا إلى عمرو بن جفنة الغساني عامل قيصر ، وسألوه أن يفسد على عثمان عند قيصر ، فكلم عمرو ترجمان قيصر الذي قام باخبار قيصر بأن عثمان يشتم الملك ، فأمر قيصر باخراجه ومنع دخوله عليه .
فلم يكف أو يقعد عثمان بل أخذ يتفحص عن سبب طرده ومن الذي يقف وراءه خاصة مع أنه يجتهد في خدمة قيصر ، وعلم أن الترجمان كذب عليه عند قيصر ، واستطاع عثمان أن يبلغ قيصر عندئذ (وكتب قيصر إلى عمرو بن جفنة يأمره أن يحبس لعثمان من أراد حبسه من تجار قريش بالشام، ففعل ذلك عمرو ، ثم سم عثمان , فمات بالشام) ( ).
ومن مصاديق نصرة الله لانبيائه تهيئة مقدمات الدعوة وتيسير أسباب التبليغ ،ومنها حجب سلطان الدول العظمى عن مكة محل بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن المدينة دار الهجرة ، وقد ذهب قوم من المدينة إلى قيصر لتأليبه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة وانتشار الإسلام ، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك في السنة التاسعة للهجرة، وهي أطول مسافة قطعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر وخروج واحد وفي التنزيل [لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمْ الشُّقَّةُ]( ).
ولم يلاق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قيصر أو جنوده، ولم يقع قتال في هذه الغزوة ، مع أن جيش المسلمين كان يومئذ ثلاثين ألفاً، وتسمى غزوة تبوك ، وغزوة العسرة , ووقعت في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة وهي آخر مرة خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في جيش من المدينة وندب المسلمين إلى الصدقات والتبرع للجيش بعد أن بلغه تجهيز الروم لجيش قوامه أكثر من أربعين ألفاً.
وهل كان قيصر يعلم بأن تلك السنة سنة جدب وعوز في المدينة وما حولها ، وهو سبب لقعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعجز عن تجهيز الجيوش لملاقاته خاصة مع بعد المشقة والمسافة بين المدينة وتبوك ، الجواب نعم ، لبلوغ الأخبار إلى قيصر وقواده من الكفار والمنافقين والذين يحرضون على الإسلام ومنهم أبو عامر الفاسق الذي انهزم إلى قيصر الذي لم يعلم بأن آية الصدقات جعلت المسلمين يتسابقون في التبرع لجيش العسرة إلى جانب صبر المسلمين على الجوع والعطش وكان مع قيصر من العرب كل من:
الأولى : قبيلة غسان حلفاؤهم الأشداء مع أنهم أبناء عم الأوس والخزرج.
الثانية : قبيلة جذام .
الثالثة : قبيلة فهر .
الرابعة : قبيلة عاملة .
الخامس : تحريض وتجهيز وإعانة بعض الرؤساء على الأمصار والمدن القريبة من أرض الحجاز والتي تقع في مشارفها .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عقد تحالفات مع القبائل العربية وأمَن أطراف المدينة ، وحينما علم جيش الروم بقدوم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه مع جيش المسلمين تفرقوا .
تجدد مصداق الآية القرآنية
لقد نزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) في معركة الخندق مع حال الحصار التي تعرض لها المسلمون ، ووقوع بعض القتال كما في مبارزة الإمام علي عليه السلام مع عمرو بن ود العامري وحصل رمي بالسهام والحجارة .
وتكررت مضامين الآية أعلاه في معركة تبوك ، ولكن على نحو أخف وطأة على المسلمين من وجوه :
الوجه الأول : عدم وقوع مواجهة مع جيش الروم الذي يفوق جيش المسلمين من جهات :
الأولى : كثرة العدد .
الثانية : التدريب والتأهيل ومراتب الإستعداد للمعركة ، وهو الذي يدل عليه وصول نبأ استعدادهم لغزو المسلمين إلى أسماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذي يدل بالدلالة التضمنية على تأهبهم للقتال وحشدهم الجيوش للهجوم .
الثالثة : كثرة المؤن عند جيش الروم ، من جهات :
الأولى : الكثرة والجودة في السلاح من السيوف والدروع والرماح وغيرها .
الثانية : كثرة الأموال عند قيصر وجنوده .
الثالثة : قيام قيصر بدفع راتب عدة شهور لأفراد جيشه كيلا ينشغلوا بالهّم بنفقة ومؤونة العيال .
الرابعة : كثرة وجودة الخيل التي مع هرقل وجنوده.
وهل يحتمل وجود أسلحة عند الروم غير موجودة عند المسلمين كما بالنسبة لقتال الحبشة في تقديمهم الفيل في القتال ، الجواب نعم ويسمى الفيل الخاص بالمعركة (الفيل الحربي) إذ أنه مدرب على أمور القتال وكيفية الهجوم على العدو وإختراق صفوفه.
وتسمى الفرقة التي تقاتل بالفيلة (المحاربون بالفيلة)، ولكل فيل سائس وقائد خاص وله معاشه وعطاؤه، وأستخدم قديماً في الهند ثم في اليونان من قبل قائد الجيش اليوناني بيروس الأبيري(319-272)ق.م وكان يحقق الإنتصارات ولكنه يقدم خسائر جسيمة فصار من المصطلح العسكري(النصر البيروسي) أي النصر الذي يتحقق بكلفة عالية وخسائر جسيمة من طرف المنتصر نفسه .
وهل كان بمقدور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة إستعمال الفيل في معاركهم، الجواب نعم، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يستعمله ولم يأمر به ولم يؤيد إحضاره وتدريبه مع أنه ليس غريباً أمره على المسلمين، إذ أنهم يتلون سورة الفيل كل يوم ويتجلى موضوع القتال وتقديمه في المعركة بقوله تعالى[أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ]( ).
ويستقرأ منه قانون وهو أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يستطيع إستخدام أسلحة أكثر فتكاً من السيف ولكنه لم يستخدمها لأنه لم يقصد الهجوم والغزو وإنما أراد دعوة الناس إلى الإيمان بالحكمة والموعظة الحسنة ولم يقاتل إلا دفاعاً .
وتسمى هذه الغزوة (الفاضحة) لإفتضاح أمر المنافقين فيها وقد سبقت تبوك مناوشات بين الروم والمسلمين، كما قاموا بقتل الحارث بن عمير الأزدي وكانت بعده معركة مؤتة.
وكان المسلمون في حال ترقب وخوف وتوثب من جيش قيصر والأخبار التي تصل من ناحية الشام إلى أن جاء الأنباط التجار فأخبروا المسلمين بأن هرقل أعدّ لهم جيشاً يجر أطرافه من الروم وحلفائهم من القبائل.
ولم يختر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المباغتة لصفوف وجمع العدو ، وربما أشار عليه بعض أصحابه بهذه المباغتة ولكنه يمتنع عنها لثوابت نبوية وهي عدم البدء بالقتال ليكون قانوناً في ميراث أهل البيت ودعوة آنية لدفع القتال ، ليكون امتناع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن البدء بالقتال على وجوه :
الأول : انه من عمومات قوله تعالى [يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ) ومنه إنصراف الفريقين من دون قتال، ومن الإعجاز في السنة الدفاعية أن المواطن التي خرج إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع ولم يقع فيها قتال أكثر من ضعف المواطن التي وقع فيها القتال .
الثاني : بيان مصداق من مصاديق الرحمة في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الثالث : تأديب الصحابة وأمراء السرايا على قانون وهو عدم بدء القتال .
الرابع : إقامة الحجة على الذين كفروا .
الخامس : بعث الندامة والأسى في قلوب الذين كفروا إذا بدأوا القتال .
ومع علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن الله عز وجل يمده في دفاعه بالملائكة فإنه كان يختار دفع القتال.
وليس من قوة في الأرض تعادل قوة ملك واحد، إذ أنه يرى الناس ولا يرونه، ويصل إليهم ولا يستطيعون الوصول إليه، وإن إرتقت الأسلحة بالتقنية الحديثة .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم والشواهد على نصر الله له، وبسط لواء الإسلام في الأرض تفضل الله بإنزال آلاف الملائكة لنصرته، قال تعالى[أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ]( ).
الوجه الثاني : تشتت وتفرق جيش الروم حالما سمعوا بقدوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجيش الإسلام، وهل أخبار هذا القدوم من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ).
الجواب نعم، وهو من الشواهد على رحمة الله عز وجل بالناس جميعاً ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ودفع المعارك والقتال عن المسلمين والناس.
لقد دخلت الروم في معارك ضارية مع كسرى والفرس أيام البعثة النبوية مما أدى إلى إنشغال بعضهم ببعض ، وإمتناعهم مجتمعين ومتفرقين عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى جانب ضعف قواتهم بسبب تلك المعارك.
ويخشى قيصر فتح جبهة قتال عليه مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعرب ، ولا يلقى فيها إلا الإستنزاف واحتمال خروج القبائل العربية من الشام عن طاعته خصوصاً مع صلات القربى بين تلك القبائل وأهل المدينة ومكة ، كما في قبائل الغساسنة فانهم أبناء عمومة الأوس والخزرج.
فإن قلت قد خرجوا معه إلى تبوك وهم يعلمون أنهم سيقاتلون الأوس والخزرج، والجواب هذا صحيح إلا أن ذات خروجهم تهديد لهرقل فقد ينقلبون عليه عند إشتداد القتال وعند إدراكهم لمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الوجه الثالث : قانون تغشي الرعب للذين يريدون قتال النبي محمد صلى الله وآله وسلم والمسلمين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (نصرت بالرعب ، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل التراب لي طهوراً ، وجعلت أمتي خير الأمم) ( ).
ولم يسع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنقض وازاحة سلطان الذين كفروا في مكة بالسيف ، إنما كان يجاهد بتلاوة آيات القرآن ودعوة الناس للإسلام ونبذ الشرك ليكون من مصاديق قوله تعالى [وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً] ( ) وهذا الترتيل جهاد في سبيل الله عز وجل وكلمة حق تعلن للملأ والناس جميعاً .
لقد اختار الله عز وجل لللنبي وأصحابه الصبر وترك الهجوم لينعم الله عز وجل عليه وعلى المؤمنين بالفتح من غير غزو أو قتال شديد ، وأكرم الله عز وجل المسلمين بالشهادة في سبيله ، ومن الآيات في المقام أمور :
الأول : موت الشهداء الأوائل تحت التعذيب لبيان قانون من الإرادة التكوينية وهو عدم انحصار قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) بشهداء معركة بدر وأحد والمسلمين الذين يقتلون تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي السرايا التي بعثها ، إنما تشمل الآية الذين ماتوا تحت وطأة التعذيب الشديد من قبل الذين كفروا ، وهم حجة وشاهد على أن النبي محمداً لم يبدأ أحداً بقتال وأنه وأصحابه صبروا على شدة الأذى من قبل المشركين .
الثاني : لم يحمل الشهداء السلاح وكذا غيرهم من المسلمين قبل الهجرة .
الثالث: صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين على قتل قريش لنفر من المسلمين الأوائل ورجاء فوزهم بالجنة ، إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمر على آل ياسر وهم يعذبون فيقول (صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ مَوْعِدُكُمْ الْجَنّة) ( ).
ليكون هذا القول دعوة لعموم المسلمين للصبر على الأذى والتحمل وعدم الإنتقام أو الثأر .
الرابع : أول شهيد من المسلمين امرأة وهي سمية أم عمار التي ماتت تحت تعذيب أبي جهل ، ليلقى جزاءه الدنيوي العاجل في معركة بدر ويجر جثة هامدة ليلقى في القليب لذا تفضل الله وجعلها واجبة في كل فريضة، وتأتي هذه التلاوة عن قيام وليس عن ركوع أو جلوس، وفيها مسائل:
الأولى :بيان قانون وهو جدّ وإجتهاد المسلمين في طاعة الله .
الثانية : تجلي قانون وهو الصلاة جهاد .
الثالثة : بيان استغناء المسلمين عن القتال والحرب في تعاهد سنن العبادة.
الرابعة : التأكيد العملي لقانون وهو حب المسلمين لله عز وجل بتلاوة آيات القرآن عن قيام وفي حال خضوع وخشوع .
الخامسة : بيان محاكاة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قوله وفعله ، ومنه قوله (صلّوا كما رأيتموني أصلّي) ).
السادسة : بيان قانون وهو الصلاة سلامة للمسلمين من الغلو بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة ، إذ يقف المسلمون خاشعين بين يدي الله ويقرأون كلامه ، وكل جيل من المسلمين يعملون بقانون وهو أن الصلاة عبودية لله عز وجل ومحاكاة لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى[قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ).
من منافع الصلاة
تحتمل الصلاة كسنة وجوهاً :
الأول : أنها من السنة القولية .
الثاني : الصلاة من السنة الفعلية .
الثالث : الصلاة من السنة التقريرية .
السابعة : تلاوة القرآن في الصلاة عن قيام حرب على الشرك ودعوة للناس لنبذ الكفر ومفاهيم الضلالة .
الثامنة : الصلاة وكيفيتها وأجزاؤها وتلاوة القرآن فيها واقية من الميل إلى القتال ، أو تقديمه على الحكمة والموعظة .
ولا يعلم منافع صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين والمسلمات إلا الله عز وجل ، وهو على وجوه :
الأول : الصلاة برزخ دون الفحشاء ، وفعل السيئات .
الثاني : تجلي قانون وهو دفع الصلاة للمنكر ، وهي مانع من إرتكاب الذنوب والمعاصي ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ).
الثالث : تصرف وتدفع الصلاة الفرقة والشقاق والخلاف بين المسلمين ليكون من معاني قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ) هو وتمسكوا بالصلاة وأداءها ولا تفرقوا بكيفية أجزائها.
ولو تنزلنا وقلنا بأن معارك الإسلام غزوات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانه لا يقدح برسالته لأن قوله وفعله من الوحي ، وهما شعبة من التنزيل ، وتفسير وبيان له ، ولكن هذا الغزو لم يقع إذ كفل الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين أموراً :
الأول : نزول تمام آيات القرآن .
الثاني : أداء المسلمين الصلاة والفرائض العبادية بيسر وأمن .
الثالث : تفقه المسلمين في أحكام الحلال والحرام .
الرابع : حفظ المسلمين لآيات القرآن , وتلاوتها في الصلاة وخارجها وهذه التلاوة نوع طريق لعصمتها من التحريف والتبديل والتغيير .
لذا تفضل الله وجعلها واجبة في كل فريضة ، وتأتي هذه التلاوة عن قيام وليس عن ركوع أو جلوس ، وفيه مسائل :
الأولى : التلاوة عن قيام جهاد في سبيل الله .
الثانية : بيان حال الصبر عند المسلمين أثناء تلاوة القرآن .
الثالثة : دفع الكسل والفشل والخمول عن المسلمين ، وهل التلاوة من قيام من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ] ( ) الجواب نعم ، وفي التلاوة وسماعها أمور :
أولاً : انشراح الصدور .
ثانياً : بعث للسكينة في النفوس .
ثالثاً : أنها حرب على الظلم والكفر ومفاهيم الضلالة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] ( ) .
الرابعة : في تلاوة المسلمين القرآن عن قيام غنى للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الهجوم والغزو إذ أن هذه التلاوة دعوة متجددة خمس مرات في اليوم للناس جميعاً لدخول الإسلام .
الخامسة : بعث الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا من عزائم وهمم المسلمين وتأهبهم للتضحية والفداء في سبيل الله .
السادسة : بيان قانون وهو أن الصلاة فعل عبادي وصبر وعزيمة .
لقد نزل قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ) لجعل المسلمين متوثبين للدفاع ، ومستعدين للقاء العدو والخروج لقتاله عند غزوهم المدينة أو عزمهم على هذا الغزو , وهذا التوثب والجاهزية مانع من وقوع المعارك وهو من إعجاز القرآن ، وقد التفتت إليه الدول في هذا الزمان وصار التمرين والمناورة وحيازة الأسلحة وكثرة الجنود واقية من المعركة لأنه برزخ دون طمع العدو وهجومه , ومع الإقرار بأن الحوار والتباحث هو أفضل كثيراً من القتال والغنائم لجميع الأطراف ، وهو الذي جاء به القرآن قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة .
(عن عقبة بن عامر الجهني : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل }( ) ألا إن القوّة الرمي ثلاثاً ، إن الأرض ستفتح لكم وتكفون المؤنة ، فلا يعجزنَّ أحدكم أن يلهو باسهمه) ( ).
وورد عن ابن عباس في معنى (القوة) المذكورة في الآية أعلاه أنها الرمي والسيوف والسلاح .
ومن لم تنفع معه المعجزة والبرهان والحكمة والموعظة من الذين كفروا ولا ينزجر بتجهز وإعداد المسلمين لقوتهم وخيلهم ، ويصر على القتال المتكرر , عندئذ تتجلى معاني الإذن من عند الله بقوله تعالى [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) .
ترى ما هو عدد الحروب التي شنتها قريش على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، الجواب من وجوه منها :
الأول : معركة بدر .
الثاني : معركة أحد .
الثالث : معركة الخندق .
الرابع : تأليب القبائل على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : تحريض يهود المدينة على نقض العهود مع النبي وقتاله .
وسيأتينا مبحث : هل فتحت مكة عنوة أو صلحاً من غير أن تصل النوبة للحكم بأن أرضها ليست ملكاً لأهلها في حال فتحها عنوة .
فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال يوم فتح مكة (من أغلق بابه فهو آمن ) فنسب البيوت إلى أربابها وأقرهم عليه ، (عن أسامة بن زيد قال : لما كان يوم الفتح قبل أن يدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة قيل أين ننزل يا رسول الله أفي دارك قال وهل ترك لنا عقيل منزلا) ( ).
وقيل (مِمّا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ سِتّونَ آيَةً مِنْ آلِ عِمْرَانَ أَوّلُهَا : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ }( )) ( ).
ويدل ذكر الآية أعلاه على أن المراد من (في) الموضوع وليس الظرفية ، والمراد أن مجموع الآيات التي نزلت بخصوص معركة أحد ستون آية ، وليس نزول ستين آية في ذات اليوم ، نعم قد تكون آيات أخرى نزلت على النبي محمد حينئذ ، ولكنها لا تتعلق بواقعة أحد .
لقد أكرم الله عز وجل الناس بنزول القرآن الذي هو كلامه ، وتفضل وجعله حاضراً بينهم إلى يوم القيامة ينطق بالحق ، ويهدي إليه ، ويبشر بالثواب على العمل بسننه ووقاه الله عز وجل من الزيادة والنقصان مع تقادم الأيام إذ ورد بصيغة المضارع قوله تعالى في الثناء عليه [لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ] ( ) ليكون القرآن مرآة التوحيد في الأرض من جهات منها :
الأولى : إختصاص نزول القرآن بالملك جبرئيل .
الثانية : لم تنزل آيات القرآن إلا على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : حفظ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لتمام الآية وكلماتها وقيامه بتلاوتها على المسلمين .
الرابعة : قراءة المسلمين القرآن في الصلاة .
الخامسة : تعاهد المسلمين لآيات وسور القرآن وعشقهم للمصاحف والإكثار منها .
وهل منه ترجمتها إلى اللغات المختلفة ، الجواب نعم .
السادسة : سلامة القرآن من التحريف .
السابعة : تضمن القرآن الأمر والنهي والخبر .
ومن إعجاز القرآن خلوه من الإستخيار لأن الله عز وجل جعله[تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ) وما يرد في القرآن من صيغ الإستفهام والإستخبار إنما هو من باب التقرير والإنكار والوعد والوعيد .
وتجلت معاني العبودية لله في القرآن لما فيه من الإلزام والذي هو على قسمين متضادين :
الأول : الأمر وهو الذي يجب فعله ، ويتعبد به .
الثاني : النهي وهو الذي يلزم تركه ويتعبد بالإمتناع عنه .
وليس في القرآن أمر بالغزو والإغارة على القبائل إنما جاء القرآن بالأمر بالدعوة إلى الله بالحجة والبرهان والدليل , وأخبر القرآن عن إنكار الملائكة قيام الإنسان بالفساد والقتل , وسفك الدماء ليدل بالدلالة التضمنية على دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للإسلام ووجوب الدفاع عنه عندما أراد المشركون قتل النبي وأصحابه وفي معارك متتالية .

عودة مهاجرين من الحبشة
من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المكانية هجرة رهط من أصحابه من مكة إلى الحبشة في تلك الأزمنة والأحوال , وبعد المسافة وكثرة المسالك في الطريق والإقامة , والخشية على دينهم , فهم حديثوا عهد بالإسلام , وهاجروا إلى بلاد الحبشة , وأهلها على دين سماوي وهو النصرانية مع إستضعاف المسلمين في مكة , وعدم تجلي العواقب وليس من سلاح عندهم إلا التوكل على الله عز وجل وتفويض الأمور إليه , وفي التنزيل [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ] ( ), والهجرة على أقسام :
الأول : الهجرة إلى الحبشة ، وهي هجرتان .
الأولى : هجرة نفر من الصحابة الأولى في شهر رجب من السنة الخامسة للهجرة .
الثانية : الهجرة الثانية عند اشتداد إيذاء قريش للمسلمين .
وقد يتبادر إلى الذهن أن المهاجرين إلى الحبشة في الهجرة الثانية هم غير الذين هاجروا إليها في الأولى ، ولكن بعض الذين هاجروا في الأولى عادوا إلى مكة ووصلوا إلى أطرافها وعادوا , ومنهم من دخلها بجوار وذمام ثم هاجر إلى الحبشة أو إلى المدينة لبيان الأذى الشديد الذي لاقاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون الأوائل من قريش ، وحتى الذي يهاجر إلى البلاد النائية لا يسلم من أذاهم في نفسه وعياله وماله .
الثاني : الهجرة إلى المدينة المنورة .
الثالث : الهجرة إلى الحبشة ثم العودة منها إلى مكة عندما بلغ المهاجرين أن قريشاً قد أسلموا وأنهم قد صلوا مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واصطلحوا معه .
ولعله من مكر قريش واستدراجها للمسلمين في الحبشة ، (فذكر ابن إسحق أسماء من رجع منهم وهم :
الأول : عثمان بن عفان.
الثاني : رقية بنت رسول صلى الله عليه وآله وسلم امرأة عثمان .
الثالث : أبو حذيفة ابن عتبة بن ربيعة.
الرابع : امرأته سهلة بنت سهيل.
الخامس : عبد الله بن جحش بن رئاب،
السادس : عتبة بن غزوان.
السابع : الزبير بن العوام.
الثامن : مصعب بن عمير.
التاسع : سويبط بن سعد.
العاشر : طليب بن عمير.
الحادي عشر : عبد الرحمن بن عوف.
الثاني عشر : المقداد بن عمرو.
الثالث عشر : عبد الله بن مسعود.
الرابع عشر : أبو سلمة بن عبد الاسد.
الخامس عشر: امرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة.
السادس عشر : شماس بن عثمان.
السابع عشر : سلمة بن هشام.
الثامن عشر : عياش بن أبى ربيعة وقد حبسا بمكة حتى مضت بدر وأحد والخندق.
التاسع عشر : عمار بن ياسر، وهو ممن شك فيه : أخرج إلى الحبشة أم لا والمختار أنه لم يهاجر إلى الحبشة.
العشرون : معتب بن عوف.
الحادي والعشرون : عثمان بن مظعون.
الثاني والعشرون : ابنه السائب.
الثالث والعشرون : قدامة بن مظعون.
الرابع والعشرون : عبد الله بن مظعون.
الخامس والعشرون : خنيس بن حذافة.
السادس والعشرون : هشام بن العاص بن وائل، وقد حبس بمكة إلى ما بعد الخندق.
السابع والعشرون : عامر بن ربيعة.
الثامن والعشرون : امرأته ليلى بنت أبي حثمة.
التاسع والعشرون : عبد الله بن مخرمة.
الثلاثون : عبد الله بن سهيل بن عمرو، وقد حبس حتى كان يوم بدر فانحاز إلى المسلمين فشهد معهم بدرا.
الحادي والثلاثون : أبو سبرة بن أبي رهم.
الثاني والثلاثون : امرأته أم كلثوم بنت سهيل.
الثالث والثلاثون : السكران بن عمرو بن عبد شمس.
الرابع والثلاثون : امرأته سودة بنت زمعة، وقد مات بمكة قبل الهجرة إلى المدينة , وخلف على امرأته سودة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس والثلاثون : سعد بن خولة.
السادس والثلاثون : أبو عبيدة بن الجراح.
السابع والثلاثون : عمرو بن الحارث بن زهير.
الثامن والثلاثون : سهيل ابن بيضاء.
التاسع والثلاثون : عمرو بن أبى سرح.
فجميعهم: ثلاثة وثلاثون رجلا)( ) مع ست من المؤمنات .
الرابع : الهجرة إلى الحبشة ثم الرجوع منها إلى المدينة المنورة كما في هجرة جعفر الطيار والذي عاد هو وأصحابه إلى المدينة المنورة في السنة السابعة للهجرة , وأعتنقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال 🙁 “ما أدري بأيهما أنا أشد فرحا أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر”)( ) .
لقد توافد رهط من المسلمين على الحبشة حتى وصل عددهم ثلاثة وثمانين رجلاً وامرأة ، إذ إختاروا الأمر الجامع بين أمور :
الأول : البقاء على الإسلام .
الثاني : عبادة الله .
الثالث : الأمن من الأذى .
فان قيل كيف غادروا إلى الحبشة والنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال أذى وحياته مهددة من قبل المشركين ، والجواب من جهات :
الأولى : لم يغادر المهاجرون إلى الحبشة إلا بأمر من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ (قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهى أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه) ( ) .
وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا من تصديق لنبوة عيسى عليه السلام , وفيه دعوة للمسلمين في أجيالهم المتعاقبة للإقرار بالأديان السماوية .
الثانية : تسليم المسلمين بأن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالهجرة شعبة من الوحي ، وقد تجلت مصاديق هذا القانون بسلامتهم في الحبشة وثباتهم على دينهم .
الثالثة : إشتداد أذى قريش للمسلمين .
الرابعة : خوف المسلمين على أنفسهم من الفتنة في مكة .
الخامسة : اختيار المسلمين الفرار في دينهم , وفي هجرة لوط ورد التنزيل [إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ] ( ).
السادسة : بيان معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي إزدياد عدد المسلمين في مكة حتى مع الهجرة لدخول الناس في الإسلام على نحو متصل .
السابعة : درء الفتنة والإقتتال في مكة بين المسلمين والمشركين ، فمع ازدياد عدد المسلمين يمكن أن يحدث صدام وغضب وقتال وقتل .
وكان بعض الذين أرادوا دخول الإسلام يصعب عليهم لقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن مثل هذا اللقاء يتم في الغالب خفية في دار الأرقم بن أبي الأرقم عند جبل الصفا ، والتي سميت فيما بعد ( دار الإسلام ) , ففي قصة إسلام أبي ذر أنه دخل مكة يريد النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعدما بلغه نبأ بعثته .
وكان يخشى أن يسأل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خوفاً من قريش , فأكثر أبو ذر من الجلوس في المسجد الحرام وشرب الماء من بئر زمزم .
واستضافه الإمام علي عليه السلام ولم يسأله , وعن اليوم التالي قال أبو ذر (فمر بي علي، فقال: أما آن للرجل أن يعود ؟ قلت: لا.
قال: ما أمرك، وما أقدمك ؟ قلت: إن كتمت عليّ أخبرتك ؟ قال: أفعل.
قلت: قد بلغنا أنه قد خرج نبي.
قال: أما قد رشدت ! هذا وجهي إليه، فاتبعني وادخل حيث أدخل، فإني إن رأيت أحدا أخافه عليك، قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي ! وامض أنت.
فمضى، ومضيت معه، فدخلنا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: يا رسول الله، أعرض علي الاسلام.
فعرض علي، فأسلمت مكاني ) ( ).
أي أنهما ذهبا إلى دار الأرقم فامره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكتم اسلامه ولا يظهره لقريش ، ولا لقومه من غفار وقيده بأمر وهو (إذا بلغك ظهورنا فاقبل ).
أي أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بأن الله عز وجل سيظهر دينه ، ويعلي شأن نبيه وأصحابه ، قال تعالى [لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] ( ) ولكن أبا ذر أبى الكتمان واخفاء إسلامه ، وأظهر عدم الخشية من قريش ومن إعلان اسلامه بعد أن ايقن بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم ، فلم يؤكد عليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأمر ، ويمنعه من إظهار اسلامه ، فادرك أبو ذر نوع جواز في الإعلان مع رضاه بتحمل الأذى من كفار قريش مما يدل على ان النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يوصي أصحابه بالإبتعاد عن أسباب إثارة رجالات قريش مع قبح مسلكهم .
وكان المسلمون المهاجرون إلى الحبشة يتابعون أخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وحال أصحابه والأمور في مكة ويتطلعون إلى يوم ظهور النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على المشركين والذي أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا ذر .
وجاءت الأخبار إلى الحبشة بأن قريشاً دخلوا في الإسلام وأنهم سجدوا عندما سمعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلو آيات سورة النجم والتي تبين الربوبية المطلقة لله عز وجل [وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (النجم/43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (النجم/44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (النجم/45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (النجم/46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (النجم/47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى *وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى * هَذَا نَذِيرٌ مِنْ النُّذُرِ الْأُولَى * أَزِفَتْ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا] ( ) .
وسجد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لكون الآية الأخيرة أعلاه من آيات السجدة فسجد المسلمون وسجد رجالات قريش الحاضرون آنذاك لعظمة التنزيل إلا الوليد بن المغيرة فأنه أخذ حفنة من تراب وسجد عليها في كفةً وقال : يكفيني هذا .
وقيل أنهم سجدوا لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مدح أصنامهم بأن القى الشيطان على لسانه القول (تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهم لترجى) بعد تلاوته[أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى] ( ) وقيل أن تلك الكلمات لم يسمعها المسلمون الحاضرون ساعتئذ , إنما سمعها المشركون خاصة ، وأن الشيطان أوهم المشركين في مسامعهم وظنوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا هذه الكلمات.
ولم تثبت مسألة الغرانيق , وإن نسب القول بها إلى سعيد بن جبير ومنهم من أسنده إلى ابن عباس ، والمختار أنه لا دليل على قراءة الغرانيق العلى .
ولم تذكر في الحديث عن أهل البيت والصحابة ، ولم يذكرها أحد من مسلمي مكة قبل الهجرة ، ولا المشركين آنذاك سواء الذين بقوا على شركهم أو الذين دخلوا الإسلام قبل أو بعد فتح مكة وهم كثر .
وقال القاضي عياض (فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل.. وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب , المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم)( ).
وقال ابن خزيمة : ان هذه القصة من وضع الزنادقة .
وحينما وصل خبر اسلام وسجود قريش لله عز وجل إلى المهاجرين في الحبشة رجع شطر منهم إلى مكة للظن بانتفاء علة الهجرة ، ولما وصلوا إلى أطراف مكة علموا بعدم صحة هذا الخبر فعاد أكثرهم إلى الحبشة مرة أخرى، فمع كثرة عدد المسلمين يومئذ ممن هم في مكة ومن عادوا من الحبشة لم يتجهوا صوب المواجهة والتحدي مع قريش وحمل السلاح داخل مكة أو في أطرافها ، إنما أَختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه الصبر ، قال تعالى [وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ] ( ).
تعدي المشركين
لقد سعى الذين كفروا لغزو المدينة بذات النهج والمفهوم بإصرار منهم على الكفر والجحود ومحاربة النبوة والتنزيل ، ولكن الله عز وجل نصر نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بمدد وعون من الملائكة ، ومن معجزاته بقاء أثر ونفع الآية والمعجزة الحسية حتى بعد إنقضاء زمانها إلى جانب توثيقها في القرآن .
(عن سهل بن حنيف قال لقد رأيتنا يوم بدر وان أحدنا يشير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه) ( ).
ومنها النصر المبين للإسلام مع التباين الكبير بين جيش الذين كفروا وبين المسلمين يوم معركة بدر وأحد ومعارك الإسلام الأخرى , ورجحان كفة الكفار من جهات :
الأولى : العدد ، إذ أن عدد جيش الذين كفروا في معركة بدر نحو ألف، بينما كان عدد المسلمين في ميدان المعركة يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر .
الثانية : كثرة السيوف والدروع عند جيش المشركين وقلتها والنقص الحاصل فيها عند المسلمين .
الثالثة : مجئ جيش المشركين على الرواحل ، وكل واحد منهم على جمل أو فرس .
الرابعة : كثرة أموال كفار قريش وتسخيرها في محاربة الإسلام، والوعد للذين خرجوا معهم بالإنفاق على عوائلهم.
الخامسة : الشأن الكبير لرجالات قريش بين القبائل وأثره قبل وأثناء وبعد المعركة لولا فضل الله بفضحهم وخزيهم مع إظهار معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ووصل المسلمون إلى ميدان المعركة كل اثنين أو ثلاثة يتعاقبون بعيراً ، وكانت المسافة بين المدينة وموضع معركة بدر مائة وخمسين كيلو متراً أي أن كل واحد من المسلمين لم يصل إلى ميدان المعركة إلا وقد مشى خمسين أو مائة كيلو متر، وليس من فترة إستراحة طويلة.
لقد جعل الله القرآن الضياء والمنهاج الذي يعمل بقوانينه وأحكامه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون مع حضور الوحي في السنة النبوية، ومن قوانين نبوته الملازمة بين الكتاب والسنة وصيرورة السنة القولية والفعلية مرآة لآيات القرآن , وبياناً عملياً لمضامينها القدسية .
وقد بدأ نزول القرآن بقوله تعالى[اقْرَأْ]( ) لبيان أن العلم منهاج الإسلام وهو طريق مبارك لهداية الناس ، وجذبهم إلى مقامات الإيمان ، ويكون من معاني الآية أعلاه وجوه :
الأول : اقرأ القرآن .
الثاني : اقرأ القرآن بالتوكل على الله .
الثالث : اقرأ القرآن فان معجزتك عقلية .
الرابع : اقرأ ليؤمن الناس .
الخامس : لقد جاءتك النبوة فأقرأ ، بلحاظ الملازمة بين النبوة والعلم .
السادس : اقرأ القرآن مفتتحاً باسم الله إذ أن تمام آية اقرأ هو[اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ] ( ).
السابع : اقرأ فان في قراءة القرآن غنى عن السيف والقتال .
الثامن : اقرأ ما سيتوالى عليك من آيات وسور القرآن، وعن أبي سلمة قال جابر: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: جاورت بحراء، فلما قضيت جواري نوديت فنظرت عن يميني فلم أرَ شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أرَ شيئاً، ونظرت خلفي فلم أرَ شيئاً، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجثثت منه رعباً ، فرجعت فقلت دثروني فدثروني ، فنزلت { يا أيها المدثر قم فأنذر } إلى قوله : { والرجز فاهجر }( ))( ).
التاسع : أقم الصلاة وأقرأ فيها القرآن .
العاشر : اقرأ ليبقى القرآن في الأرض إلى يوم القيامة .
الحادي عشر : اقرأ فان كل نبي يأتيه الوحي فيقرأ .
الثاني عشر : اقرأ كلام الله .
الثالث عشر : اقرأ مع الشكر لله.
الرابع عشر : اقرأ كي يمتنع أكثر الناس عن قتالك .
الخامس عشر : اقرأ ما يأتي به جبرئيل لك من عند الله .
السادس عشر : اقرأ القرآن وأمر المسلمين أن يقرأوه .
السابع عشر : اقرأ فان في القرآن خير الدنيا والآخرة .
ومن إعجاز نظم القرآن ورود لفظ[اقْرَأْ] ثلاث مرات في القرآن اثنتين منها في سورة العلق( )، وجاءت الثالثة بخصوص الآخرة بقوله تعالى[اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا]( ).
ليكون من معاني آية [اقْرَأْ بِاسم رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ]( ) هو(اقرأ القرآن في الدنيا ليكون مدداً حاضراً لك في أيام الدنيا، وشفيعاً لك في الآخرة).
الثامن عشر : يا محمد اقرأ القرآن خمس مرات في الصلاة كل يوم (عن جابر بن عبد الله قال : أمَّ معاذ قوماً في صلاة المغرب فمر به غلام من الأنصار، وهو يعمل على بعير له ، فأطال بهم معاذ ، فلما رأى ذلك الغلام ترك الصلاة وانطلق في طلب بعيره ، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال : أفتان أنت يا معاذ ، ألا يقرأ أحدكم في المغرب بـ{سبح اسم ربك الأعلى}( ) {والشمس وضحاها})( ).
التاسع عشر : يا أيها الذين آمنوا اقرءوا باسم ربكم الذي خلق .
العشرون : اقرأ فان قراءة القرآن تبعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا .
الحادي والعشرون : اقرأ وابدأ الدعوة إلى الله بالقرآن , وأختمها بالقرآن.
الثاني والعشرون : اقرأ فإن قراءة القرآن شعبة من الصبر.
الثالث والعشرون : اقرأ فإن القراءة طريق للنصر.
الرابع والعشرون : اقرأ ليتفقه المسلمون في الدين.
الخامس والعشرون : في بداية كل معركة اقرأ باسم ربك ، لتكون هذه القراءة نفعاً وأمناً من وجوه :
الأول : منع الذين كفروا من البطش بالمسلمين .
الثاني : دعوة الناس للإيمان بالعلم والحجة والبرهان ، وهل يختص لفظ[اقْرَأْ]( ) بقراءة آيات القرآن ، الجواب لا ، إنما هو دعوة للعلم والتوكل على الله، وبذل الوسع في بيان وجوب عبادة الله والتفقه في الدين.
الثالث : بيان منهاج المسلمين إلى يوم القيامة باجتناب القتل والإقتتال .
الرابع : حفظ القرآن من التحريف والتبديل .
الخامس : التخفيف عن النبي والمسلمين والناس بتعيين صيغة الدعوة إلى الله بسلاح العلم والمعرفة وذخائر التنزيل .
وهناك مسألتان :
الأولى : قد يقال في المقام بأن اثبات شيء لشيء لا يدل على نفيه عن غيره وان الأمر من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم[اقْرَأْ]( ) لا يعني حصر الدعوة والسنة الفعلية بالقراءة خاصة مع ورود آيات مدنية أخرى تفيد الإذن بالقتال .
الثانية : هل يختص الأمر بالقراءة بمدة إقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مكة.
أما بالنسبة للمسألة الأولى، فالجواب نعم ، هذا صحيح، والمدار على الأوامر والنواهي الواردة في القرآن وبيان السنة النبوية القولية والفعلية، قال تعالى[وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ]( ).
وأما بالنسبة للمسألة الثانية فإن قراءة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للقرآن مستمرة إلى يوم القيامة، وهو من الشواهد على سلامة القرآن من التحريف.
لفظ (قل)
يمكن الجمع بين (قل) والأوامر التي نزلت في القرآن لتكرر الأمر من عند الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ[قُلْ] ومن إعجاز القرآن أن سورة الإخلاص والتوحيد من أوائل سور القرآن نزولاً ، وابتدأت بقوله تعالى[قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]( ).
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الأمر والخطاب له من عند الله بلفظ[قُلْ] وفيه محذوف , وقد يكون تقديره على وجوه :
الأول : قل يا محمد .
الثاني : قل يامحمد يا أيها الذين آمنوا قولوا.
الثالث :يا أيها الذين آمنوا قولوا .
الرابع : يا أيها الناس قولوا .
الخامس : يا رسول الله قل.
فمثلاً قوله تعالى [وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] ( ).
تكون قراءتها على وجوه :
الأول : المعنى الظاهر والجلي وهو قل يا محمد يا رسول الله…..
الثاني : يا أيها الذين آمنوا قولوا لعبادي يقولوا التي هي أحسن .
الثالث : يا أيها الناس قولوا لعبادي يقولوا التي هي أحسن .
الرابع : يا عبادي قولوا التي هي أحسن .
الخامس : يا عبادي ليقل بعضكم لبعض يقولوا التي هي أحسن .
ولم يرد لفظ[قُلْ يَاعِبَادِي]( ) في القرآن إلا مرتين، والثانية هو[قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً]( ).
والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق فالآية أعلاه من سورة الإسراء هي الأعم والأوسع لشمول الخطاب والموضوع فيها الناس جميعاً، لبيان أن القول الحسن برزخ دون القتال ، ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حياته , وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى .
فصحيح أن الأمر في لفظ [قُلْ]في القرآن يتوجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولكن الخزائن التي تترشح عنه لا تنفد إلى يوم القيامة.
وفي كل يوم من أيام الحياة الدنيا يتوجه هذا الأمر الى كل مكلف ومكلفة من جهات :
الأولى : أن يقولا مثل ما أمر الله النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم.
الثانية : أن يعملا بالأوامر التي قالها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بوحي .
الثالثة : إجتناب مانهى الله ورسوله عنه.
وقد ورد لفظ [قُلْ] في القرآن (332) مرة، ومادة (قال) هي من أكثر الألفاظ التي وردت في القرآن بعد اسم الجلالة إذ ورد في القرآن لفظقَالَ مرة ولفظقَالُوا مرة ولفظيَقُولُونَ مرة .
وليس من حصر للمواضيع والأحكام التي ورد بخصوصها لفظ [قُلْ] في القرآن إذ تشمل الإحتجاج وإقامة البرهان والإجابة على أسئلة المسلمين، وأهل الكتاب والكفار ، وفي أمور الدين والدنيا.
وقد ورد كل من لفظ[يَسْأَلُونَكَ]ولفظ [قُلْ] ثلاث مرات في آيتين متتاليتين من القرآن بقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ *فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ]( ).
ومن معاني الحكمة في الأمر الإلهي [قُلْ] بيان الأحكام , وفي الدعاء, وفي زجر الذين كفروا عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ومن وجوه هذا المنع انشغالهم بأنفسهم.
وهل تختص أقوال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنته القولية والأوامر التي تصدر منه بلفظ [قُلْ] الوارد في القرآن ، الجواب لا ، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص المطلق من جهات :
الأولى: ما ينزل به جبرئيل من غير آيات القرآن .
الثانية : الحديث القدسي .
الثالثة : الوحي من عند الله في الأمور الخاصة والعامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( ).
الرابعة : كل آية من القرآن كنز يقتبس منه النبي والمسلمون القول والفعل المناسب .
ليتجلى ضياء الهدى وسلامة النهج من وجوه :
الأول : المقَتبَس منه – بالفتح-.
الثاني : الإقتباس وحسن الإختيار .
الثالث : المقتبِس بكسر الباء .
الرابع : القصد والغاية من هذا الإقتباس , وإرادة رضا الله عز وجل والفوز بالثواب العظيم منه تعالى , قال سبحانه[أَفَمَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ]( ) ويدل الأمر من عند الله عز وجل [قل] وإرتقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم المنبر على نحو مستمر، وإجابته على أسئلة المسلمين وغيرهم وإخباره المسلمين على سنخية الجهاد في سبيل الله[بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
وفي كثرة ورود لفظ(قل) في القرآن شاهد على عدم وصول النوبة إلى الغزو والهجوم لدخول الناس الإسلام فذات القول النبوي معجزة تجذب الناس للإيمان، وفيه دعوة للصبر وتحمل الأذى .
وتضمن الأمر(قل) تجلي الأحكام والسنن وضروب البشارة والإنذار وجلب المصالح ودفع المفاسد، ويدل على أن القول والكلام هو سلاح النبوة وليس السيف والقتال، وهل ينحصر دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضد جيوش الذين كفروا وإشهارهم السيوف بدفعهم بالسيف وفي ميدان المعركة.
الجواب لا، فإن دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه وعن الإسلام والمسلمين بالقول والحجة والبرهان وتلاوة القرآن على كل حال حتى في ساحة المعركة , وفي ميدان المعركة صلاة وحرص على أدائها من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.

