المقدمـــــــــة
الحمد لله الذي خلق النور وجعله صراطاً وبلغة وغاية , ورزقاً كريماً ينفذ إلى شغاف القلوب ، ليكون من سبل التعضيد للإنسان لنفخ الروح من عند الله في آدم ، وبيان قانون وهو أن الفضل من عند الله على الإنسان مطلقاً الذكر والأنثى ، والبر والفاجر ، والمكلف وغير المكلف متعدد ومتصل، ولن ينقطع ما دام في الحياة الدنيا.
ومنه نزول القرآن نوراً سماوياً ، ورحمة متجددة , قال تعالى[يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا]( ).
وجاءت الآية أعلاه بالنداء والخطاب إلى الناس جميعاً وإلى يوم القيامة وعلى اختلاف مشاربهم لتكون شاهداً بأن القرآن رحمة نازلة لهم جميعاً تستحق الحمد والشكر منهم لله عز وجل .
ويحتمل النور في المقام وجوهاً :
الأول : القرآن جملة واحدة نور وضياء .
الثاني : كل آية من القرآن نور يشع على القلوب، وهل الآية القرآنية من مصاديق النور في قوله تعالى[وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ]( )، الجواب نعم، لقد جعل الله عز وجل نور الهدى سبباً في زيادة إيمان المسلمين، وحجة وآلة تعصم الفكر والجوارح من الغزو والقتل والنهب والسلب.
الثالث : الجمع بين كل آيتين نور .
الرابع : كل سورة من القرآن نور ، وهو من أسرار تقسيم القرآن إلى سور عددها مائة وأربع عشرة سورة، ومن إعجاز القرآن ورود لفظ(نور) ثلاثا وأربعين مرة فيه، وكلها بصيغة الاسم، ولم يرد بصيغة الفعل مثل : أنار ينير , قال تعالى[وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ]( ).
الخامس : الصلة بين أول ووسط وآخر الآية القرآنية نور ، فان قلت قد تقدم في الوجه الثاني أعلاه أن كل آية من القرآن نور ، الجواب هذا صحيح، ولكن الصلة بين مضامين الآية القرآنية نور آخر ، لتكون الأنوار في القرآن رحمة متجددة تملأ الخافقين ، وتصل إلى شغاف القلوب .
السادس : كل كلمة وفريدة من القرآن نور يسطع على القلوب المنكسرة.
السابع : تفسير النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لآيات , القرآن نور وضياء .
الثامن : أسباب النزول نور يشع على المجالس والمنتديات.
ولا تعارض بين هذه الوجوه ، ومعاني ومصاديق النور التي تفيض من القرآن , وتترشح من ثنايا آياته من اللامتناهي .
الحمد لله الذي هدانا إلى الصراط وما كنا لنهتدي لولا أن أنعم علينا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فهي ذاتها صراط , وتمنع من الزلل عن الصراط، ومن الإعجاز في الفرائض العبادية للمسلمين قراءة كل مسلم ومسلمة كل يوم[اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( )، في سبع عشرة ركعة في الصلاة اليومية الواجبة.
(عن سليمان بن صرد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يوم الأحزاب الآن نغزوهم ولا يغزونا) ( ).
وفيه شاهد بأن الذين كفروا هم الذين كانوا يغزون المسلمين ومصرهم, وهي المدينة , ويهجمون على ثغورهم وديارهم , وينهبون سرحهم وابلهم, وهل غزاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم , الجواب لا , إنما أراد إمكان قدرة المسلمين على الغزو والهجوم , وتضاؤل قوة المشركين وضعف شوكتهم .
ولم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم (سنغزوهم) لإفادة المستقبل القريب ولا (سوف نغزوهم) لإفادة المستقبل البعيد , انما قال (الآن) وعلى فرض أن هذا القول بلغ المشركين، وهو الأرجح فأنهم صاروا يستعدون لغزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لهم في ديارهم وقراهم.
ومع هذا لم يخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لغزو المشركين بعد معركة الخندق بشهر أو شهرين أو حتى سنة, انما خرج بعدها بأكثر من سنة وإلى أداء العمرة ,
والظاهر أن مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من القول (الآن نغزوهم) هو نغزوهم بالعبادة والنسك وسنن التقوى , وهو من مصاديق قوله تعالى [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ]( ).
هذا الغزو المبارك الذي يشع بضيائه على القلوب , ويجذب النفوس إلى الإيمان.
إنه غزو العلم وآيات التنزيل ليكون من معاني , وتقدير الحديث أعلاه على وجوه :
الأول : الآن الغزو منا بالحجة والبرهان وآيات القرآن , ولا يغزوننا بالسيف والخيل .
الثاني : الآن نغزوهم لهدايتهم وصلاحهم , ولا يغزوننا لقتلنا .
الثالث : الآن نغزوهم بأسباب الرأفة والرحمة بعد أن عجزوا عن إيذاء أي طائفة من المسلمين .
الرابع : الآن نغزوهم بسلاح الإيمان, بعد فشل سلاح السيف الذي زحفوا به , وهذا الغزو المتضاد من مصاديق قوله تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ] ( ), فمكر الله عز وجل رحمة بالناس , وسبب لنجاتهم في النشأتين .
الخامس : الآن نغزوهم بإقامة الصلاة في ديارهم , واقبالهم على العبادات بشوق ورغبة بعد أن غزونا بكفرهم وأوثانهم.
وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
فخير أمة هم الذين صبروا على أذى الذين كفروا وتقدير الآية أعلاه: يا أيها الذين آمنوا كنتم خير أمة بدفعكم الذين كفروا بصدوركم ودمائكم فرجعوا من غزوهم لكم بالخيبة والخزي لتغزوهم بالشهادتين .
وفي التنزيل [إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] ( ) .
ومن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها رحمة للناس جميعاً , وكل آية من القرآن رحمة , وكل قول وفعل من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوحي والرحمة النازلة إلى المسلمين والناس جميعاً, لينتهي بها الغزو بين القبائل والنهب والسلب الذي يصاحبه.
ترى هل تم هذا المعنى والقانون بالواقع العملي والشواهد اليومية الجواب نعم , إذ سادت الجزيرة بعد البعثة النبوية قيّم ومبادىء التوحيد, ومفاهيم الإحسان والهداية والصلاح.
والتي تغشت المنتديات , ودخلت إلى البيوت.
وهو من مصاديق قوله تعالى[سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ….]( )، بلحاظ كبرى كلية، وهي كل نعمة عامة وخاصة من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم آية من عند الله عز وجل ومن أسرار آيات القرآن أنها نعم توليدية من جهات مباركة منها نفعها العظيم والمتجدد في كل زمان.
لقد كان العرب يتقاتلون فيما بينهم على أمور لا تستلزم القتال حتى على نحو القضية الشخصية لتمتد المعارك بينهم لسنوات عديدة , وبعد أن تكثر القتلى بينهم وتتعطل المكاسب والمعاشات مثل حرب البسوس التي إستمرت أربعين سنة، بسبب رمي ناقة وقتلها، وجرت هذه الحرب بين أبناء عمومة واحدة وهما:
الأول : قبيلة بكر بن وائل.
الثاني : تغلب بن وائل.
لقد ذكر الله عز وجل سنخية وماهية عمارة الإنسان للأرض بأنه خليفة فيها ، وتلك منزلة لم يرق إليها أي جنس من الخلائق بما فيهم من الملائكة وأن أكرمهم الله بمراتب سامية أعظم مما عند الإنسان من جهات متعددة ، وهذا التفضيل من الله للإنسان والأجناس المتعددة من مصاديق قوله تعالى [ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ] ( ).
ومن الآيات في المقام التفاضل أيضاً بين أفراد الجنس الواحد في ذات الطبقة والبلدة والقرية الواحدة في الخلقة والرزق وطول العمر , وتعدد النعم بما يبعث على أمور :
الأول :التفكر في بديع صنع الله .
الثاني : الشكر لله عز وجل على النعم ، وقد تكون عند بعضهم عاهة، لتكون موعظة وعبرة للناس ، ودعوة لهم للحمد والشكر لله ، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (إذا رأيتم أهل البلاء فاحمدوا الله، ولا تسمعوهم، فان ذلك يحزنهم) ( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام : تقول ثلاث مرات إذا نظرت إلى المبتلى من غير أن تسمعه : الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، ولو شاء فعل ، قال : من قال ذلك لم يصبه ذلك البلاء أبدا) ( ).
وهل إختيار الكفر عاهة , أم أن القدر المتيقن من العاهة والآفة في البدن ، الجواب هو الأول.
ومرّ عيسى عليه السلام برجل ذي عاهات متعددة فهو أعمى ومجذوب ومبروح وبه داء الفالج أي الشلل الذي يفقد معه صاحبه حركة وإحساس البدن فسمعه عيسى يشكر الله عز وجل ويقول : الحمد لله الذي عافاني من بلاء ابتلى به أكثر الخلق .
فسأله عيسى عليه السلام : يا هذا ما بقي من بلاء لم يصبك ، قال : عافاني من بلاء هو أعظم البلايا ، وهو الكفر .
عندئذ مسه عيسى عليه السلام بيده ، فشفاه الله من تلك الأدران ، وحسن وجهه , وصار بأتم عافية وصاحب عيسى يتعبد معه .
وهو من مصاديق قوله تعالى حكاية عن عيسى [وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ] ( ) لبيان أنه قد تجتمع عدة أمراض في شخص واحد ، فيشفى ببركة عيسى عليه السلام .
الثالث : التدبر في الإنتفاع الأمثل من التباين بين الناس .
الرابع : إنتظام المعاشات واستقرار المجتمعات برحمة ولطف من عند الله عز وجل , قال تعالى [أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] ( ) .
الخامس : هداية الناس للإيمان سواء بتوالي النعم أو بنزول البلاء ، وكل فرد منهما برزخ دون الكفر والجحود ، وهو من الإعجاز في قوله تعالى [قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ] ( ).
اللهم لك الحمد كما أنت أهله حمداً لا ينقطع أبداً , ولك الحمد أن تزيد عليّ من فضلك كلما أزددت في عملي تقصيراً , وإرتكبت التسويف، الحمد لك عن عقلي وجسدي وشعري وجوارحي وساعدي وكتفي ويدي وأصابعي ورئتي وكبدي .
اللهم لك الحمد على مواضع الوضوء والغسل والتيمم من بدني, وأسألك أن يكون هذا الحمد واقية لها من الآفات والأمراض الخفية والظاهرة.
الحمد لله عن والديّ وولدي وعن المؤمنين والمؤمنات وعشاق القرآن وعلومه.
الحمد لله حمداً لا ينفد أوله ولا ينقطع آخره، الحمد لله على كل نعمة تفضلت بها، وكل مرة أشكره وأحمده فيها هي نعمة توليدية تستلزم الحمد والثناء.
الحمد لله الذي فتح باب التوبة للناس جميعاً , قال تعالى[ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ]( )، الحمد لله الذي لم يهبط آدم إلى الأرض إلا ومعه النبوة وسلاح الدعاء ليبقى إلى يوم القيامة .
وكانت النبوة والصلاة والدعاء حاضرة في معارك الإسلام الدفاعية الأولى، وكل فرد منها مظهر للإيمان وآية له ومصداق للحمد لله، وسبب لدفع الضرر من جيوش المشركين، وهو من مصاديق قوله تعالى[لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( )، وفيها مجتمعة ومتفرقة غنى للمسلمين عن الغزو والهجوم للنهب والسلب .
ومن خصائص القرآن أن كل آية منه مناجاة للمسلمين لمنعهم من الغزو، وهي أنس إيماني لهم ، فهي كلام الله الذي ينفذ إلى شغاف القلوب ليستقر فيها، ويكون هدى وحرزاً وواقية .
وجاء هذا الجزء وهو التاسع والستون بعد المائة من تفسيرنا للقرآن , ويشرق بقراءة في رياض بضع آيات من القرآن نزلت بخصوص معركة بدر لبيان أنها لا تفيد الحث على القتال والغزو، إنما هي تتضمن أموراً:
الأول : بيان قبح الكفر والضلالة.
الثاني : دعوة الناس للتوبة والإيمان.
الثالث : الحسن الذاتي للسلام، وترشح الأمن عنه، وقد أعان الله عز وجل الناس بأن جعل أربعة أشهر من السنة حُرماً لا يجوز فيها القتال، ولا يختص هذا الجعل بالمسلمين أو خصوص أيام بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما بعدها إنما هو قانون من الإرادة التكوينية يتغشى الناس جميعاً من يوم خلق آدم، قال تعالى[إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]( ).
ليتعظ الناس ويتذوقوا عذوبة السلام ويكون مناسبة للتدبر في النبوة ومعجزاتها، ودلائل التنزيل، والسلام مقدمة للإسلام وأمن من الغزو والظلم والتعدي، ووسيلة لتنمية ملكة المودة بين الناس عامة وخصوص المؤمنين , قال تعالى[إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا]( ).
الرابع : بيان الشواهد التي تدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا في حال دفاع محض في القتال، ولم تكن لهم رغبة فيه، فكل آية قرآنية سيف مسلط على الكفر ينحره ويزيحه عن النفوس والمجتمعات كل يوم، فتنقضي وقائع المعركة بيوم أو بضعة أيام ويحقق فيها المؤمنون النصر على عبدة الأوثان، لتكون الآية القرآنية على وجوه:
أولاً : الآية القرآنية وسيلة وسلاح للنصر.
ثانياً : الآية القرآنية شاهد سماوي على النصر.
ثالثاً : تمنع الآية القرآنية التحريف في الوقائع ، ومصادرة النصر المبين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بفضل من الله.
رابعاً : ذات الوقائع والأحداث وأسباب النزول برزخ دون تحريف الآية القرآنية.
وهل يلزم الدور بين هذا الوجه والوجه أعلاه، الجواب لا، للتباين الجهتي بينهما.
لقد ذكرت كتب التفسير والسيرة والتأريخ غزوات النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتفاخر، وذكروا أنها تسع وعشرون غزوة، ومنهم من حرص على القرآن والجمع بين الغزو والنصر، وليس من صلة وإقتران بينهما، فإن قلت قد يرد لفظ غزوة على لسان صحابي، كما ورد عن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ، فلقي العدوّ , فسمعته يقول : يا {مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين}( ) قال: فلقد رأيت الرجال تصرع ، تضربها الملائكة من بين يديها ومن خلفها)( ).
وعن الحسين بن علي عليه السلام قال : بينما علي بن أبي طالب يخطب الناس ويحثهم على الجهاد إذ قام إليه شاب وقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله؟
قال : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وآله سلم على ناقته العصباء ونحن منقلبون من غزوة، فسألته عمّا سألتني عنه فقال صلى الله عليه وآله وسلم : الغزاة إذا همّوا بالغزو كتب الله تعالى لهم براءة من النار، فإذا تجهزوا لغزوهم باهى الله تعالى بهم الملائكة، فإذا ودعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت، ويخرجون من ذنوبهم كما تخرج الحية من سلخها، يوكل عزّ وجلّ بكل رجل منهم أربعين ألف ملك يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، ولا يعمل حسنة إلاّ ضعفت له، وكتب له كل يوم عبادة ألف رجل يعبدون الله عزّ وجلّ ألف سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً، اليوم مثل عمر الدنيا.
فإذا صاروا بحضرة عدوّهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إياهم، فإذا برزوا لعدوّهم وأشرعت الأسنّة وفوّقت السهام , وتقدم الرجل إلى الرجل حفّتهم الملائكة بأجنحتها ويدعون الله لهم بالنصرة والتثبت، ونادى مناد : الجنة تحت ظلال السيوف، فتكون الضربة والطعنة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف، وإذا زال الشهيد عن فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتى يبعث الله تعالى إليه زوجته من الحور العين فتبشره بما أعد الله له من الكرامة، وإذا وصل إلى الأرض تقول له الأرض : مرحباً بالروح الطيب التي أُخرجت من البدن الطيب أبشر فإن لك ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ويقول الله تعالى : أنا خليفته في أهله، من أرضاهم فقد أرضاني ومن أسخطهم فقد أسخطني، ويجعل الله روحه في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث تشاء تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بالعرش، ويعطى الرجل منهم سبعين غرفة من غرف الفردوس، سلوك كل غرفة ما بين صنعاء والشام يملأ نورها ما بين الخافقين، في كل غرفة سبعون باباً، على كل باب سبعون مصراعاً من ذهب، وعلى كل باب سبعون غرفة مسبلة، وفي كل غرفة سبعون خيمة، في كل خيمة سبعون سريراً من ذهب قوائمها الدر والزبرجد، مزمولة بقضبان الزمرد، على كل سرير أربعون فراشاً، غلظ كل فراش أربعون ذراعاً، على كل فراش زوجة من الحور العين {عُرُبًا أَتْرَابًا}( ) .
فقال الشاب : يا أمير المؤمنين أخبرني عن العروبة؟ قال: هي الغنجة الرضية المرضية الشهية، لها ألف وصيف وسبعون ألف وصيفة، صفر الحلي بيض الوجوه، عليهن تيجان اللؤلؤ، على رقابهم المناديل، بأيديهم الأكواب والأباريق، وإذا كان يوم القيامة يخرج من قبره شاهراً سيفه تشخب أوداجه دماً، اللون لون الدم والرائحة رائحة المسك، يخطو في عرصة القيامة. فوالذي نفسي بيده لو كان الأنبياء على طريقهم لترجّلوا لهم، ممّا يرون من بهائهم، حتى يأتوا إلى موائد من الجواهر فيقعدون عليها، ويشفع الرجل منهم في سبعين ألف من أهل بيته وجيرته، حتى أن الجارين يتخاصمان أيهما أقرب جواراً , فيقعدون معي ومع إبراهيم على مائدة الخلد، فينظرون إلى الله في كل يوم بكرة وعشية.
وروى مكحول عن كثير بن مرة عن قيس الجذامي : رجل كانت له صحبة قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يُعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه : يكفّر عنه كل خطيئة، ويرى مقعده من الجنة،
ويزوَّج من الحور العين، ويؤمن الفزع الأكبر وعذاب القبر، ويحلّى بحلية الإيمان
ثابت بن أسلم البناني عن أنس بن مالك قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بعض غزواته فأتاه رجل أسود فقال : يا رسول الله إني أسود قبيح الوجه منتن الريح لا مال لي، فإن قاتلت هؤلاء حتى أُقتل فأين أنا؟
قال : في الجنة قال : فحمل عليهم فقاتل حتى قُتل، قال : فجاء رسول الله(عليه السلام) حتى وقف على رأسه فقال : لقد بيّض الله وجهك وطيّب ريحك وأكثر مالك ثم قال : لقد رأيت زوجتيه من الحور العين في الجنة تنازعانه جبة له من صوف، ليدخلا بينه وبين جبته)( ).
والمراد من الغزوة في الأحاديث أعلاه أعم من الهجوم وإختيار القتال إنما المراد هو الدفاع وخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه لصد هجوم الذين كفروا، ودفع تهديدهم بغزو المدينة وللتشاور بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يبدأ قتالاً، ولأن المسلمين يكرهون القتال ولكنه مفروض عليهم لإصرار الذين كفروا عليه، قال تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( )، وإلا كيف تكون معركة أحد غزوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يخرج إلى القتال إلا عندما أشرفت جيوش الذين كفروا على المدينة وكذا تسمى غزوة الخندق وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في دفاع داخل المدينة ولم يغادرها، ولم يلحق بالعدو.
وذكرت المرات التي ذكرت فيها خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه وهي :
الأولى : معركة الخروج إلى ودّان.
الثانية : معركة غزوة الأبواء.
الثالثة : معركة غزوة بواط إلى ناحية رضوى.
الرابعة : معركة غزوة العشيرة من بطن ينبع.
الخامسة : معركة غزوة بدر الأُولى بطلب كرز بن جابر.
السادسة : معركة غزوة بدر الكبرى التي قتل الله فيها صناديد قريش.
السابعة : معركة غزوة بني سليم حتى بلغ الكدر ماءً لبني سليم.
الثامنة : معركة غزوة السويق يطلب أبا سفيان بن حرب حتى بلغ قرقرة الكدر.
التاسعة : معركة غزوة ذي أمر , وهي غزوة غطفان إلى نجد.
العاشرة : معركة غزوة نجران : موضع بالحجاز فوق الفرع.
الحادية عشرة : معركة غزوة أُحد .
الثانية عشرة : معركة غزوة حمراء الأسد.
الثالثة عشرة : معركة غزوة بني النضير.
الرابعة عشرة : معركة غزوة ذات الرقاع من نجد.
الخامسة عشرة : معركة غزوة بدر الأخيرة.
السادسة عشرة : معركة غزوة دومة الجندل.
السابعة عشرة : معركة غزوة الخندق.
الثامنة عشرة : معركة غزوة بني قريظة.
التاسعة عشرة : معركة غزوة بني لحيان.
العشرين : معركة غزوة بني قردة.
الحادية والعشرين : معركة غزوة بني المصطلق من بني خزاعة لقي فيها.
الثانية والعشرين : معركة غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصده المشركون.
الثالثة والعشرين : معركة غزوة خيبر.
الرابعة والعشرين : معركة غزوة الفتح : فتح مكة.
الخامسة والعشرين : معركة غزوة حنين لقي فيها.
السادسة والعشرين : معركة غزوة الطائف حاصر فيها.
السابعة والعشرون : توجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك.
قاتل منها في تسع منها :
الأولى : معركة بدر الكبرى، وهو يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة.
الثانية : معركة أُحد في شوال سنة ثلاث.
الثالثة : معركة الخندق.
الرابعة : معركة بني قريظة في شوال سنة أربع.
الخامسة : معركة بني المصطلق.
السادسة : معركة بني لحيان في شعبان سنة خمس.
السابعة : معركة خيبر سنة ست.
الثامنة : معركة الفتح في رمضان سنة ثمان.
التاسعة : معركة حنين في شوال سنة ثمان.
فأوّل خروج وتوجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قاتل فيه بدر وآخرها تبوك)( ).
الحمد لله الذي جعل رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خيراً محضاً , وربيعاً دائماً للمجتمعات , ونماء لمعاني الرأفة بين الناس ، والمودة بين المؤمنين .
(عن جابر بن عبد الله قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع , فقال : يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد ، ألا إن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ،[ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ).
ألا هل بلغت ؟ قالوا : بلى يا رسول الله , قال : فليبلغ الشاهد الغائب.
وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن الله أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها ، كلكم لآدم وحواء كطف الصاع بالصاع ، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم ، فمن أتاكم ترضون دينه وأمانته فزوجوه) ( ).
ومن خصائص التكبر بالأباء الزهو وحب التسلط ولو بالغلبة والقهر ، وإزدراء الناس ، وكلها أسباب قد تأتي بالفتنة وأسباب القتال ، فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأد الفتنة في مهدها ، والمنع من إقتتال الناس ، وتنبيه الناس إلى لزوم ركوب جادة الهدى والتحلي بلباس التقوى ، وأنه الملاك في معرفة أحوال الناس ، والتباين في الشأن والمرتبة ، ليبعث الحب لله في النفوس ، ويجعل القلوب والجوارح تشتاق لأداء الفرائض العبادية (عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : حبب إليَّ من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة) ( ).
أما النساء فالمراد منه الزواج , فزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظاهر ومعروف .
وابتدأ بالزواج من خديجة وهي أكبر منه سناً بنحو عشرين سنة ، ولم يتزوج غيرها حتى بعد أن توفيت ، ولم يتزوج إلا بعد هجرته إلى المدينة ، وكانت زوجاته باستثناء عائشة ثيبات لإرادة تآلف القبائل ، وإكرامها بالصلة والمصاهرة مع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهل تنال القبائل التي تنتمي لها أزواج النبي من فيوضات ومفاخر مضامين قوله تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] ( ) الجواب نعم .
وأما الطيب فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحياناً لا يجد منه شيئاً ويأخذ عطراً من خمار إحدى زوجاته .
وأما الصلاة فهي خير محض , وكان يقوم الليل حتى تورمت قدماه ، ونزل قوله تعالى [مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى] ( ).
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يحرص على حضور الصلوات اليومية الخمس في المسجد النبوي يؤم المسلمين والمسلمات فيه ، لتكون الصلاة من مصاديق قوله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا]( ).
وتسمى السنة التاسعة للهجرة سنة الوفود لكثرة الوفود التي قدمت إلى المدينة خاصة في النصف الأول منها ، وضاقت بهم أزقة المدينة ، وكانوا يحرصون على الحضور في المسجد النبوي ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يلتقي بكل وفد مرات متعددة ، ويزورهم إلى محل إقامتهم ، يتلو عليهم القرآن ، ويعرض عليهم أحكام الحلال والحرام , ويتفقد أحوالهم , ويجيزهم عند المغادرة , ولن يغادروا حتى يتقنوا الصلاة .
ولم تأت هذه الوفود من أماكن غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما جاءوا من مدن وقرى لم تصلها خيل المسلمين مما يدل على ان الإسلام لم ينتشر بالسيف .
وعن أنس قال : (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لقد أخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ، ولقد أتت علي ثلاثون من بين ليلة ويوم , وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال) ( ).
أي لا يأكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبلال إلا قطعة صغيرة من رغيف ، قد يكون الطير يأكل أكثر منه في اليوم الواحد لبيان صدق جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الله ، وأنه كان صابراً محتسباً لا يبغي الدنيا ، ولا يطلب القتال .
وليس في تأريخ الإسلام ما يدل على صدور أمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإمام علي عليه السلام أو أحد الصحابة بطلب المبارزة ، والتقدم لقتال الأعداء ، ولم يأمر بزحف الرايات في معسكر العدو.
فمن خصائص النبوة عدم الإبتداء بالقتال مع علم الأنبياء بأن النصر حليفهم .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعلم بهذا القانون السماوي ، وتدل عليه آيات القرآن ، مثل نجاة موسى عليه السلام , وغرق فرعون ، ومثل قتل داود لجالوت , قال تعالى [إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا] ( ) [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ] ( ).
ومن أسرار نصر المؤمنين صبرهم وتلقيهم الأذى من المشركين ،قال تعالى [وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ] ( ) .
وتحتمل الآية أعلاه ومعنى الإنتصار فيها وجوهاً :
الأول : التطلع إلى النصر من عند الله وسؤاله الناس النصر ، ومن مصاديق ما ورد في التنزيل [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
الثاني : الإنتصار بالسيف على المشركين الذين يؤذونهم .
الثالث : إذا قدروا بعد الأذى عفوا ( ) .
الرابع : المناجاة بالنصر والغلبة حتى دفع المشركين .
الخامس : التوقي من الظلم .
السادس : الغلبة والنصر على النفس الشهوية .
الحمد لله في السراء والضراء، والحمد لله على وقوع معركة بدر، وعلى صرف ضروب كثيرة من المعارك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين، وهو من مصاديق قوله تعالى[يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ]( ) .
وحينما جاء رسول أبي سفيان إلى قريش يستصرخهم ويستغيث بهم لنجاة قافلته، خرج إليه نحو ألف من المشركين بكامل أسلحتهم ومعهم الخيل والرواحل والمؤن، حتى إذا ما [الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( )، عند أصر بعض رؤساء الكفر مثل أبي جهل وأمية بن خلف على القتال، ويدل هذا الإصرار على إطمئنان المشركين لتحقيقهم النصر يومئذ بلحاظ حساب عدد وأفراد وأسلحة كل من الجيشين، وقدرتهم على المبارزة والقتال.
لذا حين خرج عتبة بن ربيعة وأخوه وابنه الوليد بن عتبة إلى وسط الميدان وطلبوا المبارزة أرادوا بعث الفزع والخوف في قلوب المسلمين لعزمهم على قتل من يخرج إليهم ، ومعرفتهم بقدرة القريشيين الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وفاتهم أن الله عز وجل يجعل القوة والمنعة في الذين آمنوا بحيث يستطيعون الغلبة والنصر على الذين كفروا.
وهل هذه القوة الشخصية الزائدة من مصاديق قوله تعالى[وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، الجواب نعم فمن هذه الجنود الفيض الإلهي في قوة المؤمن بحيث يقدر على التغلب على الكافر الذي هجم عليه وتحداه وأراد قتله، وفي معركة خيبر , قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لَأُعْطِيَن الرّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبّ اللّهَ وَرَسُولَهُ يَفْتَحُ اللّهُ عَلَى يَدَيْهِ لَيْسَ بِفَرّارٍ , يَقُولُ سَلَمَةُ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ عَلِيّا رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَرْمَدُ فَتَفَلَ فِي عَيْنِهِ ثُمّ قَالَ خُذْ هَذِهِ الرّايَةَ فَامْضِ بِهَا حَتّى يَفْتَحَ اللّهُ عَلَيْك( ).
ويتضمن هذا الجزء ذكر التقسيم الإستقرائي لسور القرآن ، سور مكية نزلت قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة ، وسور مدنية نزلت بعدها ، فهل من موضوعية للسور المكية في معركة بدر التي وقعت على رأس ثمانية عشر شهراً من هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة المنورة .
الجواب نعم ، إذ ترى صيغة الإنذار والتخويف والوعيد في السور المكية مثل قوله تعالى [أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى* أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى*كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَ بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ * فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ * كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ] ( ).
لتكون زاجرة للمشركين عن قتال ومحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وحاضرة في الميدان إن أصر بعض رؤسائهم على القتال كما وقع في معركة بدر , وسبباً في إختيار طائفة منهم إجتناب القتال ، وأخرى الفرار والهزيمة ، الأمر الذي يتضمن الغوص في أسرار وكنه نزول القرآن قبل الهجرة بالإنذار والتحذير للذين كفروا ، ويكون هذا الإنذار سبباً لهداية أمة من الناس ودخولهم الإسلام .
لقد أنعم الله عز وجل على الناس بالنبوة والوحي , وجعل الأنبياء أئمة الهدى وقادة الناس في ميادين التقوى والصلاح ، تقتبس الأجيال من أنوار سننهم ، ومنهاج عملهم .
وقد تفضل الله عز وجل وجعل كل مسلم ومسلمة يتلوان قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) سبع عشرة مرة في اليوم بقصد القرآنية ، وفي حال خضوع وخشوع لله عز وجل ، ليكون اتباع منهاج الأنبياء من هذا الصراط ودعوة إليه .
وسيأتي في هذا الجزء قانون (خشية النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الله عز وجل) وفي سنته تأديب للمسلمين والمسلمات لإتباع نهجه في الخشية والخوف من الله عز وجل ، قال تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( )وهذا النهج برزخ دون قيام المسلمين بالغزو والتعدي والظلم .
لقد أراد الله عز وجل للحياة أن تكون دار سعادة وغبطة للناس ، ودعاء ومكان لعبادته ومزرعة للآخرة والإقامة الدائمة في الجنان ، قال تعالى [وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ] ( ).
وتتجلى معاني إكتناز الصالحات بالعبادة والتقوى والخلق الحميد ، وفي التنزيل [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
ومن مصاديق حسن خلق النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تفضل الله عز وجل عليه بالمعجزة تجري بين يديه لتكون مصداقاً لهذا الخلق وشاهدا عليه ، ودعوة للمسلمين والناس للإقتداء به .
ومنه جهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دفع أسباب ومقدمات القتال بين المسلمين والكفار , ودرء للفتنة ، قال تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( ) .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم نزول الآية أعلاه بخصوص حمل قريش النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الهجرة ، ومغادرة مكة خائفاً وطالباً لنجاته ، لتكون هذه الهجرة في ذاتها وأثرها دفعاً للقتال والقتل , ومناسبة لنشر الصلاح في الأرض ، ومجيئه على مواطن الشر والضلالة .
لقد صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه ليؤسسوا لمدرسة التقوى ، وتشيع في الأرض مفاهيم الأمن والسلام ، وفي التنزيل [فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ] ( ).
وجاء هذا الجزء المبارك في مصاديق الصفح وقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنشر شآبيب السلام ، وتفسيرا لبضعة آيات تتعلق بمعركة بدر فيه بيان لقوانين منها :
الأول : لم يقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغزو .
الثاني : لم يقم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغزو .
الثالث : الذين كفروا هم الذين كانوا يقومون بالغزو .
الرابع : لا يبدأ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال .
الخامس : الملازمة بين النبوة والنصر .
السادس : مع أن النبي محمداً لم يغز ، ولم يبدأ القتال فان النصر حليفه بفضل من الله عز وجل .
السابع : مصاحبة الهزيمة للشرك والضلالة .
الثامن : نصر المسلمين سبيل لمنع القتال , وسفك الدماء في الأرض .
التاسع : نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين طريق لهداية الناس وسبيل إلى اللبث الدائم في النعيم .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن الذين يدخلون الإسلام لا يغادرونه ولا يتركون مقامات الإيمان ، فليس من إرتداد عن الهدى .
وفي آيات القرآن حث على الصبر وزجر عن الفتك والقتل ، وفي التنزيل [وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
حرر في السادس والعشرين من جمادى الآخرة
15/3/2018
آيات نزلت في معركة بدر
من إعجاز القرآن نزوله متفرقاً على نحو النجوم ، وبلحاظ الوقائع والأحداث، قال تعالى[وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً]( ) ولم يرد لفظ[فَرَقْنَاهُ] ولفظ[لِتَقْرَأَهُ] في القرآن إلا في الآية أعلاه .
وفي تعاقب نزول القرآن معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : أنه مدد وعون من الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الثانية : ترّغب الآية المسلمين على العمل بمضمونها ، وعلى الصبر والتحمل في طاعة الله ، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ]( ).
الثالثة : بعث الفزع والخوف في قلوب الذين كفروا .
الرابعة : خشية الكفار والمنافقين من نزول آية من القرآن تفضحهم إلى يوم القيامة، ومنهم من كان يخشى أن تنزل آية تذكره بالاسم وسنخية الفعل الذي فيه قدحه وذمه .
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها تتضمن الأمر إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقراءة القرآن على الناس عامة ليكون شكراً للمؤمنين ، ووعيداً وتخويفاً للذين كفروا .
الخامسة : التباين بين المسلمين والذين كفروا قبل وأثناء وبعد المعركة ، إذ يصاحب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين ، ويتقدمهم في الميدان وتنزل عليه آيات القرآن والوحي ، وليس مع الذين كفروا إلا الشيطان [يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا]( ).
السادسة : إعانة المسلمين والمسلمات على حفظ الآية القرآنية بلحاظ اقترانها بأسباب النزول .
السابعة : تدوين المسلمين لآيات القرآن عند نزولها .
الثامنة : توثيق الآية القرآنية للوقائع ، وتثبيت أنباء الأحداث ومعارك الإسلام الأولى، وبيان قانون وهو علم الله عز وجل بها قبل وقوعها ، ومنها معركة بدر التي سمّى الله عز وجل يومها [يَوْمَ الْفُرْقَانِ] ( ) لما فيها من التفريق والتمايز بين المؤمنين والذين كفروا .
وجاء في آية أخرى بيان بعض منافع تفريق الآيات كما في قوله تعالى[وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً]( ).
لبيان أن كل آية من القرآن تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقوى فيها قلبه , وقلوب المؤمنين، ويزدادون يقيناً ، وفيه دوام الأنس بنزول الملك ، وقربه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيانه للوقائع الحادثة ، وفيه مواعظ في الناسخ والمنسوخ والمجمل والمبين ، وهذا التفريق من مصاديق رحمة الله عز وجل بالمسلمين والناس جميعاً مدة نزول القرآن ، وأختلف فيها على وجوه :
الأول : نزل القرآن في ثلاث وعشرين سنة، وهو المروي عن ابن عباس( ).
الثاني : خمس وعشرون سنة مدة نزول القرآن.
الثالث : عشرون سنة ، عن قتادة ونسب إلى ابن عباس ايضاً .
الرابع : نزل القرآن في ثمان عشرة سنة ، عن الحسن البصري ، حكاه الطبري عنه ، ولم يثبت .
والمختار والمشهور هو الأول أعلاه.
ومن خصائص تفريق نزول آيات القرآن بعث اليقظة والحيطة والحذر عند المسلمين، وهذا الحذر من وجوه :
الأول : الحذر والحيطة من الذين كفروا .
الثاني : أخذ الحائطة من المنافقين ، خاصة وأنهم بين ظهراني المسلمين، ويؤدون الصلاة معهم .
الثالث : حذر المسلمين من ذات أنفسهم بالتوقي من التفريط، ومن الغفلة , ومن الظلم والتعدي .
ويتضمن قوله تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ]( ) لزوم اجتناب المسلمين ظلم أنفسهم في الأشهر الحرم من جهات :
الأولى : إمتناع المسلمين عن القتال في الأشهر الحرم .
الثانية : عدم الغفلة ووضع السلاح في الأشهر الحرم .
الثالثة : لزوم الدفاع في الأشهر الحرم ، قال تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]( ) .
الرابعة : ترك النسيئة في الأشهر الحرم، إذ يجب على المسلمين عدم العمل بالنسئ .
ومن الآيات إنقضاء النسئ ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قال تعالى [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ]( ).
وليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم انتظام التواريخ وضبط الحساب الى يوم القيامة وفق الآيات الكونية ومنازل القمر، وإبتداء الشهر بولادته هلالاً ثم يتسع ضياؤه إلى أن يصير بدراً في نصف الشهر، ثم يأخذ بالنفي ضيائه، وتأخره في الإطلالة على الأرض إلى أن يختفي في ليالي المحاق.
في آية علمية تدل على أن القمر والشمس من الممكنات تأتي عليهما الزيادة والنقصان وهو وفق القياس الإقتراني:
الأول : كل ممكن يتغير.
الثاني : القمر يتغير.
الثالث : القمر ممكن.
وكذا بالنسبة للشمس، ولبيان قانون وهو أن الله عز وجل وحده هو الإله و[رَبِّ الْعَالَمِينَ]( )، ولا يصح الإقرار بالربوبية المطلقة إلا له سبحانه.
لقد تفضل الله عز وجل بالنبوة التي تتغشى أيام الحياة الدنيا , وتغيير الذين كفروا لأوان الأشهر الحرم من مصاديق إحتجاج الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ] ( ).
ومن معاني رد الله عز وجل عليهم بالحجة والبرهان القاطع [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( ).
ولقد نزلت آية البحث بتوثب وتهيىء المؤمنين للدفاع والرد حتى في الأشهر الحرم , فلا تكون هذه الأشهر سبباً للغفلة وهلاك المؤمنين , ومن خصائص هذه الآية حفظ قدسية الأشهر الحرم إلى يوم القيامة , من جهات:
الأولى : نزول آية البحث وما فيها من البيان الخالي من الإجمال أو الترديد لمنع الفتنة والإفتتان في حساب أفراد الزمان.
الثانية : من معاني تلاوة المسلمين لآية البحث تعاونهم في ضبط الحساب وهل فيه تعاهد لآيات القرآن ومنع للتحريف فيها، الجواب نعم ليكون من إعجاز القرآن أن العمل بالآية الكريمة وتفسيرها ونظام الآيات الكونية نوع طريق لحفظ الآية القرآنية، وهو من مصاديق قوله تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثالثة : تحلي المسلمين بمضامين آية البحث .
الرابعة : زجر آية البحث للذين كفروا ، ونهيهم عن التعدي وغزو المدينة في الأشهر الحرم .
إذ أن مضمون قوله تعالى [قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ]( ), أي يقوم الذين كفروا بالقتال فيه ولابد من التهيئ للدفاع عن بيضة الإسلام , للبيان الوارد في ذات آية البحث بقوله تعالى [وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا] ( ).
ولم تتضمن آيات القرآن السؤال عن الأشهر الحل على نحو الخصوص مع أن الأشهر الحرم أربعة أشهر , بينما الأشهر الحل ثمانية أشهر والنص على الأشهر الحرم شاهد على قبح القتال ولزوم إجتنابه فيها مع التباين في موضوع القتال .
إذ يقاتل المسلمون دفاعاً .
بينما يقوم الذين كفروا بالهجوم والغزو على ثغور المسلمين , ولايترددون في سفك الدماء أي أنها حل للمسلمين في الدفاع، وهي أيضاً حرام على الذين كفروا في قتالهم وهجومهم , ولو لم يهجم المشركون لما وقع قتال .
ولا تدل الآية على وجوب القتال في الأشهر الحل , إنما تبين أنه أمر ممكن الوقوع .
مع قبح التعدي والغزو من قبل المشركين ، وهذا التعدي أعم من أن ينحصر بالهجوم على المدينة المنورة ، إنما يشمل الرصد والإغارة على سرايا الإسلام التي تخرج للدعوة والتبليغ كما في قصة بئر معونة.
وفي صلح الحديبية حيث صارت الوفود تمشي بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووفد قريش برئاسة سهيل بن عمرو ، وتداخل الفريقان خاصة وأنهم في شهر حرام وهو ذو القعدة ، ولم يحمل المسلمون أسلحة للقتال إلا سلاح الراكب ، أراد الصحابي سلمة بن الأكوع الإضطجاع تحت ظل شجرة فكسح وكنس شوكها .
فجاء أربعة من أهل مكة ، فجعلوا يقعون بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فتنحى سلمة عن تلك الشجرة ، ولم يزجرهم ولم يرد عليهم ، ولكنه ابتعد عنهم، وتحول إلى شجرة أخرى ، وبينهما هم كذلك .
قال سلمة (إذ نادى مناد من أسفل الوادي يا للمهاجرين قتل ابن زنيم فاخترطت سيفي فشددت على أولئك الاربعة وهم رقود فأخذت سلاحهم فجعلته ضغثا في يدى ثم قلت : والذى كرم وجه محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يرفع أحد منكم
رأسه إلا ضربت الذى فيه عيناه) ( ).
وكان ابن زنيم قد طلع من الثنية فرماه المشركون بسهم فقتلوه ، مع أنهم في شهر حرام ، وقد ظهرت بوادر الصلح ، ليكون هذا القتل من مصاديق آية البحث لأنه فرد جامع للقتل والصد عن سبيل الله ، وجاء بهم سلمة يقودهم إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وجاء عمه عامر بسبعين من المشركين لقتل المشركين ابن زنيم.
فقال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : دعوهم يكن لهم بدء الفجور ) فعفا عنهم ونزل قوله تعالى [وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ]( ) ( ) .
وذكرت الآية لفظ الشهر الحرام لإرادة اسم الجنس للأشهر الحرم والتي تتجدد في كل سنة .
ترى لماذا إبتدأت الآية بقوله تعالى[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ]( ).
الجواب لأن القتال ونحوه قد يقع فيه , وليس هو متكرر الوقوع في كل شهر , ويدل عليه ذات السؤال والإستفهام الذي هو فرد جامع من التقرير والإنكار , لذا ذكرت آية البحث أموراً مذمومة قد تقع في الشهر الحرام وهي :
الأول : القتال , ولم تذكر الآية طرفي القتال , ولكنه من جهات:
الأولى : القتال بين المسلمين والذين كفروا .
الثانية : القتال بين الكفار أنفسهم , وإذا مالوا إلى القتال في الشهر الحرام بتبديل الشهر الحرام بغيره من الأشهر , مع التقييد بكون الأشهر الحرم أربعة فيحلون شهر محرم , ويجيزون القتال فيه فيبقون مدة التحريم ثلاثة أشهر متتالية خاصة إذا كانوا تواقين للثأر والبطش, ويجعلون الذي يليه شهر صفر محرماً بدله , فكأنهم يرجئون الشهر الحرام , وقيل أنهم كانوا يحلون المحرم مع صفر من عام ويسمونها محرمين , قال تعالى [إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] ( ).
ومن إعجاز القرآن أنه جعل ذات النسىء كفراً وزيادة في الكفر مما يدل على أن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حاجة للناس.
الثالثة : القتال بين الأفراد والأشخاص .
الرابعة : حدوث القتال بين القبائل العربية .
الخامسة : القتال خارج جزيرة العرب ، من الدول والقبائل والناس الذين لايعلمون بأحكام الحنفية في حرمة الأشهر الحرم، ليتسع حكم الإسلام، وتدخل آيات القرآن كل قرية ويعلم الناس بأحكام حرمة القتال في الأشهر الحرم، ويتعاهدها المسلمون، وهو من مصاديق قوله تعالى[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ).
الثاني : نعت القتال الذي يقع في الشهر الحرام بأنه كبير , وهو كبير من جهات :
الأولى : ذات القتال واسع وكبير .
الثانية : التعدي على المسلمين في الشهر الحرام كبير .
الثالثة : دفاع المسلمين عن أنفسهم كبير .
الرابعة : أمر القتال في الشهر الحرام كبير وخطير ويجب إجتنابه , وجاءت صفة الكبير لإستعداد المسلمين للقتال حتى في الشهر الحرام, فإذا كان القتال فيه كبيراً , فمن باب الأولوية القطعية أنه كبير وكثير في غيره من الشهور .
الثالث : الجحود والكفر وعدم التسليم بالتوحيد.
الرابع : الإمتناع عن الشكر لله عز وجل جحود وضلالة.
وفي الآية إنذار للذين كفروا بل أن الجحود بالنعم يذهبها , قال تعالى[لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ…]( )
وقيل نسخ عدم القتال في الأشهر الحرم (بإباحة القتال في جميع الشهور قاله قتادة و عطاء الخرساني و الزهري وسفيان الثوري) ( ).
والمختار أن الآية لم تنسخ لأن المراد بالقتال في الشهر الحرام هو دفاع المسلمين فيه ، فاذا امتنع المشركون عن الغزو والهجوم على المسلمين فلا يقع قتال .
(عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم سيد الشهور شهر رمضان وأعظمها حرمة ذو الحجة ) ( ).
ويدل الحديث على أن شهر ذي الحجة أكثر حرمة من الأشهر الحرم الثلاثة الأخرى لأن فيه حج بيت الله الحرام وانقطاع الناس للعبادة ، ويدل سؤال المسلمين عن القتال في الشهر الحرام على عدم وقوعه ، ولو وقع القتال بين المسلمين والكفار في الشهر الحرام فان هذا الوقوع جواب .
ليكون من الإعجاز في آية[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ]( ) إنذار الذين كفروا وإخبارهم بأن المسلمين في حيطة وحذر حتى في الشهر الحرام.
فاذا كان العرب يضعون أسلحتهم في الأشهر الحرم، ويمتنعون عن القتال فان المسلمين لا يأمنون غدر الذين كفروا حتى في الشهر الحرام، وقد جاء في رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب عمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كأن منادياً نادى : إلا انفروا يا لُغدُر لمصارعكم في ثلاث).
لقد كان الذين كفروا ينتهزون أي فرصة للمكر والتعدي على المسلمين سواء في الأشهر الحرم أو الأشهر الحل، وفي حال الحضر والسفر، وفي ميدان المعركة وقبلها وبعدها، ولكن الله عز وجل يرد كيدهم، ويخيب ظنهم , ويبعث اليأس والقنوط في نفوسهم.
وقد همّ المشركون أن يهجموا على المسلمين أثناء أداء الصلاة في ميدان المعركة فشرعت صلاة الخوف .
(عن مجاهد قال كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعسفان( ) والمشركون بضجنان.
فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الظهر ورآه المشركون يركع ويسجد ائتمروا أن يغيروا عليه ، فلما حضرت العصر صف الناس خلفه صفين فكبر وكبروا جميعاً ، وركع وركعوا جميعاً ، وسجد وسجد الصف الذين يلونه ، وقام الصف الثاني الذين بسلاحهم مقبلين على العدوّ بوجوههم.
فلما رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأسه سجد الصف الثاني، فلما رفعوا رؤوسهم ركع وركعوا جميعاً وسجد وسجد الصف الذين يلونه.
وقام الصف الثاني بسلاحهم مقبلين على العدو بوجوههم ، فلما رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأسه سجد الصف الثاني.
قال مجاهد : فكان تكبيرهم وركوعهم وتسليمه عليهم سواء ، وتصافوا في السجود ، قال مجاهد : فلم يصل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الخوف قبل يومه ولا بعده) ( ).
وبين ضجنان ومكة خمسة وعشرون ميلاً وقد ورد ذكره في حديث الإسراء .
لقد ذكرت الآية الصد عن سبيل الله مع القتال في الشهر الحرام لبيان أن المشركين هم الذين يبدأون القتال ويصدون عن سبيل الله بالقتال أو بدونه، لذا قالت الآية[وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ]( ).
ولا يتعارض هذا المعنى مع المراد من الفتنة بأنه إخراج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مكة وحملهم على الهجرة منها .
وإلى جانب نزول جبرئيل بالوحي على النبي محمد فإنه ينزل ليزوره عندما كان في مكة ، وبعد أن هاجر إلى المدينة، وكل زيارة له فيض سماوي في ذاتها وموضوعها وأثرها.
ومن معاني هذه الزيارة التذاكر في القرآن، والتدارس في آياته، وهل منه الإمتناع عن القتال والقتل، الجواب نعم، بذات الزيارة وما يترشح عنها.
ومن خصائص تفريق نزول آيات القرآن الوضوح والبيان وهو من مصاديق قوله تعالى [هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ]( ) ومنها التباين بينه وبين الكتب السماوية السابقة التي نزلت جملة واحدة، وهذا التفريق والترتيل من المدد الإلهي في بقاء القرآن إلى يوم القيامة سالماً من التحريف والزيادة أو النقصان .
وقوله تعالى [وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً] أي قدرناه آية بعد آية ، ولا يتعارض مع إرادة معنى التلاوة والقراءة من الترتيل والترسل والتثبت في قراءته.
من مقدمات بدر
لقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة في الليالي الأولى من شهر رمضان من السنة الثانية وتتقدمه رايتان , إحداهما مع الإمام علي عليه السلام ، والأخرى مع سعد بن معاذ من رؤساء الأنصار ، وقيل كان هناك لواء بيد مع مصعب بن عمير.
ولما بلغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصفراء بعث بسبس بن عمرو ، وعدي بن أبي الزغباء ، وهما من جهينة إلى ماء بدر لإستطلاع المنطقة ومعرفة أخبار قريش ، ولا دليل على إرادة قافلة أبي سفيان على نحو الخصوص للتعرض لها.
وقد كان ارسال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سرايا الإستطلاع أمراً معروفاً في خروجه من المدينة ، لمنع الغدر بالمسلمين , وللإحتراز من القوم الكافرين .
وقيل أن قبر مضر الذي تنسب له القبائل العدنانية مدفون في الروحاء بوادي الصفراء ، وكانت النخيل والزراعات تكثر في هذا الوادي قبل أن يجف ماء الآبار وتقل الزراعات فيها في القرن العشرين ، وهجرها شطر من سكانها .
وعلة تسميتها بالصفراء هو لون الرطب الأصفر الذي يراه من بعيد القادم إلى الوادي.