طرف من التخفيف
من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسباب قلة القتال بينه وبين المشركين، ومحو شدته وضراوته وقصر مدة كل معركة بينه وبين المشركين توالي نزول آيات القرآن، وبيانها للأحكام، وتعلق شطر منها بأسباب خاصة لنزولها، ليكون من مصاديق قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( )، أمور:
الأول : منع إضرار المشركين بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين.
الثاني : توالي المعارك بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين.
الثالث : عدم إستدامة المعارك بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من جهة وبين المشركين من جهة أخرى.
لقد جرت غزوات ومعارك بين القبائل العربية إستمرت لسنوات وسالت فيها دماء غزيرة وعلى أسباب شخصية بسيطة منها:
الأولى : حرب البسوس(571-577)م بين قبائل بني شيبان من قبيلة بكر بن وائل وقبيلة تغلب بن وائل , وقيل استمرت هذه الحرب عشرين سنة والمكثر يقول أربعين سنة .
وأختلف في اسم البسوس هل المراد الناقة التي قتلها كليب بن ربيعة أو أنه اسم المرأة مالكة الناقة وهي البسوس بنت منقذ التميمية إذ ورد في المثل (أخدع من سراب و ” أشأم من سراب ” وهي ناقة البسوس) ( ) مما يدل على أن البسوس اسم المرأة ، نعم ورد في اللغة : (والناقةُ البَسُوسُ: التي تدُرُّ على الإبساس) ( ) أي يقال لها بس .. بس , والناقة الفجور التي ترغو عند الحلب .
ويقال (ناقة ضارب ونوق ضوارب , وهي التي تمتنع بعد اللقح فتعز نفسها وتضرب حالبها وأنشد :
كلبّيةٌ تضرب عن أغبارها … ضرب جياد الخيل عن أمهارها
والزجور التي تدر كرها على الفصيل بعد ضرب فإذا تركت منعته .
قال ابن دريد : ناقة ممر تدر على المري وهو مسح الضرع باليد وقد مريتها على وهذا وما يكون عليه المتعدي واللازم في غالب الأمر وقال تفرشحت الناقة تفحجت للحلب) ( ).
وهذه المرأة غير البسوس من بني إسرائيل التي ورد ذكرها في التفسير في قوله تعالى [وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ] ( ).
(وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه . . . } الآية . قال : هو رجل أعطى ثلاث دعوات يستجاب له فيهن ، وكان له امرأة له منها ولد , فقالت : اجعل لي منها واحدة . قال : فلك واحدة ، فما الذي تريدين؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل .
فدعا الله فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل ، فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئاً آخر ، فدعا الله أن يجعلها كلبة ، فصارت كلبة ، فذهبت دعوتان ، فجاء بنوها فقالوا : ليس بنا على هذا قرار ، قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها ، فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليه ، فدعا الله فعادت كما كانت ، فذهبت الدعوات الثلاث وسميت البسوس) ( ).
الثانية : حرب داحس والغبراء (582-587)، وجرت بين قبائل عبس وذبيان ، وقد تقدم التفصيل في الأجزاء السابقة .
الثالثة : حرب الفجار(580-590)م بين قبائل مضر من الحجاز وقيس عيلان من تهامة، ليكون من المحو المذكور في الآية أعلاه محو وإزالة وإزاحة أمور:
الأول : محو توالي القتال بين قبائل العرب , لقد صارت أشعار العرب وثيقة تاريخية وإجتماعية ذات صبغة سياسية وأدبية , تبين حال الإمتثال والبطش بين القبائل العربية , وحرصهم على الثأر وتغنيهم به طلباً , وتنجزاً , وحاجتهم في البقاء , والحياة وتوفير لقمة الخبز , والمحافظة على الأموال والإمضاء لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
فيض النبوة
من خصائص الإقامة في الجزيرة العربية غياب الملك وحكم السلطان على أرجائها , وصعوبته , لتفرق العرب في البوادي وإغارتهم على جيش السلطان وإن صاحبوه في النهار , ولقلة الماء في الجزيرة عدم كفاية الآبار لإرواء أفراد الجيش عند مروره عليها .
وقد حدث نقص في الماء عند خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الدفاع ومقدماته ولزجر الذين كفروا , فتحضر المعجزة ويتوفر الماء للصحابة من المهاجرين والأنصار , وتتعدد الشواهد عليه , وفي يوم الحديبية عطش المسلمون عطشاً شديداً , وفزعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطلبون الماء , فقال لهم ما لكم ؟
قالوا يا رسول الله ,ليس عندنا ماء نشرب , أو نتوضأ منه , إلا الذي بين يديك من ماء قليل , وكان عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركوة وهي إناء صغير من الجلد ونحوه فيه ماء فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده في الماء فجعل ينبع من داخل الإناء بين أصابعه , وكأنه عين جارية فشرب المسلمون جميعاً, وتوضأوا منه, لتكون هذه المعجزة الحسية على وجوه :
أولاً : بيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , وفي التنزيل[وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ]( )، لبيان عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفضل ولطف من عند الله، ويمكن تقسيم العصمة إلى أقسام:
الأول : العصمة الذاتية، أي عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القول والعمل.
الثاني : العصمة الغيرية وهي دفع الله عز وجل عن النبي.
الثالث : العصمة الجامعة الذاتية الغيرية وهي التي تتعلق بسلامة فعل النبي أزاء غيره ، وقد تفضل الله بإخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن أسرار المنافقين والذين كفروا، ومن الآيات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصبر عليهم، ويتحمل الأذى، ولا يبادر للإنتقام منهم , قال تعالى[وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا]( ).
ثانياً : كل معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء كانت حسية أو عقلية إنها شاهد على صدق بنوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وباعث للناس على إتباعه بلحاظ كبرى كلية وهي أن المعجزة أمر خارق للعادة ، ولا تتم إلا بفضل ولطف من عند الله وتختص بالذين يبعثهم الله أنبياء .
ثالثاً : الزجر عن محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
رابعاً : إستعداد المسلمين للدفاع عن المعجزة وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل .
خامساً :منع المسلمين من الشك والريب والمؤاخذة في عقد صلح الحديبية والشروط الواردة فيه , وفي التنزيل [وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ,
وكانت حاجة المسلمين إلى الماء في طريقهم إلى تبوك أكثر وأشد لكثرة عدد جيش المسلمين إذ كان مجموع عددهم ثلاثين ألفاً , ولطول المسافة وبعد السفر , والأهوال المحتملة التي تنتظر الجيش في ملاقاة جيش الروم والأكثر عدداً وعدة وتدريباً .
(وعن أبي الطفيل أن معاذ بن جبل ، أخبره أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام غزوة تبوك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجمع بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء . قال : فأخر الصلاة يوما ، ثم خرج ، فصلى الظهر والعصر جميعا ، ثم دخل ، ثم خرج، فصلى المغرب والعشاء جميعا .
ثم قال : إنكم ستأتون غدا إن شاء الله عين تبوك ، فإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار ، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي . قال : فجئناها وقد سبق إليها رجلان ، والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء ، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل مسستما من مائها شيئا؟
فقالا: نعم ، فسبهما ، وقال لهما ما شاء الله أن يقول ، ثم غرفوا من العين بأيديهم قليلا حتى اجتمع في شيء، ثم غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه وجهه ويديه ، ثم أعادها فيها ، فجرت العين بماء كثير ، فاستقى الناس ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يوشك يا معاذ إن طالت بك الحياة أن ترى ما ها هنا قد ملئ جنانا) ( ).
وفيه مسائل :
الأولى : تجدد المعجزة الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : زيادة إيمان المسلمين السائرين إلى تبوك وعامة المسلمين , لبقاء خبر هذه المعجزة إرثاً عقائدياً عند المسلمين يبعث على تعاهد الفرائض, والعصمة من الشك والريب بالنبوة والتنزيل .
الثالثة : تحلي أفراد جيش العسرة المتوجه إلى تبوك بالصبر المقرون بالرضا بما كتب الله عز وجل لهم , وفي التنزيل [قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا]( ).
الثاني : من معاني المحو في المقام صرف ومحو العصبية القبلية، ومنع البقاء على الوثنية , وهل قوله تعالى[إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ]( )، من هذا المحو وأسبابه ونتائجه , الجواب نعم.
وكان العرب كغيرهم من الأمم يميلون إلى سماع القصص، ويصغى أكثرهم للخرافة والسرد من عالم الخيال والأساطير ومنه [مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا]( ).
الثالث : محو عبادة الأصنام ومفاهيم الشرك والضلالة في مكة وما حولها .
الرابع : محو الإنقياد لرؤساء الضلالة والغواية .
وكان هناك قصاصون يروون الحكايات عن السلاطين وملوك المناذرة والغساسنة وأخبار كسرى وقيصر، ويتناقلون أخبار أيامهم وحروبهم مع مبالغة في ذكر بطولاتهم، والإنتقاص من عدوهم وذكرهم المنهزم والخاسر.
وذكر الشعر العربي هذه الوقائع بإنحياز وعصيبة وتحريف فنزل القرآن بقصص الأنبياء وقصص أخرى تتجلى بركاتها إلى يوم القيامة[نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ]( ).
لقد بعث الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة إلى التوحيد وأداء الفرائض العبادية، ومنها الصلاة خمس مرات في اليوم، ولو بقي المشركون وسلطانهم في مكة وعند القبائل، فهل يبقى أداء الصلاة وبالكيفية التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حاله إلى يوم القيامة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم(صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِى أُصَلِّى)( ).
الجواب لا، وهو من الشواهد على عمومات قوله تعالى[وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا]( ) .
فكما أن فتح مكة ضياء ينير دروب السالكين فان بقاء دولة المشركين في مكة وامتلاء البيت الحرام بالأصنام وعكوف الناس عليها في صد الناس عن الإيمان واشاعة الشك والريب في معجزات النبوة والإستهزاء بالذين آمنوا أو أدائهم للفرائض فيقوم الأب بمنع الابن من اتيانها ، ويكره الزوج زوجته على تركها ضرر عام لأهلها وغيرهم في النشأتين.
مما يدل على أن فتحها ضرورة للناس جميعاً بما فيهم المشركون أنفسهم، فلم تكن الخصومة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومشركي قريش شخصية أو عداوة ذات أسباب قبلية أو لأمور جاه وشأن أو ثأر ، إنما كان صراعا بين الحق والباطل بين الإيمان والكفر ، بين النجاة في النشأتين والخسارة فيهما ، فلابد أن يسود الإيمان في الجزيرة ليبلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحكام الشريعة ويتلقاها المسلمون والناس بأمن وسلام ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ] ( ) .
لقد تفضل الله عز وجل وهيئ مقدمات التبليغ وأزاح أسباب المنع أو المشقة فيه ، وقال تعالى [وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا] ( ) .
لتتضمن الآية أعلاه الوعيد على الكفر بالعذاب الأليم في الآخرة والذي يدل في مفهومه على الأمن والنجاة والفوز في الدنيا والآخرة بالهدى والإيمان واتباع نهج الأنبياء في الصالحات .
ومع هذه الضرورة والحاجة فان النبي محمداً لم يغز الذين كفروا في مكة وما حولها ، ولم يبدأهم يوماً بقتال ، وكان اذا التقى الجمعان نادى بكلمة التوحيد , لتدل في مفهومها على أن التوحيد أمن من القتال والقتل في الدنيا ونجاة في الآخرة، والإمتناع عن قول كلمة التوحيد خسارة وضلالة، فكيف بمن لا يكتفي بالإمتناع عن قولها بل يقوم بمحاربة النبي وأصحابه وتجهيز الجيوش لقتاله .
قانون المأمورة
لقد دأب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الخروج في موسم الحج إلى أسواق العرب التي تقام آنذاك ، والذهاب إلى منى لعرض نفسه وما بعثه الله به على أفراد القبائل ، وفي السنة العاشرة للبعثة النبوية لقى جماعة ، فقال : من أنتم؟
قالوا : نفر من الخزرج .
وكان اسم الخزرج هو الغالب في أهل المدينة والمراد الأوس والخزرج من مدينة يثرب ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أَمِنْ مَوَالِي يَهُودَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ أَفَلَا تَجْلِسُونَ أُكَلّمُكُمْ ؟ قَالُوا : بَلَى . فَجَلَسُوا مَعَهُ فَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ وَتَلَا عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ) ( ).
ترى لماذا سألهم النبي عن الولاء بينهم وبين اليهود ، الجواب من جهات:
الأولى : بيان معرفة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأحوال العرب وتحالفاتهم .
الثانية : تعيين الأشخاص وانتمائهم فقد يكونون من أهل يثرب ولكنهم ليسوا ممن تحالف مع اليهود فيها .
الثالثة : الذي عنده ولاء مع اليهود أقرب إلى معرفة النبوة وتأريخها ، لأن اليهود أهل كتاب واتباع للنبي موسى عليه السلام .
الرابعة : إخبار هذا الوفد يهود المدينة عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما دعاهم إليه عند رجوعهم إليها لتلقيهم البشارات ببعثته خلفاً عن سلف , وتوارثهم لها .
وكأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول لهم ارجعوا فأسألوا اليهود عن نبوتي ، ولا يكون هذا السؤال , والجواب عليه هو العلة التامة للتصديق بنبوته ، فمن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ) مصاحبة المعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعدم توقف التصديق بنبوته على أتباع الأنبياء السابقين أو غيرهم من الناس ، وتخفيف تلك البشارات عن الناس وتيسر لهم الهداية والإيمان ، وتكون مقدمة لدخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بأمن وسلام .
ومن الإعجاز أن هذه البشارات على نحو الوجوب في التبليغ برسالته قال تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ] ( ) ويحتمل عدد الأنصار بالنسبة لمجموع أهل يثرب أوان الهجرة وجوهاً :
الأول : الأنصار هم الأكثر من أهل المدينة .
الثاني : إختصاص كثرة الأنصار بالنسبة للأوس والخزرج من بين عموم أهل المدينة .
الثالث : عدد الأنصار يوم دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المدينة مهاجراً هو الأقل نسبة سواء لعموم أهل المدينة أو لخصوص الأوس والخزرج .
لقد دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المدينة المنورة راكباً ناقته، ويحيط به عدد من المهاجرين والأنصار.
تطلع الرجال والنساء والصبيان من أهل المدينة وحتى اليهود إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يدخلها على ناقته وحوله أصحابه يحمل بعضهم السيوف ، وتغمر الفرحة والغبطة الجميع وينشد الصبيان أناشيد البهجة والسعادة لأمور :
الأول : سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة .
الثاني : إبتداء عهد جديد في المدينة ، يتجلى بتشريفها وإكرامها بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها ، والبركة التي تتغشى الموضع الذي يحل به ، وفي عيسى عليه السلام ورد قوله تعالى [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا] ( ) .
الثالث : صيرورة المدينة محل نزول جبرئيل بآيات القرآن .
الرابع : أهلية المسلمين في المدينة للإحتجاج على اليهود من سكانها .
الخامس : تلقي المهاجرين والأنصار الأوامر من فيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد كان عدد المسلمين فيها أضعاف الذين حضروا بيعة العقبة الثانية وعددهم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ، وكانوا تواقين لرؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتجلي المعجزات الحسية والعقلية بمرآى ومسمع منهم ، فأنعم الله عليهم وحقق لهم هذه الأماني التي تزيدهم إيماناً ، وتكون نوع طريق لهداية غيرهم من الناس .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج في منى ويقرأ عليهم القرآن ، ويلاقي في هذا السبيل أشد الأذى ، ولكن الله عز وجل أنعم عليه بأن هدى وفد الأوس والخزرج إلى الإيمان فبايعوه في سنتين متعاقبتين ، ليهاجر إليهم في المدينة ، ويتوالى نزول آيات الأحكام مما أغاظ المشركين فجهزوا الجيوش لقتاله .
لقد تلقى الأنصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وجوه :
الأول : التكبير والتهليل وقد سمعه الناس في بني عمرو بن عوف واتسع التكبير ليصل إلى أحياء المدينة المنورة ، وفي هذا التكبير مسائل :
الأولى : ارتفاع أصوات المسلمين بالتكبير لأوامره في أرجاء المدينة لتكون إعلاناً لإقامة الشعائر .
الثانية : بيان مصداق عملي لبيعة الأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : انقطاع اضطهاد قريش للمسلمين .
الرابعة : دعوة أهل المدينة للإسلام .
الخامسة : التحدي وتأكيد صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
السادسة : زجر الذين كفروا عن التعدي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
السابعة : هذا التكبير تجديد لبيعة العقبة , وعهد عملي من الأوس والخزرج على تعاهده .
الثامنة : استقبال الأنصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتكبير شاهد على أنهم لا يريدون الغزو والقتال وخوض المعارك ، إنما يريدون إقامة الفرائض وإعلاء كلمة التوحيد ، قال تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] ( ).
التاسعة : بيان مصداق لقانون شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الأمة ، وشهادة المسلمين على الناس .
الثاني : صيرورة يوم دخول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المدينة عيداً لأهلها وأجيال المسلمين لما فيه من التغيير النوعي لصالح الإسلام ، وهل هو من عمومات قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) .
الجواب نعم , وورد (عن أنس بن مالك قال لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة أضاء منها كل شئ فلما كان اليوم الذى مات فيه أظلم منها كل شئ وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا.
وروى ابن أبي خيثمة عن أنس شهدت يوم دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فلم أر يوما أحسن منه ولا أضوأ) ( ) .
الثالث :سلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من كفار قريش في الطريق إلى المدينة ، مع أنهم اجتهدوا في طلبه ، وجعلوا الجوائز الكبيرة للذي يأتي به أو يقتله ، مما يدل على أنهم كانوا يخشون وصوله إلى المدينة ، ويخافون ضياء النبوة حين وصوله إليها .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (غزا نبي من الأنبياء فقال : لقومه لا يتبعني رجل قد ناكح امرأة وهو يريد أن يبني بها ولم يبن ولا آخر قد بنى بناءاً له ولما يرفع سقفها،
ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر ولادها.قال : فغزا فدنا للدير حين صلّى العصر أو قريباً من ذلك. فقال للشمس : أنت مأمورة وأنا مأمور،
اللّهم احبسها عليّ ساعة فحبست له ساعة حتى فتح اللّه عليه. قال من علمي أنها لم تُحبس لأحد قبله ولا بعده ثم وضعت الغنيمة فجمعوا فجاءت النار ولم تأكلها فقال : إنّ فيكم غلول فليبايعني من كل قبيلة منكم رجل فبايعوه فلصقت يد رجل بيده.فقال : فيكم الغلول أنتم غللتم،
قال : فأخرجوا مثل رأس بقرة من ذهب فألقوه في الغنيمة وهو بالصعيد فأقبلت النار فأكلتها قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا وذلك لأن اللّه تعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيّبها لنا)( ).
وفي الحديث بيان لغزو الأنبياء السابقين ولابد أن هذا الغزو للدفاع ، وأن الشمس حبست ساعة لأحد الأنبياء السابقين وقيل أنها حبست ليوشع بن نون برداية الحاكم عن كعب عند محاضرته بيت المقدس لأنه وصل إليها عصر يوم الجمعة وأقتران الشمس من الغروب ودخول الليل وكان القتال محرماً عليهم بعد الغروب لحرمة العمل عندهم يوم السبت .
و(عن ابن عباس قال : تاهوا أربعين سنة ، فهلك موسى وهرون في التيه ، وكل من جاوز الأربعين سنة ، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون ، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى ، وهو الذي قيل له اليوم يوم الجمعة فهموا بافتتاحها ، فدنت الشمس للغروب ، فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا ، فنادى الشمس : إني مأمور وإنك مأمورة . فوقفت حتى افتتحها ، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط ، فقربوه إلى النار فلم تأتِ .
فقال : فيكم الغلول ، فدعا رؤوس الاسباط وهم اثنا عشر رجلاً فبايعهم ، فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال : الغلول عندك ، فأخرجه فأخرج رأس بقرة من ذهب ، لها عينان من ياقوت ، وأسنان من لؤلؤ ، فوضعا مع القربان ، فأتت النار فأكلتها) ( ).
وأيهما أكبر كمعجزة حبس الشمس وهي مأمورة أم كون ناقة رسول الله مأمورة , الجواب هو الأول .
(عن أبي العالية : أن رجلاً خالجت الريح رداءه فلعنها . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا تلعنها؛ فإنها مأمورة ، وإنه من لعن شيئاً ليس له بأهل رجعت اللعنة على صاحبها) ( ).
لقد كانت سلامة ونجاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معجزة متجددة في كل يوم من حياته ، إذ كان المشركون يطلبونه ويسعون في اغتياله خفية ، أو قتله في ميدان القتال ، وقد تقدم أنهم طلبوه في طريق الهجرة ووضعوا الجوائز لمن يقتله فانجاه الله ، ومن المعجزات يومئذ نسخ العنكبوت على فم الغار الذي دخله ، وهذا النسج تكرر من جهات :
الأولى : نسج العنكبوت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في غار ثور ، والذي نزل القرآن في توثيقه إلى يوم القيامة بقوله تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
الثانية : قيل نسج العنكبوت على النبي دواد عليه السلام حين طلبه طالوت, (إن طالوت ركب يوماً فوجد داود يمشي في البرية فقال اليوم أقتله وركض في أثره فاشتد داود في عدوه . وكان إذا فزع لم يدرك فدخل غاراً فأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فنسجت عليه فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت قال : لو كان دخل هنا لتخرق هذا النسج وانطلق طالوت وتركه فخرج داود حتى أتى جبل المتعبدين فتعبد معهم وطعن العلماء والعباد على طالوت في شأن داود فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن قتل داود إلاّ قتله فقتل خلقاً كثيراً من العباد والعلماء حتى أتى بامرأة تعلم الاسم الأعظم فأمر خبازه بقتلها فرحمها الخباز فلم يقتلها ، وقال : لعلنا نحتاج إلى عالم فتركها ثم وقع في قلب طالوت التوبة والندم على ما فعل وأقبل على البكاء حتى رحمه الناس) ( ).
ولا أصل لهذه القصة وإن نسبها في الخازن إلى أهل التفسير وأصحاب الأخبار ، إنما كان طالوت ملكاً بأمر الله عز وجل كما ورد في التنزيل [وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ] ( ) .
الثالثة : نسج العنكبوت على الصحابي عبد الله بن أنيس (قال ابن الكلبي: كان عبد الله بن أنيس مهاجرياً أنصارياً عقبياً، وشهد أحداً وما بعدها) ( ) .
وقد بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي الذي كان يجمع الجموع لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإغارة على المدينة .
وحينما قتله عبد الله رجع مسرعاً إلى المدينة فتعقبه الطلب فاختفى في الغار فنسج عليه العنكبوت ، فرجعوا عنه .
الرابعة : نسج العنكبوت على عورة زيد بن علي بن الحسين عندما صلب عرياناً في سنة احدى وعشرين ومائة بعد مقتله بالكوفة إذ بقي مصلوباً أربع سنين .
وأيهما أعظم في الإعجاز نسج العنكبوت على فم الغار في طريق هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أم مشي وبرك ناقة رسول الله كونها مأمورة من عند الله عز وجل .
الجواب هو الأول سواء في ذات المعجزة , أو في أثرها , أو بقائها ميراثاً للنبوة عند أجيال المسلمين والناس جميعاً .
وحتى الذي ينكر المعجزة يدرك أن نجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر في طريق الهجرة لا تتم لولا المشيئة الإلهية التي تتجلى بوضوح في المعجزة ، ولم يبن العنكبوت بيته على فم غار ثور فان الله عز وجل يتفضل بمعجزة مثلها أو أعظم منها ، وهل هو من مصاديق قوله تعالى [مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا] ( ) .
الجواب نعم ، ومن الإعجاز في الآية أعلاه ومصاديق عموماتها أنها جاءت بصيغة بيان قدرة الله على النسخ ولكن هذا لا يعني عدم تحقق مصداقه في آيات القرآن إنما النسخ موجود ، ولكن ليس كما يذهب جمع من المفسرين بآن آية السيف نسخت مائة آية من القرآن ، فلا أصل لهذا القول ، ومن الآيات في المقام أنه لم يرد لفظ السيف في القرآن .
لقد إعتاد أهل العلم على التساهل في رجال السند في باب السنة الدفاعية وفضائل الأعمال والمستحبات بخلاف الأحكام الشرعية، فمثلاً قال ابن معين في زياد ابن عبد الله البكائي صاحب بن اسحاق (لا بأس به في المغازي، وأما في غيرها فلا) ( ).
وقصة نسج العنكبوت على فم غار ثور صحيحة , ورويت عن ابن عباس .
لقد كان فتيان قريش يحملون العصي والقسي والهراوات , ومعهم الدليل الذي يقتفي الأثر وهو سراقة بن مالك المدلجي الذي كان يتبع ويقتص أثر أقدام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه .
وذكر أن الملائكة غطت مدخل الكهف باجنحتها ، وهذه المعجزات من مصاديق قوله تعالى [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ).
لقد حسن اسناد حديث الغار ابن حجر في فتح الباري وابن كثير في البداية والنهاية .
ولا عبرة بما جاء في هذه الأيام وقال بضعف حديث غزل العنكبوت ، ولم يلحظ أقوال العلماء وشهرة الحديث المتوارثة من حين أيام النبوة إلى يومنا هذا، وامكان تلك المعجزة واقعاً .
لقد أنعم الله عز وجل عليه وعلى الناس بأن كل آية من القرآن أعظم من السيف ، وإذا كانت ضربة السيف تنتهي في حينها فان مضامين الآية القرآنية باقية في نفعها وأثرها إل يوم القيامة ، وبالسيف زهوق للروح ومغادرة لها للجسد في حال القتل ، أما الآية القرآنية فأنها حياة دائمة ، وفي قوله تعالى [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ] ( )
ورد عن فقال ابن عباس : أومن كان (ميتاً) فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس. يريد حمزة بن عبد المطلب كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها. أبو جهل،
وذلك أن أبا جهل رمى النبي صلى الله عليه وسلم بالحجارة وحمزة لم يؤمن بعد فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس،
فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع كعبد مسكين يقول : يابا يعلى أما ترى ما جاء به سفّه عقولنا وسبّ آلهتنا وخالف أبانا.
فقال حمزة : ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون اللّه) ( ).
وتنسب الآية أعلاه الإحياء في الدنيا بالإيمان إلى الله مثلما هو الذي يحيى الموتى .
ويأتي هذا الإحياء بالإسباب والمقدمات والعلل والتقريب من عند الله للعبد لمقامات الهدى والإيمان , وقد يأتي دفعة واحدة من فضل الله عز وجل.
وهل يختص الفضل ورشحات الثواب في المقام بالذي يهديه الله ويصلح حاله أم أنه يشمل غيره ، الجواب هو الثاني .
فمن خصائص النعمة الشخصية الإنتفاع الأعم منها , وصيرورتها ذخيرة وكنزاً ينهل منه المسلمون والمسلمات .
ومن معاني الآية أعلاه أن تفضل الله بهداية طائفة من الناس واقية من القتال والغزو وما يتفرع عنه من الضرر العام والخاص ، وفي الغزو أطراف:
الأول :الغازي .
الثاني: الهجوم والغزو للديار .
الثالث: المغزو .
وهل يختص الضرر في الغزو بالمغزو ، الجواب لا .
وهناك آيات قرآنية كثيرة تبين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا في حال دفاع ودفع للمشركين منها قوله تعالى [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ] ( ) بيان أن عموم الناس من أهل المدينة وأهل مكة والقرى يعلمون بتجييش القبائل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وسعيهم الحثيث لغزو المدينة المنورة .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أن الناس لم يطلبوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه قتال المشركين وملاقاتهم بالمثل أو المبادرة إلى مباغتتهم ، إنما سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أن يخشوا كيد المشركين .
وهل في الآية ميل من عموم الناس للنبوة والتنزيل ، الجواب نعم ، وهو من أسرار ورود الآية بلفظ الذين قال لهم الناس ، فان قلت هل ينخرم هذا الأمر بذكر الآية للمشركين بلفظ الناس بقوله تعالى [إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ] ( ) الجواب لا ، ولكن الآية تبين أموراً :
الأول : تقسيم أهل الجزيرة زمان النبوة إلى أقسام :
أولاً : المسلمون والذين تلقوا التحذير .
ثانياً : رؤساء الشرك الذين يجمعون الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً: الأتباع لرؤساء الشرك ، وفي التنزيل [إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ (البقرة/166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ] ( ) .
رابعاً : عامة الناس الذين مالوا إلى جهة الإسلام ، وقاموا بالتحذير ونقل أخبار عزم المشركين على التجمع وتجهيز الجيوش لقتالهم .
في طريق الهجرة
وحينما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة أخذ حفنة من تراب ونثره على رؤوس الذين اجتمعوا على بابه ليلتئذ، وهو يقرأ[يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ]( ) وقد لاقى الذين أصابهم التراب حتفهم يوم معركة بدر.
لقد بقوا على باب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الهجرة ونظروا إلى فراشه وظنوا أنه هو النائم وهم يقولون: إن هذا لمحمد نائم عليه برده إلى أن طلع الفجر، وأجهزوا عليه وإذا هو الإمام علي عليه السلام وقيل ضربوه وحبسوه ساعة ثم تركوه.
وذكرت أسماء بعض رؤساء قريش الذين كانوا ينتظرون النبي محمداً تلك الليلة وهم:
الأول : أبو جهل وأسمه عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي(572 – 623) وكان يكنى أبا الحكم وكناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا جهل بعد قتله سمية بنت خياط أم عمار تحت التعذيب طعناً بالحرباء .
وكان أبو حذيفة بن المغيرة قد أعطى سمية إلى أبي جهل ليعذبها وكان يقول لها: كيف تتركين آلهة آبائك ، وتتبعين إله محمد؟ أريني إلهك الذي تعبدين؟ ومع شدة الحال التي فيها، والتعذيب الذي تتعرض له فأنها لم تسكت بل ردت عليه بآية قرآنية[لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ]( ) .
فقال أبو جهل: لقد سحرك محمد، قالت: بل هداني إلى النور، ثم طعنها بحربة في قلبها وقيل في فرجها فماتت، وكان النبي يومئذ في مكة لم يهاجر بعد، مما يدل على توجه كفار قريش إلى قتل المسلمين وإرادة التخلص من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولما قُتل أبو جهل يوم معركة بدر، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمار: قتل الله قاتل أمك)( ).
وهل نسبة قتل سمية أم عمار إلى الله عز وجل من مصاديق قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( )، الجواب نعم، لبيان قانون وهو كثرة مصاديق وأفراد النصر الذي تذكره الآية أعلاه، وكان لأبي جهل أربعة أخوة وهم:
أولاً : الحارث بن هشام وهو ممن أسلم.
ثانياً : سلمة بن هشام، وهو من خيار الصحابة ومن مهاجري الحبشة ومع أنه أخو أبي جهل فقد سجن وعذّب في مكة لإيمانه، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو له ولغيره من المسلمين والمسلمات الذين هم تحت التعذيب يومئذ، وقتل يوم مرج الصفر سنة أربع عشرة، (وقيل بل قتل بأجنادين سنة ثلاث عشرة في جمادى الأولى قبل موت أبي بكر بأربع وعشرين ليلة)( ).
ثالثاً : العاص بن هشام.
رابعاً : خالد بن هشام، وقد قتل أبو جهل والعاص يوم بدر كافرين، وأسر خالد يومئذ، ودفع الفداء وأطلق من الأسر، ومات في مكة كافراً.
الثاني : الحكم بن أبي العاص.
الثالث : عقبة بن أبي معيط.
الرابع : النضر بن الحارث.
الخامس : أمية بن خلف.
السادس : ابن الغيطلة.
السابع : زمعة بن الأسود.
الثامن : طعمة بن عدي.
التاسع : أبو لهب.
العاشر : نبيه بن الحجاج.
الحادي عشر : منبه بن الحجاج.
وهل سعى كفار المدينة وغيرهم عند رجالات قريش لمنع هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة خاصة بعد بيعة العقبة الثانية ، الجواب نعم , والأرجح أنه من أسباب إرادتهم قتله ليلة الفراش .
الرابع : استقبال الأنصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسيوف والأسلحة ، وفيه مسائل :
الأولى : إظهار العزم على الذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : الإستعداد والتوثب للدفاع عن بيضة الإسلام .
الثالثة : إرسال رسالة للذين كفروا في المدينة ومكة بأن النبي والتنزيل صارا في منعة .
الرابعة : انتهاء فترة اضطهاد وتعذيب المسلمين الأوائل .
الخامسة : ترغيب مسلمي مكة وغيرهم بالهجرة إلى المدينة لأولوية سلامة الدين وحفظ التنزيل ، وفي اختيار الهجرة وجوه :
أولاً : استدامة الإسلام بحفظ أشخاص المسلمين .
ثانياً : بيان قانون وهو إقتران السلامة والأمن بدخول الإسلام ، فاذا كان الذين يدخلون الإسلام يقتلون من قبل الذين كفروا فان حال اليأس والقنوط تستحوذ على كثير من الناس .
ثالثاً : الهجرة نوع طريق لبناء الإسلام ، وقد أثنى الله عز وجل على ابراهيم واسماعيل في رفع قواعد البيت الحرام بقوله تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( )، وقد قام المهاجرون والأنصار بتأسيس نواة دولة الإسلام ، ورفع قواعد ومعالم الإيمان في الأرض.
رابعاً : الهجرة اعلان عملي على الثبات في مقامات الإيمان وتحدي المشاق والغربة في سبيل الله ، قال تعالى [وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] ( ).
لقد استقبل الأنصار النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عند وصوله إلى أطراف المدينة قادماً من مكة في رحلة الهجرة المحفوفة بالأخطار، بصيغة جامعة لأمرين :
الأول : تحية الملائكة وهي السلام .
الثاني : تحية النبوة، فهذا يقول : السلام عليك يا نبي الله، وهذا يقول : السلام عليكم يا رسول الله ، وآخر يقول السلام عليك يا خاتم النبيين وإحتفوا وأحاطوا به يتزودون من الطلعة البهية ، وهم مبهورون من السكينة وهيبة وضياء النبوة الذي يتغشاه، ويتطلعون إلى معرفة الآيات التي نزلت عليه في آخر أيامه في مكة وفي طريق الهجرة مما لم تبلغهم بعد ، فكان المعتمرون والمسافرون إلى مكة وعموم الركب والذي يهاجرون إلى المدينة ينقلون للأنصار وأهلها عامة الجديد الذي ينزل من القرآن مع إستقراء أسبابه ومضامينه ودلالاته .
وإذا شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحّل بينهم ويسمعون ما نزل وما ينزل من القرآن من فمه مباشرة من غير واسطة ، كما نالوا شرف حضور ساعة نزول الوحي عليه وما يعتريه إذ يتصبب عرقاً في اليوم الشديد البرودة ، لثقل وطأة التنزيل ، قال تعالى [لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ] ( ).
وعندما وصل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أطراف المدينة نزل في قباء على كلثوم بن الهدم ، وأقام في قباء أربع عشرة ليلة ، وقيل أقل وأنشاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسجداً في قباء ، وهو أول من حمل الحجارة لبنائه ، ومنهم من يقول أن عمار بن ياسر أول من بنى مسجداً ويشيرون إلى ذات المسجد وهو مسجد قباء ، وسبب هذه التسمية أمور :
الأول : إقتراح عمار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بناء المساجد .
الثاني : قيام عمار بجمع الحجارة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : إتمام عمار بناء المسجد.
ولا تكفي هذه الأسباب بنسبة بناء المسجد لعمار لموضوعية حضور شخص النبي صلى الله عيليه وآله وسلم وجهده في المقام مع شأن وجلالة قدر عمار , وحسن صحبته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ولم يقم النبي ببنائه إلا بالوحي وبأمر من عند الله لذا ورد (أن جبرائيل عليه السلام هو الذى أشار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى موضع قبلة مسجد قباء) ( ).
ومن الشواهد في مسجد قباء أمور :
الأول : بدء الأذان .
الثاني : المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار بعد قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بثمانية أشهر .
الثالث : إسلام عبد الله بن سلام .
وعن عروة قال (كان موضع مسجد قباء لامرأة يقال لها لية، كانت تربط حمارًا لها فيه، فابتنى سعدُ بن خَيْثَمَة مسجدًا، فقال أَهل مسجد الضّرار: نحن نصلي في مربط حمار ليّة!! لا، لعمر الله، لكنا نبني مسجدًا فنصلي فيه حتى يجيء أَبو عامر فيؤمنا فيه.
وكان أَبو عامر فرّ من الله ورسوله فلحق بمكة، ثم لحق بعد ذلك بالشام فتنصر، فمات بها، فأَنزل اللّه: “والَّذِينَ اتخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وكُفْرًا”( ) الآيات)( ).
ليكون من خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه بنى أول مسجد في الإسلام ، وفيه موعظة وعبرة لأجيال المسلمين والناس جميعاً من جهات :
الأولى : موضوعية المسجد في المحل والبلد الذي فيه مسلمون .
الثانية : الملازمة بين الإيمان والمسجدية ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه وهم في مكة يؤوبون إلى المسجد الحرام، أما وقد هاجروا فلا بد من مسجد يؤدون فيه الصلاة .
الثالثة : يمكن تسمية دار الهجرة في المدينة دار المسجد إذ بنى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مسجد ولم يغادر الحياة الدنيا إلا وقد تعددت فيها مساجد المسلمين، ومن الإعجاز في المقام هدم المسجد الذي بناه المنافقون لإيذاء المسلمين والمكر بهم ، قال تعالى [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ] ( ).
(وروى ليث أن شقيقاً لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر فقيل له : مسجد بني فلان لم يصلوا بعد. قال : لا أحب أن أُصلي فيه فإنه بني على ضرار وكل مسجد بني على ضرار أو رياءً أو سمعة فإن أصله ينتهي الى مسجد ضرار)( ).
ولا أصل لهذا المعنى للتباين بين قصد الإضرار وبين بناء المسجد للرياء أو السمعة ، والأصل في عمل المسلم هو الصحة.
ولو ثبت أن المسجد بني سمعة أو رياء ، فهل تجوز فيه الصلاة ، الجواب نعم ، بلا إشكال، ولا موضوعية لقصد ونية الذي بناه الضمنية، فيكفي أنه بناه لإرادة المسجد .
إنما يبين قوله تعالى [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ]( ) من بناء هذا المسجد وسيلة للإضرار بالمسلمين والكيد بهم .
ويدل بناء هذا المسجد على حقيقة وهي أن الكفار والمنافقين يريدون الإيقاع بالمسلمين حتى باسم المسجدية وإظهار الإسلام مع إخفاء الكفر.
لقد بنى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسجداً عند بني عمرو بن عوف في قباء وصلى فيه وكان يأتيهم كل سبت فيصلي فيه .فحسدهم إخوتهم من بني غنم بن عوف .
وقالوا (نبني مسجداً ونرسل الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي فيه كما صلى في مسجد إخوتنا وليصلي فيه أبو عامر النعمان الراهب إذا قدم من الشام) ( ).
وأبو عامر هو من رؤوس النفاق في المدينة وابنه حنظلة غسيل الملائكة الذي استشهد في معركة أحد ، وكان أبو عامر ترهّب في الجاهلية ولبس المسوح .
واسم أبي عامر هو عمرو بن صيفي بن زيد من الأوس , وكان قد حسد النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عندما دخل المدينة مهاجراً وأحاطه الأنصار وحفوا به ، وصار أهل المدينة يدخلون الإسلام ذكوراً أو أناثاً، أفراداً أو جماعات لتكون هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق النصر في قوله تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]( )، لبيان قانون وهو أن النصر للنبي محمد والمسلمين أعم من أن يكون في ساحة المعركة بدليل أن صلح الحديبية فتح لقوله تعالى[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا]( ).
فقال أبو عامر : ما هذا الذي جئت به ؟
وفي رواية (يا محمد بم بعثت) ( ) قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم جئت بالحنيفية دين إبراهيم ، قال أبو عامر : فانا عليها ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتج عليه بأنه أدخل في الحنيفية ما ليس منها , وقال له أين ما كان يخبرك الأحبار من صنعتي.
عندئذ قال أبو عامر أمات الله الكاذب مناّ طريداً وحيداً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آمين ، وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي بدأ المباهلة , وقال (الكاذب أماته الله طريداً وحيداً ” فقال أبو عامر: آمين)( ).
وقد غادر أبو عامر المدينة إلى مكة , ومعه نفر من قومه بعد النصر العظيم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر.
وصار يحرض قريشاً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجاء معهم إلى معركة أحد ، وهو يقول لقريش إن قومي سيلحقون بي عندما يعلمون بمقامي معكم ، ولكن الأوس حينما سمعوا نداءه شتموه ونعتوه بالفاسق .
وبعد أن تم فتح مكة والطائف خرج أبو عامر إلى الشام فمات هناك طريداً وحيداً .
والظاهر أن بناء هذا المسجد عند خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك إذ سأله الذي بنوه ان يصلي فيه , ومنهم يخرج.
ووديعة بن حزام ومجمع بن جارية الأنصاري ، وكانوا ينتظرون عودة أبي عامر من الشام ليصلي فيه فنزل القرآن ببيان قبح نيتهم في بنائه وسوء مقصدهم، مع نهي النبي عن الصلاة فيه لقوله تعالى [لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا] ( ).
لقد أراد المنافقون من بناء مسجد ضرار الإضرار من جهات :
الأولى : الإضرار بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإجتماع في التعريض به وبالتنزيل .
الثانية : دعوة أبي عامر الفاسق من عند قيصر الروم مع أنه حارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة أحد، وكان يبعث الرسائل إلى أهل المدينة للتحريض على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : الإضرار بأهل مسجد قباء .
الرابعة : النقص في جماعة مسجد قباء .
الخامسة : الفتنة والخصومة بين المسلمين وإعتذار بعضهم ببناء المنافقين المسجد على الظاهر ، وقال الله في مسجد ضرار والغاية منه [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ]( ) .
وهل تم بناء مسجد ضرار في ذات الوقت والمدة التي بنُيِ فيها قباء ، الجواب لا ، وقيل أنه بني في السنة التاسعة وعندما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك سألوه أن يصلي فيه فوعدهم بإن إذا رجع من تبوك فنزل القرآن به .
وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باحراقه، وعلة إزالته يشير لها القرآن من جهة الغايات الخبيثة من بنائه والأضرار التي لحقت وتلحق المسلمين بسببه .
وعندما غادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قباء مرّ على دور من دور الأنصار فمر على بني سالم فقام إليه عِتبان بن مالك , وعباس بن عبادة في رجال من بني سالم بن عوف .
فقالوا : أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة أي أنهم قدموا العهد والوعد للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للدفع عنه ، وحراسته بالرجال وعدم وصول أذى له من قريش ودعا لهم وقال :
خلوا سبيلها فانها مأمورة أي ناقته صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي طريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى العمرة في شهر ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة ، والتي وقع فيها صلح الحديبية امتنعت ناقته القصواء عن المشي ، فقال رهط من المسلمين (خلأت القصواء) .
فأجابهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم (مَا خَلَأَتْ الْقَصْوَاءُ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ ثُمّ قَالَ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطّةً يُعَظّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللّه إلّا أَعْطَيْتُهُمْ إيّاهَا ثُمّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ بِهِ فَعَدَلَ حَتّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ) ( ).
والمراد من قوله صلى الله عليه وآله وسلم : حبسها حابس الفيل أي منع الفيل من دخول مكة حينما زحف أبرهة لدخولها .
لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم تهيئة أذهان المسلمين للصلح وبيان أولويته وان كان مع قوم مشركين ، وفيه شاهد على أن النبي محمداً لا يسعى إلى القتال ، ولا يرغب فيه ، إنما هو يقدم الصلح ويدعو إليه ، وتدل هذه الدعوة بالدلالة التضمنية على الإستعداد للتسامح والعفو والصبر ، قال تعالى[وَالصُّلْحُ خَيْرٌ]( ).
وكانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه هي التي هاجر عليها من مكة ، وكان أبو بكر اشتراها من بني قشير بثمانمائة درهم وباعها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وأختلف في اسمها على أقوال :
الأول : القصواء ، ومعنى القصواء على شعبتين
الأولى :التي اقصاها صاحبها من العمل .
الثانية : الناقة التي قطع طرف أذنها( ) .
والثاني هو الأرجح وفي الحديث (إذا نزل عليه صلى اللّه عليه وآله وسلم الوَحْيُ وهو على القَصْواء تَذْرِفُ عيناها وتُرْنِفُ بأُذنيها من ثِقَلِ الوحي) ( ).
الثاني :الجدعاء هي المقطوعة الأذن أو الأذن والشفة، من الجَدع وبهذا الاسم لناقة رسول الله قال ابن اسحاق .
وقيل الجدعاء والعضباء واحد .
الثالث : المأمورة وهو الاسم المستحدث لناقة رسول الله في هذا السِفر لبيان موضوعية الوحي في سير ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فإن قلت هذا الأمر متأخر عن بداية ركوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لها من أول الهجرة , وقد يكون اسم هذه الناقة سابقا لأوان الهجرة .
والجواب هذا صحيح، ولكنها نالت هذا الاسم من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإضافة إلى رجحان أنها كانت مأمورة في مناسبات وحالات قبل الهجرة وبعدها لذا وردت التسمية على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصيغة الجملة الإسمية.
وكانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تُسبق , وجاء إعرابي على قعود فسبقها فشق على المسلمين ، فقال رسول الله (إنّ حَقّا عَلَى اللّهِ أَلّا يَرْفَعَ مِنْ الدّنْيَا شَيْئًا إلّا وَضَعَهُ) ( ).
وبخصوص فتح مكة ورد (عن ابن عمر قال : طاف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على راحلته القصواء يوم الفتح يستلم الركن بمحجنه،
فما وجد لها مناخ في المسجد،
حتّى أخرجنا إلى بطن الوادي،
فأناخت فيه،
ثمّ حمد الله وأثنى عليه،
ثمّ قال : أمّا بعد أيّها الناس،
قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية،
وفخرها بالآباء وفي بعض الألفاظ : وتعظمها بآبائها إنّما الناس رجلان،
برّ تقي كريم على الله،
وفاجر شقيّ هيّن على الله. ثمّ تلا هذه الآية : {يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل} ( )… الآية،
وقال : أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم) ( ).
وبخصوص طواف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على راحلته وتيسير أحكام الحج بلحاظ الكتاب والسنة أصدرنا البيان التالي:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
العدد: 22
التاريخ: 5/1/2012
م/ إقتراح قطار الطواف وربطه بقطار المناسك
¬¬¬¬¬ الحمد لله الذي جعل الحج فرضاً واجباً على الناس , وعيداً عبادياً متجدداً بتعاقب السنين إلى يوم القيامة، قال تعالى[وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ومن رحمة الله ومعاني الحجة بالناس إتساع الإستطاعة في هذا الزمان , وتوفر وسائط النقل السريعة والمندوحة عند المسلمين , ببركة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وبالإسناد عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: يا عدي، أسلم تسلم” فقلت: إني من أهل دين قال: “أنا أعلم بدينك منك”، فقلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: “نعم ألست من الرَّكُوسِيَّة( )، وأنت تأكل مرباع قومك؟” قلت: بلى قال: “فإن هذا لا يحل لك في دينك” قال: فلم يَعْدُ أن قالها فتواضعت لها، قال: “أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام، تقول: إنما اتبعه ضَعَفَةُ الناس ومن لا قوة له، وقد رَمَتْهم العرب.
أتعرف الحيرة؟” قلت: لم أرها، وقد سمعت بها قال: “فو الذي نفسي بيده، ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظَّعِينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد .
ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز” قلت: كسرى بن هرمز؟
قال: “نعم، كسرى بن هرمز، وليُبْذَلنَّ المال حتى لا يقبله أحد”
قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده، لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها)( ).
وتتجلى معاني عشق المسلمين للبيت الحرام , وشوقهم لأداء مناسك الحج واجباً أو مندوباً , ومنها ركن الطواف بالبيت الحرام الذي هو منهج الملائكة قبل أن يخلق آدم بألفي عام، وحينما فرض الله عز وجل الحج على الناس فلابد أنه سبحانه يعلم إستيعاب البيت والمشاعر للمسلمين من أهل الإستطاعة لو جاءوا جميعاً للحج، الأمر الذي يستلزم العمل وفق هذه القراءة بتيسير مقدمات وأسباب أداء الحج، وسعي الفقهاء والقائمين على المسجد الحرام وخدمته لتلمس أعم صيغ التسهيل ونفي الحرج بقيد الصدور من الكتاب والسنة.
وفي الخبر: طاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ناقته يستلم الحج بمحجنه) والمحجن: العصا ذات الطرف المنحني، وفيه أية في دفع الحرج ومنع الآفات التي تترشح عن الزحام , فالأصل فيه الجواز والإباحة , ليكون طواف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على دابته إعجازاً في نبوته، وتسهيلاً متقدماً زماناً لملايين المسلمين القادمين للحج في زمان العولمة، وما بعده من الأزمنة.
ولم يقف الفقهاء المتقدمون عند مسألة الطواف على الراحلة كثيراً في التحقيق والبيان لأنها لم تكن مسألة إبتلائية في زمانهم لإستيعاب المطاف لوفد الحاج آنذاك ولكنها اليوم وغداً قد تلحق بأحكام الضرورة.
لذا أقترح إتخاذ الطابق العلوي في البيت الحرام مساراً لقطارات صغيرة ومركبات متعددة عالية التقنية والدقة يركبها كبار السن والراغبون وذوو الأعذار كالمريض، وخائف الزحام، والذين يجوز لهم تعجيل الطواف والسعي وتقديمه على الموقفين، والطواف راكباً أفضل من التقديم، مع بقاء رخصة الأخير على حالها، وتكون حركة تلك الركبات بسرعة مناسبة للدعاء والتدبر مع حاسب ظاهر يبين بوضوح عدد الأشواط، وعلامة قبال الحجر الأسود للإشارة إليه، وهو من عمومات قوله صلى الله عليه وآله وسلم: خذوا عني مناسككم) وقاعد نفي الحرج في الدين، ولا ضرر ولا ضرار وبغية زيادة عدد وفد الحاج.
إن إنشاء قطار المناسك مبادرة كريمة , ولكن قطار الطواف أكثر أهمية ونفعاً وأقل كلفة، ويتغشى أيام السنة كلها، وكأني أرى قطار المناسك يربط بقطار الطواف في سكة واحدة، وفيه تسخير للعلم والمال في العبادات , قال تعالى[ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ].