وسار بسبس وعدي إلى بدر كالعيون يرصدان الطريق ، ويسألان أهل المال والركبان عن الأخبار ولما وصلا إلى بدر أناخا إلى تل قريب من الماء ، فسمعا جاريتين تتجادلان , وإحداهما تلازم وتقاضي الأخرى ، وتطلب منها قضاء دين لها عليها.
فقالت الملزمة ، إنما ترد العير غداً أو بعد غد , فاعمل لهم ثم أقضيك الذي لك ) ( ).
فقال شخص كان على الماء واسمه مجدي بن عمرو : صدَقت , أي بخصوص أوان قدوم العير , ثم خلص بينهما .
فأطمأن بسبس وعدي للخبر وعلما بأوان قدوم القافلة، وعدم وجود جيش للمشركين في المحل وحوالي ماء بدر، فركبا راحلتيهما راجعين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذات الطريق بين بدر والصفراء ، وكان طريقاً للقوافل بين مكة والمدينة ، فأخبراه بالأمر، وبين بدر والمدينة (150) كم وبين الصفراء والمدينة (110)كم.
أي تكون المسافة بين بدر التي رجع منها بسبس وعدي وبين الصفراء التي كان فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فرض أنه أقام فيها بانتظار رجوعهما نحو (70) كم . إذ تفيد الرواية بأنه بعد أن جاءه الصحابيان اللذان بعثهما للتجسس توجه إلى زفران .
مما يلزم قطعها بيومين أو يوم وشطر من يوم على فرض أن البعير يقطع وهو عليه راكب نحو خمسين كيلو متر في اليوم.
ويحتاج جيش المسلمين للوصول إلى بدر أكثر من يومين لكثرة الجيش ، ولأن شطراً منهم كانوا يسيرون على الأقدام .
وكان كل ثلاثة يتعاقبون على بعير واحد.
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام وأبو لبابة يتعاقبون على بعير واحد .
(عن عبدالله بن مسعود، قال كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، كان أبو لبابة وعلي زميلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال : فكانت عقبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالا : نحن نمشي عنك.
فقال: ما أنتما بأقوى مني ، ولا أنا بأغنى عن الاجر منكما)( ).
فيلزم قطع المسافة لبلوغ ماء بدر نحو أربعة إلى خمسة أيام بينما كان أبو سفيان قد توجه إلى مكة وصار يقترب منها قبل وصول بسبس وعمرو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي أوان وصولهما له ، مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سار إلى بدر وهو يعلم أنه لا يدرك القافلة ، ولم يكن يريد القتال أو يطلبه ، وربما لم يبلغه خبر خروج قريش للقتال ، ولكنه لا يجهله لموضوعية الوحي ، قال تعالى [نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ] ( ) وفيه دلالة بأن القرآن والوحي طاردان للغفلة والجهالة وهما برزخ دون نزول الضرر بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ليكون من منافع الوحي السلامة من الضرر، قال تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى]( ).
وعندما وصلت قافلة قريش إلى ماء بدر سأل أبو سفيان أهله ، وكان حذراً يتقصى الأخبار ، وأنباء مسير النبي محمد صل الله عليه وآله وسلم والموضع الذي هو فيه .
فسأل أبو سفيان مجدي بن عمرو وهو من القاطنين عند ماء بدر: هل أحسست أحداً، هل رأيت جيشاً أو طلائع لجيش .
قال : لا ، فتنفس أبو سفيان الصعداء ، ولكن مجدي استدرك قائلاً :
أني رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل ثم جاءا بشن( ) استقيا فيه، وركبا راحلتهما وغادرا .
فتوجه أبو سفيان إلى موضع راحلتيهما ، وأخذ من أبعار بعيرهما ، ثم فته بأصابعه ، فاذا فيه النوى ، فقال : هذه والله علائق يثرب .
فبلحاظ نوع البعر استدل على العلف ، وعرف البلدة الي تعلف أبلها به ، إذ يكثر التمر في المدينة ، فيعطون الردئ منه علفاً للإبل .
وقد نزل القرآن بالحث على الإنفاق والصدقة من الطيب، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ] ( )، ليكون من معاني سنخية هذا الإنفاق إكرام بني آدم مطلقاً بلحاظ أن الآية تضمنت الأمر.
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : (أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزكاة الفطر بصاع من تمر ، فجاء رجل بتمر رديء فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن رواحة لا تخرص هذا التمر ، فنزل هذا القرآن[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ]( ).
وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والدارقطني والحاكم والبيهقي في سننه عن سهل بن حنيف قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصدقة ، فجاء رجل بكبائس من هذا السحل – يعني الشيص – فوضعه ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال : من جاء بهذا – وكان كل من جاء بشيء نسب إليه – فنزلت[وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ]( ). ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن لونين من التمر ، أو يؤخذا في الصدقة الجعرور ولون الحبيق ) ( ).
فاسرع إلى رجال القافلة وأمرهم بالمسير ، ولم يقيموا في بدر للإستراحة والتمندل ، وقام بتغيير طريقه فلم يمش في ذات طريق القوافل إنما سار بمحاذاة الساحل وجعل بدراً على يساره .
ويعلم أبو سفيان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس قريباً منه ومع هذا فقد عجّل بالقافلة ، وحث الرجال والغلمان الذين معه على الإسراع من أجل الوصول إلى مكة .
وعندما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذخران أتاه خبر سير جيش قريش ومن والاهم لمنع عيرهم وللقتال فقام باخبار أصحابه من المهاجرين والأنصار ، ومع أن عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر إلا أنهم في موضع واحد يسهل معه التبليغ .
وذات أمر قدوم جيش للعدو سرعان ما ينتشر بين الأفراد لما فيه من إحتمال القتال ، والنفير وحدوث الأضرار وأسباب الكدورة ، وفقد الأحبة وكثرة ما يخلف القتال من المعاقين ، والأذى الذي يلحق المجتمعات وضياع الأموال , والضرر في الإقتصاد والسلم العام ، والفتن التي تحدث بالبيوت ويتم الأبناء وترمل النساء .
لقد أدرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعاهد كفار قريش الخبيثة وأنهم لم يخرجوا لمنع القافلة ، وقد اجتازت إلى مكة , ولم يتعرض لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، ولو شاء في أول رمضان أو في آخر شعبان ليكون معترضاً لقافلة أبي سفيان وهي في ماء بدر , وقبل أن تجتاز إلى مكة .
ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقصد التعرض لهذه القافلة وان ذكرته الأخبار كما في كتاب السيرة النبوية لمحمد بن اسحاق الذي توفى في بغداد سنة (151) هجرية وجده يسار من سبي عين التمر ، وهو أول سبي دخل المدينة من العراق ومن ابن إسحاق أخذ أكثر المؤرخين ومنهم ابن هشام المتوفى سنة (218 هجرية) .
واثنى ابن سعد على محمد بن إسحاق ، وقال أنه ثقة إلا أنه قال: ومن الناس من تكلم فيه( ) .
وهناك مدة أكثر من مائة سنة بين أيام النبوة وكتابة ابن اسحاق كتابه في السيرة ، فممكن أن تطرأ زيادة أو نقيصة على الأخبار ، وكان هو أيضاً يميل إلى إرضاء الخليفة العباسي المهدي الذي هيئ له أسباب كتابة السيرة .
كما أنه يذكر النوايا والمقاصد ، وقد لا يكون صحيحاً وأن ذكره بالنقل والرواية عن غيره من غير تحريض لذات الرواية ولكن التساؤل في ذات الرواية وما تطرأ على الأخبار وذكر المقاصد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بنوع مبالغة , وأنهم يسعون للقتال وقهر العدو الكافر خاصة وأن المسلمين يقولون باستحقاق الكافر للقهر والهزيمة .
ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز الكفار ، ولم يهجم عليهم إنما اختار الهجرة ومقام الغربة له ولأهل بيته وأصحابه لاجتناب القتال ولبعث رسالة عملية إلى كفار قريش للإمتناع عن تجهيز الجيوش لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ولو كان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بدر للإستيلاء على قافلة قريش.
لتصدى لها في الوقت والمكان المناسب، لعمومات قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، وفي ذم المنافقين قال الله تعالى[وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً]( )، لتدل الآية في مفهومها على قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالتهيئ والإعداد لإعتراض قافلة أبي سفيان لو كانوا يطلبونها.
بالإضافة الى تعدد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة من غير أن يتعرض لقافلة لقريش مع كثرة قوافلهم، والتي يدل عليها قوله تعالى[لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ]( ).
الآية الأولى
من الآيات التي نزلت بخصوص معركة بدر قوله تعالى قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ، وذكرت الآية فئتين وهما :
الأول : المسلمون من المهاجرين والأنصار بامامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وعددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر .
الثاني : المشركون من قريش وعددهم نحو ألف , ولم تذكر الآية عدد أفراد كل فئة ، ولا موضع اللقاء، إنما تبين أسباب النزول والقرائن على أن المراد معركة بدر.
وهل هو من مصاديق تفسير السنة النبوية للقرآن , الجواب نعم، لأن وقائع أسباب النزول فرع السنة.
ومن مصاديق قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ] ( ) التباين في سنخية الذين حضروا معركة بدر، والتضاد بين الإيمان والكفر , وليس في جيش المسلمين من حضر إلى المعركة كُرهاً أو على نحو الإضطرار بينما تتعدد أصناف الذين حضروا مكرهين في جانب وصفوف الذين كفروا ، وفي التنزيل [تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى]( ).
وجاءت الآية أعلاه معطوفة على نداء وخطاب للمهاجرين والأنصار وفيها حث لهم على عدم الفرار والهزيمة من المشركين عند اللقاء بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمْ الأَدْبَارَ] ( ) لبيان حاجة المدافعين للصبر في ميادين القتال ، ولا يعلم أحد ما في فرار المؤمنين من ساحة المعركة لو تم إلا الله عز وجل من جهات :
الأولى : ليس عند المسلمين إلا بلدة واحدة هي المدينة ، وإذا انهزموا تعقبهم الذين كفروا إلى بيوتهم .
الثانية : شدة عداوة الذين كفروا ، ورغبتهم في البطش والإنتقام.
الثالثة : سعي الذين كفروا لإستئصال الإسلام , ومنع إقامة الصلاة والشعائر ، قال تعالى[وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا]( ).
الرابعة : بيان قانون وهو عدم جواز فرار المؤمنين من جيش المشركين إلا مع السبب والمقتضي .
الخامسة : عدم الفرار طريق لتحقيق النصر .
السادسة : قد يكون فرار الصحابة مقدمة لقتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ووقف نزول القرآن قبل تمامه .
فأراد الله عز وجل حفظ وسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة .
وفي معركة أحد صار المشركون على بعد بضعة أمتار من النبي صلى الله عليه وآله وسلم , وأخذوا يرمونه بالحجارة والنبال .
وفي معركة أحد قام ابن قمئة الليثي بقتل الصحابي الجليل مصعب بن عمير الذي كان يقاتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ فظن ابن قمئة أنه قتل النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فنادى : قتلت محمداً .
وكأن الأمر مثل قتل عيسى عليه السلام ، كما في قوله تعالى [وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ] ( ) , إذ أن المشركين بعد نداء ابن قمئة هذا فتروا عن القتال .
ولقد أخبرت آية قرآنية عن التقاء الجمعين في قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) وجاءت آية أخرى بالبشارة بالنصر في المعركة بقوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ).
وان قيل كيف تكون البشارة في جملة خبرية عن تحقق النصر، والأصل في البشارة أن تكون لأمر قادم ، والجواب إن المنافع والفوائد والبشارات في نصر النبي محمد والمسلمين في معركة بدر متصلة ومتجددة إلى يوم القيامة.
ومن معاني الآية في قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ]( ) وجوه :
الأول : بيان قانون , وهو أن هذا اللقاء ليس عن غزو من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما تم اللقاء في ميدان يبعد عن مكة وديار قريش نحو (300)كم .
الثاني : دلالة النصر في معركة بدر على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : بيان التباين والتضاد بين المسلمين والذين كفروا , وان القتال في معركة بدر ليس لأمور قبلية وبلدية ونحوها ، إنما هو بين الإيمان والكفر ، ولم تقل الآية (فئة تغزو في سبيل الله) إنما ذكرت قتال المسلمين بلحاظ أن قيد في سبيل الله، وكونه غاية المسلمين من القتال شاهد على أنهم لم يقصدوا الغزو ، ولم يطلبوه .
وذكرت الآية قريشاً بصفة فئة كافرة , ليكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : كافرة بالله .
الثاني : كافرة بالنبوة ورسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث: كافرة بالتنزيل , وفي التنزيل [حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ * وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ]( ).
الرابع : كافرة بإختيارها عبادة الأوثان.
الخامس :كافرة بالسلم المجتمعي العام .
السادس : فئة ضالة كافرة بالجدال والإحتجاج والبرهان وسيلة للبيان والحجة.
وقد اتخذ الكفار المغالطة نوع طريق لصد الناس عن الإسلام ولكنهم أدركوا عدم ترتب الأثر عليها، وعجزوا عن منع الناس عن إتباع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلجأ المشركون إلى قوة السلاح وتناجوا بالتوجه إلى ميدان معركة بدر.
السابع : كافرة بقانون وهو أن النصر من عند الله ، وأنه تعالى ينصر أنبياءه ، وهل يدل نصر المسلمين في معركة بدر على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أم أن القدر المتيقن في معجزاته هو المعجزة العقلية ، الجواب هو الأول .
لتكون معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه :
الأول : المعجزة العقلية .
الثاني : المعجزة الحسية .
الثالث : الجامع للمعجزة , ومنه بيان القرآن للمعجزة الحسية.
(عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال[اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ] ( )، ألا وإن الساعة قد اقتربت ، ألا وإن القمر قد انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ، ألا وإن اليوم الضمار وغداً السباق .
وأخرج ابن المنذر عن الضحاك قال : كان انشقاق القمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل أن يهاجر ، فقالوا : هذا سحر أسحر السحرة فاقلعوا كما فعل المشركون إذا كسف القمر ضربوا بطساسهم وعما اصفر أحبارهم ، وقالوا : هذا فعل السحر وذلك قوله { وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر }( ) .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : ثلاث ذكرهن الله في القرآن قد مضين[اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ]( )، قد انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شقتين حتى رآه الناس { سيهزم الجمع ويولون الدبر } ( )وقد { فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد })( ).
الرابع : صيرورة المعجزة الحسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مرآة ومصداق للمعجزة العقلية .
الخامس : المعجزة الحسية شاهد على صدق نزول القرآن من عند الله عز وجل، ويمكن إنشاء قانون وهو لكل آية قرآنية مصداق يدل على نزولها من عند الله عز وجل .
وهذا التعدد بالمعجزة رحمة من عند الله بالناس جميعاً، وسبيل إلى هدايتهم ورشادهم ، ولكن الذين كفروا من قريش أصمّوا آذانهم عن المعجزات واختاروا إشهار السيوف لمنع انتشار الإسلام , وثاروا وهاجوا لأن الإيمان دخل بيوتهم بانتماء ابنائهم ذكوراً وأناثاً إلى الإسلام ، واستعدادهم للتضحية في سبيل الله، قال تعالى في الثناء على المهاجرين والأنصار[وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]( ).
ومن مصاديق قوله تعالى [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] ( ) طرو أسباب وتبدل في ذات المجتمعات والمنتديات والبيوت ، وهذا التبدل على وجوه :
الأول : تبدل نحو الخير والفلاح.
الثاني : في بعض ضروب التبدل شر وأذى.
الثالث : الأمر الجامع بين الوجهين أعلاه والتغيير الذي طرأ على المجتمعات ببعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الوجه الأول ، فهو خير محض ونفع في النشأتين فتلقاه أولوا الألباب وأصحاب الفطنة بالقبول والإستجابة , لأنه دعوة ولطف وهبة من عند الله، وهو سبحانه[غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ]( ).
لقد كان تعدد معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الكيف والكم والماهية تخفيفاً عن الآباء في قبول إسلام أبنائهم وفي اللحوق بهم، والأصل أن يبادر هؤلاء الآباء إلى الإيمان قبل الأبناء ، وفيه شواهد كثيرة ليكونوا حجة على الذين أقاموا على الكفر والضلالة، وهو من مصاديق الجمع بين قوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ]( )، وقوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) .
ومن المسلمين الأوائل من هاجر إلى الحبشة هو وابنه، أو هو وزوجته ، وكذا بالنسبة للهجرة إلى المدينة ، ومن البيوت في مكة ما فرغت من أهلها، وقفلت أبوابها لأن أهلها هاجروا بدينهم في سبيل الله .
لتصبح فئة المسلمين في ازدياد وتكاثر مستمر ، بينما تنقص وتتضاءل فئة الذين كفروا .
الثامن : المسلمون فئة مؤمنة ، وكفار قريش فئة كافرة بالنعم التي تتوالى عليها، لقد كان الناس من حول مكة في عسر وفقر ويشيع بينهم الغزو والنهب، بينما كانت قريش في مأمن وسلام ، تأتيها الأموال والمكاسب من التجارة، ووفود الحاج والمعتمرين ، وعندهم نوع رئاسة وهيبة في النفوس بفضل من الله ، وبركات جوار بيته المحرم ، ولكنهم جحدوا النعم بالصدود عن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد كان جيش المشركين ثلاثة أضعاف عدد المسلمين الحاضرين في ميدان معركة بدر ، مما قد يبعث الخشية والإرتباك في صفوف المسلمين ، فتفضل الله عز وجل وخفف عنهم ، وقّلل عدد جيش المشركين في أعين المسلمين ، فكانوا يرونهم وكأنهم مثلهم في العدد بما يجعل المسلمين يدركون أن الغلبة ستكون لهم لرجحان كفة الإيمان، مع إدراك الكفار للتباين بين المسلمين وبينهم في العزائم .
وقال عتبة بن ربيعة وهو من رؤساء المشركين يوم بدر: ألا ترونهم، يعنى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، جثيا على الركب كأنهم خرس، يتلمظون كما تتلمظ الحيات( ). والتلمظ تحريك وإدارة اللسان بالفم , كنوع توثب لأمر .
ويحتمل التشابه العددي والمثل في المقام وجوهاً :
الأول : يرى الذين كفروا المسلمين بمثل عددهم ، وهم نحو ألف أي يترآى للمشركين أن المسلمين ثلاثة أضعاف ما هم عليه من العدد .
الثاني : يرى الذين كفروا المسلمين مثلي عدد المسلمين الذي هو ثلاثمائة وثلاثة عشر ، فيظن الذين كفروا أن عدد المسلمين أكثر من ستمائة .
الثالث : يرى الصحابة من المهاجرين والأنصار الذين كفروا مثلهم في العدد وكأنهم ثلاثمائة وثلاثة عشر .
الرابع : إرادة المعنى الجامع ، وهو أن المسلمين يرون المشركين مثل عددهم القليل ، وكذا يرى المشركون المسلمين مثل عددهم الكثير .
الخامس : يرى المسلمون جيش الذي كفروا ضعف عددهم ، وكأنهم ألفان.
السادس : يرى الذين كفروا جيش المسلمين ضعف عددهم ، وكأنهم ستمائة وستة عشرون .
والمختار هو أن القرآن يفسر القرآن بعضه بعضاً ، قال تعالى [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً] ( ) .
فمن الإعجاز في قوله تعالى [يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ] ( ) المعنى الجامع في المراد من الرائي والمرئي .
وهناك مسـألتان :
الأولى : كيف تكون هذه الرؤية .
الثانية : ما هي العلة والغاية من هذا التقليل .
أما المسألة الأولى ففيها وجوه :
الأول : إنها بفضل من الله عز وجل والأثر على آلة البصر عند كل من الفريقين ، وعن عبد الله بن مسعود قال (لقد قلت ذلك اليوم لرجل إلى جنبي أتظنهم سبعين؟ قال بل هم مائة ، قال فلما هزمناهم أسرنا منهم رجلاً فقلنا كم كنتم؟ قال ألفاً) ( ).
الثاني : إرادة التخفيف عن المسلمين ، ومنع دبيب الخوف إلى نفوسهم.
الثالث : عصمة المسلمين من الإختلاف والشقاق فيما بينهم في إختيار الدفاع .
الرابع : سلامة المهاجرين والأنصار من النفاق ، ولا يختص موضوع هذه السلامة بالذين حضروا ميدان معركة بدر منهم ،إنما يشمل الجميع بذات التقليل والتكثير في العدد ، إلى جانب موضوعية نصر المسلمين يومئذ.
الخامس : زجر المشركين عن إختيار القتال والإبتداء به ، وهو من مصاديق عموم الرحمة في قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ).
السادس : تأكيد قانون وهو صرف أسباب القتال عن المسلمين والناس جميعاً .
السابع : بيان قانون وهو ان الإسلام لم يجعل الإسلام وسبله لنشره وتثبيت أحكامه وهذا التثبيت فضل من الله عز وجل قال تعالى[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( ).
الثامن : إقامة الحجة على الذين كفروا بسد الذرائع عليهم في القتال ، ومنع مقدماته ، ويتجلى هذا المنع بأن يروا المسلمين مثل عددهم، وأنهم في حال توثب وتهيئ للقتال ، فان قيل كيف يكون المسلمون في حال توثب للقتال وليس معهم إلا (فرسان وست أدرع وثمانية سيوف وأكثرهم رجاله)( )، ومعهم سبعون بعيراً، وكان كل اثنين أو ثلاثة يتعقبون بعيراً .
بينما زحف المشركون إلى معركة بدر ومعهم مائة فرس وابل كثيرة ، ويكفي أنهم كانوا ينحرون في الطريق كل يوم تسعة أو عشرة من الأبل لإطعام الجيش ، ومعهم ستمائة درع.
التاسع : إرباك الذين كفروا في كيفية التخطيط للمعركة وتوزيع المهاجرين على طوائف وفرق الجيش ، ليكونوا في حال اضطراب ، عسى أن يكفوا عن القتال ، إذا بدأوا به.
فمن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنها تمنع الناس من القتال ، وتدعو الذين يتقاتلون إلى وقفه واللجوء إلى الصلح والوئام لكراهة ذات القتال .
وهل يختص التشابه والمثلية بالعدد في أفراد الجيش لمجئ الآية بصيغة جمع مذكر سالم [يَرَوْنَهُمْ] ( ) أم يشمل الخيل والإبل والسلاح والكراع .
المختار هو الثاني لأصالة الإطلاق ، والتناسب بين العدد والعدة ، وأما المسألة الثانية فان القصد والغاية من هذا التقليل في الأعين وظهوره في عالم الأفعال والأقوال ، بعث الهيبة من جيش المسلمين في نفوس الذين كفروا وتحلي الصحابة بالصبر وعدم الخشية من الذين كفروا .
ومن الإعجاز في قوله تعالى [وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذْ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْْ] ( ) أنه ليس من تكثير في المقام ، فلم يجعل المسلمين في أعين الذين كفروا كثير وأضعاف عددهم، إذ قال بعض المشركين: إنما هم أكلة جزور( ).
لقد قلل الله المسلمين في أعين المشركين يوم بدر، قبل بدء القتال، ثم كثرهم فيما بعد ليتمادى المشركون في غيهم، ويكون حجة عليهم، وهل نزول الملائكة من مصاديق هذه الكثرة وعلى نحو حسي , الجواب نعم، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ]( ) .
ومن منافع نزول آيات القرآن والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في مكة رغبة طائفة من أهلها باجتناب قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فحينما بلغهم سلامة القافلة تناجوا بالعودة إلى مكة، وقالوا: إن العير قد انصرفت فارجعوا. فقال أبو جهل : الآن إذا (ينحدر لكم) محمد وأصحابه فلا ترجعوا حتّى تستأصلوهم ولا تقتلوهم بالسلاح خذوهم أخذاً كي لا يعبد الله بعد اليوم، إنّما محمد وأصحابه أكلة جزور فاربطوهم بالحبال ( ).
وتبين الأخبار والوقائع إصرار المشركين على القتال في معركة بدر، وتجاهر بعض رؤسائهم بارادة استئصال الإسلام مما يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه كانوا في حال دفاع.
ليكون من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية في معركة بدر أمور :
الأول : تقليل عدد المسلمين في عيون الذين كفروا.
الثاني : إراءة المسلمين جيش المشركين عدداً قليلاً.
الثالث : بيان القرآن لعلة هذا التقليل المتعدد، بقوله تعالى[لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً]( ).
الآية الثانية
قوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] ( ) .
لإرادة بقاء فرقة تختص بطلب العلم وأحكام الحلال والحرام ، وما يسمى في هذه الأزمنة في إصطلاح المتشرعة (الأحكام العملية ) ومنه الرسالة العملية للفقيه ونحوها في العبادات والمعاملات والأحكام .
وتبعث هذه الآية على طلب العلم واكتسابه بالسعي إليه بالذات أو باللجوء إلى العلماء .
عن الإمام جعفر الصادق قال (تفقهوا في الدين فإنه من لم يتفقه منكم فهو أعرابي، إن الله عز وجل يقول في كتابه: ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) ( ).
والأمر بالتفقه في الحديث لا يتعارض مع الرجوع إلى المجتهد لأن أخذ الأحكام منه وفق الدليل فقاهة ولو على نحو الموجبة الجزئية .
وتدل الآية على قانون وهو عدم خروج المسلمين جميعاً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدفاع فلابد أن تبقى طائفة منهم للمواظبة على كسب العلوم والتفقه في الدين وعلوم التفسير، والقيام بدعوة اخوانهم إذا رجعوا إليهم إلى تعاهد الصلاة و الفرائض الأخرى .
وتحتمل الآية بلحاظ الغزو وجوهاً :
الأول : تنهى الآية عن الغزو .
الثاني : تدل الآية على قيام طائفة من المسلمين بالغزو .
الثالث : تبين الآية الغنى عن الغزو، وتدعو إلى تركه مع تقادم الأيام وامتناع المشركين عن الهجوم على المدينة والتهديد والتحشيد لهذا الهجوم .
والمختار هو الثالث إذ تسمي الآية طلب العلم والتفقه في الدين بالنفر ، وسميت هذه الآية (آية النفر) لقوله تعالى [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ]( )، والنفر الوارد فيها على وجهين:
الأول : النفر للدفاع ، وهو الذي تدل عليه الشواهد من السنة النبوية .
الثاني : النفر للتفقه في الدين لقوله تعالى [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ] ( ) .
وتبين الآية أن الذين يختصون بطلب العلم وتثبيت أحكام الشريعة وجذب الناس إليها ليسوا عدداً قليلاً لوجوب كثرتهم في كل زمان وعدم سوقهم إلى النفير والأمور العسكرية والدفاعية .
ومن وظائف طائفة الفقهاء بلحاظ شؤون ومستلزمات القتال أمور :
الأول : بيان قانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبدأ قتالاً.
الثاني : بغض القتال، وما فيه من الأذى والضرر على الإنسانية.
الثالث : لزوم إحتجاج المسلمين بالبرهان والحكمة.
ويحتمل المراد من لفظ (قومهم ) وجوهاً :
الأول : الأصحاب الذين خرجوا للدفاع .
الثاني : المرابطون في الثغور ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الثالث : الذين يدخلون الإسلام حديثاً .
الرابع : عامة الناس ممن يسأل عن أحكام الإسلام .
وهل تشمل الآية الكافر الذي يستجير بالمسلمين كما في قوله تعالى[وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ]( ).
الجواب نعم، وهو من أسرار ورود لفظ قومهم وليس فرقتهم ونحوها ، فقد ذكرت الآية في أولها الفرقة ولكنها ذكرت في آخرها القوم ، وإن كان الأصل في الآية هو الوجه الأول والثاني أعلاه إلا أنه لا يمنع من عموم الذين يرجعون للمسلمين عامة والفقهاء خاصة في أمور الدين.
وقد تفضل الله عز وجل وذكر لفظ [َيَسْأَلُونَكَ] ( )في خطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم خمس عشرة مرة في القرآن مع نزول الجواب من عند الله ، لبيان أن الفقيه والمجتهد يجب أن يرجع إلى القرآن والسنة في استبيان الأحكام ، ولا يصح أن يجيب بالظن والرأي ، للتقييد في قوله تعالى [لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ] ( ) .
ومن الإعجاز في الآية أن الذين يختصون بطلب العلوم الشرعية الذين ينفرون طائفة من كل قرية ، أو بلدة , وليس طائفة من مجموع المسلمين فمهما تكن طريقة القسمة والإنتساب عند المسلمين سواء على نحو القبائل أو البلدة والمصر أو المنطقة او السن وفئة العمر والأقران فلابد من تخصيص طائفة من كل فرقة منهم بالتفقه في الدين ، وهذا التفقه ليس للذات ، إنما هو للأمة ، فلا يجوز كتمانه .
و(عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كتم علماً مما ينفع الله به الناس في أمر الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار) ( ).
وهل في التفقه في الدين غنى عن الغزو ، الجواب نعم ، وفيه دعوة إلى الناس للجوء إلى الحوار والإحتجاج وإتخاذ البينة سلاحاً ، ونبذ المغالطة التي من رشحاتها عبادة الأوثان والعناد والقهر والإكراه.
لقد زحف في معركة بدر جيش المشركين وهم نحو ألف ، وفي معركة أحد أطلّ على المدينة في السنة الثالثة للهجرة نحو ثلاثة آلاف رجل منهم ثم أحاطوا بها في معركة الخندق في السنة الخامسة للهجرة عشرة آلاف , وهناك مسائل :
الأولى : هل كان أفراد هذه الجيوش كلهم من الكفار .
الثانية : لماذا لم تهجم هذه الجيوش على المدينة في السنة السادسة ، واضطرت قريش للقبول بالصلح .
الثالثة : أين صارت هذه الجيوش عند فتح مكة ، خصوصاً وأن المشركين زحفوا بعشرة آلاف رجل ، وجاءت الأخبار بقتل أربعة منهم فقط حينئذ ، وهم :
الأول : عمرو بن عبد ود القرشي قتله الإمام علي عليه السلام مبارزة.
ومن مصاديق عدم طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه القتال أن عمر هذا هو الذي أصر على المبارزة وكان فارس قريش وعمره آنذاك تسعون سنة ..
الثاني : حسل بن عمرو بن عبد العامري .
الثالث : نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي ، اقتحم الخندق يومئذ وقتل فيه( ) .
الرابع : منبه بن عثمان بن عبيد العبدري القرشي .
ومع أن الله عز وجل سمّى تلك المعركة الأحزاب ، وأن الكفار هم الذين جاءوا وزحفوا وغزوا ، إذ ذكرت بهذا الاسم في القرآن ثلاث مرات كلها من سورة واحدة والتي سميت باسمها (سورة الأحزاب) منها مرتان في آية واحدة ، وهو قوله تعالى [يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ]( ).
ولم يسمها ابن كثير باسم غزوة الأحزاب إلا مرة واحدة , ولا يخلو من تكلف ، بينما ذكرها باسم غزوة الخندق ست مرات ، نعم ذكرها باسم (يوم الأحزاب ) في مواطن عديدة ، أما ابن هشام فلم يقل غزوة الأحزاب ، إنما ذكرها مرتين باسم غزوة الخندق .
و (عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ قَالَ ثُمّ كَانَتْ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ فِي شَوّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ) ( ).
الرابعة : ما هي دلالات دخول أهل مكة الإسلام في السنة الثامنة ومجئ الناس إلى المدينة أفواجاً وهم يعلنون إسلامهم , وإسلام قومهم الذين من خلفهم .
أما المسألة الأولى فلا دلالة على كفر كل أفراد هذه الجيوش ومنهم :
الأول : المستضعفون الذي أكرهوا على الخروج إلى معركة بدر من الغلمان والعامة .
الثاني : هل يلحق أبناء بعض رؤساء الكفر بالمستضعفين ، أم أنهم أحرار مكلفون وعلى نحو مستقل .
الجواب لا تعارض بين الأمرين، إذ كان الأبناء يتصفون بالطاعة التامة للآباء في الغالب ، وباستثناء الذين ملأ الإيمان قلوبهم ، فلم يطيعوا الذين كفروا ، قال تعالى [وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ).
وورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (لا طاعة لمخلوق في معصية الله) ( ).
(وعنه صلى الله عليه وآله وسلم في قوله { لا ينال عهدي الظالمين }( ) قال : لا طاعة إلا في المعروف) ( ).
الثالث : المسلمون الذين كانوا يخفون اسلامهم ، خشية بطش كفار قريش.
الرابع : المسلمون الذين أعلنوا اسلامهم ، ولكن كفار قريش حملوهم على الخروج معهم ، خشية الإستيلاء على مكة , وهدم وتكسير الأصنام أو دعوة أهلها علانية للإسلام ، والتحريض على الذين كفروا ، والكفر برئاستهم .
الخامس : بنو هاشم الذين أكرهوا على الخروج مع قريش لأن قلوبهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وذكر أنه قال يوم بدر : (إنّي قَدْ عَرَفْت أَنّ رِجَالًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ قَدْ أَخْرَجُوا كُرْهًا ، لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِقِتَالِنَا ، فَمَنْ لَقِيَ مِنْكُمْ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَلَا يَقْتُلْهُ وَمَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيّ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ ابن أَسَدٍ فَلَا يَقْتُلْهُ وَمَنْ لَقِيَ الْعَبّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، عَمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ فَلَا يَقْتُلْهُ) ( ).
السادس : الرعاة ونحوهم ممن تبع كفار قريش طلباً لسد الجوع، وستر العورة .
وأما المسألة الثانية ، فصحيح أنه زحف عشرة آلاف رجل من المشركين على المدينة في معركة الخندق إلا أنهم حينما رجعوا إلى مكة والقرى التي جاءوا منها ، لم يجتمع معشار هذا العدد في موضع واحد بعد واقعة الخندق، للتعدي على ثغور الإسلام , وهو من الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : إنه من إعجاز القرآن الغيري ، وأثره في صدّ الناس عن إعانة الذين كفروا .
الثانية : من خصائص القرآن حث الناس على عدم ظلمهم لأنفسهم، وأشد مصاديق الظلم هو الكفر والجحود .
الثالثة : بيان موضوعية أسباب النزول في إصلاح النفوس، وتهذيب الألفاظ ، وإحتراز الناس من التعدي على المسلمين .
الرابعة : اتصال وتجدد بركات نزول الملائكة لنصرة المسلمين في معركة بدر وأحد والخندق ، فلا تختص منافع هذا النزول بأوانه والحال في المعركة ، بل أن اثره باق إلى يوم القيامة ، وهو من أسرار توثيق هذا النزول في القرآن ، قال تعالى [إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُنْزَلِينَ] ( ).
الخامسة : من خصائص القرآن أن كل آية منه تدعو الناس إلى الإيمان, وتمنعهم من محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ، وهي تستصرخ الناس جميعاً تحثهم على الإيمان ، وتبين لهم قبح الكفر والضلالة، قال تعالى[إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]( ).
السادسة : النفع العام المترشح عن سنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا ينحصر الأمر بالسنة الدفاعية بل كل فعل من السنة النبوية زاجر عن الكفر ، وعن نصرة رؤساء الكفر.
ويقف النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الصفين وينادي (قولوا لا آله إلا الله تفلحوا ) ليرجع الفريقان إلى أهليهم ، ويصاحب هذا النداء كل واحد منهم ، أما المسلم فانه يشكر الله عز وجل لتقيده بمضامين هذا النداء ، وأما الذي كفر فانه يتفكر في أمره.
ويتدبر في التوبة ولزوم المبادرة إليها ، ليدل بالدلالة الإلتزامية على إمتناعه عن الخروج مرة أخرى مع الذين كفروا لقتال النبوة والتنزيل .
ولم يختص هذا النداء من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بيوم وميدان المعركة، انما كان مصاحباً للنبوة، إذ كان ينادي به قبل الهجرة وروي أنه (مرّ في سوق مكّة يقول : قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا، وأبو لهب يرميه من ورائه بالحجارة حتّى أدمى كعبيه( ).
وهل يحضر في ميدان القتال طواف النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة على وفود القبائل في منازلها في موسم الحج ، وهو يدعوهم إلى التوحيد ونبذ الشرك وعبادة الأوثان، أم أن هذا الطواف حدث قبل الهجرة ، ولا أثر له في ميدان المعركة .
المختار هو الأول ، ولابد من إنشاء قانون وهو أثر فعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم السابق في زمانه على الحال اللاحق والمتجدد
السابعة : الذين ترددوا في الخروج إلى ميدان بدر ، خاصة أولئك الذين لا ناقة ولا جمل لهم في قافلة أبي سفيان .
الثامنة :من أهل مكة من امتنع عن الإستجابة لنداء النفير حينما جاء ضمضم رسول أبي سفيان يستغيث بهم ، ويطلب نجدة القافلة ، وقيل أن بني عدي مثلا لم يخرج أحد منهم إلى معركة بدر .
التاسعة : لقد شاعت رؤيا عاتكة عمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وغيرها من الإنذارات في أولوية ورجحان عدم الخروج إلى ميدان معركة بدر .
العاشرة : الذين طلبوا العافية ، ودفعوا الأموال ليخرج غيرهم من الناس بديلاً عنهم، قال ابن اسحاق: وحدثني ابن أبي نجيح أن أمية بن خلف كان قد أجمع القعود، وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا، فأتاه عقبة بن أبى معيط، وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه، بمجمرة يحملها فيها نار ومجمر، حتى وضعها بين يديه ثم قال: يا أبا علي استجمر فإنما أنت من النساء( ) .
الحادية عشرة : لقد قام بعض أفراد جيش المشركين بالرجوع من وسط الطريق خصوصاً بعد أن جاء رسول من أبي سفيان ينبئهم بسلامة القافلة ويدعوهم للرجوع ، ومنهم بنو زهرة الذين رجعوا جميعاً ، ولم يشهد أحد منهم معركة بدر ، مع أن أبا جهل حينما جاء بالخبر في الجحفة بسلامة القافلة ، وسألوه الرجوع إلى مكة أدّعى أنه يريد أن يبلغ ماء بدر ، ويقيم هناك ثلاث ليال للتحدي ، وليعلم العرب بمسيرهم ، وكثرة أفراد جيشهم ، واستعدادهم للقتال.
الثانية عشرة : لقد شاعت رؤى وعلامات الإنذار منها رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب بين أهل مكة ، إلى جانب الرؤى التي رآها بعض أفراد جيش أهل مكة , في طريقهم إلى بدر , والتي تتضمن التحذير والإنذار , وتدعو الناس نبذ الكفر والضلالة .
الثالثة عشرة : من أسرار الحياة الدنيا أنها مليئة بالإنذار والبشارة ، وهل يختص قوله تعالى [تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا]( )، بنزول آيات القرآن والسنة النبوية ، أم أنه أعم ، الجواب هو الثاني ، فالوقائع والأحداث التي صاحبت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الإنذارات والبشارات التي تتضمنها الآية اعلاه .
ومنها صيغ الإنذار التي سبقت خروج الذين كفروا لقتال المسلمين.
وهل منها السور المكية ومعانيها ، الجواب نعم ، إذ تتصف بشدة الخطاب ، وقصر الآية وقلة عدد كلماتها , وتتضمن التخويف والإنذار ، وتبين قرب المعاد والوقوف بين يدي الله للحساب .
وأما المسألة الثالثة وهي أين صارت هذه الجيوش عند فتح مكة والمراد من الجيوش هي :
الاول : جيش المشركين في معركة بدر , وهم نحو ألف .
الثاني : جيوش المشركين التي زحفت في معركة أحد , وهم ثلاثة آلاف رجل.
الثالث : جيوش قريش ومن ولاهم من القبائل والأعراب في معركة الأحزاب مع التداخل بين هذه الجيوش الثلاثة، فمنهم من خرج في كل معركة منها , وكان عدد جيش المشركين يومئذ عشرة آلاف , وهو ذات العدد الذي هجم فيه أبرهة على البيت الحرام , ولابد أنه كان يعلم بأن هذا العدد لأفراد جيشه والفيلة التي معه قاهر لأي قوة تجتمع في مكة والطريق إليها لملاقاته , خاصة وأنه يقصد بيت الله الحرام الذي بناه إبراهيم , ونادى في الناس بالحج له.
ومن أسرار قوله تعالى [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] ( ) , وفي هذا النداء أمور.
الأول : ندب الناس لحج بيت الله الحرام .
الثاني : دعوة الناس لإكرام البيت الحرام وتعاهد زيارته .
الثالث : إكرام سدنة البيت , والقائمين بالعناية به , وبوفد الحاج .
الرابع : التنزه عن التعدي على البيت الحرام .
الخامس : التدبر في آيات البيت الحرام , والفيض المترشح عنه .
السادس : الدفاع عن البيت الحرام إذا ما اعتدى عليه أحد , أو أرادته طائفة بسوء.
ومن الآيات أن القبائل العربية حرصت على إكرام البيت الحرام , وأهله ومجاوريه , ولكنهم نصبوا الأصنام فيه , فلم يعاقبهم الله عز وجل بل أمهلهم , وأكرمهم بأن بعث فيهم النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً للناس جميعاً , وهذا العموم في الرسالة فرع الآية أعلاه في توجه نداء إبراهيم إلى الناس [وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ] ( ), إنما جاء التعدي من أبرهة بن الصباح الحبشي , ويسمى أبرهة الأشرم , وهو من مملكة اكسوم والتي تسمى الحبشة , وهي أثيوبيا , وفيها تقع مدينة اكسوم على سفح جبال عدوة شرف اقليم تجراي , وهناك تداخل في هذه المملكة وبين العرب والأحباش , ومنه حكم النجاشي , وقيل كان عرشه بدباروة وهي في هذا الزمان تتبع ارتيريا, ووهنت مملكة اكسوم بعد واقعة الفيل وعند بزوغ شمس الإسلام , إذ كان هجوم ابرهة سنة 571م , ويوافق سنة 53ق,هـ , وفيها ولد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقد نزل القرآن بالتوثيق السماوي لهذه الواقعة قال تعالى [أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ] ( ).
وفي القرن الرابع الميلادي انتصر الملك إيزانا على دولة مروي ، وجعل المسيحية هي الديانة الرسمية لأكسوم .
وأقام المسلمون في مدينة نجاش (وكاش )القريبة من أكسوم قبل أن يعودوا مكة أو إلى المدينة ، وأكثرهم عاد في السنة السادسة للهجرة .
وعن (عن عمر بن عبد العزيز قال : كانت قريش في الجاهلية تحتفد ، وكان احتفادها أن أهل البيت منهم كانوا إذا سافت يعني هلكت أموالهم خرجوا إلى براز من الأرض فضربوا على أنفسهم الأخبية ثم تناوبوا فيها حتى يموتوا من قبل أن يعلم بخلتهم ، حتى نشأ هاشم بن عبد مناف ، فلما نبل وعظم قدره في قومه , قال : يا معشر قريش إن العز مع الكثرة ، وقد أصبحتم أكثر العرب أموالاً وأعزهم نفراً ، وإن هذا الإِحتفاد قد أتى على كثير منكم ، وقد رأيت رأياً .
قالوا : رأيك راشد فمرنا نأتمر .
قال : رأيت أن أخلط فقراءكم بأغنيائكم فأعمد إلى رجل غني فأضم إليه فقيراً عياله بعدد عياله ، فيكون يوازره في الرحلتين رحلة الصيف إلى الشام ورحلة الشتاء إلى اليمن ، فما كان في مال الغني من فضل عاش الفقير وعياله في ظله ، وكان ذلك قطعاً للاحتفاد .
قالوا : نعم ، ما رأيت فألف بين الناس . فلما كان من أمر الفيل وأصحابه ما كان وأنزل الله ما أنزل وكان ذلك مفتاح النبوة وأول عز قريش حتى أهابهم الناس كلهم وقالوا أهل الله والله معهم ، وكان مولد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك العام .
فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم كان فيما أنزل الله عليه يعرف قومه وما صنع إليهم وما نصرهم من الفيل وأهله[أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ]( )، إلى آخر السورة.
ثم قال : ولم فعلت ذلك يا محمد بقومك وهم يومئذ أهل عبادة أوثان فقال لهم [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ]( )، إلى آخر السورة أي لتراحمهم وتواصلهم ، وكانوا على شرك ، وكان الذي آمنهم منه من الخوف خوف الفيل وأصحابه واطعامهم إياهم من الجوع من جوع الاحتفاد .) ( ) .
وهل ابتلى الله عز وجل جيش المشركين ذي العشرة آلاف رجل بمثل ما ابتلى أصحاب الفيل من أسباب الهلاك في ذات الموضع وعدم الرجوع إلى الأوطان , الجواب لا , وهذا النفي من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ), ولبيان فضل الله عز وجل على قريش لأمور :
الأول : النسب إلى إبراهيم .
الثاني : دعاء إبراهيم عليه السلام لذريته، وسؤاله الله لمجاوري البيت الحرام , وفي التنزيل [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ] ( ).
الثالث : بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني قريش .
الرابع : تجلي الرحمة العامة للناس في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامس : فتح باب التوبة للناس برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
السادس : دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقومه بالإنابة والهداية عن عبد الله بن مسعود : (لقد رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يحكي نبياً من الأنبياء وهو يقول : اللهمَّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون) ( ).
وهل ينفرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأذى من قومه ، الجواب لا ، فان الأنبياء السابقين لاقوا أشد الأذى من قومهم .
(عن ابن عباس . أن نوحاً بعث في الألف الثاني ، وأن آدم لم يمت حتى ولد له نوح في آخر الألف الأول ، وكان قد فشت فيهم المعاصي ، وكثرت الجبابرة ، وعتوا عتوّاً كبيراً ، وكان نوح يدعوهم ليلاً ونهاراً ، سراً وعلانية ، صبوراً حليماً ولم يلق أحد من الأنبياء أشد مما لقي نوح ، فكانوا يدخلون عليه فيخنقونه ويضرب في المجالس ويطرد ، وكان لا يدع على ما يصنع به أن يدعوهم.
ويقول : يا رب اغفر لقومي فانهم لا يعلمون ، فكان لا يزيدهم ذلك إلا فراراً منه ، حتى إنه ليكلم الرجل منهم فيلف رأسه بثوبه ويجعل أصابعه في أذنيه لكيلا يسمع شيئاً من كلامه ، فذلك قوله الله { جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم }( ) .
ثم قاموا من المجلس فاسرعوا المشي ، وقالوا : امضوا فإنه كذاب . واشتد عليه البلاء.
وكان ينتظر القرن بعد القرن ، والجيل بعد الجيل ، فلا يأتي قرن إلا وهو أخبث من الأول وأعتى من الأول ، ويقول الرجل منهم : قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا ، فلم يزل هكذا مجنوناً.
وكان الرجل منهم إذا أوصى عند الوفاة يقول لأولاده : احذروا هذا المجنون فإنه قد حدثني آبائي : إن هلاك الناس على يدي هذا . فكانوا كذلك يتوارثون الوصية بينهم ، حتى إن كان الرجل ليحمل ولده على عاتقه ، ثم يقف به وعليه فيقول : يا بني ان عشت ومت أنا فاحذروا هذا الشيخ ، فلما طال ذلك به وبهم { قالوا : يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين } ( )) ( ).
لقد عاد جيش المشركين بعد معركة الخندق إلى مدنهم وقراهم بعد أن رأوا الآيات والبراهين في سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وعجزوا عن دخول المدينة المنورة ، ليصابوا بالقنوط ، وهو من مصاديق قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) .
وبيان الإعجاز في الآية أعلاه أن هذه الخيبة توليدية وهي مصاحبة للمشركين مجتمعين ومتفرقين ، فاذا عادوا إلى مدنهم وقراهم ، فكل واحد منهم يدخل إلى بيته خائباً ، وهو يدرك أموراً:
الأول : تجلي معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحسية ، ومنها عجز عشرة آلاف مقاتل عن دخول المدينة ، ومن مصاديق هذا العجز إمتلاء قلوبهم بالخوف والرعب ، وهو من عمومات قوله تعالى [سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ]( ) .
الثاني : إدراك الزلل والخطأ بمحاربة النبوة والتنزيل , ومعرفة قانون وهو أن الذي يحاربها والتنزيل لا يرجع إلا بالخيبة والخسران.
الثالث : لقد قطع جيش المشركين أربعمائة وخمسين كيلو متراً على الرواحل وسيراً على الأقدام ، وحاصروا المدينة نحو عشرين ليلة ، واستغرق مثلها طريق العودة دون أن يحققوا أي غاية جاءوا من أجلها فاضلوا الصراط .
أما المسلمون فانهم مواظبون على تلاوة قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) في الصلاة وخارجها ، (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَطَّ خَطًّا مُرَبَّعًا وَخَطَّ خَطًّا وَسَطَ الْخَطِّ الْمُرَبَّعِ، وَخُطُوطًا إِلَى جَنْبِ الْخَطِّ الَّذِي وَسَطَ الْخَطِّ الْمُرَبَّعِ وَخَطٌّ خَارِجٌ مِنْ الْخَطِّ الْمُرَبَّعِ، قَالَ هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذَا.
قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ هَذَا الْإِنْسَانُ الْخَطُّ الْأَوْسَطُ وَهَذِهِ الْخُطُوطُ الَّتِي إِلَى جَنْبِهِ الْأَعْرَاضُ تَنْهَشُهُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ إِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا أَصَابَهُ هَذَا وَالْخَطُّ الْمُرَبَّعُ الْأَجَلُ الْمُحِيطُ بِهِ وَالْخَطُّ الْخَارِجُ الْأَمَلُ) ( ).
وهناك أمور :
الأول : هل إنقلاب المشركين من معركة بدر ومعركة أحد ومعركة الخندق بخيبة من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : متى تنقطع الخيبة التي تذكرها الآية أعلاه [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ).
الثالث : هل في خيبة المشركين عند عودتهم من القتال غنى للمسلمين عن الغزو .
أما الأولى فالجواب نعم ، إنه من معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الغيرية التي تتجلى على الغير.
أما الأمر الثاني فلا تنقطع هذه الخيبة إلا بالتوبة والإيمان ، وهل تنقطع بالموت ، الجواب لا ، إذ تتلقى الملائكة الكافر عند مغادرته الدنيا بأسباب الفزع والعذاب ، قال تعالى [فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ] ( ).
أما الأمر الثالث فالجواب أيضاً نعم ، فيغزو المشركون ويرجعون بالخيبة التي يترشح عنها الضعف والوهن ، وأسباب الكدورة والخصومة بين المشركين مع دخول أبنائهم الإسلام.