عن عمران بن الحصين رضى الله عنه قال كانت ثقيف حلفاء لبنى عقيل فأسرت ثقيف رجلين من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (وأسر اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – 2) رجلا واصابوا معه العضباء – فذكر الحديث كما مضى وفيه قال وأسرت امرأة من الانصار واصيبت العضباء فكانت المرأة في الوثاق وكان القوم يريحون نعمهم بين ايدى بيوتهم فانفلتت ذات ليلة من الوثاق فأتت الابل فجعلت إذا دنت من البعير رغافتتركه حتى تنتهى إلى العضباء فلم ترغ قال وناقة منوقة فقعدت في عجزها ثم زجرتها فانطلقت ونذروا بها فطلبوها فأعجزتهم قال ونذرت إن الله انجاها لتنحرنها فلما قدمت المدينة رءاها الناس فقالوا العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت انها قد نذرت إن الله انجاها عليها لتنحرنها فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال سبحان الله بئس ما جزتها إن الله انجاها عليها لتنحرنها ، لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد.
وذكر أن امرأة أبي ذر هي التي جاءت (عَلَى الْقَصْوَاءِ رَاحِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم حَتَّى أَنَاخَتْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَذَرَتْ لَئِنْ نَجَّانِى اللَّهُ عَلَيْهَا لآكُلَنَّ مِنْ كَبِدِهَا وَسَنَامِهَا قَالَ : بِئْسَمَا جَزَيْتِهَا لَيْسَ هَذَا نَذْرًا إِنَّمَا النَّذْرُ مَا ابْتُغِىَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ) ( ) وماتت ناقة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم أيام أبي بكر .
وهل كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعمل مثل الغراب الذي بعثه الله ليواري سوأة أخيه ، عندما قتل هابيل بن آدم أخاه هابيل وعجز عن مواراة جثته ، فحملها وسار بها لأشهر متعددة حتى صارت السباع تتبعه على الرائحة.
فتفضل الله عز وجل [فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ] ( ) أو أن ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم العصباء مثل النحل في قوله تعالى[وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ]( ) .
المختار أنه أمر مختلف بفضل الله عز وجل لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بأنها مـأمورة فلابد أنها مأمورة من عند الله , لكن السور الجامع في المقام هو أن الله يوحي ويهدي بعض الوسائط من عالم الحيوان لنفع الإنسان , وهو من عمومات قوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ).
ولبيان قانون وهو أن الله أكرم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم حتى في ناقته بصيرورتها واسطة لتعيين موضع مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيامة ، وتمر الأيام ليكون قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجاوراً للمسجد النبوي وداخلاً فيه.
ليعلم المسلمون من الحجاج والمعتمرين وزوار المدينة المنورة والمسجد النبوي وقبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويسلمون عليه ، وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (من سلم علي في شئ من الارض أبلغته، ومن سلم علي عند القبر سمعته) ( ).
وعن عبد الله بن مسعود قال (إن لله ملائكة سياحين يبلغوني من أمتي السلام) ( ).
لقد شاء الله عز وجل أن تمر ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أكثر أحياء وبيوتات المدينة المنورة ويخرج أهلها ويتعهدون له بحفظه وسلامته , والوعد له بالأمن والدعة والذب عنه.
وهل يقصد هؤلاء الرهط حمايته باشخاصهم وعشيرتهم، ويذبون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويدفعون عنه أم أنهم يدفعون عنه بمجموع أهل المدينة وجميع الأوس والخزرج .
الجواب هو الأول ، وتلك آية في نصرة الأنصار وعظيم منزلتهم في الدفاع عن شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعدد وجوه الدفاع عنه، وكثرة الأطراف التي تنصره وتذب عنه ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ] ( ) ، ليكون فيه زاجر للذين كفروا عن التعدي والهجوم والغزو للمدينة ، وهل بلغتهم هذه الرسالة رسالة تعدد العهد من الأنصار , الجواب نعم .
ولكنهم إزدادوا حنقاً وغيظاً وأصروا على قصد الهجوم على المدينة ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، لقد أراد كفار قريش الذل والهوان للأمصار وعموم أهل المدينة وجعلهم يندمون على إستقبالهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصفة النبوة ، فتفضل الله عز وجل , وألبس هؤلاء الكفار لباس الخزي وجعلهم بين قتيل وأسير وتريد يوم بدر .
ليكون من معاني النصر في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) وقاية المهاجرين والأنصار من قصد الذين كفروا .
ليكون من أسرار قوله صلى الله عليه وآله وسلم (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) ( ) ) الجمع بين أمور :
الأول : النصرة الشخصية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : نصرة الرهط والعشيرة من أهل يثرب .
الثالث : نصرة قبيلة الخزرج.
الرابع : نصرة قبيلة الأوس .
وأيهما أكثر أفراداً الأوس أم الخزرج ، الجواب هو الخزرج .
وهو الذي تجلى في النسبة بينهم بيعة العقبة الأولى والثانية وفي عدد الشهداء في معركة بدر وأحد ففي بيعة العقبة الأولى حضر عشرة من الخزرج واثنان من الأوس .
أما بيعة العقبة الثانية فقد شهدها من الخزرج اثنان وستون رجلاً ، ومن الأوس أحد عشر رجلاً .
وكان الذين حضروا معركة بدر من الصحابة كالآتي :
الأول : ثلاثة وثمانون من المهاجرون .
الثاني : مائة وسبعون من الخزرج .
الثالث : واحد وستون من الأوس ( ).
الخامس : نصرة الأوس والخزرج مجتمعين ، وهو الذي تم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ، ومن إعجاز القرآن الثناء على الأوس والخزرج مجتمعين بتسميتهم بأسماء :
الأول : الأنصار كما في قوله تعالى [وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ] ( ) .
الثاني : [وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا] ( ) .
وهل كانت نصرة قبائل الأنصار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على الهجوم والغزو ، الجواب لا ، إنما كانوا يكررون نصرته بالدفاع والذب عنه ودفع القوم المشركين ، ولم يطلب منهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصرته في الهجوم والغزو ، إنما كانت آيات القرآن هي التي تجذب الأسماع وتغزو القلوب بالحق , وبما يبعث على الصلاح ، ويجعل الأمن والسلام يعم المجتمعات ، وهو الذي تجلى في مصاديق بيعة المسلمين رجالاً ونساءً للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : إرادة الأنصار في قوله تعالى [وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ]( ) وبه قال عمر بن الخطاب ومجاهد ، وعن قتادة في الآية أعلاه قال (هم هذا الحي من الأنصار أسلموا في ديارهم ، وابتنوا المساجد قبل قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسنتين ، وأحسن الله عليهم الثناء في ذلك وهاتان الطائفتان الأولتان من هذه الآية أخذتا بفضلهما ومضتا على مهلهما ، وأثبت الله حظهما في هذا الفيء) ( ).
ولكن المشهور أن أول مسجد بناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قباء إلا أن يراد من المساجد إحياؤهم لصلاة الجماعة مع مصعب بن عمير .
(عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : للمدينة عشرة أسماء هي المدينة وهي طيبة وطابة ومسكينة وجابرة ومجبورة ويَندَد ويثرب والدار) ( ).
ومن إعجاز نظم القرآن ورود قوله تعالى أعلاه مرتين في القرآن( )، وبينهما آية واحدة فقط , ويتجلى في الآية إعجاز بلحاظ أمور:
الأول : التعدد والكثرة في معنى الإيواء إذ أنه يشمل الإيواء الشخصي والنوعي للفرد والجماعة من الأنصار.
الثاني : النصر لله عز وجل كما في قوله تعالى[إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ]( )، ويقال في الآية حذف أي دين الله ورسوله.
والمختار أن الآية تحمل على ظاهرها وعلى تقدير وجود حذف أيضاً , فلا تعارض بين الأمرين، فإن قلت[اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( )، وهو لا يحتاج النصرة.
والجواب هذا صحيح , ولكن الله عز وجل يحب سعي المؤمنين في نصرته والتزلف إليه، ولا يعني حمل اللفظ على حقيقته في المقام التشبيه أو التجسيم ونحوه إنما يتعلق الأمر بفعل العباد، ويأتي نصر الله بقصد القربة وبالواسطة فإن نصرة الرسول نصرة لله عز وجل , إذ تكون نصرة الله على جهات :
الأولى : النصرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وليس من حصر لوجوه نصرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل تنحصر في أيام حياته أم أنها متصلة ومتجددة ، الجواب هو الثاني فهي مستمرة إلى يوم القيامة ، قال تعالى [فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ) .
وهذه النصرة من شكر المسلمين لله عز وجل على نعمة رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وكان الأنصار حين دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة مهاجراً قليلي المال ، ويلاقون صعوبة في الكسب والعيش ، ولا يركبون الخيل ، فأغناهم الله عز وجل ، وشمل الغنى رؤوس النفاق ولكنهم جحدوا ولم يشكروا الله ، قال تعالى [وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ] ( ).
وفي يوم حنين في السنة الثامنة للهجرة وبعد انتهاء المعركة التي إبتدأت بعدوان وهجوم مباغت من قبل هوازن وثقيف على النبي وأصحابه وهم يسيرون في طريق العودة من مكة ، والتي انتهت بنصر من عند الله لرسوله الكريم والمؤمنين .
ومن الآيات في المقام كثرة الغنائم التي وقعت بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاء الكفار معهم برحلهم ونسائهم وصبيانهم والأنعام والمواشي التي يملكون .
وقد أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ [َالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ] ( ) وأمتن عليهم فظهر العتب على وجوه وألسنة طائفة من الأنصار ، وكثرة المقالة فيهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقى قومه فاعطاهم أكثر الغنائم ولم يعط الأنصار منها إلا النزر اليسير ، فدخل سعد بن عبادة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره بالوجد الذي حلّ بساحتهم ، فلم يغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما سأل سعداً : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟
فقال : يا رسول الله ما أنا إلا من قومي ، فأمره أن يجمع الأنصار وأذن لبعض المهاجرين بالدخول معهم للمؤاخاة التي عقدها بينهم فخطبهم وبدأ بالحمد لله والثناء عليه وذكر فضله في النصر على الذين كفروا ثم قال (يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ : مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا عَلَيّ فِي أَنْفُسِكُمْ ؟ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلّالًا فَهَدَاكُمْ اللّهُ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللّهُ وَأَعْدَاءً فَأَلّفَ اللّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ قَالُوا : بَلَى ، اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنّ وَأَفْضَلُ .
ثُمّ قَالَ أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ؟ قَالُوا : بِمَاذَا نُجِيبُك يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنّ وَالْفَضْلُ .
قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ أَمَا وَاَللّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدّقْتُمْ أَتَيْتَنَا مُكَذّبًا فَصَدّقْنَاك ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاك ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاك ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاك . أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدّنْيَا تَأَلّفْت بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا .
وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إسْلَامِكُمْ أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللّهِ إلَى رِحَالِكُمْ ؟
فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْت امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ .
وَلَوْ سَلَكَ النّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا ، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ.
اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ . وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ . فَبَكَى الْقَوْمُ حَتّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا : رَضِينَا بِرَسُولِ اللّهِ قَسْمًا ، وَحَظّا . ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَتَفَرّقُوا) ( ).
ومع أن المقام مقام وقتال وحرب وغنائم فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتحدث عن القتال أو الهجوم أو الغزو إنما ذكر فضل الله عليه بالأنصار وفضله تعالى عليهم بصحبته وأن المدار على الإيمان والإسلام فلا موضوعية لمتاع الدنيا ثم دعا للأنصار وأبنائهم وذراريهم إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق وتفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى [لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ] ( ).
الثانية : النصرة للقرآن والتنزيل من وجوه :
أولاً : التصديق بنزول آيات القرآن من عند الله .
ثانياً : تلاوة آيات القرآن مع الإقرار بأنها من عند الله .
ثالثاً : تعاهد سلامة القرآن من التحريف ، فما بين الدفتين كله قرآن .
رابعاً : من وجوه نصرة القرآن تدوين آياته وحفظها والتدبر فيها وفي معانيها ودلالاتها .
خامساً : تلاوة القرآن في الصلاة .
سادساً : إكرام أهل القرآن .
(عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن لله أهلين من الناس قالوا : من هم يا رسول الله ؟ قال : أهل القرآن هم أهل الله وخاصته) ( ).
وورد ما يدل على أن عامة المسلمين والمسلمات هم أهل القرآن (عن عاصم عن علي عليه السلام قال :قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن) ( ).
وفي الحديث أعلاه مسائل :
الأولى :إكرام المسلمين والمسلمات .
الثانية : بيان قانون الملازمة بين الإنتساب للإسلام ولأهل القرآن .
الثالثة : قراءة القرآن في الصلاة كافية لنيل مرتبة أهل القرآن.
الرابعة: بعث المسلمين للعمل بأحكام القرآن والتحلي بأخلاقه .
الثالثة : النصرة للمؤمنين ، قال تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ).
(عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : انصر أخاك ظالما أو مظلوما ، إن كان مظلوما ، فانصره على من ظلمه ، وإن كان ظالما ، فرده عن الظلم) ( ).
ثم انطلقت ناقة رسول الله حتى صارت بمحاذاة دار بني بياضة فتلقاه زياد بن لبيد ومعه نفر من رجالهم ، منهم فروة بن عمرو ، فسألوا رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم الإقامة عندهم وأعلنوا تعهدهم بالدفاع عنه وحياطته ونصرته وحالوا بين ناقته وبين المسير آناً ما رجاء نزوله عندهم فشكرهم وسأل الله عز وجل لهم .
ثم قال : خلوا سبيلها فانها مأمورة ، فانطلقت وعيونهم مبهورة من طلعة رسول الله البهية .
وكذا جرى عندما وازت دار بني الحارث بن مخزوم .
ليبقى مسجد قباء صرحاً إيمانياً يدعو المسلمين إلى الإتحاد ونبذ الفرقة والشقاق ، وهل في بقائه وهدم مسجد ضرار مصداق لقوله تعالى[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا] ( ) الجواب نعم .
ويقع مسجد قباء في جنوب غرب المسجد النبوي ، ويبعد عنه 3,5 كم ، وصارت الضاحية تسمى باسمه .
وقد ورد في القرآن قوله تعالى [لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ] ( ) .
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المراد من المسجد في الآية أعلاه هو مسجده النبوي وأن في مسجد قُباء خيراً كثيراً .
(عن أبي بن كعب قال : سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال هو مسجدي هذا) ( ) وورد عن (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “صلاة في مسجد قُباء كعُمرة”)( ).
انما ورد عن عروة أن المراد في الآية هو مسجد قباء ( ).
والصحيح المراد هو المسجد النبوي ، وإن وردت هذه الآية في نظم الآيات التي تذكر مسجد ضرار والذي أنشئ حسداً للمؤمنين أهل مسجد قباء وانقاصاً لمجموعتهم .
وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مسجد قباء متوجهاً إلى وسط المدينة ضحى يوم الجمعة فادركته صلاة الجمعة عند بني سالم بن عوف فنزل وأقام الجمعة مع الخطبة في ( وادي رانوناء ) في بني سالم بن عوف ، وهي أول جمعة يصليها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ليكون من معجزاته الحسية المتجددة إقامة الجمعة في كل أصقاع الأرض .
ووادي رانوناء أحد أودية المدينة المنورة ويبدأ من جبل مقمن جنوب المدينة ويمر شمالاً بين بساتينها بين قباء والعوالي إلى أن يصل إلى منطقة قربان فبني مسجد في ذات الموضع وسمي بأسماء :
الأول : مسجد الجمعة .
الثاني : مسجد بني سالم .
الثالث : مسجد الوادي لوقوعه في وادي رانوناء .
الرابع : مسجد عاتكة .
الخامسة : مسجد القبيب .
ويمكن تقسيم المساجد التي بناها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدة تقسيمات بحسب اللحاظ ، منها :
الأول : المساجد التي بناها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة المنورة .
الثاني : المساجد التي بناها خارج المدينة .
ويمكن تقسيمها بلحاظ السلم والحرب إلى أقسام :
الأول : المساجد التي بناها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خروجه للدفاع .
الثاني : المساجد التي صلى بها النبي في الطريق فصارت مسجداً .
الثالث : المساجد التي بناها رسول الله عند الإقامة في موضع القتال .
ويمكن تقسيم المساجد بلحاظ الإبتداء والسؤال من وجوه :
الأول : المسجد الذي بناه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابتداءّ منه .
الثاني : اقتراح بعض الصحابة لبناء مسجد واستجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له .
الثالث : حاجة المحلة أو الدور أو القرية إلى المسجد .
وهل بناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمساجد مطلقاً من الوحي أم أن بعضه من الوحي ، الجواب هو الأول ، وتلك معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن بناء المساجد والأحاديث الواردة عنه صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص المساجد إنما هو بأمر ووحي من عند الله عز وجل .
واختلف الفقهاء في جواز السفر قبل الزوال من يوم الجمعة على وجوه:
الأول : جواز السفر ، وبه قال أبو حنيفة ، ويستدل على الجواز بما ورد عن ابن عباس قال (بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فِي سَرِيّةٍ فَوَافَقَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَالَ فَغَدَا أَصْحَابُهُ وَقَالَ أَتَخَلّفُ وَأُصَلّي مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ثُمّ أَلْحَقُهُمْ فَلَمّا صَلّى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَآهُ فَقَال: مَا مَنَعَك أَنْ تَغْدُوَ مَعَ أَصْحَابِك ؟ فَقَالَ أَرَدْتُ أَنْ أُصَلّيَ مَعَكُ ثُمّ أَلْحَقُهُمْ فَقَالَ ” لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ مَا أَدْرَكْتَ فَضْلَ غَدْوَتِهِمْ) ( ).
الثاني : الكراهة ،وعليه الحنابلة والمالكية والإمامية .
الثالث : الحرمة على أحد قولين للشافعي .
ويستدل عليه بما رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من سافر من دار إقامة يوم الجمعة دعت عليه الملائكة لا يصحب في سفره ولا يعان على حاجته) ( ) .
والحديث ضعيف سنداً بابن لهيعة ، ومن الرجاليين من وثقه ومنهم من ضعفه ، ونسب إلى الخلط بعد حرق كتبه ، وهذا التضعيف على شعبتين :
الأولى : الذين ضعفوا ابن لهيعة مطلقاً سواء قبل أن تحرق كتبه أو بعدها ، منهم النسائي وابن معين .
الثانية : الذي قالوا بضعفه بعد حرق كتبه .
وهل تدل مغادرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قباء الضحى من يوم الجمعة على جواز السفر قبله .
وهذا موضوع دقيق في باب الإستدلال ، والسنة الفعلية حجة في المقام ، المختار أنه خارج موضوع الإستدلال لأن الجمعة لم تّقم بعد ، ولكن لا يعني هذا ترك الخبر تماماً في المقام إنما يستأنس به على جواز السفر قبل الزوال في يوم الجمعة عند الضرورة أو وجود الراجح .
وإحتمال أدائها في موضع آخر ، إذ أدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريقه صلاة الجمعة لأول مرة في الإسلام وحضرها مائة من الصحابة ، وهو عدد كثير ، ولبيان انتفاع الضواحي التي يمر عليها صلى الله عليه وآله وسلم في هجرته ، فقد أقام عند أهل قباء عدة أيام ، وصلى عند بني سالم بن عوف صلاة الجمعة ،لتبقى تلك الواقعة خالدة ، ويصير موضع الصلاة مسجداً وصرحاً إيماناً يزوره ويصلي فيه الكثير من حجاج بيت الله الحرام والمعتمرين ، وبعد أن مرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدار بني بياضة ، وصل إلى دار بني ساعدة ، فخرج له رجال من بني ساعدة يتقدمهم سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو فعرضوا عليه الإقامة عندهم والتشرف باقامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندهم وفي حيهم ، فشكر لهم الرسول قولهم ودعا لهم وقال (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) ( ) .
عن ابن إسحق قال : كان الذين بنوا مسجد الضرار اثني عشر رجلاً:
الأول : خذام بن خالد بن عبيد بن زيد , ومن داره أخرج مسجد ضرار .
الثاني : ثعلبة بن حاطب.
الثالث : هزال بن أمية.
الرابع : معتب بن قشير.
الخامس : أبو حبيبة بن الأزعر.
السادس : عباد بن حنيف.
السابع : جارية بن عامر ويسمى حمار الدار .
الثامن : مجمع بن جارية , وهو إمامهم .
التاسع : زيد بن جارية بن عامر , الذي احترقت إليته .
العاشر : نبتل بن الحارث.
الحادي عشر : يخدج بن عثمان.
الثاني عشر : وديعة بن ثابت( ).
فسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو على راحلته حتى وصل إلى بني عدي بن النجار وهم أخوال جده عبد المطلب فظنوا أنه يقيم عندهم لأنهم أخواله ، وتقع بيوتهم شرق المسجد النبوي وقريبة منه ، وتلقاه سليط بن قيس والذي قام بتكسير أصنام بني عدي بن النجار عندما أسلم ، ثم شارك في معارك النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلها ، وقتل في واقعة الجسر .
واستقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع سليط بن قيس وجهاء بني عدي ودعوه إلى البقاء عندهم ، وتعهدوا بسلامته (يا رسول الله هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة) ( ).
فشكرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والدفاع عنه وقال (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) ( ) ودعا لهم .
ليتطلع المسلمون إلى معجزة في المقام تتجلى في ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولبيان أنهم حفظوا ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورضوا بالفعل المامورة به ، ولم يقوموا بمثل ما قام به قوم صالح من قتل الناقة مع التباين في المقام ، إذ أن ناقة صالح معجزة بذاتها ، وليس بفعل مخصوص ترشح عن ركوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يعتد أهل المدينة آية بأن تكون الناقة مأمورة ، ليكون من فضل الله عز وجل زيادة إيمان المسلمين من المهاجرين والأنصار بدخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، وفيه شاهد لليهود الذين فيها بأنه هو النبي الذي بشّرت به التوراة , وفيه دعوة لهم لنصرته .
وهل هذه الناقة يومئذ من مصاديق قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( ) الجواب نعم .
وكانت تخلية الأنصار لطريق الناقة شاهداً على حسن أدب المسلمين وتقيدهم بطاعة الله ورسوله .
حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت الناقة على مربد للتمر لغلامين منهم ، وأسماهما :
الأول : سهل بن عمرو .
الثاني : سهيل بن عمرو .
ليصبح هذا الموضع مسجداً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويكون إختياره بفضل الله ، وفيه مسائل :
الأولى : موضوعية تعيين مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : لزوم تعاهد المسجد النبوي .
الثالثة : ترغيب المسلمين والناس جميعاً بالحضور في المسجد النبوي .
الرابعة : بعث الشوق في النفوس لزيارة المسجد النبوي ، وهو من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية التي تتجلى في كل زمان فترى المسلمين يتوافدون عليه من كل بقاع الأرض .
الخامسة : صيرورة المسجد النبوي منبراً وضياء ومحلاً لتفقه المسلمين في الدين .
السادسة : تشريع قانون بناء المساجد وإتخاذ كيفية تعيين وانشاء مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باعثاً لبناء المساجد وتعاهدها وحفظها، وأداء الصلوات فيها ، وفي التنزيل [وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا]( ) لبيان قانون وهو أن المساجد حرب على الوثنية والشرك , ومفاهيم الضلالة .
السابعة : زجر الذين كفروا عن التعدي على مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثامنة : بيان سنخية وموضوع هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، فلم تكن هجرة قتال أو مقدمة له ، إنما هي عبادة لله عز وجل ومقدمة لعبادة وطاعة المسلمين لله عز وجل ، لم يكن المسجد موضعاًً لخطط القتال والحرب إنما كانت آيات القرآن تنزل فيه ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرتقي المنبر فيه فيدعو إلى التوحيد ويبين أحكام الشريعة .
والمربد نوع مخزن يوضع فيه التمر والزرع للتيبيس وعندما بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقي راكباً عليها لم ينزل ، فسارت أمتاراً قليلة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يثنيها والمسلمون حوله ينظرون .
(ثُمّ الْتَفَتَتْ إلَى خَلْفِهَا فَرَجَعَتْ إلَى مَبْرَكِهَا أَوّلَ مَرّةٍ فَبَرَكَتْ فِيهِ ثُمّ تَحَلْحَلَتْ( ) وَرَزَمَتْ وَوَضَعَتْ جِرَانَهَا) ( ).
وقام أبو ايوب خالد بن زيد فحمل رحل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونقله إلى بيته في دلالة على استضافته له .
ونزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من على الناقة وسأل عن المربد لمن هو ، فقال له معاذ بن عفراء : إنه ليتيمين في حجري وسأرضيهما منه ، فدعاهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وساومهما على المربد وثمنه ليتخذه مسجداً .
فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقبله هدية وأظهر رغبته في شرائه حتى ابتاعه منهما ليكون مسجداً .
وسيأتي فصل خاص يتعلق ببناء المسجد النبوي ومشاركة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه .
لقد كان تعيين موضع بناء المسجد النبوي معجزة وارشاداً للمسلمين بلزوم الدفاع عنه وإجتناب الغزو .
ويبين تأريخ النبوة أن مسألة المأمورة معجزة حاضرة في أيام الأنبياء ، وأن الأمر الإلهي قد يتوجه إلى الآيات الكونية أو الدواب لتعضيد وحفظ ونصرة الأنبياء .
وتفضل الله عز وجل وجعل كيفية تعيين المسجد النبوي تركة وميراثاً للمؤمنين إلى يوم القيامة بسيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتوثيق المسلمين لسنته الكريمة ، فتكون آية المأمورة بخصوص اختيار مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بداية دخوله المدينة المنورة شاهد صدق على الأخبار التي وردت بخصوص الأمر من عند الله عز وجل إلى الكائنات وإيحاء الله عز وجل للشمس والدواب لنصرتهم ، وقد ورد في القرآن تفضل الله بالوحي إلى غير الأنبياء وجنس الأنس .
قانون كل آية نصر للنبي ص والمسلمين
لقد تقدم بيان إنشاء أبواب متعددة في تفسير كل آية من القرآن لتفتح خزائن من ذخائر الآية القرآنية ، وتبعث العلماء على التحقيق ، وتأسيس وإنشاء أبواب أخرى في تفسير آيات القرآن على نحو الموجبة الكلية أو الجزئية .
وقيل نزل قوله تعالى[وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ]( ) بخصوص يوم بدر كما عن الحسن البصري ، وقيل في يوم الأحزاب ، عن مجاهد ومقاتل .
ولكن المشهور شهرة عظيمة هو أن الآية نزلت يوم معركة أحد وهو المختار، ولم يكن خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة بدر من المدينة بقصد القتال في معركة بدر ، كما أن معركة الخندق لم يرد فيها مثلما ورد بخصوص معركة بدر وأحد بقوله تعالى[يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ).
وفي قوله تعالى[وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ]( )، بيان لقانون في الحياة الدنيا ومصاديق الإبتلاء والإمتحان فيها، وإختصاص الذين كفروا بالإغواء وتحريض بعضهم لبعض وإغراء الشيطان لهم لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
وتبين الوقائع التأريخية أن المشركين هم الذين بدأوا القتال في معركة بدر، وجاءت الآية أعلاه لتؤكد هذه الحقيقة وتمنع من تحريف الوقائع والحوادث بالإضافة إلى تضمنها بياناً عن علة إصرارهم على القتال بأن الشيطان زيّن للنفس الشهوية والغضبية عند كفار قريش القتال ، وظنوا رجحان تحقيقهم النصر .
وجاء الخبر إلى جيش قريش وهم في طريقهم إلى معركة بدر بأن قافلة أبي سفيان قد إنطلقت وسلمت وصارت قريباً من مكة , وفي هذا ظفر ونصر لهم، وقيل لهم: إرجعوا فقد تحقق الغرض الذي من أجله خرجتم، وهو قول عقلائي ، إذ تنتفي الحاجة إلى القتال، ولكن أبا جهل وبعض رؤساء قريش قالوا: لا والله حتى يتحدث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا ، وذُكِرَ لنا أن نبي الله قال يومئذ : ( اللهم إن قريشاً قد أقبلت بفخرها وخيلائها لتجادل رسولك)( ).
ترى ماذا لو امتنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن الدفاع يوم بدر ، وهل يصح عدم الدفاع ، الجواب لا يصح ، إذ أن الدفاع يومئذ ضرورة ، ولو لم يدفع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن أنفسهم وعن الإسلام لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصار أصحابه بين قتيل وأسير .
ولو اجتنب كفار قريش القتال ، وقرروا الإنسحاب فهل يلحق بهم أو يطاردهم المسلمون ، الجواب لا ، ومع إلتقاء الصفين فان المسلمين لم يشهروا السلاح ولم يقوموا برمي النبال أو الحجارة على العدو ، بدليل أن أول قتيل من المسلمين هو مهجع إذ رماه المشركون بسهم ، وهو من المهاجرين قتله عامر بن الحضرمي بتحريض من أبي جهل .
ثم سقط حارثة بن سراقة أحد بني عدي بن النجار قتيلاً إذ جاءه سهم وهو يشرب الماء من الحوض فأصاب السهم نحره رماه حبان بن العرقة ، ليكون من الإعجاز في السنة النبوية الدفاعية توثيق أمور :
الأول : بدايات كل معركة من معارك الإسلام .
الثاني : ورود الأخبار عن المعارك والقتال من غير تحريف أو تشويه .
الثالث : تعدد الرواة في كل واقعة من غير تعارض بين رواياتهم ، ولا يضر الإختلاف في العدد أو الوقت ونحوه .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينئذ مشغولاً بالدعاء والتضرع إلى الله عز وجل ، وهو سبحانه القادر على صرف الذين كفروا ومنع القتال ، ولكنه ابتلاهم بالإصرار على القتال ، فأراد أن يريهم سوء عاقبة هذا الإصرار في العاجل ، ليكون سقوط سبعين وأسر سبعين منهم وهزيمة الباقين مع كثرتهم وتفوق جيشهم من جهة العدد والعدة والمؤونة ، ومن وجوه الإمتحان في الدنيا أن الأذى والضرر الحال إنذار لما هو أكبر منه إذا تمادى العبد في المعصية وإرتكاب الفاحشة .
فما خسارة كفار قريش في معركة بدر إلا إنذاراً لهم ، فان قلت لقد كانت معركة بدر ونتائجها هزيمة وخزياً لهم ، الجواب نعم ، هذا صحيح إذ يأخذ الله عز وجل الكافرين بالبلاء والشدة لعلهم يهتدون ، وليكون هذا الأخذ موعظة للمسلمين ودعوة لهم للثبات في مقامات الإيمان ، والتحلي برداء الصبر عند تلقي الأذى من المشركين .
وتحتمل هذه الدعوة وجوهاً :
الأول : أنها من مصاديق النصر في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ).
الثاني : أنها من رشحات هذا النصر .
الثالث : ليس من صلة بين نصر المسلمين في معركة بدر وبين دعوتهم إلى الثبات في مقامات الإيمان والتحلي بسنن الهدى .
والصحيح هو الأول والثاني أعلاه ، ليكون من معاني وتقدير الآية أعلاه وجوه :
الأول : لقد نصركم الله ببدر بالبقاء على الإيمان لأن هذا البقاء نعمة عظمى ، فيكون موضوع الثبات في مناهج الإيمان من مصاديق النصر في الآية من جهات :
الأولى : إنه نصر على الذين كفروا ، إذ اجتهدوا في حمل المسلمين على ترك الإيمان .
الثانية : هو نصر لسلامة المسلمين من الإرتداد .
الثالثة : إنه نصر على الخوف والوجل والنفس الشهوية وحب الدنيا .
الثاني : لقد نصركم الله ببدر لكي تبقوا على الإيمان .
الثالث : لقد نصركم الله ببدر ليزداد إيمانكم بلحاظ كبرى كلية وهي أن هذا النصر معجزة من عند الله عز وجل .
الرابع : لقد نصركم الله ببدر وسينصركم في معارك أخرى لإستصحاب المدد من عند الله ، وتفضله بنصرة الحق ، قال تعالى [وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا] ( ).
ومن منافع الآية القرآنية للمسلمين وجوه :
الأول : تثبيت المسلمين في مقامات الإيمان .
الثاني : هداية الناس إلى الإسلام .
الثالث : إشغال الذين كفروا بأنفسهم .
الرابع : إحتجاج الآية القرآنية ودفاعها عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامس : تصديق الآية القرآنية لبعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : تبعث الآية القرآنية الناس للتدبر في مضامينها القدسية ودلالاتها , وهكذا للآية القرآنية موضوعية في تحذير الناس للمسلمين من عودة ورجوع جيش الذين كفروا بعد إنسحابهم من معركة أحد كما في قوله تعالى , [الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ) .
الجواب نعم , وكذا لها موضوعية في تفويض المسلمين أمورهم إلى الله عز وجل .
السابع : في الآية القرآنية تخفيف عن المسلمين في الدعوة إلى الله عز وجل لان كل آية قرآنية تدعو إلى الهدى , وتمنع من الضلالة .
السابعة : في نزول الآية القرآنية غنى عن الغزو والهجوم لأنها سلاح سماوي .
الثامنة : في الآية القرآنية تهذيب لقول وفعل المسلمين , إذ يمتنع المسلمون عن السلب أو النهب , وهذا الإمتناع من مصاديق قوله تعالى , [إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ] ( ).

الخروج إلى بواط
لقد تقدم في الجزء السابق كيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج في الثاني عشر من شهر صفر من آخر السنة الأولى لهجرته المباركة إلى ودان , وتسمى ودان .
ورجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمصالحة مع بني ضمرة ورئيسهم مخشي بن عمرو الضمري ، ولم يقاتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقاتله أحد حتى عاد إلى المدينة ، لتستقرأ منها مسائل :
الأولى : عدم الملازمة بين خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وبين القتال ، مما يدل على أن أهل المدينة آنذاك لا يسمون هذا الخروج غزوة وان تسميتها غزوة متأخر زماناً عن أيام النبوة إلا مع ورود الدليل الخاص بهذه التسمية ، كما ورد عن بعض الصحابة مثلاً (عن جابر، قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إحدى وعشرين غزوة) ( ).
(عن زيد بن أرقم أنه سئل: كم غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال: تسع عشرة، شهد منها سبع عشرة أولهن العسيرة، أو العشيرة)( ).
(عن بريدة قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ست عشرة غزوة)( ).
ولعل التفصيل بين لفظ الغزوة والسرية ومعنى كل منهما من التابعين ورواة وكتاب السيرة.
نعم لو دار الأمر بين تلفظ الصحابة بلفظ (الغزوة ) وبين ذكرها بهذا الاسم من قبل طبقات رجال السند .
فالصحيح هو الأول لأصالة صدور اللفظ .
وهل ورد في أحاديث النبي محمد صلى عليه وآله وسلم اسم الغزوة لخروجه إلى ميادين القتال .
والظاهر لم يرد لفظ الغزوات أو غزونا على لسان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما ورد عن بعض الصحابة بالقول (غزوت مع رسول الله).
وجاء(عن جابر قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوما من جهينة فقاتلوا قتالا شديدا فلما صلينا الظهر قال المشركون لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم فاخبر جبرئيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك فذكر ذلك لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال وقالوا انه سيأتيهم صلاة هي احب إليهم من الاولاد يعني.
فلما حضرت الصلاة صفنا صفين والمشركون بيننا وبين القبلة قال فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكبرنا وركع وركعنا ثم سجد وسجد معه الصف الاول فلما قاموا سجد الصف الثاني ثم تأخر الصف الاول وتقدم الصف الثاني فقاموا مقام الاول فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكبرنا وركع وركعنا ثم سجد وسجد معه الصف الاول وقام الثاني فلما سجد الصف الثاني ثم جلسوا جميعا سلم عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ( ).
وعلى فرض وروده فانه يحمل على إرادة الدفاع للملازمة بين أمور :
الأول : النبوة وعدم التعدي .
الثاني : الرسالة من عند الله وكفاية المعجزة .
الثالث : الإسلام والسلام .
الرابع : الفتح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالحكمة والآيات ، ليكون من معاني وتقدير قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ) أنه بالقرآن والبرهان وحسن التبليغ من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يكون النصر والفتح والعز والأمن من الهزيمة والذل ، وهل الحكمة والموعظة من مصاديق العلو في قوله تعالى [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) الجواب نعم .
الخامس : التنزيل والبرهان ، ويحتمل البرهان في المقام وجوهاً :
الأول : كل آية من القرآن برهان .
الثاني : مجموع آيات القرآن حجة برهان .
الثالث: الجمع بين الآيتين من القرآن برهان .
الرابع : كل شطر من الآية القرآنية برهان وبرزخ دون القتال .
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، فصحيح أن النسبة بين كل واحد من الوجوه الثلاثة أعلاه والوجه الرابع هو العموم والخصوص المطلق ، ولكن كلَ فرد منها له موضوعيته في البرهان ، وأثره في الإستدلال والإستنباط الواقي من الهجوم والغزو والنهب .
الثانية : أولوية عقد الصلح عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتأكيد حسنه الذاتي، قال تعالى[وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ]( ).
الثالثة : بعث رسالة إلى قريش بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمضي عقود الصلح مع القبائل لقطع الطريق على كفار قريش من تحريضهم وتجييشهم على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ويعلم أفراد هذه القبائل أنهم سيحجون إلى مكة مع وجود كفار قريش فلا يخشون منهم إجراء الصلح مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيان نكتة عسكرية، وهي أن بني ضمرة من كنانة الذين أجرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم الصلح على إستعداد لمواجهة ولقاء كفار قريش .
وهل تكون الآية القرآنية حاضرة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في خروجهم للدفاع , الجواب نعم ، وهو من الإعجاز الغيري للقرآن .
ومن منافع هذا الحضور أمور :
الأول :تعاهد ذكر المسلمين لله عز وجل .
الثاني : تعليم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين على إقامة الصلاة في أوقاتها .
الثالث : من الإعجاز في تلاوة القرآن في الصلاة اليومية على نحو الوجوب العيني على كل مسلم ومسلمة قراءة المسلمين للقرآن في حال الخروج للدفاع واستمرار تلاوة عوائلهم القرآن في الصلاة حتى في حال غيبتهم وخروجهم للدفاع .
فان قلت يؤدي المسلمون الصلاة في حال الخروج للدفاع جماعة بامامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وتسقط القراءة عنهم ، والجواب إنهم يستمعون لقراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو أمر فتح للناس مرة واحدة ثم أغلق إلى يوم القيامة ، فليس من أمة غيرهم صلوا خلف خاتم النبيين وسيد المرسلين ، وفازوا بسماع تلاوته للقرآن بذات الصيغة التي نزل بها جبرئيل من عند الله عز وجل ، وهل هو من الشواهد على سلامة القرآن من التحريف ، الجواب نعم .
وهل لخروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المدينة منافع في الصلاة وسنن العبادة مطلقاً ، الجواب نعم ، إذ يكون هذا الخروج مناسبة لتعاهد عامة المهاجرين والأنصار الصلاة جماعة خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الإحتياط والإحتراز بقيام نفر منهم بحراستهم في حال وجود عدد يخشى مداهمته ، وأيهما أكثر في خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدفاعي :
الأول : حراسة الجماعة من قبل بعض الصحابة .
الثاني : الصلاة جماعة من غير حراسة .
الثالث : صلاة الخوف بأن يصلي شطر من المسلمين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين ويقف الشطر الأخر في مقابل العدو ، ثم يقومون ليحمل كل منهما محل الآخر .
في آية إعجازية لنجاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من كيد الذين كفروا , وفيه حجة .
والمختار هو الأول والثاني أعلاه بحسب الحال ، وفي الخشية من الذين كفروا أثناء الصلاة حجة على الذين كفروا من جهات :
الأولى : إرادة الذين كفروا الإجهاز على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في ساعة الصلاة .
الثانية : نزول جبرئيل بصلاة الخوف لنجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
الثالثة : بيان الحاجة لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمشركين لعدوانهم ومحاربتهم لله ولكل من :
الأول : الرسول .
الثاني : الصحابة .
الثالث : الصلاة .
الرابع : سعي الذين كفروا في صد الناس عن الإيمان ، قال تعالى [إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ] ( ) هذا جزاءهم من عند الله ، وقد قابلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر والحلم ، وهذا الصبر والحلم من الوحي ومن فضل الله .
وبواط بفتح أوله اسم جبل لجهينة من ناحية رضوى وهو جبل كبير في ناحية ينبع ، وهو قريب من مدينة ينبع التي تبعد عن المدينة نحو 230 كم ، وتبعد عن مكة نحو أربعمائة كيلو متر عند المرور بمدينة جدة .
أما الطريق المباشر بينهما فيبلغ نحو 370 كم وتقع مدينة ينبع على ساحل البحر الأحمر وسميت بهذا الاسم لكثرة الينابيع التي فيها ، وكان لون اللواء أبيض ، وحامله هو سعد بن أبي وقاص .
(وقال ابن هشام ، استعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم على المدينة سعد بن معاذ ) ( ) السائب بن عثمان بن مظعون ، والأول أصح .
وكرر المؤرخون والعلماء قول ابن اسحاق (أول ما غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأبواء ثم بواط ثم العشيرة ) ومن آيات النبوة في المقام عدم وقوع قتال في كل من هذه الغزوات مما يدل على عدم الملازمة بين الغزو وخروج النبي والقتال .
فيتكرر الخروج وما يسمى بالغزو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وليس من قتال مع المشركين ، ويرجع المسلمون إلى بيوتهم وليس معهم غنائم ولا يسألهم أهليهم عن الغنائم .
وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مائتان من أصحابه في شهر ربيع الآخر بداية السنة الثانية للهجرة ، وقيل كان يطلب عيراً لقريش عليها أمية بن خلف في مائة رجل من قريش وغلمانهم ، ومعهم ألفان وخمسمائة بعير .
ويلزم دليل لعزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إعتراض قافلة قريش أنما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه ورجعوا من غير أن يقاتلوا أو يقتل أحد ، وفيه مسائل :
الأولى : استعراض قوة المسلمين .
الثانية : تمرين المهاجرين والأنصار على الخروج من المدينة ، وتقوم كل جيوش العالم بمثل هذا التمرين وبصيغ مناسبة ، وما يسمى في هذا الزمان بالمناورة الحربية والعسكرية أو مشروع الحرب للتدريب وتحسين أداء القوات، وزيادة مهارتها عند الجيوش القدرة على القيام بهجوم مباغت وسريع يخترق ويربك العدو مع كثرة الخسائر عنه .
أما بالنسبة لخروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع ودرء شرور العدو وليس للهجوم المباغت أو السريع والغزو ، فمن سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عدم غزو قوم في بلادهم وأرضهم ، ومن القواعد التي تتدرب عليها الجيوش في التدريب والمناورة المفاجأة ، وتعدد مصدر القرار في ميدان المعركة للحاجة إلى التصرف السريع في الحالات المتغيرة في سير المعركة ، ولكن عنصر المفاجأة ومباغتة العدو في القتال والمطاردة ليس من القواعد في المعارك التي خاضها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فان قلت قد يكون هذا الأمر سبباً في تمكن العدو وأخذه زمام المبادرة، والجواب إنما يريد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإصلاح وهداية الناس وهو متوكل على الله ، ومنقطع إليه ، ويرجو المدد من عنده ، وحينما قام الناس بإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بعد واقعة أحد بأن جيش المشركين يريدون العودة , وإعادة الكرة والهجوم عليه، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم[حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ] ( ).
وإذا ما قام الذين كفروا بقتل عدد من المسلمين فان الندامة والخزي تصاحبانهم .
الثالثة : تنمية ملكة الصبر عند المسلمين وعوائلهم ، لما في هذا الخروج من أسباب الفراق ، وتعطيل بعض الأعمال أو كفاية قيام البديل بأدائها ، خاصة وأن الأنصار أهل زراعة وتتطلب هذه الزراعة السقي اليومي أو شبه اليومي مع المداراة والمتابعة .
الرابعة : البيان العملي لمصداق من مصاديق الجهاد والدفاع .
الخامسة : تهيئة أذهان الصحابة وعوائلهم إلى رجحان وقوع قتال مع المشركين ، خاصة وأن الأخبار تأتي من مكة وهي تحمل التهديد والوعيد من وجوه :
الأول : الوعيد بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لأنه سفّه أحلام قريش ، وذم آباءهم على عبادتهم الأوثان .
الثاني : التهديد والوعيد للمهاجرين بأن رجال قريش سيأتون ويعيدونهم أسرى مقيدين إلى مكة , تشمت بهم النسوان , ويقذفهم الصبيان بالحجارة .
الثالث : التحذير والإنذار للأنصار وعموم أهل المدينة على قيامهم بإيواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمهاجرين ، وإقامة الصلاة علانية في المسجد النبوي وأرجاء المدينة .
ليكون في المسجد الحرام الذي قال الله تعالى فيه [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا] ( ).
والأرض كلها ملك لله عز وجل ، فلم يأمر نبيه بالقتال في مكة إنما أمره بالهجرة وجعل المدينة داراً لإقامة الصلاة .
لقد منعوا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه في مكة حتى من صلاة المنفرد فتفضل الله ورزقه وأصحابه في ذات موضوع الصلاة في المدينة المنورة بأمور :
الأول : صلاة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأمن وسلام .
الثاني : صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه جماعة خمسة أوقات راتبة في اليوم ليتحقق مصداق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا] ( ) .
الثالث : بناء المسجد النبوي ليبقى خالداً عامراً إلى يوم القيامة ، وأنشأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبله مسجد قباء وصلى فيه أياماً .
الرابع : كثرة وتعدد صفوف صلاة الجماعة في المسجد النبوي .
وهناك مسألتان :
الأولى : هل بلغ كفار قريش إنشاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسجداً في المدينة ، وما هو ردهم .
الثانية : هل علم كفار قريش بصلاة الجماعة في المسجد النبوي وتزايد صفوف المصلين فيه .
والجواب على الأولى والثانية نعم ، وهو من أسباب تعجيلهم بجيش كبير لمعركة بدر ، فلم يكن مقصودهم إنقاذ قافلة أبي سفيان التي وصلت سالمة إلى أطراف مكة وابتعدت عن أي خطر يهددها ، ولكنهم أرادوا الإجهاز على صلاة الجماعة في المدينة ، هذه الصلاة التي صارت سبباً لجذب الناس إلى الإسلام .
الخامس : لقد كانت وفود القبائل تفد إلى المدينة المنورة جماعات وأفراداً , ومن وجوه وغايات هذه الوفود مسائل :
الأولى : رؤية شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستقراء سيماء النبوة .
الثانية : إرادة دخول الإسلام .
الثالث : إظهار النصرة والتأييد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : أداء الصلاة جماعة بإمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يحرص على اتقانهم الصلاة قبل مغادرتهم إلى أمصارهم وقراهم .
(عن عمرو بن سلمة قال : جاء نفر من الحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعوه يقول : يؤمكم أكثركم قرآنا فقدموني بين أيديهم وأنا غلام ، فكنت أأمهم في بردة موصولة ، وكان فيها ضيق ، فكنت إذا سجدت خرجت استي ز
فقالوا لأبي : ألا تغطي عنا استه ؟ وكنت أرغبهم في تعلم القرآن . قال زهير : فلم يزل إمام قومه في الصلاة وعلى جنائزهم) ( ).