وهل يمكن القول أن خيبة الكفار في قوله تعالى [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) من مصاديق جنود الله ، وقوله تعالى [وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ] ( ) الجواب نعم ، ولله عز وجل جنود في الهواء والماء ، وجنود تنفذ إلى القلوب، وتستولي على الجوارح، وهو سبحانه الذي يجمع بمشيئته المتفرق ويفرق المجتمع ، ويقلل الكثير ، ويكثر القليل بما ينفع الناس في النشأتين ، إذ بدأت دعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه وآمنت خديجة في اليوم الثاني ، وعلي عليه السلام في اليوم الثالث وتوالى دخول الصحابة فرادا في الإسلام.
ثم كانت هجرة نفر منهم إلى الحبشة والمدينة ثم لحقهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ليتغير مجرى التأريخ.
وتكون ذات الهجرة من جند الله ، وأسباب ظهور الإسلام ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ]( ).
وإن قيل تذكر الآية أعلاه شدة المهاجرين والأنصار على الكفار فهل هو من أسباب ومقدمات الغزو ، الجواب لا ، إنما هي المنعة والصبر والغلظة في ذم عبادة اللات والعزى والأوثان الأخرى .
وفي قراءة عبد الله بن مسعود (أذلة على المؤمنين غلظاء على الكافرين)( )، أنما تكون الشدة على الكفار مقدمة لمنع الحرب والقتال ، وزجر للكفار عن التمادي في العتو والغي .
ومن خصائص بعثة الأنبياء تجلي التضاد والتناقض بين المؤمنين والذين كفروا في المبدأ والعقيدة والسلوك .
فأراد الله عز وجل بقوله [أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ] ( ) عدم إكتفاء المؤمنين بهذا التضاد ، إنما عليهم الجهاد بالأنفس بالشدة على الكفار لأمور :
الأول : بيان قبح الكفر .
الثاني : الوقاية الذاتية من مفاهيم الكفر .
الثالث : زجر المشركين عن دعوة طائفة من المسلمين إلى الإرتداد .
الرابع : بيان قانون من جهاد المسلمين أيام النبوة ، وهو الإحتجاج وإقامة البرهان بلزوم التوحيد من غير تهاون ولين مع الذين كفروا .
الخامس : إرادة زيادة إيمان المسلمين , وتثبيت أقدامهم في منازل الهدى والرشاد .
السادس : هذه الشدة على الذين كفروا من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
ويحتمل أداء المسلمين الفرائض العبادية في المقام وجوهاً :
الأول : إنه من الشدة على الذين كفروا .
الثاني : إنه من اللين والرحمة بين المؤمنين .
الثالث : أداء المسلمين الفرائض العبادية عنوان يشمل الشدة على الذين كفروا، والرحمة بين المؤمنين .
الرابع : ليس من صلة بين أداء المسلمين الفرائض وبين موضوع الشدة مع الكفار والرحمة مع المؤمنين .
الخامس : أداء المسلمين الفرائض رحمة مع الناس جميعاً .
والمختار هو الثاني والخامس أعلاه إذ أن هذا الأداء خير محض ، وهو بذاته أمر بالمعروف والصلاح، ودعوة للإيمان، ونهي عن المنكر , وزجر عن الكفر ومفاهيم الضلالة .
لتكون أسباب وصيغ الرحمة بين المؤمنين متعددة ، وحاضرة في اليوم والليلة كما تجتمع صيغ ولغة الشدة واللين من المؤمنين ضد الذين كفروا .
وهل من صلة بين لغة العموم في كل من :
الأول : وضع انشاء البيت الحرام بقوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] ( ).
الثاني : لغة العموم في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا] ( ) .
الجواب نعم , من جهات :
الأولى : وضع البيت الحرام مقدمة لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : في وضع البيت الحرام للناس زجر عام ومتجدد عن نصرة كفار قريش في حربهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : قيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالطواف على وفود القبائل لأداء الحج في موسمه ، ودعوتهم إلى الإيمان بالله والتصديق بنبوته ، وقيامه بقراءة آيات من القرآن عليهم .
الرابعة : تثبيت الأشهر الحرم في نظام حياة أجيال الناس المتعاقبة وحرمة القتال فيها ، قال تعالى [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] ( ) لتدل حرمة القتال في الأشهر الحرم على عدم الحاجة إلى القتال أصلاً ، وفي أثناء تلك الشهور يدرك الناس حلاوة السلام والأمان ، ولزوم تعاهد السلم المجتمعي ، وإجتناب القسوة والقمع والإرهاب والإضطهاد .
وكانت الأشهر الحرم واقية زمانية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسيح فيها بين الناس يدعوهم إلى الإسلام ، وهي فرصة ومناسبة لتفقه المسلمين في الدين ، وأخذ الأحكام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعرفة الآيات القرآنية التي نزلت حديثاً ، والتدارك في الآيات والسور النازلة قبل الأشهر الحرم من سنوات البعثة النبوية .
وهل يستثمر المسلمون والمسلمات في مكة الأشهر الحرم وينتفعون منها لإعلان اسلامهم ، الجواب نعم ، ولو على نحو الموجبة الجزئية ، فمنهم من يخشى بطش كفار قريش في ذات الأشهر الحرم , وما بعدها من الأشهر الحرم .
الخامسة : من خصائص رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم تعاهد وعمارة البيت الحرام إلى يوم القيامة .
ومن معاني قوله تعالى [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا] ( ) أنه وضع للناس في كل زمان ، وهو من مصاديق البركة التي تذكرها الآية أعلاه.
وهل يختص نفع البيت بالذين يعمرونه ويطوفون حوله ويجاورونه ، الجواب لا ، إنما نفعه عام للناس جميعاً وإن جحدوا به ، وهو من سعة رحمة الله عز وجل بالناس ، ولتكون سعة رحمة الله بوضع البيت الحرام برزخاً دون الإقتتال بينهم مطلقاً من وجوه:
أولاً : امتناع المؤمنين عن الإقتتال فيما بينهم .
ثانياً : إجتناب الذين كفروا الإقتتال بينهم .
ثالثاً : نفرة الناس من القتال.
وهل هذا الإقتتال من مصاديق رجاء الملائكة بصرف الناس عن الاقتتال بينهم كما ورد في التنزيل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ) أم أنه خارج بالتخصيص وأن الملائكة يرجون إبتلاء الكفار بالإقتتال بينهم ، الجواب هو الأول ، لمبغوضية سفك الدماء والقتل مطلقاً ، ولو كان المقتول كافراً ، لإمكان توبته بفضل الله , ويستثنى الذي يصر على محاربة النبوة والتنزيل ، ويكون قتل المسلمين له دفاعاً عن الملة والدين والنفوس والأعراض والأموال .
رابعاً : القتال بين المؤمنين والذين كفروا .
لذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يبدأ بقتال، وكان يحث أمراء السرايا وأصحابه عامة على عدم البدء بقتال الذين كفروا .
وكان صلى الله عليه وآله وسلم يجعل مندوحة وسعة للمشركين للإنسحاب قبل بدء القتال ، وأثناءه .
وكان سلاحه حينئذ (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) وتنقضي ساعات المعركة في أوانها ، ولكن هذا النداء كنز يحمله معهم أفراد الفريقين ، ليكون من معاني قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) يوم التقى الجمعان ليسمعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتوحيد والوعد وضمان الفلاح معه ، فيشكر المسلمون الله عز وجل على أمور :
أولاً :دخول الإسلام .
ثانياً : الدفاع عن الإسلام تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : أداء الفرائض العبادية حتى في ميدان الحرب وحالات الخوف، والصلاة لا تترك بحال.
رابعاً : المناداة والمناجاة بنداء التوحيد ، فلم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده الذي يقول في الميدان (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) إنما كان أصحابه ينادون بذات النداء المبارك , لأن فيه انتهاء للقتال وسفك الدماء .
خامساً : صيرورة المسلمين عند انتهاء المعركة على فريقين :
أولاً : الذين يعودون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بأمن وسلام ، وإن كان بعضهم مثقلاً بالجراحات وهم الأكثر.
ثانياً : الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله وهم الأقل ، قال تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) .
أما الذين كفروا فانهم أبتليوا بأن صاروا على فرق , وأحوال متباينة منها :
الأولى : الذين سقطوا قتلى في المعارك التي حاربوا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ سقط منهم سبعون قتيلاً في معركة بدر وحدها ، وبما لم يظنه أو يحسبه الذين كفروا ، وأهل مكة , من جهة كثرة قتلاهم والذين أسروا منهم .
فعندما جاء رسول أبي سفيان إلى جيش المشركين وهم في الجحفة وأخبرهم بسلامة القافلة ، همّ أكثرهم بالرجوع لإنتفاء المقتضي للإستمرار بالمسير والإبتعاد عن مكة ، ولكن أبا جهل لجأ إلى حيلة ومكر وأدّعى إرادة الوصول إلى ماء بدر والإقامة فيه ثلاث ليال ، وكأنه سفر نزهة وضيافة إذ قال (لَا نَرْجِعُ حَتّى نَأْتِيَ بَدْرًا فَنَنْحَرَ بِهَا الْجُزُرَ وَنُسْقَي بِهَا الْعَرَبُ) ( ).
فنزل قوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ] ( ) وفي معركة أحد خسر المشركون إثنان وعشرون من رجالهم ، ومن الآيات في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم توالي القتل بالمشركين مع قلة الأفراد الذين قتلوا من المسلمين، ولكن لكل فرد منها موضوع وقصة ودلالة تتضمن توبيخ الذين كفروا ، ووقوع اللوم بينهم ، وإدراكهم والناس أن قتل الواحد منهم إنذار لجميعهم وقد تقدم في الجزء الثالث والستين بعد المائة جدول يبين عدد قتلى المسلمين والكفار وأيضاً اليهود في جميع معارك الإسلام وأيام النبوة، وكان عدد(511) مع جعل هامش من جهتي الزيادة والنقيصة( ).
الثانية : الذين وقعوا أسرى بأيدي المسلمين، كما في معركة بدر إذ أدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم معه إلى المدينة سبعون أسيراً من المشركين.
والجواب هذا صحيح، وفيه شاهد على الرحمة بالناس في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإعطاء رسالة للناس جميعاً بلزوم نشر شآبيب الرأفة بينهم، ولكن من الأسرى من دخل الإسلام , ومنهم امتنع عن الخروج والقدوم مع المشركين لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
نعم لقد أطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم سراح عدد من الأسرى من غير بدل أو عوض في رسالة إلى قريش وأجيال الناس إلى يوم القيامة بلزوم الرأفة بالأسرى، والعفو عنهم، وإعادتهم إلى أهليهم حتى مع إحتمال رجوعهم للقتال في معركة أخرى.
ويحتمل قوله [وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً] ( ) وجوهاً :
الأول : لينفروا كافة للقتال .
الثاني : لينفروا كافة للمرابطة .
الثالث : لينفروا كافة للغزو .
الرابع : لينفروا كافة للدفاع .
الخامس : لينفروا كافة للإستطلاع وعرض قوة المسلمين .
السادس : لينفروا كافة في سبيل الله .
السابع : لينفروا إلى صلح الحديبية الذي هو فتح، (عن ابن مسعود قال : أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي ، وكان إذا أتاه اشتد عليه فسرّي عنه وبه من السرور ما شاء الله ، فأخبرنا أنه أنزل عليه { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } ( )) ( ).
وباستثناء الوجه الثالث أعلاه فان الوجوه الأخرى من مصاديق النفر الذي هو لغة تلبية النداء بالاتيان بفعل مخصوص، يقال : نَفَرَ ينفر نفراً ونفوراً .
ويأتي النفر بمعنى مقدمة الجيش والأفراد الذين يغزى بهم .
والنفر من جهة العدد بين الثلاثة إلى العشرة و(النفر : التفرّق)( ).
وتبين الآية أن وجوب الدفاع كفائي , وليس فرض عين .
قال تعالى[انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً]( )، وذكر أن (ابن أم مكتوم – واسمه عمرو – قال يوم أحد : أنا رجل أعمى فسلموا لي اللواء فإنه إذا انهزم حامل اللواء انهزم الجيش وأنا ما أدري من يقصدني بسيفه فما أبرح فأخذ اللواء يومئذ مصعب بن عمير)( )، وفيه شاهد على أن المسلمين لايريدون الهجوم حتى في المعركة الدفاعية إنما يسعون لعدم الهزيمة والفرار على مشارف المدينة، واحتمال اقتحام واستباحة المشركين لها .
( وروي في سورة البحوث ، وقوله تعالى [بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ]( )، وصف لأكمل ما يكون من الجهاد وأنفسه عند الله تعالى : فحض على كمال الأوصاف ، وقدمت الأموال في الذكر إذ هي أول مصرف وقت التجهيز فرتب الأمر كما هو في نفسه ، ثم أخبر أن ذلك لهم خير للفوز برضا الله وغلبة العدو ووراثة الأرض ، وفي قوله : { إن كنتم تعلمون } تنبيه وهز للنفوس) ( ).
والمراد من سورة البحوث أعلاه هي سورة التوبة التي نزلت في السنة التاسعة للهجرة وبعد غزوة تبوك , ومن أسمائها :
الأول : سورة التوبة .
الثانية : سورة براءة لإفتتاحها بالبراءة من الذين كفروا , ووردت عدد من الآيات فيها بالبراءة من المشركين .
الثالثة : سورة الفاضحة , لفضحها لأفعال المشركين والمنافقين , منها قوله تعالى [يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ] ( ).
الرابعة : سورة المقشقشة , أي المنزهة عن النفاق , ومن خصائص هذه السورة أنها تتضمن ذم المنافقين , وبيان قبح فعلهم , والتحذير منهم ربما أكثر مما ورد في سورة المنافقين , وهو من إعجاز القرآن , وبيان قانون وهو أن تسمية سورة من القرآن باسم وموضوع مخصوص لا يعني إنحصاره بذات السورة , فقد ترد سورة أخرى تتضمن مضامين أعم وأكثر بخصوص ذات المسمى .
الخامس :السورة المدمرة لأنها ملأت قلوب الذين كفروا والمنافقين بالرعب , وهي تزلزل أقدامهم .
السادس : السورة المنقّرة أي الكاشفة , لما فيها من كشف لما في قلوب المنافقين والمشركين وقبيح أعمالهم .
السابع : سورة البحوث : لبحث الآية عما في قلوب المنافقين , وأضرار أفعالهم , وهذا الاسم هو الوارد في الحديث أعلاه .
الثامن : السورة الحافرة لأنها تحفر في قلوب المنافقين .
التاسع : السورة المثيرة : لأنها كشفت للمسلمين والناس عورات المنافقين.
العاشر : السورة المبعثرة : وهي التي تبعثر ما في قلوب الذين كفروا والمنافقين.
وعن ابن عباس أن آية النفر , وهي[فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ]( )، ناسخة لقوله تعالى الوارد أعلاه ( انفروا خفافا وثقالا …) ( ) .
والمختار أن المقام للبيان والتفسير وهو من التخصيص , وذكر أن (معناه وما كان للمؤمنين إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرّية أن يخرجوا جميعاً فيها ويتركوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحده بالمدينة حتى يقيم معه بعضهم ، قاله عبد الله بن عبيد الله بن عمير) ( ).
وينخرم هذا المعنى عن لغة العموم فيما إذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه قد خرج في السرايا للدفاع فهل يخرج معه كل المؤمنين ، الجواب لا ، إذ أن الإستثناء في آية النفر للتفقه مطلق، ولا يتعارض نفر طائفة للتفقه في الدين، مع قيام طائفة أخرى بحراسة المدينة , وإقامة ومرابطة أخرى في الثغور.
وهل يمكن القول بأنه كان يجب على المسلمين جميعاً الخروج عندما كان المسلمون قلة ، وفي حال ضعف ، ولكن بعد أن إزداد عددهم وقويت شوكة الإسلام ، اختصت طائفة بالتفقه في الدين .
المختار أن الآية مطلقة من جهة أفراد الزمان الطولية ، خاصة عند نزول الفرائض العبادية وتوالي نزول القرآن , وأنها لا تختص بالمسلمين وحدهم ، إنما تشمل المؤمنين من الأمم السابقة ، ليكون من مصاديق الآية وجود طائفة من أهل الملل الأخرى يبشرون برسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويدعون للتصديق به عند بعثته .
قال تعالى [وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ] ( ) وورد عن الإمام علي عليه السلام أنه قال (لم يبعث الله نبياً؛ آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد ، لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ، ولينصرنه . ويأمره فيأخذ العهد على قومه . ثم تلا { وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة . . . }( ) الآية) ( ).
وعندما نزل جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالوحي أول مرة , بغار حراء في شهر رمضان انصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيته فزعاً من هول وثقل الوحي خاصة ً في بداية نزول الآيات , وسمع بعد خروجه من غار حراء جبرئيل وهو يناديه من السماء .
(يقول يا محمد انت رسول الله وأنا جبرئيل) ( ), فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأسه في أفق السماء , فاعاد عليه كلامه وذكر له أنه الملك جبرئيل ويخاطب شخصه بالذات، فمن أسرار قوله: يا محمد ) , منع الشك والظن , بارادة غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الملائكة أو الجن أو الإنس الأخروي فوقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه ولم يتحرك إلى الأمام , ولم يرجع إلى الخلف من هول الأمر , وسنخية النداء , الذي صدر من جبرئيل , وهو بهيئة رجل صاف قدميه إلا أن صدور الكلام من الملك ومن السماء له خصوصية معينة.
ولابد أن تتجلى فيه معاني المعجزة ليتبين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الأمر حق وأنه نال مرتبة الرسالة للناس من عند الله عز وجل وطال يومئذ وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في موضعه منبهراً , ويأمل عودة جبرئيل عليه السلام حتى أوشكت السماء على المغيب فانصرف إلى بيته , وكانت خديجة قد بعثت في أطراف مكة من يطلبه , ويسأل عنه .
فدخل عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقصّ عليها ما جرى له، وأنه يخشى على نفسه من هول المنظر , ويرجو الخير والفضل من الله له وللناس، فشدت من عضده، وذكرت له محاسنه من صلة الرحم، والأمانة، وإعانة الضعيف والفقير، وإكرامه للضيف( ).
ثم ذهبت معه إلى ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وكان قد تنصر ويقرأ التوراة والإنجيل بالعبرانية , ويكتب بها ما شاء من الإنجيل، وكان شيخاً كبيراً، قد فقد بصره.
وقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن اخيك فقال ورقة ما ترى فأخبره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما رآه.
فقال له ورقة هذا الناموس الذي انزل على موسى يا ليتني فيها جذعا ليتني اكون حيا إذ يخرجك قومك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أو مخرجي هم.
قال نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك انصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة ان توفي( ).
وورقة بن نوفل بن أسد من قريش ، هو ابن عم أم المؤمنين خديجة ، والتقى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم , وأختلف فيه هل هو صحابي أو لا ، وهذا الإختلاف بلحاظ التباين في المبنى وتعريف الصحابي ، ومن شرائط الصحبة: الإسلام عند لقاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد كان غالبية العرب قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يقدسون الأصنام ، ولكل قبيلة صنم خاص بها ، كما أن هناك أصناما صغيرة يقتنيها الأشخاص ، ويرجعون إليها وأحياناً يكون الصنم من التمر مثلاً ، فاذا جاع صاحبه أكله.
وكان بعض الذوات من العرب يستهجن هذا الفعل ويبحث عن الحق وسبيل الهدى ، وقد شاع يومئذ قرب إطلالة نبي آخر الزمان ، وأنه يبعث في مكة.
وهل طمع بعضهم أن يكون هو النبي ، الجواب نعم ،وكانوا يتوسمون ببعض الأشخاص أن يكون هو النبي ، وفي التنزيل [لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ] ( ).
فمثلاً كان زيد بن عمرو بن نفيل (لا يذبح للأنصاب ولا يأكل الميتة والدم) ( ).
وخرج ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو لطلب الدين ، ورجاء الهداية إلى الحنيفية ، وعرض عليهما اليهود دين اليهودية فتهود ورقة ، ثم لقيا النصارى فتنصر ورقة أما زيد بن عمرو فامتنع عن التهود والتنصر .
وكان يقول أنه على دين إبراهيم . وفي رواية سعيد بن زيد بن عمرو يحكي قصة أبيه وورقة وكيف خرجا يطلبان الدين ، فدخلا الشام ، وكان معروفاً بوجود أهل الكتاب فيه من اليهود والنصارى ، فتنصر ورقة ، أما زيد فبقى يطلب الدين ، ويريد الحنيفية فقيل له: ان الذي تطلب أمامك.
فسافر حتى وصل إلى الموصل فوجد فيها راهباً ، وكان بعض البرهان مشهورين بالعلم بتاريخ النبوة والآثار ، ويعيشون في الصوامع حياة كفاف ، ويقصدهم الناس للأخذ منهم واستقراء حوادث الزمان والأخبار يتوارثها هؤلاء الرهبان بالكتب والرواية ، وإلى الآن عندنا باب اسمه الإجازة في الرواية .
فسأل الراهب زيداً : من أين أقبل صاحب الراحلة ؟
فقال : من بيت ابراهيم ، أي أنه لم يقل له من مكة إنما يفتخر ببيت ابراهيم والنسب إلى ابراهيم ، ولأنه كان معروفاً عند المليين .
فقال الراهب : أن الذي تطلب من دين الحنيفية تركته وراء ظهرك .
فاستغرب زيد الأمر وسأل الراهب التفصيل فقال :
سيظهر هذا الدين بأرضك ، وهو من مصاديق قوله تعالى[الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ] ( ).
فعاد أدراجه عائداً إلى مكة وهو يرجو بعثة نبي آخر زمان .
(عن ابن اسحق قال: حدثني بعض آل زيد بن عمرو بن نفيل أن زيداً كان إذا دخل الكعبة قال: لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً، عذت بما عاذ به إبراهيم، وهو قائم، إذ قال: أنفي لك عان راغم مهما تجشمني فإني جاشم، البر أبغي لا الخال – يقول: لا الفخر – ليس مهجر كمن قال.
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: حدثني هشام بن عروة قال: رواني عروة بن الزبير أن زيد بن عمرو بن نفيل قال:
أرباً واحداً أم ألف رب … أدين إذا تقسمت الأمور
عزلت اللات والعزى جميعاً … كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا عزى أدين ولا ابنتيها … ولا صنمي بني عمرو أدير
ولا غنماً أدين وكان رباً لنا … في الدهر إذ حلمي يسير
عجبت وفي الليالي معجبات … وفي الأيام يعرفها البصير
بأن الله قد أفنى رجالاً … كثيراً كان شأنهم الفجور
وأبقى آخرين ببر قوم … فيربك منهم الطفل الصغير
وبيننا المرء يعثر ثاب يوماً … كما يتروح الغصن النضير
نا أحمد: نا يونس عن ابن اسحق قال: وقال زيد بن عمرو بن نفيل أيضاً:
أسلمت وجهي لمن أسلمت … له الأرض تحمل صخراً ثقالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت … له المزن تحمل عذباً زلالا
إذا هي شيقت إلى بلدة … أطاعت فصبت عليها سجالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت … له الريح تصرف حالا فحالا)( ).
ولم يرد اسم بيت إبراهيم في القرآن بهذا الاسم انما ورد باسماء متعددة وهي :
الأول : البيت الحرام.
الثاني : الكعبة ، قال تعالى [جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ]( ).
الثالث : أول بيت وضع للناس .
الرابع : للذي ببكة .
الخامس : نسبة البيت إلى الله عز وجل[بَيْتِي] ، قال تعالى[وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] ( ).
السادس : البيت العتيق .
السابع : المسجد الحرام ، إذ ورد هذا الاسم في القرآن ثلاث عشرة مرة ، قال تعالى [لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ] ( ).
الثامن : البيت المعمور ، على قول أن المراد منه البيت الحرام ، قال تعالى [وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ]( ).
التاسع : البيت المعمور ، وفي التنزيل [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ] ( ).
العاشر : البيت ، قال تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( )، ونعته بالبيت، ولام العهد من إعجاز القرآن للدلالة على عدم صيرورة بيت آخر يرقى إلى مرتبته إلى يوم القيامة.
وهل تصح تسمية البيت الحرام (بيت ابراهيم ) كما سماه زيد بن عمرو , ولابد أن هذه التسمية كانت شائعة في الأمصار وبين أهل الملل آنذاك .
الجواب لا ، إنما هو بيت الله عز وجل ، وقد أثنى الله عز وجل على ابراهيم واسماعيل في رفع قواعد البيت الموجودة من أيام أبينا آدم ، قال تعالى [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ]( ).
وقد ورد ذكر بيت إبراهيم في السنة التدوينية بكتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى تميم الدراي ، إذ ورد عن أبي هند الداري أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة قبل الهجرة هو وخمسة نفر منهم (أخوه الطيب بن عبد الله، فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الرحمن، وفاكه بن النعمان فأسلمنا، وسألنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقطعنا من أرض الشام فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” سلوا حيث شئتم ” .
فقال تميم: أرى أن نسأله بيت المقدس وكورها، فقال أبو هند: وكذلك يكون فيها ملك العرب، وأخاف إن لا يتم لنا هذا) ( ).
أي أنهم كانوا واثقين بأن الأرض ستفتح للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم أرادوا التمليك والرياسة الإجتماعية في مدينة القدس ، وما حولها .
عندئذ تراجع تميم ، وقال : فسأله بيت جبرين وكورتها ، فقال أبو هند : هذا أكبر وأكبر ) أي إذا أردت أن تسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسأل أمراً ممكناً ومعقولاً وليس فيه استحواذ واستيلاء على الأرضين والأملاك الخاصة والعامة .
فقال تميم : فأين ترى أن نسأله ؟
قال أبو هند : أرى أن نسأله القرى التي يقع فيها حصن تل مع آبار إبراهيم.
ويسمى تل الحصن وهو في منطقة جبلية تبعد ثمانية كيلو مترات عن مدينة أربد من جهة الجنوب ، وقد يكون حصن التل المذكور في الحديث غيره لإرادة المجاورة والتقارب بين بئر سبع وحصن التل .
وتقع آبار ابراهيم في بئر سبع أسفل المدينة القديمة وكانت لمئات السنين مصدراً للمياه والحياة في تلك الأرض الصحراوية .
وكانت تحيط بها البساتين والكروم والزراعات ولا تزال آثار تلك الآبار شاخصة إلى الآن.
فقال تميم : أصبت ووفقت .
وحينما أرادوا سؤال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إبتدأهم: تميم أتحب تخبرني بما كنتم فيه ، أو أخبرك ؟
لبيان معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي أنه علم بما كان يدور بينهم من الكلام .
فقال تميم : بل تخبرنا يا رسول الله ، نزداد ايماناً .
فقال رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أردتم أمراً وأراد هذا غيره، وأشار إلى أبي هند الداري ، ثم قال : ونعم الرأي رآى( ) .
ولم يسألهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التفصيل وصدق كلامه ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقطعة جلد من آدم ، وكتب فيها كتاباً جاء فيه (بسم الله الرحمن الرحيم.
هذا ما أنطى محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لتميم الداري وأصحابه، إني أنطيتكم عين وحبرون والبرطوم وبيت إبراهيم بدمنهم وجميع ما فيهم نطيةً بتة، ونفذت وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد الأبد، فمن آذاهم فيها أذله الله) ( ).
ثم قدم وفد تميم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منصرفة من تبوك في السنة التاسعة للهجرة ، وكان عددهم عشرة ، وقيل أقاموا في المدينة حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأوصى لهم بجمال ومائة وسق .
وما أن سمع الراهب ذكر بيت ابراهيم وجواره استغرب حضوره إلى الموصل ، ولم يظهر عليه أنه من التجار ، وأرباب الأموال ، فقال له : ما تطلب , وما جاء بك إلى هنا :
قال الدين ، أي طلب الدين والعقيدة .
عندئذ عرض عليه الراهب دين النصرانية ، ولكنه أبى التنصر، وقال لا حاجة لي بها ، ويظهر أن الراهب على علم بالوقائع وبشارات الأنبياء وما يخص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وورد في سفر أشعيا (وحي من جهة بلاد العرب في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين
21: 14 هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان ارض تيماء وافوا الهارب بخبزه
: 15 فانهم من امام السيوف قد هربوا من امام السيف المسلول ومن امام القوس المشدودة ومن امام شدة الحرب
21: 16 فانه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الاجير يفنى كل مجد قيدار
21: 17 و بقية عدد قسي ابطال بني قيدار تقل لان الرب إله اسرائيل قد تكلم
22: 1 وحي من جهة وادي الرؤيا فمالك انك صعدت جميعا على السطوح) ( ).
وورد أعلاه (فانهم من أمام السيوف قد هربوا من امام السيف المسلول و من امام القوس المشدودة ومن امام شدة الحرب).
وفيه شاهد بعدم تفشي القتل بين بني إسرائيل في أيام نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنما كانوا يتجنبون ملاقاة السيوف والحرب ، وكان المسلمون لا يلاحقونهم ، لذا كان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يميل الى الصلح والموادعة نعم مع الرضا بكثرة اسئلتهم والإحتجاج معهم حتى في المسجد النبوي .
وقد تصالح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع يهود خيبر على ما بقي في أيديهم من الأراضي والنخيل .
ويدل ما ورد في سفر أشعيا أعلاه على أن التوراة تخبر عن فرار بني اسرائيل وليس قتلهم , وأنه لا أصل لما قيل من قتل المسلمين لستمائة أو أكثر من بني قريظة .
وقد تقدم أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أنزل جميع الأسرى من بني قريظة ، في دار رملة بنت الحارث .
وكانت بيوت المدينة تتصف بصغر المساحة فلا يستوعب هذا البيت الخمسين أو الستين من الأفراد فكيف إذا كانوا رجالاً ونساء وصبياناً.
(وقال ابن إسحاق : ثم استنزلوا ابن كثير السيرة النبوية 3/ 238 من بني النجار ).
وكانت الوفود وأكابر قومهم الذين يفدون على المدينة ينزلون في بيتها ضيوفاً على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مما يدل على أن هذا البيت ليس سجناً وحبساً.
وفي السنة التاسعة للهجرة والتي تسمى سنة الوفود(630 -631 )هجرية أرسلت قبائل كثيرة وفودها لدخول الإسلام فضاق بهم بيت بنت الحارث فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنصب خيام بجوار المسجد لإقامة الوفود ، وكانت تلك الوفود تطيل الإقامة في المدينة لأمور :
الأول : الإستماع للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في تلاوته للقرآن ، وبيانه لأحكام الحلال والحرام , وفي التنزيل[وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]( ).
الثاني : التفقه في الدين .
الثالث : تلاوة آيات القرآن والتدبر فيها.
الرابع : أداء الصلوات اليومية الخمسة واتقانها أجزاء وأركاناً ،ليرجعوا إلى قومهم ، ليصلّوا بهم ، وهو من الإعجاز في قول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (صلّوا كما رأيتموني أصلّي)( ) بلحاظ تعلم المسلمين والمسلمات كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأوانها وإن بعدت محلتهم ودار سكناهم .
الخامس : تنمية معاني الأخوة الإيمانية بين المسلمين .
السادس : الإنصات إلى المهاجرين والأنصار بما فيه تعظيم شعائر الله ، فكل واحد منهم له قصة صبر وجهاد .
السابع : إدراك الوفود لقانون وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغز أحداً ولم يطلب القتال ، وكان يجتهد في دفعه وصرفه.
لقد توالت الوفود من أنحاء الجزيرة وعلى نحو طوعي ليعلنوا إسلامهم وأسلام من خلفهم من قومهم رجالاً ونساء ، وليس من أسباب للفزع والخوف من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه خاصة وأنه دخل مكة ، ولم يقتل أو حتى يوبخ الذين آذوه وأهل بيته وأصحابه في مكة قبل الهجرة والذين إزداد أذاهم بعد الهجرة من جهات :
الأولى : تجهيز الجيوش لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : إنفاق الأموال الطائلة لصد الناس عن سبيل الله، قال تعالى[مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
الثالثة : إيذاء المسلمين الذين بقوا في مكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذين كانوا يدخلون الإسلام .
ولو أجريت إحصائية في عدد الذين اسلموا في مكة بلحاظ السنين :
الأولى : كل سنة من سنوات دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في مكة.
الثانية : السنة الأولى من الهجرة .
الثالثة : السنة الثانية من الهجرة والتي وقعت في الشهر التاسع منها وهو شهر رمضان معركة بدر .
الرابعة : السنة الثالثة التي وقعت في الشهر العاشر منها، وهو شهر شوال معركة أحد .
والمختار أن دخول الناس من أهل مكة الإسلام بعد معركة بدر هو الأكثر ، لتجلي معجزات النبوة وتجليها لأهلها جميعاً ، لما لحق الذين كفروا من الخسارة والخيبة ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) ولبيان إرتفاع الذلة والمسكنة عن مسلمي مكة وهذا الدخول تصاعدي في الكم والعدد وهو من مصاديق قوله تعالى[إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً]( ).
وكأن الآية تأذن لهم بالتجاهر بالدعوة إلى الإسلام ، وعدم الخشية والخوف من الذين كفروا ،قال تعالى [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ) وصار المشركون يخافون من الخروج بجيش من مكة خشية تعاهد أهل مكة الإسلام قبل وبعد الهجرة النبوية منها من غير إكراه أو أشهار سيف عليهم .
ومن أسرار تهديد المشركين بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إرادة إرتداد المسلمين والمسلمات في مكة ، ومنعهم من إعلان إسلامهم وأداء الصلاة في المسجد الحرام ، فعاد هذا التهديد بالخزي للذين كفروا ، قال تعالى [وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ) .
وهل كان يصدر تهديد مقابل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكفار قريش بغزو مكة وقتلهم أو أسرهم أو غزو القبائل التي كانت تعضدهم وتنصرهم , وتخرج معهم معهم لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وأن سرايا المسلمين كانت تصل قريباً من مكة.
الجواب لا , إنما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدعو لهم بالهداية والرشاد ويقترن هذا الدعاء بتوالي معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي هي سبيل لهدايتهم , وغيرهم من الناس .
ومن معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم إزدياد عزلة الذين كفروا مع تفادي الأيام والأشهر , وتأتي هذه العزلة من وجوه:
الأول : دخول طائفة من الناس الإسلام .
الثاني : قتل رهط من الذين كفروا في كل معركة لهم مع الإسلام , قال تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) .
الثالث : إدراك الناس لحقائق كشفها القرآن وهي أن قتلى المشركين في النار ، وجاءت السنة النبوية الدفاعية بتأكيده.
الرابع : صيرورة الذين يدخلون الإسلام دعاة إلى الله عز وجل , ومن مصاديق إجتناب النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتال وتنميته لملكة النفرة من القتل في نفوس المسلمين حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولئك المسلمين على الصبر والتحمل وعدم أمره لهم بالقتل او إغتيال بعض رؤساء, الكفر الذين في ناحيتهم لقد رغّب الله لهم الهجرة.
وأما المسألة الرابعة فمن دلالات دخول أهل مكة الإسلام ، في السنة الثامنة للهجرة ممن تخلف عن دخوله قبلها وجوه :
الأول : تجلي معجزات النبوة للناس عامة .
الثاني : بطلان سحر قريش .
الثالث : ابتلاء كفار قريش بنقص الأموال والإبل ، وقلة القوافل التي تخرج إلى الشام واليمن للتجارة .
الرابع : تجرأ القبائل على قريش واستعدادها لنهب قوافلهم ، وهو من مصاديق الخيبة والخزي الذي لحقهم .
الخامس : من أسرار دفاع النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وصبرهم في ميادين الدفاع إنحسار الفتنة وانتفاء تحريض القبائل على النبوة والتنزيل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ] ( ) .
وهل دخول الناس الإسلام أفواجاً من مصاديق صيرورة الدين لله عز وجل ، الجواب نعم .
وفيه نكتة وهي أن المشركين أرادوا الفتنة بهجومهم في بدر وأحد والخندق وحنين ، قال تعالى [وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ] ( ) فأظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أسمى مصاديق الصبر ، لتدرأ الفتنة ، وتنكشف للناس الحقائق ، ويتعبدون بمعجزات النبوة ، فيدخلون الإسلام عن تدبر وإقرار وتسليم ، وليس بقوة السلاح .
لقد جاءت الوفود الكثيرة إلى المدينة في السنة التاسعة للهجرة والتي سميت سنة الوفود ، ليدخلوا الإسلام ويتفقهوا في الدين ، ويرجعوا إلى أهليهم ليأمروهم بدخول الإسلام ، وأداء الفرائض والعبادات .
وتحتمل هذه الوفود من جهة السكن والإقامة والإنتماء وجوهاً:
الأول : أنهم من قرى وقبائل حاربت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : التعدد والتباين فمنهم من حارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم من كان في حلف مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم من لم يحارب أو يحالف النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : لم تحارب قبائل تلك الوفود النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
الرابع : هذه الوفود هم مسلمون، ويقيمون الصلاة قبل وفادتهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
والمختار هو الثاني والرابع أعلاه .
ومن دلالات دخول أهل مكة الإسلام أمور :
الأول : سيادة أحكام الشريعة في مكة المكرمة .
الثاني : إنقطاع عبادة الأوثان في البلد الحرام إلى يوم القيامة .
الثالث : هزيمة الكفر ومفاهيم الضلالة.
الرابع : انقطاع الحروب والمعارك في الجزيرة ، وفيه شاهد بأن الذين كفروا هم الذين كانوا يهجمون ويغزون ، وعندما عجزوا عن الهجوم لم يعد هناك قتال لإنتفاع السبب والموضوع وهل هو من مصاديق العلة التامة بوجود المقتضي وفقد المانع ، الجواب لا ، إذ ليس من مقتضي للحروب والغزو من قبل المشركين ، وهو من الإعجاز في تحلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأسمى مراتب الصبر على المشركين في مكة والسنة الأولى وشطر من السنة الثانية من الهجرة .
وكان المشركون يتهددون ويتوعدون المسلمين ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرد على هذا التهديد بمثله أو حتى بمعشاره ، خلافاً لمنهجية القادة والزعماء : بأن يشحذوا همم جنودهم واتباعهم بالرد على التهديد بمثله.
أنما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يظهر الصبر المقترن بالدعوة إلى الإيمان، والنفرة من الشرك .
قال تعالى[وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ] ( )، أي أن صبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتوفيق وعون من الله، وكذا فان الغاية منه رضوان الله، وتعظيم شعائر وهو شاهد على حبه لله سبحانه.
ويروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه : أما أنا فأصبر كما أمرت فماذا تصنعون قالوا نصبر كما ندبنا( ) .
لقد كان المسلمون في إزدياد مطرد كل يوم، وذات هذه الزيادة نقص في عدد المشركين لأنها تعني إختيار الناس التوبة والإنابة ، وتخليهم عن مفاهيم الكفر والضلالة.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يتلقونهم بالقبول والحفاوة والترحيب والعفو ، وعدم توجيه اللوم لهم على معاداتهم الإسلام ومحاربتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وورد في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ] ( ) أن المراد مرافقة الكفرة وترك الهجرة ، ولكن الآية أعم في موضوعها ، إذ تشمل كلاً من :
الأول : التابعون من الذين كفروا ، ويكون قولهم عند الوفاة [مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ] ( ) من مصاديق حسرتهم يوم القيامة ورغبتهم بالعودة إلى الحياة الدنيا للتبرأ من رؤساء الكفر لينظروا كيف يستطيعون البقاء في عروشهم ومواصلة تعديهم ، كما ورد في التنزيل [وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ] ( ).
الثاني : المتبعون من الكفار لأن حالهم من الكلي المشكك ، فمن المتبوعين ما هو تابع لغيره من الرؤساء الأكبر منه مرتبة في المشيخة والرئاسة.
الثالث : الذين أمدوا رؤساء الكفر بالمال والسلاح ، وعملوا بين أيديهم في تجهيز المؤن والخيل والكراع .
وهؤلاء المذكورون في الوجوه الثلاثة أعلاه أولى بالتوبيخ والذم والعقوبة من المسلم المستضعف .
ومن إعجاز الآية أنها ذكرت قبض الملائكة لأرواح الذين ظلموا أنفسهم ، ومنهم الذين كذٌبوا بالتنزيل ، وجحدوا بالنبوة ، وفي التنزيل [سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ] ( ).
ولكن هؤلاء الظالمين هم الذين أدّعوا الإستضعاف فأجابهم الملائكة بما ينفي ضمناً وجانباً من هذه الدعوة إذ يقولون لهم لماذا لم تهاجروا والذي يدل بالدلالة التضمنية على قدرتهم على الهجرة ، وتمكنهم منها ، ثم استثنت من المسائلة والعقاب المستضعفين حقاً وصدقاً الذين يعجزون عن الهجرة .
نعم هذا الإستثناء لا يعفيهم من لزوم الإيمان ، وإن كان بالخفاء وأداء الفرائض بالكتمان ، وفي التنزيل [وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ] ( ) .
ولم يرد لفظ [يَكْتُمُ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وكأن فيه بشارة بعدم حاجة المسلمين إلى كتمان وإخفاء إسلامهم ، وهو من بركات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن معانيه الجهر في قراءة القرآن في صلاة الصبح والمغرب والعشاء .
ولو كان المستضعف عبداً مملوكاً أو أمة مملوكة لكافر ، ودخلا الإسلام، وتيسر لهما الهجرة واللحاق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فهل يشملهما حكم الهجرة أم أنه من الإباق ، ولابد لهما من الصبر وطاعة كفار قريش .
الجواب هو الأول ، قال تعالى [وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً] ( ) نعم ، تدفع فيما بعد الهجرة قيمة العبد والأمة إلى السيد لعمومات قاعدة السلطنة .
وتتضمن الآية الزجر عن محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الله عز وجل ، وتجعل الناس جميعاً يدركون أن محاربته بالذات ظلم للنفس ، فكيف بالذي يقتل وهو محارب له ، ليكون من معاني قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) جمع على الحق والهدى وجمع ظالمون لأنفسهم.
وهل في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ] ( ) نهي عن الغزو ومحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، الجواب نعم ، وهو من أسرار الآية القرآنية إذ أنها تبين للناس منهاج العمل ، وتضئ لهم الطريق وتسد الذرائع التي تؤدي إلى الأذى والضرر .
ومن الإعجاز في الآية بعث العزيمة والهمة في نفوس الصحابة لقتال المشركين الغزاة ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ]( ).
قانون خشية النبي ( ص ) من الله
لقد جعل الله عز وجل علة خلق الإنسان عبادته ، وسخر الله له ما في السموات والأرض لتكون مقدمة لهذه العبادة , وسبباً لخشوعه وخضوعه لله عز وجل ، إذ تتقوم هذه العبادة بالخشية من الله ، والعلم بأنه سبحانه يراه ، ويعلم ما في قلبه ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا] ( ).
ومن خصائص الحياة الدنيا أنها دار رخاء وضراء ، وفيها أسباب للغبطة والسعادة ، وأخرى للحزن والأسى ، وتأتي طوعاً أو قهراً والخشية من الله عز وجل واقية ، وحصن منها .
فمن خصائص هذه الخشية أن ملجأ ومأمن وهو من مصاديق قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ) .
وفي حديث ضعيف سنداً عن عبد الله بن مسعود قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : خير الزاد التقوى , ورأس الحكمة مخافة الله عز و جل) ( ).
أي اذا لم تكن هناك مخافة من الله فليس من حكمة لأن البدن بحاجة إلى الرأس .
وهل خشية الناس من الله عز وجل من الكلي المتواطئ الذي يكون على مراتب متساوية ، أم أنه من الكلي المشكك الذي يكون على مراتب متفاوتة قوة وضعفاً ، الجواب هو الثاني .
قال تعالى [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ] ( ) وكلما ارتقى الإنسان في العلم إزداد خشية من الله عز وجل ، وهناك ملازمة بين العلم والخشية من الله عز وجل .
وهل يدخل الأنبياء في لفظ العلماء أعلاه أم أنهم أعلى من العلماء في المرتبة وأكثر منهم خشية من الله .
المختار هو الأول فالأنبياء أئمة الخشية من الله وسادة الناس في هذا المضمار ، والمسارعة فيه ، ومن شمائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخشية من الله عز وجل , وتتجلى في قوله وفعله ، وقد ينسى الإنسان الخشية من الله عند السراء وحال الزهو والرفعة ومجئ النعمة دفعة واحدة ، ولكن القرآن والسنة يدعوان المسلمين إلى تعاهد الخشية من الله في حال الضراء والسراء .
وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يسأل الله عز وجل أن يرزقه والمسلمين الخشية منه تعالى لأنها مفتاح للخير وواقية من الظلم والتجبر والغزو والتعدي .
وعن(ابن عُمَرَ قَالَ قَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُومُ مِنْ مَجْلِسٍ حَتَّى يَدْعُوَ بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ لأَصْحَابِهِ : اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مُصِيبَاتِ الدُّنْيَا وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا وَلاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِى دِينِنَا وَلاَ تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلاَ مَبْلَغَ عِلْمِنَا وَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لاَ يَرْحَمُنَا ) ( ) .
ترى ما هي النسبة بين الخشية من الله وكل من :
الأول : ذكر الله .
الثاني : الدعاء .
الثالث : الشكر لله .
الرابع : رجاء رحمة الله .
الخامس : الخوف من عذاب الله .
الجواب النسبة هي العموم والخصوص المطلق ، فالخشية من الله فرع الذكر والدعاء ، وهي شكر قلبي وفعلي لله عز وجل ، وهي نعمة ورحمة ورجاء لرحمة الله ، وشاهد على الخوف من عذاب الله ، وليس من تعارض بين إجتماع الرجاء والخوف في القلب وإن إتحد الموضوع .
ولما دخل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة فاتحاً تطلع الناس لينظروا إلى الطلعة البهية إذ هاجر من مكة كرهاً ، وأنعم الله عز وجل عليه وعلى المسلمين بالفتح ، ولكن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم دخل مطرقاً متخشعاً ، وكادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره من الخشية من الله عز وجل .
(عن أنس ، قال : لما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة استشرفه الناس ، فوضع رأسه على رحله تخشعا) ( ).
وأستشرف الإنسان أي وضع يده على حاجبه ، وينظر لإرادة استبانة الشئ والتطلع إليه .
ومن شمائل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه إذا تطلع الناس إليه ، وهو في حال النصر والظفر أظهر الخشوع لله عز وجل ، ودعاهم إلى التقوى والخشية منه سبحانه ، لتأكيد أنه عبد لله عز وجل أكرمه بالرسالة .
(عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ قَالَ : لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم الْمَدِينَةَ اسْتَشْرَفَهُ النَّاسُ فَقَالُوا : قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ .
فَخَرَجْتُ فِيمَنْ خَرَجَ ، فَلَمَّا رَأَيْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلاَمَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصِلُوا الأَرْحَامَ ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلاَمٍ) ( ).
ومن معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم الخندق أن الصحابة كانوا يجددون له البيعة والولاء ، فيجيبهم بلغة الخشية والخشوع لله ويذّكرهم بعالم الآخرة .
(عن أنس بن مالك ، قال : قالت الأنصار يوم الخندق : نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا فأجابهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا عيش إلا عيش الآخره ، فأكرم الأنصار والمهاجره) ( ).
ويظهر في الحديث أن المراد من الجهاد هو الدفاع وتحصين الخندق لمنع دخول جيوش المشركين إلى المدينة ، ومن الآيات أنهم حينما انسحبوا لم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باللحاق بهم أو مطاردتهم واستنزاف قواهم إنما تركهم وشأنهم ، لأن المعجزة النبوية هي التي تلاحقهم ، وتدعوهم للإيمان ، وفي التنزيل [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] ( ).
والخشية والخوف من الله عز وجل صفة مصاحبة للنبوة ، وهو جلباب الأئمة والصالحين ، وفي التنزيل [إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ] ( ).
وفي معركة بدر حيث أصر المشركون على القتال ، وكان عددهم أكثر من ثلاثة أضعاف عدد المسلمين ، ومن جهة العدة والسلاح فما عند المشركين أكثر من هذا الضعف بكثير ، فمثلاً كان عند المسلمين فرس واحد أو فرسان بينما عند المشركين مائتان منها :
ولم ينو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه القتال يومئذ ، فتوجه إلى الدعاء والمسألة .
وورد عن الإمام أنه قال (ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ، ولقد رأيتنا وما فينا قائم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح) ( ).
وكانت علامات الخوف والخشية من الله تظهر جلية في قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عند الآيات الكونية .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إذا رأى الريح فزع،
وقال : اللّهم إنّي أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشر ما فيها، وشرّ ما أرسلت به ) ( ).
لقد أهلك الله أقواماً بالريح والعواصف الشديدة ، وبخصوص قوم عاد وقوله تعالى [هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا] ( ) .
ورد عن ابن عباس أنه قال : (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ما فتح الله على عاد من الريح التي هلكوا فيها إلا مثل الخاتم فمرت بأهل البادية فحملتهم وأموالهم فجعلتهم بين السماء والأرض ، فلما رأى ذلك أهل الحاضرة من عاد الريح وما فيها { قالوا هذا عارض ممطرنا }( ) فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضره) ( ).
وتتجلى في زمن العولمة والفيضانات كيف تعبث العواصف والسيول المدمرة بالأشجار والمزروعات والبيوت لتكون موعظة وعبرة .
ويحتمل دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسؤاله خير الريح ودفع شرها وجوهاً :
الأول : إرادة خصوص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه من المهاجرين والأنصار .
الثاني : المقصود أهل المدينة المنورة , ومنهم اليهود القاطنون فيها .
الثالث : المراد الناس في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : عموم المسلمين في أجيالهم المتعاقبة .
والمختار هو الأول والثاني والثالث أعلاه ، إذ يتعلق الدعاء بريح مخصوصة حاضرة ، نعم يكون دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم نوع أسوة حسنة لأئمة وعامة المسلمين .
وبيان مواطن الدعاء والحاجة إليه ، وفيه نكتة وهي عدم الركون للظواهر الكونية التي فيها رجحان النعمة ، فقد تكون غضباً من الله ، ثم أن الدعاء يثبت رجحان فيها , ويجعله واقعاً .
وعن الإمام علي عليه السلام (إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك
عبادة التجار وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الاحرار) ( ).
ولا يعني هذا التقسيم إنحصار العبادة الصحيحة بالعبادة شكراً لله عز وجل ، إنما تصح كل أفراد العبادة أعلاه بدليل أن الإمام عليه السلام أطلق عليها لفظ العبادة ، ولكن التفاوت في المرتبة وعظيم الأجر.
والخشية والخضوع لله عز وجل فرع الشكر له سبحانه ، ومرآة له ، وفي خشية المؤمن من الله ترغيب للناس بالإيمان ، ودعوة لنبذ العنف والإرهاب والقتل العمد ، سواء كان عشوائياً أو إرادة فرد مخصوص لقبح هذا الفعل مطلقاً ، وتناقضه مع الخشية من الله عز وجل .
الآية الثالثة
قوله تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ] ( ).
جاءت الآية أعلاه بالأمر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتخويف والوعيد للذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر ، وبينت الآية صنعتهم وأنهم كفار جاحدون .
ووردت الآية بالسين في [سَتُغْلَبُونَ] لإفادة المستقبل القريب ، وفيه مسائل :
الأولى : التحدي ، ومنه أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية يوم بدر وقبل بدء القتال ، للبشارة بتحقق النصر ، وبيان قرب ودنو المصداق ، وفي التنزيل [إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ] ( ).
الثانية : بيان مصداق قريب لصدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فان الناس عندما يسمعون هذه الآية يقولون ننظر في المعركة القادمة والأيام التالية ، هل سيهزم وينكسر جيش المشركين.
فجاء المصداق بمعركة بدر ويتلو المصداق بهزيمة المشركين .
الثالثة : لم تأت الآية بلفظ (سوف) وإرادة المستقبل البعيد فلم تقل سوف تغلبون ، إنما جاءت الآية بالوعيد القريب والحاضر ، فكلما همّ الذين كفروا بالهجوم والغزو على المسلمين أخبرتهم هذه الآية بأنهم سيغلبون لمنع المشركين من الغزو ومن القتال ودعوتهم لإختيار الصلح والموادعة والتراخي ودخول الإسلام .
وليس من تكافؤ في المقام ولا إكراه من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين للذين كفروا ، إنما ذات الكفر وعبادة الأصنام مبغوض بذاته ، وهو خلاف علة خلق الناس ، قال تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) .
فجاءت براهين وحجج نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لجذب الناس إلى عبادة الله عز وجل ، وكل آية من القرآن هي برهان وحجة في المقام ، ومن الإعجاز في آية البحث التذكير بحشر الذين كفروا يوم القيامة .
وجاءت آيات القرآن الأخرى بالإخبار عن حشر الناس جميعاً.
ويتضمن قوله تعالى [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ] ( ) بيان المثلية في إقرار الخلائق بالتوحيد.
وأن البهائم والدواب والطيور تحشر يوم القيامة ، حتى تأخذ الجماء من القرناء ، ثم تصبح تراباً ، فليس لها الخلود في الآخرة ، وعندئذ يقول الكافر[يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا]( ).
ولم تقل الآية (قل للذين كفروا سنغلبكم ) ولم تذكر من هو الغالب للذين كفروا لإرادة أن الله عز وجل هو الذي يهزمهم ويغلبهم بجنوده من الأنس والجن .
وهل اسم (الغالب)من اسماء الله الحسنى ، الجواب نعم ، قال تعالى [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ] ( ) والله هو الغالب من غير مغالبة .
والله هو الذي قهر ويقهر الذين كفروا ، وهو الذي أغرق فرعون وجنوده في البحر ، وأباد قوم لوط بحجارة من السماء قول تعالى[وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ] ( )، وهو الذي أهلك أصحاب الفيل
وينفذ أمره ومشيئته ، ولا يرد قضاؤه ، وهو شديد العقاب ، وقال جمع من العلماء أنه ليس من أسماء الله لأنه لم يرد في الآية أعلاه بصيغة الاسم.
لتكون في الآية مسائل :
الأولى : خسارة المشركين حتى وأن لم يكن قتال بينهم وبين المسلمين .
الثانية : إنتفاء النية والعزم عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمهاجمة الذين كفروا .
الثالثة : بعث الخشية والخوف من الله في نفوس المشركين ، والله سبحانه هو القاهر والعزيز والغالب بسلطانه وقدرته ، وفي التنزيل [وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ).
وهذه الخشية من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) بلحاظ أنها رحمة ورشحة من فيوضات، القرآن ولغة الإنذار والبشارة فيه ، فمن خصائص لغة الإنذار في القرآن أمور :
الأول : إلقاء الخوف في قلوب الذين كفروا .
الثاني : بعث النفرة في نفوس الناس جميعاً من الشرك ومفاهيم الضلالة ، وفي التنزيل [حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ]( ).
الثالث : إدراك الناس بلزوم التصديق بالأنبياء .
الرابع : تفقه المسلمين في الدين ومعالم الإيمان والإرتقاء في سبل المعرفة.
الخامس : اتخاذ المسلمين لغة الإنذار في القرآن مادة في الإحتجاج .
السادس : قيام المسلمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالإقتباس من لغة البشارة والإنذار في القرآن ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
السابع : بيان القبح الذاتي لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين والتحريض والإعانة على هذه المحاربة .
ومن إعجاز نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإمتناع الدول الكبرى آنذاك كالدولة الرومانية والفارسية عن نصرة كفار قريش مع أنهم كانوا على وجوه :
الأول : تعاطي رجال قريش التجارة مع الروم والفرس ، وكانوا يصلون إلى البلاط الملكي ويدخلون على الوزراء ورجال الحاشية .
الثاني : كثرة ذهاب وسفر رجال قريش إلى الشام وبلاد فارس وهو من مصاديق قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) .
الثالث : سعي رجال قريش وغيرهم لتحريض ملوك الزمان على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين .
وتبين قصة الوفد الذي أرسلته قريش إلى النجاشي صورة قبيحة من مكر قريش في التحريض على الإسلام وعلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
واختيار قريش لرجال منهم يتصفون بالدهاء والخبث ، ومنهم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة ، ولم يدخلوا على النجاشي إلا بعد أن زاروا البطارقة الذين حوله ، وقدموا لهم الهدايا وقاموا بالإفتراء على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتنزيل والمسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة ، ولكن الله عز وجل وقاهم شرهم ، لتكتب صفحة مشرقة للنجاشي في تأريخ الإسلام ، ويصلي عليه من المدينة يوم وفاته .
(عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه موت النجاشي قال صلوا على اخ لكم مات بغير بلادكم قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصفنا صفوفا قال جابر وكنت في الصف الثاني أو الثالث قال وكان اسم النجاشي اصحمة)( ).
لقد أوى النجاشي الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة وقد آمن بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا عبرة بالقول كيف يصلي عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن السنة النبوية حجة .
الرابع : إبتلاء الدول الكبرى بالإنشغال بالقتال بينهم ، قال تعالى [غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ] ( ).
وهل يختص فرح المؤمنين في الآية أعلاه بغلبة الروم بلحاظ أنهم أهل كتاب ، الجواب إنه أعم فمن فرح المؤمنين امتناع الدول الكبرى عن إعانة كفار قريش إلى أن تم نصر المسلمين في معركة بدر وأحد والخندق وحنين .
ترى ماذا لو أعانت الدول الكبرى مشركي قريش ، الجواب تبتلى جيوشهم بالإنكسار ، لأن الله عز وجل أبى إلا أن ينصر رسوله الكريم قال تعالى[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ]( ).
كما أن جيوش المشركين لا تستطيع قطع الصحراء لأمور :
الأول : ضعف وقلة التموين في الصحراء ، لذا قيل أن الصحراء جحيم رجال الإمداد والتموين ، وهي موضع مناسب لمن يتحرك بسرعة فيها .
الثاني : ندرة المياه في الجزيرة العربية ، فلو جاءت الجيوش من بلاد الروم أو فارس لعجزوا عن توفيرها لشربهم ، فضلاً عما تحتاجه دوابهم من الخيل والبغال والفيلة ، خاصة وأنهم لا يحسنون ركوب الإبل التي تتحدى العطش والظمأ في الصحراء ، قال تعالى [أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ] ( ).
ومن خصائص المعارك أمور ترتيبية :
الأول : الإعداد للمعركة .
الثاني : خوض ودخول المعركة .
الثالث : مغادرة أرض المعركة .
ومما تتصف به معارك الصحراء أن كلاً من مدة الإعداد لها والإنسحاب منها يستلزم أضعاف الجهد والوقت الذي تستغرقه تلك المعركة ، فلو جاء جيش الروم أو فارس إلى الصحراء للزم الإستعداد له نحو سنة ، واستغرق قطع المسافة من بلاد الروم أو فارس إلى أعماق الجزيرة أشهراً متعددة تهاجم فيها الأعراب جيوش الدول الكبرى ، وينظرون لهم كغزاة ويطمعون في مؤنهم وخيلهم وأسلحتهم .
الثالث : طول المسافة في الجزيرة وخلوها من السكن والزراعات والبساتين ، مما لم تعتاد عليه جيوش الروم أو الفرس ، وحال الفراغ التي تصير عند الجنود ، وما يتفرع عنها من أسباب الكدورة .
الرابع : إنقطاع الصلة مع المركز ودار الحكم ، وحتى إن كان هناك نوع صلة فانه ضعيف ومنقطع .
الخامس : قيام الأعراب في الجزيرة بالهجوم على أفراد وسرايا الجيش وانتهاز أي فرصة من الليل أو النهار لنهب مؤن ورواحل الجيش خاصة وأنها غير موجودة عند الأعراب .
وهل كان رؤساء الأنظمة الكبرى آنذاك يعلمون بحال وعوز الأعراب وإتصافهم بالميل إلى النهب والسلب، الجواب نعم ، إذ أنهم معروفون بهذه الخصال ولا يحجبهم عن النهب والغزو إستمالتهم واختيارهم كأدلاء والإغداق عليهم ، خاصة وأنهم يبغضون بالفطرة قدوم الجيوش الكبيرة وانتشارها في الجزيرة ، واستيلاءها على مقاليد الأمور فيها .
وتجعل أفراد القبائل تحت سلطانهم ، لذا كان كل من كسرى وهرقل يقربان رؤساء القبائل العربية التي على أطراف ممالكهم ويجعلان لهم شأناً خاصاً .
ومن الأقوال الشائعة وذات العلة والبيان : تزحف الجيوش على بطونها ).أي أن تقدمها وزحفها وصبرها في الميدان ، وفي الثغور يتقوم بالغذاء والمؤمن .
ويخشى الرؤساء والملوك على جيوشهم بزجهم في البيداء ، كما يخافون عليه الهلاك ، خاصة مع ورود أخبار النصر المبين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وشيوع أخبار وقوع سبعين رجلاً من شجعان قريش قتلى يومئذ ، وسبعين منهم في الأسر ، ومن هؤلاء من كان معروفاً عند الملأ ورجال الحكم والتجار في بلاد الروم وفارس مثل أبي جهل ، وأمية بن خلف ، وسهيل بن عمرو ، وعياش بن عبد المطلب وغيرهم .
ليكون من معاني قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) أي أذلة ضعفاء في نظر وحساب الدول العظمى ، فلما بلغهم نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في معركة بدر , وأدركوا أن المسلمين ذو منعة وقوة ، ويلزم الخشية من قطع المسافات الطولية لقتالهم بالإضافة إلى البشارات التي عندهم ببعثة نبي آخر زمان .
ولم يعلم أحد أن البشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والواردة في التوراة والإنجيل تكون برزخاً دون تعضيد وإعانة الدول العظمى لمشركي قريش , وسبباً لإمتناعهم عن مدّ الذين يحاربونه بالمال والرجال والسلاح .
ومن معاني الذلة التي تذكرها الآية وجوه :
الأول : وأنتم أذلة قبل معركة بدر ونصركم فيها .
الثاني : وأنتم أذلة في أعين المشركين ، وهو من مصاديق (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) ( ).
الثالث : وأنتم أذلة عند الدول العظمى ، لما كان يقوم به رؤساء الشرك من السخرية والإستخفاف بالدعوة النبوية .
الرابع : وأنتم أذلة يتجرأ الناس في التعدي عليكم .
الخامس : وأنتم أذلة في قلة عددكم وأسلحتكم .
السادس : وأنتم أذلة بقلة الأموال التي بين أيديهم .
السابع : وأنتم أذلة لا تغزون ولا تلحون بالغزو .
الثامن : وأنتم أذلة يطمع الذين كفروا في غزوكم .
فصار نصركم حاجة وضرورة ورحمة لكم ، فتفضل الله عز وجل به .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن نصره من عند الله لم يكن على نحو القرب والآجل ، إنما جعله الله عز وجل حالاً وحاضراً ومنجزاً ، لبيان قانون وهو عدم مصاحبة الذلة للمؤمنين ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ) وانتقال الذلة إلى الذين كفروا لبيان عدم التكافؤ بين المؤمنين والذين كفروا ، ورجحان كفة الإيمان ، وهو من مصاديق قوله تعالى [قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ]( ).
وفي الآية إنذار للذين كفروا من غزو المسلمين ، والهجوم على ديارهم لما فيها من لغة الإطلاق ، إذ أن تقديرها على وجوه :
الأول : قل للذين كفروا ستغلبون وان كنتم كثيرين.
الثاني : قل للذين كفروا ستغلبون , وأن هجمتم على نحو مباغت .
الثالث : قل للذين كفروا ستغلبون بسبب كفركم وجحودكم .
الرابع : قل للذين كفروا ستغلبون إذا حاربتم النبي وأصحابه .
الخامس : قل للذين كفروا ستغلبون لقانون : هزيمة الذي يحاربون النبوة والتنزيل .
السادس : قل للذين كفروا كفوا عن القتال , وفي التنزيل[قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ] ( ).
السابع : قل للذين كفروا ستغلبون في معركة بدر وما بعدها .
الثامن : يا محمد قل للذين كفروا ستغلبون إذا قاتلتموني .
ولكن الإخبار عن نصر المسلمين وهزيمة المشركين من الوحي والتنزيل وليس المنام .
ومن الإعجاز في الآية أمور :
الأول : أنها نهي للذين كفروا عن القتال .
الثاني : فيها زجر للذين كفروا عن الهجوم والغزو والتعدي .
الثالث : إنذار المنافقين بلزوم عدم إعانة الذين كفروا لأنهم سيهزمون .
الرابع : تضمن الآية الوعد والوعيد ، الوعد للمؤمنين بالنصر والغلبة مع قلة عددهم وعدتهم ، والوعيد للذين كفروا مع كثرة عددهم ، وكثرة عدتهم وأموالهم .
الخامس : تذكير الآية بعالم الآخرة ويوم الحساب ، وسوء عاقبة الذين كفروا .
السادس : بعث النفرة في نفوس الناس من الكفر , ومفاهيم الجحود .
السابع : دعوة المسلمين للشكر لله عز وجل على نعمة الإيمان، والسلامة من مفاهيم الكفر .
الثامن : تحريض المؤمنين على القتال وحين تزاحف الفريقان يوم بدر كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجتهد في الدعاء ويقول: اللهم إني أسألك عهدك ووعدك( ).
ثم خرج وعليه الدرع يحرض الناس ويقول[سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ]( )، ولعلّ الله تعالى أراه مصارعهم في منامه) ( ).
ويحتمل أوان قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للكفار بأنهم سيهزمون وجوهاً:
الأول : في ميدان المعركة ، وقبل بدء القتال .
الثاني : عند الإحتجاج والبرهان .
الثالث : عند حضور الكفار بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الرابع : إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر عن : قانون هزيمة الذين كفروا .
الخامس : تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم للآية [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ] ( ) في الصلاة وخارجها .
فان قلت هناك مسألتان :
الأولى : المراد من القراءة في الصلاة بقصد القرآنية .
الثانية : قد لا يكون هناك كفار يسمعون تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الصلاة .
أما المسألة الأولى فلا مانع من تعدد المنافع من تلاوة القرآن، ومن فيوضات قصد القرآنية والقربة إلى الله ، النفع العام من الفعل العبادي.
وأما المسألة الثانية فان قراءة الآية نوع إنذار يصل إلى الذين كفروا، ولو بالواسطة والنقل .
ومن إعجاز القرآن ميل الناس لتناقل آياته، وصيرورتها حديث المجالس والمنتديات ، وهذا الميل والمبرز الخارجي له في عالم القول والفعل من مصاديق نفخ الله عز وجل من روحه في آدم ، قال تعالى [وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ]( ).
لتبقى منافع هذا النفخ متجددة إلى يوم القيامة بالتفكر في الآيات الكونية ، والميل إلى آيات التنزيل والعمل الصالح والإقرار بقانون وهو هزيمة الذين كفروا عند حربهم ضد النبوة والتنزيل ، وفي نزول الآية وجوه:
الأول : وعن ابن عباس (أنها نزلت في عامة الكفار) ( ).
الثاني : نزلت الآية في قريش قبل بدر , عن ابن عباس .
الثالث : نزلت الآية بعد معركة بدر في خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبني قينقاع إذ أنذرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا (لسنا كقريش الأغمار الذين لا يعرفون الناس) ( ).
الرابع : نزلت الآية في قريش قبل معركة بدر .
والمختار نزول الآية في كفار قريش وعامة المشركين لأصالة الإطلاق ولا يتعارض معه تعيين أوان نزولها فإن قيل جاءت الآية التالي لها بالإخبار عن وقائع معركة بدر , فهل فيه دليل على نزولها بعد معركة بدر , الجواب لا : إلا مع القرينة والخبر من السنة بخصوص أسباب نزول الآية.
ومع ورود الخبر عن ابن عباس أن الآية نزلت في قريش قبل بدر , فقد ورد (عن عكرمة عن عبد الله بن عباس أنه قال ، لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً يوم بدر ، وقَدِم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع ، فقال: يا مَعْشَر اليَهُودِ ، أَسْلِمَوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمُ الله بِمِثْلِ مَا أَصَابَ قُرَيْشاً.
قالوا: يا محمد لا تغرنك نفسك . إنك قتلت نفراً من قريش كانوا أَغماراً لا يعرفون القتال فإنك لو قاتلنا لعرفت أنّا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا فأنزل الله تعالى { قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ) ( ).
وكان بين النبي محمد صلى الله عليه ويهود المدينة أيام معركة بدر عهد إلى مدة، ومن الإعجاز في الآية الأمر من الله عز وجل إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : قل للذين كفروا , ويكون هذا القول على وجوه .
الأول : القول والإنذار من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الكفار مباشرةً وقبلاً من غير واسطة , وهذا من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ).
الثاني : توجه خطاب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الذين كفروا بتلاوته لهذه الآية .
الثالث : قيام المسلمين بتلاوة الآية على الذين كفروا فمع كون الآية إنذاراً, فهي بيان وإحتجاج وتحد .
لقد اجتهد المشركون ليلة معركة بدر بالتهيئ للقتال ، وشحذ الهمم واظهار الإستخفاف بجيش المسلمين من جهة قلة العدد والعدة ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اجتهد ليلتئذ بالدعاء والصلاة، والتضرع إلى الله عز وجل.
ثم خرج ليرى أصحابه مصارع رؤساء الكفر من قريش ، وهو يقول هذا مصرع فلان غداً ان شاء الله ، ويشير إلى موضع مخصوص من الأرض ، هذا مصرع فلان ويمشي قليلاً ويقول هذا مصرع فلان .
(عن أنس ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ليلة بدر هذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى غدا ووضع يده على الأرض، وهذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى غدا ووضع يده على الأرض، وهذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى غدا ووضع يده على الارض، وهذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى غدا ووضع يده على الأرض.
فوالذي بعثه بالحق ما أخطأوا تلك الحدود جعلوا يصرعون عليها ثم ألقوا في القليب وجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا فلان ابن فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا قالوا يا رسول الله :
أتكلم أجسادا لا أرواح فيها، فقال : ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يستطيعون ان يردوا علي) ( ).
الرابع : تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لآيات القرآن الأخرى التي تتضمن الإنذار والوعيد للذين كفروا .
ومن الإعجاز الغيري للقرآن مجئ السور المكية التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قبل الهجرة بصيغة الإنذار والوعيد منها مثلاً [وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالْأُولَى* فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى]( ).
ليهاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، ولكن هذه السور والآيات تبقى في مكة وبين ظهراني المشركين , ويتجدد خطاب الإنذار فيها كل يوم .
ولم يرد لفظ [سَتُغْلَبُونَ] ( ) في القرآن إلا في قوله تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ] ( ) لبيان قانون من الإرادة التكوينية وهو أن الكفار إذا اختاروا القتال والعدوان فان النتيجة هزيمتهم وخسارتهم .
وهل تعني الآية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا غزا المشركين فان المشركين سيغلبون ، الجواب لا يغزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحداً ، وتقدير الآية أعلاه على وجوه :
الأول : يا محمد قل للذين كفروا باقتران الهزيمة بالكفر .
الثاني : يا أيها الذين آمنوا قولوا للذين كفروا بالله ورسوله ستغلبون .
الثالث : قل للذين كفروا يمتنعون عن الهجوم والغزو لأنهم سيغلبون .
فمن خصائص الذي يختار الهجوم والغزو ترجيحه للنصر والغلبة ، لذا يختار المباغتة في الأعم الأغلب .
وجاءت الآية أعلاه للإخبار عن أمرين :
الأول : هزيمة الذين كفروا إن إختاروا الهجوم والغزو والقتال، لأصالة الإطلاق في الآية ومصاحبة الخسارة والإنكسار للكفر والضلالة ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ) بتقريب أن الله عز وجل يبتلي الذين يجحدون بربوبيته المطلقة وبالملائكة والأنبياء والتنزيل بالهزيمة والخسران .
الثاني : سوء عاقبة الذين كفروا , وأن مصيرهم إلى جهنم لوجوه :
أولاً : إختيار الكفر والجحود .
ثانياً : محاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ثالثاً : تجهيز الجيوش للهجوم على المدينة .
رابعاً : القتال على الكفر ودفاعاً عن الوثنية وعبادة الأصنام .
وإذا ما علم أفراد الجيش بأن نتيجة الهجوم والقتال خسارتهم وهزيمتهم فانهم يمتنعون عن الهجوم ويكفون عن القتال ، لذا فان الآية زاجر للمشركين عن الغزو والهجوم ، كما أنها تبين سوء عاقبتهم ، قال تعالى [فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالْأُولَى] ( ).
الرابع : قل للذين كفروا ستٌغلبون لأنكم تقاتلون من أجل اللات والعزى وعندما أشرفت معركة أحد على الانتهاء نادى أبو سفيان (لنا العزى ولا عزى لكم ) ( ) .
يتباهى أبو سفيان بالعزى ، وهو صنم كانت قريش وكنانة ومن والاهم يعبدونه ،وقال ابن الكلبي : (وكان الذي اتخذ العزى ظالم بن أسعد) ( )، أي الذي نصبها.
ويكون ترتيبها بين الأوثان التي يعبدها أهل مكة وغيرهم كالآتي :
الأولى : اللات .
الثانية : العزى .
الثالثة : مناة، وفي التنزيل [أَفَرَأَيْتُمْ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى]( ).
وذكر أبو سفيان العزى رجاء أن ذكرها يكون برزخاً دون إتعاظ أفراد جيش المشركين والتفاتهم ومناجاتهم بمعجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وهل كان يرجو تذكير المهاجرين بصنم العزى ونحوه ، وما كان لها من الأثر في النفوس ، الجواب لا ، ومع كثرة جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم فانه لم يسكت عن أبي سفيان ، ولم يأمر برميه بالسهام أو الحجارة ، ولم يطلب من أصحابه شتمه وسبه وإظهار السخرية والإستخفاف من الأصنام وعبادتها أنما اتجه للحجة والبرهان وتجديد إعلان التوحيد فقال لأصحابه (أجيبوه.
قالوا: ما نقول ؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل.
فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه.
قالوا: ما نقول ؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم) ( ).
وتحتمل الآية وجوهاً :
الأول : الندب إلى القتال .
الثاني : الآية أجنبية عن موضوع الحث على القتال أو عدمه .
الثالث : تمنع الآية من القتال .
والصحيح هو الثالث ، إذ تزجر الآية الذين كفروا عن إرادة الهجوم والقتال وغزو المدينة .
ومن الآيات في المقام أن المسلمين لم يقعدوا مع نزول الآيات التي تتضمن الإخبار عن هزيمة المشركين لوجوه :
الأول : مجئ آيات قرآنية تحث المسلمين على الإستعداد للقتال ، وتهيئة مقدماته ، وأن يقع فعلاً ، قال تعالى [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ] ( ).
الثاني : دلالة مفهوم المخالفة للوعيد للذين كفروا ، إذ أن الإخبار عن هزيمة المشركين يدل على نصر المؤمنين .
الثالث : دلالات الواقع اليومي وصدور التهديد المستمر من الذين كفروا ، وعزمهم على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأسر أصحابه خاصة المهاجرين ، فقد كان المشركون يرغبون بادخالهم مكة أسرى أذلة لزجر المسلمين الذين في مكة ، ولمنع دخول الناس الإسلام ، قال تعالى [يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ] ( ) .
الرابع : مجئ أخبار استعداد وتهيئ المشركين للغزو والهجوم ، وحشدهم الجيوش ، وتحريضهم القبائل والقاء القصائد والأشعار التي تمجد بالذين كفروا واللات والعزى .
وفي (قوله تعالى { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ}( )، قال الضحاك : يعني كفار مكة لما ظهروا يوم أحد ، فرحوا بذلك ، فنزل قوله تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } من أهل مكة { سَتُغْلَبُونَ } بعد هذا[وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ] ( )، وقال الكلبي نزلت في شأن بني قريظة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما هزم المشركين يوم بدر ، قالت اليهود هذا النبي الأمّي الذي بشرنا به موسى الذي نجده في التوراة ، فأرادوا تصديقه ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة أخرى له.
فلما كان يوم أحد ، ونكب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا : والله ما هو إياه ، فقد تغيّرت صفته وحاله ، فشكوا فيه ولم يسلموا ، وقد كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد إلى مدة ، فنقضوا ذلك العهد ، فأنزل الله تعالى : { قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ })( ).
والمختار أن المراد من الآية على وجوه :
الأول : الكفار من قريش .
الثاني : عموم الكفار في مكة .
الثالث : التابع والمتبوع من الكفار .
الرابع : الكفار من أفراد القبائل .
الخامس : الذين قاتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر .
السادس : الذين ينوون قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
السابع : الكفار الذين لم ولن يقاتلوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لإفادة المعنى الأعم للغلبة وأنه لا ينحصر بسوح المعارك ، وتقدير الآية على وجوه :
الأول : ستغلبون لإختياركم الكفر .
الثاني : ستغلبون لعبادتكم الأوثان .
الثالث : ستغلبون بما أنتم كفار .
الرابع : ستغلبون سواء قاتلتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لم تقاتلوا ، وهناك مسألتان :
الأولى : ما هي النسبة بين الهزيمة وبين القتل .
الثانية: كم معركة خسر فيها الذين كفروا.
أما المسألة الأولى فالنسبة هي العموم والخصوص من وجه، وليس كل الذين يخسرون المعركة ويُغلبون يٌقتلون ، فلذا أختتمت الآية بتذكير الذين كفروا بعذاب الآخرة ، وهو أشد من الهزيمة والخسارة في المعركة .
وأما المسألة الثانية فيحتمل الجواب وجوهاً :
الأول : خسارة الذين كفروا في معركة واحدة ، كما في معركة بدر، قال تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ]( ) .
الثاني : هزيمة الذين كفروا في معارك متعددة .
الثالث : هزيمة ولحوق الخسارة بالمشركين في ميدان المعركة وخارجه .
والصحيح هو الثاني والثالث أعلاه.
ومن معاني هذه الآية أنها مدد وعون للمسلمين من وجوه :
الأول : بعث الطمـأنية في نفوس المسلمين، وفي التنزيل[السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ]( ) .
الثاني : خلو قلوب المؤمنين من الخوف والخشية من الذين كفروا في ميدان المعركة وقبل دخولها .
الثالث : إستدامة ذكر المسلمين لله عز وجل ، وعدم انشغالهم بالذين كفروا .
الرابع : عشق المسلمين للخوف من الله عز وجل وإدراك قانون وهو أن هذا الخوف خير محض ، قال تعالى [إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
الخامس : زيادة إيمان المسلمين بما في الآية الكريمة من البشارة لهم بالنصر والغلبة .
وكما أن الآية مدد للمسلمين فانها سلاح يلاحق الذين كفروا في منتدياتهم وبيوتهم ومواضع الحشر للقتال ، إذ أنها تتحداهم وتخبرهم بالنتيجة وسوء العاقبة التي يخرجون فيها من المعركة ، وكيف أن الأموال التي ينفقونها ستذهب هباءً ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ] ( ).
وذكرت الآية أعلاه لحوق الهزيمة بالذين كفروا وفيه تأكيد لآية البحث مع إضافة وبيان وهو أن الأموال التي ينفقونها في شراء الأسلحة والخيل والإبل والمؤن لمحاربة النبوة والتنزيل تكون وبالاً وحسرة عليهم .
ثم أخبرت الآية أعلاه عن سوء عاقبة الذين كفروا بأن يكون مصيرهم الإقامة الدائمة في جهنم .
وكل هذه الأسباب لزجر الذين كفروا عن الغزو ، ولبيان قانون وهو عدم حاجة المسلمين للغزو ، وهل جاءت الآية عن سؤال من المسلمين أو غيرهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نتائج المعارك بين المسلمين والمشركين أم أنها جاءت أبتداء من عند الله .
فقد تعدد الخطاب الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ[يَسْأَلُونَكَ] في القرآن , منه :
[ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ]( ).
[يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابن السَّبِيلِ]( ).
[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ]( ).
[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ]( ).
[وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ]( ).
لبيان تعدد وكثرة الأسئلة التي كانت توجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كل من :
الأول : المسلمون والمسلمات , وفي التنزيل [وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ]( ).
الثاني : أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
الثالث : المنافقون والمنافقات.
الرابع : الذين كفروا والمشركون من أهل مكة وغيرهم.
وإذا كان السؤال الى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يصدر من جهة واحدة، فهناك مسائل :
الأولى : يأتي الجواب من الله عز وجل، وفيه إكرام للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكأن التقدير في المقام على وجوه :
الأول : يا أيها الذين آمنوا أنتم تسألون النبي والله عز وجل هو الذي يجيب على أسئلتكم.
الثاني : يا أهل الكتاب أنتم تسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والله يجيبكم, وهو من مصاديق قوله تعالى[ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ]( ).
الثالث : يا أيها الناس إنكم تسألون والله عز وجل يجيبكم، وفيه دعوة لكم للتوبة والإنابة .
الرابع : يا أيها الناس جميعاً اتغطوا وانتفعوا من الأجوبة السماوية الواردة في القرآن، وهو من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ]( ).
المختار أن الآية نزلت بعد سؤال وجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان المسلمون يسعون إلى الإطلاع على علوم الغيب القريب من الواقع والأحداث من الوحي ، فسألوا النبي صلى الله عليه وآله .
فجاء الجواب وكأنه من مصاديق قوله تعالى [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]( ).
الآية الرابعة
قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً *فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا] ( ).
إبتدأت الآية الأولى أعلاه بالإخبار عن وفاة طائفة من الناس ، يتصفون بظلمهم لأنفسهم ونسبت الآية قبض أرواحهم إلى الملائكة لبيان قانون وهو أن الله عز وجل جعل ملائكة يختصون بقبض أرواح البشر ، ويحتمل وجوهاً :
الأول : المراد ملك الموت ، وجاء ذكر جنس الملائكة لأنه منها ، ولبيان عظيم شأن الملائكة ، وتفضل الله بتفويض قبض الأرواح إليهم وهل هذا التفويض من مصاديق احتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى[إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ]( )، عندما سألوا عن ما هية خلافة الإنسان في الأرض واكرام الله عز وجل لجنس بني آدم مع أن شطراً منهم [يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، الجواب نعم، وكأن هذا التفويض إخبار للملائكة بأن عمر الإنسان في الأرض قليل، وأيامه محدودة، وهو يغادرها والملائكة باقون بعدهم، وكأن هناك في المقام خطاباً من الله عز وجل للملائكة: ألا ترضون أن يمدّ الله في أعماركم آلاف من السنين بينما هذا الخليفة لا يعمر فيها إلا سنوات طاعتهم لله عز وجل في السجود لآدم، وتلك آية في إكرام الله للملائكة بأن صاروا لهم الذين يقبضون أرواح بني آدم، وهم الذين يستقبلون المؤمنين في الجنة وورد في التنزيل[خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ]( )، وهم الذين يتلقون الذين كفروا بالسخط وأنواع العذاب يوم القيامة، ولما نزل قوله تعالى[عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ]( ).
(عن ابن عباس قال : لما سمع أبو جهل { عليها تسعة عشر } قال لقريش : ثكلتكم أمهاتكم أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم ، فأوحى الله إلى نبيه أن يأتي أبا جهل فيأخذ بيده في بطحاء مكة فيقول له : { أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى}( ).
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : { عليها تسعة عشر } قال : ذكر لنا أن أبا جهل حين أنزلت هذه الآية قال : يا معشر قريش ما يستطيع كل عشرة منكم أن يغلبوا واحداً من خزنة النار وأنتم ألدهم؟ .) ( ).
عن وهب بن منبه لما أراد الله تعالى أن يخلق آدم أوحى ألى الأرض أني خالق منك خليقة منهم من يطيعني ومنهم من يعصيني.
فمن أطاعني أدخلته الجنة ، ومن عصاني أدخلته النار . قالت الأرض أتخلق مني خلقاً يكون للنار.
قال نعم . فبكت الأرض فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة( ).
فبعث الله إليها جبريل ليأتيه بقبضة منها من أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها ، فلما أتاها ليقبض منها.
قالت : أعوذ بعزة الله الذي أرسلك إليّ أن لا تأخذ مني شيئاً فرجع جبريل إلى مكانه وقال : يا رب استعاذت بك مني فكرهت أن أقدم عليها.
فقال الله تعالى لميكائيل : انطلق فأتني منها فلما أتاها ليقبض منها قالت ما قالت لجبريل ، فرجع إلى ربه فقال ما قالت له.
فقال لعزرائيل انطلق فأتني بقبضة من الأرض فلما أتاها قالت له الأرض: أعوذ بعزة الله الذي أرسلك أن لا تأخذ مني شيئاً ، فقال : وأنا أعوذ بعزته أن أعصي له أمراً . وقبض منها قبضة من جميع بقاعها من عذبها ومالحها وحلوها ومرها وطيبها وخبيثها( ).
وصعد بها إلى السماء فسأله ربه عز وجل وهو أعلم بما صنع فاخبره بما قالت له الأرض وبما رد عليها.
فقال الله تعالى : وعزتي وجلالي لأخلقن مما جئت به خلقاً ولأسلطنك على قبض أرواحهم لقلة رحمتك .
ثم جعل الله تلك القبضة نصفها في الجنة ونصفها في النار ثم تركها ما شاء الله ثم أخرجها فعجنها طيناً لازباً مدة ثم حمأ مسنوناً مدة ثم صلصالاً ثم جعلها جسداً وألقاه على باب الجنة فكانت الملائكة يعجبون من صفة صورته لأنهم لم يكونوا رأوا مثله ، وكان إبليس يمر عليه ويقول لأمر ما خلق هذا ونظر إليه فإذا هو أجوف فقال هذا خلق لا يتمالك)( ).
وراوي الخبر وهب بن منبه بن كامل الصنعاني(34-114) هجرية تابعي له إطلاع على كتب الملل السابقة، وهو إخباري زاهد مواظب على طلب العلم، وكان أبوه يهودياً وروايته بالإسناد قليلة وكان يأخذ من صحائف أهل الكتاب روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي.
الثاني : المراد ملائكة هم أعوان لملك الموت .
الثالث : تعدد الملائكة الذين يقبضون أرواح البشر ، إنما يتبدل الملك الذي يقبض الأرواح ، وكل واحد منهم يسمى ملك الموت عند قبضه الأرواح .
الرابع : تعدد الملائكة الذين يحضرون ساعة قبض الروح ، وسميت هذه الساعة بالإحتضار لوجوه منها حضور الملائكة عند الموت .
وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قال : اذا حضر( ) المؤمن أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون اخرجي راضية مرضياً عليك إلى روح الله وريحان ورب غير غضبان .
فتخرج كأطيب ريح المسك حتى أنه ليناوله بعضهم بعضا حتى يأتوا به باب السماء فيقولون ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الارض ، فيأتون بأرواح المؤمنين فلهم أشد فرحاً به من أحدكم بغائبه يقدم عليه فيسألون ما فعل فلان ما فعل فلان فيقولون دعوه فإنه كان في غم الدنيا
فإذا قال : ما أتاكم ؟
قالوا ذهب به إلى أمه الهاوية
وإن الكافر إذا حضر أتته ملائكة العذاب بمسح فيقولون اخرجي ساخطة مسخوط عليك إلى عذاب الله فتخرج كأنتن ريح جيفة حتى يأتون به باب الارض فيقولون ما أنتن هذه الريح حتى يأتون به أرواح الكفار ، فيمن أحب لقاء الله)( ).
المختار هو الرابع .
ويحتمل الفعل [تَوَفَّاهُمْ] بلحاظ أفراد الزمان الطولية وجوهاً :
الأول : إرادة الزمن الماضي ، فان قيل لماذا لم يأت بتاء التأنيث [تَوَفَّتْهُمْ الْمَلاَئِكَةُ] ( ) الجواب إن تأنيث لفظ الملائكة غير حقيقي .
الثاني : إرادة صيغة المضارع والمستقبل ، وتقديره : تتوفاهم ، وحذفت إحدى التاءين .
الثالث: قرأ ابراهيم (توّفاهم ) بضم التاء( ) .
والمختار هو الأول والثاني أعلاه لإفادة الإعجاز في اللفظ القرآني وتغشيه للوقائع والأحداث ذات الصلة بموضوعه سواء ما انقضى وانصرم منها أو ما يأتي من مصاديقها ، والمشهور أن المراد من الظلم في قوله تعالى [ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ] ( ) ترك الهجرة جموداً على ما ذكر من أسباب نزول الآيات .
والمختار أن الآية أعم إذ أن الظلم للنفس التي تذكره على وجوه :
الأول : إختيار الكفر .
الثاني : إتباع الكافرين .
الثالث : محاكاة الظالمين .
الرابع : تقليد الآباء بمفاهيم الشرك والضلالة ، وفي التنزيل [وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ] ( ).
الخامس : الخروج مع الظالمين للغزو ، وأن كان بلحاظ القبلية والعصبية والثأر .
السادس : إعانة المشركين في حربهم على الإسلام ، ومنه تعذيب المسلمين الأوائل في مكة .
السابع : الخروج إلى ميدان القتال لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
لقد زحف ثلاثة آلاف رجل من المشركين في شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة لقتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
ونزل في ذمهم وتوبيخهم قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) ومنهم من تاب ودخل الإسلام قبل أن يموت ، فلا تشملهم مسألة التوبيخ التي تذكرها هذه الآية لأن التوبة ماحية للذنب ، وهو من فضل الله بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم , قال تعالى[وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى]( ) .
ولنفرض أن من مجموع الثلاثة آلاف هؤلاء مات أو قتل خمسمائة على الكفر فكم واحد يعتذر للملائكة عند قبض روحه بأنه كان مستضعفاً ، الجواب أغلبهم يعتذر بالإستضعاف بما فيهم شطر من رؤساء الكفر الذين كانوا يسوقون الناس لقتال المسلمين بذريعة أن الرؤساء من الكلي المشكك وأن رئيس الفخذ مثلاً يخضع لغيره إذ أن الطبقات على أقسام بلحاظ الأكبر إلى الأصغر :
الأول : الشعب ، وهو سور الموجبة الكلية للقبيلة كلها ومجتمعها مثل : مضر .
الثاني : القبيلة مثل كنانة.
الثالث : العمارة مثل قريش .
الرابع : البطن : مثل بني قصي بن كلاب .
الخامس : الفخذ ، مثل بني هاشم .
السادس : الفصيلة ، مثل بني أبي طالب ، ومن علماء الأنساب والمؤرخين من قدّم وأخر في التقسيم أعلاه ، ومنهم من أضاف .
السابع : الرهط .
الثامن : العترة .
التاسع : الذرية.
العاشر : الأسرة .
وكذا بالنسبة للذين لم يخرجوا من مكة لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولكنهم ماتوا في مكة أو قراهم متلبسين بظلم النفس بالكفر ، وهل يختص هذا الإعتذار بالتابعين والضعفاء والعبيد منهم أم يشمل شطراً من رؤساء الكفر .
الجواب هو الثاني .
لذا لم يقبل الملائكة اعتذارهم ، وأقاموا عليهم الحجة وبيّنوا لهم ذنبهم بالتخلف عن سبل النجاة ، وطرق الحيلة ، إذ قال لهم الملائكة [أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] ( ) لبيان نكتة وهي عدم إمكان سيطرة وهيمنة نظام حكم واحد على الأرض باقطارها وقاراتها ، فالأرض ملك لله وحده ، وسلطان البشر والملوك محدود ،وفي التنزيل [وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ] ( ).
وتمتلأ ثنايا التأريخ بالقصص عن اعتزال دولة السلطان أو الهروب منه ، أو الهجرة من بلاده ودار حكمه .
وقد هاجر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ، وأراد المشركون القبض عليه وارجاعه إلى المدينة وهو في طريق الهجرة ، وجعلوا الجوائز لمن يأتي به ، حتى إذا ما دخل المدينة بمعجزة من عند الله اسقط ما في أيدي المشركين ، وعجزوا عن الوصول إليه إلا بالغزو والهجوم على المدينة .
ليكون من معاني احتجاج الملائكة بيان مصداق لقوله تعالى [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ) وأن الله عز وجل سخّر الأرض لخدمة وسلامة ونجاة الإنسان ورزقه الكريم ، وعدم الركون للقوم الظالمين ، قال تعالى [وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ] ( ).
ولم يرد لفظ [تَرْكَنُوا] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، لبيان قبح الركون إلى الظالمين ، وأن إعانة وتعضيد ونصرة النبوة أمر حسن ومحمود .
وقد ذكر لفظ [أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً ] ( ) في القرآن مرتين ، إذ ورد في قوله تعالى [قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] ( ) .
لبيان أن الهجرة نوع طريق لتعاهد الإيمان ، والتحلي بالتقوى ، وأنها تستلزم الصبر والتحمل في جنب الله .
لقد أراد الله عز وجل بهذه الآية إنذار الذين كفروا من أمور :
الأول : البقاء على الكفر .
الثاني : إعانة الظالمين .
الثالث : قتال المؤمنين .
الرابع : تزيين الظلم لأهله .
الخامس : الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف .
السادس : المشاركة في غزو المدينة .
السابع : مهاجمة سرايا المسلمين .
ومن خصائص الآية دعوة الناس للإستعداد للموت وإدراك قانون وهو أن الإعتذار غير الصحيح لا تقبله الملائكة ،فكيف إذا وقف الناس بين يدي الله [يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ] ( ) وتكشف الحقائق ، وتستنطق الجوارح .
ومن خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم مصاحبة المعجزة الحسية والعقلية ، وعلى نحو التعدد لتدعو مجتمعة ومتفرقة الناس إلى الإيمان والإمتناع عن الإقتتال والغزو ، والعادات المذمومة مثل الوأد والسلب والنهب له في حياته وبقاؤها ثروة للمسلمين وضياءً ينير دروب الهداية للناس جميعاً .
وهل هو من مصاديق وعمومات قوله تعالى [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] ( ) , الجواب نعم .
وكان بيع الحر أمراً شائعاً في الجاهلية إذ يخطف الرجل أو المرأة أو الصبي من قريته ومحل سكناه نتيجة عداوة وثأر ، فجاء الإسلام للقضاء على هذه العادات المذمومة ، ليصبح الناس في مأمن من هذا الخطف وما يترتب عليه من الذل والمهانة .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجود الشواهد على حال التخلف والجاهلية وأضرار العصبية أيام البعثة النبوية وتخلص الناس منها على نحو سريع ومبارك بتتابع وتوالي نزول القرآن ورياض السنة النبوية.
ومن بيع الحر قبل البعثة قصة زيد بن حارثة والذي كان يسمى زيد بن محمد مع أنه معروف النسب فهو ( زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزي بن امرىء القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد ود بن امرىء القيس بن النعمان بن عمران بن عبد عوف بن عوف بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان .
هكذا نسبه ابن الكلبي وغيره وربما اختلفوا في الأسماء وتقديم بعضها على بعض وزيادة شيء فيها .
قال ابن الكلبي : وأم زيد سعدي بنت ثعلبة بن عبد عامر بن أفلت من بني معن من طيء) ( ) .
وعندما كان صغيراً خرجت أمه لتزور أهلها فأخذته معها إلى أخواله ، واتفق أن أغارت خيل لبني القين بن جسر ، ومروا على أبيات معن ، وهم رهط أم زيد فاحتملوا زيداً معهم ، وجاؤوا به إلى سوق حباشة في ناحية من نواحي مكة يتسوق منه الناس فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد باربعمائة درهم ، وتمر الأيام وينزل القرآن بذكر اسم زيد ، قال تعالى [فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً] ( ) ويكون فيه الفخر والعز في النشأتين .
ثم وهبته خديجة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما تزوجها وكان عمره ثمان سنوات ، ويكبره الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعشر سنين ، وقيل عشرين سنة .
وحزن عليه أبوه وأمه ، وأخذ أبوه يقول الأشعار في ندب ابنه زيد ، ويتناقل قومه أبيات الشعر تلك وما فيها من معاني الحزن والأسى منها .
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل … أحي يرجى أم أتى دونه الأجل
فوالله ما أدري وإن كنت سائلا .. أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل
فيا ليت شعري هل لك الدهر رجعة …فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل
تذكرنيه الشمس عند طلوعها … وتعرض ذكراه إذا قارب الطفل
وإن هبت الأرواح هيجن ذكره … فيا طول ما حزني عليه ويا وجل
سأعمل نص العيس في الأرض جاهدا … ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل
حياتي أو تأتي علي منيتي … وكل امرىء فان وإن غره الأجل
سأوصي به عمرا وقيسا كليهما … وأوصى يزيد ثم من بعده جبل
يعنى جبلة بن حارثة أخا زيد وكان أكبر من زيد ويعني يزيد أخا زيد لأمه وهو يزيد بن كعب بن شراحيل) ( ).
ومن أسرار ومنافع حج بيت الله الحرام ، المودة والتعارف بين الناس والإطلاع على حال المفقود فمن يغيب عن قومه يحج البيت ليسأل عن منازلهم .
وتمر الأيام وتتعاقب السنين ويحج البيت أناس من كلب ، فرأوا زيداً ، فعرفهم وعرفوه بشمائله ، فطاروا به فرحاً ، ثم علموا حسن إقامته كنف وعناية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم(فقال لهم: أبلغوا عني أهلي هذه الأبيات، فأني أعلم أنهم جزعوا علي، فقال من الطويل:
احن إلى قومي وإن كنت نائياً … فإني قعيد البيت عند المشاعر.
فكفوا من الوجد الذي قد شجاكم .. ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر.
فإني بحمد الله في خير أسرة … كرام معد كابراً بعد كابر ) ( ).
فلما عاد هذا الرهط من قومه ، أعلموا أباه بأن زيداً حي يرزق وأنه بجوار البيت الحرام وعند أكرم أسرة .
وقدم حارثة وأخوه كعب ابنا شراحيل إلى مكة لزيادة البيت وفداء زيد فدخلا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل هجرته إلى المدينة .
وأخذ حارثة بالثناء عليه وعلى آبائه والتمس منه أن يمنّ عليهما باعادة ابنهما لهما ، وأن يحسن إليهما في فدائه , ويخففه عنهما .فقال لهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هو ابنكما .
قالا : زيد بن حارثة .
فعرض عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلاً آخر ،ليس فيه فداء وعوض ، لبيان تنزه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مثل هذا الفداء للحر .
وقال لهما : فهلا غير ذلك .
قالا : وما هو ؟
قال (ادعوه فخيروه فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء قالوا: زدتنا على النصف فدعاه .
فقال: هل تعرف هؤلاء .
قال: نعم هذا أبي وهذ عمي .
قال: فأنا من قد علمت وقد رأيت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما.
فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً ، أنت مني بمكان الأب والعم) ( ) .
لقد جاء حارثة وأخوه وهما يفكران بمقدار العوض والفداء ، وما إذا كان يثقل كاهلهما خاصة وأن زيداً عند قريش أصحاب الأموال والتجارة ومجاوري البيت الحرام .
ولكنهما فوجئا بأن أي خيار عرضه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس فيه عوض أو بدل , وهما أما أن يرجعا بابنيهما مع المال الذي جلباه ، أو العودة بالمال والعوض مع الطمأنينة على زيد في حسن اقامته ، وهو من البركات التي تسبق النبوة والشواهد التي تدل عليها .
فلا تخص الطمأنينة شخص زيد بل تشمل أهله الذين فارقهم ومنهم أبوه الذي اشتد وجده عليه ونظم الأشعار والقصائد في اللهفة والحزن والأسى عليه، وأمه التي فارقها قهراً وهو صغير ، وعندما كانت في زيارة لأهلها ، مما يجعلها في حال حرج شديد أمام زوجها وقومه ، ولكن بركات الرسالة حاضرة ، لتبعث السكينة في النفوس .
لقد أصابت الدهشة أبا وعم زيد عندما اختار البقاء في كنف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفضلّه على الرجوع معهما .
فقالا : ويحك يا زيد ، أتختار العبودية على الحرية ، وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك .
قال : إني قد رأيت من هذا الرجل أي النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أموراً كريمة ما أنا بالذي اختار عليه أحداً .
ولم يغضب أبوه أو عمه للفضل العظيم والفيوضات التي تتجلى في حسن سمته والحال الحسنة التي رأوا عليها زيداً .
حينئذ أخرجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حجر اسماعيل (فقال: ” اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه ” فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما وانصرفا فدعي زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام.) ( ).
لينزل قوله تعالى [ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ] وليكون عوض زيد من ترك عنوان التبني ونسخ الإسلام للأبوة العرضية هذه بأن ورد اسمه في القرآن ، وليكون ذكره هذا فخراً لهم جميعاً ، وهو من الخاص الذي تترشح بركاته على العام لوحدة الموضوع في تنقيح المناط .
ثم قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتزويج مولاته أم أيمن من زيد فولدت له أسامة.
ولما قام زيد بتطليق زينب بنت جحش ابنة عمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زوجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أم كلثوم بنت عقبة وأمها أروى بنت كريز وأمها البيضاء بنت عبد المطلب فولدت له زيد بن زيد ورقية ، ثم طلق أم كلثوم، وتزوج درة بنت أبي لهب بن عبد المطلب وهي بنت عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي أنها أقرب له نسباً من زينب بنت جحش , ثم طلقها زيد ، وتزوج هند بنت العوام أخت الزبير) ( ).
لبيان منافع النبوة وصحبة النبي صلى الله عليه وآله في الدنيـا , أما في الآخرة ، فلا يعلم هذه المنافع إلا الله عز وجل ، لينعم الناس ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بانعدام الغـــزو والنهب والسلب ، وتعيش الجزيرة وإلى يوم القيامة بأمان ورخاء ببركة ذكر الله عز وجل خمس مرات في اليوم على نحو الوجوب العيني على الرجال والنساء.