خروج النبي ص إلى ذي العشيرة
العشيرة بالتصغير ويقال العشير , والعشيراء ، وفي البخاري العشير ، بعد أن رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بواط أقام في المدينة بقية ربيع الآخر من السنة الثانية وبعض جمادى الأولى ، ثم خرج واستخلف أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، وخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مائة وخمسين رجلاً وقيل مائتين ومعهم ثلاثون بعيراً يتعقبونها وعدد الإبل هذا أمارة على أن الأقرب هو أن عددهم مائة وخمسون وليس مائتين ، وحمل اللواء حمزة بن عبد المطلب .
وأخذ على دور بني دينار بن النجار ثم سار ونزل تحت شجرة ببطحاء ابن الأزهر ، وله هناك مسجد ، وبها مال يسمى المشيرب ثم هبط بليل ، والضبوعة، ثم سلك فرش ملك الذي يبعد عن المدينة نحو عشرين ميلاً ، حتى وصل إلى العشيرة من بطن ينبع فأقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه هناك بقية أيام جمادى الأولى وبضعة ليالي من جمادى الآخرة ، وقيل أن سبب الخروج هو طلب قريش إذ خرجوا من مكة يريدون الشام للتجارة ، فلم يدركهم .
ووادع فيها بني مدلج من كنانة ولم يلق قتالاً ، ولم يغز أحداً ، ولم يطمع أصحابه بغنائم , ونص نسخة الموادعة مع بني مدلج هو (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لبني مدلج؛ فإنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصر على من رامهم، على ألا يحاربوا في دين الله ما بل بدر صوفة، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا دعاهم لنصره أجابوه، عليهم بذلك ذمة الله وذمة رسوله) ( ).
لم تمر إلا أيام معدودة لا تتجاوز عشرة أيام على قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من غزوة العشيرة وهم أثناءها يقيمون الصلاة ويتلقون القرآن شاكرين لله عز وجل نعمة النبوة ونزول القرآن حتى قام كُرز بن جابر الفهري من قريش بالإغارة على سرح وأنعام لأهل المدينة ترعى في ناحية الجماء جبل في ناحية العقيق إلى جرف وبينه وبين المدينة ثلاثة أميال وساقها هو وأصحابه .
وحينما بلغ الخبر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خرج بنفسه خلف الغزاة الذين أغاروا على المدينة وحمل اللواء الإمام علي عليه السلام ، وكان اللواء ابيض واستعمل على المدينة زيد بن حارثة .
وسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم متتبعاً كرزا وأصحابه حتى بلغ وادي سفوان من ناحية بدر ، ولم يدركهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرجع إلى المدينة ويسمى هذا الخروج (غزوة بدر الأولى ) ( ) .
وسبب هذه التسمية هو قرب سفوان من بدر ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فأقام فيها ما بقي من أيام شهر جمادى الآخرة ورجباً وشعبان من السنة الثانية للهجرة .
وقد اختلف المؤرخون فمنهم من يجعل خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى العشيرة قبل الخروج خلف كرز بن جابر ، ومنهم من جعله بعد خروجه خلف كرز بن جابر .
وقد وفد كرز فيما بعد على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مسلماً وولاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم سرية المهاجرين التي بعثها في أثر العرنيين وقتل كرز يوم فتح مكة في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة ، وكان قد أخطأ الطريق هو والصحابي هو خالد الأشعر الخزاعي , وسارا في طريق غير التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقتلهما المشركون و(الذي قتل خالد الاشعر ابن أبي الجزع الجمحي)( ).
وفي شهر شعبان من السنة الثانية حولت القبلة إلى البيت الحرام ، إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يصلون إلى بيت المقدس وكان يكثر النظر إلى السماء بما يدل على تطلعه إلى نزول أمر من عند الله ، فانزل الله عز وجل قوله[قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]( ).
هجرة الحبشة ورسل قريش إلى النجاشي
قد يظن الإنسان أن إنقطاع أذى قريش عن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة خاصة وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه (لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَإِنّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ حَتّى يَجْعَلَ اللّهُ لَكُمْ فَرَجًا) ( ).
ومن الإعجاز في وصية النبي أعلاه لأصحابه أنه لم يأمرهم بالهجرة إلى الحبشة إنما أشار عليهم بالهجرة وندبهم إليها ، وقد ورد الحديث أعلاه بلفظ[لو] مما يدل على أن معناه أعم من أن يكون حرف امتناع لإمتناع ، أي إمتناع الجواب لإمتناع الشرط وامتناع الثاني لإمتناع الأول ، كما في قوله تعالى[وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ]( ) إذ يأتي حرفاً مصدرياً بمنزلة أن إلا أنه لا ينصب ما بعده وهو حرف رجاء وتمّن ، قال تعالى [وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا]( ).
ومن دلائل الإعجاز في حديث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أعلاه ، وتزكيته لملك الحبشة النجاشي ، وأنه لا يظلم عنده أحد ، أنه حين تبعث قريش وفداً له لتحريضه وحاشيته وأهل البلد على المسلمين المهاجرين فانه لن يظلمهم ولن يؤذيهم وفيه تأكيد لسلامة نهج الإسلام , وحسن إختيار المسلمين الأوائل ،وأنهم لم يظلموا أنفسهم ولا يظلمهم إلا القوم الكافرون .
فما ان علمت قريش بهجرة رهط من المسلمين والمسلمات إلى الحبشة حتى أدركوا الخطر الذي يهدد شأنهم وسلطانهم لأن الإسلام صارت له سفارة ، وعرف الناس شأن في دولة عظمى آنذاك هي الحبشة ، فقرروا إرسال وفد إلى النجاشي لتشويه سمعة المسلمين المهاجرين وتسليمهم إلى قريش .
وكما كانت الهجرة إلى الحبشة على دفعتين ، فان قريشاً أرسلوا وفدين بين كل واحد والآخر مدة من الزمن .
الوفد الأول : يتألف من عمرو بن العاص بن وائل السهمي وعمارة بن الوليد المخزومي .
الوفد الثاني : يتألف من عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة المخزومي .
أي أن عمر بن العاص ذهب إلى الحبشة بهذا الخصوص مرتين .
وعمارة بن الوليد هو أخو خالد بن الوليد أبو سليمان ، ويلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في النسب بالجد السادس مرة بن كعب بن لؤي .
إذ أن نسبة رسول الله هو (محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ابن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان هذا ما لم يختلف فيه أحد من الناس وقد روي من أخبار الآحاد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نسب نفسه كذلك إلى نزار بن معد بن عدنان)( ).
وكانت عمارة بن الوليد ذا جمال وهيئة حسنة ، وودود للنساء بحسن الحديث معهن والتزلف إليهن ، وكان كل من عمارة وعمرو بن العاص يذهبان إلى الحبشة للتجارة ، وكان الوليد والد عمارة صاحب تجارة رائجة وصلات تجارية في مكة وعموم الجزيرة والشام والحبشة , وكان لعمارة ستة من الأخوة الذكور هم :
الأول : خالد بن الوليد .
الثاني : العاصي .
الثالث : أبو قيس .
الرابع : عبد شمس .
الخامس : هشام .
السادس : الوليد .
وله أختان هما فاطمة ، وفاضلة وينتمي عمارة إلى قبيلة بني مخزوم أحد بطون قريش ، وكان منها رجال من أوائل الذين أسلموا منهم الأرقم بن ابي الأرقم الذي كانت داره أول مدرسة وموضع يجتمع فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة على حذر وخيفة من كفار قريش ، وقيل أول من هاجر إلى الحبشة أبو سلمة بن عبد الأسد ورجع من الحبشة وشهد بدراً , وقد آخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين حمزة بن عبد المطلب وهو أخوه من الرضاعة , أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب بعد أن أرضعت حمزة ثم النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وتوفي أبو سلمة في جمادى الآخرة سنة ثلاث من الهجرة بعد جراحة رجعت عليه , وقال حين وفاته : (اللهم اخلفني في أهلي بخير) ( ).
فتفضل الله عز وجل بأن تزوج رسول صلى الله عليه وآله وسلم أم سلمة لتصبح أماً للمؤمنين ويشملها قوله تعالى , [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] ( ).
وعمارة الذي بعثته قريش إلى النجاشي هو الذي عرضت قريش دفعه لأبي طالب ليكون له ولداً على أن يسلمهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ليقتلوه إذ قالوا (يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى من قريش وأجمله فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك و دين آبائك و فرق جماعة قومك و سفه أحلامهم فنقتله فإنما هو رجل كرجل قال : و الله لبئس ما تسومونني أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه هذا و الله ما لا يكون أبدا) ( ).
(وعن أنس أن عمه يعني: أنس بن النضر غاب عن قتال بَدر، فقال: غُيّبتُ عن أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المشركين، لئن الله أشهدني قتالا للمشركين، لَيَرَيَنّ الله ما أصنع.
قال: فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون.
فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني: أصحابه وأبرأ إليك مما جاء هؤلاء يعني: المشركين ثم تقدم فلقيه سعد يعني: ابن معاذ دون أحد، فقال: أنا معك.
قال سعد: فلم أستطع أن أصنع ما صنع.
قال: فوجد فيه بضع وثمانون ضربة سيف، وطَعنةَ رمح، ورمية سهم. وكانوا يقولون: فيه وفي أصحابه [نزلت] : { فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ })( ).
(عن ابن عباس قال : لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهاجر إلى المدينة ، قال لأصحابه : تفرقوا عني ، فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل ، ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل ، فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض ، فالحقوا بي . فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت ، فأصبحوا بمكة فأخذهم المشركون وأبو جهل ، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى ، فجعلوا يضعون درعاً من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه ، فإذا ألبسوها إياه قال : أحد . . أحد . . وأما خباب ، فجعلوا يجرونه في الشوك .
وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقيةً ، وأما الجارية ، فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدها فأدخل الحربة في قلبها حتى قتلها ،ظاهر الخبر أن هذه الجارية غير سمية أم عمار التي هي من بني مخزوم , من غطفان وكانت أمة عند أبي حذيفة بن المغيرة , ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار ، فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبروه بالذي كان من أمرهم ، واشتد على عمار الذي كان تكلم به .
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت : أكان منشرحاً بالذي قلت أم لا؟ قال : لا . قال : وأنزل الله { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان })( ).
لقد حارب الذين كفروا النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه من جهات :
الأولى : شدة إيذاء المشركين للمسلمين .
الثانية : شمول التعذيب في مكة للمسلمات .
الثالثة : سعي قريش لإستئصال الإسلام .
الرابعة : إرادة قريش قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعيين الأشخاص الذين يقومون بالقتل وساعة التنفيذ ومحله وليلته ، وقد شرعوا بالفعل ومقدمات الجناية وتوجهوا إلى فراش النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقتله لولا أن نزل جبرئيل وأمره بالهجرة .
الخامسة : حاجة المسلمين لأداء الواجبات العبادية والتفقه في الدين ، وتلقي وحفظ آيات القرآن ، إذ أن حرب قريش عليهم وسيلة لمنع حفظ آيات القرآن كاملة وسالمة من التحريف فتلك معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن يتخذ من هجرة رهط من أصحابه إلى الحبشة ثم هجرته إلى المدينة وسيلة لسلامة القرآن من التحريف .
ومن الآيات في المقام عدم وقوع الهجرة إلى الحبشة على نحو الدفعة الواحدة أو الدفعتين والثلاثة وإن كانت تذكر على أنها هجرتان ، إنما كان الصحابة في الهجرة الثانية يغادرون إلى الحبشة على دفعات كأفراد وجماعات قليلة حتى بلغ عددهم في الحبشة (اثنين وثمانين رجلاً ومن النساء ثمان عشرة امرأة ) ( ) ليقوم اللاحق في الهجرة باخبار السابق عن أمور :
الأول : آيات القرآن التي نزلت بعد الهجرة السابقة .
الثاني : أخبار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : تفسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن .
الرابع : الأوامر والنواهي التي جاءت بالسنة النبوية .
الخامس : أخبار المسلمين في مكة وما حولها .
السادس : الأفراد والجماعات الذين دخلوا في الإسلام حديثاً ليعلم المهاجر بأن أباه أو أمه أو ابنه صار مسلماً أو أن الذي كان يؤذيه في مكة دخل الإسلام وربما لحقهم الى دار الهجرة الأولى في الحبشة بعد هجرته .
السابع : الوهن والضعف الذي لحق بقريش .
الثامن : حال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصبره وجهاده في سبيل الله لإدراك الصحابة لقانون وهو حاجة أهل الأرض لسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى تمام نزول القرآن .
وتفضل الله عز وجل على المسلمين والناس بفتح مكة وإنقطاع شرور كفار قريش و(عن ابن عباس قال : لما نزلت { إذا جاء نصر الله والفتح } قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نعيت إلى نفسي إني مقبوض في تلك السنة .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت [إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ]( ), قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعيت إلى نفسي وقرب أجلي)( ).
(عن عبد الله عمر قال: نزلت هذه السورة ” إذا جاء نصر الله والفتح ” على رسول الله صلى الله عليه وآله في أوسط أيام التشريق( )) ( ).
أن سورة النصر نزلت في آخر أيام التشريق في حجة الوداع ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : الصلاة جامعة في مسجد الخيف وقيل نزلت بعد انصراف النبي من معركة حنين التي تسمى غزوة حنين مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا في حال دفاع محض وقد باغتتهم جيوش هوازن وثقيف .
وقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقراءة سورة النصر في صلاته ، إذ ورد عن الإمام علي عليه السلام (قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يُوتِرُ بِتِسْعِ سُوَرٍ مِنْ الْمُفَصَّلِ قَالَ أَسْوَدُ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ وَإِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَإِذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ وَالْعَصْرِ وَإِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَإِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ وَفِي الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَتَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ( ).
ولم تختص الهجرة بالحبشة أو الذين هاجروا إليها بل أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بالهجرة إلى المدينة عندما تبلغهم سلامة في طريق الهجرة إليها واستقراره فيها ، فقد ورد (عن ابن عباس قال : لما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهاجر إلى المدينة ، قال لأصحابه : تفرقوا عني ، فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل ، ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل ، فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض ، فالحقوا بي . فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت ، فأصبحوا بمكة فأخذهم المشركون وأبو جهل ، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى .
فجعلوا يضعون درعاً من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه ، فإذا ألبسوها إياه قال : أحد . . أحد . . وأما خباب ، فجعلوا يجرونه في الشوك ، وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقيةً ، وأما الجارية ، فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدها فأدخل الحربة في قلبها حتى قتلها ، ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار .
فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبروه بالذي كان من أمرهم ، واشتد على عمار الذي كان تكلم به . فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت : أكان منشرحاً بالذي قلت أم لا؟ قال : لا . قال : وأنزل الله { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان })( ).
لقد أغاظ قريشاً إكرام النجاشي للمسلمين واسمه اصحمة بن مجرى فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بن المغيرة وهو أخو خالد بن الوليد إلى الحبشة ، وعمارة هذا ممن دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما وضع عقبة بن أبي معيط سلا , السلا : الجلدة الصغيرة التي يكون فيه الولد من المواشي والتي عن لم تنزع عنه ساعة ولادته يموت . الجزور على ظهره وهو يصلي في البيت الحرام قبل الهجرة ، اذ أغنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء سلاحاً لتأديب المسلمين وارشادهم إليه كأمضى سلاح للقاء النجاشي وتحريضه على المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة وتخويفه وبطارقته منهم ، وقيل كان معهما عبد الله بن أبي ربيعة .
وكان كل منهما تاجراً ، قد دخل الحبشة وطاف في أسواقها ، وكانا يخرجان أحياناً معاً .
وتبادلا الشعر والقريض ، وقال عمارة لعمرو بن العاص يجيبه في شعر وجهه له :
(كم مثل أمك قد وهبت فلم … منها أثب سهماً ولا زندا
حبلى فإن تؤنث تكن أمة … لكعاء أو تذكر يكن عبدا) ( ).
وكانت أم عمرو بن العاص سلمى بنت خزيمة بن الحارث سبية وله أخوان من أمه هما عروة بن أثاثة العدوي القرشي ، وعقبة بن نافع بن عبد القيس الفهري القرشي .
وله أيضاً من الشعر .
ولست بشرب أم عمرو إذا انتشوا … ثياب الندامى بينهم كالغنائم
ولكننا يا أم عمرو نديمنا … بمنزلة الريان ليس بعارم
أسرك لما صرع القوم وانتشوا … أن أخرج منها غانماً غير غارم
خلياً كأني لم أكن كنت فيهم … وليس الخداع من تصافي التنادم ( ).
وسافر عمرو بن العاص إلى الحبشة بامرأته ، وكان من الدهاة ومعروف بالحيلة والتدبير ، ولما ركبوا البحر ، شرب الخمر , وكان عمارة جميلاً وسيماً وأراد أن تقبله امرأة عمرو بن العاص , فقال لها عمرو (قَبّلِي ابن عَمّك عُمَارَةَ لِتَطِيبَ بِذَلِكَ نَفْسُهُ) ( ).
وهوى عمارة المرأة وقيل هي أيضاً هوته , وبينما كان عمرو جالساً على طرف السفينة ليبول دفعه عمارة في البحر ليغرق ويأخذ زوجته ولم يكن عمارة يعلم أن عمرو يعرف السباحة ونادى عمرو على أصحاب السفينة , فجاءوه ورفعوه إلى السفينة فقال عمارة (أما والله لو عرفت يا عمرو أنك تسبح ما طرحتك، ولكن كنت أظنك لا تحسن السباحة) ( ), فأضمرها عمرو في نفسه ,فمن دهائه ومكره كتمان الأمر وعدم التهديد والوعيد باللسان وصيرورة الطرف الآخر في حذر أو يبادر إلى قتله ولكن عمرو قال لامرأته : قتلني ابن عمك عمارة , ومع هذه العداوة فإنما تعاونا في الإجتهاد في تحريض النجاشي وحاشيته على المهاجرين في الحبشة .
وأستعد عمرو بن العاص للمكر بعمارة , وخشي على أبيه العاص بن وائل من بني المغيرة , فكتب إليه كتاباً : أن اخلعني وتبرأ من جريرتي إلى بني المغيرة وجميع بني مخزوم , فوصل الكتاب إلى العاص مما يدل على وجود أناس وتجار يسافرون بين الحبشة ومكة وأن الرسائل والأخبار تصل إلى قريش , فمشى العاص إلى رجال من بني مخزوم وأعلن براءته من عمرو وخلعه وأنه يخشى من قتله , وقيل أن بني مخزوم تبرأوا من عمارة وفعله لأن كل واحد منهما كان فتاكاً .
ولما وصلا إلى الحبشة قاما بتوزيع الهدايا على البطارقة قبل أن يدخلا على النجاشي , وذكرا لهم أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه سفه أحلامهم , وأغرى بعض الشباب فأتبعوه , وجاءوا إلى بلادكم ونريد إعادتهم إلى بلادهم وكان الحكم إلى النجاشي بعد مقتل والده , إذ كان أبوه هو الملك وليس له ولد ألا النجاشي , وله أخ عنده اثني عشر ولداً , فقال الملأ من الحبشة , لو قتلنا الملك الذي ليس له إلا ولد واحد , وملكنا أخاه فإن له اثنا عشر ولداً يتوارثون الملك , دهراً طويلاً , وتبقى الحبشة في إستقرار بعيداً عن الإختلاف والخصومة .
وبقي النجاشي مع عمه ونشأ في حجره وصار يتولى شؤوناً كثيرة ً في المملكة , ويظهر حسن التدبير فيها , وكان يتصف بالحزم والحنكة فقربه عمه وأخذ يعتمد عليه ويفوض له شطراً من أمور المملكة , فخشى الملأ الذين قتلوا أباه أن يورثه عمه الملك وينتقم منهم لأنه يعلم بأنهم هم الذين قتلوا أباه ,وجاءوا إلى الملك وأخبروه بالريبة والخشية على أنفسهم وخيره بين أمرين :
الأول : قتل الغلام .
الثاني : إخراجه من البلاد ذليلاً .
فقال الملك : (ويحكم قتلتم أباه بالأمس، وأقتله اليوم بل أخرجوه من بلادكم، فخرجوا به فوقفوه بالسوق فباعوه من تاجر من التجار، فقذفه في سفينته، بستمائة درهم أو سبعمائة درهم) ( ).
وعند العصر هاجت سحائب الخريف , فخرج الملك يتمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته , ففزع الملأ إلى أولاده لينصبوا أحدهم ملكاً عليهم , فرأوا أنهم حمقى غير مؤهلين للسلطة وتولي شؤون البلاد ,فزلزلوا وخافوا على ضياع الملك ووجاهتهم وشأنهم ومصالح الناس , فقال بعضهم لبعض : تعلمون أن صاحب الملك الذي يحسن إدارة البلاد هو الذي بعتموه في الصباح الباكر على أحد التجار .
وقالوا (فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه قبل أن يذهب.
فخرجوا في طلبه، فأدركوه فردوه، فعقدوا عليه تاجه وأجلسوه على سريره وملكوه.) ( ).
أي انهم غلَبوا مصلحة الأمة والبلاد على الهواجس الذاتية والخشية على أنفسهم من ثار وبطش الملك بهم ,وقال الله تعالى في الثناء على نفسه وعظيم قدرته وسلطانه [يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ] ( ), وهو من مقدمات معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد شاء الله عز وجل أن يكون في الحبشة ملك عادل تأوي إليه طائفة من المسلمين .
فجاءهم التاجر فقال : ردوا علي مالي مثلما أخذتم غلامي , فأبوا أن يعطوه , فقال :إني أذهب إليه وأكلمه , فدخل التاجر على الملك , وكلمه بصفة الملك والسلطان , ولغة الكناية , وقال : أيها الملك , إني إبتعت غلاماً من قوم وقبضوا الثمن , ثم عدوا على غلامي فنزعوه من يدي , ولم يردوا علي مالي .
فنظر إليه الملك وعرف موضوعه وأنه يقصده بالذات , فقال للملأ الذين باعوه : لتردن عليه ماله أو لتجعلن يد غلامه في يده فليذهب به حيث شاء , عندئذ قالوا : بل نعطيه ماله وقال كلمته المشهورة , ما أخذ الله مني الرشوة فآخذ الرشوة حين رد عليّ ملكي ، أما رواية موسى بن عقبة فتختلف قليلاً ، فبعد أن أخبر بأن أبا النجاشي كان ملكاً على الحبشة ، وكان النجاشي صغيراً فأوصى أبوه بالملك لأخيه حتى يبلغ ابنه وأنه إذا بلغ يسلم له الملك ، ولكن أخاه بعد ان اعتلى العرش رغب في الإستمرار فيه وسعى في ازاحة النجاشي وابعاده عن الحبشة فباعه من بعض التجار ، فمات عمه من ليلته .
فقام أهل الحبشة برد النجاشي ووضعوا التاج على رأسه ، فكانت كيفية مجيء الملك للنجاشي سبباً في حرصه على العدل والإمتناع عن الظلم ، ومات النجاشي في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة ، ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم موته استغفر له وصلى عليه عن بعد .
(عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : اخرجوا فصلوا على أخ لكم ، فصلى بنا فكبر أربع تكبيرات فقال : هذا النجاشي أصحمة فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم نره قط . فأنزل الله { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله }( ) الآية) ( ).
وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال (مات اليوم رجل صالح فصلوا على أصحمة “)( ) .
لقد أكرم النجاشي المهاجرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنعهم ودفع عنهم .
ولم يسلمهم إلى وفود قريش الذين اعتمدوا أموراً للتأثير على قرار النجاشي وهي :
الأول : كثرة الهدايا للنجاشي .
الثاني : إيصال هدايا خاصة إلى البطارقة الذين يحيطون بالنجاشي ، لما لهم من موضوعية في الإستشارة والقرار .
الثالث : تعدد الوفود التي بعثتها قريش للنجاشي وحاشيته .
الرابع : إقامة الوفود أياماً عديدة في الحبشة لمعرفة سبل وكيفية تحريض النجاشي وقومه على المسلمين .
الخامس : إتخاذ الخبث والمكر لتأليب النجاشي على المسلمين كما سيأتي.
وابتلى الله عز وجل أعضاء وفد قريش فيما بينهم باسباب الأذى والخزي لهم إذ سعى عمرو للإنتقام من عمارة والتخلص منه في الحبشة ، فقد خشي منه في طريق العودة إلى مكة ، وعلم انه سيقتله طمعاً في امرأته ، وخوفاً من إنتقامه ، ولا يستطيع عمرو البطش بعمارة في الحبشة لاتصاف ملكها بالعدل فاتجه نحو الحيلة والمكر ، وفي التنزيل [وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] ( ) .
وأغرى عمرو عمارة بالتزلف إلى امرأة النجاشي والتقرب إليها لتكلمه في المسألة التي جاءوا من أجلها ويقوم بتسليم المسلمين لهم ، خاصة وان عمارة يحسن المحادثة مع النساء ويتصف بالوسامة ، فتردد إلى زوجة النجاشي وأدخلته واستمعت لقوله ، وتكرر ذهابه إليها وعمرو بن العاص يثني عليه ويظهر انبهاره من فعله ويقول له لم يبلغ أحد من العرب ما بلغته ، وكانا يقيمان في مسكن واحد ، ويرى عمرو غياب عمارة عنه .
وفجأة أظهر عمرو الشك فيما يقوله عمارة ، وطلب منه أن يأتيه بعطر ودهن للنجاشي لا يستعمله غيره ، حينما يشمه عمرو يعلم أن عمارة صادق ، فطلب عمارة هذا الدهن من زوجة النجاشي فاعطته منه وتعطر به ، فلما رجع إلى السكن وشمه عمرو وعرفه أنه العطر الخاص للنجاشي قال : أشهد أنك صادق فيما تقول ، بلغت امرأة الملك وبعض المؤرخين يغمزها في الأمر ويقول أنه أصاب منها وأنهم في الجاهلية يحلون الأمر والأصل البراءة وعدم ثبوت وقوع الزنا ، إلا أن النساء كان لهن باع في السياسة ويخالطن الرجال أو أنهم يدخلون عليهن ويبينون حاجاتهم ويشفعن لهم .
وهو أمر واسع في الممالك إذ يجمع الملك بين أمور :
الأول : إكرام الملك لعياله .
الثاني : صيرورة نصيب لعائلة الملك في السلطان من جهة الشفاعة .
الثالث : تبصرة عيال الملك بشؤون الملك وإعانتهم له ، وكشف بعض الأسرار والخفايا التي قد لا تصل إلى الملك من جهة الحاشية .
الرابع : وصول الناس إلى محل القرار .
الخامس : قضاء حوائج الناس بواسطة العائلة .
السادس : تنمية ملكة تدبير الملك عند الأبناء بواسطة عموم الأسرة ، وكأنها مكتب خاص .
السابع : قد يصعب على بعض الناس الوصول إلى خاصة الملك ، أو أن الموضوع والطلب الذي يأتي به لا يروق للخاصة إيصاله للملك ، فيتجه صوب الأسرة , وأيهما أكثر حرصاً على مصلحة وسلامة الملك اسرته أم خاصته .
والصحيح هو الأول ، ولا يقدح بهذه القاعدة الشواهد المخالفة القليلة.
وأدرك النجاشي التجرأ والتعدي الذي ارتكبه عمارة , وقال :
لولا أنه جار لنا لقتلته ، ولكن سأفعل له ما هو شر من القتل ، وقيل أمر الملك بسمله في شوارع المدينة وأمر الملك بالقضاء على رجولته التي يتباهى بها بواسطة القاء زيت مغلي على النصف السفلي من جسمه بحضور البطارقة والسحرة ، وعمارة يصرخ صراخاً عالياً ثم أمر السحرة أن يحلقوا شعره ويسكبوا عليه سائلاً ملوناً فصار عمارة ينتفض كالطير المجروح ، ولم تثبت هذه الأقوال إنما قام النجاشي بدعوة الساحرات وأمرهن بأن يسحرنه فنفخن في إحليله وعورته نفخة فهب راكضاً على وجهه إلى البيداء وخارج العمران ، فلحق بالوحوش في الجبال ، وصار ينفر من كل الناس , وليس النساء وحدهن .
واستمر على هذه الحال إلى أيام عمر بن الخطاب فجاء بعض أبناء عمه إلى الحبشة للسؤال عنه وتتبع أثره ، ووصلوا إلى الحبشة وأكثروا من السؤال والنشدة والفحص عنه ، ولم يكن أمره خفياً بلحاظ القصة التي وقعت له حتى أخبروا بأنه في جبل كذا ، يصاحب الوحوش ويرد الماء معها إذا وردت ، فكمنوا له في طريقه إلى الماء فنظروا فرأوا شعره قد غطى بدنه وطالت أظافره ، وتمزقت عنه ثيابه فلم يلبس غيرها مع مرور عشرين سنة ، فقبض عليه عبد الله بن أبي ربيعة ، الذي كان قد وفد إلى النجاشي مع عمرو بن العاص ، وجعل يذّكره بالرحم وأسماء أفراد الأسرة والعمومة وشوقهم لرؤيته .
ولكن عمارة يسعى للتخلص والإفلات منه ، وهو يقول : أرسلني يا بجير) إذ كان اسم عبد الله بن أبي ربيعة بجيراً ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبدله إلى عبد الله .
وقال عمارة ان لم ترسلني أموت ، فأبى أن يرسله ، فمات بين يديه ودفنه في موضعه لبيان الخزي الذي يلحق أعداء النبوة والإسلام الذين يصرون على محاربته .
وهل هذا الموت من أثر السحر والمواد الكيماوية التي أعطيت له أيضاً بحيث إذا مسكه أحد مات أم للهيئة والحالة التي صار عليها وحياته مع الوحوش ، أم هما معاً ، الأقرب هو الأول .
لقد بذل وفد قريش الوسع لتحريض النجاشي ضد المسلمين وبعث النفرة في نفسه وحاشيته منهم ومن عقيدتهم ووجودهم بجوارهم .
وكان عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعة المخزومي إذا قدما هدية للبطريق يسألانه أن يشير على الملك بتسليم المسلمين لهما لأنهم صبوا وخرجوا عن دين آبائهم وعصوا أشراف قومهم الذين أرسلوهما إلى الملك لإرادة تحريض البطارقة على المسلمين والتخويف منهم ومن وجودهم في الحبشة .
والبطريق هو الرئيس , والجمع البطارقة ويراد منهم رؤساء الطوائف والسادة المقربون من النجاشي ، لقد كانت أوامر قريش للوفد بأن يبدأ بتقديم الهدايا إلى البطارقة أولاً ، وبعد أن فعلا ما أمرا به توجها إلى النجاشي بصفتهما وفداً من قريش سادة مكة وزعماء الجزيرة فقربا هداياهم له ، فقبلها منهم وشكرهم عليها .
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَجِيبُوا الدَّاعِيَ وَلَا تَرُدُّوا الْهَدِيَّةَ وَلَا تَضْرِبُوا الْمُسْلِمِينَ) ( ).
(كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل الهدية ، ولا يقبل الصدقة) ( ).
وهل كان قبول النجاشي الهدية عن أدب كتابي ، وما جاء الأنبياء السابقون به ومنهم عيسى عليه السلام لأن النجاشي على دين النصرانية ، أم أنها مبادرة شخصية منه أم لعظم الهدية ، الجواب هو الأول .
والنجاشي لقب لكل ملك في الحبشة مثل اسم كسرى لملوك كسرى ، وقيصر لملوك الروم .
وبعد أن قدم الوفد إلى النجاشي هداياه ذكروا له أن بعض الشباب والغلمان من أبنائهم قد جاءوا جماعة إلى الحبشة بعد أن فارقوا دين آبائهم ، ولم يدخلوا بدين الملل ، إنما ابتدعوا ديناً جديداً ، ثم سألوه باسم أشراف قومهم وعشائرهم وأعمامهم أن يردهم عليهم ، ليكون هذا الرد إعادة لهم إلى رشدهم .
وأيد البطارقة قولهم والمسألة التي جاءوا بها ماداموا ليسوا على دينهم ولا من أتباع السيد المسيح .
قالت أم سلمة (فَغَضِبَ النّجَاشِيّ ، ثُمّ قَالَ لَاهَا اللّهِ إذَنْ لَا أُسْلِمُهُمْ إلَيْهِمَا ، وَلَا يَكَادُ قَوْمٌ جَاوَرُونِي ، وَنَزَلُوا بِلَادِي ، وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ حَتّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ عَمّا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولَانِ أَسْلَمْتهمْ إلَيْهِمَا ، وَرَدَدْتُهُمْ إلَى قَوْمِهِمْ وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا ، وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي ) ( ).
لتتجلى معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الإشارة على أصحابه بالذهاب إلى النجاشي ، وتحقق مصداق للأمن عند النجاشي ، ليرى المسلمون الأوائل منافع العدل والحاجة الخاصة والعامة إلى دفع الظلم عن أهل الإيمان والناس مطلقاً ، وتتجدد مسألة الجوار هذه في كل زمان ، ويقيض الله عز وجل من يأوي أهل الإيمان ، ويمتنع عن إعادتهم إلى المشركين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] ( ).
لقد أراد الله عز وجل أن يكون إظهار مبادئ الإسلام بالإحتجاج على المشركين في بلاد الحبشة لبيان دخول زمان الإحتجاج لإظهار معالم الدين والإخبار عن آيات التنزيل بتلاوة القرآن ، وتحدي الذين كفروا خارج مكة والجزيرة .
وهو من الشواهد على أن ثبات ونشر مبادئ الإسلام لا يلزم استعمال السلاح والهجوم أو الغزو وأنه يمكن أن يتم بالبيان وحال الدفاع عن النفس في دار الغربة والهجرة ،وفي بلد غير البلد الذي فيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فصار المهاجرون إلى الحبشة أول سفراء للإسلام وهذه السفارة متعددة من الرجال والنساء .
وقام النجاشي بدعوة المهاجرين جعفر الطيار وأصحابه ليسمع منهم ، وهذا السماع وحده شاهد على نوع حنكة وعدالة في الملك في الجملة ، إذ أنه لم يفوض الإستماع إليهم إلى وزرائه وبطارقته ، ولم يختر السرية في الإستماع إليهم ، إنما دعاهم إلى قصره وجلس على كرسيه وأدخل عليه المهاجرون .
لقد صار مجئ وفد كفار قريش إلى النجاشي وسعيهم لتحريضه والبطارقة على المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة سبباً لعرض مبادئ الإسلام في بلاط الملك بمرآى ومسمع من الوزراء والملأ والقضاء والحرس والجند ، وتلك آية في تعضيد النبوة ، وهو من أسباب سخط وحنق الذين كفروا .
وهل كانت الهجرة إلى الحبشة ، وعدم تسليم النجاشي والمهاجرين لكفار قريش من أسباب إصرار الكفار على القتال في معركة بدر ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ).
ففي ذات الوقت الذي كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يطوف على القبائل في منازلها في منى أثناء موسم الحج ليعرض عليهم نفسه ، ويدعوهم للإيمان وينتفع من مناسبة حرمة القتل والضرب في الأشهر الحرم ، تفضل الله عز وجل وجعل المهاجرين يبينون نبوته والمعجزات التي جاء بها لملك الحبشة وحاشيته ، ولم يسعوا في الأمر ولم يطلبوه ، إنما كان وفد كفار قريش هم السبب ، فدافع المسلمون عن أنفسهم ببيان الحق وذكر أخبار النبوة للنجاشي .
وتجلى الضبط وتعاهد سنن الإيمان عند مهاجري الحبشة حينما جاءهم رسول النجاشي يدعوهم ، والظاهر أنهم في ذات المدينة والعاصمة التي يقيم فيها النجاشي فبادروا على عقد إجتماع طارئ بينهم للتهيئ للقاء ، وماذا سيقولون للنجاشي حينما يسألهم ، لأنهم أمام مفترق طرق من جهات :
الأولى : البقاء في الحبشة وبأمان النجاشي .
الثانية : البقاء الموقت ، ولزوم المغادرة في فترة ومدة مخصوصة .
الثالثة : المغادرة الفورية .
الرابعة : قيام النجاشي ورجاله بتسليم المهاجرين إلى عمر بن العاص ومن معه من قريش .
الخامسة : إيداع المهاجرين في السجن .
السادسة : قتل المهاجرين .
السابعة : محاولة إكراه المهاجرين على ترك الإسلام .
الثامنة : حمل المهاجرين على دخول النصرانية .
لقد ورد في القرآن ذكر تجارة قريش ، ومن الإعجاز ورود هذا الذكر بلحاظ أفراد الزمان وفصول السنة لقوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) فذكر علماء التفسير أن رحلة الصيف إلى الشام للطافة الجو هناك ، ورحلة الشتاء إلى اليمن لحال الدفئ ، ومضمون الآية أعلاه أعم من جهتين :
الأولى : الزمان إذ أن رحلات قريش على مدار السنة ، فمثلاً جاءت قافلة أبي سفيان من الشام ، والتي وقعت معركة بدر بسببها في وسط شهر آذار من السنة 624 للميلاد ، مما يدل على وجود تجارة لقريش في الشتاء إلى الشام وعدم حصر طريق التجارة هذا بفصل الصيف ، ولا يعقل أن أبا سفيان رحل من مكة بألف بعير من أيام الصيف ليبقى هناك أكثر من ستة أشهر ثم يعود في شهر آذار .
الثانية : المكان إذ يصل رجال قريش في تجارتهم إلى أسواق مصر والحبشة والحيرة وبلاد فارس ، خاصة بعد قطع الطريق بين العراق والشام بسبب الحرب بين الدولة الفارسية والروم ، وهو الذي وثّقه القرآن بقوله تعالى [غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ] ( ) .
وهل تدل الآية أعلاه على أن تجار قريش يصلون إلى أدنى الأرض من بلاد الشام وفارس للتجارة والصلات السياسية ، الجواب نعم ، ومن معاني [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ] ( ) تيسير هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة لمعرفة أهل مكة بأحوال البلدان وأنظمة الحكم فيها ، لذا اقترح النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بعض أصحابه الهجرة إلى الحبشة لأن فيها ملكاً عادلاً يدفع الظلم عن الناس .
ولما هاجر رهط من المسلمين إلى الحبشة آمنهم النجاشي على دينهم وتركهم وشأنهم في عبادة الله وإقامة الصلاة وتلاوة القرآن ، وعن (أُمّ سَلَمَةَ بِنْتِ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ قَالَتْ لَمّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ ، جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النّجَاشِيّ ، أَمِنّا عَلَى دِينِنَا ، وَعَبَدْنَا اللّهَ تَعَالَى لَا نُؤْذَى وَلَا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ، ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا إلَى النّجَاشِيّ فِينَا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ جَلْدَيْنِ وَأَنْ يُهْدُوا لِلنّجَاشِيّ هَدَايَا مِمّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكّةَ ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا الْأُدْمُ فَجَمَعُوا لَهُ أُدْمًا كَثِيرًا) ( ).
وأختارت قريش رجلين منهم يدينان بالكفر لهم معرفة بأحوال الحبشة وصلات ببعض أهلها :
الأول : عبد الله بن أبي ربيعة .
الثاني : عمرو بن العاص .
وبعثوا معهما هدايا النجاشي ، وهدايا خاصة للبطارقة ممن حوله ،وأوصوهما بتقديم الهدايا إلى النجاشي وجميع البطارقة ثم سؤال النجاشي أن يسلمهما المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة بذريعة أنهم غلمان تركوا دين آبائهم ، ولم يختاروا دين الملك وهو النصرانية ، إنما اتبعوا أمراً مبتدعاً ونحوه من الكلام الذي يتضمن تحريض النجاشي وحاشيته بعد استمالتهم بالهدايا .
لقد أرسلت قريش وفداً للنجاشي للمكر من وجوه :
الأول : إخبار النجاشي والبطارقة وجميع حاشية النجاشي بوجود جماعة من المسلمين في بلادهم .
الثاني : تشويه سمعة المسلمين .
وكانت قريش تقول للذي يدخل الإسلام : صبا ، صبا : أي ترك دين آبائه عن صغر واستحدث ، وربما سفاهة ، يقال : صبا يصبو وصبواً وصبا فهو صابِ .
الثالث : محاولة التقليل من عدد المسلمين وأثر دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى الإسلام .
الرابع : زجر وتخويف المسلمين والمسلمات من أهل مكة ومنعهم من الهجرة إلى الحبشة وغيرها .
الرابع : الكذب والإفتراء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام ، لقد بذل كفار قريش الوسع في إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وكانوا يظهرون الإستهزاء به فمن باب الأولوية القطعية الإفتراء عليه عند الملوك وحواشيهم في البلاد البعيدة من أجل الإنتقام منه ومن المسلمين ، وتحقيق الغايات التي من أجلها حضروا عند النجاشي ، ومنها إستلام المهاجرين ، فان قلت كيف يقوم اثنان وهما عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص باستلام نحو ثمانين مهاجراً واحضارهم إلى مكة ، والجواب من جهات :
الأولى : لابد من مجئ رجال آخرين مع وفد قريش من الغلمان والعبيد .
الثانية : يقوم وفد قريش في حال إرجاع المسلمين بايجار حراس لهذا الغرض .
الثالثة : تكون العودة من الحبشة بالسفن إلى جدة .
الرابعة : وعد وفد قريش للمهاجرين بالأمان والسلامة وعدم إيذائهم .
الخامسة : ظن كفار قريش أنه لو طرد النجاشي المسلمين من بلاده لما استطاعوا الذهاب إلى بلد آخر ، ولعادوا إلى مكة قهراً ، ومعه يمتنعون عن اغتيال وفد قريش في الطريق .
السادسة : طمأنينة قريش لقانون وهو أن المسلمين لا يغدرون ، وهو الذي تجلى في قصة خبيب عندما أسره المشركون وامتناعه عن قتل الصبي في بيت الأسر عندما جاء له بالموسى( ) .
لقد كانت الهجرة الأولى إلى الحبشة مقدمة للهجرة الثانية من جهات :
الأولى : إدراك قانون سلامة الطريق إلى الحبشة .
الثانية : عدم وحشة المسلمين من الغربة والتغرب في الحبشة لأن معهم سلاح الإيمان .
الثالثة : انتفاء الأكراه والإجبار لحمل المسلمين على ترك دينهم ، لبيان قانون وهو أن فريقاً من أهل الكتاب لا يؤذون المسلمين في عقائدهم وفرائضهم .
ولبيان موضوعية هذا القانون في العفو والصفح في قوله تعالى [وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ] ( ) .
الرابعة : إدراك فضل الله على المؤمنين بأن أرضه سبحانه واسعة وميسر لهم التنقل والإنتقال فيها .
الخامسة : إغاظة كفار قريش بالهجرة وتكرارها .
لقد كانت الهجرة الأولى تحدياً لكفار قريش , وإنذاراً لهم مع قلة عدد الذين هاجروا ، فجاءت الهجرة الثانية أعم .
السادسة : إمكان الإنحياز إلى ملك عادل من أهل الكتاب بعيداً عن عبده الأصنام والأوثان وشدة بطشهم ، وإصرارهم على الإضرار بالذين [قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا]( ).
السابعة : بيان قانون وهو أن الذي يطلب الأمان في الأرض يجده بفضل الله بالإعراض عن القوم الظالمين ، وفي التنزيل [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] ( ).
لقد أدرك رجالات قريش ما لحق مقاماتهم من الوهن والتزلزل بدعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام .
وقد أكثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من البيان بأن هذه الدعوة لم ولن تضرهم ، إنما تجعلهم أسياداً في العالمين بشرط النطق بقول : لا إله إلا الله .
لقد حضر كبار رجالات قريش عند أبي طالب وشكوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فطلب منه أبو طالب الحضور وقال له كما ورد عن ابن عباس (يا ابن أخي ما تريد من قومك ؟ فقال: ” يا عم إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب، وتؤدى إليهم بها الجزية العجم، كلمة واحدة “.
قال: ما هي ؟ قال: ” لا إله إلا الله “.
قال: فقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا ؟ إن هذا لشيء عجاب.
قال: ونزل فيهم: “ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ “( ) الآيات إلى قوله: “إلا اختلاق”)( ).
وليس في دخول الإسلام إلا العز ، إنما المراد القوم الكافرين ، إذ امتنعوا عن دخول الإسلام فلحقهم الذل والهوان وأخذ المسلمون يخرجون من مكة مهاجرين وقصدوا الحبشة وبلغ عددهم في الهجرة الثانية اثنين وثمانين رجلاً وثماني عشرة امرأة بلحاظ أن عمار بن ياسر لم يكن معهم .

وجوه ومضامين بيعة المسلمين للنبي ص
البيعة هي العهد والتسليم والعزم على الطاعة والإمتثال على كل حال ، وفي البيعة أطراف :
الأول :المبايَع بفتح الباء .
الثاني : موضوع البيعة .
الثالث : المبايِع بكسر الباء .
وهل يمكن القول أن المبايَع هو الله ورسوله ، الجواب نعم لقوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ] ( ) .
ونزلت الآية أعلاه في أيام الحديبية وصلحها ، لبيان قانون من جهات :
الأولى : إكرام الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن بيعة الناس له إنما هي بيعة لله عز وجل .
الثانية : بعث المسلمين على تعاهد البيعة .
الثالثة : إخبار الناس جميعاً بعظيم شأن بيعتهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابعة : الآية من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
وقد تلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البيعة من الأنصار عند العقبة وهو موضع من منى في مكة .
وإذا تمت البيعة وثم عقد العهد وضع المبايِع يدَه بيد المبايَع للإظهار العملي للبيعة وليراها الناس ويكون هذا الوضع والكيفية شاهداً ومانعاً من اللبس ، وبرزخاً دون التردد في الأمر ،وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو أفراد القبائل وحجاج بيت الله في موسم الحج إلى الإسلام ، ويتلو عليهم آيات القرآن وكان ردهم متبايناً من جهات :
الأولى : الصدود والجفاء .
الثانية : الإعراض عن الدعوة خشية كفار قريش .
الثالثة : الذي يشترط أن يكون الأمر له من بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذا ظهر أمره .
الرابعة : الذي يضع الشروط ويقدم المطالب الخاصة .
الخامسة : الذي ينصت ويستمع من غير رد .
السادسة : من العرب من كان مشغولاً بقتال ، ويمتنع عن التفكير بدخول الإسلام ، ريثما تنتهي حال القتال .
السابعة : الذين أعلنوا اسلامهم وهم وفد الأوس والخزرج ، فقد كانوا مجاورين لليهود في المدينة الذين كانوا يبشرون الناس بأنه قارب زمان ظهور نبي آخر الزمان وأنهم سيتبعونه ، ويأخذ لهم حقهم ، ويمنع الظلم عنهم .
ولقد بايع من الأوس والخزرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اثنا عشر رجلاً في بيعة العقبة الأولى لتكون هذه البيعة نواة لبيعة أكبر منها وتجدد مصاديق البيعة في مكة والمدنية .
قانون مبايعة النبي
وأصل البيعة من البيع وحصول تمام البيع والشراء وكان العرب إذا تبايعوا تصافقوا وضرب الطرفان البائع والمشتري يدلهما دلالة على وجوب البيع واستعير اللفظ والفعل لعقد العهد ، وصار نوع مصافحة وصف الذي يبايع وبالكسر يده اليمنى باليد اليمنى للمبايَع بالفتح كعنوان للطاعة والعهد ، ودليل على الإمتثال والإلتزام بأمر المبايَع ، ومن الإعجاز في بيعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها خالصة لله عز وجل لبيان أنها عهد من المسلمين بالتقيد بالأوامر والنواهي الواردة في القرآن ، وعدم التخلف عن أمر الله ورسوله ، وتعددت البيعة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في زمانها ومكانها.
ولقد أخذ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البيعة على وفد الأوس والخزرج في بيعة العقبة الأولى ، والتي سبقها لقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع وفد منهم ، ليكون تعاقب هذا اللقاء على وجوه :
الأول : لقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ستة من الأوس والخزرج في موسم الحج قبل الهجرة بأكثر من سنتين .
الثاني : بيعة العقبة الأولى قبل الهجرة بسنة وثلاثة أشهر ، وفي موسم الحج أيضاً ، وحضرها اثنا عشر رجلاً من الأوس والخزرج ، وتمت فيها بيعة العقبة الأولى ، وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم مصعب بن عمير لأمور :
أولاً : تعليمهم قراءة القرآن .
ثانياً : التفقه في الدين ومعرفة أحكام الحلال والحرام .
ثالثاً : دعوة أهل المدينة للإسلام .
رابعاً : إقامة الصلاة اليومية .
خامساً : الجدال والإحتجاج ، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصعباً بقتال أو مقدمات القتال ، والتلميح له ، وحتى مسألة الدفاع لم تكن حاضرة لأن الأصل هو التوحيد وإقامة الشعائر .
سادساً : حضور سفير للنبوة إلى المدينة ، وصيرورته مقدمة للهجرة النبوية .
الثالث: بيعة العقبة الثانية قبل الهجرة النبوية بثلاثة شهور وفي موسم الحج وحضرها اثنان وسبعون رجلاً وامرأتان من الأنصار .
وهل كانت بيعة الأوس والخزرج في بيعة العقبة الأولى هي أول بيعة يأخذها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين مجتمعين ومتفرقين ، آحاداً وجماعات ، أم أن البيعة من حين إيمان خديجة وعلي عليهما السلام ، أو حين نزول قوله تعالى [فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ] ( ) أو قوله تعالى [وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ]( ) المختار هو الثاني ، للملازمة بين دخول الإسلام والبيعة .
وكانت بيعة المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه :
الأول : البيعة لله والطاعة للحق ، لقد جعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم البيعة لله عز وجل ولم يجعلها لنفسه لبيان قانون وهو أن هذه البيعة نوع عبادة ، قال تعالى[وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] ( ).
الثاني : السمع والطاعة في النشاط والكسل ، لبيان قانون وهو حتى في حال الكسل والقعود لابد من الطاعة والإستجابة بالممكن لقاعدة الميسور مع لزوم عدم فعل المعصية .
الثالث : الإنفاق في سبيل الله في اليسر والعسر ،وهذا الإنفاق واقية من القتال ، وصارف للذين كفروا عن التعدي على المسلمين ، لإدراكهم لقانون وهو تسخير المسلمين أموالهم في سبيل الله .
وليس من حصر لمنافع البيعة منها الإنفاق في السراء والضراء ، ولم يكن الإسلام محتاجاً لإنفاقهم أموالهم .
إنما أراد الله عز وجل بيان صدق اسلامهم وإخلاصهم في الإيمان ، وليرزقهم الله عز وجل الثواب العاجل والآجل ، ومنه توالي الغنائم على المسلمين ، وتلك معجزة حسية وعقلية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وقيدت البيعة الإنفاق بأنه في سبيل الله للدلالة على حب المسلمين لله عز وجل .
وصحيح أن الإنفاق في سبيل الله شرط عام يتغشى المسلمين والمسلمات جميعاً إلا أن الذين يقدرون على الإنفاق شطر من المسلمين ، وقد يكونون الشطر الأقل ، بالإضافة إلى أن طائفة من المسلمين ينتفعون من هذا البذل والتقيد به كشرط فب البيعة ، قال تعالى [إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابن السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ) .
ومن الإعجاز في سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن البيعة ومضامينها مع أنها عهد تحيط به المخاطر فانه بشارة الفتح وتدفق الأموال على المسلمين .
الرابع : بيعة الأنصار في العقبة بدفع الأذى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ قالوا يومئذ (يا رسول الله انا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلنا إليها فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه ابناءنا ونساءنا) ( ).
الخامس : مبايعة رهط من الصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد على الموت .
السادس : بيعة النساء الإقرار بالتوحيد وليس في هذه البيعة قتال ،وقد ذكر الله عز وجل البيعة بقوله[يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا]( ).
السابع : بيعة الصفوان في الحديبية وتتضمن أموراً :
الأول : عدم الفرار .
الثاني : إما الفتح وإما الشهادة .
الثالث : في رواية عن سلمة بن الأكوع : بايعناه على الموت وكان أول من بايعه أبا سنان الأسدي ، قال تعالى [ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ] ( ) وحينما علمت قريش ببيعة الرضوان أصابهم الخوف والفزع مع أن المسلمين يومئذ ليس معهم سلاح للقتال .
الثامن : بيعة عامة , عن أبي أيوب الأنصاري قال صنعت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر طعاماً قدر ما يكفيهما لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجيب الدعوة ويرضى بالقليل .
وأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيان معجزة له في باب الطعام وانتفاع الأنصار من هذه الدعوة في النشأتين ، ولما وضع الطعام أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي أيوب أذهب فأدع ثلاثين من الأنصار ، فشق على أبي أيوب وظهر عليه الحرج وعلامات الإستحياء، وقال أبو أيوب ما عندي شئ ازيده .
وحاول ترك الأمر ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكّد عليه ، وأعاد عليه الكلام : أذهب فأدع لي ثلاثين من أشراف الأنصار أي ممن يعي المعجزة وينقل الحجة والدليل إلى أهله وقومه حينئذ ذهب ودعاهم إلى الطعام في بيته ، فحضروا ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أطعموا ،ومع أن الزاد لا يكفي إلا لاثنين أو ثلاثة ، فأكلوا حتى قاموا عن المائدة ثم شهدوا أنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم بايعوه قبل أن يخرجوا .
قانون البلاء العام واقية من القتال
لقد ورد بخصوص المؤمنين من الأمم السابقة قوله تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] ( ) لبيان قانون في التنزيل وهو اقتران البشارة للمؤمنين بالجنة بالحث على الصبر والتحمل والرضا بما قسم الله ، والدعاء للفرج والفتح ، وليس في الآية أعلاه أمر بالقتال وقد يقال ان نزول البأساء والضراء بالمؤمنين أمارة على القتال خاصة مع قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) .
والجواب بين مضمون الآيتين من جهة الموضوع عموم وخصوص مطلق ، فالإصابة بالبأساء والضراء أعم ، وقد تأتي من دون قتال كما هو حال المسلمين في مكة قبل الهجرة .
ومن معاني الجمع بينهما وجوه :
الأول : لم يطلب المسلمون القتال .
الثاني : لا يرغب المسلمون بالقتال ، قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ) .
الثالث : لم يتخذ المسلمون القتال والغزو والهجوم وسيلة لدفع الأذى والبأساء والضراء ، إنما اتجهوا نحو الدعاء والتماس الإجابة ، وهو لا يتعارض مع وجوب الدفاع عن النفس وملة التوحيد ، وإذا كان الدفاع حاجة فهل كانت الهجرة من مكة حاجة أم أمراً مندوباً ، الجواب هو الأول لشدة إيذاء ، لإرادة كفار قريش قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإيذاء أصحابه والإضرار بهم .
وقد ورد قوله تعالى [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ] ( ) لبيان إبتلاء الذين كفروا وجحدوا بالنبوات بالبأساء والفقر والفاقة ، والأمراض والخوف والفزع لعلهم يهتدون ويلجأون إلى الله ويتوبون إليه سبحانه ، ويسألونه الغنى والعاقبة الحسنة والأمن .
ومن منافع نزول البلاء والشقاء بالكافرين والظالمين أمور :
الأول : كفاية لشرهم وأذاهم .
الثاني : إشغال الذين كفروا بانفسهم ، ومنعهم من الإضرار بالأنبياء وأنصارهم .
الثالث : دعوة الذين كفروا للتدبر في أنفسهم وحالهم وحثهم على المناجاة فيما بينهم بالتوبة ولزوم الإقامة .
الرابع : الإبتلاء الشديد سبيل ومناسبة للإنصات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الخامس : صيرورة شاهد ذاتي عند الذين كفروا ينطق في خلجاتهم وبين الناس بقبح الكفر والإصرار على البقاء عليه لتقوم عليهم الحجة ويستحقوا اللعن ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ] ( ).
وبين البأساء والضراء اللتين ذكرتهما الآية أعلاه وبين اللتين تمس المؤمنين بقوله تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] ( ) عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء هي نزول البأساء والضراء بالفريقين ، أما مادة الإفتراق فمن وجوه :
الأول : الثواب العظيم للمؤمنين على نزول البلاء والشدة بهم ، وإصابة الذين كفروا بالعذاب الأليم ، لذا ذكرت الآية أعلاه علة اصابة الذين كفروا بالبأساء والضراء رجاء تضرعهم وتوسلهم إلى الله عز وجل .
ومن الإعجاز في المقام ورود لفظ [يَتَضَرَّعُونَ]مرتين في القرآن إذ ورد مرة ثانية في ذات الموضوع بقوله تعالى [وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ] ( ).
الثاني : تبين الآية أعلاه أن البأساء والضراء التي تنزل بالذين كفروا انما هي من العذاب النازل من عند الله ، بينما تكون البأساء والضراء التي تنزل بالمسلمين مناسبة للأجر والثواب .
الثالث : بيان حال العناد والإستكبار عند الذين كفروا فمع شدة البلاء النازل بهم فانهم لا يتوبون ولا يتضرعون إلى الله عز وجل ، أما المؤمنون فانهم يتضرعون إلى الله عز وجل قبل وأثناء وبعد نزول البلاء بهم فلذا أختتمت الآية أعلاه من سورة البقرة بأن نصر الله قريب .
ومن الإعجاز في نظم القرآن ورود لفظ [نَصْرَ اللَّهِ] أربع مرات فيه ، اثنين منها في آية واحدة ، وهو قوله تعالى [أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] ( ) .
الرابع : التباين بين المسلمين والذين كفروا في تلقي البأساء والضراء ، وترتب الجزاء عليه ، فيأتي النصر العاجل من عند الله للمسلمين ، ويبتلى الذين كفروا باستدامة العذاب .
الخامس :إرادة التباين الرتبي والنوعي ، إذ أخبرت الآية أعلاه عن حال المس والإقتراب والدنو وملامسة البأساء والضراء للمؤمنين ، وأنهما هم اللذان اقتربا ولامسا المؤمنين .
أما بالنسبة للذين كفروا فان الله عز وجل هو الذي أخذهم بالبأساء والضراء ، وفي التنزيل [وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ] ( ).
ومن هذا الأخذ الخسارة الفادحة للذين كفروا في معركة بدر وأحد ، وهل يفتح مكة من هذا الأخذ ، الجواب نعم ، إلا أن الله عز وجل أنعم على قريش ببركة البيت الحرام ، ومصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) .
لقد عفا عنهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ، إذ قام على باب الكعبة ووحد الله واثنى عليه ، وبيّن بعض الأحكام ثم قال :يا معشر قريش ماترون اني فاعل بكم ؟
أي مع محاربتكم لي وقتلكم عمي الحمزة وطائفة من أصحابي وشدة عذابنا في مكة وقيامكم بتجهيز الجيوش لمقاتلتي والمؤمنين ، وكان رجال قريش يومئذ على مرتبة من الأدب ، وإختيار الكلام المناسب بحسب المقام والحال .
وقد توالت عليهم معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما فتح مكة من غير قتال يذكر إلا معجزة جلية إلى يوم القيامة فأجابوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم يرجون الخير ، ويتطلعون إلى عفوه (قال محمد بن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام على باب الكعبة فقال :
” لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو موضوع تحت قدمى هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ففيه الدية مغلظة مائة من الابل، أربعون منها في بطونها أولادها، يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب ” ثم تلا هذه الآية: ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى”( ) الآية كلها.
ثم قال: ” يا معشر قريش، ما ترون أنى فاعل فيكم ؟ ” قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم.
قال: ” اذهبوا فأنتم الطلقاء”)( ).
وذكر في الأحاديث التي ليس لها اسناد , وابن إسحاق لم يدرك أو يسمع من أحد الصحابة انما سمع من التابعين ، ولكن الحديث والواقعة مشهورة ، ومضامين الحديث مستقرأة من سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة كما ورد الحديث (عن ابن عباس قال : أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعضادتي الباب يوم فتح مكّة وقد لاذ الناس بالبيت،
وقال : الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثمّ قال : ما تظنون؟
قالوا : نظنّ خيراً،
أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت،
قال : وأنا أقول كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم) ( ).
وإذا كانت البأساء والضراء واقية من القتال ، فهل النعماء وكثرة الأموال ورغد العيش سبب للقتال ، الجواب لا ، إنما هي أمور تدعو إلى الشكر لله ويكون تعاهدها بالإمتناع عن الظلم والتعدي ، والقتال في أكثره من الظلم للذات والغير عدا ما يكون دفاعاً وفي سبيل الله عز وجل ، وقد قاتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه دفاعاً عن التوحيد والنبوة والتنزيل ، قاتلوا ليدخل الذين يقاتلونهم أو ابناؤهم الجنة بأن يتوبوا طوعاً وقهراً .
وما أن جاءت السنة التاسعة للهجرة حتى ساد الإسلام الجزيرة ، وبينما كان الناس فيها أيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قسمين :
الأول : المؤمنون .
الثاني : الكفار ، مع تزايد مطرد لعدد المسلمين ،ونقص ظاهر وسريع في عدد الذين كفروا والمنافقين .
فصاروا في الجيل الثاني بعد النبوة على سنخية واحدة وهي الإيمان،إذ تزينوا بآداب الإسلام وعمروا المساجد ، وصار الفارق كبيراً من جهة العدد والكثرة بين طبقة الصحابة وطبقة التابعين ، وهو في إتساع في كل زمان لزيادة أعداد المسلمين من جهات :
الأولى :الذين يرثون الإسلام عن الآباء .
الثانية : سلامة المسلمين من الإرتداد .
الثالثة : الذين يدخلون الإسلام طوعاً .
ليكون من الإعجاز في قوله تعالى [وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً] ( ) توالي دخول الناس جماعات وأفواجاً الإسلام في كل زمان ، وهو من معاني المضارع في الآية أعلاه [يَدْخُلُونَ]فان قلت الآية مقيدة بأيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى [وَرَأَيْتَ النَّاسَ] والجواب ورد الخطاب في الآية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو شامل لكل المسلمين والمسلمات .
ليكون ثناء المسلمين على الله عز وجل على نعمة دخول الناس جماعات متصلاً ومتجدداً في كل زمان , ويتعلق ثناء كل جيل بدخول الناس الإسلام وتعاهد عموم المسلمين لمبادئه من جهات :
الأولى : ما تقدم من الأيام والسنوات .
الثانية : الحال المصاحبة للمسلمين .
الثالثة : ما تأخر عن زمان المسلمين .
وهل هذا الدخول في الإسلام واقية من القتال ، الجواب نعم ، وان كان سبب بعضه القتال والدفاع .
وعندما أخبر الله عز وجل الملائكة بخلق آدم وأنه سيكون[فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( )ضجوا وأحتجوا [قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) فتفضل الله عز وجل وأجابهم [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) وفي هذا الجواب مسائل :
الأولى : بيان فضل الله على الملائكة .
الثانية : سماع الله لإحتجاج الملائكة ، ولم يأت هذا الإحتجاج إلا بعد الإذن من عند الله عز وجل .
وهل قوله تعالى [لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا] ( ) وموضوع الآية أعلاه يوم القيامة وهل يختص قيد الأذى لكلام الملائكة بتلك الحال أم هو عام في الدنيا والآخرة ، المختار هو الثاني ، إذ أن الملائكة سكنوا السماء ، وورد فيهم قوله تعالى [وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( )وهو حال شامل يتعلق بالحياة الدنيا والأزمنة التي تسبق يوم القيامة وتمام الآية والآية التي قبلها [وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلاَئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ).
ومن إعجاز القرآن أن الشطر أعلاه ورد في آية أخرى خاصة بعالم الآخرة وخصوص الملائكة القائمين على النار بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ) لبيان أن الأصنام تكون وقوداً للنار ، مما يدل بالدلالة القطعية على عجزها عن الشفاعة خلافاً لزعم الكفار .
الثالثة : تفضل الله عز وجل بتجدد مصاديق إحتجاجه في الدنيا والآخرة ، وليس لها انفصال إلى الأبد ، وإذ يقبض الله عز وجل أرواح الملائكة بين النفختين في الصور .
(عن أنس رفعه في قوله { ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله…}( ) قال : فكان ممن استثنى الله جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت ، فيقول الله – وهو أعلم : يا ملك الموت من بقي؟ فيقول بقي وجهك الكريم ، وعبدك جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت .
فيقول : توفَّ نفس ميكائيل . ثم يقول – وهو أعلم – يا ملك الموت من بقي؟
فيقول بقي وجهك الكريم ، وعبدك جبريل ، وملك الموت .
فيقول ، توف نفس جبريل . ثم يقول – وهو أعلم – يا ملك الموت من بقي؟ فيقول : بقي وجهك الباقي الكريم ، وعبدك ملك الموت وهو ميت . فيقول : مت . ثم ينادي أنا بدأت الخلق ، وأنا أعيده فأين الجبارون المتكبرون؟ فلا يجيبه أحد . ثم ينادي لمن الملك اليوم فلا يجيبه أحد ، فيقول هو لله الواحد القهار { ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون }( ))( ).
ومن علم الله الذي احتج به على الملائكة بعثه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات تتعدد بأفرادها فضلاً عن كيفيتها ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ) .
ويمكن تقدير الآية أعلاه على وجوه منها :
الأول : وان تعدوا نعمة الله بنبوة محمد لا تحصوها .
الثاني : وان تعدوا نعمة الله بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كل يوم لا تحصوها .
الثالث : وإن تعدوا نعمة الله بنبوة محمد كل ساعة لا تحصوها .
الرابع : وإن تعدوا نعمة الله بنزول القرآن لا تحصوها .
الخامس : وإن تعدوا نعمة الله بأداء المسلمين الصلاة اليومية لا تحصوها.
السادس : وإن تعدوا نعمة الله بحج بيت الله الحرام لا تحصوها .
السابع : وإن تعدوا نعمة الله بأداء فريضة الصيام في شهر رمضان لا تحصوها .
الثامن : وإن تعدوا نعمة الله بدفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لا تحصوها .
إن قانون عدم إحصاء النعم الإلهية لا يعني ترك إحصاءها وحسابها بل فيه ترغيب للإجتهاد بعدّ وحساب النعم من وجوه :
الأول : إرادة العد والحساب .
الثاني : التسليم العام بالعجز عن إحصاء النعم الإلهية سواء على الفرد أو الجماعة .
الثالث : الإقرار بحضور نعمة الله في كل شئ من الموجود والمعدوم ، وكان رسول الله صلى عليه وآله وسلم يدعو الله عز وجل في الإستسقاء ويلح في دعائه فيسأل الله للناس والبهائم والنبات .
وكان يقول إذا استسقى (اللّهُمّ اسْقِ عِبَادَكَ وَبَهَائِمَك وَانْشُرْ رَحْمَتَك وَأَحْيِ بَلَدَكَ الْمَيّت اللّهُمّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا مَرِيئًا مَرِيعًا نَافِعًا غَيْرَ ضَارّ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ) ( ).
وقال بعض المنافقين مرة عند خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في الدفاع لو كان نبياً لاستسقى لقومه مثلما استسقى موسى لقومه، فنقل المسلمون هذا القول إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلم يقف عند السؤال عن القائل وتبكيته ، إنما قال : أو قد قالوها ؟
ثم توجه إلى الله بالدعاء وسؤال الغيث والمطر ، فما رد يديه حتى تغشاهم السحاب وأمطروا ، وجرى السيل في الوادي ، وشرب المسلمون وارتووا ، وحملوا الماء معهم .
(عن مسروق قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : إني تركت رجلاً في المسجد يقول : في هذه الآية { يوم تأتي السماء بدخان }( ) { يغشى الناس } يوم القيامة دخان ، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام ، فغضب وكان متكئاً ، فجلس ثم قال : من علم منكم علماً فليقل به ، ومن لم يكن يعلم ، فليقل الله أعلم ، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم ، وسأحدثكم عن الدخان : إن قريشاً لما استصعبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبطأوا عن الإِسلام .
قال : اللهم أَعني عليهم بسبع كسبع يوسف ، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام ، فجعل الرجل ينظر إلى السماء ، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجوع ، فأنزل الله { فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم }( ) فأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقيل يا رسول الله : استسق الله لمضر ، فاستسقى لهم فسقوا ، فأنزل الله { إنا كاشفوا العذاب قليلاً إنكم عائدون }( ) أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة؟ فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم .
فأنزل الله {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} فانتقم الله منهم يوم بدر)( ).
لقد اختار النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سلاح الدعاء والشكوى إلى الله من إصرار رجالات قريش على الكفر ، وتحريض الناس على النبوة والتنزيل فحبست السماء قطرها عنهم ، وهو أعظم وأكبر أثراً من القتال والإقتتال الذي يقع فيه القتلى من الطرفين ، فمن معاني ودلالات نزول البلاء بالذين كفروا وجوه :
الأول :جعل الكفار ينشغلون بأنفسهم ،ومن خصائص الإنسان أنه من عالم الإمكان ، وكل ممكن محتاج وتتجلى للإنسان حاجته عند الضيق والشدة والإبتلاء ، فتراه يتفكر في نفسه ويستحضر انقطاع النعم ومغادرته الدنيا في حال المرض أكثر منه في الصحة والعافية وتوالي النعم .
الثاني : لقد جعل الله عز وجل الأنبياء رسلاً للناس في الدعوة إلى الله عز وجل ، وليس من آية كونية إلا وهي رسول للناس للتدبر في سنخية الخلق ووجوب عبادة الله .
وهل يصح أن ذات نفس الإنسان رسول له من عند الله عز وجل ، الجواب نعم ، قال تعالى [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ] ( ) مما يدل على إقامة الحجة على الكفار بميل نفوسهم إلى سبل الهدى وإن أظهروا الجحود وأعلنوا الكفر ، قال تعالى [وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ] ( ).
الثالث : إتخاذ المؤمنين الدعاء سلاحاً لإقامة الشعائر وأداء الفرائض من غير خوف وفزع ، ليكون هذا الدعاء وسيلة لصرف الذين كفروا عن الظلم والتعدي ومباغتة المؤمنين في ديارهم .
وهل في تعيين أوقات أداء الصلاة وشمولها لأطراف النهار والليل واقية من هجوم الذين كفروا ومناجاتهم بغزو المسلمين في بلادهم ، الجواب نعم، وتلك معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة العبادية والدفاعية بأن يتناوب المسلمون إقامة الليل على نحو تلقائي فهذا يصلي أول الليل وهذا في جوفه وهذا في آخره ليلتقوا جميعاً في الإستيقاظ لصلاة الصبح، ومن أشق الأحوال على الناس مباغتة العدو لهم وقت السحر أو عند طلوع الفجر وهم نيام في بيوتهم ، ليكون أداء الصلاة من المرابطة في قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
لتكون عبادة المسلمين لله عز وجل سبباً لدرء الأذى والضرر في الحياة الدنيا بدفع شرور الكفار ، ويكون هذا الدفع بشارة الأمن والسلامة في الآخرة ومن مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ] ( ) .
وليكون من معاني قوله تعالى [وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ] جهات :
الأولى : أقيموا الصلاة فانها مرابطة .
الثانية : واقيموا الصلاة لطرد الغفلة في الليل والنهار .
الثالثة : اقيموا الصلاة لبعث الخوف في قلوب الذين كفروا ، قال تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ] ( ) .
الرابعة : أقيموا الصلاة فمن جزائها العاجل الأمن من هجوم العدو والقتال ، وهل هذا الأمن من مصاديق قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]( ) الجواب نعم ، لذا يمكن تقسيم النهي المترشح عن الصلاة إلى أقسام :
الأول : نهي ذات المصلي عن إرتكاب الآثام .
الثاني : نهي الذي يتعظ من المصلي وينتفع منه ومن أداء الصلاة ، وقد ورد قوله تعالى [وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا] ( ) .
الثالث : نهي الكفار والمشركين عن التعدي والظلم والإضرار بالمسلمين ، ليكون من مصاديق قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ) أي بأداء الصلاة بصرف الله مكر وكيد الكفار ويجعلهم عاجزين عن الإضرار بالمسلمين .
الخامسة : اقيموا الصلاة فانها دعوة للذين كفروا للإمتناع عن مباغتة وهجوم الذين كفروا .
السادسة : اقيموا الصلاة فانها حذر وحيطة من العدوان .
ومن الإعجاز في هذا الآية ورودها بصيغة الجمع [وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ] وتجدد الأمر والخطاب فيها إلى يوم القيامة يشمل المسلمين والمسلمات وتحذيرهم بلحاظ قانون وهو أن الصلاة حيطة وحذر.
السابعة : اقيموا الصلاة شكراً لله على دفع العدو بالصلاة .
الثامنة : اقيموا الصلاة لسلامتكم من القتال أو القتل بالصلاة لتكون ذات الصلاة وسيلة عبادية للنجاة من كيد وشر العدو ، وهي آلة الشكر لله عز وجل على هذه النجاة من غير أن يلزم الدور بينهما ، وتلك آية في فضائل الصلاة والنعم المترشحة عنها .
التاسعة : أقيموا الصلاة للنصر في معركة بدر وأحد ومعارك الإسلام .
العاشرة : اقيموا الصلاة كشاهد على عدم قيام المسلمين بالهجوم أو الغزو لديار الذين كفروا .
الحادية عشرة : اقيموا الصلاة فانها تمسك بحبل الله وهو من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا] ( ) .
الثانية عشرة : اقيموا الصلاة والله هو الذي يكفيكم ويصرف عنكم الظلم والتعدي ، قال تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ]( ).
الثالثة عشرة : يا أيها الذين آمنوا اقيموا الصلاة وفيها إغاظة للذين كفروا ، وفي التنزيل [قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ] ( ) .
الرابعة عشرة : اقيموا الصلاة وأتوا الزكاة لإقامة الصلاة .
الخامسة عشرة : اقيموا الصلاة وأتوا الزكاة للإنفاق في سبيل الله .
السادسة عشرة : اقيموا الصلاة لتؤتوا الزكاة بلحاظ أن أداء الصلاة نوع طريق وباعث على أداء الحقوق الشرعية .
السابعة عشرة : اقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ليمتنع الذين كفروا عن غزو دياركم ، فمتى علموا بأنكم تبذلون الأموال في التهيء لقتالهم مع إخلاص النية الذي يتجلى بأداء الصلاة ، وهل أداء الصلاة والزكاة من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ] ( ) ويمكن تأسيس قوانين من جهات :
الأولى : العبادة واقية من القتال والغزو .
الثانية : الصلاة سنة دفاعية .
الثالثة : الصلاة ناسخة للغزو وإلى يوم القيامة.
الرابعة : الصلاة حرز في النشأتين .
الخامسة : الصلاة حرب على الظلم والتعدي .
السادسة : الصلاة صلاح .
السابعة : الصلاة دعوة إلى الإيمان .
ومن الإعجاز في المقام أن الصلاة فرضها الله عز وجل في مكة وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يؤديها في البيت الحرام مع إيذاء الكفار له .
وهل كان يؤديها بذات الكيفية من القيام والركوع والسجود ، الجواب نعم، فاذا كان هناك تدرج في بعض الأوامر والنواهي فان الصلاة نزلت دفعة واحدة لتكون السلاح الذي يواجه به النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المشركين لذا تراه لم يرفع سيفاً وهو في مكة ولم يدع المسلمين إلى القتال ، ليكون النهي الوارد في قوله تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر] ( ) على أقسام :
الأول : نهي النفس عن إرتكاب الذنوب .
الثاني : منع الرهط والطائفة والفرقة من المسلمين من فعل التعاون على الإثم والتعدي والظلم .
الثالث : تبين الصلاة وأداؤها قبح الفحشاء .
إنذار قريش من معركة بدر
وفي شهر رجب من السنة الثانية للهجرة بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي ومعه ثمانية رجال من المهاجرين وهم :
الأول : أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة.
الثاني : عكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي.
الثالث : عتبة بن غزوان بن جابر المازني.
الرابع : سعد بن أبي وقاص.
الخامس : عامر بن ربيعة العنزي حليف بني عدي .
السادس : واقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم , حليف لهم.
السابع : خالد بن البكير، أخو بني سعد بن ليث.
الثامن : سهيل بن بيضاء الفهري. ( )
وكتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتاباً وسلّمه إلى عبد الله بن جحش وقال له : لا تفتح الكتاب وتنظر فيه إلا بعد أن تسير يومين فتقرأ وتعمل بما فيه أي أن الإرجاء بخصوص فتح الكتاب , وليس في العمل بمضمونه وحده .
وأمره بأن لا يستكره أحداً من أصحابه على الإمتثال لما في الكتاب.
وسار عبد الله وأصحابه يومين ثم فتح الكتاب فاذا فيه (إذَا نَظَرْتَ فِي كِتَابِي هَذَا ، فَامْضِ حَتّى تَنْزِلَ نَخْلَةَ بَيْنَ مَكّةَ وَالطّائِفِ ، فَتَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشًا، وَتَعْلَمَ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ) ( ).
وتحتمل سرّية وكتمان وختم الكتاب أموراً :
الأول : تولي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كتابة الكتاب بيده الشريفة، فلم يطلع عليه أحد.
الثاني : قيام بعض الملائكة بكتابة الكتاب .
الثالث : كتابة الكتاب من قبل أحد أهل البيت أو الصحابة , وكتمانه السر وعدم إفشاء مضمون الكتاب.
والمختار هو الثالث.
وحينما قرأ عبد الله بن جحش الكتاب قال :
( سَمْعًا وَطَاعَةً وَأَخْبَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ وَبِأَنّهُ لَا يَسْتَكْرِهُهُمْ فَمَنْ أَحَبّ الشّهَادَةَ فَلْيَنْهَضْ وَمَنْ كَرِهَ الْمَوْتَ فَلْيَرْجِعْ) ( ).
وهل يعني بحب الشهادة وقوع القتل فعلاً في سفرهم هذا وإمتثالهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب لا , لقد أراد العزم على بذل الوسع بقصد القربة ، وعدم الخشية والخوف من الذين كفروا .
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الدفاعية عدم تخلف أي واحد من هؤلاء الثمانية عن النهوض ، ولم يختر أي منهم الرجوع أو التردد في السير .
وأضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يتعاقبانه ، فتخلفا في طلبه ، ولكن عبد الله بن جحش وأصحابه لم يقفوا ولم ينتظروهم بل ساروا حتى نزلوا نخلة .
وتبعد نخلة عن مكة خمسة وأربعين كيلو متراً ، ويفصل بينهما جبل طويل يسمى :داءة , ونزل بها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند عودته من الطائف سنة عشر من البعثة النبوية الموافق سنة (619) ميلادية ، وكان بها نفر من الجن فسمعوا القرآن .
وكان في نخلة صنم العزى ، وهي لقريش وبني كنانة وكانوا يعظمونها ، ويتولى السدانة فيها بنو شيبان من بني سليم ، إذ بعث النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد بعد فتح مكة إلى صنم العزى وأمره بهدمها، فخرج ومعه ثلاثون فارساً ، فلما انتهوا إليها قاموا بهدمها ، فرجعوا وأخبر خالد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها فقال له (هَلْ رَأَيْت فِيهَا شَيْئًا) ( ).
فقال : لا .
فقال له إنك لم تهدمها ، وأمره بالرجوع واستئصال قواعدها .
فرجع خالد وأخرج أساسها .
(فَوَجَدَ فِيهَا امرأة سَوْدَاءَ مُنْتَفِشَةَ الشّعْرِ تَخْدِشُ وَجْهَهَا ، فَقَتَلَهَا ، وَهَرَبَ الْقَيّمُ وَهُوَ يَقُولُ لَا تُعْبَدُ الْعُزّى بَعْدُ الْيَوْمَ) ( ).
ومرت عليهم قافلة لقريش فيها زبيب وجلود وبضائع أخرى , وفيها عمرو بن عبد الله الحضرمي .
فقال المسلمون هذا آخر يوم من شهر رجب الحرام . فلا يصح القتال فيه بلحاظ أن شهر رجب من الأشهر الحرم , وإن تركناهم الى الليل دخلوا الحرم المكي , ورمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله .
وقيل كانوا في شك هل خرج شهر رجب , ودخل شهر شعبان ، وهو ليس من الأشهر الحرم أم لم يهل بعد .
وعلى قول ابن عباس في حديث أن الواقعة حدثت بين آخر ليلة من جمادى وأول رجب .
(وأن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية ، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى وأول ليلة من رجب ، وأن أصحاب محمد كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى ، وكانت أول رجب ولم يشعروا ، فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه ، وأن المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك ، فقال الله { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير }( ) وغيره أكبر منه { وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام } ( )وإخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر من الذي أصاب أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والشرك أشد منه ) ( )
لقد سأل حكيم بن حزام عتبة بن ربيعة أن يجنب الناس القتال بأمرين:
الأول : يدعو جيش قريش الى الرجوع , وهم مطيعون له .
الثاني : تحمل دية القتيل الذي قتله المسلمون قبل أكثر من شهر من واقعة بدر للإستطلاع وهو عمرو بن الحضرمي.
فقال عتبة : قد فعلت , وأنت شاهد علي , أي بالعهد بالتبرع بدفع ديته من مالي درءً للفتنة , ومنعاً لسفك الدماء إنما هو حليفي , فعلي عقله وأنا ضامن لما أصيب من ماله ، ثم قال حكيم بن حزام : إذهب الى ابن الحنظلية فأكفني إياه يريد أبا جهل بن هشام فإني لا أخشى أحداً يفسد الأمر ويثير الفتنة بين الناس غيره.
وقد كان عتبة بن ربيعة قد قبل الإسلام في مكة عندما عرضه عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لولا فتنة رؤساء الكفر.
فكان جالسا مع رجال من أكابر قريش والنبي صلى الله عليه وآله وسلم جالس وحده في المسجد, فقال عتبة : يا معشر قريش ألا أقوم الى محمد فأكلمه وأعرض عليه ما يريد ويكف عنا .
فأستبشروا لأنهم كانوا في مكة, فقد دخل حمزة بن عبد المطلب الإسلام وصار المسلمون في تزايد وكثرة ونماء في العز .
فقام عتبة وجلس الى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال : يا ابن أخي أنت في شأن رفيع من الجاه والنسب والعشيرة والسلطة وأنت (قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم) ( ) وقمت بتسفيه أحلامهم .
ورميتهم بالجهالة , وعبت عليهم تزلفهم بالأوثان ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أعرض عليك أموراً لعلك تختار بعضها .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم( قل يا أبا الوليد فإني أسمع ) ( ) فذكرها عتبة وهي :
الأول : جمع الأموال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يجعله أكثر قريش مالاً.
الثاني : جعل السيادة والشرف للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على سائر قريش .
الثالث : رجوع قريش الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أمورهم وصدورهم عنه ، وعدم قطعهم أمراً دونه ، وكانوا جادين في الأمر، واثقين بحكمة وصدق وأمانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وقد أدركوا حقيقة وهي أن نبوته صارت تزحزح أركان حكمهم , وتهدم اركان عروشهم , وتحطم أصنامهم , ولا بد أن المسلمين في مكة آنذاك صاروا يتحدثون عن لزوم تكسير الأصنام .
الرابع : تنصيب قريش للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ملكاً عليهم إن كان يطلب الملك .
الخامس : إن كان الوحي الذي يأتي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مسلما من الجن ونحوه ويعجز عن دفعه , أرسلوا في طلب الأطباء, وأنفقوا الأموال كي يبرء منه , فقد يغلب التابع على الإنسان ويكون العلاج ضرورياً له .
فلما إنتهى عتبة من كلامه قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أفرغت يا أبا الوليد ؟( )
ومع أن عتبة كان كافراً يومئذ وجاء مع رؤساء الكفر لثني النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن دعوته ، فانه أكرمه وخاطبه بكنيته أبا الوليد، وهو من الدلائل على الاطلاق في صفات الحسن والأخلاق الحميدة عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وهو عمومات قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) .
ولم تمر الأيام حتى قتل عتبة وابنه الوليد الذي يكنى به وأخوه شيبة في ساعة واحدة في واقعة بدر .
ولم يخاطبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذات الصفة , فلم يقل يا عم , لأن عتبة
قال له : يا ابن أخي .
ترى لماذا لم يغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قول عتبة ، الجواب من جهات :
الأولى : الحديث مناسبة لبيان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لحجته .
الثانية : تأكيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنبوته .
الثالثة : بيان قانون وهو استغناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الدنيا وزينتها .
الرابعة : تجديد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعوته إلى الله والإنقطاع إلى ذكره سبحانه .
الخامسة : زيادة إيمان الصحابة ، فمن مصاديق الدلالة الإلتزامية لإحتجاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إخبار أهل البيت والصحابة باستمرار دعوة النبي إلى الله ، وعدم انقطاعها أو توقفها بأي حال .
السادسة : في الحديث اشارة إلى استعداد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتحمل الأذى والهجرة من مكة إن لزم الأمر .
السابعة : بعث اليأس والقنوط في قلوب الذين كفروا .
الثامنة : هداية شطر من الناس للإسلام .
لقد تكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم معه من منازل الرسالة وهي أعظم وأكبر مما ذكره في الوجوه الأربعة أعلاه مجتمعة , وقد انتشرت وسادت رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يطلب الملك أو المال , وكان ينفق المائتي ألف والثلاثمائة ألف في اليوم , ويطوي وعياله ليلتهم من غير عشاء ليكون هذا الصبر والتحمل من مصاديق فوزهن بمرتبة أمهات المسلمين والمسلمات بقوله تعالى
(النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) ( )
ثم خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عتبة قائلاً : فأسمع مني يا أبا الوليد .
قال : أفعل , أي أني أصغي وأستمع إليك سواء في الجواب والرد على ما عرضته أو غيره.
فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة آيات القرآن عليه , وكانت السور المكية تتصف بلغة الإنذار والوعيد .
قال النبي : صلى الله عليه وآله وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم[حم* تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ*كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ *وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ]( ).
(فلما سمعها منه عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم إلى السجدة منها فسجد ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك) ( )
وقام الوليد وتوجه الى أصحابه فرأوا أنه عاد بحال غير التي ذهب فيها, لما طرأ على وجهه من التغير والتبدل ,وحين سألوه :
قال ( سمعت ما لم أسمع به من قبل فهو ليس بالِشعر, ولا بالسحر , ولا الكهانة .
ثم قال : أطيعوني واجعلوها بي , وخلوا بين محمد وبين ما يدعو اليه , وأخبرهم بأنه سيكون له شأن عظيم ,
ثم قال عتبة لقومه : فإن قتله العرب فقد كفيتم
ثم ذكر عتبة احتمال مسألتين متضادتين :
الأولى : إن قتل العرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففيه كفاية لقريش بغيرهم , وهل فيه دعوة لقريش لتحريض القبائل على قتله وإغرائهم بالمسألة ونحوه .
الجواب لا ، خاصة وأنه عاد من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع التسليم بصدق ما يدعو اليه .
الثانية : ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم على العرب وإيمانهم برسالته , وفيه عز لقريش وسلطان وشأن مستحدث لهم لم يبلغوه أمس واليوم وغداً إلا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وقال ابن الرومي :
(وكم أب قد علا بابن ذرى شرفٍ … كما علا برسول الله عدنان) ( ).
قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ولكن عتبة أظهر اصراره على قوله وما يذهب إليه وقال لهم فأصنعوا ما بدا لكم .
وليته وقف عند هذه الكلمة واجتنب الخروج معهم الى معركة بدر , أو أنه أخرج شخصاً آخر بديلاً له , قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ] ( ).
ومن الآيات في المقام أن ابنه أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة كان في المهاجرين والى جانب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم معركة بدر.
ومن خصائص وصفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يبدأ بقتال إنما يدعو القوم لكلمة التوحيد , وينظر ماذا يردون , فقام عتبة بن ربيعة يومئذ في معسكر المشركين خطيباً يحثهم على ترك القتال وأشار الى مسألة أن هذا القتال يثير الفتنة بينهم وخاطبهم بأن الذين تقتلون إخوانكم وابناء عمومتكم .
لذا يمكن تقسيم الإنذارات التي جاءت لقريش قبل معركة بدر إلى أقسام .
الأول : الإنذارات الشخصية .
الثاني : الإنذارات النوعية العامة ومنه الحوار بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين عتبة بن ربيعة .
الثالث : إلانذار الشخصي الذي يترشح من العموم وإنتفاع الآخرين منه فقد ينتفع الذي يتوجه إليه وغيره من الناس , أو لا ينتفع منه صاحبه , ولكن غيره ينتفع منه .
الرابع : إنتفاع الأشخاص من الإنذار العام ممن ولم يكونوا حاضرين فيه .
ورآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عتبة يمشي في صفوف جيش المشركين .
فقال : إن يك عند أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر , إن يطيعوه يرشدوا .
ولكن أبا جهل قال : والله لا أرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد , ولكن عتبة (رأى ان محمدا واصحابه اكلة جزور وفيهم ابنه قد تخوف عليه) ( ) .
ثم بعث أبو جهل إلى عامر بن الحضرمي أخي المقتول .
فقال : قد حان ثارك لأخيك , فقم فأنشد وانكشف أي حسر ثيابه وصرخ واعمراه فتوجه المشركون للقتال , وقد قتل عامر هذا كافراً.
وتقدم عتبة للقتال حمية وجهلاً , فأراد بيضة أي خوذة يضعها على رأسه فلم يجد في المعسكر لعظم هامته فأعتجز ببرد له ليكون من أول من قتل في الميدان.
لقد كانت الإنذارات العامة والخاصة تترى على المشركين , تدعوهم الى إجتناب القتال لبيان فضل الله عز وجل على الناس بتوالي معجزات النبوة , وهو من مصاديق قوله تعالى : [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( )
إن إجتناب النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتال ، وحبه لصرفه وانصراف الناس عنه من معجزاته العقلية , والآيات التي تدل على صدق نبوته , وتحتمل معركة بدر في المقام وجوهاً :
الأول : النصر في معركة بدر معجزة عقلية .
الثاني : معركة بدر معجزة حسية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : وقائع معركة بدر ليست بمعجزة .
الرابع : نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر معجزة عقلية وحسية .
والمختار هو الأخير أعلاه , وهو المستقرأ من قوله تعالى [ وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( )
فنسبة النصر إلى الله عز وجل شاهد على المعجزة , ودعوة لإستقرائها واستنباط المسائل منها , وهل يقف هذا الإستقراء من جهة الموضوع أو الزمان , الجواب لا , فهو متجدد إلى يوم القيامة سواء في ذات الموضوع أو غيره .
لقد كان لعتبة بن ربيعة حضور وشأن في إيقاف حرب الفجار التي جرت نحو سنة 33 -43 قبل الهجرة النبوية بين قبائل كنانة ومنها قريش ضد قبائل قيس عيلان ومنها غطفان وهوازن وسليم وأحلافها، وسميت بالفجار لما إستحل هذان الفريقان من المحارم وتواعدوا للقتال في عكاظ، فلما حضروا عند الموعد ركب عتبة بن ربيعة وكان يومئذ يتيماً في حجر حرب بن أمية، فأشفق عليه، وحال دون خروجه إلى القتال والمطاردة بين الفريقين، ولكنه وقريش فوجئوا بعتبة يقف وهو على بعيره بين الصفين من غير إذن من حرب أو غيره(يُنَادِي : يَا مَعْشَرَ مُضَرَ، عَلَامَ تُقَاتِلُونَ)( )
ويتضمن هذا النداء التذكير واللوم لهم بأنهم حي واحد من العرب وأخوة فلا يصح القتال بينهم , فقالت له هوازن وهم الجمع المقابل لهم: ما تدعو إليه، قال: الصلح بيننا وبينكم، قالوا: وما هي بنود الصلح، وما الذي جئت به، فذكر ثلاثة خصال كلها لصالح الخصم، وهي:
الأولى : ندفع دية قتلاكم.
الثانية : نرهنكم رهائن على الديات ريثما يتم تسليمها لكم.
الثالثة : العفو عن الديات التي لنا .
وليس من خصم لا يرضى بهذا العرض السخي، فتم الصلح .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته يسعى إلى الصلح من غير شروط إنما كان يريد أداءه والمسلمين الفرائض والعبادات وطاعة الله من غير الإضرار بهم .
الإنذار الأول : مجئ البشارات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفاته الشخصية وعلاماته البدنية ، لتكون من مصاديق قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا] ( ).
وقد ورد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بصفاته في التوراة منها (فقال الله لابراهيم لا يقبح في عينيك من اجل الغلام و من اجل جاريتك في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها لانه باسحق يدعى لك نسل، وابن الجارية ايضا ساجعله امة لانه نسلك) ( ) لتكون عوناً للناس مطلقاً في سبل الهداية ومقدمة للإصغاء لآيات القرآن سواء عند سماعها من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو من غيره ، فمن الإعجاز الغيري للقرآن تلاوة آياته أيام التنزيل من قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن قبل كل من :
الأول : أهل البيت .
الثاني : الصحابة الأوائل .
الثالث : الركبان والمسافرون ، فمن خصائص السفر تناقل وتبادل الأخبار والأمور الطارئة بين رفقاء الطريق.
الرابع :الوافدون إلى مكة وهم على أقسام منها :
أولا : حجاج بيت الله الحرام من القرى والأمصار القريبة .
ثانياً : المعتمرون الذين يفدون إلى مكة على مدار السنة .
ثالثاً : الذين يأتون إلى مكة لأغراض التجارة والتسوق .
الخامس : الأمور العامة والإجتماعية والصلات بين الناس .
الإنذار الثاني : ويتعلق هذا الإنذار ببدايات معركة بدر ، ومن خصائصه توالي أفراده ومصاديقه ، ليتعظ رؤساء وأفراد جيش المشركين ، وهذا التوالي من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) وأقسام هذا الإنذار متعددة منها :
أولاً : لقد بعث جيش الكفار عمير بن وهب الجمحي ليحزر لهم أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويعرف بنو جمح بالقافة ورصد الأثر ويلحق به الإحصاء والفراسة ، وبعد أن أطلع على جيش المسلمين أخبر قريشاً بأن عددهم ثلاثمائة رجل ، ثم ترك هامشاً للإحتياط فقال (يزيدون قليلا أو ينقصون) ( ) .
وكأنه قد تجول في أنحاء معسكر المسلمين ، وإطلع على الرصد والرباط ، إذ كان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر ، وقد يقال بعدم الإنذار في مثل هذا العدد لأنه نحو ثلث عدد جيش المشركين .
وهذا صحيح وهو نوع استدراج للذين كفروا بالإضافة إلى الإنذار الذي وجهه عمير بن وهب إلى كفار قريش بخصوص صفات الأنصار ، وكيف أنهم عازمون على الدفاع ، ومستعدون للقتال والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى الموت .
ثانياً : لم يدرك كفار قريش فلسفة الشهادة عند المهاجرين والأنصار، ورغبتهم بلقاء الله ، وفي التنزيل [قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ] ( ) إن عشق الشهادة أمر راجح لجمع المسلمين وتكثير لهم ، يفوق الرجحان العددي لكفار قريش .
وجاء الإنذار لقريش بخصال جهادية يتصف بها الأنصار من جهات :
الأولى : البلايا تحمل المنايا , أي أن وقوع القتال مع أصحاب محمد يأتي لقريش بآجالهم ومناياهم .
الثانية : حمل الأنصار للموت الناقع ، وذكر عمير الأنصار لأنهم أكثر الصحابة يوم بدر ، ونعتهم بـ (نواضح يثرب) ( ) أما النواضح في الإبل التي يستقر عليها الماء والمؤن جمع ناضح , يقال نضح البعير الماء أي حمله من البئر أو النهر ليسقى به الزرع واستعمل الناضح في كل بعير , و إن لم يجد الماء.
ويريد عمير من كلامه بيان أن كون الأوس والخزرج يعملون بالزراعة ويقومون بالسقي .
وسوق النواضح لا يعني أنهم لا يقاتلون .بل يظهر عليه الإرادة والعزيمة والاصرار على القتال في سبيل الله.
الثالثة : عزم المهاجرين والأنصار على القتال حتى الموت أو النصر .
الرابعة : إمتناع صحابة النبي عن الإستسلام أو الإنهزام .
الخامسة : مع أن جيش المسلمين نحو ثلث جيش المشركين إلا أن أي واحد من المسلمين لا يغادر الدنيا حتى يقتل واحداً من المشركين ، فاذا سقط نحو ثلاثمائة من جيش المشركين فانها خسارة عظيمة لقريش لا تطيقها ، ولا تقدر على تحملها ، ويتعذر عليهم جبرها .
لقد أراد هذا الرصد وهو عمير بن وهب النصح والبيان لكفار قريش ، ومن أمثال العرب (الرائد لا يكذب أهله ) ( ) .
والرائد من راد أهله ،يرتاد لهم مرعى أو منزلاً .
ويضرب هذا المثل للذي يجعله القوم مؤتمناً ويثقون به ، وقد يضرب لمن لا يكذب إذ حدَّث .
لقد أنذر عمير عموم جيش المشركين ودعاهم إلى اجتناب القتال فأي واحد منهم سيكون عرضة للقتل وقصد نزول القتل بالمشركين بنسبة من بين كل ثلاثة مما يدل على أن الخزي والذل سيلحقان عامة قريش ، مما يضرهم حتى في قوافلهم وشأنهم عند القبائل .
عندئذ مشى بعض ذوي الفطنة بينهم إذ مشى حكيم بن حزام بين الناس يدعوهم لترك القتال ثم قصد عتبة بن ربيعة لما يعرف عنه من رجاحة العقل وميله إلى الوئام وسعيه بين القبائل بالصلح ، والإنفاق من ماله الخاص لدرء الفتن ، وأثنى عليه حكيم كمقدمة لسؤاله ، وقال له إن سعيت باجتناب القتال هذا اليوم ستفوز بالمدح والثناء أبد الدهر ، وكان صادقاً فيما يقول ، وكأنه يحذرهم وينذرهم من القتل يومئذ ، فقد كان عتبة بن ربيعة من أول الذين قتلوا يومئذ .
وهل كان حكيم بن حزام يدرك حضور المعجزة والمدد من عند الله للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب نعم ، فقد صاحب أيام النبوة ، ورأى عن قرب معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن أخي خديجة بن خويلد زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وهو حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزيز بن قصي القرشي وكنيته أبو خالد ، ولد قبل عام الفيل باثنتي عشرة سنة ، وكان حكيم من وجوه قريش ، وتأخر إسلامه إلى عام الفتح ، فهو من مسلمة الفتح هو وأبناؤه وهم :
الأول : عبد الله .
الثاني : خالد
الثالث : يحيى .
الرابع : هشام .
وتوفى حكيم بالمدينة سنة أربع وخمسين وهو ابن مائة وعشرين سنة .
وكانت دار الندوة بيد حكيم بن حزام ، فباعها على معاوية .
(فقال له ابن الزبير بعت مكرمة قريش ، فقال حكيم : ذهبت المكارم إلا التقوى.
وكان من المؤلفة قلوبهم وممن حسن إسلامه منهم.
أعتق في الجاهلية مائة رقبة ، وحمل على مائة بعير ثم أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أسلم فقال يا رسول الله : أرأيت أشياء كنت أفعلها في الجاهلية أتحنث بها ألي فيها أجر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” أسلمت على ما سلف لك من خير) ( ).
ثالثاً : قيام عتبة بن ربيعة خطيباً في قريش منذراً لهم من عواقب قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبيان الأضرار الجسيمة التي تلحق بهم إذا قتلوه لما فيه من تأسيس للعداوة بين أفخاذ قريش ، ثم تكلم بعقلانية قائلاً (وخلوا بين محمد وبين سائر العرب فان اصابوه فذاك الذى اردتم وان كان غير ذلك الفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون) ( ).
وقد يستغرب القارئ كيف أن عتبة يتبدل بسرعة وتأخذه حمية الجاهلية ويتقدم للمبارزة ومعه ابنه الوليد وأخوه ، مع وجود ابنه الآخر أبي حذيفة إلى جنب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مؤمناً عازماً على الشهادة في سبيل الله .
لتتجلى حقيقة وهي أن الكفر والمناجاة فيه قد تؤدي بالإنسان إلى التهلكة واختيار طريق الضلالة والقتال من أجل الإقامة عليه ، ليكون دفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حاجة من جهات :
الأولى : إرادة سلامة شخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ كان الذين كفروا يسعون في قتله .
الثانية : دفع القتل أو الأسر عن الصحابة .
الثالثة : صرف السبي والذل عن نساء وصبيان أهل المدينة ، وبين أهل المدينة والأنصار عموم وخصوص مطلق .
الرابعة : الدفاع من أجل إنقاذ وهداية الذراري ، ومنهم أبناء الذين كفروا ممن كان يحارب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : حجب سلطان الذين كفروا على الناس بما فيهم اتباعهم وغلمانهم وعبيدهم، وفي التنزيل[إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ]( ).
وجاءت رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنجاة الناس منها ولدعوتهم للإيمان والإقرار بالتوحيد واليوم الآخر ،ووقوف الناس بين يدي الله للحساب وفوز المؤمنين بالثواب العظيم باللبث الدائم بالجنان وخسارة الذين كفروا بالإقامة في عذاب النار ، قال تعالى[وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا]( ) .
وورد بعد آيتين من الآية أعلاه قوله تعالى[وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا]( ).
وهل كانت الإنذارات الموجهة إلى قريش من الكلي المتواطئ الذي يكون على مراتب متساوية أم أنها من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة من جهات :
الأولى :علة وسبب الإنذار .
الثانية : ذات الإنذار .
الثالثة : أثر الإنذار .
الرابعة : انتفاع المسلمين من الإنذار .
الخامسة : كيفية تلقي المسلمين الإنذار .
ويمكن تقسيم الإنذارات إلى أقسام :
الأول : الإنذار المحصور الخاص بمعركة بدر .
الثاني : الإنذار الموسع لمعركة بدر وغيرها من معارك الإسلام .
الثالث :الإنذار الدائم للكفار والمنافقين في كل زمان لتكون ذات معركة بدر إنذاراً يضاف إلى الإنذارات الخاصة بها .
الرابع : الإنذار العام للناس كافة , ومن خصائص الدنيا أنها دار الإنذار , ولا يستثنى أحد في المقام , ولكم الله هدى أهل الإيمان للتقوى والصلاح .
وهل من موضوعية لدعاء المسلمين في باب الإنذارات إلى قريش الجواب نعم ، وليس من حصر لمنافع الدعاء في المقام من جهة كثرة أفراد الإنذار وشدتها ، وتعدد مواضيعها ودلالاتها ، وإتعاظ المشركين والناس منها ، قال تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ] ( ) إذ سألا الله عز وجل أن يتقبل منهما عملهما وجهادهما في سبيل الله ، وهل منه سؤال قبول الدعاء , أم أن القدر المتيقن في الآية هو رفعهما قواعد البيت الحرام , أما موضوع الدعاء هو الإستجابة له وليس القبول .
المختار هو الثاني .
ولابد من دراسة مقارنة بين خروج المشركين من مكة إلى قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر إذ كانوا يلقون الأشعار ويغنون ويضربون بالطبول ، مع صيحات قرب النصر والوعيد والرغبة بالبطش والإنتقام وصيغ الإستهزاء والسخرية بالنبوة وأهل الإيمان ، ليعودوا بالذل والهزيمة والهوان ، وكل من حال الخروج والعودة إنذار ، وكذا الجمع والمقارنة بينهما وهذا الضد يظهر قبحه الضد .
ليكون هذا التضاد بين الحالتين على وجوه :
الأول : زجر المشركين على العودة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ترى ماذا لو لم يزحف المشركون إلى معركة أحد ، الجواب لاتسع الإسلام ، ودخل أكثرهم فيه وما سقط سبعون شهيداً من المسلمين ، ولتم فتح مكة بذات الكيفية من غير قتال يذكر .
الثاني : تجلي شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بزحف عدوه للقتال مع وثوقه من النصر ، ليعود بالهزيمة والخسران .
الثالث : دعوة الناس للإتعاظ من مشركي قريش وهزيمتهم والخزي الذي لحق بهم بعد محاربتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم باجتناب نصرتهم وإعانتهم .
الرابع : توجيه عامة أهل مكة رجالاً ونساءً ورجال القبائل العربية اللوم لرؤساء قريش على إصرارهم على قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع إنتفاء السبب لهذا القتال .
الخامس : إستحضار أهل مكة والقبائل دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم إلى الإسلام ، وتحمله الأذى في محاربة تقديس الأصنام ، ومن الآيات في المقام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يطوف على منازل القبائل في الموسم يعرض نفسه عليهم ، ويجرى خلفه بعض رجالات قريش يرمونه بالكذب ويحثون الناس على عدم الإنصات له .
السادس : دعوة الناس لإنتظار نتائج المعركة التالية ، إن أصرت قريش على القتال لأستصحاب المعجزة والمعرفة الإجمالية العامة بأن الخزي يلحق كفار قريش ، فجاءت معركة أحد وأرادوا التغطية وادعّوا النصر فيها , فبيّن الله كذبهم وفضحهم إلى يوم القيامة ، قال تعالى لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ.