ويدل على أن المراد من تعدد الملائكة ما ورد في الآية أعلاه [قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ] فلو كان المراد شخص ملك الموت وحده، لورد لفظ (قال، وقد جاء الخطاب في القرآن إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ المفرد[قل] كما في قوله تعالى [قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ]( ).
ووردت الآية بصيغة الماضي[قَالُوا] لإفادة موضوع سابق ومتقدم في زمانه، نعم ورد لفظ [تَوَفَّاهُمْ] في أول الآية ولم تقل (توفتهم) لإفادة الإطلاق الزماني في الفعل خاصة وأن التوفي وقبض الأرواح يحدث في الحياة الدنيا , وفيها تذكير للقارئ والسامع للآية والناس جميعاً بالموت، ودعوتهم وغيرهم للإستعداد له، ولتكون الآية وصيغة الإطلاق الزماني فيها من ضروب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : يجاء بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار ، فيعرفه هؤلاء ، ويعرفه هؤلاء ، فيقول أهل النار : اللهم سلطه علينا( )،
ويقول أهل الجنة : اللهم إنك قضيت أن لا نذوق فيها الموت إلا الموتة الأولى ، فيذبح بينهما ، فييأس أهل النار من الموت ، ويأمن أهل الجنة من الموت .
وأخرج البزار والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في البعث بسند صحيح عن جابر قال : قيل يا رسول الله أينام أهل الجنة؟ قال : لا، النوم أخو الموت ، وأهل الجنة لا يموتون ولا ينامون) ( ) .
أما قول الملائكة وسؤالهم لظالمي أنفسهم فقد يقع في الدنيا أو يكون في الآخرة ، وذات الموت يموت في الدنيا .
وفي أسباب نزول هذه الآيات وردت أقوال منها (عن ابن عباس : أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فيأتي السهم يرمي به ، فيصيب أحدهم فيقتله ، أو يضرب فيقتل . فأنزل الله { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم})( ).
(وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : كان قوم من أهل مكة اسلموا ، وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر ، فأصيب بعضهم وقتل بعض ، فقال المسلمون : قد كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم ، فنزلت هذه الآية{إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} إلى آخر الآية . قال : فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية وأنه لا عذر لهم فخرجوا ، فلحقهم المشركون فاعطوهم الفتنة ، فأنزلت فيهم هذه الآية {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله…..}( ).
فكتب المسلمون إليهم بذلك ، فحزنوا وأيسوا من كل خير ، فنزلت فيهم{ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم}( )
فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجاً فاخرجوا ، فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل) ( ).
(عن ابن عباس في الآية قال : هم قوم تخلفوا بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتركوا أن يخرجوا معه ، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ضربت الملائكة وجهه ودبره .) ( ).
(عن عكرمة في قوله { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم }( ) إلى قوله { وساءت مصيراً } قال : نزلت في قيس)( ).
والإستضعاف على وجهين :
الأول : نوع مفاعلة بين طرفين أحدهما يستضعف الآخر ، ويقال استضعفته أي وجدته ضعيفاً ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ]( ).
وفي التنزيل في قصة النبي هارون [إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي]( ).
الثاني : ذات الفرد ضعيف وعاجز عن القيام بالفعل ، ولا يدل على الضعف في العقل والبدن والمال.
وتدل الآية على استكبار كفار قريش .
وتبين أن الخروج مع المشركين لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ظلم للنفس ، وأن دخول العبد الإسلام والنطق بالشهادتين بصدق لا ينجي الإنسان من اللوم والذم إذا خرج مع جيش المشركين لما فيه من الضرر الخاص والعام من جهات :
الأولى : تكثير سواد المشركين .
الثانية : احتمال قتل بعض المؤمنين الذين خرجوا تحت لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولو دفاعاً عن النفس أو حمية وعصبية .
فإن قلت قد قتل حسيل بن جابر يوم معركة أحد، وهو أبو حذيفة بن اليمان، والجواب قد كان قتله خطأ إذ جاء متـاخراً إلى الميدان ودخل بين كتائب المسلمين، وكان في الأطام لكبر سنه، ولكنه إشتاق إلى الدفاع والشهادة، وحينما ضربه المسلمون لظنهم أنه من المشركين نادى حذيفة أبي أبي ، ولكنهم لم يسمعوه(وقيل أن الذي قتل حسيلاً عتبة بن مسعود)( ).
الثالثة : إمكان الهجرة من مكة ومغادرة القوم المشركين، والترغيب بها بالذات، وكمقدمة لزيادة الإيمان والتفقه في الدين.
الرابعة : حاجة المسلمين لوجود باقي المؤمنين إلى جانبهم في ساحة المعركة أو المدينة .
الخامسة : القبح الذاتي والذم الذي يلحق الذي يُقتل , وهو في صفوف المشركين .
ومن الإعجاز في الآية ذكرها لظلم المسلم الذي يخرج مع المشركين لنفسه وكيف أنها صارت سبباً لهجرة الشباب المسلم الذين بقوا في مكة ولم يهاجروا والذين أسلموا حديثاً بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة .
ليكون من معاني الآية القرآنية أمور :
الأول : تفقه المسلمين في الدين ، ومعرفة أحكام الحلال والحرام بواسطة آيات القرآن التي تنزل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي التنزيل [خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ] ( ) .
الثاني : يدل قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ] ( ) في مفهومه على ان الكافرين ظالمون لأنفسهم ولغيرهم ، إذ أنهم يستضعفون ومن منازل الكفر والجحود طائفة من الناس ، ويمنعونهم من أمور :
أولا : الإنتماء إلى الإسلام .
ثانيا : إظهار الإسلام .
ثالثا : أداء الفرائض العبادية .
لقد جعل الله عز وجل العبادة هي العلة التامة لخلق الناس لقوله تعالى [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] ( ) ولكن الذين كفروا امتنعوا باصرار عن العبادة ، وآذوا واستضعفوا وحاربوا الذين يعبدون الله ، فذكرت آية البحث المستضعفين لأن الإستضعاف فيه أطراف .
أولاً : المستضعفِون بكسر الفاء ، وهم الذين يستضعفون غيرهم.
ثانياً : حال الإستضعاف وصيرورته أمراً ظاهراً مستديماً .
ثالثاً : المستضعفَون بفتح الفاء وصيغة المبني للمفعول ، وهم الذين يتلقون أسباب الإستضعاف .
ومن الاعجاز في القرآن مجئ الآية التالية باستثناء أقسام من المستضعفين من لغة اللوم والتوبيخ والإنذار الوارد في الآية ، ويتجلى هذا الإستثناء بقوله تعالى [إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً] ( ).
إذ يتضمن هذا الإستثناء العذر والعفو ودفع العقوبة ، ومن الإعجاز في الآية التعدد والكثرة في الأفراد الذين يشملهم الإستثناء وهم :
أولا : الرجال .
ثانيا : النساء .
ثالثا : الأولاد والصبيان من الذكور والأناث , ومنهم أبناء الذين كفروا الذين يقعون تحت سلطة ونفوذ آبائهم .
وهل يشمل الإستثناء العبيد والإماء كباراً أو صغاراً ، الجواب نعم ، ولا يختص الأمر بالمستضعفين من المسلمين إنما يشمل كل المستضعفين ومنهم الذين صار استضعاف الغير لهم برزخاً دون معرفتهم بدعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحكامها والتدبر فيها .
وذكر المستضعفون في آية استثناء بالتعريف بالألف واللام بقوله تعالى [إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ] ( ) لبيان معرفتهم وبيان حالهم ، وليس لأي أحد أن يقول أنا مستضعف ، أو أن يدافع عن الذين كفروا ، ويوجد لهم العذر بأنهم مستضعفون .
ترى كيف يكون ظلم النفس في قوله تعالى [ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ]( )، فيه مسائل :
الأولى :اختيار الكفر .
الثانية : البقاء على مفاهيم الضلالة .
الثالثة : تعاهد عبادة الأوثان .
الرابعة : محاربة الإسلام .
الخامسة : إعانة الذين كفروا .
السادسة : الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف .
السابعة : الإستهزاء بالمسلمين لإيمانهم , وصبرهم وجهادهم ودفاعهم عن النبوة والتنزيل .
الثالث : تعاون المسلمين في العمل وفق أحكام القرآن ، وإن كانوا في بلدان متباعدة ، إذ كتب المهاجرون إلى المسلمين الذين في مكة بما نزل بخصوصهم , وما يجب عليهم من التدارك والهجرة .
ليكون من معاني قوله تعالى [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى] ( ) المناجاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين المسلمين مع الإختلاف في مواطن السكن .
وبدل أن يقاتل نفر من المسلمين إلى جانب المشركين ، صار المشركون يقاتلونهم لأنهم اختاروا الهجرة .
وهل هؤلاء المسلمون في حال دفاع أو غزو وهجوم .
الجواب هو الأول ، وهم من المستضعفين ويشملهم قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) وان لم يكونوا حاضرين في المعركة ، وفيه وجوه :
الأول : توجه الخطاب في الآية إلى كل المسلمين .
الثاني : النصر في بدر نصر لكل المسلمين , ومنهم الذين كانوا مستضعفين في مكة , ولاقوا من كفار قريش أشد ضروب القمع السلوكي والإجتماعي والسخرية بسبب معتقد التوحيد .
الثالث : كان المسلمون في حال ضعف واستضعاف ، وهو من مصاديق الذلة التي ذكرتها الآية أعلاه .
الرابع : تضمنت الآية أعلاه الأمر للمسلمين والمسلمات جميعاً بتقوى الله والخشية منه في السر والعلانية .
ومن التقوى الهجرة من مكة واللحوق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ، قال تعالى [وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا]( ).
الخامس : أختتمت آية ببدر بقوله تعالى [لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]( ) ومن شكر المسلمين الأوائل لله عز وجل المبادرة إلى الهجرة مع الأمن ورجحانه.
وتكفلت الشرائع السماوية وأغلب أنظمة الممالك القديمة والدساتير الحديثة حق التنقل والإنتقال والإقامة والسكن للإنسان ولو بضوابط بلدية مخصوصة .
ولكن حينما غادر المسلمون الذين بقوا في مكة إلى المدينة خرج المشركون خلفهم بالأسلحة والخيل لمنعهم وردهم وقتالهم ، مما يدل على أن المشركين جبارون يمنعون الناس من أدنى حق من حقوقهم ، وهو الإعراض عن الفتنة والقتال بالباطل ،وفيه مسائل :
الأولى :أنه شاهد بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر أصحابه الذين بقوا في مكة بالقتال ولو دفاعاً .
الثانية : لم يحث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه على اللحوق به في الهجرة .
الثالثة : لم ينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه عن عدم البقاء بين ظهراني المشركين إلى أن نزل القرآن بالهجرة .
الرابعة : لم يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بمباغتة رؤساء الكفر في بيوتهم ، أو اغتيالهم على نحو القضية الشخصية .
الخامسة : لم يدع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تأليف جماعات ضغط وتأليب ضد المشركين خاصة وأن من أسرار البيت الحرام أن معالم الإيمان فيه لا تنقطع إلى يوم القيامة .
السادسة : لم يقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه أو طائفة منهم أبقوا في مكة أدعو الناس للإسلام ، وكونوا عيوناً على المشركين ، وأفسدوا عليهم أمرهم .
ولكن القرآن هو الذي نزل ليبين ما يجب عليهم ، ويتجلى هذا الوجوب بالهجرة وليس القتال أو الهجوم .
وذكرت أسباب أخرى لنزول الآية وهي :
الأول : نزلت الآية في رهط من أهل مكة دخلوا الإسلام ، ولم يهاجروا منهم :
أولاً : قيس بن الفاكه بن المغيرة .
ثانياً : قيس بن الوليد بن المغيرة .
ثالثاً : الحارث بن زمعة بن الأسود .
رابعاً : أبو العاص بن منبه بن الحجاج .
خامساً : علي بن أمية بن خلف .
ولما خرج المشركون إلى معركة بدر خرجوا معهم ، فلما التقى الفريقان ، ورأوا قلة عدد المسلمين قالوا [غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ] ( ) فقتلوا يوم بدر ، وضربت الملائكة وجوه وأدبار المشركين وهزموهم ، وقال الثعلبي : وانهم أظهروا الإيمان وأسرّوا النفاق) ( ).
والمختار أن النفاق أمر مستحدث في المدينة ، عندما تجلت معاني المنعة للمسلمين فيها ، وتم النصر في معركة بدر ، وصار أداء الفرائض العبادية أمراً محبوباً للناس ، والإمتناع عن الإسلام باعثاً للنفرة في النفوس .
الثاني : نزلت الآية في أفراد من المسلمين ردهم المشركون إلى مكة عن قتادة ( ) وإذا جاء أجلهم توفتهم الملائكة في بيوتهم ، وما هو أعم من ميدان المعركة إلى جانب المشركين ، فكيف يصدق عليهم ظلمهم لأنفسهم ، هل لعدم إختيارهم الهجرة .
الجواب لا ، وعلى فرض صحة هذا السبب فأن المقصود عدم تعاهدهم لإيمانهم .
الثالث : نزلت الآية في ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم فاذا أصابه بلاء من الله أو مصيبة في أنفسهم أفتتنوا( ) قاله مجاهد .
الرابع : عن مقاتل نزلت الآية في عياش بن أبي ربيعة بن مغيرة القرشي من بني مخزوم ، إذ أنه أسلم في مكة ، وخشي من أهل بيته( ) ومنهم أبو جهل الذي هو أخوه لأمه ، وكان يجاهر بالعداوة والحرب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذين آمنوا .
فخاف عياش على نفسه فهاجر إلى المدينة مع عمر بن الخطاب قبل هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إليها ، فحلفت أمه أسماء بنت مخرمة التميمية على أمور مجتمعة :
الأول : الإضراب عن الطعام .
الثاني : الإمتناع عن شرب الماء ونحوه .
الثالث : عدم غسل رأسها ، والمراد غسل البدن .
الرابع : الإمتناع عن دخول بيتها أو أي بيت إلى أن يرجع إليها عياش ، وهل كان يمين واضراب أمه من محاربة الإسلام وميلاً لأبي جهل أم أنه من رأفة وحب الأم لولدها ، المختار هو الأول .
ولم يصبر أبو جهل وأخوه الحارث ابنا هشام على حال أمهما وما أصابها من الحسرة والجزع على ولدها ولجوئها إلى الحلف واليمين .
فخرجا في ظلمة الليل ، قاصديَن المدينة ، فلما وصلا إليها ، التقيا بعياش بن أبي ربيعة ، وأخبراه بحال أمهم وذكّراه بشدة حبها له على نحو الخصوص من بينهم ، وكيف أنه كان باراً بها .
وقالا له : ان دينك يوصي بالبر بالوالدين ورّغباه بالرجوع إلى مكة ، فأخذ عليهما المواثيق أن لا يصرفاه عن دينه ، ولا يحملانه على ترك الإسلام , ولم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد هاجر إلى المدينة بعد ، فأجاباه لما سأل فعاد معهما .
وكانت أمه قد صبرت ثلاثة أيام ثم لما علمت بخروج ولديها خلفه أكلت وشربت ، ولم يستطع أبو جهل وأخوه الحارث التعرض لعياش بسوء في يثرب لوجود المهاجرين والأنصار .
ترى لماذا لم ينتقم منهما المهاجرون خاصة لشدة إيذائهما لهم الظاهر انهما جاءا إلى المدينة في شهر حرام .
فلما خرجا من المدينة وبلغا موضعاً يأمنان فيه ، أوثقاه ، وأمراه أن يتبرأ من دين محمد ، فأبى عليهما ، وذكرّهما بالأيمان والمواثيق التي قطعاها له في المدينة ، فأغلظا عليه ، وجلده كل واحد منهما مائة جلدة .
ولما أشرف على الهلاك أجابهما وتبرء من الدين .
وقال مقاتل والكعبي : فانزل الله سبحانه فيه [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ]( ).
وهذا المعنى في سبب نزول الآية أعلاه بعيد , بدليل الرخصة والعفو في قوله تعالى [مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ] ( ) .
وفي موضوع هذه الآية ذكر أن رسول الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد الهجرة قال لأصحابه الذين كانوا في مكة ، ولم يهاجروا إلى الحبشة أو المدينة (تفرقوا عني ، فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل ، ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل ، فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض ، فالحقوا بي .) ( ).
ولعل الجملة الأخيرة موجهة إلى غير الذين ندبهم للخروج في أول وآخر الليل إلى المدينة .
وفي صباح اليوم الذي غادر فيه رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم مكة مهاجراً , أصاب كفار قريش الغيظ , وصاروا في حال غضب لأنهم لم يستطيعوا قتله , ولأنهم يدركون أن الهجرة نوع طريق لإنتشار الإسلام , من جهات :
الأولى : إطلاع الناس على معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثانية : وجود أنصار مسلمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة .
الثالثة : سبق طائفة من المسلمين النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الهجرة إلى المدينة .
الرابعة : إقامة المسلمين الصلاة في المدينة يثرب قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها , وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] ( )، الجواب نعم.
الخامسة : سخط أهل مكة على كبار المشركين فيها بسبب هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , وفي عيسى ورد قوله تعالى [وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنت] ( ) , ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : (جعلني نفاعاً للناس أين اتجهت) ( ).
وتحتمل هذه البركة بلحاظ نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجوهاً:
الأول : ذات البركة التي لعيسى عليه السلام عند النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثاني : إختصاص عيسى عليه السلام بالبركة .
الثالث : بركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من بركة عيسى عليه السلام .
أما الأول أعلاه فهو صحيح لإتحاد موضوع النبوة في تنقيح المناط ، وأما الثاني فبعيد لأن الله عز وجل إذا أنعم على الأنبياء خاصة أو على أهل الأرض بنعمة فهو أكرم من أن يرفعها .
وأما الثالث فهو صحيح أيضاً لأن الله عز وجل يتفضل بالزيادة والنافلة في البركة والنعمة ، وتتجلى البركة بنزول آيات القرآن ، ودخول الناس الإسلام في أيام النبوة ، فلم يغادر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا وقد ساد الإسلام في الجزيرة، ونودي بالأذان في الآفاق ،وأقيمت صلاة الجماعة في المدن والقرى، وفي التنزيل [وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ]( ).
لقد أوذي عمار بن ياسر من قبل المشركين ، ولم يتركوه حتى قام بسب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال ما يرضيهم فشق عليه ، فهاجر إلى المدينة بدينه وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر .
ويروي ابنه محمد بن عمار قال (أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سبّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر آلهتهم بخير ، ثم تركوه فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : شر ما تركت حتى نلت منك , وذكرت آلهتهم بخير .
قال : كيف تجد قلبك؟
قال : مطمئن بالايمان . قال : إن عادوا فعد . فنزلت { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان }( ) .
وأخرج ابن سعد عن محمد بن سيرين : إن النبي لقي عماراً وهو يبكي ، فجعل يمسح عن عينيه ويقول : أخذك الكفار فغطوك في الماء فقلت كذا وكذا . . . فإن عادوا فقل ذلك لهم) ( ).
وحال عياش مثل عمار وما أصابه ، فلا أصل لما ورد في أسباب نزول الآية أعلاه بخصوصه [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ] ( ).
وعن ابن عباس ما يدل على أن المراد منها موضوع مختلف وأنه يتعلق بمسلمين أخرجوا إلى جانب المشركين في معركة بدر.
فجاءت الآية أعلاه لبعثهم على التدارك والنجاة بالهجرة وكاتبهم إخوانهم وأصحابهم من المهاجرين فهاجروا إليهم .
لقد قام أبو جهل والحارث بضرب وإيذاء عياش في طريقهم إلى مكة ، وكان الحارث أشدهما عليه .
فحلف عياش بالله ليضربن عنق الحارث إن قدر عليه خارجاً من الحرم .
ولما رجع الثلاثة إلى مكة بقوا مدة فهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة ، فوجد عياش بعدها فرصة فلحق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحسن اسلامه ، وقال ابن عباس (ثم عاش بعد ذلك بدهر وحسن إسلامه) ( ).
ومرت الأيام ، وهدى الله عز وجل الحارث بن هشام وهاجر إلى المدينة ، وحضر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونطق بالشهادتين وبايعه ، ولم يكن عياش يعلم باسلامه .
فلقيه يوماً بظهر قرية قباء ، وهو يظن أنه لم يدخل الإسلام .
فقتله , فقيل له : إن الرجل قد أسلم .
فاسترجع عياش وأخذ يبكي خاصة وأنه أخوه لأمه ، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره بالأمر وشدة ندامته .
فانزل الله عز وجل [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا] ( ).
ولا دليل على أن المقصود في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ]( ) بخصوص عياش وأمثاله ممن أوذي في الله وأكره على ذم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلسانه.
ولو دار الأمر بين تلفظ المسلم بمعاني الكفر تحت التعذيب بين التقية والإكراه أم بقصد الإرتداد، فالصحيح هو الأول .
ولو نطق بكلمات الكفر مكرهاً ثم هاجر فلا تكون هذه الهجرة توبة من إرتداد إنما هي إمتداد لإيمانه إلا مع القرينة الصارفة .
لقد ورد لفظ [الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ]( )، مرتين، والآية الأخرى بلفظ (تَتَوَفَّاهُمْ ) وهو قوله تعالى [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]( ) .
فالقوا السلم إرادة لحظة الإستسلام والإحتضار والإشراف على مغادرة الحياة الدنيا طوعاً أو كرهاً ، وقد انكروا إصرارهم على الكفر وإرتكابهم السيئات كذباً وزوراً , وخشية من العذاب الأخروي الأليم للتسليم به ساعة الموت ، (وعن الأخفش : أنه الصلح) ( ).
ومن الإعجاز في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] ( ) أمور :
الأول : الحث على الهجرة لسلامة الدين .
الثاني : الثناء على المهاجرين .
الثالث : شكر المهاجرين لله عز وجل على تيسير أمر الهجرة , وما يترشح عنها .
الرابع : التخفيف عن المهاجرين لما لاقوه من الأذى ، وما لحقهم من فقدان أموالهم وأملاكهم .
الخامس : البشارة بالأجر والثواب للمهاجرين واقترانها في القرآن بالبشارة للأنصار ، وهو من مصاديق الأخوة الإيمانية بينهم ، والتداخل في جهادهم ، قال تعالى [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ] ( ).
السادس : قيدت الآية توجه اللوم من الملائكة بأمور :
الأول : حال الإستضعاف .
الثاني : الظلم للنفس .
الثالث : العزوف عن الهجرة مع القدرة والتمكن منها وتهيئة مقدماتها.
وفي حج البيت الحرام قيّد الله عز وجل وجوبه بالإستطاعة بقوله تعالى [وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً] ( ) فلابد في الهجرة من تنجز وتيسير طرقها .
وهل في ذكر الهجرة في آيات متعددة في القرآن دليل على تفضل الله بتيسير مقدماتها ، الجواب نعم , قال تعالى [وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] ( ).
الرابع : إرادة أوان الموت بلحاظ أن الذي يظلم نفسه ولم يمت على هذا الظلم قد تدركه التوبة والإنابة ، وهل في الآية حث على التوبة لهؤلاء المستضعفين .
الجواب نعم ، وهو من إعجاز القرآن بأن يأتي الذم لقوم لتصلح أقوام وأمم .
وتحتمل آية [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ] ( ) من جهة القتال والغزو وعدمه وجوهاً :
الأول : لا صلة موضوعية أو حكمية بين الآية وبين القتال والغزو .
الثاني : تبعث الآية على القتال الدفاعي , لخبث العدو الكافر وقصده قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه أو أسرهم ، ولو قام المشركون بأسر الصحابة فهل يأذنون لهم بالصلاة والصيام ، الجواب لا .
وإن قلت قد أذن كفار مكة لخبيب بن عدي الأنصاري الأوسي, ويسمى بليع الأرض , بأن يصلي ركعتين عندما أرادوا صلبه بعد شرائهم له من بني لحيان الذين أعطوه وأصحابه الأمان ، ثم غدروا بهم ، فلما خرجوا بخبيب (من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب دعوني أصلى ركعتين فتركوه فركع ركعتين وقال والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت ثم قال :
اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا) ( ).
(لَقَدْ أَجْمَعَ الْأَحْزَابُ حَوْلِي وَأَلّبُوا قَبَائِلَهُمْ وَاسْتَجْمَعُوا كُلّ مَجْمَعِ
وَكُلّهُمُ مُبْدِي الْعَدَاوَةَ جَاهِدٌ عَلَيّ لِأَنّي فِي وَثَاقٍ بِمَضْيَعِ
وَقَدْ قَرّبُوا أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَقُرّبْتُ مِنْ جِذْعٍ طَوِيلٍ مُمَنّعِ
إلَى اللّهِ أَشْكُو غُرْبَتِي بَعْدَ كُرْبَتِي وَمَا أَرْصَدَ الْأَحْزَابُ لِي عِنْدَ مَصْرَعِي
فَذَا الْعَرْشِ صَبّرْنِي عَلَى مَا يُرَادُ بِي فَقَدْ بَضَعُوا لَحْمِي وَقَدْ يَاسَ مَطْمَعِي
وَقَدْ خَيّرُونِي الْكُفْرَ وَالْمَوْتُ دُونَهُ فَقَدْ ذَرَفَتْ عَيْنَايَ مِنْ غَيْرِ مَجْزَعِ
وَمَا بِي حِذَارُ الْمَوْتِ إنّي لَمَيّتٌ وَإِنّ إلَى رَبّي إيَابِي وَمَرْجِعِي
وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا عَلَى أَيّ شِقّ كَانَ فِي اللّهِ مَضْجَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الْإِلَهِ وَإِنْ يَشَأْ يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزّعِ
فَلَسْتُ بِمُبْدٍ لِلْعَدُوّ تَخَشّعًا وَلَا جَزَعًا إنّي إلَى اللّهِ مَرْجِعِي) ( ).
والجواب أنها قضية عين وهما ركعتان ، قبل الصلب والقتل ظلماً وجوراً ، ثم أن أداء الصلاة عن حرية يختلف تماماً عن أدائها في الأسر عند المشركين ، ليكون من معاني دفاع المسلمين الإمتناع عن وثاق في الأسر ، وهو من عمومات قوله تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثالث : ترغّب الآية بالغزو .
الرابع : تزجر الآية عن القتال والغزو .
الخامس : ترغب الآية بالإمتناع عن القتال .
والصحيح هو الأخير ، ويتعلق موضوع هذا الترغيب والتحذير بجهات:
الأولى : المسلمون .
الثانية : أهل الكتاب .
الثالثة : الذين كفروا وأصروا على الجحود بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
إذ تحث الآية على هجرة عامة المسلمين ، ومنهم الفقراء والنساء والأبناء الذين يأمرهم آباؤهم بترك الإسلام والعزوف عن الصلاة .
وهذه الهجرة سبيل إلى عدم القتال لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر الذين هاجروا قبله أو بعده بالقتال ، إنما أمرهم بالصلاة والصيام والنسك والصلاح .
ومن أشق الأمور على الإنسان الهجرة عن بلده وشد الرحال للغربة ، ودخول عالم مجهول من الصلات الإجتماعية والسكن وأسباب الرزق ، خاصة في الجزيرة آنذاك , وموضوعية وأثر النظام القبلي في حياة الناس ، وبالهجرة يتخلى الإنسان عن ظهير وسند ورديف وهم القبيلة .
فجاءت الآية السابعة والتسعون من سورة النساء بحث المسلمين على الهجرة والثناء على المهاجرين ، وتتضمن الوعد الكريم للمهاجرين .
وهل تشمل الآية النساء وبعثهن على الهجرة ، الجواب نعم لأصالة العموم، ويدل على منافع الهجرة قوله تعالى [وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] ( ) لبيان الثواب العظيم على ذات الهجرة وإن لم يكن فيها قتال أو كونها مقدمة لقتال .
وإن كان أفراد موضوع الإستثناء في الآية التالية لها [إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً] ( )من النساء أكثر منهم من الرجال لمشقة أسباب الهجرة على النساء مع إقامة الحجة على قيام بعض النسوة بالهجرة مع أزواجهن أو آبائهن أو أبنائهن , ومنهن من هاجرت بمفردها في صفحة جهادية مشرقة كما في قصة أم كلثوم بنت عقبة التي أسلمت قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة مع أن أهلها من رؤساء الكفر وتحملت الأذى في سبيل الله واللحاق برسوله الكريم .
وكانت ترى بأم عينها كيف يُعذَب المسلمون في مكة قبل وبعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ,
وضاقت ذرعاً بظلم وتعدي الذين كفروا ، وعزمت على الهجرة في السنة السابعة للهجرة وبعد صلح الحديبية والذي شرط فيه مندوب كفار قريش سهيل بن عمرو على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (على أنه لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا فقال المسلمون سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما) ( ).
وفي بعض الأخبار أن الشرط عام يشمل النساء ومن غير تقييد بالرجال وأنه نسخ بقوله تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ] ( ) .
إ ذ تدل الآية أعلاه على جواز هجرة المؤمنات ولزوم قضاء حوائجهن وحسن إيوائهن .
فجاء القيد في الشرط بتعلقه بالرجال على نحو الخصوص دون النساء .
فخرجت أم كلثوم من مكة بمفردها وكأنها تريد حائطاً وبستاناً لأسرتها في الطائف ، فوجدت شخصاً من خزاعة والتي دخلت في حلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقيل أنها وجدت قافلة لهذا الرجل ، وأخبرته بأنها تريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ، فأحسن صحبتها وأوصلها بأمانة وأمان إلى المدينة ، واستبطأها أهلها ، فخرجوا يبحثون عنها ، فسألوا الناس المقيمين على الماء والركبان ، وعلموا أنها توجهت إلى المدينة المنورة ، فجاء أخواها عمارة والوليد ابنا عقبة خلفها إلى المدينة لمقام الصلح بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم قريش وطمعاً لما اتصف به من الوفاء وتعاهده للعهود والمواثيق ، ومع ما عرف عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الصدق والأمانة ، قبل وبعد البعثة النبوية ، فقد تجلت بعد النبوة للناس خصلة الوفاء التي يتصف بها .
(وَقَالَ أَنَسُ بْنُ زُنَيْمٍ الدّيلِيّ يَعْتَذِرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ مِمّنْ كَانَ قَالَ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيّ :
أَأَنْتَ الّذِي تُهْدِي مَعَدّ بِأَمْرِهِ … بَلْ اللّهُ يَهْدِيهِمْ وَقَالَ لَك اشْهَدْ
وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا … أَبَرّ وَأَوْفَى ذِمّةً مِنْ مُحَمّدِ
أَحَثّ عَلَى خَيْرٍ وَأَسْبَغَ نَائِلًا … إذَا رَاحَ كَالسّيْفِ الصّقِيلِ الْمُهَنّدِ
وَأَكْسَى لِبُرْدِ الْخَالِ قَبْلَ ابْتِذَالِهِ … وَأَعْطَى لِرَأْسِ السّابِقِ الْمُتَجَرّدِ
تَعَلّمْ رَسُولَ اللّهِ أَنّك مُدْرِكِي … وَأَنّ وَعِيدًا مِنْك كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ
تَعَلّمْ رَسُولَ اللّهِ أَنّك قَادِرٌ … عَلَى كُلّ صِرْمٍ مُتْهِمِينَ وَمُنْجِدِ
تَعَلّمْ بِأَنّ الرّكْبَ رَكْبُ عُوَيْمِرٍ … هُمْ الْكَاذِبُونَ الْمُخْلِفُو كُلّ مَوْعِدِ
ونَبّوْا رَسُولَ اللّهِ أَنّي هَجَوْته … فَلَا حَمَلَتْ سَوْطِي إلَيّ إذَنْ يَدِي
سِوَى أَنّنِي قَدْ قُلْت وَيْلَ أُمّ فِتْيَةٍ … أُصِيبُوا بِنَحْسِ لَا يُطْلَقُ وَأَسْعُدِ
أَصَابَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِدِمَائِهِمْ … كِفَاءُ فَعَزّتْ عِبْرَتِي وَتَبَلّدِي
فَإِنّك قَدْ أَخْفَرْت إنْ كُنْت سَاعِيًا … بِعَبْدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ وَابْنَةِ مَهْوَدِ
ذُؤَيْبٌ وَكُلْثُومٌ وَسَلْمَى تَتَابَعُوا … جَمِيعًا فَإِلّا تَدْمَعْ الْعَيْنُ أَكْمَدْ
وَسَلْمَى وَسَلْمَى لَيْسَ حَيّ كَمِثْلِهِ … وَإِخْوَتِهِ وَهَلْ مُلُوكٌ كَأَعْبُدِ ؟
فَإِنّي لَا دِينًا فَتَقْت وَلَا دَمًا … هَرَقْت تَبِين عَالِمَ الْحَقّ وَاقْصِدْ) ( ).
وعندما دخل عمارة والوليد إلى المدينة توجها إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقالا له : يا محمد أوف لنا بشرطنا ، ولم يخاطبا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصفة النبوة مع أنها حق ، ولم يغضب أو يسخط منهما مع أنه بين أصحابه من المهاجرين والأنصار .
فقالت أم كلثوم : أتردني يا رسول الله إلى الكفار يفتنوني عن ديني , ثم بينت له أنه لا طاقة لها على التعذيب , ثم قالت : وحال النساء في الضعف ما قد علمت .
فأنزل الله عز وجل الآية أعلاه من سورة الممتحنة , وقيل نزلت الآية في امرأة تسمى سعيدة ، وكانت تحت صيفي بن الراهب (وهو مشرك من أهل مكة) ( ) .
والأصح أنها نزلت في أم كلثوم وإن كانت حكماً عاماً .
وكان امتحان المؤمنات أن يحلفن بالله أنهن لم يخرجن لنشوز وخصومة ، إنما خرجن من مكة ومن أهليهن وقراهن حباُ للإسلام وتعاهداً للإيمان .
وإذا كانت المؤمنة المهاجرة متزوجة من أحد الكفار بعث المسلمون له المهر الذي دفعه لها .
وإذا أختارت مسلمة الرجوع إلى الكفار فان المسلمين لا يمنعونها، مما يدل على عدم الإكراه في تلك الأيام ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لا يشهرون سيفاً ، إنما يبغون جذب الناس إلى سبل الإيمان ، قال تعالى [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ] ( ).
نعم التي تختار الكفر والإرتداد بسبب الزوج ونحوه تكون من مصاديق آية البحث [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ] ( ) وهي لم تكن مستضعفة إنما تركت العز في النشأتين ، واختارت الذل والهوان في الدنيا، والعذاب في الآخرة .
ومن إعجاز الآية انها ذكرت عاقبة الذين ظلموا أنفسهم بقوله تعالى [فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا]( ) لبيان أن إعتذارهم بالإستضعاف لم ينفعهم لما في إقامتهم مع الذين كفروا من الأضرار منها :
الأول : تكثير سواد المشركين ، فان قلت من المستضعفين من لا يخرج للقتال ، ومنهم النساء والصبيان.
والجواب نعم هذا صحيح ، ولكن إقامتهم بين ظهراني المشركين والقيام بأعمال وشؤون العمل والمنازل نوع عون لهم .
الثاني : حجب هؤلاء الذين يدّعون الإستضعاف منافعهم عن المسلمين.
الثالث : صيرورتهم سبباً وأسوة لغيرهم من الناس، ممن بقي مقيماً مع الذين كفروا .
الرابع : بيان المنافع العظيمة للهجرة .
الخامس : البشارة بعودة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين إلى مكة بلواء التوحيد .
لقد هاجر المسلمون إلى المدينة فرادا أو كل اثنين وثلاثة وأربعة معاً ، مع الخوف والخشية من الذين كفروا .
ومنهم من هاجر قبل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من هاجر بعده ، وقد وثقت سنة هجرته الشريفة بأنها الأولى للتقويم الهجري الذي أصبح ملاك الحساب عند المسلمين ، وقد مرت عليه أربعمائة وتسع وثلاثون سنة والمسلمون يتعاهدونه ، ويتفاخرون به ويحسبونه جزء من ميراث النبوة .
وفي كل صفحة مشرقة من السنة النبوية ومواريث الأنبياء دعوة للناس للهداية والإيمان ، وحث لهم لإجتناب ظلم النفس والغير والإصرار على الكفر .
وهل يكون هذا الإصرار ميراثاً ، الجواب نعم ، قد يكون ميراثاً قبيحاً يأخذه الابن من أبيه , وحينما توجه إبراهيم عليه السلام لابيه وقومه باللوم على إقامتهم على الأصنام اعتذروا بأنهم وجدوا آبائهم يعبدونها، وفي التنزيل [إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ] ( ) وذكر الآية أعلاه لأب إبراهيم ، دعوة للأبناء لعدم محاكاة الآباء في عبادة الأصنام التي كانوا يعكفون عليها في مكة وفي قراهم .
ويحتمل الظلم للنفس في قوله تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ] ( ) وجهين :
الأول : إنه من الكلي المتواطئ الذين يكون على مرتبة واحدة في الظلم للنفس .
الثاني : إنه من الكلي المشكك الذين يكون على مراتب متفاوتة في الشدة والضعف .
والصحيح هو الثاني ، فالكفار الذين يحاربون النبوة والتنزيل أشد ظلما لأنفسهم من غيرهم ، ومن خصائص هذه الآية مسائل :
الأولى : زجر الذين كفروا عن التمادي في ظلم النفس .
الثانية : تأكيد القبح الذاتي للكفر ، وبيان سوء عاقبته ، وفي التنزيل [وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا] ( ).
الثالثة : التذكير بحال الإنسان عند الإحتضار والإخبار عن قانون وهو حضور الملائكة عند موت الإنسان ليبدأ عالم آخر له يتقوم بالحساب من غير عمل .
الرابعة : دعوة الناس جميعاً إلى التوبة والإنابة .
الخامسة : بعث النفرة في التقوى في إعانة الظالمين في هجومهم على المدينة ، ومحاربتهم للنبوة والتنزيل .
السادسة : ترغيب الناس باستقراء المسائل وأحكام السيرة والسلوك من التنزيل .
وتدل الآية في مفهومها على وجود أمة من الناس تتوفاهم الملائكة وهم في غبطة وسعادة لتحليهم بالتقوى وصبرهم في مرضاة الله ، وفي التنزيل [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ] ( ) .
لبيان أن الملائكة يخبرون الإنسان ساعة الإحتضار عن عاقبته ودار مقامه في الآخرة ، فيبشرون المؤمن بحسن اللبث في الجنة ، ويتوعدون الكافر بالعذاب بالآخرة لأنه ظالم لنفسه ، فلم تذكر الآية كفره وجحوده إنما ذكرت ظلمه لنفسه لبيان أنها نوع وديعة عنده لا يحق له ظلمها والإساءة لها باختياره الكفر ومحاربة النبوة والتنزيل .
ترى لماذا لم ينفع الذين كفروا اعتذارهم بأنهم مستضعفون ، الجواب لبيان قانون للناس وهو لزوم عدم إعانة رؤساء الكفر في هجومهم وغزوهم ديار المسلمين ، وليمتنعوا عن نصرتهم ، وهو الذي تجلى في عجز قريش عن حشد وجمع الجيوش لمحاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في السنة السادسة للهجرة وما بعدها ، فلجأوا إلى أمرين مجتمعين :
الأول : الصلح والموادعة ، كما في صلح الحديبية .
الثاني : المكر والخبث والضرر .
إذ قاموا باعانة حلفائهم من بني ديل بالرجال والسلاح على خزاعة وهم حلفاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وقد بعث الله عز وجل النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ليعيش الجميع أخواناً متحابين في رضوان الله ، ويتسابقون في أداء الفرائض والواجبات العبادية ، فكان فتح مكة برزخاً دون استمرار القتال والحروب في الجزيرة .
وسبباً في نجاة الناس من الموت على ظلم للنفس والغير ليكون من معاني ومفهوم قوله تعالى [الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ] ( ) البشارة بنجاة شطر من الناس من هذا الموت على ظلم النفس .
وتتجلى هذه البشارة بالتوبة والإنابة ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوصي أمراء وأفراد السرايا بأمور :
الأول : عدم الإجهاز على جريح ، فان قلت وإن كان هذا الجريح قد أسرف في قتل المسلمين ، الجواب نعم ، لأصالة الإطلاق ، وعدم صدور استثناء من النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : عدم اتباع مدبر في سواء وهو في الميدان , أو أختار الهرب والفرار ، ليكون هذا الفرار مقدمة للتوبة ، وسبباً لصيرورة المنهزم رسولاً إلى قومه يبين لهم معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن الفتح وإقامة حكم الله أمر حتم .
الثالث : عدم بدء الناس بقتال ، وإن كانوا يسبون ويشتمون المسلمين .
وكل أمر من هذه الأمور الثلاثة إلى جانب العفو عن كثير من الأسرى ونحوه حجة على الذين كفروا ، وترغيب لهم وللناس بالإسلام .
وكما تضمن القرآن ذم الذين أقاموا بين ظهراني الكافرين فانه حث المسلمين والمسلمات على الهجرة ورغّب فيها ، وهو من إعجاز القرآن إذ يتضمن الدعوة إلى أمر حسن ، والنهي عن ضده القبيح .
وقد ورد ذكر الهجرة وحسنها الذاتي وثوابها العظيم في القرآن منها خمس مرات في ثلاث آيات متتالية ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ).
وفي آية البحث مسائل :
الأولى : وفاة الذين ظلموا أنفسهم ، جاءت الآية بصيغة الجمع ، والمراد التفريق والتفصيل ، وتقديرها بالنسبة للمنفرد من الكفار ، الذي تتوفاه الملائكة ظالماً لنفسه ويصح أيضاً : الذي يتوفاه ملك الموت ظالماً لنفسه.
الثانية : تولي الملائكة قبض أرواح بني آدم ، لبيان تنزهها من الخطأ ، وعدم قبض روح إنسان قبل أوانه أو تأخر بقائه في الدنيا .
وهو من عمومات قوله تعالى [إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ] ( ) للتوبة والإستعداد للأجل ومغادرة الدنيا ومن مصاديق هذا الإستعداد نبذ القتال ، وإجتناب مقدماته مثل التخويف والوعيد والتهديد بالباطل .
ومن الإعجاز في السنة الدفاعية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أمور :
الأول : عدم مقابلة تهديد المشركين له وللمسلمين بمثله .
الثاني : تلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبار تجهز المشركين للقتال من غير أن يعلن النفير بين المسلمين .
لقد تجلى نفير المسلمين بأداء الصلوات الخمس في المسجد النبوي بامامة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليتفضل الله عز وجل بدفع كيد وشر الذين كفروا عنهم ، ليكون من معاني قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) أن الله عز وجل يكفي المؤمنين الذين ينقطعون إلى عبادته ، وهو الذي تجلت مصاديقه في معركة بدر ومعركة أحد ، ومعركة الخندق ، إذ عجزت جيوش الذين كفروا عن تحقيق غاياتهم الخبيثة .
وهل كفاية الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين أمر وجودي أم أمر عدمي ، الجواب هو الأول ، لذا فان هذه الكفاية لا تختص بدفع الذين كفروا ، إنما هي أعم وتتجلى بقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( ) .
فمن مصاديق كفاية الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ الآية أعلاه وجوه :
الأول : قتل عدد من المشركين في المعركة .
الثاني : ظهور النقص في جيش المشركين لقتل عدد من فرسانهم ، لذكر الآية [طَرَفًا] من الذين كفروا بما يجعل عندهم ثلمة وثغراً ينفذ منه الإيمان إلى القلوب ، ويدرك معه الذين كفروا جهلهم وعدم انتفاعهم من التدبر وحساب الأولوية وأسباب الترجيح في ميدان المعركة ، فقد جاءت قوة قاهرة تنزع عن الذين كفروا هيبتهم ، وهذه القوة سلطان التنزيل ، والمدد الملكوتي من عند الله عز وجل .
وأخبرت الآية عن قطع طرف من الذين كفروا فهل يستطيعون تداركه بعد شهر أو سنة أو أكثر بلحاظ أن قطع الطرف خسارة جسيمة ( وفي الحديث: فمال طَرَفٌ من المشركين على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم)( )، لبيان أن قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا] هو هلاك طائفة منهم مما يجعلهم عاجزين عن مهاجمة شخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطلب قتله، وتتجلى هذه الحقيقة باقتراب الذين كفروا يوم أحد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أصابته حجارتهم، ثم لم يتجدد هذا الأمر الى أن فتح الله مكة .
الثالث :نسبة بتر طائفة من الذين كفروا إن الله عز وجل لقوله تعالى [ِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) وفي هذه النسبة مسائل :
الأولى : هلاك طائفة من الناس أمر بيد الله عز وجل خاصة .
الثانية : التحذير والإنذار من سخط الله عز وجل .
الثالثة : لم يقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتل أفراد من جيش الذين كفروا وإن كانوا هم الغزاة والمعتدون .
الرابعة : بيان ماهية نصر الله عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين ، في الآية السابقة بقوله تعالى [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ]( ) وجوه :
الأول : تحقق الغلبة للمؤمنين .
الثاني : هزيمة الذين كفروا ، ورجوعهم خائبين .
الثالث: قتل طائفة من الذين كفروا ، وهل يختص قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا] ( ) بذات واقعة أحد، أم أنه أعم ، الجواب هو الثاني ، فهذا القطع والإهلاك متصل ومستمر ، وفيه إنذار للذين كفروا من إعادة الكرة والهجوم على المدينة .
فان قلت أن اللوم في قوله تعالى [لِيَقْطَعَ] لام الغاية لهذا النصر فهل يصح أن يكون ذات القطع من النصر ، الجواب نعم ، لإنبساط موضوع القطع على ذات النصر ورشحاته بالإضافة إلى تجدد ذات النصر .
وهل يختص نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذات المعارك أم أنه أعم موضوعاً ، الجواب نعم ، فكل نزول لآية قرآنية هو نصر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام ، وعدد آيات القرآن هو (6236) آية ، ويحتمل النصر بنزول الآية القرآنية وجوهاً :
أولاً : الإتحاد والقضية الشخصية .
ثانياً : تعدد مصاديق النصر بالآية القرآنية .
ثالثاً : التفرع في النصر بالآية القرآنية .
رابعاً : تجدد النصر بالجمع بين كل آيتين من آيات القرآن .
وباستثناء الوجه الأول أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من الإعجاز في نزول القرآن واستدامة تجليات النصر من جهات :
الأولى : ذات نزول الآية القرآنية .
الثانية : المضامين القدسية للآية القرآنية .
الثالثة : المسائل المستقرأة والمستنبطة من الآية القرآنية .
الرابعة : مفهوم الآية القرآنية سواء كان مفهوم الموافقة أو مفهوم المخالفة .
ومن الإعجاز مجئ الآية بصيغة المضارع [لِيَقْطَعَ] ( ) لبيان قانون وهو تجدد القطع والاهلاك للذين كفروا ، ولو تردد هذا القطع من جهة أفراد الزمان الطولية بين :
الأول : القطع والوهن والضعف لأفراد من الذين كفروا كل يوم.
الثاني : القطع والإهلاك للمشركين كل أسبوع .
الثالث : نزول البلاء والإهلاك بالمشركين كل شهر .
الرابع : إهلاك طائفة من الذين كفروا في كل معركة مع المسلمين .
الخامس : ليس من وقت أو موضوع مخصوص لهلاك الذين كفروا ، فقد يكون زمان فيه هلاك لأفراد منهم .
وقد يكونون في زمان آخر في مندوحة وإمهال من عند الله عز وجل .
وباستثناء الوجه الأخير أعلاه فان الوجوه الأخرى كلها من مصاديق ورشحات الآية الكريمة ، ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : ليقطع ويهلك الله أفراداً من جيش العدو .
الثاني : ليقطع الله طرفاً من الذين يحاربون النبي محمدا صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالث : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا بعد نصر المسلمين في معركة أحد ، لبيان أن القطع مستمر بالذين كفروا .
الرابع : أخبرت آية (ببدر) عن قانون وهو لزوم شكر المسلمين لله عز وجل على نصرهم في معركة بدر ، ليكون من ثمرات هذا الشكر قطع طرف وهلاك فرسان من الذين كفروا .
الخامس : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا سواء أعادوا الكرة بالهجوم على المسلمين أو لم يهجموا مرة أخرى ، وقد هجموا في معركة أحد ،ثم أعادوا الكرة في معركة الخندق .
السادس : ليقطع طرفاً من الذين كفروا في معركة بدر ، فان قلت قد نزلت آية القطع هذه بعد معركة أحد وبصيغة المضارع فكيف يشمل موضوعها معركة بدر ، ولا تقولون في علم الأصول بالإستصحاب القهقري ، والجواب من جهات :
الأولى : المراد من صيغة الفعل المضارع (يقطع) المعنى الأعم الشامل لأفراد الزمان الطولية .
الثانية : صدق معنى القطع وهلاك طائفة من الذين كفروا في معركة بدر.
الثالثة : تقدم الإنذارات من عند الله ورسوله إلى الذين كفروا قبل وقوع معركة بدر .
السابع : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا في المدة بين معركة بدر ومعركة أحد .
الثامن : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا في معركة أحد في السنة الثالثة للهجرة .
التاسع : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا بين معركة أحد ومعركة الخندق .
العاشر : ليقطع طرفاً من الذين كفروا في معركة الخندق .
الحادي عشر : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا كما جاء الوعيد لهم في القرآن .
الثاني عشر : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا] ( ) وهل في قطع طرف وطائفة من الذين كفروا بشارة للمسلمين والمسلمات ، الجواب نعم .
الثالث عشر : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا لتصبروا ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] ( ) .
الرابع عشر : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا لتعملوا بأحكام القرآن .
الخامس عشر : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا لتمتنعوا عن الغزو والهجوم والنهب .
السادس عشر : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا للتقيد بأحكام وقسمة الأنفال بما يرضي الله ورسوله .
السابع عشر : ليقطع طرفاً من الذين كفروا ، ولا يقدر على هذا القطع إلا الله عز وجل .
الثامن عشر : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا لتشكروا الله على هذه النعمة .
التاسع عشر : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا ليتعظ الباقون منهم .
العشرون : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا فيخفف عن المستضعفين من المسلمين .
الحادي والعشرون : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا فيدخل طرف آخر منهم الإسلام .
الثاني والعشرون : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا ليتم صلح الحديبية ، ويعيش المسلمون والناس في أمن وأمان.
الثالث والعشرون : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا فينزجر الكفار الآخرون .