باب (المغالطة حنظلة بحنظلة )
المغالطة قياس فاسد وصناعة تتنافى مع اليقين وتبتعد عنه وهي أدّعاء زائف .
والمغالطة إتخاذ المكر والإحتيال عن دراية وتفنن لإنتاج الكذب والزيف ، ومحاولة الإقناع بالإيهام ، والإبهار ، وإحراج الخصم بتأليف صناعة لا تعتمد اليقين مقدمة أو نتيجة .
وتسمى سفسطة عند محاولة الإحتجاج والجدال مع الحكيم ، وتسمى مشاغبة مع الجاهل وإتخاذ المقدمات المشهورة .
والنسبة بين المغالطة والغلط هي العموم والخصوص من وجه ، إذ يعتمد المغالط منطقاً لا أصل له بقصد التضليل لغاية خاصة بعيداً عن المسلمات ومن أنواع المغالطة : الوهميات ، والمشتبهات اللفظية .
وقد وقعت معركة أحد بين الحق والباطل ، وبين التنزيل والزيف ، وبين ملة التوحيد وعبادة الأوثان.
وحنظلة اسم علم مذكر ، وهو مؤنث تأنيثاً مجازياً , والحنظل نبات ثمره مر ، وقد يكون ساماً ، ويستعمل في علاج بعض الأمراض .
ويسمى حبّه (الهبيد) إذ يعالج حتى يطيب فيختبز ( ) ويأكلونه ، وتسمى شجرة الحنظل : العلقم .
وقال عنترة :
(والخَيْلُ ساهِمةُ الوُجوهِ كأنّما … تُسْقَى فوارسُها نَقيعَ الحنظلِ) ( ).
أي أن الخيل عابسة الوجوه ، والمراد من تسمية حنظلة ، القطعة من الحنظل لبيان الشدة والعبوسة فيه أو شجاعته .
واسم حنظل شائع عند العرب ، وأن صارت التسمية به نادرة في هذا الزمان .
واختار أبو سفيان وهو من أهل مكة ورجالاتها اسماً لأحد أولاده وهو حنظلة ، وكان أبو سفيان قد تزوج كلاً من :
الأولى : صفية بنت أبي العاص بن أمية بن عبد شمس ، فولدت له حنظلة وبه كان يكنى لأنه بكره ، وسأله الأخنس يوماً: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد فقال يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها قال الاخنس وأنا والذى حلفت به ثم خرج من عنده)( ).
كما ولدت له أم المؤمنين أم حبيبة وأميمة.
الثانية : هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فولدت له معاوية، وعتبة وجويرية تزوجها السائب بن أبي حبيش ، وأم الحكم وتزوجها عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن ربيعة.
الثالثة : زينب بنت نوفل بن خلف فولدت له يزيداً .
(قال خليفة : لما ولى عمر عزل خالدا ، وولى أبو عبيدة حين فتح الشامات ويزيد بن أبي سفيان على فلسطين، وشرحبيل بن حسنة على الأردن، وخالد بن الوليد على دمشق، وحبيب بن مسلمة على حمص ثم عزله ، وولى عبد الله بن قرط الثمالي ثم عزله ، وولى عبادة بن الصامت ثم عزله ورد عبد الله بن قرط ثم وقع طاعون عمواس فمات أبو عبيدة واستخلف معاذ ومات معاذ واستخلف يزيد بن أبي سفيان فمات يزيد واستخلف أخاه معاوية، فأقره عمر)( ).
الرابعة : عاتكة بنت أبي أزيهر بن أنيس فانجبت له محمداً وعنبسة .
الخامسة : صفية بنت أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس فولدت عمرو وعمر وصخرة تزوجها سعيد بن الأخنس , وهنداً تزوجها الحارث بن نوفل وأمينة .
السادسة : أمامة بنت سفيان بن وهب بن الأسلم، وولدت له رملة الصغرى .
السابعة : لبابة بنت أبي العاص بن أمية أي أخت صفية وولدت له ميمونة تزوجها عروة بن مسعود الثقفي فولدت له، ثم خلف عليها المغيرة بن شعبة الثقفي.
ويحتمل زواج أبي سفيان من لبابة وجهين :
الأول : الجمع بينها وبين أختها صفية بنت أبي العاص بن أمية ، من قبل أن يدخل الإسلام الذي يحرم الجمع بين الأختين لقول تعالى [وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ] ( ) .
الثاني : تزوج أبو سفيان لبابة بعد وفاة صفية ومفارقته لها .
الثالث : تزوج لبابة قبل صفية .
والمختار هو الثاني ، فلم يرد في الأخبار قيام أبي سفيان بمفارقة إحدى زوجاته بسبب الجمع بين الأختين إذ كان هذا الحكم شاملاً لجميع المسلمين ليس فيه استثناء، ولقوله تعالى في آية التحريم[وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ]( ).
وهل يشمل المسلمات بمعنى إذا كانت أختان عند زوج واحد فيجب أن تفارقه إحداهما.
الجواب نعم لأنه حكم تكليفي عام ، ولو امتنع الزوج عن مفارقة أي منهما، وكل واحدة تريد البقاء معه أو الإنفصال عنه فلا يحق هذا الإمتناع بل يجبر على ترك إحداهما، ولا تصل النوبة حينئذ إلى القرعة بينهما.
لقد وقعت معركة بدر في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، ونزل قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ).
وتبين الآية أعلاه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لم يقصدوا القتال، ولم يرغبوا فيه من جهات :
الأولى : نزول القرآن بخصوص معركة بدر تزكية لعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، ومن الشواهد في المقام مجئ الآية أعلاه بصيغة الخطاب العام للمسلمين، فلم تقل الآية (ولقد نصرك الله) أو(ولقد نصر الله الرسول وأنتم أذلة).
إنما توجه خطاب النصر بصيغة الجمع ليشمل :
الأول : النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : المهاجرون .
الثالث : الأنصار الذين كانوا يوم بدر نحو ضعف عدد المهاجرين .
الرابع : المسلمون والمسلمات الذين بقوا في المدينة ، وهل يشمل الخطاب المنافقين بلحاظ أنهم نطقوا بالشهادتين ، الجواب لا .
الخامس : التابعون من الذكور والأناث .
السادس : أجيال المسلمين إلى يوم القيامة .
إذ يطل على المسلمين خمس مرات في اليوم قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) وهذه الإطلالة وتعددها من مصاديق الإعجاز في إقامة المسلمين الصلاة خمس مرات على نحو الوجوب العيني ، قال تعالى[إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ).
الثانية : نسبة نصر المسلمين في معركة بدر إلى الله تعالى، فهو الذي أمدّهم وأعانهم ونصرهم ، مما يدل على تنزههم عن الإعتداء والظلم لقوله تعالى [وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] ( ) وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : لا ينصر الله المعتدين .
الصغرى : لقد نصر الله المسلمين يوم بدر .
النتيجة : المسلمون ليسوا معتدين .
وهل يحتمل عدم الإعتداء من الفريق الآخر يوم بدر وهم المشركون بلحاظ أن اثبات شئ لشئ لا يدل على نفيه عن غيره ، الجواب لا ، لوقوع المعركة وحتمية اعتداء أحد الطرفين فيها وتدل عليه الشواهد التأريخية.
وفي الآية تقدير ، وتقدم البيان في أجزاء سابقة .
الثالثة : اخبار آية (ببدر) عن حال المسلمين عند مجيء النصر لهم، وكيف أنهم كانوا على وجوه مجتمعة منها :
قلة عدد المسلمين أزاه كثرة الذين كفروا سواء في المجموع العام يومئذ أو في ساحة معركة بدر .
لقد كان جيش المسلمين يومئذ ثلاثمائة وثلاثة عشر وكان عدد جيش المشركين تسعمائة وخمسين .
فهل ذات النسبة تكون بين عموم المشركين في مكة وما حولها وبين مجموع المسلمين في المدينة ومكة، الجواب لا، إذ أن عدد المشركين في الجزيرة أضعاف عدد المسلمين، لبيان قانون وهو شمول قوله تعالى[وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] عموم المسلمين يومئذ ، وإنه لا يختص بحالهم في معركة بدر ، ومنهم المسلمون المستضعفون في مكة .

قوانين [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ]( )
لقد جعل الله الآية القرآنية مصدراً للقوانين ، وروضة يقتطف منها الناس الضياء والطيب والرشاد.
ويحتمل ترشح القوانين عن الآية القرآنية وجوهاً:
الأول : مجموع كلمات الآية القرآنية مصدر لقانون.
الثاني : كل شطر من الآية القرآنية مصدر لقانون متحد.
الثالث : بعض جمل الآية القرآنية يتفرع عنها قانون دون الجمل الأخرى.
الرابع : كل كلمة قرآنية يترشح عنها قانون أو أكثر.
الخامس : تفرع القوانين المتعددة عن الآية القرآنية.
السادس : من الآيات القرآنية ما لا يترشح عنها قانون خاصة إذا كانت الآية القرآنية تتألف من كلمة واحدة.
وبإستثناء الوجه الأخير فإن الوجوه الأخرى من مصاديق العلوم القرآنية، وورد قوله تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( )، في خطاب لعموم المسلمين والمسلمات بدليل عطفه على قوله تعالى[مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابن السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ]( ).
ويتضمن قوله تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ]( ) قوانين من جهات :
الأولى : قانون الذي يكتب ويفرض القتال على المسلمين هو الله عز وجل .
الثانية : قانون لزوم كون القتال في سبيل الله ، وتقدير الآية : كتب عليكم القتال في سبيل الله .
الثالثة : قانون قتال المسلمين طاعة لله عز وجل .
الرابعة : قتال المسلمين للدفاع وليس للغزو والتعدي .
الخامسة : قانون عدم الملازمة بين حب الشئ وإتصافه بالنفع .
السادسة : قانون عدم الملازمة بين كره الشئ والضرر .
السابعة : قانون إحاطة الله عز وجل علماً بكل شئ .
الثامنة : تخلف المسلمين والناس عن معرفة كنه الأوامر والنواهي الإلهية.
التاسعة : قانون فرض الدفاع على المسلمين من عند الله .
العاشرة : قانون قبح إصرار الكفار على التعدي، بلحاظ كبرى كلية وهي أن قتال المسلمين للدفاع المحض.
الحادية عشرة : قانون في القتال دفاعاً نفع للإسلام والمسلمين.
الثانية عشرة : في الأمر الذي يتضمن الكره والشدة والغلظة ثواب عظيم للمسلمين، وفي التنزيل[لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ]( ).
الثالثة عشرة : أمر الله للمسلمين بالقتال دفاعاً زاجر للذين كفروا عن التعدي والظلم.
الرابعة عشرة : قانون كتب الله على المسلمين القتال ليسلموا منه ويصير الكفار على قسمين:
الأول : الذين يتوبون إلى الله ويدخلون الإسلام.
الثاني : الذين يصرون على الكفر، والذين يبقون في حال وهن وضعف.
الخامسة عشرة : إقتران الإنفاق والبذل بمقدمات القتال في سبيل الله.
ترى ماذا لو لم يفرض الله على المسلمين الدفاع ، الجواب لقد أراد المشركون استئصال الإسلام وقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ، بدليل أنهم هجموا على المسلمين في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة .
ويبعد موضع معركة بدر عن المدينة مائة وخمسين كيلو متراً ، ثم هجموا في معركة أحد بثلاثة آلاف رجل وهو ثلاث أضعاف عدد جيشهم في معركة بدر أو يزيد ، ولم يخرج لهم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن صاروا على مشارف المدينة مع علمه بخروجهم من مكة ، قال تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
قانون قلة القتلى في زمن النبوة
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالخلافة في الأرض بقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) ولما احتج الملائكة على خلافته في الأرض بسبب فساد شطر أو طائفة من الناس وقتل بعض منهم بعضاً فأجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
ويحتمل جواب الله عز وجل هذا من جهة الزمان وجوهاً :
الأول : الفورية ومجئ الجواب على الملائكة حال نطقهم بالإحتجاج.
الثاني : مجئ الرد من عند الله بعد خلق آدم عليه السلام .
الثالث : بعد سؤال الله للملائكة عن أسماء الأشياء التي عرضها عليهم وعجزهم عن معرفتها ، بينما عرفها آدم عليه السلام وأخبرهم بها ، ويكون الإحتجاج بالمصداق العملي سابقاً للإحتجاج بالقول .
والمختار هو الأول لنظم الآية وأصالة الظاهر والمتبادر ورحمة الله بالملائكة والناس بأن جاء الجواب في الحال ، والمختار في قول الملائكة أعلاه [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) أنه ليس للاحتجاج والاستفهام الإنكاري إنما ورد للرأفة بالناس ، إذ يسأل الملائكة الله عز وجل أن يجعل الناس كلهم صلحاء منقطعين إلى عبادته وطاعته ، ولتكون الأرض وسكانها مرآة للسماء وسكانها من جهة التقوى والتسبيح فأجابهم الله عز وجل بقوله [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) بأن الدنيا دار إمتحان وابتلاء واختبار وأن أهل الإيمان لهم البشرى بالدرجات العلا في دار المقام وأن الأنبياء وأتباعهم يقاتلون في سبيل الله ، ويكون النصر حليفهم ، ويأتي يوم معركة بدر ويتلاقى الصفان كما في قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ).
ويجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء وسؤال المدد والنصر من عند الله عز وجل ، فضجت الملائكة بالدعاء وسألوا الله تعالى وهل سمع الملائكة مناجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الارض) ( ) .
الجواب نعم ، ورأوا قلة عدد المسلمين مقابل كثرة عدد وعدة ورواحل الذين كفروا .
فاستجار الملائكة بالله عز وجل فاذن لهم بالنزول لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليعلموا مصداقاً عظيماً من مصاديق قوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ) فكان النصر حليف النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ليكون من علم الله عز وجل الذي أخبر به الملائكة قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) .
وتدل الآية أعلاه على نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من عند الله وهو القادر على أن يكون النصر بأمر [كُنْ فَيَكُونُ] ( ) ولكنه تفضل وأنزل الملائكة للنصرة لقوله تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
وفيه مسائل :
الأولى : بيان قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج إلى معركة بدر إلا بأمر ووحي من عند الله عز وجل .
الثانية : مشاركة الملائكة في إضعاف الفساد في الأرض .
لقد احتج الملائكة على فساد الإنسان في الأرض وقتل بعضهم بعضاً ، ومن أشد ضروب الفساد والقتل وجوه :
الأول : محاربة الأنبياء .
الثاني : محاربة خاتم النبيين .
الثالث : المبارزة مع أهل البيت والصحابة .
الرابع : قتال ومبارزة المؤمنين .
الخامس : إبتداء الذين كفروا بالقتال وسقوط عدد من الصحابة ، إذ سقط أربعة عشر من المهاجرين والأنصار .
ترى لماذا لم ينتقم الملائكة من جميع جيش المشركين ويستأصلوا الفساد في تلك المعركة .
الجواب من جهات :
الأولى : لا يفعل الملائكة إلا ما يأمرهم به الله عز وجل ، وفي التنزيل[وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] ( ).
الثانية : بيان مصداق لقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) ومن علم الله عز وجل توبة شطر من الكفار.
الثالثة : إدراك الملائكة لعلم الله عز وجل بفوز النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالثواب العظيم .
لقد قتل سبعون من مجموع نحو الف هو جيش المشركين ، وأسر منهم سبعون مع كفرهم وجحودهم وأعتدائهم وظلمهم لبيان قانون وهو أن من معاني الرحمة في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحرب على الفساد .
وإن أراد الكفار استئصال المسلمين ، ولكن مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) حاضرة في ميدان المعركة من جهات :
الأولى : قلة قتلى المسلمين .
الثانية : خيبة الذين كفروا وعجزهم عن إبادة المسلمين .
الثالثة : تجلي معجزات للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أرض المعركة ومنها قتال الملائكة، وإدراك الفريقين مع التضاد بينهما حضور الملائكة، وأثرهم وموضوعيتهم في نصر المسلمين يومئذ لم تهزمونا، ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخصوص القتلى أمور:
الأول : أكثر المرات التي خرج فيها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع لم يقع فيها قتال.
الثاني : سعي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإجتناب القتال.
الثالث : قبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلح.
الرابع : دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند إلتقاء الفريقين إلى التوحيد، فكان يدعو الأعداء إلى نبذ الشرك .
الخامس : دعوة أجيال الناس في كل زمان للتدبر في معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسنته الدفاعية، من جهات:
الأولى : نصر المسلمين في ميدان المعركة.
الثانية : عدم تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهزيمة في أي معركة من معارك الإسلام، فإن قيل قد خسر المسلمون معركة أحد، الجواب لم يخسر المسلمون المعركة من وجوه:
أولاً : لم ينهزم المسلمون في معركة أحد.
ثانياً : مع أن معركة أحد بدأت بإصرار المشركين على القتال وتحدي وتعيير حامل لوائهم وهو عثمان بن طلحة للمسلمين لأنهم يقولون بأن الجنة مثوى الشهداء ومع هذا يمتنعون عن مبارزته، ولم يعلم أن هذا الإمتناع لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في إجتناب القتال والشرارة الأولى منه، ويطيع المسلمون الله ورسوله، فقد برز له الإمام علي عليه السلام فقتله.
ثالثاً : بقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه في ميدان المعركة، ولم ينسحب منها إلا بعد مغادرة جيش المشركين لها.
ومن الآيات في المقام أن أبا سفيان رئيس جيش المشركين أطل على المسلمين في ميدان المعركة وأعلن إنسحابه وجيشه بقوله: (إن موعدكم بدر العام المقبل)( ).
رابعاً : لقد كان همّ المشركين قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبذلوا الوسع في الوصول إليه، وصحيح أن الجراحات أصابته ولكنه خرج سالماً من المعركة وإستبشر المهاجرون والأنصار رجالاً ونساءً، وهو من الشواهد على عدم وقوع هزيمة للمسلمين، وبين الهزيمة والخسارة عموم وخصوص مطلق، فكل هزيمة هي خسارة وليس العكس.
الثالثة : من مسائل وفنون القتال المباغتة ويعلم بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى أنه قال(الحرب خدعة)( ) ومع هذا فأنه لا يبدأ عدواً بقتال، ولا يباغتهم بالسهام والنبال، إنما ينشغل وأصحابه بدعوتهم إلى التوحيد وإجتناب الشرك، ويكون من منافع قلة القتلى في المعارك التي خاضها النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم نقل الأحياء من المشركين إلى من خلفهم تجليات من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيكون هذا النقل على وجوه:
أ‌- إنها حجة على الذين كفروا، وهذه الحجة مركبة من وجوه:
1- حجة على الكفار الذين قتلوا وهم يحاربون الله ورسوله والمؤمنين.
2- إنه حجة على الكفار الذين ماتوا على الكفر والجحود، قال تعالى[وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( ).
3- إنه حجة على عموم الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ومن وجوه الحجة في المقام دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكفار قبل البدء إلى التوحيد.
ب‌- بعث الخلاف بين رؤساء الكفر وأتباعهم.
ج‌- دعوة الناس إلى الإيمان والهدى، ومنهم عوائل وأبناء الذين كفروا، وتلك آية في النبوات , إذ أن أكثر أتباع الأنبياء من الشباب والفتية ليكون من معاني قوله تعالى[وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( )، أن النصر مصاحب لهم لأنهم قاتلوا بقوة الشباب وبمدد من عند الله لذا أخبرت الآية أعلاه عن نفي الإستكانة والوهن والضعف عنهم.
ح‌- تجليات معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة حجة على الناس في أجيالهم المتعاقبة.
الرابعة : رأفة الله عز وجل بالناس في زمن النبوة.
الخامسة : مصاحبة المعجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل وأثناء وبعد المعركة واقية من تجدده.
السادسة : تنمية ملكة الصبر عند المهاجرين والأنصار.
السابعة : قد تقدم في الوجه الخامس المتقدم والذي تفرعت عنه هذه المسائل أن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسنته الدفاعية دعوة للناس للتدبر في نبوته وآيات التنزيل .
وبخصوص معركة بدر وضلالة كفار قريش، قال تعالى[وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنْ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتْ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ]( )، قال ابن إسحاق فحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذى كان بينها وبين بنى بكر، فكاد ذلك أن يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجى، وكان من أشراف بنى كنانة، فقال: أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشئ تكرهونه.
فخرجوا سراعا قلت: وهذا معنى قوله تعالى:[ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ]( ).
وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى جار لكم.
فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال: إنى برئ منكم إنى أرى ما لا ترون إنى أخاف الله والله شديد العقاب”.
غرهم لعنه الله حتى ساروا وسار معهم منزلة منزلة، ومعه جنوده وراياته، كما قاله غير واحد منهم، فأسلمهم لمصارعهم، فلما رأى الجد والملائكة تنزل للنصر وعاين جبريل نكص على عقبيه وقال: إنى برئ منكم إنى أرى ما لا ترون إنى أخاف الله.
وهذا كقوله تعالى: ” كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر.
فلما كفر قال إنى برئ منك إنى أخاف الله رب العالمين”( ): وقد قال الله تعالى: ” وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا فإبليس لعنه الله لما عاين الملائكة يومئذ تنزل للنصر فر ذاهبا، فكان أول من هرب يومئذ، بعد أن كان هو المشجع لهم المجير لهم، كما غرهم ووعدهم ومناهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا)( ).
وورد عن ابن عباس في قوله تعالى[وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا]( ) يعني المشركين الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر)( )، لبيان التباين والتضاد بين المسلمين والذين كفروا من جهات:
الأولى : النية والعزيمة، فلا يخرج المسلمون للبطر وهو شدة المرح والغرور والتباهي بين الناس وترك الشكر لله عز وجل , أو للرياء وهو إراءة الناس القوة والمتعة، ومنه الفخر والزهو.
الثانية : تأكيد قانون إتصاف المشركين بالبطر والزهو بينما يخرج المسلمون للدفاع وهم منقطعون إلى التسبيح والتهليل .
الثالثة : البطر برزخ دون الإستعداد للقاء العدو وحسن الدفاع ، وهل التنزه عن البطر وشدة المرح والغرور من مصاديق قوله تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ( ).
الرابعة : لم يرد لفظ [بَطَرًا] ( ) في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وهل يدل على حقيقة وهي ذهاب البطر عن كفار قريش بعد معركة بدر ، الجواب نعم للهزيمة التي نزلت بهم وشدة الخزي الذي لحقهم .
مما يعني لزوم إحتراز المسلمين منهم ، ولم تمر ثلاثة عشر شهراً حتى أطلت جيوش قريش على المدينة لا ترضى إلا بقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الخامسة : في الآية حجة على الذين كفروا وهي تعمدهم الخروج من مكة للقتال والظلم والتعدي مع نجاة قافلة أبي سفيان ، وبعثه رسالة لهم بالرجوع .
السادسة : تبين الآية أعلاه مسألة وهي أن الأولى لقريش عدم الخروج حينما جاءتها الإستغاثة من أبي سفيان ، وقد تكون هذه المسألة تذكر لأول مرة.
إذ تدل الآية بالدلالة التضمنية على أن الأولى لقريش عدم الخروج إلى معركة بدر ، ولا حاجة لهذا الخروج ، ومع أن الله عز وجل نصر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في المعركة نصراً عظيماً ، فان عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) جلية في المقام إذ تدعو آيات القرآن المشركين إلى الكف عن الخروج من ديارهم وعن القتال، ومن مصاديق البطر الذي تذكره الآية أعلاه .
بحث لغوي
ورد لفظ (إبراهم) بدون ياء خمس عشرة مرة في سورة البقرة على نحو الخصوص والتي نزلت على مدى تسع سنين من مجموع(69) مرة ورد فيها اسم إبراهيم في القرآن، بينما ورد لفظ(إبراهيم) بالياء في سور القرآن الأخرى.
وهل يدل هذا على أن كتابة الخط العثماني لم تنحصر بزيد بن ثابت، أم أنه كان يكتب(إبراهيم) بصيغة العبرانية ثم ظهر له رجحان كتابتها، الجواب لا دليل على أي منهما، وقيل كتب(إبراهم) في المصاحف الشامية لأن أهل الشام يسمون إبراهيم، (إبراهم) ولكن الموضوع أعم من أن ينحصر بأهل الشام لأن رسم القرآن توقيفي .
وقد تحذف الياء تخفيفاً وتتعدد اللغة في كتابة إبراهيم مثل جبرئيل إذ وردت فيه أربع لغات وهي:
الأولى : جبريل، بكسر الجيم والراء وعن غير همز، وهل يكون على هذه القرآن أسماً واحداً مثل(قطمير) الجواب لا، وإن إتحد معه الوزن.
الثانية : جبريل، بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، وبها قرأ عبدالله بن كثير، وروي عنه: إنه قال: رأيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم في النَّوْمِ وهو يَقُرَأُ : جَبْرِيلَ وَمِيكَالَ ، فلا أزال أقرأها أبداً كذلك.
يعني ، واللَّه أعلم : مع اعتماده على روايتها ، قال الثعلبيُّ: والصحيح المشهورُ عن ابن كَثِيرٍ ما تقدَّم من فتح الجيم، لا ما حُكِيَ عنه في الرؤْيَا من كَسْره)( )، إذ أن ابن كثير يقرأ جبريل مثل سَمويل وهو اسم طائر.
وهل هذه الرؤيا حجة بلحاظ أن رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام حق، الجواب أما الشطر الثاني فصحيح، وأما الأول فلا، إذ أن هذه الرؤيا ليس بحجة إلا على صاحبها، لذا ترى ابن كثير يذكر نفسه فقط من جهة التقيد بهذه القراءة.
الثالثة : جَبَرئل على وزن جبرعِل , وهي لغة تميم وقيس.
الرابعة : جبرائيل.
وفي أصل تسمية جبرائيل وجوه:
الأول : إنه اسم عبراني ومعناه رجل الله.
الثاني : إنه اسم سرياني مركب من كلمتين(جبر) ومعناه العبد، و(إيل) هو الله تعالى.
الثالث : إنه لفظ عربي مشتق من جبروت الله، وإحتج على أعجمية اللفظ بعدم صرفه، أي لو كان عربياً لتم صرفه، ولكنه ليس بعلة تامة على كونه غير عربي , والراجح عربيته لإطلاق قوله تعالى[إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ]( )، إلا أن يثبت بالتخصيص كونه لفظاً غير عربي، وحتى على هذا القول فإن ورود اللفظ الذي يقال أنه أعجمي في القرآن دليل على عربيته، من جهات محتملة:
الأولى : كان اللفظ عند العرب القدامى بهذا الاسم.
الثانية : صيرورة اللفظ عربياً بذكر العرب له على ألسنتهم، وإرادة ذات المسمى، خاصة وأن ألفاظ اللغة والأسماء التي ترد فيها ليس من جامدة بل هي قابلة للتوسعة والزيادة , ومنها ما يرد في زمن العولمة من الأسماء والألفاظ والمخترعات التي تشيع أسماؤها معها في عموم الأرض، وقد تسبقها تلك الأسماء، وهل هو من مصاديق قوله تعالى[وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا]( )، الجواب نعم.
الثالثة : إرادة صيغة العالمية لآيات القرآن ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ]( ).
الرابعة : لغة أهل الجنة هي العربية، وهل الإستدلال باسم جبرائيل في الجنة على كون اللفظ عربياً، أم أن هذا من الإستصحاب القهقري الذي لا يقول به الأصوليون، الجواب هو الأول.
ومن الإعجاز القرآني ومصاديق نزوله من عند الله عز وجل أنه مع كثرة أسماء الله عز وجل فيه فأنه لا يقع إختلاف في قراءة بعضها، وهو من عمومات قوله تعالى[وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى]( )، وكذا بالنسبة لأسماء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع قلتها بالنسبة للأسماء الحسنى، (عن الزهري، عن محمد بن جبير، عن أبيه، عن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال : أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبيّ)( ).
وعن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أعطيت ما لم يعط أحد من أنبياء الله قلنا يا رسول الله ما هو؟ قال: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض ، وسميت أحمد ، وجعل لي تراب الأرض طهوراً ، وجعلت أمتي خير الأمم)( ) .
وفي الحديث أعلاه مسائل :
الأولى : بيان عظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الله بأن رزقه ما لم يرزق أحداً من الأنبياء ليدل بالدلالة الإلتزامية على أنه لم يعط أحداً من الناس مثلما أعطاه الله.
الثانية : بيان قانون وهو أن النبي محمداً لم ينصر بالقتال والسيف، إنما نصره الله عز وجل بالرعب والفزع.
الثالثة : في الحديث شاهد على التخفيف على كل من:
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : المسلمون.
الثالث : الناس جميعاً.
الرابعة : البشارة لأجيال المسلمين بعدم وصول النوبة إلى القتال لتثبيت معالم الإيمان في الأرض، وفي الحديث وجهان:
الأول : إنقطاع رعب الذين كفروا بإنتقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى.
الثاني : إستمرار وإستدامة الرعب في الأجيال.
والمختار هو الثاني , وتقدير الحديث نصرت وينصر الإسلام بالرعب.
الخامسة : إرادة معنى ورود الخير والبركة للمسلمين في أيام النبوة وما بعدها , وهل من الشواهد , كنوز النفط والغاز والمعادن التي تكثر في بلاد الوحي والإسلام الجواب نعم , وهو من مصاديق قوله تعالى , [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا] ( ).
وفيه شاهد على إستدامة الرزق الكريم للمسلمين إلى يوم القيامة .
السادسة : بيان موضوعية تسمية النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أحمد) وان الله عز وجل هو الذي إختار له هذا الاسم , ولبيان قانون وهو سبق هذه التسمية لولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ورد على لسان عيسى عليه السلام , [وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ]( ), وهذا فيه شاهد على أن الاسم غير المسمى , الجواب نعم , وهل تدل تسمية أحمد بين الأنبياء على ان وظيفته وأمته الحمد لله والثناء عليه وليس القتال , الجواب نعم .
السابعة : إكرام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته بالسعة والمندوحة في الطهارة والتطهير , إذ جعل الله عز وجل له الطهارة الترابية بديلاً للطهارة المائية , قال تعالى [فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا] ( ).
الثامنة : تفضل الله عز وجل بجعل المسلمين (خَيْرَ أُمَّةٍ) بإيمانها وصلاحها وتقيدها بأحكام الشريعة , قال تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ومن مصاديق (خَيْرَ أُمَّةٍ) في المقام وجوه :
الأول : الثبات في مقامات الإيمان .
الثاني : دعوة الناس جميعاً للإيمان بصيغة الحجة والبرهان , قال تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ] ( ).
الثالث : التقيد بالفرائض والأحكام .
الرابع : القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الخامس : الإمتناع عن الإبتداء بالقتال .
السادس : اللجوء إلى التوبة والإنابة .
السابع : تلاوة القرآن , وتعاهد سلامته من التحريف .
مقدمة في سند الحديث
إجماع المسلمين على أن السنة النبوية المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن، وهي مرآة وبيان لآياته ، والقرآن قطعي الصدور ، وما بين الدفتين نازل من عند الله ، ويحرم نقل القرآن بالمعنى إلا لإرادة التبيان والتفسير ، أما الحديث القدسي والحديث النبوي فيجوز نقلها بالمعنى .
أما الحديث النبوي فهو على مراتب من جهة السند ، وهو وثاقة أو ضعف رجال الحديث الذين نقله بعضهم من بعض إلى حين وصوله إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالإتصال في السند أو الإنقطاع أو الإرسال وسموا بالسند لأنهم يسندون الحديث إلى جهة الصدور أما المتن فهو في الإصطلاح ما أنتهى إليه السند .
والمراد من المرفوع هو الحديث الذي أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أما الموقوف فهو الحديث الذي يضاف إلى الصحابي ، أما المقطوع فهو الذي يضاف إلى التابعي وبعضهم يسمى الخبر المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخبر ، والموقوف بالأثر ، وفي اصطلاح الحديث المرفوع مندوحة ونوع تسامح سندي إذ يطلق على القول والفعل والتقرير المنسوب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء اتصل أو انقطع سنده .
والحديث المرفوع على أقسام :
الأول : الحديث المرفوع تصريحاً بأن يقول الصحابي أو أهل البيت : قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : المرفوع من الفعل تصريحاً بأن يقول الصحابي : فعلَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا أو رأيته فعل كذا .
الثالث: المرفوع من التقرير على نحو التصريح والبيان مثل : كما لو قال أحد أفراد أهل البيت أو الصحابة أني فعلت كذا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينكره أو فعل فلان كذا في حضرته ولم ينكره .
ومن المرفوع ما يسمى بالمرفوع الحكمي , وهو أيضاً على أقسام ثلاثة :
الأول : المرفوع من القول حكماً .
الثاني : المرفوع من فعل الصحابي على نحو الحكم بأن يأتي الصحابي بفعل يحاكي به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير إجتهاد أو رأي منه .
الثالث : المرفوع من التقرير من باب الحكم وليس القول ، وقيل يحتج بالمرفوع إذا كان منسوباً إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سواء قولاً أو فعلاً أو تقريراً مع صحة السند .
والحديث الصحيح هو الذي اتصل سنده مع عدالة وضبط رجاله ، وكونه خالياً من العلة بما يقدح بصحة الحديث كمخالفته لمضمون آية قرآنية ، وخالياً من الشذوذ وهو مخالفة الراوي من هو أوثق منه في الرواية أو مخالفة المتعدد من الرواة الثقاة , ليكون الحديث الصحيح من مصاديق قوله تعالى[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
ويعني اتصال السند أن كل واحد من رجال الحديث سمع ممن نقل منه وليس بينهما قطع وتعدد في الطبقة .
والعدالة ملكة تتقوم بالتقوى وتحجب صاحبها عن الكذب ،وفعل ما يخل بالمروءة ، أما الضبط فهو العناية الذاتية بالحديث وتعاهده والحرص على إجتناب نسيانه والغفلة فيه ، والضبط على قسمين :
الأول : ضبط صدر وهو حفظ الحديث في الصدر .
الثاني : ضبط تدوين وكتاب بأن يكتب رجل بسند الحديث في كتاب عنده ويحفظه من التحريض والتبديل .
وضبط الصحبة أيام النبوة من القسم الأول في الأعم الأغلب نعم قام بعضهم بتدوينه فيما بعد .
وإجماع علماء الإسلام بأن الحديث الصحيح حجة ، إذا كان متواتراً بنقل جماعة من جماعة لأنه يفيد القطع واليقين ، أما لو كان الحديث خبراً للواحد أي لم يرود في أحد طبقاته سوى فرد ثقة واحد أو أثنين من غير أن يصل إلى التواتر ففيه وأن كان الحديث مستفيضاً وهو على وجوه :
الأول : الصحيح .
الثاني : الحسن .
الثالث : الضعيف .
ومنه المنكر والشاذ ، وهل الموضوع من الضعيف ، الجواب لا ، إنما هو أدنى مرتبة ، وأختلف في خبر الآحاد على أقوال منها :
الأول : إفادة الخبر الواحد العدل يفيد العلم ، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة ومشهور الإمامية .
الثاني : إذا تلقت الأمة خبر الواحد بالقبول فانه يكون بمرتبة المتواتر ، وبه قال الجصاص .
الثالث : خبر الواحد ليس بحجة وأن كان عدلاً إذ أنه لا يفيد إلا الظن .
الرابع : حجة الخبر الواحد العدل في الأحكام وعدم حجيته في العقائد لأنه لا يفيد اليقين .
والمختار هو أن خبر الواحد حجة إذا كان موافقاً للكتاب محفوفاً بالقرآئن القطعية وأسباب الترجيح الأخرى .
ومن وجوه الحديث : الحديث الحسن لغيره ، وهو الحديث الضعيف الذي تعدد رواته مع ضعف كل واحد منهم ، بشرط أن لا يتعلق هذا الضعف بكذب أو فسق الراوي ، إنما يكون ضعف الحديث بسبب انقطاع السند أو الجماعة في رجاله أو سوء حفظ الراوي .
وفيه نكتة وهي الحرص على عدم التفريط بالحديث لأنه ثروة وكذا بالإضافة إلى قانون وهو عدم معارضة الحديث للقرآن ، كما تقدم أن السنة النبوية مرآة للقرآن .
ولو تعارض الحديث الحسن لذاته بالحسن لغيره يقدم الحسن لذاته ، ومن الحديث ما هو ضعيف يفتقر إلى صفات وشرائط الحديث الصحيح والحديث الحسن والحديث الضعيف على أقسام منها :
الأول : المنقطع .
الثاني : المرسل .
الثالث : المدلس .
الرابع : المعلق .
ومشهور علماء الإسلام والمختار العمل بالحديث الضعيف في المستحبات وإجتناب المكروهات .
بشرط موافقته للكتاب والسنة ، وأن لا يكون باطلاً أو موضوعاً مع عدم الإعتقاد بثبوته .
ترى ماهي النسبة بين الحديث المتروك والحديث الموضوع ، الجواب أنها عموم والخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء هي عدم الأخذ بكل منها ، ومادة الإفتراق أن صاحب الحديث المتروك منهم بالكذب ، ولا يعرف الحديث الذي جاء به إلا عن طريقه ومن جهته ، ويتصف هذا الحديث بمخالفته للقواعد والضوابط في الحديث .
أما الحديث الموضوع فهو الحديث المختلف والمنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وليس له أصل وسند ونسبة صحيحة.
قتلى بني قريظة بين الحقيقة والمبالغة والكذب
لقد خسر المشركون معركة بدر في السنة الثانية للهجرة ، وأحسوا بالذل والهوان ، ولكنهم أصروا على محاربة الإسلام ، فأخذوا يعدّون ولسنة كاملة جيشاً عظيماً فزحفوا بثلاثة آلاف رجل في شوال من السنة الثالثة للهجرة سنة 624 م , وأشرفوا على المدينة المنورة .
فخرج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ألف من اصحابه للقائهم وانخزل رؤوس النفاق بثلاثمائة منهم ، فبقى سبعمائة من المسلمين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليكون من مصاديق قوله تعالى [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ] ( ) ودارت معركة أحد وسقط سبعون شهيداً من المسلمين ، وهو أكثر عدد من الشهداء في معركة واحدة من معارك النبوة .
وفي السنة الخامسة للهجرة عادة المشركون بجيش عرمرم قوامه عشرة آلاف رجل لإستئصال الإسلام حتى إذا قاربوا المدينة المنورة قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بجعل خندق حول أكثر جهاتها باقتراح من (سلمان المحمدي ) وحينئذ ذهب حيّ بن أخطب إلى بني قريظة إلى باب الحصن ولم يفتحوا له فقال جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، جاءت قريش وغطفان .
لقد جاء حي بن أخطب وهو من زعماء بني النضير إلى بني قريظة لتحريضهم على إعانة قريش وغطفان في قتالهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ولكن كعب بن أسد القرظي صاحب العقد والعهد لبني قريظة أغلق باب الحصن بوجه حيّ وأبى أن يفتح له، فتوسل إليه أن يفتحه، ولكنه قال: إنك إمرء شؤم، وأني عاهدت محمداً ولا أنقضن العهد الذي بيني وبينه فما زال به حتى فتح له باب الحصن.
حتى نقض العهد الذي ابرموه مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (حي بني أخطب ) وبنو نضير أعانوا قريشاً على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فنزل جبرئيل قال يا محمد لا تضع السلاح فسار إلى بني قريظة وكان يحمل لواءه الإمام علي ، فاغلقوا باب الحصن وكان حي بن أخطب قد دخل معهم الحصن وحينما امتنعوا بالحصن قطع أصحاب النبي بعض النخيل فمنعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فطال الحصار حتى قتل علي عمر بن ود العامري ونزل قوله تعالى[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) وورد عن عبد الله بن مسعود أنه قال كنا نقرأها ({وكفى الله المؤمنين القتال} بعلي بن أبي طالب)( ).