الرابع والعشرون : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا فيعلم الناس أن هذا القطع والهلاك بآية ومعجزة من عند الله ، لذا نسبته الآية لله سبحانه تعالى .
الخامس والعشرون : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا لتعلموا أنه من عند الله وليس من النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وفيه منع من الغلو بشخصه الكريم ، وفي التنزيل [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ] ( ).
السادس والعشرون : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا ليتم فتح مكة من غير قتال يذكر ، فاذا سار المشركون بجيوش كبيرة وعظيمة في بدر وأحد والخندق إلى المدينة لإستئصال الإسلام ، فلابد ووفق قياس الأولوية القطعية أن يهبوا للدفاع عن مكة والأصنام التي فيها ، ولكن الله عز وجل جعل قتل بعض فرسانهم في بدر وأحد وغيرهما مقدمة للأخذ على أيدي الذين كفروا ومنعهم من الدفاع الآثم عن مكة عند قدوم النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المهاجرين والأنصار وغيرهم .
وكانت وقائع معركة فتح مكة واللطف الإلهي فيه معجزة حسية للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الأولى : أنه معجزة في السنة الدفاعية .
الثانية : فتح مكة مصداق للبشارات الواردة في القرآن ، قال تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
الثالثة : إنه مصداق إعجازي لآيات القرآن .
الرابعة : توالي واستمرار مصاديق الإعجاز في فتح مكة إلى يوم القيامة ، وفيه دعوة للناس لإقتباس الدروس والمواعظ من فتح مكة وكونه شاهداً تأريخياً على إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الغزو ، وعدم الحاجة إليه في نشر الإسلام وتحقق الفتح وهدم الأصنام وازاحة مفاهيم الشرك من الجزيرة .
السابع والعشرون : ليقطع الله طرفاً من الذين كفروا فيجعلهم عاجزين عن غزو المدينة وإختراق أسوارها .
لقد أنعم الله عز وجل على المسلمين بتخلف عشرة آلاف من جيوش الذين كفروا عن إجتياز وعبور الخندق ، الذي حفره النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حول المدينة في معركة الخندق مع بقائهم نحو عشرين ليلة محاصرين لها .
وهل هذا التخلف من مصاديق قطع الطرف في الآية ، أم أن القدر المتيقن منه هلاك طائفة من الذين كفروا ، الجواب هو الأول ، وتلك معجزة غيرية للآية القرآنية في مصداقها الخارجي المتجدد .
وقد يقول قائل بامكان عودة جيش الذين كفروا بذات العدد في المعركة السابقة أو أكثر حتى وإن قطع طرف منهم وقتل بعض فرسانهم، والجواب من جهات :
الأولى : ذكرت الآية صفة الطائفة التي تقطع وأنهم من أشراف المشركين , و(الطِّرف من الرجال: الفتى الظَّريف الأروع)( ).
ومن الإعجاز أن الآية ذكرت هلاك طائفة من المشركين بصبغة القطع لإرادة مغادرتهم الدنيا على نحو الإنخزام بالقتل والإبتلاء وليس عن كبر وشيخوخة .
ومن معاني نسبة قطع وهلاك الذين كفروا إلى الله عز وجل منع المسلمين عن البطش والإنتقام ، وإبتداع الحيلة والخدعة للإيغال بقتل الكافرين ، ومنعهم من التعدي على المسلمين ، وغزو بلادهم ، لتكون نسبة قطع الذين كفروا إلى الله عز وجل من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ] ( ) وفيه بيان لقانون بخصوص قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ]( ) إنما نال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون هذه المرتبة بفضل ولطف من عند الله عز وجل ، وهو الذي هداهم لهذه المرتبة والشأن الرفيع ، ومنه التنزه عن إشاعة القتل بين الناس لأن الله عز وجل هو الكافي لهم ، وهو سبحانه لم يقتل المشركين كلهم .
لقد خرج فرعون ونحو مليون من جنوده خلف موسى وقومه فأغرقهم الله عز وجل ببحر القلزم وهو البحر الأحمر ، أما مشركوا قريش فقد زحفوا لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم ينتقم الله عز وجل منهم جميعاً ، إنما أهلك طائفة وفرقة وطرفاً منهم .
وهل هو من عمومات قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) الجواب نعم .
الثانية : ترشح هلاك طائفة من الذين كفروا عن نصر عظيم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين , فمن فلسفة القتال أن الجيش إذا إبتدأ الهجوم والقتال ثم أنكسر وهلك عدد من قادته فانه يصاب بالإنكسار ، ويتردد القادة الآخرون في إعادة الكرة للهجوم ، فكيف وقد جاء انكسار المشركين بالمعجزة من جهات :
الأولى : انتصار المسلمين مع قلة عددهم وعدتهم .
الثانية : إخلاص المسلمين في الذب والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثالثة : استحضار الفريقين يوم أحد لنصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في معركة بدر ، وهو من الإعجاز في انحصار قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ] ( ) بخصوص معركة بدر وأحد ومن معانيه وجوه :
الأول : يوم التقى الجمعان في معركة بدر للإنذار والتحذير من التقاء الجمعين في معركة أحد.
الثاني : يوم التقى الجمعان في أحد لتنتظر ذات النتيجة في معركة بدر وهي الخسارة للذين كفروا .
الثالث : تكرار يوم التقى الجمعان بعناد وإصرار على الغزو من قبل المشركين .
الرابع : يوم التقى الجمعان في معركة بدر وأحد ، لينقطع هذا اللقاء إلى يوم القيامة، لأنه يتقوم بغزو وهجوم المشركين ، ولما انتصر الإسلام ، فليس من غزو وقتال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ] ( ).
لبيان أن نصر المسلمين لا يكون سبباً للغزو والهجوم على غيرهم ، إنما هو نوع طريق لسبل الهداية والصلاح ، وتثبيت الأقدام في مقامات الإيمان .
الخامس : يوم التقى الجمعان جمع كافر غاز ، وجمع مؤمن مدافع .
السادس : من خصائص قوله تعالى [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) الإلتقاء المكاني واللفظي بين الفريقين مع التضاد بينهما ، فقد سمّت الآية كل فريق منهما جمعاً ، لبيان أن هذا اللقاء للقتال سبب للزيادة في أعداد جمع المسلمين ، والنقص في أعداد جيش المشركين.
السابع : من وجوه تقدير الآية : يوم التقى الجمعان ، جمع يقطع الله طرفاً منه وهم المشركون ، وجمع يعود بزيادة الإيمان وهم المسلمون .
الثامن : يوم التقى الجمعان حجة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الأجيال المتعاقبة بأنه خاض وأصحابه القتال مضطرين مدافعين مستضعفين ، وهم يستغيثون بالله عز وجل .
وجاءت آيات القرآن لتخبر الناس في كل زمان عن هذه الإستغاثة كما في قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
التاسع : يوم التقى الجمعان ، ومن قتل من المؤمنين غادر إلى الجنة ، قال تعالى [وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ]( ).
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها تخاطب الأحياء من الصحابة في حال قتلهم ، فهي لم تخبر عن حال الشهداء كما في قوله تعالى [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] ( ) .
إنما تنبأ الذي قد يقتل في سبيل الله بفوزه بالمغفرة والعفو من عند الله ، وأنه ينال الرحمة بالحياة الأبدية في النعيم من حين مفارقة الأحبة ، أما جمع الذين كفروا فانهم في سخط الله والنار مثواهم سواء قتلوا في المعركة أو لم يقتلوا لأنهم حاربوا الله ورسوله إلا الذين تدركهم التوبة والإنابة .
ومن الإعجاز في قوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ] ( ) عدم إنحصار نتيجة المعركة بقتل طائفة من رؤساء الذين كفروا ، فقد يكون الكبت والخيبة هو العاقبة وهو على وجوه :
الأول : تغشي الحزن للذين كفروا مجتمعين ومتفرقين من جهات:
الأولى : الحزن على الإقامة على الكفر وعبادة الأوثان .
الثانية : الحزن للتخلف عن الإقرار بالمعجزات النبوية مع تجليها لكل ذي عينين .
الثالثة : إصابة الذين كفروا بالحزن على إنفاق الأموال الطائلة على محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن ينالوا شيئاً ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ] ( ).
الرابعة : حزن الذين كفروا لعجزهم عن الإضرار بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو وقف المد الإسلامي ودخول الناس في الإسلام .
ومن معاني قوله تعالى [لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى] ( ) خيبة الذين كفروا في ميدان المعركة وبعد مغادرة الميدان .
الخامسة : حزن الذين كفروا على قتل حملة لوائهم يوم معركة أحد واحداً بعد الآخر، وسقوطه إلى الأرض ، وحمل امرأة له ، وهي عمارة بنت علقمة الحارثية الكنانية ، وذات حمل المرأة هذا للواء ذلة وكبت للذين كفروا وإن التفوا حولها .
السادسة : حزن الذين كفروا لأنهم تركوا مكة فدخلت طائفة من أهلها الإسلام .
السابعة : حزن الذين كفروا لصدق إيمان المسلمين .
الثاني : من معاني كبت الذين كفروا يوم معركة أحد الذل وتقديره على جهات :
الأولى : ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم بالخيبة .
الثانية : ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يذلهم بسقوط اثنين وعشرين منهم قتلى في ساحة معركة أحد .
الثالثة : ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يذلهم برجوعهم إلى مكة من غير أن يحققوا أي غاية خبيثة خرجوا من أجلها .
الرابعة : أو يكبتهم بسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من القتل في معركة أحد .
الخامسة : أو يكبتهم بأن يصرعهم .
السادس : أو يكبتهم بعصمة المسلمين من الإرتداد .
السابعة : أو يكبتهم بخزيهم .
الثامنة : أو يكبتهم بانقلابهم إلى مكة خائبين .
التاسعة : أو يكبتهم لأنهم كفار يحاربون النبوة والتنزيل .
العاشرة : أو يكبتهم بالوهن والضعف .
الحادي عشرة : أو يكبتهم بارتقاء المسلمين في مراتب الفقاهة وأداء الفرائض باتقان .
ومن معاني الحرف(أو) التسوية في الحكم بين المتعاطفين كما لو قلت صل في المسجد أو البيت، ويأتي للتقسيم كما لو قلت : الصلاة فريضة بالأصل أو فريضة بالعرض أو مندوبة.
وجاء قوله تعالى[أَوْ يَكْبِتَهُمْ] من المعنى الأول فمن معاني الرحمة في آيات القرآن أنها لم تقطع بقطع طائفة من الذين كفروا بل أخبرت عن حدوث أحد أمرين:
الأول : قتل طائفة من المشركين.
الثاني : كبت وحزن الذين كفروا وفيه أمور :
أولاً : الترغيب بدخول الإسلام.
ثانياً : استجابة الله عز وجل لدعاء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في إمهال قومه والإبقاء عليهم رجاء توبتهم، وخروج جيل مؤمن من أبنائهم , وعن عائشة (أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: “لقد لقيتُ من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل ابن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردتُ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب .
فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظَلَّتْني، فنظرت فإذا فيها جبريل، عليه السلام، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم”.
قال: “فناداني مَلَك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعثني ربك إليك، لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين” .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله، لا يشرك به شيئاً)( ).
ثالثاً : إبتلاء الذين كفروا بالوهن والضعف في الدنيا، ولحوق الخزي بهم بالكبت فحتى لو لم يقتلوا فانهم بصيرون كالأموات.
رابعاً : كبت الذين كفروا برزخ دون زيادة ألوان البطش والإنتقام من قبلهم.
ويحتمل الكبت في الآية وجوها :
الأول : خاص، وتقديره: ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبت هذا الطرف على نحو الخصوص.
الثاني : شمول عامة جيش الذين كفروا بالكبت والصرع والضرر، وتقدير الآية: ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبت الذين هجموا في معركة أحد من المشركين.
الثالث : تغشى الكبت لعموم الكفار سواء ممن حضر معركة أحد أو الذين خلفهم، ومن يلحق بهم.
والمختار هو الثاني أعلاه للتقيد الوارد في خاتمة الآية [فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( )، إذ يتعلق فيه الإنقلاب والأنصراف بجيش المشركين في معركة أحد.
فيكون المقصود في الآية الكريمة أنه حتى لو لم تقتل طائفة من رؤساء الذين كفروا، وتحدث فجوة ونقص بيّن وظاهر في صفوفهم فان الخيبة والخزي يخيمان عليهم، ويصاحبانهم في إقامتهم في ميدان معركة أحد، وعند الرجوع إلى مكة.
وفيه وعد ووعيد، وعد للمؤمنين بابتلاء عدوهم بالكبت والحزن، ووعيد للذين كفروا بنفاذ الحزن إلى قلوبهم، واستحواذه على صفوفهم، وصار الكبت حاضراً بين صفوفهم، فهيئتهم عند الرجوع من معركة أحد تختلف تماماً عن هيئتهم عند الزحف والقدوم نحو المدينة للقتال .
فان قلت قد ورد قوله تعالى[الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ]( )، إذ يتعلق سبب نزول الآية أعلاه بعزم جيش أبي سفيان على العودة إلى ميدان معركة أحد والإغارة على المدينة.
وعن ابن عباس قال : لما رجع المشركون عن أحد قالوا : لا محمداً قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم . بئسما صنعتم ارجعوا . فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد؛ أو بئر أبي عنبة .
فقال المشركون : نرجع قابل . فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت تعد غزوة . فأنزل اللهالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ.
والجواب يتجلى كبت الذين كفروا بلحاظ الآية أعلاه وأسباب نزولها من وجوه :
الأول :نزول الآية بخصوص حال المسلمين بعد واقعة أحد بيوم واحد ، لتكون وثيقة تتضمن حقيقة وهي عدم إنكسارهم أو هزيمتهم في معركة أحد .
الثاني : الآية رسالة إنذار سماوية إلى الذين كفروا تفيد أنهم لم ينتصروا في معركة أحد ، وتبعث اليأس في قلوبهم بأنهم لم يكسبوا أي معركة ضد الإسلام بلحاظ استعدادهم , وكثرة عددهم وعدوهم وعدتهم في معركة أحد مقابل قلة المسلمين والنقص في عدتهم وأسلحتهم ، ثم تزايد عدد المسلمين وأموالهم ورواحلهم بعد المعركة مع النقص في عدد المشركين على نحو متصل .
الثالث : لقد أخبرت الآية أعلاه عن قانون : وهو طاعة المسلمين لله ورسوله في أشق الأحوال من جهات :
الأولى : خوض معركة أحد قبل يوم واحد .
الثانية : كثرة جراحات المسلمين يومئذ .
الثالثة : فقد سبعين قتيلاً من المسلمين في يوم واحد , وهو أمر لم يحصل في حياة المسلمين ، وجاء متعقباً بنحو عام لدخول البشير إلى المدينة بنصر المسلمين في معركة بدر ، ثم تعقبه دخول سبعين أسيراً من المشركين .
أما في معركة أحد فقد توالت الأخبار إلى المدينة بقتل عدد من الصحابة من المهاجرين والأنصار ، ليخفف الله عز وجل المصيبة عن أهلها بقدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سالماً من القتل وأن كانت الجراحات أصابت وجهه ورأسه .
الرابعة : توالي صدور التهديد والوعيد من قبل المشركين حتى بعد معركة أحد ، ومناجاتهم بالرجوع لغزو المدينة واستباحتها .
وقد يكون هذا التهديد أشد ضرراً على المسلمين من خسارتهم في معركة أحد .
الرابع : دلالة قوله تعالى [الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ] ( ) بالأولوية القطعية باستجابتهم لله ورسوله في حال السعة والرخاء .
الخامس : تقيد المسلمين بالأوامر القرآنية ودعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالصبر ، وعدم الغزو أو استباحة القرى والمدن ، لبيان قانون وهو أن الآية في مفهومها تبعث الطمأنينة في قلوب المشركين وعوائلهم وتجعلهم في مدنهم وقراهم يزاولون أعمالهم اليومية في غير خوف وفزع ، وفي التنزيل [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ] ( ).
فمن إعجاز القرآن أن تأتي آية تبين جهاد المسلمين في سبيل الله لتدل بالدلالة التضمنية على صبرهم ونفرة نفوسهم من القتال ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ).
الآية الخامسة
قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ] ( ).
لقد كان يوم معركة بدر فيصلاً بين الحق والباطل ، إذ جاهد وأجتهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ أول يوم من أيام بعثته في سبيل الله ، يدعو الناس إلى الإسلام ، ويتلو عليه القرآن ويتحمل أشد ضروب الأذى.
ومن معاني قوله تعالى [تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ] ( ) أي تستجيرون بالله عز وجل ، لبيان أن المسلمين لا يريدون القتال ، ويتجنبون المواجهة مع المشركين ويدل عليه قوله تعالى [وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ]( ) .
وبين الإستغاثة وطلب النصر عموم وخصوص مطلق إذ أن الإستغاثة أعم ، ويدرك المسلمون أن مصاديق النصر لا تنحصر بالقتال والغلبة فيه , ومنها :
الأول : نزول آيات من القرآن فيها وعد بالنصر من عند الله عز وجل للمسلمين , قال تعالى[وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ]( ).
الثاني : كل مرة يؤدي فيها المسلمون فرضاً عبادياً هو نصر لهم وللإسلام.
ومن الآيات في المقام أن فرض الله الصلاة خمس مرات في اليوم والليلة وعلى نحو الوجوب العيني على كل مسلم ومسلمة ليكون كل أداء نصراً لهم ، وكأن الأذان والنداء الجهوري للصلاة شاهد عليه .
الثالث : هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصر للإسلام يشكر المسلمون في كل زمان الله عز وجل عليها من جهات :
الأولى : الأمر من عند الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة .
الثانية : قيام الحجة على الذين كفروا بصيرورة هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة وسبيل نجاة ، إذ أحاطوا ببيته ودخلوه ليلة الهجرة وهم يريدون قتله .
الثالثة : معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طريق الهجرة ، ومنها ضرب العنكبوت على باب غار ثور الذي دخله النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، مع أن رجال قريش (وَأَخَذُوا مَعَهُمْ الْقَافَةَ حَتّى انْتَهَوْا إلَى بَابِ الْغَارِ فَوَقَفُوا عَلَيْهِ) ( ) وبقاؤه ثلاثاً في الغار إلى أن خفّ طلب الذين كفروا .
ولحقه سراقة طلباً لجائزة قريش ، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فساخت يدا فرسه في الأرض .
ومن معجزاته في طريق الهجرة عدم حمله سلاحاً أو سيفاً ، ولم يؤخر بعض أصحابه من الذين هاجروا قبله ليخرجوا معه ، ولم يأمر من بقي منهم أن يخرج معه ليستعدوا للدفاع .
إنما كان هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة غلام لأبي بكر ، والدليل عبد الله بن أريقط ، وهو من بني الديل بن بكر وكان على شركه ، وقد أحسن إختيار الطريق ، وعندما عاد إلى مكة أرسل معه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة وأبا رافع مولياه ليأتيا بالأهل .
نعم جاء مصداق من مصاديق استغاثة المسلمين بالله عز وجل (اللّهُمّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْيَوْمَ لَا تُعْبَدْ) ( ) .
إذ سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله عز وجل سلامة المسلمين من الهلاك ، وهذه السلامة أعم من أن تنحصر بالنصر في ميدان المعركة إذ تشمل عدم وقوع القتال بين المسلمين والذين كفروا .
وفي الآية ترغيب للمسلمين بالدعاء ، وعدم جعل الهجوم والقتال غاية لهم ، فقد سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم الله عز وجل سلامة المسلمين من أجل عبادتهم والتابعين لله سبحانه ، وليرثوا حفظ وتلاوة آيات القرآن وأداء الفرائض والعبادات في أقطار الأرض بسلامة وأمان ، وهذه الوراثة من مصاديق قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون] ( ) .
لقد جعل الله الحياة الدنيا دار إبتلاء وامتحان يلاحق الاختيار فيها الإنسان في بيته وعمله ، وفي يقظته ونومه ، فان قلت قد علمنا بالإبتلاء في حال اليقظة فكيف يكون في حال النوم ، والجواب من جهات :
الأولى : حدوث وقائع تخص الإنسان وتتعلق بمصلحته وهو نائم .
الثانية : رؤيا الإنذارات والبشارات في المنام والتي هي رزق عام من عند الله لم يحجبه على أحد من الناس .
الثالثة : النوم حال عرضية ينهض بعدها الإنسان للعمل ، ومنه ما يتعلق بأوان وفترة النوم .
وهل ينجو المؤمن من الإبتلاء في الدنيا ، الجواب لا .
وقد يكون أكثر بلاء من غيره , وعن سعد أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي الناس أشد بلاء .
قال : الانبياء ثم الامثل فالامثل يبتلى العبد على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاءه وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الارض ما به خطيئة) ( ).
ويتضمن الحديث أعلاه أن البلاء رحمة بالمؤمن وسبب لغفران ذنوبه وزيادة حسناته ، ومع أن حياته تتقوم بالإستغاثة بالله عز وجل ، فلم يرد لفظ [تَسْتَغِيثُونَ] في القرآن إلا في الآية أعلاه ، وبخصوص معركة بدر ، وهو لا يعني أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لم يستغيثوا بالله في أمور دينهم ودنياهم الأخرى ، فهم يستغيثون الله خمس مرات في اليوم والليلة عند أداء الصلاة اليومية ، التي هي لجوء استجارة واستغاثته بالله عز وجل .
ويمكن تقسيم الإستغاثة بالله إلى وجوه :
الأول : استغاثة الأنبياء .
الثاني: استغاثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو الخصوص واقتداء المسلمين به ، لتكون هذه الإستغاثة سنة متبعة في أجيال المسلمين المتعاقبة .
الثالث : استغاثة المسلمين بالله عز وجل .
الرابع : استغاثة الناس بالله عز وجل .
لقد لهج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء واجتهد بسؤال الله عز وجل النصر فدعا المهاجرون والأنصار بالغوث وسألوا الله عز وجل النصر على المشركين ، وفيه مسائل :
الأولى : إدراك الصحابة لقانون وهو أن النصر بيد الله .
الثانية : عجز المسلمين عن تحقيق النصر من غير عون ومدد من الله عز وجل .
الثالثة : رؤية المهاجرين والأنصار للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو يسأل الله عز وجل النصر ، ويستغيث به .
ويتضرع إليه , ومنه (اللهم أنجز لى ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الاسلام فلا تعبد بعد في الارض أبدا) ( ).
ومن خصائص استغاثة المسلمين بالله أمور :
الأول : تسليم المسلمين بأن النصر يأتي من عند الله وأنه سهم المتقين ، ومن التقوى الإمتناع عن الغزو والبطش .
الثاني : حث المسلمين على اللجوء إلى الدعاء في ساعة الشدة ، وبين الدعاء والإستغاثة عموم وخصوص مطلق فكل استغاثة دعاء وليس العكس .
الثالث : سلامة المسلمين من الغلو بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يقولون بأن الله عز وجل جعل النصر بيد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم حيث يشاء ويختار ، إنما النصر بيد الله وحده لم يفوضه لغيره من الأنبياء والملائكة ، نعم قد أنزل الملائكة مدداً وعوناً ،قال تعالى [بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ] ( ) .
وهناك مسألة : هل من ملازمة بين نزول الملائكة مدداً وبين النصر أم لا ، فقد ينزل الملائكة مدداً لدفع الهزيمة عن المؤمنين أو للحيلولة دون القتال .
والمختار هو الأول لأن الآية قيدت موضوع نزولهم بأنهم مدد وعون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه .
وتقدم قوله تعالى [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ…] ( ) على وجوه :
الأول : يا أيها النبي إذ تستغيث ربك .
الثاني : يا أيها النبي إذ تستغيث أنت أصحابك ربك .
الثالث : يا أيها النبي إذ تستغيثون ربكم .
الرابع : يا أيها الذين آمنوا إذ تستغيثون ربكم .
الخامس : يا أيها الذين آمنوا إذ تستغيثون ربكم رجاء الظفر والنصر على الكافرين ، وفي التنزيل [رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ] ( ) .
السادس : إذ تستغيثون ربكم في حال الشدة والضعف فاستجاب لكم .
السابع : إذ تستغيثون ربكم إيماناً به تعالى وإقراراً بأن مقاليد الأمور بيده سبحانه .
الثامن : إذ تستغيثون ربكم وأنتم لا تشركون يه شيئاً .
التاسع : إذ تستغيثون ربكم ، أما المشركون فيلجأون إلى الأوثان.
العاشر : إذ تستغيثون ربكم لسلامة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
الحادي عشر : إذ تستغيثون ربكم للسلامة من الإرتداد .
الثاني عشر : إذ تستغيثون ربكم الله ، وتقرون بقربه منكم وسماعه لإستغاثتكم .
الثالث عشر : إذ تستغيثون ربكم إقراراً منكم بالضعف والإستضعاف ، وهل هذه الإستغاثة من مصاديق الذلة في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ] ( ) الجواب نعم ، ومن خصائص المؤمنين الإستغاثة بالله في حال الضعف أو المنعة .
الرابع عشر : إذ تستغيثون ربكم في بدر لتدرك أجيال المسلمين أنه محل الإستغاثة بالله عز وجل .
الخامس عشر : من منافع بركات نبوة محمد أنكم تستغيثون ربكم .
السادس عشر : إذ تستغيثون ربكم لتبقى هذه الاستغاثة منهاج المسلمين في كل زمان .
السابع عشر : إذ تستغيثون ربكم في معركة بدر ومعارك الإسلام الأخرى .
الثامن عشر : إذ تستغيثون ربكم فتعرفون بأنكم الأمة التي تستغيث بالله عز وجل في الشدائد ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ) .
التاسع عشر : إذ تستغيثون ربكم، ومن يستغث به يجبه .
العشرون : إذ تستغيثون ربكم وهو الذي هداكم للإستغاثة به .
ومن الإعجاز في الآية أنها لم تكتف بذكر الإستغاثة وحدها بل ذكرت استجابة الله عز وجل للمسلمين
وأختلف هل (المغيث ) من أسماء الله عز وجل أم أنه من الصفات التي تؤخذ من الأفعال ، ومنه لفظ [تَسْتَغِيثُونَ] .
عن (شريك عن انس ان رجلا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يخطب فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائما ثم قال يا رسول الله هلكت الاموال وانقطعت السبل فادع الله ان يغيثنا قال فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه ثم قال اللهم اغثنا اللهم اغثنا اللهم اغثنا ثلاثا قال انس فلا والله ما نرى في السماء سحابة ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار قال فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت ثم امطرت .
قال انس : فلا والله ما رأينا الشمس ستا قال فدخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فاستقبله قائما فقال يارسول الله هلكت الاموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا قال فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يديه .
ثم قال اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والظراب وبطون الاودية ومنابت الشجر قال فاقلعت فخرجنا نمشي في الشمس قال شريك فسألت انسا اهو الرجل الاول فقال لا ادري).
إذ كرر النبي صلى اله عليه وآله وسلم الدعاء والتضرع : اللهم أغثنا ثلاث مرات .
والمختار أن المغيث من أسماء الله , وممن قال به القرطبي وابن القيم .
وتقدير الجمع بين إستغاثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه وبين استجابة الله عز وجل لهم على وجوه :
الأول : إذ تستغيثون ربكم رجاء الإستجابة فاستجاب لكم .
الثاني : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم , وليس ثمة فترة بين الإستغاثة والإستجابة .
الثالث: إذ تستغيثون ربكم وبيده مقاليد الأمور و[لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ]( ).
الرابع : إذ تستغيثون ربكم والكافرون لا مولى لهم.
الخامس : إذ تستغيثون ربكم الذي هداكم للإيمان.
السادس : إذ تستغيثون ربكم وهو الشاكر العليم.
السابع : إذ تستغيثون ربكم ، وهو القائل [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الثامن : إذ تستغيثون ربكم لأنكم لا تريدون قتل الذين كفروا.
التاسع : إذ تستغيثون ربكم رجاء صرف القتال عنكم وعن الناس.
لقد احتج الملائكة على جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، لأمرين:
الأول : إفساد الإنسان في الأرض.
الثاني : قيام الإنسان بسفك الدماء.
وقد تحقق مصداق هذين الأمرين بالكفار إذ عبدوا الأوثان، وأشاعوا الربا وشرب الخمر والنهب والسلب والوأد والقتل، ثم قاموا بمحاربة النبوة والتنزيل وقتلوا المؤمنين، ومن الحجج في المقام أن أول شهيد في الإسلام امرأة وهي سمية بنت خباط وفي قول بنت خبط وهي أمة لبني مخزوم، وأم الصحابي عمار بن ياسر .
وكان ياسر وأخوين له قدموا إلى مكة من اليمن، يطلبون أخا لهم وهم:
الأول : ياسر بن عامر والد عمار.
الثاني : الحارث بن عامر.
الثالث : مالك بن عامر .
فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، أما ياسر فأقام في مكة، وحالف أبا حذيفة بن المغيرة من بني مخزوم , ومن أولاد أبي حذيفة اثنان أمهما واحدة هي أم حذيفة بنت اسد من بني مخزوم وبينهما تباين وهما:
الأول : هشام بن أبي حذيفة من المهاجرين إلى الحبشة.
الثاني : أبو أمية بن أبي حذيفة أسره المسلمون يوم بدر، وقتل يوم أحد كافراً، وهو أبو أم سلمة زوج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن أولاده عبد الله بن أبي أمية، وكان شديداً على المسلمين، ولكنه أدركته التوبة، فخرج من مكة مهاجراً فلقيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلوب، فأعرض عنه رسول الله، فشفعت له أم سلمة وهي أخته لأبيه فقبل منه، وشهد فتح مكة وحنيناً واستشهد يوم الطائف .
وقام أبو حذيفة بتزويج حليفه ياسر من أمته سمية فولدت له عماراً، فاعتقه ابو حذيفة.
ومن الإعجاز في تسمية يوم معركة بدر بيوم الفرقان بقوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابن السَّبِيلِ إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] ( ) أمور:
الأول : وجوب الإيمان بالله .
الثاني : التصديق بنزول القرآن .
الثالث : تسمية النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ [عَبْدِنَا] لمنع الغلو بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر للمعجزات التي جرت على يديه , وفي ميدان المعركة ، قال تعالى [فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ).
الرابع : عدم ذكر القتال.
وصحيح أن الآية سمّت يوم بدر[يَوْمَ الْفُرْقَانِ]( )، ولكن هل ينحصر موضوع الفرقان والفيصل بين المؤمنين والذين كفروا بذات اليوم أم أن فيوضاته ومعاني الفرقان باقية إلى يوم القيامة .
الجواب هو الثاني، لأن الله عز وجل إذا أنعم على الناس بنعمة فإنه أكرم من أن يرفعها.
الخامس : معرفة الناس جميعاً بالتباين والتضاد بين المؤمنين والذين كفروا، فقد وقع السيف بينهم، والأصل في الإقتتال عند العرب أنه ينمي العداوة وحب الثأر والإنتقام .
ولكن فضل الله وتتابع نزول القرآن وآيات البشارة والإنذار وسنة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإقامة المسلمين على العبادة، وحسن معاملة المسلمين للأسرى , وتوالي دخول الناس الإسلام، وتجلي قانون : لا يطلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم القتال ولا يسعى إليه ) أمور حالت دون تمكن المشركين من الإنتقام والبطش وتحريض الدول الكبرى، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ]( ) وفيه أقوال :
الأول : قال سعيد بن جبير معناه يحول بين الكافر أن يؤمن وبين المؤمن أن يكفر.
الثاني : عن ابن عباس : بين الكافر وبين طاعته , ويحول بين المؤمن وبين معصيته.
الثالث : وقال مجاهد : يحول بين المرء وقلبه فلا يعقل ولا يدري ما يفعل.
الرابع : وروى خصيف قال : يحول بين قلب الكافر وبين أن يعمل خيراً.
الخامس : وقال السدي : يحول بين الإنسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلاّ بإذنه.
السادس : قال قتادة : معنى ذلك أنّه قريب من قلبه ولا يخفى عليه شيء أظهره أو أسره. وهي كقوله عزّ وجلّ {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}( ).
السابع : قيل : هو أن القوم لما دعوا إلى القتال في الحال الصعبة جاءت ظنونهم واختلجت صدروهم)( ).
والمختار أن الآية أعم في موضوعها، ولا دليل على شمول الوجه الأخير بمضامين الآية الكريمة، وإبتدأت الآية بنداء التشريف للمسلمين والمسلمات وبصفة الإيمان، ومن معانيها الوعد للمسلمين بأمور:
الأول : الحيلولة دون هجوم المشركين بغتة على المدينة.
الثاني : قعود شطر من المشركين عن قتال المسلمين.
الثالث : منع الناس من الإتفاق على إعانة جيش المشركين.
الرابع : إمتناع الناس عن إتباع رؤساء الكفر، لذا حينما إحتج بعضهم ممن بقي بين ظهراني المشركين عند وفاته[كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ]( )، لم يقبل منهم هذا العذر، لتعدد ضروب الإمتناع عن إعانة الظالمين، وحتى المستضعف يستطيع الحيلة ، والمفروض عدم إعانتهم بما لا يأتي معه الضرر على النفس والعرض والمال لعمومات قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا ضرر ولا ضرار)( ).
وهو حديث مشهور وإن كان في بعض طرقه مرسلاً، وتقديره : لا ضرر على النفس، ولا ضرار على الغير ، وإذا كان الملائكة لا يقبلون عذر هؤلاء المستضعفين فهناك مسائل :
الأولى : هل يقبل المسلمون عذر هؤلاء الكفار في الحياة الدنيا .
الثانية : هل قبل المسلمون عذرهم في الدنيا ، وأن قبولهم له جعلهم يكررونه مع الملائكة ساعة الوفاء .
الثالثة : هل كان هؤلاء الظالمون لأنفسهم يظنون وهم في الدنيا بأنهم مستضعفون .
أما المسألة الأولى فمن دلالات الآية نهي المسلمين عن قبول عذر الذين يقيمون بين ظهراني المشركين ويمدونهم في ظلمهم ثم يدّعون أنهم مستضعفون .
وهو من إعجاز القرآن بأن يقتدي المسلمون بالدنيا بنهج الملائكة في علم الغيب ، وما بعد الموت.
وقد ابتدأت سورة البقرة وهي أطول سور القرآن بقوله تعالى [الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ] ( ) .
أما المسألة الثانية فان وصف ظالمي أنفسهم حجة عليهم بين المسلمين وعند الناس جميعاً .
أما المسألة الثالثة فان هذه الآية تنفي مثل هذا الظن , وتهيئ لما فيها من بيان سبل النجاة لهم ، وقد فاز المسلمون بالدعاء سبع عشرة مرة في الصلاة وبصيغة القرآنية [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]( ).
وقد يقال أن بقاء عدد من المسلمين بين ظهراني مشركي مكة فيه إضرار بالإسلام، وعليهم أن يخرجوا من بينهم .
فالجواب نعم لذا جاءت البشارة في قوله تعالى[الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ]( ) .
وفيه حث على الهجرة وتيسير طرقها، وبيان فضل الله عز وجل في حسن مقام المهاجرين في المدينة، والشرف العظيم الذين ناله المهاجرون.
ومن الإعجاز نزول القرآن بإكرام المهاجرين من المستضعفين، قال تعالى[ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ]( ).
لقد التقى المسلمون الأوائل من المهاجرين والأنصار يتقدمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع جيش المشركين في اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة عند ماء بدر .
وكان المسلمون يخشون من أمور :
الأول : إصابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
الثاني : إنقطاع الوحي لو قُتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو خاتم الأنبياء .
الثالث : إشاعة القتل بين المسلمين أنفسهم لقلة عددهم وأسلحتهم .
الرابع : مبغوضية القتال بذاته .
الخامس : قتل المشركين ومغادرتهم الدنيا على كفرهم وجحودهم واصرارهم على القتال .
وهل هو من عمومات قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( ) بتقريب أن إمتلاء نفوس المسلمين بالرحمة من جهات :
الأولى : الإقتباس من رحمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالناس .
الثانية : التحلي بأخلاق القرآن .
الثالثة : رشحات ورقائق قانون إقتران الإيمان بالعفو والرحمة .
الرابع : وصايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه والمسلمين جميعاً بالرأفة بالناس مطلقاً .
السادس : إنكشاف المدينة المنورة أمام العدو الكافر ، فليس من جيش رديف يدفع المشركين عن المدينة .
السابع : عدم وجود مصر آخر للمسلمين غير المدينة.
الثامن : حاجة الإسلام وأهل الأرض لكل فرد من المهاجرين والأنصار، وتلك آية في إكرامهم ورفيع منزلتهم، فاجتهد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالدعاء ليلة معركة بدر لأنهم أمنوا بالله ورسوله من بين أهل الأرض، وقد خشي عليهم من سيوف كفار قريش وهم أبناء عمومته، ويعلم بقسوتهم وبطشهم وحبهم للإنتقام منه ومن أصحابه، فاستجار بالله عز وجل من أمور :
الأول : القتال بين المسلمين وقريش.
الثاني : قتل عدد من المسلمين .
الثالث : تعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقتل، فان قلت قد نزل قوله تعالى[وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ]( )، .
والجواب لا تعارض بين الدعاء والإستجابة من الله وبين نزول آية العصمة.
ومن مصاديق العصمة الدعاء والإستعانة بالله , وتقديره من وجوه:
الأول : يستغيث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالله فيعصمه الله من الناس.
الثاني : يعصم الله عز وجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الناس فيستغيث بالله , وفي التنزيل[قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ]( ).
الثالث : يسأل ويدعو النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الله سبحانه العصمة له ولأهل بيته وأصحابه من القتل .
ترى هل من صلة بين آية البحث [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ] وبين هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه الى المدينة , الجواب نعم ، من جهات :
الأولى : ذات الهجرة استغاثة واستجارة بالله عز وجل، وفي هجرة لوط ورد قوله تعالى[إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ]( ) فلم تكن هجرة قتال , إنما كانت هجرة هروب بسلامة دينه .
ومن وجوه تفضيل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يهاجر بمفرده أو هو وعياله وحدهم كما في هجرة ابراهيم، إنما سبقه أصحابه في الهجرة وكانت هجرتهم على قسمين :
الأول : الهجرة الأولى والبعيدة الى الحبشة .
الثاني : الهجرة القريبة إلى المدينة.
ويكون تقدير الآية على وجوه :
الأول : إذ تستغيثون ربكم بالصبر على أذى الذين كفروا.
الثاني : إذ تستغيثون ربكم بالهجرة .
الثالث : إذ تستغيثون ربكم على ترك بلدكم كرهاً .
الرابع : إذ تستغيثون ربكم على فقد أموالكم.
الخامس : إذ تستغيثون ربكم في الصبر على الأذى بسبب نصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من قبل الأوس والخزرج.
السادس : إذ تستغيثون ربكم بالإمتناع عن القتال .
السابع : إذ تستغيثون ربكم بالدفاع، وما فيه من الأذى والخسارة .
الثامن : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم بالأمن من رصد وعيون الذين كفروا في مكة، ومنعهم أداء الصلاة.
التاسع : إذ تستغيثون ربكم للحوق الذين كفروا لكم في هجرتكم بقصد قتالكم.
العاشر: إذ تستغيثون ربكم لأن الذين كفروا يريدون قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الحادي عشر : إذ تستغيثون ربكم لأن الله عز وجل هداكم للإستغاثة به .
الثاني عشر : إذ تستغيثون ربكم شكراً له سبحانه.
الثالث عشر : إذ تستغيثون ربكم للتسليم بأن هذه الإستغاثة على وطريق للنصر .
الرابع عشر : إذ تستغيثون ربكم لقانون , وهو من خصائص المؤمنين الإستغاثة بالله.
الخامس عشر : إذ تستغيثون ربكم لبيان قانون وهو تنزهكم عن الشرك .
السادس عشر : إذ تستغيثون ربكم لإستدامة الحياة في الأرض، بلحاظ أن هذه الإستغاثة عبادة، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ]( ).
السابع عشر : إذ تستغيثون ربكم لأنه يحب الإستغاثة به.
الثامن عشر : إذ تستغيثون ربكم محاكاة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
التاسع عشر : إذ تستغيثون ربكم , فليس بعد الإستغاثة إلا الإستجابة.
العشرون : إذ تستغيثون ربكم , وليس من رب سواه وهو الذي[إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ]( ).
الحادي والعشرون : إذ تستغيثون ربكم، لا يجمع المؤمنون بين الإستغاثة بالله وبين الغزو.
الثاني والعشرون : إذ تستغيثون ربكم في الصلاة وخارجها .
الآية السادسة
قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ] ( ).
أختلف في النسبة بين الغنيمة والنفل على وجوه :
الأول: التساوي والتشابه وأن (النَّفَلُ: الغُنْمُ) ( ) .
الثاني : الغنيمة والمغنم ما يأخذه المسلمون من أمتعة المقاتلين لهم على نحو القهر والغصب ، أما ما يتركه المقاتلون من المتاع والفئ .
الثالث : قال جمع من الفقهاء : النفل ما يعطى من الغنيمة .
الرابع : عن الأوزاعي وغيره : يخرج النفل من ثلث الخمس .
والمختار أن النسبة بين الغنيمة والنفل هي العموم والخصوص المطلق ، وأصل النفل هو التطوع في العطاء مما لا يجب على الإنسان اعطاؤه ، ومنه صلاة النافلة .
ويقال : تنفلت أي صليت صلاة مستحبة غير صلاة الفريضة ، ويقال نفل الإمام الجند : أي أعطاهم من الغنيمة .
وكان بعض التابعين يرى أن سورة الأنفال وبراءة سورة واحدة ، لذا لم يفصل بينهما بالبسملة ، والصحيح أن كل واحدة منهما سورة مستقلة بذاتها .
وبراءة وهي التوبة هي آخر السور الطوال ، وتليها السور المئين أي التي تزيد كل واحدة منها على مائة آية أو يكون عدد آياتها قريباً من المائة ، وإبتدأت سورة الأنفال بقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ] ( ).
ولابد من علة وسبب للسؤال ، ترى لماذا سأل المسلمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الأنفال فيه وجوه :
الأول : إرادة المسلمين التفقه في الدين ومعرفة الأحكام .
الثاني : كانت الأنفال محرمة على الموحدين من الأمم السابقة ، ومما فضّل الله عز وجل به المسلمين الأنفال ، وقيل هو السبب في تسميتها الأنفال أي الزيادة على ما كان حلالاً للأمم السابقة .
الثالث : ما جرى في معركة بدر ، إذ جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدل وعوض الأسير لمن أسرّه (فقال بعض أصحابه : يبقى آخر الناس بغير شئ ) ( ) .
أي أن الذي يقوم بوظيفة الحراسة والرصد وحماية ظهر جيش المسلمين لا ينال من الغنيمة شيئاً .
الرابع : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم باعطاء بعض السرايا من الأنفال .
وقد أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤلفة قلوبهم ليتآلفهم وقبائلهم من غنائم هوازن وثقيف بعد أن برد القتال في معركة حنين ، وتسمى غزوة حنين مع أن المشركين هم الذين باغتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بالهجوم ، وهذا العطاء على وجوه محتملة من جهة موضوعه :
الأول : أنه من أصل عموم الغنيمة .
الثاني : انه من خمس الغنيمة .
الثالث : أنه من خمس الخمس ، وسهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمومات قوله تعالى [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى] ( ) .
وقال بعض المؤلفة قلوبهم يومئذ (لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلّمَ وَإِنّهُ لَأَبْغَضُ الْخَلْقِ إلَيّ فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتّى إنّهُ لَأَحَبّ الْخَلْقِ إلَيّ) ( ).
وجاءت الآية بالإطلاق إنما الأنفال لله والرسول .
وتنفل النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيف ابن الحجاج يوم بدر .
وعن صالح بن كيسان قال (خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يوم بدر وما معه سيف. وكان أول سيف تقلده سيف منبه بن الحجاج، غنمه يوم بدر) ( ).
وفيه شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينو القتال أو التعرض لقافلة أبي سفيان عند خروجه إلى بدر ، وقد يستلزم التعرض للقافلة القتال مع الرجال والغلمان والرعاة الذين يرافقونها ، والذين يتم اختيارهم عادة من الفرسان والشجعان ، وتكون معهم أسلحتهم وعدتهم ومؤنهم للإحتراز والدفاع .
وعن ابن عباس قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (قد غزا إلى بدر بسيفٍ وهبه له سعد بن عبادة يقال له العضب، ودرعه ذات الفضول. فسمعت ابن أبي سبرة يقول: سمعت صالح بن كيسان يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم يوم بدر وما معه سيف. وكان أول سيف تقلده سيف منبه بن الحجاج، غنمه يوم بدر) ( ).
ولا يتعارض هذا الحديث مع القول بخروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة من غير سيف لإحتمال أن تكون هبة سعد السيف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الطريق إلى معركة بدر أو عشية اللقاء مع المشركين أو [يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ]( ) .
وفيه معجزة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ أنه خرج من المدينة من غير سلاح إلا الوحي والتنزيل، وبمرأى ومسمع من كل من :
الأول : المؤمنون .
الثاني : المؤمنات .
الثالث : المنافقون .
الرابع : أهل الكتاب من اليهود .
الخامس : المشركون .
السادس : سكان القرى التي حول المدينة .
السابع : الركبان والمسافرون في الطريق من المدينة إلى بدر .
وحينما رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معركة بدر بالنصر والأسرى والغنائم استقبله من تخلف من المؤمنين واعتذروا منه ، وقالوا لم نظن أن قتالاً سيقع مع المشركين .
وأنكر المنافقون النصر أول الأمر حينما سمعوا زيد بن حارثة مبّشراً بالنصر عند دخوله المدينة قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , وقالوا : قد جاء زيد فاراً منهزماً من سيوف قريش .
وهل هذا القول للإرتكاز الذهني بقوة وشدة بطش قريش ، ولضعف والنقص في أسلحة المسلمين وقلة عددهم وانشغالهم عن التمرين في فنون القتال .
الجواب نعم إلى جانب حسد وسوء سريرة المنافقين .
وجاء التدارك لهذا الأمور كلها وكبح جماح المشركين بفضل الله عز وجل بنزول الملائكة لنصرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
(عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ، قَالَ: “قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ: عَلَيْكَ بِالْعِيرِ لَيْسَ دُونَهَا شَيْءٌ، فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ وَهُوَ أَسِيرٌ: لا يَصْلُحُ لَكَ ذَاكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: وَلِمَ ؟، قَالَ: لأَنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَكَ [إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ] ( )، وَقَدْ أَعْطَاكَ مَا وَعَدَكَ” )( ).
ولا دليل على هذا القول ، لأن العير إجتازت ووصلت إلى مكة قبل نشوب معركة بدر ، فقد جاء رسول أبي سفيان إلى جيش المشركين وهم بالجحفة يخبرهم بأن القافلة نجت وسلمت وتوجهت إلى مكة بأمان ويدعوهم فيها للعودة .
وتبعد الجحفة عن مكة نحو 180 كم أي أنها تقع قريباً من وسط المسافة بين مكة وماء بدر ، الذي أصرّ أبو جهل على الوصول إليه والإقامة فيه ثلاثة أيام ويلزم المشركين السير نحو خمسة أيام كي يبلغوا ماء بدر ، وهو موضع وموسم معروف عند العرب ، وكم يحتاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الأيام والوقت في السير نحو العير ، تكون معها القافلة قد وصلت إلى مكة مع أنهم كانوا يسرعون السير للخوف والخشية من المسلمين .
وعكرمة بن عبد الله البربري توفى سنة (104 هـ-722 م) مولى عبد الله بن عباس , وفيه أقوال :
الأول : رمي عكرمة بالكذب كما عن ابن عمر ، وسعيد بن المسيب.
وفيه : خبر ابن عمر ضعيف لأنه من رواية يحيى البكاء وهو متروك .
الثاني : المراد من رمي عكرمة بالكذب أي الخطأ أو إرادة حكم مخصوص ،قال فيه برأيه.
الثالث : (أن عكرمة كذاب يحدث غدوة حديثا يخالفه عشية)( ).
الرابع: نعت عكرمة بأنه من الخوارج ، ويرى رأيهم ونفى عنه هذا الطعن أحمد والعجلي .
الخامس : كان عكرمة يأتي الأمراء ويقبل جوائزهم ، قال أبو نعيم : قدم عكرمة على الوالي باصبهان فأجازه بثلاثة آلاف درهم .
ولا تعارض بين قبول هدايا الأمراء وبين الرواية .
الخامس : أنه ثقة وبه قال النسائي( ).
ويؤخذ بروايته إذا رواه الثقات.
وروى عنه الشعبي وعطاء ومجاهد وغيرهم .
والحديث الذي يروى عن ابن عباس أن أباه العباس نادى وهو في الأسر يوم بدر النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بأنه لم يدرك العير لأن الله وعده أحدى الطائفتين ، لم يثبت دلالة وموضوعاً .
وتدل القرائن على أن الذين يسألون النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ]( )، هم المسلمون لإرادة بيان الحكم الشرعي ، وهذا السؤال شاهد على تسليمهم بأن الله عز وجل جعل لكل واقعة ومسألة حكماً .
وفي سؤال الصحابة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن الأنفال مسائل :
الأولى : جاء السؤال بعد انقضاء معركة بدر ، ووقوع الغنائم بيد المسلمين ، وقد خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عدة مرات قبلها ، ولم يسأل أحد من الصحابة عن الغنائم أو الأنفال ، مما يدل على أمور :
الأول : لم يكن خروج المسلمين في السرايا بقصد الغزو والنهب.
الثاني : عدم طمع المسلمين بالغنائم وكيفية تحصيلها .
الثالث : ليس من عداوة بين المسلمين وعموم القبائل والناس جميعاً ، خاصة وأن المسلمين أنفسهم من قبائل شتى ، ولم يمتنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الهجوم والإغارة عليها خشية من الفتنة داخل صفوف المسلمين ، أو ميل الأفراد من المسلمين إلى قبائلهم حمية ، لموضوعية واثر النسب والإنتماء القبلي عندهم ، فان قوله تعالى [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] ( ) بيان سماوي بأن أخوة الإيمان حلت محل الحمية الجاهلية ، والنصرة للنسب والقبيلة ولو على الباطل ، فصارت النصرة على الحق وحده وبالحق وللحق ، وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ]( ) .
الرابع : تأكيد حقيقة تأريخية وهي خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المدينة من غير قصد الهجوم والغزو .
إنما كان خروجهم للإستطلاع وبيان كثرة عدد المسلمين ، وحال المنعة والأخوة والتعاضد التي هم عليها، وإرادة بيان تفانيهم في سبيل الله ، وكما يكون من معاني أفعال الصلاة الطاعة والإنقياد لله عز وجل كالركوع والسجود , وما يدل عليه الوقوف بين يدي الله من المعاني والدلالات فكذا فان خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السرايا له دلالات ومعاني وغايات حميدة لأنه شعبة من الوحي , وليس منها قصد الهجوم والغزو .
الثانية : من خصائص نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم كثرة السؤال الموجه إليه من أول أيام بعثته وإلى آخر ساعات حياته , ومجىء الأجوبة من عند الله عز وجل , وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ) , ويأتي السؤال من كل جهة وطرف, وفي التنزيل [يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ] ( ). وتوجه الأسئلة للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهات :
الاولى :المسلمون .
الثانية : المسلمات .
الثالثة : أهل البيت .
الرابعة : أزواج النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , ولابد أن تلك الأسئلة في الله عز وجل ولله لقوله تعالى [النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ] ( ) .
والأصل أنه لا يصدر من أمهات المؤمنين من الأسئلة إلا الخير , وفي التنزيل [وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ] ( ) .
الخامسة : المنافقون والمنافقات .
السادسو : الأسرى في حال وجودهم .
السابعة : السبايا إن وجدوا عند المسلمين , .
الثامن : أهل الكتاب كما في قوله تعالى [يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنْ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا] ( ).
التاسعة : الأعراب .
العاشرة : الركبان الين يلاقون النبي ص في سراياه .
الحادية عشرة :الذين كفروا والمشركون , كما في قوله تعالى [سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ] ( ).
(عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال أبو جهل بن هشام { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم})( ).
وعن عطاء أن الآية أعلاه نزلت في النضر بن الحارث (قال عطاء : لقد نزلت في النضر بضع عشرة آية من كتاب الله تعالى) ( ).
وهو بعيد , ان ينزل هذا العدد من الآيات في شخص واحد من الكفار قتل في معركة بدر , وأكثر الآيات التي قال أنها نزلت بخصوصه، ذكرت أسباب أخرى لنزولها , وجاءت السنة النبوية بأخبار توجه الناس إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالأسئلة, وليس من حصر مواضيع هذه الأسئلة , فمرة تأتي لإرادة النفع العام أو الخاص , وأخرى للإختبار والتحدي , وهو الذي يدل عليه تعدد ماهية الأسئلة للنبي الواردة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن ومنهم الوفود التي تأتي لدخول الإسلام أو استقراء حال النبوة , والتدبر في معجزات النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم , والأعراب الذين يأتون إلى المدينة أو يلقوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حال السفر والسرايا، إذ يوجهون له الأسئلة على الفطرة ومن غير تقيد أو محذور .
ومن خصائص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحكمة واللطف حتى مع الجفاة , وقد أكرمه الله عز وجل وجعله لا يصدر في الجواب إلا عن الوحي والتنزيل .
ويحتمل موضوع وجهة أجوبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الأسئلة وجوهاً:
الأول : الإجابة من التنزيل، وذكر ذات الجواب في القرآن.
الثاني : الإجابة من الوحي .
الثالث : إجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أحياناً إجتهاد من عنده.
والصحيح هو الأول والثاني، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى[وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى]( )، وان قيل القدر المتيقن من مضامين الآية أعلاه , وهو أمور الشريعة وأحكام الحلال والحرام .
والجواب الأصل الإطلاق والعموم، وهو من مصاديق قوله تعالى[وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا]( ).
وكان بعض الناس ومنهم أعراب ينادون النبي باسمه ويقولون : يا محمد , ويقابلهم باللين والبشر , ولطيف القول فتفضل الله عز وجل وهداهم لصيغة مناداة النبي بقوله تعالى[لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ]( ).
وليس من حصر لموضوع الأسئلة التي توجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان وجوده بين ظهراني الناس فرصة سانحة , ومناسبة مباركة لم تتكرر إلى يوم القيامة ، فبادر الناس إلى الإنتفاع من الوحي والتنزيل والنبوة .
ومن الآيات أن الله عز وجل حفظ النبي محمداً من الإغتيال والقتل إلى أن تم تبليغ الرسالة ، قال تعالى [يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ] ( ) ومن الأسئلة ما يأتي بسبب أمر وموضوع طارئ كما في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ]( ) إذ خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من المدينة ، وهم لا يقصدون القتال ، وليس من تعبئة واستعداد له .
ولم يعلموا أن قريشاً زحفت لمعركة بدر بجيش قوامه ألف رجل خاصة وأن إعداد وخروج هذا الجيش جرى بعد خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة ، لذا كانت الحال في المدينة هادئة عند خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى معركة بدر ، ولم يعلموا بالمعركة وتفاصيلها إلا بعد دخول البشير إليها معلنا النصر للمسلمين .
ونزلت سورة الأنفال بعد معركة بدر التي وقعت في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة فهي سورة مدنية ، كما تسمى أسماء أخرى وهي :
الأول : سورة القتال لذكرها لوقائع من معركة بدر .
الثاني : سورة الفرقان لما تبينه من الفرق والمائز بين المسلمين والذين كفروا .
الثالث : سورة بدر ، كما ورد عن ابن عباس (قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: سورة التوبة؟ قال: هي الفاضحة ما زالت تنزل: “ومنهم..”، “ومنهم..” حتى ظنوا أنها لم تُبْق أحدا منهم إلا ذكر فيها، قال: قلت سورة الأنفال؟ قال: تلك سورة بدر، قال: قلت: سورة الحشر؟ قال: قل سورة بني النضير) ( ).
ونزول سورة الأنفال بعد معركة بدر وحصول الغنائم فيها شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين لم يطلبوا هذه الغنائم ، ولم يسعوا إليها ، ولم يجعلوها غاية أو نوع طريق لتحقيق الغايات الحميدة للنبوة .
ليتجلى قانون في رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو شهادة مقدمات ومتلازمات التنزيل على أنه لم يقصد القتال ، ولم يسع إليه من جهات :
الأولى : أسباب النزول ، فلم تنزل آيات وأحكام الأنفال إلا بعد وقوع الغنائم بأيدي المسلمين في معركة بدر ، وليس قبلها .
الثانية : موضوع الآية القرآنية , وليس في السور المكية مثلاً ذكر للأنفال والغنائم ، وكانت تتصف بلغة الإنذار والوعيد على الكفر والجحود وما يتفرع عنه ، قال تعالى [وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ] ( ).
الثالثة : تأكيد آيات القرآن على وجوب التقوى , والخشية من الله عز وجل .
وهل التقوى برزخ دون الغزو والنهب والقتل العشوائي ، الجواب نعم ، ومن خصائص التقوى الإمتناع عن الفتك بالناس ، وعن إستعمال وسائل وأسباب التفجير والألغام في قتلهم ، وإن كانوا على ملة أخرى ، أو ينتمون إلى بلد آخر في قتال مع البلد الثاني ، قال تعالى [وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] ( ).
ومن خصائص الأنفال وقسمتها في القرآن منع الخصومة والفتنة بين المسلمين ، وهل فيها ترغيب بالغزو والدفاع .
الجواب ليس فيها ترغيب بالغزو أبداً ، أما الدفاع فنعم ، لذا ورد ذكر الله عز وجل وبيان أن له سهماً في الأنفال ، كما في قوله تعالى [يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ …] ( ).
ومن الإعجاز في آية (ببدر) الأمر من عند الله عز وجل للمسلمين بالتقوى والخشية منه .
كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ) لتكون التقوى حاضرة في مسألة الأنفال وجمعها وتوزيعها .
ومن خصائص هذا التوزيع وجعل سهم لله وسهم لرسوله نفرة نفوس المسلمين من الغزو والهجوم بعد مجئ القرآن والسنة النبوية على عدم مشروعيته .
وورد في أسباب نزول قوله تعالى[يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ]( )، عن سعد بخصوص يوم معركة بدر , قال: قلت : يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين فهل لي هذا السيف ؟ قال : إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه . فوضعته ثم رجعت .
قلت : عسى يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلى بلائي ، إذا رجل يدعوني من ورائي قلت : قد أنزل الله في شيء؟ قال : كنت سألتني هذا السيف وليس هو لي وإني قد وهب لي فهو لك، وأنزل الله هذه الآية{يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول}( )( ).
وورد في الآية معنى أعم وأظهر عن ابن عباس إذ قال: أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم بدر : مَنْ أتى مكان كذا وكذا فله من الفضل كذا،
ومَنْ قتل قتيلاً فله كذا.
ومَنْ أسر أسيراً فله كذا.
فلمّا التقوا سارع إليه الشبّان والفتيان , وأقام الشيوخ ووجوه الناس عند الرايات .
فلمّا فتح الله على المسلمين جاءوا يطلبون ما جعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهم الأشياخ : كنّا ردءاً لكم ولو انهزمتم فلا تستأثروا علينا،
ولا تذهبوا (بالغنائم دوننا).
وقام أبو اليسر بن عمرو الأنصاري أخو بني سلمة فقال : يا رسول الله إنّك وعدت مَن قتل قتيلاً فله كذا ومَنْ أسر أسيراً فله كذا وإنّا قد قتلنا سبعين وأسرنا سبعين .
فقام سعد بن معاذ فقال : والله ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء زهادةً في الآخرة ولا جبن عن العدو، لكن كرهنا أن يعرّي مصافك فيعطف عليه خيل من خيل المشركين فيصيبوك ،أي أنه احتج باستحقاقهم من الغنائم لحراستهم للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأحاطتهم به , مع عدم حيازتهم للغنائم وجلبهم الأسرى .
فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ عاد أبو اليسر بمثل مقالته وقام سعد بمثل كلامه وقال : يا رسول الله إنّ الناس كثير وإن الغنيمة دون ذلك وإن تعطِ هؤلاء التي ذكرت لا يبقَ لأصحابك كثير شيء فنزلت {يَسَْلُونَكَ عَنِ الأنفال}( ) الآية. فقسّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينهم بالسويّة.
وروى مكحول عن أبي أُمامة الباهلي قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا معاشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في الفعل، وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا.
فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقسّمه بين المسلمين على السواء وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله، وصلاح ذات البين)( ).
إن عدم إستيلاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قافلة قريش، وعودته وأصحابه سالمين إلى المدينة مناسبة وموضوع لشكر أجيال المسلمين لله عز وجل .
ولم يرد في السنة النبوية القولية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج للإستيلاء على قافلة وأنه أتى بتلك القافلة والبضائع التي فيها، مع أن المشركين إستولوا على أملاك المهاجرين، وأخذوا أموالهم عنوة، وكانوا يشترطون على بعضهم ترك أموالهم في مكة لقاء الإذن والسماح لهم بالهجرة .
وقد استولت بعض السرايا على قوافل لقريش فاعادها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلها : العير والبضائع والغلمان إلى أهلها من كفار قريش ,كما في إستيلاء سرية زيد بن حارثة الى العيص على قافلة لقريش فيها أبو العاص بن الربيع وكان فيها فضة كثير لصفوان بن أمية وغيره .
فاستجار أبو العاص بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاجارته ورد عليه ما أخذ منه، وفيه شاهد بأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يتجنب الأسباب التي يتخذها كفار قريش حجة لتحريض الناس على قتاله ومحاربته، ففي التنزيل[ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ]( ).
ومن أسباب نزول قوله تعالى [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ] ( ) ذكر أن الصحابي صهيب بن سنان خرج من مكة مهاجراً إلى المدينة للحوق بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاتبعه جماعة كفار قريش ، وعندما أحسّ بهم وراءه نزل عن راحلته , وأخرج السهام من كنانته واستعد لرميهم ، حتى إذا ما صاروا قريبين منه .
قال لهم (يا معشر قريش قد علمتم إني من أرماكم رجلاً ، وأيم الله لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي فيه شيء ، ثم افعلوا ما شئتم ، وإن شئتم دللتكم على مالي وقنيتي بمكة وخليتم سبيلي .
قالوا : نعم . فلما قدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ربح البيع ، ربح البيع) ( ).
وفي رواية قالت له قريش : أتيتنا صعلوكاً حقيراً وصارت عندك الأموال وتريد أن تخرج بها، فقال لهم : أرأيتم أن تركتها لكم : أتخلون سبيلي ، قالوا : نعم .
لقد كسب صهيب أمواله بجهده وسعيه بالحلال ، ولا يحق لهم منعه من إخراجها معه وبقائها على ملكه وان فارقهم إلى المدينة ، ولكن الإستيلاء عليها من الظلم ، وكانت قوافل قريش تسير بين مكة والشام ، ومنها أموال هؤلاء النفر من الرؤساء الذين استولوا على أموال الصحابة , وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمائة والمائتان من أصحابه يخرجون حول المدينة وقريباً من طرق التجارة ويعودون من غير أن يستولوا على تلك القوافل مع أنها متعددة ومتعاقبة طيلة أيام السنة .
وهل في قوله تعالى [لِإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ] ( ) دعوة للمسلمين لترك قوافل قريش وعدم التعرض لها , والإستحواذ عليها لأنهم عبدوا الأوثان وحاربوا رسول الرحمن ، الجواب لا دليل عليه .
لقد ترك المسلمون قوافل قريش وشأنها مع أنهم أصروا على تسخيرها في محاربة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام ، وفي التنزيل [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ] ( ).
لقد أظهر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسمى درجات الصبر في تحمل أذى قريش ليكون من معاني قوله تعالى [فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ] ( ) هداية المسلمين إلى التحلي بالصبر إقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وليكون هذا الصبر مقدمة ونوع وعاء لأدائهم الفرائض العبادية والتفقه في الدين، قال تعالى[لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ]( ).
لقد كانوا يحرصون على دخول الفرد الواحد في الإسلام , ويستبشرون به ويعدونه غنيمة لهم ، مثلما أن أداء كل فرض من الصلاة هو غنيمة في النشأتين .
ولم يرد في السنة القولية إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم على لزوم الإقتصاص من كفار قريش لإستحواذهم على أموال المهاجرين ، وحتى حينما وقعت معركة بدر وأتت الغنائم وأدخل الأسرى إلى المدينة فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخصص الأموال له ولأصحابه الذين خسروا أملاكهم وأموالهم في مكة إنما قام بتوزيعها بين المسلمين .
وترك لكل فرد منهم قام بأسر أحد المشركين بأن يستلم البدل والعوض الذي يدفعه أهله ، مع قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفك أسر عدد منهم من غير مقابل .
وأمر الأسرى الذين يحسنون القراءة والكتابة بأن يقوم كل فرد منهم بتعليم عشرة من صبيان المدينة ، ويطلق سراحه ، لبيان أن الإسلام جاء بالعلم وأن بركات العلوم الإسلامية تترشح حتى على الذين كفروا، والذي سعى في محاربة الإسلام ، وأراد قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولأن هذا التعليم مقدمة لحفظ المسلمين القرآن وتلاوة آياته ، وسلامته من النقص أو التحريف .
وهل هو من عمومات قوله تعالى [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لحافظون]( )، الجواب نعم ، بلحاظ أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر الأسرى بتعليم صبيان المدينة من أولاد الأوس والخزرج إلا بالوحي من عند الله سبحانه .
(قال الإمام علي عليه السلام : العلم من الصغر كالنقش في الحجر) ( ).
من محاولات اغتيال النبي(ص)
كانت الوفود تأتي إلى المدينة ، لدخول الإسلام والتشرف بلقاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنهم من يأتي للجدال أو لطلب منافع أو يريد دخول الإسلام ولكن بشروط ، وفي السنة التاسعة للهجرة قدمت وفود عديدة إلى المدينة ، منها وفد عامر وفيهم أربد بن قيس بن جزء ، وعامر بن الطفيل بن مالك إذ قدموا للقاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
لقد كانت الوفود تأتي المدينة للنطق بالشهادتين , وخلع رداء الكفر.
ولكن عامر بن الطفيل جاء وهو يريد الغدر ، فقد كان كبير السن، وقال له قومه إن الناس قد أسلموا فأسلم .
ولكنه أبى , وقال أنه يريد أن تتبع العرب عقبه ، وقال : لا اتبع عقب هذا الفتى من قريش ، وكان عامر معروفاً بالشجاعة والفروسية ، وعنده عدة أفراس أصيلة تذكر كتب الـتاريخ أسماءها إذ أنه كان يذكرها ويخاطبها في أشعاره ، وكان قيصر يسأل بعض العرب الوافدين عليه عن صلتهم بعامر بن الطفيل.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم جالساً بين أصحابه في المسجد فجلس أربد وعامر بين يديه .
وقال عامر بن الطفيل : يا محمد ما تجعل لي إن أسلمت ؟
يريد عامر أن شأنه عظيم ، ولابد من خصوصية وعوض يناسب قدره وشأنه بين العرب لأنه إذا اسلم اقتدى به كثيرون من قومه وغيرهم .
فأجابه رسول الله بقانون عام يتغشى الغني والفقير، والسيد والعبد ، والملك وعامة الناس : لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم ) كما ورد عن ابن عباس( ) .
وفيه مسائل :
الأولى : يدل هذا الجواب النبوي على أن السابق في الإسلام وان كان عبداً مملوكاً له مرتبة سامية سبق إليها .
الثانية : إنه دعوة للإيمان تنفذ إلى شغاف القلب , وأن كان السامع لها ذا جاه ومنصب ومال .
الثالثة : لم يخاطب عامر النبي محمداً بصفة النبوة , إنما قال له : يا محمد ، ولكن جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا يدل على نيله درجة النبوة السامية ، وأنه رسول للخاص والعام , قال تعالى[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ]( ).
ولكن عامراً لم يتعظ من الجواب النبوي ، ولم يتلقاه بالقبول والذي تقترن به البركة .
فقال : إن انا أسلمت أتجعل لي الأمر من بعدك .
أي أنه أراد أن يكون هو الخليفة من بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يهادنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم , ولم يجبه باجمال بما يمنيه في الإسلام ، بل قال له على نحو البيان والقطع : ليس ذلك لك ولا لقومك) ( ).
لبيان قانون وهو أن هذا الأمر لا يصل إليكم , إنما هو أمر يخص أهل البيت ثم المهاجرين والأنصار فاتجه عامر إلى طلب آخر ، إذ قال (أفتجعل لي الوبر ولك المدر) ( ) .
والمراد من الوبر : البدو وسكان الخيام , وأهل البادية لأنهم يسكنون أخبية من الوبر ، والوبر هو الشعر الذي يكسو ظهر البعير .أما المدر فهو جمع مدرة ، وهو قطع الطين المتماسك اليابس والذي إذا فخر بالنار سمي طابوقاً .
والمدر لغة هو قطع الطين اليابس ، والمراد منه في الحديث تولي شؤون الحكم في الحضر من أهل المدن والقرى لأنهم يسكنون دوراً , ومبان من الطين والآجر ونحوه .
فقال عامر : فما تجعل لي .
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أجعل لك أعنة الخيل .
والأعنة جمع عنان , وهو سير اللجام الذي تمُسك به الدابة ، والمراد أن لك ركوب الخيل في الدفاع عن الإسلام .
أي أبعثك أميراً في بعض السرايا تدافع في سبيل الله .
(قال عامر : أنا الآن في أعنة خيل نجد) ( )، أي أنه يريد مكسباً عظيماً مستحدثا بدخوله الإسلام , وأنه رئيس قومه في نجد , ويقدمهم في الغزو ، ولم يميز بين الدفاع بصبغة الإيمان , وما فيه من الثواب العظيم ، وبين الغزو والنهب في الجاهلية .
فأجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا .
فقال عامر وهو يهمّ بالإنصراف : أما والله لاملأنها عليك خيلاً جرداً ، ورجالاً مرداً , ولأربطن بكل نخلة فرساً .
ومع أن هذا الحوار كان في السنة التاسعة وبعد نزول الآية التي يسمونها آية السيف [فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] ( ) وكان الإسلام في حال عز ومنعة لم يضره هؤلاء الأفراد والطائفة التي خلفهم من قومهم ، فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر بقتله ، ولا حبسه ، ولم يوص إلى بعض أصحابه بزجره وتوبيخه إنما قال له:
يمنعك الله ، ثم قال (اللهم أكفني عامراً واهد قومه) ( ) .
وهذا الجواب من الشواهد على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لا يتخذ السيف والبطش وسيلة أو غاية، إنما كان يلجأ إلى الله عز وجل في حال الإستضعاف والمنعة ، وحال السراء والضراء .
ولم يتعظ عامر من الجواب ، فحينما خرج من النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لصاحبه أربد (يا أربد أنا أشغل عنك محمداً بالحديث فاضربه بالسيف، فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب، فسنعطيهم الدية.
قال أربد: أفعل.
فأقبلا راجعين إليه، فقال عامر: يا محمد قم معي أكلمك) ( ).
وكان عامر من فتاك العرب ، ويكنى في الحرب أبا عقيل ، وفي السلم أبا علي ، ولد ونشأ في نجد ومع أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم يعرف غدر عامر ، ولكنه قام معه .
وهذا القيام شعبة من الوحي ، ورحمة بعامر وأربد ونحوهما لإتمام الحجة عليهم , فوقفا إلى الجدار ليس معهما أحد، وكان أربد قريباً منهما ، فسلّ السيف ، فما لبث أن يبست يده على قائم السيف ، فأبطأ وارتبك ، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ورأى ما يصنع فتركهما وأنصرف عنهما .
ولم يحرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصحابة عليهما للشروع بالقتل الذي دفعه الله عز وجل بفضله ، وفي التنزيل [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ]( ).
وعندما خرجا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم توجه عامر باللوم والتبكيت لأربد , وقال : ويلك يا أربد أين ما كنت أمرتك به ، والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندي على نفسي منك ، وأيم الله لا أخافك بعد اليوم أبداً .
قال أربد : (لَا أَبَا لَك لَا تَعْجَلْ عَلَيّ وَاَللّهِ مَا هَمَمْت بِاَلّذِي أَمَرْتنِي بِهِ مِنْ أَمْرِهِ إلّا دَخَلْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ الرّجُلِ حَتّى مَا أَرَى غَيْرَك ، أَفَأَضْرِبك بِالسّيْفِ)( ).
ولما وصلا إلى حرة واقم , وتقع شرق المدينة ، وسميت الحرة لأن أكثر سطحها مغطى بصخور وحجارة بركانية سوداء تكون شديدة الحرارة في الصيف , وكانت فيها منازل للأوس من الأنصار ، ومنازل لبني قريظة وبني النضير و(واقم)حصن بناه بنو عبد الأشهل فسميت الحرة به .
فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير ، وقالا : أشخصا يا عدوي الله .
أي ابتعدا عن المدينة ، لأن في بقائهما خطر، واحتمال صدور المكر والكيد منهما.
فقال عامر : من هذا يا أربد ؟ قال : هذا أسيد بن الحضير ، فخرجا ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد دعا وسأل الله سبحانه , وقال : اللهم أكفني عامر بن الطفيل بما شئت وابعث عليه داء يقتله ) .
وذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبث ثلاثين صباحاً يدعو بهذا الدعاء ( ).
ومع أن عامراً أراد قتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوعده بالرجال والخيل تغير وتهجم على المدينة فانه لم يقتله ، إنما سأل الله عز وجل أن يبتليه ليكون من مصاديق قوله تعالى [أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ] ( ) .
ويدل إمتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن القتل والقتال حتى مع القدرة والمكنة منه على أنه لا يريد إشاعة القتل وسفك الدماء .
وفي الطريق نزل عامر بن الطفيل على امرأة سلولية أي من قومه من بني سلول من بني عامر سموا باسم أمهم إذ أن صعصعة بن معاوية تزوج عدداً من النساء , فسمي أولاده وذريته بأسماء أمهاتهم وهم :
الأول : بنو سلول .
الثاني : بنو تماضر .
الثالث : بنو عادية .
الرابع : بنو عدية .
الخامس : بنو غويضرة .
السادس : بنو وائلة .
ومن الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بني سلول حبشي بن جناد ، وكانت له صحبة ورواية ، ونهيك بن قصي بن عوف .
وأصابت عامر قرحة في عنقه فجعل يمسحها ويقول : يا بني عامر أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني سلول .
ونسب إلى ابن عباس أن عامرا كان (يرغب أن يموت في بيتها)( ).
والظاهر أنه متأسف لأنه لم يقتل في ميدان الوغى والكر والفر أو بين أهله وقومه، لذا فانه طلب فرسه وركبها وأخذ رمحه وأقبل يجول حتى سقط من فرسه ميتاً مغادراً الدنيا مصراً على الكفر مع تجلي الآيات والبراهين أمام ناظريه، قال تعالى[وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ]( )، لتتحقق الإستجابة من عند الله عز وجل لدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عامر بن الطفيل .
ويكون امتناع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتله عند وفادته إلى المدينة وتهديده للنبي صلى الله عليه وآله وسلم معجزة له ، وكيلا يقال بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتل بعض الذين قدموا عليه ، فقد تركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يغادر هو وأربد بأمان ، كما أنه ترك المنافقين , وصبر عليهم , ولم يقتلهم ، مع شدة إيذائهم له وللمؤمنين ، وكان كفار قريش يؤذونه ويقولون (لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ) ( ) أي لأنه كان يسب آلهتهم.
وعامر بن الطفيل هذا هو الذي أغار على الوفد الذي بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم الى عصيّة وبني لحيان في شهر صفر من السنة الرابعة للهجرة ، بعثهم بناء على سؤال من أبي البراء عامر بن مالك ملاعب الأسنة ليفقهوا المسلمين في ناحيتهم في الدين ، ويدعوا الناس إلى الإسلام .
وعامر بن مالك هو عم عامر بن الطفيل الذي أخفر ذمة عمه فيهم، وأجهز عليهم وقتلهم .
وكان الرجال الذين حاربوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يدخلون المدينة مسلمين مثل وحشي قاتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا القليل منهم ، ومع أن عامر بن الطفيل قد قتل الدعاة يومئذ غدراَ وظلماً فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يثأر منه ولن يأمر بقتله ، إنما أجابه ورده وأفحمه ودعا الله عز وجل عليه ، وهو من الشواهد بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه لا يخافون أولياء الشيطان ولا يخشون من عودتهم من المدينة بالغيظ والحسد .
أما صاحبه أربد فانه لما رجع إلى قومه , قالوا له : ما وراءك يا أربد ؟ قال :لا شئ لقد دعانا إلى عبادة شئ لوددت أنه عندي الآن، فأرميه بالنبل حتى أقتله ، لبيان إصراره على الكفر والجحود.
وبعد يومين من مقالته هذه خرج ومعه جمل له يتبعه ، فأرسل الله عز وجل عليه صاعقة فأحرقته وجمله ، وقال لبيد وهو أخوه لأمه يرثيه :
(ما إن تعد المنون من أحد … لا والد مشفق ولا ولد
أخشى على أربد الحتوف ولا … أرهب نوء السماك والأسد
فجعني الرعد والصواعق بال … فارس يوم الكريهة النجد
وقال أيضاَ في رثائه :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم . وبقيت في خلف كجلد الأجرب
يتآكلون مذمة وخيانة … ويعاب قائلهم وإن لم يشغب
يا أربد الخير الكريم فعاله … أفردتني أمشي بقرن أعصب
إن الرزية لا رزيّة مثلها … فقدان كل أخ كضوء الكوكب) ( ).
وفي رواية ابن عباس أن عامرا قتل بصاعقة من السماء :
(عن ابن عباس :أن أربد بن قيس وعامر بن الطفيل ، قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فانتهيا إليه وهو جالس ، فجلسا بين يديه فقال عامر : ما تجعل لي إن أسلمت؟
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لك ما للمسلمين , وعليك ما عليهم .
قال : أتجعل لي إن أسلمت ، الأمر من بعدك؟ قال : ليس لك ولا لقومك ، ولكن لك أعنة الخيل . قال : فاجعل لي الوبر ولك المدر . فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا .
فلما قفى من عنده قال لأمَلأَنَّها عليك خيلاً ورجالاً .
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يمنعك الله .
فلما خرج أربد وعامر ، قال عامر : يا أربد ، إني سألهي محمداً عنك بالحديث ، فاضربه بالسيف ، فإن الناس إذا قتلت محمداً لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب ، فسنعطيهم الدية . فقال أربد : أفعل . فأقبلا راجعين فقال عامر : يا محمد ، قم معي أكلمك . فقام معه فخليا إلى الجدار ، ووقف معه عامر يكلمه وسل أربد السيف ، فلما وضع يده على سيفه يبست على قائم السيف ، فلا يستطيع سل سيفه . وأبطأ أربد على عامر بالضرب ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأى أربد وما يصنع فانصرف عنهما .
وقال عامر لأربد : ما لك حشمت؟ قال وضعت يدي على قائم السيف فيبست ، فلما خرج عامر واربد من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، حتى إذا كانا بحرة واقم ، نزلا . فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فقال : اشخصا يا عدوَّي الله، لعنكما الله ، ووقع بهما .
فقال عامر : من هذا يا سعد ؟ .
فقال سعد : هذا أسيد بن حضير الكتائب ، قال : اما والله ان كان حضير صديقاً لي ، حتى إذا كانا بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته، وخرج عامر حتى إذا كان بالخريب أرسل الله عليه قرحة فأدركه الموت فيها : فأنزل الله { الله يعلم ما تحمل كل أنثى….}( ) إلى قوله {… له معقبات من بين يديه }( ) قال : المعقبات من أمر الله ، يحفظون محمداً صلى الله عليه وآله وسلم . ثم ذكر أربد وما قتله، فقال {هو الذي يريكم البرق…}( ) إلى قوله {… وهو شديد المحال}( )) ( ).
وتبين وفادة عامر بن الطفيل وأربد على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قانوناً في السنة النبوية ، وهو عدم لجوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى القتل والثأر ومعاقبة الغادر، فقد آذى عامر بن الطفيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وقتل المبلغين في بئر معونة ، وكان الصحابة يرثونهم ، وقال حسان :
(على قتلى المعونة فاستهلي بدمع العين سحّا غير نزر ) ( ).
وكان خال أنس وهو حرام بن ملحان من بين قتلى بئر معونة ، ولم ينتقم أهل القتلى من عامر بن الطفيل الذي دخل المدينة بعد مرور خمس سنوات على قتله لهم ، ولم يظهر الأسف والأسى على غدره بهم .
وهل يمكن انشاء قانون وهو : كل آية من القرآن تدل على صدق وأمانة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم).
الجواب نعم من وجوه :
الأول : إعجاز الآية القرآنية .
الثاني : سمو ألفاظ وتركيب الآية القرآنية ، وأنها تفوق بلاغة العرب ، وما يتداولونه وينتقونه من الشعر ، فليس من حصر للقصائد وأبيات الشعر العربي ، وكانوا يقولونه على السليقة ، ولكن الذي وثّقوه وتداولوه وتوارثوه قليل منه ، بينما يتعاهد المسلمون كل حرف , وكل كلمة من القرآن .
الثالث : مضامين الآية القرآنية .
الرابع : المعاني المتعددة للفظ القرآني .
الخامس : دلالات الآية القرآنية .
السادس : الغايات والمقاصد السامية للآية القرآنية .
السابع : سلامة الآية القرآنية من اللحن ونحوه ، وفي التنزيل [أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا] ( ).
الثامن : خلو القرآن من التعارض ، فمع أن عدد آيات القرآن هو(6236) آية ونزلت على مدى ثلاث وعشرين سنة ، فانه ليس من اختلاف أو تزاحم أو تعارض بينها .
التاسع : سلامة القرآن من التحريف أو الزيادة أو النقصان .
لقد استبشر رجال قريش بدخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم البيت الحرام ساعتئذ , وصيرورته الحكم والقاضي بينهم , فلما وصل إليهم , أخبروه عن خلافهم ورغبة كل واحد منهم أن يقوم بوضع الحجر الأسود في موضعه ، وأنهم فوّضوا الأمر إليه .
فوضعه بيده الشريفة في الثوب ثم قال : ليأخذ كل من يمثل قبيلة بناحية من الثوب وأن يرفعوه جميعاً , ففعلوا وسارعوا به إلى محله من ركن البيت والذي له اسمان :
الأول : الركن الشرقي لأنه بإتجاه الشرق .
الثاني : ركن الحجر الأسود , لأن الحجر مثبت فيه .
وعندما وصلوا إلى الركن , قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأخذ الحجر بيده المباركة , ووضعه في محله الذي هو عليه اليوم , وقال ابن هشام (حَتّى إذَا بَلَغُوا بِهِ مَوْضِعَهُ وَضَعَهُ هُوَ بِيَدِهِ ثُمّ بَنَى عَلَيْهِ) ( ).
ليكون وضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحجر في محله قبل النبوة على وجوه :
الأول : إنه أمارة لبعثته .
الثاني : بشارة فتح مكة .
الثالث : فيه حجة على قريش .
الرابع : إنه مقدمة في البرهان عند إعلان نبوته .
وهل هو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] ( ), أم ان القدر المتيقن من الآية ومصاديق الرحمة هو ما بعد النبوة والرسالة وليس الإستصحاب القهقري لسني عمره وفعله قبل نبوته .
الجواب هو الأول فدفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفتنة عن قريش ومنع الإقتتال بينهم , بوضعه الحجر الأسود بيده الشريفة من الرحمة التي تذكرها الآية أعلاه ، ولم ينظر إلى أن فرقتهم وخلافهم سيمنع من شدة أذاهم له عند بعثته .
ولا تنحصر مصاديق الرحمة في هذا الوضع بخصوص أوانه بل هي متجددة إلى يوم القيامة , ومنها بيانها في هذا السِفر , ويقوم العلماء باستخلاص المواعظ والعبر منها .
ولم يأت لقب الصادق والأمين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على نحو عفوي إنما جاء بالشواهد والتجربة المتكررة والوجدان العام, ومنه توليه شأن تجارة خديجة , واخلاصه فيها , وحسن السمت في صلاته الإجتماعية العامة , ونشره ضروب الفضيلة , ومنه قوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ).
وتقدير الآية أعلاه على وجوه منها :
الأول : وأنك لعلى خلق عظيم قبل النبوة .
الثاني : وأنك لعلى خلق عظيم بعد النبوة .
الثالث : وأنك لعلى خلق عظيم في الإمامة .
الرابع : وأنك لعلى خلق عظيم في تبليغ الرسالة .
الخامس : وأنك لعلى خلق عظيم في حسن المعاملة .
السادس : وأنك لعلى خلق عظيم في التودد إلى الناس ، والعشرة الحسنة معهم .
السابع : وأنك لعلى خلق عظيم في معاملة الأسرى .
الثامن : وأنك لعلى خلق عظيم في دفع وصرف القتال عن المسلمين والناس .
التاسع : وإنك وكل نبي ورسول لعلى خلق عظيم .
بحث أصولي
بين أصالة الإباحة وأصالة البراءة
والمراد من الإباحة الإذن ، والإباحة لغة هي السعة ، وضد الإباحة الحظر , وهو الحجب والتحريم ، يقال (وحَظَره فهو محظور أي مُحَرَّم) ( ) وهي في الإصطلاح الإذن بفعل شئ ، أو تركه ، ونفي الحرج فيه ، قال تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا] ( ) .
وقد يأتي نص ودليل ينسخ الإباحة ويفيد الحظر ، وقيل بأصالة الحظر ، والمختار هو أصالة الإباحة إلا مع الدليل على الحظر .
الأصل في الأفعال أنها مباحة ، وهو الموافق للغة القرآن وسماحة الشريعة ولزوم إجتناب التشديد على النفس وتستصحب هذه الإباحة إلا مع الدليل على خلافه ، وإذا ورد دليلان أحدهما يدل على الإباحة والآخر على التحريم ، وأمكن الجمع بينهما فهو أولى من التساقط وإلا فيقدم دليل التحريم .
والأصل في الذمم البراءة ، ولا يتعلق بها واجب إلا مع الدليل الشرعي ، ويترتب عليه الحكم الوضعي , كالصحة والبطلان .
وبالنسبة للماء ، مثلاً فاذا لم يرد دليل على طهارته فالأصل فيه الطهارة إلا أن يرد دليل نجاسته .
ومن إعجاز القرآن إخباره عن كون الماء طاهراً مطهراً ، قال تعالى [وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا] ( ) وقال تعالى [وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ]( ).
وقال تعالى [وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ] ( ).
وقال تعالى [مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ]( ).
وقال تعالى [وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ]( ).
فتجد الأشياء كلها في القرآن اما كفرع لقاعدة كلية أو للإشارة إليها ، أو للإقتضاء وعموم الموضوع والحكم والمصلحة فيه ، وهل تدخل فيه أسباب النزول ، الجواب نعم ، وأن كان المدار على عموم المعنى ، وليس سبب النزول وحده .
وقال السرخسي أن اللام في (لكم) من قوله تعالى [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا] ( ) أدل على إثبات صفة الحل من التنصيص على الإباحة ) ( ).
ولكن أصالة الإباحة ظاهرة في الجمع بين هذه الآيات، وقيل أصالة الإباحة مدركة بالعقل , بينما تدرك أصالة البراءة بالشرع ، والصحيح أن كلاً منهما مدركة بالشرع .
والحكم المترشح عن أصالة الإباحة حكم واقعي ، والحكم المترشح عن أصالة البراءة حكم ظاهري .
ولحاظ أصالة الإباحة الحكم ، أما أصالة البراءة فاللحاظ فيها هو العقوبة .
وتقابل أصالة الإباحة أصالة الحظر , والمراد منها حكم العقل بالإمتناع عن كل فعل وقع الشك في حكمه الواقعي ، ولا دليل على هذه الأصالة من الكتاب والسنة فهي لا تنهض لمعارضة أصالة الإباحة التي وردت فيها النصوص على نحو الخصوص ، وعمومات الجواز والإباحة منها قوله تعالى [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] ( ).
و(قاعدة لا ضرر ولا ضرار ) وروى مالك في الموطأ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ) ( ).
وعن الإمام الباقر عليه السلام في حديث : أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (لا ضرر ولا ضرار ) ( ) إذ أن الشريعة مرتكزة على جلب المصالح ودفع المفاسد .
وأصالة الحظر تؤدي إلى الضرر ، ولا دليل عليها ، والقول بأن دليلها عقلي ليس بتام ، إنما العقل بخلافها ، وهو موافق لأصالة الإباحة والنصوص الواردة فيها ، والمراد من الضرر أي الضرر بالذات ، أما الإضرار فهو بالغير ، قال تعالى [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] ( ).
ولم يرد في الشارع منع من الإباحة ، إلا أن يتعلق المنع بفرد مخصوص ، وهو خارج محل البحث والذي يتعلق بالشك في الحكم الواقعي لفرد مخصوص ، وتختص أصالة الإباحة بالشبهات التحريمية.
وبين أصالة البراءة وأصالة الإباحة عموم وخصوص مطلق ، إذ أن أصالة البراءة أعم ، وقيل بالتغاير بين مجرى أصالة البراءة وأصالة الإباحة .
والنسبة بين أصالة الإباحة والحلية هي العموم والخصوص المطلق , فالاباحة أعم ويقابلها الحظر , بينما تقابل أصالة الحلية الحرمة وتشمل الإباحة الإذن أو الترك لانه أمر وجودي كما في الصيام .
الآية السابعة
قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] ( ).
من خصائص الآية القرآنية البيان ، وهو من جهات :
الأولى : بيان نزول الآية من عند الله عز وجل .
الثانية : ذات الآية القرآنية بيان .
الثالثة : سلامة مضمون الآية القرآنية من الترديد .
الرابعة : إنتفاء التعارض أو التزاحم بين آيات القرآن سواء في الموضوع او الحكم ، فان قلت قد ورد مثلاً الحكم بالقصاص بقوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ] ( ) ثم جاءت آية بالحث على العفو بقوله تعالى[وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى]( ) .
والجواب مع أن الآية أعلاه في موضوع الطلاق ، وتمام الآية [وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] ( ) إلا أنها عامة في دلالتها للحسن الذاتي للعفو وعظيم نفعه واثره .
والجمع بين الآيتين أعلاه ممكن ، ليكون المجني عليه وولي الدم بالخيار إن شاء عفى ووهب وغفر ، وان شاء اقتص ، ويكون الجاني والذي ينوي الجناية في خوف وخشية لإحتمال أن ولي الدم يريد القصاص ، ولبيان قانون وهو أنه ليس للحاكم والأمير التنازل أو الهبة بخصوص الجناية ، إنما هو أمر راجع للولي، وهو من عمومات قوله تعالى[وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ]( ).
الرابع : استدامة واتصال بيان الآية القرآنية إلى يوم القيامة ، وهو من مصاديق قوله تعالى هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ.
ومن الإعجاز في الآية أعلاه أنها لم تقل (هذا بيان للذين آمنوا) إنما ذكرت الناس لإرادة أجيالهم المتعاقبة ، مع إختلاف وتباين مشاربهم ، ليكون هذا البيان حجة ودعوة إلى الإيمان.
وهل فيه شاهد على عدم غزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمدن والقرى ، الجواب نعم ، وهو دليل على إستغناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الغزو، وعدم وصول النوبة إليه لأن البيان حجة وبرهان .
وهو من مصاديق قوله تعالى [فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ) وورد لفظ [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ] ( )في القرآن مرتين ، بينهما عموم وخصوص مطلق، والخاص هو الذي ورد في آية [ببدر] لإرادة واقعة مخصوصة.
أما العام فهو قوله تعالى [لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ] ( ).
ليكون من معاني الجمع بينهما تقدير آية ببدر: ولقد نصركم الله ببدر وسينصركم في مواطن كثيرة.
كما يمكن تقدير الآية أعلاه : ولقد نصركم الله في مواطن كثيرة كما نصركم ببدر ) إذ أن استثناء معركة بدر في المثل أعلاه لم ينف صفة الكثرة عن المعارك التي نصر الله فيها المسلمين، وفي التنزيل[لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ]( ).
ليختص النصر في معركة بدر بتعدد ذكره في القرآن ، وتذكير الله عز وجل به ، حتى في الآيات الأخيرة التي نزلت بخصوص القتال ودفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عن الإسلام والتنزيل وعن أنفسهم .
ولمنع غلو المسلمين بشخص النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إذ يجب ألا ينسب النصر إلا لله عز وجل ، وفيه عز للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين ، ومن الشواهد عليه قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ) ومن البيان في آية (ببدر) وجوه :
الأول : صيغة الجملة الخبرية التي تفيد اليقين والقطع ، فان قلت قد ذكر في علم البيان أن الجملة الخبرية تفيد أحد أمرين :
أولاً : الصدق ، وأن الإخبار الذي تتضمنه حق .
ثانياً : الكذب .
والجواب هذا في حديث الناس ، أما القرآن والسنة وحديث المعصوم فهو أمر آخر ، إذ أنه لا يحتمل إلا الصدق واليقين .
ومن أدوات الخبر لام التأكيد , والحرف (قد) الذي يسبق الفعل الماضي كما في قوله تعالى [وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ].
إن ، أن ، وضمير الفصل (هو)، ونون التوكيد .
ويقابل الجملة الخبرية الجملة الإنشائية التي هي جملة وكلام لا يحتمل في ذاته الصدق أو الكذب ، ولابد في تعريف الجملة الخبرية وأنها تحتمل الصدق والكذب من ذكر الإستثناء والتخصيص ، وأن هذا التعريف لا يشمل القرآن والسنة .
الثاني : إخبار الآية عن تحقق النصر للمسلمين ، ليكون من إعجاز القرآن منع تحريف الوقائع والأحداث فلا يأتي شخص أو جهة أو طائفة ليقولوا بأن المسلمين لم ينتصروا في معركة بدر أو يدعوا أن النصر كان فيها للمشركين خاصة , وأنهم كانوا ثلاثة أضعاف جيش المسلمين مع كثرة أسلحتهم ورواحلهم وعدتهم ، وإذا قيل لهم فكيف بسقوط سبعين من المشركين وأسر سبعين منهم ، يجيبون بأن وقوع القتلى والأسرى لا يدل على الهزيمة .
فأخبرت آية (ببدر) عن نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير ذكر لموضوع القتلى والأسرى ، وعدد كل منهم، وذكرت آيات أخرى الأسرى.
وفي معركة أحد التي يقال أن المشركين هم الذين انتصروا فيها ، جاء القرآن بنفي هذا القول وذكر في آية واحدة وجوهاً متعددة تدل على خسارة المشركين في تلك المعركة ، ولحوق الخزي ورشحات الخسارة بهم حتى بعد انقضاء المعركة لقوله تعالى [لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ] ( ) .
وتدل الآية أعلاه على عدم غزو النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمشركين ، وعدم اللحوق بهم ومطاردتهم إلى مكة خاصة , وانهم في حال خيبة وهوان .
الثالث : بيان تحقق نصر المسلمين من غير غزو من جهات :
الأولى : لم يكن الغزو مقدمة أو سبباً لهذا النصر .
الثانية : ليس من غزو اثناء المعركة، خاصة وأن وقائعها حدثت في يوم واحد ، وبعيداً عن المدن والقرى.
الثالثة : لم يقم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغزو المشركين عقب انتهاء المعركة ولم يطاردهم المسلمون عند فرارهم وهزيمتهم .
ومن دلالات الآية على انتفاء الغزو ذكر موقع المعركة بالاِسم وهو ماء بدر إذ يبعد عن مكة المكرمة والتي جاء منها المشركون نحو ثلاثمائة كيلو متر ، بينما تبعد عن المدينة التي خرج منها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه (150) كم .
الرابعة : نسبة نصر المسلمين في معركة بدر إلى الله عز وجل، وفيه تبكيت للذين كفروا ، وإنذار لهم بتجدد نصر الله عز وجل للمسلمين في المعارك اللاحقة ، وفيه أمور :
الأول : زيادة إيمان المسلمين.
الثاني : دعوة المسلمين لهم للسؤال والدعاء بالنصر والغلبة على الذين كفروا وتتجلى هذه الدعوة بالأمر من عند الله [ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ]( ).
الثالث : زجر المشركين عن تكرار الهجوم والتعدي على المسلمين، ومن خصائص الإنذار من عند الله بلوغه الى الناس مجتمعين ومتفرقين بصيغ وكيفيات متعددة، وفي التنزيل [فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ]( ).
وتقدير آية (ببدر) على وجوه :
الأول : ولقد نصركم ببدر من غير غزو أو هجوم على المشركين.
الثاني : ولقد نصركم الله ببدر لتكونوا أعزة قال تعالى [وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ] ( ).
الثالث : ولقد نصركم الله سبحانه ببدر يوم الفرقان يوم الفصل بين الحق والباطل، والهدى والضلالة.
الرابع : ولقد نصركم الله ببدر بفضل منه تعالى .
الخامس : ولقد نصركم الله ببدر فاجتهدوا في طاعته.
السادس : ولقد نصركم الله ببدر لتنالوا مرتبة العزة والرفعة بين الناس.
الخامسة : إرادة معنى النصر التام للمسلمين في معركة بدر , لأن الله عز وجل إذا أعطى يعطي بالأتم والأوفى.
وفيه دعوة للعلماء عامة , وأرباب العلوم العسكرية باقتباس الدروس والمواعظ في نصر المسلمين في معركة بدر , وفيه نكتة وهي العجز عن إيجاد ثغرة أو نقص في سنخية نصر المسلمين يوم بدر.
ترى لماذا لم تقل الآية : ولقد نصركم الله بمعركة بدر , الجواب إرادة المعنى الأعم من النصر، وأنه لا يختص بالقتال والقتل , وإنما المراد على وجوه :
أولاً : نصر الإسلام .
ثانياً : ظهور نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا النصر من مصاديق قوله تعالى [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] ( ) .
ثالثاً : صيرورة المسلمين في منعة .
رابعاً : إستدامة أداء المسلمين الصلاة , والفرائض العبادية الأخرى , ليكون من معاني قوله تعالى [وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا] ( ) الوعد من الله سبحانه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالنصر والغلبة .
خامسا : عصمة المسلمين من الخسارة والهزيمة في معركة بدر , وبات النبي ليلتئذ يجتهد بالدعاء , ويسأل الله عز وجل النصر (عن حارثة، عن علي عليه السلام، قال: لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها، فاجتويناها، وأصابنا بها وعكٌ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتخبر عن بدر؛ فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بدر – وبدر بئر – فسبقنا المشركين إليها ، أي أن المسلمين هم الذين سبقوا الى موضع الماء والمعركة.
فوجدنا فيها رجلين، منهم رجلٌ من قريش، ومولى لعقبة بن أبي معيط. فأما القرشي فانفلت( )، وأما مولى عقبة فأخذناه، فجعلنا نقول: كم القوم ؟ فيقول: هم والله كثير، شديدٌ بأسهم.
فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه، حتى انتهوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فقال له: كم القوم ؟ فقال: هم والله كثير، شديد بأسهم، فجهد النبي أن يخبره كم هم، فأبى، أي أنه يتعمد الإخبار عن عددهم ولو على نحو الإجمال.
ثم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سأله: كم ينحرون من الجزر( )، فقال: عشراً كل يوم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: القوم ألف.
ثم إنه أصابنا من الليل طشٌ( )، من المطر، فانطلقنا تحت الشجر والحجف( )، نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدعو ربه: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض).
فلما أن طلع الفجر نادى: الصلاة عباد الله ! فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحرّض على القتال.
ثم قال: إن جمع قريش عند هذه الضلعة( )، من الجبل. فلما أن دنا القوم منا وصاففناهم، إذ رجلٌ من القوم على جمل أحمر يسير في القوم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي، ناد لي حمزة – وكان أقربهم إلى المشركين – : من صاحب الجمل الأحمر ؟ وماذا يقول لهم؟
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن يكن في القوم من يأمر بالخير، فعسى ان يكون صاحب الجمل الأحمر، وفيه شاهد على الملازمة بين الخير وترك القتال، وأن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد القتال، ولا يسعى إليه، ولم يحتج المسلمون ويسألون القتال، انما كانوا متسالمين على أن الخير في الإنصراف عن القتال، وأن كان في النصر يومئذ معجزة متجددة إلى يوم القيامة.
فجاء حمزة، فقال: هو عتبة بن ربيعة وهو ينهى عن القتال، ويقول لهم: إني أرى قوماً مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير؛ يا قوم اعصبوها اليوم برأسي، وقولوا: جبن عتبة بن ربيعة، ولقد علمتم أني لست بأجبنكم.
قال: فسمع أبو جهل فقال: أنت تقول هذا ! والله لو غيرك يقول هذا لعضضته ! لقد ملئت رئتك وجوفك رعباً.
فقال عتبة: إياي تعير يا مصفر استه ! ستعلم اليوم أينا أجبن ! قال: فبرز عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد، حميةً.