أول صلاة جمعة
من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تقوم رسالته بالصلاة فهي عمود الدين وملاك صدق العبودية والإنقياد له سبحانه .
وقد ورد لفظ [أَقِمْ الصَّلاَةَ] ( ) أربع مرات في القرآن( ) كما ورد لفظ [أَقِيمُوا الصَّلاَةَ]( ) أثنتي عشر مرة ويكون المجموع 5+12=17 وكأنه اشارة إلى مجموع ركعات الصلاة اليومية المأمور بها المكلف ، كما تكرر لفظ [صَلَوَاتٌ] بصيغة الجمع خمس مرات ، وورد لفظ [صَلَوَاتٌ] على نحو الإستقلال أربع مرات ، وورد مرة واحدة بصيغة الإضافة [صَلَوَاتِهِمْ] في قوله تعالى [وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ] ( ).
وفي اشارة إلى الصلوات الخمسة المفروضة على العباد ، وهل مجئ أربعة على نحو الإستقلال ، وواحدة على نحو الإضافة شاهد أو أمارة على نسبة صلاة الجماعة إلى المنفرد وان على المسلم أن يحرص على صلاة الجماعة ولو بنسبة الواحد إلى الخمسة من مجموع صلواته ، الجواب لا دليل عليه .
وقد ذكرت مادة الصلاة ومشتقاتها تسعاً وتسعين مرة بعدد أسماء الله الحسنى لأن أراد الصلاة شاهد على صدق الإيمان والتسليم بالعبودية لله عز وجل .
ومن إعجاز القرآن في باب العبادات ذكر صلاة الجمعة على نحو التعيين، وفيه ذكر ليوم الجمعة في القرآن ، لبيان رشحات وبركات هذه الصلاة على أفراد الزمان وحال الناس عامة والمسلمين خاصة فيها ، بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] ( ).
وفي صلاة الجمعة خطبتان ، ولا يجوز التخلف عنها ، إذا أقيمت من دون عذر أو ضرورة ، وهي وسيلة للدعاء وسؤال الحاجات وقضائها من عند الله وواقية من فعل السيئات ، وهي عنوان وحدة المسلمين ، ومناسبة لإلتفائهم في منسك عبادي ، وحال زهد ، يتساوى في الوقوف فيه بين يدي الله الغني والفقير يساعد بعضهم بعضاً ، والحاكم والمحكوم ، والأب وابنه وحفيده لتكون ميراثاً للمسلمين ، وهل صلاة الجمعة حرز من القتال والحرب أم أنها مقدمة له ، الجواب هو الأول من جهتين :
الأولى :بعث المسلمين على الصبر وفيه وجوه :
الأول : في صلاة الجمعة دعوة للمسلمين للإنقطاع إلى عبادة الله .
الثاني : حث المسلمين على التوكل على الله سبحانه .
الثالث : في صلاة الجمعة تنزه عن حال غلبة النفس الغضبية .
الثانية : في صلاة الجمعة بعث والفزع والخوف في قلوب الذين كفروا من المسلمين وحرصهم على الضبط مجتمعين غير متفرقين ، وهذا الضبط من جهات :
الأولى : الزمان بتحديد أوان صلاة الجمعة عند الزوال من ظهر يوم الجمعة ، ومعنى الزوال إبتداء زوال الشمس عن كبد السماء .
الثانية : المكان بأن تكون الصلاة في المسجد الجامع .
الثالثة : إنصات المصلين للإمام في خطبتي الصلاة .
الرابعة : أداء المسلمين كيفية الصلاة في آن واحد .
وتبعث صلاة الجمعة الشوق في النفوس لدخول الإسلام والنفرة من محاربة الإسلام وقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، وهل يصح القول بقانون : صلاة الجمعة .
من مصاديق قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( )إذ تبعث صلاة الجمعة الخوف والفزع في قلوب الذين كفروا فتصدهم عن قتال الإسلام لما يرونه من تقيد المسلمين بحضورها ، وتفانيهم في أدائها واستعدادهم لبذل الأموال والنفوس من أجل استدامة إقامة الصلاة في الأرض ، وهذا الإستعداد من رشحات قوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ).
ويمكن تقدير قوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى] ( ) على وجوه :
الأول : وحافظوا على الصلوات لبعث الخوف والرعب في قلوب الذين كفرو .
الثاني : وحافظوا على الصلاة الوسطى لبعث الخوف والرعب في قلوب الذين كفروا .
الثالث : وحافظوا على صلاة الجمعة لبعث الخوف والرعب في قلوب الذين كفروا .
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بفرض العبادات وتسمى التكاليف لما فيها من الكلفة .
وتقدم أوان إداء الصلاة على صلاة الجمعة للملازمة بين البعثة النبوية وبين الصلاة، وكمان رسول الله صلى الله عيه وآله وسلم يصلي في البيت الحرام ويصلي خلفه الإمام علي عليه السلام ، وأم المؤمنين خديجة ، كمات كان الصحابة في مكة يصلون قبل الهجرة ، وهل كان الذين هاجروا إلى الحبشة يؤدون الصلاة ، الجواب نعم ،أما صلاة الجمعة فهي تأخرت في زمان تشريعها عن تشريع الصلاة ، وفي أول جمعة في الإسلام وجوه :
الأول : صلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أول جمعة في مكة قبل الهجرة .
الثاني : صلاة مصعب بن عمير بالأنصار صلاة الجمعة إذ بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم معهم بعد بيعة العقبة الثانية ، (عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بن عمير يأمره بإقامة الجمعة، وفى إسناده غرابة والله أعلم) ( ).
الثالث : صلاة أسعد بن زرارة بالأنصار الجمعة قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم باذن منه (عن ابن عباس إذن النبي صلى الله عليه وسلم بها لهم قبل الهجرة ) ( ).
وفي الحديث المشهور (عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ كُنْت قَائِدَ أَبِي ، كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، حِينَ ذَهَبَ بَصَرُهُ فَكُنْتُ إذَا خَرَجْتُ بِهِ إلَى الْجُمُعَةِ فَسَمِعَ الْأَذَانَ بِهَا صَلّى عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ . قَالَ فَمَكَثَ حِينًا عَلَى ذَلِكَ لَا يَسْمَعُ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ إلّا صَلّى عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ . قَالَ فَقُلْت فِي نَفْسِي : وَاَللّهِ إنّ هَذَا بِي لَعَجْزٌ أَلّا أَسْأَلَهُ مَا لَهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ صَلّى عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ ؟ قَالَ فَخَرَجْت بِهِ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ كَمَا كُنْت أَخْرُجُ فَلَمّا سَمِعَ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ صَلّى عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ . قَالَ فَقُلْت لَهُ يَا أَبَتِ مَا لَك إذَا سَمِعْتَ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ صَلّيْت عَلَى أَبِي أُمَامَةَ ؟ قَالَ فَقَالَ أَيْ بُنَيّ كَانَ أَوّلَ مَنْ جَمّعَ بِنَا بِالْمَدِينَةِ فِي هَزْمِ النّبِيتِ ، مِنْ حَرّةِ بَنِي بَيَاضَةَ ، يُقَالُ لَهُ نَقِيعُ الْخَضَمَاتِ ، قَالَ قُلْت : وَكَمْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا) ( ).
ليكون أداء صلاة الجمعة قبل نزول سورة الجمعة وما تتضمنه من فرضها وقوله (أَوّلَ مَنْ جَمّعَ بِنَا) أعم من أن يقصد أول جمعة في المدينة وأطرافها .
الرابع : أول جمعة في الإسلام هي التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة عندما غادر قباء متوجهاً إلى مدينة يثرب ، فأدركته الجمعة في دار بني سالم بن عوف ، فصل بهم وبمن معهم من المهاجرين والأنصار صلاة الجمعة .
وقال ابن هشام: وكانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وَكَانَتْ أَوّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ نَعُوذُ بِاَللّهِ أَنْ نَقُولَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مَا لَمْ يَقُلْ – أَنّهُ قَامَ فِيهِمْ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاسُ فَقَدّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ . تَعَلّمُنّ وَاَللّهِ لَيُصْعَقَنّ أَحَدُكُمْ ثُمّ لَيَدَعَنّ غَنَمَهُ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ ثُمّ لَيَقُولَنّ لَهُ رَبّهُ وَلَيْسَ لَهُ تَرْجُمَانٌ وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ دُونَهُ أَلَمْ يَأْتِك رَسُولِي فَبَلّغَك ، وَآتَيْتُك مَالًا وَأَفْضَلْت عَلَيْك ؟ فَمَا قَدّمْتَ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيّبَةٍ ، فَإِنّ بِهَا تُجْزَى الْحَسَنَةُ عَشْرَ أَمْثَالِهَا ، إلَى سَبْعِ مِئَةِ ضَعْفٍ وَالسّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ
[خُطْبَتُهُ الثّانِيَةُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ ]
قَالَ ابن إسْحَاقَ : ثُمّ خَطَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ النّاسَ مَرّةً أُخْرَى ، فَقَالَ إنّ الْحَمْدَ لِلّهِ أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ ، نَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَسَيّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللّهُ فَلَا مُضِلّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنّ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . إنّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَيّنَهُ اللّهُ فِي قَلْبِهِ وَأَدْخَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ وَاخْتَارَهُ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ أَحَادِيثِ النّاسِ إنّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَأَبْلَغُهُ أَحِبّوا مَا أَحَبّ اللّهُ أَحِبّوا اللّهَ مِنْ كُلّ قُلُوبِكُمْ وَلَا تَمَلّوا كَلَامَ اللّهِ وَذِكْرَهُ وَلَا تَقْسُ عَنْهُ قُلُوبُكُمْ فَإِنّهُ مِنْ كُلّ مَا يَخْلُقُ اللّهُ يَخْتَارُ وَيَصْطَفِي ، قَدْ سَمّاهُ اللّهُ خِيرَتَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ وَمُصْطَفَاهُ مِنْ الْعِبَادِ وَالصّالِحَ مِنْ الْحَدِيثِ وَمِنْ كُلّ مَا أُوتِيَ النّاسُ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فَاعْبُدُوا اللّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَاتّقُوهُ حَقّ تُقَاتِهِ وَاصْدُقُوا اللّهَ صَالِحَ مَا تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ وَتَحَابّوا بِرُوحِ اللّهِ بَيْنَكُمْ إنّ اللّهَ يَغْضَبُ أَنْ يُنْكَثَ عَهْدُهُ وَالسّلَامُ عَلَيْكُمْ) ( ).
والمختار أن أول صلاة جمعة في الإسلام هي بإمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بصلاة الجمعة لتكون حرزاً وأمناً من أمور :
الأول : هجوم وغزو الكفار على ثغور الإسلام .
الثاني : انها مانع للمسلمين من الهجوم والغزو على غيرهم .
الثالث : صلاة الجمعة مصداق جلي لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) وتدل الآية أعلاه بالدلالة المطابقية والتضمنية على قوانين متعددة من الإرادة التكوينية منها :
الأول : قانون إنقطاع الناس لعبادة الله .
الثاني : قانون الحياة الدنيا دار العبادة .
الثالث : قانون حرمة القتال ، للتباين والتضاد بين العبادة والقتال .
الرابع : قانون وجوب التصديق بالأنبياء .
الخامس : قانون لزوم العمل بالتنزيل .
السادس : قانون حرمة محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ز
السابع : قانون النهي عن قتال المؤمنين .
الثامن : قانون الدفاع عن قانون عبادة الله في الأرض .
التاسع : قانون نزول الرحمة مع العبادة .
العاشر : قانون قصد القربة إلى الله في العبادات .
الحادي عشر : قانون حب الله لعبادة الذين يتقيدون بعلة خلقهم .
الثاني عشر : قانون نصرة الله للعباد .
الثالث عشر : قانون إستدامة عبادة الله في الأرض .
الرابع عشر : قانون الوعيد للمشركين ، ليكون من معاني الآية إنذار كفار قريش لإصرارهم على الشرك .
الخامس عشر : قانون الإنذار من صدّ الناس عن عبادة الله بالكيفية التي يريدها سبحانه وبعث الأنبياء وأنزل الكتب لبيانها ، وتقريبها من الناس ، وتقريبهم منها ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ] ( ).
السادس عشر : صلاة الجمعة تثبيت لعبادة الناس لله عز وجل في الأرض ، فلما تفضل الله عز وجل وبيّن القرآن علة خلق الإنس والجن وأنها عبادتهم لله عز وجل ، فتفضل على المسلمين بوجوب اقامة صلاة الجمعة ،لتكون مرآة لهذه العبادة ، وهل يصح القول أن من يؤديها تكون عبادة له من الأسبوع إلى الأسبوع الجواب لا ، لقوله تعالى [حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَة الْوُسْطَى] ( ) لتكون من إعجاز الآية أعلاه وجوب التقيد بأداء الفرائض اليومية كاملة ، وفي أوقاتها وعدم الإكتفاء ببعضها ، قال تعالى [إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا]( ) .
لقد قال الله عز وجل حافظوا على الصلاة ، وجاء الأمر في الآية أعلاه بصيغة الجمع ثم الخصوص ويكون تقدير الآية : وحافظوا على الصلوات ومنها صلاة الجمعة والوسطى ومن معاني الصلاة الوسطى أنها صلاة الجمعة.
(عن ابن مسعود قال : حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً) ( ).
ويدل الحديث أعلاه على إصرار المشركين على القتال ، مع إلحاحهم في مواصلته ، وفيه شاهد على صبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في ملاقاتهم المشركين ، مع تأكيد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على موضوعية الصلاة وأن أداءها في وقتها أولى وأفضل من قتال المشركين فظاهر الحديث أنه لو دار أداء الصلاة في وقتها قتال المشركين يقدم الأول ، مع أن هذا القتال فيه حجة على الذين كفروا ونصر للمسلمين ويسبل لإقامة الصلاة من غير خوف من الأعداء ، قال تعالى [وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً] ( ) .
وتبين الآية أعلاه الملازمة بين أمور :
الأول : الكفر والإصرار عليه .
الثاني : محاربة المؤمنين .
الثالث : رصد المسلمين لمباغتتهم والإجهاز عليهم .
الرابع : تعاون وتأزر الكفار في قتالهم للمسلمين .
وهل تدل الآية على إرادة الكفار قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وتعطيل الصلاة خاصة صلاة الجمعة ، الجواب نعم .
وفيها دعوة للمسلمين لأخذ الحائطة والحذر من غير حاجة إلى الغزو والهجوم .
وقد تفضل الله بتشريع صلاة الخوف لتكون فيها سلامة للمسلمين في ميدان القتال ، وزاجراً للذين كفروا عن مباغتتهم ودعوة لهم للإيمان وسيأتي مبحث مستقل في صلاة الخوف كشاهد على أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغزو أحداً .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي قائماً ، وكان يقعد بين الخطبتين لا يتكلم أثناء قعوده حتى يقوم فيخطب الخطبة الثانية .
أول خروج للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة
لقد وصل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة في شهر ربيع الأول ليبدأ التقويم الهجري ويستمر إلى يوم القيامة وهو من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه دعوة للمسلمين للتدبر في رحلة وهجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة .
واستقبله الأنصار ، وصار عدد المسلمين في المدينة يزداد كل يوم من جهات :
الأولى : دخول جماعة من الأوس والخزرج في الإسلام .
الثانية : مجئ مهاجرين جدد من مكة .
الثالثة : حضور الوفود من أطراف مكة والمدينة والقرى في الجزيرة إلى المدينة للإصغاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته والإستماع لآيات القرآن فيدخلون الإسلام ، قال تعالى [وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ] ( ).
وهل لطواف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القبائل في موسم الحج في مكة قبل الهجرة موضوعية وأثر في هذا التوافد الجواب نعم .


جدول كتائب وسرايا أيام النبوة وعدد القتلى فيها
ت اسم المعركة أو السرية عدد المسلمين الطرف الأخر تأريخها شهداء المسلمين قتلى المشركين قتلى اليهود الملاحظات
1 قبل الهجرة في مكة
مدة (13) سنة _ _ قبل الهجرة النبوية 2 سمية وياسر والدا عمار بن ياسر أستشهدا تحت التعذيب وهما أول قتيلين في الإسلام 2 سرية حمزة من المدينة إلى سيف البحر 30 300 قافلة برئاسة أبي جهل رمضان السنة الأولى للهجرة لم يقع قتال حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني
3 سرية عبيدة بن الحارث الى بطن رابغ قدم ابن إسحاق هذه السرية عللا سرية حمزة أعلاه 60 200 برئاسة أبي سفيان شوال السنة الأولى للهجرة
وقع رمي بالنبال ولن يسلوا السيوف 4 سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار 20 ذو القعدة / السنة الأولى لم يقع قتال 5 توجه النبي ص إلى الأبواء 60 صفر / السنة الثانية لم يلق أحداً ، وعقد ميثاق أمان مع مخشي بن عمرو الضمري 6 توجه النبي ص إلى بواط وتسمى إلى ناحية رضوى( )( ) 200 100 ربيع الأول / السنة الثانية لم يلق النبي ص أحداً ولم يثبت أنه يريد قافلة قريش
7 توجه النبي ص إلى ذي العشيرة 200
جمادى الأولى/ السنة الثانية عقد ميثاق أمان وعدم اعتداء مع بني مدلج
8 توجه النبي ص إلى بدر الأولى 200
ربيع الأول السنةالثانية لم يلق أحداً لفرار العدو كرز وأصحابه بعد اغارتهم على سروح المدينة
9 سرية سعد بن أبي وقاص إلى حي من كنانة نحو 95
رجب / السنة الثانية للهجرة 10 سرية عبدالله بن جحش إلى نخلة 8 رجب / السنة الثانية 1
11 خروج النبي في دورية ووقوع بدر الكبرى 313 950 رمضان / السنة الثانية 14 70
عدد أسرى المشركين 70 12 توجه النبي إلى بني سُليم 200 شوال / السنة الثانية لم يلقى حرباً 13 توجه النبي إلى بني قينقاع من يهود المدينة جمع من الصحابة شوال / السنة الثانية 1 ورحل بنو قينقاع إلى الشام هم والنساء والذرية فذهبوا إلى أردعات وهي التي تسمى في هذا الزمان (درعا) ، نعم قتل يهودي ومسلم قبل خروج النبي 14 كتيبة السويق أو قرفة الكبرى 200 200 راكب من قريش الخامس من ذي الحجة/ السنة الثانية 2 _ _ غزو مائتين من المشركين برئاسة أبي سفيان لأطراف المدينة وقتلوا انصاريا وحليفاً للأنصار في حرث لهما ، وقطعوا فسائل ونخلاً وطلب النبي ص الكفار فهربوا وطرحوا سويقاً كثيراً لتخف أثقالهم في طريق الهروب ، ولم يلق النبي وأصحابه قتالاً 15 كتيبة غطفان أو ذي أمر 450 ربيع الأول من السنة الثالثة لم يلق النبي ص قتالاً 16 دورية بحُران 300 جمادى الأولى السنة الثالثة ـــــــ لم يلق النبي ص قتالاً
17 سرية زيد بن حارثة إلى القَردة بفتح القاف 100
الأول من جمادى الآخرة السنة الثالثة ــــــ جلب زيد بن حارثة العير وما فيها 18 سرية محمد بن مسلمة إلى كعب بن الأشرف 5 14 ربيع الأول/ السنة الثالثة ـــــــ 1 ويلقب كعب بن الأشرف بالصنم وهو عربي طائي من بني النبهان ولكن أمه من بني النضير ، فصار سيداً عند اليهود وكان يحرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويشبب بنساء الصحابة ، وطاف على قريش في مكة وهو يرثي قتلى المشركين في بدر 19 قتل محيصة بن مسعود من الأنصار لابن سُنينة 1 20 معركة أحد 700 3000 النصف من شوال / السنة الثالثة 70 22 21 سرية الإمام علي خلف جيش المشركين الذي حضر معركة أحد جماعة الخامس عشر من شهر شوال من السنة الثالثة ـــــــ لم يلق قتالاً
22 توجه النبي إلى حمراء الأسد 200
والمختار العدد 500( )
السادس عشر من شهر شوال السنة الثالثة ـــــــ لم يقع قتال 23 سرية أبي سلمة 150 أول محرم / السنة الرابعة لم يلقوا قتالاً 24 سرية عبد الله بن أنيس 1 الخامس من محرم / السنة الرابعة 1 قتلت السرية خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي الذي كان يجمع الجموع لمحاربة رسول الله ص وجاء الطلب خلفه فدخل الغار فنسجت عليه العنكبوت (أنظر سمط النجوم 1/ 148)
25 تعليم القرآن عضل والقارة سرية الرجيع 10
صفر السنة الرابعة 10 أحاط المشركون بسرية التبليغ في الرجيع ماء الهذيل غدراً وأسروا اثنين. 26 سرية التبليغ (بئر معونة ) 40 صفر السنة الرابعة 37 قتلوا غدراً
27 توجه النبي إلى بني النضير 200
ربيع الأول / السنة الرابعة ــــــ خروج بني النضير إلى الشام وخيبر باحمالهم على ستمائة بعير 28 توجه النبي ص إلى ذات الرقاع 400 جمادى الأولى / السنة الرابعة تواجه الجمعان ولم يقع قتال ، وفيه نزلت صلاة الخوف 29 توجه النبي إلى بدر الموعد 1500 2000 شعبان / السنة الرابعة سبب هذا الخروج هو موعدة أبي سفيان في آخر ساعة من معركة أحد ، وخرج المشركون برئاسته إلى بدر الآخرة وعددهم الفان ، ولكنهم خافوا وفزعوا وكان عام جدب فرجعوا من مرّ الظهران [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ]
30 توجه النبي إلى دومة الجندل 1000
ربيع الأول / سنة خمس سبب هذا الخروج عزم أهل دومة الجندل على غزو المدينة ولم يلق النبي قتالاً ووادع في هذا الخروج عيينة بن حِصن
31 واقعة الخندق 3000 10000 شوال السنة الخامسة 6 3 —- وتسمى غزوة الخندق مع أن المشركين هم الذين هجموا وحاصروا المدينة
32 توجه النبي إلى بني قريظة
شوال السنة الخامسة 4 30 وقيل قتلى اليهود 600 وقيل 700 كما عن ابن اسحاق من غير سند ، وبينما قال ابن شهاب بسنده (قتل منهم أربعون رجلاً ، وقد حبسوا في دار واحدة في المدينة مما يدل على قلة عددهم وسنبينه تفصيلاً). 33 توجه النبي إلى بني لحيان 200 قبيلة محرم السنة السادسة ـــــــــ ـــــــــ ـــــــــ
34 سرية محمد بن مسلمة إلى القرطاء من هوازن 30 قرية القرطاء العاشر من محرم السنة السادسة ـــــــــ ـــــــــ ـــــــــ ـــــــــ
35 سرية نجد
بنو بكر محرم السنة السادسة ـــــــــ ـــــــــ ـــــــــ هرب بنو بكر , فيها أسلم ثمامة بن أُثال سيد بني حنيفة 36 هجوم المشركين من غطفان على أطراف المدينة والإستحواذ على لقاح رسول الله (ص) بعد الحديبية 1 ـــــــــ ـــــــــ قتل راعي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحتملوا امرأته معهم . 37 توجه النبي لمطاردة غطفان في ذات اليوم وتسمى (غزوة الغابة) أو (غزوة ذي قرد) 600 40 1 1 ـــــــــ سميت الغابة لرعي ابل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغابة وقيل وقعت بعد صلح الحديبية .
38 سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر 40
ربيع الأول السنة السادسة ـــــــــ ـــــــــ ـــــــــ الغَمر ماء لبني أسد 39 سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة 10 100 ربيع الأخر/ السنة السادسة 9 ـــــــــ ـــــــــ ـــــــــ 40 سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى ذي القصة لمصارع المسلمين التسعة 40 ـــــــــ جمادى الأولى ـــــــــ ـــــــــ ـــــــــ ـــــــــ 41 سرية محمد بن مسلمة 10 100 شهر ربيع الأول السنة السادسة الموافق شهر آب سنة 627 9 ـــــــــ ـــــــــ وقيل أنها سابقة لسرية أبي عبيدة أعلاه 42 سرية زيد بن حارثة إلى الجموم ـــــــــ ـــــــــ ـــــــــ 43 سرية زيد بن حارثة إلى الطرف 15 جمادى الأولى السنة السادسة ـــــــــ ـــــــــ ـــــــــ 44 سرية زيد بن حارثة إلى العيص 170 عير لقريش جمادى الأولى السنة السادسة ـــــــــ ـــــــــ ـــــــــ أجارت زينب بنت النبي (ص) زوجها السابق أبا العاص على شركه فرد النبي والمسلمون عليه كل العير والتجارة التي كانت معه 45 سرية زيد بن حارثة إلى حسمى 500 جمادي الآخرة السنة السادسة 5 ـــــــــ ـــــــــ سبب السرية قيام الهنيد وابنه من جذام بسلب دحية الكلبي الهدايا التي اعطاه قيصر
46 سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى 10 لغرض التجارة هجم عليه سكان الوادي رجب السنة السادسة 5 ـــــــــ ـــــــــ خرج زيد بن حارثة في تجارة إلى الشام
47 سرية زيد بن حارثة الثانية إلى وادي القرى 300
رجب / السنة السادسة ـــــــــ ـــــــــ ـــــــــ رصد عير لقريش 48 توجه النبي (ص) إلى بني المصطلق وتسمى غزوة المريسيع 700 شعبان /السنة السادسة 1 10 ـــــــــ وذكر أنها سنة خمس قتل مسلم خطأ ، إذ قتله أحد الأنصار ظناً منه أنه من العدو
49 سرية الإمام علي إلى فدك 100 جمع من بني سعد بن بكر شعبان السنة السادسة ـــــــــ ـــــــــ ـــــــــ سبب السرية أن بني سعد عرضوا على يهود خيبر نصرتهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر
50 سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل
شعبان السنة السادسة ـــــــــ ـــــــــ ـــــــــ وأوصاه النبي (ص) وقال : لا تغل ، لا تغدر ، لا تقتل وليداً وان استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم ، فتزوجها فولدت له أبا سلمة
51 سرية كَرز إلى العرنيين 20
شعبان السنة السادسة 1 8 ـــــــــ بعد اعلانهم الإسلام قتلوا الراعي وذهبوا بإبل المسلمين 52 سرية عمرو بن أمية 2 السنة السادسة 1 إرادة قتل أبي سفيان لبعثة شخصاً لقتل النبي محمد (ص) وقيل أن السرية لإنزال خبيب من خشبته 53 سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة رمضان السنة السادسة
54 سرية عبد بن رواحة إلى أسير بن رزام 4 1 شوال / السنة السادسة
1 سبب الغزوة أن أسيراً هذا كان يحرض غطفان لحرب رسول الله (ص) عن عبد الله بن أنيس متعددون ولعله من الخلط في الرواية لإرسال النبي (ص) عبد الله بن أنيس لقتل سفيان بن خالد الهذلي
55 سرية بني عبس 9 عير قريش السنة السادسة ـــــــــ ـــــــــ ـــــــــ ـــــــــ
56 سرية إلى رعية السحيمي الذي أخذ كتاب رسول الله (ص) فرقع به دلوه ثم أسلم وحسن اسلامه سرية 1 السنة السادسة ـــــــــ ـــــــــ ـــــــــ ـــــــــ
57 سرية أبي أمامة صدي بن عجلان إلى باهلة 1 قبيلة باهلة ـــــــــ ـــــــــ ـــــــــ عرض على قومه الإسلام فأبوا وأجاعوه وسألهم شربه ماء ، قالوا تموت عطشاً فسقاه الله شراباً من لبن فروي وعظمت بطنه ، ولما جاءوا للتدارك وقدموا له الطعام والشراب فأخبرهم ورأوا عظم بطنه فأسلموا عن آخرهم ، وسيأتي البيان.
58 صلح الحديبية 1400 200 ذو القعدة السنة السادسة — —
ذو القعدة السنة السادسة 59 توجه النبي إلى خيبر 1600 منهم 200 فارس الأيام الأخيرة من شهر محرم من السنة السابعة( )(وخرج في صفر سنة سبعٍ – ويقال خرج لهلال ربيع الأول إلى خيبر)( ) وبعد عودة النبي من الحديبية بنحو عشرين ليلة 16 — 30 قيل قتلى اليهود 93
60 توجه النبي إلى وادي القرى 1600
جمادى الثانية / السنة السابعة 5 وادي القرى موضع قريب من المدينة كان فيه جماعة من اليهود وكثير من المؤرخين يعد التوجه إلى خيبر ووادي القرى واحداً لأن النبي (ص) لم يرجع من خيبر ثم خرج إلى وادي القرى 61 سرية عمر بن الخطاب إلى هوازن 30 شعبان / السنة السابعة لما علموا بقدوم المسلمين هربوا ولم يقع قتال . 62 سرية بشير بن سعد الأنصاري 30 بنو مرة شعبان / السنة السابعة لم يقع قتال ولكن جرح بشير بسبب الرمي بالنبال عند رجوعهم .
63 سرية أبي بكر إلى بني كلاب
4
64 سرية غالب بن عبد الله الليثي 130 أهل الميفعة بنجد رمضان من السنة السابعة
7 65 سرية بشير بن سعد 300 غطفان شوال / السنة السابعة بلغ النبي (ص) أن عينة بن حصن يعد الرجال للإغارة على المدينة فبعث السرية فتفرقوا .
66 توجه النبي (ص) إلى عمرة القضاء 2000 عدا النساء والصبيان
ذو القعدة / السنة السابعة 67 سرية الأخرم 50 بنو سليم ذو الحجة / السنة السابعة 12 الغاية من السرية الدعوة إلى الإسلام ولكن رموهم بالسهام 68 سرية غالب بن عبد الله الليثي 15 بنو الملوح صفر / السنة الثامنة 6
69 سرية غالب بن عبد الله الليثي الثانية 200
صفر / السنة الثامنة 10
70 سرية شجاع بن وهب الأسدي 24 جمع من هوازن ربيع الأول/ السنة الثامنة
غابوا (15) ليلة أصابوا نعماً كثيرة 71 سرية كعب بن عمير الغفاري 15 ذات اطلاع من أرض الشام ربيع الأول / السنة الثامنة 11 كانت السرية للدعوة للإسلام فقابلهم المشركون بالرشق بالنبل ، ولما رجع أميرهم واخبر النبي (ص) شقّ عليه ولكنه لم يبعث وراءهم . 72 سرية أسامة بن زيد الى الحرقة جهينة السنة الثامنة للهجرة والظاهر فيها وجه النبي(ص) اللوم لأسامة لقتله رجلاً قال لا إله إلا الله 73 توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفتح مكة 10000 رمضان / السنة الثامنة 3 7
74 سرية عمرو بن العاص إلى الصنم سواع رمضان السنة الثامنة
75 توجه النبي (ص) إلى حنين 12000 30 الف العاشر من شوال 4 10

76 سرية أبي عامر الأشعري ، سرية أوطاس بعد حنين وقبل التوجه إلى الطائف
1 9 77 سرية الطفيل بن عمرو الدوسي إلى الصنم الخشبي ذي الكفين شوال السنة الثامنة 78 حصار الطائف 12000 30000 شوال السنة الثامنة بعث الله الرعب في قلوب هوازن وثقيف فلم يخرجوا للقتال
79 سرية قيس بن سعد إلى صداء 400 قبيلة صداء
أسلم قوم صداء
80 سرية خالد بن الوليد إلى الصنم العزى 30
شوال / السنة الثامنة 81 سرية سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة 20 82 سرية خالد بن الوليد إلى جذيمة 350 شوال السنة الثامنة 20 الغاية من السرية الدعوة إلى الله وليس القتال ، ولكن خالداً قتل منهم جماعة وفيه قال رسول الله محمد (ص) اللهم أني أبرأ إليك مما صنع خالد ) وبعث الإمام علي فدفع ديات القتلى .
83 سرية الخبط بأمرة أبي عبيدة الجراح 300
شوال السنة الثامنة قيل هذه السرية قبل صلح الحديبية .
84 سرية مؤتة 3000 مائة ألف وقيل مائتي ألف جمادى الأولى / السنة الثامنة 8 10
سمى البخاري هذه السرية غزوة لكثرة جيش المسلمين فيها وان لم يخرج فيها النبي 85 بعث بشر بن سفيان العدوي الكلبي إلى بني كعب من خزاعة لجمع الزكوات 2 ذو القعدة / السنة الثامنة جمعت خزاعة( ) كل مواشيهم للزكاة ، ولكن بني تميم شهروا السيوف ، ومنعوا بشر بن سفيان من أخذ بعير واحد ففر وانهزم إلى رسول الله (ص) فكان سبباً لسرية عيينة 86 سرية عمرو بن العاص إلى بلاد بلى وعذرة وتسمى (ذات السلاسل) 300 ثم مدد 200 إذ بلغ النبي ص أن جمعاً من قضاعة تجمعوا للإغارة على المسلمين ، عند ماء يسمى السلاسل فسميت ذات السلاسل.
87 سرية أبي قتادة 15 إلى نجد شعبان السنة الثامنة