فقالوا: من يبارز ؟ فخرج فتية ٌمن الأنصار ستة، فقال عتبة: لا نريد هؤلاء؛ ولكن يبارزنا من بني عمنا من بني عبد المطلب، لإرادة التقييد والحصر ببني هاشم خاصة من بين المهاجرين والأنصار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي قم، يا حمزة قم، يا عبيدة بن الحارث قم، فقٌتل الله عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة، وجرح عبيدة بن الحارث؛ فقتلنا منهم سبعين، وأسرنا منهم سبعين.
قال: فجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيراً، فقال: يا رسول الله؛ والله ما هذا أسرني، ولكن أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهاً، على فرس أبلق، ما أراه في القوم.
فقال الأنصاري: أنا أسرته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد آزرك الله بملكٍ كريم. قال علي: فأسر من بني عبد المطلب العباس وعقيل ونوفل بن الحارث. ) ( ).
سادساً : ولقد نصركم الله ببدر نصر الإيمان على الكفر ومفاهيمه .
الخامس : تعيين موضوع النصر , وهو ميدان معركة بدر ليكون فيصلاً بين زمان شيوع الكفر وزمان إنحسار , حال ضعف المسلمين وقوتهم وعزهم ومنعتهم , وصحيح أن لفظ (بدر) ظرف مكان .
وأن الباء في (ببدر) لإرادة الظرفية المكانية إلا أنه لا يمنع من احتسابه للظرفية الزمانية بلحاظ تعيين أوانه وهو اليوم السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة , إذ أن تقسيم الباء إلى ظرفية مكانية وزمانية إنما هو تقسيم استقرائي , ولا يمنع من الجمع بين المعنيين في اللفظ المتحد إلا مع القرينة الصارفة، وهذا الجمع من أسرار إحاطة ألفاظ القرآن المحدودة باللامحدود من الوقائع والأحداث.
ومن معاني النصر في المقام ترشح الشرف والفضل من الله عز وجل على ذات موضع معركة بدر إلى يوم القيامة , إذ يتلو المسلمون هذا اللفظ في صلواتهم وخارجها , وتجد في كل زمان رهطاً من المسلمين في كل بلدة من أمصارهم يختارون اسم بدر لأبنائهم , بقصد التبرك باللفظ القرآني.
ومن معاني بدر في اللغة هو القمر ليلة أربع عشرة من الشهر القمري , وتسمى ليلة البدر , لإقران إطلالته بغروب الشمس , فما أن تغيب عن الأرض يطل القمر لأنه يبادرها , وقد تغنى الشعراء والأدباء من كل الملل والنحل بالبدر , لظهوره كاملاً تاماً .
وقد هتفت نسوة وأبناء الأمصار عند قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً إلى المدينة وبأيديهن المزاهر :
أقبل البـــدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعـــــا لله داع( )
( وُيقال لِلَيْلَةِ البَدْرِ: مَيْسَانُ ) ( ), والبدرة عشرة آلاف درهم .
السادس : توجه الخطاب بصيغة الجمع , وهو معطوف على قوله تعالى [ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] ليكون من معانيه وجوه وتقديره :
الأول : يا أيها النبي لقد نصرك الله ببدر .
الثاني : يا أيها الأنصار لقد نصركم الله ببدر.
الثالث : يا أيها الذين هاجروا لقد نصركم الله ببدر.
ومن الآيات ورود اسم المهاجرين والأنصار في القرآن ، قال تعالى [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ] ( ) ليكون نصرهم في معركة بدر من شكر الله لهم على السبق للإيمان ، وما يدل عليه بالدلالة الإلتزامية من تحمل الأذى من القوم الظالمين.
الرابع : يا أيها الذين آمنوا لقد نصركم الله ببدر ، ليشمل الخطاب في الآية أعلاه أجيال المسلمين إلى يوم القيامة ، ويكون هذا النصر لهم على وجوه :
الأول : إنه ذخيرة وكنز ينهلون منه المعارف ، ومفاهيم الإيمان .
الثاني : بعث المسلمين والمسلمات على التقوى والخشية من الله، وهو من الإعجاز في تضمن آية (ببدر) الأمر من عند الله بالخشية منه [فَاتَّقُوا اللَّهَ]( ).
ولو دار الأمر بين إرادة الصحابة من الأمر في الآية أعلاه أم المراد عموم المسلمين.
فالجواب هو الثاني ، إذ تطل الآية كل يوم على المسلمين ليشكروا الله عز وجل على النصر في معركة بدر بالتقوى والخشية منه سبحانه ، فقد انقطعت وقائع معركة بدر في شطر من نهار واحد ، ولكن ما يترتب عليها من وجوب الشكر لله عز وجل والخشية منه سبحانه متصل ومتجدد إلى يوم القيامة .
الثالث : بيان التخفيف عن المسلمين بنصرهم في معركة بدر لما فيه من إنزجار الكفار عن مواصلة القتال والهجوم على المدينة المنورة .
فان قيل قد وقعت بعد معركة بدر معركة أحد ومعركة الخندق ، وكل منهما هجوم من الذين كفروا على المسلمين.
والجواب هذا صحيح ، ولكن رشحات نصر المسلمين في معركة بدر حاضرة في كل منهما من جهات :
الأولى : طول المدة بين معركة بدر وأحد وهي ثلاثة عشر شهراً ، ومدتها بين معركة أحد والخندق نحو سنتين .
الثانية : لقد هرع رجال قريش إلى معركة بدر حالما سمعوا بأن المسلمين يتعرضون لقافلة أبي سفيان .
الثالثة : سرعة إنقلاب جيش المشركين في معركة أحد إلى مكة فقد تركوا ميدان المعركة في ذات اليوم الذي بدأت فيه، ونادى أبو سفيان.
(يوم بيوم بدر: يوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر حبطة بخبطة وفلان بفلان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا سواء أما قتلانا فأحياء يرزقون وقتلاكم في النار يعذبون) ( ).
نعم كان يوم بدر هزيمة جلية للمشركين ، أما أن يوم أحد للمشركين , فلم ولن يثبت أنه نصر لهم ، فلم يفر أو ينهزم المسلمون من المعركة إذ بقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان المعركة يقاتل هو ونفر من أهل بيته وأصحابه.
الرابعة: موضوعية نصر المسلمين في معركة بدر في رفعة شأنهم من وجوه كثيرة منها:
الأول : زيادة إيمان المسلمين .
الثاني : دخول فريق من الناس الإسلام .
الثالث : إنحسار النفاق وخفوت أصوات المنافقين، وفضح أهل الشك والريب، بالنبوة , وفي التنزيل [وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا] ( ).
الرابع : تفقه المسلمين في الدين .
الخامس : تدبر المسلمين في نصرهم في معركة بدر والآيات والبراهين التي صاحبتها.
السادس : إنتفاع المسلمين من الغنائم في معركة بدر ، وعوض وبدل فكاك الأسرى ، خاصة وأن المهاجرين ملأوا أزقة المدينة ، فصار نوع انتعاش اقتصادي ونشطت أسواق المدينة ، ومنها أسواق اليهود ، إذ كانت لهم سوق تسمى (سوق بني قينقاع ) .
ثم أسس النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم سوق المناخة , ويقع غربي المسجد النبوي ويبعد عنه (500م) من الجهة الغربية الجنوبية للمسجد النبوي، ومن جهة مدخل باب السلام، ولا يزال هذا المسجد عامراً , ويحمل ذات الاسم .
قد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة العيد، وقيل كانت آخر صلاة عيد صلاها، وسمي مسجد الغمامة لمجئ غمامة حجبت الشمس عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندما كان فيه .
السابع : حضور المشركين إلى معركة أحد والخندق , والخوف والرعب يستوليان على قلوبهم ويظهران في أفعالهم وأقوالهم .
وهل كان هذا الخوف حاضراً بين صفوف المشركين في معركة بدر أم أنه صار بعد هزيمتهم فيها.
الجواب هو الأول , لقانون الملازمة بين الخوف ومحاربة النبوة والإيمان , قال تعالى[سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ]( )، فالذي يحارب النبي يستولي عليه الخوف والفزع ، أما الذي يدافع تحت لواء النبي فانه يصبر في الميدان ، ويبذل الوسع ، ويتنزه عن الغلول وعن الظلم والجور ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ] ( ) إذ تذكر الآية أموراً :
الأول : قتال عدد من الأنبياء في سبيل الله ، ويمكن تأسيس قانون , وهو : قتال الأنبياء دفاع .
وهل يدل لفظ ( ربيون ) في الآية أعلاه على هذا المعنى ، الجواب نعم ، لأن أهل التقوى والخشية من الله عز وجل لا يعتدون ولا يظلمون ، وهم إلى العبادة منقطعون ، وعلى الإمتناع عن الغزو والنهب يجتمعون .
الثاني : كثرة العلماء والمؤمنين الذين يقاتلون تحت لواء النبي لقوله تعالى [رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ] بيان أنهم يقاتلون عن إيمان وفقاهة ، مما يعني أن هذا القتال في سبيل الله دفاع عن النبوة والتنزيل .
الثالث : سلامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من الوهن والجبن والخور عند القتال مع سقوط الشهداء منهم ، وكثرة الجراحات التي أصابتهم، وفي جراحات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأصحابه، يوم معركة أحد وخروجهم إلى حمراء الأسد في اليوم التالي متعقبين لجيش المشركين، ورد قوله تعالى[الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ]( ).
ويحتمل المراد من الربيين في الآية وجوهاً :
الأول : أصحاب النبي .
الثاني : أنصار النبي في مدن وقرى غير البلدة التي فيها النبي .
الثالث : أتباع النبي من الأجيال اللاحقة له .
والمختار هو الأول لبيان فضل الله عز وجل على النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء السابقين، قال تعالى[فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ]( ).
الرابع : عصمة النبي وأصحابه من المهادنة مع الذين كفروا أو الخضوع لهم، وهو من مصاديق ورشحات قوله تعالى[وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ]( ).
الخامس : مع كثرة الضرر الذي كان يلحق بالنبي وأصحابه فان ايمانهم لم يضعف أو يفتر .
والذي يحارب النبي يعادي الله عز وجل في عرشه ، فينزل عليه السخط والبلاء، وتكون هذه المحاربة سبباً للمحق ، فلا يحتاج النبي إلى الغزو وإلى الهجوم والنهب، إنما ذات محاربة الكافر للنبي سبب لإصابة الكفار بالوهن والضعف , قال تعالى[وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]( ).
لقد زحفت قريش لقتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في معركة بدر وهي ناظرة إلى قانون السببية ، والعلة والمعلول في موازين القوة وملاك الترجيح المادي في الميدان، وأن كثرة جنودهم وأسلحتهم وخيلهم كافية لتحقيق النصر لهم ، وكانت في معسكرهم مائتا فرس.
أما المسلمون فلم يكن معهم يومئذ إلا فرسان ، فهل يكون نصر المسلمين في المعركة ناقضاً لهذا القانون أو أنه ينخرم بالمعجزة ، الجواب جاءت المعجزة ونزول الملائكة سبباً لنصر المسلمين ، فلم يجعلها رؤساء قريش في حسبانهم ، وهو من الشواهد على نسبة نصر المسلمين في معركة بدر إلى الله عز وجل ، وقد ورد ذكر السبب في القرآن بصيغة المفرد والجمع.
كما ذكرت الآية ضعف وذلة المسلمين كيلا يأتي أحد ويقول أن الله عز وجل نصر المسلمين بقوتهم وجهدهم وبسالتهم ، إنما نصرهم الله بالمعجزة التي حضرت عند إصرار الذين كفروا على الغزو والهجوم .
وهل فيه دعوة للناس لإجتناب الغزو مطلقاً ، الجواب نعم ، قال تعالى[ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ]( ) ومع أن الله عز وجل هو الناصر ، فلم يرد لفظ[يَنصُرُ] في القرآن إلا في الآية أعلاه.
ومن معاني نسبة النصر إلى الله عز وجل في آية (ببدر) وتلاوة المسلمين لها تنزه المسلمين عن الغرور , والذي قد يكون مادة وسبباً للغزو والنهب والفتك.
لقد جاءت آية النصر (ببدر ) بعد آيات تخص معركة أحد ، ولو لم يأت ذكر اسم بدر في الآية لقيل بأن المقصود هو معركة أحد ، وفيه مسائل :
الأولى : مواساة المسلمين لما أصابهم في معركة أحد .
الثانية : البشارة بمجئ النصر للمسلمين في معارك الإسلام اللاحقة .
الثالثة : دعوة المسلمين والمسلمات للصبر لما لحقهم في معارك أحد , ومن إعجاز القرآن مجئ الأمر للمسلمين بالصبر مقترناً بالمرابطة، قال تعالى[يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]( ).
الرابعة : تنمية ملكة الذكرى الحسنة والتذكير بفضل الله عز وجل عند المسلمين ، بأن يستحضروا نصر الله وعظيم فضله عند الملمات، وفي حال الرخاء والشدة والسراء والضراء .
ويمكن تقدير آية (ببدر) بصيغة المفرد على نحو الإنحلال والخطاب الموجه لكل بدري من الصحابة وكل مسلم ، وتقديرها : ولقد نصركم الله ببدر وأنت ذليل فاتق الله لعلكم تشكرون ) .
وهل يمكن شمول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالتقدير أعلاه , فيه وجوه :
الأول : النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في حال تقوى دائمة، وهو منقطع إلى الله تعالى بالشكر ، إنما الخطاب في الآية موجه إلى المسلمين ، ويخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه بالتخصيص.
الثاني : شمول النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالخطاب في الآية الكريمة .
الثالث : إرادة خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمقصود أمته , وتقدير الآية : ولقد نصرك الله ببدر وأمتك أذلة فليتقوا الله لعلهم يشكرون .
والمختار هو الثاني ، وأن عصمة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإمامته لأهل التقوى ، وإنقطاعه إلى الشكر لله عز وجل ، والدعاء ليست برزخاً من تلقي الخطاب من عند الله بالتقوى والشكر له سبحانه .
وتقدير الآية في الخطاب للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم على وجوه :
الأول : يا أيها النبي لقد نصرك الله ببدر.
الثاني : يا أيها النبي لقد نصرك الله ببدر وأنتم أذلة فأمر أمتك بالتقوى لعلهم يشكرون) بلحاظ ترشح الشكر لله عز وجل عن التقوى، وهو وفق القياس الإقتراني :
الكبرى : المتقون يشكرون الله.
الصغرى : المؤمنون متقون.
النتيجة : المؤمنون يشكرون الله.
وهل يمكن القول بأن المسلمين بلغوا مرتبة التقوى بالنصر في معركة بدر بلحاظ الأمر بالتقوى الوارد في قوله تعالى[وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا]( )، الجواب لا إنما المراد وجوب إقامة المسلمين على التقوى، واستدامة طاعتهم لله عز وجل، وعدم إختيار الغزو والهجوم بعد معركة بدر، لذا فانهم لم يهجموا على المشركين، ولكن كفار قريش هم الذين عادوا للقتال بعد أكثر من سنة لتقع معركة أحد، فيكون حجة عليهم , وهو من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( ).
ولما نزل قوله تعالى [إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا] ( ) قيل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم : ما هذا الإجتهاد ؟
( وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال : أفلا أكون عبداً شكوراً؟)( ).
أسباب نزول آية [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ]( ).
ذكرت وقائع متعددة لموضوع نزول الآية أعلاه وهي :
الأول : معركة بدر ، إذ جاءت غنائم الحرب للمسلمين ولم يغزوا فيها قرية أو بلدة ، ولم يبدأوا القتال ، ولم يكونوا راغبين فيه، فهو من مصاديق قوله تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ) .
ليكون من معاني الكتابة والفرض في المقام أن الذين كفروا أصروا على القتال ، وتقدموا إلى المبارزة ، وبعد أن جمعت الغنائم يوم بدر فقدت قطيفة حمراء فتساءل الصحابة عنها.
وقال بعضهم : لعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذها فنزلت الآية للزجر عن الظن بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ من الغنائم خفية ، أي ليس خيانة.
إنما يتنزه النبي عن الإستيلاء والإنفراد بالغنائم خفية .
و(عن حصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال: فقدت قطيفة حمراء يوم بدر مما أصيب من المشركين، فقال أناس: لعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذها، فأنزل الله تعالى – وما كان لنبي أن يغل – .
قال حصيف: فقلت لسعيد بن جبير : ما كان لنبي أن يغل، فقال: بل يغل ويقتل.) ( ).
والقول الأخير مخالف لظاهر الآية وصريح السنة النبوية , إذ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحذّر من الغلول، وتحتاج نسبة وصدور الحديث للتحقيق، إلا أن يكون المراد معنى مغاير للغل .
ويلزم صدور هذا المعنى من سعيد بن جبير إلى دليل وشاهد .
الثاني : نزول الآية بخصوص معركة أحد ، وترك الرماة مواضعهم طلباً للغنيمة , وخشية توزيعها بين الصحابة الذين يستحوذون عليها , خاصة وأن آية الغلول جاءت ضمن آيات معركة أحد في سورة آل عمران , وقد تقدم الكلام عنه في جزء سابق( ).
(وقال الكلبي ومقاتل: نزلت حين ترك الرماة المركز يوم أحد طلباً للغنيمة، وقالوا نخشى أن يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أخذ شيئا فهو له، وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم :
ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.) ( ), ولا دليل على نزول الآية بخصوص الرماة ، ولكن ليس من مانع من استشهاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد بآية الغلول التي نزلت في معركة أحد.
فمن إعجاز الآية القرآنية تكرار أسباب النزول والوقائع التي تتعلق بموضوعها , لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع غنائم بدر، ووزعها على عموم المهاجرين والأنصار الذين حضروا المعركة .
الثالث : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتقسيم غنيمة جاءته بين أصحابه , وكان بعض الصحابة في طلائع بعثها في تلك الأيام , فلما عادوا أخبرهم الناس بمجىء غنيمة وقيام النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بتوزيعها على الحاضرين من الصحابة , فصار في نفس الطلائع شيء , وقالوا قسم الفىء ولم يقسم لنا، فانزل الله عز وجل الآية عن الضحاك( ).
ليبان أن النبي محمداً صلى الله عليه وآله وسلم لم يقسم الفىء إلا بالوحي من جهات :
الأولى : أوان التقسيم .
الثانية : الجهات والأشخاص الذين ذهب إليهم الفىء .
الثالثة : مقدار سهم كل فرد من الصحابة من الفىء , لبيان تنزه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخيانة، وعن الغبن لبعض المسلمين .
الرابعة : قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهبة سهمه من الغنيمة إلى المسلمين .
الخامسة : كثرة ما يرجعه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى المشركين من الغنائم والسبي .
الرابع : نزلت آية [وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ] ( ) يوم حنين ، عندما وقع في يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم غنائم هوازن ، غلّ رجل بمخيط ، فانزل الله تعالى هذه الآية عن الضحاك ( ) .
والظاهر أن الآية نزلت قبل معركة حنين التي وقعت في السنة الثامنة للهجرة وبعد فتح مكة ، نعم حذّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها المسلمون من الغلول خاصة مع كثرة الغنائم يومئذ , وكون المسلمين فيها في حال دفاع محض .
(عن عبادة بن الصامت قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين وبرة من بعير ، ثم قال : أيها الناس إنه لا يحل لي مما أفاء الله عليكم قدر هذه إلا الخمس , والخمس مردود عليكم .
فأدوا الخيط والمخيط وإياكم والغلول فإنه عار على أهله يوم القيامة ، وعليكم بالجهاد في سبيل الله فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله به الهم والغم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكره الأنفال .
ويقول : ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم) ( ).
الخامس : ورد عن ابن عباس أن أشراف الناس استدعوا رسول الله صلى الله عيه وآله وسلم أن يخصهم بشئ من الغنائم ، فنزلت الآية.
ولا مانع من تعدد وأسباب النزول ، ولكن المدار على أمور :
الأول : جهة صدور الخبر .
الثاني : رجال سند الخبر .
الثالث : ملائمة الخبر لمضامين الآية .
الرابع : عدم تعارض الخبر مع آيات القرآن الأخرى .
وتبين الآية نزاهة الأنبياء وحرصهم على بناء صرح الأخلاق الحميدة، وعدم ميلهم إلى حطام الدنيا .
لقد أراد الله عز وجل بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الإكرام من وجوه :
الأول : إكرام الأنبياء جميعاً والذب عنهم .
الثاني : البعثة النبوية والتنزيل إكرام ورحمة بالناس جميعاً، وصلة ورأفة بهم وسبيل لجذبهم إلى مقامات القرب من عند الله عز وجل , وهو من عمومات قوله تعالى [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] ( ).
الثالث : إكرام المؤمنين، وجعل التقوى والخشية من الله ملاك التفاضل ، قال تعالى [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] ( ) ومن التقوى وجوه :
الأول : إجتناب التعدي والظلم .
الثاني : الصبر على الأذى ، ومنه أذى قريش وإصرارهم على القتال ، وكان النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يقيمون الصلاة اليومية في المدينة ويجاهدون في سبيل الله بالحكمة والموعظة وإقامة الحجة على وجوب التوحيد ، والتصديق بالنبوة والتنزيل.
وتردهم الأخبار بأن قريشاً يعدون العدة للهجوم عليهم ، فلم يتناجوا بالقتال والدفاع ، ولم يقوموا بما يقابل وعيد قريش بوعيد مثله ، حتى إذا ما أغار المشركون على أطراف المدينة كما فعل كرز بن جابر ونهب بعض سرح وإبل أهل المدينة خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في طلبه ، أو بلغهم أن جيوش قريش صارت قريبة من جبل أحد أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم النفير كما في قوله تعالى [وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] ( ).
الثالث : حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صبغة الدعوة إلى الله بالحكمة والبرهان قبل إبتداء القتال وبعده، بأن ينادي في معسكر المشركين (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) وفيه وعد وكشف عن قانون وهو الملازمة بين التوحيد والفلاح ، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الفلاح بصيغة الإطلاق ، والمراد منه المعنى الأعم الشامل للحياة الدنيا والآخرة ، ومنه الفلاح العاجل في ميدان القتال من جهات :
الأولى : إجتناب القتال .
الثانية : بالتوحيد يأمن الناس من القتل .
الثالثة : سلامة الذين كفروا من أن يبوؤا بدم مؤمن ، قال تعالى [وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا] ( ) .
الرابعة : ومن خصائص القرآن والسنة تنمية ملكة التقوى عند المسلمين إذ تبعث كل آية على التقوى ، وكان قول وفعل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أبهى مصاديق التقوى ، لذا ورد قوله تعالى [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ] ( ).
الخامسة : لما احتج الملائكة على جعل آدم [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً]( )، بأن من ذريته من يختار الكفر والجحود ، ويعمل السيئات ، ويتمادى فيها حتى يسفك الدماء ، ويباشر زهوق روح غيره من الناس ، مع أن الموت والحياة أمران وجوديان ، والأصل فيهما أنهما بيد الله وجزء من مصاديق ربوبيته المطلقة ، قال تعالى [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ] ( ).
فأخبرت الآية أعلاه على أن كلاً من الموت والحياة أمر مخلوق وليس عدمياً وأجاب الله عز وجل الملائكة على احتجاجهم وسؤالهم، فخروا إلى الله سجداً ، وأدركوا بديع صنع الله في خلق الإنسان وفي خلافته ، وتطلعوا إلى إكرام الله عز وجل لهم بالإطلاع على مصاديق من علم الله في المقام والتي تدل على أهلية الإنسان للخلافة في الأرض .
ومنها بعثة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإزهاق الأرواح إلا بالحق ، كالقصاص الذي أمر الله عز وجل به ليكون سبباً للنجاة من القتل بقوله تعالى [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ]( ) .
وتقدير الآية : ولكم في حكم القصاص حياة، أي أن المراد من سبب الحياة أعم من تنفيذ القصاص، فذات الحكم ونزوله من عند الله وتلقي المسلمين له بالقبول سبب للحياة.
فاذا همّ الإنسان بالقتل استحضر القصاص والقود منه، وانه سيقتل قصاصاً فانه يمتنع عن القتل ، فيكون في هذا الحكم نجاة للقاتل والمقتول ، وموعظة للناس، وعيشهم بأمان وطمأنينة , والتوجه للكسب والعمل، وأداء الفرائض، وهذا الأمان من مصاديق الحياة في الآية أعلاه .
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحث أصحابه على إجتناب القتل ، ولا يرضى به من غير حق وإن كان على نحو القضية الشخصية.
وروى عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية من المسلمين فلاقاهم المشركون وأقتتلوا ، فانهزم المشركون ، فحمل أحد المسلمين على رجل من المشركين بالرمح ، فلما غشيه وتمكن منه قال الرجل : أشهد أن لا إله إلا الله أني مسلم.
ولكن المسلم طعنه فمات، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله هلكت .
فاعتنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمسألته وسأله : ماذا صنعت ؟
فأخبره بما فعل من قتل الرجل مع نطقه بالشهادتين .
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فَهَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ بَطْنِهِ فَعَلِمْتَ مَا فِى قَلْبِهِ.
قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ شَقَقْتُ بَطْنَهُ أَكُنْتُ أَعْلَمُ مَا فِى قَلْبِهِ قَالَ: فَلاَ أَنْتَ قَبِلْتَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ وَلاَ أَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِى قَلْبِهِ( ).
فلم يرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا القتل حتى وان كان هذا الشخص المقتول قد نطق بشهادة التوحيد طلباً للنجاة ، أو أنه أسلم لشدة الخوف من القتل.
وهل يتعلق عدم الرضا هذا بذات الواقعة وحدها ، أم أنه موعظة وحث نبوي على الإحتراز في الدماء.
الجواب هو الثاني ، فهو نهي عن أمور :
الأول: القتل ، فكما قال تعالى [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] ( ) فان القتل أشد كرهاً وان كان قتلاً للكافر المعتدي.
وبين القتال والقتل عموم وخصوص من وجه ، فمادة الإلتقاء اتخاذ السيف وسيلة ويكون القتال مقدمة للقتل ، وقد يقع القتل من غير قتال ، سواء على نحو القضية الشخصية أو القتل المتعدد , وقد يقع قتال من غير قتل.
فجاء التحذير الإنذار من الله عز وجل , ومن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عاماً ومطلقاً .
الثاني : المنع من التعجل بالقتل ، وأن دخول المعركة في ملاقاة المشركين لا يعني القتل العشوائي .
الثالث : كراهة ملاحقة المشركين عند فرارهم وإنهزامهم .
الرابع : بيان مسألة وهي رجوع المسلمين إلى النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمورهم والوقائع الحادثة .
فلم يختر هذا الصحابي السكوت ، ولم يخف مسألة نطق المقتول بكلمة التوحيد خشية توجيه اللوم له ، أو الإخبار عن ترتب الإثم على هذا القتل ، فكانت النتيجة من هذه المسألة انتفاع أجيال المسلمين وإمتناعهم عن التعجل بقتل الكافر ، ولزوم الإحتراز في الدماء وتنمية ملكة الأحتراز هذا عند المسلمين من مصاديق احتجاج الله عز وجل على الملائكة بقوله تعالى [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
فمن علم الله عز وجل صيرورة المؤمنين في كل زمان مجتنبين الغزو ومحترزين عن سفك الدماء , وهو من مصاديق قوله تعالى [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] ( ).
الخامس : قد ورد لفظ [يسألونك] خمس عشرة مرة في القرآن ولكن سؤال المسلمين للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم في أمور متعددة ، وسؤال المسلمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أعم موضوعاً وأكثر عدداً مما ورد بلفظ ( يسألونك ) ومنه الأسئلة التي توجه إليه في شؤون القتال وكيفية صرفه ، والحاجة إلى الدفاع ، لبيان أن الدفاع بقدره ولا ينتقل إلى الهجوم والتعدي .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم اتصاف أجوبته في المقام بأمور :
الأول : كراهة القتل مطلقاً .
الثاني : قبول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للإعتذار .
الثالث: دعوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى نبذ الثأر والعادات القبلية البغيضة .
الرابع : تجلي مصاديق لقوله تعالى [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] ( ) ليدرك المسلمون والناس جميعاً أن صبغة الخلق العظيم ملكة دائمة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى في ميادين القتال بلحاظ كبرى كلية وهي أن الإنسان تختلف طبائعه في ميدان القتال ، وقد يميل إلى التعدي ويستبق غريمه وعدوه في المباغتة .
فجاءت سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ميدان القتال لتدعو إلى الرحمة والعفو من جهات :
الأولى : عدم قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الغزو أو الهجوم على الذين كفروا ، لقد كانت أكثر القرى في الجزيرة وحول مكة والمدينة صغيرة مع قلة عدد أهلها وكثرة المواشي والأنعام التي عندهم ، ولكن أكثرهم من الكفار في سني الهجرة الأولى .
فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسرايا المسلمين يمرون عليهم من غير أن يتعرضوا لهم أو يأخذوا أموالهم , وكان يوادع بعضهم ، وهو شاهد على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يغزُ القرى ، وأهل المدر والوبر .
الثانية : طاعة المسلمين لله ولرسوله بعدم غزو وترويع أهل القرى والقبائل ، وفيه دليل على تغشي الرحمة ونعمة الأمن للناس ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ كانت القبائل يغزو بعضهم بعضاً ، ومنهم أفراد أو أبناء عمومة واحدة ، قال تعالى [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ]( ).
وجاءت الآية أعلاه لبيان فضل الله عز وجل على قريش في الأمن من الخطف والسبي والفزع من النهب والقتل .
لقد أكرم الله عز وجل إبراهيم عليه السلام وذريته بأن جعل البيت الحرام حرماً آمناً ليبعث الله عز وجل النبي محمداً فتكون الجزيرة والأرض أرضاً آمنة تؤدى فيها الصلوات .
ويذكر الناس الله , ويشيع العدل والحق .
فان قلت قد كانت هناك دول في الأمم السالفة تتصف بالعدل في الحكم ، كما في حكم كسرى , وحمورابي سادس ملوك بابل وحكم بين سنة(1792-1750) قبل الميلاد وسلته التي تحتوي على 282 مادة قانونية ( ).
والجواب هذا صحيح وهو يحدث في أمصار وأزمنة محدودة أما أحكام رسالة النبي فهي باقية إلى يوم القيامة ، ولم تختص أو تنحصر ببلد مخصوص , أو شخص حاكم يتصف بحبه للعدل واجتهاده في الإنصاف ، إنما يكون الحاكم مقيداً بالعمل بمضامين والحق والعدل التي جاء بها القرآن والسنة ، ومنها نشر معاني الرحمة بين الناس، وكراهية القتل وسفك الدماء.
الثالثة : كثرة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السرايا من المدينة وعودته من غير قتال ، ولا بد من اجراء احصائية تبين عدد المرات التي خرج فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة ومعه أصحابه , وعودتهم مع الحرص على إجتناب كل من الأمور التالية :
الأول : القتال .
الثاني : الغزو .
الثالث : السلب والغنائم .
الرابع : الإكراه في فرض الإسلام ، قال تعالى [لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ] ( ).
فان قلت قد وقع قتال كما في معركة بدر وأحد , والجواب هذا صحيح ، ولكن هذا القتال بقصد وإصرار من الذين كفروا وقيامهم بالإبتداء بالرمي والتقدم للمبارزة ، وما فيه من التحدي ، وفي معركة أحد تقدم بين الصفين طلحة بن أبي طلحة صاحب لواء المشركين ، ونادى : من يبارز ، فلم يخرج أي أحد من المهاجرين والأنصار .
وهل عدم الخروج هذا من الخوف والخشية من القتل ، الجواب لا ، إنما هو لأمور :
الأول : إقامة الحجة على الذين كفروا وهل هو من مصاديق قوله تعالى[فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ] ( )، الجواب نعم، بلحاظ أنه شعبة من الوحي، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمر أحداً من أهل البيت وأصحابه بالخروج لمبارزته.
الثاني : بيان مصداق لطاعة المسلمين لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في عدم إختيار المبارزة والإعراض عمن سألها .
الثالث : التأكيد العملي لمصداق قوله تعالى[كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ]( )، أي فرض القتال بسبب عناد وإصرار الذين كفروا، والمسلمون كارهون له سواء على نحو القضية النوعية كالمعركة، أو القضية الشخصية كالمبارزة .
الرابع : بيان أولوية وأثر نداء النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين الصفين (قولوا لا إلا الله تفلحوا) والذي يدل في مفهومه على خسارة الذي يحارب الموحدين والذين ينادون بكلمة التوحيد أعلاه، لأنهم مفلحون .
ومن الفلاح الدعاء وسؤال النصر وتحققه وفي التنزيل[وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]( ).
الخامس : عندما يتقدم الإمام علي عليه السلام ويقتل صاحب الإلحاح بالمبارزة يصاب الذين كفروا بالخيبة والخسران، وهو من مصاديق قوله تعالى[لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ]( )، وصحيح أن الآية أعلاه وردت بحرف العطف (أو) وما فيه من إرادة أحد أمرين انما إجتمعت في هذه المبارزة , وكلمة كل من الآية :
أولاً : قطع طرف من الكفار لأن الطرف هنا اسم جنس يقع على المفرد والمتعدد، والأصل في الآية هو الثاني .
ثانياً : لحوق الكبت والهوان بالذين كفروا.
ثالثاً : إنكسار وخيبة الذين كفروا، ورجوعهم وقتل حامل لوائهم لم ولن يصاحبهم.
السادس : رجاء رجوع أبي طلحة إلى موضعه من الصف, واجتنابه الإلحاح على المبارزة , وفيه وجوه :
أولاً : السلامة من المبارزة , وقتل أحد المتبارزين أو كليهما .
ثانياً : منع إشتداد الحرب والوطيس .
ثالثاً : إمكان ادراك التوبة لأبي طلحة .
رابعاً : بيان قانون وهو كراهية المسلمين للقتال , فصحيح أن قتلاهم في الجنة الا أنه لا يعني الرغبة في القتال , ومن معاني فوز قتلى المسلمين بالجنة , أنهم يقاتلون في سبيل الله , ويتنزهون عن الظلم , وتسفك دماؤهم ظلماَ وعدواناً وهو من مصاديق احتجاج الملائكة في جعل الإنسان [فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] ( ), إذ سألوا الله عز وجل [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ]( )، ليكون من معاني هذا السؤال وتضرع الملائكة لله عز وجل عدم استطاعة الذين كفروا قتل المؤمنين , فاجابهم الله عز وجل [إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] ( ) .
ومن علم الله عز وجل في المقام تقدم طلحة بن أبي طلحة للقتال , وتحديه المؤمنين بطلب المبارزة وهو من مصاديق قوله تعالى [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا]( )، فمن الفساد في المقام أمور:
الأول : زحف الذين كفروا للقتال .
الثاني : عزم الذين كفروا على قتل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
الثالث : طلب أبي طلحة المبارزة , وتكراره النداء .
ومن فضل الله عز وجل حجب سفك الدماء من قبل أبي طلحة ومنعه من قتل المؤمنين , إذ برز إليه الإمام علي عليه السلام فقتله , ليكون من الإعجاز في إحتجاج الملائكة [أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ] ( ), تضمن استفهامهم الإنكاري هذا معنى الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل بمنع فساد المشركين , وحجبهم عن سفك دماء المؤمنين , فاستجاب الله عز وجل لهم بأن قتل الذي دعا إلى المبارزة وأصر عليها , وأراد سفك دماء المؤمنين , ولو قتل واحداً واثنين فانه لا يكتفي بل يطلب المبارزة مرة أخرى.
ولم يكتف طلحة بن أبي طلحة بطلب المبارزة , انما كان يعيّر المؤمنين لعدم خروجهم لمبارزته , ويعده خشيةً وفرقاً وخوفاً.
وكان يحلف وهو بالميدان بالأصنام , وحينما قتله الإمام علي عليه السلام , قال : قتله الله عز وجل (وَيُقَالُ إنّ أَبَا سَعْدِ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ خَرَجَ بَيْنَ الصّفّيْنِ فَنَادَى أَنَا قَاصِمُ مَنْ يُبَارِزُ بَرَازًا ، فَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِ أَحَدٌ .
فَقَالَ يَا أَصْحَابَ مُحَمّدٍ زَعَمْتُمْ أَنّ قَتَلَاكُمْ فِي الْجَنّةِ وَأَنّ قَتَلَانَا فِي النّارِ كَذَبْتُمْ وَاَللّاتِي لَوْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ حَقّا لَخَرَجَ إلَيّ بَعْضُكُمْ فَخَرَجَ إلَيْهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَضَرَبَهُ عَلِيّ فَقَتَلَهُ)( ).
ليكون قتل الإمام علي عليه السلام له من عمومات قوله تعالى [وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ] ( ).
وصحيح أن هذه الآية نزلت في واقعة الخندق , وبعد مرور نحو سنتين إلا أنه لم يمنع من تحقق مصداق للآية قبل أوان نزولها (عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ هذا الحرف { وكفى الله المؤمنين القتال } بعلي بن أبي طالب( ).
عن أبي سعيد الخدري قال : حبسنا يوم الخندق عن الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، حتى كان بعد العشاء بهويّ كفينا ذلك . فأنزل الله[وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا]( )، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلالاً فأقام ، ثم صلى الظهر كما كان يصليها قبل ذلك.
ثم أقام فصلى العصر كما كان يصليها قبل ذلك.
ثم أقام المغرب فصلاها كما كان يصليها قبل ذلك ، ثم أقام العشاء فصلاها كما كان يصليها قبل ذلك . وذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف { فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً })( ).
لقد اشتد الكرب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه في حصار الخندق لوجوه :
الأول : إحاطة عشرة آلاف رجل من المشركين المدينة المنورة .
الثاني : طول مدة الحصار , بما لم يكن متعارفاً في الجزيرة من جهات :
الأولى : كثرة الجيش المهاجم.
الثانية : طول مدة الحصار إذ استمر لأكثر من عشرين ليلة .
الثالثة : عدم إنحصار الأمر بالصحابة، انما كان بعض فرسان قريش يجتازون الخندق , ويحاولون العبث في المدينة وتلف أموال أهلها , أو يسألون المبارزة ,كما في عمرو بن ود العامري .
وكان من فرسان قريش , وقد تخلف عن الحضور إلى معركة أحد بسبب جراحاته في معركة بدر ولكنه لم يتعظ ويعتبر بما لحقه وقومه من الخسائر في معركة الخندق , ولم يقف مع أصحابه ويكتف بحصار المدينة ,انما اقتحم بفرسه الخندق وطلب المبارزة وكانت ساعة عصيبة على المسلمين لما يعرفونه من شجاعته وشدة بطشه , ولكنهم يدركون ان الله عز وجل هو الذي نصرهم وينصرهم , وليكون قوله تعالى [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى] ( ), إنذاراً للمشركين , ودعوة للإمتناع عن القتال .
ويحتمل في موضوعه أنه يختص بالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو مسألة رمي الحصى أو السهام , أم المراد أسباب المنعة والغلبة للمسلمين في المبارزة والقتال , الجواب هو الثاني , وفيه زجر للذين كفروا عن قتال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه.
وبلحاظ نظم الآيات جاءت آية النهي عن الغل والخيانة وإخفاء بعض الغنائم بعد آية تتضمن الوعد للمسلمين بالنصر والغلبة بقوله تعالى [إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُون]( ).
وفيه دعوة للمسلمين للإستعداد للنصر بالعزم على اجتناب الغلول ، وهذا الإجتناب برزخ دون الخذلان وسخط الله عز وجل ، إذ أن الآية أعلاه لم تأت بمسألة النصر وحده بل تضمنت التحذير ، وفيه شاهد على أن النصر بيد الله وحده ، وهو مصاحب للمؤمنين ، ومع هذا فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتخذ الوعد من عند الله بالنصر , وتحقق هذا النصر في معركة بدر سبباً للغزو وكثرته .
ومن الفلاح الذي يدعو له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين كفروا في ميدان المعركة وجوه :
الأول : السلامة من صيرورة الإنسان أسيراً بيد المسلمين .
الثاني : النجاة من القتل في محاربة الإسلام مع الحجة من الله بلحاظ أن الذين كفروا هم الذين اختاروا القتال والقتل ، وهو من مصاديق قوله تعالى [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] ( ) .
الثالث : التوبة والإنابة إلى الله ، وهي أعظم ما في الحياة الدنيا ، إذ يمتلأ القلب معها بالغبطة والرضا ، وتطرد السكينة ما علق به من الرعب والفزع ، إنما يكون الخوف فيه من الله عز وجل ، ومقترناً بالرجاء .
وتضمن التنزيل حث المسلمين على الخوف والخشية من الله عز وجل إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
الرابع : الإنتقال من ظلمات الضلالة إلى نور الإيمان والرشاد ، وفي التنزيل (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ( ) .
الخامس : الأمن والسكينة في الدنيا لحسن العاقبة في الآخرة .
السادس : التنزه عن الخيانة والغدر .
وهل كل الأنبياء قاتلوا ، الجواب لا ، فشطر من الأنبياء بعثوا في قومهم ولم يقاتلوا ومنهم من قتل من غير أن يقاتل أو يرفع سيفاً ، لذا فان دفاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه حاجة وضرورة لأجيال الناس ، ومقدمة وظرف لنزول آيات القرآن على التوالي والتتابع .
ومن الأنبياء من عمل بالزراعة أو النجارة ، فلم تكن عنده غنائم ، ولكن الآية جاءت بتنزيه الأنبياء عن الغلول مطلقاً ، فيه وجوه :
الأول : إرادة المعنى الأعم لموضوع ومادة الغلول ، لتشمل الزكوات ونحوها .
الثاني : المقصود الأنبياء الذين قاتلوا ، ووقعت في أيديهم غنائم، فلم يغلوا منها ، ولم يأخذوا منها شيئاً خفية .
الثالث : المقصود عموم الأنبياء من قاتل ومن لم يقاتل .
والمختار هو الأخير بلحاظ قانون وهو عصمة النبي من الغلول سواء قاتل أو لم يقاتل .
للتباين والتضاد بين النبوة والخيانة ، وبين الخيانة والغلول عموم وخصوص مطلق ، فكل غلول هو خيانة وليس العكس، ونزل قوله تعالى[وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ]( )، لإنذار الأسرى الذين أطلقهم رسول الله سواء الذين دفعوا الفدية أو لم يدفعوها بأن لا يعودوا لمحاربة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبيان أن الله عز وجل يحذر وينذر عموم الذين كفروا بأن لا يعودوا للقتال، وليس الأسرى وحدهم لأن القرآن نزل بلغة إياك أعني واسمعي ياجارة.
لقد شاع نصر المسلمين في معركة بدر بين القبائل وبلغ الدول العظمى آنذاك ، فكما هو اليوم فالعرف عند الملوك والرؤساء بأن يُقدم لهم تقرير يومي عن الوقائع والأحداث ذات الأهمية في ناحيتهم ، والدول الأخرى ، فقد كان الملوك يبلغون بالوقائع ذات الشأن.
وبلغ النجاشي خبر نصر النبي ببدر وكثرة قتلى قريش في المعركة ، فلبس ثوبين أبيضين ، وجلس على الأرض تواضعاً لله عز وجل ، ثم دعا جعفر بن أبي طالب وأصحابه المهاجرين إلى الحبشة ،وسألهم : أيكم يعرف بدراً ، فأخبروه ، فقال أنا أعلم بها ، ولكن أردت التثبت منكم .
ثم أخبرهم بأن الله عز وجل نصر رسوله ببدر ، وحمد الله على هذا النصر ، وصارت الدول العظمى تهاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتتجنب تجهيز الجيوش ضده ، وإلا فبامكان قيصر وكسرى إرسال الجيوش مع بعض الرؤساء العرب عندما يستجيرون بهم ، وتكون لتلك الدول منافع بهذا الإرسال.
كما في (إعادة كسرى أنو شروان المنذر بن ماء السماء إلى ولاية الحيرة )في قصة مذكورة في المطولات التأريخية ( ).
وكما في لجوء إمرىء القيس إلى قيصر إذ كان حجر والد إمرئ القيس له أتاوة وجائزة سنوية يأخذها من بني أسد من خزيمة وغطفان بعد أن قاتلهم وتغلب عليهم وأستمر يأخذ منهم الأتاوة لسنوات.
وفي احدى السنوات جاءتهم رسل حجر وهم في تهامة فطردوهم ، ولما جادلوهم ، وطالبوا بحق حجر ضربوهم .
فسار إليهم حجر بجند من ربيعة , وجند من قيس كنانة، فأخذ رهطاً من وجهائهم ، وقتل طائفة منهم بالعصا ، وحبس طائفة أخرى منهم عبيد بن الأبرص الشاعر الذي قال أبياتاً من الشعر يستعطفه.
وما لبثت بنو أسد أن عادوا وهجموا على حجر وقتلوه ، وكتب وصية قبل أن يموت ، ودفعها إلى رجل وقال له (انطلق إلى ابني نافع، وكان أكبر أولاده، فإن بكى وجزع فاتركه واستقرهم واحداً واحداً حتى تأتي امرأ القيس، وكان أصغرهم، فأيهم لم يجزع فادفع إليه خيلي وسلاحي ووصيتي. وقد كان بيّن في وصيته من قتله، وكيف كان خبره.
فانطلق الرجل بوصيته إلى ابنه نافع فوضع التراب على رأسه ثم أتاهم كلهم، ففعلوا مثله حتى أتى امرأ القيس فوجده مع نديم له يشرب الخمر ويلعب معه بالنرد( )، فقال: قتل حجر.
فلم يلتفت إلى قوله، وأمسك نديمه، فقال له امرؤ القيس: اضرب، فضرب حتى إذا فرغ .
قال: ما كنت لأفسد دستك( )، ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كله، فأخبره، فقال له: الخمر والنساء علي حرام حتى أقتل من بني أسد مائة وأطلق مائة , وجاء الإسلام بالحكم النازل من السماء [النَّفْسَ بِالنَّفْسِ]( )، وحًبب الى الناس قبول الدية والعفو والإحسان مطلقاً.
وكان حجر قد طرد امرأ القيس لقوله الشعر، وكان يأنف منه، وكانت أم امرئ القيس فاطمة بنت ربيعة بن الحارث أخت كليب بن وائل، وكان يسير في أحياء العرب يشرب الخمر على الغدران ويتصيد، فأتاه خبر قتل أبيه وهو بدمون من أرض اليمن، فلما سمع الخبر قال:
تطاول الليل علينا دمّون … دمّون إنّا معشرٌ يمانون
وإنّنا لقومنا محبّون
ثم قال: ضيعني صغيراً وحمّلني دمه كبيراً، لا صحو اليوم ولا سكر غداً، اليوم خمرٌ وغداً أمرٌ. فذهبت مثلاً) ( ).
واستجار أمرئ القيس بعدة بقبائل ، ثم استجار بالسموأل بن عاديا اليهودي فاكرمه وأنزله.
ثم التجأ إلى قيصر بواسطة الحارث بن أبي شمر الغساني , وأودع أهله وأدراعه عند السمؤال .
وسيّر قيصر مع أمرئ القيس جيشاً فيه جماعة وأبناء الملوك ، فعلمت بنو أسد ، فارسلوا إلى قيصر رجلاً منهم واسمه الطماح كان امرؤ القيس قتل أخاً له ليحرضه ضد أمرئ القيس ، وقال لقيصر أنه راسل ابنتك وتغزل بها بشعر اشتهر عند العرب ، وقرأ له بعض الأشعار .
(فأرسل إليه قيصر بحلة وشي منسوجة بالذهب، مسمومة، وكتب إليه: إني أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها تكرمةً لك فالبسها واكتب إلي بخبرك من منزل منزل. فلبسها امرؤ القيس وسر بذلك، فأسرع فيه السم وسقط جلده، فلذلك سمي ذا القروح؛ فقال امرؤ القيس في ذلك:
لقد طمح الطمّاح من نحو أرضه … ليلبسني ممّا يلبّس ابؤسا
فلو أنّها نفس تموت سويّةً … ولكنّها نفس تساقط أنفسا
فلما وصل إلى موضع من بلاد الروم يقال له أنقرة احتضر بها،
ربّ خطبة مسحنفره، … وطعنةٍ مثعنجره
وجفنةٍ متحيّره … حلّت بأرض أنقره
ورأى قبر امرأة من بنات ملوك الروم وقد دفنت بجنب عسيب، وهو جبل، فقال :
أجارتنا إنّ الخطوب تنوب … وإنّي مقيمٌ ما أقام عسيب
أجارتنا إنّا غريبان ها هنا … وكلّ غريبٍ للغريب نسيب
ثم مات فدفن إلى جنب المرأة، فقبره هناك.
ولما مات امرؤ القيس سار الحارث بن أبي شمر الغساني إلى السموأل بن عادياء وطالبه بأدراع امرئ القيس، وكانت مائة درع، وبما له عنده، فلم يعطه، فأخذ الحارث ابناً للسموأل، فقال: إما أن تسلم الأدراع وإما قتلت ابنك. فأبى السموأل أن يسلم إليه شيئاً، فقتل ابنه، فقال السموأل في ذلك:
وفيت بأدرع الكنديّ إنّي … إذا ما ذمّ أقوامٌ وفيت
وأوصى عاديا يوماً بأن لا … تهدّم يا سموأل ما بنيت
بنى لي عاديا حصناً حصيناً … وماءً كلّما شئت استقيت) ( ).
ومسألة بعث القيصر جيشاً مع أمرئ القيس ، ثم أرسل له حلة فيها سم يحتاج إلى تأكيد ، وحتى اذا لم تصل النوبة إلى الدليل في الأخبار التأريخية خاصة وأن في جيشه من أبناء الملوك واحتمال دفعه الحلة إلى أحدهم إلا أن يكون الذي أرسلت بيده يرقب الأمر ، أو حمل أمرئ القيس على لبسها في الحال .
وكان من عادة الرؤساء والملوك إذا جاءتهم حلة أو قلنسوة أو لباس هدية من الملوك يأمرون بعض أتباعهم أو عبيدهم بلبسها ، ويرصد أياماً أو أشهراً هل حدث له حدث , ولكن أمرئ القيس لم يأخذ جانب الحذر .
أما مسألة حفظ السموأل للأمانة فقد وثّقها شعر الأعشى .
ومن الإعجاز في نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يستعن بملوك زمانه مع أن بعضهم كانوا أهل كتاب مثل قيصر ملك الروم ، والنجاشي ملك الحبشة ، وهو من الشواهد على عظيم النفع من تلاوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين قوله تعالى [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] ( ) .
وجاء النصر من عند الله عز وجل بالإستعانة به وحده ، ولمّا مرت أربع سنوات على نصر المسلمين في معركة بدر وتم عقد صلح الحديبية حتى بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيصر وكسرى وملك الحبشة وغيرهم من الملوك والرؤساء يدعوهم إلى الإسلام.