88 سرية أبي قتادة إلى إضم 8
1 قتل بعضهم مسلماً غيلة فنزل قوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا]( ).
89 كتيبة تبوك وهي آخر كتائب رسول الله (ص) بعدما أراد الرومان الإجهاز على الإسلام ثلاثون ألفاً أربعون ألفاً تفرق جيش الروم ولم يلق النبي(ص) قتالاً، وقام بعقد صلح وموادعة مع بعض الأمراء
90 سرية عيينة بن حصن إلى بني تميم 50 بنو تميم محرم / السنة التاسعة
أفراد السرية من عامة العرب ، وليس فيها مهاجر ولا أنصاري أخذ المسلمون 11 رجلاً و11 امرأة و30 صبياً ، فحبسهم النبي (ص) في دار رملة بنت الحارث ، وجاء وفد من تميم للنبي (ص) فأطلق سراحهم جميعاً . 91 سرية الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق بنو المصطلق الغرض من السرية أخذ الصدقات وليس القتال
92 سرية قطبة بن عامر إلى خثعم 20 حي بن خثعم صفر / السنة التاسعة
جاء المسلمون ببعض الأسرى فأطلقهم النبي 93 سرية الضحاك بن سفيان القرطاء ربيع الأول / السنة التاسعة 1 السرية لدعوة بني كلاب للإسلام .
94 سرية طلحة بن عبيد الله لحرق بيت سويلم اليهودي على المنافقين
حرق بيت وخبر حرق البيت ضعيف ومن ضعفه قول ابن هشام (حدثني الثقة وقد يكون فيه جهالة وانقطاع ، قال النبي (ص) : أنه لا ينبغي أن يحرق بالنار إلا رب النار) 95 سرية علقمة بن مجزز 300 الأحباش الذين وصلوا إلى جدة ربيع الآخر/ السنة التاسعة 96 سرية الإمام علي بن أبي طالب 150 من الأنصار هدم الصنم الفلس ربيع الآخر / السنة التاسعة ثم أسر سفانة بنت حاتم الطائي ، لم يقسم الإمام علي عليه السلام آل حاتم ، ومنّ النبي (ص) على سفانه ، فذهبت إلى أخيها عدي بن حاتم فقدم معها إلى المدينة وأعلن اسلامه .
97 سرية عكاشة بن محصن الأسدي
إلى الجباب أرض عذرة
98 سرية خالد بن الوليد إلى أكيدر بدومة الجندل 420
رجب / السنة التاسعة أحضر اكيدر إلى المدينة وصالح على الجزية وعاد إلى حصنه
99 سرية خالد بن الوليد إلى بني حارث بن كعب بنجران 400
شهر ربيع الأول / السنة العاشرة أسلم بنو الحارث
ولم يقع قتال
100 سرية الإمام علي إلى اليمن 300
شهر رمضان / السنة العاشرة 10 __ قيل أن قتلى المشركين عشرون وبعد المعركة دخل القوم الإسلام

ويكون مجموع القتلى من حين بعثة النبي محمد صلى الله عليه وله وسلم وهو في سن الأربعين وفي سنة 610م إلى إنتقاله إلى الرفيق الأعلى في السنة العاشرة للهجرة كالآتي:
الأول : عدد الشهداء من المسلمين هو: 234
الثاني : عدد القتلى من المشركين هو: 212
الثالث : عدد القتلى من اليهود هو: 69
ويكون المجموع الكلي في ثلاث وعشرين سنة هو : 515
خمسمائة وخمسة عشر من المسلمين والمشركين واليهود.
مع جعل هامش بمقدار العشر بلحاظ بعض الروايات والأخبار التي لا تخلو من المبالغة في عدد قتلى الطرف الآخر وتقادم الزمان في الرواية إذ أن ابن إسحاق مثلا متأخر في زمانه (85-151) هجرية ,وكان جده من سبي عين التمر التي فتحها المسلمون سنة 12 للهجرة وشرع في كتابة السيرة النبوية في أيام أبي جعفر المنصور الذي تولى الحكم سنة(136-158) هجرية.
وهناك سرايا لم تثبت منها :
الأولى : سرية آبان بن سعيد بن العاص ، قبل نجد في السنة السابعة للهجرة.
الثانية : سرية أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم في ذي الحجة من السنة السابعة للهجرة.
الثالثة : سرية أبي حدرد إلى الغابة ذكرها يونس عن ابن إسحاق( ).
وروى كتابه ابن هشام، وتوفى ابن إسحاق سنة 151 هجرية .
وحتى لو لم تكن الدعوة إلى الإسلام قائمة فإن العرب وقبائلهم يتقاتلون فيما بينهم، ويغزو بعضهم بعضاً , وقتال الآوس والخزرج فيما بينهم، وقتالهم مع يهود المدينة بين الحين والآخر ولكانت الخسائر في الأنفس والأموال في تلك الفترة أكثر.
قتال الملائكة
وأشكل أحدهم على قتال الملائكة يوم بدر بوجوه :
الأول : يكفي الملك الواحد لإهلاك أهل الأرض , مثلما فعل جبرئيل بمدائن قوم لوط.
الثاني : إذا حضر جبرئيل يوم بدر فلا حاجة لمقاتلة المسلمين للمشركين لأن جبرئيل يستطيع قتلهم جميعاً .
الثالث : يحتمل نزول الملائكة على وجهين :
أولاً : رؤية الناس للملائكة فيكون جيش المسلمين كثيراً بالآلاف , بين بقوله عز وجل[وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ] ( ).
ثانياً : ينزل الملائكة بهيئة على غير صورة الناس فيلزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الفريقين , وهو أمر لم يقع .
الرابع : لو قاتل الملائكة لجزت الرؤوس , ومزقت البطون , وتهاوى الكفار إلى الأرض من غير رؤية فاعل فتكون من أعظم المعجزات .
الخامس : لو قاتل الملائكة يوم بدر لكان الفضل لهم , وليس من خصوصية لأهل بدر الذين حضروها تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
السادس : لقد ذكر ابن هشام أسماء القتلى السبعين من المشركين وأسماء قاتليهم من المهاجرين والأنصار , إلا رجال لم يذكر أسماء الذين قتلوهم , وقد يقال إذن أين قتلى الملائكة , ويتجلى الجواب على مثل هذه التساؤلات والتي قد لا ترتقي إلى مرتبة الشبهات , لأن القرآن يمنع منه لتجلي الحقائق العلمية فيه .
لقد أخبر الله عز وجل عن نزول الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين يوم بدر وأحد وغيرها , وهذا الإخبار على جهات :
الأولى : قبل نزول الملائكة , كما في قوله تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ]( ).
الثانية : بيان غاية من الغايات الحميدة لنزول الملائكة والفوائد العظيمة, ومنها أنه بشرى للمؤمنين في أجيالهم المتعاقبة لقوله تعالى ,[ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ] ( ).
وأما بالنسبة للتساؤل الأول والذي قال به الأصم , وهو عبد الرحمن بن كيسان الأصم (201- 279) هجرية من البصرة , فقيه ومفسر, وعده القاضي عبد الجبار من الطبقة السادسة , وكان يتزين بجلباب الفقر , مع أن السلطان يكاتبه , وكان يكثر من الجدل والتساؤل في تفسيره , ولا يتقيد بمذهب مخصوص فقد يوافق هذا أو ذاك .
ووصحيح أنه يكفي الملك الواحد لإهلاك كثير من أهل الأرض , ولكن الله عز وجل هو الذي أخبر عن نزول آلاف الملائكة لنصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , وبخصوص معركة بدر قال تعالى : [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
ولابد أن في كثرة نزول الملائكة حكمة متعالية , وقال تعالى [لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ]( ).

سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار
في شهر ذي القعدة على رأس تسعة أشهر من قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، وعقد له النبي لواء ابيض ناصعاً وحمله المقداد وخرج في عشرين من المهاجرين , وقيل في ثمانية ممن بادر وانتدب ، ولم يكره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً على الخروج ، فبلغ ذا العشيرة وهي لبني مدلج بناحية الينبع ، وكانوا يكمنون بالنهار ويسيرون بالليل ، حتى وصلوا الخرار صباح اليوم الخامس ، وقد عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى سعد ألا يجاوز الخرار من أرض الحجاز .
ولم يقع قتال في هذه السرية ، ويحتمل سبب وموضوع خروجها وجوهاً :
الأول : إرادة الإعتراض لعير من قريش، وهو الذي يذكره المؤرخون.
الثاني : الرصد والإستكشاف.
الثالث : بعث الخوف والفزع في قلوب المشركين.
الرابع : تهيئة أذهان المسلمين إلى الدفاع في معركة بدر وأحد.
الخامس : جعل المسلمين يعتادون على الخروج في السرايا.
السادس : بيان قانون وهو عدم الملازمة بين خروج المسلمين بسلاحهم من المدينة وبين أمور :
أولاً : القتال .
ثانياً : الغزو .
ثالثاً : الغنائم .
والمختار إرادة الوجوه أعلاه مجتمعة , أما القول المشهور وهو خروجهم لإعتراض عير لقريش وحده فلم يثبت كعلة تامة لهذا الخروج ، خاصة وأن سعداً قال : خرجنا على أقدامنا ، أي يشق عليهم قتال رجال القافلة الذين هم قد يقاتلون وهم ركبان ، كما يمكن أن يفروا وينهزموا بالإبل .
وتعدد سبب الخروج وعدم وقوع قتال في طريق السرية إلى حين العودة معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وشاهد بأن هذا الخروج لم يتم إلا بالوحي (قَالَ ابن هِشَامٍ : ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ بَعْثَ سَعْدٍ هَذَا كَانَ بَعْدَ حَمْزَةَ .) ( ).
ومنها أن سعداً وجد العير التي قيل أنه خرج إليها قد غادرت الموضع قبل يوم ، وكان مجموع تلك العير ستين .
خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الأبواء
قد يتبادر إلى الذهن أن أول خروج للنبي صلى الله عليه وآله وسلم للقتال والدفاع هو خروجه إلى معركة بدر من جهات :
الأولى : وقوع القتل في معركة بدر .
الثانية : ذكر الصحابة وعلماء التفسير والسيرة لواقعة بدر .
الثالثة : نزول القرآن بذكر معركة بدر بالاسم ،وفي آيات أخرى بخصوص وقائع المعركة ونتائجها .
الرابعة : إخبار القرآن عن نصرة الله عز وجل للمسلمين في معركة بدر كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) .
وتوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة إلى الأبواء وتبعد عن المدينة المنورة نحو (250 كم)ولها اسمان :
الأول : الأبواء .
الثاني : ودان .
أي أن هذا الخروج يسبق الخروج إلى معركة بدر بسبعة أشهر ، وسببه أنه بلغ النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم مجئ قافلة لقريش في الطريق من الشام إلى مكة ، وكان الكفار من قريش قد استحوذوا على أملاك وأموال المهاجرين من جهات :
الأولى : عدم السماح للمهاجرين بأخذ أموالهم معهم .
الثانية : منع المهاجرين من بيع بيوتهم ودورهم .
الثالثة : الإستيلاء على ملك ومال المهاجر حالما يسمعون بمغادرته مكة ، إذ إختار بعض الصحابة الهجرة خفية ، وفي الليل ، ففي كل صباح تقريباً تستيقظ مكة وأهلها على هجرة نفر من المؤمنين ، وهم يجتنبون أسباب الفتنة والقتال مع الذين كفروا ، وليس من طائفة وفرقة تغادر بلدها إجتناباً للقتال مع ادراكها أنها على الحق وأن العزة معها ، وأن خصمها على الباطل وهو واهن ، بالإضافة إلى قانون خاص بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تسليم المسلمين بالثواب العظيم في ملاقاتهم للذين كفروا ، ولكنهم اختاروا الهجرة والإعراض التام عن الذين كفروا ، وتركوا أشرف البقاع في الأرض اضطراراً ، لعمومات قوله تعالى [يَاعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] ( ) .
وعندما غادر النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة ليلة الهجرة التفت إليها مخاطباً مودعاً , كما (عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والله إني لاخرج منك وإني لاعلم أنك احب بلاد الله إلى الله وأكرمها على الله تعالى , ولولا أن أهلك اخرجوني منك ما خرجت منك) ( ).
لبيان قانون وهو لابد من عودة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة لأنه أحب أهل الأرض إلى الله عز وجل وهو من مصاديق قوله تعالى[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ]( ).
لقد سار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ودان ومعه ستون من المهاجرين على رأس اثني عشر شهراً من الهجرة , وحمل اللواء حمزة بن عبد المطلب, ولم يلق قتالاً , إنما صالح بني ضمرة .
وفي هذا الصلح مسائل :
الأولى : بيان قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد القتال .
الثانية : إستكشاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما حول المدينة المنورة.
الثالثة : معرفة المسلمين المهاجرين والأنصار الطرق التي تؤدي إلى المدينة والتي تخرج وتتفرع عنها , وهل تجارة قريش إلى الشام أو اليمن تمر بطريق الأبواء الجواب لا دليل عليه , مما يدل على أن هذا الخروج ليس للتعرض لقوافل قريش .
الرابع : ترغيب القبائل بالصلح مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : هذا الصلح من مصاديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم(نصرت بالرعب).
وفي خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبدر الآخرة في شعبان من السنة الرابعة على موعدة أبي سفيان , أقام هناك ثمانية أيام ولم يحضر أبو سفيان إذ رجع من الطريق خائفاً ( وأتى مخشى بن عمرو الضمرى وقد كان وادع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة ودان على بنى ضمرة فقال: يا محمد أجئت للقاء قريش على هذا الماء ؟
أي أنه لم يخاطبه بصفة الرسالة , فلم يغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: نعم يا أخا بني ضمرة، وإن شئت رددنا إليك ما كان بيننا وبينك وجالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك.
قال: لا والله يا محمد مالنا بذلك من حاجة)( ).
وفي شاهد من التأريخ وهو أن أول خروج للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وما يسمى غزوة ليس فيه قتال .
توجه النبي إلى غطفان
بعد أن رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خروجه في كتيبة السويق لكثرة السويق والمؤن التي تركها المشركون خلفهم , خرج في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة إلى ذي أمر بناحية النخيل , إذ بلغه أن قوماً من ثعلبة ومحارب تجمعوا لغزو أطراف المدينة برئاسة رجل منهم يسمى دعثور بن الحارث , ويسمى هذا الخروج على وجوه :
الأول : غزوة غطفان .
الثاني : غزوة ذي أمر .
الثالث : غزوة ذي أنمار .
لأن رجلاً جاء إلى المدينة بجلب فاشتراه منه أهلها (فقال للمسلمين : إن بني أنمار بن بغيض، وبني سعد بن ثعلبة قد جمعوا لكم جموعا، وأراكم هادئين عنهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخلف على المدينة – قال ابن اسحاق: أبا ذر الغفاري، وقال محمد بن عمر وابن سعد وابن هشام: عثمان بن عفان، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليلة السبت لعشر خلون من المحرم.
في أربعمائة أو سبعمائة، أو ثمانمائة، وسلك على المضيق، ثم أفضى الى وادي الشقرة، فأقام فيها يوما، وبث السرايا، فرجعوا منها مع الليل وخبروه أنهم لم يروا أحدا، ووطئوا آثارا حديثة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى أتى نخلا، وأتى مجالسهم، فلم يجد فيها أحدا الا نسوة، فأخذهن وفيهن جارية وضيئة، وقد هربت الاعراب في رؤوس الجبال، وهم مطلون على المسلمين.
قال ابن إسحاق: فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعا من غطفان، فتقارب الناس، ولم يكن بينهم قتال، فخاف الفريقان بعضهم من بعض، خاف المسلمون أن يغير المشركون عليهم، وهم غارون، وخاف المشركون أن لا يبرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستاصلهم.
ولما حانت الصلاة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف)( ).
وإذا أطلق لفظ غزوة نجد فالمراد كتيبة ذات الرقاع.
والمختار هو توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى غطفان فندب النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين للخروج فسار معه أربعمائة وخمسون رجلاً واستخلف على المدينة عثمان بن عفان كما قال (ابن هشام) ، وقيل أباذر .
وقيل إن عدد المسلمين في هذا الخروج ستمائة وقيل سبعمائة , وهو كثير ويستطيعون شن الغارة والهجوم على القبائل والقرى وتخيرهم بين الإسلام أو القتل والإستيلاء على أموالهم غنائم , ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتعرض لأي أحد إنما كانت علة الخروج منع القتال من جهات :
الأولى : تفريق الجمع الذي أراد قتال المسلمين .
الثانية : منع كفار قريش من التواطئء مع القبائل المحيطة بالمدينة والقريبة منها .
الثالثة : بعث رسالة لقريش والناس جميعاً عن منعة الإسلام وحال القوة والصبر وحب الجهاد عند المسلمين .
الرابعة : دعوة الناس للإسلام , ومن الآيات في هذا الخروج وما يسمى بغزوة غطفان : لقاء المسلمين برجل من ذات الناحية بذي القصة ودخوله الإسلام , واسمه جُبار ( )من بني ثعلبة , فجاء به المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسأله عن القوم فأخبره بنواياهم في الهجوم على المدينة والأماكن التي يتواجدون فيها .
وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخبرهم وقال ( لن يلاقوك لو سمعوا بمسيرك لهربوا في رءوس الجبال وأنا سائر معك فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاسلام فأسلم وضمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بلال) ( ) .
وكان كما وصفه وبينه جبار فما أن سمعوا بقدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى صعدوا إلى رؤوس الجبال , ينظرون ويترقبون , فلم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بالصعود خلفهم إلى الجبال مع أنه كان يراهم , لأن الغاية ليس القتال والقتل , إنما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم تشتيتهم ومنعهم من الهجوم وغزو المدينة .
وأصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطر , فأراد أن يجفف ثوبيه فوضعهما على شجرة , حينئذ قالت غطفان لرئيسهم دعثور : لقد انفرد محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن أصحابه , ولا تجد أخلى منه الساعة يحرضونه على قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
فقام دعثور بأخذ سيف صارم وهبط من على الجبل , ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مضطجع ينتظر جفاف ثوبيه , وإذا بدعثور واقف على رأسه وقد شهر سيفه وهو يقول : من يمنعك مني يامحمد ؟ أراد أن أصحابك بعيدون عنك , ولايستطيعون الحيلولة دون قتلي لك , ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجابه بكلمة وهي : الله عز وجل .
أي أنه هو الذي يمنعني عنك فدفع جبرئيل في صدره , فوقع السيف من يده , عندئذ قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ السيف ورفعه على رأس دعثور وقال : من يمنعك مني .
(قال لا أحد , وأنا أشهد ان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لا أكثر عليك جمعا أبدا فأعطاه سيفه) ( ) , ونادى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أصحابه وأخبرهم بالمعجزة الحسية الجلية , ثم قال دعثور : والله لأنت خير مني , فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنا أحق بذلك منك فأتى قومه .
فأتى قومه فقالوا : أين ما كنت تقوله والسيف في يدك فبين دعثور أنه كان يقصد قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال : ولكني نظرت إلى رجل أبيض طويل فدفع صدري فوقعت لظهري وعرفت أنه ملك وأيقنت بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه رسول الله ونزل قوله تعالى
[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ] ( ), لبيان معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي أن الذي يريد قتله يرى كيف أن الله عز وجل يحول بينه وبين غايته فيدخل الإسلام ويدعو قومه للإيمان , وفي التنزيل [أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ] ( ).

أسماء شهداء بدر
في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع ثلاثمائة وثلاثة عشر من المهاجرين والأنصار قيل بنية اعتراض قافلة لقريش يقودها أبو سفيان قادمة من الشام في طريقها إلى مكة لاستيلاء قريش على أموال المهاجرين عنوة وحملهم بعض المهاجرين على ترك أموالهم وأملاكهم في مكة مقابل الإذن بالهجرة .
والمختار أن الغاية من خروج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أعم من إرادة قافلة قريش بدليل قوله تعالى بخصوص واقعة بدر ومقدماتها [وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ] ( ).
نعم المراد من ذات غير الشوكة هي عير قريش التي جاءت من الشام برئاسة أبي سفيان ، لأن الشوكة هي القوة والقتال ، إذ أحب المسلمون لقاء العير ولكن الله عز وجل أراد لهم النصر والغلبة باصرار كفار قريش على القتال .
وهل يفيد قوله تعالى [وَتَوَدُّونَ] رغبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكل المهاجرين والأنصار الذين معه بالإستيلاء على القافلة ، الجواب لا ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استشارهم على القتال وخاصة الأنصار فأبدوا استعدادهم للدفاع إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخشى قولهم بعدم وجوب نصرته خارج المدينة بشروط بيعة العقبة ، وأنه ليس عليهم السير معه لقتال :
( فقال : أشيروا علي أيها للناس) ( ).
ليكون قوله هذا من مصاديق قوله تعالى [وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] ( ) فأجابه المقداد بن عمرو : أنا لا نقول لك كما قال بعض أصحاب موسى [فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ] ( ).
ثم أعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم القول أشيروا عليّ فادرك الأنصار أنه يقصدهم ، وهم أكثر أفراد الجيش إذ كان عددهم (231) من الخزرج (170) ومن الأوس (61) .
أما عدد المهاجرين فهو (89) .
عندئذ قال سعد بن معاذ .
أنا أجيب عن الأنصار ، وكأنك يا رسول الله تريدنا : قال : أجل .
(عن الأنصار وأجيب عنهم يا رسول الله، فاظعن حيث شئت، وصِل حبل من شئتَ، واقطع حبْل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذته منّا أحب إلينا مما تركت علينا، وما ائتمرت من أمرٍ فأمرنا لأمرك فيه تبعٌ، فوالله لو سرت حتى تبلغ البرك من غِمْدِ ذي يَمَن لسرنا معك.
فلما قال ذلك سعد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سيروا على اسم الله عز وجل؛ فإني قد رأيتُ مصارع القوم. فعمد لبدر.) ( ).
ويحتمل خروج المسلمين من جهة الكثرة وجوهاً :
الأول : خروج جميع الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : خروج جميع المهاجرين مع تخلف طائفة من الأنصار .
الثالث : لم يتخلف إلا المنافقون .
الرابع : تخلف بعض المهاجرين والأنصار .
والمختار هو الرابع ، فلم يكن الصحابة على علم بوقوع قتال مع المشركين ، إذ أن عدد رجال القافلة هم ثلاثون من قريش , ويتجلى من جهات :
الأولى : كثرة عدد المسلمين في المدينة في السنة الثانية للهجرة ، إذ دخل أكثر أهل المدينة الإسلام وضاقت أزقتها بالمهاجرين .
الثانية : تلقى بعض وجوه الأوس والخزرج من المسلمين النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في مدخل المدينة عند قدومه من معركة بدر وتقديم التهنئة له بالنصر مع الإعتذار عن التخلف عنه .
الثالثة : نزول القرآن بلهفة وشوق ورهط من الشباب للقاء العدو في معركة لاحقة ، كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ] ( ).
ويحتمل هذا التمني وجوهاً :
الأول : رغبة المسلمين بالقتال في سبيل الله .
الثاني : عزم المسلمين على الغزو ومهاجمة العدو .
الثالث : إرادة الدفاع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وبيضة الإسلام .
والمختار هو الثالث لبلوغ أهل المدينة وعيد كفار قريش ، وقيامهم بتحريض الناس وانفاق الأموال وحشد الجيوش للهجوم على المدينة إنتقاماً وثأراً لواقعة بدر وحرباً على الإسلام وإرادة منع الناس من دخوله .
ويدل على هذا الوجه أن الآية أعلاه من آيات معركة أحد ، وزمان موضوعها هو حال اقتراب جيش المشركين من المدينة في معركة أحد .
وان قلت هل من تعارض بين تهنئة الصحابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر وأهازيج صبيان المدينة بخصوص قتل أبي جهل وبعض رؤساء الكفر وبين فقد أربعة عشر شهيداً من المسلمين في معركة بدر ، الجواب لا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]( ) .
بالإضافة إلى قانون وهو أن قتل كل مسلم في المعركة حجة على الذين كفروا وشاهد على أنهم هم الغزاة المعتدون ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ) ومن مصاديق الحجة في المقام أن المشركين هم الذين أصروا على القتال يوم بدر ، وهم الذين بدأوا برمي السهام والذين دعوا إلى المبارزة والقتال .
وكان شهداء بدر ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار .
الأول : عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف بن قصي وأمه سخيلة بنت خزاعي بن الحويرث من ثقيف ، وكان عبيدة أكبر سناً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعشر سنين ، وأسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم .
(عن ابن اسحق قال: ثم انطلق أبو عبيدة بن الحارث، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وعبد الله بن الأرقم المخزومي، وعثمان بن مظعون حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعرض عليهم الإسلام، وقرأ عليهم القرآن، فأسلموا وشهدوا أنه على هدى ونور.) ( ).
ولعبيدة أخوان هما الطفيل والحصين ، خرجوا جميعاً مهاجرين إلى المدينة، وفيه شاهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإظهار أهل البيت إتباعه ونصرته ، وتحمل العناء والمشقة بالهجرة من مكة مع علمهم بأن الذين كفروا يطلبونه ومن معه .
وفي الصباح في طريق الهجرة جاءهم الخبر بأن مسطحاً قد لدغ فذهبوا إليه وحملوه معهم حتى قدموا المدينة .
وأقطع لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بين بقيع الزبير وبني مازن وهو موضع خطبتهم لقرون من الزمن .
وآخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين عبيدة بن الحارث وعمير بن الحمام وكلاهما قتل في معركة بدر ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب إلى بطن رابغ في شهر شوال من السنة الأولى للهجرة ، وعقد له لواء أبيض وحمله مسطح بن أثاثة بن عبد المطلب الذي جاء مهاجراً معه وكان معه ستون كلهم من المهاجرين .
ولقي أبا سفيان في مائتين من مشركي مكة على ماء يقال له احيا من بطن رابغ على بعد عشرة أميال من الجحفة ، فوقع بينهم رمي ومناوشة ولم يلتقوا في صفوف ولم تسل السيوف ، وهو من الإعجاز في تسمية كلاً من معركة بدر وأحد بـ (الْتَقَى الْجَمْعَانِ) ( ).
الثاني : عمير بن أبي وقاص ، لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد عميراً عن الخروج إلى معركة بدر لصغره ، ولكنه بكى رغبة في الخروج فأجازه وأذن له ، وكان عمره يومئذ ست عشرة سنة ، وكان عمير يتوارى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خشية أن يراه فيرده لصغر سنة (فقال له سعد ما لك يا أخي . قال : إني أخاف أن يراني النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيستصغرني فيردني لعل الله أن يرزقنى الشهادة فرآه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرده فبكى بكاء شديدا فأجازه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقتل ببدر شهيدا) ( ) .
وقتله شهيداً عمرو بن ود العامري والذي هو من أشد فرسان قريش إذ جرح في تلك المعركة ، ولم تمر ثلاث سنوات حتى قتله الإمام علي عليه السلام في معركة الخندق ونزل قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ) وفيه آية بأن الذين قتلوا المؤمنين لأقوا جزاءهم في الدنيا .
وعمير هذا هو أخو سعد بن أبي وقاص بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة وأمه حمنة بنت سفيان بن أمية وهو من بني زهرة أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم أهل آمنة بنت وهب أم النبي ،واسم أبي وقاص مالك بن وهب وليس لعمير رواية لقدم اسلامه واستشهاده .
وأيهما أسلم أولاً سعد بن أبي وقاص أم أخوه عمير ، الجواب هو الثاني ، فكان عمير مع صغر سنه راجح العقل .
وبعد أن هاجر إلى المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين عمرو بن معاذ أخي سعد بن معاذ .
ولما أجازه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عقد له أخوه سعد حمالة سيفه ، قال سعد (وما في وجهي إلا شعرة واحدة أمسحها بيدي)( ).
الثالث : ذو الشمالين واسمه عمير بن عمرو بن فضلة (وقال ابن إسحاق هو خزاعي) ( ) ويكنى أبا محمد ، حليف لبني زهرة .
وكان أبوه عبد عمرو قدم إلى مكة وحالف عبد بن الحارث بن زهرة الذي زوّجه ابنته نعمى بنت عبد فأنجبت ذا الشمالين لأنه كان يعمل بيديه ، وهاجر ذو الشمالين إلى يثرب ، ونزل على سعد بن خيثمة .
وأخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين يزيد بن الحارث بن فُسحم وقتل في معركة بدر قتله أسامة الجُشعمي , وذو الشمالين غير ذي اليدين الذي يرون عنه حديث في الصلاة , والذي اسمه الخرباق من بني سليم .
وقد يقع خلط في الألقاب كما في الإصابة .
الرابع : عاقل بن البكير بن عمير ياليل بن ناشب من كنانة حليف بني عدي بن كعب بن لؤي ، وفي اسم أبيه قال الواقدي : أنه أبو البكير ، والصحيح هو البكير ، كما ورد عن ابن اسحاق وموسى بن عقبة وابن الكلبي ، وهو من أوائل الذين اسلموا وبايع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دار الأرقم , وكان اسمه غافلاً فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاقلاً .
لبيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يختار لأصحابه الأسماء التي هي مرآة للصلاح والصلح والوئام ودفع القتال ، فلم يسم بعضهم حرباً أو سيفاً .
وهو يغير الأسماء ذات صبغة الجاهلية والشؤم بما يبعث على التفاؤل، وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام في حديث قال : لما ولدت فاطمة الحسن أنت به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسماه حسناً ، ولما ولدت الحسين أتته به ، فقال : فسماه الحسين ) ( ).
وشهد عاقل بدراً هو وإخوته عامر وإياس وخالد بنو البكير (ويقال إنه أول من بايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دار الأرقم حكاه الواقدي بسنده) ( ).
ولما أشتد إيذاء قريش للذين أسلموا هاجر بنو البكير رجالاً ونساءً , كباراً وصغاراً من مكة إلى المدينة ، حتى غلقت أبوابهم ونزلوا على رفاعة بن عبد المنذر بالمدينة ، وآخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين عاقل وبين مخدر بن زياد ، وآخى بين أخيه خالد بن البكير وبين زياد بن الدثنة .
وقد شهد خالد هذا معركة بدر وأحد ، وقتل يوم الرجيع ، وآخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أخيه إياس وبين الحارث بن خزمة.
وآخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين أخيهم عامر وبين ثابت بن قيس بن شماس وشهد بدراً والمشاهد كلها .
ومما انفرد به آل البكير أنه لم يشهد معركة بدر أربعة أخوة غيرهم .
وقتُل عاقل وعمره أربع وثلاثون سنة ، قتله مالك بن زهير الخطمي .
الخامس : صفوان بن وهب بن ربيعة بن هلال الفهري القرشي، أسلم في مكة ، ويعرف باسم صفوان بن بيضاء نسبة إلى أمه .
هاجر صفوان إلى المدينة مع أخيه سهيل بن كلثوم بن الهدم ، وآخى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين رافع بن المعلى ، وقتلا معاً في معركة بدر وخرج صفوان في سرية عبد الله بن جحش إلى نخلة وقتل يوم بدر ، قتله طعيمة بن عدي .
وقيل أنه لم يقتل في معركة بدر ، بل (في طاعون عمواس) ( ) سنة 18 للهجرة , وقيل قتل في شهر رمضان سنة 38 للهجرة , والصحيح أنه قتل في معركة بدر .
أما أخوه سهيل فقد شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأما أخوه سهل فقد شهدها ولكن مع المشركين .
السادس : مهجع : وهو مهجع بن صالح وهو من اليمن (قال ابن هشام: هو من عك) ( ) أصابه سباء هو مولى عمر بن الخطاب بشرته سوداء، وقيل اسمه (عبد الله) وعن ابن عباس هو ممن نزل فيهم قوله تعالى [وَلاَ تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنْ الظَّالِمِينَ] ( ) .
ومهجع أول قتيل من المسلمين ، وليس له عقب ، أتاه سهم غرب رماه عامر بن الحضرمي الذي اسلم فيما بعد وهاجر هو ومولاه (خير) الذي كان قد أسلم في مكة ، ولكن عامراً اكرهه على الكفر ، وقال مقاتل أن قوله تعالى [إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ] ( ) نزلت في (خير) هذا ، ولكن النصوص والأخبار والمشهور أن نزولها في عمار بن ياسر وهو المختار.
وهؤلاء الستة من الشهداء الذين تقدمت أسماؤهم من المهاجرين كما استشهد ثمانية من الأنصار هم :
السابع : حارثة بن سراقة بن الحارث بن عدي بن مالك من بني النجار أمه الربيع بنت عمة أنس بن مالك .
وخرج حارثة يوم بدر نظاراً ، وكان يشرب الماء على الحوض فرماه حبان بن العرقة بسهم فقتله ، وهو أول قتيل من الأنصار ، أما أول قتيل من المسلمين فهو مهجع .
ولما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بالنصر والظفر والغنائم ، جاءت معه أخبار الذين استشهدوا في المعركة ، ومنهم حارثة بن سراقة ، وكانت أمة الربيع تحبه حباً جماً ، ولكنها لم تظهر الحزن والجزع عند سماع خبر استشهاده .
بل جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (فقالت له: يا رسول الله أخبرني عن حارثة فإن كان من أهل الجنة صبرت وإن كان غير ذلك فسترى ما أصنع) ( ) .
وفي الحديث مسائل :
الأولى : اليسر في وصول عامة المسلمين والمسلمات إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : عدم وجود حاجب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو برزخ يحول دون دخول المسلمين عليه أو لقائهم به .
الثالثة : مخاطبة وسؤال النساء للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واجابته على اسئلتهن بما يزيد في الإيمان.
وقد ورد قوله تعالى [قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] ( ) أي يصل الحديث بين النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمات إلى مرتبة الجدال ويتفضل الله بإنزال القرآن .
الرابعة : عناية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعوائل الشهداء .
وهو من مصاديق قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ) .
الخامسة : إرتقاء المسلمين والمسلمات في مراتب المعارف الإلهية فلم تجزع أم حارثة حينما علمت بقتل ولدها انما سألت عن الكبرى الكلية ، وهل هو في الجنة ، لبيان قانون وهو شوق المسلمات والمسلمين عموماً إلى الجنة ، خاصة مع أن الحال عند السؤال هو الظفر والنصر للإسلام يوم بدر، وفي التنزيل[قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ]( ) فاجابها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلطف وصيغة الكنية : يا أم حارثة ولم يقل لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا ربيع ولم يخاطبها من غير نداء أو باسم أحد أولادها غير حارثة للإشارة إلى قانون وهو أن اسم حارثة بن @ وأمه سيبقيان خالدين إلى يوم القيامة في أذهان المسلمين ، وهل هو بذات المرتبة بالنسبة لذكر عيسى وأمة مريم ، الجواب لا ، وبينهما مراتب من وجوه متعددة ، قال تعالى [وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ] ( ) .
ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنها جنان كثيرة وإن حارثة منها في الفردوس الأعلى ، لبيان عظيم منزلة شهداء بدر عند الله عز وجل ، ويكون جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها مرآة للقرآن وترجمة لآياته ، قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ).
الثامن : سعد بن خيثمة بن عمرة من بني عوف من الأوس ، كان سعد ممن بايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيعة العقبة الثانية ، وقيل كان أحد نقباء الأنصار .
وحينما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مهاجراً من مكة نزل بقباء على بني عمرو بن عوف وعند كلثوم بن هدم ، وكان يستقبل الناس في بيت سعد بن خيثمة فيتلو عليهم آيات القرآن ويعلمهم أحكام الشريعة ، وكان العزاب من المهاجرين قد نزلوا على سعد بن خيثمة لأنه كان أعزب .
ولما ندب النبي صلى الله عله وآله وسلم المسلمين للخروج باتجاه بدر ، قال خيثمة لابنه سعد ، آثرني بالخروج ، وأقم مع نسائك ، ولكن سعداً أبى وقال (لو كان غير الجنة لآثرتك به) ( ).
وهل يكون قوله هذا خلاف وجوب طاعة الوالدين التي أمر الله عز وجل بها ، الجواب لا .
التاسع : معوذ بن عفراء وهو معوذ بن الحارث بن رفاعة بن الحارث ، وهو من الستة النفر الذين أسلموا ، وهو من أول من أسلم من الأنصار وشهد بيعة العقبة الأولى والثانية وسمي باسم أمه العفراء .
وعن عبد الرحمن بن عوف أنه يوم معركة بدر كان عن يمينه وشماله فتيان وشباب ، فخشي منهم ، وكان بادره أحدهم كان عن يمينه فهمس باذنه : يا عم أرني أبا جهل ؟
فعلم أن السائل من الأنصار ، ويسأل عبد الرحمن لأنه قرشي مهاجر ، وهذا السائل هو معوذ.
فقال عبد الرحمن : يا ابن أخي ما تصنع به .
قال معوذ : عاهدت الله إن رأيته أقتله أو أموت دونه .
ثم قال شاب آخر لعبد الرحمن كان عن شماله ذات العبارة وهمساً كيلا يسمعه الآخر .
قال عبد الرحمن :فأشرت لهما إليه ، حتى عرفا هيئته ومكانه .
قال عبد الرحمن (فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه هما ابنا عفراء)( ).
والذي قتل معوذاً هو أبو مسافع .
العاشر : عوف ابن عفراء ، وهو عوف بن الحارث بن رفاعة بن الحارث من بني النجار من الخزرج وعفراء امه ، ومنهم من يسميه عوذ ، والأشهر والأصح هو الأول .
وذكر أنه ممن شهد العقبتين .
ترى لماذا ألحّ الأخوة معاذ ومعوذ في طلب أبي جهل وإرادة قتله ، الجواب لوجوه :
الأول : إكثار أبي جهل من سبّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : شدة إيذاء أبي جهل للمؤمنين ، إذ جاء المهاجرون إلى المدينة معهم بأخبار فتكه بهم .
الثالث : قتل أبي جهل لسمية أم عمار ، لذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمار يوم بدر (قد قتل الله قاتل أمك) ( ) .
الرابع : إصرار أبي جهل على القتال يوم بدر مع طلب جماعة من قريش وحلفائها الإنصراف من غير قتال خاصة بعد نجاة قافلة أبي سفيان ، فقد أكرم الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بأن أسباب معركة بدر ليس الإستيلاء على القافلة .
وقال معاذ بن عمرو : جعلت أبا جهل يوم بدر من شأني ، أي أنه عزم أن يختص وينفرد بقتله .
وكان أبو جهل محاطاً بعدد من ولده وحاشيته وحراسه وغلمانه ، ولكن معاذ استطاع الوصول إليه فضربه فقطع قدمه من نصف ساقه ، فبادر ابنه عِكرمه بن أبي جهل فضرب معاذ على عاتقه فطرح يده ، وبقيت معلقة بجلدة ، وانشغل عنها بالقتال أي أنه مع شدة جراحاته لم ينسحب من ميدان المعركة ، فكان يقاتل وهو يسحبها خلفه ، فلما أحس بالألم وضع قدمه عليها ، ثم جذبها حتى طرحها .
وقد أثبتت ضربة معاذ أبا جهل وبقي وفيه رمق ، وتركه ليقاتل في الميدان ، فجاء عبد الله بن مسعود فوبخ أبا جهل وأحتز رأسه .
وبقي معاذ بن عمرو إلى أيام عثمان بن عفان .
ومن الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الأخوة كانوا يقاتلون مجتمعين تحت لوائه ويتسابقون في طلب الشهادة ، ومع هذا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقودهم للغزو والهجوم على المدن والقرى ، إنما خرج بهم في معركة بدر للدفاع .
لتكون فيه رسالة إلى الناس جميعاً لدخول الإسلام ، وإلى الذين كفروا خاصة للكفر عن التعدي والهجوم على المدينة ومع أنه لم يكن عند المسلمين من مصر إلا المدينة المنورة ، ولم تكن خالصة للمسلمين اذ كان فيها كل من :
الأول :رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : المسلمون والمسلمات .
الثالث : المنافقون والمنافقات .
الرابع : اليهود من بني النضير وقينقاع وبني قريظة .
الخامس : الكفار .
فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لم يسعوا إلى فتح مدينة أخرى ولم يقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم توسعة سلطانه ، وجعل مدينة أخرى كالعمق والإحتياط .
وذكر ان عبد الله بن مسعود جاء يلتمس أبا جهل بين القتلى بناء على أمر من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، الذي بعث اكثر من واحد يفتشون عنه .
(إن خفى عليكم في القتلى إلى أثر جرح في ركبته، فإنى ازدحمت أنا وهو يوما على مأدبة لعبد الله بن جدعان ونحن غلامان وكنت أشف منه بيسير، فدفعته فوقع على ركبتيه فجحش في أحدهما جحشا لم يزل أثره به.
قال ابن مسعود: فوجدته بآخر رمق فعرفته، فوضعت رجلى على عنقه.
قال: وقد كان ضبث بى مرة بمكة فأذاني ولكزنى، ثم قلت له: هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال: وبماذا أخزاني [ قال ] أعمد من رجل قتلتموه.
أخبرني لمن الدائرة اليوم ؟ قال: قلت لله ولرسوله.
قال ابن إسحاق: وزعم رجال من بنى مخزوم أن ابن مسعود كان يقول: قال لى: لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعى الغنم.
ثم احتززت رأسه، ثم جئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله هذا رأس عدو الله.
فقال: ” آ لله الذى
لا إله غيره ؟ “.
وكانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقلت: نعم والله الذى لا إله غيره.
ثم ألقيت رأسه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله)( ).
قال ابن إسحاق وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ان عوف بن الحارث وهو ابن عفراء قال يا رسول الله ما يضحك الربب من عبده قال غمسة يده في القوم حاسرا فنزع درعا عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل)( ).
الحادي عشر : مبُشر بن عبد المنذر ، وهو من بني عمرو بن عوف من الأوس وأمه نسيبة بنت زيد بن حنيفية وآخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين عاقل بن البكير وقتلا معاً يوم معركة بدر .
وروي عن السائب بن أبي لبابة : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسهم لمبشر بن عبد المنذر .
وكان لمبشر أخوان شهدا معه معركة بدر وهما :
الأول : أبو لبابة .
الثاني : رفاعة .
ومبشر ممن قتل يوم بدر ، قتله أبو ثور ، وقيل فيهم نزل قوله تعالى [وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ] ( ) لأن المسلمين كانوا يقولون مات فلان مات فلان حينما يقتل أحدهم , فنزلت الآية ، ومن أسرار وأسباب نزولها منع اليأس والقنوط من الدبيب إلى نفوس المسلمين .
ومنهم من يسميه قيساً بدل مبشر ، وقيل أن أبا لبابة اسمه مبشر ، ولكن أبا لبابة رده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الطريق عند خروجهم من المدينة ، وضرب له بسهمه وأجره ، ليكون كمن حضرها .
الثاني عشر : يزيد بن الحارث ، ويسمى أيضاً ابن فُسحم وهي أمه .
وقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر قوله تعالى [وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ] ( ) وفي هذه القراءة مدرسة عقائدية من جهات :
الأولى : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن حتى في ميدان المعركة .
الثانية : بيان قانون وهي أن تلاوة القرآن لجوء إلى الله واستجارة به .
الثالثة : دعوة المسلمين إلى استحضار القرآن في الشدائد .
الرابعة : اثارة عزائم المسلمين ،وتحريضهم على الدفاع.
الخامسة : بيان قانون وهو أن الدفاع عن بيضة الإسلام نوع طريق للفوز والمغفرة والجنة الواسعة .
وآخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين يزيد بن الحارث وبين ذي الشمالين وقتلا يوم بدر جميعاً .
الثالث عشر : رافع بن المعلى ، من بني حبيب بن عبد حارثة من الخزرج ويكنى أبا سعيد وأمه هي إدام بنت عوف بن مبذول من بني النجار، وآخى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين صفوان بن بيضاء شهد رافع وأخوه هلال بن المعلى بدراً .
أستشهد رافع يوم بدر قتله عِكرمة بن أبي جهل ، وليس له عقب .
الرابع عشر :عمير بن الحمام
وقيل أن عميراً هو أول قتيل من الأنصار ، والصحيح أن أول قتيل منهم هو حارثة بن سراقة .
وسمع عمير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحرض على القتال ويرغب في الصبر والدفاع ويذكر المسلمين بالثواب العظيم للشهداء بالجنة وكان في يده تمرات يأكلهن ، فقال بخ بخ ، أما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ، ثم رمى بهن وشهر سيفه وقاتل حتى قتل( ) ، وقتله خالد بن الأعلم العقيلي .
وفي رواية انما أخرج التمرات من قرنه بعدما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعظهم ويذكرهم بالحاجة إلى الصبر والثبات ويبشرهم جميعاً بالجنة سواء من استشهد أو خرج سالماً من المعركة فلما ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجنة وإنها تسع السموات والأرض , قال تعالى[سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ…]( ).

مشاركة

Facebook
Twitter
Pinterest
LinkedIn